المنهج القويم في اختصار اقتضاء الصراط المستقيم

البعلي، بدر الدين

بداية الكلام على خطر التشبه وحرمته

بداية الكلام على خطر التشبه وحرمته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، قيوم السموات والأرضين، والحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينا، وأمرنا أن نستهديه صراطه المستقيم: صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم: اليهود، ولا الضالين: النصارى. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين القيم والحنيفية السمحة، وجعله على شريعة من الأمر، وأمره أن يقول: هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي - صلى الله وسلم عليه، وزاده شرفا -. وبعد: فإني كنت قد نهيت عن التشبه بالكفار في أعيادهم، وبينت ما في ذلك من الأثر والدلالة الشرعية، ثم بلغني أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده؛ لمخالفة عادة قد نشأوا عليها؛ فاقتضاني بعض الأصحاب أن أعلق في ذلك ما يكون إشارة إلى أصل هذه المسألة،

فالرسول بعثه الله إلى الخلق، وقد مقت أهل الأرض إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبل مبعثه، والناس أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب: إما مبدل، وإما مبدل منسوخ، ودين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك، وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك، والناس في جاهلية جهلاء، فهدى الله الناس ببركة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من البينات والهدى هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى، بعثه بدين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، وفرض على الخلق أن يسألوه هدايته كل يوم في صلاتهم، ووصفه بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال عدي بن حاتم رضي الله عنه أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وكان قد قال قبل ذلك: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي، قال:

فقام بي حتى أتى داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها، وجلست بين يديه فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ما يفرك؟ أيفرك أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله؟ قلت: لا، ثم تكلم ساعة، ثم قال: إنما تفر أن تقول: الله أكبر؟ أو تعلم شيئا أكبر من الله؟ قال: قلت: لا. قال: "فإن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضُلَّال". قال: قلت: فإني حنيف مسلم. قال: فرأيت وجهه ينبسط فرحا وذكر حديثا طويلا رواه الترمذي وحسنه. وفي كتاب الله ما يدل على معنى هذا الحديث، مثل قوله: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ والضمير عائد إلى اليهود، والخطاب معهم كما دل عليه سياق الكلام.

وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وهم المنافقون الذين تولوا يهود باتفاق أهل التفسير، وسياق الآية يدل عليه. وقال: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وفي آل عمران: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ فهذا بيان أن اليهود مغضوب عليهم. وقال في النصارى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ إلى قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وهذا خطاب للنصارى كما دل عليه السياق؛ ولهذا نهاهم عن الغلو -وهو مجاوزة الحد- كما نهاهم عنه في قوله: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا الآية. ووصفُ اليهود بالغضب والنصارى بالضلال، فله أسباب ظاهرة وباطنة ليس هذا موضعها، وجماع ذلك أن اليهود كفروا عنادا؛ لأنهم يعلمون الحق، ولا يتبعونه عملا، والنصارى كفرهم من جهة عملهم بلا علم، بل هم مجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون،

ولهذا قال السلف: سفيان بن عيينة وغيره: "من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى". ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم، ثم مع ذلك فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله حيث قال: لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ حديث صحيح ورواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع. فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك؟ . وقد كان ينهى عن التشبه بهم، وليس ذلك إخبارا عن جميع الأمة فإنه قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة وأخبر أنه لا تُجمِعُ هذه الأمة على الضلالة، وأنه لا يزال

يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعة الله فعلم بخبره الصدق أن في أمته قوما متمسكين بهديه الذي هو دين الإسلام محضا، وقوم منحرفون إلى شعبة من شعب اليهود أو إلى شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف، بل وقد لا يفسق أيضا، بل قد يكون الانحراف كفرا، وقد يكون فسقا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ، وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع، ويزينه الشيطان؛ فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلا، وأنا أشير إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتليت بها هذه الأمة ليجتنب المسلم الحنيف الانحراف. قال الله -تعالى-: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ

إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فذم اليهود على ما حسدوا به المؤمنين على الهدى والعلم، وقد يبتلى بعض المتلبسين بالعلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله بنوع علم أو عمل صالح، وهو خلق مذموم مطلقا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم. وقال -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فوصفهم بالبخل بالعلم والمال، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر، وكذا وصفهم بكتمان العلم في غير آية مثل قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ. فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم تارة بخلا به، وتارة اعتياضا عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوف أن يحتج عليهم بما أظهروه منه، وهذا قد ابتلي به طوائف من المنتسبين إلى العلم، فإنهم تارة يكتمون العلم بخلا به؛ وكراهة أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارة اعتياضا برئاسة أو مال، فيخاف إن أظهره نقص رئاسته أو ماله، وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة، أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت

في مسألة فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه، وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل. وقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ بعد أن قال: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ فوصف اليهود بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم. وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة وغيرهم، أو إلى رئيس معظَّم في الدين غير -النبي صلى الله عليه وسلم- فلا يقبلون من الدين رأيا ورواية إلا ما جاءت به طائفتهم، ثم إنهم لا يعملون بما توجبه طائفتهم، مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقا من غير تعيين شخص غير النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في صفة المغضوب عليهم: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ويَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ والتحريف قد فُسّر بتحريف التنزيل وتحريف التأويل. فأما تحريف التأويل فكثير جدا، قد ابتليت به طوائف من الأمة. وأما تحريف التنزيل، فقد وقع في كثير من الناس يحرفون ألفاظ

الرسول، ويروون الحديث بروايات منكرة، وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك، وربما تطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل، وإن لم يمكنه ذلك، كما قرأ بعضهم وكلم الله موسى. وأما لي الألسنة بما يظن أنه من عند الله، فكوضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقامة ما يظن أنه حجة في الدين، وليس بحجة، وهذا من أنواع أخلاق اليهود، وهو كثير لمن تدبر بنور الإيمان. وقال سبحانه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلال المتعبدة والمتصوفة، حتى خالط كثيرا منهم من مذاهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه. وقال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، وفسره النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بأنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم.

وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظَّمين عنده في كل ما يأمره به، وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال. وقال: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ. وقد ابتلي طائفة من المسلمين من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم. وقال -تعالى-: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا فكان الضالون، بل والمغضوب عليهم يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، كما نهى صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك في غير موطن حتى في وقت مفارقته الدنيا -بأبي هو وأمي- ثم إن هذا قد ابتلي به كثير من الأمة. ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة والصور الجميلة، فلا يهتمون بأمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات. ثم قد ابتليت هذه الأمة من اتخاذ السماع المطرب بسماع القصائد وإصلاح القلوب والأحوال به ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين. وقال -تعالى-: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما الأخرى عليه. وأنت تجد كثيرا من المتفقهة إذا رأى المتصوفة أو المتعبدة لا يراهم شيئا، ولا يعدهم إلا جهالا ضلالا، ولا يعتقد في طريقهم من الهدى شيئا، وترى كثيرا من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة ولا العلم شيئا، بل يرى أن المتمسك بها منقطع عن الله.

وأما مشابهة الفرس والروم، فقد دخل منه في هذه الأمة من الآثار الرومية قولا وعملا والآثار الفارسية قولا وعملا، ما لا خفاء فيه على مؤمن عليم. وليس الغرض تفصيل الأمور التي وقعت مضارعة لطريقة المغضوب عليهم أو الضالين، وإن كان بعض ذلك قد يقع مغفورا لصاحبه: إما لاجتهاد أخطأ فيه، أو لحسنات محت عنه، أو غير ذلك، وإنما الغرض أن نبين ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم، وأن ينفتح باب إلى معرفة الانحراف؛ فتحذره -إن شاء الله-. ثم الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات، وقد تكون عادات، في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة، وهذه الأمور الظاهرة والباطنة بينهما ارتباط ومناسبة، فما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورا وأحوالا، وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأقوال والأعمال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة؛ لأمور منها:

إن المشاركة في الهدي الظاهر يورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلا يجد من نفسه نوع انضمام وانقياد إليهم، وكذلك اللابس لثياب الجند المقاتلة يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع. ومنها أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين، وكلما كان القلب أتم حياة كان أبعد عن أخلاق اليهود والنصارى ظاهرا وباطنا. ومنها أن مشاركتهم في الهدي الظاهر موجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهرا بين المهتدين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية. هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحا لو تجرد عن مشابهتهم. فأما إن كان من موجبات كفرهم، كان شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له اللبيب.

فصل إيراد النصوص الدالة على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم بشيء من البيان

فصل إيراد النصوص الدالة على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم بشيء من البيان إذا تقرر ذلك، فقد دل الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة، سواء كان عاما في جميع أنواع المخالفات أو خاصا ببعضها، وسواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب. أما الكتاب فقوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ. وقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ إلى أن قال: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. فأخبر أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض، ثم جعل محمدا صلى الله عليه وسلم على شريعة، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، فدخل فيهم كل من خالف شريعته. وأهواؤهم: هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل. ومن هذا قوله: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إلى أن قال:

وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ. والضمير -والله أعلم- يعود إلى من تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه، فدخل كل من أنكر شيئا من القرآن من يهودي أو نصراني وغيرهما. ومن ذلك قوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ الآية. فقال في الخبر: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وفي النهي: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومتابعتهم في بعض ما هم عليه نوع متابعة لهم فيما يهوونه، أو مظنة له، وكذا قوله: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ إلى قوله: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ إلى قوله: وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ. قال غير واحد: لئلا يحتج اليهود عليكم بأنكم وافقتموهم في القبلة، فيوشك أن يوافقونا في الملة، فقطع الله هذه الحجة بأن قال: خالفوهم في القبلة.

وقال سبحانه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وهم اليهود والنصارى الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، مع أنه قد أخبر -صلى الله عليه - أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة. وقال: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وكل ما في الكتاب من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه مثل قوله: <> فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ولَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وأمثال ذلك، كله دال على هذا المطلب من أن مخالفتهم مشروعة لنا في الجملة، وهي دين لنا. وقال تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ الآيات إلى قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ إلى قوله وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فبين أخلاق المنافقين والمؤمنين وتوعد المستمتعين الخائضين كالذي خاضوا بأن قال أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فأخبر أن في هذه الأمة من استمتع بخلاقه كما استمتعت الأمم قبلهم وخاض كالذي خاضوا وذمهم على ذلك -والخلاق قيل هو الدين وقيل بنصيبهم من الآخرة في الدنيا قال أهل اللغة هو الحظ والنصيب كأنه ما خلق للإنسان ثم حضهم على

الاعتبار بمن قبلهم فقال أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الآية. فذم من استمتع وشابه القرون الماضية، وكان من الخائضين، وهم اليهود والنصارى وغيرهم ممن تقدم، ومع ذلك فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا بد أن تأخذ أمته مأخذ الأمم قبلها ذراعا بذراع وشبرا بشبر. وقوله بعد ذلك: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ دليل على جهاد هؤلاء الخائضين المستمتعين ثم هذا الذي دل عليه الكتاب من مشابهة بعض الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين وذم من يفعل ذلك قد دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفسر أصحابه الآية بذلك فعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه" قال أبو هريرة اقرءوا إن شئتم كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً الآية، قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ "قال فمن الناس إلا هم؟ . وعن ابن عباس أنه قال: "ما أشبه الليلة بالبارحة هؤلاء بنو

إسرائيل شُبِّهنا بهم". وعن ابن مسعود أنه قال: "أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟ ". وعن حذيفة بن اليمان قال: "المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أولئك كانوا يخفون نفاقهم، وهؤلاء أعلنوه". وأما السنة ففي "الصحيحين" عن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان قد صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بالمال، فسمعت الأنصار، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث إلى أن قال: أبشروا، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم.

وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في الآية. وفي "مسلم" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم، أي قوم أنتم؟ ". قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله -عز وجل- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنافسون، ثم تحاسدون، ثم تدابرون أو تباغضون، أو غير ذلك، ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين، فتحملون بعضهم على رقاب بعض". وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله، فقال: "إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح من زهرة الدنيا وزينتها" فقال رجل: "أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ وقال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرحضاء، وقال: أين هذا السائل؟ وكأنه حمده، فقال: "إنه لا يأتي الخير بالشر وفي رواية فقال: أين السائل آنفا؟ أو خير هو ثلاثا؟ إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر، فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت، ثم رتعت، وإن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه من يأخذه بغير حق كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شاهدا يوم القيامة. وفي "الصحيح" أنه قال: إن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، فاتقوا الله، واتقوا النساء. فحذر فتنة النساء، معللا بأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. وقال: إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم يعني وصل الشعر. وكثير من مشابهة أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها، إنما يدعو إليها النساء. وفي "مسلم" لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان،

وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة، وهي الجماعة ولا شك أن الثنتين والسبعين هم الذين تفرقوا واختلفوا كما تفرق الذين من قبلهم. ومن ذلك لما سألوه أن يجعل لهم ذات أنواط، قال: الله أكبر! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل قبلكم رواه مالك والنسائي والترمذي وصححه. وقال: لتركبن سَنَن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن" وقد تقدم مثله في البخاري قوله: لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع".

فهذا كله وأشباهه خرج منه صلى الله عليه وسلم مخرج الخبر عن وقوعه والذم لمن يفعله، فعلم أن مشابهتها لليهود والنصارى وفارس والروم مذموم ذمه الله ورسوله، وهو المطلوب. فإن قيل: إذا كان قد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتاب الله - جل وعز - أنه لا بد من وقوع المشابهة، فما فائدة النهي عن ذلك؟ قيل: قد دل الكتاب والسنة - أيضا - أنه لا تزال طائفة متمسكة بالحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وأنها لا تجتمع على الخطأ، ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة وتثبيتها وزيادة إيمانها، زادها الله شرفا وقوة ونصرا، وأظهر دينه، ونصره حيث كان، وعلى يد من كان، وخذل أعداءه، وكبتهم، وجعل الدائرة عليهم، إنه سميع الدعاء. وأيضا لو فُرِضَ أن الناس لا يتركون هذه المشابهة المنكرة، لكان في العلم بها معرفة القبيح والإيمان بذلك، فإن نَفْس العلم والإيمان بما كرهه الله خير وإن لم يعمل به، بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم، فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر كان خيرا من أن يكون ميت القلب لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا. وإنكار القلب: هو الإيمان بأن هذا منكر، وكراهته لذلك، فإذا حصل ذلك كان في القلوب إيمان،

وأيضا فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه، أو يأتي بحسنات تمحوه أو بعضه، وقد تقلل منه، وقد تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر، ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعترفون بأنه منكر، لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد -رحمه الله - وقول كثير من أهل العلم، وهذا أمر عام في كل منكر أخبر الصادق بوقوعه. وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ فقد برأ -سبحانه- رسوله بأن يكون فيه شيء من المفرقين لدينهم، فمن كان متبعا له حقيقة، كان متبرئا كتبرئه، ومن كان موافقا لهم في شيء كان مخالفا للرسول بقدر موافقته لهم. وما دل عليه الكتاب جاءت به سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم، ففي "الصحيحين" أنه قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم فاقتضى أن جنس مخالفتهم أمر مقصود للشارع؛ لأن الفعل المأمور به إذا عبر عنه بلفظ مشتق من معنى أعم من ذلك الفعل، فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمرا مطلوبا، لا سيما إن ظهر

لنا أن المعنى المشتق منه معنى مناسب للحكمة، ولأن الأمر إذا تعلق باسم مفعول مشتق من معنى، كان المعنى علة للحكم، كما في قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وفَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وعودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني. وأيضا إذا أمر بفعل كان نفس مصدره أمرا مطلوبا للآمر مقصودا، كما قال تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ ووَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا. فإن نفس التقوى والإحسان والإيمان والعبادة أمور مطلوبة مقصودة، بل هي نفس المأمور به. فلما قال: "خالفوهم" كان الأمر بمخالفتهم داخلا في العموم، وإن كان السبب الذي قاله لأجله هو الصبغ؛ لأن الفعل فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي، فيجب الوفاء به، وخروجه على سبب يجب أن يكون داخلا فيه، ولا يمنع أن يكون غيره داخلا فيه، وإن قيل: إن اللفظ العام يقصر على سببه؛ لأن العموم هنا من جهة المعنى، ولا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي. وأيضا عدول الأمر عن لفظ الفعل الخاص إلى لفظ أعم منه، كعدوله عن لفظ: أطعمه، إلى لفظ: أكرمه، وعن لفظ: فاصبغوا، إلى

لفظ: فخالفوهم، لا بد له من فائدة، وإلا فمطابقة اللفظ للمعنى أولى من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص، ولا فائدة هنا إلا تعليق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص، وهذا بين لمن تأمله. وأيضا إذا أمر بفعل باسم دال على معنى عام مريدا به فعلا خاصا، كان ذلك يقتضي أنه قصد أولا ذلك العام، وأنه إنما قصد ذلك الخاص لحصوله بالعام. ففي قولك: أكرم زيدا، طلبان: طلب للإكرام المطلق، وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به المطلق، لأن حصول المعين مقتض لحصول المطلق، وهذا معنى صحيح إذا صادف فطنة وذكاء انتفع به في كثير من المواضع، وعلم به طريق البيان. وأيضا فإنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء، فيدل على أنه علة له من غير وجه، حيث قال: "إن اليهود لا يصبغون فخالفوهم" ولأنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة، فنفس المخالفة لهم في الهدي مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين؛ لما فيه من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه، ونفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون فيه مضرة، فينهى عنه، ويؤمر بضده؛ لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو هو ناقص. ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط، فإذا المخالفة لهم فيها لنا منفعة ومصلحة لنا في كل أمورهم حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم فقد يكون مضرا بأمر الآخرة أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا. وبالجملة: فالكفر بمنزلة المرض الذي في القلب وأشد، ومتى كان

القلب مريضا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح: أن لا تشابه مريض القلب في شيء من أموره وإن خفي عليك مرض ذلك العضو، لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله، فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته، أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض، ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولكن ملك هو غاية صلاح من أطاعه من العباد في معاشهم ومعادهم. وحقيقة الأمر أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم منفعته بها، ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام لاستحق بذلك ثواب الآخرة، فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى، فظهر أن مخالفتهم أمر مشروع في الجملة؛ ولهذا كان الإمام أحمد وغيره يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة. فإذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس هو من فعلنا، فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم بطريق الأولى؛ ولهذا كان هذا التشبه بهم يكون محرما بخلاف الأول.

وفي الصحيحين: خالفوا المشركين ثم قال: أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى فأبدل الجملة الثانية من الأولى، أمر بالمخالفة عاما ثم خاصا، فقدمه عموما ثم خصوصا، كما يقال أكرم ضيفك أطعمه وحادثه. وقال: خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم رواه أبو داود. وقال: فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السحر رواه مسلم. فدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود، وقد صرح بذلك في قوله: لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون. وإنما المقصود بإرسال الرسل: أن يظهر دين الله على الدين كله، فنفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة. وكذا قال: لا تزال أمتي بخير -أو قال على الفطرة- ما لم

يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم رواه أحمد وابن ماجه. وقوله: اصنعوا كل شيء غير النكاح فقالت اليهود: "ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه رواه مسلم. وقد نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، معللا بأنها تسجد لها الكفار حينئذ، وأنها تطلع بين قرني شيطان. ففيه تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرا، أو معصية بالنية ينهى المؤمنون عن ظاهره، وإن لم يقصدوا به قصد المشركين؛ سدا للذريعة؛ وحسما للمادة. ومن هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولم يصمد له صمدا.

ونهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، وإن لم يقصد العابد ذلك. ونهى عن السجود لله بين يدي الرجل، وإن لم يقصد الساجد ذلك؛ لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، فقطعت الشريعة المشابهة في الجهات والأوقات، وكما لا يصلي إلى القبلة التي يصلون إليها لا يصلي إلى ما يصلون له. وقال صلى الله عليه وسلم: ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما، فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا، فصلوا قعودا، إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم قال ذلك لما صلى قاعدا وصلوا خلفه قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، ثم قال ذلك بعد فراغه، فأمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأنه يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم. ومعلوم أن المأموم إنما ينوي أن يقوم لله لا للإمام، وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهي أيضا عما يشبه ذلك وإن لم يقصد به ذلك. فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية؟ وأيضا انتساب الرجل إلى المهاجرين أو الأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط، كالانتساب إلى القبائل والأمصار، ولا من المكروه أو المحرم، كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى، ثم مع هذا لما ادعى كل من الطائفتين: يا للمهاجرين ويا للأنصار منتصرا بحزبه على الآخر، أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال: ما هذا؟

أدعوى الجاهلية؟ سماها دعوى الجاهلية، حتى قيل له: إن الداعي بها إنما هما غلامان، لم يصدر ذلك من الجماعة، فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم؛ ليبين أن المحذور إنما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقا فعل أهل الجاهلية، فأما نصرها بالحق فحسن إذا كان من غير عدوان؛ ولهذا قال: خيركم المدافع عن عشريته ما لم يأثم رواه أبو داود. وقال أربع في أمتي من أمر الجاهلية: لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة فاقتضى أن كل ما كان من أمر الجاهلية مذموم في الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وكذا قوله تعالى: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وإِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فدل ذلك على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه والنهي عنه، وذلك يقتضي المنع من أمر الجاهلية مطلقا، وهو المقصود في هذا الكتاب. ومنه قوله: إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها

بالآباء، مؤمن تقي، أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن رواه أبو داود وغيره وهو صحيح. وأيضا روى مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه. فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في الحديث. والسنة الجاهلية: كل عادة كانوا عليها. قال تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وقال صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سنن من كان قبلكم. وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء من سنن الجاهلية في أعيادهم وغيرها. ولفظ الجاهلية قد يكون اسما للحال، وهو الغالب في الكتاب والسنة، وقد يكون اسما لذي الحال.

فمن الأول: قوله لأبي ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية وقول عمر: إني نذرت في الجاهلية وقولهم: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر أي في حال جاهلية، أو طريقة أو عادة ونحوه، فإن لفظ "الجاهلية"، وإن كان في الأصل صفة، لكنه غلب عليه الاستعمال حتى صار اسما، ومعناه قريب من معنى المصدر. وأما الثاني: فقولهم: طائفة جاهلية، وشاعر جاهلي، وذلك نسبة إلى الجهل الذي هو عدم العلم، أو عدم اتباع العلم، فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلا بسيطا، فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلا مركبا، فإن قال خلاف الحق عالما بالحق أو غير عالم فهو جاهل أيضا، كما قال: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وقول الشاعر من هذا الباب: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل - وإن علم أنه مخالف

للحق - كقوله سبحانه: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: كل من عمل سوءا فهو جاهل. وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه، أو ضعفه بما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم، فيصير جهلا بهذا الاعتبار. ومن هنا تعرف دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة لا مجازا، وإن لم يكن كل من ترك شيئا من الأعمال كافرا ولا خارجا عن أصل مسمى الإيمان، وكذلك اسم العقل ونحوه من الأسماء؛ ولهذا يسمي الله -سبحانه- أصحاب هذه الأحوال: موتى، وعميا، وصما، وبكما، وضالين، وجاهلين، وأنهم لا يعقلون، ولا يسمعون. إذا ثبت ذلك، فالناس كانوا قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال، إنما أحدثه لهم جهال، وإنما يفعله جاهل، وكذلك كل ما يخالف ما جاءت به المرسلون من يهودية أو نصرانية فهي جاهلية، وتلك كانت الجاهلية العامة. وأما بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصر دون مصر، كما هي في دار الكفار، وقد تكون في شخص دون شخص، كالرجل قبل أن يسلم، فإنه في جاهلية وإن كان في دار الإسلام.

فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرون على الحق إلى قيام الساعة. والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين، وفي كثير من الأشخاص المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: أربع في أمتي من أمر الجاهلية وقال لأبي ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية فالرجل -مع فضله وعلمه- قد يكون في بعض الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه، وكذا قوله: خصلتان هما بهم كفر فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفار، وهما قائمتان بالناس، وليس كل من قام به شعبة من الكفر يصير كافرا الكفر المطلق، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرق بين الكفر المعرف باللام وبين المنكر في الإثبات، وفرق بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر أو مؤمن وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده، كما قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.

فقوله في هذا الحديث: "ومبتغ الإسلام سنة جاهلية" فيندرج في قوله ومبتغ سنة جاهلية كلُّ سنة جاهلية مطلقة أو مقيدة يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو صابئة أو وثنية أو مشركية أو مركبة من بعض هذه الملل الجاهلية، فإنها كلها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان لفظ "الجاهلية" لا تقال غالبا إلا على حال العرب فإن المعنى واحد. وأيضا فإنه نهى عن الصلاة في أماكن العذاب، كما كره على الصلاة في أرض بابل، وقال: نهاني حبي أن أصلي في أرض بابل والمقبرة رواه أبو داود وأحمد وزاد: "وأرض الخسف" ونحو ذلك. وكره أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتباعا لعلي. وقوله: نهاني حبي أن أصلي في أرض بابل؛ فإنها ملعونة يقتضي النهي عن كل أرض ملعونة.

ولذلك نهى عن الدخول في أرض الحجر إلا أن يكونوا باكين، ويوافق ذلك قوله تعالى عن مسجد الضرار: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا فإنه كان من أمكنة العذاب. فأما أماكن الكفر والمعاصي التي لم يكن فيها عذاب إذا جعلت مكانا للإيمان والطاعة، فهو حسن كما أمر أهل الطائف أن يجعلوا المسجد مكان طواغيتهم، وكان موضع مسجده صلى الله عليه وسلم مقبرة للمشركين فجعله صلى الله عليه وسلم مسجدا بعد نبش القبور، فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حل بهم فيه العذاب، فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها واستحقوا بها العذاب؟! بل المشاركة في العمل أقرب إلى اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار، فإن جميع ما يعملونه مما ليس هو من أعمال السابقين إما كفر، وإما معصية، وإما شعار كفر أو معصية، وإما مظنة للكفر والمعصية، وإما أن يخاف أن يجر إلى المعصية، وما أحسب أحدا ينازع في جميع هذا، ولئن خالف فيه فلا يمكنه أن ينازع في أن المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر والمعصية،

وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان. ألا ترى أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في أعمالهم أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم وقال: من تشبه بقوم فهو منهم وإسناده جيد احتج به أحمد وغيره. فأقل أحواله: أن يقتضي تحريم التشبه بهم. وأيضا لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء قيل: إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى فقال: إذا كان العام القابل -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع. وقال: صوموا عاشوراء، وخالفوا اليهود، وصوموا قبله يوما أو بعده يوما رواه سعيد وأوله رواه مسلم إلى قوله: التاسع. وقال: إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين رواه أحمد والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح على شرط

مسلم، وهو عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال. والغلو: مجاوزة الحد، بأن يزاد الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق، وأمرنا أن نقول: "ولا تحمل علينا إصرا" ووضع عنا الآصار، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في العبادات صوما وصلاة. وقال له رجل: ائذن لي بالسياحة، فقال: إن سياحة أمتي: الجهاد في سبيل الله. وفي خبر آخر "أن السياحة هي الصيام" أو "السائحون هم الصائمون" أو نحو ذلك، وهو نفس ما ذكره الله في قوله: السائحون. فأما السياحة التي هي الخروج في البرية لغير مقصد معين، فليس

من عمل هذه الأمة. قال الإمام أحمد: "ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين، مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها، متأولين، أو غير عالمين بالنهي، وهي من الرهبانية المبتدعة، التي قيل فيها: لا رهبانية في الإسلام فمقتضى ذلك: مجانبة هدي من كان قبلنا، وأن المشارك لهم يخاف عليه أن يكون هالكا. ونهانا عن مشابهة من كان قبلنا، بأنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأمر أن يسوى بين الناس في ذلك، وقال: إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. وأخبر أن ابنته التي هي أشرف النساء لو سرقت - وقد أعاذها الله من ذلك - لقطع يدها؛ ليبين أن وجوب العدل والتعميم في الحدود هو الواجب.

وأيضا فقد قال: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك فعقب قوله عن "الذين قبلنا" بقوله: "ألا فلا" بالفاء التي تشعر بأن سبب نهينا عن ذلك لأجل أنهم فعلوه. وذلك يقتضي أن أعمالهم دلالة وعلامة على أن الله ينهى عنها، وأنها علة مقتضية للنهي. ونهيه عن اتخاذ القبور مساجد، مع لعنته لليهود والنصارى كثير متواتر حتى عند خروج نفسه الكريمة -بأبي هو وأمي- يوصي بذلك، وإن كان قد ابتلي كثير من هذه الأمة ببناء المساجد على القبور، وكلا الأمرين محرم، ملعون فاعله بالسنة المستفيضة. وقد صح عنه أنه قال: كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع وهو عام يدخل فيه ما كانوا عليه من العبادات والعادات، مثل دعواهم: يا لفلان ويا لفلان، ومثل أعيادهم وغير ذلك من أمورهم. ولا يدخل في ذلك ما كانوا عليه وأقره الله في الإسلام كالمناسك ودية المقتول، والقسامة ونحوه؛ لأن أمر الجاهلية معناه مفهوم منه ما كانوا عليه مما لم يقره الإسلام، فيدخل في ذلك ما كانوا عليه وإن لم ينه في الإسلام عنه بعينه.

فصل الكلام على إجماع العلماء على حرمة التشبه وخطره

وأيضا نهى عن التذكية بالسن والعظم، وقال: أما السن فعظم فقيل: لا يجوز التذكية بسائر العظام عملا بعموم العلة، وقيل: يجوز، وهما في مذهب أحمد وغيره، وأما الظفر فمدى الحبشة فنهى عن مشابهة الحبشة فيما يختصون به؛ لأن أظفارهم طويلة يذكون بها دون سائر الأمم، وأما العظم فيجوز أن يكون ذلك مثل نهيه عن تنجيسه بالدم، كما نهى عن الاستنجاء به؛ لكونه طعام الجن، ونهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة، وقال: فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة ورأى على ابن عمرو ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسهما رواه مسلم. فصل الكلام على إجماع العلماء على حرمة التشبه وخطره وأما الإجماع: من ذلك أن عمر في الصحابة -رضي الله عنهم- ثم عامة الأئمة بعده وسائر الفقهاء، جعلوا في الشروط المشروطة على أهل

الذمة: "أن نوقر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم: قلنسوة أو عمامة أو نعلين أو فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب على السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور وأن نجز مقادم رءوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كنا، ونشد الزنانير على أوساطنا، ولا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر صليبا ولا كتبا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين". رواه حرب بإسناد جيد. فهذه الشروط مجمع عليها في الجملة بين العلماء. قال القاضي أبو يعلى في مسألة حدثت في وقته: "أهل الذمة مأمورون بلبس الغيار، فإن امتنعوا لم يجز لأحد من المسلمين صبغ ثوب من ثيابهم؛ لأنه لا يتعين عليهم صبغ ثوب بعينه".

قلت: وهذا فيه خلاف هل يلزمون بالتغيير أم الواجب علينا إذا امتنعوا أن نغير نحن؟ أما وجوب أصل المغايرة فما علمت فيه خلافا. وإذا كان عمر وسائر الصحابة والفقهاء والملوك قد اتفقوا على منعهم من إظهار شيء من خصائصهم، فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها لهم؟ وقد أمر الصحابة والمسلمون بترك إكرامهم وإلزامهم الصَغَار الذي شرعه الله. ومن المعلوم أن تعظيم أعيادهم ونحوها بالموافقة، فيها نوع من إكرامهم، فإنهم يفرحون، ويسرون، كما يغتمون بإهمال دينهم الباطل. ورأى أبو بكر امرأة من أحمس لا تتكلم، فقال: ما لها؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها: "تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت" الحديث رواه البخاري فدل على أن كل عمل من أعمال الجاهلية ينهى عنه مثل المكاء والتصدية، والمكاء: الصفير ونحوه، والتصدية: التصفيق. ومثل بروز المُحْرِم وغيره للشمس، حتى لا يستظل بظل، أو ترك الطواف بالثياب المتقدمة، أو ترك كل ما عمل في غير الحرم ونحو ذلك من أمور الجاهلية التي كانوا يتخذونها عبادات، لا يجوز التعبد بها في الإسلام ألبتة.

وكتب عمر إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس "إياكم وزي أهل الشرك" فهو عام في كل زي لهم، رواه البخاري في صحيحه، وكتب إلى أذربيجان "إياكم والتنعم وزي أهل الشرك". ومنع -رضي الله عنه- من إعزاز الكفار واستعمالهم على أمر للمسلمين وائتمانهم على شيء، وحرق كتب العجمية وغيرها، ونهى عن تعلم رطانة الأعاجم، ثم مشى بعده عثمان -رضي الله عنه- على سنته في ذلك. ورأى علي -رضي الله عنه- قوما قد سدلوا، فقال: "ما لهم؟ كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم" رواه سعيد في سننه عن هشيم عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه عن علي، ورواه ابن المبارك، وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كرها السدل في الصلاة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.

واختلف: هل السدل محرم يبطل الصلاة؟ . ذكر ابن أبي موسى فيه روايتين، وعلله أحمد بأنه فعل اليهود. وليس المقصود عين هذه المسألة، بل المقصود أن عليا بين كراهيته لذلك أن فيه مشابهة اليهود، فعُلِمَ أنه أمر قد استقر عندهم. وفُهر اليهود -بضم الفاء- مدراسهم، وأصلها: بهر، عبرانية عربت، ذكره الجوهري وكره علي التكلم بكلامهم. فهذا عن الخلفاء الراشدين. وأما سائر الصحابة -رضي الله عنهم- فكثير، فروي عن حذيفة أنه دعي إلى وليمة، فرأى شيئا من زي العجم، فخرج وقال: "من تشبه بقوم فهو منهم". وعن ابن عباس أنه سأله رجل: أحتقن؟ قال: "لا تبد العورة، ولا تستن بسنة المشركين". رواه الخلال. وعن أنس أنه نهى عن القرنين، وقال: "احلقوا هذين أو قصوهما، فإنه زي اليهود".

وعن معاوية أنه قال: "تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهود والنصارى، فلا تشبهوا بهم". وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: "من بنى ببلاد المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم حتى يموت، حشر معهم يوم القيامة". وصح عن عائشة أنها كرهت الاختصار في الصلاة، وقالت: "لا تشبهوا باليهود". وكره ابن مسعود الصلاة في الطاق وقال: "إنه في الكنائس، فلا تشبهوا بأهل الكتاب". وعن ابن عمر أنه قال في شرفات مسجد: "شبه أنصاب الجاهلية" وأمر بكسرها. وقال عبيد بن أبي الجعد "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن من أشراط الساعة: أن تتخذ المذابح في المساجد" يعني الطاقات.

وهذا باب واسع فيه كثرة عن الصحابة. وهذه القضايا في مظنة الاشتهار، وما علمنا أحدا ذكر عن الصحابة خلاف ذلك، من أنهم كانوا يكرهون التشبه بالكفار والأعاجم في الجملة، وإن كان بعض هذه المسائل المعينة فيها خلاف وتأويل. وهذا كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة، وإن كانوا قد يختلفون في بعض أعيان المسائل. فعُلِم اتفاقهم على كراهة التشبه بالكفار والأعاجم. وكذلك المنقول عن علماء المسلمين من الأئمة المتقدمين في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار أو مخالفة النصارى، أو مخالفة الأعاجم، وهو أكثر من أن يمكن حصره واستقصاؤه، ومن له أدنى نظر في الفقه يعلم ذلك وقد بلغه من ذلك طائفة، وبعد النظر والتأمل يورث علما ضروريا باتفاقهم أعني الأمة جميعها على النهي عن موافقة الكفار والأمر بمخالفتهم. وقد تكلم أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في لباسهم وأعيادهم وقال أبو حنيفة: إذا غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه؛ لأن فيه إظهار مخالفة المشركين. وقال مالك: "لا يحم بالأعجمية، ولا يدعو بها، ولا يحلف". وقال: "وقيام المرأة لزوجها من فعل الجبابرة، وربما يكون الناس ينتظرونه، فإذا طلع قاموا، ليس هذا من فعل الإسلام، وهو فيما ينهى عنه من التشبه بأهل الكتاب".

وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا هذا الأصل في غير موضع، مثل ما ذكره بعضهم في أوقات النهي، بأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ. وذكروا في السحور أنه فرق بيننا وبين صيام أهل الكتاب. وذكروا في شروط الذمة ما يتضمن منع المسلمين عن مشابهتهم، تفريقا بين علامة المسلمين وعلامة الكفار. وبالغ طائفة منهم، فنهوا عن التشبه بأهل البدع. وأما كلام الإمام أحمد وأصحابه فكثير جدا، مثل قول أحمد: "لا أحب لأحد إلا أن يغير الشيب، ولا يتشبه بأهل الكتاب" وكره حلق القفا، وقال: "هو من فعل المجوس" وكره النعل الصرار، وهو من زي العجم، وكره تسمية الشهور بالعجمية والأشخاص بالأسماء الفارسية مثل: آذرماه، وقال للذي دعاه إلى وليمة: زي المجوس، زي المجوس، ونفض يده في وجهه؛ لما رأى عنده آنية فيها فضة. وذكر أصحابه أن في اللباس المكروه ما خالف زي العرب، وأشبه زي الأعاجم وعاداتهم. وقال غير واحد من أصحاب أحمد وغيرهم: يستحب أن يتختم باليسار؛ للآثار؛ ولأن خلاف ذلك عادة وشعار للمبتدعة. وما في هذا

فصل بيان حرمة التشبه بالشياطين

الباب عن سائر أئمة المسلمين أكثر من أن يحصى عُشره. وبدون ما ذكرنا يُعلم اتفاق المسلمين على كراهة التشبه بأهل الكتاب والأعاجم في الجملة، وبالله المستعان، وعليه التكلان. فصل بيان حرمة التشبه بالشياطين ومما يشبه هذا: الأمر بمخالفة الشياطين، كما روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشرب بها، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها ونظائره كثيرة. وقريب من هذا: مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب ونحوهم؛ لأن كمال الدين بالهجرة، فمن لم يهاجر من الأعراب ونحوهم ناقص، قال -تعالى-: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يعتمون الإبل. وقال: لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب، قال: والأعراب تقول: هي العشاء. فقد كره موافقة الأعراب في اسم المغرب والعشاء بالعشاء والعتمة، وهذا عند بعض علمائنا يقتضي كراهة هذا الاسم مطلقا، وعند بعضهم إنما يكره الإكثار منه حتى يغلب على الاسم الآخر، وهو المشهور عندنا.

فصل بيان الفرق المعتبر بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم مع ذكر النصوص

فصل بيان الفرق المعتبر بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم مع ذكر النصوص وليعلم أن [بين التشبه بالكفار والشياطين] وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقا يجب اعتباره وإجمالا يحتاج إلى تفسير، وذلك أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله وعند عباده المؤمنين، بل الأعراب منقسمون إلى أهل جفاء كما قال: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا الآية. وقال: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا الآية: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا إلى قوله: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا وإلى أهل إيمان وبر، قال تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ الآية. وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن وفد عليه ومن غيرهم من الأعراب من هو أفضل من كثير من القرويين، فهذا كتاب الله يحمد بعض الأعراب، ويذم بعضهم. وقال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ فعُلم أن المنافقين في الأعراب وذوي القربى. وكذلك العجم، وهم من سوى العرب من الفرس والروم والترك

والبربر والحبشة وغيرهم ينقسمون إلى المؤمن والكافر والبر والفاجر كانقسام العرب. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس! إن ربكم عز وجل واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى، ألا هل بلَّغت؟ قالوا: نعم. قال: ليبلغ الشاهد الغائب إسناده صحيح. وأخبر أن آل بني فلان ليسوا -لمجرد النسب- أولياء له، وهم بطن قريب النسب، إنما وليه الله وصالح المؤمنين، خرجاه في الصحيحين ومثل ذلك كثير بين في الكتاب والسنة أن العبرة بالأسماء التي حمدها الله وذمها كالمؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل. وقال: لو كان الدين بالثريا لذهب به رجل من فارس حتى يتناوله.

وروى الترمذي في قوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ أنهم من أبناء فارس إلى غير ذلك من آثار رويت في فضل أبناء فارس، ومصداق ذلك ما وجد في التابعين ومن بعدهم من أبناء فارس الأحرار والموالي مثل الحسن وابن سيرين وعكرمة، ومن بعدهم من المبرزين في الإيمان والدين والعلم ما لا يحصون كثرة على ما هو معروف، إذ الفضل الحقيقي هو اتباع ما بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الإيمان والعلم باطنا وظاهرا، فكل من كان فيه أكمل كان أفضل، فالفضل بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة، لا بمجرد كون الإنسان عربيا أو عجميا أو أبيض أو أسود أو قرويا أو بدويا، وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم -مع ما ذكرناه من الفضل فيهم وعدم العبرة بالنسب والمكان- مبني على أصل، وهو أن الله -سبحانه- جعل سكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين ورقة القلوب ما لا يقتضيه سكنى البادية، كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخَلْق ومتانة الكلام ما لا يكون في القرى، هذا هو الأصل، وإن جاز تخلف هذا المقتضي لمانع وكانت البادية أحيانا أنفع من القرى. قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى وذلك لأن الرسل لهم الكمال في عامة الأمور حتى في النسب.

ثم لفظ "الأعراب" هو في الأصل اسم لبادية العرب، فإن كل أمة لها حاضرة وبادية، فبادية العرب: الأعراب، وقد يقال إن بادية الروم: الأرمن أو نحوهم، وبادية الفرس: الأكراد أو نحوهم، وبادية الترك: التتر، والتحقيق أن هذا -والله أعلم- هو الأصل وإن كان قد يقع فيه زيادة ونقصان. [والتحقيق] أن سكان البوادي لهم حكم الأعراب، سواء دخلوا في لفظ الأعراب أم لم يدخلوا، فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية، وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة مثلا، ويقتضي أن ما انفرد به عن جميع جنس الحاضرة أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين فهو ناقص عن فضل الحاضرة أو مكروه. فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل الحاضرة المهاجرين كان ذلك: إما مكروها، أو مفضيا إلى المكروه، وعلى هذا القول في العرب والعجم، فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة أن جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم ورومهم وفرسهم وغير ذلك، وأن قريشا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفسا وأفضلهم نسبا، وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم لمجرد كون رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك ثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفسا ونسبا وإلا لزم الدَّور.

وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم، وهؤلاء يسمون الشعوبية؛ لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل كما قيل: القبائل للعرب والشعوب للعجم. ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب، والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نفاق، ولهذا جاء في الحديث حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى للنفس ونصيب للشيطان من الطرفين، وهو محرم في جميع المسائل، فإن الله أمر بالاعتصام، ونهى عن التفرق والاختلاف. والدليل على فضل جنس العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم: ما رواه الترمذي عن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! إن قريشا جلسوا، فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق، فجعلني في خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم خير القبائل، فجعلني في خير قبيلة، ثم خير

البيوت، فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا" وحسنه. والكبوة: الكناسة، والكبا بالكسر والقصر. ورواه بطريق آخر ورواه أحمد ولفظه: إن الله خلق الخلق، فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا فيحتمل أن المراد بالخلق الثقلان، أو هم جميع ما خلق في الأرض، وبنو آدم خيرهم، ولو قيل بعموم الخلق حتى يدخل فيه الملائكة فله وجه صحيح، ويحتمل أنه أراد بالخلق بني آدم، وبكل تقدير فالحديث صريح في تفضيل العرب على غيرهم، ولهذا الحديث شواهد تؤيده وتوضحه، مثل حديث مسلم إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ورواه أحمد والترمذي ولفظه: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم

إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ... إلخ. فيقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم، وأنهم أفضل من ولد إسحاق، ومعلوم أن ولد إسحاق أفضل العجم لما فيهم من النبوة والكتاب، فإذا ثبت فضلهم على ولد إسحاق، لزم فضلهم على من سواهم، ثم إن الله تعالى خص العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها عن غيرهم فخص قريشا بما جعل فيهم من خلافة النبوة وغير ذلك، ثم خص بني هاشم بتحريم الصدقة واستحقاق قسط من الفيء إلى غير ذلك، فأعطى الله -سبحانه- كل درجة بحسبها، والله عليم حكيم، الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالته. وقال صلى الله عليه وسلم: حب أبي بكر وعمر من الإيمان، وبغضهما من الكفر،

وحب العرب من الإيمان، وبغضهم من الكفر وفي حديث سلمان ما يقوي هذا الحديث. ولما وضع عمر الديوان كتب الناس على قدر أنسابهم، فبدأ بأقربهم فأقربهم إلى رسول الله، فلما انقضت العرب ذكر العجم، هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء بعدهم إلى أن تغير الأمر بعد. وسبب هذا الفضل: ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم، وذلك لأن الفضل: إما بالعلم النافع، وإما بالعمل الصالح، والعلم مبدأه العقل، وهو قوة الفهم، وتمامه قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة، والعرب أفهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة،

وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله، ليس عندهم علم منزل من السماء، ولا شريعة موروثة عن الأنبياء، ولا هم مشتغلون ببعض العلوم العقلية، إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو من الحرب، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى الذي ما جعل الله ولا يجعل أمرا أجل منه ولا أعظم قدرا، وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة ومعالجته حتى نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرها، فزالت تلك الريون عن قلوبهم، واستنارت بهدى الله، فأخذوا ذلك الهدي بتلك الفطرة الجيدة، فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم والكمال الذي أنزله الله إليهم بمنزلة أرض جيدة في نفسها عطلت عن الحرث، فنبت فيها شوك وزغل وصارت مأوى الخنازير والسباع، فإذا طهرت عن المؤذي

من الشجر والدواب وازدُرِع فيها أفضل الحبوب والثمار، جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله، وبالله المستعان. فصار السابقون الأولون أفضل الخلق بعد الأنبياء، وصار أفضل الناس بعدهم من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة من العرب والعجم، وصار الخارجون عن هذا الكمال قسمين: إما كافر من اليهود والنصارى الذين لم يقبلوا هدى الله، وإما غيرهم من العجم الذين لم يشركوهم فيما فطروا عليه، فجاءت الشريعة باتباع أولئك السابقين على الهدى الذي رضيه الله لهم، وبمخالفة من سواهم: إما لمعصيته، وإما لنقيصته، وإما لأنه مظنة النقيصة، فإذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا، وما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن السابقون الأولون عليه، كما يدخل في مسمى الجاهلية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام، وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها، ومن تشبه من العرب بالعجم لحقوا بهم، ولهذا كان الذين تناولوا العلم والإيمان من أبناء فارس إنما حصل ذلك بمتابعتهم للدين الحنيف بلوازمه من العربية وغيرها، ومن نقص من العرب إنما هو بتخليهم عن هذا، وإما بموافقتهم للعجم فيما السنة أن يخالفوا فيه.

وأيضا فإن الله أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به، فلم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، وصارت معرفته من الدين إذ هو أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله وأقرب إلى إقامة شعار الدين، وأقرب إلى مشابهة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم، وقد أمر العلماء بالخطاب العربي، وكرهوا مداومة غيره لغير حاجة، واللسان تقارنه أمور أخرى من الأخلاق والعلوم، فإن العادة لها تأثير عظيم فيما يحبه الله ورسوله أو فيما يكرهه، فلهذا جاءت الشريعة بلزوم طريقة السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها لا لحاجة؛ لما يفضي إليه من فوت الفضائل التي جعلها الله للسابقين الأولين. ولهذا لما عَلِمَ من وفقه الله من أبناء فارس وغيرهم هذا الأمر أخذ يجاهد نفسه في تحقيق المشابهة بالسابقين، فصار أولئك من أفضل التابعين بإحسان، وصار كثير منهم أئمة لكثير من غيرهم، وصاروا يفضلون من رأوه أقرب إلى متابعة السابقين. فالأمة مجمعة على فضل طريقة العرب السابقين وأن الفاضل من تبعهم، وهو المطلوب، والذي يجب على المسلم إذا نظر إلى الفضائل أو تكلم فيها أن يسلك سبيل العاقل الذي غرضه أن يعرف الخير ويتحراه جهده، ليس

غرضه الفخر على أحد، ولا الغمط من أحد كما قال: إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد فمن استطال بحق فقد افتخر، وإن كان بغير حق فقد بغى، فلا يحل لا هذا ولا هذا، فإن كان الرجل من الطائفة الفاضلة فلا يكون حظه استشعار فضل نفسه والنظر إلى ذلك، فإنه مخطئ، لأن فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، فرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش، وإن كان من الطائفة الأخرى، فيعلم أن تصديقه للرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ومحبة ما أحبه الله، والتشبه بمن فضله الله، والقيام بالدين الحق يوجب له أن يكون أفضل من جمهور الطائفة الأخرى وهذا هو الفضل الحقيقي.

فصل أنواع التشبه بالكفار وأقسام العبادات بالنسبة لدينهم ودين الإسلام

فصل أنواع التشبه بالكفار وأقسام العبادات بالنسبة لدينهم ودين الإسلام قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار ما دل على أن التشبه بهم في الجملة منهي عنه، وأن مخالفتهم في هديهم مشروع: إما إيجابا وإما ندبا بحسب المواضع، سواء كان الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم أو لم يقصده، وكذلك ما أُمر به من مخالفتهم، وما نُهي عنه من مشابهتهم يعم ما إذا قصدت المشابهة لهم أو لم تقصد، فإنه لم يكن المسلمون يقصدون التشبه بهم فيها بل فيها ما لا يمكن القصد فيه، مثل بياض الشعر، وطول الشارب ونحوه، ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام: قسم مشروع في ديننا، مع كونه كان مشروعا لهم أو لا نعلم أنه كان مشروعا لهم، لكنهم يفعلونه الآن. وقسم كان مشروعا، ثم نسخه شرع القرآن. وقسم لم يكن مشروعا بحال، وإنما هم أحدثوه. وهذه الأقسام الثلاثة: إما أن تكون في العبادات المحضة، وإما في العادات المحضة، وإما أن تجمع العبادات والعادات، فهذه تسعة أقسام. فأما القسم الأول: وهو ما كان مشروعا في الشريعتين، أو ما كان

مشروعا لنا وهم يفعلونه كصوم عاشوراء، أو كأصل الصلاة والصيام، فهنا تقع المخالفة في الصفة في ذلك العمل، كما سُن لنا صوم تاسوعاء، وأُمرنا بتعجيل الفطر والمغرب مخالفة لهم وتأخير السحور وأُمرنا بالصلاة في النعلين وهو كثير في العبادات وكذا في العادات، كقوله: اللحد لنا، والشق لغيرنا وسُن توجيه قبور المسلمين إلى القبلة، فإن أصل الدفن من الأمور العادية، وهو أيضا عبادة، وكذلك اعتزال الحائض هو مما جامعناهم في أصله، وخالفناهم في وصفه. القسم الثاني: ما كان مشروعا ثم نسخ، كالسبت، وإيجاب صلاة أو صوم، ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا سواء كان واجبا عليهم، فيكون عبادة، أو محرما عليهم فيتعلق بالعادات، فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين

بذلك، وكذلك ما كان مركبا منهما، وهي الأعياد التي كانت مشروعة لهم، فإن العيد يجمع عبادة، وهو ما فيه من صلاة أو ذكر أو صدقة أو نسك، ويجمع عادة وهو ما يفعل فيه من التوسع وما يتبع ذلك من ترك الأعمال الواظبة واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب ونحو ذلك، فموافقتهم في هذا المنسوخ من العبادات أو العادات أو كليهما أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل؛ ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة. وأما القسم الثالث: وهو ما أحدثوه من العبادات أو العادات أو كليهما فهو أقبح وأقبح، فإنه لو أحدثه المسلمون لكان قبيحا، فكيف إذا كان قد أحدثه الكافرون؟!.

فصل الكلام على التشبه بالكفار في أعيادهم ولغتهم مع إيراد النصوص والإجماع

فصل الكلام على التشبه بالكفار في أعيادهم ولغتهم مع إيراد النصوص والإجماع إذا تقرر هذا الأصل، فنقول: موافقتهم في أعيادهم محرمة لا تجوز من طريقين: الطريق الأول: العام وهو ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس من ديننا ولا عادة سلفنا، فيكون فيه مفسدة موافقتهم وفي تركه مصلحة مخالفتهم -كما تقدمت الإشارة إليه-، ومن جهة أنه من البدع المحدثة، ولا ريب أن هذه الطريق تدل على كراهة الموافقة لهم والتشبه بهم في ذلك، فإن أقل أحوال التشبه بهم: الكراهة، وكذلك أقل أحوال البدع. ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد، مثل قوله صلى الله عليه وسلم من تشبه بقوم فهو منهم وقوله: خالفوا المشركين ومثل ما ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الأدلة. فمن نظر فيما تقدم تبين له دخول هذه المسألة في كثير مما تقدم من الدلائل، وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم الباطل، وأنه محرم بخلاف ما لم يكن من خصائص دينهم، مثل نزع النعلين في الصلاة، فإنه جائز كما أن

لبسهما جائز. الطريق الثاني: الخاص في نفس أعيادهم، فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار. أما الكتاب، فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله -تعالى-: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أنه الشعانين، ذكره ابن سيرين. وعن الربيع بن أنس أنه أعياد المشركين. وعن عكرمة قال: هو لعب كان لهم في الجاهلية. وروى أبو الشيخ الأصبهاني عن الضحاك قال: "أعياد المشركين". وعنه: "عيد المشركين". وعن عمر قال: إياكم ورطانة الأعاجم! وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم! .

وقول هؤلاء التابعين: إنه أعياد الكفار ليس مخالفا لقول بعضهم: إنه الشرك، أو صنم كان في الجاهلية، ولقول بعضهم: إنه مجالس الخنا، وقول بعضهم: إنه الغناء؛ لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا، يذكر الرجل نوعا من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه، أو لينبه على الجنس، كما لو قال العجمي: ما الخبز؟ فيعطى رغيفا ويقال له: هذا بالإشارة إلى جنس لا إلى العين، وقال قوم: إنه شهادة الزور التي هي الكذب، وهذا فيه نظر، فإنه قال: لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ولم يقل: لا يشهدون بالزور، فإن العرب تقول: شهدت كذا إذا حضرته، كقول ابن عباس: "شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم" وقول عمر: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" وأما شهدت بكذا بمعنى أخبرت به، فتسمية هذا الإتيان زورا، وقد ذم الله من يقول الزور، قال: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ففعل الزور كذلك، بل الفعل أشد، فيكون حراما؛ لأنه خلاف الأمر، وبكل حال يدخل في

الآية أنه مكروه، وهو من مطلوبنا، إذ قد يظن بعض الناس أن بعض ما يفعلونه يكون مستحبا، مثل التوسعة على العيال ونحوه، فهذه تدل على كراهة ذلك مطلقا، سواء دلت الآية على التحريم أو الكراهة أو استحباب تركه حصل المقصود. وأما السنة فمن وجوه: أحدها: روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ فقالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر رواه أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد عن حميد عن أنس، ورواه أحمد والنسائي وهذا إسناد على شرط مسلم، فلم يقرهما على العيدين الجاهليين، ولا تركهم يلعبون فيهما

على العادة، بل قال: إن الله أبدلكم بهما يومين آخرين، والإبدال يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل. وكذلك مات ذلك اليومان في الإسلام فلم يبق لهما أثر، فإنه قد يعجز كثير من الملوك عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم لقوة مقتضيها من نفوسهم وتوفر همم الجماهير على اتخاذها، لا سيما طباع النساء والصبيان، فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت باقية ولو على وجه ضعيف، فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا، وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما، وهذا بين لا شبهة فيه، والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها؛ لأن الأمة قد حُذروا مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أنه سيفعل ذلك بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموما، ولو لم يكن أشد منه فهو مثله؛ إذ الشر الذي له فاعل موجود يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي. الوجه الثاني: روى أبو داود أن رجلا نذر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ ". قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟. قالوا: لا. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم"

وأصل هذا الحديث في الصحيحين، وإسناده على شرطهما. فوجه الدلالة أن هذا الناذر لما نذر الذبح سأله: هل كان بها وثن أو عيد لهم؟ ثم قال: لا وفاء لنذر في معصية الله، فدل على أن الذبح بمكان عيدهم وموضع أوثانهم معصية، فإنه عقب فأوف بالفاء، فيدل على أن الوصف هو سبب الحكم، فيكون سبب الوفاء بالنذر وجوده خاليا عن هذين الوصفين، ويكون الوصفان مانعين من الوفاء، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه، فكيف بالموافقة في نفس العيد. وبوانة بضم الباء بواحدة من أسفل، موضع. وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان، وأعياد الكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد، كما أن كفرهم سواء في التحريم، وإن كان بعضه أشد تحريما، ولا يختلف حكمهما في حق المسلم، لكن أهل الكتاب أقروا على دينهم مع أنه شرط عليهم أن لا يظهروا أعيادهم، بل أعياد الكتابيين أعظم كفرا؛ لأنهم يتخذونها دينا، بخلاف الذين يتخذونها لهوا ولعبا؛ لأن التعبد بما يسخط الله أعظم من اقتضاء الشهوات،

ولهذا كان الشرك أعظم إثما من الزنا، وكان جهاد أهل الكتاب أفضل من غيرهم، وكان من قتله أهل الكتاب له أجر شهيدين. الوجه الثالث: أن هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس أعياد يجتمعون فيها في الجاهلية، ومعلوم أنه بمبعث إمام المتقين صلى الله عليه وسلم محا الله ذلك عنه، فلم يبق شيء من ذلك، فلولا نهيه ومنعه لما ترك الناس ذلك مع قيام المقتضي لفعلها من جهة الطبيعة أن المانع قوي لما درست تلك الأعياد. الوجه الرابع: ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال [أبو بكر] أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا" وفي رواية: دعهما يا أبا بكر. فقوله: إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم؛ كقوله -تعالى- وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا لأن اللام تورث الاختصاص، فلا نشركهم في عيدهم كما لا نشركهم في

شرعتهم، ولا ندعهم يشركوننا. وقوله: "هذا عيدنا" يقتضي حصر عيدنا في هذا، فليس لنا عيد سواه، وكذلك قوله: وإن عيدنا هذا اليوم، فإن التعريف بالإضافة واللام يقتضي الاستغراق، فيكون جنس عيدنا منحصرا في جنس ذلك اليوم، كقوله: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". ومن هذا الباب: قوله صلى الله عليه وسلم: يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب رواه أبو داود والترمذي وصححه، فيدل على مفارقتنا لغيرنا في العيد، واختصاصنا بهذه الأيام الخمسة، وأيضا فإنه علل الرخصة باللعب بكونه يوم عيدنا، فدل على أنه لا يرخص فيه في عيد الكفار، فإنه لو ساغ ذلك لم يكن قوله: لكل قوم عيد فيه فائدة.

الوجه الخامس: أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى حتى أجلاهم عمر -رضي الله عنه- وكان اليهود بالمدينة كُثُرا في حياته -صلى الله عليه وسلم- وكذلك كان في اليمن يهود، ونصارى بنجران، والفرس بالبحرين، وكان لهم أعياد، والمقتضي لما يفعل في العيد من الأكل والشرب واللباس والزينة واللعب والراحة قائم في نفوس الناس، ثم من كان له خبرة بالسيرة يعلم أن المسلمين لم يكونوا يشاركونهم في شيء من أمرهم، ولا يغيرون لهم عادة في أعياد الكفار، بل ذلك اليوم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعند المسلمين يوم لا يخصونه بشيء أصلا إلا ما قد اختلف فيه من مخالفتهم فيه كصومه، فلولا أنه كان من دين المسلمين الذي تلقوه عن نبيهم منع من ذلك وكف عنه لوجب أن يوجد من بعضهم فعل بعض ذلك، فدل على المنع منه ثم جرى الأمر على عهد الخلفاء الراشدين كما كان في عهده، حتى كان عمر ينهى عن الدخول عليهم يوم عيدهم، فكيف لو كان أحد يفعل كفعلهم، بل لما ظهر من بعض المسلمين اختصاص يوم عيدهم بصوم مخالفة لهم نهى الفقهاء أو كثير منهم عن ذلك لأجل ما فيه من تعظيم عيدهم، أفلا يستدل بهذا على أن المسلمين تلقوا عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم- المنع من مشاركتهم في أعيادهم، وهذا بعد التأمل بين جدا.

الوجه السادس: ما رواه أبو هريرة عنه -صلى الله عنه وسلم- أنه قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه لمن بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد متفق عليه. فذكر أن الجمعة لنا كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى، واللام تقتضي الاختصاص، ثم هذا الكلام يقتضي الاقتسام، كما إذا قيل: هذه ثلاثة غلمان، هذا لي، وهذا لزيد، وهذا لعمرو، فإذا نحن شاركناهم في يوم السبت ويوم الأحد خالفنا هذا الحديث، هذا في العيد الأسبوعي فكيف في العيد الحولي؟! وقوله -صلى الله عليه وسلم-: بيد أنهم أوتوا الكتاب أي من أجل، كقوله: "أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش" والمعنى -والله أعلم- نحن الآخرون في الخلق السابقون في الحساب والدخول إلى الجنة، فأوتينا الكتاب من بعدهم، فهدينا لما اختلفوا فيه من العيد السابق للعيدين الآخرين، وصار عملنا الصالح قبل عملهم، فلما سبقناهم إلى الهدى والعمل الصالح جعلنا سابقين لهم في ثواب العمل الصالح،

ومن قال: بيد ههنا بمعنى غير، فقد أبعد. الوجه السابع: ما روي عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم" رواه أحمد والنسائي وصححه بعض الحفاظ وهذا نص في شرع مخالفتهم في عيدهم، وإن كان على طريق الاستحباب، وسنذكر حديث نهيه عن صوم يوم السبت وتعليل ذلك -أيضا- بمخالفتهم، ونذكر حكم صومه عند العلماء، وأنهم متفقون على شرع مخالفتهم في عيدهم، وإنما اختلفوا: هل مخالفتهم بالصوم أو بالإهمال حتى لا يقصد بصوم ولا بفطر، أو يفرق بين العيد العربي والعيد العجمي؟ على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى-. وأما الإجماع والآثار فمن وجوه: أحدها: ما تقدم التنبيه عليه من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية، يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس، ثم لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك، فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهيا، وإلا لوقع ذلك كثيرا؛ إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم منافيه واقع.

الثاني: من شروط عمر -رضي الله عنه- التي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم: أن أهل الذمة لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وسموا الشعانين والباعوث، فإذا كانوا قد اتفقوا على منعهم من إظهارها، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها مع كونه أشد؟ الوجه الثالث: ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني عن عمر أنه قال: "إياكم ورطانة الأعاجم! وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم! ". وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر: "لا تدخلوا على المشركين يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم". وعن ابن عمرو: "من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم" رواه البيهقي بالسند الصحيح. وعن عمر -رضي الله عنه-: "اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم". وعن علي -رضي الله عنه- أنه كره موافقتهم في اسم العيد الذي

ينفردون به فكيف بموافقتهم في العمل؟ وقد نص أحمد على معنى ما جاء عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- من كراهة موافقتهم في اللغة والعيد، وتقدم قول القاضي: مسألة في المنع من حضور أعيادهم. وقال الإمام أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي في كتابه "عمدة الحاضر": "فصل: لا تجوز شهادة أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مهنا، واحتج بقوله: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره، نص عليه". وقال الخلال في "جامعه": "باب في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين" وذكر عن مهنا قال: "سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد، مثل طور يابور ودير أيوب وأشباهه، يشهده المسلمون.

قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق، فلا بأس". وأما الرطانة وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية، فقال حرب الكرماني: "باب تسمية الشهور بالفارسية، قلت لأحمد "فإن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة، وروى فيه عن مجاهد أنه كره أن يقال: آذرماه وذي ماه، قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه، وكان ابن المبارك يكره إيزدان يُحلف به، وقال: لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد، وكذلك الأسماء الفارسية، قال: وكذلك أسماء العرب كل شيء مضاف، قال: وسألت إسحاق، قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس؟ قال: كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس. فما قاله أحمد له وجهان: أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرما، فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه؛ ولهذا كرهت الرقى العجمية بالعبرانية والسريانية أو غيرها؛ خوفا من أن يكون فيها معان لا تجوز، فإذا علم أن المعنى مكروه، فلا ريب في كراهته، وإن جهل معناه فأحمد كرهه، وكلام إسحاق يحتمل أنه لم يكرهه.

والوجه الثاني: كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون؛ ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون الدعاء والذكر بغير العربية، واختلف الفقهاء في أذكار الصلاة: هل تقال بغير العربية؟ وهي ثلاث درجات: أعلاها القرآن، ثم الذكر الواجب غير القرآن كالتحريمة والتسليم والتشهد عند من أوجبه، ثم الذكر غير الواجب من دعاء وتسبيح وتكبير وغير ذلك. فالقرآن لا يقرأ بغير العربية سواء قدر عليها أو لا عند الجمهور، وهو الصواب الذي لا ريب فيه، بل قال غير واحد: يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز، واختلف أبو حنيفة وأصحابه في القادر على العربية. وأما الأذكار الواجبة، فاختلف في منع ترجمة القرآن: هل تترجم للعاجز عن العربية وعن تعلمها؟ وفيه لأصحاب أحمد وجهان: أشبههما بكلام أحمد أنه لا يترجم، وهو قول مالك وإسحاق. والثاني يترجم وهو قول أبي يوسف ومحمد الشافعي. وأما سائر الأذكار، فالمنصوص من الوجهين أنه لا يترجمها، ومتى فعل بطلت صلاته، وهو قول مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي، والمنصوص عنه أنه يكره بغير العربية ولا يبطل، ومن أصحابنا من قال له ذلك إذا لم يحسن العربية. وحكم النطق بالعجمية في العبادات من الصلاة والقراءة والذكر

والتلبية والتسمية على الذبيحة وفي العقود والفسوخ كالنكاح واللعان وغيره معروف. وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور كالتواريخ وغير ذلك، فنهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب، وأما مع العلم به فكلام أحمد بين في كراهته أيضا، فإنه كره آذرماه ونحوه ومعناه ليس محرما، وأظنه سئل عن الدعاء بالفارسية فكرهه، وقال: لسان سوء، وهو قول مالك لنهي عمر عن رطانة الأعاجم وقال: "إنها خب". وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمى بغيرها وأن يتكلم بها خالطا لها بالعجمية، وهذا الذي ذكرناه مأثور عن الصحابة. روى ابن أبي شيبة قال: كتب عمر إلى أبي موسى: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي". وفي حديث آخر عنه: "تعلموا العربية، فإنها من دينكم". وهذا الذي أمر به عمر من فقه العربية وفقه السنة يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية، فإنه يورث النفاق رواه السلفي بإسناد معروف، وهو يشبه كلام عمر وأما رفعه فموضع تبين،

ونقل عن طائفة أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة، وبالجملة بعد الجملة فالكلمة بعد الكلمة أمرها قريب، وأكثر ما كانوا يفعلونه إذا كان المكلم أعجميا يريدون تقريب الفهم على المخاطب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص لما كساها النبي خميصة، وقال: يا أم خالد هذه سنا والسنا بالحبشية: الحسن. وأما اعتياد الخطاب بغير العربية حتى يصير عادة، فلا ريب أنه مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم. واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا، حتى يزيد به العقل والخلق والدين لمشابهته سلف الأمة، وأيضا فإن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بالعربية، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية.

فصل الاعتبار في مسألة العيد من وجوه

فصل الاعتبار في مسألة العيد من وجوه وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه: أحدها: أن الأعياد من جملة الشرع والمنهاج والمناسك التي قال -سبحانه-: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ووَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبينها في سائر المناسك، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر.

ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة وشروطه، وأما مبدؤها فأقل أحواله أن تكون معصية، وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار ونحوه من علاماتهم، فإن تلك علامة وضعية ليست من الدين، وإنما الغرض منها مجرد التمييز بين المسلم والكافر، وأما العيد وتوابعه فإنه من الدين الملعون هو وأهله، فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه. ولك أن تنظم هذا قياسا تمثيليا فتقول: العيد شريعة من شرائع الكفر أو شعيرة من شعائره، فحرمت موافقتهم فيها كسائر شعائر الكفر، وشرائعه، وإن كان هذا أبين من القياس الجزئي، ثم كل ما يختص به من عبادة وعادة إنما سببه كونه يوما مخصوصا، وإلا فلو كان كسائر الأيام لم يختص بشيء، وتخصيصه ليس من دين الإسلام في شيء، بل كفر به. الوجه الثاني: أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله؛ لأنه: إما محدث، وإما منسوخ، وما يتبع ذلك من التوسع في الطعام واللباس والراحة واللعب فهو تابع لذلك العيد الديني، كما أنه تابع له في دين الإسلام، فهو بمنزلة أن يتخذ بعض المسلمين عيدا مبتدعا يفعل فيه كل ما يفعله في العيد المشروع، ومثل من ينصب بنية يطاف بها وتحج، ويصنع لذلك طعاما ونحوه،

ولو فرض أن المسلم كره ذلك لكن غير عادته ذلك اليوم كما يغير أهل البدع عاداتهم في الأمور العادية أو في بعضها بصنع طعام أو زينة لباس وتوسعة في نفقة من غير أن يتعبد بذلك، ألم يكن هذا من أقبح المنكرات؟ فكذلك موافقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين وأشد، نعم هؤلاء يقرون على دينهم المبتدع والمنسوخ مستسرين به، والمسلم لا يقر على مبتدع ولا منسوخ لا سرا ولا علانية، كما لو صلى مسلم إلى بيت المقدس، أو ابتدع شيئا في الدين. الوجه الثالث: إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم الشيء إذا اشتهر دخل فيه عموم الناس، وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس، بل عيدا حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزاد عليه حتى يكاد يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر، كما قد سوله الشيطان [لكثير] ممن يدعي الإسلام فيما يفعلونه في آخر صوم النصارى من الهدايا والأفراح والنفقات والكسوة وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين، بل البلاد المصافية للنصارى قد صار ذلك أغلب عندهم وأبهى في نفوسهم من عيد الله ورسوله على ما حدثني به الثقات. وهذا الخميس الذي يكون في آخر صوم النصارى يدور بدوران صومهم الذي هو سبعة أسابيع، وصومهم وإن كان في أوائل الفصل الذي تسميه العرب الصيف وتسميه العامة الربيع، فإنه يتقدم ويتأخر

ليس له حد واحد من السنة الشمسية كالخميس الذي هو في أول نيسان، بل يدور صوم يوم النصارى في نحو ثلاثة وثلاثين يوما، لا يتقدم أوله ثاني شباط ولا يتأخر أوله عن ثاني آذار، بل يبتدئون من الاثنين الذي هو أقرب إلى اجتماع الشمس والقمر في هذه المدة -زعموا أنهم يراعون التوقيت الشمسي والهلالي- وكل ذلك بدع أحدثوها باتفاق منهم خالفوا بها الشريعة التي جاءت بها الأنبياء، فإن الأنبياء ما وقتوا العبادات إلا بالهلال، ويلي هذا الخميس يوم الجمعة جعلوه بإزاء يوم الجمعة التي صلب فيها المسيح على زعمهم الكاذب يسمونها جمعة الصلبوت، ويليه ليلة السبت يسمونها ليلة النور وسبت النور، يزعمون أن المسيح كان فيها في القبر، ويصنعون مخرفة يروجونها على عامتهم يخيلون إليهم أن النور ينزل من السماء في كنيسة القيامة بالقدس حتى يحملوا ما يوقد من ذلك إلى بلادهم متبركين به، وقد علم كل عاقل أنهم يصنعون ذلك، وأنه مفتعل، ثم يوم الأحد يزعمون أن المسيح قام فيه، ثم الأحد الذي يلي هذا يسمونه الأحد الحديث يلبسون فيه الجدد من ثيابهم، وهم يصومون عن الدسم، ويفطرون على ما يخرج من الحيوان من لبن أو بيض، ويفعلون أشياء لا تنضبط. ولهذا تجد نقل العلماء لمقالاتهم وشرائعهم تختلف، وعامته صحيح، وذلك أن القوم يزعمون أن ما وضعه رؤساؤهم من الأحبار والرهبان أنه من الدين، ويلزمهم

حكمه، ويصير شرعا شرعه المسيح في السماء، فهم في كل مدة ينسخون أشياء ويشرعون أشياء زعما منهم أن هذا بمنزلة نسخ الله شريعة بشريعة، فهم عكس اليهود، هؤلاء يجوزون لأحبارهم النسخ، واليهود لا تجوز أن ينسخ الله الشرائع، فلذلك لا ينضبط للنصارى شريعة تحكى على الأزمان، وغرضنا لا يتوقف على تفصيل باطلهم، بل يكفينا أن نعرف المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح والمعروف والمستحب والواجب حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما نعرف سائر المحرمات، إذ الفرض علينا تركها، ومن لم يعرف المنكر جملة وتفصيلا لم يتمكن من قصد اجتنابه، والمعرفة الجملية كافية بخلاف الواجبات، فإنه لما كان الغرض فعلها، والفعل لا يتأتى إلا مفصلا وجبت معرفتها على سبيل التفصيل، وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلوا ببعضها، وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله. وقد بلغني أيضا أنهم يخرجون يوم الخميس الذي قبل هذا أو يوم السبت أو غير ذلك إلى القبور يبخرونها، وكذلك يبخرون [بيوتهم] ويعتقدون أن في البخور بركة ودفع أذى، وراء كونه طيبا، ويعدونه من القرابين مثل الذبائح ويرقونه بنحاس يضربونه كأنه ناقوس صغير، وبكلام

مصنف، ويصلبون على أبواب بيوتهم إلى غير ذلك من الأمور المنكرة، ولست أعلم جميع ما يفعلونه، وأصله مأخوذ عنهم حتى كان في مدة الخميس تبقى الأسواق مملوءة من أصوات هذه النواقيس الصغار وكلام الرقايين من المنجمين وغيرهم بكلام أكثره باطل، وفيه ما هو محرم أو كفر، وقد ظن كثير من العامة والجهال أن هذا البخور ينفع من العين والسحر والأدواء والهوام، ويصورون في أوراق صور الحيات والعقارب ويلصقونها في بيوتهم؛ زعما أنها تمنع الهوام، وهو ضرب من طلاسم الصابئة، ويسمون هذا الخميس المتأخر الكبير، وهو عند الله الخميس الحقير المهين هو وأهله ومن يعظمه، فإن كل ما عظم بالباطل من مكان أو زمان أو شجر أو حجر يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان. ومن المنكرات: أنهم قد يوظفون على الفلاحين وظائف أكثرها كرها من الغنم والدجاج واللبن والبيض، فيجتمع فيها تحريمان: أكل مال بالباطل، وإقامة شعائر النصارى، ويجعلونه ميقاتا لإخراج الوكلاء على المزارع، ويطحنون فيه، ويصبغون البيض، ويوسعون النفقة،

ويزينون أولادهم إلى غير ذلك من الأمور المنكرة التي يقشعر منها قلب المؤمن الذي لم يمت قلبه، بل يعرف المعروف وينكر المنكر. وخلق يضعون ثيابهم تحت السماء رجاء بركة مرور مريم عليها، فهل يستريب من في قلبه حياة أن شريعة جاءت بما قدمنا بعضه من مخالفة اليهود والنصارى، لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح؟. وأصل ذلك كله إنما هو اختصاص أعياد الكفار بأمر جديد، أو مشابهتهم في بعض أمورهم. حتى آل الأمر إلى أن كثيرا من الناس صاروا في مثل هذا الخميس -الذي هو عيد الكفار الذي يزعمون أن المائدة نزلت فيه، ويسمونه الكبير، وهو الحقير- يجتمعون في أماكن اجتماعات عظيمة، ويطبخون، ويصبغون، ويلبسون، وينكتون بالحمرة دوابهم، ويفعلون أشياء لا تكاد تفعل في عيد الله ورسوله، واستعان الشيطان على إغوائهم أنه زمن ربيع يكثر فيه اللحم واللبن والبيض ونحو ذلك، وهذا كله تصديق قوله -صلى الله عليه وسلم-: لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة وسببه مشابهة الكفار في أعيادهم، أو في بعض ذلك، وهو مفض إلى الكثرة، فيكون ذريعة إلى هذا المحظور فيكون محرما، فكيف إذا أفضى إلى ما هو كفر من التبرك بالصليب، والتعميد في المعمودية، أو قول القائل المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة؟ ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن إما كون الشريعة النصرانية واليهودية موصلتين إلى الله، وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله، أو التدين بذلك أو غير ذلك مما

هو كفر بالله ورسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك. وأصل ذلك: المشابهة والمشاركة. وبهذا يتبين لك كمال الشريعة الحنيفية وبعض حكمة ما شرعه الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة أمورهم؛ لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس، وسد الذرائع معتبر في الشرع، كما قد ذكرنا من الشواهد على ذلك نحوا من ثلاثين أصلا في كتاب "إقامة الدليل على بطلان التحليل". الوجه الرابع: أن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق كانتفاعهم بالصلاة والزكاة، ولهذا جاءت بها كل شريعة كما قال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه، وهو الكمال المذكور في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. قاله في أعظم الأعياد الذي للأمة الحنيفية، والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها، ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله -إن أكل منه- إلا بكراهة، وربما ضره أكله، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي له، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال الشرعية بعض حاجته قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف

نهمته وهمته إلى المشروع، فإنه تعظم محبته له ومنفعته به، ويتم دينه به، ويكمل إسلامه، ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لأجل صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه، ومن أكثر من السفر إلى المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن على قصص الملوك لا يبقى لقصص الأنبياء عنده موقع، وهذا كثير يجده الإنسان من نفسه حسا وذوقا. ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها رواه الإمام أحمد. ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث بدعة؛ لما فيها من فساد الدين ونقص تعظيمه في القلوب. الوجه الخامس: أن مشابهتهم فيه سرور لهم بما هم عليه من الباطل خصوصا إذا كانوا مقهورين تحت الجزية والصغار، فإذا رأوا المسلمين قد صاروا فرعا لهم في خصائص دينهم أوجب ذلك قوة قلوبهم وانشراح صدورهم، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء، وهذا أمر محسوس يجده كل أحد، فكيف يجتمع ما يوجب إكرامهم بلا موجب مع شرع الصغار في حقهم؟!

الوجه السادس: أن ما يفعلونه في عيدهم فيه ما هو حرام، وما هو كفر، وما هو مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة، ثم التمييز بين هذا وهذا يخفى على كثير من الناس، فالمشابهة فيما لم يظهر تحريمه يوقع العامي فيما هو حرام. الوجه السابع: أن الله -تعالى- جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، إلى أن يئول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر. ولهذا وقع التأثير في بني آدم واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة، وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعا من الحيوان اكتسب من بعض أخلاقه؛ ولهذا صار الفخر والخيلاء في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة، وكذلك الكلابون، وصار في الحيوان الإنسي بعض أخلاق الإنس وقلة النفرة، فالمشابهة في الأمور الظاهرة توجب المشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا وإن بعد المكان والزمان، فمشاركتهم في أعيادهم يوجب نوعا من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد أمر خفي علق الحكم به ودار التحريم عليه.

الوجه الثامن: أن المشابهة في الظاهر تورث نوع محبة ومودة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واجتمعا في بلد غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهم غير متوادين أو متعارفين؛ لأن الاشتراك في البلد فيه نوع وصف اختصاص عن بلد الغربة، بل لو كان بين الرجلين مشابهة في العمامة أو اللبسة أو المركوب لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك أرباب الصناعات تجد بينهم من المؤالفة والموافقة إذا كانوا من نوع واحد أكثر مما بين من يباينهم من الملوك أو الأمراء مثلا، هذا في الأمور الدنيوية فكيف بالأمور الدينية؟ فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أشد، والموالاة لأعداء الله تنافي الإيمان، فإن الإيمان بالله ورسوله موجب عدم ولاية أعداء الله ورسوله، فثبوت ولايتهم موجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والمشابهة الظاهرة مظنة الموادة، فتكون محرمة، ووجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة، فلنقتصر على ما نبهنا عليه ففيه كفاية إن شاء الله تعالى، وبالله المستعان.

فصل ذكر الكلام في مشابهتهم فيما ليس من شرعنا

فصل ذكر الكلام في مشابهتهم فيما ليس من شرعنا مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان: أحدهما: مع العلم بأن هذا العمل هو من خصائص دينهم، فهذا إما أن يفعل بمجرد موافقتهم، وهو قليل، وإما لشهوة تتعلق بذلك العمل، وإما لشبهة فيه تخيل أنه نافع في الدنيا أو في الآخرة، وكل هذا لا شك في تحريمه، لكن يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر، وقد يصير كفرا بحسب الأدلة الشرعية، وإما عمل لم يعلم الفاعل أنه من عملهم فهو نوعان: أحدهما: ما كان في الأصل مأخوذا عنهم: إما على الوجه الذي يفعلونه، وإما مع نوع تغيير في الزمان أو المكان أو الفعل ونحو ذلك، فهذا غالب ما يبتلى به العامة في مثل ما يصنعونه في الخميس الحقير والميلاد ونحوهما، فإنهم قد نشئوا على اعتياد ذلك وتلقاه الأبناء عن الآباء، وأكثرهم لا يعلمون مبدأ ذلك، فهذا يعرف صاحبه حكمه، فإن لم ينته وإلا صار من القسم الأول. النوع الثاني: ما ليس في الأصل مأخوذا عنهم، لكنهم يفعلونه أيضا، فهذا ليس فيه محذور المشابهة، ولكن قد تفوت فيه منفعة المخالفة، فتتوقف كراهة ذلك وتحريمه على دليل شرعي وراء كونه مشابهتهم؛ إذ ليس كوننا تشبهنا بهم بأولى من كونهم تشبهوا بنا.

فصل الكلام على العيد ومعناه وأحواله عند الكفار

أما استحباب تركه لمصلحة المخالفة إذا لم يكن في تركه ضرر فظاهر لما تقدم من المخالفة، وهذا قد توجب الشريعة مخالفتهم فيه، وقد توجب عليهم مخالفتنا، كما في الزي ونحوه، وقد يقتصر على الاستحباب، كما في صبغ اللحية والصلاة في النعلين والسحور، وقد تبلغ الكراهة كما في تأخير المغرب والفطور، بخلاف مشابهتهم فيما كان مأخوذا عنهم، فإن الأصل فيه التحريم؛ لما قدمناه. فصل الكلام على العيد ومعناه وأحواله عند الكفار ليعلم أن العيد اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة، فليس النهي عن خصوص أعيادهم، بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك، وكذلك حريم العيد وهو ما قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون فيها أشياء لأجله، أو ما حوله من الأمكنة التي تحدث فيها أشياء لأجله أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال حكمها حكمه، فلا يفعل شيء من ذلك، فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم كيوم الخميس والميلاد ويقول لعياله: أنا أصنع لكم

في هذا الأسبوع أو الشهر الآخر، وإنما المحرك له على وجود ذلك هو وجود عيدهم، ولولا هو لم يقتضوه ذلك، فهذا من مقتضيات المشابهة. لكن يحال الأهل على عيد الله - تعالى - ورسوله، ويقضي لهم فيه من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره، فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله، ومن أغضب أهله لله أرضاه الله وأرضاهم، وليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وأكثر ما يفسد الملك والدول: طاعة النساء. وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. وروي: هلكت الرجال حين أطاعت النساء. ولما أنشده الأعشى: "وهن شر غالب لمن غلب"

فصل لا يجب على المسلم أن يعرف أعياد الكفار لمخالفتها بل يكفيه أن سببها من جهتهم

جعل - صلى الله عليه وسلم - يرددها ويقول: وهن شر غالب لمن غلب. وقال لأمهات المؤمنين: إنكن لأنتن صواحب يوسف يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب، وامتن - سبحانه - على زكريا بقوله: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ قال بعض العلماء: ينبغي للرجل أن يبتهل إلى الله في إصلاح زوجه له. فصل لا يجب على المسلم أن يعرف أعياد الكفار لمخالفتها بل يكفيه أن سببها من جهتهم أعياد الكفار كثيرة مختلفة، وليس على المسلم أن يبحث عنها ولا يعرفها، بل يكفيه أن يعرف في فعل من الأفعال أو يوم من الأيام أو مكان أن سبب هذا الفعل وتعظيم هذا المكان والزمان من جهتهم، ولو لم يعرف أن سببه من جهتهم فيكفيه أن يعلم أن لا أصل له في دين الإسلام، فأقل أحواله أن يكون من البدع،

ونحن ننبه على ما رأينا كثيرا من الناس قد وقعوا فيه. فمن ذلك: الخميس الحقير الذي في آخر صومهم، يزعمون أنه عيد المائدة هو عيدهم الأكبر، فجميع ما يحدثه الإنسان فيه هو من المنكرات الشنيعة، منه: خروج النساء، وتبخير القبور، ووضع الثياب على السطح، وكتابة الورق، وإلصاقها بالأبواب، واتخاذه موسما لبيع البخور وشرائه، وكذلك شراء البخور في ذلك الوقت إذا اتخذ وقتا للبيع، ورقى البخور مطلقا فيه أو في غيره، أو قصد شراء البخور المرقي، فإن رقى البخور، واتخاذ البخور قربانا هو دين النصارى، وإنما البخور طيب يتطيب بدخانه. ويستحب التبخر حيث يستحب التطيب، وكذلك اختصاصه بطبخ رز بلبن أو بسيسة أو عدس، أو صبغ بيض ونحوه، أما القمار بالبيض، أو بيعه لمن يقامر فيه، وشراؤه من المتقامرين فحكمه ظاهر. ومن ذلك: ما يفعله الأكارون من نكت البقر بالنقط الحمر أو الشجر أو جمع أنواع النباتات، والتبرك بها، أو الاغتسال بمائها. ومن ذلك ما قد يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون والاغتسال بمائه، أو قصد الاغتسال بشيء من ذلك. ومن ذلك: ترك الوظائف الراتبة من

الصنائع أو التجارات أو حلق العلم أو غير ذلك، واتخاذه يوم راحة وفرح، واللعب فيه بالخيل أو غيرها على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام. والضابط لذلك أنه لا يحدث فيه أمر أصلا، بل يجعل يوما كسائر الأيام. ومن ذلك ما يفعله كثير من الناس في أثناء كانون الثاني لأربع وعشرين خلت منه، يزعمون أنه ميلاد عيسى - عليه السلام - فجميع ما يحدث فيه هو من المنكرات، مثل إيقاد النيران، وإحداث طعام، واصطناع شمع وغير ذلك، فإن اتخاذ هذا الميلاد عيدا هو دين النصارى، وليس لذلك أصل في دين الإسلام، ولم يكن له أصل على عهد السلف الماضين، وانضم إليه سبب طبيعي وهو كونه في الشتاء المناسب لإيقاد النيران، ثم إن النصارى تزعم أنه بعد الميلاد بأيام - أظنها أحد عشر - عمد يحيى عيسى في ماء المعمودية؛ فيتعمدون في هذا الوقت، ويسمونه "عيد الغطاس"، وقد صار كثير من جهال النساء يدخلن أولادهن إلى الحمام في هذا الوقت، ويزعمن أن هذا ينفع الولد، وهذا من دين النصارى، وهو من أقبح المنكرات المحرمة. وكذلك أعياد الفرس، مثل "النيروز" و"المهرجان" وأعياد اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار أو الأعاجم أو الأعراب حكمها كلها على ما ذكرناه من قبل.

فصل ردع المسلم التشبه بهم عند ذلك

فصل ردع المسلم التشبه بهم عند ذلك وكما لا يتشبه بهم في الأعياد، فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم يجب، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته، خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد والبيض واللبن والغنم في الخميس الذي في آخر صومهم، وكذلك لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد، لا سيما إذا كان مما يستعان به على التشبه بهم كما ذكرنا، ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحوه؛ لأنه إعانة على المنكر، أما مبايعتهم ما يستعينون هم به على عيدهم للشراء فيها، فقد قدمنا أنه قيل لأحمد: هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور يابور ودير أيوب يشهده المسلمون يشهدون الأسواق ويجلبون فيه الغنم والبقر والدقيق والبر إلا أنه إنما يكون في الأسواق ولا يدخلون عليهم بيعهم؟ [قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم] وإنما يشهدون السوق فلا بأس.

وقال أبو الحسن الآمدي: فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره، نص عليه أحمد في رواية مهنا. وقال: إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم، وأما ما يباع في الأسواق، فلا، وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم، فهذا الكلام محتمل أنه أجاز شهود السوق مطلقا بائعا أو مشتريا، لأنه قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق، فلا بأس، وهذا يعم، لا سيما إن كان الضمير في قوله: "يجلبون" عائدا إلى المسلمين، ويحتمل - وهو أقوى - أنه إنما أرخص في شهود السوق فقط، ورخص في الشراء منه، ولم يتعرض للبيع منهم؛ لأن السائل هو مهنا، وهو فقيه عالم، وكأنه قد سمع النهي عن شهود أعيادهم؛ فسأل أحمد: شهود أسواقهم مثل شهود أعيادهم؟ فأجاب أحمد بالرخصة في شهود السوق، ولم يسأله عن بيع المسلم لهم: إما لظهوره عنده، وإما لعدم الحاجة إليه حينئذ. وكلام الآمدي يحتمل الوجهين، لكن الأظهر فيه الرخصة في البيع - أيضا - لقوله: "إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم" إلى آخره، فما أشار إليه أحمد من جواز شهود السوق فقط للشراء فيجوز؛

لأن ذلك ليس فيه شهود المنكر، ولا إعانة على معصية؛ لأن نفس الابتياع منهم جائز، بل فيه صرف لما قد يبتاعونه لعيدهم عنهم، فيكون فيه تقليل الشر، وقد كانت أسواق في الجاهلية كان يشهدها المسلمون، وشهد بعضها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا كما لو سافر الرجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الشام وهي دار حرب، وأحاديث أخر. وأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحوه وإهداء ذلك لهم، فهذا فيه نوع إعانة على إقامة دينهم وعيدهم المحرم، وهو مبني على أصل، وهو أن بيع الكفار عنبا أو عصيرا يتخذونه خمرا لا يجوز، وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحا يقاتلون به مسلما، وقد دل حديث عمر - رضي الله عنه - في إهداء الحلة السيراء إلى أخ له بمكة مشرك على جواز بيعهم الحرير، لكن الحرير مباح في الجملة، وإنما يحرم الكثير منه على بعض الآدميين، ولهذا جاز التداوي به في أصح الروايتين، ولم يجز بالخمر بحال، وجازت صنعته في الأصل والتجارة فيه، فهذا الأصل فيه اشتباه. فإن قيل بالاحتمال الأول في كلام أحمد

جوز ذلك. وعن أحمد في جواز حمل التجارة إلى أرض الحرب روايتان منصوصتان، فقد يقال: بيعها لهم في العيد كحملها إلى دار الحرب؛ لأن في حمل الثياب والطعام إلى أرض الحرب إعانة على دينهم في الجملة، وإذا منعنا منها إلى أرض الحرب؛ فإن العيد أولى، وأكثر أصوله ونصوصه تقتضي المنع من ذلك، لكن هل هو منع تحريم أو تنزيه؟ مبني على ما سيأتي. وقد ذكر عبد الملك بن حبيب أنه مما أجمع على كراهته، وصرح بأن مذهب مالك أنه حرام، وقال: كره مالك أكل ما ذبح النصارى لكنائسهم، ونهى عنه من غير تحريم، وقال: وكذلك ما ذبح على اسم المسيح والصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم الذين يعظمون، فقد كان مالك وغيره ممن يقتدى به يكره أكل هذا كله من ذبائحهم، وبه نأخذ. قال: وقد كان رجال من العلماء يستخفون ذلك. وسئل مالك عن الطعام الذي يصنعه النصارى لموتاهم يتصدقون به: أيأكل منه المسلم؟ قال: لا ينبغي، هو كالذبائح للعيد والكنائس. وسئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيء يباع من ملكه للكنيسة: هل يجوز للمسلم شراؤه؟ فقال: لا يحل ذلك له؛ لأنه تعظيم لشرائعهم، ومشتريه مسلم سوء.

وقال ابن القاسم في الأسقف يبيع أرض الكنيسة لمرمتها، وربما حبست تلك الأرض على الكنيسة لمصلحتها؟ إنه لا يحل لمسلم أن يشتريها؛ لأنه عون على تعظيم الكنائس؛ ولأنه حبس ولا يجوز لهم في أحباسهم إلا ما يجوز للمسلمين؛ ولا أرى لحاكم المسلمين أن يتعرض فيها بمنع ولا تنفيذ لشيء، ولا أرى للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأة له، وأراه من تعظيم عيده وعونا له على مصلحة كفره، ألا ترى أنه لا يحل للمسلم أن يبيع من النصارى شيئا من مصلحة عيدهم، لا لحما، ولا أدما، ولا ثوبا، ولا يعارون دابة، ولا يعانون على شيء من عيدهم. وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره، لم أعلمه اختلف فيه، هذا كلام ابن حبيب، وقد ذكر أنه أجمع على كراهة مبايعتهم ومهاداتهم ما يستعينون به على عيدهم، وصرح بأن مذهب مالك لا يحل ذلك. فصل ردع المسلم التشبه بهم عند ذلك (تابع) فصل وأما نصوص أحمد على ذلك، فقال إسحق بن إبراهيم: سئل أو عبد الله - رحمه الله - عن نصارى وقفوا ضيعة للبيعة يستأجرها المسلم منهم؟ فقال: لا يأخذها بشيء، لا يعينهم على ما هم فيه.

وقال: سمعت أبا عبد الله وسأله رجل: أبني للمجوس ناووسا؟ قال: لا تبن لهم، ولا تعنهم على ما هم فيه. وقد نقل عن محمد بن الحكم وسأله: الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرا بكراء؟ قال: لا بأس. والفرق بينهما أن الناووس من خصائص دينهم الباطل كالكنيسة، بخلاف القبر المطلق، فإنه ليس في نفسه معصية ولا من خصائص دينهم. وقال الخلال: "باب الرجل يؤاجر داره لذمي أو يبيعها منه" وذكر عن المروزي أن أبا عبد الله سئل عن رجل باع داره من ذمي وفيها محاريبه؟ فقال: نصراني؟! واستعظم ذلك، وقال: لا تباع يضرب فيها بالناقوس، وينصب فيها الصلبان، وقال: لا تباع من الكفار، وشدد في ذلك، وقال: لا أرى له أن يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها، فهذا نص على المنع. ونقل عنه إبراهيم بن الحارث قيل لأبي عبد الله: الرجل يكري منزله من الذمي؟ فقال: "ابن عون كان لا يكري داره إلا من أهل

الذمة، يقول: نرعبهم" يعني إذا أخذنا من الذمي الأجرة، حصل له رعب، وجعل أبو عبد الله يعجب بهذا من ابن عون. ونقل مهنا قال سألت أحمد عن الرجل يكري المجوسي داره؟. فقال: "كان ابن عون لا يرى أن يكري المسلم، يقول أرعبهم في أخذ الغلة، وكان يرى أن يكري غير المسلمين". قال الخلال: كل من حكى عن أبي عبد الله في رجل يكري داره من ذمي، فإنما أجابه على فعل ابن عون، ولم ينفذ لأبي عبد الله قول، وقد حكى عن إبراهيم أنه رآه معجبا به، والأمر ظاهر في قول أبي عبد الله أنه لا تباع منه؛ لأنه يكفر فيها، والأمر عندي: لا تباع منه، ولا تكرى؛ لأنه معنى واحد، وكره أحمد بيع الدار؛ لأنه كان مبتدعا، فإذا كره بيع الدار من الفاسق، فكيف بالكافر؟ وقال أبو بكر: لا فرق بين البيع والإجارة، فإذا أجاز [البيع] ، أجاز الإجارة، وإذا منع البيع منع الإجارة ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك.

وعن إسحاق بن منصور أنه قال لأبي عبد الله عن الأوزاعي أنه كره أن يؤاجر المسلم نفسه للنصراني لنظارة كرمه، فقال أحمد: ما أحسن ما قال؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر، فلا بأس. وعن أبي النضر العجلي قال: قال أبو عبد الله فيمن يحمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني، فهو يكره كل كرائه ولكنه يقضي للحمال بالكراء، وإذا كان للمسلم فهو أشد. وتلخيص الكلام في ذلك: أما بيع داره من كافر، فقد ذكرنا منع أحمد منه، ثم اختلف أصحابه: هل هذا تنزيه أو تحريم؟ فقال الشريف أبو علي بن أبي موسى: كره أحمد أن يبيع مسلم داره من ذمي يكفر فيها بالله - تعالى -، ويستبيح المحظورات، فإن فعل أساء ولم يبطل البيع؛ وكذلك أبو الحسن الآمدي أطلق الكراهة مقتصرا عليها. وأما الخلال وصاحبه والقاضي فمقتضى كلامهم تحريم ذلك،

وقال القاضي: لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه بيت نار أو كنيسة، أو يبيع فيه الخمر سواء شرط أنه يبيع فيه الخمر أو لم يشترط، لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر. قال أبو بكر: لا فرق بين البيع والإجارة - كما قدمناه - وكلام أحمد محتمل الأمرين، فإن قوله في رواية أبي الحارث: يبيعها من مسلم أحب إلي يقتضي أنه منع تنزيه، واستعظامه لذلك في رواية المروزي وقوله: لا تباع من كافر، وشدد في ذلك يقتضي التحريم. وأما الإجارة فقد سوى الأصحاب بينها وبين البيع، وما حكاه عن ابن عون ليس بقول له، ويمكن أن يقال: بل ظاهر الرواية أنه أجاز ذلك؛ فإن إعجابه بالفعل دليل جوازه عنده، واقتصاره على الجواب بفعل رجل يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين، والفرق بين الإجارة والبيع: أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة قد عارضه مصلحة أخرى، وهو صرف إرعاب المطالبة بالكراء عن المسلم وإنزال ذلك بالكافر، فصار ذلك بمنزلة إقرارهم بالجزية؛ لما تضمنه من المصلحة جاز، وكذلك جازت مهادنة الكفار في الجملة، فأما البيع فهذه منتفية فيه، وهذا ظاهر على قول ابن أبي موسى وغيره: أن البيع مكروه غير محرم، فإن الكراهة في الإجارة تزول بهذه المصلحة الراجحة - كما في نظائره - فيصير في المسألة أربعة أقوال. وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة هو فيما إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة، فأما إن أجره على أن يبيع فيه الخمر، أو يعملها كنيسة فلا يجوز قولا واحدا، وبه قال الشافعي وغيره.

وقال أبو حنيفة: يجوز، وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلا يحمل له الميتة أو الخمر أو الخنزير أنه يصح، وعامة الفقهاء خالفوه. ونقل عن أحمد فيما إذا ابتاع الذمي أرضا عشرية روايتان منع في إحداهن قال: لأن فيه إبطالا للعشر، وهو ضرر على المسلمين، قال: وكذلك لا يمكنون من استئجار أرض العشر لهذه العلة. وقال في الرواية الأخرى: لا بأس أن يشتري الذمي أرض العشر من مسلم. واختلف قوله إذا جاز ذلك فيما على الذمي فيما يخرج منها، على روايتين: إحداهما: لا عشر عليه ولا شيء سوى الجزية. والأخرى: عليه فيما يخرج منها الخمس، ومن أصحابنا من حكى رواية أنهم ينهون عن شرائها، فإن اشتروها ضعف عليهم العشر، وفي كلام أحمد ما يدل على هذه، وكذلك نمنعهم - على ظاهر المذهب - من شراء السبي الذي جرى عليه سهام المسلمين، كما شرط عليهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويتخرج أنه لا يؤخذ منه إلا عشر واحد هذا في العشرية التي ليست خراجية، أما الخراجية فقالوا: ليس لذمي أن يبتاع أرضا فتحها المسلمون عنوة، وإذا جوزنا بيع العنوة، كان حكم الذي في ابتياعها

كحكمه في أرض العشر المحض؛ إذ جميع الأرض عشرية عندنا وعند الجمهور، وبمعنى أن العشر يجب فيما أخرجت، وكذلك أرض الموات من أرض الإسلام التي ليست خراجية: هل للذمي أن يتملكها بالإحياء؟ فيه قولان للعلماء هما في المذهب قيل: ليس له ذلك، وهو قول الشافعي وابن حامد، وهو قياس إحدى الروايتين عن أحمد في منعه ابتياعها، ثم هل عليه عشر؟ فيه روايتان. قال ابن أبي موسى: ومن أحيا من أهل الذمة أرضا فهي له، ولا زكاة عليه فيها ولا عشر، وقد روي عنه رواية أخرى أنه لا خراج على أهل الذمة، ويؤخذ منهم العشر يضاعف عليهم، والأول عنه أظهر. فهذا الذي حكاه ابن أبي موسى من تضعيف العشر فيما يملكه بالإحياء هو قياس تضعيفه فيما يملكه بالابتياع، لكن نقل حرب عنه في رجل من أهل الذمة أحيا أرضا، قال: هو عشر، ففهم القاضي وغيره من الأصحاب أن الواجب هو العشر المأخوذ من المسلم، فحكوا في وجوب العشر فيها روايتين، وابن أبي موسى نقل الروايتين في وجوب عشر مضعف، وعلى طريقة القاضي يخرج في مسألة الابتياع كذلك، والذي نقله ابن أبي موسى أصح، فإن أحمد سئل عن إحياء الذمي الأرض، فأجاب بأنه ليس عليه شيء، وذكر اختلاف الفقهاء في مسألة اشتراء الأرض: هل يمنع أو يضعف عليه العشر؟ وهذا يبين لك أن المسألتين عنده واحدة، وهو تملك الذمي الأرض العشرية سواء كان بابتياع أو إحياء أو غير ذلك.

ومن نقل عنه عشرا مفردا في الأرض المحياة دون المبتاعة فليس بمستقيم، وأصله قوله - في التي نقلها الكرماني - قوله: هي أرض عشرية، ولكن هذا كلام مجمل قد فسره أبو عبد الله في موضع آخر، وبين مأخذه، ونقل الفقه إن لم يعرف الناقل مأخذ الفقيه، وإلا فقد يقع فيه الغلط كثيرا، وقد أفصح أرباب هذا القول بأن مأخذهم قياس الحراثة على التجارة، فإن الذمي يؤخذ منه إذا اتجر في غير أرضه ضعف المسلم، فكذلك إذا استحدث أرضا غير أرضه؛ لأنه في كلا الموضعين قد أخذ يكتسب في غير مكانه الأصلي، وقياس قول من يضعف العشر: أن المستأمن لو زرع في دار الإسلام لكان الواجب عليه خمسين ضعف ما يؤخذ من الذمي، كما إذا اتجر في بلاد الإسلام. ومذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووس ونحوه: لا يجوز، رواية واحدة، ذكره الآمدي، كالإجارة لبناء كنيسة أو بيعة أو صومعة، وكالإجارة لكتبهم المحرفة. وأما مسألة حمل الميتة والخمر والخنزير للنصراني، فقد تقدم لفظ أحمد أنه قال: يكره أكل كرائه، ويقضي له بالأجرة للحمال، ثم اختلف الأصحاب على ثلاثة طرق: إحداها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة. قال

ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني، وإن أجر نفسه لحمل محرم لمسلم كانت الكراهة أشد، ويأخذ الكراء، وهل يطيب له؟ على وجهين، وغير ممتنع أن يقضى بالكراء وإن كان محرما كأجر الحجام، فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح. الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة: أن الإجارة لا تصح، وهي طريقة القاضي في المجرد، وهي ضعيفة رجع عنها القاضي. الطريقة الثالثة: تخريج هذه المسألة على روايتين: إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل وللأجرة. والثانية: لا تصح، ولا يستحق بها الأجرة، وإن حمل على قياس قوله في الخمر: لا يجوز إمساكها، وتجب إراقتها، قال في رواية أبي طالب: إذا أسلم وله خمر أو خنازير: تصب الخمر، وتسرح الخنازير، قد حرما عليه، وإن قتلها فلا بأس، وهذا عند أصحابنا إذا استأجره ليحمل الخمر إلي بيته أو دكانه أو حيث لا يجوز إقرارها سواء كان حملها للشرب أو مطلقا، أما إذا كان حملها ليريقها، أو يحمل الميتة لينقلها إلى الصحراء لئلا يتأذى الناس بريحها، فإنه يجوز الإجارة على ذلك؛ لأنه عمل مباح، ولكن إن كانت

الأجرة جلد الميتة لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه، وهذا مذهب مالك، وأظنه مذهب الشافعي - أيضا - ومذهب أبي حنيفة كالرواية الأولى. والأشبه والله أعلم طريقة ابن أبي موسى، فإنها أقرب إلى مقصود أحمد وإلى القياس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما حرمت لقصد المعتصر والمستعمل، كما لو باع عنبا لمن يتخذه خمرا، فإن مال البائع لا يذهب مجانا، بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع إنما كان من جهة المستأجر لا من جهته، ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله - سبحانه - لا لحق المستأجر، بخلاف من استؤجر للزنا أو التلوط أو القتل أو الغصب، فإن نفس هذا العمل يحرم لا لأجل قصد المشتري، فهو كما لو باعه ميتة أو خمرا لا يقضى له بثمنها، لأن نفس العين محرمة. ومثل هذه الإجارة والجعالة لا توصف بالصحة ولا بالفساد مطلقا، بل يقال: هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر بمعنى أنه يجب عليه الجعل، وهي فاسدة بالنسبة إلى الأجرة بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة، وله في الشريعة نظائر، ونص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني لا ينافي هذا، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه ثم نقضي له بكرائه، ولو لم نفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية حصلوا غرضهم منه، ثم لا يعطونه شيئا، وما

هم بأهل أن يعاونوا، بخلاف من سلم إليهم عملا لا قيمة له بحال، نعم البغي والمغني والنائحة ونحوهم إذا أعطوا أجورهم ثم تابوا: فهل يتصدقون بالأجرة أم يجب رده على المعطي؟ فيه قولان: أصحهما أن لا ترد، بل يتصدق بها وتصرف في مصالح المسلمين، نص عليه أحمد في أجرة حمل الخمر، ونص على أنه يعاقب بياع الخمر بحرق حانوته كما حرق عمر بيتا يباع فيها الخمر، وذلك أن العقوبات المالية عندنا باقية غير منسوخة. إذا عرف أصل هذه المسائل، وعرف أصل الإمام أحمد، فمعلوم أن بيعهم ما يقيمون به أعيادهم المحرمة هو مثل بيعهم العقار للسكنى وأشد، بل هو إلى بيعهم العصير أقرب منه إلى بيعهم العقار، فإن ما يبتاعونه يصنعون به نفس المحرمات، مثل صليب أو شعانين أو معمودية أو تبخير أو ذبح لغير الله أو صور ونحو ذلك، فهذا لا ريب في تحريمه كبيعهم العصير ليتخذوه خمرا وبناء الكنيسة لهم. وأما ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب فأصول أحمد وغيره تقتضي كراهته، لكن كراهة تحريم كمذهب مالك أو كراهة

فصل حكم قبول المسلم الهدية من الكفار يوم عيدهم وإيراد النصوص على جوازه

تنزيه؟ والأشبه أنه كراهة تحريم كسائر النظائر عنده، فإنه لا يجوز بيع الخبز واللحم والرياحين للفساق الذين يشربون عليها، ولأن هذه إعانة قد تفضي إلى إظهار الدين [الباطل] وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره، وهذا أعظم من إعانة شخص معين. فصل حكم قبول المسلم الهدية من الكفار يوم عيدهم وإيراد النصوص على جوازه وأما قبوله الهدية منهم يوم عيدهم، فقد قدمنا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه أتي بهدية "يوم نيروز" فقبلها. وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "أما ما ذبح لذلك اليوم، فلا تأكلوا، ولكن كلوا من أشجارهم". وعن أبي برزة أنه كان يهدي إليه مجوس في "نيروزهم" فيقول لأهله: ما كان من فاكهة فكلوه، وما كان من غير ذلك فردوه" فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم، بل حكمها في العيد وغيره سواء؛ لأنه ليس في ذلك إعانة على شعائر كفرهم، لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مسألة مستقلة فيها خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه.

فصل الكلام على صيام أعياد الكفار

فصل الكلام على صيام أعياد الكفار فأما صيام أيام أعياد الكفار مفردة كصوم "يوم النيروز" و"المهرجان " فقد اختلف فيهما لأجل أن المخالفة تحصل بالصوم أو بترك تخصيصه بعمل، فنذكر أولا صوم يوم السبت وذلك أنه روى ثور بن يزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه رواه أهل السنن الأربعة. وقد اختلف الأصحاب وسائر العلماء فيه: فقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن صوم يوم السبت يفترد به؟ فيقول: "جاء في ذلك حديث الصماء" يعني هذا الحديث المتقدم، وكان يقول: يحيى بن سعيد يتقيه، قال: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صومه: أن الأحاديث كلها

مخالفة لهذا الحديث، مثل حديث أم سلمة حين سئلت أي الأيام كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر صياما لها؟ فقالت: السبت والأحد، ومثل نهيه عن صوم الجمعة إلا يوم قبله أو يوم بعده ومثل: كان يصوم شعبان ونحو ذلك، ولا يقال: إن النهي عن إفراده؛ لأنه قال في الحديث: لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فاستثناؤه منه يدل على دخول غير المستثنى بخلاف يوم الجمعة فإنه نهى عن إفراده، ففهم الأثرم الرخصة في صومه، وذلك أن أحمد علل الحديث بأن يحيى كان يتقيه. وأما أكثر الأصحاب ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحمله على الإفراد، وهؤلاء يكرهون إفراده عملا بالحديث لجودة إسناده. ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة: فقال ابن عقيل: إنه يوم تمسك فيه اليهود، ويخصونه بالإمساك، وهو ترك العمل، والصائم في مظنة ترك العمل، فيصير صومه تشبها بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد.

وعلله طائفة من الأصحاب بأنه يوم عيد لأهل الكتاب، فقصده دون غيره فيه تعظيم لما عظمه أهل الكتاب فكره كما كره إفراد عاشوراء، وإفراد رجب لما يعظمه المشركون، وهذه العلة تعارض بيوم الأحد، فإنه عيد النصارى، وقد يقال: إذا كان يوم عيد فمخالفتهم يكون بالصوم لا بالفطر، ويقوي ذلك ما روي عنه أنه كان يصوم يوم السبت والأحد، ويقول: هما يوم عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم رواه أحمد والنسائي وصححه بعض الحفاظ، وهو نص في استحباب صوم يوم عيدهم. وليس في ذلك حجة على من كره إفراده؛ لأنه إذا صام السبت والأحد زال الإفراد المكروه، وحصلت المخالفة للمشركين. فصل الكلام على صيام أعياد الكفار (تابع) فصل وأما "النيروز" و"المهرجان" ونحوهما من أعياد المشركين، فمن لم يكره صوم يوم السبت قد لا يكره صوم ذلك، بل ربما استحبه للمخالفة، وكرهها أكثر الأصحاب، وعللوا ذلك بأنه تعظيم لعيدهم، فكره كيوم السبت. قال الإمام أبو محمد المقدسي "وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم"،

فصل الكلام على الأعياد والمواسم المبتدعة وأنها من أشنع المنكرات

وقد يقال: يكره صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما مما لا يعرف بحساب العرب، بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد؛ لأنه إذا قصد صوم الأيام العجمية كانت ذريعة إلى إقامة شعار هذه الأيام وإحياء أمرها، بخلاف السبت والأحد فإنهما من حساب المسلمين، فليس صومهما مفسدة، ففيه توفيق بين الأدلة. فصل الكلام على الأعياد والمواسم المبتدعة وأنها من أشنع المنكرات ومن المنكرات: سائر الأعياد والمواسم المبتدعة، فإنها من المكروهات سواء بلغت التحريم أو لم تبلغه، فهي منكرة من وجهين: أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات، فيدخل في قوله: شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وكل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد

وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والكتاب والإجماع مثل قوله: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ونحو ذلك في الكتاب. وليعلم أن هذه القاعدة - وهي الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته - قاعدة عامة عظيمة، وتمامها بالجواب عما يعارضها، وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة وقبيحة، بدليل قول عمر - رضي الله عنه - في صلاة التراويح: "نعمت البدعة هذه" وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست مكروهة، بل قد تكون حسنة للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع والقياس، فإذا ثبت أن بعض البدع حسنة فالقبيح ما نهى عنه الشارع، وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح، بل قد يكون حسنا، فهذا مما يقوله بعضهم، وقد يقال: هذه البدعة حسنة؛ لأن فيها من المصلحة "كيت وكيت"، وهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة. والجواب عن قولهم هو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نص على أن كل بدعة ضلالة وكل بدعة في النار، وشر الأمور محدثاتها، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالة ذلك على ذم البدع، ومن دفع ذلك فهو مراغم.

وأما المعارضات فالجواب عنها بأحد جوابين: إما أن يقال: ما ثبت حسنه فليس من البدع، فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه، فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص احتاج إلى دليل يخص به ذلك، وإلا كان العموم موجبا للنهي، ثم إن المخصص لا يجوز أن يكون عادة بعض البلاد أو بعض الناس، بل إنما يكون في الكتاب أو السنة أو الإجماع من الأدلة الشرعية، لا قول بعض العلماء أو العباد ونحو ذلك، فلا يعارض به قول سيد الخلق إمام المتقين، رسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم -، ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنة مجمع عليها بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها فهو مخطئ، فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة. ولا يجوز حمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل بدعة ضلالة" على البدع التي نهى عنها بخصوصها؛ لأنه تعطيل لفائدة الحديث؛ فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق قد علم بذلك النهي أنه قبيح محرم سواء كان بدعة أو لم يكن بدعة، فإذا كان لا منكر إلا ما نهى عنه بخصوصه سواء كان مفعولا على عهده - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن، صار وصف البدعة عديم التأثير، لا يدل وجوده على القبح ولا عدمه على الحسن، بل يكون قوله: "كل بدعة ضلالة" بمنزلة قوله: كل عادة ضلالة، أو كل ما عليه العرب أو العجم فهو

ضلالة، ويراد بذلك أن ما نهي عنه من ذلك فهو ضلالة، وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد، ليس من نوع التأويل السائغ، وفيه من المفاسد أشياء: أحدها: سقوط الاعتماد على هذا الحديث. والثاني: أن وصف البدعة ومعناها يكون عديم التأثير، فتعليق الحكم بهذا المعنى تعليق بما لا تأثير له ولا فائدة فيه. الثالث: أن الخطاب بمثل هذا إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر - وهو كونه منهيا عنه - كتمان لما يجب بيانه لما يقصد ظاهره، فإن الجدعة والنهي الخاص بينهما عموم وخصوص، إذ ليس كل بدعة [جاء] عنها نهي خاص، وليس كل ما فيه نهي خاص بدعة، فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تلبيس محض، لا يسوغ التكلم به، فهو كما لو قيل: الأسد وأريد به الفرس، أو الفرس وعني به الأسد. الرابع: أنه إذا أراد بقول: "كل محدثة بدعة" النهي عما نهي عنه، يكون قد أحالهم على ما لا يمكن الإحاطة به، ومثل هذا لا يجوز. الخامس: إذا أريد به ما فيه نهي خاص كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع، فإنك لو تأملت البدع التي نهي عنها بأعيانها وما لم ينه عنها بأعيانها وجدت هذا الضرب هو الأكثر، واللفظ العام لا يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة،

فهذه الوجوه وغيرها توجب القطع بأن هذا التأويل فاسد لا يجوز حمل عليه، فإن على من تأول شيئا أن يبين إرادة ذلك المعنى الذي حمل الحديث عليه الكلام، ثم بيان الدليل الصارف، فإذا منع جواز إرادة ذلك، امتنع حمل الحديث عليه، هذا مقام. وأما المقام الثاني فيقال: هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح، فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالا على قبح الجميع، لكن أكثر ما يقال: إنه إذا ثبت أن هذا حسن يكون مستثنى من العموم، وإلا فالأصل أن كل بدعة ضلالة، فقد تبين أن الجواب عن كل ما يعارض من أنه حسن وهو بدعة: إما بأنه ليس ببدعة، وإما أنه مخصوص، فقد سلمت دلالة الحديث، هذا إذا ثبت حسنه، أما ما يظن أنه حسن، وليس بحسن، أو أمور يجوز أن تكون حسنة، وأن تكون قبيحة فلا تصلح المعارضة بها، بل يجاب عنها بالجواب المركب، وهو إن ثبت أن هذا حسن فلا يكون بدعة أو يكون مخصوصا، وإن لم يثبت أنه حسن فهو داخل في العموم، فقد تبين أنه لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلية وهي قوله: "كل بدعة ضلالة" بسلب عمومها ويقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل، مع أن الجواب الأول أجود، فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصوده بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - وزاده شرفا وكرما. وأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة، بل سنة بقول

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فإنه قال: إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه ولا صلاتها جماعة بدعة، بل قد صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين بل ثلاثا، وصلاها - أيضا - في العشر الأواخر في جماعة مرات، وقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح رواه أهل السنن وبه احتج أحمد على أن فعلها جماعة أفضل، وكان الناس يصلونها جماعة في عهده - صلى الله عليه وسلم - ويقرهم على ذلك. وأما قول عمر: "نعمت البدعة هذه" فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا: قول الصاحب ليس بحجة، فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث. فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب. نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف على إحدى الروايتين،

ثم يقال أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم ما فعل ابتداء من غير مثال سابق. وأما البدعة الشرعية، فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي، فإذا كان نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر - رضي الله عنه - فإذا عمل ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة لأنه مبتدأ عمل كما أن نفس الدين الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسمى بدعة ويسمى محدثا في اللغة، كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين إلى الحبشة: "إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين محدث لا يعرف". ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة وإن سمي بدعة لغة فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظها في الشريعة، وقد علم أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل بدعة" لم يرد كل مبتدأ فإن دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان كذلك فقد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى، وقال لهم: لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم، فصلوا في بيوتكم فعلم أن المقتضي للخروج قائم، وأنه

لولا خوف الافتراض لخرج إليهم. فلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد، وأسرج المسجد، فصارت هذه الهيئة - وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج - عملا لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعة، لأنه في اللغة يسمى بذلك ولم يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وقد زال خوفه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا جمع القرآن، فإن المانع من جمعه على عهده صلى الله عليه وسلم هو أن الوحي كان ينزل فينسخ الله من ذلك ما يشاء. فلما أمن ذلك جمع في مصحف واحد، وإن سمي في اللغة بدعة، فإن المقتضي لجمعه وهو حفظه، كان موجودا في زمنه، لولا ما عارضه من احتمال تغييره وزيادته ونقصه، فلما أمن من ذلك عمل المقتضي عمله، وصار هذا كنفي عمر - رضي الله عنه - ليهود خيبر والنصارى من جزيرة العرب، وإنما لم ينفذه أبو بكر - رضي الله عنه - لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة، وبشروعه في قتال فارس والروم، وكذلك لم يفعله عمر في أول خلافته لاشتغاله - أيضا - بقتال فارس والروم، فلما تمكن من ذلك فعل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان هذا قد يسمى بدعة لغة، كما قال اليهود: كيف تخرجنا

وقد أقرنا أبو القاسم؟ وجاءوا إلى علي - رضي الله عنه - في خلافته فأرادوا أن يردهم، فامتنع من ذلك؛ لأن الفعل كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان محدثا بعده. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا صار عوضا عن دين أحدكم فلا تأخذوه فإذا رده الراد لكونه عوضا كان متبعا للسنة، وأن نفس الرد مبتدع، لم يفعله أحد على حياته صلى الله عليه وسلم وهذا كثير في السنة، مثل تركه أن يجعل للكعبة بابين من أجل أنهم حديثو العهد في الإسلام. وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث، فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهده صلى الله عليه وسلم موجودا أو كان مصلحة ولم يفعله، يعلم أنه ليس بمصلحة، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق، فقد يكون مصلحة، ثم هنا للفقهاء طريقان: أحدهما: أن ذلك يفعل ما لم ينه عنه، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة.

والثاني: أن ذلك لا يفعل إن لم يؤمر به، وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة، وهؤلاء ضربان: منهم من لا يثبت الحكم إن لم يدخل في لفظ كلام الشارع أو فعله أو إقراره، وهم نفاة القياس. ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه وهم القياسيون. الوجه الثاني في ذم المواسم والأعياد المحدثة: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين، وليس كل واحد يدرك فساد هذا النوع من البدع، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة، بل أولو الألباب هم [الذين] يدركون بعض ما فيه من الفساد، والواجب على الخلق: اتباع الكتاب والسنة وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة، فننبه على بعض مفاسدها: فمن ذلك: أن من أحدث عملا في يوم، كصوم أول خميس من رجب وصلاة ليلة الجمعة التي يسمونها "صلاة الرغائب"، وما يتبع ذلك من إحداث أطعمة وزينة وتوسع في النفقة، فلابد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب أن هذا اليوم أفضل من غيره، وأن الصوم فيه أفضل من أمثاله، وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من الجمع، إذ لولا قيام ذلك لما انبعث القلب لتخصيص هذه الليلة أو اليوم؛ إذ الترجيح من غير مرجح ممتنع.

وهذه مفسدة عظيمة: أن يعتقد الإنسان فضيلة يوم ولا يكون فيه فضيلة، فيكون قد شرع شيئا لم يشرعه الله، وقد أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصوم وعن قيام ليلته، وذلك لما فيه من المفسدة باعتقاد كونه فاضلا على غيره ينبغي أن يخص بعمل، وهذا اعتقاد فاسد منهي عنه، فكذلك مسألتنا، ومن قال: أنا أفعل ذلك، وهذا الوقت عندي كغيره، فلابد أن يكون له باعث إما موافقة سجيته أو عادته أو خوف اللوم له، ويجوز ذلك، فلابد له من باعث غير شرعي، وهذا لعلمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يخصون ذلك بفضيلة، فلا يجوز أن يكون لها فضل؛ لأنه إن كان ولم يعلمه الرسول ولا أصحابه ولا التابعون، فكيف يعلمه هو؟ فعلم أنه لم يكن لها فضل؛ إذ يمتنع أن يعلم أمرا يقربنا إلى الله لم يعلمه الرسول، وإن عملوه امتنع مع توفر دواعيهم على النصح وتعليم الخلق أن لا يعلموا أحدا بهذا الفضل، ولا يسارع إليه واحد منهم. فإذا كان هذا الفضل المدعى مستلزما لعدم علم الرسول وخير القرون بدين الله أو لكتمانهم ذلك، وكل واحد من اللازمين منتف شرعا وعادة، علم انتفاء الملزوم وهو الفضل المدعى، ثم ذلك مستلزم إما لاعتقاد هو ضلال في الدين أو عمل دين لغير الله - سبحانه -، والتدين بالاعتقادات الفاسدة، وهذه البدع مستلزمة

فصل ذكر البيان لحال من حضر تلك الأعياد متأولا مجتهدا

قطعا ما لا يجوز اعتقاده، فأقل أحواله إن لم يكن محرما أن يكون مكروها، وهذا سار في سائر البدع المحدثة، فظهر أن فعل البدع تناقض الاعتقادات الواجبة على الخلق، وتنازع الرسول ما جاء به عن الله - تعالى -، وتورث القلب نفاقا ولو كان خفيا، فمن تدبر هذا علم ما في البدع من السموم المضعفة للإيمان، ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر، وهذا المعنى جار في كل البدع كالصلاة عند القبور، والذبح عند الأصنام، ونحو ذلك، وإن لم يكن الفاعل معتقدا للمزية، لكن نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية. فصل ذكر البيان لحال من حضر تلك الأعياد متأولا مجتهدا فلو قيل هذا يعارض بأن هذه المواسم قد فعلها قوم من أولي العلم والفضل الصديقين فمن دونهم، وفيها فوائد يجدها الإنسان في قلبه من زوال آصار ذنوبه وإجابة دعوته، مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام. قيل: لا ريب أن من فعلها متأولا مجتهدا أو مقلدا فله أجر على حسن قصده وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع، وما فيه من المبتدع مغفور له إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين، وكذلك ما ذكر فيها من الفوائد كلها إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه كالصوم والذكر والقراءة والركوع السجود وحسن القصد في عبادة الله، وما اشتمل عليه من المكروه انتفى موجبه

بعفو الله لاجتهاد صاحبها أو تقليده، وهذا ثابت في كل ما يذكر في بعض البدع المذكورة من الفائدة، لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها والاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه. كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك، بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم فوائد، وذلك أنه لابد أن تشتمل عباداتهم على نوع ما مشروع في جنسه، كما أن قولهم لابد أن يشتمل على صدق ما مأثور عن الأنبياء، ثم مع ذلك لا يوجب أن تفعل عباداتهم أو تروى كلماتهم؛ لأن جميع المبتدعات لابد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير، إذ لو كان خيرها راجحا لما أهملها الشارع، فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجب للنهي. وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض الاجتهاد أو غيره، كما يزول إثم النبيذ والربا المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف، ثم مع ذلك يجب بيان حالها، وأن لا يقتدي بمن استحلها، وأن لا يقصر في طلب العلم المبين لحقيقتها، وهذا كاف في بيان أن هذه البدعة مشتملة على مفاسد اعتقادية أو حالية مناقضة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة، ثم نقول على سبيل التفصيل: إذا فعلها قوم ذوو فضل، فقد تركها في زمانهم معتقدا كراهتها، أو أنكرها قوم إن لم يكونوا هم أفضل

ممن فعلها فليسوا دونهم ولو كانوا دونهم فقد تنازع فيها أولو العلم، فيجب ردها إلى الله والرسول، وكتاب الله وسنة رسوله مع من تركها بلا شك، لا مع من رخص فيها. ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع من تركها، وما فيها من المفاسد التي يستغني بها العامة عن كثير من السنن حتى تجد كثيرا من العامة قد يحافظ عليها ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس، وينقص بسببها عنايتهم بالفرائض وغير ذلك، يعارض ما فيها من المنفعة، فإن فيها - أيضا - من مصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وجهالة أكثر الناس بدين المرسلين، وانتشار البدع، ومسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع، وفوات سلوك الصراط المستقيم، وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج عن العبودية والاتباع بحسب الإمكان. كما قال أبو عثمان النيسابوري - رحمه الله -: "ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه"، ثم هذا مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتباع الرسول، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه أو يكاد، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته، وسلمت سريرته، حتى إن متبعها يصير في غاية من الجهالة، قد ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وهذا كله مقرر في غير هذا الموضع، ومنها ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين: النوع الذي فيه مشابهة، والنوع الذي لا مشابهة فيه، والكلام في ذم البدع لما كان مقررا في غير هذا الموضع لم نطل النفس في تقريره، بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم.

فصل ذكر بعض الأمثلة على بدع قامت على نصوص باطلة وبيان بطلانها

فصل ذكر بعض الأمثلة على بدع قامت على نصوص باطلة وبيان بطلانها تقدم أن العيد يكون اسما لنفس المكان والزمان والاجتماع، وقد أحدث من تلك الثلاثة أشياء، مثل أول خميس من رجب، وليلة تلك الجمعة [التي] تسمى "الرغائب" فإن تعظيم ذلك اليوم والليلة حادث بعد المائة الرابعة، وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء، وفعل هذه الصلاة - وإن كان ذكرها بعض المتأخرين من الأصحاب وغيرهم - فإنها محدثة منهي عنها عند المحققين وأهل العلم، ونحو إفراد صوم هذا اليوم وكل ما فيه تعظيم له من طعام وزينة، بل لا يكون له مزية على غيره، وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلى فيه صلاة تسمى "صلاة أم داود" فلا أصل لذلك. ومنها ثامن عشر ذي الحجة الذي خطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خم مرجعه من حجة الوداع، فاتخاذ ذلك اليوم عيدا محدث لا أصل له.

ومنها ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السلام - وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والله [قد] يثيبهم على قصدهم الصالح، لكن هذا المولد لم يفعله أحد من السلف للنبي صلى الله عليه وسلم ولو كان خيرا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به، وكمال تعظيمه في متابعته ظاهرا وباطنا، ونشر ما بعث به، والجهاد على إظهاره باليد والقلب واللسان، هذه طريقة السابقين. فعليك بالتمسك بالسنة في خاصتك، خاصة من يطيعك، واعرف المعروف، وأنكر المنكر، وادع إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو ترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه، ففعل المولد قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم، فقد يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد. فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشريفة بحيث تعرف مراتب المعروف ومراتب المنكر حتى تقدم

أهمها عند الازدحام، فهذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل. وقد يفعل ما هو معظم في الشريعة من الأوقات الفاضلة ما يعتقد أنه فضيلة، فيصير منكرا، مثل ما أحدثه بعض أهل الأهواء في يوم عاشوراء من التعطش والتحزن والتجمع وغير ذلك من المحدثات من اتخاذه مأتما، فهو من دين الجاهلية، ليس من دين المسلمين، وكذلك أحدث قيه بعض الناس أشياء مستندة إلى أحاديث موضوعة، مثل فضل الاغتسال فيه أو التكحل أو المصافحة، فكل ذلك مكروه، وإنما السنة صومه، وقد روي في التوسعة على العيال آثار معروفة. وقد يكون الغلو في تعظيمه من بعض المتسننة لمقابلة الروافض، فإن الشيطان قصده أن يحرف الخلق عن الصراط المستقيم. ومنها رجب فإنه أحد الأشهر الحرم، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: اللهم بارك لنا في شهري رجب وشعبان وبلغنا رمضان ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في فضل رجب حديث آخر، بل عامة الأحاديث المأثورة فيه كذب. فاتخاذه

موسما بحيث يفرد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد وغيره كما روي عن عمر بن الخطاب وأبي بكر وغيرهما من الصحابة - رضي الله عنهم -. وروى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم رجب، وهل الإفراد المكروه أن يصومه كله أو أن لا يقرن به شهر آخر؟ فيه للأصحاب وجهان. ومن هذا الباب: ليلة نصف شعبان، فقد روي في فضلها من الأحاديث ما يقتضي أنها ليلة مفضلة، وكثير من السلف من كان يخصها بالصلاة فيها، وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة، ومن العلماء من أنكر فضلها، وطعن في الأحاديث الواردة فيها كحديث: إن الله يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم كلب والذي عليه أكثر أهل العلم من أصحابنا وغيرهم تفضيلها، وعليه يدل نص أحمد، وإن كان قد أحدث فيها أحاديث،

أما صوم النصف مفردا فلا أصل له، بل إفراده مكروه، وكذلك اتخاذه موسما تصنع فيه الأطعمة والزينة، وكذلك "صلاة الألفية" في ليلة النصف جماعة، وليعلم أن الاجتماع لصلاة تطوع أو استماع قرآن أو ذكر الله ونحو ذلك إذا كان يفعل ذلك أحيانا فهو حسن، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى التطوع في جماعة أحيانا، وعموم الأحاديث التي فيها ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ... الحديث وأنه خرج على قوم وهم يقرؤون، فجلس معهم وغير ذلك. أما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة، فإن ذلك يضاهي اجتماعات الصلوات الخمس، وذلك هو المبتدع المحدث، ففرق بين ما يتخذ سنة وعادة، فإن ذلك يضاهي المشروع، وهذا الفرق هو المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة.

فصل قد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العملي المحدث العيد المكاني فيغلظ قبحا

فصل قد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العملي المحدث العيد المكاني فيغلظ قبحا وقد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العملي المحدث العيد المكاني، فيغلظ قبح هذا، ويصير خروجا عن الشريعة. فمن ذلك ما يفعل يوم عرفة مما لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه، وهو قصد قبر من يحسن به الظن يوم عرفة، والاجتماع العظيم عند قبره، كما يفعل في بعض أرض المشرق والمغرب والتعريف هناك كما يفعل بعرفات، فإن هذا نوع من الحج المتبدع الذي لم يشرعه الله واتخاذ القبور أعيادا. وكذلك السفر إلى بيت المقدس للتعريف فيه، فإنه - أيضا - ضلال مبين، فإن زيارة بيت المقدس مستحبة للصلاة والاعتكاف، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه، فإن ذلك تخصيص وقت معين بزيارة بيت المقدس ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت،

ثم فيه أيضا مضاهاة للحج إلى المسجد الحرام وتشبيهه بالكعبة، وقد أفضى الأمر إلى ما لا يشك مسلم أنه شريعة أخرى غير شريعة الإسلام، وهو ما قد يفعله بعض الضلال من الطواف بالصخرة، أو حلق الرأس هناك، أو قصد النسك هناك، وما يفعله بعض الجهال من الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة بعرفة. وأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء أو ضرب بالدف بالمسجد الأقصى ونحوه فمن أقبح المنكرات من وجهات أخرى. وأما قصد الرجل المسلم مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر، فهذا هو التعريف في الأمصار، فقد اختلف فيه العلماء: ففعله ابن عباس وعمرو بن حريث، ورخص فيه أحمد وإن كان مع ذلك لا يستحبه، هذا هو المشهور عنه، وكره طائفة من الكوفيين كأبي حنيفة ومالك وغيره من المدنيين هذا التعريف. وذلك التعريف المنهي عنه هو أن ذلك قصد موضع بعينه مثل قبر أو غيره للتشبه بعرفات، بخلاف مسجد المصر، فإنه قصد له بنوعه لا بعينه، وأيضا فإن المكان المعين قد يحمل شد رحل إليه واتخاذ القبر عيدا، وهذا بنفسه محرم. وأما ضرب البوقات والطبول فإنه مكروه في العيد وغيره وكذلك لباس الحرير.

فصل الأعياد المكانية وأقسامها

فصل الأعياد المكانية وأقسامها وأما الأعياد المكانية فتنقسم كالزمانية إلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا خصوص له في الشريعة. والثاني: ما له خصيصة لا تقتضي قصده للعبادة فيه. والثالث: ما يشرع من العبادة فيه لكن لا يتخذ عيدا. والأقسام الثلاثة جاءت الآثار بها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا قبري عيدا ومثل نهيه عن اتخاذ آثار الأنبياء أعيادا. فهذه الأقسام الثلاثة: أحدها: مكان لا فضل له في الشريعة أصلا، ولا فيه ما يوجب تفضيله، بل هو كسائر الأمكنة أو دونها، فقصد ذلك للاجتماع فيه لصلاة أو دعاء أو ذكر أو غيره ضلال بين، ثم إن كان به آثار بعض الكفار أو غيرهم؛ صار أقبح وأقبح، ودخل في هذا الباب وفيما قبله مشابهة الكفار، وهذه أنواع لا يمكن ضبطها بخلاف الزمان، فإنه محصور، وهذا الضرب أقبح من الذي قبله، فإن هذا يشبه عبادة الأوثان، أو هو ذريعة إليها، أو نوع من عبادة الأوثان، إذ عباد الأوثان كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال يعتقدون أن ذلك يقربهم إلى الله تعالى، وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كما ذكر الله تعالى في كتابه، كل واحد من هذه الثلاثة لمصر من أمصار العرب،

ومواقيت الحج ثلاثة: مكة والمدينة والطائف، فكانت اللات لأهل الطائف، قيل: إنه كان رجلا صالحا يلت السويق للحجيج، فلما مات عكفوا على قبره مدة، ثم اتخذوا تمثاله، ثم بنوا عليه بنية سموها بيت الربة، وقصتها معروفة، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم هدمها لما فتحت الطائف بعد مكة سنة تسع. وأما العزى فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها، ويدعون، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد عقب فتح مكة، فأزالها، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم مالها، وخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، فيئست العزى أن تعبد. وأما مناة فكانت لأهل المدينة من ناحية الساحل. ومن أراد أن يعلم كيف كان حال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن، فلينظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في "أخبار مكة" وغيره من العلماء. ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، ويسمونها "ذات أنواط" فقال بعض الناس: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر! قلتم كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم فأنكر

مشابهتم للكفار بأن يعلقوا على شجرة، فكيف بما هو أطم من مشابهتهم في نفس الشرك؟!. فمن قصد بقعة يقصد الخير فيها - ولم تستحب الشريعة ذلك - فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو غيرها أو قناة جارية أو جبلا أو مغارة، وسواء قصدها ليصلي فيها، أو ليدعو، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر أو لينسك بحيث يخص البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا، وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنور ويقال: إنها تقبل النذر - يقوله بعض الضالين - فإن هذا نذر معصية باتفاق العلماء لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم، منهم أحمد في المشهور عنه، وكذلك إذا نذر طعاما للحيتان التي في العين، أو نذر مالا للسدنة والمجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن هؤلاء تشبهوا بسدنة اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، [والمجاورون] فيهم شبه من العاكفين الذين قال لهم إبراهيم: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ وكالذين اختارهم موسى [من] قومه في قوله: فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ ثم إذا صرف هذا المال في جنس تلك العبادة من المشروع، مثل عمارة المساجد والصالحين وفقراء المسلمين كان حسنا. فهذه الأمكنة فيها ما يظن أنه قبر نبي أو رجل صالح، وليس كذلك، أو يظن أنه مقام له، وليس كذلك. فأما ما كان قبرا أو مقاما، فهو من النوع

الثاني، وهذا باب واسع أذكر بعض أعيانه. فمن ذلك: عدة أمكنة بدمشق، مثل مشهد لأبي بن كعب خارج الباب الشرقي، ولا خلاف أن أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة، وكذلك يقال قبر هود: في الحائط القبلي، وما علمت أحدا ذكر أن هودا مات بدمشق، بل قيل: باليمن، وقيل: بمكة، وكذلك مشهد أويس، وما قال أحد: إن أويسا مات بدمشق، ولا قدم إليها، ومن ذلك: قبر أم سلمة، ولا خلاف أنها ماتت بالمدينة. وما أكثر الغلط في ذلك من جهة مشابهة الأسماء! وكذلك بمصر مشهد يقال: إنه للحسين، وهو باطل اتفاقا. فهذه المواضع ليس فيها فضيلة أصلا، اللهم إلا أن يكون قبر رجل مسلم فيكون كسائر قبور المسلمين ليس لها خصيصة، وإن كانت القبور الصحيحة لا يجوز اتخاذها أعيادا، ولا أن يفعل عندها ما يفعل عند هذه القبور المكذوبة. ومن هذا الباب: مواضع يقال: إن فيها أثر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره،

ويضاهي بها مقام إبراهيم الخليل الذي بمكة، كما يقول الجهال في الصخرة التي ببيت المقدس من أن فيها أثرا من وطء النبي صلى الله عليه وسلم وبلغني أن بعض الجهال يقول: إنه من وطء الرب سبحانه. وفي مسجد قبلي دمشق: مسجد القدم، يقال: إنه أثر قدم موسى، وهذا باطل، وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء والصالحين بناء على أنه رؤي هناك في النوم، ورؤية النبي أو الرجل الصالح ببقعة في المنام لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها، أو تتخذ مصلى بإجماع المسلمين، وهذه الأماكن كثيرة موجودة في أكثر المواضع، مثل الحجاز، فيها مواضع كغار عن يمين الطريق وأنت ذاهب من بدر إلى مكة يقال: إنه الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر، وإنه الغار الذي ذكره الله - تعالى - ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الغار الذي ذكره الله في القرآن إنما هو غار بجبل ثور قريب من مكة معروف عند أهل مكة إلى اليوم. وبالجملة فتعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه، فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان، فنهي عن الصلاة فيها وإن لم يقصد تعظيمها؛ لئلا يكون ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة، كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة، وإن لم يقصد المصلي الصلاة لأجلها، كما ينهى عن إفراد الجمعة وسرر شعبان بالصوم، وإن لم يقصد تخصيصها بالصوم.

وما أشبه هذه الأمكنة بمسجد ضرار، فإن هذه المشاهد إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله، وتعظيما لما لم يعظمه الله، وعكوفا على أشياء لا تنفع، وصدا للخلق عن سبيل الله، وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه. ويلتحق بهذا الضرب - وإن لم يكن منه - مواضع تدعى لها خصائص لا تثبت، مثل كثير من القبور التي يقال: إنها قبر نبي، أو قبر صالح، أو مقام نبي أو صالح، ونحو ذلك، وقد يكون ذلك صدقا، وقد يكون كذبا. وأكثر المشاهد التي على وجه الأرض من هذا الضرب، فإن الصحيح من ذلك قليل جدا، وقال غير واحد من أهل العلم: لا يثبت إلا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، وغيره قد يثبت قبر إبراهيم الخليل - عليه السلام - وقد يكون عَلِمَ أن القبر في تلك الناحية، لكن يقع الشك في عينه ككثير من قبور الصحابة التي بباب الصغير من دمشق، فإن الأرض غيرت مرات، فتعيين قبر بعينه أنه قبر بلال أو غيره لا يكاد يثبت إلا من طريق خاصة، وإن كان لو ثبت لم يتعلق به حكم شرعي مما قد أحدث عندها؛ إذ لو كان ضبط هذه الأمكنة من الدين لما أهمل، ولما ضاع عن الأمة المحفوظ دينها المعصومة عن الخطأ. وأكثر الحكايات إنما توجد من السدنة والمجاورين لها الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وقد يحكى ما له تأثير مثل أن رجلا دعا عند قبر فاستجيب له، أو نذر فقضيت حاجته، ونحو ذلك. وبمثل هذه الأمور عبدت الأصنام، فإن القوم كانوا - أحيانا - يخاطبون من الأوثان، وربما تقضى حوائجهم إذا قصدوها؛ ولذلك يجري [لهم مثل ما يجري] لأهل

الأبداد من أهل الهند، وربما قيست على ما شرعه الله من حج بيته والحجر الأسود، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس، وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض. وقد صح أنه نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير فإذا كان النذر - الذي هو طاعة - لا يأتي بخير، فما الظن بالنذر الذي هو معصية، بأن يكون لشيء من هذه الأمكنة مما لا ينفع ولا يضر؟. وأما إجابة الدعاء، فقد يكون سببه اضطرار الداعي، وصدق التجائه، وقد يكون مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمرا قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أُخر وإن كانت فتنة في حق الداعي، فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون، وينصرون، ويعافون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها. وقال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا وقال: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وأسباب المقدورات فيها أمور يطول شرحها، ليس هذا موضعها، وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة، ولعلي - إن شاء الله - أبين أسباب هذه التأثيرات في موضع آخر. هذا هو النوع الأول من الأمكنة.

النوع الثاني من الأمكنة: ما له خصيصة، لكن لا يقتضي اتخاذه عيدا، ولا يصلى عنده، ولا يعيد بنوع من العبادات. فمن ذلك: قبور الأنبياء والصالحين، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف النهي عن اتخاذها عيدا عموما وخصوصا، وبينوا معنى العيد. أما العموم فما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود بإسناد حسن، رواته كلهم ثقات. قال: حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، فذكره، وإن كان عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يقدح في حديثه، قال ابن معين: هو ثقة. وقد روي من جهات أخرى، فما بقي فيه إنكار. وروي عن الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى سهل بن أبي سهيل عند قبره، فقال: "ما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء".

فإذا كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم - مع أنه أفضل قبر على وجه الأرض - قد نهي عن اتخاذه عيدا، فقبر غيره أولى بالنهي، مع كونه قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ولا تجعلوا بيوتكم قبورا أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى، ومن تشبه بهم. وفي الصحيحين قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا. وقال - أيضا -: فإن صلاتكم تبلغني يشير إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا، والأحاديث بأن صلاتنا تعرض عليه كثيرة مشهورة صحيحة. مع كون أفضل التابعين: علي بن الحسين رأى ذلك الرجل يدعو عند قبره صلى الله عليه وسلم فنهاه، وروى له حديث: لا تتخذوا قبري عيدا فعلم أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذه له عيدا، وهو أعلم بمعنى الحديث من غيره،

وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا، رواه سعيد. فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل بيته - رضي الله عنهم -. ومعلوم ما كان هو صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه إذا دخلوا القبور أن يقول أحدهم: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ونحوه من الأحاديث المشهورة. وكالصلاة على الميت والدعاء له، وما كان عليه السابقون الأولون هو المشروع للمسلمين في ذلك كله، وهو الذي كانوا يفعلونه عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره. فزيارة القبور في الجملة جائزة، حتى قبور الكفار، فإن في "صحيح مسلم" أنه قال: استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي. وقال: زوروا القبور؛ فإنها تذكر الآخرة. فهذه الزيارة التي تذكر الآخرة، أو لتحيتهم والدعاء لهم، هو الذي جاءت به السنة كما تقدم. وقد اختلف أصحابنا وغيرهم هل يجوز السفر لزيارتها؟ على قولين:

أحدهما: لا، وهو قول ابن بطة وابن عقيل وغيرهما؛ لأنه سفر بدعة منهي عنه. والثاني: يجوز، وهو قول الغزالي وأبي الحسن بن عبدوس الحراني والشيخ أبي محمد المقدسي، وما علمته منقولا عن أحد من المتقدمين؛ بناء على أن هذا الحديث لم يتناول النهي عن ذلك كما لم يتناول النهي عن السفر إلى المكان الذي فيها الوالد والعلماء والمشايخ والإخوان أو بعض المقاصد من الأمور الدنيوية المباحة، وأما ما سوى ذلك من المحدثات مثل الصلاة عند القبور مطلقا، أو اتخاذها مساجد، أو بناء المساجد عليها قد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه وقد صرح العلماء علماء الطوائف من أصحابنا وغيرهم بالنهي عن بناء المساجد على القبور، اتباعا للأحاديث وأنه حرام، ومن العلماء من أطلق عليه لفظ الكراهة فما أدري ما عنى به ولا ريب في القطع بتحريمه. فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم: يتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه، بل لا تصح عندنا في ظاهر المذهب؛ للنهي واللعن الوارد فيه، وليس في هذه المسألة خلاف لكون المدفون فيها واحدا، وإنما اختلف أصحابنا في المقبرة المجردة عن مسجد: هل حدها ثلاثة أقبر؟ أو ينهى عن الصلاة

عند القبر الفذ وإن لم يكن عنده قبر آخر؟ على وجهين. ثم يتغلظ النهي إن كانت البقعة مغصوبة مثل ما بني على بعض العلماء والصالحين ممن كان مدفونا في مقبرة مسبلة، فبني على قبره مسجد أو مدرسة أو رباط أو مشهد، وجعل فيها مطهرة، أو لم يجعل، فإن هذا مشتمل على أنواع من المحرمات: أحدها: أنه لا يجوز الانتفاع بالمقبرة المسبلة بغير الدفن من غير تعويض الاتفاق، فبناء المسجد ونحوه كدفن الميت في المسجد، وكبناء الخانقاه في المقبرة، وكبناء المسجد في الطريق الذي يحتاج الناس إلى المشي فيه. الثاني: اشتمال غالب ذلك على نبش قبور المسلمين، وإخراج عظام موتاهم. الثالث: أن البناء على القبور منهي عنه. الرابع: أن بناء المطاهر بين المقابر من أقبح ما تجاور به القبور، لا سيما إن كان موضع المطهرة قبر رجل مسلم. الخامس: اتخاذ القبور مساجد. السادس: الإسراج على القبور.

السابع: مشابهة أهل الكتابين في كثير من الأقوال والأفعال والسنن بهذا السبب كما هو الواقع، إلى غير ذلك من الوجوه، وقد كانت البنية التي على قبر إبراهيم - عليه السلام - مسدودة لا يدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة، فقيل: إن بعض النسوة المتصلات بالخلفاء رأت في ذلك مناما؛ فنقبت لذلك، وقيل: إن النصارى لما استولوا على هذه النواحي نقبوا ذلك، ثم ترك ذلك مسجدا بعد الفتوح المتأخرة، وكان أهل الفضل من شيوخنا لا يصلون في مجموع تلك البنية، وينهون أصحابهم عن الصلاة فيها؛ اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتقاء معصيته، وكذلك إيقاد المصابيح في هذه المشاهد مطلقا لا يجوز، بلا خلاف أعلمه، ولا يجوز الوفاء بما ينذر لها. ومن ذلك الصلاة عندها وإن لم يبن هناك مسجد، فإن كل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا، وإن لم يكن هناك بناء، فإن النهي عن الصلاة في المقبرة ليس لمجرد كونها محل النجاسة، بل لمظنة اتخاذها أوثانا، كما قد بينه في قوله صلى الله عليه وسلم: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقول عائشة: "ولولا ذلك لأبرز قبره" وغيره من الأحاديث؛ فإن قبور الأنبياء لا تنبش حتى يقال: لأجل النجاسة خصوصا، ولا

فصل الكلام على سد ذرائع الشرك والنهي عن الصلاة على القبور

تبلى الأنبياء، فعلم أنه لمظنة عبادة الأوثان، قال الشافعي: "وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا؛ مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس" وقد نبه صلى الله عليه وسلم بقوله: اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد على العلة. فصل الكلام على سد ذرائع الشرك والنهي عن الصلاة على القبور ولخوف مظنة عبادة الأوثان حسم الرسول صلى الله عليه وسلم المادة، ونهى عن الصلاة عند القبور، كما تقدم، ولأجل تلك العلة وقع كثير من الأمم إما في الشرك الأكبر أو الأصغر، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، فإن الشرك بقبر الرجل الصالح أعظم من الشرك بخشبة أو حجر على تمثاله، فتجد قوما يتضرعون عند القبور، ويخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد، بل ولا في السَحَر، وقد يسجد بعضهم لها ويرجون من بركة الصلاة عندها ما لا يرجونه عند بيت الله، فحسم صلى الله عليه وسلم ذلك كله، وإن لم يقصد المصلي بركعته ذلك، كما نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، واستوائها وغروبها فينهى عن ذلك سدا للذريعة.

أما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء والصالحين متبركا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا هو عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه واتباع دين لم يأذن به الله، فقد أجمع المسلمون على أن الصلاة عند أي قبر كان لا فضل فيها لذلك، ولا للصلاة مزية في تلك البقعة أصلا بل مزية شر. واعلم أن تلك البقعة وإن كان قد تنزل عندها الملائكة والرحمة ولها شرف وفضل، لكن دين الله بين الغالي فيه وبين الجافي عنه، فالنصارى عظموا الأنبياء حتى عبدوهم، واليهود استخفوا بهم حتى قتلوهم، والأمة الوسط عرفوا حقوقهم؛ ولأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح فلو قدر أن الصلاة هناك توجب رحمة أكثر من الصلاة في غيرها كانت المفسدة الناشئة تربي على هذا المصلحة حتى تغمرها وتزيد عليها، بحيث تصير الصلاة هناك مذهبة لتلك الرحمة، ومثبتة لما يوجب العذاب، ومن لم تكن له بصيرة يدرك بها الفساد الناشئ من ذلك، فيكفيه أن يقلد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه من المعلوم، أنه لولا أن الفساد أغلب من المصلحة لما نهي عن ذلك. وليس للمؤمن أن يطالب الرسل بتبيين وجوه المصالح، وإنما عليه طاعته والسمع والطاعة، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ

فصل ذكر أقسام الدعاء والعبادة عند القبور وغيرها من الأماكن

فصل ذكر أقسام الدعاء والعبادة عند القبور وغيرها من الأماكن والمقصود أن الدعاء والعبادة عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين: أحدهما: أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو الله في طريقه ويتفق أن يمر بالقبور، وكمن يزورها فيسلم ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة، فهذا ونحوه لا بأس به. النوع الثاني: أن يتحرى الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء عندها أجوب من غيره، فهذا منهي عنه إما نهي تحريم أو تنزيه، والتحريم أقرب، فإن الشخص لو دعا، فاجتاز بصنم من غير قصد لم يكن به بأس، ولو تحرى الدعاء عند الصنم أو الصليب أو في الكنيسة يرجو الإجابة في تلك البقعة لكان هذا من العظائم، فقصد القبور للدعاء عندها من هذا الباب، بل قد يكون أشد لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن اتخاذها مساجد وعيدا. فقصد القبور لم يفعله أحد من الصحابة والتابعين، بل أجدبوا على عهد الصحابة، ودهمتهم نوائب، فهلا جاءوا فاستغاثوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ بل قد خرج عمر بالعباس يستسقي به، ولم يرح إلى القبر. وكذلك لما فتحت تستر وجدوا قبر دانيال، فقيل: إنه كان إذا أجدبت السماء برزوا بسريره فيمطرون، فأمر عمر أن يعمى قبره،

فحفر ثلاثة عشر قبرا متفرقة، ودفن في أحدها ليلا، وسووا القبور كلها؛ لئلا يفتتن به الناس، فأنكر الصحابة ذلك وعموا قبره، فهذا فعل الصحابة المهاجرين والأنصار. ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، علم قطعا أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها، بل ينهون عن ذلك جهالهم. فإن قيل قد نقل عن بعضهم أنه قال: "قبر معروف الترياق الأكبر المجرب" وأن معروفا أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره، وأن بعض من هجره أحمد بن حنبل يأتي إلى قبر أحمد ويتوخى الدعاء عنده، وروي عن جماعات أنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم فاستجيب لهم، وقد ذكر علماء من المصنفين في المناسك إذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو عنده وأن من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له، ورأى بعضهم منامات في الدعاء عند قبر بعض الأشياخ، وجرب ذلك أقوام استجابة الدعاء عند القبر، وأدركنا من ذوي الفضل علما وعملا من يتحرى الدعاء عندها والعكوف عليها، وفيهم من له عند الناس كرامات وعلم، فكيف يخالف هؤلاء؟.

وهذا السؤال - مع بعده عن طريق العلم - هو غاية ما يتمسك به المقبريون. والجواب عن ذلك على وجه الاختصار: أن ذلك لم ينقل في استحبابه - فيما علمناه - شيء ثابت عن القرون الثلاثة المفضلة الذين أثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم مع شدة المقتضي فيهم لذلك لو كان فضيلة. وأما من بعدهم فأكثر ما يفرض أن الأمة اختلفت، ولا يمكن أن يقال: إن الأمة أجمعت على استحسان ذلك؛ لأن كثيرا من الأمة كره ذلك، وأنكره قديما وحديثا. وأيضا من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا لفعله المتقدمون ولم يفعلوه، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات، وهي لا تتناقض، وإذا اختلف فيه المتأخرون، فالفاصل بينهم هو كتاب الله، والسنة، والإجماع المتقدم نصا واستنباطا، فكيف - والحمد لله - لم ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع؟ بل المنقول من ذلك إما كذب، كما كذب على الشافعي أنه قال: "إني إذا نزل شيء بي أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة فأجاب" فهذا كذب معلوم فإن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده، وقد رأى الشافعي بالحجاز والشام من قبور الأنبياء والصحابة والصالحين من هو أفضل عنده من أبي حنيفة، فما

باله لم يتوخ الدعاء إلا عند قبره؟!. ثم قد تقدم عن الشافعي قوله: "إني أكره تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها "وإما أن يكون المنقول عن مجهول لا يعرف ونحن لو روي لنا أحاديث مثل هذه الحكايات لما جاز لنا التمسك بها حتى يثبت النقل". ومنها ما قد يكون صاحبه قد قاله باجتهاد أو فعله باجتهاد يخطئ ويصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه، فحرف النقل عنه، ثم سائر هذه الحجج دائر بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول لم يشرعها، وإنما تثبت العبادات بمثل هذه الحكايات النصارى وأمثالهم، وإنما المتبع في إثبات الأحكام كتاب الله والسنة واتباع سبيل السالفين الأولين. والجواب المحقق عن ذلك من وجهين: مجمل ومفصل. أما المجمل، فالنقض، فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات من هذا النمط كثير، بل المشركون كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا كما قد يستجاب لهؤلاء، بل وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة، فإن كان هذا وحده دليلا على أن الله يرضى ذلك ويحبه فليطرد الدليل، وذلك كفر متناقض،

ثم إن كل قوم قد جعلوا لأنفسهم شخصا أو قبرا لا يثقون بغيره، فلا يمكن موافقة الجميع؛ لأنه جمع بين الضدين، وموافقة بعض دون بعض تحكم بلا مرجح، ومن المحال إصابتهم جميعا؛ لأن كل فريق يخطئ الفريق الآخر، ثم قد استجيب لبلعام بن باعوراء في قوم موسى المؤمنين، فسلبه الله الإيمان، والمشركون قد يستسقون فيسقون، ويستنصرون فينصرون. وأما الجواب المفصل، فنقول: مدار هذه الشبهة على أصلين: منقول، وهو ما يحكى من نقل هذا الدعاء عن بعض الأعيان. ومعقول، وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة. أما النقل، فإما كذب أو غلط، وليس بحجة، بل قد ذكرنا النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك. وأما المعقول، فعامة المذكور من المنافع كذب، فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء إنما يستجاب لهم أحيانا نادرا، وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء وقت الأسحار، وفي سجودهم وأدبار صلواتهم وفي بيوت الله؟ فإن هؤلاء إذا ابتهلوا مثل ابتهال المقابريين لم يكد يسقط لهم دعوة إلا لمانع. وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيرا في العالم وهي محرمة في

الشرع كالتمريجات الفلكية والتوجيهات النفسانية، كالعين والدعاء المحرم والرقى المحرمة، والتمريجات الطبيعية ونحو ذلك، فإن مضرتها أكثر من منفعتها، حتى في نفس ذلك المطلوب، فإنه لا يطلب بها غالبا إلا أمور دنيوية فكل من حصل له بذلك أمر دنيوي إلا أعقبه شر، أو كانت عاقبته خبيثة، دع الآخرة. والمخفق من أهل هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح، فلا يكاد يحصل الغرض إلا نادرا، مع أن مضرتها أكثر من نفعها، بخلاف الأمور المشروعة من الدعاء والتجارة والحراثة والتوكل على الله ونحوه، فإنه يحصل الخير غالبا، فعلم أن الأمور المذكورة ليس فيها خير غالب، ولا خير محض، ومن له خبرة بأحوال العالم يتيقن ذلك بلا شك، والأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض لا يحصيها إلا هو أما أعيانها فبلا ريب، وكذلك أنواعها لا يضبطها المخلوق لسعة ملكوت الله - سبحانه وتعالى - ولهذا كانت طريقة الأنبياء: الأمر بما فيه الصلاح والنهي عما فيه الفساد. والكلام في بيان تأثير بعض هذه الأسباب، قد يكون فيه فتنة لمن

ضعف عقله ودينه، بحيث تختطف عقله. ويكفي العاقل أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال، فلا منفعة فيه، أو أنه وإن أثر فضرره أكثر من نفعه، ثم قد يكون سبب قضاء حاجة هؤلاء الداعين الدعاء المحرم؛ لشدة ضرورته لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له لصدق توجهه إلى الله -تعالى-، ولو قد استجيب له على يد المتوسل به صاحب القبر أو غيره لاستغاثته؛ فإنه يعاقب على ذلك ويهوي في النار إذا لم يعف الله عنه، كما لو طلب ما يكون فتنة له. كما أن ثعلبة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بكثرة المال ونهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مرة بعد مرة فلم ينته حتى دعا له، وكان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها نارا فكم من عبد دعا دعاء غير مباح فقضيت حاجته، وكانت سبب هلاكه في الدنيا والآخرة، تارة بأن يسأل ما لا تصلح له مسألته كما فعل

بلعام وثعلبة، وتارة بأن يسأل على الوجه الذي لا يحبه الله تعالى، بل أشد من ذلك: السحر والطلسمات والعين وغير ذلك، قد يقضى بها كثير من أغراض النفوس. ومع هذا فقد قال - سبحانه -: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وإنما يتشبثون بمنفعة الدنيا قال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ كذلك أنواع الداعين والسائلين قد يدعو دعاء محرما يحصل معه غرضه ويورثه ضررا أعظم، ثم إن الداعي قد يعلمه وقد لا يعلمه على وجه لا يعذر فيه بتقصيره في طلب العلم أو ترك الحق، وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه بأن يكون مجتهدا أو مقلدا كالمجتهد قد يتجاوز عنه لكثرة حسناته من صدق قصده أو لمحض رحمة ربه به ونحو ذلك، ثم مع ذلك ينهى عنه، وإن كان قد زال سبب الكراهة في حقه، ومن هنا يغلط كثير من الناس يبلغهم أن بعض الأعيان الصالحين عبد عبادة، أو دعا دعاء وجد أثره، فيجعل ذلك دليلا على استحباب تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد

فعله نبي، وهذا غلط عظيم لما ذكرناه خصوصا إذا كان العمل إنما كان أثره بصدق قام في قلب فاعله حين الفعل ثم تفعله الأتباع صورة، فيضرون به. ومن هذا الباب ما يحكى عن آثار وجدت في السماع المبتدع، فإن تلك الآثار قد يكون عن أحوال قامت بقلوب أولئك الرجال حركها محرك كانوا فيه مجتهدين أو مقصرين تقصيرا غمره حسنات قصدهم، فيأخذ الأتباع حضور صورة السماع، وليس حضور أولئك الرجال سنة تتبع، ولا مع المقلدين من الصدق ما لأجله عُذروا أو غفر لهم، فيهلكون بذلك، كما يحكى عن بعض الأشياخ أنه رؤي بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه، وقال: يا شيخ السوء! أنت الذي كنت تتمثل بي بسعدى ولبنى! لولا أعلم من صدقك لعذبتك. ولهذا كان الأئمة المقتدى بهم يقولون: "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة". وحكي لنا أن بعض المجاورين أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتهى عليه من الأطعمة، فجاء بعض الهاشميين إليه فقال: النبي صلى الله عليه وسلم بعث لك هذا وقال لك: اخرج من عندنا. وآخرون قضيت حوائجهم ولم يقل لهم ذلك؛ لاجتهادهم، أو قصورهم في العلم، فإنه يغفر للجاهل ما لا يغفر للعالم، ولا يقال: هؤلاء لما نقصت معرفتهم سوغ لهم ذلك، فإن الله لم

فصل أن اعتقاد استجابة الدعاء غير المشروع زمانا ومكانا كرامة الغرور

يسوغ هذا لأحد، لكن قصور المعرفة قد يرجى معه العفو والمغفرة، أما استحباب المكروهات وإباحة المحرمات فلا فرق بين العفو عن الفاعل وبين إباحة الفعل له، وبالجملة فإنما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها دينا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السابقون، وما سوى ذلك من المحدثات فلا، وإن اشتملت أحيانا على فوائد لأن مفسدتها راجحة على فوائدها. فصل أن اعتقاد استجابة الدعاء غير المشروع زمانا ومكانا كرامة الغرور من الغرور اعتقاد أن استجابة الدعاء المحرم مثل دعاء غير الله واستغاثة غير الله والتوسل بما لا يحب أن يتوسل به إليه كتوسل المشركين بأوثانهم إلى الله، أو الدعاء عند قبر أو تمثال، أو الدعاء بمحرم ونحوه من الدعاء المعتدى به كرامة من الله لعبده، وليس هو في الحقيقة كرامة، وإنما تشبه الكرامة من جهة أنها دعوة نافذة وسلطانا قاهرا وإنما الكرامة في الحقيقة ما نفعت في الآخرة أو نفعت في الدنيا ولم تضر في الآخرة وإنما هذا بمنزلة ما ينعم به على بعض الكفار والفساق من الرياسات والأموال في الدنيا فإنما تصير هذه نعمة إذا لم تضر صاحبها في الآخرة ولهذا اختلف أصحابنا وغيرهم: هل ما ينعم به على الكافر نعمة أم ليس بنعمة؟ وإن كان الخلاف لفظيا.

فهذه الأدعية ونحوها، وإن كان قد يحصل لصاحبها - أحيانا - غرضه، لكنها محرمة؛ لما فيها من الفساد الذي يربو على منفعتها، كما تقدم. ولهذا كانت هذه فتنة في حق من لم يهده الله، وينور قلبه، ويفرق بين أمر التكوين وأمر التشريع، ويفرق بين أمر القدر والشرع، ويعلم أن الأقسام ثلاثة: أمور قدرها الله ولا يحبها، فإن الأسباب المحصلة لهذه تكون محرمة موجبة لعقابه. وأمور شرعها الله، وهو يحبها ويرضاها من العبد، ولكن لم يعنه على حصولها، فهذه محمودة عنده مرضية، وإن لم توجد. والقسم الثالث: أن يعين العبد على ما يحبه منه. فالأول إعانة الله، والثاني عبادة الله، والثالث جمع له بين العبادة والإعانة، كما قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فما كان من الدعاء غير المباح إذا أثر فهو من باب الإعانة لا العبادة كدعاء سائر الكفار والمنافقين والفساق، ولهذا قال في مريم: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر. ومن سنة الله تعالى أن الدعاء المتضمن شركا كدعاء غيره لا يحصل

فصل آداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحكم تكرارها لأهل المدينة وغيرهم

غرض صاحبه، ولا يؤثر إلا في الأمور الحقيرة، أما الأمور العظيمة كإنزال المطر وكشف العذاب فلا ينفع فيه هذا الشرك، كما قال: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا فلما كانت هذه المواضع العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو دل على توحيده، وقطع شبهة من أشرك به، وعلم أن ما دون هذا أيضا من الإجابات إنما فعلها هو - سبحانه -، وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة، كما أن خلقه للسماء والأرض ونحوها من الأجسام العظيمة دل على وحدانيته، وأنه خالق لكل شيء. فصل آداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحكم تكرارها لأهل المدينة وغيرهم قال الإمام أحمد وغيره: إنه يستقبل القبلة بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم ويجعل الحجرة عن يساره؛ لئلا يستدبره، ويدعو لنفسه وأنه إذا حياه وسلم عليه يكون مستقبلا له بوجهه - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم - فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة، وهذا مراعاة منهم لحفظ التوحيد، فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقا، بل يؤمر به تبعا وضمنا كما جاءت به السنة، وإنما المكروه: التحري. وهذا أمر مستمر، فإنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلى إليه، فلما نهي عن الصلاة إلى جهة المشرق نهي أن يتحرى

استقبالها وقت الدعاء، ومن الناس من يستقبل وقت دعائه الجهة التي فيها الرجل الصالح، وهذا شرك وضلال، كما أن بعض الناس يمتنع أن يستدبر الجهة التي فيها [بعض مقدسيهم من الصالحين] وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ذلك من البدع. كما أن مالكا وغيره كره لأهل المدينة كلما جاء أحدهم المسجد أن يدخل إلى قبره ويسلم عليه وعلى صاحبيه، وقال: إنما يكون ذلك إذا جاء أحدهم من سفر، أو أراد سفرا، ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها. وأما قصده دائما للصلاة والسلام، فما علمت أحدا رخص فيه؛ لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا، مع أنه يشرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته كما نقوله آخر صلاتنا، بل قد استحب ذلك لكل من دخل مكانا ليس فيه أحد أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فخاف مالك أن يكون فعل ذلك عند القبر كل ساعة اتخاذا له عيدا، وأيضا فإنه بدعة، فإن المهاجرين والأنصار قد كانوا يصلون في المسجد ولم يكونوا يأتون إلى القبر كل صلاة؛ وذلك لعلمهم بكراهته لذلك، مع أنهم يسلمون عليه عند دخولهم وخروجهم وفي التشهد كما كانوا يسلمون عليه في حياته، والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك: أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم وصلى عليه،

وقال: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه" رواه سعيد. وكرهت الأئمة استلام القبر وتقبيله، ومنعوا الناس أن يصلوا إليه، وكانت حجرة عائشة ملاصقة لمسجده، ومضى الأمر على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين، وزيد في المسجد والحجرة على حالها وغيرها من الحجر المطيفة بالمسجد من شرقيه وقبليه، حتى بناه الوليد بن عبد الملك، وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة، فابتاع الحجر وغيرها، وهدمهن، وأدخلهن في المسجد، فمن أهل العلم من كره ذلك كسعيد بن المسيب، ومنهم من لم يكرهه. قال أحمد - لما سأله الأثرم: أيمس القبر؟ - قال: ما أعرف هذا. ونقل بعض أصحابنا رواية في مسح قبره؛ لأن أحمد شيع بعض الموتى، فوضع يده على قبره يدعو له. والفرق بين الموضعين ظاهر. أما المنبر فقال أحمد: لا بأس به، وكره مالك التمسح بالمنبر كما كرهوا التمسح بالقبر، أما اليوم فقد احترق المنبر، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة، فقد زال ما رخص فيه؛ لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسح بمقعده.

فصل الأفعال المشروعة والممنوعة عند مقامات الأنبياء والصالحين

فصل الأفعال المشروعة والممنوعة عند مقامات الأنبياء والصالحين أما زيارة مقامات الأنبياء والصالحين - وهي الأمكنة التي أقاموا فيها، لكنهم لم يتخذوها مساجد - فالذي بلغني عن العلماء قولان: أحدهما: النهي عن ذلك. والثاني: أنه لا بأس باليسير من ذلك، كما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي سلكها اتفاقا، لا قصدا. قال سندي: سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد، ويذهب إليها ترى ذلك؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذه مصلى وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد؛ إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا. فقد فصل أبو عبد الله بين ما يتخذ عيدا وبين ما يفعل نادرا قليلا، وهذا فيه جمع بين الآثار. وروي عن عمر أنه رأى الناس ابتدروا المسجد فقال: "ما هذا"؟. قالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له فليمض" فكره عمر اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه وسلم عيدا.

وقال محمد بن وضاح: "إن عمر أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم خوف الفتنة على الناس". وقال محمد بن وضاح: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار بالمدينة ما عدا قباء وأحدا، ودخل الثوري بيت المقدس، وصلى فيه، ولم يتبع تلك الآثار فهؤلاء كرهوها مطلقا؛ لحديث عمر هذا. وما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، والصواب معهم، فإن المتابعة تكون بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا قصد العبادة في موضع كالمساجد والمشاعر كان قصده متابعة له، أما إذا فعل فعلا اتفاقا من غير قصد وتحري، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإن الأعمال بالنيات. واستحب آخرون من العلماء إتيانها، وذكر طائفة من أصحابنا وغيرهم استحباب زيارة هذه المواضع، وعدوا منها مواضع. وأما أحمد فرخص فيما جاء به الأثر، إلا إذا اتخذ عيدا، وجمع بين الآثار مثل حديث عتبان الذي راح إليه الرسول وجعل في بيته موضعا اتخذه مسجدا، لكن عتبان كان قصده بناء المسجد، فأحب أن يكون الرسول هو الذي يخطه له، بخلاف ما إذا صلى الرسول في موضع من

غير قصد اتخاذه مسجدا، فاتخذه أحد مسجدا لا لحاجة إليه، بل لكونه صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. أما الأمكنة التي قصدها رسول الله للدعاء عندها والصلاة، فقصدها سنة، اقتداء به صلى الله عليه وسلم كتحريه الصلاة عند الاصطوانة موضع المصحف. وقد روى بعض الفقهاء أن أعرابيا أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية، وأنشد: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه وطاب من طيبهن القاع والأكم وأنه استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب أحمد والشافعي مثل ذلك.

فصل ذكر حرمة الإقسام على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم

وهذه الحكاية لا يثبت بها حكم شرعي، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان سنة لكان السابقون إليه أسبق وبه أعلم. فصل ذكر حرمة الإقسام على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم لو أقسم على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم لنهي عن ذلك، كما لا يقسم بمخلوق مطلقا، وهذا القسم منهي عنه، غير منعقد باتفاق ولم يتنازعوا إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فإن فيه قولين في مذهب أحمد وبعض أصحابه - كابن عقيل - طرد الخلاف في سائر الأنبياء، والذي عليه الجمهور - كمالك والشافعي وأبي حنيفة - أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق البتة، ولا يقسم به، وهذا هو الصواب. والإقسام على الله بنبيه صلى الله عليه وسلم مبني على هذا الأصل، ففيه هذا النزاع. وقد نقل عن أحمد في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في "منسك المروزي" ما يناسب قوله بانعقاد اليمين به، لكن الصحيح أنه لا تنعقد اليمين به، فكذلك هذا. وأما غيره فما علمت فيه نزاعا، واتفقوا على أنه - سبحانه - يسأل، ويقسم عليه بأسمائه وصفاته كما يقسم على غيره بذلك كالأدعية المعروفة في السنن اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام. وأما إذا

قال: أسألك بمعاقد العز من عرشك، ففيه نزاع نقل عن أبي حنيفة كراهته، فلا يجوز أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. أما معاقد العز من عرشك، فقيل: هو سؤال بمخلوق، وقيل: بل هو سؤال بالخالق؛ فلذلك تنازعوا فيه. وقد نازع في هذا بعض الناس، وقالوا في حديث أبي سعيد: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا ... الحديث وقال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ على قراءة الخفض كما يقال: سألتك بالله وبالرحم. وفي "الصحيح" أن عمر قال "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا". وفي "النسائي" و"الترمذي" حديث الأعمى الذي جاء إليه، فقال: "ادع الله لي أن يرد بصري، فقال: توضأ فصل ركعتين ثم قل: اللهم إني

أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد! يا نبي الله! إني أتوجه بك إلى ربك في حاجتي لتقضيها، اللهم فشفعه في" فدعا الله فرد عليه بصره. والجواب عن هذا أن يقال: أولا: لا ريب أن الله - تعالى - جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين، كما قال: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل - وهو رديفه -: "يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده"؟. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ ". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم". فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق، واتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا هل يوجب الله بنفسه على نفسه ويحرم بنفسه على نفسه؟ على قولين. وأما الإيجاب عليه بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو

قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول. وأهل السنة متفقون على أنه خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا، بل كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، لا أن العبد يستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق، بل الله هو المنعم المتفضل على العباد بكل خير، هو الخالق لهم والمرسل إليهم والميسر لهم الإيمان والعمل الصالح. وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إلا بما مَنَّ به من فضله وإحسانه، والحق الذي لعباده هو من فضله، وليس من باب المعاوضة، ولا من باب ما أوجبه غيره عليه وإذا سئل بما جعله هو سببا للمطلوب من الأعمال الصالحة التي وعد أصحابها بكرامته، ومن أدعية عباده الصالحين، وشفاعة ذوي الوجاهة عنده، فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا. وأما إذا سئل بشيء ليس سببا للمطلوب، فإما أن يكون إقساما عليه به، فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب، فيكون عديم الفائدة، فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق أن ينعمهم ولا يعذبهم، وهم وجهاء عنده يقبل شفاعتهم ودعاءهم ما لا يقبله لغيرهم، فإذا قال الداعي: أسألك بحق فلان وفلان لم يدع له، وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته بل بنفس ذاته وما جعله له ربه من الكرامة، لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب،

وحينئذ فيقال: أما التوسل، والتوجه إلى الله وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أمر بها كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم، فهذا مما لا نزاع فيه، بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله: <> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ فإن ابتعاء الوسيلة: هو طلب ما يتوسل به أي: يتوصل ويتقرب به، سواء كان على وجه العبادة، أو كان على وجه السؤال له والاستعاذة به؛ رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار. ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا، كما قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فأمر بالاستجابة له والإيمان به، قال بعضهم: "فليستجيبوا لي إذا دعوتهم، وليؤمنوا بي أني أجيب دعوتهم" وبهذين الشيئين تحصل إجابة الدعوة بكمال الطاعة لألوهيته وبصحة الإيمان بربوبيته، فمن استجاب لربه بامتثال أمره واجتناب نهيه، حصل مقصوده من الدعاء، فمن دعاه موقنا أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه ولو كان مشركا فاسقا، كما قال: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا لكن هؤلاء الذين يستجاب لهم؛ لإقرارهم بربوبيته، وأنه يجيب دعاء المضطر إذا لم يكونوا مخلصين له الدين في عبادته ولا مطيعين له ولرسله كان ما يعطيهم بدعائهم متاعا في الحياة الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق.

وقد ذكر أن بعض النصارى حاصروا المسلمين، فنفد ماؤهم، فاستسقوا من المسلمين، وقالوا: ننصرف عنكم، فلم يسقوهم، فرفعوا أيديهم وسألوا الله، فأمطرت عليهم، فكاد بعض المسلمين أن يفتتن، فقام فيهم رجل من المسلمين، وقال: اللهم إنك تكفلت برزق كل دابة، وقد أجبت دعاء هؤلاء الكفار؛ لأنهم مضطرون لا لأنك تحبهم فنريد أن ترينا آية تثبت الإيمان في قلوب عبادك، فأرسل الله عليهم ريحا فأهلكتهم أو نحو هذا. ومن هذا من يدعو دعاء يعتدي فيه، فيجاب، فما كل من دعا فأجيب يكون ذلك دليلا على أن عمله صالح، بل ذلك بمنزلة من يمدهم بالمال والبنين، فلا يظن أنه يسارع في الخيرات بل لا يشعرون. قال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ والمقصود أن دعاء الله قد يكون دعاء عبادة يثاب العبد عليه في الآخرة، وقد يكون دعاء مسألة تقضى به حاجته، ثم قد يثاب، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة، وقد يكون سببا لضرر دينه، فالوسيلة التي أمر الله بها تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته. فالتوسل بالأعمال الصالحة، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ليس من باب الإقسام بمخلوق، وكذلك استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم، وقول عمر: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل

بعم نبينا" معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقول بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك؛ لأنه لو كان كذلك لكان توسلهم به أولى من عمه، ولم يعدلوا إلى العباس مع علمهم أن السؤال به أعظم من العباس، فعلم أن التوسل هو ما يفعله الأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، وكذلك حديث الأعمى الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فيدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع وسأل، فعلمه أن يسأل الله قبول شفاعته، ولهذا قال: "اللهم فشفعه في" فلفظ التوسل فيه إجمال غَلِط فيه من لم يفهم مقصود الصحابة. يراد به التسبب به لكونه داعيا وشافعا، أو لكون الداعي محبا له مطيعا لأمره مقتديا به، فيكون التسبب: إما بمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته. ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته لمجرد الإقسام به على الله، فهذا الثاني هو الذي كرهوه، ونهوا عنه. وكذلك لفظ السؤال [بشيء] قد يراد به المعنى الأول، وقد يراد الثاني. ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فدعوا الله بصالح الأعمال، إذ هي أعظم

ما يتوسل به العبد إلى الله؛ لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله، فهؤلاء دعوه بعبادته وفعل ما أمر به. ومن هذا ما يذكر عن الفضيل أنه أصابه عسر البول فقال: "بحبي إياك إلا ما فرجت عني" ففرج عنه وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت: "اللهم إني آمنت بك وبرسولك، وهاجرت في سبيلك" وسألت الله أن يحيي ولدها فسؤال الله والتوسل إليه بامتثال أمره واجتناب نهيه وفعل ما يحبه من العبودية والطاعة له هو من جنس فعل ذلك رجاء لرحمة الله وخوفا من عذابه وسؤاله بأسمائه وصفاته كقوله: "أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان، أنت الله الأحد الصمد" ونحو ذلك يكون من باب التسبب، فإن كونه المحمود المنان الصمد يقتضي منته على عباده وإحسانه الذي يحمد عليه، وتوحيده في صمديته، فيكون هو السيد المقصود الذي يصمد الناس إليه في حوائجهم، وكل ما سواه مفتقر إليه، وقد يتضمن ذلك معنى الإقسام عليه بأسمائه. وأما قوله: أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، ففيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته، هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه: أن يجيبهم، وحق المطيعين: أن يثيبهم، فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إثابته وإجابته، ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من

صفاته، لأن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك ... الحديث فالاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وذلك مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، كقوله: أعوذ بكلمات الله التامات. وأما قول الناس: أسألك بالله والرحم، وقراءة من قرأ تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ بالكسر فهو من باب التسبب بها؛ فإن الرحم توجب الصلة، فسؤال السائل بها توسل بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب كالتوسل بدعاء الأنبياء، فالتوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين: إما بطاعتهم واتباعهم، وإما بدعائهم وشفاعتهم، فمجرد ذاتهم من غير طاعة منه لهم ولا شفاعة منهم له، فلا تنفعه وإن عظم جاه أحدهم عند الله، فلا بد من ذلك، إما سؤال المسئول، وإما التسبب بمحبة اتباعه خالصا لله تعالى لا لهوى ولا لحظ نفس، بل لله وحده لا شريك له.

فصل لا يشرع شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة مع ذكر النصوص

فصل لا يشرع شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة مع ذكر النصوص ولا يشرع شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، ولو نذر الإنسان إتيان مسجد غيرها، لم يجب عليه فعله باتفاق الأئمة، وليس بالمدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء، وسائر المساجد لها حكم المساجد. وفي المسند عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه، قال جابر: فلم ينزل بي أمر مهم إلا توخيت تلك الساعة، فأعرف الإجابة وفي إسناده كثير بن زيد وفيه كلام. وهذا الحديث يعمل به طائفة من أصحابنا وغيرهم، فيتحرون الدعاء في هذا كما نقل عن جابر [ولم ينقل عن جابر رضي الله عنه] أنه تحرى الدعاء في المكان، بل في الزمان، فإذا كان هذا في المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنيت بإذنه ليس فيها ما يشرع قصده بخصوصيته من غير سفر إليه إلا مسجد قباء فكيف بما سواها؟. ولما فتح عمر بيت المقدس وجد النصارى قد ألقت على الصخرة

زبالة عظيمة عنادا لليهود، فأزالها ونظفها، وقال لكعب الأحبار: "أين ترى أن أبني مصلى المسلمين؟ فقال: ابنه خلف الصخرة. فقال: يا ابن اليهودية! خالطتك اليهودية! بل أبنيه في صدر المسجد؛ فإن لنا صدور المساجد، فبناه في قبلي المسجد" وهو الذي يسميه كثير من العامة اليوم: الأقصى، والأقصى: اسم للمسجد كله، ولا يسمى هو ولا غيره حرما، وإنما الحرم بمكة والمدينة خاصة، وفي وادي وج الذي بالطائف نزاع، وذكر طائفة من المتأخرين أن اليمين تغلظ عند الصخرة، وليس هذا في كلام أحمد ولا غيره من الأئمة، فليس له أصل، بل تغلظ هناك عند المنبر، كما في سائر المساجد. وقد صنف طائفة من الناس مصنفات في فضائل بيت المقدس وغيره من البقاع التي بالشام، وذكروا فيها من الآثار عن أهل الكتاب ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم، ومن العجب كيف يحدث كعب الأحبار عن بعض الأنبياء الذي بينه وبينهم أكثر من ألف سنة، ولم يسنده، وغايته أن ينقله عن بعض كتب اليهود الذين أخبر الله أنهم قد بدلوا، فكيف يصدق شيء من ذلك

فصل أصل دين الإسلام ألا تختص بقعة بقصد العبادة فيها إلا المساجد خاصة

لمجرد هذا النقل؟! بل الواجب أن لا يُصدق ولا يُكذب إلا بدليل كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان قد فتحوا البلاد بعد موته صلى الله عليه وسلم وسكنوا الشام والعراق ومصر وغيرها - وهم أعلم بالدين وأتبع له - فليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه، فما كان من هذه البقاع لم يعظموه، أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاة أو دعاء أو نحو ذلك، لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك، ونقول: إن من جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك؛ لأن اتباع سبيل الأولين أولى ممن بعدهم، وما أحد نقل عنه ما يخالف سبيلهم إلا وقد نقل عن غيره ممن هو أعلم منه وأفضل أنه خالف سبيل هذا المخالف، وهذه جملة جامعة لا يتسع هذا الموضع لتفصيلها. فصل أصل دين الإسلام ألا تختص بقعة بقصد العبادة فيها إلا المساجد خاصة وأصل دين المسلمين: أنه لا تختص بقعة بقصد العبادة فيها إلا المساجد خاصة. وما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد - كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء ونحوه من البقاع - هو مما جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسخه، ثم المساجد جميعها تشترك في العبادات إلا ما خص به المسجد الحرام من الطواف ونحوه،

فصل افتراق الناس إلى ثلاثة فرق وأن سلف الأمة هم من أصاب الحق والخير

ولو كان هذا مشروعا يثيب الله عليه لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك، ولأعلم أصحابه - أيضا ذلك -، وكانوا أرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك عُلم أنه من البدع المحدثة التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة، فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله. فصل افتراق الناس إلى ثلاثة فرق وأن سلف الأمة هم من أصاب الحق والخير افترق الناس على ثلاث فرق: المشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب وهذه الأمة، أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن مثل قوله: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيتخذون آلهتهم وسائط تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم. والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه. وأما سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم من أهل السنة والجماعة فأثبتوا ما جاءت به السنة من شفاعته لأهل الكبائر من أمته وغير ذلك من أنواع شفاعته وشفاعة غيره من الأنبياء والملائكة، وقالوا: لا يخلد

في النار من أهل التوحيد أحد، وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غيره وشفاعته والصدقة، بل والصوم عنه في أصح قولي العلماء، وقالوا: إن الشفيع يطلب من الله، ويسأله، ولا تنفع الشفاعة إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى. وفي الصحيح أنه قال: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله. فكلما كان الرجل أتم إخلاصا لله كان أحق بالشفاعة. وأما من علق قلبه بأحد من المخلوقين يرجوه ويخافه، فهو من أبعد الناس عن الشفاعة، فشفاعة المخلوق عند المخلوق بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده إليه، وإما لخوفه منه، فيحتاج أن يقبل شفاعته، والله -تعالى- غني عن العالمين، وهو وحده يدبر العالمين كلهم، فما من شفيع إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشفيع، وهو يقبل شفاعته، كما يلهم الداعي الدعاء ثم يجيب دعاءه، فالأمر كله له، فإذا كان العبد يرجو شفيعا من المخلوقين، فقد لا يختار ذلك الشفيع أن يشفع له، وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة، ولا يقبل شفاعته. وأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ثم إبراهيم صلى الله عليه وسلم وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه أبي طالب بعد أن قال: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك

وصلى على المشركين ودعا لهم، فأنزل الله -تعالى-: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ وقيل له: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فقال: لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر لهم لزدت فأنزل الله تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وقال: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ إلى قوله: <> يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا فالله تعالى له حقوق لا يشركه فيها غيره، وللرسل حقوق لا يشركهم فيها غيرهم، وللمؤمنين حقوق مشتركة، وفي حديث معاذ "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" وهذا أصل التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب. قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ويدخل في ذلك أن لا يُخاف إلا إياه، ولا يُتقى إلا إياه. قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فالطاعة لله ورسوله، والخشية والتقى لله وحده، كما قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ فالحلال ما حلله الرسول، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه،

والتحسب لله وحده، قال تعالى: وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ولم يقل: ورسوله، وذكر الرسول في الإيتاء؛ لأنه لا يباح إلا ما أباحه الرسول، فليس لأحد أن يأخذ كل ما تيسر له إن لم يكن مباحا في الشريعة، ثم قال: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ فجعل الرغبة إلى الله وحده دون ما سواه، كما قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ فأمر بالرغبة إليه. ولم يأمر الله قط مخلوقا أن يسأل مخلوقا وإن كان قد أباح ذلك في بعض المواضع، لكنه لم يأمر به، بل الأفضل للعبد أن لا يسأل -قط- إلا الله، كما في الصحيحين في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" فجعل من صفاتهم أنهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، ولم يقل: لا يرقون، وإن كان قد روي في بعض طرق مسلم فهو غلط؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رقى نفسه وغيره، لكنه لم يسترق، فالمسترقي طالب للدعاء من غيره، بخلاف الراقي غيره فإنه داع. وقال لابن عباس: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله فهو الذي يتوكل عليه، ويستعان به، ويخاف ويرجى، ويعبد، وتنيب إليه القلوب، لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا منجى منه إلا إليه. والقرآن كله يحقق هذا الأصل،

والرسول صلى الله عليه وسلم يطاع، ويُحَب، ويرضى به، ويسلم إليه حكمه، ويعزر ويوقر، ويتبع ويؤمن به وبما جاء به. قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوحيد وتجريده، ونفي الشرك بكل وجه حتى في الألفاظ، كقوله صلى الله عليه وسلم: لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد، بل ما شاء الله ثم شاء محمد وقال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله ندا؟! قل: ما شاء الله وحده. والعبادات التي شرعها الله كلها تتضمن إخلاص الدين لله تحقيقا لقوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. فالصلاة والصدقة والصيام والحج كل ذلك لله وحده، فلا يعبد إلا الله، ولا يعبد إلا بما شرع. فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا. والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى المنهج القويم. قال محققه غفر الله له ولوالديه وإخوانه وأخواته وذريته وأهل بيته: تم الفراغ من تحقيقه يوم الأحد ليلة الاثنين 24/2/1421. والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على محمد في الآخرة والأولى.

§1/1