المنهج الحركي للسيرة النبوية

منير الغضبان

المنهج الحركي للسيرة النبوية

كافة حقوق الطبع محفوظة الطبعة السادسة 1411 هـ - 1990 م مكتبة المنار الأردن - الزرقاء

منير محمد الغضبان المنهج الحركي للسيرة النبوية الأجزاء الأول - الثاني - الثالث مكتبة المنار

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الأول

الجزء الأول

بين يدي البحث

بين يدي البحث كتب السيرة النبوية تملأ المكتبة الإسلامية. فما معنى التكرار فيها إذا لم نأت بجديد؟ وسأدع الإجابة على هذا السؤال يستنتجها القارىء نفسه من خلال المقدمة. عشت مع السيرة النبوية مند نعومة أظفاري، بل كنت أحرص على حفظها عن ظهر قلب، وكانت المتعة الكبرى في حياتي من خلالها، أتعمق في معانيها، وأتربي على أحداثها وتأخذ روعتها بلبي. ومن أجل ذلك، وحرصا على أن تكون جزءا من كياني ما كنت أدع كتابا في السيرة، أو مصدرا من مصادرها إلا وأسارع إلى اقتنائه وقراءته ينهم شديد. وكانت الأحلام تراودني أن أكتب في السيرة مند سن المراهقة. وتجاوز الأمر مرحلة الحلم إلى التنفيذ الواقعي، وأمضيت خمس سنوات وأنا أكتب في كل جزئية من جزئياتها. لكني مع ذلك بقيت انتظر فرصة سانحة من العمر أتفرغ فيها تماما للسيرة، وتحول الأعمال والعلاقات الاجتماعية دون ذلك. ولا أزال انتظرا!! أما فكرة المنهج الحركي للسيرة. فقد انبثقت في الفكر انبثاقا يختلف عن الأصل الذي كنت أفكر فيه. لا أزال أذكر في بداية الستينات عندما طلع علينا الشهيد سيد قطب رحمه الله بكتابه - معالم في الطريق - وكان نقطة تحول حساسة في الفكر الحركي

الإسلامي. وقفت مليا أمام هذه الفقرة: والسمة الثانية في منهج هذا الدين: هي الواقعية الحركية .. فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة .. والذين يسوقون النصوص المختلفة بكل مرحلة منها .. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا، ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضللا، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادىء والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا. يمثل القواعد النهائية في هذا الدين، ويقولون - وهم مهزومون روحيا وعقليا تحث ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع أو يحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلا بتخليه عن منهجه، وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة، بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية، وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها). العالم ص 58. وقفت أمام هذه الفترة كثيرا وأنا أقرأ الكتاب أو أشرحه. وتساءلت في نفسي عن هذه الواقعية الحركية: ما هي مراحلها؟ وما هي الوسائل المناسبة لكل مرحلة؟ وما أحوجنا إلى كتاب يوضح هذه المراحل، وهذه الوسائل. فيضع نقاطا علامة للدعاة إلى الله، يتعرفون فيها على خطوات السير، كما فعل الشهيد في معالمه. موضوع مثير حقا، وعدم فهم هذه المراحل والتعرف عليها، وفهم الوسائل المناسبة يجعل الخلاف عميقا بين الدعاة المسلمين وأبناء الحركة الإسلامية.

وللإجابة على هذا السؤال. لم يكن عندي إلا دراسة السيرة دراسة واضحة تحدد المراحل المتتابعة فيها، وسمات كل مرحلة. لأن السيرة النبوية هي التطبيق العملي للإسلام، وهي الصورة الأنموذج لإقامة دولة الإسلام. فإذا توضحت هذه المراحل، وتبينت هذه السمات، كقينا المؤونة، وتوحد خط السير، وانتفى دور الاجتهاد الشخصي: لكن يبرز سؤال دقيق: ما هو مدى إلزامية هذه المراحل وهذه الوسائل، للجماعة المسلمة وهي تشق طريقها لإقامة دولة الإسلام في الأرض؟ وهل الحركة الإسلامية متعبدة بهذه المراحل ما لها من فكاك عنها. أم أن تلك المراحل قد انتهت مع النصوص النهائية للإسلام، وأصبحت منسوخة هي وأحكامها في الواقع الإسلامي. ولا يخفى أبدا إن خلافا كبيرا بين حركتين إسلاميتين حول هذا الموضوع جعل كل واحدة منهما تسير في خط مستقل، وذلك من خلال هذين الفهمين: الفهم الأول: يرى أن التقيد بهذه المراحل لا مناص منه حتى في الحد الزمني. وهي تقرر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاش دعوة ثلاثة عشر عاما. ثم أقام دولته، فهي مقيدة بهذا العمر من الدعوة. وعليها أن تقيم دولة الإسلام بعد ثلاثة عشر عاما من عمرها. وهذا فهم خطير ولا شك، فالمدى الزمني في الأصل تقدير رباني، وليس جهدا بشريا فقط، والله تعالى قد قال لنبيه: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم}. الزخرف 41 - 43. ومن آثار هذا الفهم كذلك موضوع النصرة، وأنه لا يجوز استعمال السلاح قبل قيام الدولة، إنما تقوم الدولة على أساس طلب النصرة من سدنة المجتمع الجاهلي. وإلى أن يفتح صدر أحد هؤلاء للدعوة أو لنصرة هذه الدعوة وهو على شركه. فالحركة الإسلامية معذورة في المواجهة المسلحة، وقد أدى حمل هذين المبدأين معا، العمر الزمني والنصرة إلى تناقض عجيب في

المواقف، وإلى تزعزع في الثقة بصحة هذه المبادىء. إننا إذا تركنا العمر الزمني جانبا وهو مرتبط بقدر الله أولا، وسنته في نصره عندما ينضج الدعاة ويغدون مؤهلين للخلافة في الأرض. نستطيع أن نقول إن المنهج الحركي للسيرة ملزم للدعاة في خطهم الجهادي لإقامة دولة الله في الأرض. وذلك أنا مأمورون باقتفاء سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}. والأسوة تبدو واضحة أكثر ما تبدو من خلال السيرة العملية للنبي عليه الصلاة والسلام، وأي اعتساف في مراحل هذا المنهج لا يوصل إلى الغاية، والتجارب الكثيرة التي خاضتها الحركات الإسلامية على مدار التاريخ تؤكد هذا المعنى. فما من حركة إسلامية قامت، وأقامت منهج الله في الأرض إلا اعتمدت التنظيم السري في بداية الأمر، ثم انطلقت إلى إعلان فهمها الحركي للإسلام، من خلال الحكمة والموعظة الحسنة، ثم واجهت المجتمع المنحرف جاهليا كان أو فاسقا. وتسنمت سدة الحكم، واعتمدت القوة للحفاظ على المبدأ من الحرب المسلحة التي يشنها أعداؤه عليه. بينما بقيت قضية اعتماد السلاح والقوة في مرحلة الدعوة أمرا اجتهاديا. متقيدا بطبيعة الحرب مع العدو أو الخصم. وإذا كان الأمر مجال خلاف في الاجتهاد وللمسلمين خلافتهم ودولتهم التي يفيئون إليها فليس الأمر كذلك والمسلمون نتفا مبعثرة في الأرض يحكمون بغير شريعة الله، وإذا كان تكوين الجماعة - مع قيام دولة الإسلام - محل خلاف ونظر حول الثورة على الأمير الفاسق. فليس هو محل خلاف، والأمير يحكم علنا وصراحة بغير شريعة الإسلام. " إلا أن تروا كفرا بواحا. لكم فيه من الله تعالى برهان". ولنتساءل أكثر وأكثر: ما فائدة دراسة المنهج الحركي للسيرة. ولأجيب على هذا السؤال. أستأذن الأخ القارىء لأحدثه عن انطباعي

عن سور القرآن مع - ظلال القرآن - ودونه. لقد كنت أقرأ السور الطوال في القرآن، وأخص بالذكر الزهراوين البقرة وآل عمران. فلا أكاد أجد خطا يربط بين جزئياتها، وأضيع في متاهاتها. تماما مثل رجل دخل في بلدة ولم يتعرف على مخططها. فهو يجوب فيها كلها دون أن يصل إلى بغيته. أو الدار التي يريدها. أو رأى بناء ضخما. لم ير هندسته التي قام عليها. فلا يدرك شيئا من جمال البناء وفن المعمار فيه. ولكني عندما قرأت - في ظلال القرآن - أحسست بعظمة البناء وروعته. أحسست بأن سورة البقرة التي تستغرق قرابة جزأين ونصف. كان محورها الرئيسي هو البناء الداخلي للأمة من خلال العبادات والتشريعات، وعرض عدوها الأول بني إسرائيل - لتتعرف على طبيعة هذا العدو، وعلى تجربته حين كلف بالخلافة في الأرض، وكيف انحرف عن رسالته. بهدين الخطين الرئيسيين أمكن أن نعيد كل جزئية في هذه السورة العظيمة إلى مكانها في المخطط، وفعلا قدم سيد لنا - رحمه الله - المنهج الحركي في القرآن - فلكل سورة هدف عام، وهدف خاص، ومحور تدور عليه أحداث هذه السورة، والذي يتعرض هذا المخطط الكلي للسورة، يستوعب بعدها كل أجزائها في مكانها المناسب لها. ويكاد يكون سيد رحمه الله قد انفرد من بين المفسرين جميعا بهذه الميزة، وخاصة في الطبعة الثانية المنقحة من الظلال. هذا المنهج الذي اكتشفه في آخر عمله في الظلال في الطبعة الأولى, كما يقول الأخ الخالدي: (وفي الأجزاء الثلاثة الأخيرة من الظلال بدأ يبرز عند سيد قطب الاتجاه الحركي الذي تولد عنده نتيجة لتجربته العملية في الحركة بالإسلام، ونتيجة لنظراته المتجددة في القرآن. وكان لا بد من أن يعيد النظر في الظلال، ويعيد كتابته على أساس من اتجاهاته الحركية الجديدة، فكان أن أصدر سيد قطب الطبعة المنقحة من الظلال، وهي الطبعة الثالثة وقد أصدرتها دار إحياء الكتب العربية في القاهرة. كتب سيد قطب الأجزاء العشرة الأولى من الطبعة الثالثة المنقحة بتركيز شديد، وكان يقف عند الآيات طويلا، ويسجل حولها كل خواطره،

ويتعرض للحديث عما تشير إليه من أمور في العقيدة أو الفقه أو التشريع أو المعاملات السياسية أو الاقتصاد أو التاريخ أو الفلسفة أو التربية أو الاجتماع أو غير ذلك، ويقف طويلا على إيحاءات الحركية، ويسجل للعاملين للإسلام موحياتها ويرسم لهم على ضوئها معالم الطريق ... وقد كان سيد قطب يتمنى أن يعيد كتابة باقي الأجزاء من الثالث عشر إلى السابع والعشرين على هذا المنهج الجديد، ويترك الأجزاء الثلاثة الأخيرة لأنها كتبت على ضوء هذا المنهج. ولكن الطغاة عجلوا بالقضاء عليه قبل أن يحقق هذه الأمنية ..) الشهيد الحي سيد قطب 242 - 243. إذن هناك شيء اسمه المنهج الحركي للقرآن. كتب سيد ظلاله على ضوئه. وأنا أحاول في هذه الصفحات - على قلة بضاعتي - أن أتناول - المنهج الحركي للسيرة - الذي يحدد معالم الطريق وسماته. بحيث تأخذ الجزئيات في السيرة مكانها الطبيعي من خلال المرحلة. ولا تضيع معالم المرحلة في متاهة الجزئيات المبعثرة. كالذي يضيع في المدينة الضخمة دون أن يطلع على مخططها. وما أحوجنا إلى الحديث عن المناهج، نحدد بها معالم السير. وما أفقر مكتبتنا الإسلامية إليها على كثرة ووفرة الكتب الإسلامية اليوم التي تغزو المكتبات كل يوم. لدينا تلك المحاضرة لسيد رحمه الله: في التاريخ فكرة ومنهاج و - معالم في الطريق - ولدينا لأخي الشهيد، لمحمد قطب، المفكر الإسلامي العظيم: منهج التربية الإسلامية، ومنهج الفن الإسلامي. وكتابه المخطوط - الذي نرجو الله تعالى أن يرى النور - منهج للتاريخ الإسلامي. وكتب أخرى يصعب عرضها في هذه العجالة. لكنها بالتأكيد لا تتجاوز أصابع اليدين. هي كل ما نملكه في هذه المجالات. التي تنطلق كلها من النظرة الكلية الشاملة. لتعيد بعد ذلك كل الأجزاء إلى مكانها الطبيعي في تخطيط هندسي بديع. وأخيرا ما أحوجنا إلى - المنهج الحركي للسنة النبوية. هذا النتاج الضخم من الحديث الذي يمثل أعظم ما قاله البشر في

هذا الوجود، لا يزال مثناثرا تناثر النجوم في السماء تبلغ أعداد أحاديثه عشرات الألوف. وفي بعض مجموعاته خمسين ألف حديث. ولكنه، غير مترابط البناء، غير محكم البنيان. وأن يأتي العالم الإسلامي والمفكر الإسلامي، الذي ينظر إلى بناء هذا التجمع بناء مرتبطا بمراحل الدعوة، ومراحل الدولة، ويحدد معالمه وخطوطه، هو أمل، وما ذلك على المؤمنين - إن شاء الله - ببعيد. وفي ختام هذا الحديث أود أن أعتذر سلفا إلى الأخ القارىء، عن أي فهم خاطىء قد فهمته في السيرة. وخاصة في المقارنات بين حركتنا الإسلامية اليوم ومسيرتنا الإسلامية، وبين مراحل السيرة من قبل ومنهجها الحركي، فهذه فهوم ونظرات، يختلف فيها الحكم، لكن أود أن يشاركني الأخ القارىء في أنه لا بد لنا من المنهج الحركي للسيرة النبوية، نسير على هداه، ولعل أخا بأتي من بعدي، يعمق هذه الخطوط، ويحدد هذه المراحل تحديدا أدق وأعمق ويكون الاتجاه كله لإيضاح معالم البناء الجديد. فالسيرة النبوية نبع ثر، ومعمل ضخم لا بد أن يحسن الاستفادة منه بتحديد مجاريه، وتوزيع نتاجه. ويبقى أكير المعالم للطريق الطويل. والله نسأل أن يجنبنا عثرات الفكر، وزلات القلم، وأن يهدينا ويهدي بنا سواء السبيل، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، وفي صحيفة حسناتنا يوم القيامة إنه سميع مجيب. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالين.

ماذا نعني بالمنهج الحركي

ماذا نعني بالمنهج الحركي المعني به هو: الخطوات المنهجية التي تحرك بها النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ بعثته حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى. وهذا يقتضي منا متابعة المراحل خطوة فخطوة، لنكون على بينة من أمرنا، ونحن نتابع السير في حركتنا الإسلامية، فنقتفي خطى حركته عليه الصلاة والسلام انطلاقا من قول الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ... (¬1)} ولا شك أن متابعة هذه الخطوات والمراحل هو أمر تعبدي قبل كل شيء، نصل به إن اقتدينا بهداها إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. وهو من جهة ثانية تبصرة للحركة الإسلامية في خطها السياسي للوصول إلى أهدافها في إقامة حكم الله في الأرض. ونعتقد أن هذا المنهج الحركي هو رباني التوجيه، فالله تعالى يسدد نبيه في خطواته كلها. وليس هو وليد رد الفعل من الظروف الطارئة التي تواجهه. وبعد هذه التوطئة البسيطة يمكننا أن نتصور المراحل المتتابعة لهذا المنهج، وسمات كل مرحلة على حدة دون أن نخوض في تفاصيل أحداث السيرة النبوية إلا بمقدار ما تقتضيه الضرورة في إيضاح هذه المراحل وسماتها. أما المراحل التي نتصورها لهذا المنهج، فيمكن أن تحدد في خمس مراحل ¬

(¬1) سورة الأحزاب الآية 21.

ونطلق عليها اصطلاحا التسميات التالية، ولا مشاحة في الاصطلاح: المرحلة الأولى: سرية الدعوة وسرية التنظيم. المرحلة الثانية: جهرية الدعوة، وسرية التنظيم. المرحلة الثالثة: إقامة الدولة. المرحلة الرابعة: الدولة وتثبيت دعائمها. المرحلة الخامسة: انتشار الدعوة في الأرض. وإذا كان لنا أن نحدد بداية كل مرحلة، ونهايتها، فإننا نجد ما يلي: 1 - سرية الدعوة: وتبدأ من البعثة النبوية إلى نزول قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين (¬1)}. 2 - جهرية الدعوة، وسرية التنظيم: وتنتهي في العام العاشر للبعثة. 3 - مرحلة إقامة الدولة: وتنتهي في بداية العام الأول للهجرة. 4 - مرحلة تأسيس الدولة: وتنتهي بصلح الحديبية. 5 - مرحلة انتشار الدعوة في الأرض: وتنتهي بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وغني عن البيان أن نهاية كل مرحلة هي بداية المرحلة التي تليها. ولنبدأ الطريق مع أول مرحلة. ¬

(¬1) سورة الشعراء الآية 214

المرحلة الأولى: سرية الدعوة وسرية التنظيم

المرحلة الأولى: سرية الدعوة وسرية التنظيم هذه المرحلة التي ابتدأت من غار حراء مع البعثة النبوية، وانتهت بعد ثلاثة أعوام للبعثة حين نزل قول الله عز وجل: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، وقوله جل شأنه: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (¬1)}. ¬

(¬1) سورة الحجر الآية 94.

السمة الأولى الدعوة سرا

السمة الأولى الدعوة سرا يقول المقريزي في كتابه إمتاع الأسماع: (والتحقيق أن جبريل عليه السلام لما جاءه بغار حراء وأقرأه: {إقرأ باسم ربك الذي خلق} ورجع إلى خديجة، مكث ما شاء الله أن يمكث لا يرى شيئا. وفتر عنه الوحي؛ فاغتم لذلك وذهب مرارا ليتردى من رؤوس الجبال شوقا إلى ما عاين أول مرة من مشاهدة وحي الله إليه. فقيل: إن فترة الوحي كانت قريبا من سنتين، وقيل كانت سنتين ونصفا. وفي تفسير عبد الله ابن عباس كانت أربعين يوما، وفي كتاب معاني القرآن للزجاج كانت خمسة عشر يوما، وفي تفسير مقاتل ثلاثة أيام، ورجحه بعضهم وقال: ولعل هذا هو الأشبه بحاله عند ربه لم تبدى له الملك بين السماء والأرض على كرسي، وثبته وبشره أنه رسول الله، فلما رآه فرق منه، وذهب إلى خديجة رضي الله عنها. فقال: زملوني زملوني فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثياب فطهر} فكانت الحالة الأولى بغار حراء حالة نبوة وإيحاء، ثم أمره الله تعالى في هذه الآية أن ينذر قومه ويدعوهم إلى الله عز وجل.

فكان - فيما قاله عروة بن الزبير، ومحمد بن شهاب، ومحمد بن اسحاق - من حين أتت النبوة وأنزل عليه {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} وقوله {وأنذر عشيرتك الأقربين} {وقل إني أنا النذير المبين} ثلاث سنين (¬1). ونلاحظ أن المقريزي رجح الآراء التي تعتبر فترة انقطاع الوحي فترة قصيرة حول الأربعين والخمسة عشر والثلاثة من الأيام (¬2). بينما ساق الأقوال الأولى عن السنتين والسنتين والنصف دون إسناد. وفي الرأي الثاني يزول الإشكال الكبير حول هذه الفترة التي لا نجد لها ذكرا أو تاريخا. ولو حسبت هاتان السنتان والنصف من المرحلة السرية لكانت مرحلة الدعوة فيها لا تعدو سنة أو نصف سنة، ومن المستبعد جدا أن يكون ذلك. ننتهي بهذا إلى أن السمة الأولى لهذه المرحلة: هي امتدادها الزمني ثلاث سنوات وإن كنا في واقع الأمر لا نبني شيئا على هذه المدة. ولا نفهم أن الحركة الإسلامية اليوم لا بد أن تمر بمرحلة سرية هي ثلاث سنوات. فهذا أمر لا نص فيه يدعونا إلى الاقتداء به ولا نحجر واسعا. إنما نفهم أن انتهاء هذه المرحلة قد كان لأنه قد صار للمسلمين قاعدة صلبة مستعصية على الإفناء إذا قيست، بنوعياتها من جهة، ونسبتها إلى المجتمع المكي آنذاك من جهة ثانية. ومن هذا الجانب تكون القدوة. فليس المهم حساب الزمن. إنما المهم الحصيلة العملية للدعوة، وقدرتها على المواجهة للمجتمع القائم من خلال أشخاصها ورجالاتها ومؤسساتها. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 15 تحقيق محمود محمد شاكر، ونشر عبد الله إبراهيم الأنصاري وطبع على نفقته إدارة الشؤون الدينية بدولة قطر. (¬2) وقد ورد في الصحيحين (اشتكى رسول الله صل الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت إمرأة (وهي أم جميل بنت حرب) فقالت يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك! لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله عز وجل: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى}.

السمة الثانية قيام الدعوة على الإصطفاء

ونجد ما يرجح هذا الفهم من قول الله عز وجل، {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين}. حيث نجد بعد هذه الآية مباشرة قوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين (¬1)}. لقد كان الصدع بعد تكفل الله تعالى بحماية رسوله وكفايته من المستهزئين. وإذا كان ذلك قد تم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلال الوحي، فقيادة الحركة المسلمة الرشيدة هي المسؤولة عن تقدير هذه المرحلة، وإمكاناتها للانتقال إلى مرحلة لاحقة. ويؤكد هذا الفهم من جهة ثانية - وهو عدم ارتباط هذه المرحلة بزمن معين أو محدد - أن بعض المسلمين في غير مكة بقوا على سريتهم أزمنة مختلفة حسب إمكانياتهم في قبائلهم، وقدرتهم على الدعوة والاصطفاء (¬2). السمة الثانية قيام الدعوة على الإصطفاء فهي ليست دعوة علنية تقام في الأندية العامة والمجالس والمحافل؛ إنما تقوم على الاصطفاء الشخصي، وتقدير الداعية لطبيعة المدعو. لقد وجدنا أن اللبنات الأولى للدعوة كانت خديجة رضي الله عنها أول من آمن في الأرض من النساء، وهي زوج النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو بكر رضي الله عنه وهو صديقه الحيم. وعلي بن أبي طالب وهو ربيبه وفي رعايته وبيته، وهو بمثابة ابنه، وزيد بن حارثة مولاه. وعندما انطلق أبو بكر رضي الله عنه بالدعوة اختار الطريق نفسه. ¬

(¬1) سورة الحجر الآية 95. (¬2) الذي حدا بنا إلى هذا الإسهاب هو أن بعض الحركات الإسلامية الحديثة تأخذ بمفهوم الزمن في السيرة. فتحدد مسيرتها زمنيا بمسيرة السيرة النبوية، مما أوقعها في تناقض واضح.

السمة الثالثة العمل من خلال ثقافة الداعية ومركزه الاجتماعي

يقول ابن إسحاق: (ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة .. وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه، محببا سهلا، وكان أنسب قرشي لقريش وأعلم قرشي بها وبما كان فيها من خير أو شر. وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف. وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه من يغشاه ويجلس إليه. فأسلم بدعائه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله. فكان هؤلاء النفر الثمانية الدين سبقوا الناس بالإسلام، فصلوا، وصدقوا (¬1)). لقد كانت الدعوة من خلال الثقة رغم أن رواد أبي بكر كثر، وممن يتوسم بهم الاستجابة لهذه الدعوة. السمة الثالثة العمل من خلال ثقافة الداعية ومركزه الاجتماعي وهي تعقيب على ما سبق ذكره من مواصفات شخصية أبي بكر رضي الله عنه، وكونه أقدر الدعاة على التأثير آنذاك. ونستطيع أن نتعرف على مواصفات هذه الشخصية من العناصر التالية: أ - خلقه: كان رجلا مألفا لقومه، محبا سهلا. ب - ثقافته: كان أنسب قرشي لقريش وأعلم قرشي بها، وبما كان فيها من خير وشر. ح - مركزه الاجتماعي وعمله: وكان رجلا تاجرا .. وكان رجال قومه يألفونه لغير واحد من الأمر. علما بأن أبا بكر من حيث الحسب والنسب هو من ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ص 267 - 269. ج 1 ط دار إحياء التراث العربي - لبنان، تحقيق السقا وزملائه.

أضعف قريش نسبا. ويمثل هذا المركز ما روى عن أبي سفيان حين استلم أبو بكر الخلافة قوله: (ما بال هذا الأمر في أذل حي من قريش). ولكن هذا لم يحل دون تبوئه المكانة المرموقة في قومه. ومن خلال هذه المواصفات نحرص على أن توجد لدى الداعية اليوم. فالخلق المحبب السهل هو الذي يضمن القدرة على النفاذ للآخرين، وهو الذي يفتح القلوب له ولو كانت متعصية، وهو الذي يضمن البعد عن ردود الفعل في حالة الموقف السلبي من الدعوة. والثقافة ليست بأقل شأنا من الخلق. وليس كل نوع من أنواع الثقافة هو المطلوب في هذا الصدد. بل الثقافة ذات الخبرة بالمجتمع واتجاهاته وميوله. والثقافة التي تعرف نفوس الناس ومنازعهم ومشاربهم وعواطفهم. هي التي تكون مفتاح التحرك للداعية، وباب الولوج إلى قلب المدعو. {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (¬1)}. فللقلوب أقفال، ومهمة الداعية أن يملك مفاتيح هذه الأقفال، ويعرف من أين، يدخل إليها. حتى تستجيب له. والمركز الاجتماعي للداعية يجعل له أذنا صاغية من الناس؛ فترفع الداعية عن الحاجة وذل السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس، هو الذي يكسب الاحترام في مجتمع أعلى قيمه هي المال والشهرة. وتد وجهنا لذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (إزهد في الدنيا يحبك الله، وازهد بما في أيدي الناس يحبك الناس (¬2)). وإذا كان المركز الاجتماعي بطبيعته ذا صلة وثيقة بالناس؛ فهذا أدعى ¬

(¬1) سورة محمد الآية 24. (¬2) رواه ابن ماجة بإسناد حسن.

السمة الرابعة الدعوة عامة

إلى التأثير فيهم إذ أن العلاقة تبدو طبيعية وغير متكلفة، ولا يحتاج الداعية ليتصنع سببا للاتصال بهم. فالمدرس مثلا والتاجر أقدر على الحركة من الموظف المحصور في إطار محدد. السمة الرابعة الدعوة عامة وقد يبدو لأول وهلة أن هناك تناقضا بين هذه السمة والسمة الأولى، وليس الأمر كذلك؛ فإظهار الدعوة للمختصين لا تعني أن تكون دولة لفئة معينة من الناس، أو طبقة خاصة من طبقات هذا المجتمع، بل لا بد أن تتتاول قطاعات المجتمع كله، ويتم هذا التناول عن طريق الاصطفاء الخاص من أفراده. فقد وجدنا أن هذه الرحلة السرية للمجتمع المسلم قد انضم فيها إلى الإسلام من كل فئات المجتمع آنذاك: الأحرار والعبيد، الرجال والنساء، الشباب والشيوخ والفتيان، بل انضم لهذا المجتمع أفراد من شتى الفروع من قريش وغيرها حيث لا تكاد تخلو عشيرة في مكة من شخص أو اثنين شاركا في بناء هذا المجتمع. ولو استعرضنا توزيع الصحابة على القبائل الكبرى المشهورة لوجدناها كما يلي: أولا: بنو هاشم 1 - علي بن أبي طالب. 2 - جعفر بن أبي طالب. 3 - أم الفضل بنت الحارث. 4 - عبيدة بن الحارث. 5 - أسماء بنت عميس (زوج جعفر). 6 - خديخة بنت خويلد.

ثانيا: بنو أمية 7 - عثمان بن عفان. 8 - خالد بن سعيد. 9 - أمينة بنت خالد (زوج خالد). 10 - حاطب بن عمرو. 11 - عبد الله بن جحش. 12 - أبو أحمد بن جحش. 13 - امرأته فاطمة. ثالثا: بنو مخزوم 14 - أبو سلمة بن عبد الأسد. 15 - عياش بن أبي ربيعة. 16 - عمار بن ياسر (حليف). 17 - أسماء زوجة عياش. 18 - ياسر بن عامر (حليف) 19 - سمية بنت خياط (زوج ياسر). 20 - الأرقم بن أبي الأرقم. رابعا: بنو تيم 21 - أبو بكر الصديق. 22 - طلحة بن عبيد الله. 23 - عامر بن فهيرة (مولى). 24 - بلال بن رباح (مولى). خامسا: بنو عدي 25 - سعيد بن زيد. 26 - فاطمة بنت الخطاب. 27 - عام بن أبي ربيعة (حليف). 28 - نعيم بن عبد الله.

29 - واقد بن عبد الله (حليف). 30 - خالد بن البكير (حليف). 31 - عامر بن البكير (حليف). 32 - اياس بن البكير (حليف). سادسا: بنو زهرة 33 - سعد بن أبي وقاص. 34 - عبد الرحمن بن عوف. 36 - عمير بن أبي وقاص. 36 - عبد الله بن مسعود (حليف). 37 - المطلب بن أزهر. 38 - خباب بن الأرت (حليف). سابعا: بنو سهم 39 - خنيس بن حذافة. 40 - حفصة بنت عمر (زوجه). ثامنا: بنو جمح 41 - جاطب بن الحارث 42 - امرأة فاطمة. 43 - خطاب بن الحارث. 44 - امرأته فكيهة. 40 - السائب بن عثمان. تاسعا: بنو أسد 46 - الزبير بن العوام. عاشرا: بنو عامر 47 - أبو عبيدة بن الجراح. 48 - سليط بن عمرو. عاشرا: قبائل متفرقة 49 - صهيب بن سنان (رومي).

السمة الخامسة دور المرأة في المرحلة السرية

50 - مسعود بن ربيعة. 51 - معمر بن حبيب. 52 - زيد بن حارثة. 53 - عمرو بن عبسة (سلمي). 54 - عثمان بن مظعون. 55 - قدامة بن مظعون. 56 - عبد الله بن مظعون. 57 - رملة زوجته. وهكذا نرى أن الستين الأوائل هم من كل قطاعات المجتمع المكي. السمة الخامسة دور المرأة في المرحلة السرية لقد كان ربع هذا المجتمع من النساء. ومعظم الشباب المتزوجين أسلمت معهم زوجاتهم. وعشن المرحلة السرية دون أن يدري بهن أحد. وحافظن على السر وكتمنه دون أن نسمع شيئا من إفشائهن له. ولعلنا نعطي المرأة حقها من الإهتمام في مسيرة هذه الدعوة. فتكون بجانب الرجل أختا وزوجا وأما وتعيش همه. بل تذكر بعض الروايات أن أسماء رضي الله عنها من جنود هذه المرحلة، وهذا يعني أنها كانت في طفولتها المتأخرة. السمة السادسة الصلاة لم تخل مرحلة سن مراحل دعوة المسلمين من الصلاة على الأرجح.

السمة السابعة معرفة قريش بخبر الدعوة

قال ابن إسحاق: (وحدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر ليريه كيف الطهور، ثم توضأ رسول الله كما رأى جبريل، ثم قام به جبريل، فصلى به، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاته، ثم انصرف جبريل عليه السلام، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم صلى بها رسول الله كما صلى به جبريل فصلت بصلاته (¬1). وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من عمه أبي طالب، ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا (¬2). السمة السابعة معرفة قريش بخبر الدعوة لم تكن قريش لتبني على هذه المعرفة شيئا أو تعيرها اهتاما. فقد كانت ظاهرة الحنفية منتشرة في المجتمع المكي. فزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وأمية بن أبي الصلت. ولا تهتم مكة بمثل هذه الأحداث وهؤلاء الناس، طالما أنهم لا يتعرضون لعقائدها وأصنامها. فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحنث الليالي ذوات العدد قبل البعثة، ويجاور في غار حراء، ومع ذلك لا تجد قريش غضاضة في ذلك. وحسبت إن الإسلام مثل هؤلاء الحنفاء الذين ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 260 - 261 وقد رواه ابن إسحاق مقطوعا ووصله الحارث بن أسامة بسنده إلى الزهري عن أسامة بن زيد عن ابنه. (¬2) وقد روى الإمام أحمد بسند حسن في مسنده 1/ 99 ميمين، والحديث رقم 776 ط الشيخ شاكر، هذا المعنى وخروج أبي طالب عليه ببطن نخله، وقال فيه، لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعا.

اعتزلوا عبادة الأصنام. بل يمكن القول: إن قريشا كانت تهتم بالحنفيين أكثر مما اهتمت بالمسلمين في المرحلة السرية. وذلك لأن الحنفاء كانوا يعلنون شكهم بأصنام قريش وأوثان العرب بينما لم يعلن المسلمون موقفهم تجاهها. وتذكر بعض الروايات أن أحد التجار كان في زيارة للعباس في بيته فرأى رجلا وامرأة وطفلا يتقدمون فيصلون بصورة تخالف ما كانت تعهده قريش من الصلاة. فسأل التاجر العباسي عنهم فقال له: هذا ابن أخي - ويشير إلى علي، وهذا ابن أخي - ويشير إلى رسول الله - وهذه زوجته. وإن هذا يزعم أن الله - صلى الله عليه وسلم - كلمه من السماء، ووالله ما أعلم على ظهر الأرض أحد على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة (¬1). كما تشير الرواية السابقة التي ذكرناها عن خروج علي رضي الله عنه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشعاب للصلاة، أن أبا طالب طلع عليهما ذات يوم فرآهما يصليان. فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ابن أخي ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم. بعثتي الله به رسولا للعباد. وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني عليه - أو كما قال. فقال أبو طالب: أي ابن أخي لا أستطيع أن أفارق دين أبائي وما كانوا عليه. ولكن لا يخلص إليك شيء تكرهه ما بقيت. وذكروا أنه قال لعلي: أي بني ما هذا الذي أنت عليه؟ فزعموا أنه قال له: آمنت برسول الله، وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله، واتبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه (¬2). ¬

(¬1) رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والطبراني بأسانيد، ورجال أحمد ثقات وراجع الحديث 16. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام ص 264.

السمة الثامنة المعايشة بين المسلمين وغيرهم

لم يكن إذا لملاحظة قريش بعض هذه الظواهر الغريبة، ما يثير غضبها طالما أن القوم مكتفون بأنفسهم. منكفئون على ذواتهم، فكل امرىء حر أن يعبد الله كما يشاء. طالما أن الدين عقيدة في القلب، وعبادة في المعبد. ولا يتدخل في شؤون الحياة. ومن هنا نفهم سر المهادنة التي نراها أحيانا بين الحكومات الطاغية وبعض المثدينين من المسلمين، الذين يكتفون من الإسلام بالعقيدة في الضمير والعبادة في المسجد. إذ هؤلاء لا يدخلون الإسلام في شؤون الحياة، وبالتالي فلا تهابهم الطغاة. السمة الثامنة المعايشة بين المسلمين وغيرهم لم نسمع في هذه المرحلة عن أي صدام وقع بين هذا المجتمع الإسلامي الناشىء وبين المجتمع الجاهلي، فالفكرة غير معلنة إلا لمن يرجى انضمامه لهذا التجمع الإسلامي القائم. وليست الدعوة المعلنة هدفا قائما فيها. بل لا يتدخل المسلمون بأي شأن من شؤون غيرهم في نقد أو مواجهة أو مخالفة ظاهرة. والأصل أن لا تظهر المخالفة في شيء. إلا في حالة اضطرارية قاهرة. فلا بد من المحافظة على السرية التامة للتنظيم والفكرة. السمة التاسعة التركيز على بناء العقيدة وحيث إن العتيدة الكافرة الطاغية قد ملأت على الناس حياتهم. فلا بد من تصحيح هذه العقيدة وبناء العقيدة السليمة بشكل هادىء. لأن

السمة العاشرة الجهر بالدعوة بعد بناء النواة الصلبة

العقيدة الصحيحة هي التي ينبثق منها العبادة الصحيحة والسلوك الصحيح، وهي التي تضمن في الوقت نفسه الثبات على الحق، وتحمل التضحيات في سبيله عندما تطلب من المسلم أن يؤديها. وكل ما نراه من التراجع والتذبذب والنفاق والتخلي عن طريق الحق مرده ضعف هذه العقيدة، وتزعزعها وعدم تمكنها من القلب المسلم. ولأمر ما اختار الإسلام - كلمة الإيمان - للدلالة على العقيدة. فالإيمان يباشر العقل والقلب معا ويربط الفكر بالوجدان ربطا وثيقا. فليس الأمر قضية قناعة فكرية باردة وليس الأمر قضية دفعة عاطفية خاوية من القناعة العقلية. بل هو الالتحام الكامل بين الجانبين حيث يصعب التمييز بينهما. السمة العاشرة الجهر بالدعوة بعد بناء النواة الصلبة ودليل ذلك أنه لم يرتد أحد عن دينه من هؤلاء عندما وقعت المحنة وابتدأت المواجهة. بل كان هؤلاء الذين عاشوا الخطوات الأولى للدعوة هم القمة في الإسلام فيما بعد من حيث مستويات إيمانهم ومستويات سلوكهم، ومستويات جهادهم وتضحياتهم. ويكفي أن نعرف أن أعلى طبقة في الأمة المسلمة وهي طبقة العشرة المبشرين بالجنة كانت منهم باستثناء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. هذه الطبقة هي التي كونت جيل القيادة للمجتمع الراشد، وكان اصطفاء الخليفة منها، وتوفي رسول الله وهو راض عنها. هذه النواة هي التي حملت فيما بعد عبء الدعوة للإسلام في الأرض، وحملت عبء المواجهة الكبرى مع أعداء هذا الدين. لقد كان هؤلاء الستون مستعصين على الإبادة بعد أن انتهت هذه المرحلة وبدأت مرحلة المواجهة وكانوا مؤهلين لرضا الله عز وجل. ويكفي أن ندلل على مدى حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ما جرى بين خالد

ابن الوليد رضي الله عنه وبين عبد الرحمن بن عوف حين اختلفا على أمر. ورفع الأمر إلى رسول الله فقال لخالد: يا خالد، دع عنك أصحابي. فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي أو روحته (¬1). فبالرغم من أن خالد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبالرغم من أنه من الذين أسلموا وأنفقوا قبل الفتح. بالرغم من ذلك كله، فلقد قيل له هذا القول حين شاتم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أحد أفراد النواة الصلبة الأولى التي قام البناء الإسلامي على أكتافها. ولا ننسى أبدا بين النسوة أمثال خديجة رضي الله عنها إحدى الكاملات في الدنيا، وأسماء بنت عميس، وأم الفضل بنت الحارث وغيرهن اللاتي كن النموذج الأعلى للنساء في التاريخ. ونتساءل أخيرا عن هذه المرحلة، هل يمكن أن تتكرر في تاريخ الحركة الإسلامية؟؟ فيما أتصوره أنها لا يمكن أن تتكرر. وبتعبير آخر لا يمكن أن نتصور الحركة الإسلامية في دور سرية الدعوة وسرية التنظيم. إن الدعوة قد أعلنت، وانتشرت مبادئها في الكتاب الخالد لها؛ القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وفيما ألف عن الإسلام من كتب وأسفار ومجلدات أصبحت ملك الناس جميعا. ولهذا لا أرى مبررا كذلك للعذر في خفوت الحركة الإسلامية عن الدعوة المعلنة القول بأنها في المرحلة السرية الأولى. بل يمكن القول: لقد انتهت مرحلة سرية الدعوة إلى الأبد، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. لأن هذا الدين قد أعلن واكتمل. وانتهى أمر إخفائه. {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (¬2)}. لكننا نستدرك فنقول: ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 4 ص 74، وأخرجه الإمام مسلم حديث 254. وابن ماجه 161 كلاهما عن طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. (¬2) سورة المائدة الآية 3.

إذا كانت الحركة الإسلامية بشكل عام قد تجاوزت هذه المرحلة. فهذا لا يعني أن بعض أفرادها تتمثل بهم هذه المرحلة، وهؤلاء الأفراد المعنيون هم الذين يقومون بدور سري في التنظيمات المعادية. فلا يظهر تنظيمهم، ولا تظهر إسلاميتهم. إنهم في الحقيقة يوجدون في جميع المراحل، لكن المواصفات التي تنطبق عليهم هي مواصفات المرحلة الأولى في الحرص على إثبات انتمائهم الكامل للمجتمع الجاهلي الذي يعيشون فيه. ونشير إلى ملاحظة هامة في هذا الموضوع فهؤلاء الأشخاص ليسوا هم الذين بحددون دورهم. إنما الذي يحدد لهم هذا الدور هي القيادة، والذي دفع لهذه الملاحظة ما نراه لدى بعض الشباب، الذي يعتبر نفسه منتميا للإسلام وللحفاظ على مصالحه ودنياه وامتيازاته يمالىء السلطة الباغية، ويتبنى مواقفها. بل يدخل في التنظيم الكافر، وينشر مبادئه ويدعو إليها، ثم يدعي بعد ذلك أنه مسلم بالسر. هذا هو النفاق في المفهوم الإسلامي، وليس هو المرحلية. إن الذي يقرر للشاب المسلم أو المرأة المسلمة هذا الدور هو قيادة الحركة الإسلامية. وليس تقديره الشخصي. والذين كانوا يمثلون هذا الدور في المراحل اللاحقة كانوا يؤدونه بتكليف من قيادتهم الإسلامية، لا بقناعاتهم الشخصية. هذه ملاحظة، والملاحظة الثانية إن مثل هذا الدور، بالمواصفات السابقة يمكن أن يكون بمبادرة شخصية ودون تكليف من القيادة في حالة التعرض للأذى الماحق، حيث يباح للمسلم في هذه الحالة أن يتظاهر بالكفر، ولكن ليس في حالة الخوف من الأذى، والتفريق دقيق بين هاتين النقطتين. لأن النقطة الأولى لها سند شرعي من القرآن الكريم في قوله تعالى: {.. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .. (¬1)} وقد نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه حين تعرض للتعذيب، وما تركوه حتى ذكر آلهتهم بخير، وذكر محمدا - صلى الله عليه وسلم - بشر. وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عادوا فعد. أما الخوف من ¬

(¬1) سورة النحل الآية 106.

الأذى الجسدي أو الأذى المعنوي أو الأذى في مصالح الدنيا. فليس مبررا كافيا لإعلان الكفر، والمسير في مخططاته والدعوة إليه. لقد امتنع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن كلام يحيى بن معين من كبار أئمة الحديث لأنه وافق السلطة بالقول بخلق القرآن، وعندما ذكروا الإمام أحمد بحادث عمار رضي الله عنه أجابهم أن هذا فيمن أكره لا فيمن خاف من الإكراه (¬1). وإن كنا سنعود لذكر هذه النماذج في المراحل اللاحقة. حسب حجمها في الحركة الإسلامية. لكنا ذكرناها هنا لإيضاح المواصفات العامة لها. وهذا يقودنا بالتالي إلى معالجة قضية مهمة ذات مساس بمواصفات هذه المرحلة. فالشاب المسلم الذي يكلف بمهمة في صفوف العدو من قيادته المسلمة. ما هي الحدود التي يباح له فيها أن يوافق ذلك التجمع الجاهلي. حتى لا ينكشف أمره؟. تصوري والله أعلم أن الحدود التي يباح له فيها موافقة هذا التجمع هي الوقوف عند الفرائض والمحرمات، أي لا يباح له ترك الفريضة كما لا يباح له ارتكاب الكبيرة المحرمة. ومن الناحية العملية فالفريضة التي تواجهه هي الصلاة إذ أن بقية الفرائض ليست مستمرة بشكل دائم، وبالتالي يمكن أن يخفيها. كما أن فريضة الصيام قد تواجهه في شهر رمضان. لقد وجدنا بعض الاتجاهات في الحركة الإسلامية تبيح لبعض هؤلاء الأفراد الجمع بين الصلاتين؛ صلاة الظهر والعصر، وصلاة المغرب والعشاء. وإن كانت المذاهب الفقهية المعتمدة لا تجيز ذلك، بالجمع بين الصلاتين دون عذر من سفر أو خوف أو مطر. لكنها اعتمدت على الحديث الصحيح المروي في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين دون عذر. ¬

(¬1) مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي ص 389.

لكني لا أدري رخصة أكبر من هذه. وما يتناقل في صفوف الشباب الإسلامي من جمع الصلوات كلها في آخر الليل. فما أعتقد له سندا صحيحا. وما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جمعه بين هذه الصلوات كلها يوم الخندق فلأن الحرب، استمرت من السحر إلى العشاء. فلم يتمكن المسلمون من الصلاة وهم ملتحمون في المعركة مع العدو. ويمكن القول نفسه بالنسبة للصيام في شهر رمضان. فلا يحق للمسلم الذي يؤدي مهمته في صفوف العدوان يتخلى عن فرض الصيام. ويمكن القول نفسه بالنسبة لاجتناب المحارم. فالمسلم الذي يعايش العدو بمهمة جاسوسية عليه من قيادة الحركة الإسلامية، والمسلم الذي يدفعه الخوف من الطاغية الكافر إلى ممالأته. ليس له أن يشرب الخمر مثلا أو يزني بهذه الذريعة، وتكاد تكون الموافقة للكافر - والله أعلم - محصورة في الجانب اللفظي الكلامي أو في بعض اللمم الذي يستغفر الله منه لو وقع فيه. فتأدية الفرائض، واجتناب المحارم هي الحدود الفاصلة بين السرية في التنظيم والدعوة، وبين المرحلة اللاحقة.

المرحلة الثانية جهرية الدعوة وسرية التنظيم

المرحلة الثانية جهرية الدعوة وسرية التنظيم ويمكن أن نلاحظ أن هذه الجهرية نفسها قد مرت بمرحلتين: المرحلة الأولى: جهرية الوسول - صلى الله عليه وسلم -. المرحلة الثانية: جهرية المسلمين. وحيث إن الفارق الزمني بينهما فارق ضئيل وهو أقل من سنتين. فلا نرى داعيا لإفراد كل واحدة منهما في مرحلة. وتبتدىء المرحلة الثانية إذن بنزول قول الله عز وجل: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (¬1)}، وقوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين (¬2)} {وقل إني أنا النذير المبين (¬3)}. يقول المباركفوري في كتابه - الرحيق المختوم: وأول ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية: {وأنذر عشيرتك ¬

(¬1) سورة الحجر الآية 94. (¬2) سورة الشعراء الآية 264. (¬3) سورة الحجر الآية 89.

الأقربين} أنه دعا بني هاشم فحضروا، ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلا فبادره أبو لهب وقال: وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به. فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما تكلم في ذلك المجلس. ثم دعاهم ثانية وقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة. والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما ستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا. فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به. فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا (¬1). على جبل الصفا: وبعدما تأكد النبي - صلى الله عليه وسلم - من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلغ عن ربه قام يوما على الصفا فصرخ: يا صباحاه. فاجتمع إليه بطون قريش، فدعاهم إلى التوحيد والإيمان برسالته وباليوم الآخر، وقد روى البخاري طرفا من هذه القصة عن ابن عباس. قال: لما نزلت {وأنذر ¬

(¬1) الرحيق المختوم ص 90. نقلا عن ابن الأثير.

عشيرتك الأقربين} صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر!. يا بني عدي! لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش. فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟. قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت {تبت يدا أبي لهب (¬1)). وروى مسلم طرفا آخر من هذه القصة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعم وخص، فقال: يا معشر قريش انقدوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها (¬2). هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم. وإن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله (¬3). وننتقل بعد عرض بداية هذه المرحلة من خلال النصوص إلى عرض مواصفاتها العامة. علما بأن هذه المرحلة تنتهي بعد عام الحزن. حيث اتجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارج مكة ساعيا لإقامة دولة الإسلام، ومدة هذه المرحلة على هذا الأساس سبع سنين. ¬

(¬1) صحيح البخاري 2/ 702 - 743. (¬2) صحيح مسلم 1/ 114. (¬3) الرحيق المختوم ص 89 - 91.

مواصفات المرحلة الثانية وسماتها

مواصفات المرحلة الثانية وسماتها السمة الأولى دعوة الأقربين فالشيء الطبيعي أن تكون الدعوة في المرحلة الأولى في صفوف الأقربين. وخاصة عندما تأخذ طابع المواجهة المعلنة. لأن هذه المواجهة تعرض الداعية للخطر. فلا بد له من حماية، وعشيرة الداعية هم أكثر الناس استعدادا لحمايته. ولقد وجدنا بذور الدعوة الأولى في المرحلة السرية داخل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلقد كان أول الخلق إسلاما بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ومولا، زيد بن حارثة، وابن عمه علي بن أبي طالب - الذي كان مقيما عنده فلقد تكفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتربيته تخفيفا عن أبي طالب الذي كان كثير العيال فقير الحال، وردا لمعروف في كفالته لرسول الله في صغره، وبناته زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة فلقد كان البيت، النبوي مسلما كله. ومن أجل ذلك عندما انتقلت الدعوة إلى المرحلة الجهرية كان لا بد من دعوة العشيرة الأقرب بني هاشم وبني المطلب، وإعلامهم بالأمر.

وهذه سنة إلهية يحدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أسبابها بصدد قصة لود عليه السلام حين جاءه قومه يهرعون إليه يريدون الفاحشة بضيفه من الملائكة. وكان لوط عليه السلام قد هاجر إلى الشام. فليس له قبيلة تحميه أو تمنعه إلا ابنتاه. فامرأته كافرة، والمؤمنون أقلة غير قادرين على حمايته {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (¬1)}. هذا النفر القليل الضعيف الذي لا يستند إلى عشيرة قوية حدا بلوط عليه السلام أن يقول: {قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (¬2)}. فقال عليه الصلاة والسلام عن ذلك: (رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه (¬3). وهذه السنة الإلهية هي التي حالت بين كفار مدين وشعيب. {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز (¬4)}. وسواء آمنت العشيرة أم لم تؤمن. فإن حمايتها لابنها الداعية خط أصيل في تاريخ الدعوات. فلقد اختلف موقف أبي طالب عن أبي لهب. وتبني أبو طالب حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغم عدم دخوله في الإسلام. بل لا تذكر الروايات أن أحدا أسلم في هذه الدعوة، إلا ما يروى عن إعلان إسلام علي رضي الله عنه في هذا المجلس. ومن العشيرة الأقرب إلى العشيرة الأكبر. حيث كان الإعلان عاما على جبل الصفا بأعلى مكة. فعم وخص. وحضر الدعوة ممثلو قريش جميعا. ودعاهم إلى الإسلام والنصرة. فانقلبوا جميعا متخاذلين عنه وخاصة عندما ¬

(¬1) الآية 36 من سورة الذاريات. (¬2) الآية 80 من سورة هود. (¬3) مختصر تفسير ابن كثير للشيخ محمد علي الصابوني سورة هود، ج 1 ص 227. (¬4) سورة هود الآية 91.

السمة الثانية الإعراض عن المشركين

شتمه عمه أمام الملأ من قريش وعلى رؤوس الناس. قائلا له: تبا لك ألهذا جعتنا. ولكن موقف أبي طالب المعلن في حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصرته، قد عكر صفو أهل مكة لأن هذا الإعلان بمثابة معركة داخلية جديدة في صفوف مكة. ولقد كان الأمر القرآني من الوضوح حيث أنه لا خيار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإعلان العام مهما كانت نتائجه. {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (¬1)}. غير أن الأمر بالإعلان وجهرية الدعوة قد اقترن بالدعوة إلى الصبر والصفح عن المشركين المعادين والإعراض عنهم يعني إلغاء الصدام معهم وتجنبه ما أمكن سبيلا إلى ذلك. السمة الثانية الإعراض عن المشركين فلا بد من إفرادها بحديث واضح. إذ أن خط الدعوة مع المشركين هو خط الإعراض عن أذاهم فإعلان الدعوة ماض من جهة لا يتوقف للأذى النازل على المسلمين سواءا أكان أذى ماديا أو معنويا. لكن الصبر على الأذى والإعراض عن المشركين باق فلا مواجهة مادية، ولا مقاومة مسلحة، ولا انتقاما وثأرا لإهانة. إنها مرحلة كف اليد والاكتفاء بالتبليغ. ولا بد أن يكون البلاغ مبينا واضحا لا لجلجة فيه ولا غموض. {وقل إني أنا النذير المبين}. لا بجوز أن تتميع الدعوة وتضيع معالمها بحجة مسايرة المشركين ومراعاة ظروفهم وتأليف قلوبهم كما يلجأ كثير من الناس اليوم وهم يتعايشون مع ¬

(¬1) سورة الحجر الآية 94.

السمة الثالثة معالم الدعوة الجديدة

النصارى. فهم يتعرضون معهم لقضية الإيمان بالله ويلمسونها لمسا خفيا حيث لا يجرح مشاعرهم، فلا يذكرون كلمة الإسلام حتى لا يتهموا بالتعصب، ولا يذكرون القرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يغضب هؤلاء النصارى منهم. إن كل الدول في عصرنا الحاضر التي توجد فيها الأقليات الدينية تنهج هذه السياسة في إذاعتها المرئية والمسموعة والمقروءة. ويسمون هذا دعوة في الحكمة والموعظة الحسنة. إن الإعراض عن المشركين يعني فكرتين في وقت واحد. الفكرة الأولى: المسيرة بالدعوة من الداعية وإيضاح معالمها غير عابىء بغضب حصومها أو مشاعرعهم أو آرائهم. الفكرة الثانية: عدم مواجهة أذاهم المادي والمعنوي، ومحاولاتهم تجريحه والنيل منه والهزء به ممثلا في قول الله عز وجل. {سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين .. (¬1)}. {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما .. (¬2)}. السمة الثالثة معالم الدعوة الجديدة فالخطوط العريضة الأساسية لهذا الدين الجديد هي: الإيمان بالله الواحد. الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الإيمان باليوم الآخر. هذه هي الخطوط العريضة التي تم التركيز عليها طيلة هذه المرحلة، وهي منطلقات الدعوة الرئيسية في الإعلان الأول للدعوة في هذه الدنيا، وفي ¬

(¬1) سورة القصص الآية 55. (¬2) سورة الفرقان الآية 63.

خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهله: الحمد لله أحمده واستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو .. وهكذا توضح الخط الأول. أما الخط الثاني فهو: إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة. أما الخط الثالث فهو: والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا .. وبقيت هذه الخطوط هي المحور الأساسي للدعوة وهي مشعل الحرب كذلك. فلو قفزنا قرابة عشرين عاما إلى الأمام، وانتقلنا لصلح الحديبية. لوجدنا طبيعة المعركة لم تتغير، ومحور الخلاف لم يتبدل. رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فيعترض سهيل بن عمرو عليه قائلا: لا والله لا نؤمن بالرحمن. أكتب باسمك اللهم. رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يكتب. هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله. فيعترض سهيل بن عمرو قائلا: لو آمنا بك رسولا ما قاتلناك. أكتب اسمك واسم أبيك. بينما نرى اليوم في جيلنا المنكود، وفي أمتنا التي استبدلت القومية بالدين نجد كل إعلام هذه الأمة ينصب على كل شيء عدا هذه المحاور الثلاثة. إن اللواء المرفوع والفكر المطروح عند دعاة القومية المعتدلين، وهو الفكر الذي يلقن للطلبة في المدارس، ويقدم للبشرية في وسائل الإعلام وهو فكرة الإيمان بالله. وليست فكرة الإيمان بالله الواحد. حتى يرضى النصارى واليهود

السمة الرابعة الدعوة عامة

والمجوس والذين أشركوا والذين ارتدوا. فهذه الفكرة لا تزعج أحدا من هؤلاء. ولا نتحدث عن دعاة القومية المتطرفين الذين يرفضون حتى فكرة الإيمان بالله ليحافظوا على وحدة القاعدة الفكرية بينهم وبين الملحدين الشيوعيين في الأرض. إن اللواء الأول واللواء الثاني يعنيان الردة الكاملة. فاللواء الأول ردة إلى الجاهلية الوثنية قبل الإسلام. واللواء الثاني ردة إلى الإلحاد الحديث في الأرض التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية من قبل. واللواءان يعنيان إلغاء الإسلام، والقرآن ورسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. السمة الرابعة الدعوة عامة وذلك في أول إعلان لهذا الدين في الأرض أعلنت فيه عالمية الدعوة: (إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة). فليست رسالة محلية مرتبطة بمكان معين أو زمان محدد. إنما هي رسالة البشرية كافة ومن أجل هذا كانت اللبنات الأولى للدعوة تمثل هذه العالمية الشاملة, فصهيب سابق الروم وبلال سابق الأحباش وهذان كانا من أوائل من دخل في هذا الدين الذي لا يفرق بين عربي وأعجمي، ولا فضل فيه لأبيض على أسود إلا بالتقوى أو بعمل صالح. وكان لهاتين القضيتين أكبر الخطر على المجتمع المكي الجاهلي: القضية الأولى: قضية الوحدانية - لا إله إلا الله - وهي تعني نقض عقيدة المجتمع الجاهلي كله. القضية الثانية: قضية المساواة في الأصل البشري وهي تعني نقض أكبر

قيم هذا المجتمع. وكل واحدة كانت كفيلة لأن تشعل حربا لا يهدأ أوراها بين المجتمعين. ولو كانت القضية ذات منطلق سياسي. لكان آخر ما يجب طرحه هو هاتان القضيتان تجنب المواجهة مع قريش. وفي الساحة عناصر كثيرة مشتركة يمكن أن تجمع بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وقريش من محولات التحرير، والتخلص من الطغيان الفارسي والرومي، وتقديس البيت، وبناء التجارة، وإصلاح ذات البين العربي، ووحدة هذا الصف تحت قيادة واحدة. إن أكبر ما صدم به - الملأ - من قريش وغيرها، حسب التعبير القرآني، هو هاتان القصيتان: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يعتقدوا بأن مواليهم وعبيدهم من الممكن أن يكونوا خيرا منهم. وحتى نعرف مدى تغلغل هذه العقيدة في نفوسهم، ومدى تأصل العصبية الجاهلية في قلوبهم نقفز عشرين عاما إلى الأمام إلى فتح مكة. ونشهد بلالا الحبشي - رضي الله عنه - يصعد على ظهر الكعبة، ويعلن كلمة التوحيد فيها. فماذا يكون الموقف، وقد تحطمت كل المقاومة المكية. تقول جويرية بنت أبي جهل - ولعلها قد دخلت في الإسلام - منذ ساعات: قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاة فسنصلي، والله لا نحب من قتل الأحبة أبدا. ولقد كان جاء أبي الذي جاء محمدا من النبوة فردها وكره خلاف قومه. وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا اليوم؟ وقال الحارث بن هشام: واثكلاه! ليتني مت قبل هذا اليوم! قبل أن أسمع بلالا ينهق فوف الكعبة. وقال الحكم بن أبي العاص:

السمة الخامسة سرية التنظيم

هذا والله الحدث العظيم، أن يصبح عبد بني جمح على بنية أبي طلحة! وقال سهيل بن عمرو - وكان أعدل الجميع: إن كان هذا سخطا لله فسيغيره وإن كان لله رضى فسيقره .. فأتى جبريل عليه السلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرهم (¬1). وبذلك يفقه الدعاة درسا خطيرا من هذه السمة. هو أن الوحدانية والرسالة هما محور أي دعوة مع العدو. ولا يمكن أن يكون أي لقاء فكري دونهما. كما يفقهون أن عالمية الدعوة فوق المساومات. السمة الخامسة سرية التنظيم الاستتار بدار الأرقم. لا بد للمحافظة على سرية التنظيم من اختيار مركز سري بعيد عن الأعين يتم فيه اللقاء بين الجنود مع بعضهم، وبين القيادة وجنودها، بحيث لا تعرفه استخبارات العدو. ولو كان التنظيم علنيا لأمكن أن يعلن عن مكان اللقاء في نوادي مكة. بل يمكن أن يكون اللقاء في الكعبة حيث منتدى قريش كلها. إن مثل هذا التجمع المعلن يدفع مكة مباشرة إلى فض مثل هذا التجمع والقضاء عليه، كما يدفع مباشرة إلى الصدام المسلح بين الفريقين. ولعل دار الأرقم قد بقيت مجهولة على قيادة مكة عامين كاملين، فلم نسمع من حوادث السيرة ما يدل على معرفتهم لها إلا من خلال حادث إسلام عمر رضي الله عنه في السنة الخامسة، ولعله لا يعرفها بالتحديد. ولعل مكة لا تعرفها بالتحديد. فلقد كان جواب عمر رضي الله عنه لنعيم بن عبد الله: (... أذهب إلى محمد في دار عند الصفا). ولعل قريشا قد لاحظت بعض التوارد عند الصفا لأتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن تعرف بالضبط في أي دار. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 391.

وكانت التعمية والمبالغة في السرية كفيلة أن تموه الأمر على قريش لسببين أو ثلاثة. السبب الأول: إن الأرقم لم يكن معروفا بإسلامه. فما كان يخطر ببالها أن يتم لقاء محمد وأصحابه بداره. السبب الثاني: إن الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه من بني مخزوم، وقبيلة بين مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم. فلو كان الأرقم معروفا بإسلامه فلا يخطر في المال أن يكون اللقاء في داره لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو. السبب الثالث: إن الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه كان فتى عند إسلامه. فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه عليه الصلاة والسلام. فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الأغلب في أحد دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه أو في بيت عثمان بن عفان أو غيرهم. ومن أجل هذا نجد أن اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية الأمنية، ولم نسمع أبدا أن قريشا داهمت ذات يوم هذا المركز وكشفت مكان اللقاء. إنما كان أقصى ما وصلت إليه هو شكها أن يكون اللقاء في دار عند الصفا. ولقد شهدنا مكان هذه الدار قبل أن تزال معالمها بجوار الصفا. لكن من الصعب أن نتصور موقعها بين بيوتات مكة، ولم نجد في كتب السيرة وصفا محددا لها.

السمة السادسة القرآن مصدر التلقي

السمة السادسة القرآن مصدر التلقي وهو أمر أحوج ما يكون الدعاة إليه. فلقد كان تلقي القرآن يتم هناك، وحين ينصرف المسلم بزاد حصيلته بضع آيات من القرآن نزل بها روح القدوس على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانت هذه الآيات كفيلة أن تنشىء هذا الجيل القرآني الفريد. ولم يكن هذا الجيل يتلقى إلا هذا الوحي من القرآن أو من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فينزع به كل أوضار الجاهلية وعقائدها وقيمها، وتنسكب في قلبه المعاني الجديدة الآتية إليه من الله رب العالمين. كان هذا اللقاء اليومي الدائم هو الذي يغير هذا الوائع البشري. وتتفاعل النفوس بهذا الوحي المنزل، فيجد نفسه إنسانا جديدا غير ذي قبل، إنسانا جديدا بقيمه، بمشاعره، بأفراحه وأتراحه بغضبه ورضاه، بحبه وبغضه، بأمله وآلمه، باهتماماته وشواغله. ولقد حرص القائد المربي عليه الصلاة والسلام في هذه المرحلة على توحيد مصدر التلقي وتفرده؛ ألا وهو القرآن. لقد كان هذا الجيل أميا لا يعرف القراءة والكتابة. فلم يكن ليتلقى الثقافة البشرية التي اختلط فيها الحق بالباطل، لقد كان بعيدا عن فلسفة اليونان وعلوم الرومان وحكمة فارس، لقد عاش هذا الجيل سعيدا بوحي الله فقط. يتلقاه من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعندما رأى رسول الله - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرأ في صحيفة من التوراة غضب وقال: لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني (¬1). ومن أجل هذا نرى أن يكون منهج التلقي الأول للدعاة منبثقا كله من القرآن في المرحلة الأولى، كل ما يأخذه الشاب المسلم في هذه المرحلة يدور حول هذا المحور. حتى معلوماته في الفقه والحديث والتفسير والتاريخ، ¬

(¬1) رواه أبو يعلى عن حماد عن الشعبي عن جابر.

السمة السابعة اللقاء المنظم المستمر

ومعلوماته عن الجاهلية وأفكارها، تنطلق من هذا المحور. فلا يفرد له علم مستقل بذاته إنما يتلقى هذه المعلومات كلها من خلال الآية القرآنية. السمة السابعة اللقاء المنظم المستمر فاللقاء الدائم هو الذي يربط الجنود بقيادتهم، وهو الذي يمد الأفراد والجنود بالثقة القوية بالنفس، ويشحذ عزائمهم على الاستمرار في هذا الدرب، يأتي الصحابي لدار الأرقم فيقص على إخوانه وعلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ما عاناه في هذا اليوم، وما جرى معه من نقاش، وما استمع إليه من آراء وما أدلى به من حجة فيقوم إمام المربين عليه الصلاة والسلام بالتوجيه المناسب له، يثني على موقفه أو يصححه له، أو يأمره بتركه. إن اللقاء المباشر الدائم بين القيادة وجنودها هو الذي يحل المشاكل المستعصية، وهو الذي يقطع دابر الفتنة، وهو الذي يحرق عوامل سوء الظن وقالة السوء، وهو الذي يمتن الصف الداخلي، ويجعل وشائجه مترابطة ملتحمة متراصة. أما الانقطاع عن اللقاءات، والبعد بين القيادة والجنود، فيضعف الثقة أولا، ويفتح الثغرات العديدة في الصف الداخلي ثانيا، ويجعل البناء العقيدي ضعيفا رخوا ثالثا. وهو أخطر النتائج. السمة الثامنة الصلاة خفية في الشعاب وكانت الصلاة في الغداة والعشي، أما صلاة الغداة فكان المسلمون يصلونها أحيانا في الكعبة وقبل أن تلتفت لهم الأنظار. (وكان - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصل صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها قريش، وكان إذا صلى في سائر اليوم بعد ذلك قعد علي أو

زيد رضي الله عنهما يرصدانه. وكان - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى وكانوا يصلون الضحى والعصر .. وكانت الصلاة ركعتين ركعتين قبل الهجرة (¬1). لأن الصلاة المعلنة تعني المواجهة المباشرة مع مكة. والإعلان هو للدعوة، أما إعلان العبادة فقد تأخر حتى أسلم عمر رضي الله عنه. فلا مندوحة عن الصلاة إذن في أي مرحلة من المراحل، ولكن سريتها وجهريتها منوطة بالجو العام وسماح الجاهلية بها. فنجد في مجتمعاتنا المعاصرة أن الصلاة بحكم توارث الإسلام على هذه الأرض يسمح بها بشكل علني في المساجد في الحالات العادية وإن كانت موطن شبهة بالنسبة للشباب المسلم. غير أنها في بعض الأحيان تكون خطرا ماحقا على الشخص الذي لم تتحدد هويته بعد. إن الصلاة تعني الانتماء إلى الإسلام. والذي يحافظ على صلاة الجماعة مظنة خطر. ومع هذا فنرى أنه لا مندوحة عن صلاة الجماعة لكل أخ مسلم. إلا إذا كان غير منكشف الهوية حيث إنه يؤدي دورا معينا في صفوف العدو. أما إذا لم يكن كذلك، وفي طور جهرية الدعوة. فلا حرج في ذلك، إذا لم تؤد الصلاة إلى خطر أكيد على نفسه وروحه. فالخوف عذر من الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة. وفي هذه الحالة يمكن اللجوء إلى الطريقة التي نحن بصددها وهي صلاة الجماعة في غير المسجد، وفي الأماكن التي ليست هي مظنة شبهة عبادة. كما يمكن أن تؤدى في مراكز تجمع الإخوة الدعاة إلى الله. لقد لاحظنا في مرحلة الدعوة وسرية التنظيم، أنه لا بد من الصلاة، ولكن بصورة فردية وسرية، أما في هذه المرحلة؛ مرحلة جهرية الدعوة وسرية التنظيم. فلا بد من الصلات بصورة جماعيه في المساجد، وحين ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ص 17 ج 1.

السمة التاسعة التركيز على الجانب الروحي

تصبح الصلاة في المساجد موطن خطر على النفس أو الروح أو المال. فيمكن أن تتم صلاة جماعية مصغرة في أماكن لقاءات الإخوة. إنه لا بد من الصلاة التي تصل الإنسان بخالقه، ولا خير في دين لا صلاة فيه (¬1) - كما يقول عليه الصلاة والسلام، وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة (¬2). السمة التاسعة التركيز على الجانب الروحي فلا شيء أكبر أثرا في النفس في مرحلة البناء من التركيز على العبادة والطاعة والنوافل. فهي التي تصل القلب بالله، وتجعله أكبر من المحنة، وأعصى على الفتنة، وأثبت على الحق. إنها مرحلة العبادة والتبتل وقيام الليل وناشئته. فقد روى البزار عن محمد بن عقيل بن جابر قال: اجتمعت قرش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل أسما يصد الناس عنه فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر. فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فتزمل في ثيابه وتدثر فيها، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا أيها المزمل، يا أيها المدثر .. (¬3). كما روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قولها: إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا ¬

(¬1) ابن هشام، وفد ثقيف ج 4/ 137. دار الجيل. (¬2) رواه مسلم. (¬3) مختصر تفسير ابن كثير سورة المزمل ج 3 ص 562.

بعد فريضة (¬1) .. وقيام الليل المفروض في البدء هو دورة تدريبية عنيفة على الالتزام والطاعة لأمر الله عز وجل استمر عاما كاملا. كما وجه القرآن الكريم: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا (¬2)}. فالليل كله إلا قليل منه واجب القيام. وقيام الليل ليس هدفا لذاته، وما يفعل الله بعذاب عباده من شيء. ولكنها التربية الإيمانية على الصلة الوثيقة بالله عز وجل. فهو وسيلة للقربى من الله تعالى. وسيلة لذكر الله والتبتل إليه والتوكل عليه. {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا .. (¬3)} وذكر الله تعالى والتبتل إليه والتوكل عليه والعبادة له هي السلاح الوحيد في المعركة. هو الذي يمد المؤمنين بالصبر على البلاء، وتحمل الأذى، والإغضاء عن الإهانة، هو السلاح الوحيد في هذه المرحلة، التي لم يسمح فيها بالمواجهة المباشرة. {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا .. (¬4)}. فما أحوج الدعاة إلى الله وهم يحملون لواء الدعوة إلى الله، ويلقون في سبيلها الأذى والاضطهاد إلى هذا السلاح الوحيد الذي يثبت أقدامهم، ويثبت قلوبهم. وإن الحركة الإسلامية ما لم تعنى في مثل هذه المرحلة بهذا الجانب العبادي، الجانب الروحي، وقيام الليل المتصل ¬

(¬1) مختصر تفسير ابن كثير سورة المزمل ج 3 ص 564. (¬2) سورة المزمل الآية 1 - 7. (¬3) المزمل الآية 8 - 9. (¬4) المزمل الآية 9 - 11.

الدؤوب، والدورات المتكررة على الإحياء المستمر، فستجد جنودها يسقطون واحدا تلو الآخر. وينهارون تحت وقع المحنة. ولا بد من الإشارة إلى أن قيام الليل يبقى أمرا نظريا غير قابل للتطبيق. ما لم يكن رصيد الأخ الداعية عظيما من حفظ القرآن. إذ أن الأخ الذي لا يملك من القرآن إلا بضع آيات يكررها في صلاته كيف يقوم الليل وكيف يتحرك قلبه بالخشوع؟! وكيف يجد لذة الطاعة والعبادة ولم تخالط لذة القرآن بشاشة قلبه، وصار القرآن ملء حياته وروحه وسمعه وبصره، ما إن يصف قدميه للعبادة في سيل الله. حتى يفتح معين القرآن المتفجر من قلبه. فيتلو ما شاء الله أن يتلو، ويعيش في جوه من الترغيب والترهيب، ويقف عند حكمه وأحكامه. في المدة الأخيرة لقد أصبح قيام الليل عند كثير من شبابنا المسلم مناسبة شهرية أو موسمية أو سنوية، وحين يتم، ففي سور محددة. معدودة يتعاون مجموع الشباب فيها حتى يؤدوها تلاوة وعبادة. إن المنهج الذي يجب أن يتربى الشباب عليه في أول الطريق هو المنهج القرآني - كما ذكرنا من قبل - فلا يكفي أن يكون القرآن هو محور المنهج كله، ومحور الثقافة المقدمة للأخ فقط. بل لا بد كذلك من أن يكون حفظ القرآن هدفا رئيسيا من أهداف المنهج، وخاصة الفتيان والفتيات القادرين على الحفظ في سنهم المبكرة. إن منهج التربية الحركي الذي تضعه الجماعة لا بد أن ينتهي بالشاب المسلم وقد حفظ الكثير من القرآن في سن العشرين، ليكون زاده في الطاعة والتنقل والتهجد وناشئة الليل، وعندئذ يعرف لذة العبادة، ولذة الطاعة، ولذة القيام، يذوق لذة الذكر ولذة التوكل. كما أن المنهج التربوي في هذه المرحلة لا بد أن يركز على ذكر الله عز وجل، على التهليل والتكبير، والتحميد والتسبيح، على الصلوات على النبي - صلى الله عليه وسلم -، على الأوراد المأثورة وعلى الأذكار المطلقة التي لا تنقطع ليل نهار: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا}.

السمة العاشرة الدفاع عن النفس عند الضرورة

إن الشاب المسلم الذي يمضي مراهقته وفتوته - هائما بالعبادة والطاعة، مواظبا على تلاوة القرآن، ناصبا قدميه في الليل في طاعة الله، يذكر الله خاليا فتفيض عيناه، قلبه معلق بالمساجد مستغرق في الأذكار المطلقة والمأثورة يئز قلبه أزيزا بالقرآن في جوف الليل كأزيز النحل، طبع القرآن في قلبه وفكره، هو الشاب النموذج الذي يجب أن تحرص الحركة الإسلامية على بنائه، وما لم تعط هذا الأمر حقه من العناية، فسيكون البناء هشا ينهار تحت الضربات الأولى للطاغوت. هذا هو منهج البناء الأول. من خلال سورة المزمل. وتكون حرارة المواجهة مع الطاغية تذوب أمام حرارة العبادة والتبتل لله، والثقة بنصر الله وانتقامه من الكافرين. {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ... (¬1)}. السمة العاشرة الدفاع عن النفس عند الضرورة فإذا كان العدو يريد أن يؤذي المسلمين، وكان بإمكان المسلم أن يرد هذا الاعتداء عن نفسه فلا ضير في ذلك، وخاصة حين يكون الأذى منصبا على الجسد. يؤكد هذا المعنى ما ورد عن سعد رضي الله عنه في قصة الصلاة في الشعاب الآنفة الذكر (.. فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون. فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب ¬

(¬1) سورة المزمل الآية 10 - 14.

سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بلحي بعير فشجه. فكان أول دم هريق في الإسلام) (¬1). وكذلك قصة عثمان بن مظعون يوم عاد من الحبشة، ودخل في جوار الوليد بن المغيرة، ثم ترك جواره إلى جوار الله، ورد على الشاعر لبيد مقالته. فثار الناس إليه وضربهم وضربوه حتى اخضرت عينه من الضرب (¬2). ولعلي أؤكد معنى في ذلك هو ما ورد في قصة إسلام عمر بن الخطاب من أنه مكث يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم (¬3). لكن هذا الأمر لم يكن على إطلاقه. فلم يكن يقدر على هذا الأمر إلا من كان ذا شكيمة قوية ومنعة من قومه. أما الضعفاء فلم يتمكنوا من هذا الموقف. ونفقه من هذه السمة أن رجال الحركة الإسلامية ليسوا على مستوى واحد في المواجهة، فيمكن أن يكون فيهم الممتنع بقوته أو عشيرته أو مركزه. ويمكن لأمثال هؤلاء أن يتحملوا المواجهة ويواجهوا الاعتداء بالمثل. كما أكد القرآن الكريم في وصفهم في معرض الئناء عليهم: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (¬4)}. ولرد الاعتداء دور إيجابي في رفع معنويات العامة، الذين يقدرون القوة ويعجبون بها بل في ذلك تشجيع لهم للانضمام إلى صف الدعوة تأثرا بمثل هذه المواقف. فجواب عثمان بن مظعون للوليد بن المغيرة يدل على مدى الثقة النفسية العميقة لديه: (إنني في جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس، وإن عيني ¬

(¬1) تهذيب السيرة لابن هشام ص 57. (¬2) ذكر ابن هشام الحادثة في السيرة ج 2 ص 9 و 10. (¬3) امباركفوري في الرحيق المختوم ص 120 عن ابن الجوزي ص 8. (¬4) سورة الشورى الآية 39.

السمة الحادية عشرة تحمل الأذى والاضطهاد في سبيل الله

الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله (¬1)). لكن لا بد من الملاحظة أن هذا الدفاع لا يأخذ أبدا طابع التحرش والاعتداء. أو طابع الاستفزاز إنما كان محدودا بأطر رد الاعتداء على الحقوق المشروعة للإنسان العادي في كل مجتمع. لضمان حق العقيدة وحق العبادة الشخصي، والذي يؤذي المسلم في هذا الحق يرد أذاه عنه. السمة الحادية عشرة تحمل الأذى والاضطهاد في سبيل الله فلقد انكفأت كل قبيلة على أبنائها ومواليها تذيقهم ألوان العذاب وصنوف لتصرفهم عن دين الله وتصدهم عنه ونذكر بعض النماذج في ذلك: (كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال والجاه، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به. وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته. ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشا فتخشف جلده تخشف الحية. وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، حتى يظهر أثر الحبل في عنقه، وكان أمية يشده شدا ثم يضربه بالعصا، وكان يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع، وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول؛ لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 2 ص 10.

تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى فيقول وهو في ذلك أحد أحد، حتى مر به أبو بكر يوما وهم يصنعون به ذلك فاشتراه بغلام أسود، وقيل بسبع أواق أو بخمس من الفضة وأعتقه. وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون - وعلى رأسهم أبو جهل - يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها، ومر بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يعذبون فقال: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة، فمات ياسر من العذاب، وطعن أبو جهل - سمية أم عمار - في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر أحمر على صدره أخرى، وبالتغريق أخرى، وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا، أو تقول في اللات والعزى خيرا ... وكان أبو فكيهة - واسمه أفلح - مولى لبني عبد الدار. فكانوا يشدون في رجله الحبل، ثم يجرونه على الأرض. وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية، فكان المشركون يذيقونه أنواعا من التنكيل، يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذبا، ويلوون عنقه تلوية عنيفة، وأضجعوه مرات عديدة على فحام ملتهبة، ثم وضعوا عليه حجرا حتى لا يستطيع أن يقوم. وكانت زنيرة والنهدية وابنتها وأم عبيس إماء أسلمن وكان المشركون يسومونهن من العذاب أمثال ما ذكرنا. وأسلمت جارية لبني مؤمل - وهم حي من بني عدي - فكان عمر بن الخطاب - وهو يومئذ مشرك - يضربها حتى إذا مل قال: إني لم أتركك إلا ملالة. وابتاع أبو بكر هذه الجواري فاعتقهن، كما أعتق بلالا وعامرا بن فهيرة. وكان المشركون يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر، ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضا آخر درعا من الحديد، ثم يلقونه على صخرة ملتهبة.

السمة الثانية عشرة السماح للضعفاء في إظهار تغيير دينهم

وقائمة المعذبين في الله طويلة مؤلمة جدا، فما من أحد علموا بإسلامه إلا تصدوا له وآذوه (¬1)). وما ذكره هذا العلامة غني عن أي تعليق. السمة الثانية عشرة السماح للضعفاء في إظهار تغيير دينهم فعن سعيد بن جبير قال: (قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله. إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: هذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. افتداء منهم مما يبلغون من جهذه (¬2). وما روي عن عمار رضي الله عنه حين كانوا يعذبونه بالحر تارة، وبوضع الصخر أحمر على صدره أخرى، وبالتفريق، وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا أو تقول في اللات والعزى خيرا، فوافقهم على ذلك مكرها، وجاء باكيا معتذرا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان (¬3)}. وهكذا نرى أن الأمر متفاوت بين السمة السابقة وهذه السمة، فالسابقة تحدثنا عن الذين استشهدوا تحت التعذيب. بينما تحدثثا هذه السمة عن الذين اضطروا للتظاهر بالتراجع عن الدين، وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار ¬

(¬1) أورد هذه النماذج جميعا المباركفرري في كتابه - الرحيق المختوم - ص 101 - 104. نقلا عن مصادر متعددة من الحديث والسيرة. (¬2) تهذيب السيرة النبوية لابن هشام ص 72. (¬3) سورة النحل الآية 106.

السمة الثالثة عشرة محاولة إنقاذ المستضعفين بكل الوسائل الممكنة

وهو يقص عليه التعذيب الذي لاقاه: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان. قال: إن عادوا فعد. وتفاوت المسويات إذن ممكن في الحركة الإسلامية بين الصبر على التعذيب حتى الموت الذي يمثل العزيمة، وبين التظاهر بالكفر الذي يمثل الرخصة. وإن كان الموقفان جائزين، غير أن الصبر على البلاء وتحمل الأذى، ولو أدى إلى الاستشهاد في سبيل الله أفضل عند الله وأكرم. ويتعين أحيانا طريق العزيمة حين يكون الداعية ذا مركز خطير في مجتمعه، أو بمثابة القدوة يعرف الإسلام من خلاله. لأن تراجعه يضعف ثقة الناس بهذه العقيدة ويزلزل الضعفاء فيتراجعون خوفا وخورا، ولا شيء أشد أثرا في يقين الناس وفي نفوسهم من ثبات الرجال على عقائدهم. لكننا لا نقيم النكير على من تراجع تحت وطأة التعذيب. بل نجد له عذرا وقسمة في ذلك. السمة الثالثة عشرة محاولة إنقاذ المستضعفين بكل الوسائل الممكنة فلقد كانت المحاولة الأولى في العتق للموالي والعبيد. وكان الذي يحمل عبء هذه المحاولة أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فلقد كان الثري الوحيد في صفوف المسلمين (فلقد أعتق على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب بلال سابعهم: عامر بن فهيرة وأم عبيس وزنيرة - وأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعرى! فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى وما تنفعان! فرد الله بصرها - وأعتق النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار. فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا! فقال أبو بكر: حل يا أم فلان! فقالت: حل أنت أفسدتهما فأعتقهما. قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها قالتا:

أو نفرغ يا أبا بكر ثم نرده إليها، قال: ذلك إن شئتما. ومر بجارية بني مؤمل، وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها - فابتاعها أبو بكر فأعتقها - قال أبو قحافة لأبي بكر: يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك! فقال أبو بكر: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل. وكان هذا التكامل الاجتماعي بين أفراد التجمع الإسلامي قمة من قمم المواساة الإنسانية. فلقد رفع الإسلام كرامة هؤلاء العبيد. بعد أن كانوا متاعا من المتاع. بل كان المتاع أكرم منهم. والبهيمة أشد إكراما منهم. جاء الإسلام فرد عليهم إنسانيتهم وآدميتهم، وأصبحوا بالإسلام أصحاب عقيدة وفكرة. يناقشون بها، وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، ويتعذبون من أجلها، وكان إقدام أبي بكر رضي الله عنه على شرائهم ثم إعتاقهم دليلا على عظمة هذا الدين ومدى تغلغله في نفسية الصديق رضوان الله عليه. لقد أحس العبيد والموالي من أبناء هذا الدين الجديد أنهم أسرة واحدة وبيت واحد. يحمل غنيهم فقيرهم، ويؤثر سيدهم عبدهم. فحق له رضي الله عنه أن يأتيه الئناء من فوق سبع سموات. {وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى (¬1)}. وما أحوج الحركة الإسلامية اليوم إلى أن تحيا هذا الواقع الأرفع، وتعيش هذه المشاعر السامية. ويكون أبناؤها من التعايش والتلاحم والتعاضد حيث يحس المسلم أنه ابن لهذه الأسرة. هي أكبر عنده من أبيه وأمه وأخيه وأخته وزوجه .. وما نشهذه اليوم من التكافل بين المجاهدين الإسلاميين والموسرين في الحركة الإسلامية الواحدة، وحمل الأرامل والثكالى والمشردين، وأزواج المعتقلين، وعائلاتهم لتعيد لنا هذه الصورة الصديقية الأولى. وما تقدم عليه النسوة وهن يتبرعن بحليهن وأموالهن لغوث المنكوبين والمنكوبات ¬

(¬1) سورة الليل الآية 17 - 21.

السمة الرابعة عشرة الطريق الثانية للحماية عن طريق الهجرة

لدليل أصيل على عظمة هذا الدين الذي يجعل أبناءه أسرة واحدة، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. السمة الرابعة عشرة الطريق الثانية للحماية عن طريق الهجرة فالبقاء بين براثن الشرك حتى يتمكن الشرك من إبادة المسلمين عملية خرقاء. صحيح أن الجندي يتحتم عليه أن يتحلى بالصبر، ويتقبل المصيبة بصدر رحب ويثبت على دينه، لكن مهمة القيادة الأساسية هي حماية جنودها من الخطر، غير أن هذه الحماية لا تكون على حساب العقيدة أو الشريعة، في هذا الإطار تتحرك القيادة، ومن أجل هذا نرى سيد القادة محمدا عليه الصلاة والسلام يبحث في الأرض كلها عن مكان آمن. ولا تستطيع يد الشرك أن تطاله. وكان هذا المكان هو أرض الحبشة. فقد روى ابن هشام عن ابن إسحاق في السيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للمسلمين: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق. حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الحبشة مخافة الفتة وفرارا إلى الله بدينهم. فكانت أول هجرة كانت في الإسلام) (¬1). (... وكان خروجهم في رجب من السنة الخامسة من المبعث. فأقاموا بالحبشة شعبان ورمضان. وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر فلم يدركوا منهم أحدا، ثم رجعوا إلى مكة في شوال لما بلغهم أن قريشا صافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفوا عنه ... ¬

(¬1) تهذيب السيرة لابن هشام ص 72.

ولما استمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سب آلهتهم عادوا إلى شر ما كانوا عليه، وازدادوا شدة على من أسلم. فلما قرب مهاجرة الحبشة من مكة وبلغهم أمرهم توقفوا عن الدخول، ثم دخل كل رجل في جوار رجل من قريش. ثم اشتد عليهم البلاء والتعذيب من قريش، وسطت عليهم عشائرهم، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره، فأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية فخرجوا. فكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب، فكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلا إن كان فيهم عمار بن ياسر فإنه يشك فيه، قاله ابن إسحاق. ومن النساء تسع عشرة امرأة ... (¬1)). وهكذا نجد أن الثقل الكبير للمسلمين قد انتقل إلى الحبشة فأن يغادر مكة ثلاثة وثمانون رجلا وتسع عشرة امرأة يعني هذا أن قوة ضخمة وتجمعا كبيرا قد قام في قطر آخر وبعيد عن مكة وعن متناول يدها يستطيع أن ينتشر ويتضخم ويهدد وجود مكة ذاتها. وهذا المنطلق لم يكن ليغيب عن ذهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو البحث عن قاعدة صلبة ومكان آمن آخر للدعوة غير مكة. حيث لا تستطيع قريش مهما بلغ من عتوها أن تنهي الوجود الإسلامي في الأرض، وهذا ما يحسن أن تنتبه الحركة الإسلامية إليه في تخطيطها حيث لا تضع كل طاقاتها البشرية والمادية في أرض واحدة، تكون معرضة فيها للإبادة، بل تعدد أماكن تجمعها وتواجدها، بحيث تستطيع لو فقدت موقعا معينا أن تنتقل إلى موقع ثان تنطلق منه وتواجه الجاهلية من خلاله. ولا شك أن مغادرة الشباب الإسلامي مواقعه وأماكنه إلى أرض جديدة، يعاني فيها آلام الغربة والوحشة عن الأهل والوطن، هو أمر صعب وتضحية كبيرة. لا تتحقق إلا إذا كان هذا الشباب على مستوى من الإيمان العظيم يتجاوز به هذه العقبات. وأن تكون عقيدته وحبه لها أكبر من حبه ¬

(¬1) السيرة النبوية لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 82.

لوطنه، وحنينه لقومه، وارتباطه بأرضه. أن تكون رابطة العقيدة أعمق غورا في نفسه، وأشد أثرا في قلبه من أية رابطة أخرى مهما سمت وارتفعت. {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من اللهد ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (¬1)}. وخاصة أن الهجرة لهذه الأرض النائية، والمعيشة بين قوم غير قومهم يتكلمون بلغة غير لغتهم، ولهم عادات وتقاليد ودين غير عاداتهم ودينهم وتقاليدهم هي أشق على النفس وأقسى على الروح. فما لم يكن جنود الحركة الإسلامية على المستوى المذكور من الإيمان، فلن تنجح القيادة في تنفيذ خطتها ومخططاتها. إنه لا بد أن يتربى الشباب المسلم على أن تكون عقيدته أغلى عليه من كل شيء في حياته، وأن يكون ارتباطه بدينه أقوى من أية رابطة أخرى من أهل أو زوج أو ولد أو عشيرة أو أرض أو مال أو وطن أو مصلحة. وهذا المستوى الإيماني العظيم هو الذي جعل هذه الأعداد الكبيرة تهاجر إلى هذه الأرض النائية البعيدة. إننا ونحن اليوم في القرن العشرين، وفي وسائل المواصلات الضخمة التي اختصرت الأشهر بالساعات، وبالارتباط العالمي القائم في دول الأرض من حيث الاتصال، لو دعينا إلى الهجرة إلى الحبشة لأحسنا بثقل ذلك وصعوبته، ووجدنا من يتلكأ عن الإجابة. وسماعنا بالحبشة بالذات يجعل الوحشة والرهبة هي المسيطرة على كياننا لو دعينا لذلك. فكم يا ترى هو المستوى الإيماني الرفيع لدى تلك العصمة المؤمنة في الأرض، وهم يعرفون الأحباش وينظرون إليهم من على على أنهم عرب أقحاح، وأولئك عجم سود كأن رأس كل منهم زبيبة، كانوا يترفعون عنهم ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية 24.

السمة الخامسة عشرة البحث عن مكان آمن للدعوة وقاعدة جديدة للانطلاق

نسبا وشرفا، وهم يرون في صفوفهم بلال بن رباح الحبشي العبد الأسود؟. إنها لعمر الحق هجرة نادرة في التاريخ. وتعال عن كل قيم الأرض وروابطها في سبيل الله، وحق لهؤلاء أن يقول لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لهم هجرة (أي لمهاجري يثرب) ولكم هجرتان (أي لمهاجري الحبشة). السمة الخامسة عشرة البحث عن مكان آمن للدعوة وقاعدة جديدة للانطلاق وهو هدف آخر من وراء الهجرة إلى الحبشة غير هدف الحماية لجنود الدعوة وأفرادها، وهذا ما أشار إليه صاحب الظلال - سيد قطب - رحمه الله بقوله: (ومن ثم كان بحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح لها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة، وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة .. وهذا في تقديري هو السبب الأهم للهجرة. ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب، لتكون قاعدة للدعوة الجديدة، عدة اتجاهات .. سبقها الاتجاه إلى الحبشة. حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبياتهم - في بيئة قبلية .. ما يعصمهم من الأذى، ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين، منهم جعفر بن أبي طالب - وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة المخزومي، وعثمان بن عفان الأموي ... وغيرهم، وهاجرت نساء كذلك من

أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا، وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش. وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم، فرارا من الجاهلية، تاركين وراءهم كل وشائج القربي، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا، وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة بنت أبي سفيان، زعيم الجاهلية، وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها، ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة. وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة. ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه - كما ورد في روايات صحيحة - (¬1)). هذه اللفتة العظيمة من سيد - رحمه الله - لها من السيرة ما يعضدها ويساندها، وأهم ما يؤكدها في رأيي هو الوضع العام الذي انتهى إليه أمر مهاجرة الحبشة. فلم نعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث في طلب مهاجرة الحبشة حتى مضت هجرة يثرب وبدر وأحد والخندق والحديبية. والمعروف أن عمرو بن أمية الضميري - مبعوث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي - التقى مع عمرو بن العاص عند النجاشي بعد صلح الحديبية، وكان لكل واحد منهما مهمة عند النجاشي، أما عمرو بن العاص فلقد اختار اللجوء السياسي عند النجاشي بعد صلح الحديبية حيث رأى أن مكة ستفتح بين يدي محمد لا محالة بعد الصلح، ولا جدوى من المقاومة. وأما عمرو بن أمية الضميري فلقد كانت مهمته طلب عودة المهاجرين من الحبشة إلى يثرب من النجاشي حيث قد انتهت مهمتهم بعد الصلح. ¬

(¬1) في ظلال القرآن. ط. دار الشروق ص 29.

السمة السادسة عشرة الاستفادة من قوانين المجتمع المشرك - الحماية والجوار-

لقد بقيت يثرب معرضة لاجتياح كاسح من قريش خمس سنوات. وكان آخر هذا الهجوم والاجتياح في الخندق حيث قدم عشرة آلاف مقاتل لاستئصال شأفة المسلمين هناك، وبعد رد الكافرين يغيظهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم (¬1)). فلقد انتهى الخطر في اجتياح المدينة بعد الخندق - كما في النص النبوي الآنف الذكر - وجاء صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ليؤكد هذا المعنى، ويؤكد الاعتراف الرسمي من قريش بدولة المدينة. وحين اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن المدينة قد أصبحت قاعدة أمينة للمسلمين، وانتهى خطر اجتياحها من المشركين. عندئذ بعث في طلب المهاجرين من الحبشة، ولم يعد ثمة ضرورة لهذه القاعدة الاحتياطية التي كان من الممكن أن يلجأ إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو سقطت يثرب في يد العدو. إنه الفقه السياسي الأعظم، والتخطيط النبوي الأعمق من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يمضي في بناء دولة الإسلام. ويدرس كافة الاحتمالات المتوقعة، ويبحث في كل مكان عن الأرض المناسبة لقيام دولة الإسلام أو لحماية العقيدة فيها. وفعلا وصل المهاجرون من الحبشة إلى المدينة فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر فمضوا إليه هناك والتحقوا به ووصلوا بعد فتح خيبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أدري بأيهما أنا اسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر (¬2)). السمة السادسة عشرة الاستفادة من قوانين المجتمع المشرك - الحماية والجوار - لقد كان المجتمع الجاهلي يقيم وزنا كبيرا لهذا القانون، وهو حماية القوي الضعيف. فإذا دخل الضعيف في جوار القوي يتمتع بحمايته التامة، ¬

(¬1) صحيح البخاري ج 2، ص 590. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام ج 4 ص 3.

ويمنع أي اعتداء يقع عليه، ويعطيه حرية التحرك والتفكير ولا يستطيع العدو أن ينال من هذا المستجير. ولو تم ذلك فإن هذا يعني أن حربا تقع بين الفريقين، ومن أجل هذا فالذي يعلن الإجارة، لا بد أن يكون عزيزا منيعا في قومه، قادرا على الحماية، ومدخلا في حسبانه كل المفاجآت الممكنة. ولنتعرض إلى نماذج من هذه الإجارة. لقد كانت الإجارة الأولى في المجتمع المكي هي إجارة أبي طالب لمحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يقول ابن إسحاق: (وحدب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر الله مظهرا لأمره لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش أن رسول الله لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، من فراتهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه؟ فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا. وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شري الأمر بينه وبيهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله بينها. فتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا ومنزلة وشرفا فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين. فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا. للذي كانوا قالوا له - فابق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله وسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا عم

والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يطهره الله أو أهلك فيه ما تركته!. ثم استعبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي. فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا (¬1)). ونلاحظ هذه الملاحظات الثلاث على هذه الإجارة: 1 - إن قريشا حاولت مع أبي طالب أن يدعو ابن أخيه للكف عن الدعوة لهذا الدين الجديد، وقد فشلت هذه المحاولة وهذا ما نتوقعه ونحن نستفيد من قوانين المجتمع الجاهلي، وهي محاولة استصدار قوانين جديدة تحول دون حرية الدعوة. 2 - لجأت قريش إلى التهديد في المرة الثانية، ونجحت في التأثير على أعصاب أبي طالب، فدعا محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكف عن الدعوة لهذا الدين، لعجزه عن حمايته وهو في هذه الصورة. لكن ثبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحق، مهما كانت عقباته. ثبت أبا طالب ثانية في حمايته. ونفقه من هذا التصرف أن فشل الجاهلية في المرة الأولى - من بعض فئاتها - لضرب الدعوة لا يثنيها عن هذا الطريق، فقد تعيد الكرة ثانية وثالثة، ويقظة الحركة الإسلامية من جهة، وصلابتها من جهة ثانية هما الكفيلان بإحباط محاولات هذه الفئة المعادية، والحركة الإسلامية بحاجة لأن يستفيد من كل تناقضات المجتمع الجاهلي لتجعل بعضه ضد بعض فتستفيد هي من هذه التناقضات. 3 - والاستفادة من العصبية الجاهلية في حماية شباب الدعوة أمر شرعي، فابن العائلة الكبيرة والقبيلة الضخمة الذي يستطيع أن يوظف زعيم هذه العائلة لحمايته لا يعني أنه قد تخلى عن دينه بذلك. واستفادة بعض الدعاة من ضابط كبير في الجيش أو المخابرات، أو وزير متنفذ في دولة، ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 284 - 285.

لا ينقص من عقيدة هذا الداعية ومن دينه شيئا. بل من حق شباب الدعوة في مرحلة الضعف البحث عن سند قوي في الجاهلية يحميهم ويحفظ عليهم حرية عقيدتهم، وحرية الدعوة إليها. ولقد كان لحماية أبي طالب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجارته له ما هيأ له السبل الكافية لنشر الدعوة في قلب مكة، دون أن يتعرض لأذى ماحق يقضي عليه. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما نالتا مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب (¬1)). وهذا لا يعني أن الجاهلية قد وفت بعهذها وذمتها وحفظت جوار أبي طالب خلال هذه السنوات العشر، ولكن من المؤكد أنها أخفقت في محاولاتها خرق هذا العهد، وكان لحماية أبي طالب أثر فعال حال دون وصول الأذى الكبير لرسول الله عليه الصلاة والسلام. ولننتقل إلى صورة ثانية من الحماية. هي صورة إجارة ابن الدغنة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه (ففي الصحيح عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر يوم إلا يأتتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار، بكرة وعشية. فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا إلى أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. فقال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار. ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع أبو بكر، وارتحل معه ابن الدغنة. فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة: فأمر أبا بكر، فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساؤنا وأبناؤنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر. فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 58.

داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فتتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه ويتظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، وقد جاوز ذلك، وابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقرآن فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا، فانهه. فإن أحب على أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفر ذمتك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله (¬1)). 1 - فأبو بكر رضي الله عنه يخرج بوضوح طالبا الأمان في عبادة ربه: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. ويلقاه ابن الدغنة. وهو سيد القارة (¬2)، سيد قبيلة غير قبيلة قريش. فوجد عارا عليه أن يخرج من مكة مثل أبي بكر، الذي تناهت شهرته خارج حدود مكة أنه يكسب المعدوم، ويحمل الكل ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق. وهي نفس الصفات التي عرفت بها خديجة رضي الله عنها نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولم يكتف ابن الدغنة بالمشاركة الوجدانية. بل أعاد أبا بكر ودخل به مكة، وأعلن حمايته على الملأ. إنها حماية غريبة أن يحمي سيد قبيلة ابنا لقبيلة أخرى وفي بيوت القبيلة نفسها ومع ذلك لم تجد قريش فكاكا من ذلك، وأذعنت لجوار ابن الدغنة لأبي بكر، وكانت الحماية على حرية العبادة. ¬

(¬1) مختصر السيرة لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 87 - 88. (¬2) القارة هي القبيلة التي نقض بعض أفرادها العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أحد وغدروا بسرية الرجيع.

2 - غير أن الأمر تطور تطورا آخر، من حرية العبادة إلى حرية الدعوة، وهنا ثارت ثائرة قريش وأرسلت وراء ابن الدغنة تستجير به وتعلن استعدادها لخرق الحماية أما الحدث الجديد الذي فوجئت به، ان يصلي أبو بكر في فناء بيته، فتتقصف عليه النساء ويجتمعن عليه، ويفتن به - وكذلك الولدان - وعجز ابن الدغنة، عن إجراء إجارته على حرية الدعوة، وعندما خير أبو بكر رضي الله عنه، بين حجز حريته عن الدعوة إلى الله، وأن يعيش في ظل ابن الدغنة آمنا قرير العين، وبين أن يدعو ويحمل مسؤولية دعوته، آثر البلاء والدعوة في سبيل الله على الأمان وحرية العبادة، لقد كانت هذه الإجارة أدنى من إجارة أبي طالب، فهناك إذن الإجارة على حرية الدعوة كما كانت إجارة أبي طالب، اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت. وبين إجارة ابن الدغنة على حرية العبادة ارجع واعبد ربك ببلدك. ولقد وجد هذان النموذجان في مكة. من تحميه قوة لإجارة في حرية العبادة وهو الأكثر، ومن تحميه قوة الإجارة في حرية الدعوة وهو نادر، بل نكاد نقول أنه خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكما رأينا محاولات قريش في ضرب هذه الإجارة وفشلها في ذلك. ونخلص من هذا إلى أن الاستفادة من قوانين الجاهلية أمر مشروع إن كان فيه مصلحة للدعوة. وليس هذا طعنا في الدين، وليس هذا احتكار لغير شريعة الله. كما يدور بخلد بعض المتحمسين. ومما يذكر في تاريخ الدعوة المعاصر أن الحكومة المصرية عندما اعتقلت الداعية الإسلامي الكبير محمد قطب عام 66، أقام الإمام الشهيد سيد قطب دعوة على الحكومة المصرية التي خرقت القانون في اعتقاله. ولم يعرف تاريخ الدعوة الحديثة مثل سيد في تحرره من فكرة الحاكمية لغير الله. وهو الذي حمل لواءها في كتبه وفكره وحياته حتى توفاه الله. إن الفقه العظيم لسيد حين يفرق بين القناعة بنظام حكم كافر يسعى إليه، وبين الاستفادة من نظام حكم كافر لحماية الدعوة وشيابها ورجالها. ومن هذا المنطلق نقول وننتبه كذلك إلى: إن الديمقراطية - وهي نظام

السمة السابعة عشرة المحاولة السلبية من العدو في المواجهة

غير إسلامي ابتداء - هي خير للحركة الإسلامية من الديكتاتورية الطاغية، هي مناخ ملائم لتفريخ الدعوة وانتشارها، إنها وهي نظام جاهلي، أجدى على المسلمين من أي نظام جاهلي آخر. وهي تضمن عادة حرية التعبير عن الرأي وحرية العقيدة، أو بتعبير آخر حرية العبادة وحرية الدعوة. والذي يراجع رصيد الحركة الإسلامية المعاصر يلاحظ أنه ما من فترة أعطيت فيها الحرية للأمة إلا وصار الشارع إسلاميا، والجامعة إسلامية، ووصل الإسلام إلى السيطرة على كل مرافق الأمة. وما يكاد الإسلام يصل إلى الحكم عن هذا الطريق إلا ويقوم انقلاب عسكري يكمم الأفواه، ويزج بالناس في المعتقلات والسجون، وتبدأ حمامات الدم لشباب الإسلام. إن كلمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخالدة: (إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد) هي معلم من معالم الحركة الإسلامية، وخطوة أساسية من خطوات هذا المنهج. تعين الحركة على مواجهة المجتمع القائم، وتفتح لها أبواب الانطلاق الإسلامي العظيم للدعوة في سبيل الله. السمة السابعة عشرة المحاولة السلبية من العدو في المواجهة وقد عدد أنواعا منها العلامة المباركفوري نذكرها نقلا عنه: 1 - السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك، قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بتهم هازلة، وشتائم سفيهة ... 2 - تشويه تعاليمه وإثارة الشبهات، وبث الدعايات الكاذبة، ونشر الإيرادات الواهية حول هذه التعاليم، وحول ذاته وشخصيته، والإكثار من كل ذلك بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر دعوته ... 3 - معارضة القرآن بأساطير الأولين، وتشغيل الناس بها عنه .. فلقد ذهب

النضر بن الحارث إلى الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم، واسفنديار. فكان إذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسا للتذكير بالله، والتحذير من نقمته خلفه النضر، يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني. 4 - مساومات حاولوا بها أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق بأن يترك المشركون بعض ما هم عليه، ويترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض ما هو عليه {ودوا لو تدهن فيدهنون} (¬1) و {قل يا أيها الكافرون ... (¬2)} (¬3) وهذه النماذج نذكرها لأنها تتكرر مع الدعوة في كل جيل، والحركة الإسلامية بحاجة إلى التعرف على هذه المحاولات حتى لا يفت في عضد الدعاة وهم ينالون أنواع الحرب النفسية من الاستهزاء والتبكيت والسخرية، يتهمونهم في عقولهم أنهم رجعيون جامدون، ومتعصبون متخلفون، وأنهم ينتمون إلى عصر الجمل وعصر الخيام والصحراء، بل يتهمونهم بالتخلف العقلي، فلهؤلاء الدعاة أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي اتهمه قومه بالجنون، وهو سيد ولد آدم. {ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون (¬4)}. ويتهمونه بالكذب، وهو الذي لم تعرف البشرية له مثيلا في الصدق، وبشهادتهم هم: ما جربنا عليك كذبا. ووسائل الإعلام الجاهلية اليوم تتهم دعاة الإسلام بأنهم متآمرون وبأنهم لا أخلاقيون وبأنهم كاذبون. والنوع الآخر الذي يتلقاه الدعاة من أعدائهم مر تشويه المبادىء، وتقديمه بأسوأ صورة للناس، خاصة ووسائل الإعلام اليوم في كل يوم تقدم سموما حول هذا الدين. وفي أحسن الأحوال يقدمون الإسلام على أنه صالح في مرحلة سابقة من التاريخ، وأنه قدر الأمة العربية فيما مضى، أما اليوم فالعصر عصر القوميات، وعصر الاشتراكية العلمية، وعصر التقدمية ¬

(¬1) القلم / 9. (¬2) سورة الكافرون. (¬3) الرحيق المختوم للمباركفوري باختصار 94 - 96. (¬4) القلم / 1 - 3

السمة الثامنة عشرة المحاولات الإيجابية في الحرب: عمليات الاغتيال والقتل للقيادة

والديمقراطية، وأن الإسلام قد أدى دوره وانتهى من الوجود إنها هي نفس الصيغة السابقة التي تتحدث عن القرآن أنه أساطير الأولين. والمسلمون أحوج ما يكونون إلى الانتباه والحذر إلى هذه الأساليب من الحرب التي تشن عليهم من أعدائهم ليل نهار للنيل من أشخاصهم، والنيل من دعوتهم، والنيل من دينهم وإسلامهم. إن وسائل، الإعلام الرهيبة المعاصرة من صحيفة وإذاعة وتلفاز، من مجلة وكتاب، ومقالة ومسرحية وقصة. كلها تنصب اليوم على الحرب على الإسلام سواء بتجسيد الشر وتمجيده أو بالنيل من الخير وطمسه وتشويه معالمه. يا شباب الدعوة، أنتم المستهدفون، ودينكم المستهدف. فبالصبر والوعي تجهضون هذه الحرب. السمة الثامنة عشرة المحاولات الإيجابية في الحرب: عمليات الاغتيال والقتل للقيادة لقد تعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربع محاولات اغتيال وقتل. كانت الأولى بطلب صريح من قريش من أبي طالب، يطلبون فيه تسليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم: كما روى ابن إسحاق: (ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن الغيرة. فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصرته، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم نقتله، فإنما هو رجل برجل! فقال: والله لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدا ... (¬1)). وكانت المحاولة الثانية محاولة فرعون هذه الأمة أبي جهل بن هشام. كما ¬

(¬1) تهذيب السيرة لابن هشام ص 59.

روى ابن إسحاق كذلك: (يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلس له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني. فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم (¬1) .. وفشلت المحاولة في اليوم الثاني عندما رجع مكفهر الوجه، وقد يبست يداه على الحجر قائلا: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني (¬2) .. وكانت المحاولة الثالثة، محاولة طغاة قريش في قتله، ففي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله (2)؟ وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا، وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئا من غدائره إلا رجع معنا (¬3). وكانت المحاولة الرابعة محاولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه والتي انتهت بإسلامه. وهذه السمة في غنى عن التعليق، إذ يجب أن لا يغيب أبدا عن أذهان الحركة الإسلامية تخطيط العدو الماكر لإبادة القيادة واغتيالها. وما شهده جيلنا المعاصر من اغتيال وإبادة قادة الحركات الإسلامية يعطينا صورة واضحة ¬

(¬1) تهذيب السيرة لابن هشام 68 - 69. (¬2) صحيح البخاري 1 - 544 باب ما لقي رسول الله وأصحابه من المشركين بمكة. (¬3) مختصر السيرة. ص 99.

السمة التاسعة عشرة الجهرية الثانية: إسلام حمزة، إسلام عمر، وإعلان التحدي للمجتمع الجاهلي

عن ذلك. فقد كان اغتيال الشهيد حسن البنا رحمه الله هدفا خطط له الكفر في الأرض، ثم كانت القافلة الثانية من الشهداء، التي تم إعدامها، عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب ثم كانت القافلة الثالثة من الشهداء التي تم إعدامها سيد قطب، وعبد الفتاح إسماعيل، ويوسف هواش. وعمليات التصفيات الجسدية التي تمت على ثرى الشام الطهور لقادة الجهاد فيه. مروان حديد وإبراهيم اليوسف وعبد الستار الزعيم، وكل محاولات الاغتيال التي تمت لقادة الحركة الإسلامية، لتنبىء عن مدى تخطيط العدو لاستئصال هذه الحركة من خلال القضاء على قادتها وزعمائها. السمة التاسعة عشرة الجهرية الثانية: إسلام حمزة، إسلام عمر، وإعلان التحدي للمجتمع الجاهلي وكان التحدي الأول هو إسلام حمزة رضي الله عنه. كما رواه ابن إسحاق عن رجل من أسلم (أن أبا جهل مر برسول الله (ص فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك. ثم انصرف عنه عائدا إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة. فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته قالت: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالسا فآذاه وشتمه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى لم يقف لأحد، معدا لأبي جهل إذا لقيه

أن يوقع به. فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد علي ذلك إن استطعت. فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا (¬1) وزاد غير ابن إسحاق في إسلام حمزة أند قال؛ لما حملني الغضب، وقلت أنا على قوله. أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة فتضرعت إلى الله أن يشرح صدري ويذهب عني الريب، فما استتممت دعائي حتى زال عني الباطل، وامتلأ قلبي يقينا - أو كما قال - فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما كان من أمري. فدعا لي بأن ثبتني الله (¬2). أما عن إسلام عمر فأخرج ابو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس قال: قلت لعمر: لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام. فخرجت فإذا فلان المخزومي فقلت له: أرغبت عن دين آبائك واتبعت دين محمد؟ قال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا مني. قلت: من ذلك؟ قال؛ أختك وختنك, فانطلقت فوجدت همهمة، فدخلت فقلت ما هذا؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس أختي فضربته وأدميته. فقامت إلي فأخذت برأسي فقالت: وقد كان ذلك على رغم أنفك. فاستحيت حين رأيت الدماء، فجلست فقلت أروني هذا الكتاب. قالت إنه لا يمسه إلا المطهرون, فقمت فاغتسلت. فأخرجوا لي صحيفة فيها (بسم الله الرحمن الرحيم) فقلت أسماء طيبة طاهرة {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا} إلى قوله {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} فتعظمت في صدري فقلت: ما أحسن هذا الكلام وأجمله .. فأسلمت. فقلت: أين رسول الله؟ قالت: فإنه في دار الأرقم. فأتيته فضربت الباب فاستجمع القوم، وقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر. قال: وعمر؟! افتحوا له الباب، فإنه إن أقبل قبلناه، ¬

(¬1) و (¬2) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 88 - 89.

وإن أدبر قتلناه. فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فخرج فتشهد عمر. فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، قلت: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قلت: ففيم الاختفاء؟ فخرجنا في صفين: أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر حتى دخلنا المسجد. فنظرت قريش إلي وإلى حمزة فأصابتهم كآبة شديدة، فسماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - الفاروق يومئذ (¬1). وفي رواية أنس عن أبي يعلى والحاكم والبيهقي قال: خرج عمر متقلدا السيف. فلقيه رجل من بني زهرة. تقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا، قال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدا؟ قال ما أراك إلا قد صبوت. قال: أفلا أدلك على العجب؟ إن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك, فمشى عمر فأتاهما وعندهما خباب فلما سمع عمر توارى في البيت ... حتى انتهى إلى قوله: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} فقال عمر: دلوني على محمد. فلما سمع خباب قول عمر خرج فقال: أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله ليلة الخميس: اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام .. فانطلق عمر حتى أتى الدار وعلى بابها حمزة وطلحة وناس، فقال حمزة: هذا عمر إن يرد الله به خيرا يسلم، وإن يكن غير ذلك كان قتله علينا هينا (¬2) ... وروى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عداوة. قلت: أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليه بابه فخرج إلي وقال: أهلا أهلا وسهلا، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به قال، فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به (¬3). وذكر ابن الجوزي مختصرا وابن هشام كذلك: أنه لما أسلم أتى إلى جميل بن معمر الجمحي - وكان أنقل قريش لحديثه - فأخبره أنه أسلم، فنادى جميل بأعلى صوته أن ابن الخطاب قد صبأ. فقال عمر - وهو خلفه -: ¬

(¬1) و (¬2) نقلا عن مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 89 - 91. (¬3) الرحيق المختوم للمباركفوري ص 119.

كذب ولكني قد أسلمت، فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وطلح - أي أعيا - عمر، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا (¬1). وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله. روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: بينما هو - أي عمر - في الدار خائفا إذ جاءه العاص بن وائل السهمي - أبو عمرو - وعليه حلة سبرة وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له؛ ما لك؟ قال؛ زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت، قال: لا سبيل إليك - بعد أن قالها أمنت - فخرج العاص. فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ. قال: لا سبيل إليه، فكر الناس (¬2)، وفي لفظ - والله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه. وكان ابن مسعود يقول: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر (¬3). وعن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأبي به (¬4). وعن عبد الله بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر (¬5). ونود بعد هذا العرض أن نستخلص النقاط التالية: كان إسلام الحمزة وعمر رضي الله عنهما في ذي الحجة من السنة السادسة للنبوة. وقد سبق الحمزة عمر بثلاثة أيام كما ورد في أحدى الروايات السابقة، وذلك في أشد حالات الأزمة حين كانت قريش تخطط لقتل النبي ¬

(¬1) ابن هشام، ج1/ 299. (¬2) المباركفوري عن صحيح البخاري 1/ 545 باب إسلام عمر. (¬3) ابن الجوزي ص 18. (¬4) ابن الجوزي ص 18. (¬5) المباركفوري عن صحيح البخاري 1/ 545، باب إسلام عمر.

- صلى الله عليه وسلم - في أكثر من خطة. ولعل أخطر اصطدام مسلح هو شج الحمزة لأبي جهل، وكان كفيلا أن يشعل حربا في قريش. فأبو جهل سيد أهل الوادي - لا يخلص إليه - وأعز وأكثر هذا الوادي ناديا - كما كان يقول عن نفسه - والحمزة كان أشد قريش شكيمة. وتذكر بعض الروايات أنه لما قام بعض رجال بني مخزوم، قام بعض رجال بني هاشم، وتكهرب الموقف، وكان من الممكن أن تقع مجزرة قد تنتهي باستئصال المسلمين، غير أن الرهبة من شخصية الحمزة، حاول دون ذلك، والمهابة التي له أطفأت الفتنة. ونلاحظ كذلك، أن العصبية الجاهلية المحضة هي التي حركات الحمزة لهذا الموقف، فلم تستطع أعصابه أن تتحمل هذا الاعتداء على ابن أخيه محمد رسول الله، وأخيه من الرضاعة. إن القحة التي بلغتها الجاهلية تجاوزت حدودها، فطف الصاع عند الحمزة، ومضى يشج رأس أبي جهل ولتكن النتائج ما تكون. والجاهلية العاتية يوم تتصور أن ما تنزل من الضربات في صفوف المسلمين لإنهائهم. هي في الحقيقة تحفر قبرها بيديها. لأن جذوة الحق الخامدة في النفوس لا بد أن تتقد وتتهيج لنصرة هؤلاء الصادقين المستضعفين، وهذا ما وقع في حادث إسلام الحمزة، وقدرة الحركة الإسلامية على استغلال الحدث إعلاميا ودعائيا، لها أثر خطير في تحويل المعركة لصالحها ضد الجاهلية. ومن حوادث الحركة الإسلامية المعاصرة نموذجان كبيران يدلان على تحرك هذا الحق في النفوس النموذج الأول، يوم حالت قوات الحكومة المصرية بين الناس وبين جنازة الإمام الشهيد حسن البنا في إرهاب مجرم عنيف. هذا الإرهاب الذي تجاوز الحد وطغى. حدا بزعيم القبط آنذاك أن يتحدى كل طغيان الحكومة ويخترق الصفوف وينضم لأهل الإمام الشهيد فيشارك معهم في تشييع الجازة، وحفظ التاريخ - لمكرم عبيد، الزعيم الخصم - هذا الصنيع. النموذج الثاني، وهو الحدث الذي لم يكن يقل عن إسلام الحمزة في

عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وهو على أثر استشهاد البنا رحمه الله. كان الحدث هو جنون الغرب، وفرحه الطاغي باستشهاد هذا الرائد العظيم، حتى ليبيت القوم سكارى عرابيد فرحا وطربا في فنادق أمريكا، هذا التحدي الطاغي، والاستفزاز الرهيب لمشاعر الكاتب المصري -سيد قطب- كان كفيلا أن يحول هذا الكاتب العادي إلى الصف الإسلامي الإخواني، فيصبح داعية الإسلام العظيم في القرن العشرين، وينصر الله تعالى به هذا الدين. كما نصر هذا الدين بالحمزة من قبل. ويقضيان معا شهيدين على خط واحد. سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر، أمر، فنهاه فقتله. إن طغيان الكفر وتبجحه، وتحديه للإسلام، قد يخرج من صفوف هذا الكفر القوة التي تحمي الإسلام، وتذود عن عرينه، بدافع العصبية أو غيرها. والحركة الإسلامية الواعية هي التي ترصد هذه المواقع بيقظة ووعي، وتستغل الحدث أروع استغلال، وتوظفه لصالحها بدل أن يكون المعول لهدمها، حتى لو سخر لإظهاره الإعلام الكافر، فليس المسلمون هم الذين أججوا جذوة الحمزة، إنما هي المولاة العادية - مولاة ابن جدعان - وقد أحسنت وصف المشهد. فقذفت بنفس الحمزة الهائجة إلى إذلال أبي جهل وتسربله بالدم، وكان من الممكن لهذه الجذوة أن تنطفىء. لولا أن اتصلت بمعين النبوة. واستدت من نوره، فبقيت مشعلا إسلاميا على مدار التاريخ. ونلاحظ كذلك حول إسلام عمر رضي الله عنه أولا: تقييم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأشخاص والرجال. فقد كان دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - يوم الخميس كما رواه الترمذي: (اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام (¬1)). فبالرغم من الحرب العنيفة التي يشنها الرجلان على الإسلام. لم تكن تخفى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقومات الزعامة والقيادة فيهما، وأن وجود أحدهما في الصف الإسلامي يعني قوة هذا الصف واعتزازه، وإن وراء الكفر المتبجح قلوبا لم تصطدم بعد بتيار الإسلام العنيف. ولم تصل لها القوة الكهربية ¬

(¬1) عن مختصر السيرة لمحمدد بن عبد الله بن عبد الوهاب إسلام عمر ص 89.

الضخمة. إنها حين تكون الصدمة قوية قد تغير الكيان كله، وهذا ما وقع في قدر الله - ودفع إلى إسلام عظيم الرجال عمر بن الخطاب. ولا ننسى أبدا ذلك الحوار الذي جرى بين إحدى المسلمات المهاجرات مع زوجها. يقول لها عمر وهو على شركه: إنه الانطلاق يا أم عبد الله. تقول: نعم لقد آذيتمونا وقهرتمونا وأخرجتمونا من بلادنا، فيقول لها: صحبتكم السلامة. ويأتي زوجها فتقص عليه ما رأت من رقة عمر فيقول لها: أوتطمعين أن يسلم عمر؟. والله لن يسلم حتى يسلم حمار الخطاب. ولم يكن هذا اليأس القاتل ليسيطر على نفس هذا الصحابي لولا رؤيته الحرب العنيفة الشرسة التي يشنها عمر على الإسلام. ما أحوج الحركة الإسلامية إلى أن تحسن اصطفاء العظماء، وتكشف من خلف حجب الظلام المتكاثفة المعدن الثمين النفيس لهم. فتدفع بكل طاقاتها وإمكاناتها لاختراق هذه الحجب حتى تمس أسلاك القلب الخامد الخافت، فإذا به ينبعث حيا بنور الإسلام، ينتفض مشرقا بحلاوة الإيمان وروعته. ولعل خروج عمر رضي الله عنه - متوشحا سيفه - قاصدا قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ثأرا لخاله - أبي جهل بن هشام - الذي طعن في كبريائه من حمزة بن عبد الطلب - بطل بني هاشم، فكيف يسكت على الضيم يلحق ببني مخزوم وحلفائهم بني عدي من بني عبد المطلب؟ ما الذي حطم هذه العصبية الكالحة الخانقة. لقد تحطمت على صلابة العقيدة من هذه المرأة العزلاء، فاطمة بنت الخطاب أخته، لقد وجد نفسه صغيرا صغيرا تافها أمام الدم المنفجر من جرح أخته العزلاء من كل شيء. وهي تتحدى شخصه، وتهشم كبرياءه قائلة له: وقد كان ذلك على رغم أنفك. إن قمة العنف والطغيان لدى الطاغية قد تنهزم داخليا وتتحطم وتنهار أمام ثبات المستضعفين على الحق، وجلاد وتضحية المجاهدين في سبيل الله. فلنتيقظ إلى هذا الجانب المهم. ونعرف كم تربح الدعوة ويربح الدعاة حين يثبتون على الحق، كما ثبت

السمة العشرون إعلان التحدي ودور الشخصيات القيادية فيه

أصحاب عيسى بن مريم، حملوا على الخشب ونشروا بالمناشير، ما دون لحمهم وعظامهم، ما صدهم ذلك عن دين الله. السمة العشرون إعلان التحدي ودور الشخصيات القيادية فيه ونلاحظ ثانيا ذلك التحدي الشخصي للجاهلية من عمر رضي الله عنه في ذهابه لخاله أبي جهل وإعلانه إسلامه، وفي بحثه عن جميل بن معمر الجمحي أنقل قريش للخبر لينقل خبر إسلامه للناس وفي مواجهته المشركين وقد سال بهم الوادي يضربهم ويضربونه. إن هذه الشخصية الفذة لا تعرف الحلول الوسطى، ولا يناسبها إلا المواجهة والمجابهة، وهذه هي فطرتها. ولكننا نخطىء كثيرا حين نقيس الناس جميعا بعمر، إن حادثة إسلام عمر فيها شخصية سعيد رضي الله عنه الذي كتم إسلامه عن قومه وهو من العشرة المبشرين، وفيها شخصية خباب رضي الله عنه الذي اختبأ عند سماعه صوت عمر، وهو من السابقين الأولين من المهاجرين. ولم يكن المسلمون يعيبون على خباب وسعيد، أو يتهمونهما بالجبن. فالإندفاع الأعمى وراء شخصية معينة في الإسلام أو حادثة معينة، يعني الحكم الأهوج والأعوج على الناس. فليس كل الشخصيات الإسلامية عمر والحمزة، وليست كلها سعيد وخباب، والإسلام يقبل هذه النماذج جميعا، وكل واحدة منها لها دورها ومسؤوليتها ورسالتها. إن الشخصية الوحيدة التي تصدت لعمر رضي الله عنه هي شخصية الحمزة التي كانت تملك من المؤهلات المكافئة لمواجهة التحدي من عمر. فلا غرو إذن أن يكون لهما الدور الأكبر والحاسم في إنهاء مرحلة معينة وابتداء مرحلة جديدة.

وهذا ما نلاحظه ثالثا. فعندما عرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعلان جهرية العبادة والقيام بتظاهرة علنية جماعية في مكة. ورأى رسول الله أن الظروف غدت مواتية استجاب لرغبة الفاروق رضي الله عنه، وخرج المسلمون في صفين على رأس أحدهما عمر، وعلى رأس الثاني الحمزة، وأعلنا في مكة صوت الإسلام الداوي، ودخلا الكعبة بالمسلمين، ومضى المسلمون في صلاتهم ما بين قائم وراكع وساجد، ولم يكن الأمر عبارة عن حدث عارض. بل كان خطأ جديدا في تاريخ هذه الدعوة كما ذكر ابن مسعود رضي الله عنه: (ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم (¬1) عمر). وقول صهيب بن سنان رضي الله عنه: (لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وظفنا بالبيت وانتصفتا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به (¬2)). وقول عبد الله بن مسعود: (ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر (¬3)). وتشير النصوص - كما أسلفنا إلى أن هذه الخطوة الحاسمة. أعطت حرية الدعوة والعبادة للمسلمين جميعا. وعجز المشركون بعدها أن يحولوا دون ذلك. واستطاعت بعض الشخصيات التي كانت محافظة على سريتها في العبادة والدعوة أن تظهر علانية لا تخاف في الله لومة لائم. وكان إسلام عمر والحمزة منعطفا جديدا من منعطفات الدعوة الإسلامية. إن إسلام الحمزة وعمر رضي الله عنهما هو بمثابة انقلاب عسكري في وقتنا الحاضر، يهيء للدعوة الإسلامية مناخا جديدا للدعوة والعبادة. وهذه النقطة بحاجة إلى أن نقف عندها قليلا لنراعي المرحلية في هذا المنهج الخالد. إننا نجد ثورة عارمة من الشباب الإسلامي اليوم، لو أن انقلابا عسكريا قام وهيأ الحرية المتاحة للدعوة والعبادة. كمرحلة إلى الهدف النهائي - إقامة دولة الإسلام في الأرض - والحكم بشريعة الله عز وجل. ¬

(¬1) و (¬2) و (¬3) الرحيق المختوم للمباركفوري ص 121، نقلا عن مصادر متعددة في الحديث والسيرة ذكر تخريجها من قبل.

لم يستطع الانقلاب الذي قام به حمزة وعمر رضي الله عنهما أن يحقق دولة الإسلام في الأرض. لقد بقيت الأصنام والأوثان، وبقي الخمر والزنا، وبقيت معالم الجاهلية كاملة لم يزل منها معلم واحد، ومع ذلك اعتبر إسلامهما فتحا إسلاميا، وعزة عظيمة. لأنه خطا بالدعوة من مرحلة الخوف والاضطهاد والتعذيب إلى مرحلة العلنية والحرية في العبادة والدعوة، بل سمي عمر رضي الله عنه - فاروقا - من أجل ذلك. إن الشباب المتحمس اليوم يرى في هذه الخطوة تخاذلا وتخليا عن حاكميه الله في الأرض، حيث أنه يقدم الدماء اليوم للوصول إلى هذا الهدف. بل يتهم قيادة الحركة الإسلامية بالتواطؤ، والجهل، والخيانة. لأنها لم تحقق هذا الهدف، إقامة شريعة الله في الأرض. وحين تكون الظروف لا تهيء أكثر من هذه الخطوة على الهدف، تهيئة الجو الملائم لانتشار الدعوة، وانتصارها لتصل إلى الحكم النهائي. يتشنج بعض الشباب، ويثير الحرب على قيادته. بل يتهمها في دينها وعقيدتها. ما أحوجنا إلى أن نتأدب بأدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأدب سيرته، ونلحظ هذه المرحلية المتتالية للوصول إلى الهدف النهائي، والهدف النهائي مرتبط بالقوة والقدرة على تحقيقه، وليس جهلا أو غباء أو انحرافا عن دين الله عز وجل. فقد تكون الحركة الإسلامية غير قادرة على إنهاء الجاهلية كلها من جذورها، بل تقتضي الظروف السياسية والاجتماعية والدولية أن يكون الوصول للحكم من خلال مؤسسات دستورية عن طريق الحرية والانتخابات. ولا تملك القوة العسكرية للمسلمين أكثر من حماية هذه الحرية. لم يقم المسلمون بعد إسلام عمر رضي الله عنه بتكسير الأصنام

والأوثان، ولم يقوموا بإحراق حانات الخمر، ولم يقوموا بتدمير مواخير الزنا، لم يقوموا بشيء من ذلك. إنما قاموا بالدخول إلى الكعبة والصلاة فيها، وحق التجمع حولها، ودعوة الناس للإسلام، وكان هذا نصرا عظيما للإسلام وخطوة على الطريق للهدف النهائي. ما أحوج شبابنا أن يفقهوا هذه المعاني، وأن يتعلموا من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخطوات العملية والأهداف المرحلية للوصول منها إلى الهدف العظيم، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. غير أننا نلاحظ كذلك أن المسلمين لم يشتركوا في حكم مكة مع المشركين لأن الحكم مسؤولية. ولم يقبلوا الحلول الوسطى التي عرضت عليهم. لقد قاد هذا الانقلاب الأمور إلى زيادة في التميز، وزيادة في المفاصلة، وصار المسلمون قادرين على إعلان عباداتهم، وإعلان حقيقة مبادئهم للناس جميعا، بينما لم يكن لهم هذا الحق من قبل، وهذا يعني أن بعض الشباب المسلم لم يكن قادرا قبل إسلام عمر رضي الله عنه على إعلان هويته الإسلامية، ومبادئه الإسلامية، واعتناقه الإسلام، وظفر بهذا الحق بعد ذلك. إنه ما لم يعلن أن الحركة الإسلامية أو الجبهة الإسلامية، هي التي تحكم الأمة فلا ضير من أي مظهر سياسي يحقق مكاسب أكبر وأضخم لهذه الحركة أو هذه الجبهة. إنها لم تصل بعد إلى الحكم، وبالتالي لا تحمل مسؤولية أي خطأ فيه. وفرق بين أن يعلن قادة انقلاب عسكري إسلامية الدولة، فهم مسؤولون عن هذا الإعلان. كما جرى اليوم مثلا في باكستان أو غيرها، والمسؤولية على صدق هؤلاء في ادعائهم أو كذبه ودعوتهم لفريق من الناس أو لكثير منهم في ذلك، وبين أن يعلن أن الحركة الإسلامية هي صاحبة الحكم والمسؤولية عنه، وبالتالي فسوف تحاسب على كل خطوة فيه، وسعيها الحثيث لجعله محل التطبيق الفعلي.

السمة الحادية والعشرون ملاحقة العدو لتجمعات المسلمين وإحباط المسلمين لهذه الملاحقة

السمة الحادية والعشرون ملاحقة العدو لتجمعات المسلمين وإحباط المسلمين لهذه الملاحقة وظهر هذا جليا في الوفد الذي أرسلته قريش للحبشة لملاحقة المسلمين هناك، وتقص علينا أم سلمة رضي الله عنها قصة هذه الملاحقة، حيث نقتطف منها بعض الفقرات: (لما نزلت أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي. أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدو للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص ... ثم أنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة لعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. فغضب النجاشي ثم قال: لاها الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم. فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض؛ ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - كائنا في

ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا، وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيما الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته. وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم! ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة! انطلقا. فوالله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون. قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما

أستأصل به خضراءهم! فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا - لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد! ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟. قالوا نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن! فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم -، يقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرا من ذهب وإني آذيت رجلا منكم! ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردودا عليها ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. قالت: فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه. فوالله ما علمنا حزنا حزنا قط. كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه، وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: أنا. قالوا: فأنت. وكان من أحدث

القوم سنا. فنفخوا له تربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم قالت: فدعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا فقد ظفر النجاشي!. وأهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة: وكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة) (¬1). إنها وثيقة قدمتها لنا أم سلمة من أنفس الوثائق في فن مخاطبة الملوك، والحوار معهم ودحض شبه الأعداء وكشف مخططاتهم. وسنعالج من خلال هذه الوثيقة سمات عدة إضافة إلى السمة الأساسية فيها ألا وهي - ملاحقة تجمعات المسلمين من العدو، وإحباط هذه المخططات من المسلمين. ولعل المشركين عندما ووجهوا بالنكسة الخطيرة التي حلت بهم من جراء إسلام عمر والحمزة رضي الله عنهما فكروا في ضرب هذا التجمع الإسلامي الضخم في الحبشة. وانطلاقا من معلومات السيرة النبوية يلاحظ أن التجمع الإسلامي في الحبشة عند إسلام عمر رضي الله عنه كان ضعف التجمع الإسلامي في مكة. فتذكر الروايات أن عدد المسلمين في مكة يوم أسلم عمر رضي الله عنه لم يكن يتجاوز الأربعين. بينما كان عددهم في الحبشة - كما تذكر الروايات - ثلاثة وثمانين رجلا وتسع عشرة امرأة. فمن الطبيعي إذن أن تخطط قيادة مكة للإطاحة بهذا التجمع الخطير في الحبشة، صحيح أنه بعيد عنها، ولكن نموه يشكل خطرا على مكة. في أي وقت تعود فيه هذه الجالية إلى مكة وتمارس نشاطها ودعوتها، خاصة إذا استطاعت هذه الجالية الكبيرة أن تدخل الأحباش في الإسلام، أو تقنع النجاشي بمهاجمة قريش. ولا تزال ذكرى عام الفيل وغزو الأحباش للكعبة عالقة في أذهانهم، ومن أجل هذا أحكمت الخطة من كل جانب لاسترجاع المسلمين من هناك، وكان وجود ثلاثة عناصر أساسية كافية لنجاح الخطة. ¬

(¬1) تهذيب السيرة لابن هشام من 73 - 77.

الأول: هو الكميات الضخمة من الجلود التي حملها الوفد هدايا معه لكل جهاز الحكم في الحبشة. الثاني: اختيار الوفد على أرفع المستويات في مكة من حيث الحكمة والحنكة والدهاء والذكاء. الثالث: الصداقة الوثيقة بين عمرو بن العاص أحد أعضاء الوفد، والنجاشي ملك الحبشة. وحين يراجع المرء الخطة التي شارك ذكاء عمرو بن العاص في وضعها لا يشك لحظة في نجاحها، ويكفي أن نعلم أن عمرو هو الذي كان داهية المسلمين فيما بعد، وهو الذي أطلق عليه الفاروق عمر رضي الله عنه - أرطبون العرب - في مواجهة داهية الروم الأرطبون. وأهم عنصر في هذه الخطة هو تسليم الهدايا لجهاز الحكم الحبشي كله قبل تسليمها للنجاشي نفسه، والهدف المقصود من ذلك هو ما ذكر في النص نفسه (فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم). إننا ونحن نتحدث عن هذه المطاردة، يمثل في ذهننا محاولات الطاغية الحاقد النصيري في سوريا في مطاردة المجاهدين المسلمين في الأردن والعراق والسعودية وغيرها، ونذكر الخطط الجهنمية الرهيبة التي تدرس على المستوى المحلي والعالمي للضغط على الحكومات المضيفة للمجاهدين المسلمين كي تسلمهم إلى الطواغيت. وكم من المرات جاءت الوفود إثر الوفود كي تستأصل الوجود الإسلامي من هذه الأقطار، وباءت بالفشل الذريع بعد ذلك ونفذت الخطة تماما كما أعدت، وقام البطارقة بدورهم على خير وجه كلفوا به من قريش وكان حديث الوفد القرشي في أعلى مستويات الذكاء. فقد جعلوا المسلمين على دين مرفوض من الفريقين، وبمعنى آخر هو خطر على الفريقين، كما حاولوا أن يستفزوا مشاعر النجاشي في عدم دخول المسلمين في دينه، وأظهروا حرصهم الشديد على مصلحة الحبشة والنجاشي. وآخر معنى من المعاني التي ركز عليها الوفد القرشي هو أن قومهم وأشرافهم أعلم بهم،

السمة الثانية والعشرون عبقرية الوفد الإسلامي في حوار الملوك

وهو معنى هام حرصوا عليه، وذلك حتى لا يجشموا النجاشي عناء السماع لهم. لعلمهم باحتمال فشل خطتهم لو استمع إلى المسلمين. الشيء الوحيد الذي حال دون تنفيذ الخطة وأفسدها على المشركين هو عظمة النجاشي، وأصالة عنصره، وطيب محتده يوم رفض - رغم قرار مستشاريه من البطارقة - الحكم والتسليم قبل أن يسمع من المسلمين. ما أحوجنا ونحن نعمل في الحركة الإسلامية أن نعرف أقدار الرجال وموازينهم. إن بعض الكفار قد يقيضهم الله تعالى ليكونوا حماة للإسلام، وبعضهم قد يكونون على الحياد، وبعضهم يعملون لاستئصال شأفة الإسلام، فهل يجوز للمسلمين أن يعاملوهم جميعا على مستوى واحد؟؟ إنهم لو فعلوا ذلك لكانوا إما أغبياء جهلاء، أو غادرين لؤماء، وكلا هذين الموقفين يبرؤ منهما العنصر الإسلامي الأصيل. وهذا ما سنراه من خلال الحديث عن الجوانب الأخرى في هذه الوثيقة. السمة الثانية والعشرون عبقرية الوفد الإسلامي في حوار الملوك لقد كانت هذه الجالية الإسلامية من الكفاءة والعبقرية ما جعلها تحطم كل أحابيل الأعداء، وفيهم عمرو بن العاص داهية العرب قاطبة. لقد كان الصف الإسلامي في الحبشة يمتاز أول ما يمتاز بالحب والمودة والثقة بين أفراده وكانت الميزة الثانية فيه لجوءه إلى الشورى. (فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ...) فلا يقطع أحد منهم برأي ولا ينفرد فيه عن أخيه. وكانت الميزة الثالثة فيه تقديرهم للكفاءات والطاقات، فاختاروا رجلا منهم ليكون الناطق الرسمي بهم حيث ووجه جعفر رضي الله عنه بالسؤال الأول عن هذا الدين.

لقد استطاع جعفر رضي الله عنه أن يقدم الإسلام بصورة فريدة قلما نجد لها نظيرا في التاريخ. وذلك على أربعة خطوط عامة: الخط الأول: وقد عرض فيه كل مساوىء الجاهلية وعوراتها وقذرها بحيث أصبح هذا الدين الذي يدين به وفد قريش تتقزز منه كل نفس بشرية. وكانت هذه الجولة الأولى التي هدم بها الركن الركين الذي يفيء إليه عمرو بن العاص وصاحبه. ثم انتقل إلى الخط الثاني فعرض فيه في كلمات جامعة مانعة قواعد الإسلام العامة وأسسه التي تستهوي كل حصيف عاقل بله ملك حكيم مجرب محنك. لقد كانت الفرصة مواتية لجعفر كي ينقلب داعية إلى هذا الدين، بعد أن كان الهدف سياسيا بحتا هو المحافظة على الوجود الإسلامي في الحبشة. وبذلك كسب الجولة الثانية في تقريب نفس النجاشي إلى الإسلام. ثم انتقل إلى الخط الثالث فعرض فيه الظلم الماحق الذي نزل بالمسلمين نتيجة تمسكهم بهذا الدين وأبرز وضع المسلمين في صورة قديسين وحواريين. تنزل بهم ضربات المجرمين الوثنيين وهذه الصورة ذات أثر ساحر في نفس النصارى الذين يعيشون مفهوم التضحية والفداء. بل حرروا دينهم إلى صور من المثالية والرهبانية التي ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ما كتبها الله عليهم، وما رعوها حق رعايتها. وبذلك، كسب الجولة الثالثة في كسب قلب النجاشي بعد أن كسب عقله. ويكاد الذي يسمع هذا الكلام يرى أن فوجا جديدا من الحواريين قد حشر بين يدي ملك الأحباش. كما أظهر في الوقت نفسه قريشا في هيئة الطاغية المتجبرة حتى لينفر الملك في قلبه منهم بعد أن نفر منهم في عقله. ثم انتقل إلى الخط الرابع في الئناء الحصيف المتزن على الملك، الذي لا يحمل المبالغة الكاذبة ولا التجاهل المهين، بل وضعه في صورة الأمل والملاذ لهؤلاء المستضعفين. وبذلك كسب الجولة الرابعة، وجعل آخر حديثه يدور

حول المحور النفسي وإثارة الشهامة والرجولة في نفس الملك. كان من الطبيعي بعد هذه العبقرية في العرض، والفذاذة في الأسلوب، أن ينهزم عمرو بن العاص وصاحبه هزيمة منكرة. إن كل النقاط التي أثيرت عن الإسلام هي نقاط التقاء بين النصرانية والإسلام، بينما أغفلت لحد ما نقاط الخلاف. والدبلوماسي والسياسي المسلم هو أحوج ما يكون ليفقه هذه الدروس في المفاوضات. وهي خطوط عامة في أي لقاء أو حوار مع أية جهة أو قيادة سياسية على مستوى القمة. 1 - تفنيد عيوب الجاهلية التي تعادي نظام الجهة المفاوضة، أو لا تتبنى وجهة نظرها على الأقل. 2 - عرض المبادىء، والأسس العامة للإسلام التي يقوم عليها البناء بعد هدم المفاهيم الجاهلية السابقة. 3 - عرض جوانب الظلم والاضطهاد التي يعانيها حملة المبادىء من الطواغيت والظالمين. 4 - عرض الأمل الكبير المنوط بالجهة المفاوضة في رفع هذا الظلم والحيف في ثناء حصيف متزن. 5 - إغفال نقاط الخلاف والإثارة التي يمكن أن تفسد الجو بين السياسي المسلم، والجهة المفاوضة، ثم كان ختام المفاوضات في تلاوة صدر سورة مريم بطلب من النجاشي أن يستمع إلى شيء مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا شيء أحب على قلب النجاشي من أن يسمع صدر صورة مريم العذراء الطاهرة البتول، وأصدر حكمه النهائي بعد هذا كله: (إن هذا والذي جاء به عيسى من مشكاة واحدة). إن وفدا يستطيع أن يبكي ملكا أو رئيسا ويبكي معه كل أعضاء وفده عن صدق وقناعة هو أعلى وفد ينجح في مهمته. بعد أن كانت البداية هي تعرضه للطرد والإبعاد من بلد هذا الملك. وكم هذا الوفد على مستوى من الكفاءة والعبقرية، أن يكسب عقائديا بعد أن كسب سياسيا، ويضم الملك إلى الإسلام؟؟؟.

السمة الثالثة والعشرون لا مساومة على العقيدة

السمة الثالثة والعشرون لا مساومة على العقيدة لقد هزم عمرو في الجولة الأولى شر هزيمة، ولكنه عمرو، فأين دهاؤه، وهو الذي حفظ عنه التاريخ في كلمته التاريخية فيما بعد في تحديد مستويات الدهاة المسلمين. معاوية للمعضلة، وعمرو للبديهة، والمغيرة لكل صغيرة وكبيرة. ولقد قدمت الفكرة عنده منذ الوهلة الأولى، وبينها لإلحاق شر هزيمة منكرة بالمسلمين عبر عنها بقوله لصاحبه: والله لأتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم. حتى لنستمع إلى مشاعر أم المؤمنين رضي الله عنها من الغيظ على عمرو، وحفظ الجميل لصاحبه ابن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا - إن نقطة الخلاف التي تحاشاها المسلمون بذكائهم ونباهتهم هي التي أثارها عمرو عليهم حربا ضروسا لها أوار. لقد بيتها لهم إلى اليوم الثاني حيث قابل النجاشي بقوله: - إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما. إن عمرو قد خطط أن يفتك بهم بنفس السلاح الذي هزموه فيه، بالحديث عن مريم وعيسى بن مريم. وكانت المحنة الجديدة أمام المسلمين، حيث لا مفر لهم من قول الحقيقة التي تحاشوا ذكرها من قبل، لم تعد تجدي العبقرية هنا لأننا أمام أصحاب مبادىء لا تجار سياسة. لأننا أمام دعاة إلى الله، وليس مع دجالين نهازين للفرص حتى يصلوا إلى الحكم، وهنا تقف حدود السياسي على عتبة الداعية، وهذا ما قرره الدعاة المسلمون بعد كل المكاسب التي حققوها. إنهم أمام واقع قد يفقدهم كل هذه المكاسب، والتي منها إسلام النجاشي، والتي منها حرية الدعوة. بل قد يؤدي إلى التنكيل بهم والقضاء عليهم، وتسليمهم إلى عدوهم. كيف يتصرف السياسي المسلم أمام هذه الموازنات؟ أمام هذه الخيارات

السمة الرابعة والعشرون إثارة الحرب في صف حلفاء المسلمين، وفشل هذه المكيدة بالحزم والسرية

الصعبة؟ أن يجد كل ما بناه منهارا في لحظة واحدة، أو يجد الدولة التي يريدها على وشك أن تقوم. ثم يطلب منه أن يضحي بهذا كله من أجل حقيقة عقيدية واحدة. أبدا إما السياسي، وإما المسلم. فلا خيار عندها له إلا الإسلام. انتهى دور العبقرية ولم يكن من بد إلا إعلان العقيدة ولو كانت تغيظ الكثيرين أو تقضي على كل ما حققه المسلمون من مكاسب. قالوا وبلا خلاف: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. لقد حصرهم دهاء عمرو في عبودية عيسى، فلا مناص، لهم من أن يقولوا الحقيقة. ولكن شرف الكلمة، وعظمة التمسك في المبدأ يكون لها من السحر الحلال أحيانا ما يفوق كل دهاقنة السياسة وعباقرة الدبلوماسية، وهذا الذي كان. - والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود - ولئن فشل عمرو في تغيير قلب النجاشي، فلم يفشل في تغيير قلب بطارقته. ونخروا أمام هذه التصريحات، غير أن النجاشي زاد إصرارا على موقفه. - وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم (آمنون) بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم! ما أحب أن لي دبرا (جبلا) من ذهب وأني آذيت رجلا منكم. وانتهى الأمر بتوتر العلاقات بين النجاشي وصاحبه عمرو حتى ليأمر بإعادة الهدايا كلها إليهم. وأنها لتعني في مفهومنا المعاصر على أقل تقدير، قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين مكة والحبشة، وإغلاق السفارات، والاعتراف الرسمي بالوجود الإسلامي في الحبشة. السمة الرابعة والعشرون إثارة الحرب في صف حلفاء المسلمين، وفشل هذه المكيدة بالحزم والسرية لم يغادر عمرو الحبشه - رغم هزيمته النكراء - إلا وقد وضع بذور الحرب الأهلية في صفوف الحبشة حيث انقسمت الحبشة إلى فريقين: فريق مؤيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والوجود الإسلامي وعلى رأسه النجاشي. وفريق

معارض -أو بتعبير أدق- للوجود الإسلامي في الحبشة وعلى رأسه مغامر جديد أو قائد انقلاب، ومن خلفه البطارقة الذين دفنوا غيظهم مؤقتا على المسلمين. ثم ساندوا هذا المغامر، وألبوا الجو ضد النجاشي حتى قامت الثورة عليه. وهنا تطالعنا معان عديدة يجدر الوقوف عندها، ونحن ننهل من معين هذا المنهج تطالعنا مشاعر المسلمين كما تقول أم سلمة رضي الله عنها: - فوالله ما علمنا حزنا حزنا قط كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك. ثم كيف عاشوا على أعصابهم مراحل الحرب كاملة يرصدونها بيقظة وحذر. ويحمل الفتى الزبير - الذي لا يلفت الأنظار لصغر سنه، مسؤولية مراقبة الحرب والمعركة حيث يغامر سابحا إلى الطرف الآخر من النهر، وحين يتم النصر لا يتمالك أن يلوح بثوبه من بعيد فرحا بظفر هذا الكافر - ظاهرا على الأقل - على عدو يريد إبادتهم من الوجود. والمعنى الثاني والثالث نطالعهما من تتمة قصة النجاشي: (وحدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا وخرجوا عليه فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم. فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم. ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة وصغوا له فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: وكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا خير سيرة. قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله. فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه. هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له .. (¬1)). ¬

(¬1) تهذيب مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 87.

فلقد كان من الممكن أن يفقد المسلمون أكبر مركز استراتيجي لهم بعزل النجاشي أو قتله. وكان النجاشي يدرك هذا المعنى، فأقدم بحصافته في بداية الأمر على تهيئة السفن للمسلمين لأنهم هم المقصودون في الأصل. فلو انتصر خصومه فلن تطال يدهم المسلمون، وإن ظفر هو فالأمن والأمان للمسلمين. وكان التصرف االثاني درسا للمسلمين، فالنجاشي لم يعلن إسلامه بعد، ومن الممكن أن تبقى شخصية سريه غير معروفة بإسلامها ليؤمن الحماية للمسلمين، ونحن بحاجة إلى أن نقارن بين الموقفين، أن جعفر لم يقف هذا الموقف، ووقفه النجاشي لماذا أبيح للنجاشي ذلك، ولم يبح لجعفر، رغم أن كلا الشخصين مسلمان. أما جعفر فهو الذي يمثل الإسلام والمسلمين، ومن خلاله يعرف الإسلام وتعرف عقائده. فلا مجال للغمغمة والتخفية، لأن هذا يعني طمس عقيدة الإسلام في نفوس الناس. أما النجاشي فلا يعرف الإسلام بشخصه، ولا يعرف من خلاله، بل هو فرد عادي، الأصل أنه نصراني لا مسلم. فاقتضت المصلحة السياسية أن يبقى محافظا على سريته، ولجأ في اللحظة الحاسمة إلى التورية والإخفاء، وبقي في ذهن شعبه نصرانيا فأخمدت الثورة عليه. هذا الموقف هو الذي يمكن أن نسميه تغطية سياسية لأي جهاد إسلامي. فلو أن ضباطا في جيش يحملون في السر إنتماء إسلاميا لحركة مجاهدة، فليس بالضرورة أن يكشف عن هويتهم، ويعلن إسلامهم طالما أن في إخفاء شخصيتهم مصلحة للإسلام والمسلمين. إن شخصية النجاشي، وشخصية العباس، وشخصية نعيم بن مسعود، هي نماذج إسلامية محتذاة للحركة الإسلامية ومن خلال أدوارها التي تؤديها، يمكن تحقيق حماية أو نصر أو تمكين للمسلمين في الأرض دون حرج تحمله الحركة الإسلامية أو تحمل أوزاره.

السمة الخامسة والعشورن المفاوضات المباشرة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقريش - الحلول السلمية

السمة الخامسة والعشورن المفاوضات المباشرة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقريش - الحلول السلمية وقد أخذت طابعا فرديا، وطابعا جماعيا: أما الطابع الفردي: فقد تم على يد زعيمين يمثلان قوة قريش المتكافئة. الأول الوليد بن المغيرة زعيم بني مخزوم وحلفائها. وأما الثاني فعتبة بن ربيعة زعيم بني أمية وجلفائها. ولندع الطابع الفردي لنقف مع الخطوط العامة للمفاوضات التي تمت بين قيادة قريش، وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة وهم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، والعاصي بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان وأمية بن خلف ومن اجتمع إليهم، قال: اجتمعوا عند غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض، ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فأتهم، فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم فيما كلموه بدءا. وكان عليهم حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد إنا وقد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد سببت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا له - وإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك، وإن كان الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن

رئيا - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بي ما تقولون، ماجئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ماجئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم - أو كما قال .. قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقل ماء، ولا أشد عيشا منا، فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسأله عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بهذا بعثت إليكم، وإنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي فأصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم. قالوا: فإذا لم نفعل هذا فخذ لنفسك: سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وأما لا فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق تلمس المعاش كما نلتمس حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا -. أو كما قال - فإن تقبلوا ماجئتكم به فهو

حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل. قالوا: يا محمد فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك بما تراجعنا به ويخبرك بما هو في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ماجئتنا به، إنه قد بلغنا إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا. ففد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة - وهو ابن عمته عاتكة بنث عبد المطلب فقال له: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تجعل لهم بعض تخوفهم من العذاب فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء ثم ترتقي فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وأيم الله لو فعك ذلك ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله، وانصرف إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان طمع به من قومه حين دعوه (¬1). ¬

(¬1) مختصر السيرة ص 101 - 102.

لعل هذا النص هو من أجمع النصوص التي طرحت القضايا الكبرى التي تم التفاوض عليها بين قيادة مكة وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. خاصة وأن الذين اشتركوا في المفاوضات يمثلون كل زعامة مكة وقياداتها بلا استثناء. فالمطالب تمثل إجماعا من هذه القيادة، وتمثل وجهة نظرهم، وإن المرء ليأسى أن يجد هذا التفكير وقد انعقد عليه إجماعهم. وإن تلخيص عبد الله بن أبي أمية لهذه القضايا هو الذي نعتمده للمناقشة: أولا: الأمور العامة، المال والسيادة والملك. ولم يلجأ إليها القرشيون إلا بعد أن سدت عليهم المنافذ بإسلام عمر والحمزة رضي الله عنهما ووجدوا خطر المسلمين قد استفحل، وأصبح المسلمون يدعون لله جهارا، ويعبدون الله جهارا. فعقد هذا المؤتمر الاستثنائي - إن صح التعبير - لإنهاء المشكلة مع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرسلوا وراءه ليحضر. إن العدو عندما يشتد عليه الضغط والإكراه يلجأ إلى العروض المغرية أما في الأحوال العادية فلا يعبأ بالدعاة والدعوة، بل يستعمل أسلوب الاستهزاء والسخرية والإيداء، ولقد فشلت هذه المحاولات جميعا، وتقدم المد الإسلامي بدخول أضخم شخصيتين في صف محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمام تعاظم هذا المد بدأت قريش أساليب الإغراء مع رسول الله عليه الصلاة والسلام. وهذه هي عقلية الجاهلية التي لا تعرف قيما في هذه الأرض إلا هذه القيم. لأنها في الأصل لا تسعى إلا لذلك، وتحسب أن الدعاة إلى الله مثلها قيما ومبادىء. إن ملة الكفر ورجالاتها، ولو طرحوا ألف مبدأ فهو ستار في الحقيقة للوصول إلى المال والملك والسلطان والسيادة، وفي جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقادة الكفر درس خالد إلى الأبد يحتذيه الدعاة إلى الله، ويتخذونه موقفا ثابتا لأنه دين عندهم، وليس فلتة عابرة. ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم وليست هذه الأمور إذن محل نظر أو دراسة من الحركة الإسلامية، لقد

بت فيها الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إن أي حكم تحت راية كافرة يشترك فيه المسلم من أجل المنصب فقط هو أمر مرفوض. إن البحث في هذه الأمور يتم بعد الاعتراف بالإسلام شرعا وحكما. أما قبل ذلك فلا، ومن أجل هذا رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم ذلك قبل الاعتراف برسالته وبالكتاب المنزل عليه، وتطبيق مبادئه، والاحتكام إليه. ثانيا: الأمور التي سألوها لمعرفة منزلته عند الله عز وجل: هي تسيير الجبال عن مكة وتفجير الأنهار فيها، ثم إحياء الموتى من زعمائهم، ثم مساءلتهم عن رسول الله ليشهدوا له بذلك. أو أن يكون له قصور وجنان، وأن يسقط السماء عليهم كسفا. وإن كان هذا الأمر لا يتكرر بهذه الصيغة اليوم لأنه لا يدعي أحد أنه رسول بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لكنه يعرض من حيث فحواه ومعناه في صيغة أخرى. إن قيادات الكفر تطالب الحركة الإسلامية بأمور تعجيزية هي لا تملكها بالأصل، وتربط إيمانها وانصياعها لها بهذه الأمور. فالماديون ذوو الحس الغليظ يتسترون وراء هذه الأمور لتبرير كفرهم، وما تطرحه المبادىء المادية اليوم - شيوعية كانت أو علمانية - هي الأفكار السابقة، فتضفي عليها ثوبا فلسفيا أو ثوبا علميا لتبرر موقفها الكافر. إنهم يرفضون فكرة الإيمان باليوم الآخر، لأنهم لا يشهدون حياة بعد الموت، ويرفضون فكرة الإيمان بالله لأنهم لا يرونه، ويرفضون فكرة الإسلام كله، لأنه غيبي لا يخضع للتجربة، ويرفضون فكرة الدين كله لأنه مخدر للشعوب. بل يدرسون تاريخ العالم كله، على أن الدين مرتبط بالظلم البشري، ولن يحررهم في واقعهم اليوم. ولن يحقق لهم سعادتهم لأنه يحرم شهواتهم بلا مقابل. هذه المفاهيم العقائدية التي يطرحها الفكر المادي العلماني في وجه الدعاة إلى الله، يجب أن لا تفت في عضدهم، ولا تثني عزائمهم عن الصبر على المناظرة والاستمرار في الحوار، والتركيز على أن القضية أصلا هي قضية إيمان وكفر. وأنها محور الافتراق بين الفريقين.

كما تدلنا هذه المناقشات من طرف آخر على أن القضية عندما تحدد بهذه الصبغة، لن يعدم العدو الافتئات على الحق، ولن يعدم توزيع التهم وتشويه الدعاة بأنهم يتلقون أفكارهم من أعدائهم (ولقد علمنا أن الذي يعلمك هذا رجل باليمامة اسمه الرحمن، ووالله لا نؤمن بالرحمن أبدا) وهم يعلمون مدى كذبهم في هذا الإدعاء، ويرون محمدا - صلى الله عليه وسلم - بين يديهم ليل نهار. ويعرفون مدخله ومخرجه وصلاته، وأعداء الله إذن حين يتهمون الدعاة بالعمالة أو التبعية الفكرية لغيرهم هم أعلم الناس بكذب ادعائهم ودعاواهم. وأخيرا نراهم يعلنون الحرب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يقدم هذه الأمور التعجيزية، (والله لنقاتلنك حتى تهلك أو نهلكنا). ولم يستجب لهذه المطالب. والدعاة إلى الله قد يفاجأون بمثل هذه المواقف. ويحرص العدو على أن يحرجهم أمام الناس إنهم متزمتون متعصبون، يريدون أن يحشروا الإسلام في كل قضية، فما علاقة الإسلام بالسياسة، ويتهمهم - كما نسمع الآن بعض روائح هذا الاتهام - بأنهم يعارضون التفاهم الوطني العام، ويصرون على أن يكونوا وحدهم في الحكم. وتضعف أحيانا نفوس الدعاة أمام هذا الاتهام، ويوجد في صفوفهم من يطالب قيادة الحركة الإسلامية بأن تكون لينة في مواقفها، وأن تبرز روح التقدم والتساهل مع الخصوم، لتثبت للعالم أنها غير متعصبة. إننا في الحقيقة أمام قضيتين يحرص الاتجاه المعادي للإسلام أن يحصرنا بها: القضية الأولى: أنه يقبل أشخاصنا دون فكرنا، يقبلنا شركاء في الحكم، وكأن هذا تسامحا منه وتقديرا وإكراما لنا. القضية الثانية: أنه يقبل منا أفكارا عامة لا تحمل مسحة الإسلام، ولا تنطلق منه، كالحديث العائم عن الحرية والعدالة، وحقوق الشعب، ونصر الضعفاء، وتبني قضايا العمال والفلاحين إلى غير ذلك من الأطر. ولكن مجردة بعيدة عن الإسلام. إنه يقبلنا بهاتين الصيغتين، وإلا فنحن متزمتون متعصبون. ويبرر حربه علينا لوجود هذا التعصب فينا. ونحن بحاجة إلى أن نعي هذه المناورة،

السمة السادسة والعشرون تحييد بعض الشخصيات والبطون نتيجة المفاوضات

ونعي أبعادها، إن القضية عندنا هي قضية حكم الإسلام قبل أن تكون قضية حكم المسلمين. نحن لا نريد الحكم لذواتنا وأشخاصنا، ولا نريد الحكم للجاه والسلطة والنفوذ. إنما نريد الحكم لهذا الدين، لأن يكون الدين كله لله. {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (¬1)}. وهكذا رأينا فشل أضخم مفاوضات وقد حشد لها أضخم الإمكانات في صف قريش. ورفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل الحلول المطروحة لإعادة الائتلاف الوطني في مكة، وإنهاء الخلافات الدينية فيها. وتوحيد الكلمة ولو تحت قيادة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على أن يتخلى عن رسالته وعن دينه. إن الائتلاف على حساب العقيدة مرفوض، والاتفاق على حساب الإسلام مرفوض، ووحدة الصف تحت راية غير الراية الإسلامية مرفوضة كذلك، ونصبر حتى يحكم الله بيننا وبين عدونا وهو أحكم الحاكمين. السمة السادسة والعشرون تحييد بعض الشخصيات والبطون نتيجة المفاوضات بين يدينا المحادثات الخاصة التي تمت بين عتبة بن ربيعة زعيم بني أمية وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والتي قدم فيها نفس العروض السابقة، ولنستمع إلى رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها: (.. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه. قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟. قال: نعم. قال: - فاسمع مني. قال: أفعل. فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (¬2) ...} ثم مضى رسول الله فيها يقرأها عليها، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى ¬

(¬1) سورة الأنفال الآية 39. (¬2) سورة فصلت الآية 1 - 4.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بأنه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكون لقوله الذي سمعت نبأ عظيم. فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله - صلى الله عليه وسلم -اأبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأي فاصنعوا ما بدا لكم (¬1)). لا ندري إن كان هذا الحادث قبل المفاوصات السابقة أو بعده، ولكن الذي يعنينا من الأمر أدب الحوار. وكيف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس يستمع لهذه العروض الهزيلة - بله السخيفة - من عتبة بن ربيعة ولم يقاطعه في حديثه، ولم يشمئز من كلامه بل أكثر من ذلك يفسح له المجال للمتابعة كي يفرغ كل ما في جعبته، ثم يسأله أو قد فرغت؟ ويخاطبه بقوله (يا أبا الوليد). لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحترم خصمه، ويتكلم معه بأدب بالغ، وتقدير جم ويكنيه بكنيته. وبذلك يعلمنا أدب الحوار. وأهم نقطة فيه أن يتسع صدرنا لاستماع وجهة نظر الخصم، مهما كانت وجهة النظر هذه مرفوضة أو مقبولة عندنا، سامية أو منحطة لأننا بذلك نضمن أن يستمع خصمنا لنا، ويتسع صدره لوجهة نظرنا. وما لم نملك هذه الخاصية الهامة، فلن نربح الحوار مع عدونا. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 314.

ثم كانت الخطوة الثانية في المفاوضات تلاوة صدر سورة (فضلت) وهي التي تتناول وضع هؤلاء المشركين وموقفهم من الإسلام، ثم تعرض عقيدة الإسلام - والتوحيد أهم عنصر من عناصرها، ثم الحديث عن قدرة الله تعالى الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام. ثم الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. حيث انتهى الأمر بعتبة أن ناشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالله والرحم أن يكف فكف. صحيح أن عتبة بن ربيعة لم يسلم لكنه هزم نفسيا أمام نصاعة الدعوة وبلاغة القرآن. ومن أجل هذا جاء يعلن أمام قومه .. سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر ولا بالكهانة .. هذا ما عبر به عن إعجابه وذهوله. ثم الدعوة إلى موقف إيجابي من الدعوة: (أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم. وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به): إنها دعوة قريش كلها لإيقاف الحرب ضد محمد - صلى الله عليه وسلم -. مع المبررات الكاملة لذلك وترفض قريش الموقف وتتهم عتبة بأن محمدا سحره. وأمام هذا العداء المستحكم والموقف العنيف معه، أعلن موقفه الصريح: هذا رأي فاصنعوا ما بدا لكم. وانسحب عتبة بن ربيعة من المعركة ضد محمد - صلى الله عليه وسلم -. وانسحب وراءه أكبر تجمع قبلي بعد بني مخزوم هو بنو أمية. واستطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحيد عتبة وبني أمية ويخفف من تكالب الأعداء على دعوة الإسلام. إن مهمة القيادة الإسلامية وهي تخوض الحرب ضد أعداء الإسلام أن تخذل عنها ما استطاعت، أن تمزق العنف الكافر، أن تفتت وحدة صف العدو. فتحيد من تستطيع تحييده، وتضم إلى صفها من تستطيع ضمه، وأن تثير الشكوك والخلافات بين الكافرين. ولا يعتبر هذا وهنا في الدين، ولا مهادنة في دين الله، ولا تساهلا على حساب العقيدة. بل هو عمق سياسي، ونضج دعوي. ما أحرى القواعد أن تفقهه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتنضبط

السمة السابعة والعشرون التجمع القبلي لحماية القيادة (أبو طالب وبنو هاشم وبنو المطلب)

بتوجيه القيادة حين تسكت عن عدو أو تضطر أحيانا للئناء على بعضهم، فهي أدرى بملابسات الحرب السياسية التي تخوضها، وهي أدرى بطبيعة التعامل مع العدو من تهادن ومن تحارب. وهي صاحبة الحق في هذا الأمر، وعلى القواعد الالتزام بخطها السياسي. السمة السابعة والعشرون التجمع القبلي لحماية القيادة (أبو طالب وبنو هاشم وبنو المطلب) قال ابن إسحاق: (ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب. وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني عبد المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله والقيام دونه. فاجتمعوا إليه وقاموا معه إلا ما كان من أبي لهب وولده فإنهم ظاهروا قريشا على قومهم. وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: أنهم أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانية فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني عبد المطلب. فأدخلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله. فمنهم من فعل ذلك حمية، ومنهم من فعل ذلك إيمانا ويقينا (¬1) ..). لم يكن وضع أفراد القبائل واحدا بالنسبة للإسلام. فالقبائل التي تحمل لواء الحرب للإسلام لم تكن تقبل لأفرادها الانتساب للإسلام. لأن هذا إنقاصا لكرامتها كما تتصور. ومن أجل هذا فقد كان أبناؤها يتعرضون لصنوف الأذى والاضطهاد وكانت أحوالهم أشق وأصعب من أحوال أبناء القبائل الضعيفة، وذلك على غير الصورة لدى بني هاشم وبني عبد المطلب ¬

(¬1) نقلا عن مختصر السيرة لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.

الذين كانوا يتبنون حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبالتالي فالذي يسلم فيها يدخل في حماية زعمائها تبعا لأمر رسول الله. ولهذا الموفف كان لا بد من القضاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاجتثاث الفتنة من جذورها، وعلى رواية الزهري أن قريشا اتخذوا هذا الموقف علانية. مما جعل أبا طالب يرى أنه عاجز عن حماية محمد ابن أخيه. لقد أقدم على خطوة حاسمة حيث دعا بني هاشم وبني عبد المطلب ليحملوا مسؤولياتهم كاملة في حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن موقع زعامته لبني هاشم وبني عبد المطلب. استجاب له الجميع لذلك، فحملوا سلاحهم من منطق العزة القبلية والأنفة العشائرية. إننا أمام ظاهرة فريدة أن تقوم قيادة مشركة بقواعدها في حماية قيادة إسلامية وتتحمل مسؤولية هذه الحماية. ولو كانت قد تؤدي إلى فتح معركة وحرب مع الفريق الآخر، وما يمكن أن تقدم هذه القيادة على هذا الموقف لولا المركز الرفيع الذي يتمتع به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبيلته. ولم يقف أبو طالب عند هذا الحد. بل طمع أن ينظم كل بني عبد مناف - على شركهم - إلى حلفه، واعتبر تخلفهم عن نصرة محمد - صلى الله عليه وسلم - مطعنا كبيرا في نخوتهم الجاهلية، إذ يقول: أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر هما أغمرا للقوم في أخويهما ... فقد أصبحا منهم أكفهما صفر (¬1) ونلاحظ هنا أن الحركة الإسلامية قد نالت هذه الحماية دون أن تقدم أي تنازل عن عقيدتها. بل تمت الحماية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو إلى الإسلام، ويسفه أحلام قريش، ويحارب عقيدتها، لقد كانت الحماية لشخصه ولحرية ¬

(¬1) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 92.

دعوته حتى ولو كانت الدعوة ضد معتقدات حماته. وهذا من غرائب ما روى التاريخ. وقد تتكرر هذه الصورة في واقعنا المعاصر في حالتين: الحالة الأولى: أن تتضارب مصالح الجاهلية، فلا يرى فريق منها مجالا لضرب مصلحة الفريق الآخر إلا بحماية الدعاة إلى الله. وهذا ما نجده أحيانا حين تلجأ أمريكا على سبيل المثال إلى إعطاء الحرية للدعاة المسلمين كي يقفوا في وجه النفوذ الشيوعي في منطقة من المناطق وهذه الحالة لا تعني أن يطمئن المسلمون إلى هذه المواقف. بل تعني أن يستفيدوا منها. لأنه ما إن يظهر خطر المد الإسلامي إلا ويتغير الموقف من هذه الدولة أو أزلامها في السلطة. ويحس هذا العدوان الخطر الأكبر هو المد الإسلامي. الحالة الثانية: أن يسود الفكر الديمقراطي حقيقة في أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، ويتحرك المسلمون بالدعوة انطلاقا من هذه القوانين والمبادىء. واستفادة منها في حرية التبليغ. فتضيق الجاهلية ذرعا بهذه الدعوة فتحاول خنقها. فلا عجب أن يوجد فريق من هذه الجاهلية يحمي الدعوة الإسلامية ويساندها طالما أنها لا تتجاوز مجال البيان والكلام. وخاصة إذا كان هذا الفريق يمت بصلة قربى أو مصلحة للمسلمين، وسواء أكانت هذه الحالة أو تلك، فليس للحركة الإسلامية في هذا المجال أن تطمئن لهذه الحماية، بل عليها أن تتحرك في أطر ثلاثة: الإطار الأول: أن تستفيد من هذه الحماية أقصى حدود الاستفادة في التبليغ والبيان. الإطار الثاني: أن تكون يقظة، فلا تقدم مقابل هذه الحماية أي تنازل عن عقيدة أو تراجع عن فكرة لمجاراة هؤلاء الذين يقدمون الحماية أو مجاملتهم. الإطار الثالث: أن تصمت عن النيل منهم وشتمهم بصفتهم كفارا، طالما أنهم يناصرون الدعوة. بل لا غرابة أن ثثني على مواقفهم وتمدح شجاعتهم دون أن يصل الئناء إلى عقيدتهم.

السمة الثامنة والعشرون. الحصار الاقتصادي والمقاطعة العامة لتحطيم الدعوة وحلفائها

السمة الثامنة والعشرون الحصار الاقتصادي والمقاطعة العامة لتحطيم الدعوة وحلفائها وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: .. فلما رأت قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا على بني هاشم وبني عبد المطلب ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدأ ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتل ... وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم إلى أبي طالب ودخلوا معه شعبه، فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا .. وقطعت قريش عنهم الأسواق حتى كان يسمع صوت أبنائهم ونسائهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع، واشتدوا على من أسلم ممن لم يدخل الشعب وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا ... قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أن يأتي بعض فرشهم (¬1)). لقد أصبح قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدفا بحد ذاته لدى المشركين. فهل يغامر الحلفاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتمزيق صف مكة من أجله؟ وإلى أي مدى يسيرون في هذا المضمار؟ وكان الحصار وكانت المقاطعة محك الاختبار. لقد كان الأمر قبل المقاطعة أمرا سهلا وميسورا. فلا تعدو الحماية حمية وأنفة من هذين البطنين أن تتنازل عن رجل من أبنائها لقبائل أخرى. لكن القطيعة والحصار وجها ضربة مجهضة لهذين البطنين وعزلهم عن مكة كلها، وأنزل بهم الجوع والعري ورسم لهم طريق الإبادة. إننا لا نستغرب ¬

(¬1) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 93.

هنا أبدأ موقف المسلمين وصبرهم. فمن خلال العقيدة نجد مفهوم الأجر والثواب يوم القيامة، ونعيم الجنة بعدها كفيلين باستمرار المسلمين على خطهم وثباتهم على محنتهم وابتلائهم. لكن الأمر يختلف تمام الاختلاف بالنسبة للمشركين. فلا بد أن يتساءلوا فيما بينهم. فيم نلقى هذا العذاب؟ وفيم نلقى هذه الإهانة؟ وهذا الجوع والتشرد والخنق؟ والجواب واضح. فالأمر كله من أجل محمد بن عبد الله؟!! لكن التساؤلات الأكثر حرجا ودقة هي: لم لا يرجع محمد عن دينه طالما أن هذا الدين باطل؟!! أو نبقى نسانده وهو يهاجم معتقداتنا، ويسفه أحلامنا، ويسب آلهتنا؟!! وخطر مثل هذه التساؤلات كبير. وأي تفكير سياسي وميزان مصلحي لا يقر أبدا إمكانية استمرار هذين البطنين على هذا الموقف، عندما تنهار مصلحة هذين البطنين. فهل يمكن للقيم الجاهلية أن تثبت أمام ضرب مصالحها بله الإجهاض عليها؟!! لقد أصبحت مكة كلها في خطر مما أدى إلى انقسام مكة إلى معسكرين كبيرين المعسكر الأول يضم المسلمين وبني هاشم وبني المطلب مسلمهم ومشركهم، والمعسكر الثاني يضم المشركين من بقية البطون القرشية. ولا شك أن نظافة الشخصيات الإسلامية، ومركزها المرموق في قبيلتها هما اللذان دفعا لهذا الموقف ولو لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أعلى مستوى من التقدير والاحترام والتعظيم، لما غامر البطنان الكبيران بنو هاشم وبنو المطلب في خوض حرب من أجله. ولقد مثل هذه الصورة لامية أبي طالب الرائعة التي يقول فيها بعد هذا الحدث: ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد حالفوا قوما علينا أضنة ... يعضون غيظا خلفنا بالأنامل صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عقب من تراث المقاول (¬1) وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل (¬2) ثم يقسم بالإيمان المغلظة بالله والبيت، والحجر الأسود، ومقام إبراهيم، ¬

(¬1) كناية عن السيف. (¬2) المقصود أثواب الكعبة وكانت ثيابا حمرا فيها خطوط.

والسعي بين الصفا والمروة وبالشهر الحرام وبموقف عرفات. يقسم بهذا كله ويعوذ به أنه لن يتخلى عن محمد بن عبد الله: كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن إلا أمركم في بلابل كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل (¬1) ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الروايا تحث ذات الصلاصل (¬2) ويعلل سبب إعلانه هذه الحرب، ولماذا اتخذ هذا الموقف مع عشيرته قائلا: وما ترك قوم لا أبا لك سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل (¬3) وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل تلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل ويهاجم بعد هذا بقية بني عبد مناف، من بني أمية وبني نوفل الذين ظاهروا الأعداء عليهم. فإن يستعد فريق من المشركين لخوض معركة مسلحة لحماية فريق من المؤمنين فهذا يعني أن التقدير والحب لهم يفوق كل وصف، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - عند أبي طالب ورهطه زعيم بني هاشم، يفدونه بالمال والروح، بالدم والنساء والأبناء (¬4). والحركة الإسلامية وهي تخوض غمار الجهاد، وتواجه الجاهلية العاتية، لا تعدم أن تجد بعض النماذج والتجمعات والقيادات الجاهلية والقبلية مثل بني هاشم وبني المطلب، وتنطلق من الأعراف والقوانين الجاهلية لحماية هذه الحركة. إن معظم القوانين والدساتير الجاهلية تضع في صلبها حرية الاعتقاد ¬

(¬1) تُبزى محمدا: تُغلبُ عليه. (¬2) الإبل التي تحمل الماء والأسقية. (¬3) الذرب المواكل: هو الذي يتكل على غيره. (¬4) السيرة النبوية لابن هشام 291 - 295 متفرقات.

والكلام للمواطنين، والتى تتبنى الديمقراطية مبدأ سياسيا بغض النظر عمن يمارسها فعلا أو اسما. ومن باب تنفيذ فقرات الدستور، ومن باب حماية القوانين، ومن باب الأعراف السائدة قد تجد الحركة الإسلامية من يساندها، ويحميها، ويرد عنها مؤامرات الإبادة. إن المناخ الديمقراطي هو أنسب الأجواء للحركة الإسلامية، ومن خلالها قد نجد مثلا نواب المجلس يحولون دون تشريع يبرر حظر الحركة الإسلامية، بل يقوم هؤلاء النواب بسن قوانين تضمن حمايتهم. ومثل هذه الظروف تستغلها الحركة الإسلامية ولا تفرط فيها، وتعمل دعوة وجهادا من خلالها. لكن يجب أن لا يغيب عن بال الحركة الإسلامية أبدا أن المناخ الديقراطي حين لا يعدو أحيانا اللفظ والادعاء، لا يجدي عليها شيئا. بل باسمه يمكن أن تباد ويقضى عليها خاصة في دولنا التي يطلقون عليها - دول العالم الثالث. فتحرص الحركة على أن لا تظهر كل أوراقها، اعتمادا على هذا المناخ، عليها أن تبقي رصيدا من أشخاصها وتنظيمها وحركاتها ومراكزها سرا حتى لا يباد لو فكرت الجاهلية بالانقضاض عليها، وقلب ظهر المجن لها. ومن أجل هذا رأينا أن المركز الاحتياطي في الحبشة برجالاته ونشاطه بقي على ما هو عليه، ولم يستدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك المسلمين إلى مكة، بعد هذه الحماية. لأنه يعلم أن هذه الحماية مؤقتة، ويعلم أن الضغوط قد تضطر هذا التجمع للتراجع والخضوع لعنف العدو اللدود. لقد رأينا كل دعاوى الديمقراطية الكاذبة تنهار أمام الإرهاب النصيري الكافر في سورية واستطاع طاغيتها أن ينتزع من مجلس شعبه كله، قرارا يقضي بإعدام كل من ينتمي إلى الإخوان المسلمين. والذين هربوا في المرة الأولى عادوا صاغرين في المرة الثانية وبقوة (البوط العسكري) للتوقيع عليه. ويكاد التاريخ لا يشهد مثيلا لهذا القرار، أن يعدم امرؤ على انتمائه الفكري باسم مجلس يمثل الشعب كله حسب الادعاء.

لكننا هنا أمام صورة مغايرة، أمام فريق من الجاهلية، ضحى بمصالحه واستقراره ووجوده من أجل الإسلام، ولم تكن التضحية يوما أو يومين، بل امتدت ستين وثلاثا. وإني ليأخذ بي العجب وأنا أتخيل هذه الصورة. صورة ذلك المشرك القابع في زواية من زوايا شعب أبي طالب، ويده على سلاحه، يكاد يقتله الجوع، ويفتك بأولاده وزوجه، والأمل مسدود أمامه بلا رجاء، ويسائل نفسه؟ لم ينالني هذا الأذى؟ ويجيب: من أجل محمد، محمد الذي هاجم معتقداتي وآلهتي وديني. ويتساءل: كيف أعرض نفسي للموت من أجله؟ ثم يطرد هذا التساؤل، ويهرب من هذا الخاطر، ويقنع نفسه بموقفه. طالما أن أبا طالب دعاه لهذا المرقف فلن يتراجع عنه ولو أدى إلى موته. نحن إذن أمام جاهلية تؤمن بقيم ثابتة فتضحي بمصالحها واسمترارها ووجودها في سبيل الإسلام. فلا يجوز إذن أن يبلغ بنا التشيخ خدا نتصور فيه أن الجاهلية دائما تنطلق من مصالحها ولا تؤمن بشيء. بل قد تصادف الحركة الإسلامية في مسيرتها بعض هذه النماذج. ويكفي أن ندلل على ذلك من واقع الحركة الإسلامية اليوم وهي تحمل لواء الجهاد ضد الطغيان في سورية. فالأرض التي تتحرك فيها وتأوي إليها وتنطلق منها هي أرض الدول المجاورة. وبعض هذه الدول تعرضت لضغوط عالمية رهيبة لتطرد قيادات الحركة وقواعدها من أرضها فلم تستجب لذلك، لقد تعرضت مصالحها للخطر، وبدأت الدول الكبرى حصارها لها لإجبارها على معاداة الحركة. فلم تفعل ذلك، مع اختلاف المنطلقات الفكرية بينها وبين الحركة. ولا شك أن الحركة الإسلامية ستحفظ إلى الأبد هذه المواقف الكريمة. وتفرق بين من يساندها في محنتها، ويعرض نفسه للخطر من أجلها - برغم الخلاف العقائدي معها - وبين من يتآمر مع عدوها لإبادتها والإجهاز عليها، والمعروف لا يضيع أبدا عند أهل المعروف.

السمة التاسعة والعشرون التفجرات الجاهلية تحطم الحصار والمقاطعة

السمة التاسعة والعشرون التفجرات الجاهلية تحطم الحصار والمقاطعة (ثم بعد ذلك تألف قوم من قريش على نقض تلك الصحيفة، كان أحسنهم غناء فيها هشام بن عمرو بن الحارث - فإنه لقي زهير بن أمية بن المغيرة فعيره بإسلام أخواله (أي تركهم مقاطعين). وكانت أمة عاتكة بنت عبد المطلب، فأجابه زهير إلى نقض الصحيفة، ثم مشى هشام إلى المطعم بن عدي فذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف فأجابه إلى ذلك، ثم مشى إلى البختري بن هشام فقال له مثل ما قال للمطعم بن عدي، ثم مشى إلى زمعة بن الأسود فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم فقال: وهل معي على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم ثم سمى له القوم، واتعدو حطم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة. وقال زهير، أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا على أنديتهم وكذا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم. والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد - كذبت والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة لا نرض ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتم وكذب من قال غير ذلك. نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وتشوور فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد. فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها.

فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم وما كان فيها من اسم الله فلا تأكله (¬1). لقد كان للصمود الإسلامى ثم الصمود القبلي أثر على معسكر الجاهلية والشرك يفوق أثر معركة حامية الوطيس يخوضها المسلمون فينتصرون بها على أعدائهم. وكان هذا الصمود كافيا لتفجير الموقف في مكة. فقد حرك هذا الصمود كل مشاعر الخير الكامنة في صفوف أهلها. لقد تحركت مشاعر القرابة واستنفدت كلها من قبل أصدقاء وأقرباء بني هاشم وبني المطلب. ولم يكتف هؤلاء عند المواقف السلبية، ولم يكتف هؤلاء عند المشاركة الشعورية بل استعد هؤلاء ليقوموا بتحرك إيجابي يعرض حياتهم للخطر، وأن يجابهوا الرأي العام كله بكل ما تحمل هذه المواجهة من مخاطر ومحاذير. واستطاعت هذه العصابة بوحدة كلمتها واستعدادها للفداء أن تغير موقف مكة كلها وتكسر طوق الحصار الاقتصادي وتحطم القيود الاجتماعية، وتعيد الحقوق المغتصبة إلى أصحابها، وتلغي الظلم القائم على المسلمين. والحركة الإسلامية تحتاج في مسارها الطويل إلى فن التعامل مع الجاهلية، بحيث تنتزع منها كل من يمكن أن يساندها وتستفيد من كل من يدعمها ويحفظ لها حريتها، وتستغل كل عناصر الخلاف في صفوف هذه الجاهلية، ولا يتعارض هذا أبدا مع تميزها ومع المفاصلة بينها وبين الحكم الكافر. بل نجد هنا أن المصلحة للحركة الإسلامية هو تحطيم هذه المفاصلة. فليس التفاصل إذن دائما لمصلحة الدعوة والحركة. بل وجدنا الحالة في هذه المرحلة هي القضاء على المفاصلة الاجتماعية. وما فرح المسلمون شيئا فرحهم بالقضاء على هذا الحلف الباغي الظالم. فلقد كان رئيس بني هاشم في مكة يناقشهم في الصحيفة مما يدل على وعيهم لتطورات الموقف. ونرى يقظة هذا المعسكر في الرواية التي روتها السيرة عن الزهري رحمه الله لدى موسى بن عقبة: (إن الله أطلع رسوله على الذي صنع بصحيفتهم فذكر ذلك لعمه فقال: لا والثواقب ما كذبتني فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 16.

أتى المسجد وهو حافل من قريش. فلما رأوهم رأوا أنهم قد خرجوا من شدة الجوع وأتوا ليعطوهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فتكلم أبو طالب فقال: إنه حدث أمر لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحا، فأتوا صحيفتكم، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها، فأتوا معجبين لا يشكون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدفوع إليهم، قالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد قد جعلتموه خطرا لهلكة قومهم. فقال أبو طالب: لأعطينكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم ومحا كل اسم له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم. فإن كان ما قال حقا فوالله لا نسلمه لكم حتى نموث عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد رضينا. ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر. فقالوا: هذا سحر من صاحبكم. فارتكسوا وعادوا لشر مما كانوا عليه. فتكلم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا ومزقت الصحيفة (¬1)). فمع أن أبا طالب غير مسلم. لكن ثقته بصدق ابن أخيه لا حد لها بل استعد لتسليم محمد ليقتل إن لم يصدقه. ومضى يراهن قريشا على ذلك. فهو يبحث عن أية وسيلة لفك هذا الحصار ومع ذلك أصرت قريش على موقفها واعتبرت الأمر من سحر محمد عليه الصلاة والسلام. ولا شك أن هذا الأمر الذي فضح قريشا ببغيها وظلمها، جعل لدى هؤلاء النفر أرضية مناسبة للتحرك ضد الصحيفة. فقدرة الدعاة إلى الله على إيضاح الظلم الواقع عليهم له أثر كبير في كسب قلوب بعض الأعداء وانتصارهم لهم. فإذا أردنا للحركة الإسلامية أن تخترق مصاعب المحنة، فلا بد لها من إعلام مناسب ينفد إلى قلوب أعدائها، ليضطرها إلى الموقف المناسب. ولا بد لها من اليقظة الدائمة لتصل إلى الثغرة الضعيفة في صف خصومها فتنفذ منها، ولقد مثل أبو طالب صورة الحليف الشريف الذي ربط حياته ¬

(¬1) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 96.

السمة الثلاثون دور المرأة في هذه المرحلة جهادا ودعوة وسرية

وحياة قبيلته وحياة بني المطلب بحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فليبق هذا الدرس للحركة الإسلامية رصيدا حيا تنفذ من قلب حلفائها فتدفعهم إلى التضحية من أجل الذود عنها، وتنفذ في صفوف الخصوم فتننتزع منهم كل أثر خير وقلب ينبض برفض الظلم. وخاض أبو طالب معركته الإعلامية فأرسل داليته المشهورة إلى مهاجري الحبشة من المسلمين يزف لهم بشرى النصر: ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا ... على نأيهم والله بالناس أرود (¬1) فيخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله يفسد وشرح لهم حتى الذين ساهموا في نقض الصحيفة أسماء ومواقف وأنسابا. جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا ... على ملأ يهدي لحزم ويرشد (¬2) قضوا أمرهم في ليلهم ثم أصبحوا ... على مهل وسائر الناس وقد هموا رجعوا سهل بن بيضاء راضيا ... وسر أبو بكر بها ومحمد (¬3) السمة الثلاثون دور المرأة في هذه المرحلة جهادا ودعوة وسرية لا بد أن تأخذ المرأة المسلمة دورها في المعركة إلى جانب الرجل. فمعظم الذين هاجروا إلى الحبشة هاجروا مع أزواجهم. ومعظم الذين أسلموا أسلموا مع أزواجهم، ويكفي أن يذكر تاريخ الإسلام باعتزاز أن أول ¬

(¬1) بحرينا: يعني الذين، بالحبشة من المسلمين، وأرود: أرفق. (¬2) الرهط هم الذين نقضوا الصحيفة. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام، ص 17 - 19 متفرقات.

خلق الله إسلاما امرأة، وأول شهيد في الإسلام امرأة فلم تكن المرأة المسلمة إذن بعيدة عن الساحة. بل تلقت بصبر وبطولة آلام العذاب في سبيل الله حتى الجواري والإماء، فالنهدية تلقت العذاب حتى عميت، وسمية تلقت العذاب حتى استشهدت. وفاطمة بنت الخطاب قامت تدفع عن زوجها فلطمت حتى نفر الدم من وجهها، هذا جانب. والجانب الثاني قدرة الوعي والمحافظة على السرية عندها. فعندما أصيب أبو بكر رضي الله عنه وصحا بعد غيبوبة طويلة، دفع أمه إلى أم جميل بنت الخطاب تسألها عن رسول الله. فأنكرت أنها تعرفه أو تعرف أبا بكر. لكنها تصرفت بلباقة من جانب آخر. فهي تريد أن تنقذ الموقف دون أن تفشي سرا. فعرضت على أم أبي بكر أن تمضي معها إلى ابنها فوافقت. وهناك استأذنت أبا بكر رضي الله عنه في الأمر فأذن لها في الجواب، وأشارت إلى أمه الكافرة فأذن لها في الجواب فأجابت، ولا ننسى أنها بقيت محافظة على سرية إسلامها حتى اضطرت لإعلانه يوم صفعها أخوها على إسلامها، واستطاعت بهذا الموقف الشجاع أن تدفع بأخيها إلى الندم ثم إلى الإسلام. ولئن ذكرنا كل نسوة الأرض، فلا بد أن تكون خديجة رضي الله عنها في القمة. فهي التي احتضنت الدعوة والداعية منذ اللحظات الأولى، ووضعت كل ثروتها ومالها تحت تصرف زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصبرت على المقاطعة والفقر وهي سليلة الغنى والثراء، وكان لها فوق هذه الأدوار جميعا موقف المواسي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وموقف المشجع والمثبت. وبقيت ذكراها ماثلة في ذهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حتى ليقفز فرحا حين يسمع صوت أختها هالة، أو صوت صديقات كن يزرنها في حياتها. وحق لرسول الله عليه الصلاة والسلام وللمسلمين أن يطلقوا على العام الذي توفيت فيه خديجة رضوان الله عليها، وتوفي فيه أبو طالب عام الحزن. ما أحوجنا إلى هذه النماذج، وإلى تربية أمثالها في صفوفنا، وإلى دعوة المرأة المسلمة أن تأخذ مكانها الصحيح، وموقعها المناسب من المعركة. وإن

السمة الواحدة والثلاثون المقاومة السلمية

الحركة الإسلإمية اليوم لتفخر بالنماذج من الشهيدات اللاتي جاهدن بالسلاح والمال ضد أعداء الله، وقتلن الأفراد والعشرات وهن في قواعدهن، وسقطن مع أبنائهن وأزواجهن في سبيل الله. والحركة الإسلامية لتفخر بالنساء اللاتي كن يتزوجن من المجاهدين ليشاركن في شرف الجهاد في سبيل الله أو نقل الأخبار والمعلومات بين المجاهدين، أو كشف أوكار السلطة الباغية. كما وتفخر الحركة الإسلامية بالمهاجرات في سبيل الله، اللاتي طوردن ولوحقن، وحرصت السلطة الباغية على الفتك بهن. فغررت بدينهن في سبيل الله دون أن تلين قناتهن، أو يضعفن عند التهديد أو الإغراء. كما تفخر الحركة الإسلامية بالمعتقلات في سجون البغاة اللاتي صبرن على أشد أنواع الأذى والبلاء، دون أن تلين لهن قناة، أو يهن لهن عزم. وإنا لندعو أخواتنا المؤمنات أن يشاركن في هذا الجهاد وينضوين تحت لواء الحركة الإسلامية ليؤدين الدور الأساسي الذي لا يقدر عليه إلا النساء. السمة الواحدة والثلاثون المقاومة السلمية لقد كانت قريش تسعى جاهدة لحرب الإسلام ومنع وصوله إلى الناس، بل تشوه سمعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لدى الوافدين إلى مكة للحج أو التجارة. ولم يكن المسلمون ليقفوا مكتوفي الأيدي أمام ذلك، بل كانوا يمضون إلى هذه المحافل العامة، أو يتواجدون في الكعبة ويتصلون بأولئك الوافدين يدعونهم إلى الإسلام، ويوضحون معالمه. ولكن ضمن خطة محددة تقضي بعدم الاصطدام المباشر مع العدو. وعدم الوصول إلى معركة عنيفة تقود إلى استعمال السلاح، وخف تعرض المسلمين لآلهة قريش، انطلاقا من الأدب القرآني {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم (¬1)}. ¬

(¬1) الأنعام 108.

إنما تنصب الدعوة مع هذه الوفود على ذكر محاسن الإسلام، وعلى التركيز على لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وكانت الحركة الإسلامية تعيش في ظل الجاهلية، في ظل المجتمع الذي تترع فيه الخمور، وتنصب فيه الرايات الحمر للزانيات، وفي ظل الأصنام التي بلغت ثلاثمائة ومع ذلك لم يتعرض المسلمون لهذه المفاسد أو يقاوموها، أو يوجهوا جهدهم للنيل منها أو تحطيمها، لقد كانوا بعيدين عن هذا كله. واتجه همهم إلى الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. والحركة الإسلامية في مثل هذه المرحلة تتخذ هذا الموقف، تبتعد عن المواجهة ومواطن الإثارة، وتكف أيديها عن القتال من خلال أوامر القيادة. لم يكن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم جبناء ولا أذلاء، بل كانوا يعانون من الضبط والالتزام بعدم القتال ما لا يعلمه إلا الله، وكانوا يعانون من الضغط على أعصابهم والكبت على نفوسهم ما يكون القتال معه أهون بألف مرة عليهم، ومع ذلك لم نسمع عن مخالفة واحدة، واندفاع مفاجىء واحد. في الوقت الذي نرى فيه في أيامنا من يضع النصوص في غير محلها من الشباب المتحمس، فيود أن يخوض معركة من أجل كلمة، ويواجه الطغيان المنكر القائم، ويتهم الناس في دينهم وعقيدتهم إذا لم يقاتلوا معه. ونحن ندعو هؤلاء الناس إلى التبصر والتثبث، ومراعاة طبيعة المرحلة التي تقدرها قيادة الحركة. ويتعلمون من رسول الله وصحابته الصبر على البلاء، والحياة مع الفكرة من دون أن يكون الثأر للنفس، والغضب للذات، أو حتى لمحارم الله أن تنتهك - قبل الأوامر الصادرة، هو المحرك لتصرفاتهم. إن الحركة الإسلامية المنظمة المنضبطة، هي التي قبلت في مرحلة من المراحل أن توضع سلي البعير وأمعاؤه على عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يقتل الفاعل، وقبلت أن يبصق في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يؤدب السفيه، وقبلت محاولات خنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يقضى على المجرم. لا عن خوف أو جبن في نفوس الأصحاب الذين يفدون رسولهم بكل وجودهم. إنما قبلت ذلك لأن الأوامر الصادرة لا تسمح بالثأر، ولا تسمح برد الفعل، ولا تسمح بالغضب التلقائي.

السمة الثانية والثلاثون الاستفادة من العناصر المشتركة بين الإسلام والعقائد الأخرى

إننا لنعلم أن المسلمين خاضوا حربا من أجل امرأة راودها يهودي على كشف وجهها عندما كانت المرحلة تقتضي ذلك. بينما لم يخوضوا تلك الحرب وأبو جهل يطعن سمية في قبلها فيقتلها. فالأمر في كلا الحالتين منطلق من توجيهات القيادة المسلمة التي تعرف طبيعة المرحلة وتخطط لها وعلى الجنود الالتزام بها. أما العواطف الثائرة التي لا تعرف الإنضباط والتي لا تستجيب للالتزام فلتبحث لها عن مكان خارج الحركة الإسلامية. السمة الثانية والثلاثون الاستفادة من العناصر المشتركة بين الإسلام والعقائد الأخرى لقد كان هناك هدنة -إذا صح التعبير- بين الإسلام وبين النصرانية واليهودية في هذه المرحلة، وعقائد اليهود لم تتغير، وعقائد النصارى لم تتغير، ولكن المعركة في هذه المرحلة مفتوحة مع الوثنية. ونلحظ هذا الموقف في جانبين: الجانب الأول مع الوفد القادم من المدينة، من مشركي مكة الذين مضوا إلى اليهود في يثرب يسألونهم عن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لهم: سلاه عن ثلاث. فإن أجابكم عنها فهو نبي مرسل وإلا فهو متقول كذاب. سلاه عن رجل طواف في الآفاق ماذا كان خبره، وسلاه عن فتية في الدهر الأول ماذا كان خبرهم، وسلاه عن الروح. وقد أجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه الثلاث. وبذلك شعر المشركون على الأقل أن اليهود، ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - في معسكر واحد. وكان هذا واضحا لديهم لأنهم عندما انتصر الفرس على الروم فرحوا بذلك بينما حزن المسلمون حتى ليتراهن أبو بكر رضي الله عنه، وأحد المشركين على نصر الروم على الفرس خلال بضع سنين. {الم غلبت الروم

في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله - صلى الله عليه وسلم -نصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (¬1)}. والجانب الثاني كان من الناحية العملية مع وفد النصارى الذي حضر إلى مكة كما ذكر خبره ابن إسحاق: (ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في انديتهم حول الكعبة. فلما فرغوا من مسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما أرادوا دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابو له وآمنوا به وصدقوا وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم منأهل دينكم ترتادون لهم وتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال. ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قالوا لهم، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه لم نسأل أنفسنا خيرا (¬2). والرواية تؤكد إسلام هذا الوفد. غير أن هذا لا ينفي هذا التقارب بين الإسلام والنصرانية واليهودية في ذلك الوقت. خاصة وأن بقايا النصارى الموجودين في مكة قد شهدوا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة. والحركة الإسلامية من حقها أن تهادن من ترى مهادنته دون أن تقر لمبطل بباطل أو تعلن موافقة على عقيدة كافرة. أما نقطة اللقاء بين هذه العقائد فهي كونها من عند الله - بغض النظر عن الخلاف في جزئياتها - وعن التحريف الذي أصابها - ما عدا الإسلام الذي تكفل الله تعالى بحفظه. ¬

(¬1) الروم 1 - 5. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 32.

السمة الثالثة والثلاثون عدم التنازل عن جزئية واحدة من أجل الحماية

السمة الثالثة والثلاثون عدم التنازل عن جزئية واحدة من أجل الحماية بعد وفاة أبي طالب تحركت الحمية في رأس أبي لهب، حين رأى تكالب قريش على إيذاء ابن أخيه محمد. فجاء إليه قائلا: اذهب يا ابن أخي وما كنت تصنعه وأبو طالب حيا فاصنعه. وكان لهذا الموقف وقع الكارثة على قريش، التي خططت بذكائها لتدمير هذه الحماية، ونجحت أيما نجاح حين أوعزت لأبي لهب أن يسأل رسول الله عن عبد المطلب، وكان رسول الله بين أمرين فالسؤال واضح ومحدد: إما أن تستمر الحماية مقابل مهادنة في كلمة واحدة من دين الإسلام ومساومة فيها، وإما أن تنهار الحماية كلها لو تحدث عن حكم الله في عبد المطلب. وما كانت الحماية في يوم من الأيام على حساب هذه العقيدة فقال لعمه أبي لهب: هو في النار. فقال أبو لهب: ما زلت عدوا لك أبدا. وعاد فانضم إلى معسكر قريش. وإذا تساءلنا عن سبب إصرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إيضاح حكم الله في عبد المطلب، وخسارته مقابل ذلك أضخم حماية تتحقق له وللمسلمين، لكان الجواب هو: أن عدم إيضاح هذا الحكم يعني أن عبد المطلب على حق، وقريش كلها على ملة عبد المطلب، فلا داعي إذن للمفاصلة بين الفريقين، ويمكن أن يكون اللقاء بين الكفر والإسلام في منتصف الطريق. وعلى ضوء هذا الهدى تسير الحركة الإسلامية في تعاملها مع أعدائها. إنها أولا: تفرق بين العدو الذي يود استئصالها، والعدو الذي يحاول حمايتها. وهي ثانيا: تتقبل كل هدنة، أو حماية مع خصم يوقف حربه عليها، ويهيء سبل الدعوة لها. وهي ثالثا: عندما تقبل هذا الأمر، لا تقبله على حساب عقيدضها، أو

على حساب مبادئها، بل تتقبله انطلاقا من مفاهيم وأعراف معينة تسمح هذه الأعراف بحرية العقيدة، أو حرية العقيدة والدعوة. وهي رابعا: إذا قبلت هذه الحماية، أو الإجارة، أو الحلف. لا يضيرها أن تسكت عن مهاجمة أشخاص حلفائها، أو النيل منهم. ولكن لا تثني على عقائدهم، أو تؤيد باطلهم، أو تقر انحزافاتهم. وهي خامسا: تسعى لأن لا تشغل في المعارك الجانبية أو تستجر لها، بل تقف الموقف الثابت الذي ينصب حول تصحيح العقيدة، أو إيضاح المبدأ، منطلقها في ذلك كله قول الله عز وجل: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (¬1)}. ونستطيع أن نجمع مواصفات هذه المرحلة كاملة ملخصة على الشكل التالي والتي أطلقنا عليها اسم: جهرية الدعوة وسرية التنظيم: 1 - دعوة الأقربين. 2 - الإعراض عن المشركين. 3 - معالم الدعوة الجديدة: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والرسالة. 4 - الدعرة عامة. 5 - سرية التنظيم. 6 - القرآن مصدر التلقي. 7 - اللقاء المنظم المستمر. 8 - الصلاة خفية في الشعاب. 9 - التركيز على الجانب الروحي. 10 - الدفاع عن النفس عند الضرورة. 11 - تحمل الأذى والاضطهاد في سبيل الله. 12 - السماح للضعفاء في إظهار تغيير دينهم. ¬

(¬1) سورة الإسراء الآيات 73 - 75.

13 - محاولة إنقاذ المستضعفين بكل الوسائل الممكنة. 14 - الهجرة إلى مكان آمن للدعوة. 15 - البحث عن مكان آمن للدعوة، وقاعدة جديدة للانطلاق. 16 - الاستفادة من قوانين المجتمع المشرك: الحماية والجوار. 17 - المحاولات السلبية من العدو في المواجهة. 18 - المحاولات الإيجابية في الحرب: عمليات الاغتيال والقتل للقيادة. 19 - الجهرية الثانية، وإعلان التحدي للمجتمع الجاهلي. 20 - إعلان التحدي، ودور الشخصيات القيادية وله. 21 - ملاحقة العدو لتجمعات المسلمين، وإحباط المسلمين لهذه الملاحقة. 22 - عبقرية الوفد الإسلامي في حوار الملوك. 23 - لا مساومة على العقيدة. 24 - إثارة الحرب في صف حلفاء المسلمين، وفشل هذه المكيدة بالحزم والسرية. 25 - المفاوضات المباشرة، وطرح الحلول السلمية. 26 - تحييد بعض الشخصيات نتيجة المفاوضات. 27 - التجمع الفئوي لحماية القيادة. 28 - الحصار الاقتصادي، والمقاطعة العامة لتحطيم الدعوة، وحلفائها. 29 - التفجرات الجاهلية تحطم الحصار والمقاطعة. 30 - دور المرأة في هذه المرحلة جهادا ودعوة وسرية. 31 - مقاومة المخططات المعادية للإسلام بطريقة سلمية بعيدة عن مهاجمة مقدسات العدو. 32 - الاستفادة من العناصر المشتركة بين الإسلام، والعقائد الأخرى. 33 - عدم التنازل عن جزئية واحدة من أجل الحماية.

المرحلة الثالثة: مرحلة قيام الدولة

المرحلة الثالثة: مرحلة قيام الدولة

السمة الأولى طلب المنعة خارج مكة

السمة الأولى طلب المنعة خارج مكة وكان ذلك عندما وصلت مكة إلى الطريق المسدود، فقادة مكة أصروا على مواقفهم، والمسلمون موزعون بين الحبشة مشردين، وبين مكة مضطهدين، أو أن الأمر محصور في الدعوة دون تغير في الواقع القائم، فكان لا بد من البحث عن مكان جديد تنطلق منه الدعوة، وكان أقرب المواقع لمكة ثقيف في الطائف، فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها كما يحدثنا ابن إسحاق: (ولما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف يومئذ، سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة: عبد يا ليل بن عمرو، ومسعود بن عمرو، وحبيب بن عمرو .. فجلس إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك. وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك! وقال. الثالث: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك .. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عندهم، وقد قال لهم: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني - وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ

قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا، وأغروا به سفاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى إجتمع عليه الناس، وألجأوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف. فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - فيما ذكر لي -: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني: إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن، بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك (¬1)) ونجد في روايات أخرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه. فقالوا: أخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم. قال موسى بن عقبة: ورجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء. (وزاد غيره). (وكان إذا اذلقته الحجارة قصد إلى الأرض، فيأخذونه بعضديه، ويقيمونه، فإذا مشى رجموه، وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج في رأسه شجاجا (¬2)). لقد كان سعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ذا هدفين: الأول: دعوة ثقيف إلى الإسلام. الثاني: طلب الحماية والنصرة منهم كما يقول نصر بن إسحاق: (.. وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه في قومه). نحن إذن أمام مرحلة جديدة تختلف عن سابقتها في هاتين النقطتين الأساسيتين: ¬

(¬1) تهذيب السيرة 97 - 98. (¬2) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 123.

أولاهما: لأول مرة يخرج رسول الله خارج مكة، ويفكر في تغيير مركز الانطلاق. هذا وإن كان قد هيأ مركزا احتياطيا له في الحبشة، غير أنها لا تصلح مركزا للانطلاق، إلا عند الضرورة القاهرة، لأن الحبشة بعيدة عن الجو العربي، ولا بد أن تكون القاعدة الصلبة للانطلاق من قومه ليمكن قبولهم من بقية العرب. فلقد كانت قريش تأخذ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جمع أوشاب العرب من جماع القبائل ليقضي بهم مكة، ويغزوها، فكيف يمكن أن يقبل العرب دخول الأحباش ليكونوا القاعدة الصلبة للدعوة، وذكريات قريش عن الحبشة مرة منذ عام الفيل. لكن ثقيفا لا تقل أصالة عن قريش في الحسب والنسب والمنعة، وهي أنسب ما يكون لتكون البديل عن مكة، فلا يلي مكة في الأهمية عند العرب إلا الطائف، وفي الطائف أقدس أصنام العرب بعد الكعبة وهو اللات، وبها يحلف العرب. فلقد كان اختيار القيادة النبوية للبديل أوفق اختيار. ثانيتهما: لأول مرة وفي هذه المرحلة الجديدة نجد عنصر طلب النصرة. فلقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو القبائل ويحضر مواسم العرب قبل هذه المرحلة. غير أن هذه الدعوة كانت محصورة في الدعوة إلى الإسلام. بل يمكن القول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب النصرة إلا في هذه المرحلة، وكانت الحماية والنصرة السابقة بناء على عرض المشركين وليست بناء على طلبه. فأبو طالب هو الذي قاد هذه المرحلة، وحمل لواء نصرة ابن أخيه وجمع على هذا الرأي بنو عبد المطلب، بنو هاشم، وبنو المطلب، وفشل في ضم بني أمية وبني نوفل إلى هذا الحلف. ونفقه من هذه الرحلة النبوية المباركة أصول الحركة السياسية للحركة الإسلامية. فعندما تسد أمامها المنافذ التي تنطلق منها، وتصل إلى الطريق المسدود في مكان ما، فمن واجبها أن تبحث عن قاعدة جديدة للانطلاق. تحمل المؤهلات المناسبة للقاعدة الأولى. وهذا ما لاحظناه في الحركة الإسلامية اليوم يوم سدت منافذ الجهاد أمامها في سورية وقد حملت السلاح ثائرة ضد الطغيان الحاكم فيها. لجأت إلى بديل طبيعي هو الأرض العربية المجاورة حيث فتحت الدولة المضيفة

أبوابها لإيواء المهاجرين المسلمين، واستطاعت الحركة الإسلامية أن تتابع جهادها لمقاومة الطاغوت الكافر. ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجه بأعنف رد تلقاه داعية في الأرض، بعد أن بذل جهدا مضنيا في محاولة إقناع قادة ثقيف، وبعد أن أمضى عشرة أيام يتصل بكل ثقيف شبابا وفروعا، لكن دونما جدوى، فلم يأذن الله تعالى بالفرج بعد. ونلاحظ حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجانب السياسي في الموضرع حين طلب من قادة ثقيف كتمان الأمر، لما له من مضاعفات خطيرة في مكة. غير أن هؤلاء الزعماء نكثوا عهدهم وأغروا سفهاءهم وعبيدهم بإيذائه. ولم يثن هذا الإيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مهمته كداعية. بل عرض عليه من ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين. فأبى عليه الصلاة والسلام قائلا: إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله. إن مهمة السياسي أن ينتصر، أما مهمة الداعية أن تنتصر دعوته. وحين يخير بين الأمرين فيختار دعوته على شخصه. وكم من الدعاة بحاجة إلى أن يتعمق هذا المعنى في نفوسهم. إننا لا يمكن أن نتصور مثل هذه النماذج في الوجود، ولكن لنحاول الارتفاع إلى أفقها السامي، فأقبح رد وألأم معاملة تصل إلى الحد الذي ذكرته الروايات (رجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدماء، وكان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذونه بعضديه ويقيمونه. فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه شجاجا). ومع ذلك يأتيه العرض من ربه تعالى أن ينتقم له ويثأر له. وليس عرضا من حليف أرضي، ولا من شيطان مريد. بل من رب العالمين، ومع هذا كله فيملك الخيار ويرجو ربه أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله. إن المرء ليعجز عن تصوير هذا السمو البشري مهما كان مستواه، بل يكاد يعجز عن تصوره. وبقي مع هذا لنا من هذا الدرس أن لا تغيب

السمة الثانية طلب الإجارة من العدو في مكة

الدعوة عن أذهاننا لحظة من اللحظات. وإن يكون رضى الله تعالى هو الذي يحرك مواقفنا جميعها. فلم يشغل بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذى الذي لحق به كما ذكره (إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري) بمقدار ما كان يشغله أن يكون هذا الأذى دليلا على غضب الله تعالى عليه: (اللهم إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي). وكل الذي كان يرجوه من ربه جل وعلا أن يرفع عنه هذا السخط إن كان قد وقع (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل علي غضبك أو يحل علي سخطك ..). وسيبقى الأفق الأعلى الذي تحاول البشرية أن ترقى إليه، وخاصة الدعاة إلى الله، أن لا ينسوا هدفهم أبدا. ويذكروا دائما أن الهدف الأول عندهم هو نصر دعوتهم لا نصر أشخاصهم، وأن لا يكون الثأر والانتقام هو الذي يحركهم. ولو وقف الدعاة اليوم مليا أمام هذه الصورة، وطلب منهم أن يقبلوا إسلام أعدائهم الذين يحاربونهم في سورية اليوم لما كان بإمكانهم أن يتصوروا هذا الواقع بله أن يقبلوه. إذ أن الشيء الذي يحركهم الآن أو يمكنهم أن يقبلوه فقط هو الثأر والانتفام من أعداء الله، فليراجعوا قلوبهم وليصححوا مواقع نفوسهم، بحيث لا يكون حظهم من الدنيا إلا حظ عقيدتهم. وليكن لهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة الذي يرتفع فوق عواطفه، ويرتفع فوق أحقاده وثاراته. ولا يكون له هدف إلا انتصار الدعوة وبلوغها الآفاق حتى تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله. السمة الثانية طلب الإجارة من العدو في مكة (ذكر ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يدخل مكة بعد رجوعه من الطائف أرسل إلى الأخنس بن شريق: أدخل في جوارك؟ فقال: إني حليف، والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه على ذلك).

(وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنخلة أياما، فقال له زيد بن حارثة، كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ - يعني قريشا -. فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر دينه. ثم انتهى إلى مكة، فأرسل رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي: أدخل في جوارك؟ فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه فقالوا ألبسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدا، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدا فلا يهيجه منكم أحد. فانتهى رسول الله إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرفت وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته (¬1). لئن كانت رحلة الطائف ذات هدفين هما الدعوة والنصرة فلا شك أن الموضوع محصور الآن في طلب الإجارة والحماية من زعماء مكة. ونلاحظ في هذه الرواية إشارة إلى أن أهل مكة أخرجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يقول زيد رضي الله عنه: (كيف ندخل عليهم وقد أخرجوك؟). وكانت ثقته - صلى الله عليه وسلم - بربه أن فرج الله تعالى قريب وخاصة عندما تشتد المحنة ويعظم البلاء. والأخنس بن شريق من بني زهرة، وبنو زهرة حلفاء بني هاشم وبني تيم في حلف الفضول، فتنصل الأخنس من الإجارة بقوله: إني حليف والحليف لا يجير. ولعل الأصل في قانون الإجارة أن تكون من قبيلة لقبيلة ثانية، أما الحماية، فهي التي تتم من القبيلة لأبنائها، كما كانت حماية أبي طالب. ثم بعث إلى سهيل بن عمرو فتنصل من الإجارة بقوله: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فسهيل بن عمرو يلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث النسب في لؤي وفي لؤي يفترق بنو كعب بن لؤي عن بني عامر بن لؤي. ولا ندري كذلك حدود هذه الأعراف الجاهلية، ولم لا تجير بنو عامر على بي كعب لكنها كانت محددة واضحة، أو أنه تعلل للهروب من هذه الإجارة. ¬

(¬1) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 125.

ثم طلب الإجارة من المطعم بن عدي زعيم بن نوفل بن عبد مناف، وهم الفرع الثالث من بني عبد مناف، إذ الفروع الأربعة هي بنو هاشم وبنو عبد شمس وبنو المطلب وبنو نوفل. ويعلم المطعم بن عدي خطورة الإقدام على هذه المغامرة. فقد يعادي قريشا كلها من أجل هذه الإجارة، إذ أي اعتداء يقع على محمد - صلى الله عليه وسلم - لا بد أن يرد هذا الاعتداء، ولو أدى الأمر إلى حرب بينه وبينهم. ونعلم كذلك حرص المطعم بن عدي على ألفة قومه، حين لام أبا طالب لعدم قبوله تبادل محمد وعمارة بن الوليد، إذ قال له: والله - صلى الله عليه وسلم -اأبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل شيئا، فأجابه أبو طالب: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك. والمطعم أمام هذا الموقف العصيب، وأمام معاداة قومه بالاستجابة لطلب محمد بن عبد الله أو التنصل من الإجارة كما تنصل غيره. فوقف موقفا مشرفا، حفظه له التاريخ حيث سلح بنيه جميعا وحضر بهم إلى الكعبة بالسلاح معلنا إجارة محمد بن عبد الله، حيث دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن حارثة فطافا بالكعبة بحماية السلاح. ومضى إلى بيته - صلى الله عليه وسلم - بحمايتهم كذلك، وكان هذا صفعة كبيرة لقريش، وتحديا لمشاعرها، لكنها لم تشا أن تخسر بني نوفل إلى الأبد إلى صف محمد كما خسرت بني المطلب وبني هاشم، فسكتت على مضض. وحفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الصنيع للمطعم بن عدي. فقال في بدر وقد أسر من قريش سبعين من صناديدهم: لو كان المطعم بن عدي حيا لوهبت له هؤلاء النتنى. وكم نحن بحاجة إلى أن نفقه هذا المعنى في حركتنا الإسلامية المعاصرة. إن المطعم بن عدي كافر لا يختلف في عقيدته أبدا عن بقية قريش. وإن أبا جهل وأبا لهب كافران كذلك مثل المطعم بن عدي. لكن الفرق بين

السمة الثالثة طلب المنعة والحماية لتبليغ الدعوة من القبائل

النوعين واضح: كافر مسالم مناصر للمسلمين، وكافر عدو محارب. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يطلب هذه الإجارة وهذه النصرة. ويتنقل في مكة تحت حماية السيوف الكافرة. وها هو عليه الصلاة والسلام يعلن أنه سيطلق سراح سبعين كافرا من صناديد قريش لو طلبهم منه المطعم بن عدي الكافر. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربينا على أن نرد المعروف لأهله ولو كانوا كفارا، ويعلمنا أن نحفظ الود لأهله. ولو كانوا عبدة أصنام وأوثان، ويربينا كيف نفرق بين العدو الذي يحمينا وبين العدو الذي يقتلنا. ونخلص بعد ذلك إلى طبيعة هذه المرحلة التي أسميناها مرحلة قيام الدولة. فنجد أنها مرحلة طلب النصرة، ابتداء من ثقيف، فالمطعم بن عدي، فالقبائل الأخرى. ونلاحظ هنا أن حماية المطعم -على ما يبدو- كانت محصورة على الحماية الشخصية، لا على حرية الدعوة، ومن أجل ذلك رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبحث عن موطن آخر يستطيع أن ينطلق منه للدعوة في سبيل الله. السمة الثالثة طلب المنعة والحماية لتبليغ الدعوة من القبائل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مند أن جهر بالدعوة بعد ثلاث سنين من البعثة يرتاد المواسم وأسواق العرب ويدعو الناس للإيمان بالله (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) ويدعوهم إلى نبذ الأصنام والأوثان. أما في موسم هذا العام - أعني السنة العاشرة للبعثة - فقد اختلفت الصيغة عن ذي قبل. يقول المقريزي في إمتاع الأسماع: (ثم عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام وهم بنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة،

وقيس بن الخطيم، وأبو الحيسر أنس بن أبي رافع، وقد اقتص الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة قبيلة، ويقال أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ كندة فدعاهم إلى الإسلام، ثم أتى كلبا، ثم بني حنيفة، ثم بني عامر وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟ هذا وعمه أبو لهب وراءه يقول للناس، لا تسمعوا منه فإنه كذاب (¬1)). إنها دعوة صريحة طلب الحماية من القبائل العربية لتبليغ دعوة الله عز وجل، ويفهم من هذه الدعوة أنه ليس من الضروري أن تسلم القبيلة، إنما المطلوب هو أن تؤمن الحماية اللازمة له لتبليغ دعوة الله عز وجل كما أن الذين هيأوا له الحماية من قبل لم يكونوا مؤمنين جميعا. بل كان أبو طالب على رأسهم ولم يدخل في الدين الجديد والقبائل التي عرض عليها الإسلام، وطلب منها النصرة في العام الحادي عشر وبعد هي: بنو عامر، وشيبان بن ثعلبة، وبنو كلب، وبنو حنيفة، وبنو كندة. أما بنو حنيفة فلم يكن أقبح ردا منهم. وأما بنو كلب فقد أتى بطنا منهم وقال لهم: إن الله قد أحسن اسم أبيكم. فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم، وأما بنو كندة فلم يقبلوا منه كذلك، وبقي لدينا بنو عامر بن صعصعة، وبنو شيبان بن ثعلبة، وهما بيت القصيد في هذه الفقرة. قال ابن إسحاق: (.. وأنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس، والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله - صلى الله عليه وسلم - ضعه حيث يشاء. فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه (¬2)). ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 30 - 31. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 66.

وكان اللقاء الثاني مع بني شيبان. (... وزاد قاسم بن ثابت تكملة للحديت قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم. قال علي: وكان أبو بكر في كل خبر مقدما. فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة. فالتفت أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر في قومهم). وفيهم مغروق بن عامر وهانىء بن قبيصة ومثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك. ومغروق قد غلبهم جمالا ولسانا وكان له غديرتان تسقطان على تريبته. فكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر. فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال مغروق: إنا لنزيد عن الألف، ولن تغلب الألف عن قلة. قال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مغروق: علينا الجد والجهد، ولكل قوم حد. قال أبو بكر: وكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مغروق: إنا لأشد ما نكون غضبا لحين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد عن الأولاد والسلاح على اللقاح. والنصر من عند الله - صلى الله عليه وسلم -ديلنا مرة ويديل علينا أخرى. لعلك أخو قريش؟! فقال أبو بكر: أوبلغكم أنه رسول الله فها هو ذا؟ فقال مغروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك. فإلى مَ تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد. ففال مغروق: وإلى م تدعو يا أخا قريش. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق .. (¬1)} الآية. فقال مغروق: وإلى مَ تدعو أيضا يا أخا قريش؟ ¬

(¬1) الأنعام الآية 151.

فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إن الله - صلى الله عليه وسلم -أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى (¬1) ...) الآية. فقال مغروق: دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. وكأنه أراد أن يشرك في الكلام هانىء بن قبيصة، فقال: وهذا هانىء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. ففال هانىء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لوهن في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشرك في الكلام مثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا إياك في مجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر. وإنا إنما نزلنا بين صريان اليمامة والسماوة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا الصريان؟ فقال: أنهار كسرى ومياه العرب. فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور وعذره مقبول. وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا. وإني لأرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك. فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه. أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه؟! ¬

(¬1) النحل الآية 90.

فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا. فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {أيا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} (¬1). ثم نهض النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيدي أبي بكر فقال: يا أبا بكر، يا أبا حسن أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم. قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا صدقا صبرا (¬2)). إن من نعمة الله علينا أن نجد بين أيدينا نصوصا عن أحلاف لم تتم لأنها تكون هادية لنا على الطريق نتعرف من خلالها على ما يحل لنا وما لا يحل في مجال المعاهدات والأحلاف السياسية، ولو لم تتعثر هذه المباحثات، لم نتعرف على حدود الحركة السياسية النبوية التي نتوخى من خلالها حدود حركتنا اليوم. أما المحادثة الأولى مع بني عامر بن صعصعة، فقد تعثرت لسبب واحد هو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعدهم بأن يكون لهم الحكم من بعده، وهي التي جعلتهم يرفضون إيواءه ونصره كما قال زعيمهم بيحرة بن فراس: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، وبذلك خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا إنه مهما كانت حالة الضعف لدى الحركة الإسلامية فلا يحق لها أن تفاوض على إقرار غير المسلمين على باطلهم، والاعتراف لهم بحق الحكم بغير شريعة الله. فالأمر ليس ملكا يورث إنما هو شريعة تسود. ولا بد من التفريق بين الأمر الواقع، وبين إقرار المسلمين به وموافقتهم عليه. وأن يكون اسم الإسلام بعد ذلك. وليست القضية هي حكم أشخاص بذواتهم وأعيانهم في الإسلام - إنما هي حكم من ينفذون شريعة الله، وعندما ¬

(¬1) الأحزاب الآية 45 و46. (¬2) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 134.

يدخل الناس في دين الله، ويحقق الله تعالى موعوده بالنصر. فلا يحق لفئة مشركة أن تتسلط على الحكم والسلطة، بحكم أنها كانت تناصر هذه الدعوة وتساندها، وكثيرا ما تواجه الحركة الإسلامية أثناء مسارها الطويل بفريق أو فئة أو دولة تساندها وتحالفها لفترة مؤقتة، وتشترط عليها لإيصالها للحكم أو مساعدتها في ذلك أن تكون شريكتها في السلطة، فيحكم الأرض بوقت واحد إسلام وجاهلية أو تعاقب بين إسلام وجاهلية باسم العقد أو الحلف وهذا مرفوض في الميزان الإسلامي. يمكن للحركة الإسلامية أن تقبل حماية من مشرك في حالة ضعفها وعدم تمكنها، لكن أن يعطى هذا العدو الحق في أن يسود ويحكم باسمها ومن ورائها ويستغلها مطية لمآربه فهذا مرفوض في الميزان الإسلامي. وماذا نجد في المحادثات الثانية مع بني شيبان بن ثعلبة؟ لقد ابتدأ أبو بكر رضي الله عنه في المفاوضات بعد أن عرف أنه مع زعماء بني شيبان لقد سأل عن العدو وسأل عن المنعة وسأل عن الحرب، وتوسم الصدق في الجواب من القوم فكان العدد يزيد عن الألف، وكانت الحمية متوفرة والاستعداد للقتال قائم كما قال مغروق: إنا لأشد ما نكون غضبا لحين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله. فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد المنعة، فها هنا مكانها، وقريش لا تزيد عن الألف لو تبنت منعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلقد أوعبت ألفا في بدر ولكن المفاوضات ابتدأت في حلقة جديدة. فلقد كان مغروق من الذكاء واللباقة ما جعله يكتشف من خلال الأسئلة أن السائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أخو قريش وصاحب مكة، وكان من العقل والحنكة بحيث يتجاهل كل الأراجيف عن رسول الله بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن، وتوجه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن دعوته ودينه. ونتعلم من إجابات الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمغروق فن الدعوة للعدو إذا صح

التعبير. فكان لا بد من المعالم الأولى للدعوة: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله. وهي مفرق الطريق بين الإسلام والكفر، وهي التي حاربتها قريش عشر سنوات، ورفضت أن تقولها. ولم يكتف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، بل حدد هدف اللقاء، وهدف الأسئلة السابقة التي تقدم بها أبو بكر رضي الله عنه ... وإلى أن تؤووني وتنصروني. ولا شك أنه سيحاك في الذهن مباشرة أسئلة كثيرة عن سبب اللجوء إليهم دون أن يمتنع بقومه قريش فقال - صلى الله عليه وسلم - متابعا: .. فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق والله هو العلي الحميد. ولا شك أن مغروقا قد انشرح صدره لهذا الحديث فأحب أن يتعرف على معالم أخرى لهذا الدين الجديد فكرر السؤال: وإلى م تدعو يا أخا قريش؟ واختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث عن عزة القيم والأخلاق التي تفتخر بها العرب، ولو كانت تخالفها في كثير من الأحيان: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ... (¬1)}. إن الجو وإن كان جو محادثات ومباحثات سياسية. لكن الدعوة إلى الله هي الأصل، وكسب القوم إلى الإسلام أكبر بكثير من حمايتهم لرسول الله وهم لا يؤمنون برسالته، ولعل مفروقا حرص أكثر على إيضاح هذه الدعوة، وراعه بيانها وفكرها فاستزاد قائلا وإلى م ثتدعو أيضا يا أخا قريش؟. واختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآية الجامعة الفذة المانعة: {إن الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (¬2)}. إن قمة القيم الأخلاقية والسياسية قد عرضت في هذه المفاوضات، وما ¬

(¬1) الأنعام 151. (¬2) النحل الآية 90.

تمالك مغروق أن قال: دعوت والله - صلى الله عليه وسلم - اأخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. فلقد صدق مغروق مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنه لا يستطيع أن يقطع في هذا الأمر، فأحال الأمر إلى شيخهم وصاحب دينهم هانىء بن قبيصة. ولعل هانئا لم يجرؤ على اتخاذ خطوة حاسمة في أمر الإسلام، أو أنه كان مقتنعا بدين الجاهلية أكثر من غيره، فتفلت من الأمر وأخله وسوف فيه، وتذرع بالحكمة دون العجلة، وبذلك انتهت الخطوة الأولى دون طائل. وآلم مغروق هذا الموقف، وأحال هانىء الكلام على المثنى شيخهم وصاحب حربهم ولا شك أن المثنى من ظاهر حديثه يبدو أنه قد تأثر بموقف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحاول أن يقطع فيما هو من اختصاصه، وقدم الصورة كاملة في مجال الحماية، ولخص الموقف بقوله: فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. وذلك بعد أن أشار إلى أن هذه الدعوة والرسالة مما يكرهها الملوك. وكان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منتهى الحكمة والحصافة وبمنتهى الوضوح كذلك: ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق. فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه. وبذلك انتهت المفاوضات دون تحالف؟ لأن بني شيبان قدموا الحماية حسب إمكاناتهم على العرب فقط. أما كسرى فلا، فلقد عاهدوه أن لا يحدثوا حدثا أو يؤوا محدثا، ولعل كسرى يغضب أشد الغضب لو علم بذلك، فهو أمر تكرهه الملوك. إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود، فلن يخوض بنو شيبان حربا ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله وتسليمه، ولن يخوضوا حربا ضد كسرى لو أراد مهاجمة محمد رسول الله وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات، وأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو قلوب بني شيبان بأن حدثهم عن موعود الله بنصره، وأنهم وراث الأرض من دون المشركين إن هم آمنوا بالله ورسوله وسبحوه، وهذا هو الهدف الوحيد البعيد الذي تحقق ليبقى طريقا مفتوحا للقاءات القادمة:

السمة الرابعة فشل المساومات

- أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم؟ أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا. عندما يكون الأصل في التحالف السياسي هو النجاح أو تحقيق فوز على العدو، أو بتعبير أدق عندما يكون الميزان هو أن الغاية تبرر الواسطة، فتعتبر الوقوف عند هذه الجزئيات خطلا سياسيا، أما عندما يكون الهدف هو انتصار الدعوة والعقيدة فالتخلي عن جزئية واحدة منها هو تخل عنها كلها. السمة الرابعة فشل المساومات ولنقف عند هاتين النقطتين: أ - الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. تعهد واحد طلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفضه، فماذا تستفيد الحركة الإسلامية من هذا الموقف وهي في حالة الضعف؟ إن الحركة الإسلامية حين تفاوض عدوا على مستقبل الحكم أو تدعى إلى التحالف معه إذا استطاعت أن تصل مع هذا العدو إلى أن يكون الأمر لله يضعه حيث يشاء من خلال بنود التحالف، فلها حرية الاختيار في ذلك، وحتى تتوضح الصورة أكثر، نجد أن بإمكان الحركة الإسلامية أن تتحالف مع عدو على إسقاط عدو آخر، ويكون الحكم بعد ذلك لله يضعه حيث يشاء، والتعبير العملي لهذه الصيغة أن هذا التحالف الذي أسقط ذلك العدو ينتهي نصه بسقوطه، وكل حليف سياسي بعد ذلك بجهده الخاص للوصول إلى الحكم بدون أن يكون بين هؤلاء الحلفاء تعهدات لبعضهم بتعاور الحكم أو الاشتراك فيه فنرى ان هذا الخط من صميم التحرك الإسلامي السياسي. وهذا المفهوم يقود إلى نقطتين شائكتين، ولكن لا مناص من التعرض لهما وهما:

1 - هل من حق الحركة الإسلامية أن توقع على تحالف بأن يكون الحكم ديمقراطيا؟ 2 - وهل من حق الحركة الإسلامية أن توقع على تحالف بقيام حكومة مؤقتة ومؤتلفة؟ وتحاول الإجابة على السؤال الأول: فقد يتبادر إلى الذهن مباشرة أن يكون الجواب بالإيجاب لأن النظام الديمقراطي لا يحدد فردا أو جهة يخولها استلام السلطة. وهذا يعني أن الأمر لله يضعه حيث يشاء. إنني أستبعد جواز ذلك - والله أعلم - وذلك للأسباب التالية: أولا: النظام الديمقراطي يقتضي من الحركة الإسلامية أن تقبل بالفئة أو الحزب الذي ينتخبه الشعب، وأن تبادر فتعترف بشرعيته طالما فاز بالأكثرية، وأن تخضع لنظامه. وقد يكون هذا الحزب أو التجمع معاديا للإسلام، أو لا يتبنى الإسلام على أحسن الاحتمالات، وخروجها عليه خروج على الشرعية التي أعلنت الالتزام بها، فهي تضطر أن تنقض عهدا أبرمته، ولا يحل في ديننا إلا الوفاء وحقيقة هذا الميثاق حين توقعه الحركة الإسلامية ليس ضمن إطار الأمر لله يضعه حيث يشاء، بل ضمن إطار القبول بمشيئة الفئة الغالبة، ولو كانت غير شرعية بميزان الله. إنه صحيح أن كل شيء بمشيئة الله، لكن مهمتنا أن نسعى لإقامة شريعة الله ونقاوم أي نظام باطل فنحقق مشيئة الله تعالى {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون (¬1)} ونفر من قدر الله إلى قدر الله لا أن نعلن قبولنا بشرعية أكثرية لا ترضى بشريعة الله أو إننا سنغدر بالمواثيق التي أعطيناها ولا يحل في ديننا الغدر. ثانيا: ولنفرض جدلا أننا قبلنا بالنظام الديمقراطي، فإن الشعب هو مصدر التشريع في هذا النظام، وقبولنا بذلك يعني قبولنا بكل ¬

(¬1) سورة الأنفال من الآية 8.

تشريع لا يرضاه الإسلام، واعتباره شرعيا في الوقت نفسه طالما أنه صادر عن هيئة تشريعية منتخبة. ثالثا: ولنفرض جدلا أن الحركة الإسلامية اشترطت قبول نظام الإسلام حتى تقبل النظام الديمقراطي، فهي في هذه الحالة قد قبلت بالمتناقضات في البنود نفسها، تجعل حجة لخصوم الإسلام عليها في المستقبل أن هذا الحكم وهو نظام الإسلام لا يمثل رأي الشعب، وبالتالي لا يجوز أن يفرض عليه. - إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه: إن المنهج الإسلامى السياسي المنبثق من هذه الفقرة هو أن لا يبرم إلا التحالف المؤدي للأهداف المرسومة، إنه يرسم استراتيجية الحركة الإسلامية. إن التحالف المبني على عاطفة عارضة أو مصلحة جزئية، هو على المدى البعيد طمس للخط الإسلامي الواضح، وهذه الفقرة تدعونا إلى الملاحظات التالية: 1 - عبقرية التخطيط السياسي فلا يكون استجابة لنزوة بنزوة مماثلة، بل يكون ضمن استراتيجية محددة الأهداف واضحة الخطى، وخطة محكمة تدرس سائر الاحتمالات المتوقعة من الحليف الآخر. 2 - مرونة العمل السياسي، فعندما أكون واضح الهدف أسلك مع الخصم الذي أود مخالفته كل سبيل يمكن أن يوصلني إلى الهدف المطلوب، ولا أدع الفرصة تفوتني لتحقيق هذا الهدف. ويكفي أن نرى عظمة هذه المرونة في أنها استوعبت معظم القبائل العربية وبحثت معها الأمر، واستوعبت الزمان والمكان. فالمواسم كلها مسرح للعمل السياسي الإسلامي لتحقيق الهدف المحدد الواضح، أسواق العرب بل أماكنهم ووفودهم هي مغزوة دائما بالنشاط الإسلامي السياسي. إن كل قبيلة غير قريش مؤهلة للمفاوضات والتحالفات، فكندة في الجنوب، وغسان في الشام، وحنيفة في اليمامة، وشيبان في العراق، كل هذه القبائل التي أتت وفودها للمواسم كانت مسرحا للعمل

السياسي الإسلامي، بل إن قريشا عرضة للتفاوض مع بعض قادتها كما وجدنا مع المطعم بن عدي. 3 - عبقرية المفاوض السياسي: وحين يكون الهدف واضحا والمفاوض مرنا ذكيا تقيا عبقريا. فيمكن أن تزج به الحركة الإسلامية في هذا الخضم لا تخشى بعون الله عليه من أي طارىء. (لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب). وحين يفقد المفاوض السياسي واحدة من الصفات المذكورة فلا بد أن يحمل الوفد المفاوض هذه الصفات، فالمرونة للقدرة على تقليب وجهات النظر، وعرض الحلول المتنوعة اللامتناهية والذكاء للقدرة على التخلص من أي مأزق يمكن أن يزجه الخصم به. والتقى لتبقى حركته ضمن الإطار الشرعي الذي حدده له الإسلام، وإطار المصلحة التي حددتها الحركة، والعبقرية لغل سلاح الخصم ودفعه إلى الهدف الذي يريده المفاوض الإسلامي. ولننظر إلى هذه الفقرة بمنظار آخر: (إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه). لقد كانت هذه الكلمة ردا على المثنى بن حارثة حين عرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حماية على مياه العرب دون مياه الفرس، وصاحب النظرة السياسية العجلى يرى أن تفويت هذه الفرصة خطأ سياسي، لكن الذي يسبر أغوار السياسة البعيدة، يرى بعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى. إن المثنى قد ألمح إلى أن هذا الأمر تكرهه الملوك، وأن موقع الدعوة بجوار فارس تجعلها سهلة المتناول في كل لحظة منها. وأن العهود والمواثيق المقيدة لشيبان تجعلهم أعجز من أن يستطيعوا حماية هذا الرسول وهذا الدين الجديد من بطش كسرى وسلطانه. إن التحالف مع الخصم الأقوى يكون في معظم الأحيان لصالح هذا الخصم. فموقع شيبان إذن غير مناسب ليكون مركزا للدعوة الجديدة، وعهود شيبان من جهة ثانية تشل إمكانية الحركة

السمة الخامسة توجيه الأنظار لمركز الانطلاق

الإسلامية، وكراهة الملوك لهذه الدعوة التي تدعو لإخراج الناس من عبادة العباد لعبادة الله من جهة ثالثة عنصر غير مشجع لوجود هذه الحركة بحيث تمس مصالحها وتوقع الاحتكاك بينها وبين الحركة الإسلامية، ويكفي أن نذكر نقطتين اثنتين توضحان عمق النظرة السياسية النبوية في هذا المجال: أولاهما: إن الفرس كانوا في أوج انتصاراتهم بعد أن هزموا امبراطورية الروم وأخذوا الصليب الأكبر منهم. ثانيتهما: إن كسرى عندما وصله خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قيام دولة الإسلام بست سنوات مزق الخطاب النبوي، وبعث من يحضر له محمدا حيا أو ميتا، علما بأنه قد ذاق مرارة الهزيمة القاتلة من الروم قبل أربع سنوات. فما أحوجنا ونحن نود للحركة الإسلامية تحركا سياسيا هائلا لأن نحكم الهدف أولا، ونحكم الخطة ثانيا، ونكون أدرى ما نكون بالعدو ثالثا، وندفع بالعبقري السياسي للحركة رابعا، ونطلب النصر من الله سبحانه وتعالى بعد بذل هذه الإمكانات. السمة الخامسة توجيه الأنظار لمركز الانطلاق قال ابن إسحاق: (فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا. لما لقيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.

وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهودا كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض تعلموا والله أنه للنبي الذي تعدكم يهود، فلا يسبقنكم إليه! فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا وهم فيما ذكر لي ستة من الخزرج. فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. المحادثات تفشل مع بني شيبان، فيهيء الله تعالى لرسوله هؤلاء النفر من الخزرج من سكان يثرب ولقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجربة سابقة مع الخزرج، فلقد جاء وفد كبير لقريش قبل عام ليقيم تحالفا مع قريش ضد الأوس، ولم يستجب لدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا فتى يافع رزموه وانتهروه قائلين له: لقد جئنا لغير هذا. وحيث لم تنجح محاولات الخزرج في التحالف، وقعت حرب بعاث بعد ذلك (¬1). والواضح أن اللقاء كان عابرا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء النفر بدليل دعوتهم إلى الجلوس كي يكلمهم، وهذا قدر الله الذي ساقه لدعوته هبة منه سبحانه. وتأكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هويتهم بأنهم من موالي يهود. وهذا يعني أن لا غرابة على أذهانهم الحديث عن الله تعالى وكتبه ورسله فيما يسمعونه ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ص 75 و 73.

دائما من اليهود، وهو لا يطرق مسامعهم لأول مرة. فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وقد كان الخزرج مهيئين نفسيا تهيئة تامة لسماع حديث الإسلام، فقد كانوا يحسون دائما بالحسرة أمام اليهود. فهم أميون ليس عندهم رصيد يواجهون به اليهود ويقفون أمامهم مبهوتين لا يدرون ما يقولونه. ومن جهة ثانية، فالحديث عن النبي المرسل كان يملأ جو يثرب، بل يهددهم اليهود به فما إن تناهى إلى سمعهم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام حتى قالوا: (والله إنه للنبي الذي توعدكم يهود فلا يسبقنكم إليه) فالداعية إذن لا بد له من أن يستفيد من المناخ النفسي الملائم حين يدعو، ويستفيد من الأرضية الثقافية لمن يدعوهم إلى الله. ولأول مرة تسلم مجموعة كاملة، ومن بلد ناء تصلح أن تكون أساسا ومنطلقا للدعوة، خاصة وقد أبدت هذه المجموعة استعدادها لذلك قائلة: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن تجمعهم عليك فلا رجل أعز منك. لقد وضعت بذرة أمل جديدة مع هؤلاء النفر الستة، أن يمهد الجو لرسول الله كون في المدينة، وتذلل الخلافات، ويقوم هؤلاء الستة بالدعوة إلى الله هناك، فقد آمنوا وصدقوا. ونلاحظ هنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعرض عليهم طلب حمايته ونصرته حين دلخوا في دين الله عز وجل، بل توجه اهتمامه عليه الصلاة والسلام إلى انطلاق جديد لدين الله - صلى الله عليه وسلم -حسن أن يكون مركزا ممتازا يغير مواقع الدعوة كاملة. وقام النفر الستة بأعظم دور في الدعوة لدين الله عز وجل في صفوف

الأوس والخزرج حتى فشا الإسلام في المدينة، فلم تبق دار من دور الأنصار اإلا وفيها ذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لعل هذه السنة التي مرت على الدعوة العام الحادي عشر للبعثة كانت أكثر بركة من الأعوام العشرة السابقة، ولعل انتشار الإسلام في هذه الأرض كان أكثر من انتشاره في مكة خلال الأعوام العشرة السابقة. منعطف جديد في الدعوة بعد جهاد مضن "وصبر طويل" تحقق على يد هؤلاء النفر الستة حين وجد المناخ المناسب والجو الملائم للدعوة الجديدة. ولم نسمع عن نشاط جديد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خلال العام في مقابلات مع القبائل الأخرى. بل تصمث أخبار السيرة خلال هذا العام إلى موسم العام القادم. ونفقه من هذا الانعطاف أن الأحوط والأقوى للدعوة هو الالتزام بمبادئها، بينما تبقى الحماية التي لا ترتبط بالمبادىء لا تحقق الهدف البعيد للتمكين في الأرض. إن الخط الذي يفرق بين الطريقين خط ضئيل، قد لا يدركه الناظر العجول. فالمرحلة المكية عندما تملك الدعوة الحرية الكاملة فيها في ظل المبادىء الجاهلية، لا تصل إلى مرحلة الحكم بما أنزل الله، ومرحلة تطبيق المبادىء. أما إذا كانت الحيماية من أبناء الدعوة نفسها، فالطريق مهيئة لتنفيذ شرع الله عز وجل، والتمكين في الأرض. ونصل من هذه الملاحظة إلى أن الهدف البعيد وهو إقامة حكم الله في الأرض لن يتحقق في ظل حكم جاهلي، وفي ظل حماية جاهلية. كما تتصور بعض الحركات الإسلامية، إنما يتحقق ذلك من خلال جنود الدعوة. ونقول أخيرا لا بد من أن نحدد المدى الذي نصل إليه من خلال التعامل مع العدو أو من خلال الالتزام والجندية لمبادىء الدعوة، وأن نعرف كيف نفرق بين الهدفين فلا نبني نتائج هدف على هدف آخر.

السمة السادسة البيعة الأولى وقيمها الجديدة

السمة السادسة البيعة الأولى وقيمها الجديدة قال ابن إسحاق: (حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار أثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب، منهم أسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وعبادة بن الصامت، وأبو الهيثم بن التيهان. عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذب، وإن شاء غفر. قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرىء بالمدينة. كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض (¬1)). عام جديد يمر بعد اللقاء الأول، ويحضر لمكة في الموسم الجديد نفر من اثنى عشر رجلا والجديد في هذا الوفد هو أنه يمثل التجمعين الكبيرين الأوس والخزرج. فلن يكون إذن معارك قبلية يمثل الخزرج في طرفها الإسلامي، ويكون الأوس طرفها الجاهلي، بل استطاعت هذه المجموعة النواة أن تتجاوز الدماء والثارات التي لم يمر عليها بضعة أشهر، وتلتحم في جماعة واحدة. والذي يعنينا من هذه البيعة النقاط التالية: 1 - اتجه الخط السياسي الإسلامي كله للبناء الداخلي، وكان التركيز على ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 72 - 73.

يثرب بالذات وقد كان لهؤلاء النفر الإثنى عشر دور كبير في بث الدعرة إلى الإسلام خلال هذا العام كما يقول ابن إسحاق: (فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوهم إلى الإسلام، فلم نبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). فلقد توجه رسول الله إلى البناء الداخلي في المدينة، وإلى بث الفكرة في صفوفها. 2 - سميت البيعة بيعة النساء لأنها لم تشتمل على فكرة الحرب، والحرب لا تكون إلا بعد البناء الفكري والعقيدي للإنسان. وبعد أن يصاغ على ضوء الإسلام وقيمه يمكن أن يدعى المسلم إلى الجهاد. وإنها لثغرة كبيرة أن يندفع المرء إلى الجهاد ولما تتم صياغته الإسلامية. إن المفاهيم ستختلط في ذهنه بين اندفاعه للجهاد في سبيل الله وبين الحماس لنفسه أو لأهله أو لأرضه، ومن أجل هذا كانت الببعة الأولى خالية من الحديث عن الحرب. وكانت تجربة حية للدعوة قبل المعركة. 3 - أما القيم التي تمت عليها البيعة كما ذكرها لنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه (... على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني) ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف (¬1) ...). 4 - حضر بيعة العقبة الأولى اثنان من الأوس، وهذا تطور خطير جدا لصالح الإسلام هناك، فبعد الحرب العنيفة في بعاث استطاع النفر الستة من الخزرج أن يتجاوزوا قصة الصراعات الدموية الداخلية، ويحضروا معهم سبعة جددا فيهم اثنان من الأوس، وهذا يعنى أنهم وفوا بالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم في محاولة رأب الصدع، وتوجيه التيار في يثرب أوسها وخزرجها للدخول في الإسلام، وتجاوز الصراعات القبلية القائمة. 5 - وكان التطور الجديد الذي أثمرته بيعة العقبة هو بعث الممثل الشخصي ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 75.

لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - - مصعب بن عمير رضي الله عنه - ليشرف بنفسه على تطور الموقف ويقوم بتففيه المسلمين هناك بهذا الدين الجديد. 6 - واستطاع الدبلوماسي الإسلامي الأول في المدينة بحكمته وحصافته وذكائه السياسي بعد توفيق الله له أن يجر أكبر قيادات الأوس إلى الإسلام، أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وذلك خلال العام الجديد. ولم يبق في بني عبد الأشهل - رؤساء الأوس - رجل ولا امرأة ولا طفل إلا ودخل في الإسلام. لقد أصبح التيار عارما، والاتجاه معبأ لقيام الثورة الإسلامية في المدينة - إذا صح التعبير - وأصبحت مهمة القيادة تنظيم هذه الطاقات كلها لصالح المعركة. 7 - ومع أن نصوص البيعة لا تحمل في ثناياها حربا أو معركة بل هي كما أطلق عليها المسلمون - بيعة النساء - لكنها تعني تربية معينة، وأرضية تقوم عليها المعركة. إن الالتزام الخلقي والسلوكي بالمبدأ، وضبط الشهوات، بأمر رباني، يعني أكثر من أمر: فالأمر الأول: هو المفاصلة العقيدية، والتميز الفكري - لا نشرك بالله شيئا، وهذا يعني عمليا إعلان الحرب من جانب واحد على هذا المجتمع، وذلك بالثورة على دينه وعقيدته. والأمر الثاني: هو المفاصلة السلوكية فلا سرقة ولا زنا، ولا وأد لولد أو بنث ولا افتراء ببهتان. والذي يستطيع أن يطبق هذه المفاصلة السلوكية في المجتمع الذي يعج بالزنا ويعج بالبهتان المفترى، هو مؤهل للجندية الحقيقية وقادر على تنفيد الأوامر الصادرة له فيما بعد. والأمر الثالث: هو تغير الولاء. فلقد انتهت الطاعة للقبيلة أو قيادة المدينة. لقد أصبحت الطاعة لله وللرسول، والمخالف لهذه الأوامر عاص يحاسب على تقصيره. لقد غدا ميزان الطاعة والمعصية ليس بالخروج على أوامر رئيس القبيلة، أو أعراف القبيلة، بل صار بالخروج على الأوامر الصادرة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة. والأمر الرابع: هو اعتماد الوازع الداخلي بالتطبيق لا السلطان الآمر.

السمة السابعة الإذن بالقتال

فعقوبة المعصية من الله تعالى لا من سلطان الدولة، وأجر الوفاء هو الجنة، وليس الإنعام المادي من السلطان الحاكم. كانت هذه التربية ضرورية - على قصرها - بين يدي المرحلة الجديدة الحاسمة، والحركة الإسلامية اليوم مدعوة إلى هذه القدوة. فارتفاع مستوى أفرادها في التميز الفكري، وفي السلوك العملي، وفي مدى الانضباط والالتزام بأوامر القيادة وتحديد الولاء لها، واعتماد الوازع الداخلي للتطبيق دون رغبة أو رهبة من الأرض، هو الذي يجعلها مؤهلة لدور الخلافة في الأرض. 8 - وإشارة جديدة الصبر والحديث عن قيم بيعة العقبة الأولى هي أن الزمن لا وزن له في هذا المجال، ولئن استغرقت التربية المكية ثلاثة عشر عاما. فقد استغرقت التربية المدنية عامين - تزيد أو تنقص قليلا - ومع ذلك اعتبر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار على سوية واحدة. فالمهم هو نوع التربية وثمرتها لا الزمن الذي استغرقته. ولهذا لم يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرجا حين سمع تقرير مبعوثه خلال عام من وجوده في المدينة، أن يستجيب للتعبئة المسلحة في بيعة العقبة الثانية بعد التعبئة الإيمانية المطلوبة. السمة السابعة الإذن بالقتال (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذن له بالحرب، ولم تحلل له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله، والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم، ونفوهم من بلادهم. فهم بين مفتون في دينه، وبين معذب في أيديهم، وبين هارب في البلاد فرارا منهم، منهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه، فلما عتت قريش على الله عز وجل وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه، واعتصم بدينه، أذن

الله عز وجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم. فكانت أول آية أنزلت في إذنه له بالحرب، وإحلاله له الدماء والقتال، فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء قول الله تبارك وتعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ألا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}. أي إني إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس وإنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين (¬1)). ولا يحتاج هذا الكلام إلى شرح، فلقد كانت بيعة العقبة الثانية فيصلا بين مرحلتين: بين مرحلة المواجهة بالكلمة، ومرحلة المواجهة بالسلاح، والمقارنة بين البيعتين توضح لنا الانتقال النوعي للحركة الإسلامية. ويعني الحركة الإسلامية من هذه السمة أن تلحظ الظروف التي تم الإذن فيها بالقتال لترسم على ضوئها ومن خلال ظروفها مرحلة المواجهة المسلحة مع العدو. إن قرار بدء الحرب الذي كان في مكة بأمر رباني هو اليوم تنفيذ لهذا الأمر حين تغدو الظروف شبيهة بتلك الظروف التي أذن فيها بالقتال، ومهمة قيادة الحركة أن تحسن تقدير هذه الظروف. والملاحظة التي لا بد من إيضاحها في هذا الصدد كذلك هي أن الإذن بالقتال شيء، ومباشرة القتال وطريقته شيء آخر. وهنا لا بد لنا من معالجة فكرة دقيقة هي مثار اختلاف في وجهات النظر. هذه الفكرة هي كيف نوفق بين فرضية الجهاد والحكم النهائي فيه بعد آيات سورة براءة، وبين موضوع الإذن في القتال اليوم؟. فإذا كانت الأحكام النهائية للقتال في الإسلام هي أنه ماض إلى يوم القيامة - وهذا حق - فهل ¬

(¬1) تهذيب السيرة. ص 108 - 109.

يبقى مجال لذكر الإذن بالقتال اليوم، والإذن بالقتال حكم مرحلي انتهى في وقته - والله تعالى قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ... (¬1)} أنا لا أجد حرجا في التوفيق بين الحكمين لأن مؤداهما واحد في النهاية. فلقد ذكر الفقهاء إن الجهاد قد يكون فرض عين، ولا يأثم تاركه، وذلك حين لا يوجد الإمام الذي يباشر القتال معه. فإذن حين لا يوجد الإمام والجماعة المسلمة التي ينضوي المسلم تحت لوائها ليقاتل الكفار لا يأثم إن لم يقاتل مع أن القتال فرض عين عليه. وهذا المعنى نفسه هو الذي يقتضيه المفهوم الثاني، فإلى أن تقرم الجماعة المسلمة - والإمام المسلم الذي يقودها، وتكون قادرة على الوجود والاستعلان والمواجهة يعتبر القتال في هذه المرحلة بشكل فردي غير مأذون به ما لم يكن دفاعا عن النفس أو المال أو العرض. وإذن فالذي يحدد ابتداء القتال في الحالتين هو الجماعة المسلمة، وقيادتها التي تجد الظروف مناسبة لذلك. إن كل أحكام الإسلام الثابتة المستقرة النهائية، والمرتبط تنفيذها بوجود الحاكم والإمام المسلم مثل الحدود والقصاص لا يعني عدم وجودها في غياب الإمام المسلم نسخها، فهي قائمة نظريا، والمسلمون آثمون لو تركوها. لكنها من الناحية العملية مرهونة بقيام الحكم الإسلامي الذي ينبثق من جماعة مسلمة، حملت لواء الجهاد وانتصرت على أعدائها، وأقامت حكم الإسلام. فأحكام الجهاد والقصاص والحدود مرتبطة بوجود الحاكم المسلم وإمكاناته قوة وضعفا وكما تقول الآية: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ... (¬2)} فلا بد من التمكين أولا لتنفيذ فرضية الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الناس. لا التنفيذ بشكل فردي. فهذا لا عجز فيه، إنما العجز هو تطبيق هذه الأحكام فرضا وحظرا على الناس. وكلما تمكن المسلمون أكثر كلما كانوا ¬

(¬1) المائدة الآية 3. (¬2) الحج 41.

السمة الثامنة التهيئة لمباحثاث قيام الدولة

قادرين على التنفيذ لأحكام الإسلام أكثر. وما أحوجنا إلى أن نفقه هذه الأمور ضمن هذه الأطر. لا أن نطلق الأحكام المبتسرة على الناس ونتهمهم في دينهم وعقيدتهم. السمة الثامنة التهيئة لمباحثات قيام الدولة قال كعب بن مالك: (خرجنا في حجاج قوما من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا ... وواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا. فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبا. فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي. قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له. فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار: الخزرج: خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وأنه

قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده. فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت (¬1)). ونلاحظ من خلال هذا العرض الملاحظات التالية: 1 - لقد تمت التهيئة لمباحثات قيام الدولة في أعمق تخطيط سياسي شهده التاريخ حيث انبثقت دولة الإسلام، وتم تحديد معالمها وقيادتها وهي جزيرة ضعيفة وسط خضم من الشرك مثله العرب جميعا من حجاج منى أولا، ثم دولة مكة المشركة ثانيا، ثم قيادة المشركين من أهل يثرب ثالثا، ثم دولة اليهود في المدينة رابعا. ووسط هذا العدو العاتي والمحيط بالمسلمين من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم، وسط هذا الخضم انبثقت دولة الإسلام الأولى في التاريخ. 2 - لقد كان المسلمون البالغ عددهم بضعة وسبعين ضمن وفد من المشركين قوامه حوالي ثلاثمائة. وهذا يعني صعوبة الحركة والتنقل والاتصال، فما من مسلم إلا وحواليه عدد من المشركين يراقب تنقلاته وتحركاته، ومع ذلك فلقد كانت السرية المضروبة على التحركات خلال الحج من أعجب العوامل التي أدت لنجاح المخططات. تمت الاتصالات بين قيادة مكة المسلمة المتمثلة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيادة المسلمين في المدينة، وتم تحديد موعد اللقاء، وتم تحديد مكان اللقاء، وتم اللقاء نفسه دون انتباه أحد، وتم دخول بعض الأعداد الجديدة في الإسلام خلال هذه الأيام المعدودة. ولعل من أهم أحداث هذه الأيام انضمام زعيمين من أكبر زعماء المدينة للإسلام هما البراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام. وتشير بعض الروايات إلى أن رئاسة الوفد كله مسلمه ومشركه قد انتهت إلى البراء بن معرور وطالما أنه قد أسلم فهو الذي يقوم بتحديد ¬

(¬1) تهذيب السيرة ص 103 و 104 و 105.

اللقاءات المقررة، واختار كعبا ليرافقه بصفته الشاعر المشهور والمعروف عند قريش. 3 - وكانت الخطوة الثانية من التخطيط العبقري هو الخروج المنظم لموعد الاجتماع وكما يقول كعب: (حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتسلل تسلل القطا (¬1)) مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو وتم الاجتماع لهذا العدد الضخم الذي انسل من معسكرات المشركين دون أن ينتبه لهم أحد. 4 - وكانت الخطوة الثالثة من التنظيم المحكم كما تشير بعض الروايات إلى تأمين حراسة الشعب بحيث لا يدري أحد بالأمر. يقول المقريزي: وجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه عمه العباس وهو على دين قومه، وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما، فأوقف العباس عليا على فم الشعب عينا له وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا له. فلم يدر حتى المهاجرون بهذا اللقاء السري إلا من كان له مهمة خاصة في الحراسة والمراقبة وهما: علي وأبو بكر رضي الله عنهما. 5 - وكان حضور العباس وحديثه وهو على دين قومه - كما يظهر - ضرورة سياسية، فهو الذي يحمل عبء حماية النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا بد أن يتوثق من مستوى هذه الحماية الجديدة ليطمئن عليها، وإلا فلن يفرط بابن أخيه، ولعل هذا يشير إلى إمكانيات اشتراك بعض الشخصيات غير الإسلامية إذا كانت مناط ثقة تامة من القيادة في عملية تغيير سياسي لصالح الإسلام أو يمكن القول: إنها في ظاهرها موالية للسلطة الحاكمة أما حقيقة ولائها فهو للقيادة المسلمة، خاصة إذا كان لها دور رئيسي في التحرك، كقيادة مجموعة سياسية في عملية تغيير سياسي، بل بإمكانها أن تشارك في وضع الخطة وتنفيذها عندما تكون ذات خبرات عريقة. فلقد ¬

(¬1) القطا: طائر مشهور بخفة حركته.

السمة التاسعة البيان السياسي (البيعة)

شارك العباس رضي الله عنه في تنفيذ هذا اللقاء كما تشير الرواية، وهو الذي أمر أبا بكر وعليا بوقوفهما على الطرق المؤدية للشعب. إن من حق القيادة بل من واجبها أن تستفيد من الخبرات والطاقات الإسلامية وغير الإسلامية عندما تدين لها بالولاء والطاعة، بل تشركها بالتخطيط والتنفيذ عندما تجد ضرورة لذلك. السمة التاسعة البيان السياسي (البيعة) روى الإمام أحمد عن جابر مفصلا .. : (قال جابر: قلنا يا رسول الله على م نبايعك؟ قال: 1 - على السمع والطاعة في النشاط والكسل. 2 - وعلى النفقة في العسر واليسر. 3 - وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4 - وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لئم. 5 - وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة (¬1)). وفي رواية كعب -التي رواها ابن إسحاق- البند الأخير فقط من هذه البنود ففيه: (قال كعب: فقلنا له (أي للعباس): قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (نساءنا) فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة ورثناها كابرا عن كابر. فاعترض القول ¬

(¬1) الرحيق المختوم للمباركفوري ص 166.

والبراء يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم (¬1)). 1 - كانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيث لا تقبل التمييع والتراخي فالبيعة على الإسلام شيء، والبيعة على إقامة دولة الإسلام شيء آخر، وإن الرجال الذين يعدون ليكونوا أفرادا مغمورين في عداد المسلمين شيء، والذين يعدون لتقوم دولة الإسلام بسواعدهم وأرواحهم وأموالهم ودمائهم شيء آخر، ويكفي أنها مضت في التاريخ أن البيعة الخالية من الحرب والجهاد ومنها بيعة العقبة الأولى كانت تسمى بيعة النساء، أما هذه البيعة فبيعة الحرب. ومع ذلك فليست حرب الإبادة، وليست حرب الإفناء بل الحرب المخططة المحكمة، المحددة الأهداف، التي ترتبط بالنصرة بعد وصول القيادة النبوية للمدينة. إن كل قطرة دم يجب أن تراق ضمن هدف، لا أن تراق لانفعال عاطفي، أو غضبة جارفة وإذا جد الجد فالإسلام عديل الروح بل هو أغلى منها لأنه يضحى بالروح والدم والمال من أجله وتحمى القيادة الإسلامية كما يحمي المرء زوجه وولده ونفسه. 2 - وسرعان ما استجاب قائد الأنصار - دون تردد - البراء بن المعرور قائلا: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ونساءنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثاناها كابرا عن كابر. والبراء هو المفوض الرسمي، وهو رئيس الوفد المفاوض، وهو الذي أسلم بنشاط الدعاة على الطريق، وها هو يعرض إمكانيات قومه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قومه أبناء الحروب والسلاح. إن هذا يعني بالنسبة للحركة الإسلامية أن نعرف أولا الطاقات القتالية عندها من جهة، وأن ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 85.

تعرف من جهة ثانية كيف نوجه هذه الطاقات في أحسن سبيل فيكون صاحب الكفاءة مكانه، وأخو الحرب في مجاله، بل عليها أن تستدعي الطاقات الإسلامية والنصيرة من كل صقع لتؤدي الدور المطلوب. وكلما كان أصحاب هذه الطاقات قد خاضوا تجارب عملية، وحروبا فعلية، كلما كانت قدرتهم على التخطيط العسكري والمواجهة الحربية أكثر. 3 - والأوامر شيء والمفاوضات شيء آخر، فلقد اعترض أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وهو المسلم العظيم على أمر مهم قبل البيعة، وكان لا بد من طرحه بصراحة ووضوح: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. ويا لها من مفاوضات نادرة في التاريخ بين جندي وقائد بل بين مسلم ورسول. إن طبيعة المعركة تقتضي أوضاعا جدبدة، وإن حمل السلاح يعني الحرب الضروس التي تأكل كل شيء. فالحركة الإسلامية اليوم على سبيل المثال - قبل أن تتبنى الجهاد، وقبل أن تحمل السلاح كانت آمنة، وكان شبابها في وظائف الدولة يملؤون فجاجها، بل مرت مرحلة وصل بعض شبابها إلى مجلس الشعب - كما يسمونه - ولكن في خدمة النظام الجاهلي الكافر. كما أنه لم يكن أحد يعلن أنه جزء من الحركة الإسلامية والذي يؤخذ من السلطة على أنه منها إنما يؤخذ على سبيل الحدس والظن. كان هذا الواقع قبل البيعة على الجهاد، أما بعدها فانقلبت الصورة كاملة، لقد أصبح مجرد الظنة باشتراك فرد في عملية، أو شروعه وتفكيره بالانضمام إلى التنظيم المسلح يعني الحكم بإعدامه وإبادته، بل أكثر من ذلك الحكم بإبادة أقاربه وعائلته. وانطلاقا من هذا الواقع، فليس من حق القيادة أن تتخلى عن هذا الطريق، وتترك جنودها يبادون وحدهم في العراء، أن تصالح لنفسها، أو تأخذ أمانا لنفسها وتترك الفاجعة تأكل شبابها وشيبها.

هذا هو مفهوم اعتراض أبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه. لأن قطع العهود مع اليهود تعني الحرب عليهم، فإذا تخلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم ومضى إلى مكة فهذا يعني ترك المسلمين تحت رحمة اليهود يفعلون بهم الأفاعيل، ويستأصلون أخضرهم ويابسهم. فإذا كان من حق أبي الهيثم رضي الله عنه أن يناقش رسول رب العالمين بهذا الأمر، فأي قيادة في الدنيا مهما ارتفعت تكون فوق النقاش؟ وأي قائد في هذا الوجود هو أكبر من المحاسبة؟! وليعلم كل جندي في الحركة الإسلامية أن من حقه أن يعترض مثل هذا الاعتراض على قيادته أن انسحبت من المعركة، وتركته يتلوى وحده في النار. إن كل قطرة دم تراق بأمر القيادة هي في عنقها ستسأل عنها يوم الدين فيم أراقتها؟ ولم لم تحافظ عليها من الضياع؟ وماذا كان جواب سيد الخلق لجندبة ابن التيهان؟ قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. ويا له من نداء خالد تردده أصداء الوجود. القيادة جزء من القاعدة، والقاعدة جزء من القيادة، شركاء متلاحمون منصهرون في المغرم والمغنم، دمهم واحد، ومصيرهم واحد، ونكبتهم واحدة، وحملهم واحد. لقد أبدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعداده وهو الطرف القائد المفاوض أن يشن الحرب على من حارب جنده، ويسالم من سالمهم، جعلهم الأصل في الحرب والسلم. 4 - وملاحظة أخيرة للجنود في الدعوة نفقهها من هذه النصوص هي: إن الأنصار رضي الله عنهم اكتفوا بملاحظة أبي الهيثم واعتراضه، وكان معبرا عن رأيهم جميعا، وكان الرد عليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه ممثلا لهم جميعا. لقد كان الاعتراض منهجيا شرعيا لا غوغائيا فوضويا وهذا يعني الحركة المنظمة كثيرا بأن تكون طريقة النقد والاعتراض والمحاسبة ضمن المعابر الشرعية والتنظيمية، لا من خلال الفوضوية والفردية بحيث يتكلم

السمة العاشرة توثيق البيان وإقراره

كل أخ على هواه. وبمثل المعابر الشرعية التنظيمية في الحركة الإسلامية اليوم مجلس شوراها المنبثق عنها. فهو الذي يحقق صورة النقد الشرعي البناء، وهو الذي يحاسب القيادة ويناقشها ويطرح ملاحظات القواعد عليها، وعلى القيادة أن تستجيب لأية تساؤلات، وترد على أي اقتراح، وبذلك يضمن التنظيم قوته وتلاحمه واستمراره. السمة العاشرة توثيق البيان وإقراره يقول العلامة المباركفوري في كتابه - الرحيق المختوم: (وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة، وأجمعوا على الشروع في عقدها، قام رجلان من الرعيل الأول ممن أسلموا في مواسم سنتي 11 و 12 من النبوة، وقام أحدهما تلو الآخر ليؤكدا خطورة المسؤولية، حتى لا يبايعوه إلا على جلية من الأمر، وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية، ويتأكدا من ذلك. قال ابن إسحاق: لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نضلة: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة. قالوا: أبسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وفي رواية جابر قال: فقمنا نبايعه فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين فقال: رويدا يا أهل يثرب إنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم

تخافون من أنفسكم خيفة، فهو أعذر لكم عند الله، فقالوا: يا أسعد أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها ... (¬1)). كان لا بد أن يظهر الوجه المقابل للصورة التي عرضها ابن التيهان، وظهر ذلك على الشكل التالي: 1 - حرب الأحمر والأسود من الناس. مفارقة العرب كافة. قتل الأشراف والخيار، ونهكة الأموال والأعراض. وهذه هي طبيعة معركتنا اليوم كما كانت طبيعة المعركة يوم العقبة. لا بد أن يكون واضحا في ذهننا أن العالم كله ضدنا، والعالم كله يحاربنا، والعالم كله لا يرضى أن تصل الحركة الإسلامية إلى الحكم وهي تريد أن تحكم بشريعة الله. لا بد أن يكون واضحا في ذهننا أن العرب جميعا من قبل، والأمة العربية اليوم من المحيط إلى الخليج - على حد التعبير المعاصر - تعادي هذه الحركة، وتعادينا. لا بد أن يكون الأمر بهذا الوضوح، وهذه الصراحة، وهذه البينة. فمن الذي يرضى أن يحالفنا على هذا الأساس؟ أي حليف سياسي يرضى هذا المصير، وكل الحلفاء السياسيين يرضون بحلفنا إذا عرفوا أننا منتصرون، فقط، وغير ذلك فقد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. إننا حين نعرف طبيعة المعركة، نعرف طبيعة الحركة من خلالها. إنه لا بد أن يعرف كل فرد في القاعدة الصلبة طبيعة هذه المعركة في حرب الأحمر والأسود من الناس، في مفارفة العرب كافة، في نهكة الأموال والأعراض، إنه بعد أن يعرف هذا الأمر. فليبايع أو يرفض، إنه يمكن أن يبقى على بيعة النساء، كما وردت في سورة الممتحنة، أما بيعة الرجال، أما بيعة الحرب فهذه حدودها، وهذه ظروفها، وهذه طبيعتها. وما أحرى الحركة الإسلامية أن تكون واضحة صريحة صادقة مع قواعدها لا تغشهم، ولا توحي لهم أن النصر قاب قوسين أو أدنى، ¬

(¬1) الرحيق المختوم ص 167 و 168.

تخدرهم بالأحلام الجميلة، وأن العرب معنا، وأن الذي ينقصنا هو التفاوض معهم، وأن قوى العالم ترضانا إذا فاوضنا، وإذا ملكنا المرونة السياسية، وأن الأمر كله أمر حركة سياسية، أوامر جبهة وطنية، أوامر حلف سياسي، أوامر لعبة ذكية. لسنا أحب إلى الله تعالى من رسوله، ولسنا أكرم على الله من صحابته. هذا هو خط السير. فمن رضيه على هذا الأساس فمرحبا وأهلا، فليتقدم وليبايع، ومن لم يرض فهو وشأنه، ولكن لا غش ولا لبس ولا غموض. والذين يريدون أن يحرفوا المعركة، ولا يتحملوا تبعاتها، فمكانهم خارج الصف، ومن أول الطريق، فالطريق صعب، والطريق شائك، والطريق طويل. ولقد كانت قيادات الأنصار على مستوى المعركة، ولم تغش قواعدها، ولم تدغدغ أحلامهم بل أوقفت البيعة حتى أوضحت خطورة الأمر، وأوضحت تبعاته، وبينت مهالكه ومصاعبه فماذا كان بعد ذلك؟ 2 - قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. فما لنا إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة. هل يقبل أي حليف سياسي كافر بهذا الثمن؟ هل يصدق أصلا أن هناك جنة؟ فالمعركة إذن معركتنا نحن، معركة الجنود المؤمنين، معركة القاعدة الإسلامية الصلبة العريضة في الأرض. وفي هذه المرحلة بالذات، ليس الاتجاه الدقيق هو اتجاه التحالف السياسي، بل هو اتجاه الحسم، هو اتجاه البناء الداخلي، إن ظروفنا الآن هي ظروف بيعة العقبة، هي ظروف بيعة الحرب، فقد تجاوزنا مرحلة الدخول في الجوار، وحتى مرحلة الحماية لدعوة الله، نحن الآن في مرحلة المواجهة السافرة مع العدو، ومع قوى الأرض، وذخيرتنا هي قاعدتنا الصلبة، هي قواعدنا المؤمنة التي ترضى بالجنة ثمنا لحرب الأحمر والأسود من الناس نرضى بالجنة ثمنا لمفارقة العرب كافة، ترضى بالجنة ثمنا لنهكة الأموال والأعراض، تستعد للوفاء بهذه الالتزامات وترضى يالجنة ثمنا وحيدا لها.

ليس عند القيادة ثمنان، ليس عند الله تعالى الذي نبايعه ثمن في هذه الظروف إلا الجنة كما نطق رسوله بذلك. أما النصر فقد لا نكون نحن أصحابه، قد نكون نحن جيل الشهادة. إن النصر قادم لا محالة، لكن لنا؟!. لا ندري. إن الوعد الذي قطعه الله تعالى على نفسه لمن وفى بهذه الالتزامات هو الجنة، وهو الوعد الذي رضيه الله تعالى لرسوله أن يعطيه باسمه. وأما النصر فهبة ربانية تأتي في الموعد الذي يختاره جل شأنه لدعوته. أما من نصر موهوم يقوم على أكتاف عدو الله - صلى الله عليه وسلم -قدمه لنا، أو نصر حالم يقوم على أكتاف مساندة الكفار الحلفاء لنا، فنحن واهمون، ولسنا مدركين طبيعة المعركة التي نخوضها، وإن تحققه دون أن نلتزم بقواعد هذه الشريعة. فالمعركة - والعياذ بالله - كلها خاسرة. إنه قبل أن تقوم دولة الإسلام على الأرض، فلا وعد عند الله تعالى إلا الجنة للجيل الذي يحمل اللواء لحرب الأحمر والأسود من الناس. 3 - (فقالوا: ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه. وقالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. وقالوا: يا أسعد أمط لنا يدك فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها). (قال جابر: فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة). وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة، فكانت قولا، ما صافح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة أجنبية قط. وقبل المفاوضون بالبيعة، وبايعوه جميعا دون أن يتخلف أحد، حتى المرأتان بايعتا بيعة الحرب. وصدقتا عهدهما، فلقد سقطت أم عمارة في أحد جريحة في جسدها اثنا عشر جرحا، وقد قطع مسيلمة الكذاب ابنها إربا إربا، فما وهنت وما استكانت وتحولت النسوة في هذه البيعة إلى رجال يقاتلن ويبايعن على قتل أشرافهن، وحرب الأحمر والأسود من الناس.

السمة الحادية عشرة تشكيل الحكومة الإسلامية بالانتخاب

السمة الحادية عشرة تشكيل الحكومة الإسلامية بالانتخاب يقول المباركفوري: وبعد أن تمت البيعة طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتخاب اثنى عشر زعيما يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسؤولية عليهم في تنفيذ بنود هذه البيعة. (فقال للقوم: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومكم بما فيهم (¬1)). فتم انتخابهم في الحال، وكانوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس ... ولما تم انتخاب هؤلاء النقباء أخذ عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ميثاقا آخر بصفتهم رؤوساء مسؤولين. قال لهم: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي - يعني المسلمين - قالوا: نعم. لم تنته القضية بعد فلن يستطيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتصل بكل فرد من هؤلاء المبايعين كل مرة. ولن يستطيع أن يبايع كل أفراد الأمة المسلمة على ذلك فلا بد من انتخاب قيادة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن هذه القواعد. وتم الأمر بانتخاب تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. 1 - إن مفهوم الاختيار والانتخاب في نظام الحكم الإسلامي مفهوم أساسي، والغريب في الأمر أن يوجد من يناقش في هذا المبدأ في صفوف الحركة الإسلامية. ومن يناقشون في هذا الأمر يقوم تصورهم على أن الأمير في الإسلام هو الحاكم المطلق الذي لا يناقش إلا إذا عصى الله تعالى، ولا يقيمون وزنا لرأي القواعد الإسلامية في اختيار قيادتها الحاكمة. وهو تصور مخطىء ولا شك. وإن كان في هذه الأرض من يحق له أن يستعمل رأيه دون الرجوع إلى القواعد المسلمة، فهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه المؤيد بالوحي من الله تعالى، والناطق به. وكان بإمكانه عليه الصلاة والسلام وهو يقوم على اختيار المسؤولين لديه أن يختار الذين بايعوا في بيعة العقبة ¬

(¬1) الرحيق المختوم ص 169 و 170.

الأولى وكانوا اثني عشر رجلا، وقد خبرهم وخبر صدقهم وحسن ولائهم، ومع ذلك لم يفعل هذا عليه الصلاة والسلام، وكان تصرفه هذا درسا بليغا للمسلمين في الأرض عن كيفية اختيار الحاكم، وعن اعتبار رغبة الأمة أو أهل الرأي فيها هي الأساس الذي يقوم عليه الاختيار ولم يتدخل عليه الصلاة والسلام من قريب أو بعيد بهذا الاختيار، وما أحرانا أن نتعلم من هذا العمل النبوي قواعد الحكم الشوري، والتنفيذ العملي له. 2 - والمسؤولية على قدر الصلاحية، فلقد حدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسؤولية لهؤلاء النقباء الأثنى عشر. بعد أن اعتبرهم القادة المسؤولين. وواجبهم أن يكونوا كفلاء على قومهم من المسلمين، الذين بايعوا في العقبة، والذين أقاموا في يثرب، هم مسؤولون عن تصرفاتهم وانضباطهم وطاعتهم، والتزامهم بأوامر هذا الدين الجديد، وبعدم الإخلال في أحكامه، وهم محاسبون أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخطاء القاعدة تحاسب عنها القيادة، طالما أن لها صلاحيات الحكم والتوجيه فيها. 3 - وتبدو العظمة النبوية بأجلى صورها حين لم يعف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه من المسؤولية. بل أعلن التكافؤ فيها فقال: "وأنا كفيل على قومي". فهم - وهم الجنود المؤمنون - من حقهم أن يناقشوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أخطاء وتصرفات المسلمين في مكة. ولا يوجد إذن في الدنيا من هو فوق المساءلة والمحاسبة إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكفل بقومه من المسلمين. 4 - وتظهر خطورة المسؤولية لهذه الحكومة المنتخبة حين نذكر أن حرب بعاث بين الأوس والخزرج لم تجف دماؤها بعد. فإمكانية اشتعال الحرب بينهم قائمة في كل لحظة. فلا بد أن تتمكن هذه الحكومة الائتلافية من الأوس والخزرج أن تضمن استقرار الأوضاع في المدينة، ومعالجة الأوضاع الصعبة فيها، والحيلولة دون اندلاع الحرب من جديد، ويبدو الأمر أشق وأعسر حين نتصور أنه لا بد من تكوين التحام كامل بين المسلمين أوسهم وخزرجهم، فليس المهم أن تخف البغضاء بينهم فقط، بل لا بد

السمة الثانية عشرة القيادة تحدد المعركة

أن يسو الحب والوئام بينهم، ولا بد أن يكون التفاهم بين أعضاء الحكومة على مستوى رفيع جدا. ولقد أثبتت الأيام الكفاءة العالية لهذه الحكومة، وكيف أنها استطاعت أن تتغلب على هذه الصعاب جميعا، وتكون مجتمعا مثاليا بتوفيق الله لها. وكانوا بثناء الله عليهم يمثلون الصورة المثلى للمؤمنين. كما ذكرهم جل وعلا: {والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (¬1)}. 5 - إن عملية رس الصف الداخلي، وتوحيد النفوس نحو هدف واحد، وربط القواعد بقيادتها في ثقة قوية هي من أصعب الأمور على المرء. فالنفوس المختلفة، والأهواء المتباعدة، والصراعات والتناحرات قد تسيطر أحيانا. فتبتلى القيادة فيها، وتنتقل هذه الخلافات إلى صفوف القواعد، فيتحزبون لفلان أو فلان. وبذلك تكبر الهوة، ويتسع الخرق على الراقع. والأمير الأول للجماعة له دور رئيسي في ضبط الصف والتأليف بين القلوب المتناحرة في اتجاهات شتى، وهو مسؤول كذلك عن تآلف هذا الصف وترابطه، وتوفيق الله تعالى وتسديده هو الذي يساعد في هذه الوحدة. أما البشر فهم أعجز من ذلك، ويكفينا في هذا المجال قول الله تعالى لرسوله: {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلويهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (¬2)}. السمة الثانية عشرة القيادة تحدد المعركة يقول المباركفوري: (ولما تم إبرام المعاهدة، وكان القوم على وشك ¬

(¬1) سورة الحشر الآية 9. (¬2) سورة الأنفال الآية 63.

الانفضاض، اكتشفها أحد الشياطين، وحيث جاء هذا الاكتشاف في اللحظة الأخيرة، ولم يكن يمكن إبلاع زعماء قريش سرا ليباغتوا المجتمعين، وهم في الشعب، قام ذلك الشيطان على مرتفع من الأرض وصاح بأنفذ صوت قط، يا أهل الأخاشب (الجباجب): هل لكم في محمد والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا إزب العقبة، أما والله - صلى الله عليه وسلم -اعدو الله لأفرغن لك، ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم. وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن نضلة، والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم، فرجعوا وناموا حتى أصبحوا (¬1)). أين كان طواغيت الأرض من هذه البيعة الفريدة في تاريخ الأرض؟ أين كان مشركو المدينة والبيعة تتم على رؤوسهم؟. وأين كانت قريش والبيعة تريد أن تحطم طاغوتها وكبرياءها؟ وهي تحاد الله وتكذب رسوله؟ وأين كان الحجيج المشرك كله، والبيعة ستنتهي أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان؟ نقول هذا عن العدو القريب الذي كان وضع هؤلاء السبعين بالنسبة لهم كوضع اللقمة بين فكي الأسد. ولا نذكر ملوك الأرض الأبعدين كسرى وقيصر وحلفاءهما وعبيدهما، أين كان كل هؤلاء؟ كانوا يشخرون في نومهم، ويغطون في سباتهم، وعين الله تعالى تكلأ هذه العصبة المزمنة. والساهر الوحيد الذي كان يقضم أسنانه غيظا، ويعض أصابعه ندما هو الشيطان الرجيم، وانتظر حلفاءه في الأرض كلها، فلم يتحرك أحد على أخطر بيعة في الأرض، فما تمالك أن صرخ: يا أهل الأخاشب هل لكم في محمد والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم، فالشيطان إذن ساهر ليمزق كل بيعة على الجهاد في سبيل الله، ولن ينثني بنفسه أو حلفائه عن هذه الحرب، فهذه مهمته، وقد قتلته عبقرية النبوة السياسية التي حققت كل هذه الانتصارات، والشرك غاف كالمقبور لا يدري ما يجري حوله. فهل لنا بمثل هذه العبقرية في تحركنا الجديد اليوم؟. ¬

(¬1) الرحيق المختوم ص 170.

ووضع المبايعون أيديهم على مقابض السيوف ليستلوها من أغمادها أمام هذا النداء قائلين: لئن شئت يا رسول الله لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا. الاستعداد للتو لتنفيذ بنود البيعة، بل أكثر من البنود، لأن يحموه عليه الصلاة والسلام وهو في مكة. ويأتي الجواب النبوي العظيم: لم نؤمر بذلك ولكن ارفضوا إلى رحالكم. فكم الفرق بين معركة آنية يسقط بها هؤلاء السبعون شهداء استجابة لنزوة طارئة، وانفعال هائج، وبين المسؤولية عن كل قطرة دم تسقط دون تخطيط، وتسفح دون هدف. إن دم المسلم أشد عند الله تعالى حرمة من الكعبة المشرفة فكيف يسقط هذا الدم دون مقابل؟!. لا بد من الإعداد للمعركة، ولما تحن المعركة بعد. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يحدد زمانها ومكانها، وواجب الجنود أن تكون أيديهم في كل لحظة على الزناد أو على العتاد. أما واجب القيادة فأضخم من ذلك بكثير، أن تدرس آلاف الاحتمالات الناجحة أو الفاشلة لخوض المعركة. لأن كل قطرة دم سوف تقف يوم القيامة على رأس هذه القيادة وتسألها؟ فيم أرقت؟ فماذا تحيب؟ فلئن كان واجب الجندية أن تكون يدها على الزناد في كل لحظة بطلب منها ذلك فأشد وجوبا عليها وألزم أن ترفع يدها عنه، وتمضي إلى رحلها دون اعتراض، ولكن ارفضوا إلى رحالكم. ما أجلاه من درس؟! وما أروعها من عبرة؟!. الاستعداد لقتال الحجيج كافة (لنميلن على أهل منى بأسيافنا). والإشارة الواحدة بالانصراف (ارفضوا إلى رحالكم). ويعود السبعون والنيف يتسللون كالقطا إلى أماكنهم التي انسحبوا منها في الهزيع الأول من الليل - ومن حولهم غارقون في نومهم، فيشاركونهم في الشخير، دون أن يدري بهم أحد حتى من تسللوا من فرشهم وكانوا نياما معهم.

السمة الثالثة عشرة القيادة تحدد ميلاد الدولة الإسلامية

السمة الثالثة عشرة القيادة تحدد ميلاد الدولة الإسلامية ولنعد إلى المباركفرري في عرضه القيم للبيعة: (ولما قرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيهم ضجة أثارت القلاقل والأحزان، لأنهم كانوا على معرفة تامة من عواقب مثل هذه البيعة، ونتائجها بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم فما أن أصبحوا حتى توجه وفد كبير من زعماء مكة وأكابر مجرميها إلى مخيم أهل يثرب ليقدم احتجاجه الشديد على هذه المعاهدة فقد قال: (يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم). ولما كان مشركو الخزرج لا يعرفون شيئا عن هذه البيعة لأنها تمت في سرية تامة وفي ظلام الليل، انبعث هؤلاء المشركون يحلفون بالله: ما كان من شيء، وما علمناه حتى أتوا عبد الله بن أبي بن سلول، فجعل يقول: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتئتوا على مثل هذا. لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني. أما المسلمون فنظر بعضهم إلى بعض، ثم لاذوا بالصمت. فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات. ومال زعماء قريش إلى تصديق المشركين فرجعوا خاثبين. وعاد زعماء مكة وهم على شبه اليقين من كذب هذا الخبر. لكنهم لم يزالوا يتنطسونه، يكثرون البحث عنه ويدققون النظر فيه حتى تأكد لهم أن الخبر صحيح، والبيعة قد تمت فعلا. وذلك عندما نفر الحجيج إلى أوطانهم، فسارع فرسانهم بمطاردة اليثربيين، ولكن بعد فوات الأوان، إلا أنهم تمكنوا من رؤية سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، فطاردوهما. فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فألقوا القبض عليه. فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، وجعلوا يضربونه، ويجرونه، ويجرون شعره حتى أدخلوه مكة، فجاء المطعم بن عدي، والحارث بن أمية فخلصاه من أيديهم إذ كان سعد يجير لهما

قوافلهما المارة بالمدينة، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه، فإذا هو قد طلع عليهم، فوصل القوم جميعا إلى المدينة (¬1)). 1 - تحركت قريش كالذي أصابه الشيطان من المس، وجاءت مخيم الخزرج، وراح المشركون يحلفون بالله ما فعلوها، وهم صادقون، وراح عبد الله بن أبي ينفي الأمر نفيا قاطعا ويؤكد استحالته فما كان لقومه أن يفتئتوا عليه بمثل ذلك. وصدق وهو كذوب، فما علم بأن الانقلاب السري الذي تم التخطيط له لا يمكن البوح بأسراره، ولو قطعت الرقاب على ذلك. ويحضرنا سؤال دقيق في هذا المجال: لماذا لم يعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة حلفه ودولته، وقريش تبحث عن الخبر، والمسلمون يلوذون بالصمت، والمشركون يحلفون الأيمان المغلظة على كذب هذا الإدعاء؟ والجواب سهل وواضح غير أن أثره وفقه الدرس فيه يغيب بكل أسف عن أذهاب الشباب في الحركة الإسلامية. جواب السؤال: هو أن الظروف غير مواتية لهذا الإعلان، وطاقة المسلمين ضعيفة إذا قيست بطاقات مكة والمشركين عامة في أرض مكة. أو إعلان الحرب على دولة الكفر أو إعلان قيام دولة الإسلام، كل هذه الأمور رهينة بالإمكانيات التي تملكها الجماعة المسلمة ضمن التخطيط المنظم المحكم لها. ولا تتحرك هذه الأمور أبدا بالعواطف وردود الفعل. إنما تتحرك بقرار القيادة المناسب للإعلان، والتي تتوخى القيادة فيه الظروف المواتية. ونود لو يترك شباب الحركة الإسلامية لقيادتها إعلان المواجهة وطبيعتها حسب ما تقتضيه الظروف العامة - العربية والدولية. ويتحدد هذا الدرس في نقطتين: النقطة الأولى: هي أن الذي يحدد ميلاد الدولة الإسلامية هو القيادة لا ¬

(¬1) الرحيق المختوم ص 170 و 171 و 172.

القاعدة سواء أكان هذا في أرضها أو غير أرضها، وهذه القضية كثيرا ما تأخذ طابع الاتهام للقيادة بالجبن أو الانحراف لو تأخرت في ذلك. فبعض الشباب الإسلامي مثلا لا يستطيع أن يتصور قيام انقلاب إسلامي أو حركة إسلامية في أرض أو دولة، إلا وواجب الإعلان عن هوية هذه الثورة، هو الحق وهو الشجاعة، مع أن المصلحة السياسية قد تقتضي أحيانا إرجاء الإعلان عن هوية الانقلاب أشهرا بل سنوات أحيانا. ويرى هؤلاء الشباب أن هذا التأخير هو انحراف عن الإسلام حين لا يتحدث هؤلاء الانقلابيون غير محددي الهوية في الأصل، عن الإسلام، بل يذكرون بعض المبادىء الوطنية للتغطية حتى يتم التمكن والتمكين وهذا تصور خاطىء، وحكم جائر. إن إعلان قيام دولة الإسلام رهين بالظروف المواتية لذلك حسب تقدير القيادة لا حسب تقدير الأفراد، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أرجأ الإعلان عن هذا التخطيط، لأنه وجد الفرصة غير مواتية في قلب بحر الشرك، وفي مكان غير مركز قوة الأنصار - المدنية. رغم الإحراجات الشديدة التي تعرض لها المسلمون أمام إلحاح قريش بالتأكد من الخبر، فلو أعلن ذلك لكانت قريش قادرة، ومن ورائها الحجيج المشرك أن تذبح هؤلاء السبعين جميعا، وتنتهي قصة الإسلام في الأرض، وحين ترى الحركة الإسلامية أن إعلان هويتها في استلام حكم في مكان ما. قد يفضي بأن تجتاح من العدو من كل جانب، وتستأصل البقية الباقية منها. وتجربة مدينة حماة كذلك درس قيم لحركة الجهاد الإسلامي، فإعلانها المواجهة المباشرة للسلطة الكافرة، ولم تعد الظروف المواتية لذلك أدى إلى دمار المدينة وسقوط عشرات الألوف صرعى فيها. النفطة الثانية: هي أن كتمان القيادة بعض الأمور عن أفرادها لا يعني اتهامها بالكذب أو الخداع أو التضليل، حتى لو أتت الظروف المواتية في ظاهر الأمر لذلك. فلم نعلم من خلال السيرة أن المسلمين المهاجرين قد عرفوا

بقضية البيعة عدا أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، فلا ضرورة للإعلان عن مثل هذا اللقاء، ومثل هذه البيعة لهم. ما لم يتم تكليف جديد لهم على ضوء هذه البيعة، ولم يجعل هذا الأمر المهاجرين في قلق توتر لكتمان ذلك عليهم حينما عرفوه فيما بعد، فالروايات تذكر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد لأي من الزمن، وحين استقرت الأوضاع في المدينة أخبر المهاجرين بقوله: إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها، فخرجوا إرسالا. إذن فقد تم إعلامهم بالأمر عندما تقرر فتح باب الهجرة إليهم إلى يثرب. 2 - ويؤكد هذه المعاني النتائج الصعبة التي ترتبت على تفشي الخبر. مما أوقع سعدا رضي الله عنه في الأسر، وكان يمكن أن يقتل نتيجة هذا الأمر أو تنقل أسرار التنظيم والمبايعة كاملة لقريش لولا لطف الله. ولم يتم الإفراج عن سعد إلا بتدخل من أعلى مستويات قريش. ويمكن أن نتصور الأخطار أكثر أنه كان من الممكن للأنصار أن يعودوا لاستخلاص سعد لولا أن ساقه الله إليهم. ونلاحظ كذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه لم يتدخلوا لحماية سعد رضي الله عنه لأن هذا يكشف البيعة ويؤكدها بين المسلمين والخزرج، وهو درس كذلك للشباب حين يرون قيادة الحركة تتلكأ في نصر المسلمين نتيجة ظروف قاهرة قد تفوت مصلحة كبيرة لهم. فالحركة الإسلامية في خطها الجهادي، اقتضت مصلحة الدعوة فيها أن تهادن دولة مجاورة حين التقت مصلحتهما على عدو ثالث. وكان من طبيعة هذه الهدنة أن أمدتها هذه الدولة بالسلاح والتدريب والتحرك على أرضها. وكان من أسس هذه المفاوضات بينهما أن لا تتدخل الحركة بالشؤون الداخلية لهذه الدولة، ومصلحتها في معاملتها للحركة الإسلامية فيها. ونفذ هذا البند بأمانة تامة، رغم أمنية الحركة الإسلامية أن لا يمس أحد من إخوانها بسوء. لكنه شرف المعاملة.

السمة الرابعة عشرة ابتداء الحرب الإعلامية بين الدولتين

وقد تضطر الحركة الإسلامية في موقع آخر أن لا تتدخل لحماية أحد أبنائها مباشرة. إما لعجز في الإمكانية، أو لمصلحة في التخطيط. فلا يكشف من خلال هذا التدخل علاقتها به. فهذا لا يضيرها ولا يدينها، بل تبقى دائما مصلحة الجماعة الإسلامية فوق مصلحة الفرد. 3 - ونلاحظ أن الذي أنقذ سعدا قيم الجاهلية فكما يروي سعد: فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى إلي رجلا ممن كان معهم فقال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟. قلت: بل والله. لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي تجاره، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية. قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما. قال: ففعلت وخرح ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ويهتف باسمكما، ويذكر إن بينكما وبينه جوارا. قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة. قالا: صدق والله إنه كان ليجير لنا تجارنا زيمنعهم أن يظلموا ببلده! قال: فخلصنا سعدا من أيديهم فانطلق (¬1)). ولا يضير الحركة الإسلامية أن تنقذ شبابها أو ينقذهم غيرها تحت أية قيمة أو قانون أو عرف إذا كان هذا الأمر لا يؤدي بها إلى تنازلات على حساب مصلحتها العامة أو فكرتها المبدئية. السمة الرابعة عشرة ابتداء الحرب الإعلامية بين الدولتين وإثر حادث إطلاق سعد بعد اعتقاله: قال ضرار بن الخطاب بن مرداس شاعر قريش: تداركت سعدا عنوة فأسرته ... وكان شفائي لو تداركت منذرا ¬

(¬1) تهذيب السيرة ص 107 - 108.

ولو نلته طلت دماء جراحه ... وكان حقيقا أن يهان ويهدرا (¬1) فأجاب حسان بن ثابت ضرارا بقوله: فلست إلى سعد ولا المرء منذرا ... إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمرا فلا تك كالشاة التي كان حتفها ... بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا لقد أمسكت قريش بفتيل الحركة الإسلامية الذي أوشك على الانفجار، وكان من الممكن أن يقع صدام فعلي بين الفريقين لولا إطلاق سعد، غير أن التهديد والوعيد قد انطلق مؤذنا ببداية المواجهة، ولم يترك المسلمون الأمر دون رد. فكان شعر حسان إيذانا ببداية الرد في الحرب القائمة، وعلى رأسها الحرب الإعلامية: فإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا إلى أهل خيبرا (¬2) لقد كان الإعلام الإسلامي جاهزا منذ اللحظات الأولى، التي كان الإعلام فيها أشد من وقع السيف. وقد تم كل هذا الأمر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على الحياد دون أي تدخل أو إيحاء بالتدخل رغم أن الحلف معه، فلا يزال في جوار المطعم بن عدي، وبنيه جبير بن مطعم وإخوته، وجبير هو الذي أجار سعدا كذلك. ولا يريد أن يثير معركة جانبية قبل الإعداد الكامل لها، واستطاع عليه الصلاة والسلام أن يؤجل المعركة، ويؤجل الدماء حتى قامت الدولة الإسلامية. فهل لدى الحركة الإسلامية أكبر من هذا الهدف في هذه المرحلة، أن تقيم دولة الإسلام في أقل ما تستطيع من دماء، ولا تدع حلفا سياسيا أو عرفا جاهليا أو قانونا أرضيا إلا وتستخدمه من أجل هذا الهدف. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 93. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام ص 94.

السمة الخامسة عشرة اختيار الأرض وسرية التجمع فيها والهجرة إليها

السمة الخامسة عشرة اختيار الأرض وسرية التجمع فيها والهجرة إليها يقول ابن إسحاق: (فلما أذن الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن تبعه وآوى إليه من المسلمين، أمر رسول الله أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها. فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة) (¬1). لقد قيلت مثل هذه الكلمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين يوم دعاهم للهجرة إلى الحبشة: إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. واليوم إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها. والفرق بين المركزين والمنطلقين واضح. فمن حيث الموقع، نجد الحبشة بعيدة، ولا تصلح لتكون مركزا لإقامة الدولة بعيدا عن الأرض والبيئة العربية، ومهما قويت فستبقى محصورة ضمن إطار المهاجرين أنفسهم، والحركة ستكون مشلولة للمواجهة، بينما نجد المدينة وإن كانت بعيدة نوعا ما عن مكة، لكنها تحتل موقعا حساسا بالنسبة لمكة، فهي قادرة على خنق مكة اقتصاديا لأن طريق قوافل قريش عنها. والتجارة عصب الحياة لقريش. كما أن البيئة واحدة، والعرب يمكن أن تتم الدعوة في صفوفهم وأن يتقبلوها. ومن حيث البيئة، فالاعتماد في الحبشة على الحاكم العادل، الذي قد يتغير في آية لحظة، فيصبح المسلمون على خطر داهم، وقد رأينا أن ذلك قد وقع فعلا حين قامت الثورة ضد النجاشي، فهيأ للمسلمين سفينتين ليغادروا الحبشة إن تم النصر لعدوه، وهو يعلم أن المسلمين هم المستهدفون من هذه الثورة. بينما الاعتماد في المدينة على الإخوان فيها، على ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ص 111.

التجمع الإسلامي الكبير الذي طغى في يثرب على كل التجمعات، وأصبح يمثل الكثرة الكبيرة فيها. والحركة الإسلامية اليوم وهي تقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إنشاء دولتها لا بد أن تراعي هذه المعاني وتفقه دروسها، فحين انطلقت الحركة الإسلامية الحديثة في بعض فصائلها في جهادها لإقامة الدولة، لم يكن أمامها الخيار أن تجعل مرتكز تجمعها في الدولة المجاورة للطاغوت الكافر، واختيار غير هذه الدول المجاورة للتحرك والمواجهة والتدريب هو اختيار فاشل، لأن أي مكان غير هذه الدول يشل التحرك لمواجهة النظام شللا تاما. لكن العنصر الثاني من الميزة التي كانت في المدينة، قد تهيأ في بعض هذه الدول ولم يتهيأ في غيرها، وحتى وجود الإخوة الأنصار لا يجعل لهم السلطة في هذه الدول، إنما السلطة لغيرهم. فالاعتماد إذن على طبيعة النظام الحاكم في الدول المجاورة وتغير النظام في كل لحظة يهدد الوجود الإسلامي على هذه الأرض، ومن أجل هذا لا يمكن أن تكون هذه الأرض أكثر من نقطة ارتكاز وتجمع تسند من الحكام المؤيدين لها. والمرتكز الأصلي هو مكان انطلاق الحركة نفسها حيث توجد القوى الكامنة للمواجهة والمؤهلة للمساندة. فالهجرة خارج مكان المواجهة الأصل فيها، أنها هجرة مؤقتة بينما نجد الهجرة إلى المدينة هجرة ثابتة حيث تكون المدينة نفسها موطن إقامة الدولة. والحركة الإسلامية عموما حين تبحث عن الأرض ليست دائما تملك الحرية التي تريدها للاختيار. فقد تضطرها الظروف إلى مكان غير مناسب تماما. ولا بد لها من قبوله ريثما تجد المكان الأفضل. لقد بقيت الحبشة مأمنا للمسلمين فترة طويلة حتى بعد وجود يثرب ولكنها لم تكن مركزا لإقامة الدولة. وحين أتيحت الظروف في المدينة، كانت بتوفيق رباني أن قبل وفد الحجيج اليثربي الإسلام، فلو فشلت المفاوضات مثلا في الإسلام أو الحماية، أو نجحت محادثات شيبان أو كندة، لكان الموقع متغيرا حسب المعطيات القائمة. وأدى هذا إلى رحيل عائلات بأكملها، فقبيلة بني غنم رحل أربعة عشر

السمة السادسة عشرة اجتماع العدو للقضاء على القيادة

رجلا منهم وسبع نسوة مجرد الإذن بالرحيل. كما تحرك عمر رضي الله عنه وأهله وعشيرته وحلفاؤه، وتتابع المسلمون يهاجرون فلا يحس المشركون إلا وهم خارج مكة. السمة السادسة عشرة اجتماع العدو للقضاء على القيادة قال ابن إسحاق: (فلما رأت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج فعرفوا أن الدار دار منعة وأن القوم أهل حلقة وبأس وشوكة. فخافوا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم ولحوقه بهم، وعرفوا أنه أجمع لحربهم، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلف أحد من ذوي الرأي والحجى منهم ليتشاوروا في أمره ... فقال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فتيا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فقلناه لهم، قال: يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا رأي غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له (¬1). وهذه السمة تعني ما سبق أن أكدناه من قبل أن اغتيال القيادة وإنهاءها هو هدف رئيسي بالنسبة للعدو. وكثيرا ما يتصور العدو أن انتهاء القائد يعني انتهاء المواجهة والجهاد والثورة. وبالرغم من خطورة هذا الأمر، والدور الرئيسي للأمير في الجماعة. فهو لا يصح بشكل دائم، إنه قد يعيق الحركة، وقد يجهض الثورة لكن المعاني الإسلامية المتغلغلة في نفوس شباب الدعوة، لا يمكن أن تنتهي بانتهاء القيادة. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ص 126.

ولقد رأينا كيف أن الشيخ النجدي الذي حضر اللقاء كان يفند كل رأي غير رأي القتل. ويحذر من خطورة بقاء الرسول عليه الصلاة والسلام حيا، وهو الرأي الذي كان يحرص على الوصول إليه مع المتشاورين. والشيطان الذي وعده الله تعالى أن ينظره إلى يوم البعث نلاحظ أن مخططاته تنصب دائما في رؤوس أتباعه على إنهاء القيادة المسلمة في الأرض إنهاء تاما، بل لا يدع للرأي المعتدل أن يسود مهما كان. ولهذا نرى المحاولات اليائسة التي يقوم بها أعداء الإسلام لإنهاء الحركة الإسلامية عن طريق قتل قياداتها إعداما أو اغتيالا. والذي يلحظ الحاكمين وهم يواجهون الحركة الإسلامية رغم اختلاف مشاربهم ونوازعهم يلتقون جميعا على قتل هذه القيادات. ففي مصر مثلا: كان اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا هو الهدف الرئيسي الذي لا ترضى انكلترا بدونه بديلا، وقد التقى هدفها مع هدف الملك فاروق في ذلك. وحين قامت الثورة المصرية كانت ترى في هذا الاغتيال ظلما كبيرا حتى أنها شكلت محكمة لمحاكمة قتلة الإمام الشهيد. غير أنها عندما رأت قوة الحركة الإسلامية سلكت الطريق نفسه الذي سلكه قبلها فاروق، فأقدمت على إعدام الدفعة الأولى للإخوان المسلمين والمكونة من ستة من قادة هذه الجماعة وعلى رأسهم عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، ويوسف طلعت. ورغم مرور عشر سنوات على هذه المجزرة كان سيد قطب رحمه الله - صلى الله عليه وسلم -مثل البقية الباقية من القيادة المفكرة للجماعة. ومنذ أن رأى الحاكم الطاغية القوة الفكرية لسيد تجتاح الأرض المصرية. كان الاتحاد السوفييتي هو الذي يصر هذه المرة على رأسه دون أن يحتج أحد من الحاكمين المسلمين وغير المسلمين على ذلك، ورغم خطورة الإقدام على إعدامه واستياء العالم الإسلامي لذلك، لم يتراجع الطاغية عن موقفه، ولم يرض غير الإعدام له مع زملائه. وجاء خلفه يدعي الديمقراطية وإعادة الحرية، وعامل كل زعماء المعارضة بالسجن عنده حين رأى خطرهم. أما المعارضة الإسلامية فلم يكن من حل لها عنده إلا الإعدام، وقد أقدم على مجزرتين في عهده:

السمة السابعة عشرة عبقرية التخطيط البشري في الهجرة

الأولى: إعدام خمسة ممن اتهموا بحادثة الكلية الفنية. الثانية: إعدام مجموعة شكري مصطفى وإخوانه. ولم يشهد عهد الحكام المتعاقبين إعداما إلا لقادة الاتجاه الإسلامي. السمة السابعة عشرة عبقرية التخطيط البشري في الهجرة أ - مبيت علي رضي الله عنه في فراشه: (.. فأتى جبريل عليه السلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانهم فقال لعلي بن أبي طالب، نم على فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام في برده ذلك إذا نام (¬1)). فلقد كان أمر الله تعالى لرسوله أن لا ينام على فراشه، وكان تصرف النبي عليه الصلاة والسلام بنوم علي على فراشه وتسجيه ببرده جزءا من مسؤولية القائد في إنجاح خطته، وذلك بالتمويه والتعمية على عدوه. وقد نجحت هذه الجزئية في التمويه نجاحا تاما رغم الاحتمالات الكبيرة لكشفها. فلقد قال لهم الرجل الذي رأى محمدا خارجا من بيته: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا أفما ترون ما بكم؟. فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. فقام علي رضي الله عنه عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا. ورغم ثقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحماية ربه له. فهذا لم يمنعه من أن يأخذ ¬

(¬1) تهذيب سيرة ابن هشام ص 112.

الاحتياط البشري الذي يملكه. وفي الوقت الذي أعمى الله تعالى عنه الأبصار أثناء خروجه، وسلط عليها النوم حتى خرج من بين أيديهم. شاءت إرادته تعالى أن يتم لقاء رسول الله مع الراكب القادم، وأن ينبه العدو إلى خروجه. لكن الله تعالى حرس نبيه عليه الصلاة والسلام لا بمعجزة، ولكن بعالم الأسباب في تخطيط البشر. وما أحوجنا إلى أن ندرك واجبنا في الإعداد لمواجهة العدو رغم اعتمادنا الأول والأخير على الله تعالى. لا أن نحيل تقصيرنا وضعفنا وتهاوننا على القدر، ونتوجع على عدم نصر الله تعالى لنا، ونحن المسؤولون عن ذلك. ب - الخروج في النهار: (قالت عائشة: كان لا يخطىء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية - حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه. أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها (¬1)). إذ أن هذه الساعة بالنسبة للناس ساعة القيلولة، وقلما يوجد إنسان في مكة خارج بيته، خاصة إذا عرفنا أن الخروج كان في أوائل أيلول. في آخر شهر من أشهر الصيف كما حققه العلامة المباركفوري. فهذا الخروج هو أضمن ما يكون للسرية وأضمن أن يخفى عن العيون. ج - الخروج من الكوة: (... فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته (¬2) ...) .. إذ قد يكون بيت أبي بكر مراقبا، وهو احتمال كبير بعد أن فات رسول الله المشركون. وإذا كانت المراقبة قائمة من بيت مجاور أو من مكان فيه ظل بعيد عن الأنظار فستكون المراقبة لباب البيت بالذات يرصد فيه الداخلون والخارجون. وفي ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ص 129 ج 2. (¬2) المصدر نفسه 130.

الخروج من مخرج سري بعيد عن المراقبة يعني ضرورة المحافظة الدائمة على السرية ووضع الاحتمالات الكثيرة لتخطيط العدو ومراقبته. د - الاتجاه إلى الغار: (... ثم عمدا إلى غار بثور فدخلاه ... (¬1)). وإذا توقعنا تخطيط مكة للقضاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فسوف يكون طريق المدينة مرصودا من عدد غفير من الفرسان حتى يحال دون وصوله إليها. إن التفكير البشري سينصب طبيعيا على رصده لأنه هو هدف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي القبض عليه إنهاء للمعركة كاملة معه. فاتجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغار فوت على العدو مخططه وأحبطه، وفوت عليه القبض عليه. هـ - الغار على غير طريق المدينة: وتبدو عظمة التخطيط أكثر حين نعلم أن غار ثور في جنوب مكة وليس على طريق المدينة حيث احتمالات الرصد. وكما يقول المباركفوري: (ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن قريشا ستجد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا فقد سلك الطريق الذي يضاده تماما وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمين، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور. وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)). و- المخابرات في مكة: (وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يتسمع ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر .. (¬3)). فلا يكفي بقاء المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبي بكر في الغار مدة معينة، ثم ينطلقان حسب التقدير إلى المدينة، لا بد من التعرف مباشرة على كل أسرار العدو ¬

(¬1) المصدر نفسه ص 130. (¬2) الرحيق المختوم ص 183. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 130.

ومخططاته وتوقعاته، بحيث تصل أولا بأول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون متابعة تنفيذ الخطة قائما على خبرة بالواقع لا على ظن وحدس يخطىء ويصيب. وكلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو، وأدرى بأسراره، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها، وما يوم حليمة بسر. وما أحداث حماة التي أدت إلى محنتها الرهيبة، إلا وكان أكبر أسبابها جهل القيادة بطبيعة مجريات الأمور هناك. وانقطاع الاتصال بين القيادة في الخارج والقيادة الميدانية في الداخل ساهم إلى حد كبير في تطور الأزمة ومضاعفاتها. ز - تأمين الزاد: (.. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما .. (¬1)). فقد يكون المقام طويلا في الغار ولو انقطع الزاد عنهما فقد يهلكان من الجوع، وأن يحمل عبد الله بن أبي بكر مؤونة إحضار الطعام فقد يلفت ذلك الأنظار ويكشف تحركاته ويحول دون تأدية مهمته. ومن حقنا أن نتصور كذلك أنه بإمكان أسماء أن ينقل أخوها عبد الله لها صورة الواقع، وتنقل الزاد والأخبار لرسول الله. لكن قدرة أسماء على استيعاب الخبر وأبعاده أضعف من قدرة عبد الله. فلا بد من اعتماد أوثق الطرق، كذلك في الوقت الذي كانت أسماء فيه أقدر على تأمين الزاد ولكلا الأخوين اختصاصهما ومكانهما المناسب. ولا نستطيع أن نمر بهذه الفقرة دون الإشارة إلى شخصية أسماء العجيبة وهي الأنثى الحامل في شهورها الأخيرة. وتصعد في الجبل الذي يعجز المسلم العادي صعوده. ح - إعفاء الأثر: (.. وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحهما عليه .. (¬2)). فإذا كان اقتفاء الأثر خير دليل لمعرفة وجودها في الغار، خاصة ¬

(¬1) المصدر نفسه لابن هشام ج 2 ص 130. (¬2) المصدر نفسه لابن هشام ج 2 ص 130.

وأسماء وعبد الله - صلى الله عليه وسلم - وميا يأتيان إلى الغار، فكان غنم عامر بن فهيرة هو الذي يأتي على آثار أقدامهما فيعفي الأثر، ويزيل الاحتمال. والشباب المجاهدون في القواعد، والمختبئون فيها لهم في هذا الدرس بكل جزئياته، ما يدفعهم إلى التعرف على كل وسائل السرية المطلوبة وفقدان عنصر واحد من هذه العناصر يجعل القاعدة معرضة للكشف من العدو. ط - الاستمرار ثلاثة أيام: (فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر لأن الخروج إلى أي مكان في الأيام الأولى يجعلهما عرضة للوقوع في قبضة العدو. كما أن المدة الزمنية هذه كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا في المعلومات المقدمة من عبد الله بن أبي بكر عن خفة الطلب عليهما. كما أن الاستقرار أكثر قد يلفت النظر من الآخرين حين يتكرر المرور عليهما من أسماء وعبد الله كل يوم. ي - الإرادة الربانية تتدخل: في رواية للإمام أحمد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: فهيأنا لهم سفرة ... وخرجوا يطوفون في جبال مكة حتى انتهوا إلى الجبل الذي هما فيه فقال أبو بكر لرجل مواجه الغار: يا رسول الله إنه ليرانا. فقال: كلا أن ملائكة تسترنا بأجنحتها). فجلس ذلك الرجل فبال مواجه الغار فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كان يرانا ما فعل هذا (¬1)). وفي رواية البخاري: (.. فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما ..). (¬2) وبالرغم من كل الجهد البشري في التمويه والإخفاء والسرية فلقد وصلت قريش إلى مكان اختفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والظاهر من رواية أسماء أنهم كانوا يبحثون في كل جبال مكة عنهما، ولعل ذلك من وشاية أو توقع. واحتمال وصول قريش عن طريق تتبع الأثر هو احتمال ضعيف، أو ضعف في الخطة نفسها. لكن الذي نود قوله: ¬

(¬1) ذات النطاقين لمحمد حسن بريغش. ج 2 ص 35 - 36. (¬2) السيرة النبوية ج 2 ص 130.

إنه حين ينتهي الجهد البشري المطلوب، وحين تستنفذ الطاقة البشرية فإنه تعالى أرحم بنبيه وصاحبه من أن يجعلهما ظفرا لعدوهما، ولقد قرر أنه تعالى في محكم التنزيل هذا المعنى إذا أكد حمايته لنبيه ونصره له حين تخلت عنه قوة الأرض، وحين كان المسلمون كلهم كقوة بشرية قائمة في المدينة أو مختفية في مكة - ليس معه للحماية إلا إنسان واحد: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (¬1)}. فقوة الأرض كلها بعيدة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - المؤمنون والكافرون. ووصل إلى قبضة الطاغوت. وأكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا قائلا له عن الرجل المراقب: إن الملائكة لتظللنا بأجنحتها مصداقا لقول الله عز وجل: {وأيده بجنود لم تروها}. والتعبير القرآني العجيب أن هذا النصر في حقيقة الأمر كان بابا لأن تكون كلمة الله هي العليا، وإذلالا وإرغاما للمشركين في تحطيم كل مخططاتهم بقتل النبي عليه الصلاة والسلام. لقد كانت نجاته عليه الصلاة والسلام من قبضة عدوه نصرا مؤزرا تكون كلمة الله تعالى هي العليا فيه. والدعاة إلى الله بحاجة دائما إلى أن يكون راسخا في أعماقهم دائما عون الله لهم حين تعجز قوتهم البشرية عن إدراك ما يخطط لهم العدو بعد استنفاد الطاقة واستفراغ الوسع، وأن تكون لديهم القناعة التامة كذلك أن النصر أولا وأخيرا بيد الله. ك - الاستفادة من خبرة المشركين: (.. فاستأجرا عبد الله بن أريقط - وكان مشركا - يدلهما على الطريق فدفعا إليه راحليتهما - فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. وعلى شركه، فالاستفادة من خبرته قائمة طالما أنه مأمون لا ينقل الأخبار للمشركين. والاستفادة من ¬

(¬1) التوبة الآية 40.

الطاقات غير الإسلامية للحركة الإسلامية تجد نفسها مضطرة للاستفادة من هذه الطاقات. ل - متابعة التمويه: (.. فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني به سبيل الخير (¬1)). وطالما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر هو الهدف لقريش. وقد أعلن عن وضع مائة ناقة لمن يعثر عليه ويحضره، ومائة ناقة ثروة ضخمة للعربي الصعلوك الذي لا يجد قوته. فسوف تتسامع العرب بخبره وتحاول الظفر به، وتقدير هذه الصورة دفع أبا بكر رضي الله عنه أن يتبع هذا السبيل. فيوحي للسائل أن أبا بكر دليله على الطريق. وبذلك ينتفي الاتهام الذي يحوم حول أحدهما أن يكون صاحب قريش. إن الدعاة إلى الله لا بد أن يكونوا على قدر من الوعي والنباهة وحضور البديهة وحدة الذاكرة ما يجعلهم قادرين على خداع عدوهم والإفلات من يديه دون أن يستعمل أسلوب الكذب الصراح إلا عند الضرورة. أما الأصل، ففي الكناية والمجاز متسع لهم لتحقيق هذه الغاية، وكما يقول عليه الصلاة والسلام وهو يخط مبدأ من مبادىء التعامل مع العدو الصديق: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب (¬2)). م - الطريق إلى اليمن: (.. وأول ما سلك بهما بعد الخروج من الغار أنه أمعن باتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربا نحو الساحل). ولم يكتف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإقامة. ثلاث ليالي في الغار بل سار بهم الدليل بعيدا عن الأنظار باتجاه اليمن، ثم انحرف إلى طريق المدينة (حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالا على مقربة من شاطىء البحر الأحمر. فحتى الطرق الفرعية التي يمكن أن تقود إلى طريق المدينة اختارها ابن أريقط غير مأهولة، وغير مألوفة للناس ¬

(¬1) الرحيق المختوم. عن البخاري. ص 187. (¬2) رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان.

إمعانا في السرية والبعد عن الأنظار. والطريق الذي اختاره للمدينة بعد ذلك هو غير الطريق العادي الذي يمضي به الناس إليها (وسلك طريقا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرا) وكما يحدثنا أبو بكر رضي الله عنه عن هذا الطريق بقوله: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس فنزلنا عنده، وسويت للنبي - صلى الله عليه وسلم - مكانا بيدي ينام عليه وبسطت عليه فروة. وقلت نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك. فنام، وخرجت أنفض ما حوله). فالطريق خالية والناس قلما يمرون فيها. فكم كان هذا الدليل ماهرا خريتا وهو يسير بهم في كل صوب حتى يقودهم إلى المدينة؟ إن الجهد البشري في عالم الأسباب إذا كان من غير رجال الدعوة أصلا، فلا يجوز أن يسبق رجال الدعوة فيه بحجة الاعتماد على الله والتوكل عليه، وإذا كان سيد الخلق قد فعل ذلك وهو المصنوع على عناية الله وفي رعايته، فلا شك أننا نحن أولى بذلك. ن - سراقة والتعامل معه: ومن الجهد البشري في الاحتياط كذلك ما كان يفعله أبو بكر رضي الله عنه (فجعل أبو بكر يسير أمامه، فإذا خشي أن يؤتى من خلفه سار خلفه. فلم يزل كذلك مسيره) ومع هذا الاحتياط فقد لحق سراقة بن مالك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طمعا في الجائزة وكما يروي: (.. فدنوت منهما حتى إني لأسمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ركضت الفرس فوقعت بمنخريها، فأخرجت قداحي من كنانتي فضربت بها: أضره أم لا أضره؟ فخرج: لا تضره، فأبت نفسي حتى أتبعه، فأتيت ذلك الموضع فوقعت الفرس. فاستخرجت يديه مرة أخرى، فضربت بالقداح أضره أم لا، فخرج لا تضره فأبت نفسي حتى إذا كنت منه بمثل ذلك الموضع خشية أن يصيبني ما أصابني بأذيته، فقلت: إني أرى سيكون لك شأن فقف أكلمك). فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يكتب له أمانا فكتب له أمانا). وفي رواية البخاري (¬1) فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي ¬

(¬1) من رواية الإمام أحمد وأورده البخاري في صحيحه ج 5/ 77.

حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمان فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أدم ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (ورجع سراقة فجد في الطلب فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما ها هنا وكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما (¬1)). والحرص على تعدد الروايات هو لاستكمال الصورة. فما لقيه سراقة من انسياخ قدمي فرسه ومن تعثرها وانكبابها على منخريها - كما ثبت في الروايات الصحيحة - جعله يغير خطته. ومن أجل ذلك فلم يقاتل ولم يقتل، بل تم الاطمئنان إليه. بأن أتم بقية الخطة في التعمية، وصرف الناس عن متابعة الطلب في هذا الطريق. والملاحظ أن سراقة لم يسلم وبقي على شركه. وكل ما وقع عنده هو قناعته بأن الرجل ممنوع وأن النصر حليفه لا محالة، ورضي أن يذود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر اليوم ويبعد الناس عن ملاحقته في هذا الطريق. والدرس المهم لنا من هذه الحادثة، ونحن في الحركة الإسلامية نعمل لإعادة الحياة الإسلامية إلى الأرض. هو أن نملك القدرة على تحديد الصديق من العدو وذلك في صفوف الكفار أنفسهم وبإمكان الحركة الإسلامية أن تأخذ من قلب أعدائها من تصبح القناعة عنده بانتصارها ليتعامل معها ويناصرها، ويبقى تقدير الأمر لقيادة الجماعة من خلال تعاملها مع هذا الخصم. إن المنطق الظاهري يقتضي قتل سراقة بن مالك لأنه قد يدل عليهما. وهو لم يسلم بعد، لكن تقدير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشخصه أنه صادق الولاء لهما، وأنه تخلى عن عدائه لهذه الحركة أمام هذه المعجزات. والنقطة الثانية التي تستفيدها الحركة كذلك هو أن لا يكون الحكم على الرجل أو الفئة من خلال الماضي القريب أو البعيد في عدائهم للإسلام. فمناط الأمر هو الثقة بتغير هذه الفئة أو هذا الرجل مهما كان ماضيه في ¬

(¬1) زاد المعاد ج 2/ 53 ط دار الفكر.

الحرب ضد الإسلام، والقيادة من خلال تعاملها مع هؤلاء الناس لها الاجتهاد الأوفى بهذا الأمر. وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الموحى إليه فيطلق في أحكامه من الوحي فلا يخطىء، ولا ينطق عن الهوى. فليس أمام قيادة الحركة الإسلامية إلا الاجتهاد في هذا الأمر الذي قد يخطىء وقد يصيب، ولو قدرنا مثلا أنها أخطأت التقدير فلا غضاضة في ذلك، ولا داعي لأن تقيم القاعدة الدنيا عليها لهذا الخطأ. إن الحركة الإسلامية في مسيرها لإقامة دولة الإسلام، قد تتحالف مع عدو قريب وتتعاون معه بل تطلب منه جزءا من المناصرة جليلا أو يسيرا إذا اطمأنت إليه. وميزان الاطمئنان هو مدى ثقة هذا العدو بقوة الحركة الإسلامية. وتستطيع أن تبذل الجهد في التأكد من هذه الثقة، ولا شيء عليها بعد ذلك أصابت التقدير أم أخطائه. والنقطة الثالثة التي نفقهها من هذه الحادثة هي فكرة الأمان لهذا العدو الذي غير موقفه وأعلن مناصرته وولاءه. فكل ما طلبه سراقة هو الأمان، وطالب به يوم حنين، وإن كنا لا ندري متى أسلم سراقة رضي الله عنه، وأغلب الظن أن إسلامه كان بعد فتح مكة (¬1). لكنه أظهر الأمان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فأقره عليه. إن سلوك الكافرين ومواقفهم من الحركة الإسلامية يجعل لدى الحركة حرية التعامل معهم من خلال هذه المواقف بحيث يكون الأمر في النهاية لصالح الإسلام ودولته. وتستطيع أن تهادن وتؤمن وتستعين بمن تشاء بعد تقديرها لموقف هؤلاء الناس دون قيد. وكم نتمنى للقاعدة الإسلامية الصلبة أن تكون عونا لقيادتها على هذا التحرك، لا أن توجه لها سهام النقد والتجريح ¬

(¬1) في رواية ابن إسحاق أنه أسلم بعد عرض الأمان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثر عودته من حنين (خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعران فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك ماذا تريد؟ فدنوت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على ناقته ... فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابك لي. أنا سراقة بن مالك فقال: يوم وفاء وبر أدنه فدنوت منه فأسلمت). تهذيب السيرة ص 117.

والاتهام في وعيها على أقل الأحوال، ليصل الاتهام إلى دينها في أغلب الأحوال. س - قصة أم معبد: والذي يعنينا من قصة أم معبد بعد المعجزة الربانية الباهرة أنها كانت على بعض الروايات سببا في ملاحقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والركب منه. وعلى الأقل كانت هذه الضيافة بشكل عام قد حددت مكان السير. إذ تذكر الرواية عن أسماء رضي الله عنها: (حين أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب وإن الناس يتبعونه يسمعون صوته ما يرونه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد ما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد ومع ذلك فلم يكن لهذا الأمر ما يثير الغبار حول كشف المخطط أو مكان السير وطريقه. وقصدنا من هذه الملاحظة التأكيد على أن ما يتم فوق الطاقة البشربة من كشف لجانب من جوانب الخطة. كما جرى حين وصل الركب إلى الغار، وكما جرى حين وصل سراقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكما جرى مع هاتف الجن، هذه أمور ربانية يهيئها الله تعالى لدعوته. قد تكون قوة لهؤلاء الدعاة، وقد تكون كشفا لهم وامتحانا عسيرا لتمحيص صفهم. ففي أحد أعلمنا الله تعالى حكمه وحكمته بقوله جل وعلا: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (¬1)}. فبالرغم من أن السرية التامة كانت على الجميع حتى من العصبة المسلمة ما عدا من اشترك فيها (عائشة وأسماء وأبو بكر وابن أريقط فهيرة ¬

(¬1) سورة آل عمران الآية 140 - 141.

السمة الثامنة عشرة قاعدة جديدة تنضم إلى الإسلام

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -) مع هذا كله تكشف جانب من الخطة كان فوق التقدير البشري. فتلقاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتسليم المطلق: {لا تحزن إن الله معنا}. (ما قولك في اثنين الله ثالثهما). وما أحرانا نحن وقد شهدنا عبقرية التخطيط للهجرة أن لا تغيب عنا هذه الجوانب الثلاث: أولا: علينا أن نستفرغ الوسع ونبذل كل الطاقة في التخطيط البشري. ثانيا: أن يكون اتكالنا على الله تعالى دون اعتمادنا على الأسباب. ثالثا: أن نقبل قضاء الله وقدره فيما هو فوق طاقتنا ونطمئن إلى أنه خير للإسلام والمسلمين. السمة الثامنة عشرة قاعدة جديدة تنضم إلى الإسلام يقول المباركفوري: (وفي الطريق لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بريدة (¬1). وكان رئيس قومه، خرج في طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رجاء أن يفوز بالمكافأة الكبيرة التي كان قد أعلن عنها قريش، ولما واجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلمه أسلم مكانه مع سبعين رجلا من قومه، ثم نزع عمامته وعقدها برمحه، فاتخذها راية .. (¬2)). لقد كانت بيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع سبعين من الأنصار، ولا شك أن هؤلاء مقدمة للأنصار في المدينة. غير أن انضمام قافلة جديدة إلى موكب الإيمان من قبيلة أسلم، والتي كان بريدة بن الحصيب على رأسها قد مضى للإجهاض على محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عتبر هذا الأمر تغيرا خطيرا في مراحل الدعوة. فلم تعد المدينة وحدها صاحبة اللواء الإسلامي المرفوع. إذ انضم إليها حليف قوي من أسلم، بهذا التجمع الكبير والجمهرة الضخمة. وهذا يعني أن الطريق بين مكة والمدينة صار محفوفا بالمخاطر من هؤلاء وعلى الأقل ¬

(¬1) الأصح أنه بريدة بن الحصيب الأسلمي كما في إمتاع الأسماع للمقريزي ص 42. (¬2) المباركفوري في - الرحيق المختوم - ص 19.

السمة التاسعة عشرة (أول إعلان رسمي لشعائر العبادة)

إن لم يتمكنوا من صد هجوم قريش فلا أقل من أن يرصدوه، ويرصدوا كل التحركات المعادية ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولقد كان سرور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظيما بدخول هذه القاعدة في الإسلام إذ قال: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما والله ما أنا قلته، ولكن الله قاله (¬1)) ويشير هذا المعنى إلى أن قوة المسلمين، وظهور تجمعهم قد جعل القبائل المجاورة على استعداد لقبول الإسلام والانضمام إليه. كما يشير المعنى كذلك إلى أن الدعوة إلى الله تعالى تبقى هي الهدف الرئيسي للمسلمين، فرغم أن الظروف على الطريق إلى المدينة. لم تكن ظروفا مؤهلة للخوض في تفاصيل الإسلام. لكن الهدف الرئيسى دائما تتجاوز الظروف من أجله، وعلى الدعاة إلى الله أن يكونوا دائما على أهبة الاستعداد للدعوة إلى الله على بصيرة. السمة التاسعة عشرة (أول إعلان رسمي لشعائر العبادة) (قال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول). ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء على كلثوم بن الهدم .. وأقام بقباء أربعة أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة (¬2)). فبعد مرور ثلاثة عشر عاما ليس للمسلمين مركز علني ثابت يصلون فيه، لا تقام فيه إلا شعائر التوحيد، إذ كانوا يصلون أحيانا في الكعبة، لكن بيت الله الحرام قد أحاط به ثلاثمائة وستون صنما، وكل شعائر الشرك تقام حوله. ¬

(¬1) الإمام أحمد الطبراني والحاكم في مستدركه. (¬2) الرحيق المختوم عن البخاري وزاد المعاد ص 189 - 191.

لقد كان مسجد قباء كما ذكر القرآن الكريم أول مسجد أسس على التقوى، وكان رواده أول ركب مؤمن خالص الإيمان يعلنون التوحيد ويرفعون راية لا إله إلا الله، دون خوف من سلطة قاهرة تفرض عليهم غير شعائر الإيمان. لقد كانت الصلاة في مسجد قباء نقطة تحول في التاريخ الإسلامي بين عهد المحنة والخوف والمعاناة، وبين عهد التميز والمفاصلة، والعبادة الخالصة لله وحده دون أثر للشرك والمشركين. {.. لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله - صلى الله عليه وسلم - حب المطهرين (¬1)}. ولعل الهدف الأول للحركة الإسلامية اليوم حين تقيم دولة الإسلام أن تعود إلى المساجد روح التوحيد الخالص البعيدة عن مظاهرة الطاغوت والتسبيح بحمده، دون خوف أو وجل. {وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا .. (¬2)}. وهو الهدف الذي حدده الإسلام للمؤمنين عند التمكين. {.. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور .. (¬3)}. {.. في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب (¬4)}. وكان تجمع قباء ليس خاصا بأهل قباء وحدهم. فكما يقول ابن القيم: وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة (¬5)). وكان هذا التجمع ¬

(¬1) التوبة 108. (¬2) سورة الجن الآية 18. (¬3) سورة الحج الآية 41. (¬4) سورة النور الآية 36 - 38. (¬5) الرحيق المختوم ص 191.

السمة العشرون نجاح الخطة، ووصول القائد الأعلى إلى مركز القيادة

خاليا من كل الشكليات والرسميات. وكما روى البخاري: فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله عند ذلك). إنه سيد خلق الله كافة، ويعيش مع أصحابه كأنه واحد منهم حتى لا يعرف إلا عندما يظلل بالرداء من أبي بكر، ومعالم دولة الإسلام في الأرض بهذه القيادة وبهذا التواضع والتعايش لحرية أن تكون منهاجا لكل مسؤول وقائد كيف تكون علاقته مع إخوانه وجنوده. السمة العشرون نجاح الخطة، ووصول القائد الأعلى إلى مركز القيادة (.. فلما كان اليوم الخامس - يوم الجمعة - ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار - أخواله - فجاؤوا متقلدين سيوفهم فسار نحو المدينة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل. وبعد الجمعة دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته، هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم، خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها ... وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فأدخله بيته فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: المرء مع رحله (¬1)). وها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه من المهاجرين والأنصار يحفون بهم، ويفدونه بآبائهم وأمهاتهم، ويضعون دماءهم وأموالهم تحت تصرفه وجواري الأنصار يغنين ويضربن بالدفوف: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع ¬

(¬1) مقتطفات من الرحيق المختوم ص 192 - 193.

وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع وقامت دولة الإسلام الأولى في الأرض تحف بها ملائكة السماء بعد جهاد ضار مضني استمر ثلاثة عشر عاما كاملة. وكانت الخطوة الأولى في هذه المرحلة هي بناء المسجد الذي سيكون مركز انطلاقة لهذه الدولة ودار الحكم فيها ومقر قيادة الجيش، ومحضن التربية الأول ودار القضاء العالي. وإذا استعدنا الخطوط العامة لهذه المرحلة الثالثة للعهد المكي والتي ابتدأت من رحلة الطائف الشاقة مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري. أنت رب المستضعفين وأنت ربي .. هذه المرحلة التي ابتدأت ولا نصير ولا معين يغادر الطائف مدمى القدمين من الحجارة من سفهاء القوم، وتتوج هذه المرحلة بين أسود الأنصار وأبطال المهاجرين يقضون جميعا دون أن تناله شوكة تؤذيه في رجله ويعلنون: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا لأدركنا خطورة هذه المرحلة، وأدركنا معالمها، وأدركنا سماتها، وعبقرية النبوة في إقامة هذه الدولة دون أن تراق قطرة دم.

الجزء الثاني

الجزء الثاني

ينقسم العهد المدني إلى مرحلتين كبيرتين متميزتين المرحلة الأولى: مرحلة تأسيس الدولة وتنتهي بغزوة الخندق المرحلة الثانية: مرحلة نصر الله والفتح وتمتد من صلح الحديبية إلى الوفاة

مواصفات المرحلة الأولى

مواصفات المرحلة الأولى ويتم تناولها في دراسة المواقف المشتركة والمتشابهة في هذه المرحلة، مع مراعاة التسلسل الزمني ما أمكن ضمن عناصر السمة الواحدة. السمة الأولى الهدنة مع الأعداء ما عدا قريشا وحلفاءها أ - ميثاق المدينة والهدنة مع اليهود؟ إذا كان اليهود قوة ذات شوكة ومنعة وليس من صالح الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه فتح حرب مع اليهود، خاصة وأنهم أهل كتاب منزل، فالطمع في إسلامهم قائم. ولقد تناول الميثاق تنظيم العلاقة بين المهاجرين والأنصار، كما تناول تنظيم العلاقة بين المسلمين عامة وبين اليهود في بابين: الباب الأول: اليهود الذين يعيشون ضمن تجمعات المسلمين. الباب الثاني: اليهود المتميزون في دورهم وتجمعاتهم بعيدا عن المسلمين. أما بالنسبة للباب الأول فقد ذكرت الوثيقة ما يلي: (.. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم. وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم. وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلا من ظلم وإن الله على أبر هذا (¬1)). وذكرت الوثيقة بالنسبة للباب الثاني ما يلي: (وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه. وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا ¬

(¬1) تهذيب سيرة ابن هشام لهارون ص 125.

الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)). ب - العلاقة مع المشركين: حيث لم يسمح لتجمع المشركين من خلال الفكرة، إنما من خلال التجمع القبلي، ووضع في الميثاق مادة تحكم علاقة الأفراد المشركين في التجمع الإسلامي: (وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بنيه فإنه قود به إلا أن يرض ولي المقتول ..). وبذلك تم تنظيم العلاقات بين أبناء هذا المجتمع على اختلاف دياناتهم في دولة الإسلام الأولى دولة النبوة، وحقق هذا الميثاق العدل التام للجميع والارتياح والرضا من قبلهم. فحقوقهم محفوظة، وواجباتهم محددة، والعدو الوحيد لأبناء هذا الوطن الإسلامي بكل فئاته هم قريش فقط. وعليهم واجب التناحر ضدها، ويحرم التحالف معها. ج - ميثاق الأمان مع بني ضمرة: وذلك في غزوة الأبواء أو ودان في صفر من السنة الثانية للهجرة حيث (عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشي الضمري، وكان سيد بني ضمرة في زمانه، وهاك نص المعاهدة: هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله ما بل بحر صوفة. وإن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه. وهذه أول غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)). د - ميثاق عدم اعتداء مع بني مدلج: وكان ذلك في غزوة العشيرة في جمادى الأولى من السنة الثانية حيث عقد هذه المعاهدة مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة. ¬

(¬1) تهذيب سيرة ابن هشام لهارون ص 126. (¬2) الرحيق المختوم ص 220. عن المواهب اللدنية للزرقاني.

السمة الثانية بناء القاعدة الصلبة

هـ - موادعة أهل دومة الجندل: وكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة بعد أن بدأت القبائل تتجرأ على المسلمين عقب أحد حيث بلغه أن هذه القبائل على مشارف الشام تعد العدة لغزو المدينة. وأما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحدا، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أياما وبث السرايا، وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحدا، ثم رجع إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن. فلقد كانت هذه الأحلاف والمعاهدات مع القبائل البعيدة والقبائل المجاورة بهدف تخذيل العدو وفتح جبهة واحدة مع قريش فقط، بينما يطمئن إلى بقية الجبهات أنها لن تغزوه، وبهدف التخذيل عن العدو، فلا يبقى مع قريش مناصر في المدينة وما حولها. فلا تجد الحركة الإسلامية على ضوء هذه السمة حرجا في أن تحالف من شاءت وتحارب من شاءت إلى أن تصبح قادرة على تطبيق الإسلام كاملا بالنسبة للمشركين، إما الإسلام وإما القتل. وعليها أن تفي بعهودها مع هذا الحليف. السمة الثانية بناء القاعدة الصلبة وقد أخذت عملية بناء المجتمع الإسلامي الأولى ثلاثة خطوط: الخط الأول: العهد بين تجمع المهاجرين وتجمع الأنصار. الخط الثاني: المؤاخاة بين أفراد المهاجرين والأنصار. الخط الثالث: المؤاخاة بين المهاجرين وحدهم. أما نص الوثيقة التي أقامت هذا البناء بين المهاجرين والأنصار فتقول: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من

قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون (¬1) بينهم، وهم يفدون عانيهم (¬2) بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو عوف على ربعتهم (¬3) يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجار .. وبنو الحارث .. وبنو ساعدة .. وبنو الجشم .. وبنو عمرو بن عوف .. وبنو النبيت .. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا (¬4) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (¬5) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين. وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم. وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم لأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا، وإن المؤمنين يبىء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، لأن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه. وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن ¬

(¬1) يتعاقلون: أي يعقل بعضهم عن بعض، والعقل: الدية. (¬2) العاني: الأسير. (¬3) الربعة: الحال التي وجدهم عليها الإسلام. (¬4) مفرحا: مقلا بالدين كثير العيال. (¬5) الدسيعة: العظيمة.

عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1)). فلقد أصبح المهاجرون والأنصار أمة واحدة من دون الناس، أما كتلة المهاجرين فكلها تجمع واحد، أما كتلة الأنصار فموزعة على تجمعات قبائلها وعشائرها، ولقد تحددت مسؤولية كل فريق على حدة أمام الله تعالى وأمام رسوله وأمام إخوانه المؤمنين. وحيث إن المهاجرين جميعا كتلة واحدة ليس تجمعهم على أساس الانتماء القبلي، فكان لا بد من الخط الثاني، خط المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم ليحمل قويهم ضعيفهم، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ذاته الشريفة وبين علي بن أبي طالب ابن عمه الذي جاءه حافي القدمين بعد تأدية أماناته إلى الكفار في مكة. كما آخى عليه الصلاة والسلام بين حمزة بن عبد المطلب عمه، وبين زيد بن حارثة مولاه، دون تمييز لنسبهما بل كان الدافع هو التقوى. وكان الخط الثالث هو المؤاخاة بين أفراد المهاجرين والأنصار على حد التعبير النبوي: تآخوا في الله أخوين أخوين. وذلك ليتم التكافل المباشر بينهما، فالأنصار أهل ضرع وزرع، والمهاجرون أهل تجارة. فكان الأنصاري يعرض على أخيه المهاجر أن يقاسمه ماله وبيته وزرعه. فقد روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عبد الرحمن (بن عوف) وسعد بن الربيع، فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع. ويقول ابن القيم: ثم آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك وكانوا تسعين رجلا نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، ¬

(¬1) تهذيب سيرة ابن هشام ص 124.

السمة الثالثة إعلان إسلامية الدولة

إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض (¬1)} رد التوارث دون عقد الأخوة. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا، فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة قالوا: سمعنا وأطعنا (¬2)). السمة الثالثة إعلان إسلامية الدولة أ - بناء المسجد: يقول المباركفوري: وأول خطوة خطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك هو إقامة المسجد النبوي ففي المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء المسجد، واشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وساهم في بنائه نفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول: هذي الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في البناء حتى أن أحدهم ليقول: لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل وكان في ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد وكانت القبلة إلى بيت المقدس وجعلت عضادتاه من الحجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعمده الجذوع، وفرشت أرضه من الرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانب مثل ذلك أو دونه. وكان أساسه قريبا من ثلاثة أذرع. ¬

(¬1) من الآية 6 من سورة الأحزاب. (¬2) الرحيق المختوم ص 206.

ولم يكن المسجد موضعا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشؤون وبث الانطلاقات، وبرلمانا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية. وكان مع هذا كله دارا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم دار ولا مال ولا أهل ولا بنون. ب - إعلان الأذان: (.. فبينا هم على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد .. النداء. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا رسول الله. إنه طاف في هذه الليلة طائف. مر بي رجل عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوسا في يده. فقلت له: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟. قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر ... فلما أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك. فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجر رداءه، وهو يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلله الحمد على ذلك (¬1). ج - الحكم الإسلامي: ونلاحظ ميزات هذا الحكم وإعلانه من بعض مقتطفات من ميثاق المدينة: 1 - بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم إنهم أمة من دون الناس ... 2 - وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) تهذيب سيرة ابن هشام ص 128.

السمة الرابعة لا خيار من المعركة

3 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود .... 4 - وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. 5 - وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا تحتاج هذه الفقرات إلى تعليق، فهي واضحة تماما من حيث تحديدها لقيام دولة الإسلام وإعلان هوية هذه الدولة. بعد التمكين الذي هيأه الله تعالى لرسوله وللمؤمنين. السمة الرابعة لا خيار من المعركة الصورة الواضحة في أذهان معظم شباب المسلمين من خلال قراءتهم لكتب السيرة هي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي افتتح المعركة مع قريش حين راح يهاجم قوافلها المارة بالمدينة، وخاصة قافلة أبي سفيان، ويضطر كتاب السيرة للاعتذار عن هذا الهجوم أن قريشا قد سلبت أموال المسلمين وأخرجتهم من أرضهم وديارهم. فلذلك هم يطلبون ما لهم وهم أصحاب الحق فيه. ومرد الخطأ في هذه الصورة هو اعتماد سيرة ابن هشام وحدها مصدرا للسيرة ة بينما يمكن للصورة أن تتكامل لو ربطت هذه السيرة مع ما ورد عن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتب الحديث المعتمدة من الصحاح الستة وغيرها التي تعتبر من حيث التوثيق أقوى من سيرة ابن إسحاق. والذي دفع إلى كتابة هذه الخاطرة هو ما رواه أبو داود في سننه عن قريش أنهم كتبوا إلى عبد الله بن أبي بن سلول - بصفته زعيم المدينة - يهددونه ويتوعدونه بقولهم: (إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو

لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم). كان هذا بالنسبة لأهل يثرب وزعيمها، أما بالنسبة للمهاجرين فقد كتبت إليهم تقول: (لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم (¬1)). ولم يكن هذا غريبا على منهج قريش، فهي التي قررت اغتيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملأ منها، وخفتت الأصوات التي كانت تدعو لحمايته، ولم يكن لديها الجرأة لمواجهة التيار العنيف ضده وضد أصحابه، كما أن قريشا منعث بالقوة هجرة من استطاعت منعهم عندما رأت تسرب المسلمين إلى يثرب، ولم تكتف بذلك، بل بعثث وراء بعض المهاجرين فاستعادتهم مثل عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وغيرهم. فمنطق الحرب لدى قريش يعطينا تصورا عن منطق الجاهلية في حربها ضد الإسلام والمسلمين. إنها لن تدع المسلمين يستقرون في الأرض، ولن تترك لهم أمانا في أي موقع، أو تدع لهم أن يحتلوا أي موقع. لأنها تعرف أن قوة الإسلام لا بد أن تكتسحهم. والحركة الإسلامية بحاجة أن يستقر في ذهنها هذا المعنى، فلا تركن إلى الدعة إن ابتعدت عن موطن الصراع، أو تحسب أن المعركة قد انتهت مع الجاهلية إن أفلتت من أيديها. وواقع الحركة الإسلامية اليوم يؤكد هذا المعنى، فعندما تجمع الدعاة في قطر مجاور للطاغوت لم يتورع أن يتجاوز الحدود، ويغتال من يستطيع اغتيالهم أو يحاول ذلك، بل لجأ في بعض الظروف إلى حشد فرق كاملة على حدود هذا القطر ليحاربه، والعالم كله يحارب الأقطار التي تؤي شباب الحركة الإسلامية أو تهيء لهم التدريب والتحرك. إنه لا خيار لنا في المعركة، وهذا ما أكدته قريش لابن أبي أولا ثم للمسلمين المهاجرين ثانيا. تطالب فيه قيادة المدينة أن تطرد المؤمنين منها، أو تقتلهم فيها، كما تؤكد أن الاستئصال التام هو الحل الوحيد لديها في مواجهة المسلمين. ¬

(¬1) أبو داود، باب خبر بني النضير.

السمة الخامسة التجمع الوثني في المدبنة

وتؤكد هذه الصورة في عصرنا الحديث يوم أصرت السلطة الطاغية في بعض الأقطار على تسليم بعض قيادات الحركة الإسلامية لها مقابل حضورها مؤتمرا معقودا في الدولة المضيفة. إننا مع الجاهلية في معركة لا خيار فيها، وفي هذه المعركة لا نلتقي مع العدو في منتصف الطريق بل تحدد هدفها في اجتثاث جذور الدعاة واستئصالهم، وحين نفهم عدونا على ضوء هذا المعنى نتعامل معه على بصيرة منه ومن مخططاته. السمة الخامسة التجمع الوثني في المدينة (... فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..). لاحظنا أن الميثاق لم يعط التجمع الوثني بصفته كتلة في المجتمع حق الوجود، إنما سمح بوجوده بصفته أفرادا لا يجبرون على دخول الإسلام. وكان على رأس هذا التجمع عبد الله بن أبي الذي أقسم الأيمان المغلظة لقريش في موسم الحج أن قومه لم يعاهدوا محمدا ولم يعاقدوه، ولا يمكن أن يتم هذا دون علمه وأمره، فعندما بلغه أن الخبر صحيح امتلأ قلبه حقدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومما زاد الحقد في قلبه اشتعالا هو أن الخزرج والأوس بعد أن هدأت بينهم الثارات اجتمعوا على أن يعقدوا الملك لعبد الله بن أبي وكانوا ينسجون له الخرز ليتوجوه. فأحس عبد الله بن أبي أن عدوه الأول والأكبر هو محمد رسول الله. وتذكر كتب السيرة موقفا له في هذه المرحلة قبل دخوله الإسلام يوم مر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ركب من قومه فنزل عن حماره وسلم عليه، (ثم جلس فتلا القرآن، ودعا إلى الله، وذكر بالله .. حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مقالته قال: يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا، فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغشه به، ولا تأته في مجلسه بما يكره، فقال عبد الله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى فاغشنا وائتنا في مجالسنا ودورنا، فهو والله مما نحب، ومما أكرمنا

الله به وهدانا له، فقال عبد الله بن أبي حين رأى من خلاف قومه ما قد رأى: متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل ... تذل ويصرعك الذي لا يصارع وهل ينهض البازي بغير جناحه ... وإن جذ يوما ريشه فهو واقع (¬1) وفي رواية أنه قال له (¬2): أبعد عنا نتن حمارك. فشخصية عبد الله بن أبي إذن هي المؤهلة للمواجهة والحرب في المدينة. أما اليهود فقد كانوا أذكى من ابن أبي وهم يرون الكثرة من أهل يثرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان من تخطيطهم أن يتم إنهاء محمد رسول الله على يد هذا التجمع الوثني دون أن يفقدوا مالا أو نفسا. ووجد ابن أبي الفرصة سانحة ليهيج العواطف ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه من جماعته المتواطئين معه على وثنيته. ولا يتم له ذلك إلا بتجسيم الخطر المحيق بهم من جراء تهديدات قريش، وأكد لهم أن القضية قضية فناء أو بقاء، ولا قرار ولا استقرار لهم إلا بطرد المسلمين وقتالهم. ومن أجل ذلك أعادوا تنظيمهم، وشكلوا القوة المكافئة ومضوا لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين. وهذه هي العناصر الثلاثة التي حدت بهذا التجمع لحرب المسلمين: 1 - الحقد والضغينة على فوات المنصب والمركز لقيادة يثرب. 2 - خلاف العقيدة والإصرار على الوثنية. 3 - الدفع الخارجي والتهديد بالخطر من قريش، والتآمر الداخلي من اليهود. وهذه العناصر موجودة في كل وقت، ويحتمل أن تواجه بها الحركة الإسلامية وتعد لهذا الموقف عدته. وفي مثل هذه الظروف تكون الريح مع أعداء المسلمين، تماما كما يفعل اليوم الطواغيت حين يهددون الشعب الآمن بذبحه إن آوى المجاهدين، بل ¬

(¬1) مختصر السيرة النبوية لابن محمد بن عبد الوهاب ص 170 عن ابن إسحاق عن الزهري. (¬2) لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

السمة السادسة تفتيت التجمع بالنزعة الوطنية والعشائرية

يحرص على أن يبث عملاءه في الصفوف ليؤكدوا أن الحرب والدماء والخوف قد نشأ من وجود المجاهدين وعملياتهم ضد السلطة الباغية، وحرص عوام الناس على أمنهم ومصالحهم القريبة يدفعهم إلى الاستجابة لمثل هذه الدعايات، وأن يقفوا في صف السلطة الباغية ضد إخوتهم المجاهدين، وبهذا المنطق استطاع عبد الله بن أبي أن يجمع هؤلاء الناس ويحرضهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. السمة السادسة تفتيت التجمع بالنزعة الوطنية والعشائرية (... فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيهم فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم. فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا (¬1)). وكم نحن بحاجة إلى الوقوف أمام هذا المعنى، وهو المعنى الذي يمكن أن نسميه فقه سياسة النبوة. لقد كان لهذا الموقف صورة مشابهة نقلها لنا البخاري رحمه الله حول الصورة السابقة من لقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الله بن أبي. وفي الرواية (... وأردف أسامة بن زيد وراءه وفيه ... وذلك قبل وقعة بدر وقبل أن يسلم عبد الله، وفيه: فلما غشيت القوم عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغيروا علينا، وفيه: فاستب المسلمون والمشركرن واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخففهم حتى سكنوا. وفيه: قال سعد بن عبادة: اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬

(¬1) أبو داود، خبر بني النضير. (¬2) مختصر السيرة. ص 170.

لقد كانت المواجهة الأولى بين المسلمين والمشركين في المدينة في الحادثة المذكورة، ولو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الأمر لعواطف المسلمين، وهم ما ثاروا إلا غضبا لله ورسوله، لوقعت الحرب الضروس، وتزعزع إيمان بعض المؤمنين، وانضموا إلى معسكر عبد الله بن أبي، وأعيدت حرب بعاث من جديد. وضاعت فيها معالم الحق وسط نتن العصبية وتزلزلت دولة الإسلام في مراحلها الأولى. فلقد استل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضب المسلمين، ولو كان غضبهم لله ورسوله، وكان يهدىء العواطف الثائرة، دون أن ينحاز لأحد الطرفين، واستجاب المسلمون لأمر قائدهم واستبعدت المعركة. أما الصورة الجديدة التي بين يدينا فهي في ظاهرها غير ممكنة التلافي. إذ قد عمد الوثنيون إلى سلاحهم لمواجهة المسلمين، وتبدو صعوبتها أكثر حين نتصور أن الأيدي الخفية التي تحركها من الخارج. واستطاعت الدعاية الخارجية أن تجعل الأمر في أذهان المشركين أمر مصير محتوم لا خيار فيه. فإما قتل محمد وأصحابه وطردهم، وإما احتلال المدينة واستباحتها من أهل مكة. ونقف هنيهة لنرى كيف استل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتيل الانفجار من المشركين. وكيف أنه اعتمد - عليه الصلاة والسلام - التركيز على الوتر الذي ركزت عليه قريش. فأعاد السحر على الساحر، واستعمل الأسلوب نفسه الذي استعملته قريش. لأن هذا هو المنطق الذي يمكن أن يفهم الوثنيون فيه، طالما أن الإسلام لا يجمع الفريقين. إن الذي يتبادر لذهن الشباب المسلم في هذه العجالة هو الجهاد في سبيل الله، والابتداء مباشرة بحرب هؤلاء فهم العدو الداخلي، قبل الابتداء بقريش، وحتى لا يكون لدينا هوادة في دين الله، وحتى لا نخاف في الله لومة لائم. فلا بد من حرب هؤلاء الوثنيين، وكسر شوكتهم والقضاء على هذا الجيب الداخلي، إلى آخر هذا النغم الذي يعتبر التخلي عن المعركة جبنا وهوادة في دين الله ومداهنة على حساب العقيدة.

كم نتمنى أن يتروى الشباب المسلم هذا الموقف، ويتعلموا من سيد الخلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فن التعامل مع العدو، وتحديد المعركة، وطبيعة مصلحة الجماعة في المعركة. وأن يتركوا لقيادتهم حرية الحركة في هذه الأمور، وهي التي تضطلع بعبء المواجهة، وتعرف من تصالح، ومن تحارب، ومن تهادن، ومن تحالف، ومتى تقاتل، ومتى تسالم لأنها هي مناط الحركة والمسؤولية. لقد استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسلوب الوطني، الأسلوب العشائري في فضحه هذا التجمع، وإنهاء المعركة دون قتال، وتفتيت التجمع دون دماء بكلمات بسيطة معبرة، عميقة، خالدة على مدى الزمن، وممن؟. من رسول البشرية، ومن نبي الإسلام: قال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ... ولقد حرك بهذه الفقرة جانبا نفسيا عندهم يأبونه، وهو الخوف من قريش، ومهما كان العربي فحين تستفز كوامن قوته، وكوامن بطولته يأبى أن يعير بالجبن، أو الخوف، أو الخور. (... ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون إن تكيدوا به أنفسكم ...). وبعد الضرب على الوتر الحساس الأول، وتر البطولة والشجاعة. عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحرك وترا نفسيا آخر. هو الترهيب من تآمر العدو الخارجي على أهل المدينة أصحاب المصير المشترك الواحد. فليس هذا الموقف جبنا فقط، ولكنه غفلة وسذاجة وجهالة، ولا يرضى العربي مهما كان أن يتهم بهذا الاتهام، أن يتهم بأنه لا يدرك كيد عدوه، ولا يعرف مخططاته، ولا يفقه ألاعيبه. فلقد هيج هذا المعنى في أنفسهم شعورا جديدا من النفرة لاستجابة دعوة قريش البعيدة المعادية. ولو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راح يدعوهم لإلقاء السلاح باسم الإسلام لأحس الوثنيون اليثربيون أنهم أقرب إلى قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتهيج في نفسهم شعور الاعتزاز بالوثنية ضد هذا الدين الجديد، ولهم مع قريش قاسم مشترك، إذ عندها البيت الحرام ومقام إبراهيم والحج لبيت الله. فلا غرو أن يتساقطوا جميعا صرعى ضد محمد ودينه ومع قريش.

إن عظمة القيادة النبوية وهي تركز على هذه المعاني لتقذف بالكيد في صدر أصحابه وتجعل الإحباط سمة لهذا الكيد. (... تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم ..). ياشباب الدعوة هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس قول متهم في دينه يريد أن يبرر مسالمته لعدو كافر. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاطب هؤلاء الوثنيين بالأسلوب الذي يفهمونه ويركز على أخوة النسب، وهو الذي جاء إلى البشرية جميعها بأخوة العقيدة، ويركز على رابطة الماء والطين، وهو الذي جاء رحمة للعاملين، ويركز على شعور القوم والأهل والوطن بين من؟! بين المسلمين والمشركين. لماذا؟ ليحبط كيدا أكبر من عدو أعظم، ليضيق هوة المعركة، ليخذل بين الأعداء جميعهم، فيجعلهم حلفاءه ضد عدو مشترك واحد. لقد ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوثنيين الذين حملوا السلاح ضد المسلمين أن المسلمين أبناؤهم وإخوانهم. ولا ضير في ذلك إن كان فيه تأجيل لمعركة ضارية داخلية بينما تقتضي المصلحة في وقت متقدم التركيز على البراءة من عاطفة الأخوة والقرابة والأبوة وذلك في معركة بدر. وباء تخطيط قريش بالخذلان والخسران، وحيث توقعوا أن ينتهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يدي المشركين في المدينة. إذ بهم يلقون السلاح جميعا، وينقلبون نادمين على حمله في وجه إخوانهم وأبنائهم. ونود لشباب الدعوة الإسلامية أن يدركوا هذا المعنى النبوي ويفقهوه. حين يرون قيادة الدعوة في مرحلة من المراحل تبحث عن قاسم مشترك بينها وبين بعض أعدائها لتجعلهم يقفون في صفها ضد عدو أخطر وأكبر. وحين يرون قيادتهم تقبل الحديث عن عاطفة الوطن وعاطفة الأمة، أو يتحدثون عن الضعفاء من الفئات المظلومة. بحيث يمثل القاسم المشترك نقاط لقاء مرحلي مع هذا العدو ضد عدو آخر.

السمة السابعة محاولة تفتيت الصف الإسلامي

السمة السابعة محاولة تفتيت الصف الإسلامي وحين فشلت محاولات تفتيت الصف المدني - على وهن هذا الصف - امتدت المحاولات لتفتيت الصف الإسلامي المدني كما روى ابن إسحاق: (... ومر شاس بن قيس وكان شيخا قد عتا، عظيم الكفر، شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه. فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال: فقد اجتمع ملأ بني قيلة في هذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار. فأمر فتى شابا من يهود كان معه فقال: أعمد إليهم واجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا به من الأشعار، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج فكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ مضير بن سماك أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي فقتلا جميعا. (قلت: وفي الصحيح عن عائشة قالت: وكان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وقد افترق ملأهم وقتلت سراتهم في دخولهم في الإسلام). قال ابن إسحاق: ففعل الفتى، فتكلم القوم عند ذلك وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب - أوس بن قيظي .. وجابر بن صخر .. فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها جذعة. فغضب الفريفان جميعا وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة، والظاهرة الحرة السلاح السلاح. فخرجوا إليها. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم الجاهلية، واستنقذكم بها من

الكفر وألف بين قلوبكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين، وقد أطفا الله عنهم كيد عدو الله. فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع {قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا (¬1)} الآية وأنزل الله تعالى في أوس بن قيظي وجابر بن صخر ومن كان معهما من قومهما {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب (¬2)} الآيات إلى قوله {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (¬3)}. لئن كان موقد نار الفتنة في الحالة الأولى هم المشركون، فموقدها الآن اليهود، ولئن كانت من قبل على خطرها بين المسلمين والمشركين. فهي الآن أشد خطرا وأفدح خسارة هي بين المؤمنين أنفسهم ومن أجل ذلك فقد اختلفت المعالجة بين الحالتين: الحالة الأولى: تذكير المشركين بالقرابة والنسب، والأبوة والنبوة. (لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم. فلما سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا). الحالة الثانية: تذكير المسلمين برابطة العقيدة، لأنها أقوى محرك للمسلم وتخويفه من الجاهلية: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظكركم بعد أن هداكم الله للإسلام واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم) .. فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا فلا غرابة أن تكون هذه المعالجة ضمن هذا المفهوم، وتلك المعالجة ضمن ذلك المفهوم، والرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو صاحب المعالجة في المرتين، فأعطى لكل حالة ما يناسبها دون أن يكون هناك تناقض بين الحالتين. ¬

(¬1) آل عمران / 98 - 99. (¬2) آل عمران / 100 - 101. (¬3) مختصر السيرة. لابن محمد بن عبد الوهاب ص 168.

ويذكرنا هذا الأمر بحرص العدو - وهو يعرف بعض الثغرات في الصف الإسلامي - على تفتيت الصف من خلال هذه المعرفة. فإثارة الأحقاد والضغائن، والخلافات السابقة هي محور تحرك العدو. ومما يوضح هذا الطريق اليوم ما لجأت إليه سلطات الطغيان في بلد إسلامي حين أبرزت أحد الإخوة السجناء على تلفازها الرسمي، وفرضت عليه أن يتكلم حول الخلافات القائمة بين قادة الحركة الإسلامية، وأبرزت هذه الخلافات على أنها هي المحرك الوحيد للحركة. وسرعان ما تلقف الشباب هذا الأمر، وراحوا يتناقلونه بين صفوفهم على أنه الحق الوحيد. إن الأصل الذي يجب أن نفيء إليه جميعا هو الشك في العدو، واتهامه، لا تصديقه وتكذيب الإخوة المسؤولين، ونداء الله تعالى لنا واضح في هذا الأمر: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (¬1)}. وإذا كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ورسول الله بين - ظهرانيهم - قد تأثروا بنزعات الخلاف السابقة وهي حقيقية، وأمكن أن يستجروا إلى حمل السلاح ضد بعضهم بعضا وهم الجيل الخالد، خير قرون الأرض، فلا عجب أن يستجر المسلمون اليوم وهم في الصف الإسلامي - إلى بعض الخلافات الجانبية، وينزغ الشيطان بينهم، ويسعى جاهدا ليفرق كلمتهم. لكن الأصل هو العودة إلى الكلمة الواحدة، والصف المتراص الواحد. لا أن نعتبر صورة العدو عن الحركة الإسلامية هي الأصل .. إننا نقع في خيانة يوم نصدق ما يشيعه عدونا عنا - حقا أو باطلا - وننطلق منه في الحكم. لقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (¬2)). والأولى والأجمل بشباب الحركة أن يسعوا مع إخواخهم على إطفاء نار الفتنة لا على إيقادها، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها. ¬

(¬1) آل عمران / 100. (¬2) الأعراف / 200 - 201.

السمة الثامنة العدو يتنكر لقيمه من أجل مصلحته

السمة الثامنة العدو يتنكر لقيمه من أجل مصلحته (ثم إن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمرا فنزل على أمية بن خلف بمكة فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريبا من لقف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما. فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة (¬1)). لقد كانت المحاولة الأولى مع سعد بن عبادة حيث اعتقل في مكة، وأنقذه صاحباه جبير بن مطعم والحارث بن حرب. وذلك عقب بيعة العقبة، أما وقد هدأ الأمر، وبيت الله لا يصد عنه أحد إذا جاء معظما له، فكانت المحاولة هذه من زعيم الأوس سعد بن معاذ، ونزل على صاحبه في مكة أمية بن خلف. وبذلك خطت قريش خطا جديدا لأول مرة في تاريخ جيران الحرم وسدنته، أن تصد عن بيت الله المسلمين أو تعتقلهم، فلقد اعتبرت نفسها في حالة حرب معهم. وهذا يعني أن المسلمين قد حيل بينهم وبين البيت الحرام فترة طويلة إلى أن يأذن الله تعالى بالفرج من عنده ويصبح عندهم شوكة قاهرة ترغم قريش على السماح لهم بتأدية نسكهم فيه. والإشارة التي نفقهها من هذا الموقف هي أن الممارسة العملية لأعداء الله في حربهم للإسلام والمسلمين تجعلهم يتناقضون مع أبسط المبادىء والأعراف التي يقوم عليها تفكيرهم ووجودهم. فالأصل في جيران بيت الله الحرام أن يؤدوا الخدمة للحجيج، وبهذا الأمر كانوا يتنافسون، وأعرق مفاخرهم ما يؤدونه ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب المغازي ج 5 ص 2 و3.

السمة التاسعة الخطر على القيادة

للحجيج من سقاية ورفادة. بل كانت تقوم المذابح والحروب للمحافظة على هذه المكارم، ومع هذا فلا يجدون حرجا من تهديد معتمر من المدينة بالاعتقال أو القتل. وكان موقف سعد رضي الله عنه من القوة والنباهة، ما أشار به إلى طاغوت مكة من أن شريان حياتهم بين المسلمين، وتجارتهم عن طريق المدينة إلى الشام، فلن يسكت المسلمون عليهم أو يدعوهم يمروا، لقد كان موقف القوة الأول من سعد زعيم الأوس وهو لين ظهراني قريش وأمام طاغوتها إيذانا بتوتر كبير، وإعلانا بمرحلة جديدة. وردا على تهديدات مكة للأنصار أن يتراجعوا عن إيوائهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. لقد كان هذا أول احتكاك مباشر بين الفريقين في هذه المرحلة، وكان صورة من صور العزم والمواجهة على استمرار أهل المدينة على موقفهم في نصرة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الفكرة بالذات دعوة لشباب الإسلام أن يقولوا كلمة الحق بقوة حين لا يكون أمامهم مندوحة عن ذكرها، ويكون ذكرها حربا نفسية توهن قلوب الأعداء. السمة التاسعة الخطر على القيادة روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمة المدينة ليلة فقال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما جاء بك؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نام (¬1)). ¬

(¬1) مسلم باب فضل سعد 2/ 280.

وروى الترمذي في صحيحه عن عائشة قولها: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرس ليلا حتى نزل: {والله - صلى الله عليه وسلم -عصمك من الناس} فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة فقال يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل (¬1)). لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدرك أبعاد المعركة ويدرك خطورة الموقف فلا يبيت إلا ساهرا، وكان يعلم أنه الهدف الأول من العدو. فكان على يقظة وانتباه وحذر شديد. وخاصة في الليل حيث يختلط الظلام ويتسلل القتال لتنفيذ بغيتهم التي فاتتهم في مكة، بل أعلن عن رغبته في الحراسة، وكان هذا الشعور كامنا في نفوس الجنود كذلك، فسعد يده على سلاحه بدون أمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلمه بخطورة الموقف وصار هذا أمرا مقررا عند المسلمين إلى أن نزل التطمين الرباني، {والله - صلى الله عليه وسلم -عصمك من الناس}، فقال: (انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل). وهذا الأمر ولا شك خصوصية من خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم -. فما دونه من خلق الله كافة، لا بد من حراسة ولا بد أن يكونوا على أهبة الاستعداد لمواجهة أي طارىء. وهم في مستوى القيادة خاصة حين يكون العدو بين الصفوف. فاليهود والمشركون يمكن أن يكون أحدهم مطية لنفسه أو لغيره في تنفيذ عمليات الاغتيال، والحركة الإسلامية التي فقدت كثيرا من قياداتها وقادتها عن طريق الاغتيال حري بها، اقتداء بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتخذ من حراسة قادتها ما يجعلهم بمنجى من يد العدو. والعصمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده. ويجب أن لا ننسى أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين، من قادة أهل الأرض قد ذهبوا غيلة، وهم قمم العدل والتقوى في هذا الوجود، عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا. فإن يعتمد القادة في الحركة الإسلامية على عدلهم وصلاحهم وتقواهم هو أدعى للحراسة. لأن العدو لا يطيق وجودهم. بل قد يتحرك الصف الإسلامي ضدهم فيقتلون بيدي أبناء الصف، وما قتل علي وعثمان رضي الله عنها بسر. ¬

(¬1) الترمذي أبواب التفسير، 2/ 130.

السمة العاشرة حالة الحرب، وتجمع القوى كلها ضد المسلمين

السمة العاشرة حالة الحرب، وتجمع القوى كلها ضد المسلمين (ولم يكن الخطر مقتصرا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل على المسلمين كافة، فقد روى أبي بن كعب، قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه (¬1)). وهذه الظاهرة مهمة جدا أن يستوعبها شباب الحركة الإسلامية خاصة الذين يحملون السلاح الآن ضد العدو لإسقاط أنظمة الكفر. فالشيء الذي يسيطر على نفوس الشباب هو ساعة المعركة والحسم مع العدو، وإسقاط النظام الكافر لإقامة دولة الإسلام على أنقاضه، لكنهم يحسبون أن الأمر منته بهذه المعركة. وبعد ذلك تدين قوى الأرض كلها وتخاف دولة الإسلام. إن الأمر أبعد من ذلك بكثير، وإن الحسم مع العدو لإقامة دولة الإسلام هو الخطوة الأولى على الطريق، وهو المعركة الأولى في تاريخ المعارك. هو نقطة البدء، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كانت معاركه كلها، غزواته وسراياه بعد إقامة دولة الإسلام، ولا يظهر تواطؤ أهل الأرض من الكفار والمشركين إلا بعد قيام دولة الإسلام. وإذا كانت الحركة الإسلامية بحاجة إلى أن تجند بعض طاقاتها قبل قيام دولة الإسلام فهي بحاجة أشد إلى أن تجند كل طاقاتها وطاقات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لحماية دولة الإسلام. وعندما قامت دولة الإسلام الأولى في الأرض بقيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان كل مسلم قد بلغ الخامسة عشرة من عمره جنديا في المعركة، وذلك بعد أن فرض الجهاد على المسلمين، ولكن روعة هذه العقيدة وعظمة هذا الدين هي أن هذه الجندية كانت جندية اختيارية يتسابق فيها المسلمون إلى المعركة. وإذا استثنينا المنافقين فلقد كانت كل طاقات المسلمين وشبابهم للمعركة. ¬

(¬1) الرحيق المختوم ص 217.

السمة الحادية عشرة إعلان الحرب على العدو

لقد كان المسلمون في أيامهم الأولى، الأيام العصيبة التي تحمل نذر الهجوم على المدينة في كل لحظة، ينامون بالسلاح ويبيتون فيه، ولقد وعدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحموه مما يحمون منه أزرهم وأولادهم. وصدقوا ما عاهدوا الله عليه. والقيادة المسلمة لا بد أن تعد للأمر حسابه، فلا توهم شبابها أن نجاح المعركة الأولى من الحسم مع العدو، يعني انتهاء الجولة مع العدو، إنما يعني انتهاء جولة وشد الهمة لابتداء الجولة الثانية، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وعليها أن تعد الأهبة لمواجهة العدو والاستمرار فيها بما تحتاجه هذه المواجهة من سلاح ورجال ومال وعتاد. السمة الحادية عشرة إعلان الحرب على العدو كما هو معروف في فن الحرب أن الهجوم أقوى وسائل الدفاع. وقريش مصممة على خوض المعركة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلتكن المبادرة منه. ومن أجل هذا كانت السنة الأولى كلها سنة هجوم على قوافل قريش. فلقد جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني سرايا وكانت كلها لاعتراض عير قريش ما عدا واحدة كانت ردا على هجوم قام به كرز بن جابر الفهري. واستمرت هذه السرايا من رمضان - السنة الأولى للهجرة إلى رمضان في السنة الثانية من الهجرة. وكان قادة هذه السرايا جميعها من المهاجرين، وكان لهذا معنى خاص في هذه الحرب. فأصل العهد مع الأنصار هو حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه في المدينة. وهذه السرايا تعرض للقوافل خارج المدينة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فلا بد من تدريب شباب الدعوة على الحرب، بعد أن أمروا بكف أيديهم خلال ثلاثة عشر عاما من العهد المكي. ومن جهة ثالثة، فلا بد أن تعرف قريش أن هؤلاء المهاجرين الفارين من اضطهادها في مكة ليسوا موطن ضعف وهوان، بل هم قوة مرهوبة ذات شوكة عليها أن تحسب ألف حساب لها قبل أن تفكر في مواجهتهم.

السمة الثانية عشرة التميز الإسلامي قبيل المواجهة

ومن جهة رابعة، فعلى قريش أن تذوق وبال أمرها لموقفها المشين من الدعوة، وأن تتجرع مرارة هذا الموقف، فتعلم أن مصالحها وتجارتها صارت مهب الريح بعد أن سيطر المسلمون على شريان حياتها من خلال قوافلها إلى الشام، حيث أصبحت رحلة الصيف عندها وخيمة العواقب. والحركة الإسلامية اليوم التي تمضي جادة في طريقها لإقامة دولة الإسلام، لا بد لها في حربها ضد الطاغوت الكافر من أن تقض مضجعه، وتزعزع نظامه، وتزلزل الأرض من تحته، وتسعى جاهدة لاجتثاث جذوره. فيكون ككلمة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، ولن يتأتى هذا لها ما لم تكن لها أرض آمنة تنطلق منها، وتبث سراياها إليه فتوجعه في موطن القوة عنده. وهي مضطرة أحيانا للتفاهم مع بعض الأنظمة للهدنة معها والاستفادة منهما كمركز انطلاق للمواجهة، وشباب الدعوة المجاهدون في هذه المرحلة هم الصفوة المختارة للمواجهة، وهم الوقود الأول للمعركة. وإن الحركة الإسلامية لتفخر بقوافل الشهداء، التي مضت قافلة إثر قافلة وسرية عقب سرية تضرب في قلب العدو، وتفخر بعظمة البطولات والتضحيات التي تحتسبها عند الله عز وجل، وحين تذكر هذا الواقع، إنما تذكره إيذانا بإرغام أنف العدو وتبكيته، ودعوة إلى الشباب أن ينضووا تحت اللواء لمتابعة المسيرة المباركة في الحرب العوان مع العدو. السمة الثانية عشرة التميز الإسلامي قبيل المواجهة إضافة إلى ميثاق التحالف - الذي حدد إسلامية الدولة، وأوضح أن المسلمين أمة من دون الناس، فلقد مر التميز الإسلامي في مرحلتين: المرحلة الأولى: مرحلة المجاملة لأهل الكتاب، وكان الهدف الأكبر من هذه المجاملة هو تأليف قلوبهم ودعوتهم إلى الإسلام وهم أهل الكتاب الأول

وكانوا يستفتحون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل المدينة من الأوس والخزرج. فكان يحرص عليه الصلاة والسلام على موافقتهم ومجاملتهم في كثير من الأمور مما لا يمس أمور العقيدة. وخاصة في قضية العادات الاجتماعية حتى في تسريح شعره، وكان يحرص على موافقتهم في أمور القيادات. كما نعلم حين أمر المسلمين بالصيام في عاشوراء قائلا للمسلمين: (نحن أحق وأولى بموسى منكم (¬1). المرحلة الثانية: وذلك حين أعلن اليهود حربهم العنيفة المشبوبة على المسلمين. فأصبح يحرص على مخالفتهم في كل شيء ليكون للمسلمين تميزهم الكامل عنهم في العادات واللباس والعبادات كي ينهي هذه القدسية التي كانت لهم في نفوس المسلمين حين انحرفوا عن الحق، وكفروا به: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (¬2)}. وقد وضح هذا التميز الإسلامي في أكثر من جانب، وكانت هذه النقاط قد تم معظمها قبيل غزوة بدر، وكان ذلك كله بأمر من الله تعالى، واستجابة لرغبة نبيه الكريم في هذه المفاصلة. نذكر من هذه الأمور ما يلي كما أوردها المقريزي في إمتاع الأسماع: (وفي شعبان على رأس ستة عشر شهرا، وقيل على رأس سبعة عشر شهرا حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فكان أول شيء نسخ من الشريعة القبلة ... ويقال حولت القبلة يوم الإثنين النصف من رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد بني سلمة، وقد صلى بأصحابه من صلاة الظهر ركعتين، فتحول في صلاته واستقبل الميزاب من الكعبة، وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمي المسجد (مسجد القبلتين) ويقال صرفت في الظهر من يوم الثلاثاء للنصف من شعبان سنة اثنتين في منزل البراء بن معرور، وقيل صرفت في صلاة الصبح (¬3)). ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) من الآية 89 - البقرة. (¬3) إمتاع الأسماع ج 1 ص 60.

فكل الروايات لا تعدو بين رجب وشعبان من السنة الثانية على رأس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا. وكان لحدث تغيير القبلة دوي كبير في المجتمع الإسلامي والمجتمع اليهودي على السواء. أنهى كل نقاط الالتقاء في الفريقين، ولنعرف أثر هذا الموقف يكفي أن نعلم أن الله تعالى أنزل قرآنا يتلى في هذا الأمر، حوالي عشر آيات. (وكان في ذلك حكمة عظيمة ومحنة للناس مسلمهم وكافرهم. فأما المسلمون فقالوا: آمنا به كل من عند ربنا - وهم الذين هدى الله، ولم تكن بكبيرة عليهم. وأما المشركون فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ وأما المنافقون فقالوا: إن كانت القبلة الأولى حقا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ستة عشر شهرا قبلة اليهود، وكان يحب أن يصرفه الله إلى الكعبة، وقال لجبريل ذلك فقال: إنما أنا عبد. فادع ربك واسأله، فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} الآياث البقرة 144 (¬1).لقد تمت المفاصلة بين المسلمين واليهود، وأصبح للمسلمين قبلتهم الخاصة بهم نحو المسجد الحرام، ووجه هذا قلوب اليهود بالحقد والكيد ورد عليهم القرآن بقوله: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (¬2)}. وكان هذا الأمر استجابة لرغبة نفسية عميقة في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، يوضح هذا المعنى قول الله جل شأنه. {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها (¬3)}. وكان هذا إيذانا كذلك باحتدام المعركة مع قريش. فالمسجد الحرام قبلة المسلمين، وهو تحت سيطرة قريش، والوثنية ضاربة أطنابها فيه، ولا بد من تحريره. وهكذا اتجهت أنظار المسلمين ثانية إليه، وبنظرة جدبدة. تحمل ¬

(¬1) مختصر السيرة لمحمد بن عبد الوهاب ص 92. (¬2) البقرة / 142. (¬3) سورة البقرة / الآية 144.

كل معاني الإصرار على العودة إليه، وتخليصه من براثن الوثنية. ولم ينته الأمر في شعبان شهر التميز عند هذا الحد، فلقد جاء إضافة إلى التميز في قبلة الصلاة، التميز في الصيام. لقد كان يوم عاشوراء هو يوم صوم المسلمين، ولعلهم صاموه عاما على الأقل. وكان فريضة عليهم، وإذا بالآيات تترى لتؤكد تميز المسلمين في صومهم كذلك، وإن كان الأصل في الصيام واحدا عند المؤمنين في الأرض: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (¬1)}. وإن كانت هاتان الآيتان لا تتحدثان عن الاستقلال والتميز في شهر الصيام، فالآية التالية تؤكد هذا المعنى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه .. (¬2)}. فلقد أصبح رمضان منذ ذلك الوقت شهر الصيام الإسلامي، وإن كان أصل الصيام قائما بين المؤمنين. كما وأن أصل الصلاة قائم ومشترك بين المؤمنين. لكن تميز القبلة يعني انفصالا في الشعائر وتحديدا للهوية الإسلامية: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض}. لقد انتهى عهد المجاملة والمسايرة على أمل الدخول في هذا الدين، وأعلنوا حربهم على الله تعالى وعلى رسوله وكفروا به وبالكتاب الذي أنزل مصدقا لما معهم. فلا مجال بعد الآن للمسايرة معهم {... ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين (¬3)}. ¬

(¬1) البقرة / 184. (¬2) الآية 185 من سورة البقرة. (¬3) من الآية 145 من سورة البقرة.

وكما كان التميز في قبلة الصلاة، وكان التميز في شهر الصيام، فلقد كان التميز كذلك في فريضة الزكاة، فقد كانت الزكاة والصدقات عامة لدى المؤمنين في الأرض. لكنها تتخذ الآن لدى المسلمين تحديدا آخر. فلقد حددت زكاة الفطر بنصاب معين، كما نزلت أنصبة الزكاة بشكل محدد وواضح لا لبس فيه. وهكذا نرى التميز في الصلاة والزكاة والصيام، وكان هذا إيذانا بتحديد أن المسلمين أمة من دون الناس، وأن اليهود قد كفروا بالحق الذي جاء من عند الله، وكانت هذه الأمور الحاسمة الخطيرة في شهر شعبان، إيذانا كذلك، بالتميز الإيجابي، وإرهاصا لغزوة بدر الكبرى التي سماها الله تعالى فرقانا. كما سمى كتابه الفرقان. وهذه الأحكام الشرعية التي نزلت قبيل بدر، وكانت بمثابة تمهيد لها تعطينا دروسا هامة تستفيد منها الحركة الإسلامية. إن الحركة الإسلامية يوم تقوم على مواجهة مع العدو لا بد أن يسبق ذلك تمهيد وإجراءات. تؤكد هذا التميز وهذه المفاصلة، وتربي شباب الدعوة على هذا الوضوح وهذا الاستقلال عن الآخرين. لقد رأينا الحركة الإسلامية قبيل إعلانها الحرب على الطاغوت الكافر. قد انتشر في صفوفها الأناشيد الإسلامية التي ملأت كل بيت مسلم، وأصبحت عوضا عن الإذاعة والتلفاز. وأصبحت في لحنها الإسلامي تربي هذا الجيل على التميز وتذكره بالجهاد وتدعوه إلى العمل لدولة الإسلام في الأرض، وأصبح الدعاة إلى الله في تلقفهم لهذا الأدب الإسلامي الجهادي، وفي تداولهم لتسجيلاته، يمثلون هذا التميز وهذه الأصالة التي تجعلهم يختلفون عن عامة الناس الذين يعيشون بقيم الجاهلية وأفكارها في الإذاعة والصحف والمجلات. لقد أخذ الأدب الإسلامي طريقه إلى قلوب الدعاة، فأشعل فيهم لهيب المعركة، وحدد لهم مواصفاتها وكان هذا إيذانا لإعلان المواجهة مع الطغاة.

السمة الثالثة عشرة المواجهة الحاسمة في بدر، والفرقان فيها

السمة الثالثة عشرة المواجهة الحاسمة في بدر، والفرقان فيها يحدثنا الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى عن الفرقان ببدر فيقول: (ثم نقف كذلك أمام وصف الله - سبحانه - ليوم بدر بأنه يوم الفرقان {إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان (¬1)}. لقد كانت غزوة بدر - التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده فرقانا بين الحق والباطل - كما يقول المفسرون إجمالا - وفرقانا بمعنى أشمل وأدق وأوسع وأعمق كثيرا. كانت فرقانا بين الحق والباطل فعلا .. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السموات والأرض. وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء .. الحق الذي يتمثل في تفرد الله - سبحانه - بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقرير بلا معقب ولا شريك .. والباطل الزائف الطارىء الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك ويغشي على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت لتصرف في حياة عباد الله بما تشاء، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء! فهذا الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر، حيث فرق بين ذلك الحق الكبير، وهذا الباطل الطاغي، وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان! لقد كانت فرقانا بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد: كانت فرقانا بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير .. فرقانا بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور، وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية، وبين الشرك في كل ¬

(¬1) الأنفال من الآية 41.

صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات ... وكانت فرقانا بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك .. فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء، وللقيم والأوضاع، وللشرائع والقوانين، وللتقاليد والعادات ... وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه .. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس فلا تخضع إلا لحاكميته وشرعه، وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة. وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد المصابرة والصبر والتجمع والانتظار. وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع .. والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة، ومنهجا جديدا للوجود الإنساني، ونظاما جديدا للمجتمع، وشكلا جديدا للدولة. بوصفه إعلانا عاما لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته .. الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامنا منتظرا على طول الأمد، لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم. ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد، والمنهج الجديد، والدولة الجديدة، والمجتمع الجديد، في واقع الحياة، وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولا، ثم في حياة البشرية كلها أخيرا .. وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله. وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ البشرية. فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام .. هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام. وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور. وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلادا جديدا للإنسان.

وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني على السواء. هذا كله لم يعد ملكا للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد. اإنما صار - شيئا فشيئا - ملكا للبشرية كلها، تأثرت به سواء في دار الإسلام أو خارجها، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته! .. والصليبيون الذين زحفوا من الغرب ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاؤوا ليحطموه، وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعى الذي كان سائدا عندهم، بعدما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه - بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية، وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة، وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوروبا .. وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله - منذ وقعة بدر - متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء. وكانت فرقانا بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة، فجرت - وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة، حتى لقال المنافقون والذين في قلويهم مرض: غر هؤلاء دينهم .. وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو، وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة - لتكون فرقانا بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر والهزيمة، ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، فتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد، وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة، وأن هذا ليس كلاما يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان. وأخيرا فلقد كانت بدر فرقانا بين الحق والباطل بمدلول آخر، ذلك

المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}، لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين، إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة. فأراد الله لهم غير ما أرادوا. أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان (غير ذات الشوكة) وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشوكة) وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر، ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة! وقد قال الله - سبحانه - إنه صنع هذا: {ليحق الحق ويبطل الباطل}. وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة .. إن الحق لا يحق وإن الباطل لا يبطل - في المجتمع الإنساني - بمجرد البيان النظري للحق والباطل. ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حق وهذا باطل .. إن الحق لا يحق، وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس، إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا .. فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد نظرية للمعرفة والجدل! أو لمجرد الاعتقاد السلبي!. ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة، وكان هذا النصر العملي فرقانا واقعيا بين الحق والباطل بهذا الاعتبار الذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته - سبحانه - من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بيته بالحق، ومن وراء إفلات القافلة (غير ذات الشوكة) ولقاء الفئة ذات الشوكة. ولقد كان هذا كله فرقانا بين منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم .. وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته؟ حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين! وهكذا كان يوم بدر (يوم الفرقان يوم

التقى الجمعان). بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة .. والله على كل شيء قدير. وفي هذا اليوم مثل من قدرته كل شيء .. مثل لا يجادل فيه مجادل، ولا يماري فيه ممار .. مثل من الواقع المشهود، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة إله وأن الله على كل شيء قدير (¬1)). وكانت بدر من حيث أثرها الخطير، ظاهرة كونية، فقد احتفل بها الإنس والجن والملائكة. ففي عالم الأرض وعالم البشر. نذكر أن سورة الروم عندما نزلت كانت تمثل آمال وطموحات عشرات المسلمين في مكة بأن ينتصر الروم أهل الكتاب في الأرض على الفرس الوثنيين في الأرض حيث كان الفرس والروم يقتسمون الأرض آنئذ. وكان هؤلاء العشرات من المسلمين والمئات من المشركين غفلا من التاريخ وأحداثه يتفرجون على صناعة الكبار في الأرض، ونذكر كيف تم الرهان بين أبي بكر رضي الله عنه وأحد المشركين على نصر الروم بعد بضع سنوات {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله - صلى الله عليه وسلم -نصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (¬2)}. لقد كان أقصى ما يحلم به المسلمون آنذاك بعد بضع سنين أن ينتصر الروم على الفرس، وبذلك تقوى شوكة المسلمين إن انتصر أهل الكتاب الأقرب إلى المسلمين على الفرس الأقرب إلى المشركين. وتحقق موعود الله جل شأنه فانتصر الروم بعد تسع سنين من هزيمتهم أمام الفرس. وفرح المؤمنون بنصر الله، وكان وعد الله الذي لا يخلف، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. هذا هو المدى الأقرب للآيات. أما المدى الأعمق فكان أكبر وأضخم في تاريخ البشرية، لقد فرح المؤمنون بنصر الله - صلى الله عليه وسلم -وم بدر. ويوم نصرهم جاءت أخبار انتصار الروم على الفرس. لقد جاء خبر انتصار ¬

(¬1) في ظلال القرآن، المجلد الثالث - ص 1521 - 1524. (¬2) سورة الروم الآيات من 1 - 7.

الروم هامشيا وثانويا أمام انتصار بدر. وكان فرح المؤمنين بنصر الله في بدر هو المدلول الأعمق للآية الكريمة، ولم يكن يدور بخلد عشرات المؤمنين في الأرض والآيات تنزل في مكة أنهم هم المعنون في النصر، وأانهم هم صناع الأحداث. وأن الروم والفرس غدوا على هامش التاريخ بعد أن أنزل الله تعالى ملائكته لنصر المؤمنين في بدر. وكان وعد الله الذي لا يخلف هو نصر محمد وحزبه لا نصر الروم فقط، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حتى المؤمنون لا يحيطون بعلم الله عز وجل، وماذا يعد لهم من نصر، وماذا يعد بهم من حسم. {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادتونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون (¬1)}. فالمسلمون حتى قبل بدر بأيام قلائل لم يكونوا يعلمون أنهم المعنون بنصر الله - صلى الله عليه وسلم -نصر من يشاء وعد الله لا يخلف الله وعده، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الخلق لم يكن يعلم أنه المقصود بنصر الله - صلى الله عليه وسلم -نصر من يشاء. ومن أجل هذا كان يلح على ربه بالنصر يوم بدر حتى ليسقط رداؤه عن كتفيه. ويخشى أن تكون هذه المعركة نهاية العصبة المؤمنة في الأرض. (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض). لقد كان الرهان في عالم الأرض على افتتاح التاريخ بهذا النصر من أي الفريقين، فلقد كان أبو جهل يقول: والله لن نرجع حتى نرد بدرا. فننحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، ويعلم العرب بخروجنا هذا فلا يزالون يهابوننا أبدا). فلقد كانت مطامح أبي جهل أن يكون مقود العرب بيده بعد بدر. ولا تزال تهابه أبدا. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض)، وإذا بنصر الله - صلى الله عليه وسلم -تنزل فتنقلب الموازين، ويتأرجح التاريخ، ويصبح مقوده بيد المسلمين ومن ذلك الوقت لم يعودوا على هامش ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآيات 5 - 8.

الأحداث يأملون ويدعون كما كانوا أيام انتصار الفرس على الروم. بل صاروا صناع أحداثه، في بدر وبعدها، وجاء هذا النصر من الحسم ومن الضخامة بحيث اجتث الباطل من جذوره. فلقد سقط قادة الكفر صرعى في هذه المعركة وهم الذين كانوا يحملون عبء الحرب ضد الدعوة خمسة عشر عاما أو تزيد، إنه جيل قادة كامل سقط على الساحة صريعا بين يدي هذه العصبة المؤمنة. أما الجيل الجديد من القادة، والذي نجا يوم بدر فمعظمه كتب الله تعالى له الهداية فيما بعد وها نحن نستعرض هؤلاء القادة بشكل سريع: أبو جهل بن هشام المخزومي، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة الأمويان، وأمية ابن خلف الجمحي، وتبعهم بعدها، النضر بن الحارث العبدري، وعقبة بن أبي معيط الأموي، وأبو لهب الهاشمي. ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان. وقد عدد المقريزي أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبار في إمتاع الأسماع فكانوا سبعة وعشرين رجلا قتل منهم في بدر وبعدها بقليل قرابة العشرين. (وعن أبي طلحة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث (¬1)). وكان من فضل الله تعالى على المؤمنين أن سقط بعض هؤلاء الأبطال صرعى بيد العتبان الشباب من الأنصار. مثل مقتل أبي جهل وأمية بن خلف، وعلى يد المستضعفين من المسلمين أمثال بلال وعبد الله بن مسعود تحقيقا لموعود الله عز وجل. {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (¬2)}. فلقد سقط فرعون الأمة أبو جهل صريعا. وأخزاه الله على يد رويعي الغنم عبد الله بن مسعود، وكانت بدر في عالم الأرض عرسا للمؤمنين. وكذلك كانت في عالم الجن. ¬

(¬1) الرحيق المختوم المباركفوري عن مشكاة المصابيح متفق عليه. (¬2) القصص / 5 و 6.

فقد ذكر قاسم بن ثابث في - كتاب الدلائل - أن قريشا حين توجهت إلى بدر مر هاتف من الجن على مكة في اليوم الذي أوقع بهم المسلمون وهو ينشد بأنفذ صوت ولا يرى شخصه: أزار الحنيفيون بدرا وقيعة ... سينقض منها ركن كسرى وقيصرا أبادت رجالا من لؤي وأبرزت ... خرائد يضربن الترائب حسرا فيا ويح من أمسى عدو محمد ... لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا (¬1) ولقد أدرك المؤمنون من الجن أبعاد هذه المعركة وأنها ستطيح بعرش كسرى وقيصر. وبمقدار ما كان العرس في عالم الجن من المؤمنين بمقدار ما كان المأتم والويل والثبور عند كفار الجن وشياطينهم. فلقد حدثنا مؤرخو السير عن اشتراك ابليس لعنه الله في التخطيط لبدر وفي آماله العراض بهزيمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكيف كان دوره في دفع قريش دفعا إلى المواجهة حين خافت من أن تغزوها بنو كنانة. فجاءهم على صورة سراقة بن مالك قائلا: أنا جار لكم من بني كنانة أن يأتوكم بشيء تكرهونه، وجاء حليفا لقريش ووضع يده بيد أبي جهل. وأخيه الحارث بن هشام. فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارث بن هشام. وهو يظنه سراقة - فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هاربا، وقال له المشركون: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا، لا تفارقنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر. وذكر القرآن الكريم هذا الحادث في قوله عز وجل، {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب (¬2)}. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ص 72. (¬2) الأنفال، الآية 48.

وحدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خزي إبليس يوم بدر فقال: (ما رؤي الشيطان يوما فيه أصغر ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى فيه من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر، فإنه رأى جبريل عليه السلام يزغ الملائكة (¬1)). لقد اندحر الشيطان وحزبه من الإنس والجن يوم بدر. وكانت الهزيمة الساحقة للشياطين في الأرض والكفار من الجن أشد هولا وأقسى مرارة منها على كفار قريش. بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - كما علمه من ربه - فلقد كانت أقسى هزيمة لإبليس على مدار تاريخه منذ خلقه إلى يوم يبعثون. فهو في أشنع هزائمه في كل سنة في عرفة حين تحبط مخططاته. ولكن هذا كله كان يهون عن هزيمة بدر حيث خطط لنصر حلفائه. فسقط مع حلفائه. حين جاء جبريل بنصر الله، وكانت عرسا في عالم الملائكة والملأ الأعلى، فلأول مرة يؤذن للملائكة، ولأميرهم جبريل عليه السلام أن يشترك مع ألف من سادة الملائكة في المعركة {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (¬2) وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم (¬3)} والله تعالى أصدر أوامره وتعليماته لهم بدخول المعركة السافرة. {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار (¬4)}. وكانت فرحة الملائكة كبيرة بهزيمة المشركين، من الذين لم يحضروا المعركة، وارتفعت إليهم أرواح مجرمي قريش. {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (¬5)}. وبقي الملائكة الذين شهدوا ¬

(¬1) رواه مالك مرسلا والبيهقي. (¬2) و (¬3) الأنفال، 9 و 10. (¬4) الأنفال 12 و 13 و 14. (¬5) الأنفال 50.

السمة الرابعة عشرة معسكر المنافقين، بروزه وخطره وتحجيمه

بدرا في الفضل من سادة الملائكة. فكما أن المؤمنين في الأرض، على مداد التاريخ يعتبرون من شهد بدرا من المؤمنين أعلى طبقة فيهم، ويعتبرونهم خير هذه الأمة. فكذلك الأمر فيمن شهدها من الملائكة. فعن رفاعة بن رافع الزرقي قال: (جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة (¬1)). وهكذا مضت بدر مثلا في تاريخ الأرض والسماء، وفرقانا في عالم الإنس والجن والملائكة. السمة الرابعة عشرة معسكر المنافقين، بروزه وخطره وتحجيمه أ - النفاق في مكة: لم يكن للمنافقين دور يذكر في العهد المكي لأنه عهد ابتلاء وفتنة وتمحيص. غير أن القرآن الكريم ذكرهم مرة واحدة قبيل بدر في قوله جل وعلا: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هولاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم (¬2)}. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله بصدد هذه الآية: (والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل: إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الإسلام في مكة ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم - خرجوا مع النفير مزعزعين. فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة (¬3)). ب - بداية التجمع: وعند دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وإلى غزوة بدر لم يكن النفاق قد نجم بعد. فلقد كان معسكر الشرك واضحا بزعامة عبد الله بن أبي نفسه، ¬

(¬1) انفرد بإخراجه البخاري. (¬2) الأنفال 49. (¬3) الظلال ص 1532. ط دار الشروق.

والذي كانت الجرأة تصل به أن يطالب محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالكف عن الدعوة إلى الله. وكان معسكر اليهود واضحا كذلك. اللهم إلا أفرادا من اليهود قاموا بمهمة الجاسوسية في الصف المسلم يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر، وقد ذكر القرآن هذا النموذج بقوله: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون (¬1)}. ونستطيع أن نقول إذن: إن معسكر المنافقين لم يبرز حتى بدر. ووجود أفراد محددين لا يصل خطره إلى أن يطلق عليه اسم معسكر أو تجمع. إنما برز بعد الانتصار الحاسم في بدر، وكما نقل على لسان هؤلاء المشركين: إن هذا أمر قد توجه، واستطاعت الموجة الطاغية من الانتصارات والتي ظهرت على صورة معجزة من السماء ان تكتسح معسكر المشركين وتحوله إلى معسكر منافقين. ولا ننفي أن يكون بعض أفراده قد أسلم حقيقة ودخل الإيمان قلبه. أما أكثر هؤلاء فقد تحولوا إلى منافقين يأتمرون بأمر عبد الله بن أبي الذي كان الخزرج يعقدون له الخرز ليتوجوه. وكانت عقدة الزعامة والمنصب تأكل قلبه. فلم يعد قادرا على أن يواجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعداوة واضحة. لأن من حوله سوف ينفضون عنه لضعفهم أمام قوة المسلمين، ولم تطاوعه نفسه أن يسلم نفسه لله. فأمسك بالعصا من الوسط وضمن بقاء جنوده وأتباعه معه فظاهر الأمر هم مسلمون، وضمن بقاء قيادته وزعامته لهم طالما أنهم غير مكلفين بالمواجهة السافرة. وكانت آيات القرآن تندد بهؤلاء تلميحا لا تصريحا بأسمائهم. ج - دورهم في غزوة بني قينقاع يقول ابن هشام: وكان بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاصرهم رسول الله حتي نزلوا على حكمه. فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد أحسن في موالي! فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: أرسلني. وغضب رسول الله حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: ويحك أرسلني. ¬

(¬1) آل عمران الآية 72.

قال: لا، والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي: أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة! إني والله امرؤ أخشى الدوائر. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان له من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي. فخلعهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسول الله من حلفهم، وقال: يا رسول الله: أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت هذه القصة من المائدة: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلويهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم} ثم القصة إلى قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. وذكر لتولي عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا {.. فإن حزب الله هم الغالبون (¬1)}. لقد كان موقفا غريبا تماما على الحس الإسلامي، فلم يعهد الصف الإسلامي أبدا فيه مثل هذه الظاهرة منذ أن قامت الدعوة. فلقد كان المسلم في تعامله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأدب والانضباط والتفاني في الطاعة، ما يجعله يحتاج دائما لتوجيهات النبي أن يبدي رأيه ويقول كلمته، وينافش في حقه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفسح المجال دائما لهذا البناء عن طريق الشورى. أما أن يقف مسلم بهذه الوقاحة، يضع يده في جيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويطلب منه رسول الله أن يدعه فلا يدعه، فيغضب منه ويلح عليه بقوله: ويحك أرسلني، فلا يستجيب ويسترسل في وقاحته. فهذا أمر غريب تماما على الحس الإسلامي بين جندي وقائده بله بين مسلم ورسول رب العالمين. ورسول رب العالمين بما أعطاه الله تعالى من الخلق الأقوم لم يعهد ¬

(¬1) تهذيب سيرة ابن هشام ص 155 و 156.

عنه أنه رد رجاء مسلم. وفي فقهه السياسي - صلى الله عليه وسلم - أنه إن لبى رجاء ابن أبي، فلعل هذا الموقف يغسل قلبه، ويزيل الغشاوة عنه فتتم هدايته. فقال له: هم لك. ولعل الذين يسيرون وراء زعامة ابن أبي يصلحون بصلاحه فيتماسك الصف المسلم، ويلتحم، فلا يضيره كيد العدو أبدا. وإن كان لنا أن نستفيد من هذه الحادثة فهو الحكم على الجنود أو القيادات الدنيا أو الوسطى الذين يريدون أن يفرضوا رأيهم على القيادة العليا للجماعة، ويمارسون ضغوطا مادية أو معنوية بما لديهم من رصيد شعبي أو سمعة طيبة، فيكرهون القيادة على تبني مواقف لا تقتنع بها أو يحرجونها في تصرفات قد لا تقتضيها مصلحة الجماعة. فهذا الموقف الذي يقفه هؤلاء هو شبيه بموقف ابن أبي الذي استغل ثقة بعض الجماهير به واتخذ هذا الموقف لحماية حلفائه من بني قينقاع. ومن توفيق الله تعالى أن وجدنا النموذج الأمثل للجندية الخالصة في هذه الحالة وهو نموذج عبادة بن الصامت رضي الله عنه مع حلفائه الذي أعلن فيه براءته من اليهود وتولى الله ورسوله وجماعة المؤمنين. فليس من حق زعيم أو قائد في صف الحركة الإسلامية أن يتخذ موقفا يناقض موقف قيادة الجماعة وبخاصة أمام أعداء الله. إن جنود الحركة الإسلامية ورجالاتها تبع لقيادتهم يحاربون من حاربت ويسالمون من سالمت، ولو كانت القناعة عندهم بالمصلحة عكس موقف الجماعة العام، طالما أنهم جزء منها. فلا بد من تبني مواقفها. فلقد أقدمت الحركة الإسلامية في بعض فصائلها على تحالف مع بعض أعدائها ضد عدوها الأول. فإذا بعض جنودها ينتفض ويملأ الدنيا حربا عليها، ويعلن موقفه هذا أمام العدو والصديق، ويهاجمها في صحف الغرب مشهرا بهذا الموقف. بل ساد صفوف كثير من شبابها نقمة على هذا التحالف. ومثل هذا التصرف يجعل القيادة عاجزة شلاء عن تنفيذ مخططاتها وأهدافها. وبمقدار ما يلتزم الجنود بموقف قيادتهم مع أعدائها حربا أو سلما بمقدار ما تتمكن الحركة الإسلامية من السير بهذه الجماعة نحو غاياتها القريبة والبعيدة. وأي

ضغط يفرض من جندي أو زعيم على القيادة هو تصرف متساوق مع تصرف ابن أبي في ولائه لليهود ودفاعه عنهم وحمايته لهم (¬1). د - دورهم في غزوة أحد: يقول ابن إسحاق: (... فقال عبد الله بن أبي بن سلول يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه. فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فرقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا فلم يزل الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلبس لأمته ... فخرج في ألف من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة أحد انخذل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس وقال: أطاعهم وعصاني. ما ندري علام نقتل أنفسنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام يقول: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه (¬2)). صحيح أن أزمة الشقاق قد تم تفاديها يوم بني فينقاع، واستجيب لرأي ابن أبي غير أن الأيام كانت تترى وموقف ابن أبي لم يتغير. فهو لا يزال معتدا بحزبه، ولا يزال يوغر الصدور في الخفاء ضد المسلمين. وكان الموقف يوم أحد هو القشة التي قصمت ظهر البعير. فلم يؤخذ برأيه في البقاء في المدينة، كما تذكر بعض الروايات (أن كتيبة حسنة التسليح لها رجل منفردة عن سواد الجيش. فقال: ما هذا؟ فأبلغوه أن الكتيبة من اليهود حلفاء عبد الله بن أبي. ¬

(¬1) من الأمانة أن لا ننسى الفرق في الموقف حين يكون بين جندي وقائده اليوم وبين الموقف الأصلي الذي يكون طرفه الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيفسق من يحرجه أو يكفر من يعصيه. وطرفه الثاني ابن أبي الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر. وشهد القرآن الكريم بنفاقة وغموضه في النفاق. (¬2) تهذيب السيرة ص 157 - 158.

فقال عليه الصلاة والسلام: أأسلموا. قالوا: لا يا رسول الله. فقال: مروهم فليرجعوا فإنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك (¬1)). وكانت هذه قاصمة ثانية. فهو يرى أن النصر لو تحقق فسيشترك فيه طالما أن حزبه وحلفاءه قد ساهموا فيه. ويكون له المركز الثاني بعد رسول الله، أما وقد فاته تحقيق الزعامة بأخذ رأيه في البقاء في المدينة وفاته المشاركة بالنصر عن طريق حزبه وحلفائه، فليشارك إذن في صنع الهزيمة. عله يتخلص من محمد - صلى الله عليه وسلم - وزعامته. وليضرب ضربته الذكية. وينفصل بثلث الجيش عائدا إلى المدينة معلنا: (.. سفه رأيي، ورد حلفائي، ما أدري علام نقتل أنفسنا أيها الناس). ولئن كانت خطوته يوم بني قينقاع كبيرة على الحس الإسلامي. فلقد أصبحت تافهة لا تذكر أمام خطوته في أحد. ولقد كانت ذات أثر خطير جدا من الناحية المعنوية، فأن ينفصل ثلث الجيش معه. فهذا يعني تصدع الصف الداخلي وهو مقدم على حرب عنيفة. وإذا أردنا أن نحدد أبعاد هذه الخطوة أكثر فيمكن القول: إن الأمر أكبر من ثلث الجيش. فلقد أكد القرآن الكريم أن هناك بعض الفئات كادت تستجر معه: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون (¬2)}. كما يشير القرآن الكريم إلى المنافقين الذين بقوا في الجيش. وعلهم مكثوا بأمره. ليتموا المهمة الخطيرة، مهمة إشاعة الفوضى والرعب في الصفوف. حيث يؤكد القرآن هذا المعنى بقوله عز وجل: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (1)}. فأشارة القرآن الكريم إلى الطائفتين المؤمنتين اللتين كادتا ¬

(¬1) آل عمران /122. (¬2) آل عمران 154.

تلتحقان بالمنشقين عن الجيش، والإشارة إلى الطائفة التي أهمتها نفسها في المعركة وهي أخت الطائفة المنشقة لتوضح أن المنافقين هم قرابة نصف الجيش وتتحدث السيرة عن هذه النماذج في المعركة. فبعضهم قال: لو كان نبيا ما قتل فارجعوا إلى دينكم الأول. وبعضكم قال: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم ويعتلوكم. ونلاحظ أن الخط النبوي في أحد قد اختلف عن الخط في قينقاع من حيث التعامل مع زعيم النفاق. فلقد كانت المراعاة في الموقف الأول كافية لتبيان نوعية هذه النماذج، وكفيلة بأن تعيدهم إلى حظيرة الإيمان. لكننا عندما نجد أن مواقفهم لم تتغير. فلقد كان الموقف حاسما وواضحا في أحد، ولقد رد حلفاء عبد الله بن أبي. فلا يمكن أن يقوم في الصف الإسلامي تكتل محاذ لكتلة المسلمين وجماعتهم، ولا يمكن أن يقبل تجمع بجوار الجماعة المسلمة. ورغم حاجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العدد حيث يواجه ثلاثة آلاف بألف مقاتل. إلا أن المبدأ لا ينقض .. فطالما أنهم لم يعلنوا انضمامهم للصف الإسلامي، فلا استعانة بأهل الكفر على أهل الشرك، والأخطر من ذلك فهؤلاء ليسوا حلفاء المسلمين، إنما هم حلفاء عبد الله بن أبي. فسلامة الصف ووضوح الولاء أهم بكثير من التجمع العشوائي. وكان انفصال عبد الله بن أبي رحمة بالمؤمنين. وكما قال لهم عبد الله بن عمرو أبعدكم الله، فسيغني الله عنكم نبيه. وكان بالإمكان بعد العودة من أحد أن يوجد في الصف الإسلامي الخالص من يعذر عبد الله بن أبي ويدافع عنه، ويجد له ولحزبه العذر بالعودة بحجة أنهم مسلمون لهم ظروفهم. لكن كلام الله تعالى جاء كوقع الصاعقة عليهم. فلقد كان القرآن يدمغهم بالنفاق بأوضح بيان. {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلويهم والله أعلم بما

يكتمون (¬1)}. ثم يربط القرآن الكريم بين الفريقين، الذين استمروا فى الجيش لإشاعة البلبلة والهزيمة، والذين انخذلوا إلى المدينة فيقول: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (¬2)}. ولا نبالغ إذا قلنا: إن قمة تجمع المنافقين وخطره برز يوم أحد، لكننا نؤكد في الوقت ذاته أنه قد افتضح أمره، وبرز المنافقون بأشخاصهم وأعيانهم يعلن القرآن عنهم أنهم أقرب للكفر منهم إلى الإيمان. وبذلك تمت المفاصلة بينهم وبين المؤمنين، وغدت الجماعة المؤمنة تنظر إليهم بعين الحذر والكراهية إن استمروا على مواقفهم. وأصبح المسلم يكف عن بث أسراره لأخيه من أبيه وأمه إن كان ممن وصم بالنفاق. وأدت هذه المواقف الحاسمة منهم بعد ذلك إلى أن يخنسوا ويحاولوا التقرب من الصف المؤمن والاعتذار منه، وأن يتراجعوا عن موقف المواجهة والتحدي، ويغيروا خطتهم للعمل في الخفاء. أما الذين كانوا مغررا بهم فقد بدأوا ينضمون للصف الإسلامي في توبة نصوح خالصة حيث فتح لهم القرآن طريق التوبة بعد التحذير العنيف الرهيب بسوء مصيرهم إن استمروا على موقفهم: حيث يقول جل شأنه: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (¬3)}. وهكذا سار الخط النبوي في التعامل مع المنافقين على أمل تفتيت تجمعهم، والتحذير من كيدهم. وتحذيرهم من مغبة السير في طريق النفاق من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وحققت هذه الخطة أهدافها بشكل واضح وبدأ خط التصاعد للمنافقين بالانحدار. فلقد كانت سورة النساء وحديثها ¬

(¬1) آل عمران 167. (¬2) آل عمران 168. (¬3) النساء، الآيات. 145، 146.

عن الجهاد والنفاق، وسورة آل عمران تعري كل المخططات المشبوهة، وتعالج كل الشبهات المبثوثة، وتفسح المجال رحبا أمام التوبة. هـ - تآمرهم مع بني النضير: يقول ابن إسحاق: وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك ابن أبي قوقل وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير، أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة (¬1). ففعل (¬2)). ويحدثنا القرآن الكريم عن هذه الحادثة، وذلك في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون (¬3)}. إن الصورة لتختلف تماما اليوم عنها في أحد، فلئن كان التحدي سافرا في أحد، فلقد خنسوا اليوم وراحوا يعملون في الخفاء كخفافيش الظلام، لم يعودوا يملكون القوة على المواجهة، ولا القوة على التحدي، إنما يتآمرون من وراء الأقنعة علهم ينتصرون مع حلفائهم اليهود على المسلمين، فهم يدعون بني النضير إلى الثبات في وجه المسلمين وإلى المقاومة، كما يعلنون لهم أن مددهم قادم ولا ريب في ألف من المنافقين، وقد ربطوا مصيرهم بمصيرهم، لئن أخرجتم لنخرجن معكم، وإن قوتلتم لننصرنكم. والله - صلى الله عليه وسلم - شهد إهم لكاذبون. ولئن كان عبد الله بن أبي قد استطاع أن يحافظ على حياة حلفائه بني قينقاع. فهو أعجز اليوم من أن يبدي رايا أو يتقدم بطلب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الحلقة: السيوف والسلاح. (¬2) تهذيب السيرة ص 181. (¬3) سورة الحشر، الآيات 11 و 12.

بعد تلك الخيانة السافرة في أحد. وهو في الوقت نفسه يجلل بالعار من جديد في الخيانة التي فضحها القرآن عن التآمر السري بين الفريقين، المنافقين وكفار أهل الكتاب. وكان خروج اليهود بدون سلاح وهدمهم بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين صفعة عنيفة للمنافقين، وإسقاطا ماديا ومعنويا لهم. القرآن يتنزل، والمواقف تتوضح، والمنافقون يتعرون، ومع ذلك يبقي الإسلام ورسول الإسلام خيطا خفيا يتسلقون من خلاله إلى التوبة. فلن يوصد الباب أبدا، لكن اللعب على الحبال مكشوف، والتظاهر بالإيمان مفضوح لا يجدي، ولن يفيد إلا التوبة الصادقة الخالصة لله. وكانت هذه الجولة الجديدة كفيلة بتداعي معسكر المنافقين، فوضح الحق واستبان السبيل لكثير منهم، وبدأوا يمسحون الغشاوة عن عيونهم فيستفيقوا من رقادهم ويؤبوا إلى حظيرة الإسلام. و- المنانفقون يوم الأحزاب رغم أن الحديث عن المناففين يوم الأحزاب في القرآن كان طويلا لحد ما إذا قيس بما ذكر عن غزوة الأحزاب، ومواقف المسلمين منها. لكنه يركز على معان محددة وواضحة فيهم تؤكد ضآلة حجمهم وتفاهة تخطيطهم. يقول تعالى عنهم في سورة الأحزاب: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلويهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها الا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخواخهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير

أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله - صلى الله عليه وسلم -سيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا (¬1)}. وهناك آيتان أخريان ذكرتا المنافقين في الخندق في سورة النور وهما قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئث واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (¬2)}. ولو وقفنا عند هذه الآيات وفقهها نلحظ ما يلي: 1 - الفريق الأول: يقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. فهم قد حضروا المعركة وأمام هول الصدمة، وعنف المحنة انهار إيمانهم، وكشفت خبيئة نفوسهم فقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وكتب السيرة تذكر هذا القول أو قريبا منه عن معتب بن قشير إذ قال في ساعات الخوف والزلزلة بعد أن سمع بشريات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح المبين لهذا الدين في أقطار الأرض: (يعدنا محمد أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن من أن يذهب إلى حاجته ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا). وطبيعة هذا القول تشي بأنه قول مخنوق يقال في الخفاء بين مجموعة موثوقة تقبل هذا المعنى على الأقل، ويحسب هؤلاء أن أمرهم لن يظهر، وقولهم لن يكشف. لكن القرآن الكريم لاحق مؤامراتهم وكذبهم إلى كل جحر يلتقون فيه. لكنهم على كل حال يمثلون كل طوائف المنافقين. فلقد تزلزل إيمانهم، واعتبروا أنفسهم متورطين في هذا الإيمان. 2 - الفريق الثاني: وهو وضع طائفة محددة منهم تذكر حوادث السيرة ¬

(¬1) الأحزاب: الآيات من 13 لـ 20. (¬2) سورة النور الآيتان 62 و 63.

إنهم بنو حارثة. وهي إحدى الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا يوم أحد - إذ قالوا: (إن بيوتنا عورة وليس دار من دور الأنصار مثل دارنا، ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا فنمنع ذرارينا ونساءنا، فأذن لهم - صلى الله عليه وسلم - فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال: يا رسول الله لا تأذن لهم إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا (¬1)). ويتحدث القرآن عن جبنهم وهلعهم في أربع آيات تؤكد المعنى الذي ذكره سعد بن معاذ رضي الله عنه فهم يريدون الفرار من المعركة، ولو وطىء العدو أرضهم لأجابوه للفتنة عن دينهم والتخلي عن عقيدتهم، ولا أدل على ذلك من خوفهم من الموت أن يجتاحهم في أرض المعركة وكأنما هم بمنجاة منه في غيرها، وتزعزع عقيدتهم ووهنها هو الذي يدفعهم إلى هذا الموقف. لأن الضر والنفع بيد الله عز وجل وحده، والفرار لن يحول بينهم وبين الموت أو القتل. والمؤمن الصادق يوقن بأن النصر بيد الله، والنفع والضر بيد الله، والموت والحياة بيد الله. وهؤلاء المنافقون ليسوا من هذا الطراز. 3 - الفريق الثالث: هم المعوقون الذين كانوا يخذلون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتابعون في جحورهم في المدينة. وهم جبناء مثل أسلافهم، لكنهم لخذلانهم وتخاذلهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبح مهوى قلبهم مع العدو. وكان الوصف دقيقا ولاذعا لهم {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك كالذي بغشى عليه من الموت}. طارت قلوبهم من صدورهم رعبا، وهؤلاء حكم القرآن عليهم أنهم غير مؤمنين {أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله - صلى الله عليه وسلم -سيرا}. وهم على استعداد أن يتركوا المدينة ومن فيها إذا حاق الخوف واشتدت المصيبة. وأمام هذه النماذج الثلاثة نلحظ أن مواصفاتهم هي التي تستغرقها الآيات في الوصف، أما حجمهم فهو ضئيل، رغم أن الفرصة مواتية لبروزهم من أوكارهم، خاصة حين اشتدت المحنة، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. إن المشكلة ليست هي الخوف، فالمؤمنون يخافون، إنما المشكلة هي بواعث الخوف ونتائجه. وارتباط ذلك بالإيمان وعدمه. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ص 229 ج 1.

إن المحنة هي التي تمحص القلوب، وتكشف ما في الصدور من إيمان أو نفاق أو كفر وقد يتزلزل المؤمن لكنه لا يفقد إيمانه، قد يفقد موقفه، وقد يفقد شجاعته وثباته، لكن إيمانه لا يتزلزل أبدا. أما ضعيف الإيمان فينهار إيمانه أمام الحادثات، وأما الكافر المتجلبب بجلباب الإسلام حين يكشف الغطاء، ويرى أن دولة الإيمان على وشك الزوال يكشف خبيثة نفسه، ويظهر نتن قلبه، ويعلن شكه بربه، وهؤلاء لم يؤمنوا، وبالتالي فأحبط الله أعمالهم في الدارين. ز - المنافقون يوم بني المصطلق انتصر المسلمون بعد الخندق، وأنهوا وجود بني قريظة. وبالتالي انتهى حلفاء المنافقين في المدينة. فلم يعد أمامهم إلا أن يسارعوا بالولاء للقيادة المسلمة، وأن يوجهوا جهدهم لخلخلة الصف المسلم نفسه، والعمل على تشتيته، وإشغاله بنفسه بدل أن ينشغل بعدوه، وتظاهروا بالانصهار في هذا الصف، وإن كان بعضهم قد دخل فيه عن قناعة بعد أن بهره نصر الله، ورأى من الآيات البينات ما يحرق كل شك أو دخل في قلبه، وكان ابن أبي كالحية الرقطاء يكمن بين الحجارة وخلف الأستار ينتظر الفرصة المواتية للانقضاض، وكان هذا يوم بني المصطلق. ولنر تفصيل ذلك لدى المقريزي: (وبينا المسلمون على ماء المريسيع إذ أقبل سنان بن وبر الجهني - حليف الأنصار - ومعه فتيان من بني سالم يستقون وعلى الماء جمع من المهاجرين والأنصار، فأدلى دلوه، وأدلى جهجاه - الغفاري - أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه - دلوه فالتبست دلو سنان ودلو جهجاه وتنازعا، فضرب جهجاه سنانا فسال الدم فنادى يا للخزرج، وثارت الرجال فهرب جهجاه وجعل ينادي في العسكر: يا لقريش، يا لكنانة، فأقبلت قريش وأقبلت الأوس والخزرج وشهروا السلاح حتى كادت تكون فتنة عظيمة فقام رجل في الصلح فترك سنان حقه. وكان عبد الله بن أبي جالسا في عشرة من المنافقين فغضب وقال: والله ما رأيت كاليوم مذلة، والله إن كنت لكارها لوجهي هذا، ولكن قومي قد

غلبوني قد فعلوها وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، وأنكروا منتنا، والله ما صرنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما هتف به جهجاه وأنا حاضر لا يكون لذلك مني غير، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم، ونزلوا منازلكم، وآسيتموهم في أموالكم حتى استغنوا، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، ثم لم ترضوا ما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا فقتلتم دونهم فأيتمتكم أولادكم وقللتم وكثروا. وكان زيد بن أرقم حاضرا - وهو غلام لم يبلغ أو قد بلغ - فحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وعنده نفر من المهاجرين والأنصار، فتغير وجهه ثم قال: يا غلام، لعلك غضبت عليه؟ قال: لا والله لقد سمعت منه. قال: لعله أخطأ سمعك: قال: لا يا نبي الله. قال: فلعله شبه عليك؟ قال: لا والله لقد سمعت منه يا رسول الله. وشاع في المعسكر ما قال ابن أبي، حتى ما كان للناس حديث إلا هو. وأنب جماعة من الأنصار زيد بن أرقم فقال - في جملة كلام -: والله إني أرجو أن ينزل الله على نبيه حتى تعلموا أني كاذب أم غيري. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر به عباد بن بشر فليأتك برأسه. فكره ذلك وقال: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وبلغ الخبر ابن أبي، فحلف بالله ما قال من ذلك شيئا؟ ثم مشي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلف بالله ما قال. وأسرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك السير، ورحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ... ويقال: لم يشعر أهل العسكر إلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد طلع على راحلته - وكانوا في حر شديد، وكان لا يروح حتى يبرد إلا أنه لما جاءه ابن أبي رحل في تلك الساعة. فكان أول من لقيه سعد بن عبادة رضي الله عنه - فقال: خرجت يا رسول الله في ساعة ما كنت تروح فيها! قال: أو لم يبلغك ما قال صاحبكم ابن أبي، زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل؟

قال: فأنت يا رسول الله تخرجه إن شئت فهو الأذل وأنت الأعز. يا رسول الله! ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز، ما بقيت عليهم إلا خرزة واحدة عند يوشع اليهودي ليتوجوه فما يرى إلا قد سلبته ملكه. وبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير من يومه ذلك، وزيد بن أرقم يعارضه براحلته يريد وجهه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحث راحلته فهو يغذ في المسير - إذ نزل عليه الوحي فسري عنه. فأخذ بأذن زيد بن أرقم حتى ارتفع من مقعده عن راحلته وهو يقول: وفت أذنك يا غلام، وصدق الله حديثك! ونزل في ابن أبي {إذا جاءك المنانقون} السورة كلها. وكان عبادة بن الصامت قبل ذلك قال لابن أبي: إيت رسول الله يستغفر لك فلوى رأسه معرضا، فقال له عبادة: والله لينزلن في لي رأسك قرآن يصلى به. ومر عبادة بن الصامت بابن أبي - عشية راح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المريسيع، وقد نزل فيه القرآن، فلم يسلم عليه، ثم مر أوس بن خولي فلم يسلم عليه، فقال: إن هذا الأمر قد تمالأتما عليه. فرجعا إليه فأنباه وبكتاه بما صنع، وبما نزل من القرآن إكذابا لحديثه، فقال: لا أعود أبدا. وجاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله، إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني به، فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى يا رسول الله - أن تأمر غيري فيقتله. فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأدخل النار، وعفوك أفضل، ومنك أعظم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أردت قتله، وما أمرت به، ولنحسن صحبته ما كان بين أظهرنا. فقال يا رسول الله! إن أبي كانت هذه البحيرة قد اتسقوا عليه ليتوجوه، فجاء الله بك فوضعه ورفعنا بك. ومعه قوم يطيفون به يذكرونه أمورا قد غلب الله عليها (¬1)). 1 - حين تظهر الطبيعة العربية عارية في سرعة غضبها وانفعالها، تظهر بجوارها عظمة هذا الدين في ضبطها وكبح جماحها، وهذا ها نراه من خلال ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 من ص 199 إلى 203.

أسباب فتنة النفاق هذه. فاختلاف الدلاء البسيط يقود إلى التنازع، ومن التنازع اللفظي إلى التشاجر والتشابك بالأيدي إذ يضرب جهجاه سنانا فيتفجر منه الدم، وجرح سنان يدفع إلى الجاهلية الجهلاء. فينادي سنان قومه الخزرج، ويستصرخ جهجاه المهاجرين، ويثور القوم للسلاح حتى كادت تكون فتنة عظيمة. هذا هو الخلق العربي عاريا في سرعة انفعاله وغضبه. كان من الممكن لهذه الفتنة بغير الإسلام أن تعيد أمثال يوم بعاث بين الأوس والخزرج، وأن تبيد أيام داحس والغبراء أو يوم حليمة ويوم البسوس. فيفني القبائل بعضها بعضا في شهور أو سنين أو عقود من السنين. كان هذا الشجار كافيا لحرب ضروس تأكل الأنصار والمهاجرين، ونصل من هذه الملاحظة إلى أنه لا غرابة أن تتحرك في المجتمع الإسلامي أو في الحركة الإسلامية نوازع الجاهلية ونزعاتها وتثور بعد كمون طويل. فلقد تحركت هذه العصبية لأول مرة على هذا المستوى نتيجة إثارة طائشة. وذلك في أفضل مجتمعات الأرض، وليس صفنا أفضل من هذا المجتمع وهو خريج مدرسة النبوة، وهو الأمة التي أخرجت للناس خير أمة، وليست قيادتنا تعادل غبارا على قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو بين ظهرانيهم، وتتحرك الفتنة إلى درجة أن يحمل الفريقان السلاح للمواجهة. وكم نتمنى أن تستوعب الحركة الإسلامية والصف المسلم هذا المعنى، أن لا تحبط الأخطاء والخلافات أمانينا فنيأس حين نجد مثل هذه الظاهرة. وأن تصل الظاهرة إلى حد حمل السلاح في داخل الصف المسلم ضد بعضه بعضا. 2 - لكن الفارق الكبير نلحظه باستمرار هذه الظاهرة أو اختفائها. فلقد استطاع الصف الإسلامي الأول أن يتلافى هذه الظاهرة مباشرة وبأقوى ما يكون فيمشي رجل من المسلمين بالصلح بين الفريقين. ويتخلى سنان عن حقه، وتحبط الفتنة في مهدها. وهذا ما نريد أن نؤكده لنقتدي به. فلا غرابة أن نخطىء، ولا غرابة أن نزل، لكن الغرابة كل الغرابة، والجفوة كل الجفوة للمنهج الإسلامي هو أن يستمر الخطأ، ويستفحل. فعندئذ نكون أقرب

للمجتمع الجاهلي منا إلى المجتمع الإسلامي، وأن نعجز عن إيجاد حلول تنهي المعركة في الصف الإسلامي وتجتث جذور الخلاف (¬1). 3 - وهنا يبرز دور النفاق الخطير في المجتمع الإسلامي. فعبد الله بن أبي يجد الفرصة سانحة ولن تتكرر له هذه الفرصة الذهبية مرة ثانية في تدمير هذه الجماعة المسلمة ليقوم على أنقاضها، وها هو يهتبل هذه الفرصة فيعبر عما في نفسه، ولكن أين؟ في عشرة من المنافقين، يطمئن إلى نفاقهم، ويطمئن إلى استعدادهم لقبول أفكاره وتنفيذ مخططاته. لقد وجدناه في أحد يفصل ثلث الجيش ويشكك في البقية الباقية من اتباعه فوق هذا الثلث، وهو قمة مجده ثم بدأ ينحسر هذا المجد. فيعجز عن نصر حلفائه في بني النضير، ولا يتجاوز دوره التشكيك في النصر وإمكانياته في الخندق، أما اليوم فيبث حديثه في عشرة من أتباعه. ويتحدث عن كل ما يعانيه من بغض للإسلام وأهله ولا يتورع أن يشبههم بالكلاب المسمنة على مائدة الخزرج، ويدعو صراحة إلى تمزيق الصف،. والثورة على القيادة: بل يهدد بهذه الثورة التي بدت ملامحها وذرت قرونها عند العودة إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ولا بد لنا من الوقوف عند هذه المعاني. فظهورها في الصف المسلم الواحد تعني أن سمات النفاق متمثلة في دعاتها. التهديد بتمزيق الصف، والثورة على القيادة والطعن فيها وبصلاحيتها. خاصة وهي منطلقة من أسس شرعية. متينة يعنى أن هذا الخط هو خط النفاق سواء أشعر صاحبه أم لم يشعر. وكما يقول عليه الصلاة والسلام في أدنى من ذلك: يقول في الخلق الشخصي: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن ¬

(¬1) قد يقع أن يستمر الخلاف والدماء في الصف الإسلامي الواحد سنين طوالا، كما جرى في فتنة عثمان رضي الله عنه وفي معركة الجمل وصفين. لكننا لا بد أن نلاحظ أن مثل هذا الخلاف والقتال قد يقع بهذه الشدة وهذا العنف والمسلمون متمكنون في الأرض، ولم يحدث أن استمر مثل هذا الخلاف في الجيل الإسلامي الأول بهذه الصورة والمسلمون ضعاف يتخطفهم العدو من كل جانب.

كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها (¬1)). فقد توجد صفات النفاق في مسلم لا يبطن الكفر ويظهر الإسلام فيعامل معاملة المنافق الخالص، وكلما تحلى عن صفة أو سمة من هذه الصفات أو السمات اقترب من الصف الإسلامي الصادق، لقد كان هدف ابن أبي واضحا من كلامه وهو حرب المهاجرين، وإخراجهم من المدينة أذلاء. وعلى أي شيء يعتمد؟! يعتمد على قومه من الخزرج الذين كادوا يبايعونه سابقا على القيادة. وما هو وقود الحرب؟! هو بناء الأمة على حزبين هما: المهاجرون من قريش وهم أشبه ما يكونون بالمستعمرين اليوم - على حد زعمه وفهمه - (نافرونا وكاثرونا في بلادنا، وأنكروا منتنا، والله ما صرنا وجلابيب قريش إلا كما يقول القائل سمن كلبك يأكلك). والذين قبلوا هذا الاستعمار هم قومه (هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم، ونزلوا منازلكم، وآسيتموهم في أموالكم حتى استغنوا). أما هو فقد كان كارها لهذا، والقيادات الأخرى غيره هي المسؤولة عن هذه النتيجة (والله إن كنت لكارها لوجهي هذا ولكن قومي قد غلبوني .. والله ما رأيت كاليوم مذلة). وهل لهذا الأمر من تلاف؟ نعم والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. إنها الثورة على هذه القيادة وإخراجها من المدينة. وعلى حد زعمه، لأي مرحلة وصل الخضوع والذلة والجهالة لدى قومه؟! (ما هو المطلوب منهم الآن). (أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم ثم لم ترضوا ما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا فقتلتم دونهم فأيتمتكم أولادكم. وقللتم وكثروا). إنه منطق تقسيم الأمة إلى رجعيين وتقدميين أو كادحين ومستغلين. والدعوة إلى الثورة التي تطيح بأعداء الشعب. ليستلم العمال والفلاحون والمثقفون الثوريون زمام السلطة. إنه تقسيم الأمة إلى اليمين واليسار .. أو إلى ثوريين ومحترفين سياسيين. ¬

(¬1) متفق عليه.

هذه المقولات كلها عندما تسود الصف المسلم، ويراد منها أن يتميز الصف على ضوئها يعني أن من يقود هذه الأفكار أنه هبط إلى درك النفاق أيا كان شأنه، وأيا كان لونه، وخط النفاق الدائم المستمر هو خط الدعوة إلى التغيير غير الشرعي في الصف الإسلامي والطعن المستمر في القيادة المختارة لتسقط عن طريق القوة، ويحل محلها الثائرون. إننا نفهم الثورة ضد الجاهلية، ونفهم الثورة ضد المحاربين لشريعة الله والمحادين لرسوله وكتابه. لكننا لا نفهمها في الصف الإسلامي الواحد، والحركة الإسلامية الواحدة إلا دورة جديدة من دورات عبد الله بن أبي. 4 - ولكن كيف كان وضع الصف المسلم في أثناء هذه الحركة المضادة. لقد كان الصف من القوة والتراص والتماسك بحيث يحرق عبد الله بن أبي وعصبته المنافقة. ولقد استطاع فتى صغير من فتيان هذا الصف أن يحبط فتنة هذا الأخطبوط كله، حين نقل كل تفصيلات المخطط الخائن، لمن؟ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة. وأي وعي في صف جيش النبوة أعمق من هذا الوعي؟! إنه الغلام زيد بن أرقم بلغ به الوعي الحركي أن يصمت وهو يسمع عبد الله بن أبي ليتحدث بكل ما في نفسه، وبلغ به الوعي الحركي أن يمضي مباشرة إلى القائد الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وحده فيبلغه بما سمع، وبلغ به الوعي الحركي أن لا يحدث بهذا الموضوع أحدا غير رسول الله. وكم نتمنى لا لفتياننا ولا لشبابنا بل للقيادات عندنا أن يكونوا على مستوى هذا الوعي الحركي العظيم. إنه فتى الإسلام الذي لم يبلغ بعد - أو في سن البلوغ - أدرك هذه المعاني جميعا وحصر الفتنة في مهدها فأبلغ كل تفاصيلها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فكان حارسا أمينا على دعوته وحركته. وهذا يعني أن المطلوب من كل أخ أن يكون حارسا أمينا على دعوته وحركته. فينقل كل ما يسمعه من تجريح وطعن أو رغبة في تخريب الصف وتحطيمه إلى قيادته المسلمة دون أن يمضي عن حسن ظن في النقد والتجريح هو كذلك. فيبلبل الصف وهو يقصد إصلاحه.

إنه درس عظيم في الحركية الواعية لشبابنا المسلم يتلقونه من هذا الغلام. ونقطة ثالثة في هذا المجال كذلك هي أن معسكر النفاق لم يكن ليأبه بمثل هذا الغلام زيد بن أرقم ومن أجل هذا لم يجد حرجا في الحديث أمامه بكل ما في نفسه وبكل مخططاته. وهذا ما يجعلنا نطمئن إلى أن نفثات معسكر النفاق وأحابيله لا بد أن تظهر بشكل ما في الصف، وعلى الشباب المسلم أن يكون يقظا واعيا لمثل هذه الاتجاهات داخل الصف المسلم. 5 - وماذا تتصرف القيادة أمام هذه المواقف؟ إن الدرس عام للقيادة والقاعدة، وما أحوجنا إلى التأسي بهذا المنهج جنودا ومسؤولين. لقد وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة احتمالات قبل أن يتبنى هذا القول ويبني عليه. الاحتمال الأول: أن يكون ناقل الكلام مغرضا. أو صاحب هوى (لعلك غضبت عليه؟ قال: لا والله لقد سمعت منه). ومع أن عبد الله بن أبي هو رأس النفاق وأكبر أعلامه فلم يقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القالة فيه مباشرة وأحب أن يتأكد من صدق الناقل أنه ليس له غرض أو مصلحة أو هوى ضد المنقول عنه. إن الحكم السريع من القيادة والتصديق المباشر دون تحقيق كامل لأسباب هذه الأقوال قد يوقع الجماعة المسلمة في خطأ أكبر من القول نفسه وقد يصدع نقل مغرض وحقد حاقد وغضب غاضب الصف كله إذا كان التسرع في قبول القول ضد أي إنسان لا يزال داخل الصف، مهما كانت الاتهامات ضده. الاحتمال الثاني: أن يكون ناقل الكلام غير دقيق في نقله. (لعله أخطأ سمعك) فلا يبعد أن يكون النقل خاطئا، فيؤدي إلى زيادة أو نقصان في الكلام يغير المعنى كله، ولا يصل إلى هذا المدى من الخطر، وبالتالي فيتهم القائل بشيء لا أصل له، أو زيد عليه فغير معناه. لقد كنا كثيرا ما نسمع بعض التعميات من الشباب المتحمسين ضد بعض إخوانهم أو مسؤوليهم أو يقوم شاب بنقل لحادثة عن القيادة مشوهة أو مغلوطة، وبعد أن ينتهي الأخ من غمرة حماسه يسأل: هل أنت متأكد مما تنقله؟ وهل نقل إليك هذا الخبر بهذه الصورة؟ فيقف مليا ليجيب مصححا

لنفسه مقالته الأولى، ويحدد ما هو متأكد من نقله، مما هو شاك فيه. إن خطأ السمع احتمال أساسي آخر ينبغي التحرز منه ونحن نستمع للأخ الذي ينقل شكاية عن أخيه الآخر مهما كان وضع الأخ الآخر متهما أو مشكوكا فيه. الاحتمال الثالث: أن يكون الفهم خاطئا للكلام (فلعله شبه عليك؟ قال: لا والله لقد سمعت منه يا رسول الله. وهذا أكثر الاحتمالات وقوعا في الصف المسلم أن يفهم الكلام على غير قصده أو غير معناه، وبالتالي تتأزم الأمور لسوء تفاهم أو سوء فهم من طرف واحد، ثم تبني الأحكام كلها على ضوء هذا الفهم السيء، ويتصدع الصف نتيجة أوهام لا حقائق، ونتيجة تفسيرات وفهوم لكلمات معينة لا نتيجة نقل أمين لمعناها، والأصل حين تقوم الثقة بين أبناء الصف أن يكون الأخ مصدقا عند إخوانه حين يعلن رأيه وفهمه ويقسم عليه، ولكم رأينا خلافات عميقة وشروخا كبيرة في الصفوة من إخواننا نتيجة فهم خاطىء لكلام صادر. أو تفسير سيء لنقد قائم بعيد عن التجريح والإساءة. والمنهج النبوي أمامنا في التحقيق نتمنى أن يكون درسا عمليا لجهاز الأمن وأجهزة التحقيق في الجماعة، ومهما كد ذهننا في التحقيقات، فلن تخرج الاحتمالات عن هذه المجالات الثلاثة: غرض في النقل، أو خطأ في النقل، أو خطأ في الفهم. وليس من حق قيادة الجماعة مهما كان الناقل صادقا والمنقول عنه متهما أن تصدر حكما قبل التحقيق في القول نفسه، ولو فعلت ذلك لجافت منهج النبوة، ولكانت أداة لزلزلة الصف وزعزعة الثقة عوضا عن أن تكون صمام الأمان له ومحور اللقاء والثقة فيه. والنفاق لا يستطيع أن يتحرك ويتمطى ويثمر الثمرة المرة إلا في الابتعاد عن المنهج النبوي في التحقيق والإدانة. 6 - ثم ماذا بعد التحقيق؟ يأتي دور الاستماع للخصم ودفاعائه. فلقد جاء ابن أبي وأقسم بالله تعالى ما قال، وحلف على ذلك. وتأزم الموقف من جديد. وانقسم الصفوة من الصحابة بين مصدق ومكذب، بعد حلف ابن أبي، فالذين يعرفون ابن أبي لم يخالجهم الشك في قوله، واندفع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليقول: يا رسول الله مر به عباد بن بشر ليقتله، ولا

يمنع أن نقف قليلا عند قول عمر رضي الله عنه، فالمعهود في الفاروق رضي الله عنه في كل مواقفه أمام الانحرافات وتشكيكات المنافقين، أنه يطلب الإذن بقتل هذا المشكك، ومضت عنه هذه الكلمة: يا رسول الله دعني أضرب عنقه فلقد نافق. أما الآن فنحن أمام صورة جديدة. هذه الصورة أن عمر يطلب أن يقتله غيره، ولو أمعنا البحث وتعمقنا في فهم الأسباب لطالعتنا صورة نيرة خالدة. هذه الصورة هي ترفع عن أهوائه وانفعالاته. فلقد كانت المواجهة بين جهجاه الغفاري مولاه وبين سنان الجهني حليف الخزرج، فلو طلب عمر قتل ابن أبي، لكان الأمر محل شبهة أنه يود الثأر لنفسه ولمولاه من عبد الله بن أبي الخزرجي، وحرصا منه على أن لا يختلط الأمر بين حميته لدينه، وحميته لنفسه، ارتفع فوق رغبته الجامحة في قتل رأس النفاق، وأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم أحد سادات الخزرج بقتله، والنقطة الثانية في هذه الفقرة هي في قسم ابن أبي نفسه أنه ما قال هذا الكلام، فإقدامه على حلف هذه الأيمان - الكاذبة يعني أن رصيده قد انتهى نهائيا من الصف المسلم فلو كان واثقا أن هناك من يحميه ويؤيده غير هؤلاء العشرة. لبقي مصرا على قوله، ولاستطاع أن يحرك الحمية الجاهلية في نفوس قومه وهم أكثر الجيش، وأن يقود انشقاقا جديدا كما فعل في أحد. إنه لواثق أنه أعجز من أن يؤثر على فرد واحد في هذه الظروف وبهذه الوقاحة السافرة. ومن أجل ذلك رأى أن مصيره الموت لو ثبتت إدانته، ولن يثأر له أحد فلا بد من تلافي الموقف من جديد وتكذيب الخبر حفاظا على عنقه من الإطاحة، وهو والعشرة معه لن يكونوا أكثر من نفخة في رماد. غير أننا نلاحظ اتجاها آخر غير اتجاه عمر رضي الله عنه، ولقد قوي هذا الاتجاه حين رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكرة قتله. قائلا: فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحاب. هذا الاتجاه يقوم على التماس العذر لابن أبي في مقالته، ويعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكرة الرفق به أو تخفيف عقوبة القتل عنه على الأقل. ونلاحظ

هذا الاتجاه لدى زعيمين من زعماء المدينة هما أسيد بن حضير سيد الأوس - إذ كان سعد بن معاذ قد قضى شهيدا في الخندق - وسعد بن عبادة (¬1) سيد الخزرج إذ عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر عليهما كل على حدة، وكان جوابهما واحدا في هذا الأمر، فقال أسيد بن حضير: (.. فأنت يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله أرفق به فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه يرى أنك استلبته ملكا، وكان جواب سعد بن عبادة رضي الله عنه: (... فأنت يا رسول الله تخرجه إن شئت فهو الأذل وأنت الأعز، يا رسول الله أرفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ما بقيث عليهم إلا خرزة واحدة عند يوشع اليهودي ليتوجوه، فما يرى إلا قد سلبته ملكه. ولقد اندفع بعض أفراد هذا الاتجاه إلى تصديق عبد الله بن أبي بعد يمينه، وإلى تكذيب زيد بن أرقم الغلام المؤمن. فيذكر المباركفوري عن البخاري رواية فيها: (أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل (¬2)). ونلاحظ هنا أن تمالؤ مجموعة من الأفراد في الصف على موقف قد يؤدي إلى تغيير الواقع. لكننا نلاحظ أن أبعد مدى وصل إليه عبد الله بن أبي في الصف المسلم أن يوجد من يبرر له كلمته بدافع رغبته بالملك، أو يوجد من يصدقه ويكذب غلاما حدثا ليس معه شاهد آخر على كلامه، ومع هذا فنحن نعتبر أن هذا الموقف ليزيد القناعة بقوة هذا الصف وتراصه، فأن تصل الثقة لدى أفراد هذا الصف بغلام فيه، فوق الثقة بزعيم كبير من زعماء النفاق فهو دلالة واضحة على تعري النفاق والمنافقين فيه، وأن يقتصر الأمر على أفراد في هذا ¬

(¬1) عند المقريزي أن سعد بن عبادة هو الذي لقيه. وعند ابن هشام أن أسيد بن حضير هو الذي لقيه، ومن المحتمل أن تكون المحادثتان معا لخطورة الأمر ولحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على معرفة، رأى جميع قيادات الأنصار في هذا الموقف. (¬2) ابن هشام ج 3/ 184.

الصف على توقع الوهم من الغلام لا الاختلاف. فهو مستوى رفيع ولا شك في تلاحم هذا الصف، وارتفاع الثقة فيه، وفضح المشبوهين فيه. 7 - ونقف كذلك عند جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. وهو أمر أقرب ما نسميه في المصطلح الإسلامي بالسياسة الشرعية. وما أحوج الجنود في الصف إلى فقه هذا الموقف. فكثيرا ما يندفع الشباب المتحمسون في الصف في النقد العنيف للقيادة حيث تستعمل الحكمة والتؤدة في معالجة الشاذين في الصف والمتمردين عليه، خاصة إذا كانت الأغلبية في مركز أو تجمع تدين بآراء هؤلاء. وتصبح القيادة بين نارين، نار المتحمسين الذين يأخذون على القيادة تهاونها، ونار الأعداء من الداخل الذين يتربصون الدوائر بهذه الجماعة لينزلوا بها كيدهم فلا الشباب في الداخل يعذرونها ولا الأعداء في الخارج يرحمونها. إننا لا نتصور موقفا عدائيا للجماعة المسلمة أخطر من موقف عبد الله بن أبي، وأن مجرد (1) قناعته أن يخرج العزيز منها الذليل ويعني بها نفسه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهو خلع لربقة الإسلام من عنقه وصار كافرا خالصا، وحكمه هو القتل. لكن ظاهر الأمر أنه من الصف، فالإقدام على قتله، والمعركة الدعائية على أشدها بين المسلمين والكافرين تجعل للكفار سبيلا كبيرا للتشهير بالمسلمين والنيل منهم وتشويه سمعتهم لدى الآخرين، وظاهر الأمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخشى تأثير ابن أبي في هذه المرحلة، ومع أن الأمر لم يثبت عليه بعد، ومع أنه حلف أنه لم يقل هذا الكلام، فلم نر في الصف كله واحدا يقبل كلامه أو يقر به. إنما أقصى ما وصل التأثر به هو اعتبار زيد واهما في النقل، أو طلب الرأفة به لفقدانه الملك العضوض الذي فاته. ولا يوجد في ظاهر الأمر إلا هؤلاء العشرة من الصف كله قبلوا كلامه وسكتوا عليه، والمقصود في هذا التأكيد هو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رفض قتله، لم يكن بسبب خوف من تصدع الصف الداخلي عنده، ولم يكن خوفا من تأثيره في داخل صفه إنما كان

فقط توقفا سياسيا حتى لا يعطي العدو فرصة للتشهير بالصف الإسلامي أمام المحايدين: (فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه). إنه كثيرا ما يسود الصفوف اتهام صارخ للقيادة بسكوتها على المخربين أو صبرها على بعض الانحرافات داخل الصف، مع أن ظروفا داخلية وخارجية تمر بها الجماعة المسلمة تقتضي منها تأجيل بعض الأحكام أو توقيف بعض التصرفات، ولعل جنود الصف يدركون المدى الأبعد للقيادة في حرية التعامل في صفها الداخلي أو مع عدوها الخارجي من خلال هذه الحادثة. لقد امتنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل رجل نزل الوحى فيما بعد بتكذيبه وبصحة ما وجه إليه من كفر بواح وهو يهدد ليخرجن الأعز منها الأذل، وذلك لاعتبارات سياسية بحتة، ولسمعة الجماعة المسلمة أن لا تتفتت عند أعدائها، فيستغل العدو هذه الفرصة. ما أحوجنا إلى أن ندع الحرية للقيادة في التعامل مع شبابها ومع خصومها! فهي أدرى بالظروف التي تتعرض لها منا، ومن حقنا أن نوضح رأينا. كما فعل عمر رضي الله عنه وهو يطالب برأس ابن أبي، أو كما فعل سعد وأسيد وهما يطالبان بالرفق به. لكن ليس من حقنا أن نفرض رأيا نرتأيه. ولا أن نتهم القيادة في موقف اتخذته هو من حقها، ويحسن أن لا يغيب عن بالنا أن قيادة الحركة المسلمة فيها من العلم والعالمين ما يجعلها على بصيرة من تصرفاتها. لكن أشير إلى نقطة مهمة كذلك هي صلاحية القيادة للحركة، والقيادة للدولة. فقيادة الدولة قادرة على تنفيذ الحكم الشرعي بالقتل أو السجن أو النفي على أفرادها كما هي قادرة في كثير من الأحيان على مواجهة خصومها، ومع ذلك، فيتم مراعاة بعض الظروف والاعتبارات السياسية المحيطة بها، والتي تجعلها تتوقف في تنفيذ الأحكام، فمن باب أولى أن تكون قيادة الحركة أعجز وهي محكومة بظروف قاهرة من دول أخرى لها قوانينها وأعرافها، ولا تتعدى سلطتها المعنوية على أفرادها فصلا أو تجميدا مهما كانت خطيئة الجندي وذلك حين تتعارض المصلحة العامة للجماعة ومصلحة الفرد.

لقد رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتعرض لمن ارتد أو تزعزع بأذى في مكة لأنه لا سلطان له في هذه الدولة. بينما رأيناه يقيم الحدود وينفذ الأحكام وهو الحاكم الأعلى في المدينة. والذين يفرون من المدينة مرتدين إلى سلطة أخرى لا تطالعهم يده فيها يدعهم وشأنهم إلى أن يكون قادرا على تنفيذ القصاص فيهم. 8 - ولا بد من الإشارة كذلك لموقف سيدي الأنصار وهما يقولان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الحرز ما بقيت عليهم إلا خرزة واحدة عند يوشع اليهودي ليتوجوه. فما يرى إلا قد سلبته ملكه). فهذا الكلام وإن كان ظاهره يوحي طلب الرحمة بابن أبي. لكن حقيقته فضح للدوافع النفسية لهذا الموقف عنده. إن حب الزعامة عنده هو الذي قاده إلى هذا الموقع، وإن فقدان الملك هو الذي جعله في موقع الحرب ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برغم ما رأى من الآيات البينات والدلائل الباهرات على صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام. وهذا المرض الرهيب هو من أخطر الأمراض داخل الصف المسلم؟ مرض حب الزعامة والتنافس على السلطة وهذا المرض يقود في كثير من الأحيان إلى تدمير الجماعة المسلمة أو شق صفها على أقل تقدير. إن الفرق بيننا وبين الجاهليين هو أنهم يحتكمون إلى أعراف سياسية أو أعراف ديمقراطية فإذا خرجوا عليها فهو خروج على مبادىء صاغوها وجعلوا لها الحكم عليهم. أما الفئة المسلمة فالتزام الجماعة دين فيها، والسمع والطاعة للأمير فرض من فروضها، وقبول حكم الحاكم الشرعي بيعة من نكث فيها فإنما ينكث على نفسه. ومن أوليات الإسلام السمع والطاعة في المنشط والمكره ومن أوليات الإسلام السمع والطاعة ولو ولي عبد حبشي على المسلمين كان رأسه زبيبة ما أقام كتاب الله. كما نشير في هذا الموقف كذلك إلى الغلالة الرقيقة التي يتستر وراءها الخارجون على الجماعة. هذه الغلالة هي مصلحة الجماعة نفسها والحرص عليها، ومحاولة التمييز في صفوفها، وفقدان العدل بين شبابها. لتظهر فيما بعد النوازع الدفينة وهي فقدان المركز الحساس لهذا الثائر. على جماعته، وفوت

الفوز في انتخابات معينة. دفعته ليمضي في التشهير والجرح والتحطيم ما وسعه سبيل إلى ذلك. وإذا هو حين يتقلد منصبا أو يتسلم سلطة تذهب هذه الغيرة العظيمة على مصلحة الجماعة، وينقلب مدافعا عنها وعن قيادتها. إن كثيرا من المواقف المعادية للحركة الإسلامية تنطلق من حب الزعامة والمنصب وبالإمكان أن تعالج أحيانا هذه المواقف، ويصعب أو يستحيل معالجتها في حين آخر. إن طالب الزعامة والمنصب قد يراعي في بداية الأمر، وقد يتساهل معه في بعض الجزئيات. لكن أن يستمرىء هذا الإنسان هذه المراعاة، فلا يرضى إلا أن يكون الجميع تحت إمرته أو أن يكون الجميع بقيادته، وهو لا يستحق هذا المركز، ولا يستأهل هذا المنصب فحيئذ يكون من الخرق مراعاة مثل هذا النوع من الناس أو الاستجابة لطلباتهم، حتى أن كثيرا من الذين يعادون الإسلام إنما يعادونه خوفا على مصالحهم، وخوفا على زعامتهم. وأوضح مثالي على ذلك موقف أبي جهل من الإسلام ورسول الإسلام. أتنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وصرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء). والحركة الإسلامية الواعية، تتخذ الموقف الوسط والأنسب في هذه الأمور. فلا حرج عليها أن تراعي بعض هذه النوعيات، وإشعارهم بمقامهم المحفوظ في الإسلام: أو أن ترفض أية مراعاة لهم حين ترى خطرهم على الجماعة والدعوة، والموقف واحد مع من هو داخل الصف أو خارجه، في حركة إسلامية أو مستقل الرأي أو في موقف معاد للدعوة والحركة. 9 - ويطالعنا موقف المسلم العظيم عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان له دور كبير في إنهاء سلطان أبيه من أرض الإسلام. وذلك في تصرفين عظيمين: التصرف الأول: وبعد أن ثبت له عن طريق الوحي صدق مقالة زيد فيما نقله عن أبيه تبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه. فلما جاء ابن أبي قال له: والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فإنه العزيز وأنت الذليل. فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن له فخلى سبيله (¬1). ومثل هذا التصرت لا يجدي إلا من عبد الله من جهة، ولا يقدره إلا عبد الله من جهة أخرى فهو لا يجدي إلا منه لأن كل الخزرج بل الأنصار تعرف بر عبد الله بأبيه. فلو أقدم أي واحد من المسلمين على هذا الموقف لكان خوفه من سيف عبد الله الابن قائما في كل لحظة ولن يرضى ذل أبيه، وقد تقع فتنة أعظم تحول دون هذا الاعتراف بالذل من رأس النفاق، ولا يقدره إلا عبد الله من جهة أخرى، لأنه الوحيد الذي لا يخشى سطوة أحد من المنافقين أتباع أبيه، إنهم حين يرون الولد يضع السيف على عنق أبيه، لن يتجرأ أحد على النيل من الولد، لأنه هو حامي ذمار أبيه، ولن يكون أحد أغير وأثأر للأب من ابنه. لقد كان هذا الموقف من الواقف الخالدة في التاريخ، والذي أحرق كيد المنافقين كله حين رأوا عبد الله بن عبد الله بن أبي يذل أباه، بل يمنعه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. التصرف الثاني: حين قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني به فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر غيري بقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأدخل النار، وعفوك أفضل ومنك أعظم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أردت قتله وما أمرت به، ولنحسن صحبته ما كان بين أظهرنا. فقال: يا رسول الله إن أبي كانت هذه البحيرة قد اتسقوا عليه ليتوجوه. فجاء الله بك فوضعه ورفعنا بك، ومعه قوم يطيفون به يذكرونه أمورا قد غلبه الله عليها. وإذا حق لنا أن نعتبر بعض الحوادث منعطفات في تاريخ النفاق، فلعمري إن هذه الحادثة أولى منها جميعا بذلك، فعبد الله المؤمن على استعداد أن يقطع رأس أبيه عن جسده بحركة من شفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إيماءة - ¬

(¬1) الرحيق المختوم للمباركفوري نقلا عن ابن هشام ومختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب.

ورسول الله لا يقتل إيماء - وبذلك يغدو عبد الله زعيم النفاق كأمس الدابر. وحين نرى مثل هذا القول لا نشك أصلا أنه إنما قال لينفذ، وليس وقوفه دون دخول أبيه المدينة حتى يقر بأنه هو الذليل، وأن محمدا هو العزيز، وحتى يأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدخولها، ليس هذا الموقف إلا دليلا على ذلك. لكن عظمة هذه النفس البشرية، نفس عبد الله الابن لتبدو أعظم وهي تتحدث عن نقاط ضعفها، ونقاط نقصها، إنه ليعلن أن الحمية الجاهلية قد تلعب برأسه، لو قتل أباه أحد غيره. وهو يعرف عتو هذه الجاهلية، وقوتها الكامنة في أعصابه، وفي حالة الحمية هذه، قد يفقد توازنه، ويفقد رشده، ويفقد دينه، فيقدم على قتل مسلم بكافر. فيؤدي ذلك به إلى النار. فليس المسلم إذن سموا كله، وليس تساميا كله. بل من نجد عنده قمة السمو قد نجده في مكان آخر في زلة ضخمة قد تقوده إلى الضلالة والكفر. ومن الخطورة بمكان ونحن نتناول أحداث السيرة أن يكون التركيز دائما على نقاط التسامي، فأن تعرض هذه الحادثة ليؤخذ قسمها الأول في استعداده لقتل أبيه فقط يجعل بين هذا الصحابي العظيم وبيننا هوة كبيرة سحيقة لن نتمكن تجاوزها فنيأس ونحكم على حركتنا بالفشل. أما عرض الموقف كله من الشخص نفسه فهو دليل من جانب آخر على طبيعة هذه النفس البشرية الواحدة القادرة على الارتفاع إلى الأفق، والقادرة على الهبوط إلى الحضيض. القادرة على التطبيق الحي لأوامر الله عز وجل، ولو أدى ذلك لقتل ألصق الناس بها، والمستعدة للولوغ في الوحل ونتن الجاهلية فتقتل مسلما بكافر ثأرا وحمية وتدخل النار، وجانب العظمة لدى عبد الله رضي الله عنه هو أنه لم يجد حرجا في عرض خشيته من ذلك الإنحدار أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويدع الأمر بعد ذلك لقائده يوجهه لما يشاء. وهو درس لكل جندي يكلف بمهمة، أو يرى حدثا معينا يخشى منه الفتنة أن يعرضه لقيادته حتى تكون على بينة من طبيعة هذا الجندي. فقد تغير الأمر نتيجة التعرف على هذا العرض. وأخيرا يضعنا هذا الموقف لعبد الله - رضي الله عنه - على جانب من الوضع النفسي له. فكل خشيته قائمة من دخول النار لو زل وعصى واستجاب لثأره، وليس خوفه على قتل أبيه أو خسارة سمعته أو لوم عشيرته.

لقد أصبح يتحرك في عواطفه من خلال عقيدته. لكن ضغط مقتل أبيه على أعصابه يخشى أن يزعزعه إلى ذلك المستوى الذي تجاوزه. ويصبح من عداد أهل النار. 10 - ولا يفوتنا أن نستعرض موقف الغلام المؤمن في هذه الحادثة: موقفه وهو يمضي سريعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليخبره بما سمع وهو الواجب على كل جندي أن يكون حارسا أمينا على دعوته، وموقفه وهو ثابت كالطود أمام تكذيبه. ويصر على صدق ما سمعه، وينفي أمام قائده أن يكون له هوى بهذا الأمر أو يكون قد أخطأ في نقله، أو أخطأ في فهمه، وموقفه في مواجهة التيار العام الذي ثار ضده من قادة قبيلته. وهو يتحداهم جميعا بقوله: والله إني لأرجو أن ينزل الله على نبيه حتى تعلموا أني كاذب أم غيري. فلم تزلزله هذه الهجمات كلها بل بقي على موقفه، وثقته برب السموات والأرض أن يظهر الحق لنبيه، وأن يأتي الوحي تصديقا له، ويتعبد به الناس إلى يوم الدين. ومن أجل هذا حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رفع معنوياته أمام هذا الهجوم الرهيب عليه حين جاء الوحي مصداقا لقوله: فإذا هو يأخذ بأذني زيد ويقول: وفت أذنك يا غلام وصدق الله حديثك. وإذا بكل تمالؤ الحسب والنسب ينهار أمام الوحي، ويرتفع هذا الفتى المؤمن بالله وبرسوله فوق الشبهات، وفوق الزعامات بعد أن صدقه الله تعالى، وكذب رأس النفاق الذي لم يتورع عن الحلف كاذبا في سبيل المحافظة على مركزه وسطوته، فلا يستصغرن أخ نفسه من أجل هذه المهمة. وليعتبر نفسه مقام هذا الغلام المؤمن. فلا يصمت على حديث يسيء للجماعة مهما كانت صعوبة الإبلاغ قائمة. وكم يستشعر الجندي بالثقة وهو يجد قيادته تتصرف مباشرة بعد التأكد من صحة كلامه، وأن لا يكون لدى قيادة الجماعة حرج في أن تستمع لمثل هذه الآراء، وتتعرف على ما يجري داخل الصف. 11 - وأخيرا نلاحظ معالجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للموقف على جبهات عدة، وهو يود أن يستأصل هذه الظاهرة من الجذور. وهو موقف أحوج ما تكون القيادة للتأسي به وهي تعالج هذه الظاهرة.

أ - فالتثبت والتحقق من الحادثة هو الواجب الأول، وهو ما رأيناه من الأسئلة العديدة التي وجهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد قبل أن يحكم على صحة مقالته. وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد فعل ذلك، فأحرى بأية قيادة أن تتثبت قبل أن تصدر الحكم. لأنها هي المسؤولة عن أمن جماعتها وأفرادها. وتسرعها بإصدار الحكم يعني بتر بعض قواعدها، أو إثارة فتنة في صفها، أو ظلم جندي من جنودها، والجماعة التي لا تقدر الفرد فيها لن تستطيع أن تستفيد منه ساعة المحنة. وإذا كنا لا نملك وحيا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثبت الواقعة أو يكذبها ففي البيانات التي اشترطها الإسلام من الشهود والعدول، أو من البينات التي قدمها العلم الحديث كالتسجيل لكلام المتهم أو التصوير له جوانب فرعية يمكن أن تساعد في سعة التحقيق وصحته. ب - ثم في مواجهة انتشار الفتنة. إذ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرحيل في وقت لم يكن يرحل فيه وكما يقول ابن هشام في السيرة (ثم مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس يومهم ذاك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذاك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل في الناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما، إنما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشغل الناس بالحديث الذي كان بالأمس (¬1)). فلا بد إذن من إشغال الناس عن الفتنة، والقاعدون حين تشتعل الفتنة لا يكون لهم حديث إلاها حتى في المجتمع النبوي. والقيادة الحكيمة هي التي تملأ فراغ شبابها بعمل مثمر. أو تدريب مناسب أو جهاد مباشر للعدو بحيث يستفرغ العمل وسعهم ويستنفد طاقتهم. ويصرفهم عن الانشغال بالقيل والقال وكثرة السؤال. وعن تأثرهم سلبا أو إيجابا بهذه الترهات. ج - ثم كان عرض الرأي على الخلص من أصحاب عبد الله بن أبي ¬

(¬1) تهذيب السيرة ص 211.

بعد أن ثبت له صدق الغلام دون أن ينقل الحديث إلى أفراد الصف، ومعالجته بالحكمة الممكنة. وهذا الأمر لو أحكم في صف الجماعة المسلمة لجنبها كثيرا من المآزق. أن يكون أمر الأمن أو الخوف ممدودا بمستويات معينة لا يتجاوزهم. أما المنافقون فهم الذين يشيعون قالة السوء، ويسارعون في نشرها وهم يتلذذون بذلك وقد وصفهم الله تعالى بقوله: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم (¬1)}. فمنهج التبليغ للخبر، ومنهج التلقي يجب أن يكونا سلميين، وكثيرا ما يحدث أن بعض الأفراد في مستوى معين من المسؤولية أو في القيادة العامة للجماعة، فيتساهل في بعض الأسرار. فإذا بها تنتقل عن طريقه، وتزكم الأنوف كلها، وتكون مادة الحديث ليتسلى الصف أو يتصارع بها. وكانت حكمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن سمع رأي سعد بن عبادة وأسيد بن حضير وعمر بن الخطاب، واكتفى بذلك إلى أن جاء الوحي بصدق زيد رضي الله عنه وصحة ما نقله عن ابن أبي. فأصبح لدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موقف آخر. فلقد وقف عبادة بن الصامت موقفا حازما من عبد الله بن أبي. وكذلك أوس بن خولي إذ (مرا عليه فلم يكلماه. فورم أنفه وقال: إن هذا الأمر قد تمالأتما عليه فرجعا إليه فأنباه وبكتاه بما صنع وبما نزل من القرآن إكذابا لحديثه فقال: لا أعود أبدا). وترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر للخزرج في معالجة عبد الله بن أبي فكان الموقف العظيم لابنه، ولبني عشيرته الأدنين. ونتساءل: لماذا كان موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا التساهل مع عبد الله بن أبي؟ والجواب واضح. فهو أولا: مطمئن إلى أن قومه سوف ينفضون عنه جميعا، فلقد أصبح خطره محدودا وأمره مفضوحا للجميع. وهو ثانيا: يود أن لا يفتح له مجالا للخروج من الصف والانقضاض عليه بحيث يخرج ويتآمر مع اليهود والمشركين وأسرار الصف عنده. وأي ¬

(¬1) سورة النساء، من الآية 83.

ضغط عليه قد يقوده إلى هذا الموقف كما فعل أبو عامر الفاسق الذي خرج مع خمسين من قومه وأنضم لأهل مكة. فأن يكون مراقبا في جميع تصرفاته أولى من أن ينقل أسرار الجماعة المسلمة إلى عدوها، ومن أجل ذلك كان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضحا لابنه حيث قال له: ما أمرت بقتله (¬1)، ومما أمرت به، ولنحسنن صحبته ما دام معنا. وهو ثالثا: يعلم أن عبد الله بن أبي قد احترق نهائيا بنزول سورة (المناففون) حيث صارت على كل لسان. وما من مسلم يتلو هذه السورة، ويبقى عنده شك في تقييم ابن أبي أو الثقة به إلا إذا كان يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وحتى يبقى هذا المعنى راسخا في أذهان المسلمين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو هذه السورة في كل يوم جمعة تقريبا مع سورة الجمعة. فلو تاب عبد الله بن أبي توبة نصوحا، وخاف الآخرة لم تعد السورة لتمسه بعد أن حسنت توبته، وإن بقي مصرا على موقفه، فسيبقى المسلمون في مفاصلة تامة معه وهم يتلون كتاب الله ويقرؤون شهادة الله تعالى به وبأمثاله أن هؤلاء المنافقين كاذبون، وأنهم اتخذوا أيمانهم جنة ليصدوا عن سبيل الله. وهكذا. نستطيع القول أن جبهة المنافقين التي كان يقودها عبد الله بن أبي قد تصدعت تصدعا تاما بعد أن كانت قادرة على تصديع الصف الإسلامي كله. ولم يعد لعبد الله بن أبي ناصر أو معين. وأصبح مكان الإذلال في قومه بعد أن كان في مكان الصدارة. بينما لو قتل لتحركت الحمية من جراء قتله برؤوس بعضهم بعد قتله، وقد يغدو مظلوما شهيدا عند آخرين من ضعاف الإيمان. وكان هذا الأمر هدفا واضحا ومحددا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل كل الناس ينفضون عن ابن أبي بعد أن كان أكثرهم يجتمعون عليه. يقول ابن إسحاق: (وجعل يعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه ويعنفونه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ص 305. ج 3. دار إحياء التراث العربي.

أقتله، لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته، قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم بركة من أمري). ح - المنافقون وحديث الإفك الذي يتبادر إلى الذهن أن حديث الإفك كله هو من صنع المنافقين، وأنهم هم الذين خاضوا فيه غير أن النص القرآني واضح في أن الذي جاء بالإفك فريق من المؤمنين. {إن الذين جاؤوا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم .. (¬1)} والآيات المتتالية تناقش المؤمنين الذين خاضوا فيه. {.. ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا (¬2)}. لكن دور المنافقين كان في تأجيج هذا الحدث ونشره. فقد أشارت عائشة رضي الله عنها إلى أن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي حيث تقول: (وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج الذي قال مسطح وضمنه). وتصف عائشة رضي الله عنها انتشار الخبر فتقول: (.. فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي. فقال أهل الإفك ما قالوا، فارتعج العسكر والله ما أعلم بشيء من ذلك ..). وما كان المنافقون ليجرؤوا على بث هذا الحديث والخوض فيه بعد الفضيحة التي نالتهم بعد التعرية التي نزلت بابن أبي. لكن انتشار الحديث واستفاضته في الصف الإسلامي جعل المجال رحبا لهم أن يدسوا أنوفهم فيه، ويشعلوا النار من خلف الستار. ولعل عبد الله بن أبي وحده هو الذي برز من خلال النص أنه تولى كبره. ومعه ثلاثة من الصف الإسلامي الخالص. حسان بن ثابت، شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وممن قال له رسول الله: أهجهم وروح القدس معك ومسطح بن أثاثة، وهو من المهاجرين، وممن شهد بدرا. وابن خالة عائشة رضي الله عنها ومن المقيمين في بيت أبي بكر رضي الله عنه. وحمنة بنت حجش، ابنة عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوج شهيد الإسلام العظيم مصعب بن عمير. ¬

(¬1) سورة النور من الآية 11. (¬2) سورة النور من الآية 12.

السمة الخامسة عشرة الوجود اليهودي في المدينة وإنهاؤه

ونستطيع أن نقول في نهاية المطاف أن ظاهرة المنافقين ابتدأت معسكرا قبيل أحد. وبلغت ذروتها في أحد، وظهر عظم خطرها على الصف الإسلامي، وانتهت فردا أو أفرادا يعدون على الأصابع، وأصبح الصف الإسلامي نقيا خالصا وذلك بعظمة تربية النبي - صلى الله عليه وسلم -، التي دفعت الكثير منهم إلى أن يسلم ويحسن إسلامه. غير أن هذه الظاهرة عادت للظهور مرة ثانية بعد فتح مكة وانتشار الإسلام في الأرض العربية، وبدت أوضح ما يكون في غزوة تبوك حيث تناولت سورة براءة فضح كل أساليبهم ومخططاتهم، وسبب عودة ظاهرة النفاق هو أن فتح مكة جعل الكثيرين يدخلون خوفا في الإسلام، فيظهرونه ويبطون الكفر، ومجال معالجة ذلك في المرحلة الثانية من العهد المدني إن شاء الله. السمة الخامسة عشرة الوجود اليهودي في المدينة وإنهاؤه ابتدأ الوجود اليهودي في المدينة بعد قيام دولة الإسلام باعتراف رسمي به وذلك من خلال نصوص المعاهدة النبوية التي تم فيها تحديد العلاقات بين فئات المجتمع في المدينة المسلمة وغير المسلمة. وكانت الفقرات (¬1) التي تخص اليهود في هذا الميثاق كفيلة بإيضاح حقوقهم وواجباتهم. أ - الاعتراف بالوجود اليهودي في الدولة المسلمة: حيث كانت النصوص تعالج نوعين من التجمعات اليهودية. النوع الأول: وهي التجمعات اليهودية الصغيرة المرتبطة بتجمع القبيلة الكبير. (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين). فنفقات الحرب التي تقع على القبيلة توزع على أفرادها مسلمين ومشركين ويهود. وكل تجمع يهودي هو في الأصل جزء من القبيلة، يمكن أن يكون حليفا للقبيلة، ويمكن ¬

(¬1) تم ذكر هذه الفقرات في السمة الأولى من سمات هذه المرحلة فلا ضرورة لذكرها.

أن يكون حليفا للمؤمنين من خلال قبيلته. (إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته). وفي هذا التجمع الصغير لا يترك الأمر دون تنظيم، ولا يضار المجتمع كله بعد وإن كان واحدا من أفراده. وذكر الميثاق الحقوق المماثلة ليهود بني عوف وليهود بقية القبائل كاملة، ثم اعتبر بطانة يهود كأنفسهم وذلك ضمن الأطر العامة التالية: 1 - (وإن البر دون الأثم). 2 - (وإنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد - صلى الله عليه وسلم -. 3 - (وإنه لا ينحجز ثأر على جرح). 4 - (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين). النوع الثاني: ويعالج وضع التجمعات اليهودية الكبيرة، وهو أقرب ما يكون لأن يمثل الحلف السياسي. فاليهود هنا تجمعات كبيرة ضخمة، احتاج إنهاؤهم عندما نقضوا العهد إلى حروب وحصار، لهم سلطانهم الخاص وأراضيهم وقلاعهم وبيوتهم. وبالرغم من أن البنود قصيرة جدا وهي تخصهم بالذات، لكنها ذات أهمية خاصة (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) فهو النص السابق نفسه من حيث النفقة للتجمعات الصغيرة. (وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم) إذ رأينا من قبل أن التجمعات اليهودية الصغيرة تشارك بمقدار ما يلحقها في كيان قبيلتها العام. أما هنا فالتجمعات اليهودية الضخمة تشارك في النفقات بما يوازي ويناسب نفقات المسلمين جميعا من قريش ويثرب. فعلى اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم (وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة). ومع أنه لم يكن بين قريش واليهود أدنى ثارات قديمة أو دماء أو خلاف، لكن قريشا حين تهدد المسلمين فهي بهذا تهدد يثرب كلها. ومن أجل هذا عليهم أن يلبوا طلب قيادة المدينة حين تطلب منهم ذلك، وكان بالإمكان أن يمضي هذا الأمر طيلة العهد النبوي بعد أن أخذ شرعية وجوده من التعاقد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لكن اليهود وطبيعتهم الأساسية في نقض المواثيق طغت عليهم. فتم عقابهم على ضوء نقضهم لهذه المواثيق. وسنعالج وضعهم بالتفصيل.

أ - بنو قينقاع: يقول ابن إسحاق: (وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: يا معشر يهود، إحذروا من الله ما نزل بقريش من النقمة. وأسلموا فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم؟ قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك!. لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس). قال ابن هشام: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سؤتها، فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود. فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. كانت الجولة الأولى لليهود لا تتجاوز المواجهة الإعلامية. فقد وقفوا موقفا سفيها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته، وفضحهم القرآن فضحا بينا وهو يرد على افتراءاتهم وأكاذيبهم. والقرآن الكريم غني بنمانج عن ذلك، ويكاد يكون الجزء الأول من سورة البقرة في دحض ادعاءاتهم وتفنيد أباطيلهم. {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم، قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا

قالوا سمعنا وعصينا، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (¬1)}. هذا الكفر البواح الذي وقفوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرفقوه بكثير من الدسائس والمؤامرات في الخفاء لتأجيج نار الفتنة بين المسلمين، كما فعل شاس بن قيس في تحريكه الفتنة بين الأوس والخزرج، وكما فعل بعض أحبار اليهود حين كان يستهزىء بآيات الله فلم يتمالك أبو بكر رضي الله عنه من ضربه، فأنزل الله تعالى آياته تدعو المؤمنين للصبر على أذاهم في قوله عز وجل: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (¬2)}. وكانت الجولة الثانية بعد بدر، حيث تحرك الغيظ في قلوب بني قينقاع ولا غرابة أن يكون الاحتكاك الأول معهم لأنهم كانوا (يسكنون داخل المدينة - في حي باسمهم - وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحروب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق مع اليهود (¬3)). (فلما قدم من بدر بغت يهود وقطعت ما بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العهد فجمعهم بسوق بني قينقاع وقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يوقع الله بكم مثل وقعة قريش فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله؟ فقالوا: يا محمد لا يغرنك من لقيت، إنك قهرت قوما أغمارا، وإنا والله أصحاب الحرب ولئن قاتلتنا لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا (¬4)). لقد كانت محاولة سلمية لعدم فتح جبهة مع يهود بني قينقاع، وفي هذه المحاولة كان الإنذار الخفي بالحرب، حتى لا يتجرؤوا على المسلمين ¬

(¬1) الآيات 89 - 93 من سورة البقرة. (¬2) الآية 186 من سورة آل عمران. (¬3) الرحيق المختوم للمباركفوري ص 264 و265. (¬4) إمتاع الأسماع للمقريزى ج 1 ص 104.

ويأخذوهم بغتة، لكن الغرور قد أخذ مبلغه من اليهود وأصبحوا يبدون مظاهر العداوة للمسلمين (وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون للسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم). وأعلنوا في جوابهم بعد اللقاء المذكور أنهم مستعدون للحرب، بل يهددون فيها كذلك. ومع ذلك فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبر حتى لا يكون أول من نقض العهد، وأفهمهم بذلك اللقاء بالكلام اللين وبالكلام الخشن ما يدفعهم إلى أن يرعووا عن غيهم ولكن دون جدوى. والحركة الإسلامية ثم الدولة الإسلامية بعد ذلك مطلوب منها أن تكون يقظة تمام اليقظة مع حلفائها. فطالما أن الخلاف الفكري قائم فهذا يعني أن هذا الحلف مؤقت، ويعني أن الحلف منطلق من مصلحة هذا الحليف. فليس له أسس متينة للاستمرار. والدعاة إلى الله لا يدعون فرصة مواتية ليذكروا بالتعهدات التي قدمها الحليف للحركة إلا ويستفيدوا منها. كما أنه لا يجوز أن يركنوا إلي الدعة طالما أن حليفهم قوي، قد يستغل الفرصة السانحة للانقضاض، وهذا الخطر الذي يحتمل أن تتعرض له الحركة الإسلامية في تحالفاتها مع أعدائها خاصة والعدو جاثم في الأرض، مستثن إلى قوة، فالوعي الحذر، والاعداد الدؤوب هو الأمر الواجب تنفيذه حتى لا يؤخذ المسلمون على غرة. وكانت الحادثة التي فجرت الموقف حادثة المرأة المسلمة التي راودها اليهود عن كشف وجهها فأبت. فعمدوا ظهر ثوبها فانكشفت سوءتها عندما قامت، فاستغاثث. وكان مقتل اليهودي والمسلم. ولم يكن مقتل المسلم أمرا فرديا، فلقد كان تمالؤا عاما من اليهود وإعلانا بنبذ العهد منهم فلو كان حادثا فرديا لأمكن معالجته وقتل القاتل. لكن الملأ من يهود هم الذين اجترؤوا وقتلوا. فأنزل الله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (¬1)}. فقال - صلى الله عليه وسلم - أنا أخاف بني قينقاع. فسار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم السبت النصف من شوال بعد بدر ببضعة وعشرين يوما، وفهم ¬

(¬1) الأنفال / 58.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحرب من الآية (فقال: أنا أخاف بني قينقاع فاحتمال الغدر قائم كل لحظة، ولئن سكت المسلمون على هذه الجريمة فهذا يعني أنهم ضعاف وبالتالي فهم معرضون للغزو في كل لحظة، ولم يكن هناك خيار من المعركة وإن كان لا بد من ذلك فليكن المسلمون هم البادئون. لقد نبذ إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أن دعاهم إلى الإسلام. وفي تحرك سريع خاطف كان اليهود محاصرون في بيوتهم وحصونهم. إنه لمما يؤسى له أن نجد اليهود اليوم ينفذون هذه الخطة والمسلمون غارقون في سباتهم. فوقف إطلاق النار الذي كان بين الفلسطينيين واليهود مجرد أن ينقض، فيقتل يهودي في أوروبا يزحف اليهود على بيروت ويحاصرونها حصارا عنيفا وتنقلب الآية. وكما سكت بنو قريظة وبنو النضير عن جريمة حصار بني قينقاع، وتركوهم يلقون حتفهم وحدهم، رأينا العرب ودول العرب وجيوشهم يسكتون سكوتا خائنا، ويدعون الفلسطينيين يلقون حتفهم وحدهم. إنا على ثقة أن اليهود اليوم يثأرون لهزائمهم التاريخية من قبل، وهم ينفذون الخطط التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتلهم بها. أما العرب الذين تخلوا عن إسلامهم فينفذون خزي يهود، وذل يهود الذي كان أيام النبوة. إن عرض المرأة المسلمة كفيل أن يشعل حربا رهيبة مع العدو، وقام الحصار الذي استمر خمسة عشر يوما على يهود حتى استسلمت للذبح من أجل التعرض لكشف سوأة امرأة مسلمة من اليهود. بل حتى من أجل إصرارها على أن لا تكشف وجهها لليهود. وما أحوجنا أن نستعيد هذه المعاني، ونحن نبني صفنا الداخلي، ونربيه على الثأر والثورة للعرض والدين، وأن يكون القتل أحب للمسلم من الحياة الخانعة الذليلة وعرضه مباح. ونزل اليهود على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهيؤوا للقتل. بينما تبقى ذراريهم ونساؤهم لولا أن تدخل عبد الله بن أبي فحفظ لهم حياتهم، وأمرهم رسول الله أن يجلوا عن المدينة. ولئن حفظت السيرة موقف عبد الله بن أبي منهم، وتواطؤه معهم، فقد حفظت كذلك عظمة عبادة ابن الصامت وهو يتبرأ منهم

ويتولى الله ورسوله وجماعة المؤمنين. وأضيف إلى المسلمين بعد خروجهم ذخيرة جديدة من المال والسلاح وآلات الحرب، وأنهوا عدوا لدودا مقيما بين ظهرانيهم لم يحفظ العهد ولم يرع الميثاق. ولا شك أن هذه الحركة العسكرية قد أجهضت المناوئين الآخرين، وجعلت بني قريظة وبني النضير على خوف وحذر شديدين من المواجهة. ولقد حدد القرآن الكريم هذا المعنى بدقة بأن الضربة القوية الحاسمة من الحركة الإسلامية - قمينة بإرهاب بقية الأعداء: وخاصة الذين ينقضون الميثاق {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين، ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله - صلى الله عليه وسلم -علمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله - صلى الله عليه وسلم -وف إليكم وأنتم لا تظلمون (¬1)}. فالآيات هذه تنزلت في بني قينقاع، ولم يكن بين بدر وبين بني قينقاع إلا حوالي عشرين يوما. وكأنها توجيهات عسكرية مباشرة إلى طبيعة المواجهة بين المسلمين واليهود. واليهود هم شر الدواب عند الله، وهم الذين نقضوا عهدهم، وهم الذين يتابعون هذا النكث، فلا بد أن تكون الحرب معهم حاسمة بحيث تشرد من خلفهم من الأعداء، وترعب من وراءهم من الحلفاء. وها نحن نجد الحركة الإسلامية حين أعلنت بعض فصائلها الحرب ضد الطواغيت تغدو مرهوبة الجانب، منيعة عزيزة، يخشاها العدو، ويسارع الخصوم إلى التحالف معها. فلقد أصبحت أملهم في الإنقاذ من براثن هذا الطاغوت، ومهما عتا الطاغوت وتجبر فهو يخشى الثأر والانتقام فيملأ السجون ويدمر البيوت، ويذبح الآمنين، لكنه ما أن تحل به عملية ضخمة من عمليات الثأر حتى يستنفر جيشه وسراياه ومخابراته كلها لهول هذه الضربة. ¬

(¬1) الأنفال / 55 - 60.

وهذا خط يحسن أن تتربى الحركة الإسلامية عليه كذلك وهي تواجه أعداءها، أن تكون الضربة موجعة، والعملية مزلزلة حتى يحل الإرهاب في القلوب، أو تسقط النظام الكافر، وتشرد به من خلفه من أحلافه وزبانيته. بنو النضير (.. ثم كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وسببها: أن عمرو بن أمية الضميري لما قتل الرجلين من بني عامر خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعين في ديتهما - لأن بني النضير كانوا حلفاء لبني عامر، وكان ذلك يوم السبت - فصلى في مسجد قباء ومعه رهط من المسلمين ثم جاء بني النضير، ومعه دون العشرة من أصحابه فيجدهم في ناديهم، فجلس يكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية. فقالوا: نفعل، اجلس حتى نطعمك. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستند إلى بيت؟ فخلا بعضهم إلى بعض، وأشار عليهم حيي بن أخطب أن يطرحوا عليه حجارة من فوق البيت الذي هو تحته فيقتلوه. فانتدب لذلك عمرو بن جحاش ليطرح عليه صخرة، وهيأ الصخرة ليرسلها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشرف بها، فجاء الوحي بما هموا به، فنهض - صلى الله عليه وسلم - سريعا كأنه يريد حاجة، ومضى إلى المدينة. فلما أبطأ لحق به أصحابه - وقد بعث في طلب محمد بن مسلمة - فأخبرهم بما همت به يهود؟ وجاء محمد بن مسلمة فقال: اذهب إلى يهود بني نضير فقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلده فإنكم قد نقضتم العهد بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتهم عشرا، فمن رؤي بعد ذلك ضربت عنقه .. (¬1)). لئن كانت غزوة بني قينقاع بعده بدر فغزوة بني النضير بعد أحد، وبعد المحنة الشديدة فيها. والتجربة المرة لبني قينقاع دفعتهم رغم محنة أحد إلى التوقف عن نقض العهد. وطالما أن العهد مصون، فالصلات قائمة. والأمان مستتب بين الفريقين. وقدم عليه الصلاة والسلام إلى بني النضير يستعينهم في ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 178، 179.

دية قتيلين من بني عامر قتلهما عمرو بن أمية الضميري رضي الله عنه لأن بني النضير كانوا حلفاء بني عامر. فلقد كان ذهاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم بمثل قمة من الوفاء في العهد. فليس لبني عامر حلف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبالتالي فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمكن أن يتجاهل الأمر. ومقتل هذين الرجلين إنما تم من عمرو بن أمية لأن بني عامر قد ساهم زعيمهم في ذبح سبعين من المسلمين في بئر معونة. وقدر عمرو أنه يأخذ بثأر الشهداء من هذين الرجلين وتقول الرواية كذلك أن لهذين الرجلين عهدا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدر بهما عمرو. ولهذا مضى عليه الصلاة والسلام مع نفر يسير من أصحابه فالقوم حلفاء للمسلمين. لكن سيطرة السجية اليهودية طغت عليهم، فدأبهم في تاريخهم نقض العهد وقتل الأنبياء ونكث المواثيق وخفر الذمم. فوجدوها فرصة سانحة لقتل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو بين ظهرانيهم، ولو كان الأمر اندفاعا أعمى من جندي متحمس لهان الأمر، لكن رئيسهم حيي بن أخطب هو صاحب الفكرة وهو صاحب الاقتراح. فالتمالؤ متوفر من القيادة العليا عندهم وأقره عليها أزلامه وزبانيته. كما رأينا التمالؤ من قبل في بني قينقاع. وانتدب لذلك عمرو بن جحاش ليطرح عليه صخرة. لقد قتلوا يحيى وزكريا أنبياءهم من بني إسرائيل. فكيف لا يقتلون محمدا وقد نزع منهم النبوة والملك وهو من بني إسماعيل؟ وتداركت رحمة الله تعالى الموقف، فأبلغه الوحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما هموا به، فمضى عائدا إلى المدينة، موهما اليهود أنه ماض لقضاء حاجة، حتى لا يكون التصرف مفاجئا، فيثير انتباههم إلى كشف هدفهم ومخططهم. ولحق به الصحابة الذين كانوا معه، دون أن يعرف اليهود شيئا عن جلية الأمر. إن القائد المسلم هدف ثمين للعدو، وفي كثير من الأحيان لا بد أن يعتمد على يقظته وانتباهه وحسن تصرفه في اللحظة العصيبة. كما لا بد أن يكون للحركة الإسلامية رجالها في صفوف العدو المحالف، تكشف مخططاتهم واتجاهاتهم في نقض العهد أو الوفاء به. فلقد انقطع الوحي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصبح تحسس أخبار العدو من مهمة الحركة الإسلامية. ووقوع الدعاة إلى الله في شرك أعدائهم أو حلفائهم من خلال غفلتهم ونيتهم الطيبة لا يعفيهم من المسؤولية أمام الله عز وجل. ولا

شيء أقوى للحركة الإسلامية من أن تتعامل مع حلفائها أو أعدائها ببلاهة ظاهرية، بحيث تعرف مخططاتهم وتتظاهر بجهلها لهذه المخططات. لأن هذا التعامل هو الذي يكشف المخبوء من النوايا، والمستور من الشر. ولا شيء أكثر ضررا على الحركة الإسلامية من الاندفاعات العاطفية لمن يتحسسون أخبار أعدائهم. فلا بد أن يكون من يكلف بمثل هذا الدور على مستوى من الهدوء وحضور البديهة واليقظة، ما يطمس طبيعة مهمته ويبعد الشك عن دوره الذي يقوم به. ولقد علمنا قائدنا عليه الصلاة والسلام سرية التخطيط وسرعة المبادهة من خلال هذا التظاهر بقضاء الحاجة. وكيف مكث اليهود ينتظرون عودته لقتله، تماما كما رأينا ليلة الهجرة. وقد أناب عليا رضي الله عنه في النوم مكانه ليجعل المشركين هانئين ينتظرون استيقاظه لقتله. أما نقض العهد دون دليل قاطع، فليس من حق الحركة الإسلامية، وكانت المنابذة في خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحيي على لسان محمد بن مسلمة: (أن اخرجوا من بلدي فإنكم قد نقضتم العهد بما هممتم به من الغدر). فالهم بالغدر ثابت، ولم يناقش اليهود به لأنهم يعلمون صدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعترضوا على الأصل، بل كان ردهم سفيها في الاستعداد للحرب ورفض الجلاء: (إنا لا نخرج فليصنع ما بدا له). وليس من شيمة المقاتل المسلم أن يوعد فلا يفي، أو يهدد فلا ينفذ، فيصبح كلامه لا وزن له، فما وصل رد اليهود في الصبح حتى كان رسول الله محاصرهم عصرا، وصلى العصر في فضاء بني النضير وتحرك - الطابور الخامس - ليعلن ولاءه مرة ثانية لليهود، ويؤكد لهم سرا على لسان عبد الله بن ابي: (أن أقيموا ولا تخرجوا فإن معي من قومي وغيرهم من العرب ألفين يدخلون معكم فيموتون من آخرهم دونكم). ولم يأتهم ابن أبي، واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاح ولا رجال وهذا درس للمؤمنين على مر العصور، فالصف المسلم القوي يحرق النفاق وخططه، ولا يجرؤ دعاة الشر والفتنة أن يتحركوا أمام وحدة الصف المسلم وقوته، إنما يتحركون حين

يجدون الصف مزعزعا والعزيمة خائرة، والنفوس خائرة الثقة بقيادتها، وحين نجد في صفنا الأرض الخصبة للإشاعة والتشكيك والدس الرخيص، فعلينا أن نعيد بناء صفنا ونمتن لحمته من جديد، وليس المنافقون وحدهم هم الذين ذعروا وأووا إلى جحورهم، بل بني قريظة كذلك - الفريق الثالث من اليهود. وجرى أثناء الحصار ثلاث حوادث جلية وهامة: الحدث الأول: النبل الذي كان ينزل على دار القيادة وهي القبة من أدم التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيم فيها، وكان قائد النبالة وأمهرهم هو عزوك اليهودي، فكمن له علي رضي الله عنه روقتله. وكان يود مرة ثانية أن يغتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عشرة معه. فلم يكتف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله بل أرسل أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة لاحقوا الكتيبة الفدائية اليهودية فقتلوها عن بكرة أبيها وأتوا برؤرسهم فطرحت في الآبار، وكان وجودها رفعا عظيما لمعنويات المسلمين. وهو درس لنا اليوم بضرورة بث الرعب في صفوت العدو من خلال العمليات الفدائية الناجحة، فلم يجرؤ اليهود بعد ذلك على مغادرة حصونهم ورمي نبالهم. لأنهم يعلمون أن أرواحهم غدت في خطر بعد ذبح أبطالهم العشرة. الحدث الثاني: وهو التعرض لنخلهم الذي يعيشون عليه، فها هم يرون النار تشتعل بمحصولاتهم وتمرهم. والذي كلف بهذا الأمر أبو ليلى المازني، وعبد الله بن سلام (حبر اليهود من قبل) فراحوا يطلبون برجاء أن يبقي لهم على نخيلهم فأبقاه، وانبثقت فتنة جديدة تثير الشغب لهذا الحريق، وتشكك في تصرت القيادة، فلا بد أن يكون أحد التصرفين حق لأن كليهما متناقضان. فأكد القرآن صحة التصرفين، وأعاد مخطط يهود إلى جحره: بقوله تعالى: {ما قطعتم من لينة (شجرة تمر) أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين (¬1)}. فلا بد أن يفاجأ العدو بأعز ما يملك حتى يستسلم. وهو ما فعله عليه الصلاة والسلام بهم. ¬

(¬1) سورة الحشر. الآية 6.

الحدث الثالث: حيث أدى الحدثان السابقان إلى طلب التسليم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلنين استعدادهم للخروج بعد أن دام حصارهم ستة أيام. وهنا اختلف الأمر، فلقد كان طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أن يخرجوا لكن الأمر الآن وبعد هذا الحصار لن يكون كما كان من قبل، والحساب بعد الحرب غير الحساب قبلها فقال عليه الصلاة والسلام لهم: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة (¬1) فلم يقبل حيي. ويؤسفنا أن نقول: إن اليهود الذين يعيشون تاريخهم من آلاف السنين قد وعوا هذا الدرس القاسي وحفظوه، فطبقوه على المسلمين كما فعل بهم رسول الله عليه الصلاة والسلام. فعندما اجتاح اليهود الأرض العربية عام سبعة وستين وتسعمائة وألف بقوة السلاح قبل العرب العودة إلى قرار التقسيم الصادر عام سبعة وأربعين وتسعمائة وألف. فرفض اليهود ذلك، وأعلنوا أنهم لن يعودوا لحدود الرابع من حزيران. إنها دروس استفاها اليهود من عدوهم الأول الذي أنهى وجودهم، فتلمسوا أساليبه يطبقونها في حربهم مع أتباعه، أما جيل أمتنا المنكود الذي هجر قرآنه ونبيه، كان يحارب اليهود وهو يحارب الله ورسوله فأذله الله تعالى وعاقبه. لقد عاش عشرين عاما وهو يتصارع على السلطة ويتنافس على الحكم، ويمتص حكامه دماء شعوبه باسم الحرب، فلما جد الجد انهار البناء الفاسد دفعة واحدة، كمثل شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. رفض اليهود الخروج بدون سلاح فتابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصارهم من جديد، وبث في صفوف اليهود أن الذي يسلم منهم سوف يأخذ ماله. فأسلم يامين بن عمر وأبو سعد ابن وهب ونزلا فأحرزا أموالهما. واستطاع أحدهما أن ينفذ عملية فدائية ضخمة في قلب يهود. وهي اغتيال ابن عمه عمرو بن جحش الذي أراد اغتيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت عملية الاغتيال هذه على يد ¬

(¬1) ورد هذا المعنى في ابن هشام ج 3/ 109.

رجل من قيس جعل له عشرة دنانير أو خمسة أوسق من تمر على قتله، وسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وهذه فسحة واسعة للدعاة المقاتلين كي يصلوا إلى أعدائهم عن أي طريق، فقد لا تهيء الظروف للمسلمين الوصول إلى أعدائهم نتيجة الحراسة عليهم وتحصنهم في حصونهم، فبالمال أو إغراء أفراد من قلب التنظيم الكافر يمكن القضاء على أولئك الأعداء والحرب خدعة. فلا حرج من سلوك أية طريق تؤدي إلى الهدف مع هذا العدو الذي ناصبته العداء، وآذنته بالحرب، وأعلنت موقف المواجهة ضده، ومن خلال صفوفه الداخلية، ومن خلال الرغبة في المال يمكن تحقيق هذه الأهداف البعيدة في القضاء عليه. ولا أحد أدرى بمواطن الضعف والخلل في العدو من أبناء صف العدو نفسه، وإسلام يامين رضي الله عنه دفعه للثأر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما يمر على إسلامه اليوم واليومان، ومن ابن عمه وأقرب الناس إليه. (وأقام على حصار يهود خمسة عشر يوما حتى أجلاهم وولى (خراجهم محمد بن مسلمة، وكانوا في حصارهم يخربون بيوتهم بأيديهم مما يليهم، والمسلمون يخربون ما يليهم ويحرقون حتى وقع الصلح، فجعلوا يحملون الخشب، ويحملون النساء والذرية، وشقوا سوق المدينة، والنساء في الهوائج عليهن الحرير والديباج وحلي الذهب والمعصفرات، وهن يضربن الدفوف ويزمرن بالمزامير تجلدا، وقد صف لهم الناس وهم يمرون، فكانوا على ستمائة بعير. فنزل أكثرهم بخيبر فدانت لهم، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، فكان ممن صار منهم إلى خيبر أكابرهم كحيي بن أخطب وسلام ابن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحزن المنافقون لخروجهم أشد حزن (¬1)). إنها أمة من أمم اليهود تهزم ويبلغ غيظها أن تهدم بيوتها بأيديها، وترغم على الصلح بترك سلاحها كله غنيمة للمسلمين، وتمضي في محنتها مشردة في الأرض جزاء نكالا لنقضها العهد، وطعنها بالمواثيق، تحمل حليها ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1/ 181.

ومتاعها، وتترك شرفها وسلاحها غنيمة للمؤمنين كما وصفها الله تعالى: {وهو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب (¬1)}. فلقد أخرجهم الله تعالى وقذف في قلوبهم الرعب لأنهم شاقوا الله وحاربوا رسوله. فما بالهم اليوم يعودون ظافرين إلى أرض الميعاد - كما يزعمون - ويكون الخروج والتهجير لأبناء الأرض الإسلامية؟ من لاجئين إلى نازحين إلى وافدين بعد كل حرب مع اليهود يقع الجلاء لمن يسمون - مسلمين - وتصبح الأرض وراثة ليهود. إنه السبب نفسه الذي أجلي اليهود من أجله، وذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب. والثورة الفلسطينية اليوم التي تريد العودة إلى فلسطين، إلى أرض الإسراء التي اغتصبها اليهود، تريد أن تعود بنفس الراية، راية مشاقة الله ورسوله. فمنظمة التحرير الفلسطينية التي لا يعترف العالم إلا بها ممثلة للشعب الفلسطيني، والثورة الفلسطينية تريد أن تعود إلى الأرض باسم العلمانية، باسم اللادينية، تريد أن تقيم دولة لا تنطلق من الدين، بل من شريعة البشر، وأهواء البشر، وجهل البشر، تريد أن يكون الحكم فيها لغير الله، فأي مشاقة لله ورسوله أكبر من هذه المشاقة؟!! ولهذا فما يزداد الأمر إلا عسرا، وما يزداد الدم المتفجر إلا بعدا عن هذه الأرض، فقد لاحق اليهود مسلمي هذه الأرض من فلسطين إلى لبنان وشردوهم في الأرض، وأبعدوهم لا عن الديار فقط، بل عن جوار الديار. فهل آن لهؤلاء التائهين أن يعودوا إلى الله، فينالون نصره، أن يتوبوا إلى الله، ويعطيهم مدده؟! إن ¬

(¬1) سورة الحشر، الآيات 2 و 3 و 4.

المشردين عن ديارهم لن يعودوا وهم شاردون تائهون عن الله. إنهم في التية، تيه بني إسرائيل، وقارب التيه أربعين، ولما يصح أبناء الإسلام على مكمن الخطر، ومكمن الداء. إنه واحد لبني إسرائيل، وبني إسماعيل، وبني الأرض جميعا {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب}. أما سلاح يهود الذي كتمه المسلمون فكان: خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا. كان لها وزنها الكبير في تسليح الجيش الإسلامي الناشىء. وكانت قوة للمؤمنين في حربهم مع الكافرين. ح - بنو قريظة: لقد كانت نهاية بني قينقاع بعد بدر. وكانت نهاية بني النضير بعد أحد (¬1). وكانت نهاية بني قريظة بعد الخندق. وكانت نهاية بني قريظة من أسوأ النهايات، لأن غدرهم كان أعظم الغدر، وكان يمثل الطبيعة اليهودية أكبر تمثيل، وكان الدور الأكبر فيه للزعيم المهزوم حيي بن أخطب سيد بني النضير الذي جلا إلى خيبر، وعاد إلى مكة يشعل النار فيها لتغزو محمدا في عقر داره، فتثأر له من محمد بن عبد الله. فلقد كانت غزوة الأحزاب أثرا من آثار اليهودية. (وسبب ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أجلى بني النضير ساروا إلى خيبر، وبها من يهود قوم أهل عدد وجلد، وليس لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير. فخرج سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس وأبو عامر الراهب في بضعة عشر رجلا إلى مكة يدعون قريشا وأتباعها إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمدا، جئنا لنحالفكم على عداوته وقتاله، فنشطت قريش لذلك، وتذكروا أحفادهم ببدر، فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا: أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد. ¬

(¬1) هناك رأي مفاده أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر.

وأخرج خمسين رجلا من بطون قريش كلها وتحالفوا وتعاقدوا - وقد ألصقوا أكبادهم بالكعبة وهم بينها وبين أستارها - ألا يخذل بعضهم بعضا، ولتكون كلمتهم واحدة على محمد ما بقي منهم رجل. ثم قال أبو سفيان: يا معشر. يهود! أنتم أهل الكتاب الأول والعلم أخبرونا عما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أديننا خير أم دين محمد؟ فنحن عمار البيت، وننحر الكوم (¬1) ونسقي الحجيج ونعبد الأصنام!. فقالت يهود: اللهم أنتم أولى بالحق منه؟ إنكم لتعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية، وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحق منه فأنزل الله تعالى في ذلك، {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (¬2)). واتعدوا لوقت وقتوه، وخرجت يهود إلى غطفان، وجعلت لهم تمر خيبر سنة إن هم نصروهم وتجهزت قريش، وسيرت تدعو العرب إلى نصرها، وألبوا أحابيشهم (¬3) ومن تبعهم وأتت يهود بني شليم فوعدوهم السير معهم. وكان خروج بني النضير بأحقادهم وذلهم دافعا لهم على تغيير الحلف، الذي نقضوه ليكون حلفهم الجديد مع عدو محمد - صلى الله عليه وسلم - الأول قريش. وقد استطاعوا بنشاطهم السياسي أن يؤلبوا معظم العرب على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم أقنعوا سليم وغطفان وقريش بحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وواقع الحركة الإسلامية اليوم لا بد من حربه مع اليهود عاجلا أو آجلا، والتعرف على التخطيط اليهودي الماكر في رغبته باستئصال شأفة المسلمين يفيدنا اليوم كثيرا في هذه المعركة. فبنو النضير الذين أحنوا رقابهم لفترة مؤقتة، سرعان ما اشتعل مرجل الحقد في قلويهم بعد الهزيمة، وراحوا ¬

(¬1) الكوم جمع كوماء وهي الناقة المشرفة السنان العالية. (¬2) النساء / 51. (¬3) الأحابيش نسبة إلى جبل حبشي بأسفل مكة وهم بنو المصطلق وبنو الهون من هزيمة حلفاء قريش.

يؤلبون العرب ضد الإسلام والمسلمين، ويتحالفون معهم لا على هزيمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقط، إنما على استئصال شأفته، واليهود اليوم يتحالفون مع الحكام العرب حلفا غير معلن، ومن وراء ستار في ضرب الحركات الإسلامية في بلادهم ضربا يستأصل شأفتها وينهيها من جذورها. وكثيرا ما تصمت إسرائيل وتحقق الأمن مع بعض جاراتها العربيات ريثما يتمكن الحكام من إبادة المجاهدين في سبيل الله، وما أحداث حماة ولبنان إلا نمانج من هذه النماذج حيث تدك المدن على أهلها وتدفن مساجدها بأهليها، بترابها وركامها حتى لا يرتفع للإسلام صوت، أو تقوم قائمة، وما أشبه الليلة بالبارحة!. كما نفقه كذلك ما تبذله اليهودية من مال لذلك، وكم كان سلاح المال رائجا عندها، فلقد فكرت أن تشتري الخليفة المسلم بالمال مقابل السماح لها بالهجرة إلى فلسطين، بل اشترت الانكليز بالمال في الحرب العالمية الأولى مقابل وعد بلفور بالسماح لها بإقامة وطن يهودي في فلسطين، فهي هنا تتبرع بثمر خيبر عاما كاملا مقابل دخول غطفان الحرب ضد المسلمين وهي تمد الأعداء بالبضائع ليحاربوا المسلمين، فلقد كانت أفريقيا سوقا يهودية، وكان اعتراف سبع عشرة دولة أفريقية بإسرئيل هو الثمن. وفي عالم السياسة لا وزن للمبادىء إلا عند المسلمين، واليهود أكثر الناس تناقضا مع مبادئهم حين يكون لهم مصلحة في ذلك مثلهم مثل النصارى والكافرين، بل هم أشد عداوة. ولذلك رأيناهم يفضلون المشركين الوثنيين على المسلمين الذين يؤمنون بالله وتحكيم كتابه وهم يعلمون أن محمدا نبي مرسل، ومع ذلك فهم يشهدون لقريش بصحة دينها الوثني. وعلينا أن لا نعتز كثيرا بالقواسم المشتركة بيننا وبين حلفائنا، فسرعان ما تتغير المصلحة فتسقط المبادىء، ويرمى بها جانبا أمام مصلحتهم. والتضليل الفكري الذي يمارسه اليهود ضد المسلمين والإسلام في العالم يكاد يسد الأفق ومن خلال الأفكار المطروحة في العالم تحت أي اسم لاجتثاث المسلمين من جذورهم وما المحافل الماسونية والأفكار التحررية والوجودية،

والماركسية والعلمانية إلا صورة من صور هذا التضليل، إنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا. ولئن كان دورهم في البداية رهيبا، فلم يرعووا عن ذلك، بل راحوا يؤججون النار مع إخوانهم من بني قريظة لنقض العهد. وذلك في قلب المعركة كما تروي السيرة عن زعيمهم حيي بن أخطب (وكان حيي بن أخطب يقول - لأبي سفيان بن حرب ولقريش في مسيره معهم -: إن قومي قريظة معكم، وهم أهل حلقة وافرة، وهم سبعمائة مقاتل وخمسون مقاتلا. فلما دنوا قال له أبو سفيان: إئت قومك حتى ينقضوا العهد الذي بينهم وبين محمد، فأتى بني قريظة - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة صالح قريظة والنضير ومن معهم من يهود ألا يكونوا معه ولا عليه، ويقال صالحهم على أن ينصروه ممن دهمه، ويقيموا على معاقلهم الأولى بين الأوس والخزرج - فأتى كعب بن أسد، وكان صاحب عقد بني قريظة وعهدها. فكرهت قريظة دخول حيي بن أخطب إلى دارهم فإنه كان يحب الرئاسة والشرف عليهم، وكان يشبه بأبي جهل في قريش. فلقيه عزال بن سمؤال أول الناس، فقال له حيي: قد جئتك بما تستريح به من محمد، هذه قريش قد دخلت وادي العقيق، وغطفان بالزغابة! فقال عزال: جئتنا والله بذل الدهر! فقال: لا تقل هذا .. (¬1)) (فلما سمع كعب حيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه حيي: ويحك يا كعب! افتح لي؟ قال: ويحك يا حيي! إنك امرؤ مشؤم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا؟ قال: ويحك! افتح لي أكلمك؟ قال: ما أنا بفاعل؟ قال: والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك (¬2) أن آكل معك منها؟ فأحفظ الرجل، ففتح له؟ فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر، وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها. حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 225 و 226. (¬2) الجشيشة: طعام يصنع من الجشيش وهو البر.

جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. قال: فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام (¬1) قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، ليس فيه شيء، ويحك يا حيي. فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب (¬2) حتى سمح له، على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬3). (واستدعى رؤساءهم وهم الزبير بن باطا، ونباش بن قيس، وعزال بن سمؤال وعقبة بن زيد، وكعب بن زبد، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد، فلحمه الأمر لما أراد الله بهم من هلاكهم) (¬4). إننا كثيرا ما نسمع لدى دعاة القومية عن التفريق بين الصهيونية واليهودية، وأنهم يحاربون الصهيونية، أما اليهودبة، فلا، بل يعتبرون كثيرا من اليهود أنصارا لهم. وهم يحصرون معركتهم مع الصهيونية في فلسطين الأرض المغتصبة فإذا حلت مشكلة الأرض، بتحرير أو اعتراف، فلا خلاف بين القومية واليهودية، ودعاة القومية علمانيون ليسوا ضد دين أو تجمع ديني، بل هم ضد دعاة اغتصاب الأرض العربية وتسليمها لليهود، بل يحالفون هذه النماذج كذلك. لهؤلاء جميعا نسوق هذا النموذج الحي من انتهاء اليهود إلى معسكر واحد، في النهاية، وقد يكون بعضهم أشد حقدا من بعض لكنهم أعداء في النهاية محاربون، وناكثون للعهد ناقضون كذلك، وإن كان المسلمون وهم يتعاهدون أو يتحالفون لا يعاملون أعداءهم على ضوء تاريخهم فقط، لكنها ¬

(¬1) الجهام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه. (¬2) مثل مأخوذ من البعير يضرب في المراوغة والمخاتلة. (¬3) السيرة لابن هشام ج 3 ص 231 و232. (¬4) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 226.

البلاهة التامة أن يغيب هذا التاريخ الأسود عن الذهن، فلا يوضع في الحسبان، وبلغت البلاهة ببعض دعاة القومية حدا أنهم لا يعرفون شيئا عن تاريخ اليهود مع المسلمين، وحين يدرسونهم في التاريخ، يتحدثون عن تاريخهم في أوروبا وروسيا، وأنحاء العالم أما في أرض العرب، وفي حربهم مع المسلمين فلا. وينسون أو يتناسون أو يتبالهون أن الشوكة اليهودية لم تنتزع من الأرض العربية إلا بالإسلام وعلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وجودهم العسكري أربعة عشر قرنا من الزمان، ولم يعودوا للظهور إلا عندما غاب الإسلام عن الوجود والحكم، وعادوا يثأرون لقريظة وخيبر. لقد التقت كلمة اليهود جميعا النضير وقريظة وقينقاع الذين تبقوا في خيبر على استئصال الوجود الإسلامي، جيشوا الجيوش، وحزبوا الأحزاب، ووحدوا صفهم لحرب المسلمين. والطبيعة اليهودية هنا تظهر في حالة ضعف أعدائها. {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (¬1)}. فهم وافون بالعهود طالما أنهم ضعاف أذلة، وهم ناكثون للعهد حين يجدون الفرصة مواتية للانقضاض، لقد كانوا يقولون: من محمد؟ لا عهد بيننا وبين محمد. وذلك عندما ذكرهم السعدان بحلفهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يمر على المسلمين ظروف أسوأ من ظروف الأحزاب يوم الأحزاب، وما كان العهد إلا لذلك اليوم، ومع ذلك نقضوا عهدهم في اللحظة الحاسمة، ورغم وجود بوادر الخير لدى زعيمهم كعب فهو في النهاية يهودي غادر لا يرضيه شيء أكثر من إنهاء الوجود الإسلامي، وتم له من يوافقه على ذلك. إنه الهدف النهائي لليهود والنصارى مهما أظهروا على الطريق من سلام ¬

(¬1) التوبة، الآية 8.

{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير (¬1)}. فهم يرفضون المعايشة مع الإسلام فكرا وواقعا طالما أنهم قادرون على ذلك. غزوة بني قريظة يقول ابن إسحاق: فلما كانت الظهر، أتى جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - كما حدثني الزهري - معتمرا بعمامة من استبرق، على بغلة عليها رحالة (¬2)، عليها قطيفة من ديباج فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم؟ فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت إلا الآن من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا، فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. وقدم رسول الله صلى اله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس. فسار علي بن أبي طالب، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة خبيثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم يا رسول الله؟ قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول الله ص لى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا؟ يا أبا القاسم ما كنت جهولا) (2). ¬

(¬1) البقرة الآية 120. (¬2) السيرة لابن هشام 244 - 245.

(وتقدمت الرماة من المسلمين وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: يا سعد تقدم فارمهم، فرماهم والمسلمون ساعة، ويهود تراميهم، ورسول الله صلى عليه وسلم واقف على فرسه فيمن معه، ثم انصرفوا إلى منازلهم. وباتوا وقد بعث إليهم سعد بن عبادة بأحمال تمر فأكلوا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الطعام التمر واجتمع المسلمون عنده عشاء، ومنهم من صلى، ومنهم من لم يصل حتى جاء بني قريظة فما عاب على أحد من الفريقين، ثم غدا سحرا وقدم الرماة وعبأ أصحابه فأحاطوا بحصون يهود، ورموهم بالنبل والحجارة وهم يرمون من حصونهم حتى أمسوا، فباتوا حول الحصون. فنزل نباش بن قيس وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير: له الأموال والحلقة، ويحقن دماءهم، ويخرجون من المدينة بالنساء والذراري، ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه. وعاد نباش إليهم بذلك ....) (¬1). هكذا كانت الجولة الأولى من الغزوة، جبريل عليه السلام يقود الحرب ويزلزل الحصون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلن: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. وعلي بن أبي طالب يغرز الراية عند حصونهم، وتتم تعبئة الجيش وتكامله عند الحصون، وتبتدىء الرماية عنيفة، وهكذا نجد اليهود في كل مرة لا يقاتلون، إنما يهزمون بالرعب. ففي بني قينقاع يخورون بعد الحصار، وفي بني النضير يخورون بعد الحصار وفي بني قريظة يخورون بعد الحصار، وحسب اليهود أن تكون هذه المحاصرة كأخواتها، وينجون بأنفسهم ولكن لا نجاة هذه المرة، فيرفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المفاوضات، ولا يقبل إلا الاستسلام التام له. لأن نقضهم للعهد كان أشنع نقض، ولأنهم استغلوا أسوأ الظروف للبطش بالمسلمين، ولو انتصروا لأبادوا المسلمين عن آخرهم، وبلغ بهم السفه قبل أن يفاجأوا بقوة المسلمين أن يسبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويشتموه، ثم ها هم الآن يتذللون ويتمسكنون، ويودون ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ص 243.

النجاة بأشخاصهم وأموالهم ونسائهم. مثل كل مرة، ويتنازلون عن سلاحهم، ولكن هيهات، فلن يلدع المؤمن من جحر مرتين، وهل الخندق إلا ثمرة من ثمارهم المرة، يوم نجوا بأرواحهم فراحوا يخططون لإبادة المسلمين فأين النجاة لهم بعد هذا الغدر والكيد. لقد وضعوا بين فكي الكماشة، الاستسلام بدون قيد ولا شرط، أو الموت جوعا وعطشا كما قال لهم حليفهم أسيد بن حضير: يا أعداء الله لا نبرح حصنكم حتى تموتوا جوعا، إنما أنتم بمنزلة ثعلب في جحر. ولقد ذكروه بحلفه قائلين: يا ابن الحضير نحن مواليك دون الخزرج! وخاروا فقال: لا عهد بيني وبينكم ولا إل. لقد بعثوا نباش بن قيس بالمهمة التالية: أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير: له الأموال والحلقة، ويحقن دماءهم، ويخرجون من المدينة بالنساء والذراري ولهم ما حملت الإبل على الحلقة، ولعلها مشورة حيي بن أخطب زعيم بن النضير، الذي ظن أن الحيلة تتكرر. وكان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاسما قاطعا: أبى إلا أن ينزلوا على حكمه. وتتدارس يهود الأمر لقد كان كعب بن أسد زعيم بني قريظة أقل حقدا من حيي بن أخطب، ومن أجل ذلك كان في بعض الأحيان لا يغلبه الحقد ويدرك مصلحته. ولقد كان ثاقب النظر حين قال لحيي: إنك امرؤ مشؤوم، جئتني بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماؤه فهو يرعد ويبرق. وأنى له الندم ولات ساعة مندم، وراح يراجع رصيد حياته قبل قدوم محمد وبعده ودعا قادة اليهود وأولي الرأي منهم، وعرض عليهم أمام إصرار محمد - صلى الله عليه وسلم - حلولا ثلاثة قائلا لهم: (قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتما قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم علي هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء

المساكين! فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم علي هذه الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا علينا، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما (¬1)). ها نحن نجد كعب بن أسد يدرك أبعاد المعركة ونتائجها، ويعلم أن الموقف خاسر، وأن نزوله على حكم محمد - صلى الله عليه وسلم - يعني الإبادة التامة، والمقاومة يائسة خاسرة، ويبحث عن طرق النجاة فلا يراها إلا في الإسلام، والإسلام هو الذي يحقن دمه ودم بني قريظة جميعا. فمحمد يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابمهم على الله (¬2). وتفكير كعب بالإسلام ولو من باب المصلحة يدل على أنه أقل حقدا من حيي بن أخطب وتفانيه في الزعامة والرئاسة، وطمس الحقد على بصره وبصيرته، ولئن شبه حيي بأبي جهل في حقده وكفره. فكعب أشبه ما يكون بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة زعيمي بني أمية. إذ كانوا يدركون المصلحة كثيرا ويعجزون عن تنفيذها خضعانا لقومهم. ولئن استطاع عبد الله بن سلام حبر اليهود رضي الله عنه أن يتجاوز عصبيته، ويستجيب لأمر ربه. فكعب عاجز عن ذلك. لأن الزعامة عنده كذلك هدف لا يفوت. إنه يعرف أن محمدا حق، وأن إصراره على التمسك باليهودية عناد وحقد. لكن رآها فرصة سانحة أن يقود قومه للإسلام ولو كان من باب حقن دمائهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم. غير أن الأتباع كثيرا من الأحيان ما يكونون أسوأ عصبية من القيادات وخاصة اليهود الذين وصفهم رب السموات والأرض بقوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل (¬3)}. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 246 - 247. (¬2) رواه البخاري. (¬3) من الآية 93 من سورة البقرة.

لقد دخلت عبادة العجل في دمائهم وبطونهم فشربوها شربا وامتزجت بكل شرايينهم. فكان جواب اليهود القاطع: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره. وكعب يعرف أن قضية اليهودية عندهم عصبية أكثر منها عقيدة، ومن أجل ذلك حينما عرض عليهم الدخول في الإسلام ورفضوا أراد أن يضعهم عند التزامات هذه العقيدة. فعرض عليهم التضحية الخالصة، عرض عليهم قتل أبنائهم ونسائهم لتكون الحرب الطاحنة. فلا يأسوا على مال أو زوج أو ولد. فالقتل لا يخيفهم لاطمئنانهم أن ذراريهم لن تكون أسرى بيد المسلمين، ولن تفتضح أعراضهم. غير أن القوم حياتهم أغلى عليهم من أعراضهم وأولادهم فما لذة العيش بعدهم؟ وهكذا لم يتخل بنو قريظة عن دينهم، ولم يضحوا بنسائهم وأولادهم وأرواحهم من أجل هذا الدين، فلم يعد إلا الحل الثالث: الهجوم المباغت على المسلمين ليلة السبت. فاعتذروا أنهم لا يفسدون سبتهم، وهكذا رفض الأتباع كل اقتراحات القيادة، ويئس كعب من قومه. فليس أمامهم إلا الموت جوعا وعطشا أو النزول على حكم محمد، أما أن يقاتلوا بشرف، أو يقاتلوا ببسالة أو يقاوموا ببطولة، فهذا في منطق اليهود لا يقوم. وما أحوجنا إلى أن نتعرف على هذه الطباع، والمعركة بيننا وبينهم قائمة، والحرب مستمرة. إن فقه نفسية العدو تعطينا كثيرا من الإضاءات على طبيعة مواجهته، والغريب أننا نواجه اليوم ظاهرا بنماذج جدبدة حتى أصبح العربي يخشى اليهودي، وأصبح العرب وهم يناهزون المائة مليون ونصف عاجزين عن المواجهة، عاجزين عن الحرب، هزموا نفسيا بعد حربين خاضوها وكانت الحربان خاسرتين. لقد أصبحوا جميعا يتحدثون عن السلام، وأصبحت قياداتهم تؤمن بالحل السلمي أو الاستسلامي أكثر من إيمانها بالله، وبعد حرب الـ 73 مع اليهود، انتهت فكرة الحرب والمواجهة عند العرب، وراحوا يحلمون باسترداد الأراضي بالطرق السلمية وتجمع مؤتمراتهم على ذلك، ويقدمون مشروع الحل السلمي هم، ولا يناقشون إطلاقا بالوجود اليهودي، بل يطلبون استعادة الضفة الغربية لتكون وطنا للفلسطينيين. وكفى الله العرب القتال.

إن قرننا قد شهد هذه المأساة، مأساة الاستسلام المتخاذل، مأساة اليقين عند حكام العرب وكثير من شعوبهم أن إسرائيل لن تقهر، وأن العرب لن ينتصروا. إنهم يمثلون تماما عرب الأوس والخزرج قبل الإسلام، حين كان الكيان اليهودي في المدينة يهدد الكيان العربي ويقول له: أظل زمان نبي نتبعه، فنقتلكم به قتل عاد وإرم. وكان العرب يقبلون من اليهود أحكامهم فيتماوتون على التحالف معهم ويتسابقون. وهؤلاء هم عرب اليوم، لقد كان الرعب يجتاح الإنسان العربي في الماضي من اليهود لأنهم أهل علم، وأهل سلاح. بل كان سلاح العرب في المدينة من صنع اليهود، فكيف يحاربونهم، وعرب اليوم الذين غدوا بلا عقيدة وبلا دين قد أكلهم الرعب من اليهود لعلمهم وسلاحهم. وعلم اليهود اليوم علم بشري وسلاحهم اليوم صنع غربي أو محلي. لم تنقلب الآية بعد، ولم تتغير الطبائع، ولم تتبدل النفوس. لقد كان اليهود يهددون الكيان العربي بالنبي الذي سيبعث وقد أطل زمانه، وكان العرب ينتظرون أن يأتي هذا النبي حتى يبادوا. فهم يعرفون أن اليهود أهل الكتاب الأول وعندهم التوراة. لكن عندما تبنى العرب هذا النبي، وساروا وراءه عرفوا أنهم لا بد قاتلو اليهود قتل عاد وارم، (إن هذا هو النبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه). وسبقوا اليهود، إلى هذا النبي وآمنوا به، وعرف اليهود في قرارة نفوسهم أنهم مهزومون ما لم يتبعوا هذا النبي، ومع ذلك رفضوا، كما رأينا رفضهم مع كعب أن يدخلوا في الإسلام حقدا وضغينة وعصبية، لقد كانوا يعلمون أنهم يخوضون معركة خاسرة، وأنهم لو قتلوا عن بكرة أبيهم فلن ينتصروا على محمد النبي. وعرب اليوم حين يعودون إلى هذا النبي، ويعودون إلى هذا الدين، ويقاتلون به سوف تظهر طبائع اليهود، وسوف يعرى اليهود في جبتهم وتخاذلهم كما تعروا في بني قينقاع والنضير وقريظة. إن الجديد في المعادلة هو أن عنصر التفاعل لم يقع بعد، وقاتل اليهود عربا، ولم يقاتلوا مسلمين. وحين يقاتلون المسلمين يظهر اليهود على حقيقتهم بلا خلاف. وكانت المحاولة اليائسة الأخيرة من اليهود في استكناه طبيعة حكم

محمد - صلى الله عليه وسلم - من أحد حلفائهم أي لبابة بن عبد المندر. فسمح له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذهاب إليهم واستشاروه وسألوه عن حكم محمد بهم فأشار إليهم أنه الدبح (¬1). وتحركت ضمائر ثلاثة من يهود، ففروا ليلا إلى معسكر المسلمين، وأسلموا فعصموا دماءهم وأموالهم، كما وجد فيهم شريف واحد يرعى الدمام غادر معسكرهم يوم أعلنوا غدرهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلا: لا أغدر بمحمد أبدا. ومر على محمد بن مسلمة صاحب حرس رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فهش له بن مسلمة قائلا: اللهم لا تحرمني إقالة عشرات الكرام، وخرج فلم يدر أحد أين توجه فقال عنه عليه الصلاة والسلام: ذلك رجل نجاه الله بوفائه. وكان الاستسلام الأخير: (فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت (¬2) فلما كلمته الأوس قال: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فذاك إلى سعد بن معاذ ... فلما حكمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما جميلا، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم؟ فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل. فنعى لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه. فلما انتهى سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا إلى سيدكم ... فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم؟ فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من ها هنا، في الناحية التي ¬

(¬1) ونعالج موقفه في غير هذا المجال لأن الحديث هنا عن اليهود بالذات. (¬2) إشارة إلى استشفاع عبد الله بن أبي في بني قينقاع وقبول شفاعته.

فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو معرض عن رسول الله إجلالا له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينه في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم وهم ست مائة أو سبع مائة والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة. وقد قالوا لكعب بن أسد، وهم يذهب بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسالا: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتي بحيي بن أخطب عدو الله وعليه حلة له فقاحية (¬1) قد شقها عليه من كل ناحية حتى لا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه حبل، فلما نظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه .. قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل، وسهمان الرجال، وأخرج الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم، للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل من ليس له فرس سهم، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستا وثلاثين فرسا، وكان أول فيىء وقعت فيه السهمان، وأخرج منها الخمس! فعلى سنتها وما مضى. ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن زيد ¬

(¬1) فقاحية: تضرب إلى الحمرة، وقال ابن هشام: ضرب من الوشي.

الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا (¬1). نزل اليهود على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورفضوا كل اقتراحات زعيمهم كعب بن أسد، وقرروا أن يتلقوا مصيرهم على يد من نكثوا عهدهم معه، وهناك بصيص أمل عندهم أن يعفو عنهم رسول الله، أو أن تتمكن الأوس من حمايتهم كما فعل عبد الله بن أبي بحلفائه من بني قينقاع. وكان تصورهم أن تسيطر العصبية على حلفائهم الأوس فينجوا بحياتهم على الأقل. وطالب الأوس بحقهم في الحماية كما فعل عبد الله بن أبي. فكرامة الفريقين الأوس والخزرج واحدة غير أن اتجاه القيادة يخالف اتجاه القاعدة، فكيف يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام هذا الحرج، إنه يملك أن يحسم الأمر بالقتل وانتهى الأمر. والأوس طوع بنانه. غير أنه يحرص على أن لا تصدم عواطف جنده من الأوس، فاختار هذا الحل الموفق: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم. قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ. فلقد تساوى الحيان في الحق، إذ حكم في بني قينفاع زعيم من الخزرج هو عبد الله بن أبي حليفهم، فليحكم في بني قريظة زعيم الأوس سعد بن معاذ. إن القيادة الحكيمة هي التي تتجنب دائما الصدام مع عواطف شبابها، وتحرص على أن تمثل قناعاتهم وتطلعاتهم، بل تلبية رغباتهم، وحين تصطدم رغبة القيادة مع القاعدة، فالقيادة بحاجة إلى حل مريح يخفف جو الصدام. إنهم جنودها بهم تقاتل، ومن خلالهم سر قوتها ونجاحها، وكلما استطاعت أن تعطي لهم الكرامة والاعتبار، كلما كان هذا أدعى إلى تلاحم الجانبين في صف واحد. بل راعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحرب رغبات كل فرد من أفراد هذا الصف، فلقد كان لرجل من اليهود جميل في عنق ثابت بن قيس خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلب ثابت حماية هذا الرجل من القتل من قيادته فوافقت القيادة على ذلك غير أن الزبير بعد أن عفي من ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام مقتطفات من ص 249 - 256.

القتل وسلم له ماله وولده وأهله قال لثابث: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك ألا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير (¬1). وقد راعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كرامة امرأة من المسلمين حين طلبت حماية رفاعة بن سموأل القرضي قائلة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي هب لي رفاعة فإنه زعم أنه سيصلي ويأكل الجمل؟ قال: فوهبه لها، فاستحيته (¬2). إن القيادة العبقرية لا تعدم وسيلة تطمئن بها جنودها على احترام رأيهم وتقديره حتى ولو كانت خطتها تعاكس أهواء فريق من هؤلاء الجنود. إنها لا تعطل خطتها، لكن لا تتحدى رغبات جنودها بل تحرص على قناعتهم وإشعارهم بأهمية رأيهم ووجاهته. صحيح أن على القاعدة أن تطيع، وصحيح كذلك، أن السمع والطاعة ليسا كل شيء في علاقة القواعد مع القيادة، بل الحب، والثقة، والتفاني هو الأصل في العلاقة. ومن أجل ذلك كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤكد الخيرية في أمراء هذه الأمة من خلال الحب: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم (¬3). وما أحوج قيادة الحركة الإسلامية أن تدرك هذا المعنى وتعمل من خلاله!. وكان بعدها حكم سعد بن معاذ. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرعى قيادات الجماعة المسلمة، ويعطيها الأهمية الكبرى. فسعد جريح في خيمة رفيدة، وكان بإمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمضي أمره بدون رأي سعد. لكنه التكريم العظيم لقائد من قادات هذه الأمة. فلا يحكم بأمر حلفائه إلا بحضوره، بل يوجه الجميع إلى إكبار هذا القائد: قوموا إلى سيدكم. فقاموا له: ويأتي دور سعد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطمئن إليه، واثق باختياره، وعارف مدى تفانيه بحب الله ورسوله، وترفعه عن العصبية أو الهوى أو حظ النفس، وكم أراده قومه على ذلك فقال: آن لسعد أن لا ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ص 253 - 254. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام ص 255. (¬3) رواه مسلم عن عوف بن مالك.

تأخذه في الله لومة لائم. بل لسعد ثأر عند يهود بني قريظة حين واجهوه بالسباب والشتيمة، وذكرهم بعهدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهزئوا به، وحين أصابه سهم غادر من أحدهم فناجى ربه قائلا في دعاء طويل ... ولا تمتني حتى تشفني من بني قريظة، وها هو أمرهم كله له. فأخذ العهد على قومه أولا بقبول حكمه، ثم على المهاجرين وأصدر حكمه بذبحهم لخيانتهم وغدرهم. إن الذي يدرك مرامي المعركة وأبعادها هم القادة الذين يعيشون جوها، ومن أجل هذا وجدنا اتجاه سعد رضي الله عنه يمثل اتجاه الرسول تماما، لمعرفته ببواطن الأمور وخفاياها بينما كان الأوس يدركون فقط في هذا المجال شرفهم وتساويهم في هذا الشرف مع الخزرج، ولا نقول الأوس جميعا، إنما نقول هو تيار قوي فيهم، لكن الذي حدد الموقف تماما هو سيدهم سعد بن معاذ. وهذا يدعونا إلى القول: إن على القيادة العليا أن تعطي ثقتها الكبرى للقيادات الوسط التي هي سبيلها إلى الجنود، ونافذتها عليها، وحين تعجز القيادة أن تقنع هذه القيادات الوسط فلن تصل إلى قلوب جنودها، وستكبر الهوة بين الفريفين، ويتمزق الصف شذر مذر، بل يتمحرر حول هذه القيادات الوسطى، ويشكل عقبة كؤودا في وجه القيادة ومخططاتها. أما اليهود، وما أدراك ما اليهود، فها هم يساقون إلى مصارعهم، ولا يعرفون فيسألون زعيمهم كعب بن أسد عن الأمر فيقول لهم: أفي كل مرة لا تعقلون؟ أما ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل. لقد أدرك ببصره الثاقب هذا المصير المروع، ونصحهم بمنعرج اللوى، فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد، وها هي رجالهم تذبح، ونساؤهم تسبى، وأموالهم تقسم. ويأتي زعيم الغدر والخيانة حيي بن أخطب ليمثل الجبلة اليهودية في كل جيل كما وصفها القرآن الكريم: (... أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (¬1)). إن ¬

(¬1) البقرة من الآية 87.

حيي بن أخطب ليدرك حظه من أوله. فهو يحارب الله ورسوله. وهو يعلم أن محمدا حق، ولكنها عنجهية الجاهلية. إنه أبو جهل الذي رفض الإيمان حتى لا يسبقه بنو عبد مناف، وحيي يرفض حتى لا يسبقه بنو إسماعيل، أولاد هاجر الجارية، إنه الحقد الأسود، والكيد الأعمى، والحرب لله ورسوله، ولا يشتفي من ذلك كله. والله ما لمت نفسي في عداوتك. إنه ليعلم أن حقده أكبر من دينه، ويعلم أنه يحارب الله ورسوله ولكنه من يخذل الله يخذل، إنها كلمات أبو جهل: أخبرني لمن الغلبة، وكان الجواب الغلبة لله ورسوله، ولقد أبقى الله لك ما يخزيك. ويجيب: وهل أعمد من رجل قتلتموه. إنه عميد القوم، وسيد البطحاء يقتل، وهو يرى الخزي فلا ينسى شرفه، ولا ينسى حقده، إن فرعون خير منه حين رأى الغرق فقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل .. وتعود هذه الجبلة اليهودية اليوم من جديد لتزكم الأفق، وتظهر من خلال آلاف الحوادث منها هذه الحادثة. وقف أحد المنافقين في الشام في حرب حزيران عام 67 يخطب على منبر الجامع الأموي والإذاعة تنقل خطبته ليحرف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: لا تقوم الساعة حتى يقاتل العرب اليهود فيقتل العرب اليهود، فيقول الحجر والشجر يا عربي، يا عبد الله ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود. وتخرج إذاعة إسرائيل في اليوم الثاني لتصحح للشيخ المنافق الحديث. وتذكر له رواية. وتذكره به: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبىء اليهود وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر. يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود (¬1)). والذي يعنينا من الحديث هو معرفة اليهود بمصيرهم المشؤوم، أو ¬

(¬1) رواه مسلم.

قياداتهم على الأقل، ومعرفتهم أن النصر للمسلمين، لكنهم واثقون كذلك أنهم يقاتلون عربا بدون عقيدة وبدون إسلام. وهم مطمئنون إلى نصرهم في هذه الحالة لما يبذلون من جهد، ويخططون من كيد. ولأنهم حين يحاربون المسلمين فهم منهزمون، ومع ذلك فهم يقاتلون، ويقولون كما قال زعيمهم حيي أنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بنى إسرائيل. أما الآن فكما قال الله تعالى عنهم {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ..} وكما قال الله تعالى {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ..} وهم مطمئنون اليوم أن الحرب الحقيقية لم تقم بعد، وأنهم حين يواجهون عنفا في حرب فإنما يكون وراءه مسلمون حقيقيون، إنها نماذج بطولات فردية، وها هم العرب اليوم كلهم يعلنون سلمهم مع يهود ويطلبون منها الصلح. ونهاية اليهود التي كانت في بني قريظة ستكون نهايتهم إن شاء الله على أرض فلسطين، الأرض المباركة التي وعد الله تعالى فيها بنصر جنده المؤمنين. وكانت أسلحتهم وأموالهم غنيمة للمسلمين. يقول المقريزي في إمتاع الأسماع (وجمعت أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب، فوجد فيها ألف وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع، وألفا رمح، وألف وخسمائة ترس وجحفة، وأثاث كبير، وآنية كثيرة وخمر وجرار سكر فهرق ذلك كله، ولم يخمس، ووجد من الجمال النواضح عدة، ومن الماشية شيء كثير فجمع هذا كله ... (¬1). ولم يكتف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. بل ابتاع بسبايا بني قريظة الخيل والسلاح من نجد. لقد كانت المعركة شوكة كبيرة للمسلمين ونصرا ماحقا لليهود، وإنهاء لوجودهم في المدينة بعد ست سنوات من التعايش القلق. وهذا ما قاله سلام بن مكشم زعيم بني النضير بعد حيي بن أخطب والذي أقام في خيبر وتلقى مع بقية اليهود نبأ مقتل بني قريظة صبرا بالسيف: (هذا كله عمل حيي بن أخطب لا قامت يهودية بالحجاز أبدا (¬2)). ولكن هذا الحكم العادل، ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 245. (¬2) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 253.

لم يكن غضبا لنفس أو إهانة لآدمية. فلقد حرص عليه الصلاة والسلام على أن لا يكون التشفي والثأر هو الذي يسيطر على الموقف. (فلقد جابذ نباش ابن قيس الذي جاء به (لقتله) حتى قاتله ودق أنفه فأرعفه، فقال - صلى الله عليه وسلم - للذي جاء به: لم صنعت به هذا؟ أما كان السيف كفاية! ثم قال: أحسنوا إسارهم، وقيلوهم واسقوهم، لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح. وكان يوما صائفا، فقتلوهم وسقوهم وأطعموهم. فلما أبردوا راح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل من بقي منهم .. (¬1)). إنها عظمة النبوة التي تحترم آدمية الإنسان، ولو كان يهوديا حكم الله تعالى به القتل، واليوم وفي أقبية سجون من يسمون (بالمسلمين) من المآسي وفنون التعذيب والتجويع والإهانة والسحق ما يشيب من هوله الولدان، والأصل هو إهانة كرامة الإنسان وتمريغه بالتراب، وتجريعه غصص العذاب الذي يترفع عنه الوحوش، وكما يقول سيد رحمه الله: إن الوحوش تأكل لتقتات أما هؤلاء فيتلذذون بالعذاب. ويبقى الإسلام الذي يكرم الإنسان بصفته إنسانا فيعاقبه بما يستحق دون شهوة غضب وحقد وتشف تنيله أكثر مما يستحق. ويطالعنا في نهاية المطاف التجاوب العميق بين الأوس وبين قرار سيدهم سعد رضي الله عنه بعد أن قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات والتسابق في التنفيذ. فجاء أسيد بن حضير السيد الثاني للأوس فقال: (يا رسول الله لا تبقين دار من دور الأوس إلا فرقتهم فيها. ففرقهم في دور الأنصار فقتلوهم). وأعلن سعد أن الكاره لهذا القرار هو خارج عن الخيرية والهدى: ما كرهه أحد من الأوس فيه خير، ومن كرهه فلا أرضاه الله. وهكذا انتهت اليهودية في المدينة على تلك المراحل المتلاحقة حيث تلقى كل فريق جزاءه من جنس عمله، قينقاع والنضير وقريظة، وأعطانا هذا الحكم، حرية القيادة في مواجهة العدو بما يناسب ¬

(¬1) المصدر نفسه ص 248.

السمة السادسة عشرة ليل المحنة الطويل وخطره

ظروف المعركة، وإمكانيات المسلمين، وجريمة العدو، دون قيود تغل حركة القيادة، إلى أن يأذن الله تعالى بالفتح المبين للمسلمين مع أعدائهم (تقاتلونهم أو يسلمون ..). السمة السادسة عشرة ليل المحنة الطويل وخطره لقد لقي المسلمون في مكة شدة. وتمت تربية الجيل الأول من المهاجرين من خلال المحنة. أما الأنصار فلقد عاشرا ميلاد الدولة الجديدة، وتوج هذا الميلاد الجديد بالنصر المؤزر يوم بدر، وطارت القلوب فرحا بهذا النصر، حتى حسب المسلمون أنه لا هزيمة بعد اليوم، خاصة وقد قاتلت الملائكة ووقعت المعجزة الحسية، وانتصر المسلمون العزل القلة على الكفار الكثرة المدججين بالسلاح، ومن أجل ذلك عندما لاحت بوارق حرب جديدة تسارع المسلمون زرافات ووحدانا على دخولها، ولم يتمالكوا أنفسهم من الانضواء فيها، وعندما بدا لهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب البقاء في المدينة للدفاع عنها ما تمالكت أعصابهم هذا الأمر، واندفعوا بوعي وبغير وعي يطالبون بالخروج لملاقاة العدو. ولم لا يكون ذلك؟ فالعدو كافر، وهم مؤمنون، ونصر الله تعالى قائم للمؤمنين على الكفار. يقول المقريزي: (... فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا، وطلبوا الشهادة، وأحبوا لقاء العدو: أخرج بنا إلى أعدائنا. وقال حمزة، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك في طائفة من الأنصار: (إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت في بدر في ثلاثمائة رجل فظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به، فساقه الله إلينا في ساحتنا). ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرى من إلحاحهم كاره، وقد لبسوا السلاح. وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب بالحق لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارجا من المدينة، وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت

صائما، وتكلم مالك بن سنان، وإياس بن أوس بن عيتك في معنى الخروج للقتال، فلما أبوا إلا ذلك صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة بالناس، وقد وعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن النصر لهم ما صبروا (¬1). ولقد وصف القرآن الكريم هذه الحالة النفسية العالية فقال: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (¬2)}. من هذه الذروة في الثقة بالنصر، والجيش يمضي بمعنويات عالية، كانت المفاجأة الأولى في انسحاب ثلث الجيش عائدا إلى المدينة، ومع ذلك فلم يفت هذا الأمر في أعضاد الناس، وتسارع الصبيان للانضمام للجيش، فأعادهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وتحقق النصر الأول كما قال القرآن الكريم كذلك، {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه .. (¬3)}. واستطاع سبعمائة مقاتل أن يحققوا نصرا ساحقا على ثلاثة آلاف من المشركين: كما يقول المباركفوري عن هذا النصر: (هكذا دارت رحى الحرب الزبون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرا على الموقف كله، حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف. كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا بضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين. وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور، وانكسرت همتها - حتى لم يجترىء أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط - بعد مقتل صواب - فيحمله ليدور حوله القتال، فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام، وإعادة العز والمجد والوقار (¬4)). وقال ابن إسحاق: (ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي: 1/ 117. (¬2) آل عمران: الآية 143. (¬3) آل عمران من الآية 153. (¬4) الرحيق المختوم ص 293.

فيها. روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم - سوق - هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير (¬1)). ومن هذه القمة السابقة تبدأ الابتلاءات والمحن. أ - محنة أحد: يصف المقريزي هذه المحنة بقوله: (وكانت الريح أولى النهار صبا، فصارت دبورا وبينا المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم؟ إذ دخلت الخيل تنادي فرسانها بشعارهم (ياللعزى، يالهبل) ووضعوا في المسلمين السيوف وهم آمنون، وكل منهم في يديه أو في حضنه شيء قد أخذه، فقتلوا فيهم قتلا ذريعا، وتفرق المسلمون في كل وجه، وتركوا ما انتهبوا، وخلوا من أسروا. وكسر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل في الخيل إلى موضع الرماة، فرماهم عبد الله بن جبير بمن معه حتى قتل، فجردوه ومثل به أقبح المثل، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته وخرجت حشوته، وجرح عامة من كان معه، وانتقضت صفوف المسلمين، ونادى إبليس عند جبل عينين - وقد تصور في صورة جعال بن سراقة - أن محمدا قد قتل، ثلاث صرخات؟ فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين. واختلط المسلمون وصاروا يقتلون، ويضرب بعضهم بعضا ما يشعرون من العجلة والدهش، وجرح أسيد بن حضير جرحين ضربه أحدهما أبو بردة بن نيار وما يدري؟ وضرب أبو زعنة أبا بردة ضربتين وما يشعر، والتقت أسياف المسلمين على اليمان وهم لا يعرفونه حين اختلطوا وحذيفة يقول: أبي! أبي! حتى قتل. فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فزادته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرا، وأمر رسول الله بديته أن تخرج، فتصدق حذيفة بن اليمان بديته على المسلمين ... وأقبل الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة!! فأقبلوا إليه عنقا واحدة: لبيك داعي الله - صلى الله عليه وسلم - فيضرب يومئذ جبار بن صخر في رأسه وما يدري، حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون: أمت أمت فكف ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 3/ 82.

بعضهم عن بعض. وقتل مصعب بن عمير وبيده اللواء .. وتفرق المسلمون في كل وجه، وأصعدوا في الجبل لما نادى الشيطان: قتل محمد ... وصار أبو سفيان بن حرب يقول: يا معشر قريش أيكم قتل محمدا؟ فقال ابن قميثة: أنا قتلته! قال: نسورك (¬1) كما تفعل الأعاجم بأبطالها. وجعل يطوف بأبي عامر الفاسق في المعزك، هل يرى محمدا؟ وتصفح القتلى فقال: ما نرى مصرع محمد؟ كذب ابن قميثة. ولقي خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندك قتل محمد؟ قال: رأيته قبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حق. وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه - يقول: إلي يا فلان، إلي يا فلان؟ أنا رسول الله! فما عرج واحد عليه. هذا، والنبل يأتيه - صلى الله عليه وسلم - من كل ناحية، وهو في وسطها والله يصرفها عنه ... وكان أربعة من قريش قد تعاهدوا وتعاقدوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفهم المشركون بذلك، وهم: عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وعمرو بن قميثة وأبي بن خلف، ورمى عتبة يومئذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أحجار فكسر رباعيته، وشج في وجنتيه حتى غاب حلق المغفر (¬2) في وجنته، وأصيبت ركبتاه ومجشتا (¬3) ... وقتل من المسلمين بأحد أربعة وسبعون: أربعة من قريش وسائرهم من الأنصار ... وجعل عبد الله بن أبي والمنافقون يشتمون معه، ويسرون بما أصاب المسلمين، ويظهرون أقبح القول. فيقول ابن أبي لابنه عبد الله - وهو جريح قد بات يكوي جراحه بالنار -: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي! عصاني محمد وأطاع الولدان والله لكأني كنت أنظر إلى هذا؟ فقال ابنه: الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خير .. وأظهرت اليهود القول السيء فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك! ما أصيب هكذا نبي قط، أصيب في ¬

(¬1) نسورك: نلبسك الأساور كسواري كسرى. (¬2) المغفر: حلق وزرد ينسج من الدروع على قدر الرأس. (¬3) مجشتا: خدشتا خدشا شديدا.

بدنه، وأصيب في أصحابه! وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، ويأمرونهم بالتفرق عنه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك في أماكن. فمشى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من يهود والمنافقين، فقال عليه السلام: يا عمر، إن الله مظهر دينه، ومعز نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم؟ قال، فهؤلاء المنافقون!! قال: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قال: بلى، يا رسول الله! وإنما يفعلون ذلك تعوذا من السيف، فقد بان لنا أمرهم. وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة! فقال: نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: يا ابن الخطاب، إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن (¬1)). لقد كانت المعركة كما نرى انعطافة خطيرة في سلم النصر. ولم يعهد المسلمون مثل هذا أبدا، ولقد أوضح القرآن الكريم في الآيات التي نزلت في أحد هذه المعاني والأوضاع النفسية التي عاناها المسلمون ما هو أكبر من الوصف البشري القاصر. ولقد تناول الحديث الوضع والوهن الذي أصاب المسلمين عامة: ثم الأوضاع الخاصة للمنافقين منهم، ثم الأوضاع الخاصة للربانيين منهم. {.. أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ...} (¬2) فلقد كان خبر مقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زلزلة عامة للصفوف، وكان الانقلاب على الأعقاب على أثره ظاهرة عامة لم ينج منها إلا القليل، وهم الربانيون الذين قاتلوا معه. ¬

(¬1) مقتطفات من غزوة أحد للمقريزي من الصفحات 127 - 166 - إمتاع الأسماع ج 1. (¬2) الآيات 139 - 144 من سورة آل عمران.

وأن يكون الحديث عن صف النبوة بهذه الصرامة ليدل أعمق الدلالة على عظم هذه المحنة. إننا كثيرا ما نندفع في التقليل من شأن القائد بحجة أننا أصحاب فكرة، ونغالي في هذا الأمر. حتى لكأن القائد للجماعة لا يعدو أن يكون جنديا عاديا. ونرى حب القائد والتفاني في سبيله والتعلق به وثنية. فنكرر الجملة المعهودة: إذا غابت الفكرة، برز الصنم. وإن كنا في هذا الموقف أمام رسول رب العالمين، وليس قائدا بشريا فقط. لكن هذا يعني من طرف آخر أهمية القائد الذي تلتقي القلوب عليه، ودوره في تلاحم الصف، وتآخيه، ولكم رأينا خالد بن الوليد رضي الله عنه في المعارك التي خاضها كيف كان يدفع بالصف كله إلى التضحية حين يكون أول من يخرج للمبارزة. القرآن الكريم يقرر أن المسلمين الصحابة من الجيل الأول تزلزلوا لخبر مقتل رسول الله صلوات الله عليه. وإن كان لا يعذرهم بهذا الموقف، لكنه في الوقت نفسه يثني الثناء العطر على الذين ذادوا عنه وقاتلوا بجواره. {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين .. (¬1)}. إننا بحاجة ونحن نربي هذه الجماعة المسلمة أن نوازن بين هذين الأمرين دون طغيان. الأمر الأول: ربط الجنود بقائدهم ربطا وثيقا، ربط حياة وموت، واندفاعا إلى الاستشهاد وراءه، وتلبية لأمره، وذودا عنه. الأمر الثاني: أن يكون عمق العقيدة وحبها أكبر من حب القائد في القلب، فلو سقط القائد فلا بد من الموت على ما مات عليه، والسير على منهجه. ولئن تزعزع فلتكن العقيدة أكبر منه، وما حبه والتفاني ذودا عنه، إلا لأنه يمثل الاستقامة على منهج الله، ولا بد أن نشير كذلك إلى عذر الشباب حين يفقدون القائد الذي يرون به المثل الأعلى، ويتحركون من خلاله، وما أحوج الجماعة المسلمة إلى هذا النموذج، وهذه النماذج .. ¬

(¬1) آل عمران، الآية 146.

{... ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين اذ تصعدرن ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور. إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (¬1)}. يقول المقريزي واصفا هذه الحالة: (ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة فإن المشركين لما انهزموا وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاؤوا ووقعوا ينتهبون عسكرهم، قال بعض الرماة لبعض لم تقيمون ها هنا في غير شيء؟ قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم! فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم. فقال بعضهم ألم تعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لكم: احموا ظهورنا، ولا تبرحوا مكانكم؟ وإن رأيتمونا نقتل فلا ¬

(¬1) سورة آل عمران. الآيات 152 - 159.

تنصرونا، وإن غنمنا فلا تشركونا احموا ظهورنا؟ فقال الآخرون لم يرد رسول الله هذا. وانطلقوا، فلم يبق منهم مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا دون العشرة، وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون (¬1)). نحن أمام صورة حددها القرآن الكريم بقوله: {.. حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ...}. فلقد حدث طارىء جديد قلب موازين القوى في قلب المعركة، هذا الطارىء هو الفشل والتنازع في الأمر، والميل إلى الدنيا. والفشل هنا ضعف ووهن أمام إغراء الدنيا وزينتها، واختلفت الآراء حول الموضوع بين من يرى اللحوق بالغنائم ومن يرى الثبات في الجبل. يقول الشهيد سيد رحمه الله في التعليق على هذه الآية: (وهو تقرير لحال الرماة. وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة، ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهى الأمر إلى العصيان بعدما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه، فكانوا فريقين: فريقا يريد غنيمة الدنيا، وفريقا يريد ثواب الآخرة. وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة، ولم يعد الهدف واحدا. وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة. فمعركة العقيدة ليست ككل معركة، إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير. ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير. إنها معركة الله، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم لله وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها؟ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية. ولقد يغلب المبطلون الذين يرفهون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد، فلا يمنحهم الله النصر أبدا، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا ... وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة، وهذا ما أراد الله - سبحانه أن يعلمه للجماعة ¬

(¬1) المقريزي، إمتاع الأسماع ج 1 ص 127، 128.

المسلمة، وهي تتلقى الهزيمة المريرة، والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}. والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم .. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا، حتى نزل فينا يوم أحد: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}. وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها، ويعرف من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها! وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها، ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة: {ثم صرفهم عنكم ليبتليكم}. لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر. فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل، وصرف المقاتلين عن الميدان. فلاذوا بالفرار. وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم. ولكن مدبرا من الله ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح، وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب، ومن تمحيص النفوس، وتميز الصفوف - كما سيجيء (¬1). ويقف المسلم أمام قول الله عز وجل مرة ثانية {.. حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ...} فمن الذي فشل وننازع وأحب الدنيا؟ ظاهر الأمر أن هذا الكلام منصب على الرماة السبعين، وهم عشر الصف الإسلامي، هم عشر الجيش. والتنازع قد وقع بينهم بين من يريد أن ينفذ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويريد الآخرة، وبين من نازعته نفسه إلى الغنيمة في الدنيا. خطيئة يقع بها أقل من عشر الجيش - لأنه بقي على الجبل حوالي العشر - فتنزل العقوبة بالجيش الإسلامي كله، وينتزع منه النصر بأمر الله سبحانه - وقائد الجيش محمد رسول الله - فما هو الميزان في ذلك؟ ¬

(¬1) في ظلال القرآن، سورة آل عمران، ص 106 - 108 المجلد 2 ط دار إحياء التراث العربي.

إن الله تعالى العليم بما في القلوب، يعرف من هم من غير الرماة يريدون الدنيا، فالظاهرة ليست محصورة فيهم. ولا شك في ذلك، لأن المنافقين الذين هاجمهم القرآن الكريم لتخاذلهم أمام المحنة لم يكونوا من الرماة، ولا نشك في إرادتهم للدنيا وحبهم لها. لكننا نقول كذلك أن في جيش محمد - صلى الله عليه وسلم -، غير الرماة وغير المنافقين، من يحبون الدنيا يركنون لها وإرادة الله تعالى سبحانه أن يعاقب جيش فيه أمثال هؤلاء. ولا شك أن معصية واحدة واضحة صريحة صدرت من عشر الجيش انعكس أثرها على الجيش نفسه، بل على قائده محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد شج وجهه، وكسرت رباعيته وأدميت شفته. ونقارن بين قضيتين: لقد كان المنافقون المنسحبون في بداية الأمر ثلث الجيش. ومع هذا العدد الضخم فلم يحرم المؤمنون النصر، أو يستحقوا العقوبة وثلثهم من المنانقين. ويشير القرآن كذلك إلى وجود المنافقين في الجيش بعد الثلث الذي انفصل، وذلك في الحديث عنهم {وطائفة قد أمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ...} وذلك في الحديث عنهم كذلك {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ...}. والمنافقون هم إخوان الكافرين من اليهود بلا شك. ومن هؤلاء المنافقين من مات أو قتل في المعركة في أحد. مع وجود المنافقين في الجيش، ومع انفصال المنافقين عنه، مع هذا العدد الضخم كله لم يحرم المؤمنون النصر، وفيهم قرابة النصف لأن الله تعالى قال: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه}. فلقد استحقوا موعود الله بالنصر رغم انفصال ثلث الجيش، وانكشاف البقية من المنافقين. إنما كانت العقوبة من أجل هذا العشر الذي عصى بوضوح أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى ما يحب من موعود الله، من أجل هذا العشر ومن معه من الذين أحبوا الدنيا وأرادوها فكانت العقوبة: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} وهذا الابتلاء عفو من الله وهذه المحنة عفو من الله ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين.

إن معصية الصف المؤمن، والخلل فيه أضخم بكثير من معصية المنافقين المدسوسين في الصف، فالمؤمنون أعظم عند الله تعالى من أن يعاقبهم لوجود المنافقين والمندسين فيهم بغير علمهم. إنما يستحقون العقوبة عندما ينحدرون هم أو ينحدر بعضهم فيعصي أمر قيادته، ويعصي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيعاقب بهم الجيش كله. وحسبنا هذا الدرس العنيف ليكون أمام الحركة الإسلامية ولتعرف من أين تؤتى. إنها لا تؤتى مما هو أكبر من طاقتها، من المنافقين المتسللين المندسين في الصف، فالله تعالى يصرف بلاءهم وكيدهم، إنما تؤتى من ضعف التربية في هذا الصف، فيكون الجندي المسلم أدنى من المستوى المطلوب، ولو كان هؤلاء قلة في الجيش. وليس بعيدا عنا ما وقع للحركة الإسلامية في بعض معاركها مع الطاغوت، فلقد كانت المخالفة الصريحة من جندي خرج على قيادته بعد أن كان منها مع المجموعة التي معه، ومع التوجيهات التي أصدرها للداخل باسم هذه القيادة أن وقعت مأساة القرن في حماة ومحاولة إبادة البلد بما فيها وبمن فيها. وكانت المحنة الرهيبة التي ذهب ضحيتها الألوف من المقاتلين ومن الرجال والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. ولا شك أن لهذه المحنة أسبابا أخرى غير هذه المخالفة. ولكن السبب المباشر لها هو هذا الموقف. كما كان السبب المباشر لمحنة أحد هو موقف الرماة الستين. ونستطيع أن نؤكد أن هذه الأمور التي تم الامتحان من أجلها من الفشل والتنازع وحب الدنيا ليست خاصة بهؤلاء المخالفين، إنما هي ظاهرة عامة تشمل الصف كله قاعدة وقيادة. فمن هذا الصف من يريد الدنيا، ومن هذا الصف من يريد الآخرة، فكان قدر الله تعالى أن يصرف المؤمنين عن الكفار، ويكون الابتلاء للمؤمنين، ويكون عفو الله وفضله عليهم أن لا ينالهم المحق كما نال الكافرين، وأن يتخد منهم شهداء والله لا يحب الظالمين. ولقد كان حكم الله تعالى على الصف الإسلامي في أحد أن أوضح الفرق كذلك بين الفريقين من المؤمنين {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم}. فالذين يريدون الآخرة جاهدوا وصبروا، وسكب الله تعالى في قلويهم السكينة والأمن إلى درجة لا يكاد يصدقها العقل لو كانت

في غير كتاب الله وسيرة رسوله، أن يبلغ الأمن حد النعاس يغشى المؤمنين في قلب المعركة. والسيوف كالصواعق تنصب من كل جانب والنبال تنهمر كالمطر، وخيل المشركين تقتحم الصفوف، والمؤمنون أثبت من الجبال في قلوبهم كما يقول أبو طلحة: (رفعت رأسي يوم أحد، وجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحث جحفته من النعاس (¬1)). وفي رواية أخرى عنه: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه). والفريق الآخر وصل به الضعف والوهن إلى عودة النفسية الجاهلية لديه ودخل الخلل إلى تصوراته العقيدية كذلك {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (¬2)}. والفريق الثالث لم يتمالك في المعركة فلاذ في الفرار {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (¬3)}. لاذوا بالفرار ولما يمر عليهم سنتان من الزمان بل سنة واحدة حين نزل عليهم قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (¬4)}. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المعركة، فليس فئتهم حتى يتحيزوا إليه في المدينة، ولقد عفا الله عنهم لشدة الهول الذي لاقوه، حين أطبق عليهم الكفار. إن ضخامة المحنة تظهر في الوضع الذي انتهى إليه جيش النبوة، بين النماذج الإيمانية العالية التي تمثلت في: ¬

(¬1) رواه الترمذي والنسائي والحاكم. (¬2) سورة آل عمران 154. (¬3) سورة آل عمران 155. (¬4) سورة الأنفال الآية 16.

1 - الربانيين: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (¬1)}. 2 - الذين أصابهم النعاس أمنة منه: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغش طائفة منكم ... (¬2)}. 3 - الذين ثبتوا بعد المحنة: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ... (¬3)}. 4 - الذين قضوا شهداء في المعركة: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل ... (¬4)}. 5 - الذين استجابوا للنداء رغم القرح والجراح: {الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم القرح للذين احسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (¬5)}. ثم النماذج الضعيفة التي هزتها المحنة من الأعماق وهي التي تحدثنا عنها من قبل لكن الصف كله قد نالته المحنة بصورة من الصور، إضافة إلى الجو العام، والرأي العام العربي الذي وصل إليه أبناء هذه المحنة، وأن قريشا قد انتقمت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتلت زهرة أصحابه، ولم يكن مقتل الحمزة ذا أثر قليل في هذه الأجواء خاصة، وهند بنت عتبة تملأ الدنيا ضجيجا في محافل العرب بثأرها لأبيها وعمها وأخيها وبكرها في هذه المعركة. والمعركة ¬

(¬1) آل عمران الآية 147. (¬2) آل عمران من الآية 154. (¬3) آل عمران الآيتان 173، 174. (¬4) آل عمران الآيات 169 - 171. (¬5) آل عمران الآية 172.

الشعرية الإعلامية التي اشتعلت بين المسلمين والمشركين بعد أحد تناقلتها المحافل في كل مكان من الأرض العربية. وحققت الغاية التي كان يحلم بها أبو جهل في بدر أن يرد بدرا ويهزم محمدا، ويقيم عليها عشرة أيام تعزف عليه القيان ويشرب الخمر، وينحر الجزر حتى تسمع العرب بمسيره فلا تزال تهابه أبدا، وهذا الذي جرى اليوم. فانقلبت الكفة لصالح قريش، وبدأ العرب يهمون بغزو المدينة. يقول المباركفوري حول هذه المرحلة: كان لمأساة أحد أثر سيء على سمعة المؤمنين، فقد ذهبت ريحهم، وزالت هيبتهم عن النفوس وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين، وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب، وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر، وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين، بل طمعت في أن تقضي عليهم، وتستأصل شأفتهم. فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين - إلى حين - يهددون بالأخطار، ولكن تلك هي حكمة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي صرفت وجوه التيارات، وأعادت للمسلمين هيبتهم المفقودة، وأكسبت لهم العلو والمجد من جديد، وأول ما أقدم عليه بهذا الصدد هي حركة المطاردة التي قام بها إلى حمراء الأسد، فقد حفظ بها مقدارا كبيرا من سمعة جيشه، واستعاد بها من هيبتهم ومكانتهم ما ألقى اليهود والمنافقين في الدهش والذهول، ثم قام بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم بل زادت فيها، وفي الصفحة الآتية شيء من تفاصيلها. ب - سرية أبي سلمة: أول من قام ضد المسلمين بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزيمة، فقد نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون رجلا مقاتلا من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة وعقد له لواء، وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب

المسلمون إبلا وشاة لهم فاستاقوها وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حربا. وكان مبعث هذه السرية حين استهل هلال المحرم سنة 4 للهجرة (أي أن بينها وبين أحد شهرين ونيف فقط). ج - بعث عبد الله بن أنيس: وفي اليوم الخامس من نفس الشهر - المحرم سنة 4 هـ - نقلت الاستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أنيس ليقضي عليه. د - بعث الرجيع: .. وفي شهر صفر من نفس السنة - أي الرابعة من الهجرة، قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد من عضل والقارة، وذكروا أن فيهم إسلاما، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر - في قول ابن إسحاق وفي رواية البخاري أنهم عشرة .. فذهبوا معهم فلما كانوا بالرجيع - وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بين رابغ وجدة - استصرخوا عليهم حيا من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعهم ما يقرب من مائة رام، واقتصوا آثارهم حتى لحقوهم، فأحاطوا بهم - وكانوا قد لجأوا إلى فدفد - وقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا، فأما عاصم فأبى النزول، وقاتلهم في أصحابه، فقتل منهم سبعة بالنبل، وبقي خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخرى، فنزلوا إليهم، ولكنهم غدروا بهم وربطوهم بأوتار قسيهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد وباعوهما بمكة ... هـ - مأساة بئر معونة: وفي نفس الشهر الذي وقعت فيه مأساة الرجيع وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة. وملخصها أن أبا براء عامر بن مالك المدعو بملاعب الأسنة قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، فقال: يا رسول الله لو بعثت

أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك، لرجوت أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث معه أربعين رجلا في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين، وأمر عليهم المنذر بن عمرو - وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، فساروا يحتطبون النهار يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن، ويصلون بالليل حتى نزلوا بئر معونة .. ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلا فطعنه بالحربة من خلفه. فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حرام: فزت ورب الكعبة. ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عصية ورعل وذكوان فجاؤوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد بن النجار فإنه ارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق ... ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حاملا معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين. تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد، إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح، وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة ... وقد تألم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة تألما شديدا، وتغلب عليه الحزن والقلق (¬1) حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه (¬2)). و- غدر بني النضير: قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتخرقون على الإسلام والمسلمين .. ولكنهم بعد وقعة أحد تجرؤوا فكاشفوا بالعداوة والغدر، وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سرا، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين. وصبر ¬

(¬1) ذكر الواقدي أن خبر أصحاب الرجيع وخبر أصحاب بئر معونة أتى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة. (¬2) كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة.

النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرجيع وبئر معونة حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبيان ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم في نفر من أصحابه وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري - وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة - فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه. وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم. فتآمروا بقتله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، لكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم (¬1). ز - غزوة نجد: قبل أن يقوم النبي بتأديب أولئك الغادرين (الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد) نقلت إليه استخبارات المدينة بتحشد جموع البدو والأعراب من بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، فسارع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الخروج، يجوس فيافي نجد، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة، حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين. وأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين. ح - غزوة بدر الثانية: (.. ففي شعبان سنة 4 خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لموعده في ألف وخمسمائة وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة وانتهى إلى بدر، فأقام بها ينتظر ¬

(¬1) وكانت غزوة نجد في ربيع الثاني أو جمادى الأولى.

المشركين. وأما أبو سفيان فخرج في ألفين من المشركين ومعهم خمسون فرسا، حتى انتهى إلى مر الظهران على بعد مرحلة من مكة. فنزل بمجنة - ماء في تلك الناحية - فاحتال للرجوع وقال لأصحابه: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا). ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضا فقد رجع للقاء المسلمين. وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة. فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة، وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم وتوطدت هيبتهم في النفوس، وسادوا على الموقف. ط - غزوة دومة الجندل: عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدر، وقد ساد المنطقة الأمن والسلام، واطمأنت دولته، فتفرغ للتوجه إلى أقصى حدود العرب حتى تصير السيطرة للمسلمين على الموقف ويعترف بذلك الموالون والمعادون. مكث بعد بدر الصغرى في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل، قريبا من الشام - تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعا كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليالي بقين من ربيع الأول سنة 5 للهجرة وأخذ رجلا من بني عذرة دليلا للطريق يقال له مذكور. خرج يسير الليل ويكمن النهار حتى يفاجىء أعداءهم وهم غارون. فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ماشيتهم ورعائهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب. ي - غزوة الأحزاب: .. خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة، وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت من المشرق قبائل غطفان .. واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه، وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عرمرم

يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل. جيش ربما يزيد عدده عن جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ. ولو بلغت هذه الأحزاب المحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظم خطر على كيان المسلمين مما يقاس، ربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء. وسارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عقد مجلس استشاري أعلى، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي رضي الله عنه. قال سلمان: يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا - وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك. وأسرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تنفيذ هذه الخطة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعا .... وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضابا يتحسسون نقطة ضعيفة، لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه أو يهيلوا عليه التراب ليبنوا به طريقا يمكنهم من العبور. وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق، أو لبناء الطريق فيها. ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة، ورشقوهم بالنبل وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم. ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين .. وقد استاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين. ففي البخاري .. أنه قال يوم الخندق: ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس. وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعا، قال النووي: وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها. ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة المتواصلة من المسلمين دامت أياما، إلا أن الخندق لما كان حائلا بين الجيشين لم يجر بينهما

قتال مباشر وحرب دامية بل اقتصروا على المراماة والمناضلة ... وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها تريد إيصال السم داخل أجسادهم. انطلق كبير مجرمي بني النضير إلى ديار بني قريظة فأتى كعب بن أسد القرظي - سيد بني قريظة، وصاحب عقدهم وعهدهم ... فلم يزل حيي بكعب نقيلة في الذروة والغارب ... حتى نقض كعب بن أسد عهده وبرىء مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين .. وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف. بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول الله تعالى: {وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال: كان محمد يعدنا أن تأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط .. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقنع بثوبه حين أتاه غدر بني قريظة فاضطجع ومكث طويلا حتى اشتد على الناس البلاء، ثم غلبته روح الأمل (¬1) فنهض يقول: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره .. ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن ... وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين شهرا أو نحو شهر .. إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر، بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول ¬

(¬1) ليست القضية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية أمل أو يأس. بل هي قضية ثقة بالله لا تحد. أو تخطيط لمواجهة حاسمة، أو تلق لوحي الله، وكنا نود من علامتنا المباركفوري أن لا يرى هذا التعليل لهذا الموقف.

الله - صلى الله عليه وسلم - حين أجلى الله الأحزاب، والآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم (¬1)) (¬2). تجمع هذه الأحداث التي استمرت سنتين متتاليتين خطوط عريضة تمثل طبيعة هذه المرحلة، وتوضح جوها العام. الخط الأول: تدهور السمعة الضخمة التي ارتفعت للمسلمين بعد بدر. وكيف استطاع ثلاثمائة مقاتل أن ينتصروا على ألف مدججين بالسلاح، كما أعقب بدرا النصر على بني قينقاع. فالمسلمون مرفوضون في البيئة الوثنية، وهم منشقون عن قريش حامية الحرم، وجاؤوا بدين جديد، فما أن لاح للأعراب والقبائل المجاورة بوادر ضعف عند المسلمين حتى راحوا جميعا يتهيأون لغزو المدينة أو الندر بالمسلمين على طبيعة الأعراب في ذلك وطبيعة اليهود في ذلك، وإذا كان هذا البحر الزاخر من الأعداء هادئا قبل الهجوم كله، ولو كان أي شخصية غير نبي الله، أو عقيدة غير الإسلام، لانتهى وأصبح كأمس الدابر، لكنه الرسول والرسالة. الخط الثاني: فلو نظرنا في كل تحركات المسلمين العسكرية، خلال هذه المرحلة لوجدناها تعتمد الهجوم كأقوى وسيلة من وسائل الدفاع. وهو هجوم مركز مدروس مخطط له مهمته أن يضرب العدو قبل أن يتحرك نحوه، ولم يكن خط فتح الجبهات كلها أو ضرب عدو هادىء هو المحرك لهذه العمليات. إنما كان الهدف منها إحباط التجمعات المضادة للإسلام، والتي تعد لغزوه. والمسلمون يحسبون في كل يوم حسابا جديدا يمكن أن ينقض عليهم من الشمال أو الجنوب أو الشرق. وما أحوج الحركة الإسلامية اليوم وهي تخوض معركتها الشرسة ضد الطاغوت أن تقف هذا الموقف بعد المحنة العنيفة التي نزلت بها. فلا شك أن ¬

(¬1) عن صحيح البخاري 2/ 591. (¬2) أخذنا هذا التلخيص الجيد من العلامة المباركفوري من الصفحات 325 - 351. فهو من أدق ما كتب في هذا الموضوع وأوثقه، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

سمعتها العسكرية قد تدهورت رغم ضروب البسالة والتضحية التي أبدتها في المعارك التي خاضتها وأصبح الكثير من المحايدين يصبون غضبهم على هذه الحركة لأنها فتحت حربا غير قادرة على خوضها، بل ينفضون أيديهم منها، وأصبح المتغاطفون مع الحركة الجهادية منصرفين عنها، كما أن ظروف الحركة الإسلامية اليوم بعد محنتها هي أفضل من ظروف الحركة الإسلامية بعد أحد. إن الخصوم الفكريين للحركة والمجاورين للطاغوت لهم مصلحة كبرى في سقوط النظام النصيري المقيت في المنطقة. بينما لم يكن لأحد من أعداء المسلمين في الجزيرة العربية مصلحة في سقوط نظام قريش وزوال سلطانها، وهم يرونها تقدم الخدمة لحجيجهم وتتفانى في خدمتهم. صحيح أنه ليس من مصلحة الحركة الإسلامية اليوم أن تعدد جبهاتها أو تكثر خصومها، وأن تحصر معركتها مع طاغوت مستبد واحد، حاربها أعنف المحاربة، ولكن استمرار الركود بعد المحنة، يغير الجو كله ضدها، ويطمع الجميع فيها، بل بتعبير أدق، يمكن أن تفقد مواقعها التي ربحتها من خلال ثقة الناس بقوتها وقدرتها على الصمود والمواجهة وإسقاط النظام الطائفي الكافر. كما أننا لا ننسى صعوبة هذا الخط الهجومي للحركة الإسلامية اليوم، وهي تنطلق من غير أرضها، ومن غير سلاحها، وليس عندها أرض محررة تتحرك فيها. لكن هذا لا يعفيها من المواجهة، وإلا خسرت رصيدها كله، وأطمعت الأعداء فيها بل الأصدقاء وكذلك. الخط الثالث: لم يكن هدف الدعوة لينسى أبدا على الطريق، إنه دائما الهدف الأول، وفي الوقت الذي رأى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرصة سانحة لهذه الدعوة أن تنتشر لم يتوان أبدا عن بث الدعاة لذلك، وما المحنتان الضخمتان اللتان حلتا بالمسلمين في الرجيع وبئر معونة إلا بسبب ذلك. وكان هذا بعد أشهر قليلة من محنة أحد، ولا شك أن انتشار الدعوة في أرض جديدة، يعني كسب أنصار جدد لها، وهذا ما حدا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث عشرة إلى عضل والقارة وأن يبعث أضخم تجمع دعوي إلى نجد قوامه سبعون من قراء

المسلمين وفضلائهم وساداتهم. فنجاح هؤلاء في دعوتهم يعني أن تنضم نجد كلها لدولة الإسلام، وبإذن الله بالفتح من عنده في أرض جديدة قد تكون أهم من المدينة ذاتها عاصمة الإسلام، وقبائل نجد تشكل خطرا ضخما على الإسلام، وبالتالي ستكون أقوى أسلحته يوم تنضم له. وحتى ندرك بأس قبائل نجد نذكر موقف عامر بن الطفيل. يوم هدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغزو المدينة وذلك في المرحلة الثانية للدولة المسلمة، في ألف شقراء من الخيل وألف فارس. وما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن دعا: (اللهم آلفني عامر بن الطفيل). وكانت رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الطاغية على أمل أن يسلم .. ويدخل قواته كلها في حظيرة الإسلام والجهاد. وهذا ما يحسن أن تذكره الحركة الإسلامية دائما وفي كل وقت - إنها دعوة قبل أن تكون ثورة، وإنها مسؤولة عن نشر هذه العقيدة وإبلاغها إلى الناس في أي ظرف وأن لا تتحول إلى شباب يحملون السلاح ويحلمون بالنصر، فهذه نقطة قاتلة بالنسبة لها، ولن تصل إلى النصر حين تنسى الدعوة، وتنسى بناء رجالها على ضوء هذا الدين بله دعوة الناس إليه. الخط الرابع: ولكن الواقع العملي كان على غير ما خطط وقدر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد ذهب العشرة الأوائل غدرا في الرجيع، وذهب القراء السبعون عجزا في بئر معونة وقضوا شهداء جميعا، ولم تكن محنة بئر معونة بأقل من محنة أحد من حيث حجم الخسائر، ونوعية الشهداء. وكانت ضخامة المحنة أن قضوا في شهر واحد. ولم يملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم أكثر من استمطار الرحمة عليهم، والدعاء على الغادرين بهم في قنوته، ولم يكن قادرا على الثأر لهم من أعدائهم. وأهمية هذا الخط بالنسبة للحركة الإسلامية اليوم يحتاج له شباب الدعوة ورجالها حين يفاجأون بفشل مخطط أقدمت عليه القيادة. إن ضعف التربية في صفوف الحركة الإسلامية سرعان ما يدفع شبابها إلى توجيه النقمة على القيادة، وتوجيه السباب والاتهام لها، والطعن في صلاحيتها وإخلاصها ونيتها، وإذا بنا أمام فاجعتين: الأولى: فشل مخطط أو خسارة معركة.

الثانية: تأزم الثقة في الصف المسلم وفقدانها أحيانا، وتخلخل هذا الصف وضعفه وهو أخطر من المحنة الأولى. ونود من شباب الدعوة أن لا يجدوا الغرابة أو يستهجنوا ضعفا أو خسارة لأن هذه سنة الأنبياء في حربهم مع أعدائهم: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس (¬1)}. وكما قال أبو سفيان بين يدي هرقل: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. كما يشير الأمر كذلك إلى إمكانية الثقة بمشرك والتعامل معه بأعرافه. فأبو براء مع أنه لم يدخل في الإسلام، فقد قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جواره للسبعين من صحبه، ولم يخفر أبو براء ذمته، لأن بني عامر حافظوا على جواره. إنما غدرت بنو سليم بهم بدعوة عامر بن الطفيل. ونود أن نشير إلى نقطة ثانية: إن شباب الدعوة كثيرا ما يحكمون بسقوط القيادة لأنها خدعت من عدو، ولأنها لم تستطع كشف هويته، وهذا ما جرى في وقتنا الحاضر مع بعض قيادات الجماعة المسلمة حين ذخل عليها من بعض أعدائها. فليطأمن الشباب من غلوائهم، وهم يرون سيد الخلق الموحى إليه من السماء يخدع بالله فينخدع، ويرسل الشباب العشرة يدعون للإسلام، فإذا بهم يسلمون للأعداء من هؤلاء الغادرين. الخط السادس: صبر وثبات الشباب على هول المحنة وضخامتها فرغم مرور سنتين على تتابع المحن دون تحقيق نصر حربي يذكر. فما فت ذلك في أعضاد المسلمين، وما ألان قناتهم، ولا نقول الصف كله، بل غالبية الصف، ولم يتخلف جندي عن أمر يوكل إليه سواء أكان وحده ليدخل جيش عدو أو يغتال قائد جيش، أو يمضي في سرية صغيرة يواجه بها جيشا عرمرما أو يلاحقه. لقد كانت صفة الالتزام والطاعة هي السيمة الأساسية في قلب هذه المحنة، وما قصة حذيفة عنا ببعيدة حين انتدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يأتيه ¬

(¬1) آل عمران من آية 140.

بخبر القوم أيام الخندق، فلم يستجب أحد من الخوف والجوع والبرد رغم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترط لمن يخرج ليأتيه بالخبر، السلامة ورفقته في الجنة. لكن عندما نادى حليفة باسمه ما تردد حذيفة لحظة واحدة في تلبية الأمر، لأنه أمر محدد لشخصه دون أن يعبأ بالجوع والبرد والخوف. الخط السابع: إن هذا التحرك العسكري خلال السنتين لم يرافقه مواجهة مع العدو لقد كان كله فض تجمع أو محاصرة موقع، حتى غزوة بني النضير التي رفعت معنويات المسلمين إلى الأوج. لم يقع فيها حرب تذكر، كما يقول تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير (¬1)}. فالله تعالى ألقى الرعب في قلوب المظاهرين من أهل الكتاب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار. الخط الثامن: ويقظة القيادة واضحة تماما خلال هذه المرحلة التي تراقب الجو كله من كل جهاته. من جهة مكة وقريش في الجنوب، ومن جهة نجد في الشرق، ومن جهة الشام في الشمال، وأي تجمع تسمع به، يود أن ينقض على المدينة تباغته قبل أن يتحرك وتلاحقه. فتحطم أعصابه وأعصاب حلفائه. وإذا كنا نجد العذر للقيادة أن تخدع مرة واحدة، فليس هذا يعني أن تكون دائما كذلك، أو أن تبرر غفلتها وسذاجتها تحت هذا الستار، فلئن وقعت المأساة والمحنة مرة أو مرتين، لكن اليقظة النبوية العجيبة حطمت عشرات المحن التي يمكن أن تحل بالمسلمين لو ركنت مرة واحدة أو هدأت أو انشغلت بنفسها عن المعركة. الخط التاسع: وبهذا التحرك خلال هذه المرحلة، وإن لم يتحقق نصر عسكري حاسم، فقد تحقق نصر معنوي مؤزر، وذلك من خلال سرعة الحركة ودراستها المستأنية وتخطيطها المحكم، ولم تمكن قريشا من أن تتغنى بأمجادها كثيرا خاصة عندما تم تحدي المسلمين لقريش التي نكلت عن ¬

(¬1) الحشر /6.

موعدها في بدر الثانية، وتعلل أبو سفيان بالجدب، الذي لا يصلح للنفير، واستطاع المسلمون في نزولهم ببدر مكانا وزمانا أن يؤكدوا قوة معنوياتهم وتخاذل أعدائهم. كما أن جلاء بني النضير عن المدينة، أعطى سمعة معنوية عالية لهم، وأدخل الرعب في صفوف أعدائهم. والحركة الإسلامية مسؤولة دائما عن بث الروح المعنوية العالية في نفوس شبابها بالوسائل المكافئة. كما أنها مسؤولة عن تفتيت صف أعدائها، وهزيمتهم معنويا كذلك، بحيث يحسون أن يد الحركة الإسلامية قادرة على أن تطالهم في أي أرض فيحسبون لها ألف حساب. وإلا فالمحنة تذبح الصف من الداخل قبل أن تذبحه من الخارج، والنفوس ما لم تفتح أمامها آفاق العمل، لن تسلك غير طريق اليأس، إن المسؤولية التي تحملها القيادة في هذا المجال مسؤولية ضخمة، ولا يكفي أبدا الكلام ما لم يرافقه عمل ملموس يؤكد ثبات واستمرار الجهاد دون وهن أو توانٍ أو يأس. الخط العاشر: وهو الذي حدد نهاية هذه المرحلة بالانتقال من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم. وذلك في نهاية المطاف، وبعد انتهاء غزوة الأحزاب حين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم. إن هذه الكلمة لتؤكد المرحلية الضخمة في هذه الدعوة، وتؤكد التخطيط المنهجي، والمنهجية الحركية التي تنتقل من خطوة إلى خطوة، مبصرة مواقع خطواتها، عارفة منازل سيرها؟ وأي عمل بدون خطة هو عمل فاشل، لقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمته (¬1) بعد أضخم هجوم شهدته المدينة، من أضخم جيش شهدته الجزيرة في تاريخها كله، وجدير بمثل هذا الهجوم أن ينهي الإسلام، ويخضد شوكته، ويقطع أوصاله، غير أن الثبات في وجه الإعصار، وعبقرية التحرك للمواجهة رد الذين كفروا بغيظهم، لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. ولا شك أن الإرادة الربانية بنصر هذا الدين هي التي كشفث الغمة والمحنة عن المؤمنين. وهذا جانب في سنن الله لا يأتي إلا لمن يستحقه ولمن هو أهل له، وصبر المؤمنين، وثباتهم خلف قيادتهم، وتحركهم ¬

(¬1) الآن نغزوهم ولا يغزونا.

لنصرة دينهم. رغم الجوع القاتل، والبرد القاتل، والعدو الشرس الذي أحاط بهم إحاطة السوار بالمعصم، جعل هؤلاء مؤهلين لنصر الله تعالى وعونه، ومؤهلين، لأن يعطيهم النصر بدون قتال، ومؤهلين لأن يتحقق بهم موعود الله، فلقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه بشهادة الله، {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (¬1)}. ولم يضرهم وجود المنافقين في صفوفهم، ووجود من يقول في هذا الصف: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، ووجود من ينظر إليك نظر المغشي عليه من الموت، ووجود من يلوذ بالفرار متسكعا وراء {إن بيوتنا عورة}. لم يضر المؤمنين وجود هذه النماذج كلها، أمام الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا، فجاءهم نصر الله، بعد أن زلزلوا زلزالا شديدا. وكان هذا الثبات العظيم، ليس من ثمرته فقط أن يرد الله الكافرين بغيظهم دون أن ينالوا خيرا، بل كان وراء ذلك، ابتداء عهد جديد كل الجدة، عهد الهجوم على الكافرين وغزوهم، الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم. فإذا ما اشتدت المحنة، ونزل الغم، ووقع الكرب، فنصر الله قادم لمن ثبت وأخلص، ولم يرج إلا الله تعالى وذكر الله كثيرا. ونستطيع أن نحدد طبيعة المعركة وأبعادها من خلال الرسالتين التاليتين المتبادلتين بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي سفيان: فقد كتب أبو سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (باسمك اللهم. فإني أحلف باللات والعزى لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا نريد ألا نعود حتى نستأصلكم. فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق. فليت شعري من علمك هذا؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد). فقرأه أبي بن كعب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبته. وكتب إليه: (من محمد رسول الله إلى أبي سفيان بن حرب. أما بعد، فقديما غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا فذلك أمر يحول الله بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللات والعزى. وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق؟ فإن الله ¬

(¬1) الأحزاب / 23.

الهمني ذلك لما أراد من غيظك وغيظ أصحابك. وليأتين عليك يوم تدافعني بالراح، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وإساف ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك (¬1)). فالرسالتان تحددان تماما إخفاق أبي سفيان وجمعه الأحزاب كلها دون تحقيق هدفه وتوضح الغيظ الذي نزل به من جراء الخندق، وأنه عاد كما قدم دون أن يحقق شيئا من أهدافه، كما تحدد الرسالة الثانية الفشل الذريع الذي حل بهجوم الأحزاب، والثقة العميقة بنصر الله، وتحطيم الطواغيت. الخط الحادي عشر: وعلى ما لقي المسلمون من هول هذه المحنة وضخامتها. لم يرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضم إلى جيشه جنديا واحدا مشركا يستعين به على العدو، على الرغم من كثرة العروض التي عرضت عليه من اليهود وغيرهم، وحرص على أن يكون جيشها نقيا من الشوائب. لا يقاتل تحت لوائه إلا من آمن بأهدافه. بل خسر في أحد ثلث جيشه إضافة إلى الكتيبة الحسنة التسليح من اليهود التي أرادت أن تنضم إلى الجيش الإسلامي. لقد كان التميز واضحا تماما في الجيش المسلم، وأعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيه صريحا لليهود: مروهم فليرجعوا فإنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك. ورغم المعاهدات والعقود التي عقدها عليه الصلاة والسلام مع خصوم الإسلام، وفتح في هذه العهود إمكانية طلب النصرة منهم إلا أن تلك العقود والأحلاف لم تكن تتجاوز الجانب السياسي في الكف عن حرب المسلمين، أو إمدادهم بالمال والسلاح، أو تخذيل العدو عنهم. لكن هذا لم يصل إلى مرحلة الاشتراك في الحرب. وما نعلم أن هذا الأمر يدخل في نطاق الحرفة. لأن الفقه الإسلامي قال كلمته بهذا الصدد وجمهور الفقهاء على جوازه، ولكن الحرص يجب أن يكون على أعلى صورة لدى الحركة الإسلامية في هذا المجال، دون أن تشرك ولو كان جنديا واحدا في صفها غير مؤمن بعقيدتها وأهدافها، حتى لا يفسد الصف، ويبث فيه الوهن والضعف. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 239 - 240.

السمة السابعة عشرة تباشير النصر في قلب المحنة

السمة السابعة عشرة تباشير النصر في قلب المحنة لقد كان شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمثل أعظم قوة بشرية في التاريخ. فما عرف رجل يستطيع أن يؤثر في صفوف جيشه وجنده مثل شخص رسول الله، لقد كان دائما في المحنة رجلها الأول، وبكلمات قلائل ينفح في جيشه روح الاستبسال والجهاد، ويتحدث عن النصر حين يفقد الناس أملهم بالنصر، ويضرع إلى الله تعالى يجأر بالدعاء حين يثق الناس بقدرتهم على النصر. ولنشهده عليه الصلاة والسلام في هذه الموافف العصبية. ها هو في بدر يستمع لقول سعد بن معاذ رضي الله عنه: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت، واعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك (¬1). إن القول العظيم لسعد ليؤكد الولاء التام من الأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستعدادهم للتضحية والموت مع رسول الله. لكنه يؤكد من طرف آخر أن الأمل بالنصر غير قائم. فخوض البحر يعني الاستشهاد أكثر مما يعني النصر، وأمام هذه الروح العالية كان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم (¬2). ويقول المقريزي: (ثم أراهم مصارعهم يومئذ. هذا مصرع فلان، ¬

(¬1) و (¬2) الرحيق المختوم للمباركفوري ص 232.

وهذا مصرع فلان. فما عدا كل رجل مصرعه. فعلم القوم أنهم يلاقون القتال وأن العير تفلت (¬1). ويحدثنا المقريزي عن موقفه يوم أحد، وفي أحرج اللحظات وأشدها هولا. (وخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء ... وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عطش عطشا شديدا، فذهب محمد إلى قناة حتى استقى من حسى (¬2)، فأتى بماء عذب فشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا له بخير. وجعل الدم لا ينقطع (من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن (¬3)). فالجيش المحطم، والوجه الجريح، والعدو الطاغي، والشهداء السبعون، ومع ذلك يؤكد لجيشه العظيم أن المسلمين لن تنالهم مثل هذه المحنة حتى يستلموا الركن، وهذا يعني أن النصر قادم لا محالة له بإذن الله، والنصر لهذه العصبة بالذات التي تدخل مكة وتستلم ركن الكعبة المشرفة. وهذا موقفه عليه الصلاة والسلام يوم المحنة الكبرى، يوم الخندق. فقد روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاؤوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر - ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذوقا - فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المعول، فضرب فعاد كئيبا أهيل أو أهيم) (¬4)، أي صار رملا لا يتماسك وقال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقطع آخر. فقال: الله أكبر أعطيت فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن. ثم ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 75. (¬2) رمل متراكم أسفله صخر صلد ينبع منه ماء عذب. (¬3) المصدر نفسه 1/ 138. (¬4) البخاري 2/ 588 - 589.

السمة الثامنة عشرة عمليات الاغتيال وأثرها في بث الرعب في صفوف العدو

ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر. فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني (¬1). لقد بشر عليه الصلاة والسلام بذلك، والمسلمون يكادون يهلكون جوعا فلم يذوقوا منذ ثلاثة أيام ذواقا، والعدو مصبحهم وممسيهم، وتتناسب البشائر مع مراحل المعركة. فالبشارة الأولى في أول لقاء مع العدو، منصبة على مصرع كبار قادته، وانتصار في معركة على وشك أن تقع. والبشارة الثانية بعد خسارة ضخمة في معركة مع هذا العدو، تؤكد أن النصر سيكون على هذا العدو في نهاية المطاف، مهما امتدت المعارك، فستعود الكعبة للمسلمين وينتهي الوجود الوثني في جزيرة العرب. والبشارة الثالثة قريب هجوم يود استئصال شأفة المسلمين وإبادة خضرائهم. بأن النصر سيتجاوز حدود معركة قائمة. وسيتجاوز حدود أرض العرب، وعدو محدد بل سيشمل الأرض كلها حيث يقبع العدو في الشام وفارس واليمن. في الشمال والشرق والجنوب. وستدين الأرض كلها لله. السمة الثامنة عشرة عمليات الاغتيال وأثرها في بث الرعب في صفوف العدو عاد المسلمون من بدر، ولا يزال بعض المتحدين للإسلام يجاهرون في عدائه (وكانت عصماء بنت مروان تحث يزيد بن زيد الخطمي، وكانت تؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعيب الإسلام، وتحرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت شعرا، فنذر عمير بن عدي بن الخطمي، لئن رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدر إلى المدينة ليقتلنها. فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدر جاءها عمير ليلا حتى دخل عليها بيتها، ووضع سيفه في صدرها حتى أنفذه من ظهرها، وأتى فصلى الصبح مع ¬

(¬1) سنن النسائي 2/ 56، وأحمد في مسنده، واللفظ ليس للنسائي.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف نظر إليه وقال: أقتلت ابنة مروان؟ قال: نعم يا رسول الله. فقال: نصرت الله ورسوله يا عمير، فقال: هل علي شيء من شأنها يا رسول الله؟ فقال: لا ينتطح فيها عنزان. فكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال لأصحابه إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب، فانظروا إلى عمير بن عدي، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انظروا إلى هذا الأعمى الذي تشرى في طاعة الله تعالى فقال: لا تقل الأعمى ولكنه البصير .. فلما رجع عمير وجد بنيها في جماعة يدفنونها فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟ قال؟ نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فوالذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم. فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة، فمدح حسان عمير بن عدي، وكان قتل عصماء لخمس بقين من رمضان مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدر على رأس تسعة عشر شهرا (¬1). إنها امرأة واستطاعت بكيدها للإسلام أن تحول بينه وبين بني خطمة، وخوف المؤمنين فيهم من سلاطة لسانها جعلهم يخفون إسلامهم، فكان شعرها كلسع النار على ظهر المؤمنين، وتحرك الإيمان في قلب عمير، الذي رأى من تبجحها وسفاهتها في غيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدر ما جعله ينذر قتلها إن عاد عليه الصلاة والسلام. أقدم على قتلها بحمية إيمانية عجيبة، ودون أن يستأذن قيادته، وصلى الصبح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وفي قلبه بعض الخوف من أن يكون قد أساء بقتلها فطمأنه عليه الصلاة والسلام، وأثنى عليه بقوله: (إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب، فانظروا إلى عمير بن عدي). ولا عجب أن يدهش عمر في إيمانه فيشير إليه عمر أمام الناس أنه الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والذي أذهل عمر أنه أعمى وتمكن من البحث عن هذه الحية الرقطاء فقتلها في بيتها. فصحح له عليه الصلاة والسلام قوله: إنه البصير. ولم يكن عمير في قتله هذا بعد إجازة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له يخشى أحدا في هذه الأرض، لم يجمجم ولم يتلعثم حين ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 101 - 102.

سأله بنوها عن القاتل، أكد لهم أنه قتلها، وسيقتلهم جميعا لو قالوا مثل قولها، وتحداهم: {ئكيدوني جميعا ثم لا تنظرون}. وكان لهذا الموقف الصلب من الأثر والقوة أكبر من مقتل ابنة مروان. فلا بد أن يغدو الكفر صاغرا ذليلا أمام المؤمنين. وأنقذ رقاب إخوانه جميعا من الأذى، وصارت العزة لهم، والذل والصغار لمن خالف أمرهم، وظهر الإسلام في بني خطمة، وفي الطريقة نفسها، وللأهداف ذاتها تم مقتل أبي عفك اليهودي بعد شهر واحد من مقتل عصماء بنت مروان. (وكان شيخا من بني عمرو بن عوف وقد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان يحرض على عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يدخل في الإسلام، وقال شعرا، فنذر سالم بن عمير الأنصاري - أحد البكائين من بني النجار ليقتلنه أو يموت دونه، وطلب له غرة، حتى كانت ليلة صائفة - ونام أبو عفك بالفناء في بني عمرو بن عوف فأقبل سالم فوضع السيف على كبده فقتله، والذي يربط بين الحادثتين أنهما تمتا بدون إذن من القيادة، وأقرتهما القيادة النبوية بعد ذلك وهذا يعني أن من يستحق القتل في حربه المسعورة ضد الإسلام، وليس هو مجال شبهة في هذا العداء، وأقدم شاب على قتله، في الحرب المعلنة بين دولة الإسلام ودولته أو هو فهو نصر للإسلام يظهر الغيب، فزعماء الطاغوت اليوم الذين أشعلوا الحرب على المسلمين قتلوا رجالهم، ولم يستحيوا نسماءهم. بل تجاوزوا فرعون الذي طغى، هؤلاء يتقرب إلى الله تعالى بدمائهم. وما فعله شباب الإسلام في الحاكم الذي تحدى المسلمين في الأرض فصالح عدوهم اليهود في يوم عيدهم. حين قتلوا هذا الطاغية إنما غسلوا عار المسلمين جميعا في أرض الكنانة، بل في كل مكان من الأرض الإسلامية ونصروا الله تعالى ورسوله بالغيب وشروا أنفسهم لله كما قال عمر رضي الله عنه. {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}. ح - مقتل كعب بن الأشرف: مر عام كامل بعد بدر، وأجلي بنو قينقاع عن المدينة. وكعب بن الأشرف لا يزال مشهرا لسانه في أعراض المسلمين ومنشبا سهامه في

نحورهم، وازداد جرأة وحقدا وتحديا بعد جلاء بني قينقاع عن المدينة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لي بابن الأشرف فقد آذاني. فقال محمد بن مسلمة: أنا به يا رسول الله، وأنا أقتله، قال: فافعل وأمره بمشاورة سعد بن معاذ. فاجتمع محمد بن مسلمة ونفر من الأوس منهم عباد بن بشر، وأبو نائلة سلكان بن سلامة، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر. فقالوا: يا رسول الله نحن نقتله فأذن لنا فلنقل، قال: قولوا. فأتاه أبو نائلة وهو في نادي قومه - وكان هو ومحمد بن مسلمة أخويه من الرضاعة - فتحدثا وتناشدا الأشعار حتى قام القوم فقال له: كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء. حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأنفس، وضاع العيال؟ فقال كعب: قد كنت أحدثك بهذا أن الأمر سيصير إليه، قال أبو نائلة: ومعي رجال من أصحابي على مثل رأي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاما وتمرا، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة. واكتم عنا ما حدثتك من ذكر محمد؟ قال: لا أذكر منه حرفا، لكن أصدقني، ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتخلي عنه، قال: سررتني، فماذا ترهنونني؟ قال: الحلقة (¬1). فرضي. وقام أبو نائلة من عنده على ميعاد، فأتى أصحابه فأجمعوا أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، وأخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمشى معهم ووجههم من البقيع وقال: امضوا على بركة الله وعونه، وذلك بعد أن صلوا العشاء في ليلة مقمرة مثل النهار. فأتوا ابن الأشرف فهتف به أبو نائلة - وكان حديث عهد بعرس، فوثب ونزل من حصنه إليهم. فجعلوا يتحادثون ساعة، ثم مشوا قبل شرج العجوز (¬2) ليتحادثوا بقية ليلتهم؟ فأدخل أبو نائلة يده في رأس كعب وقال: ما أطيب عطرك هذا!! ثم مشى ساعة وعاد لمثلها وأخذ بقرون رأسه فضربه الجماعة بأسيافهم، ووضع محمد بن مسلمة مغولا (¬3) معه في سرة كعب حتى انتهى إلى عانته. فصاح صيحة أسمعت جميع أطام اليهود فأشعلوا ¬

(¬1) الحلقة: السلاح عامة والدروع خاصة. (¬2) شرج العجوز: موضع بقرب المدينة. (¬3) مغول: سيف دقيق قصير ماض يكون في جوف سوط ليشده الفاتل على وسطه ليغتال به الناس.

نيرانهم، واحتز الجماعة رأس كعب واحتملوه، وأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وقد قام يصلي ليلته بالبقيع - فلما بلغوه كبروا. فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال؟ أفلحت الوجوه، فقالوا: ووجهك يا رسول الله. ورموا برأس كعب بين يديه، فحمد الله على قتله وتفل على جرح الحارث بن أوس. وكان قد جرح ببعض سيوف أصحابه فبرأ من وقته وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف فقال: (¬1) من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه، فخافت اليهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطقوا (¬2). د - مقتل ابن سنينة: وكان ابن سنينة من يهود بني حارثة حليفا لحويصة بن مسعود. فعدا أخوه محيصة بن مسعود على ابن سنينة فقتله، فجعل أخوه حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله أقتلته!! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله، فقال محيصة: والله لو أمرني بقتلك الذي أمرني لقتلتك. قال: أوالله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم، والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها، قال: والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة. فجاءت يهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكون ذلك، فقال: إنه لو فر كما فر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف. ودعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه فكتبوا بينهم وبينه كتابا. وحذرت يهود وخافت وذلت من يوم قتل ابن الأشرف (1). أما الحادثتان الجديدتان وقد وقعتا في وقت متقارب قبيل غزوة أحد، هما اغتيال كعب بن الأشرف وابن سنينة كما نرى، ويجمع بينهما تقارب الوقت أولا، وأنهما كانتا بإذن من القيادة ثانيا - وإن اختلفت طبيعة الإذن والتكليف - وبسبب واحد هو الموقف العدائي من الإسلام والمسلمين وشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولعل ضخامة جريمة كعب بن الأشرف كانت أكبر من جريمة ابن سنينة. فلقد مضى كعب إلى مكة، والتقى بزعماء قريش، ورثا أصحاب ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 3/ 12. (¬2) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 109 - 110.

القليب في بدر منهم، وأعلن حلفه الصريح معهم، وراح يرد على شعراء المسلمين في الهجاء ويعلن تعاطفه الصريح القلبي والعلني معهم، ومشكلة كعب بن الأشرف وابن سنينة أنهما من يهود يثرب، أي من القبائل العربية نفسها الأوس والخزرج فهما يعيشان بين ظهرانيهم، ورغم أن العهد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينهم على التحالف والتناصر إلا أن هؤلاء الزعماء اتخذوا موقفا عدائيا من المسلمين، وتناسوا صحيفة العهد معهم. وراح كعب بن الأشرف يشبب بنساء المسلمين. وهو متمنع في حصنه. فكان أن انتدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين لقتله. فتطوع محمد بن مسلمة، واختار أربعة من الفدائيين يشاركونه في عملية الاغتيال. من بينهم أبو نائلة أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة. وهذا يعني أن أقدر الناس على تنفيذ عمليات الاغتيال، أبعدهم عن الشك فيه، ومن يمت بقرابة أو صلة رحم أو صداقة من هذا المجرم، وهذا السبب نفسه هو الذي مكن محيصة ابن مسعود رضي الله عنه من قتل ابن سنينة. لأن ابن سنينة حليف أخيه حويصة فهو يتردد دائما عليه. وإنها لمسؤولية ضخمة لأولئك الإخوة المنبثين في صفوف العدو حيث يأمن العدو جانبهم للقرابة أو موقع الوظيفة وهم أقدر من غيرهم آلاف المرات على الثأر من أولئك الطغاة. كما نلاحظ صورة جديدة في هذه العملية لم نشهدها من قبل، وهي صورة الخديعة التي تقتضي الكذب واختلاق الحوادث لتحقيق الهدف، لأن العملية من العسير جدا أن تتم بغير هذه الصورة، ولن يسلم كعب نفسه بسهولة وهو يعرف خطورة عدائه للعصبة المسلمة وسيكون دائما في حذر شديد من الغيلة. فكان لا بد من التحايل عليه، واقتضى هذا التحايل النيل من شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن الإسلام ليركن الطاغية إليهم، وهو درس جديد نفقهه كذلك، إن اتخاذ مظاهر الكفر، وإعلان الكفر، والنيل من الإسلام والمسلمين لتحقيق مثل هذه المهمة أمر لا حرج فيه. حيث قد تم بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا كان اغتيال عصماء بنت مروان قد تم بالوضوح الإسلامي الكامل والتحدي الإيماني السافر لها ولبنيها ولقومها: {فكيدوني جميعا

ثم لا تنظرون (¬1)}. فليس بالإمكان أن يتم هذا الأمر وللعدو حصونه وقوته وشراسته، ولكن هذا الأمر لا يتم بدون إذن في الأصل حين يرتبط المسلم بقيادته. إننا نلاحظ كثيرا من ضعاف النفوس ينافقون للطلغاة والكفرة ويعايشونهم خوفا من بطشهم، وهذا أمر نهىى الإسلام عنه، واعتبره ركونا للكفار {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (¬2)} الفرق واضح تماما بين هذا النوع من الركون والمسارعة في الكفار، وبين من يفعل هذا الأمر بمهمة من قيادته المسلمة أو إذن منها على الأقل، أو تصميم على تنفيذ مهمة اغتيال أو تجسس لصالح المسلمين حين يعجز عن الصلة بالقيادة والتنسيق معها، ولقد استطاع أبو نائلة رضي الله عنه أن يجعل الثقة بينه وبين كعب في الأوج حين نال من محمد - صلى الله عليه وسلم - وشهر به. وهؤلاء أحب الناس إلى قلوب الطغاة، وهم الذين يرتدون عن دينهم سخطة له وتشهيرا به. وكانت الخطة من الدقة والإحكام بحيث لا يوجد فيها ثغرة واحدة. فهدف هذه المجموعة الفدائية أن تكون بكامل سلاحها، ولو جاءت هكذا لشراء البر والتمر لكانت موطن شك وألقي القبض عليها. غير أن أحكام الخطة بأن هذه المجموعة جاءت بسلاحها تسلمه لكعب بن الأشرف رهينة للبر والتمر، فهو أمر مقبول ومستساغ. بل سال لعاب كعب له. أن يحصل على سلاح خمسة من المسلمين يضمه إلى مخازن سلاحه التي عنده ويلهيهم بالتمر والبر. إن أقوى ما يكون في الخطة هي أن تبدو ساذجا مغفلا مع خصمك، وتظهر له انخداعك به حتى يتابع خطته. ولا نزال نذكر موقف تلك الأخت المسلمة التي قبضت عليها المخابرات وهي تحمل وثائق للقيادة، ومن خلال وثيقة السفر التي تحملها تم التأكد من علاقتها مع الحركة، واستعملت معها أساليب التهديد العجيبة، ونقلت إلى ¬

(¬1) سورة هود من الآية 55. (¬2) سورة هود الآية 113.

مركز مخابرات العاصمة وراح يحقق معها شخصيتان كبيرتان من قادة المخابرات وضباطهم الكبار. واستمر التحقيق معها ساعات طويلة، اقنعتهم فيه أنها ستتعامل معهم لصالحهم ضد الجماعة المسلمة. فاحتفوا بها أيما احتفاء ونقلوها إلى أرقى فنادق العاصمة، وأعطوها دفعة دسمة من المال، وأركبوها في السيارة معززة مكرمة إلى القيادة. فإحكام الخطة الذي يزيل الشبهة عنصر أساسي من نجاح المهمة، ومن أجل هذا راح كعب مع المجموعة الفدائية يتمشى دون حرج وهم مدججون بسلاحهم. كما أن أداة الفتك لا بد أن تكون متطورة متناسبة مع طبيعة المهمة، فالمغول الذي استعمله محمد بن مسلمة كان ضروريا للتأكد من مقتل الطاغية، والابتعاد بكعب عن حصنه أمر ضروري جدا حتى لا يقبض عليهم عند الحصن، والمحاولة الأولى من أبي نائلة ليشم عطر كعب الطيب ضرورية كذلك حيث يحكم القبض عليه في المرة الثانية دون أن يفلت منه، ودون أن تتحرك الريبة في قلبه لو وجدهم محيطين به أثناء الاندفاع في الحديث. لقد أثبت الإخوة المجاهدون في الوقت الحاضر كفاءة عالية جدا في اغتيال شخصيات العدو وطغاته وذلك على هدى هذه المجموعة الفدائية. لدرجة أن هذه العمليات استمرت قرابة ثلاث سنوات وعجزت الدولة بمخابراتها وسلطانها أن تتعرف على هوية المنفذين، وكانت تحسبهم من حركة قومية غير الحركة الإسلامية. وأخيرا نلحظ الأثر العظيم لهذا الاغتيال، فلقد قضي على التحرك المعادي للمسلمين في عقر دارهم، وخفتت الأصوات الإعلامية المعادية، وكتب اليهود كتابا وميثاقا بذلك يعلنون تراجعهم عن هذا العداء السافر، ودخل الرعب في قلب العدو لدرجة أنه لم يجرؤ أحد قادتهم على الخروج وحده. وكانت الصورة التي أعلنها محيصة بن مسعود لأخيه أنه على استعداد أن يضرب عنقه لو أمره رسول الله بذلك إيذانا بتعرف العدو على الاستبسال المنقطع النظير لدى هؤلاء المجاهدين، وأن دينهم أقوى من كل شيء في

حياتهم. وهم على استعداد للإطاحة بآبائهم وإخوانهم وأولادهم في سبيل هذا الدين. لقد حقق الاغتيال هدفه، حين أحكمت خطته، ونفذت تمام التنفيذ، ومهمتنا نحن اليوم أن نتقن هذا الفن، ونحكمه. ولا مانع من الاعتراف بالحقيقة. إن هذا الموضوع حين ابتذل من الحركة الإسلامية، وغدا ينصب على الناس العاديين، من المخبرين، وقد يقع أحيانا على متهمين لا مجرمين، فقد قيمته، وولد جوا من التململ والضيق من الناس المحايدين. فلا بد أن تكون عمليات الاغتيال هادفة محققة لعنصر بث الرعب في صفوف المجرمين وكفهم عن التمادي في حرب المسلمين. هـ - مقتل سفيان بن خالد الهندلي بعد أحد: (كان قد بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن سفيان بن خالد نزل عرنة وما حولها في ناس فجمع لحربه. وضوى إليه بشر كثير من أفناء العرب. فبعث عبد الله بن أنيس وحده ليقتله وقال له: انتسب إلى خزاعة. فقال عبد الله بن أنيس: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنعته لي حتى أعرفه قال: إذا رأيته هبته وفرقت منه وذكرت الشيطان، وآية ما بينك وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته، وأذن له أن يقول ما بدا له، وكان ابن أنيس لا يهاب الرجال فأخذ سيفه وخرج حتى إذا كان ببطن عرنة لقي سفيان يمشي وراءه الأحابيش فهابه، وعرفه بالنعت الذي نعت له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد دخل وقت العصر فصلى وهو يمشي يومىء إيماء برأسه. فلما دنا منه قال: من الرجل؟ قال: رجل من خزاعة سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك. ومشى معه يحادثه وينشده، وقال: عجبا لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث فارق الآباء وسفه أحلامهم! فقال سفيان: لم يلق محمد أحدا يشبهني! حتى انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه فقال: هلم يا أخا خزاعة. فدنا منه وجلس عنده حتى نام الناس، فقتله وأخذ رأسه واختفى في غار والخيل تطلبه من كل وجه. ثم سار الليل وتوارى في النهار إلى أن قدم المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فقال: أفلح الوجه! قال: أفلح وجهك يا رسول الله! ووضع الرأس

بين يديه، وأخبره الخبر، فدفع إليه عصا وقال: تخصر بهذه في الجنة، فإن المتخصرين في الجنة قليل. وكانت عنده حتى أدرجت في أكفانه بعد موته (¬1). أما عملية الاغتيال هذه التي قام بها عبد الله بن أنيس وحده. فقد أنهت معركة، وقضت على عدو. وكان لا بد هنا ولما تجف الدماء بعد من أحد. والتحرك بجيش جديد للمدينة، يعني خطرا كبيرا ولا تزال الجراحات تنزف من الجيش المؤمن، واستطاع عبد الله وحده بعون الله أن ينفذ مهمته كاملة، واختباؤه في غار حتى يهدأ الطلب. ومسيره في الليل وكمونه في النهار، يدل على عبقرية تخطيطه اقتداء بهدي قائده محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم الهجرة. وبطن عرنة هو قرب مكة بين عرفات ومزدلفة. وهذا يعني أن المهمة قرب مكة. فهي ذات أثر معنوي ضخم أن تصل قوة محمد إلى حدود مكة. وهو يقض مضاجع قريش بذلك. إن حسن اختيار الأشخاص للمهمات شيء مهم جدا. فابن أنيس وحده أمه يمضي إلى بطن عرنة ويقتل قائد جيش العدو في خبائه. ويختفي في أرضه، بعد أن يحتز رأسه ويعود به إلى المدينة. إنها لبطولة خارقة ولا شك. تذكرنا ببعض العمليات الفدائية التي قام بها الشباب المجاهدون بالشام. إذ كان أخ واحد في سيارته الملغومة يمضي فيفجر أكبر تجمعات العدو دون أن يعثر له على أثر ويقضي على أكبر شخصياته. و- مقتل أبي رافع بعد الخندق: (كان مما صنع الله به لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن هذين الحيين من الأنصار الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصاول الفحلين، لا تضع الأوس شيئا فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غناة إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون: بهذه فضلا علينا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الإسلام. قال: فلا تنتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك. ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت الخزرج: والله لا تذهبون ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 254 - 255.

بها فضلا علينا أبدا، قال: فتذاكروا من رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا سلام بن أبي الحقيق، وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله فأذن لهم. فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث ابن ربعي، وخزاعي بن أسود حليف لهم من أسلم. فخرجوا وأمر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة). قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: (اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب. قال عبد الله بن عتيك: فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق (¬1) على ود (¬2) قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له. فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل قلت: إن القوم لو نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت، قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئا. وصاح فخرجت من البيت ثم دخلت اإليه، فقلت: وما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه ضربة أثخنثه ولم أقتله. ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب. فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك صاح الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز. ¬

(¬1) و (¬2) الأغاليق على ود: المفاتيح على وتد.

فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثثه. فقال أبسط رجلك. فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها (¬1). نموذج فذ فريد مثل عبد الله بن أنيس الذي كان أحد الخمسة الفدائيين اليوم ابن عتيك. ولئن كان ابن أنيس قد قتل سفيان في خبائه، فابن عتيك قد اقتحم على سلام بن أبي الحقيق حصنه، واغتاله في فراشه، وهو أعلى مستوى يمكن أن تصل إليه عبقرية الاغتيال، في فراشه وبين أهله، وتصبح مفاتيح الحصن والبيت بيده، وهو في خيبر، في قلب حصون العدو، حيث أمضى المسلمون فيما بعد قرابة شهر وهم يفتحون هذه الحصون. وتذكر بعض الروايات أن أم عبد الله بن عتيك كانت في خيبر وهي التي هيأت له ولسريته الدخول إلى حصونها، ولا يبعد ذلك غير أن رواية البخاري لم تذكر ذلك. والجرأة العجيبة التي أدى ابن عتيك تحير اللب وتذهل العقل، لقد غامر أولا بإغلاق الأبواب. وحسب أسوأ الاحتمالات أن يصل العدو إليه، لكنه لن يمكن أهل خيبر من الوصول إليه قبل أن يصل إلى عدو الله أبي رافع فيجهز عليه، ثم غامر ثانيا فاختبأ، وأصبح الخطر جاثما حوله لأنه لم يحقق هدفه بعد، وتقدم نفسه يسأل أبا رافع عن الصوت ليتأكد من مكانه فيه. ثم غامر ثالثا. بأن كمن حتى تأكد من مقتل أبي رافع، علما بأن ساقه قد كسرت، فنسي ساقه من أجل تحقيق مهمته، ثم مضى إلى رفاقه، فغادروا خيبر متجهين إلى المدينة. ولم يتخل عن مهمته حتى أنفذ السيف في بطنه إلى أن خرج من ظهره. إنها أمثولة خالدة نضعها بين يدي المجاهدين نموذجا حيا لتنفيذ المهمات الموكلة إليه. وتطالعنا كذلك صورة التنافس الكبير بين الحيين العظيمين في القضاء على أعداء الله، وهو تنافس محبب يحسن أن يتحرك بين المجاهدين حرصا على مرضاة الله، ويتسابقون في القضاء على خصوم الإسلام وهم ¬

(¬1) صحيح البخاري 2/ 577.

يحاربون هذه الدعوة. وسيان كانت هذه المنافسة من خلال المجموعات أو البلدان أو الأحياء. فهي تنتهي في حرب الطغاة وإبادة رؤوس الكفر. وتطالعنا كذلك، الآثار الضخمة لهذه العملية التي أشعلت الرعب في صفوف اليهود في خيبر وعرفوا أن يد المسلمين تطالهم في مضاجعهم، وتجتثهم من بين أحضان نسائهم وتجتالهم من منيع حصونهم. إن حرب الرعب حرب إسلامية يحدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها بقوله: نصرت بالرعب مسيرة شهر (¬1)، ويوم نخسر هذه الحرب نخسرها عقوبة كذلك، كما حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولينزعن من قلوب أعدائكم المهابة منكم (¬2). فحين نخلص في الغاية، ونحسن التخطيط في الوسيلة، تنفتح أمامنا مغاليق العدو، ويصبح منالا سهلا وهدفا حيويا بمتناول اليد، وحين تختل الغاية، وتختل الوسيلة، فيصبح هذا السلاح بيد العدو. لقد رأينا عبد الله بن عتيك رضي الله عنه يقوم بكل هذه العمليات الضخمة جهدا جسديا، وجهدا عبقريا مفكرا، وينال أكبر رأس من رؤوس الطغاة. ومع ذلك يأتي ليقول لإخوانه: النجاء فقد قتل الله أبا رافع. ولم يقل لهم: النجاء. فقد قتلت أبا رافع. إن عظمة العبودية لله عز وجل عنده أن لا ينسب القتل إليه مع أنه هو الذي خطط ونفذ وتأكد من نجاح مهمته، وأصيبت رجله. نحن بحاجة لمثل هذه النفسيات التي تخلص الغاية له، وتحسن الوسيلة وتحكمها وتهيء لها وسائلها ليتاح لنا النصر على أعدائنا، ولا حرج عندئذ في التنافس في الجهاد في سبيل الله، فلم يبحث الخزرج عن رجل عادي يقتلونه نفاسة للأوس، بل بحثوا عن رأس من رؤوس الطغاة على مستوى كعب بن الأشرف، ونود أن لا يدفعنا التنافس إلى هم الفنك فقط، بل لا بد من البحث عن طاغية جبار عنيد يكافىء الجهد المبذول لذلك. ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) [من حديث رواه أبو داود، والبيهقي في (دلائل النبوة)].

السمة التاسعة عشرة الحرب الإعلامية ودورها في المعركة

فالتوفيق الإلهي يوم يتم في مثل هذه الأمور المعقدة لا يتم جزافا، إنما يتم ضمن سنن جارية سنها الله تعالى لتوفيقه، ويوم نجد ضخامة في الجهود المبذولة وفشلا كبيرا في التنفيذ، فإن هذا يعني أن خللا ضخما كذلك قد وقع في نياتنا، وفي إخلاصنا وفي قلوبنا ففاتنا الهدف. {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا (¬1)}. {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا (¬2)}. السمة التاسعة عشرة الحرب الإعلامية ودورها في المعركة كانت بوادر الحرب الإعلامية قد ابتدأت منذ الهجرة، غير أن ملامحها بدأت تتضح رويدا رويدا في بعض السرايا قبيل بدر، لكنها انفجرت انفجارا ضخما بعد بدر. لأن الجانب الإعلامي للقبائل المجاورة كان هدفا مهما من أهداف الفريقين، ويظهر أن الأشعار سرعان ما تطير بها الركبان بين يثرب ومكة. فيأتي الرد من الطرف الآخر. لكن عند النصر تكثر أشعار الفريق المنتصر بينما تكثر المراثي عند الفريق الثاني. لقد دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعركة بأسلحة غير متكافئة في العدد والعدة، أما في مجال الشعر فلم يكن الأمر كذلك، فإضافة إلى المقلين من الصحابة الذين يكتفون بقطعة أو قطعتين كان هناك الشعراء المتخصصون حسان بن ثابت على رأسهم رضي الله عنه، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وكان أشدهم على الكفار حسان. ¬

(¬1) الطلاق من الآية 2 و3. (¬2) الطلاق من الآية 4.

في بدر كانت المعاني التي انصب عليها شعر بدر كله تتناول من قبل المسلمين قتلى القليب، السراة من قريش. وقلما يوجد شاعر لم يتناول هذا الجانب، ثم يربط الشعراء هذه الهزيمة النكراء بالبغي والطغيان من قريش، وأن جزاء هذا البغي النار في الآخرة والخزي والذل في الدنيا. وتعير الذين لاذوا بالفرار، والذين وقعوا في ذل الأسر، وتشمت بالنائحين والنائحات على قتلاهم. ثم تحمل دعوة لقريش أن ترعوي عن غيها وتفيء إلى الله ورسوله، كما يتوضح الفخر الكبير بالنصر المؤزر الذي ناله المسلمون تحت راية محمد - صلى الله عليه وسلم - ومدد جبريل والملائكة معه. هذا في الجانب الإسلامي. ومن نماذجه قول كعب رضي الله عنه: فلما لقيناهم وكل مجاهد ... لأصحابه مستبسل النفس صابر وقد عريت بيض خفاف كأنها ... مقاييس يزهيها لعينيك شاهر بهن أبدنا جمعهم فتبدوا ... وكان يلاقي الحين من هو فاجر فكب أبو جهل صريعا لوجهه ... وعتبة قد غادرته وهو عاثر وشيبة والتيمي غادرن في الوغى ... وما منهم اإلا بزي العرش كافر فأمسوا وقود النار في مستقرها ... وكل كفور في جهنم صائر وقول حسان رضي الله عنه: طحنتهم والله ينفذ أمره ... حرب بثب سعيرها بضرام لولا الإله وجريها لتركنه ... جزر السباع ودسنه بحوام من بين مأسور يشد وثاقه ... صقر إذا لاقى الأسنة حامي ومجدل لا يستجيب لدعوة ... حتى تزول شوامخ الإعلام ولم ينس أن يعير الحارث بن هشام لفراره: إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام (¬1) ¬

(¬1) ابن هشام 3/ 15.

بينما نجد الجانب الجاهلي ينصب على الرثاء. فهذا الحارث يرثي أبا جهل: ألا يالهف نفسي بعد عمرو ... وهل يغني التلهف من قتيل وهند بنت عتبة التي كانت تفاخر بمصيبتها العرب: أعيني جودا بدمع سرب ... على خير خندق لم ينقلب تداعى له رهطه غدوة ... بنو هاشم وبنو المطلب يذيقونه حد أسيافهم ... يعلونه بعدما قد عطب كما يهاجمون المسلمين بتخليهم عن عشيرتهم، وتعاونهم مع الغرباء ضد قومهم: أصيبوا كراما لم يبيعوا عشيرة ... بقوم سواهم نازحي الدار والأصل كما أصبحت غسان فيكم بطانة ... لكم بدلا منا فيا لك من فعل عقوقا وإثما بينا وقطيعة ... يرى جؤركم فيها ذوو الرأي والعقل ولا ينسون التهديد بالثأر من المسلمين، وخاصة الخزرج والأوس: فإن تك قتلى غودرت من رجالنا ... فإما رجال بعدهم سنغادر ووسط بني النجار سوف نكرها ... لها بالقنا والدارعين زوافر فنترك صرعى تعصب الطير حولهم ... وليس لهم إلا الأماني ناصر وما يتمالك الشاعر الجاهلي أمام عصبيته أن يعيد النصر إلى المهاجرين من قريش، فيثني عليهم عصبية وحمية. فإن تطفروا في يوم بدر فإنما ... بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر وبالنفر الأخيار هم أولياؤه ... يحامون في اللأواء والموت حاضر يعد أبو بكر وحمزة فيهم ... ويدعى علي وسط من أنت ذاكر ويدعى أبو حفص وعثمان منهم ... وسعد إذا ما كان في الحرب حاضر أولئك لا من نتجت من ديارها ... بنو الأوس والنجار حين تفاخر وتظهر المتناقظات كذلك لدى طالب بن أبي طالب ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو يعتز بمحمد ولا يخفي هواه معه، ثم يبكي أصحاب القليب من قريش من جهة ثانية.

ألا إن عينى انفذت دمعها سكبا ... نبكي على كعب وما إن ترى كعبا ألا إن كعبا في الحروب تخاذلوا ... وأرداهم ذا الدهر واجترحوا ذنبا فما أن جنينا في قريش عظيمة ... سوى أن حمينا خير من وطىء التربا لكنه يناشد قومه أن يكفوا عن حرب أبناء قومهم: فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا ... فدا لكما لا تبعثوا بينكم حربا ولا تصبحوا من بعد ود وإلفة ... أحاديث فيها كلكم يشتكي النكبا ألم تعلموا ما كان من حرب داحس ... وجيش أبي يسكوم إذ ملأوا الشعبا ثم يدعو بعدها للثأر من الخزرج: فوالله لا تنفك نفسي حزينة ... تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا (¬1) وراحت العرب التي عرفت أخبار بدر من الشعر ترقب الجولة القادمة بين المسلمين وقريش. وحتفت كلها تخاف سطوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولا ننسى كذلك أن مقتل كعب بن الأشرف كان درسا قاسيا للذين يريدون نصرة قريش في مواقفهم وأشعارهم. في أحد والمحنة سنة واحدة فقط بين الغزوتين، وقد دالت الدولة على المسلمين، وثأر المشركون منهم. فبحت أصواتهم في الفخر بالنصر، والتغني بالأمجاد. سقنا كنانة من أطراف ذي يمن ... عرض البلاد على ما كان يزجيها نحن الفوارس يوم الجر من أحد ... هابت معد فقلنا نحن نأتيها ثمت رحنا كأنا عارض برد ... وقام هام بني النجار يبكيها كأن هامهم عند الوغى خلق ... من قيض ربد نفته عن أداحيها لكن لدى المسلمين فخر كذلك في أحد حيث قتلوا حملة اللواء واحدا بعد الآخر. شددنا بحول الله والنصر شدة ... عليكم وأطراف الأسنة شرع ¬

(¬1) مقتطفات من السيرة لابن هشام من الصفحات 9 - 45.

عمدنا إلى أهل اللواء ومن يطر ... بذكر لواء فهو في الحمد أسرع فخانوا وقد أعطوا يدا وتخاذلوا ... ابى الله إلا أمره وهو أصنع لكن قتلى المسلمين كثر، خاصة من الكرام الصيد من الخزرج والأوس. كم قتلنا من كريم سيد ... ماجد الجدين مقدام بطل ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل حين حكت بقباء بركها ... واستمر القتل في عبد الأشل فقتلنا الضعف من أشرافهم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل فيرد حسان رضي الله عنه أن أحدا كانت جولتين لا جولة أحد: ولقد نلتم ونلنا منكم ... وكذاك الحرب أحيانا دول نضع الأسياف في أكتافكم ... حيث نهوي عللا بعد نهل إذ ترلون على أعقابكم ... هربا في الشعب أشباه الرسل إذ شددنا شدة صادقة ... فأجأناكم إلى سفح الجبل ولا ينسى كعب بن مالك رضي الله عنه وهو يرثي حمزة بن عبد المطلب، والشهداء معه أن يتحدث عن نعيم الجنة التي أعدها الله للشهداء. وأشياع أحمد إذ شايعوا ... على الحق ذي النور والمنهج فما برحوا يضربون الكماة ... ويمضون في القسطل المرهج كذلك حتى دعاهم مليك ... إلى جنة دوحة المولج فكلهم مات حر البلاء ... على ملة الله لم يحرج أولئك لا من ثوى، منكم ... من النار في الدرك المرتج. وهذه ميزة هذه العقيدة، فالشاعر الجاهلي، تأكل المرارة قلبه وهو يبكي صرعاه، أما الشاعر المسلم فيرى في الشهادة دعوة زفت إلى الشهيد من المليك تعالى للنزل عنده. وحين يصر الشاعر الجاهلي على النيل من الخزرج والأوس. ثم يعرج على المهاجرين.

فغادرن قتلى الأوس عاصبة بهم ... ضباع وطير يعتضين وقوع وجمع بني النجار في كل تلعة ... بأبدانهم من وقعهن نجيع ولولا علو الشعب غادرن أحمدا ... ولكن علاء السمهري شروع كما غادرت في الكر حمزة ثاويا ... وفي صدره ماضي الشباة وقوع لا يدعه الشاعر المسلم دون أن يذكره بصبر الأوس والخزرج تحث راية محمد - صلى الله عليه وسلم -: فقد صابرت فيهم بنو الأوس كلهم ... وكان لهم ذكر هناك رفيع وحامى بنو النجار فيه وصابروا ... وما كان منهم في اللقاء جزوع وهؤلاء الذين تنالون منهم هم سادتكم في القوم، محمد وحمزة وعلي وغيرهم: أولئك قوم سادة في فروعكم ... وفي كل قوم سادة وفروع بهن تعز الله حتى يعزنا ... وإن كان أمر يا سخين فظيع فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم ... قتيل ثوى لله وهو مطيع فإن جنان الخلد منزلة له ... وأمر الذي يقضي الأمور سريع وقتلاكم في النار أفضل رزقهم ... حميم معا في جوفها وضريع وهذا هو محور المنافسة في نهاية المعركة، فأبو سفيان يصرخ، أعل هبل، فيأتيه الجواب: الله أعلى وأجل. ويعيد أبو سفيان فخره: لنا العزى ولا عزى لكم. فيرتد عليه فخره: الله مولانا ولا مولى لكم، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، غير أن هندا لم ترو ظمأها في أحد، ولم تشتف ثأرها حتى حين بقرت بطن حمزة عن الكبد. رجعت وفي نفسي بلابل جمة ... وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي من أصحاب بدر من قريش وغيرهم ... بني هاشم منهم ومن أهل يثرب ولكنني قد نلت شيئا ولم يكن ... كما كنت أرجو في مسيري ومركابي (¬1) ¬

(¬1) مقتطفات من السيرة لابن هشام ص 136 - 178.

وتتالت المحن على المسلمين، فأخذت سرية الرجيع منهم مأخذا أليما. لكن أبيات خبيب مضت مثلا سائرا على الثبات على المبدأ: لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وكلهم مبدي العداوة جاهد ... علي لأني في وثاق بمصيع وقد خيروني الكفر، والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع وما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري جحم نار ملفع فوالله ما أرجو إذا مت مسلما ... علي أي جنب كان في الله مصرع فلست بمبد للعدو تخشعا ... ولا جزعا إني إلى الله مرجع وما كان لمثل خبيب أن لا يرثى وقد اغتالته قريش وصلبته على الجذع: ما بال عينك لا ترقا مدامعها ... سحا على الصدر مثل اللؤلؤ القلق على خبيب فتى الفتيان قد علموا ... لا فاشل حين تلقاه ولا نزق فاذهب خبيب جزاك الله طيبة ... وجنة الخلد عند الحور في الرفق وبين الهجاء للغادرين، والرثاء للشهداء. كان حسان يخوض حربه فمن أقذع ما قال حسان بالغادرين: إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له ... فأت الرجيع فسل عن دار لحيان قوم تواصوا بأكل الجار بينهم ... فالكلب والقرد والإنسان مثلان لو ينطق التيس يوما قام يخطبهم ... وكان ذا شرف فيهم وذا شان (¬1) أما الشهداء فقد نظمهم في سلك واحد: صلى الإله على الذين تتابعوا ... يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا رأس السرية مرثد وأميرهم ... ابن البكير إمامهم وخبيب وابن لطارق وابن وثنة منهم ... وافاه ثم حمامة المكتوب والعاصم المقتول عند رجيعهم ... كسب المعالي إنه لكسوب منع المقادة أن ينالوا ظهره ... حتى يجالد إنه لنجيب (3) ومع اشتعال غزوة بني النضير، عادت حرب الشعر فاشتعلت من ¬

(¬1) السيرة لابن هشام / 189 و192.

جديد، وفي هذه المعركة لا بد من دحض افتراءات اليهود أنهم على الحق، وأنهم أهل الكتاب الأول: لقد خزيت بغدرتها الحبور ... كذاك الدهر ذو صرف يدور وقد أوتوا معا فهما وعلما ... وجاءهم من الله النذير فقالوا ما أتيت بأمر صدق ... وأنت بمنكر منا جدير فلما أشربوا عذرا وكفرا ... وحادبهم عن الحق النفور فغودر منهم كعب صريعا ... فذلت بعد مصرعه النضير فتلك بنو النضير بدار سوء ... أبارهم بما اجترموا المبير لكن اليهود وقد غلبهم الحقد الدفين لم يجدوا ما يردون به على المسلمين غير التغني بأمجاد قريش وأحد: قتلتم سيد الأحبار كعبا ... وقدما كان يأمن من يجير فإن نسلم لكم نترك رجالا ... بكعب حولهم طير تدور كما لاقيتم من بأس صخر ... بأحد حيث ليس لكم نصير وطالما أن ملة الكفر واحدة، فحن على بني النضير عباس بن مرداس أخو بني سليم: فبك بنى هارون واذكر فعالهم ... وقتلهم للجوع إذ كنت مجدبا سراع إلى العليا، كرام لدى الوغى ... يقال لباغي الخير أهلا ومرحبا وكان الرد عنيفا عليه في تخليه عن أرومته العربية: فهلا إلى قوم ملوك مدحتهم ... تبنوا من العز المؤثل منصبا أولئك أحرى من يهود بمدحة ... تراهم وفيهم غزة المجد ترتبا (¬1) والعرب لا تزال ترمق الموعد الجديد بين محمد وقومه بدر الآخرة. فلم يدع المسلمون تخاذل أبي سفيان عن حضورها يمر دون هجاء وسُبة: وعدنا أبا سفيان بدرا فلم تجد ... لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما وافتقدت المواليا ¬

(¬1) السيرة النبوية: مقتطفات من الصفحات 209 - 221.

تركنا به أوصال عتبة وابنه ... وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا وحاول أبو سفيان أن يعتذر لكن السبة لحقته، فقد فر من المواجهة. الخندق وآثاره بين العرب لقد كانت قبائل العرب واقفة على الحياد بين الفريقين. تنتظر لمن الغلبة حتى تنضم إليه، ولا شك أن الدوي الضخم الذي رافق تحرك الأحزاب، كان له خطر كبير على الوجود الإسلامي، لكن فشل الهجوم كذلك، أيأس العرب من إمكان القضاء على هذا الدين الجديد، وحاول كلا الفريقين في الإذاعة الطائرة أن يفت من طافة الآخر، ضرار بن الخطاب الفهري يفخر بالحصار، والتجمع الضخم الذي غزوا به محمدا ويصمهم بالفرار من المواجهة: فأحجرناهم شهرا كريتا ... وكنا فوقهم كالقاهرينا نراوحهم ونغدو كل يوم ... عليهم في السلاح مدججينا فلولا خندق كانوا لديه ... لدمرنا عليهم أجمعينا ولكن حال دونهم وكانوا ... به من خوفنا متعوذينا وكان مقتل سعد بن معاذ أكبر هدف تحقق عندهم في الحصار، كما كان الحمزة في أحد: فإن نرحل فإنا قد تركنا ... لدى أبياتكم سعدا رهينا إذا جن الظلام سمعت نوقى ... على سعد يرجعن الحنينا ثم يهدد ويتوعد بالغزو ثانية فيقول: وسوف نزوركم عما قريب ... كما زرناكم متوازرينا بجمع من كنانة غير عزل ... كأسد الغاب قد حمت العرينا فيحول كعب بن مالك الخندق إلى عرين الأسد: بباب الخندقين كأن أسدا ... شوابكهن يحمين العرينا

وهو رد نفس المقولة أن جمعهم أسد غاب تحمي العرين. وأما مقتل سعد رضي الله عنه، فالجنة مثواه، ولن يضيره غيظهم وحقدهم: فإما تقتلوا سعدا سفاها ... فإن الله خير القادرينا سيدخله جنانا طيبات ... تكون مقامة للصالحينا لكن العار الذي جلل قريشا وغطفان هو فشل هجومها، وعودتها بالخزي والخيبة. كما قد ردكم فلا شريدا ... بغيظكم خزايا خائبينا خزايا لم تنالوا ثم خيرا ... وكدتم أن تكونوا دامرينا بريح عاصف هبت عليكم ... فكنتم تحتها متكمهينا لكن الكارثة الكبرى التي حلت بالمشركين تعادل مقتل سعد رضي الله عند المسلمين هي مقتل عمرو بن عبد ود العامري، فارس قريش الأول: فهو عند مسافع بن عبد مناف الجمحي: عمرو بن عبد كان أول فارس ... جزع المذاد وكان فارس بليل سمح الخلائق ماجد ذو مرة ... يبغي القتال بشكة لم ينكل ولقد علمتم حين ولوا عنكم ... أن ابن عبد فيهم لم يعجل ومع ذلك فيضطر ذليلا للاعتراف ببطولة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الذي صرعه: تسل النزال علي فارس غالب ... بجنوب سلع ليته لم ينزل فاذهب علي فما ظفرت بمثله ... فخرا ولا لاقيت مثل المعضل نفسي الفداء لفارس من غالب ... لاقى حمام الموت لم يتحلحل والعار الآخر الذي جللهم هو فرار الفوارس من حوله: عمرو بن عبد والجياد يقودها ... خيل تقاد له وخيل تنعل أجلت فوارسه وغادر رهطه ... ركنا عظيما كان فيها أول وهبيرة المسلوب ولى هاربا ... عند القتال مخافة أن يقتلوا

وضرار كان البأس منه محضرا ... ولى كما ولى اللئيم الأعزل مما اضطر هبيرة بن أبي وهب أن يدفع العار عن نفسه، ويرثي عمرا صاحبه: لعمري ما وليت ظهري محمدا ... وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل ولكنني قلبت أمري فلم أجد ... لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلي فلا تبعدن يا عمر وحيا وهالكا ... وحق لحسن المدح مثلك من مثلي ولا يجد مندوحة بالرغم عنه من الثناء على البطل المغوار علي: فعنك علي لا أرى مثل موقف ... وقفت على نجد المقدم كالفحل فما ظفرت كفاك فخرا بمثله ... أمنت به ما عشت من زلة النعل أما بنو قريظة والذل الذي حاق بهم فلا بد أن تتحدث عنه الإذاعة الطائرة كذلك وتربطه بسعد بن معاذ رضي الله عنه الذي حكم عليهم بحكم الله من فوق سبع سموات قبل أن يفضي إلى ربه: لقد سجمت من دمع عيني عبرة ... وحق لعيني أن تفيض على سعد قتيل ثوى في معرك فحفت به ... عيون ذواري الدمع دائمة الوجد على ملة الرحمن وارث جنة ... مع الشهداء وفدها أكرم الوفد فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد ... كريم وأثواب المكارم والمجد بحكمك في حيي قريظة بالذي ... قضى الله فيهم ما قضيت على عمد فوافق حكم الله حكمك فيهم ... ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى ... شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد فنعم مصير الصادقين إذا دعوا ... إلى الله يوما للوجاهة والقصد بينما كان اليهود يجترون آلامهم بمقتل سراتهم وساداتهم. فلقد قضى رجال بني قريظة جميعا جزاء غدرهم وخيانتهم. لقد وجدنا الحرب الإعلامية للمسلمين تواكب تماما الحرب العسكرية، وكانت هي التي تمثل لسان الناطق الرسمي بنتائج الحرب والمعارك عند العرب. فمن ديوان الأشعار يتعرف العرب على الأحداث. ولم يكن هذا

الأمر كذلك بالنسبة للمسلمين. إذ كان القرآن الكريم بالنسبة لهم هو مصدر التلقي والحكم على الأحداث، ولم يكونوا يعيرون التفاتا فيما بينهم للشعر بعد أنصار الوحي هو موطن التربية بالنسبة لهم. لقد كان الشعر للرد على العدو الذي لا يؤمن بالقرآن الكريم. واستطاع الشعراء المسلمون أن يخوضوا معارك الشعر كلها دون حرج أو تلجلج من أي ميدان. تكلموا بقيم العرب، وطرحوا مفاهيم الإسلام من خلال الشعر، ولم يتركوا مثلبة عربية يطعن منها الأعداء إلا وردوها عليهم. وما أحوج الحركة الإسلامية اليوم التي تخوض معركتها العسكرية أن تعطي الجانب الإعلامي حقه، وطبيعة الحرب العالمية اليوم حرب إعلامية. فالمعسكران يبتعدان ما استطاعا عن الصدام والمواجهة العسكرية. لكن حربهم المستمرة اليومية تنطلق من وسائل الإعلام. وإن ثقة الناس بإعلام الحركة يعني ثقة الناس بها، فهم يحكمون على الحركة الجهادية من خلال إذاعتها ومجلاتها ونشراتها. وإذا كان الشعر وحده أيام الرسالة الأولى هو الوسيلة الإعلامية الأكبر إن لم تكن الأوحد فوضعنا اليوم يختلف كثيرا عن سالفه. إن وسائل الإعلام اليوم تسد الأفق، ولا يأخذ الشعر إلا حيزا محدودا جدا منها. فهناك الموعظة والخطبة والمقالة والأقصوصة والقصة والتعليق السياسي، والتحليل الأخباري والمادة الأخبارية، والأناشيد الحماسية، كل هذه ذات أثر خطير في الواقع الإعلامي. إضافة إلى وسائل البث الإعلامي، من إذاعة وتلفاز وجريدة ومجلة وكتاب وتسجيل سمعي وبصري. كلها غدت تتحكم في قلوب البشر وعقولهم وتفكيرهم، وتوجه قناعاتهم وتبني عقائدهم. إن المعركة من الخطورة والدقة والأهمية ما يجعل الحكم على نجاح المعركة من خلال نجاح إعلامها والثقة به والتعامل معه، وأملنا كبير أن توجه الحركة الإسلامية طاقاتها لتكوين الاختصاصيين المبدعين في هذا الفن،

السمة العشرون ازدياد العدد والعدة

ويملكوا مقود الفكر والعاطفة، ليحققوا القاعدة الأساس التي يقوم عليها صرح البناء الجهادي. فيكون كما قال عز وجل: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (¬1)}. إنها مواصفات واضحة للكلمة الطيبة. إنها من الأصالة والصدق ضاربة جذورها في الأرض، فلا يزعزعها كل بهرج الدنيا وزخرفها. وهي من جهة ثانية منتشرة في كل صقع، وطالت فروعها الباسقة حتى عمت الأرض وامتدت للسماء. وهيمن جهة ثالثة مثمرة ترعاها عناية الله، تحقق أهدافها التي قامت من أجلها. كاملة، ويكون ثمرها مذاقا لكل قارىء أو راء أو سامع. وفقدان أي من هذه المواصفات الثلاثة يعني أننا لم نصل بعد إلى الكلمة الطيبة التي نريد. السمة العشرون ازدياد العدد والعدة لقد كانت أول سرية أرسلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأس سبعة أشهر من مقدمه المدينة هي سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر يعترضون عيرا لقريش قد جاءت من الشام تريد مكة فيها أبو جهل في ثلاثمائة راكب. وكان عدد أفراد هذه السرية ثلاثين راكبا، كلهم من المهاجرين. وحين ينظر المرء إلى خطوات الجهاد الأولى التي ابتدأت بثلاثين راكبا ويلاحظ أنها ارتفعت وخلال خمس سنوات إلى ثلاثة آلاف جندي في غزوة الخندق، يلاحظ مدى التقدم الضخم الذي أحرزه الجيش الإسلامى في المدينة. وملاحظة أخرى كذلك من حيث العدة. فالخيل من أهم عناصر الحرب على الإطلاق، والخيل معقود في نواصيها ¬

(¬1) سورة إبراهيم / 42 - 25.

الخير إلى يوم القيامة كما يقول عليه الصلاة والسلام. فإذا أعدنا إلى الذاكرة غزوة بدر وأنه لم يكن لدى المسلمين فيها إلا فرسان. ثم نذكر أن خيل المسلمين في الخندق بلغت مئتي فرس، تبين مدى التقدم العسكري الضخم في هذا المجال. حتى الإبل في بدر كان كل ثلاثة من المسلمين يتعقبون بعيرا. أي كان عند المسلمين حوالي سبعين من الإبل، يكفي أن نذكر أن غنائمهم من بدر وحدها كانت مائة وخمسين بعيرا. أما السلاح فحدث ولا حرج. كان سلاحهم في بدر السيوف في الخرق. فلننظر إلى بعض الغنائم التي حصل عليها المسلمون من أعدائهم في هذا المجال. كانت غنائم بني قينقاع من السلاح: ثلاث قسي، وثلاثة سيوف وثلاثة رماح ودرعين ووجدوا في منازلهم سلاحا كثيرا وآلة الصياغة. ولم تكن غنائم بنى فينقاع لتذكر في هذا المجال لأنهم مضوا بسلاحهم. وكان اليهود يمثلون ترسانة أسلحة عندهم ويقومون بصنعها. وعندما حاول بنو النضير أن يخرجوا بأسلحتهم منعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بتسليم سلاحهم وكما يقول النص: (ثم نزلت يهود على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة (أي السلاح (¬1)). (وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأموال والحلفة فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا (¬2)). أما غنائم بني قريظة فكانت كالتالي: (وجمعت أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب فوجد فيها ألف وخمسمائة وثلاثمائة درع وألفا رمح، وألف وخسمائة ترس وجحفة .. (¬3). وبذلك غدا للمسلمين قوة ضخمة من السلاح والرجال وتحولت معظم قوة العدو من اليهود إلى المسلمين. إضافة إلى ما كانوا يبتاعونه من الأسواق. فكانت كل أنواع السلاح متوفرة عندهم. صحيح أن المسلمين ما خاضوا معركة مع عدوهم إلا كانوا أقل من عدوهم عددا وعدة، وكانوا بإيمانهم وثباتهم أقوى من خصومهم، لكن هذا ¬

(¬1) و (¬2) إمتاع الأسماع 1/ 181. (¬3) إمتاع الأسماع 1/ 245.

السمة الحادية والعشرون الجهد البشري في البذل

التطور في العدد والعدة، يعني أن مقومات الدولة أصبحت أكبر، وأن إمكانية القضاء عليهم أصبح ميؤوسا منها. فقد كان أبو جهل يقول عندهم في بدر، إنهم أكلة جزور يقلل من عددهم وقيمتهم. غير أن الصورة اختلفت اليوم، وازدادوا عشرة أضعاف ما كانوا عليه. وواجب الحركة الإسلامية حين تقرر خوض معركة مع العدو، أن تكون على مستوى الأحداث وتهيء من السلاح والرجال ما يؤهلها لخوض هذه المعركة إضافة إلى الجانب الإيماني الذي لا يملكه غير المؤمنين سلاحا متميزا في المعارك. السمة الحادية والعشرون الجهد البشري في البذل فليس المهم الأرقام الحسابية في الحرب، لا بد من النوعية الجيدة وكما يقول القرآن الكريم. {... إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة بغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف بغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين (¬1)}. فهذا يعني أن المؤمن القوي بعشر أضعافه من الكفار، وأن المؤمن الضعيف بضعفين والأمر في تفاوته بقدر المدى الإيماني عند المسلم، وهذا التفاوت هو الذي يجعلنا ننظر إلى المستويات العليا من التضحية والبذل حتى لا نتصور أن النصر جاء بدون هذه التضحيات، ولكن يكون لها في هذه الفقرة أكثر من التنسيق والعرض لتكون هذه النماذج حية في أذهاننا وقلوبنا. أ - من بطولات بدر: 1 - (بعثت قريش عمير بن وهب الجمحي ليحزر المسلمين فلما لم ير لهم مددا ولا كمينا رجع فقال: القوم ثلاثمائة إن زادوا زادوا قليلا، معهم سبعون بعيرا وفرسان ثم قال: يا معشر قريش، ألبلايا تحمل المنايا، نواضح ¬

(¬1) الأنفال الآية: 65، 66.

يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليست لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل منكم رجلا. فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خير في العيش بعد ذلك، فروا رأيكم (¬1)). 2 - يقول عليه الصلاة والسلام للمسلمين في بدر: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، فقال عمير بن الحمام بخ بخ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا، يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: إنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل (¬2). وكذلك سأله عوف بن الحارث. ما يضحك الرب من عبده! قال: غمسه يده في العدو حاسرا فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل (¬3). 3 - قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة (¬4) وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه. قال: فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه. فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها، قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي، واجهضني القتال عنه. فلقد قاتلت عامة يومي هذا وأنا أسحبها خلفي. فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها. ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق (¬5). ¬

(¬1) إمتاع الأسماع: 1/ 82 - 83. (¬2) رواه مسلم، 2/ 139. (¬3) مشكاة المصابيح 2/ 331. (¬4) الحرجة: الشجر الملتف وشبه رماح المشركين حوله بذلك. (¬5) الرحيق المختوم عن ابن إسحاق 245.

4 - وفي الصحيح أن الزبير لقي عبيدة بن سعد بن العاص وهو مدجج في السلاح لا يرى منه إلا الحدق، فحمل عليه الزبير بحربته فطعنه في عينه فمات، فوضع رجله على الحربة ثم غطى وكان الجهد أن نزعها وقد انثنى طرفها. فسأله إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه إياها (¬1). 5 - لما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسود المخزومي، حين دنا من الحوض: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه. فشد حتى دنا منه. فاستقبله حمزة بن عبد المطلب فضرب فأطن قدمه. فزحف الأسود حتى وقع في الحوض، فهدمه برجله الصحيحة وشرب منه وحمزة يتبعه فضربه في الحوض فقتله. فدنا بعضهم من بعض وخرج عتبة وشيبة والوليد ودعوا إلى المبارزة. فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار فتيان وهم معاذ ومعوذ وعوف بنو عفراء، ويقال ثالثهم عبد الله بن رواحة. فاستحيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكره أن يكون أول قتال في الأنصار، وأحب أن تكون الشوكة ببني عمه وقومه فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم وقال لهم خيرا. ثم نادى منادي المشركين: أخرج إلينا الأكفاء من قومنا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: يا بني هاشم، قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاؤوا بباطلهم ليطفئوا نور الله، فقام علي وحمزة وعبيدة بن الحارث بن المطلب، فمشوا إليهم، وكان علي رضي الله عنه معلما بصوفة بيضاء فقال عتبة لابنه قم يا وليد فقام فقتله علي. ثم قام عتبة فقتله حمزة ثم قام شيبة فقام إليه عبيدة فضربه شيبة فقطع ساقه. فكر حمزة وعلي فقتلا شيبة واحتملا عبيدة إلى الصف. فنزلت هذه الآية: {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم} الحج - 19 (¬2)). ب - بطولات من أحد: 6 - كان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري. وكان من أشجع فرسان قريش، يسميه المسلمون كبش الكتيبة. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن محمد بن عبد الوهاب 187. (¬2) إمتاع الأسماع 1/ 84 - 85.

خرج وهو راكب على جمل، يدعو إلى المبارزة فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته. ولكن تقدم إليه الزبير، ولم يمهله بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه عنه، وذبحه بسيفه ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الصراع الرائع. فكبر وكبر معه المسلمون وأثنى على الزبير وقال في حقه: إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير (¬1). 7 - تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال وهو يقول: إن على أهل اللواء حقا ... أن تخضب الصعدة أو تندقا فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه على عاتقه بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته. ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته فأدلع لسانه ومات لحينه. وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز فتقدم إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين، فضربه علي فقتله. ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم فقتله. فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة. فانقض عليه الزبير ابن العوام وقاتله حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته. وقيل: بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم ففضى عليه. هؤلاء ستة نفر من بيت واحد بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار قتلوا جميعا حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطأة بن شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب، وقيل: حمزة بن عبد المطلب، ثم حمله شريح بن قازط فقتله قزمان .. ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري فقتله فزمان أيضا، ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضا. ¬

(¬1) الرحيق المختوم عن السيرة الحلبية 288.

فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار من حملة اللواء أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء. فتقدم غلام لهم حبشي اسمه صواب فحمل اللواء وأبدى من صنوف الشجاعة والثباث ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه، لئلا يسقط حتى قتل وهو يقول: اللهم أعزرت؟ يعني هل أعزرت. وبعد أن قتل هذا الغلام - صواب - سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطا (¬1). قال الزبير بن العوام: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت - أي في نفسي -: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه فسألته إياه قبله. فآتاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع؟. فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء، فعصب بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت فخرج وهو يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول (¬2) ... أضرب بسيف الله والرسول فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله، كان في المشركين لا يدع لنا جريحا إلا زفف عليه. فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله. ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها. قال الزبير: فقلت: الله ورسوله أعلم. قال ابن إسحاق: وقال أبو دجانة سماك بن خرشة: رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أضرب به امرأة (¬3). ¬

(¬1) الرحيق المختوم ص 288 - 289. (¬2) الكيول: آخر الصفوف. (¬3) السيرة لابن هشام 3/ 73.

9 - يقول وحشي بن حرب: كنت غلاما لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير: إنك إن قتلت حمزة عمي أحمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس - وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطىء بها شيئا - فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هدا ما يقوم له شيء. فوالله إني لأتهيأ له أريده فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال له هلم إلي يا ابن مقطعة البظور - وكانت أمه ختانة - قال فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه (¬1). قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنته - أحشائه - حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركه وإياها حتى مات (¬2). 10 - مر أنس بن النضر بقوم وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المسلمين - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال: أين يا أبا عمر؟ قال أنس: واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم (¬3). 11 - روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فلما رهقوه، قال: من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه - أي القرشيين: ما أنصفنا أصحابنا (¬4). ¬

(¬1) يقال عند المبالغة في الإصابة. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 3/ 76. (¬3) عن الرحيق المختوم 296. (¬4) المصدر نفسه 298.

حتى كان آخرهم زياد أو عمارة بن السكن فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدنوه مني. فأدنوه منه فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 12 - روى النسائي عن جابر قال: فأدرك المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من للقوم فقالط طلحة: أنا. ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه فقال: حس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون قال: ثم رد الله المشركين. ووقع عند الحاكم في الأكليل أنه جرح يوم أحد تسعا وثلاثين أو خمسا وثلاثين وشلت إصبعه أي السبابة والتي تليها (1). وروى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فكنت أول من فاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه قلت: كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي. فلم ألبث أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كالطير، حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا طلحة بين يديه صريعا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دونكم أخاكم فقد أوجب (¬2). 13 - وكان علي بن أبي طالب يذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ناحية وأبو دجانة .. من ناحية، وسعد بن أبي وقاص يذب طائفة، وانفرد علي بفرقة فيها عكرمة بن أبي جهل فدخل وسطهم بالسيف، فضرب به وقد اشتملوا عليه حتى أمضى إلى آخرهم، ثم كر فيهم ثانيا حتى رجع من حيث جاء. وكان الحباب بن المنذر يحوش المشركين كما تحاش الغنم، واشتملوا عليه حتى قيل قد قتل، ثم برز والسيف في يده، وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقة منهم وإنهم ليهربون منه، وكان يومئذ معلما بعصابة خضراء (¬3). ¬

(¬1) المصدر نفسه 300. (¬2) المصدر نفسه 301. (¬3) إمتاع الأسماع 1/ 143.

14 - وكان شماس بن عثمان لا يرمي رسود الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره يمينا وشمالا إلا رآه في ذلك الوجه يذب بسيفه حتى غشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فترس بنفسه دونه حتى قتل رحمه الله فذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما وجدت لشماس شبها إلا الحنة (¬1). 15 - ومر مالك بن الدخشم على خارجة بن زيد وهو قاعد، في حشوته ثلاثة عشر جرحا، كلها قد خلصت إلى مقتل، فقال: أما علمت أن محمدا قد قتل! فقال خارجة. فإن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت، لقد بلغ محمد، فقاتل عن دينك، ومر على سعد بن الربيع وبه اثنا عشر جرحا كلها قد خلص إلى مقتل، فقال: علمت أن محمدا قد قتل! فقال سعد: أشهد أن محمدا قد بلغ رسالة ربه. فقاتل عن دينك فإن الله حي لا يموت (¬2). 16 - وأقبل ثابت بن الدحداحة والمسلمون أوزاع قد سقط في أيديهم فصاح: يا معشر الأنصارا إلي إلي أنا ثابت بن الدحداحة. إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار فحمل بهم على كتيبة فيها خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار رضي الله عنهم (¬3). 17 - وقال عبد الله بن جحش: يا رسول الله! إن هولاء القوم قد نزلوا حيث ترى، وقد سألت الله فقلت: اللهم إني أقسم عليك أن نلقى العدو غدا فيقتلونني ويبقرونني ويمثلون بي، فألقاك مقتولا قد صنع هذا بي. فتقول: فيم صنع بك هذا؟ فأقول فيك؟ وأنا أسالك أخرى: أن تلي تركتي من بعدي. فقال: نعم. فخرج حتى قتل ومثل به، ودفن هو وحمزة رضي الله عنهما في قبر واحد (¬4). ¬

(¬1) المصدر نفسه 1/ 144. (¬2) المصدر نفسه 151. (¬3) المصدر نفسه 152. (¬4) المصدر نفسه 155.

18 - ثم أخذ - صلى الله عليه وسلم - قوسه، فما زال يرامي القوم، وأبو طلحة يستره مترسا عنه، حتى تحطمت القوس. وكان أبو طلحة قد نثر كنانته - وفيها خمسون سهما - بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان راميا وكان صيتا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: صوت أبي طلحة في الجيش خير من أربعين رجلا، فلم يزل يرمي بها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلفه بين رأسه ومنكبه ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله وهو يقول: نحري دون نحرك جعلني الله فداك فإن كان - صلى الله عليه وسلم - ليأخذ العود من الأرض فيقول: ارم أبا طلحة! فيرمي بها سهما جيدا (¬1). من بطولات الرجيع والخندق 19 - ورماهم عاصم حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم حتى كسر رمحه، ثم كسر غمد سيفه، وقاتل حتى قتل، فبعث الله عليه الدبر (¬2) فحمته. فلم يدن منه أحد إلا لدغت وجهه؟ ثم بعث الله في الليل سيلا فاحتمله فذهب به فلم يقدروا عليه. وذلك أنه كان قد نذر ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك، وكانوا يريدون أن يجزوا رأسه ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد لتشرب في قفة قحفه الخمر، فإنها نذرت إن أمكنها الله منه أن تفعل ذلك من أجل أنه قتل لها ابنتين في يوم واحد (¬3). 20 - ثم أخرجوه (أي خبيب بن عدي) في الحديد إلى التنعيم ومعه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة، ومعه زيد بن الدثنة، فصلى خبيب ركعتين أتمهما من غير أن يطول بينهما - وكان أول من سن الركعتين عند القتل - ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا. ثم أوثقوه رباطا وقالوا: ارجع عن الإسلام ونخلي سبيلك. فقال: لا إله إلا الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما أحب أني رجعت عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعا! قالوا: فتحب أن محمدا الآن في مكانك وأنت جالس في بيتك؟ فقال: ¬

(¬1) المصدر نفسه 134. (¬2) الدبر: ذكور النحل. (¬3) إمتاع الأسماع 1/ 175.

والله ما أحب أن يشاك محمد شوكة وإني جالس في بيتي؟ فجعلوا يقولون: يا خبيب ارجع!! فيقول: لا أرجع أبدا. قالوا: أما واللات والعزى لئن لم تفعل لنقتلنك. قال: إن قتلي في الله لقليل، فجعلوا وجهه من حيث جاء فقال: ما صرفكم وجهي عن القبلة؟ ثم قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم ليس ها هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت عني السلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وهو جالس مع أصحابه وقد أخذته غمية -: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ثم قال: هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام. ثم حضروا أبناء من قتل ببدر - وهم أربعون غلاما - فأعطوا كل غلام رمحا فطعنوه برماحهم فاضطرب على الخشبة، وقد رفعوه عليها، وانفلت فصار وجهه إلى الكعبة فقال: الحمد لله، فطعنه أبو سروعة حتى أخرجها من ظهره فمكث ساعة يوحد ويشهد أن محمدا رسول الله ثم مات رضي الله عنه، وتولى قتل زيد نسطاس (¬1). 21 - ثم أجمع رؤساء المشركين أن يغدو جميعا، وجاؤوا يريدون مضيقا يقحمون خيلهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى أتوا مكانا ضيقا أغفله المسلمون، فلم تدخله خيولهم، وعبره عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد الله المخزومي، وضرار بن الخطاب الفهري وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد ود، قام سائرهم وراء الخندق فدعا عمرو إلى البراز .. فلم يكن أسرع من أن قتله علي، فولى أصحابه الأدبار، وسقط نوفل بن عبد الله بن عبد الله عن فرسه بالحجارة حتى قتل. ومر عمر بن الخطاب والزبير في أثر القوم فناوشوهم ساعة، وسقطت درع هبيرة بن أبي وهب فأخذها الزبير رضي الله عنه. ثم وافى المشركون سحرا، وعبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هوي من الليل، وما يقدر رسول الله ولا أحد من المسلمين أن يزولوا عن موضعهم، وما قدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء، فجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صلينا! فيقول: ولا أنا والله صليت! حتى كشف الله المشركين؟ ورجع كل من الفريقين إلى منزله، ¬

(¬1) المصدر نفسه 1/ 177.

وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق، فكرت خيل للمشركين يطلبون كرة عليها خالد بن الوليد - فناوشهم ساعة، فزرق وحشي الطفيل بن النعمان بمزراقه فقتله كما قتل حمزة رضي الله عنه بأحد. فلما صار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبته أمر بلالا فأذن وأقام للظهر وأقام لكل صلاة إقامة فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها في وقتها .. وقال يومئذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شغلنا المشركون عن صلاة الوسطى ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا (¬1). 22 - كان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه. فلما وقف هو وخيله، قال: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب، فقال له: يا عمرو، إنك كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه: قال له: أجل؟ قال له علي: إني أدعوك إلى الله وإلى رسوله، وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك؟ قال: فإني أدعوك إلى النزال، فقال له: لم يا بن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه، فعقره، وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت عن الخندق هاربة. قال ابن إسحاق: وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه في ذلك: نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت رب محمد بصواب فصددت حين تركته متجدلا ... كالجذع بين دكادك وروابي وعففت عن أثوابه ولو أنني ... كنت المقطر بزني أثوابي لا تحسبن الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب (¬2) وهكذا وجدنا أن الجهد البشري في البذل قد أدى دوره تماما في الحرب، ولم يبخل المسلمون بأرواحهم ودمائهم وقودا للمعارك، حتى هيأ الله تعالى لهم نصره الذي جعله حقا عليه للمؤمنين. ¬

(¬1) امتاع الأسماع 1/ 222 - 223. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 3/ 236.

السمة الثانية والعشرون دور النساء في المعارك ومشاركتهن فيها

السمة الثانية والعشرون دور النساء في المعارك ومشاركتهن فيها أين كانت المرأة المسلمة في هذه الأحداث؟ لقد كانت جزءا لا يتجزأ منها، ساهمت في صنعها تربية للجيل المسلم أولا، ثم رعاية للزوج المسلم ثانيا، ودفعا له إلى الجهاد والبذل، ثم صبرا واحتسابا عند المصيبة ثالثا، ثم حضورا للمعركة تسقي الظمأى وتداوي الجرحى رابعا، ثم حملا للسلاح جهادا للعدو حين الضرورة أخيرا، ولا يتسع المقام لأكثر من نماذج توضح هذه الأدوار كلها لتكون نبراسا للمرأة المسلمة اليوم وهي تحمل رسالة الإسلام بجانب الرجل. أ - في التطبيق العملي للإسلام: كان المسجد للرجال والنساء، فلقد كانت الصفوف الأولى للرجال، والصفوف الأخيرة للنساء. ولم يكن المسجد دار عبادة فقط، بل كان الجامعة العلمية العليا التي يتلقى المسلمون علومهم منها وعلى رأس هذه الجامعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أجل هذا كان الحرص المستمر من النساء على شهود الخير وجماعة المسلمين. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يعقد لهن درسا خاصا يعلمهن ويعظهن ويذكرهن. ولو كان المسجد للعبادة فقط، لأمكن استغناء كثير من النساء عن الحضور إليه إذ الإسلام جعل صلاة المرأة في بيتها خيرا من صلاتها في المسجد النبوي، لكن تلقي العلم من منبعه النبوي الموحى إليه لم يكن ليتاح للمرأة المسلمة إلا في المسجد. وكما كان المسجد دار عبادة ودار علم، فلقد كانت الأحداث تصنع فيه، وتقرر فيه. ولهذا كانت المرأة المسلمة تعيش هذه الأحداث يوما بيوم وساعة بساعة، لم تكن أبدا معزولة عنها، بل كانت تحياها بمشاعرها وأعصابها وفكرها، وتذلل بذلك للرجل المسلم كثيرا من الخطوات التي يود أن يخطوها في بيته لإقناعها بما يريد. وهذه هي المشكلة التي تعانيها المرأة المسلمة اليوم، إنها تعيش بعيدا عن مصنع النور، وبؤرة الإشعاع، وليس كل رجل قادرا

على صهر المرأة في هذه الأحداث وجعلها تتفاعل معها، المرأة تعيش اهتماماتها أكثر مما تعيش إسلامها. وهذا لا يعني أنا لا نملك النماذج الإسلامية الرائعة للمرأة المسلمة اليوم. لكنها نماذج فردية، وليست سمة عامة لنسائنا اليوم. وفي اعتقادي أن أكبر خطوة عملية تمت بالمرأة المسلمة على طريق الإسلام هو نقل عواطفها ومشاعرها وذوقها من الجاهلية إلى الإسلام في مجال الغناء، وذلك ببروز ظاهرة الأشرطة الإسلامية التي ملأت البيوت، ونسخت الفن الجاهلي الهابط الذي كانت تعيشه المرأة نهارها كله، وهي تغير أبرة المذياع من أغنية ماجنة إلى أخرى خليعة، وتحفظ نسوتنا هذه الأغاني جميعا. وتشهد بها أفراحها وتبني من خلالها ذوقها وعاطفتها بل أفكارها كذلك ومن التطبيق العملي كذلك موقفها وهي تتلقى وحي الله تعالى، نشهد ذلك من خلال روايات عائشة رضي الله عنها الثلاث. 1 - يرحم الله نساء المهاجرات الأول. لما أنزل الله {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن مروطهن فاختمرن (¬1). 2 - عن صفية بنت شيبة عن عائشة: لما نزلت هذه الآية، {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها (¬2). 3 - عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة فذكرن نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش فضلا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل. لقد أنزلت سورة النور: {وليضربن بخمرهن على جيويهن}. انقلب رجالهن إليهن يتلو عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان (¬3). ¬

(¬1) البخاري م2 / ج 6/ 136، تفسير سورة النور. (¬2) المصدر نفسه 136 و 137. (¬3) رواه ابن أبي حاتم وأبو داود. تفسير ابن كثير 6/ 90

فهكذا كانت المرأة المسلمة تتعامل مع نصوص الكتاب والسنة، وهكذا كانت تحضر الصلاة في المسجد، وتلبي داعي الله. ب - في تربية الجيل المسلم: لقد كانت الأمهات اللاتي دخلن في الإسلام، ومن خلال تعايشهن مع الأحداث. خير عون ودافع لأبنائهن. ومن هذه النماذج: 1 - عن عبد الله بن زيد قال: جرحت يومئذ جرحا في عضدي اليسرى (يوم أحد)، وضربني رجل كأنه الرفل (النخلة الطويلة) ولم يعرج علي ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعصب جرحك، فتقبل أمي إلي، ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح، فربطت جرحي، والنبي واقف ينظر إلي، ثم قالت: انهض يا بني فضارب القوم!! فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة!! 2 - قال ابن إسحاق: وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل الأنصاري أخو بني حارثة أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة. قال: وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن؛ فقالت عائشة، وذلك قبل أن يفرض علينا الحجاب، فمر سعد وعليه درع له مقفصة، قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربته يرقد (¬1) بها ويقول: لبث قليلا يشهد الهيجا جمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل قال: فقالت له أمه: الحق، أي بني، فقد والله أخرت، قالت عائشة: فقلت لها يا أم سعد، والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي، قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه (¬2). حـ - في رعاية الزوج والولد وخرج عمرو بن الجموح وهو أعرج وهو يقول: اللهم لا تردني إلى أهلي!! فقتل شهيدا، واستشهد ابنه خلاد بن عمرو، وعبد الله بن عمرو بن ¬

(¬1) الأصح: يرفل بها أي يسرع، وهي كذلك في سائر الأصول. (¬2) السيرة لابن هشام ج 3 ص 237 - 238.

حرام أبو جابر بن عبد الله فحملتهم هند بنت عمرو بن حرام - زوجة عمرو بن الجموح - على بعير لها تريد بهم المدينة، فلقيتها عائشة (¬1) رضي الله عنها - وقد خرجت في نسوة تستروح الخبر، ولم يضرب الحجاب يومئذ فقالت لها: عندك الخبر، فما وراءك؟ قالت: أما رسول الله فصالح، وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ الله من المؤمنين شهداء .. قالت عائشة: من هؤلاء؟ قالت: أخي وابني خلاد وزوجي عمرو بن الجموح؟ قالت: فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها. ثم قالت: حل (¬2) - تزجر بعيرها - فبرك، فقالت عائشة: لما عليه. قالت: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكني أراه لغير ذلك. وزجرته فقام، فوجهته راجعة إلى أحد، فأسرعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك فقال: فإن الجمل مأمور، هل قال شيئا؟ قالت: إن عمرا لما وجه إلى أحد قال: اللهم لا تردني إلى أهلي خزيان وارزقني الشهادة! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلذلك الجمل لا يمضي؟ إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره: منهم عمرو بن الجموح. يا هند! ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن، ثم مكث - صلى الله عليه وسلم - حتى قبرهم. ثم قال: يا هند قد ترافقوا في الجنة، عمرو بن الجموح وابنك خلاد وأخوك عبد الله. قالت! قلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني معهم وقال سفيان بن عبد الله: كان أبي أول قتيل من المسلمين يوم أحد قتله سفيان بن عبد شمس فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الهزيمة (¬3). د - في الصبر والاحتساب عند المصيبة: 1 - جاءت أم حارثة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقالت: يا رسول الله أخبرني عن حارثة فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك ليرين الله ما أصنع ¬

(¬1) لعل هذا كان قبل أن تلتحق عائشة رضي الله عنها بالجيش مع فريق من النسوة. وذلك حين انتصر المسلمون، وكانت لهم الكرة الأولى. (¬2) حل: زجر تزجر به الناقة إذا حثثتها على السير. (¬3) إمتاع الأسماع 1/ 146 - 148.

قال: ويحك يا أم حارثة. إنها ليست جنة، إنها جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى. 2 - مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة من بني دينار، وقد أصيب أخوها وزوجها وأبوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟ قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (¬1) (¬2). 3 - قال ابن إسحاق: وقد أقبلت فيما بلغني، صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه (أي حمزة). وكان أخاها لأبيها - وأمها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك! لأحتسبن وأصبرن إن شاء الله. فلما جاء الزبير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك؟ قال: خل سبيلها، فأتته، فنظرت إليه، فصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له، ثم أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدفن (¬3). 4 - ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش، كما ذكر لي، فلما لقيت الناس نعي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن زوج المرأة منها لبمكان! لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها، وصياحها عند زوجها (¬4). 5 - أقبل (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم فقال: لكن حمزة لا بواكي له! فخرج النساء ينظرن إلى سلامته. ¬

(¬1) أي صغيرة. (¬2) السيرة لابن هشام 3/ 105. (¬3) السيرة لابن هشام 3/ 103. (¬4) المصدر نفسه 3/ 104.

فقالت أم عامر الأشهلية: كل مصيبة بعدك جلل، وجاءت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد وقف على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بعنان الفرس فقال سعد: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمي! فقال، مرحبا بها. فدنت حتى تأملت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: أما إذا رأيتك سالما فقد أشوت (¬1) المصيبة. فعزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعمرو بن معاذ ابنها ثم قال: يا أم سعد! أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعا - وهم اثنا عشر رجلا - وقد شفعوا في أهليهم؟ قالت: رضينا برسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خلفوا، قال: اللهم أذهب حزن قلوبهم وأجبر مصيبتهم وأحسن الخلف على من خلفوا، ثم قال: يا أبا عمرو، إن الجراح في أهل دارك فاشية وليس منهم مجروح إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان: اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فمن كان مجروحا فليقر في داره وليداو جرحه، ولا يبلغ معي بيتي، عزمة مني، فنادى فيهم سعد: عزمة من رسول الله ألا يتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جريح من بني عبد الأشهل، فتخلف كل مجروح، فباتوا يوقدون النيران ويداوون الجراح، وإن فيهم لثلاثين جريحا ومضى سعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاء بيته فما نزل عن فرسه إلا حملا، واتكأ على سعد بن معاذ وسعد بن عبادة حتى دخل بيته. فلما أذن بلال بصلاة المغرب خرج على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين فصلى ثم عاد إلى بيته. ومضى سعد بن معاذ إلى نسائه فساقهن حتى لم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبكين حمزة رضي الله عنه بين المغرب والعشاء، والناس في المسجد يوقدون النار يتكمدون (¬2) بها من الجراح، وأذن بلال رضي الله عنه حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجلس بلال عند بابه حتى ذهب ثلث الليل، ثم ناداه: الصلاة، يا رسول الله، فهب - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أشوت: هانت. (¬2) تكميد العضو: تسخين بخرق أو قطن. فإذا تابع ذلك على موضع الوجع وجد له راحة.

من نومه وخرج، فإذا هو أخف في مشيته من حين دخل. وسمع البكاء فقاد: ما هذا؟ فقيل: نساء الأنصار يبكين على حمزة فقال: رضي الله عنكن وعن أولادكن وأمر أن ترد النساء إلى أولادهن، فرجعن بعد ليل مع رجالهن، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم رجع إلى بيته، وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه يمشي وحده حتى دخل، وباتت وجوه الأوس والخزرج على بابه في المسجد يحرسونه فرقا من قريش أن تكر، ويقال إن معاذ بن جبل رضي الله عنه جاء بنساء بني سلمة، وجاء عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بنساء الحارث بن الخزرج فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أردت هذا، ونهاهن الغد عن النوح أشد النهي (¬1). 5 - مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا التي أحدثه، فجاءت فقربت إليه عشاء فأكل وشرب، ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها، فلما أن رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم الهم أن يمنعوهم؟ قال: لا قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب ثم قال: تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني فانطلق حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما كان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بارك الله في ليلتكما قال: فحملت. قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وهي معه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقا. فدنوا من المدينة فضربها المخاض. فاحتبس عليها أبو طلحة وانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل وقد احتبست بما ترى، تقول أم سليم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد الطلق فانطلقنا وضربها المخاض حين قدما فولدت غلاما. فقالت لي أمي: يا أنس لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) ... فحنكه وسماه عبد الله. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع: 1/ 163 - 165. (¬2) رواه مسلم.

وفي رواية للبخاري. فقال رجل من الأنصار. فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن، يعني من أولاد عبد الله المولود. هـ - حضور المعارك للتطبيب والسقاية: 1 - روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال: لقد رأيت عائشة وأم سليم وابنهما المشمرتان تنقزان القرب على متونهما، تفرغان الماء في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم. 2 - وذكر الطبراني أنه لما انصرف المشركون. خرج نساء الصحابة لتقديم العون لهم فكانت فاطمة فيمن خرج. فلما لقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم. فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير فأحرقته بالنار وكمدته به حتى لصق الجرح فاستمسك الدم (¬1). 3 - وعن أم عطية قالت: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات. فكنت أصنع لهم طعامهم، وأخلفهم في رحالهم، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى (¬2). 4 - قال محمد بن عمر: وقد حضرت أم أيمن أحدا. كانت تسقي الماء وتداوي الجرحى. وجاء في الكامل لابن الأثير: أن أم أيمن كانت تسقي الجرحى في الجيش فرماها حبان ابن العرقة بسهم فوقعت وانكشفت فأغرق عدو الله في الضحك، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له، وقال: ارم به، فرمى به، فوقع السهم في نحر حبان المشرك، فوقع مستلقيا حتى تكشف، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه ثم قال: استقاد لها سعد أجاب الله دعوته (¬3). 5 - وخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء - وكن قد جئن أربع عشرة ¬

(¬1) سمط النجوم العوالي 2/ 88. (¬2) الطبقات الكبرى ج 8/ 455. (¬3) وقد أورده المقريزي في إمتاع الأسماع 1/ 133.

امرأة منهن فاطمة عليها السلام، يحملن الطعام على ظهورهن، ويسقين الجرحى ويداوينهم، ومنهن أم سليم بنت ملحان، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تحملان على ظهورها القرب، ومنهن حمنة بنت جحش وكانت تسقي العطشى، وتداوي الجرحى، ومنهن أم أيمن تسقي الجرحى. و- المرأة المسلمة مقاتلة: وهو دور غير طبيعي، والأصل من المرأة ألا تقاتل إلا حين الضرورة، وحين تغشى أرض المسلمين من العدو، ولم تكن أحد إلا صورة من هذه الصور. وكانت بطلتها أم عمارة. 1 - قالت أم عمارة: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا ضارب ابنك. قالت: فاعترض له، فأضرب ساقه، فبرك. قالت: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبسم حتى رأيت نواجذه، وقال: استقدت (ثأرت) يا أم عمارة. ثم أقبلنا نعله بالسلاح حتى أتينا على نفسه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي ظفرك، وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك (¬1). 2 - قالت أم عمارة: قد رأيتني وقد انكشف الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما بقي إلا في نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه ندب عنه والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي. فرأى رجلا موليا معه ترس فقال لصاحب الترس: الق ترسك إلى من يقاتل. فألقى ترسه فأخذته، فجعلت أتترس به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقبل رجل على فرس فضربني، وتترست له، فلم يصنع سيفه شيئا وولى وأضرب عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصيح يا ابن أم عمارة، أمك، قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب (¬2)). 3 - وفي رواية عن أم سعيد بنت سعد بن الربيع تقول: دخلت عليها فقلت: حدثيني خبرك يوم أحد. قالت: خرجت أول النهار إلى أحد وأنا أنظر ¬

(¬1) إمتاع الأسماع 1/ 138. (¬2) شعوب: إسم من أسماء المنية.

ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء. فانتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلت أباشر القتال، وأذب عن رسول الله بالسيف وأرمي بالقوص حتى خلصت إلي الجراح. قالت: فرأيت على عاتقها جرحا غور أجوف، فقلت: يا أم عمارة من أصابك هذا؟ قالت: أقبل إلي ابن قميئة. وقد ولى الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصيح دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترض له مصعب بن عمير، وناس معه فكنت فيهم فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان. 4 - كان ضمرة بن سعيد المازني يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحدا تسقي الماء، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان، وكان يراها يومئد تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا. وكانت تقول (جدة ضمرة): إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها، فداوته سنة. ثم نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد، فشدت عليها بثيابها فما استطاعت من نزف الدم! ولقد مكثنا ليلتنا نكمد الجراح حتى أصبحنا. فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحمراء، ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها. فسر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 5 - وقال أبو رافع - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -: كنت غلاما للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل وأسلمت. وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا، وكنت رجلا ضعيفا أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 413.

ظهري، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب: هلم إلي، فعندك لعمري الخبر، قال فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا. وايم الله مع ذلك ما لمت القوم، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئا، ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. قال فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا. فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فعلت في رأسه شجة منكرة. وقالت: استضعفته إن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليالي حتى رماه الله بالعدسة فقتله. وهي قرحة تتشاءم بها العرب فتركه بنوه، وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه (¬1). 6 - قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان بن ثابت معنا فيه مع النساء والصببان. قالت صفية. فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت. قالت: فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله () وأصحابه فأنزل إليه فأقتله؟ قال: يغفر لك الله يا ابنة عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت فلما قال لي ذلك، ولم أر عنده ¬

(¬1) المباركفوري في الرحيق المختوم 250 - 251.

السمة الثالثة والعشرون عبقرية التخطيط القيادي

شيئا، احتجزت (¬1) ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته. قالت: فلما فرغت منه، رجعت إلى الحصن، فقلت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل؟ قال: ما لي بسلبه من حاجة يا ابنة عبد المطلب (¬2)) (¬3). ز - في الدعوة إلى الله: (أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابث أن أم سليم قالت: يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد، إنما هو شجرة تنبت من الأرض نجرها حبشي بني فلان؟ قال: بلى. قالت: أما تستحي تسجد لخشبة تنبت من الأرض نجرها حبشي بني فلان؟ قالت فهل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأزوجك نفسي لا أريد منك صداقا غيره؟ قال لها: دعيني حتى أنظر. قالت، فذهب فنظر ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. قالت: يا أنس قم فزوج أبا طلحة (¬4)) - وكان قد جاءها خاطبا. فما كان لها مهر إلا إسلامه. السمة الثالثة والعشرون عبقرية التخطيط القيادي إننا ونحن نستعمل هذا التعبير عن العبقرية، لا يغيب عن ذهننا أننا أمام رسول رب العالمين الموحى إليه. {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ¬

(¬1) احتجزت: شددت وسطي. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 3/ 239. (¬3) تشير الرواية إلى أن حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جبانا وقد أنكر بعض العلماء أن يكون حسان رضي الله عنه جبانا. ولو كان كذلك لهجي من خصومه شعراء قريش وعير بذلك، وحيث أن الحديث جاء بسند متصل حسن فاعتضد حديث ابن إسحاق. فعلل الأمر بأن حسانا كان في ذلك الوقت معتلا بعلة منعته من شهود القتال، مع أن الخوف يوم الأحزاب كان عاما في المسلمين، كما يقول الله تعال: {وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} وما قصة حذيفة عنا بعيدة. (¬4) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 8 ص 427.

إلي ..} (¬1). وإنه مسدد من ربه. {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي ..} (¬2). لكننا في الوقت نفسه نعتقد أن محمدا رسول الله هو سيد ولد آدم وهو خير البشر. فإذا كان في البشر عباقرة فهو سيدهم بلا منازع. ولقد استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا اللفظ بحق عمر رضي الله عنه: (فلم أر عبقريا يفري فرية حتى ضرب الناس بعطن ..) (¬3). ولا بد من الإشارة إلى أننا نخطىء بحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا يوم نقدمه للناس على أنه آلة تلق من الله تعالى فقط. والله تعالى يختار خير خلقه لأداء رسالته ويكون عندهم من الذكاء والحلم والعبقرية ما لا يوجد عن غيرهم، أو يفوقهم على الأقل. {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} (¬4). كما أننا لا بد أن نوضح فكرة مهمة حين نتحدث عن جانب من هذه الجوانب. مثل هذا الموضوع، هذه الفكرة هي جانب القدوة البشرية، وهو الذي يستطيع البشر أن يقتدوا به. أما جانب الوحي، فقد انتهى مع النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أجل هذا اختار الله تعالى لرسالته بشرا يمكن أن يقتدى به، ولم يختر ملكا. {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} (¬5). فكثيرا ما يفاجأ الدعاة مع الناس إذا ذكروا لهم شيئا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول هؤلاء الناس: هذا رسول الله، ونحن لسنا رسلا، ¬

(¬1) سورة الكهف، من الآية الأخيرة. (¬2) سورة النجم، الآيتان 3 و 4. (¬3) رواه؟. [من حديث طويل (متفق عليه)]. (¬4) الأنعام، الآية 124. (¬5) الإسراء: الآيتان 94 و 95.

إنها كلمة حق أريد بها باطل يريدون أن يتنصلوا من المسؤولية، ويتحرروا من التطبيق العملي للإسلام تحث هذا الستار. حقا إنه رسول الله. وحقا إنه القدوة والأسوة: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (¬1). وإذا كنا نعالج في هذه السمة الجانب البشري عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهده في حرب عدوه، وتخطيطه في الانتصار عليه، فستكون السمة التالية، مكان الحديث عن المعجزات الإلهية التي رافقت هذه الدعوة، وحققت نصر الله بهذه الفئة المؤمنة. وبذلك نقتدي في الجانب البشري حتى ننال العون الإلهي، والكرامة الربانية التي تعطى لأولياء الله تعالى. كما تعطى المعجزات للأنبياء والرسل المصطفين منه سبحانه. أ - قوة المخابرات النبوية لو وقفنا أمام السرايا والبعوث والغزوات في هذه المرحلة لأذهلتنا قوة المخابرات النبوية بصورة يكاد التاريخ لا يشهد لها مثيلا وذلك من خلال التقرير التالي: 1 - كانت أول سرية بعثها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة لحمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر لأنه قد بلغه أن عيرا لقريش تمر من هناك، وذلك على رأس سبعة أشهر. 2 - ثم كانت سرية عبيدة بن الحارث ليفاجىء المشركين على ماء يقال له أحياء من بطن رابغ وكان على رأسهم أبو سفيان بن حرب أو عكرمة في مئتين منهم. 3 - ثم كانت سرية سعد بن أبي وقاص على رأس تسعة أشهر تعترض عيرا لقريش عند الحجفة قريبا من خم ففاتتهم. بينما لم تفت المسلمون العير في السريتين السابقتين. ¬

(¬1) الأحزاب، الآية 26.

4 - ثم غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذان (وهو جبل بين مكة والمدينة على رأس أحد عشر شهر يعترض عيرا لقريش. 5 - ثم كانت غزوة بواط على رأس ثلاثة عشر شهرا يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف ومائة رجل من قريش. 6 - ثم غزا غزوة العشيرة على رأس ستة عشر شهرا يعترض عيرا لقريش حين أبدأت إلى الشام. وهذه العير هي التي خرج في طلبها لما عادت وكانت وقعة بدر. 7 - ثم كانت سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى بطن نخلة (وهو بستان ابن عامر الذي بقرب مكة) في رجب على رأس سبعة عشر شهرا. فوجد عيرا لقريش فيها عمرو بن الحضرمي واستاقوا العير، وكانت محملة خمرا وأدما وزبيبا وقدموا بها على النبي - صلى الله عليه وسلم -. 8 - ثم كانت غزوة بدر الكبرى. وهي في الأصل لاعتراض عير قريش وهي قادمة من الشام وشاءت إرادة الله تعالى أن تفوت القافلة، وتكون ذات الشوكة للمسلمين (¬1). فهذه النماذج الثمانية صورة حية ليقظة عيون النبي - صلى الله عليه وسلم - التي ترصد تحركات العدو في المنطقة، بل كانت مخابراته تنقل إليه لحظة الخروج من مكة، ولحظة القفول من الشام. 9 - وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه مع بعض أصحابه يتعرف على أخبار قريش والقافلة (فلقي سفيان الضمري ففال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرجل؟ فقال: بل من أنتم؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأخبرنا ونخبرك، قال: وذاك بذاك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، نعم، قال: سلوا عما شئتم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرنا عن قريش، فقال: بلغني أنهم خرجوا في يوم كذا وكذا من مكة فإن كان الذي أخبرني صادقا فهم اليوم بمكان كذا وكذا (أو فإنهم بجنب هذا ¬

(¬1) ملخصة من إمتاع الأسماع للمقريزي من 51 - 60.

الوادي). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأخبرنا عن محمد وأصحابه، قال: خبرت أنهم خرجوا من يثرب يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صادقا فهم بجانب هذا الوادي، قال الضمري: فمن أنتم؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نحن من ماء، وأشار بيده نحو العراق، فقال: ما من ماء! أمن ماء العراق؟. ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه، ولا يعلم واحد من الفريقين بمنزل صاحبه، بينهم قوز من رمل. (¬1) ومضى فلقيه بسبس وعدي بن أبي الزعباء فأخبراه خبر العير، ونزل النبي - صلى الله عليه وسلم - أدنى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، فبعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو رضي الله عنهم يتحسسون (¬2) على الماء، وأشار لهم إلى ظريب (¬3)، وقال أرجو أن تجدوا الخبر عند هذا القليب (¬4) الذي يلي الظرب. فوجدوا على تلك القليب روايا قريش فيها سقاؤهم، فأفلت عامتهم وفيهم عجير، فجاء قريشا فقال: يا آل غالب، هذا ابن أبي كبشة وأصحابه قد أخذوا سقاءكم، فماج العسكر وكرهوا ذلك، والسماء تمطر عليهم، وأخذ تلك الليلة أبو يسار، غلام عبيدة بن سعيد بن العاص، وأسلم غلام منبه بن الحجاج، وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتي بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فقالوا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهم فضربوهم، فقالوا: نحن لأبي سفيان، ونحن في العير، فأمسكوا عنهم. فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم، ثم أقبل عليهم يسألهم، فأخبروه أن قريشا خلف هذا الكثيب، وأنهم ينحرون يوما عشرا ويوما تسعا، وأعلموه بمن خرج من مكة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: القوم بين الألف والتسعمائة، قال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها (¬5). ¬

(¬1) القوز: الكثيب المشرف المستدير من الرمل. (¬2) يتحسسون: يتجسسون. (¬3) ظربب: تصغبر ظرب وهو الجبل المنبسط في حجارة دقاق. (¬4) القليب: البئر القديمة التي لا يعلم لها حافر. (¬5) إمتاع الأسماع 76 - 77.

فها هي المخابرات النبوية في بدر تكشف موقع العدو، وعدده وعدته قبل الدخول في المعركة والحوادث المذكورة بإيحاءاتها غنية عن أي تعليق. 10 - ثم كانت غزوة قرارة الكدر وذلك إنه بلغه أن بقرارة الكدر جمعا من غطفان وسليم، فأخذ عليهم الطريق فلم يجد أحدا، فأرسل في أعلى الوادي نفرا من أصحابه، واستقبلهم في بطن الوادي فوجد رعاء فيها غلام يقال له يسار. فسألهم فأخبره يسار أن الناس ارتفعوا إلى المياه، فانصرف وقد ظفر بالنعم يريد المدينة (¬1). 11 - أما غزوة أحد فقد كتب العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة كتابا مع رجل من بني غفار يخبره بذلك، فقدم عليه وهو بقباء فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبيا، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس فقال: والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير، وقد أرجفت اليهود (¬2) والمنافقون وشاع الخبر. وقدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفر وقد فارقوا قريشا من ذي طوى، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وانصرفوا ... وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنسا ومؤنسا ابني فضالة ليلة الخميس عينيين، فاعترضا لقريش بالعقيق، وعادا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه، ونزل المشركون ظاهر المدينة يوم الأربعاء، فرعت إبلهم آثار الحرث والزرع يوم الخميس ويوم الجمعة حتى لم يتركوا خضراء، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحباب بن المنذر بن الجموح فنظر إليهم وعاد وقد حزر عددهم وما معهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تذكروا من شأنهم حرفا، حسبنا الله ونعم الوكيل اللهم بك أجول وبك أصول (¬3). ¬

(¬1) المصدر نفسه 1/ 157. (¬2) معرفة اليهود والمنافقين بالخبر سبقه أن أبا عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلا من المدينة إلى مكة وحرض قريشا على الحرب. وسار معها إلى أحد. (¬3) إمتاع الأسماع 1/ 115.

12 - أما عن الخندق: كانت خزاعة عندما خرجت من مكة: أتى ركبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - في أربع ليال - حتى أخبروه، فندب الناس وأخبرهم خبر عددهم. نكتفي بهذا القدر من النماذج لنؤكد هذا المعنى الكبير، من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أشد ما يكون حذرا ويقظة وتعرفا على أخبار عدوه مع الإشارة إلى أن الأخبار التي كانت تأتي إليه لم يكن أي خبر منها غير صادق بغض النظر عن تحقيق الهدف من الغزوة أو عدم تحقيقه ولا نذكر في هذه المرحلة أن المسلمين غزوا بشكل مفاجىء إلا مرتين: الأولى: عندما أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة قبل بدر. الثانية: عندما نزل أبو سفيان سرا مع عدد من المشركين على سلام بن مكشم اليهودي. وعرف منه أخبار الرسول عليه الصلاة والسلام. ووجد رجلا من الأنصار في حرث فقتله وأجيره، وحرق بيتين بالغريض، وحرق حرثا لهم وذهب. ولقد ظهرت خطورة هذه القضية تماما مع تجربة الحركة الإسلامية مع أعدائها. فضعف المخابرات لديها أمكن أن تشتعل المعركة دون علم القيادة، مما نشأ عنه أكبر محنة للحركة راح ضحيتها عشرات الألوف نتيجة المعلومات الخاطئة التي وصلت للإخوة المجاهدين في الداخل. ولعل ما شهدناه من عظمة المخابرات النبوية يدفعنا إلى أن نعطي هذا الموضوع حقه، ونوفيه أهميته. لأن الحركة الإسلامية، حين تفقد قوة المخابرات والأمن لديها إنما تفقد شريانها الرئيسي الذي تعيش منه، وحين لا تكون المعلومات صادقة وأمينة من عيونها. فإنما تنحر نفسها بيدها. إنه درس قاس ولا شك، ولكنه التمحيص والعقوبة والابتلاء. ب - الغزو لمن يريد الغزو وهي قضية ذات صلة وثيقة بالفقرة الأولى، بأن تفاجىء العدو فتضربه

وهو يعد لضربك، وقد تم هذا الأمر في التخطيط النبوي مرات عديدة نذكر منها: 1 - كانت غزوة ذي أمر بنجد، بعد بدر. وذلك إنه بلغه أن جمعا من بني ثعلبة من عطفان وبني محارب قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطرافه - صلى الله عليه وسلم - جمعهم دعثور بن محارب، فأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا منهم بذي القصة، وسار معهم يدلهم على عورات القوم حتى أهبطهم من كثيب فهربت الأعراب فوق الجبال. 2 - وغزوة بني سليم بالفرع لم تكن إلا لفض تجمع منهم كان يريد غزو المدينة. 3 - وغزوة ذات الرقاع بعد أحد كانت بناء على إخبارية جاءت إلى المدينة تقول أن بني أنمار بن بغيض وبني سعد بن ثعلبة قد جمعوا لحرب المسلمين فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أربعمائة ثم قدم محالهم وقد ذهبوا إلى رؤوس الجبال. 4 - أما سرية أبي سلمة فقد نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وباغت أبو سلمة بني أسد في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم فتشتتوا في الأمر. 5 - وما مقتل خالد بن سفيان الهذلي إلا لأن الاستخبارات قد نقلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه يحشد الجموع لحرب المسلمين فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ابن أنيس ليقضي عليه، علما بأن خالدا كان يجمع الجموع قرب مكة. وبذلك حطم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل قوة تفكر مجرد تفكير في غزو المدينة، وألقى الرعب في قلوب المجاورين لهذه القوى، دون أن يؤخذ على غرة من أحد. ويوفر على نفسه كثيرا من الخسائر المادية والمعنوية، التي كانت ستقع لو تماهل شيئا طفيفا في تحري حركات العدو، أو ضرب تجمعاته. إن على الحركة الإسلامية اليوم اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تكون على خبرة عميقة بطبيعة

أعدائها، وطبيعة تحركاتهم وتخطيطهم، وأن تبث عيونها في صفوفهم بحيث لا يفوتها شاردة ولا واردة من اتجاههم ومخططاتهم، وأن تواجه هذه المخططات قبل التنفيذ، وتضربها وهي في دور الإعداد لتكون قادرة على الصمود والاستمرار. إنه الجهد البشري المطلوب في عالم الأسباب، ونود أن يتعرف شباب الدعوة على هذا المعنى تماما. صحيح أن النصر بيد الله عز وجل يؤتيه من يشاء، ولكن الله تعالى لا يرضى لدعوته أن تكون تجمعا من المتواكلين، وتشرذما من القاعدين، وأن تعمل الحركات المعادية لدنياها ولالتحام صفها خيرا مما تفعله الحركة الإسلامية في ذلك. والصف المؤمن المتراص الموحد اليقظ، المبادر الدؤوب هو الذي تتحقق فيه مواصفات النصر، من الله عز وجل، أما أن نتخاذل عن كل شيء، ثم نقول: لماذا لا ينصرنا الله؟. {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} (¬1). ص - العهود مع الجوار وهو من جملة التخطيط النبوي القيادي، أن يقيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاهدات حسن جوار وتحالف مع القبائل المجاورة بحيث يوحد الجبهة المقاتلة، ولم تنقض هذه المعاهدات إلا على النادر، وفي الأحوال التي يشعر فيها المعاهدون بضعف شوكة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد استوفيت هذه الفقرة الحديث من قبل في بداية العهد المدني. د - مهاجمة طريق العراق. ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بقطع طريق قوافل قريش من المدينة. بل راحث القوات الإسلامية تطارد قريش وقوافلها في الطرق الثانية الطويلة التي اختارتها قريش هربا من ملاحقة محمد - صلى الله عليه وسلم - لها. فقد (كانت سرية زيد بن حارثة إلى القردة، وهي أول سرية خرج فيها ¬

(¬1) آل عمران الآية 136.

زيد أميرا يريد صفوان بن أمية وقد نكب عن الطريق وسلك على جهة العراق يريد الشام بتجارة فيها أموال لقريش - خوفا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعترضها، فقدم نعيم بن مسعود الأشجعي على كنانة بن أبي الحقيق في بني النضير فشرب معه، ومعهم سليط بن النعمان يشرب، ولم تكن الخمر حرمت، فذكر نعيم خروج صفوان في عيره وما معهم من الأموال، فخرج (سليط) من ساعته وأخبر النبى - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب، فأصابوا العير وأفلت أعيان القوم. فقدموا بالعير فخمسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ الخمس عشرين ألف درهم وقسم ما بقي على أهل السرية، وكان فيمن أسر فرات ابن حيان فأسلم (¬1)). هـ - ثبات أحد وتحويل الهزيمة إلى نصر وندع هذا الوصف للمباركفوري على صورة مقتطفات سريعة، وإيضاحات أخرى يقتضيها الموقف: خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش: وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية (خلو الجبل من الرماة) فاستدار بسرعة خاطفة حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي. فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت إمرأة منهم - وهي عمرة بنت علقمة الحارثية - فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادى بعضهم بعضا، حتى اجتمعوا على المسلمين وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف ووقعوا بين شقي الرحى. موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ في مفرزة صغيرة - تسعة نفر من أصحابه - في مؤخرة المسلمين، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 3/ 7.

فكان أمامه طريقان، إما أن ينجو، - بالسرعة - بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطرق إلى مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد. وهنالك تجلت عبقرية الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفذة، وشجاعته المنقطعة النظير فقد رفع صوته ينادي أصحابه: عباد الله، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون. ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطرا بنفسه في هذا الظرف الدقيق. وفعلا فقد علم به المشركون فخلصوا إليه قبل أن يصل إليه المسلمون. تبدد المسلمين في الموقف: أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى فوق الجبل، ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران، فلم يتميزوا فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. روى البخاري عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس، أي عباد الله أخراكم - أي احترزوا من ورائكم - فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله أبي أبي. قالت: فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم. قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله. وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها الكثيرون، لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحا يصيح: إن محمدا قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها. فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقى بأسلحته مستكينا، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي - رأس المنافقين - ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان ...

احتدام القتال حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وبينما كانت تلك الطوائف تتلقى أواصر التطويق، تطحن بين شقي الرحى المشركين، كان العراك محتدما حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكرنا أن المشركين لما بدأوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تسعة نفر، فلما نادى المسلمين: هلم إلي، أنا رسول الله سمع صوته المشركون وعرفوه فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين فجرى بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفافي والبسالة والبطولة. روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه (أي القرشيين) ما أنصفنا أصحابنا. وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السكن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط. أحرج ساعة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرشيين فقط. ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال: (لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص.) وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفرصة ذهبية بالنسبة للمشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة. فقد ركزوا حملتهم على النبى - صلى الله عليه وسلم - وطمعوا في القضاء عليه ... ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير حتى لم يتركا - وهما اثنان فحسب - سبيلا إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنانته وقال: إرم سعد فداك أبي وأمي.

ويدل على مدى كفاءته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع أبويه لأحد غير سعد. وأما طلحة بن عبيد الله فقد روى النسائي عن جابر قصة تجمع المشركين حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من الأنصار، قال جابر: فأدرك المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار وقتلهم واحدا بعد واحد بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة، قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حسن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، قال: ثم رد الله المشركين، ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعا وثلاثين أو خمسا وثلاثين، وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها. وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد. وروى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه يومئذ: (من ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله). وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة. وقال فيه أبو بكر أيضا: يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت ... لك الجنان وبوئت المها العينا وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب ففي الصحيحين عن سعد، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ومعه رجلان يقاتلان معه (¬1) عليهما ثياب بيض، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد، وفي رواية يعني جبريل وميكائيل. بداية تجمع الصحابة حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته - صلى الله عليه وسلم - - الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال - لم يكادوا يرون تطور الموقف أو يسمعون صوته - صلى الله عليه وسلم - حتى أسرعوا إليه لئلا يصل إليه شيء يكرهونه .. إلا أنهم وصلوا ¬

(¬1) كان هذا في اللحظة التي سقط فيها طلحة جريحا، ولم يبق حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قرشي واحد هو سعد بن أبي وقاص راوي الحديث.

وقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لقي من الجراحات. وستة من الأنصار قد قتلوا، والسابع قد أثبتته الجراحات .. فقد روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فكنت أول من فاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه، يحميه، قلت: كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإذا طلحة بين يديه صريعا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - دونكم أخاكم فقد أوجب. وقد رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجنته حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني، قال: فأخذ بفيه فجعل ينضضه كراهة أن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استل السهم بفيه فندرت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني، قال فأخذه فجعل ينضضه حتى استله، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دونكم أخاكم فقد أوجب، قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة. وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي - صلى الله عليه وسلم - عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دجانة، ومصعب بن عمير، وعلي بن أبي طالب، وسهل ابن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية وزوجها وولداها) وقتادة بن النعمان وعمر بن الخطاب، وحاطب ابن أبي بلتعة، وسهل بن حنيف، وأبو طلحة. تضاعف ضغط المشركين: كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين، حتى سقط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجحشت ركبته وأخذ علي بيده. واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، وقال نافع بن جبير سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله - وسطها كل ذلك يصرف

عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع. المتعاقدون على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكان أربعة من قريش قد تعاقدوا وتعاهدوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفهم المشركون بذلك، وهم عبد الله بن شهاب الزهري وعتبة بن أبي وقاص (¬1)، وعمرو بن قميئة، وأبي بن خلف (وزاد بعضهم عبد الله بن حميد بن زهير ..) ورمى عتبة يومئذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أحجار فكسر رباعيته أشظى باطنها اليمنى السفلى. وأقبل ابن قميئة وهو يقول: دلوني على محمد فوالذي يحلف به لئن رأيته لأقتلنه، فعلاه بالسيف، ورماه عتبة بن أبي وقاص مع تجليل السيف، وكان عليه درعان. فوقع - صلى الله عليه وسلم - في الحفرة التي أمامه على جنبه فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئا إلا وهن الضربة بثقل السيف، فقد وقع لها - صلى الله عليه وسلم - وانتهض، وطلحة يحمله من ورائه، وعلي آخذ بيده حتى استوى قائما. ورمى ابن قميئة بسهم فأصاب مصعب بن عمير رضي الله عنه فقتله، فقال - صلى الله عليه وسلم - ما له، أقمأه الله (¬2)؟ ورجع عدو الله إلى قومه فأخبرهم أنه قتل رسول الله. فعمد (بعد المعركة في مكة) إلى شاة يحتلبها فنطحته بقرونها وهو معتقلها فقتلته فوجد ميتا بين الجبال. وأقبل عبد الله بن حميد بن زهير حين رأى رسول الله على تلك الحال، يركض فرسه مقنعا في الحديد يقول: أنا ابن زهير! دلوني على محمد. فوالله لأقتلنه أو أموتن دونه. فقال له أبو دجانة: هلم إلى من يقي نفس محمد بنفسه. وضرب فرسه عرقبها ثم علاه بالسيف فقتله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه ويقول، اللهم ارض عن أبي خرشة كما أنا عنه راضى. ¬

(¬1) إنها معجزات العقيدة أن يتعاقد عتبة بن أبي وقاص على قتل عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرمي الرسول بأحجاره. بينما كان أخوه سعد بن أبي وقاص أحد الذين بقوا بجوار الرسول صل الله عليه وسلم يحميه ويذود عنه. ولم يتغيب عن الذود عنه لحظة واحدة. بل كان أشد ما يكون حرصا على قتل أخيه عتبة غير أن أجله كان على غير يده. (¬2) وهو الذي صاح بقتل محمد حين حسب مصعبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأقبل يومئد أبي بن خلف يركض فرسه فجعل يصيح بأعلى صوته، يا محمد، لا نجوت إن نجوت، فقال القوم: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كنت صانعا حين يغشاك، فقد جاءك! وإن شئت عطف عليه بعضنا، فأبى - صلى الله عليه وسلم -، ودنا أبي، فتناول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصمة، ويقال الزبير بن العوام، ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير فتطاير عنه أصحابه - ولم يكن أحد يشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جد الجد - ثم أخذ الحربة فطعنه بها في عنقه وهو على فرسه فجعل يخور كما يخور الثور، ويقول له أصحابه: أبا عامرا والله ما بك من بأس، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره! فيقول: لا واللات والعزى، لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون أليس قال لأقتلنك (¬1). وقال عبد الله بن عمر مات أبي بن خلف ببطن رابغ. وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص - الذي كسر الرباعية الشريفة - فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه. إشاعة مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثره على المعركة: ولم يمض هذا الصياح دقائق حتى شاع خبر مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - في المشركين والمسلمين. وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والاضطراب إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين. الرسول - صلى الله عليه وسلم - يواصل المعركة وينقذ الموقف: ولما قتل مصعب أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواء علي بن أبي طالب فقاتل قتالا شديدا، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة يقاتلون ويدافعون. وحينئد استطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، ¬

(¬1) كان عند أبي فرس فكان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عندي فرص أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها. فيقول له عليه الصلاة والسلام: بل أن أقتلك عليها إن شاء الله.

فأقبل إليهم، فعرفه كعب بن مالك - وكان أول من عرفه - فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إليه أن أصمت - وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون - إلا أن هذا الصوت - بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله ثلاثين رجلا من الصحابة. وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم، لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام. تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة - أحد فرسان المشركين - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: لا نجوت إن نجا، وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصمة فضربه على رجله فأقعده، ثم ذفف عليه وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعطف عبد الله بن جابر - فارس آخر من فرسان مكة - على الحارث ابن الصمة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون. ولكن انقض أبو دجانة - البطل المغامر ذو العصابة الحمراء - على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه. وأثناء هذا القتال المرير، كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه. وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة - في انسحاب منظم - إلى شعب الجبل وشق لبقية الجيش طريقا إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -. طلحة ينهض بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: وفي أثناء انسحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها ليعلوها، فلم يستطع، لأنه كان قد بدن وظاهر بين الدرعين وقد أصابه جرح شديد. فجلس تحته

طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها وقال: أوجب طلحة، أي: الجنة. آخر هجوم قام به المشركون: ولما تمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل، يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل. وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد: أجنبهم - يقول: أرددهم - فقال: كيف، أجنبهم وحدي؟ فقال: ذلك ثلاثا، فأخذ سعد سهما من كنانته، فرمى به رجلا فقتله، قال: ثم أخدت سهمي أعرفه فرميت به آخر، فقتلته ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك فجعلته في كنانتي. فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه. شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر: ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى أفيكم محمد؟ فلم يجييبوه، قال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه. - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - منعهم من الإجابة - ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء. وقد أبقى الله ما يسوءك فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم قال: أعل هبل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل. ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. ثم قال أبو سفيان: أنعمت فقال، يوم بيوم بدر، والحرب سجال. فأجابه عمر، وقال: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. ثم قال أبو

سفيان: هلم إلي يا عمر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أئته فانظر ما شأنه؟ فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله - صلى الله عليه وسلم - يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا. وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر. التثبت من موقف المشركين: ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، فقال: أخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟. فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة. والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل. حالة الطوارىء في المدينة: بات المسلمون في المدينة - ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ بعد الرجوع من معركة أحد - وهم في حالة الطوارىء، باتوا - وقد أنهكهم التعب، ونال منهم أي منال - يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها، ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب. غزوة حمراء الأسد: وبات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يفكر في الموقف، فقد يخاف أن المشركين إن فكروا في أنفسهم في أنهم لم يستفيدوا شيئا من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال، فلا بد أن يندموا على ذلك، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة ثانية، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي. قال أهل المغازي ما حاصله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نادى في الناس وندبهم إلى السير إلى لقاء العدو - وذلك صباح الغد من معركة أحد - أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ - وقال: لا يخرج معنا إلا من شهد القتال، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك! قال: لا، واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد، والخوف المزيد، وقالوا: سمعا وطاعة واستأذنه جابر بن عبد الله، وقال: يا رسول الله، إني أحب أن لا نشهد مشهدا إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته، فأذن لي، أسير معك، فأذن له. وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية

أميال من المدينة فعسكروا هناك. وهناك أقبل معبد بن معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم - ويقال: بل كان على شركه، فقال: يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولودنا أن الله عافاك، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم أن يلحق أبا سفيان فيخذله. ولم يكن ما خافه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقا، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلا من المدينة تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي معهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم. ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحيا ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديرا صحيحا، ولذلك خالفهم زعيم مسؤول (صفوان بن أمية) قائلا: يا قوم لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج .. فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة وأجمع جيش مكة على المسير نحو المدينة. ولكنه قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي، ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه؟ فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد - وقد شهد عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة - محمد، قد خرج يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال أبو سفيان: ويحك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل - أو حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة. فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل فإني لك ناصح. وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي، وأخذه الفزع والرعب، فلم ير العافية إلا في مواصلة الانسحاب والرجوع إلى مكة. بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي، لعله ينجح في كف هذا

الجيش من مواصلة المطاردة. وطبعا فهو ينجح في الاجتناب عن لقائه، فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة. وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟ قالوا: نعم. قال: فأبلغوا محمدا أنا أجمعنا الكرة، لنستأصله ونستأصل أصحابه. فمر الركب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم بحمراء الأسد فأخبرهم بالذي قاله أبو سفيان وقالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشموهم، فزادهم - أي زاد المسلمين قولهم: ذلك - إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم}. أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحمراء الأسد - بعد مقدمه يوم الأحد - الإثنين والثلاثاء والأربعاء - 9/ 10/ 11 شوال سنة 3 هـ ثم رجع إلى المدينة (¬1). ز - الثبات يوم الخندق، ومحاولة تفتيت الصف: 1 - فندب الناس وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم: أيبرز من المدينة، أم يكون فيها ويخندق عليها؟ أم يكون قريبا والجبل وراءهم؟ فاختلفوا. وكان سلمان الفارسي يرى رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهم بالمقام في المدينة ويريد أن يتركهم حتى يردوا. ثم يحاربهم على المدينة وفي طرقها - فأشار بالخندق فأعجبهم ذلك، وذكروا يوم أحد فأحبوا الثبات في المدينة، وأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجد، ووعدهم النصر إن هم صبروا واتقوا وأمرهم بالطاعة، وركب فرسا له - ومعه عدة من المهاجرين والأنصار - فارتاد موضعا ينزله، وجعل سلعا خلف ظهره، وعمل في حفر الخندق لينشطهم. 2 - فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبته - والمسلمون على خندقهم يتناوبونه، معهم بضع وثلاثون فرسا، والفرسان يطوفون على الخندق - إذ جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله: بلغني أن بني قريظة ¬

(¬1) أخذنا هذا التلخيص الجيد كله عن الرحيق المختوم للمباركفوري، عدا فقرة واحدة - من الصفحات 294 - 320، وهي من أوفى ما كتب في شرح الغزوة وإيضاح عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم في قيادتها وتحويل الهزيمة الساحقة إلى نصر مؤزر ترتجف له قلوب الجيش المكي هاربة من لقائه إلى مكة.

قد نقضت العهد وحاربت. فاشتد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وبعث الزبير بن العوام رضي الله عنه إليهم لينظر، فعاد بأنهم يصلحون حصونهم، ويدربون طرقهم وقد جمعوا ماشيتهم؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن لكل نبي حواريا. إن! حواري الزببر، ثم بعث سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير لينظروا ما بلغه عن بني قريظة وأوصاهم - إن كان حقا - أن يلحنوا (أي يلغزوا) لئلا يفت في أعضاد المسلمين ويورث وهنا، فوجدوهم مجاهرين بالعداوة والغدر فتسابوا ونال اليهود من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسبهم سعد بن معاذ وانصرفوا عنهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما وراءكم؟ قالوا: غضل والقارة. (يعنون كدرهم بأصحاب الرجيع). فكبر - صلى الله عليه وسلم - وقال: أبشروا بنصر الله وعونه. 3 - وأقام - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه محصورين بضع عشرة ليلة حتى اشتد الكرب ... وأرسل إلى عينية بن حصن، والحارث بن عوف - وهما رئيسا غطفان - أن يجعل لهما ثلث ثمار المدينة ويرجعان بمن معهما فطلبا نصف الثمر فأبى عليهم إلا الثلث، فرضيا، وجاءا في عشرة من قومهما حتى تقارب الأمر ... فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما فقالا: إن كان هذا أمرا من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمع وطاعة. وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة فقلت أرضيهم ولا أقاتلهم (أو فأحببت أن أخفف عنكم). فقالا: يا رسول الله، والله إن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منا قط: إن يأخذوا تمرة واحدة إلا بشراء أو قرى! فحين أتانا الله بك، وأكرمنا بك، وهدانا بك، نعطي الدنية! لا نعطيهم أبدا إلا السيف. فقال - صلى الله عليه وسلم -: شق الكتاب، فشقه سعد، فقام عيينة والحارث. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ارجعوا، بيننا السيف، رافعا صوته. وكان نعيم بن مسعود صديقا لبني قريظة. فقذف الله في قلبه الإسلام، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلا فأسلم، فأمر أن يخذل الناس،

السمة الرابعة والعشرون النصر الإلهي في قلب المحن

وأذن له أن يقول. نقاط علامة ثلاث - كما رأينا - في غزوة الخندق حولت مجرى المعركة كاملا: فحفر الخندق أحبط الهجوم كله، وحصر خسائر المسلمين في ستة قتلى فقط. والثبات عند خبر بني قريظة والتكبير والبشارة بالنصر رفع المعنويات للجيش، وأي قائد غير رسول الله ما كان أمامه إلا إعلان الاستسلام، في الوقت الذي خطر الخبر على أركان جيشه فقط. لولا تسريب الخبر عن طريق اليهود للمنافقين (¬1). وبقي الفكر البشري يجهد ويدأب، فاتجه إلى تحطيم الحصار عن طريق شق صف العدو بإعطائه ثلث ثمار المدينة، ثم التراجع عن الفكرة عند استعداد الجيش للتضحية. ولكن شق صف العدو بقي هدفا في حد ذاته وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يدي نعيم. حتى تحقق الهدف وحطم الحصار. وانجلى الموقف عن نصر مؤزر للمسلمين. السمة الرابعة والعشرون النصر الإلهي في قلب المحن بعدما رأينا الجهد البشري في البذل رجالا ونساء، والجهد البشري في البناء والتخطيط، ووجدنا أنه المدى الأقصى الذي يملكه البشر في عالمهم. يصبح من المناسب جدا أن نتحدث عن سمة النصر الإلهي في قلب المحن، والعون الرباني في خضم المعارك، فالله تعالى لا يفعل بعذاب عباده شيئا، والله تعالى وعد بنصر جنده وعباده الصالحين. {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا .. (¬2)}. {ولقد ¬

(¬1) المقاطع الثلاثة من إمتاع الأسماع 1/ 219 - 220 و 229 - 230 و 235 - 236. (¬2) سور النور، من الآية 55.

سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون (¬1)}. {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (¬2). ولنلحظ تحقيق هذه الإرادة الربانية في نصر هذا الدين من خلال النماذج التالية: أ - في بدر: الجيش الإسلامي الخارج للقاء العير تفرض عليه المعركة فرضا بإرادة ربانية أن تكون له ذات الشوكة. وحين أبدى استعداده للموت في سبيل الله، جاءه المدد الرباني أرسالا. 1 - الملائكة: (وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان منذ رجوعه بعد تعديله الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول: اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة، واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها قال: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا. وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك أود أن الله منجز ما وعدك). وأغفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع (أي الغبار) وفي رواية ابن إسحاق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بزمام فرسه يقود على ثناياه النقع .. (¬3)). {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين .. (¬4)}. ¬

(¬1) سورة الصافات، الآيات 171 - 172 - 173. (¬2) سور القصص، الآيتان 5 و 6. (¬3) الرحيق المختوم 241. (¬4) الأنفال، الآية 9.

المطر والنعاس: وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان، وبعث الله السماء فأصاب المسلمين ما لبد الأرض ولم يمنع من السير، وأصاب قريشا من ذلك ما لم يقدروا على أن يرتحلوا منه، وإنما بينهم قوز من رمل، وكان مجيء المطر نعمة وقوة للمؤمنين، وبلاء ونقمة على المشركين. وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس ألقي عليهم فناموا حتى أن أحدهم تكون ذقنه بين ثدييه وما يشعر حتى يقع على جنبه، واحتلم رفاعة بن رافع بن مالك حتى اغتسل آخر الليل. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فأطافا بالقوم، ثم رجعا فأخبراه أن القوم مذعورون، وأن السماح تسح عليهم (¬1)). {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام (¬2)}. الملائكة تقاتل وتثبت: (.. وزادهم نشاطا وحدة أن رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثب في الدرع ويقول في حزم وصراحة (سيهزم الجمع ويولون الدبر) فقاتل المسلمون أشد القتال، ونصرتهم الملائكة، ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال: كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه، وتندر يد الرجل لا يدري من ضربها، وقال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة. قال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري، وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب، أسيرا فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق وما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: اسكت فقد أيدك الله بملك كريم (¬3)}. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع 1/ 78. (¬2) سورة الأنفال، الآية 11. (¬3) الرحيق المختوم للمباركفوري 243.

(فبينما هو جالس (أي أبو لهب) إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطب قد قدم فقال أبو لهب: هلم إلي فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكنافنا يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا. وايم الله مع ذلك ما لمت القوم، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء (¬1)) {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (¬2)}. القلة والكثرة: {إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور (¬3)}. سيف عكاشة: وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن. فأعطاه النبي جذلا. من حطب: فقال: دونك هذا فلما أخذه عكاشة وهزه عاد في يده سيفا طويلا، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل أيام أبي بكر، قتله طليحة الأسدي شهيدا (¬4)). من المعجزات في أحد النعاس: وأثناء هذا القتال المرير، كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة: (كنت فيمن تغشاه النعاس ¬

(¬1) المصدر نفسه 251. (¬2) سورة الأنفال الآية 12. (¬3) الأنفال / 43 و 44. (¬4) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب 187.

يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه (¬1)). روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد، وجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحث جحفته من النعاس. {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم .. (¬2)}. عين قتادة: وأصيبت عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذها وردها فعادت كما كانت ولم تضرب عليه بعدها وكان يقول بعدما أسن: هي أقوى عيني! وكانت أحسنهما (¬3)). حنظلة غسيل الملائكة: وخرج حنظلة بن أبي عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسوي الصفوف بأحد، فلما انكشف المشركون ضرب فرس أبي سفيان بن حرب فوقع على الأرض وصاح وحنظلة يريد ذبحه. فأدركه الأسود بن شعوب فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه - ومشى حنظلة إليه في الرمح وقد أثبته ثم ضربه الثانية فقتله؟ ونجا أبو سفيان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة. قال أبو أسيد الساعدي: فذهبنا إليه، فإذا رأسه يقطر ماء. فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أرسل إلى امرأته فسألها فأخبرته أنه خرج وهو جنب (¬4)). حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في الصحيحين عن سعد قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض، كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد، وفي رواية يعني جبريل وميكائيل (¬5). ¬

(¬1) الرحيق المختوم 307 عن صحيح البخاري 2/ 582. (¬2) آل عمران من الآية 154. (¬3) إمتاع الأسماع 1/ 133. (¬4) إمتاع الأسماع 1/ 950. (¬5) الرحيق المختوم 301 عن صحيح البخاري 2/ 585.

وقال نافع بن جبير سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، فخرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك (¬1). سهم سعد: وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد: أجنبهم - يقول: أرددهم - فقال: كيف أجنبهم وحدي؟. فقال ذلك ثلاثا، فأخذ سعد سهما من كنانته، فرمى به رجلا فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي، فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه (¬2). من المعجزات في الخندق في حفر الخندق: (إنا يوم خندق نحفر فعرضت علينا كدية شديدة فجاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر - ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقا - فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المعول فضرب، فعاد كثيبا أهيل أو أهيم (أي صار رملا لا يتماسك (¬3)). وقال البراء: لما كنا يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول. فاشتكينا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء وأخذ المعول فقال: ¬

(¬1) المصدر نفسه عن زاد المعاد، 2/ 97. (¬2) المصدر نفسه عن زاد المعاد 2/ 95. ولقد رأيت بأم عيني قوس سعد وسهمه ضمن حاجز زجاجي في بيت خرب في المدينة المنورة عام 1493. ولعل الدار هدمت بعد ذلك وهي قريبة من المسجد النبوي. (¬3) المصدر نفسه عن البخاري 2/ 588.

بسم الله ثم ضرب ضربة وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام. والله إني لأنظر إلى قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء مكاني (¬1). جوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين: كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتت الأكباد. قال أنس: كان أهل الخندق يؤتوون بملء كفي من شعير. فيصنع لهم بإهالة سخنة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي لشعة في الحلق ولها ريح) (¬2). وقال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حجرين (¬3). إطعام الله تعالى المسلمين ببركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وبهذه المناسبة وقع في حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأى جابر بن عبد الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحفر، ورآه خميصا فأتى امرأته فأخبرها ما رأى من خمص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: والله ما عندنا شيء إلا هذه الشاة ومد من شعير، قال: فاطحني واصلحي. فطبخوا بعضها، وشووا بعضها، وخبزوا الشعير، ثم أتى جابر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله قد صنعت لك طعاما فأت أنت ومن أحببت من أصحابك. فشبك - صلى الله عليه وسلم - أصابعه بين أصابع جابر. ثم قال: أجيبوا جابرا يدعوكم. فاقبلوا معه، فقال جابر في نفسه: والله إنها الفضيحة! وأتى المرأة فأخبرها فقالت: أنت دعوتهم أم هو؟ فقال: بل هو دعاهم! قالت: دعهم، فهو أعلم، وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر أصحابه، وكانوا فرقا عشرة عشرة. ثم قال لجابر: اغرفوا وغطوا البرمة، وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه ففعلوا، وجعلوا يغرفون ويغطون البرمة ثم يفتحونها فما يرونها نقصت ¬

(¬1) المصدر نفسه عن سنن النسائي 2/ 56 وأحمد في مسنده. (¬2) الرحيق المختوم 341 عن صحيح البخاري 2/ 588. (¬3) المصدر نفسه عن البخاري 2/ 588.

شيئا؟ ويخرجون الخبز من التنور ويغطونه فما يرونه ينقص شيئا. فأكلوا حتى شبعوا وأكل جابر وأهله (¬1). (وجاءت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر إلى الخندق ليتغدى أبوه وخاله، فمرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطلب منها التمر وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق فجعلوا يأكلون منه. وجعل التمر يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه يسقط من أطراف الثوب (¬2). إسلام تميم بن مسعود وخطته الناجحة (¬3) -: ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي. فمرني بما شئت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم؟ قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن أرادوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم دخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأبديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي. ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، إنه قد بلغني أمر قد رأيت ¬

(¬1) إمتاع الأسماع 1/ 224 وقد أوردها البخاري في صحيحه 2/ 588، 589. (¬2) السيرة لابن هشام 3/ 228 - 229. (¬3) اعتبرنا إسلام نعيم من المعجزات الإلهية. لأن أي تخطيط بشري لا يضع في حسبانه انضمام قائد من أعدائه إليه، وتحطيم جيشه وجيش حلفائه. وذلك في قلب المعركة.

علي حقا أن أبلغكموه، نصحا لكم فاكتموا عني، فقالوا: نفعل؟ قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه، إنا قد ندمنا على ما فعلنا؟ فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم، فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من رقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى حتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم. فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ مما بيننا وبينه؟ فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين

الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم (¬1). الريح التي بعثها الله على الأحزاب والجنود التي لم يرها المؤمنون: وبعث الله عليهم الريح في ليالي شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم. فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم، لينظر ما فعل القوم ليلا. قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله وصحبتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد؟ قال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال: فقال حذيفة: يا ابن أخى، والله لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق، وصلى رسول - صلى الله عليه وسلم - هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجعة - أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم، من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني؟ فقال: يا حذيفة، إذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا. قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان. ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 240 - 242.

السمة الخامسة والعشرون التربية الإلهية للنفوس عقب المعارك

ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع (¬1) والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل؟ ثم قام إلى حمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن لا تحدث شيئا حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم يصلي في مرط (¬2) لبعض نسائه، مراجل. فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش. فانشمروا راجعين إلى بلادهم. ولما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة، والمسلمون ووضعنا السلاح (¬3). السمة الخامسة والعشرون التربية الإلهية للنفوس عقب المعارك لقد كانت التربية الإلهية في الحقيقة مستمرة لا تنقطع أبدا في الحضر والسفر، في الجهاد والإقامة، في الغزو وفي المرابطة. كان القرآن يتنزل ليبني هذه الأمة ويصنعها على عين الله سبحانه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمام المربين، يعالج هذه النفوس البشرية حتى تستوي على منهج الله. وهو الخط الذي لم ينقطع أبدا خلال حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. وحيث أنه من الصعب التفصيل بكل معالم هذه التربية خلال هذه المرحلة، فيكفي أن نقف مع كتاب الله تعالى، وهو يعالج هذه النفوس ¬

(¬1) الكراع: الخيل. (¬2) المرط: الكساء. (¬3) المصدر نفسه 3/ 242 - 244.

البشرية بعد كل معركة، فيأتي البيان مختلفا في أحيان كثيرة عن العرض البشري للمعركة. بدر وسورة الأنفال ونترك للشهيد سيد قطب رحمه الله أن يقدم لنا معالم هذا البيان الرباني بعد المعركة: في هذه الغزوة .. نزلت سورة الأنفال .. نزلت تعرض وقائع الغزوة الظاهرة وتعرض وراءها فعل القدرة المدبرة لكشف عن قدر الله وتدبيره في وقائع الغزوة، وفيما وراءها من خط سير التاريخ البشري كله، وتحدث عن هذا كله بلغة القرآن الفريدة، وبأسلوب القرآن المعجز ... إن هنالك حادثا بعينه في الغزوة يلقي ضوءا على خط سيرها. ذلك هو ما رواه ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمه عن بواء (يقول: على السواء). هذا الحادث يلقي ضوءا على افتتاح السورة، وعلى خط سيرها كذلك: لقد اختلفوا على الغنائم القليلة في الوقعة التي جعلها الله فرقانا في مجرى التاريخ البشري إلى يوم القيامة! ولقد أراد الله سبحانه أن يعلمهم، وأن يعلم البشر كلهم من بعدهم أمورا عظاما .. أراد أن يعلمهم ابتداء أن أمر هذه الوقعة أكبر كثيرا من أمر الغنائم التي يختلفون عليها فسمى يومها يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان. وأراد أن يعلمهم أن هذا الأمر العظيم إنما ثم بتدبير الله وقدره، في كل خطوة وفي كل حركة ليقضي من ورائه أمرا يريده، فلم يكن لهم في هذا النصر وما وراءه من عظائم الأمور يد ولا تدبير، وسواء غنائمه الصغيرة وآثاره الكبيرة، فكلها من فعل الله وتدبيره، إنما أبلاهم فيه بلاء حسنا من فضله!

وأراد أن يريهم مدى الفرق بين ما أرادوه هم لأنفسهم من الظفر بالعير؛ وما أراده الله لهم وللبشرية كلها من ورائهم من إفلات العير، ولقاء النفير، ليروا على مد البصر مدى ما بين إرادتهم بأنفسهم وإرادة الله بهم من فرق كبير! ولأن المعركة - كل معركة يخوضها المؤمنون - من صنع الله وتدبيره، بقيادته وتوجيهه، بعونه ومدده. بفعله وقدره. له وفي سبيله. تكرر الدعوة في السورة إلى الثبات فيها، والمضي معها، والاستعداد لها، والاطمئنان إلى تولي الله فيها، والحذر من المعوقات عنها من فتنة الأموال والأولاد، والاستمساك بآدابها، وعدم الخروج لها بطرا ورثاء الناس، ويؤمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريض المؤمنين عليها. وفي ذات الوقت الذي تتكرر الأوامر بالتثبيت في المعركة يتجه السياق إلى توضيح معالم العقيدة وتعميقها، ورد كل أمر وكل حكم وكل توجيه إليها، فلا تبقى الأوامر معبقة في الفراغ إنما ترتكز على ذلك الأصل الواضح الثابت العميق. ويبرز في سياق السورة بصفة خاصة - إلى جانب خط العقيدة - خط آخر هو خط الجهاد وبيان قيمته الإيمانية والحركية، وتجريده كذلك من كل شائبة شخصية، وإعطائه مبرراته الذاتية العليا التي ينطلق بها المجاهدون في ثقة وطمأنينة واستعلاء إلى آخر الزمان. وأخيرا فإن السورة تنظم ارتباطات الجماعة المسلمة على أساس العقيدة كما أسلفنا، وبيان الأحكام التي تتعامل بها مع غيرها من الجماعات الأخرى في الحرب والسلم - إلى هذه الفترة التي نزلت فيها السورة - وأحكام الغنائم والمعاهدات وتضع خطوطا أصيلة في تنظيم تلك الروابط وهذه الأحكام. هذا مجمل لخطوط السورة الرئيسة .. فإذا كانت السورة بجملتها إنما نزلت في غزوة بدر وفي التعقيب عليها، فإننا ندرك من هذا طرفا من منهج القرآن في تربية الجماعة المسلمة، وإعدادها لقيادة البشرية، وجانبا من نظرة

هذا الدين إلى حقيقة ما يجري في الأرض وفي حياة البشر مما يقوم منه تصور صحيح لهذه الحقيقة. لقد كانت هذه الغزوة هي أول وقعة كبيرة لقي فيها المسلمون أعداءهم من المشركين. فهزموهم تلك الهزيمة الكبيرة ... ولكن المسلمين لم يكونوا قد خرجوا لهذه الغاية، لقد كانوا إنما خرجوا ليقطعوا الطريق على قافلة قريش الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم. فأراد الله للعصبة المؤمنة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة .. أراد لها أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من عتاة قريش الذين جمدوا الدعوة في مكة، ومكروا مكرهم لقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما بلغوا بأصحابه الذين تابعوه على الهدى غاية التعذيب والتنكيل والأذى ... لقد أراد الله سبحانه أن تكون هذه الوقعة فرقانا بين الحق والباطل، وفرقانا في خط سير التاريخ الإسلامي، ومن ثم فرقانا في خط سير التاريخ الإنساني .. وأراد أن يظهر فيها الآماد البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير لهم، وتدبر رب البشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر. كما أراد أن تتعلم العصبة المؤمنة عوامل النصر، وعوامل الهزيمة، تتلقاها مباشرة من مدربها ووليها، وهي في ميدان المعركة وأمام مشاهدها. وتضمنت السورة التوجيهات الموحية إلى هذه المعاني الكبيرة؟ وإلى هذه الحقائق الضخمة الخطيرة. كما تضمنت الكثير من دستور السلم والحرب، والغنائم والأسرى، والمعاهدات والمواثيق، وعوامل النصر وعوامل الهزيمة، كلها مصوغة في أسلوب التوجيه المربي، الذي ينشىء التصور الاعتقادي، ويجعله هو المحرك الأول والأكبر في النشاط الإنساني، وهذه هي سمة المنهج القرآني في عرض الأحداث وتوجيهها. ثم إنها تضمنت مشاهد من الموقعة، ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة وفي ثناياها وبعدها .. مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة وصورها وسماتها، كأن قارىء القرآن يراها فيتجاوب معها تجاوبا عميقا.

واستطرد السياق أحيانا إلى صور من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحياة أصحابه في مكة، وهم قلة مستضعفون في الأرض، يخافون أن يتخطفهم الناس. ذلك ليذكروا فضل الله عليهم في ساعة النصر، ويعلموا أنهم إنما سينصرون بنصر الله وبهذا الدين الذي آثروه على المال والحياة، وإلى صور من حياة المشركين قبل هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعدها وإلى أمثلة من مصائر الكافرين من قبل كدأب آل فرعون والذين من قبلهم لتقرير سنة الله التي لا تتخلف في الانتصار لأوليائه والتدمير على أعدائه (¬1). وإن كان الشهيد سيد قد قدم لنا وصفا حيا عن السورة فسأكتفي بعرض هذه الخطرات من خلال السورة الكريمة ومن وحيها: 1 - لكل أمة نشيد، ونشيدنا نحن الأمة المسلمة سورة الأنفال، فلقد تجاوزت هذه السورة الزمان والمكان، وصارت نشيد المسلمين قبل أية معركة يخوضونها، يتلوها الجيش المسلم كله بصوت واحد. يجأر فيها بالدعاء إلى الله، أن ينزل نصره المؤزر كما أنزل في بدر، وتعلن كتائب الإيمان قبل خوضها المعركة براءتها هن حولها وقوتها وضعفها وعجزها وإيوائها إلى الركن الشديد إلى الله رب العالمين {فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون}. 2 - لقد افتتحت السورة الكريمة بعتاب لصفوة الله من خلقه. لخير أهل الأرض، للذين قال الله تعالى فيهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وبلغ العتاب من الشدة والعنف ما جعلهم يخافون على إيمانهم. {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}. ¬

(¬1) في ظلال القرآن مقتطفات من ص 784 - 794. ط دار إحياء التراث العربي.

3 - وبعد أن يرتفع بقلويهم الوجلة - ويجردهم من ذواتهم وأشخاصهم، يعود بهم بعد هذا التطواف العنيف ليقول لهم في آخر السورة. إنكم أننم المؤمنون حقا، وبالذات. {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم}. 4 - الملائكة عاجزة عن تحقيق النصر، وهي مفتقرة إلى معية الله سبحانه، والذي يحقق النصر، هو رب العالمين وحده. {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم}. {إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم ..} فالملائكة تحتاج إلى تثبيت من الله سبحانه. 5 - الله تعالى هو الذي يدير المعركة بجنده من البشر والملائكة ضد المحادين لله ورسوله. {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان}. 6 - كانت المعالجة من الضخامة على قدر ضخامة النصر، وإلا لاستخفهم النصر حين طاروا فيه، فكما قال الأنصاري سلمة بن سلامة رضي الله عنه حين رأى المسلمين الذين لم يشهدوا المعركة يهنؤون الظافرين: ما الذي تهنؤوننا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن. فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: يا ابن أخى أولئك الملأ.

هذا بيان للناس 1 - اهتداؤنا بالبيان يعني أننا مؤمنون. {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}. 2 - المؤمنون هم الأعلون، وتلك أولى فقرات البيان: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}. 3 - لا عبرة بالخسائر المادية: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ..}. 4 - المحنة ضرورة، لماذا؟ أ - {وليعلم الله الذين آمنوا}. ب - {ويتخذ منكم شهداء}. حـ - {والله لا يحب الظالمين}. فلو أحبهم الله لاتخذ منهم شهداء. إنها محنة الحب للمؤمنين الصادقين. د - {ليمحص الله الذين آمنوا}. هـ - {ويمحق الكافرين}. فلا بد أن يتميز المحبون المخلصون من الأدعياء، وشتان شتان، بين التمحيص وبين المحق والإبادة. 5 - لا جنة بلا جهاد: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}. 6 - بين الحقيقة والادعاء: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون}. 7 - الارتباط بالرسالة لا بشخص الرسول: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}. 8 - النصر ثواب الدنيا، والمغفرة ثواب الآخرة: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين}. 9 - الرباني لا يعرف الوهن والضعف: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين}.

10 - غاية الرباني المغفرة فالثبات فالنصر: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الأخرة والله يحب المحسنين}. 11 - الخسارة بطاعة الكافرين: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين}. 12 - الله خير الناصرين، وخير من كل أهل الأرض {بل الله مولاكم وهو خير الناصرين}. 13 - الرعب من الله يلقى على الكافرين: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين}. 14 - النصر تم: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ..}. 15 - أسباب فقدان النصر: الفشل والتنازع في الأمر وحب الدنيا: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة ..}. 16 - الابتلاء عفو وفضل: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} ولولا عفو الله لانتهى المسلمون، ولأبيدوا. لكن عين الله ترعاهم حتى في الابتلاء والعقوبة. فالمؤمن يفشل، والمؤمن يعصي، والمؤمن يحب الدنيا، فإن عوقب فيها فذلك فضل من الله كبير. 17 - لا حزن على عقوبة الخطيئة: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون}. 18 - الصامدون كوفئوا بالأمن النفسي: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ..} ثم فزعوا من نومهم وكأنهم لم يصبهم من قبل نكبة.

19 - المؤمن الضعيف يتزلزل: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}. 20 - المعركة تكشف مستويات الإيمان {... وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور}. 21 - الخطيئة تورث الفرار: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم}. فلقد كان التولي نتيجة استدراج من الشيطان، ونتيجة خطأ أو معصية أورثت وهنا في القلب، وضعفا في الإيمان. أدى إلى التولي يوم الزحف، ومن فضل الله عليهم أنه عفا عنهم. وكفاهم من العقوبة الجزع النفسي والندم الداخلي العميق. 22 - الأخوة بين الكافرين والمنافقين: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير}. فالحسرة تأكل قلب المنافق من الخوف، وتأكل قلبه جزعا من الموت، ويثاقل إلى الحياة، بل يهيم في حبها، وترتعد فرائصه من الموت. 23 - المغفرة ولقاء الله: {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون}. وشتان ما بين من يرى الموت حسرة على ملذاته، وحرقا لفؤاده على شهواته، وبين من يراه زغرودة النصر وربيع الأماني بالمغفرة والرحمة ولقاء الله من المؤمنين). 24 - حدود الرسالة: رحمة ولين، عفو واستغفار وشورى، عزيمة وتوكل: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على

الله إن الله يحب المتوكلين}. وكما يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: (ثم يجيىء الأمر الإلهي بالشورى بعد المعركة كذلك تثبيتا للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة - إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته، وإن الأخطاء في مزاولته مهما بلغت من الجسامة لا تبرر إلغاءه .. كما أن المزاولة العملية للمبادىء تتجلى في تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم، واعتبار هذا ترددا وأرجحة وذلك صيانة لمبدأ الشورى، ومن أن يصبح المؤمنون وسيلة للأرجحة أو الشلل الحركي). 25 - لا نصر إلا من الله: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون}. ونحن أمام شيئين: إما أن نكون كافرين فنبحث عن غير الله، وإما أن نكون مؤمنين. فيجب أن نعتقد اعتقادا جازما أن الذي ينصر هو الله، وأن الذي يخذل هو الله ولا قبل لأحد بحرب الله ولا طاقة. 26 - {وما كان لنبي أن يغل}: فالقائد لا بد أن يكون القدوة لجنده، فكيف إذا كان نبيا القائد الذي يتعب ليستريح جنده، ويفتقر ليغنوا، ويحرم نفسه ليعطيهم، ويجهد ليسعدوا فما يمكن للرسول القدوة أن يغل. إنما يمكن للملأ، للقادة المترفين، لطغاة الأرض {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}. 27 - نعم ليسوا سواء: {أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون}. 28 - من الظلمات إلى النور: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. إنها منة الرسالة من الله تعالى لخلقه، وكم الفرق شاسع، وكم النقلة بعيدة بين الضياع في التيه والانبثاق من القرآن). 29 - عودة إلى المعركة. فلماذا المصيبة؟ لماذا الانتكاسة؟. إنها من النفس، إنها من الأعماق، إن الضعف في الداخل، ليس من السلاح، وليس

من تكالب الأعداء. إنها من النفس، {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير}. 30 - المصيبة للتميز والتطهير: إنها بإذن الله، وعلمه وإرادته، لا بد من تميز الصف، لا بد من كشف المؤمن من المنافق، لا بد من تطهير الصف الداخلي، لا بد من صدق التعاقد مع الله. {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبمهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}. كيف يمكن أن يكون هؤلاء المتخاذلون الخائرون المنافقون مثل من قدموا دمهم وحياتهم ولحمهم دون رسول الله، ولو تم النصر وانتهت المعركة في الجولة الأولى لبقي كثير من النوعيات الخائرة المتخاذلة التي همت أن تفشل في جانب الادعاء والتبجح. 31 - أما مقام الشهداء فيا له من مقام: (لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جابر بن عبد الله فقال: يا جابر ألا أحدثك عن أبيك؟ - قلت: بلى يا رسول الله. قال: إن الله لم يكلم أحدا شفاها وكلم أباك فقال: تمن يا عبدي. فقال: يا رب أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل ثانية في سبيلك. فقال الله له: أما هذه فقد سبق القول مني أنهم إليها لا يرجعون. تمن غير ذلك. فقال: يا رب أخبر إذن إخواننا الذين في الدنيا أننا أحياء في الجنة نأكل ونتنعم حتى لا ينكلوا عن الجهاد (¬1)، ولا يتخلفوا عن رسول الله. فأنزل الله عز وجل: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ¬

(¬1) أورده الإمام أحمد مختصرا، الفتح الرباني ج 22/ 306.

ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (¬1)}. 32 - تحدي الطاغوت: وبالرغم من الجراحات التي أثقلت جند الله، كان الجيش يخرج مع إطلالة الفجر لملاحقة المشركين ومطاردتهم. نستمع إلى مشاعر الجيش وآلامه على لسان أحد جنوده الذي يقول: شهدت أحدا مع رسول - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخ لي. فرجعنا جريحين. فلما أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج في طلب العدو. قلت لأخي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والله ما لنا من دابة نركبها. وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أيسر جرحا. فكان أخي إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى له المسلمون (¬2). أما بيان الله تعالى عن الحملة فكان: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم}. 33 - حسبنا الله ونعم الوكيل: أبو سفيان تحتقن روحه في حلقه يوم عاد مع جيشه دون أن يستأصل شأفة المسلمين، وقلبه يخفق رعبا من أن يلحق به جيش محمد. فحاول تحقيق نصر مزعوم بأن قال لوفد بني عبد القيس: (إذا وافيتموه - أي رسول الله - فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم). فجاءت شهادة الله تعالى بجنده المؤمنين: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}. 34 - الفئة المسلمة صفوة الله من خلفه: وقد تكون مثخنة بالجراح، وقد تكون عبقة بالآلام، وقد تكون مثقلة بالتضحيات، ولكنها تبقى صفوة ¬

(¬1) آل عمران / 169، 177. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 44. ط دار الجيل.

الله من خلقه ولو تبجح الكفر وتمرد، فهذه في ميزان الله خواء. فالمواساة إذن من الله يوم تطبق الأرض على المؤمنين فيقول الله تعالى لنبيه الكريم: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم إن الذين اشتروا الكفر بالإبمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب اليم ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين}. 35 - ليميز الخبيث من الطيب. هذه سنة الله تعالى مع جنده المؤمنين، وهذه خلاصة المحنة وهذه زبدة الدرس التربوي الخالد المستمر على مر العصور. {وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم}. وما كانت محنة أحد إلا تطبيقا عمليا لهذا الدرس ولهذه السنة، السنة الثابتة المستمرة على مر العصور ابتدأت {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}. وانتهت: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب (¬1)}. مع سورة بني النضير كان لهذه السورة صدى طيب عظيم في نفوس المسلمين، فهي أول نصر تحقق بعد المحن المتتابعة: أحد والرجيع وبئر معونة. والغيظ من اليهود وقد بلغ ذروته حيث أنهم أظهروا الشماتة للمسلمين بعد محنتهم، وأظهروا العداوة، وحاولوا اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فكانت شفاء للصدور المؤمنة، وبلسما للجراح الراعفة، وفضيحة للمنافقين المتواطئين مع اليهود، وذلك في معالم واضحة: ¬

(¬1) الآيات التي نزلت في غزوة أحد من سورة آل عمران من 137 إلى 179.

1 - الله تعالى أخرج اليهود من حصونهم: - فلم يكن يتصور المؤمنون أنهم قادرون على إخراجهم وإذا بالنصر المؤزر يتحقق بأن البيوت تخرب بأيدي المؤنين، وبأيدي اليهود أنفسهم، وهذه سنة الله تعالى في دحر المشاقين والمصادير له. {وهو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار (¬1)}. 2 - واستغل اليهود حادثة قطع نخيلهم، وراحوا يتحدثون عن الفساد فيه، ومحمد ينهي عن الفساد. وكاد الأمر يلتس على بعض المؤمنين. فنفى الله تعالى الحرج عنهم، ثم أكد لهم بعد ذلك أن النصر الذي تحقق لم يتحقق بجهد المؤمنين، إنما تحقق بقذف الرعب في قلوب الكافرين. ومن أجل هذا كان الفيء كله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع ربط هذه الأمور جميعا بالعبودية لله وطاعة رسوله {... وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (¬2)}. 3 - ولئن حرم المؤمنون الفيء: فلم يحرموا الثناء من رب العباد، المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة، إنما بقي الفيء للفقراء المؤمنين. ولعل هذه الصورة تعطينا الحكمة من هذا الثناء على هذا الجيل الفريد: لما غنم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير بعث ثابت بن قيس فدعا الأنصار كلها - الأوس والخزرج - فحمد الله وأثنى عليه، وذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم، وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله علي من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، لإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول ¬

(¬1) الحشر /2. (¬2) الحشر من الآية 7.

الله بل نقسمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادته الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم ارحم الأنصار واأبناء الأنصار، وقسم ما أفاء الله عليه على المهاجرين دون الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة، وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق وكان سيفا له ذكر (¬1). 40 - ثم كانت فضيحة المنافقين، وكشف خيانتهم وتواطئهم مع بني النضير على حرب المسلمين، وكشف جبنهم وكدرهم، إنهم أحقر من أن يواجهوا المسلمين وجها لوجه، وإن اليهود مثل المنافقين لا يقابلون المسلمين إلا وهم خلف حصوضهم {بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} (¬2). 5 - ثم تأتي الفقرة الأخيرة من السورة عقيدة خالصة، وتسبيحا وتنزيها لله تعالى رب السموات والأرض، مع تذكير المؤمنين بحسن الإبانة، ودعوة المنافقين إلى التوبة. إنها آيات تبني عقيدة وتصورا، كما تبني نفوسا صادقة ممحضة الولاء له. مع آيات الأحزاب في سورة الأحزاب 1 - لئن كانت المعركة قد استمر الحصار فيها للمسلمين بضعا وعشرين ليلة. فشتان ما بين الحصارين لقد انتهى حصار اليهود باستسلامهم وجلائهم أذلاء صاغرين عن المدينة. مخلفين وراءهم بيوتهم وأرضهم غنيمة للمؤمنين. بينما انتهى حصار قريش وغطفان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين بالفشل الذريع لقريش وغطفان، ولخص القرآن الكريم المعركة كلها بآية واحدة: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا}. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع: ج 1/ 182 - 183. (¬2) الآيات من سورة الأحزاب من الآية 9 للآية 26.

2 - ومع ذكر النعمة فلا بد من استعادة ذلك الجو الصعب، والظرف الدقيق، والحظر الداهم الذي نزل بالمسلمين. وكيف وصلوا إلى حالة قريبة من اليأس {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}. 3 - ثم التميز المطلوب بعد كل محنة، وفضيحة المنافقين وحصرهم، وفرارهم من المعركة بحجة أن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا}. 4 - ثم الثناء العطر على المؤمنين بثباتهم على الحق وإخلاصهم لله. {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}. 5 - ثم فضل الله تعالى على المؤمنين، من مرحلة {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} أقول من هذه المرحلة إلى مرحلة: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا كفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا (1)}. لقد كانت آياث سورة الأحزاب. تشيع الجو النفسي الجديد، بارتفاع المحنة، وكشف الغمة، وتضع معالم المرحلة القادمة من النصر المؤزر الذي افتتح بالقضاء على يهود بني قريظة فضاء تاما، ووراثة أرضهم وديارهم وأموالهم، وشتان ما بين حصار وحصار. حصار بني قريظة الذي انتهى {فريقا تقتلون وتأسرون فريقا} وحصار المؤمنين الذي انتهى، {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال ..}.

لقد انتهت مرحلة الدفاع، وابتدأت مرحلة الهجوم،. مرحلة انتشار الإسلام في الأرض. وانسياح هذا الدين في الوجود: (الآن نغزوهم ولا يغزونا). وما أحوجنا إلى فقه سمات كل مرحلة لنكون على بينة منها، ونحن نشق طريقنا الجديد لإقامة دولة الإسلام في الأرض، ونعرف موطن القدوة والأسوة. وتتمثل السمات نفسها لكل مرحلة. دون أن نعسف الطريق، ونتعجل الخطى، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وإلى معالم المرحلة الجديدة وسماتها. في الجزء القادم إن شاء الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الفهرس الموضوع .................................................... الصفحة الجزء الأول .................................................. 5 بين يدي البحث .............................................. 7 ماذا نعني بالمنهج الحركي .................................... 15 المرحلة الأولى: سرية الدعوة وسرية التنظيم .................... 17 1 - الدعوة سرا ............................................... 19 2 - قيام الدعوة على الاصطفاء ............................... 21 3 - العمل من خلال ثقافة الداعية ومركزه ..................... 22 4 - الدعوة عامة ............................................. 24 5 - دور المرأة في المرحلة السرية ............................. 27 6 - الصلاة .................................................. 27 7 - معرفة قريش بخبر الدعوة ................................ 28 9 - المعايشة بين المسلمين وغيرهم ........................... 30 9 - التركيز على بناء العقيدة ................................. 30 10 - الجهر بالدعوة بعد بناء النواة الصلبة .................... 31 المرحلة الثانية: جهرية الدعوة وسرية التنظيم ................... 37 1 - دعوة الأقربين ........................................... 41 2 - الإعراض عن المشركين ................................. 43 3 - معالم الدعوة الجديدة ..................................... 44

4 - الدعوة عامة ....................................................................... 46 5 - سرية التنظيم ...................................................................... 48 6 - القرآن مصدر التلقي ............................................................... 50 7 - اللقاء المنظم المستمر .............................................................. 51 8 - الصلاة خفية في الشعاب ........................................................... 51 9 - التركيز على الجانب الروحي ....................................................... 53 10 - الدفاع عن النفس عند الضرورة ................................................... 56 11 - تحمل الأذى والاضطهاد في سبيل الله ............................................ 58 12 - السماح للضعفاء في إظهار تغيير دينهم .......................................... 60 13 - محاولة إنقاذ المستضعفين بكل الوسائل الممكنة ................................... 60 14 - الطريق الثانية للحماية عن طريق الهجرة .......................................... 63 15 - البحث عن مكان آمن للدعوة وقاعدة جديدة للانطلاق .............................. 66 16 - الاستفادة من قوانين المجتمع المشرك (الحماية والجوار) ............................ 68 17 - المحاولات السلبية من العدو في المواجهة .......................................... 74 18 - المحاولات الإيجابية في الحرب .................................................... 76 19 - الجهرية الثانية، إسلام حمزة، إسلام عمر ........................................... 78 20 - إعلان التحدي ودور الشخصيات القيادية فيه ....................................... 85 21 - ملاحقة العدو لتجمعات المسلمين وإحباط المسلمين لهذه الملاحقة .................... 89 22 - عبقرية الوفد الإسلامي في حوار الملوك ............................................ 94 23 - لا مساومة على العقيدة ............................................................ 97 24 - إثارة الحرب في صف حلفاء المسلمين ............................................. 98 25 - المفاوضات المباشرة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقريش .................................. 101 26 - تحييد بعض الشخصيات والبطون ................................................. 107 27 - التجمع القبلي لحماية القيادة ....................................................... 110 28 - الحصار الاقتصادي والمقاطعة العامة لتحطيم الدعوة وحلفائها ....................... 113 29 - التفجرات الجاهلية تحطم الحصار والمقاطعة ....................................... 118

30 - دور المرأة في هذه المرحلة جهادا ودعوة وسرية .................................. 121 31 - المقاومة السلمية ............................................................... 123 32 - الاستفادة من العناصر المشتركة بين الإسلام والعقائد الأخرى .................... 125 33 - عدم التنازل عن جزئية واحدة من أجل الحماية .................................. 127 المرحلة الثالثة: مرحلة قيام الدولة ...................................................... 131 1 - طلب المنعة خارج مكة .......................................................... 133 2 - طلب الإجارة من العدو في مكة .................................................. 137 3 - طلب المنعة والحماية لتبليغ الدعوة من القبائل .................................... 140 4 - فشل المساومات ................................................................. 148 5 - توجيه الأنظار لمركز الانطلاق .................................................. 152 6 - البيعة الأولى وقيمها الجديدة ..................................................... 156 7 - الإذن بالقتال .................................................................... 159 8 - التهيئة لمباحثاث قيام الدولة ..................................................... 162 9 - البيان السياسي (البيعة) ......................................................... 165 10 - توثيق البيان وإقراره ............................................................ 169 11 - تشكيل الحكومة الإسلامية بالانتخاب ........................................... 173 12 - القيادة تحدد المعركة ........................................................... 175 13 - القيادة تحدد ميلاد الدولة الإسلامية ............................................. 178 14 - ابتداء الحرب الإعلامية بين الدولتين .......................................... 182 15 - اختيار الأرض وسرية التجمع فيها والهجرة إليها ................................ 184 16 - اجتماع العدو للقضاء على القيادة ............................................ 186 17 - عبقرية التخطيط البشري في الهجرة ............................................ 188 18 - قاعدة جديدة تنضم إلى الإسلام .............................................. 199 19 - أول إعلان رسمي لشعائر العبادة ............................................... 200 20 - نجاح الخطة ووصول القائد الأعلى إلى مركز القيادة ........................... 202

الجزء الثاني: .................................................................... 205 المرحلة الأولى: مرحلة تأسيس الدولة وتنتهي بغزوة الخندق ........................ 207 (مواصفات المرحلة الأولى) 1 - الهدنة مع الأعداء ما عدا قريشا وحلفاءها .................................... 209 2 - بناء القاعدة الصلبة ......................................................... 212 3 - إعلان إسلامية الدولة ....................................................... 215 4 - لا خيار من المعركة ........................................................ 217 5 - التجمع الوثني في المدينة ................................................... 219 6 - تفتيت التجمع بالنزعة الوطنية والعشائرية .................................... 221 7 - محاولة تفتيت الصف الإسلامي ............................................. 225 8 - العدو يتنكر لقيمه من أجل مصلحته ......................................... 228 9 - الخطر على القيادة .......................................................... 229 10 - حالة الحرب، وتجمع القوى كلها ضد المسلمين .............................. 231 11 - إعلان الحرب على العدو ................................................... 232 12 - التميز الإسلامي قبيل المواجهة .............................................. 233 13 - المواجهة الحاسمة في بدر والفرقان فيها ...................................... 238 14 - معسكر المنافقين بروزه وخطره وتحجيمه ...................................... 247 15 - الوجود اليهودي في المدينة وإنهاؤه ........................................... 281 16 - ليل المحنة الطويل وخطره .................................................. 315 17 - تباشير النصر في قلب المحنة .............................................. 343 18 - عمليات الاغتيال وأثرها في بث الرعب في صفوف العدو .................... 345 19 - الحرب الاعلامية ودورها في المعركة ........................................ 358 20 - ازدياد العدد والعدة .......................................................... 370 21 - الجهد البشري في البذل .................................................... 372 22 - دور النساء في المعارك ومشاركتهن فيها .................................... 383 23 - عبقرية التخطيط القيادي ................................................... 394 24 - النصر الإلهي في قلب المحن .............................................. 416 25 - التربية الإلهية للنفوس عقب المعارك ........................................ 426

رقم الإيداع بدار الكتاب: 1985/ 2897

منير محمد الغضبان المنهج الحركي للسيرة النبوية القسم الثالث مكتبة المنار

المنهج الحركى للسيرة النبوية القسم الثالث

القسم الثالث

كافة حقوق الطبع محفوظة مكتبة المنار الأردن - الزرقاء

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

تمهيد المرحلة الثانية: الجهاد السياسي وانتصار الرسالة الخط العام الذي ينتظم هذه المرحلة هو الخط السياسي. لكن ضمن إطار القوة المكافئة. فتعاظم قوة المسلمين، وتحولهم إلى شوكة مرهوبة الجانب أتاح لقائد الدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - الفرصة لعرض أفكاره وهيأ النفوس للاستماع لها إذ أن الناس قلما يصغون إلى غير القوي. وكما نشهد اليوم الحرب الدعائية بين الدولتين القويتين في العالم إذ تتقاسمان مناطق النفوذ، وأن هذه الدول قلما تضطر لاستعمال قوتها العسكرية إلا تحت ضغط الظروف الطارئة. نجد تلك الصورة في ذلك الوقت. صحيح أن غزوة الخندق لم تحقق نصرا قويا للمسلمين. لكنها أكدت في الوقت ذاته أن المسلمين قوة لا تقهر، وفشل أضخم هجوم عربي على المدينة. يعني أن الكفة بدأت بالرجحان لصالح المسلمين. وجعل هذا الأمر عند المشركين يأسا قاتلا من إمكانية الانتصار على محمد صلوات الله وسلامه عليه. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصا كل الحرص على أن يعمق هذا المعنى في صفوف المشركين. فراح يطاردهم في أعماق أرضهم، وهو ينفذ القول الذي أعلنه: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) وسنعرض للسمات المحددة لهذه المرحلة بالتفصيل: السمة الأولى: التحدي المعنوي للمشركين ولعل عرض المقريزي لغزوة بني لحيان يوضح هذه السمة حيث كانت غزوة تحمل طابع حرب الأعصاب أكثر مما تحمل طابع الحرب النظامية .. فلقد كانت قوة المسلمين فيها لا تعدو مائتي رجل معهم عشرون فارسا. وكانت المهمة بث الرعب في صفوف العدو، والثأر لأصحاب الرجيع، خبيب وأصحابه الذين غدر بهم بنو لحيان وقتلوهم، وكان هذا الأمر قبل سنتين من هذا الموعد. أما الهدف الأول فقد تحقق حين فر بنو لحيان وتمنعوا في رؤوس الجبال ولم يجرؤوا على المواجهة ولكن لهذا الهدف آمادا أبعد وأعمق.

يقول عليه الصلا والسلام: (لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة (¬1)) وتحرك بقوته لعسفان، ولم يكتف بهذا الأمر بل أقدم على خطوة أشد خطورة، فبعث أبا بكر رضي الله عنه إلى كراع الغميم التي تبعد عن مكة أميالا عدة في عشرة فوارس. وكان الهدف واضحا من هذا التحدي كما تقول رواية الواقدي: (إن هذا يبلغ قريشا فيذعرهم، ويخافون أن نكون نريدهم. وكان خبيب بن عدي يومئذ في أيديهم. فخافوا أن يكون جاء ليخلصه (¬2). وإن كان الهدف الثاني لم يتحقق، من حيث الأخذ بالثأر المادي من بني لحيان. لكن الخوف الذي لزم بني لحيان، جعلهم يشعرون بخطورة المسلمين في المنطقة. ولم يكن إختيار أبي بكر بهذه الفوارس العشرة ليمضي إلى كراع الغميم، اختيارا عشوائيا. بل كان مرتبطا بالهدف ارتباطا وثيقا. فأبو بكر المهاجر ابن مكة. يعرف القاصي والداني في الأرض الحجازية. وليس نكرة عند أهل كراع الغميم. بل هو الصاحب الأول لمحمد رسول الله. ويكفي أن نذكر أن بين الخندف التي كان المسلمون فيها محاصرون. وبين بني لحيان التي تحول المؤمنون فيها إلى مهاجمين أقل من خمسة أشهر. وهذا يعني التنفيذ العملي للكلمة الخالدة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا). وهذه دروس عميقة للحركة الإسلامية. فالقيادة حين تعلن هدفا أو موقفا، أو تعد بعملية معينة. وتتلكأ في التنفيذ تفقد ثقة قواعدها بها، وتزلزل طبيعة العلاقة بين طرفي الجماعة المسلمة. فالتجسيد العملي للكلمة هو الذي يكسب احترام العدو والصديق. صحيح أن هذه الغزوة لم تحمل في ثناياها أنباء انتصارات عسكرية حاسمة. لكنها أصابت كبد العدو، وبثت الذعر في قلبه، وغزته في عقر داره ومن جهة ثانية، رفعت معنويات الجيش المسلم، وأعادت إليه الثقة في نفسه بعد الحرب الطاحنة في غزوة الخندق. وانتصار المسلمين في بني قريظة. رغم رفعه المعنويات الضخمة للمسلمين. لكنه لم ينه عقدة التفوق القرشي عندهم، وكانت هذه الغزوة كفيلة بمحو هذه العقدة. ودرس آخر تحتاجه الحركة الإسلامية اليوم، هو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافق الحملة إلى عسفان، التي تبعد أميالا عن مكة. وهو الهدف الأول من العدو، وكان بإمكانه عليه الصلاة والسلام أن يبعث في هذه الغزوة مئات بل ألوفا من أصحابه. لكنه مع ذلك آثر أن يرافق الحملة بنفسه، لرفع معنويات أصحابه كذلك، ودفع بأعز القادة عنده إلى كراع ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 3: 293. (¬2) إمتاع الأسماع ص 257.

السمة الثانية: حديث الإفك

الغميم ليؤكد ضرورة الالتحام العملي بين قيادة الأمة ورعيتها. وفكرة أن لا تذهب دماء المسلمين هدرا فكرة إسلامية أصيلة. فتحرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني لحيان للثأر لأصحاب الرجيع، وذلك بعد مرور سنتين على اغتيالهم والغدر بهم يعني درسا ثالثا للحركة الإسلامية، أن الثأر من الطغاة فيما يقتفرون من جرائم. هو الذي يردع هؤلاء الطغاة ويسقط الأمر في أيديهم. إن طبيعة الحرب لا تقبل التضحيات فقط، ولا تقبل الخسارة من جانب واحد فقط. بل لا بد أن يشعر الجندي المسلم بقيمته عند قيادته، وكرامة دمه عند جماعته. فهناك من يثأر له، وهناك من يدافع عنه، أما أن يحس الجندي المسلم أنه مدفوع به للذبح والتضحية، وقيادته في حصن حصين من العدو، فلا يمكن أن يتابع الطريق مهما ارتفع المستوى الإيماني عنده. وأخيرا فحاجة الحركة الإسلامية إلى الهجوم على العدو بعد المحنة هي خط أصيل في طبيعة المعركة مع العدو كي يستعيد الجيش ثقته بنفسه. لقد رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلاحق قريشا بعد أحد بثلاثة أيام في حمراء الأسد وها هو يصل إلى مشارف مكة بعد الخندق بأربعة أشعر. كي يبقى الجيش على تحفزه وترقبه واقتناعه بقدرته الحربية وكفاءته القتالية كذلك. وحري بنا أن نفقه هذه الدروس، ونتعلم من خلالها أسباب أزمة الثقة التي تسود أحيانا الصف المسلم بين قيادته وقاعدته، وحين نهتدي بهداها نجد أن هذه الأزمة تذوب وتتلاشى بمثل هذا الالتحام وهذه التضحيات. السمة الثانية: حديث الإفك واخترت هذا العنوان، على طبيعته، لأصل بهذا المصطلح الخاص إلى النص العام الذي لا بد أن يشعر به أبناء الصف المسلم وخطورة أخذهم بالإشاعة دون تثبت وكيف أن الإشاعة كفيلة بتحطيم هذا الصف كله. إنه وإن تجسد باتهام الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها. لكنه صورة قد تتكرر في كل جيل وتضع النيل من القيادة هدفا رئيسيا لا بد من تحطيمه، وحين تعجز القوة المادية عن النيل من القيادة فليس أمام العدو إلا الحرب المعنوية على هذه القيادة وتحطيمها من خلال هذه الحرب ولذلك لن نتناول حادثة الإفك كحدث تاريخي بتفصيلاته ودروسه. ولكننا سنتناوله من خلال حرب الإشاعة التي يبثها العديو المنبث في الصف ضد القيادة.

وأهم ما في هذا الحدث هو أن مصدر الفرية - على ما يبدو - هم المنافقون تحت راية زعيمهم عبد الله بن أبي، وحين يتحصن الصف من الفرية. وتبقى في صافوف المنافقين فلا خطر منهم ولا هم لكن عندما تنتقل إلى داخل الصف المسلم فتسرى فيه سريان النار في الهشيم عندئذ يبدو خطرهم الكبير. والنص القرآني حين تحدث عن هذه الحادثة. كان يخاطب الصف المسلم أكثر مما يخاطب صف المنافقين. ويحمل على المؤمنين الصادقين الذين تأثروا بهذه الفرية، واستجابوا للحديث في الظنة دون بينة والنقاط المحددة التي نعرض لها في هذا الحديث المؤتفك هي ما يلي: أولا: البعد عن مظان التهمة واجب أساسي على الصف المسلم، وعليه أن يعلم - وخاصة القيادة - أنه هدف لأنظار العدو والصديق، فيتجنب ما استطاع البعد عن موطن الريبة. ثانيا: عدم الأخذ بالإشاعة كما يقول القرآن الكريم: {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأوالئك عند الله هم الكاذبون} (¬1) وأي خبر غير موثق بالنسبة للفرد المسلم هو مرفوض عنده، وليعلم هذا الأخ أن رواية الإشاعة، وتناقل الخبر غير الموثق تحيله إلى أخ كاذب .. وهذا حكم القرآن في أمثال هؤلاء. هم الكاذبون عند الله، ولو لم يفتر الكذب. لو كان نقله صدقا محصنا عمن سمع منه فهو عند الله تعالى من الكاذبين. ثالثا: ليبق الميزان الحساس في الحكم على الإشاعة هو الميزان الذاتي. فلا بد من ثقة الأخ بإخوانه ثقته بنفسه، وقد أقر القرآن الكريم هذا الميزان وأثنى عليه وذلك بمناسبة الحديث الذي جرى بين أبي أيوب الأنصاري وزوجة أم أيوب رضي الله عنهما إذ قالت لزوجها: (أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: نعم وذلك الكذب. أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب قالت: لا والله ما كنت لأفعله. فقال: فعائشة والله خير منك) (¬2) ونتمنى لكل أخ وهو يثير الإشاعة بحق أخيه أو قيادته أن يحسب على أقل تقدير أن أخاه أو مسؤوله ليس أقل حرصا على دينه منه، وليس أقل دينا وورعا منه. ولو نفذ هذا الميزان الذاتي. لانهارت الإشاعة وانهار الإفك من جذوره. رابعا: أن لا يتدخل الهوى إطلاقا في قضية النقل للإشاعة والمساهمة فيها وصورتان متنافرتان لاتباع الهوى في الإفك، وللتبرؤ منه والصورتان هما لأختين مسلمتين شقيقتين الأولى: هي زينب بنت جحش رضي الله عنها، والثانية: لأختها حمنة ¬

(¬1) النور الآية (13). (¬2) السيرة لابن هشام ج 3: ص 305.

بنت جحش فقد أورد المقريزي عن زينب هذا الحوار بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قالت: (حاشى سمعي وبصري، ما علمت عليها إلا خيرا. والله ما أكلمها وإني لمهاجرتها وما كنت أقول إلا الحق) (¬1). وأن تستطيع ضرة أن تكتم هواها فلا تمضي في الإشاعة يدل على المستوى العظيم الذي بلغته هذه المرأة المسلمة والأفق العالي الذي ارتقت عليه. وهذا ما دعا عائشة رضي الله عنها أن تبرىء ساحة زينب من ولوغها في هذه الفرية. تقول رضي الله عنها، (ما كان أحد يساميني عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا زينب بنت جحش) فقد وضعتها في موقعها الصحيح من طبيعة المنافسة مع عائشة رضي الله عنهما، لكنها مع ذلك لم تجد حرجا من الثناء عليها في هذا الموقف فقالت: (أما زينب فقد عصمها الله بدينها فلم تقل شيئا). أما الموقف الثاني، فهو موقف أختها حمنة, التي انطلقت في الإشاعة تنقلها من بيت إلى بيت، ولا شيء يقف في وجهها، وذلك ثأرا لأختها زينب. تقول عائشة رضي الله عنها: (أما أختها حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادني لأختها فهلكت). ولا نتمالك من الإعجاب العظيم بعائشة رضي الله عنها، إذ استطاعت أن تفصل بين الموقفين للأختين الشقيقتين. ولم تحمل زينب شيئا من وزر أختها حمنة. خامسا: موقف المفترى عليه، هو أثقل الأدوار وأضخمها في حديث الإفك. والمنهج الذي يجب أن يسود في هذا الصدد هو أن لا يقابل الافتراء بافتراء آخر ولا تقابل الإشاعة المؤتفكة بإشاعة أخرى. وأن يتمالك الأخ المفترى عليه فلا يطلق لسانه في أعراض الآخرين ولو اعتدي عليه حتى تتم براءته وتبرئته. هو موقف أصيل ندعو إليه هذا الأخ في هذا المجال. ونلحط موطن القدوة من العناصر الثلاثة الذين نيل من عرضهم في حديث الإفك. أولهم: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو سيد الأمة والبشرية. وهو الحاكم والقائد، وبيده السلطة، وبإشارة واحدة منه يمكنه أن ينهي حياة الوالغين في عرضه ; ومع ذلك لم يملك في هذا الأمر بعد أن استشار كبار أصحابه إلا أن يخطب في المسلمين قائلا على المنبر بعد أن حمد الله وأثى عليه أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهل ويقولون عليهم ¬

(¬1) إمتاع الأسماع المقريزي ج 1: 208.

غير الحق والله ما علمت منهم إلا خيرا. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت عليه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي)). وعندما وقعت الأزمة بين الفريقين الأوس والخزرج لم يكن ليملك عليه الصلاة والسلام إلا أن يكون حكما بينهما رغم أن أحد الفريقين يدافع عن الوالغين في عرض عائشة رضي الله عنها والآخر يهاحمهم ومع ذلك، فقد أرضى الفريقين ولم يتحيز لأحدهما لأنه لا يملك البينة ليرد بها على الفريق المتهم، وحتى عندما تجاوز صنوان رضي الله عنه في ثورته لنفسه وضرب حسان بن ثابت على اتهامه لم يسنده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخلف ويشجعه على تجاوزه قبل صدور البينة مع أنه يبرىء أحب الناس إليه عائشة رضي الله عنها، وقد حضر حسان وصفوان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولنستمع إلى تلك المحاكمة الهادئة للجنديين المتجاوزين! (قال صفوان بن المعطل: يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان: أحسن يا حسان أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام ثم قال: أحسن يا حسان في الذي أصابك قال: هي لك يا رسول الله. قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن إبراهيم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاه عوضا عنها. . . وأعطاه سيرين أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان) (¬1). وهكذا كلفت ضربة صفوان لحسان أرضا وجارية وهبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت بعد عفوه عن صفوان بن المعطل، وكان هذا العطاء لمن ينشد الشعر في اتهام زوجته ويمضي في الإشاعة دون توقف. وثانيهم: هو أبو بكر رضي الله عنه وزوجه أم رومان وقد نزل بهم من البلاء ما لم ينزل بمسلم وأقصى ما قالته أم عائشة التي تعرض عرضها للثلم والإهانة: أي بنية خفضي عليك الشأن. فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها. ولم يتمالك أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن يقول: (ما أعلم أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر. والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية حيث لا نعبد الله، فيقال لنا في الإسلام!!). وثالثهم: عائشة رضي الله عنها التي لم تنته عن البكاء حتى ظنت أن البكاء سيصدع كبدها. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 3. 318و319.

السمة الثالثة: الزواج وأثره في الدعوة

وحين ووجهت بالأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألها عن الحديث فقالت: (إني والله قد علمت أنكم سمعتم بهذا الحديث، فوقع في أنفسكم فصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر يعلم الله أني منه بريئة لتصدقنني. وإني والله ما أجد لي مثلا إلا أبا يوسف إذ يقول: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون). إنها مواقف لا يحمل التاريخ لها مثيلا من أطهر أهل الأرض يوصمون بشرفهم وعرضهم. ومع ذلك فلم يخرج أحد منهم عن طورره، ولا أطلق لسانه في عرض أحد، وضبط كل واحد منهم أعصابه، وأما الذي خرج عن طوره فهو صفوان بن المعطل رضي الله عنه، وضرب حسان بالسيف وكاد الأمر أن يستفحل لولا أن عالجه رسول الله عليه الصلاة والسلام. إنه أدب الإسلام العظيم مع الذين يرددون الإشاعة ويسيرون في الإفك قبل أن تعرف أنها إفك أوإشاعة. سادسا: والموقف الأخير الذي نستخلصه من حديث الإفك هو عقوبة المفترين اللاغطين المثيرين للفتنة. فلا يكفي أن تثبت براءة المتهم، ولا يكفي أن تدفع القيادة عنها قالة السوء وانتهى الأمر. بل لا بد في الصف المسلم من العقوبة الصارمة مع من يثير الإشاعة ويسعى في نشرها بعد التثبت منها. وما تعانيه الحركة الإسلامية اليوم هو إهمال ملاحقة مثير الإشاعة وناقل الإفك، وبذلك لا تنتهي الجماعة من فتنة إلا وتقع في أخرى. ويكفي أن نعلم أن حكم الإسلام كان في هؤلاء الثلاثة الذين ساروا في الإفك، مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، أن أقيم عليهم حد القذف ثمانين جلدة، وإن كانت بعض الروايات تشير إلى أن هذا الحد طبق فيما بعد ولم ينفذ عليهم لأنهم خاضوا في التهمة قبل نزول الحدود. والحديث عن هذه السمة يأتي في هذه المرحلة لأن تاريخ الدعوة لم يشهد مثيلا لها من قبل وفي الصف المسلم بالذات وطبيعة المرحلة إذن هي أن الإشاعة تسري حين يضعف البناء الداخلي ويستجيب لها. لكن عندما تنشغل الأمة بالجهاد والمواجهة. فقلما تستطيع الإشاعة أن تفعل فعلها في النفوس. السمة الثالثة: الزواج وأثره في الدعوة في هذه المرحلة تم زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خمس نساء هن: زينب بنت جحش، أم حبيبة بنت أبي سفيان، جويرية بنت الحارث، صفية بنت حيي، ميمونة بنت الحارث، رضي الله عنهن جميعا.

وحين نقارن بين زواج هذه المرحلة وسابقتها، نلاحظ فرقا واضحا في الاتجاه يحدد ملامح المرحلة نفسها ونستطيع القول إن سمة الزواج في المرحلة السابقة ينصب على بناء وتمتين الصف الداخلي، بينما تظهر سمة الزواج في هذه المرحلة من خلال العمل على كسب الصف الخارجي وجعله معبرا لنشر الدعوة في الأرض العربية. ولنقف لحظات سريعة عند كل واحدة منهن: أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان، وقد عقد عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي في أرض الحبشة وأكرم غربتها في سبيل الله بعد ردة زوجها عبيد الله بن جحش، وكونها ابنة زعيم قريش ذات دلالة ضخمة على تقريب القلوب وتأليفها من هذا القائد الكبير. ولقد رأينا أثر هذا الزواج قريب فتح مكة حيث جاء أبو سفيان ونزل ضيفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي بيت ابنته ولا يزال على شركه، وموقفه من الدعوة. ولا نشك أن موقف ابنته منه من خلال فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغم أنه جرحه في أعماقه. لكن كان له أكبر الأثر الخفي في أن يعيد النظر في مواقفه وعدائه للدعوة. وأن يفقه من خلاله عظمة هذا الدين وعظمة رجاله ونسائه. لقد طوت فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبي سفيان فقال لها: (يا بنية أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأنت رجل نجس على شركك، فقال: والله لقد أصابك بعدي شر) (¬1). وللتعرف على أثر هذا الزواج في نفس أبي سفيان نلاحظ أنه بعد إسلامه يعرض ابنته الثانية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزواج منها، فيعتذر رسول الله أنه لا يحل له ذلك. زينب بنت جحش، وهي زوجة مولاه زيد، رضي الله عنه وقد هاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الزواج هيبة عظيمة تحدث عنها القرآن بقوله جل وعلا: (.. وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ..) (¬2) لكن الأمر الرباني جاءه بذلك ليحطم العادة المستأصلة في المجتمع عادة التبني من خلال الواقع العملي بعد القرار النظري ولتعلم الدنيا ذلك كما يقول القرآن الكريم. {لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ..} (¬3) وإن كان هذا الزواج يحتمل صفة البناء الداخلي فهو يحمل كذلك صفة البناء الخارجي إذ أن زينب رضي الله عنها هي أول امرأة غير قرشية يتزوجها عليه الصلاة والسلام فهي من بني أسد وإن كانت ابنة عمته. ¬

(¬1) الرحيق المختوم ص 445. (¬2) و (¬3) الآية 37 من سورة الأحزاب.

جويرية بنت الحارث: وهي ابنة سيد بني المصطلق، وكان زواجها سببا في فداء أهلها وقبيلتها من الأسر، ثم سببا في إسلام قومها، ونستمع إلى أثر هذا الزواج عند ابن إسحاق رحمه الله: قال ... وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار فقال الناس: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرسلوا ما بأيديهم. قالت: (أي عائشة: فلقد اعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق , فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها) (¬1). صفية بنت حيي: وهي ابنة حيي بن أخطب أكبر أعداء الإسلام وقد قتل في بني قريظة لكن الزواج من صفية فيما بعد كان له آفاق أبعد وأعمق. إذ أنه ربط أهل الكتاب برابطة المصاهرة وعندما كانت عائشة رضي الله عنها تعير صفية بأنها من سلالة يهود كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغضب ويقاطعها ويقول لصفية قولي لها أن أبي موسى وعمي هارون. وهذا العمل الاجتماعي الضخم يعني كثيرا في مفهوم الدعوة. ويعني أن التعايش بين المسلمين وبين أهل الكتاب قائم. ولو أدى إلى نكاح نسائهم. فالمرأة حين تعيش الإسلام سوف يصفو قلبها بعد وتدخل في الإسلام كما يتآلف قلب طائفتها في هذا المجتمع. وعلى غرار هذا المستوى كان زواج رسول الله من مارية القبطية والتي ربط زواجها بأمة كاملة إذ قال: (استوصوا بالقبط خيرا فإن لي فيهم نسبا وصهرا). وقد أثرت هذه الدعوة فيما بعد وحدت بأهل مصر أن يدخلوا في دين الله أفواجا حين رأوا حسن معاملة المسلمين لهم تنفيذا لوصية رسول الله عليه الصلاة والسلام. وكان من حكمة الله تعالى في هذا الأمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرزق ولدا بعد خديخة إلا من مارية رضي الله عنها. وكان ولده إبراهيم قد استأثر بحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. أكبر استئثار ولم يتمالك عليه الصلاة والسلام من القول بعد وفاته: (إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون). وتدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب. وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون). ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 3: 307 و 308.

ميمونة بنت الحارث الهلالية: وهي التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد حرص عليه الصلاة والسلام أن يستثمر هذا الزواج في تقريب قلوب قريش بعد عمرة القضاء إذ قال لهم عندما جاؤوا لإيذانه بالخروج من مكة: (وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعت طعاما؟ فقالا: لا حاجة لنا في طعامك أخرج عنا: ننشدك الله والعهد الذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا) (¬1). وهذه السمة ذات دلالة واضحة على الاتجاه العام في تأليف قلوب الخصوم وتقريبهم للإسلام وأن الجهاد السياسي قد يكون من وسائله الناجعة الزواج والمصاهرة من الخصوم. وما أحوج شباب الإسلام إلى هذا الفقه السياسي والأفق الواسع في فهم طبيعة هذا الدين إن الشباب المسلم كثيرا ما يتحمس في قضية التميز والمفاصلة. حتى يتحجر على نفسه، وينغلق على ذاته، ويجعل سدا منيعا على أفراده، فلا يدخل في الصف الإسلامي أحد ولا يحرص على دخولهم في الأصل، وتسيطر عليه فكرة الحرب والكراهة لأعداء الله، وفكرة الإذلال والإهانة لهم، وينسى أنه داعية قبل كل شيء وأن هدفه الأخير كذلك أن يدخل الناس في دين الله أفواجا وبالتالي فلا بد أن يدرك الداعية أن هداية هؤلاء الخصوم ودخولهم في الإسلام هو الهدف الأول، وليس ذبحهم والقضاء عليهم، وأن تآلف كبار الخصوم وربح قلوبهم هو ربح لقلوب أتباعهم جميعا ونتمنى أن يفرق الأخ بين أساليب التأليف والتحبيب بالإسلام وبين أساليب المداهنة في دين الله والتنازل عن الإسلام في سبيل ذلك. وشيء آخر ما أحوج دعاة الإسلام إليه. فالزواج نفسه قد مسخ عن مفهومه الأول واقترب في الواقع العملي وفي صفوف شباب الإسلام من الزواج الكهنوتي النصراني، حيث أن التعدد قد أصبح نشازا في الصف الإسلامي، وأصبح غريبا غربة اقتراف المنكر. وقادة الدعوة هم المثل المقتدى به في هذه الدعوة فلا بد أن يكونوا نماذج حية في تطبيق هذا الفهم النبوي في جعل الزواج والتعدد وسيلة من وسائل بناء الدعوة وتقريب القلوب والالتحام مع الخصوم والأصدقاء وما رأيناه من إقدام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الزواج من زينب وتحطيم عادة التبني من خلال الزواج بمطلقة متبناه وما تحمله من مواجهة المجتمع الجاهلي الذي يحرم هذا الزواج حتى يزيل الحرج عمليا عن المؤمنين في الإقدام على هذا الزواج هو دفع للدعاة الكبار أن يتأسوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينقلوا قضية الزواج من مفهومها المحدود حيث البحث عن الجمال والبكر والسن الصغير للارتقاء بها إلى الأفق الواسع الذي يشيع المودة والرحمة ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1: 340.

السمة الرابعة: الصف الداخلي القوي من خلال صلح الحديبية

بين أبناء الأمة جميعا ورفع مستوى المرأة الثيب وزوجات الشهداء إلى المستوى الكريم اللائق بهن أنهن محط أنظار القيادة ولسن من المحرومات اللواتي انصرف النظر عنهن فقط لأنهن ثيبات. إنها مسؤولية جسيمة يضطلع بها الدعاة وأخص بالذكر القيادات لوضع الزواج في وظيفته الاجتماعية العامة وجعل الكفاءة حقيقة من خلال الدين والخلق لا من خلال الجمال والحسب والبكارة ومن خلال مصلحة الإسلام العليا لا من خلال الرغبة الجنسية المحدودة. والنظر إلى الزواج على أنه وسيلة هامة من وسائل الدعوة لا على أنه معيق من معيقاتها ولا بد أن تتدرب الأخوات المسلمات كذلك على هذه المعاني ويلجمن أهواءهن وأنانيتهن وغيرتهن وأمام مصلحة الإسلام وعقيدة الإسلام ومصلحة أخواتهن اللاتي لم يكن لهن من ذنب إلا أن فقدن أزواجهن في سبيل الله. السمة الرابعة: الصف الداخلي القوي من خلال صلح الحديبية لئن كانت غزوة بني لحيان إرهاصا لابتداء المرحلة الجديدة. فلقد كانت عمرة الحديبية هي التنفيذ العملي البين لقوله عليه الصلاة والسلام (الآن نغزوهم ولا يغزونا) ولكن هذا الغزو لم يكن غزوا عسكريا بحتا. بل كان غزوا سلميا يهدف العمرة إلى البيت الحرام لكن لا يغيب عن ذهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبعاد هذه العمرة. وأنه قد يلقى مقاومة مسلحة. غير أن التحرك السياسي في الاتجاه الجيديد كان لا بد منه (وقد استنفر الأعراب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش الذي صنعوا - أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت-. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس على حربه وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له .. وكان جابر بن عبد الله يقول كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة ..) (¬1). ولن نستطيع دراسة صلح الحديبية من كل جوانبه. لكننا سنعالج هذا الجانب في هذه السمة ونرجىء الحديث عن الفتح المبين في السمة التالية. ¬

(¬1) السيرة لابن إسحاق ج 4: 308 - 309.

أما مظاهر هذا الصف القوي الموحد فقد بدت على الصور التالية: أولا: إن مجرد استجابة المهاجرين والأنصار للنفير هو دليل حي على مدى الطاعة والالتزام والانضباط في هذا الصف، فبعد أقل من سنة على غزوة الأحزاب كان هذا التحرك بهذا العدد الضئيل ألف وخمسمائة فلا ينسى المسلمون أن الأحزاب غزوهم بعشرة آلاف مقاتل. فكيف يتحرك هذا الجمع الضئيل من المئات إلى مشارف مكة. ولا شك أن الدافع الإيماني القوي هو الذي حدا بالمسلمين إلى الإستجابة. إذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قص عليهم رؤياه أنه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ مفتاح البيت، وعرف مع المعرفين (¬1)، وإنها لجرأة متناهية أن يغامر المسلمون بألف وخمسمائة رجل يتجهون بهم إلى مكة التي تعلن الحرب عليهم. ثانيا: وكانت حرب الأعصاب الأولى التي تلقاها هذا الصف المسلم بعسفان حيث لقيه بشر بن سفيان قائلا له: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل (¬2) قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم. فقال عليه الصلاة والسلام يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة (¬3)، (¬4). وعندما يسمع جيش هذا الوصف لتحرك قريش بشيبها وشبابها ونسائها وأطفالها لمواجهة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا بد أن يصيبه الذعر ويتخلخل من الرعب وتنتشر به الفوضى وصراع الآراء لكن جيش النبوة الملتزم بقيادته قد تجاوز هذه المرحلة والضعفاء المخذولون المتخاذلون ولو كانوا موجودين في داخل الجيش هم أجبن من أن يرفعوا عقيرتهم بالمخالفة أو يظهروا هلعهم وجبنهم ويدعوا إلى الإستسلام أو الفرار. فأي قوة في الصف تعدل هذه القوة؟ لكن الجانب الآخر من القضية هو الجانب السياسي. فهذه أول مرة يعلن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغبته في تجنب الحرب مع قريش ودعوتها إلى المهادنة، وذلك صمن خط ¬

(¬1) أي وقف في عرفة. (¬2) يريد أنهم خرجوا ومعهم النساء والصبيان. (¬3) السالفة: صفحة العنق وكنى بانفرادها عن الموت. (¬4) السيرة لابن إسحاق ج4: ص 309.

واضح متميز أن يقفوا على الحياد بينه وبين العرب، ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بذلك، إنما أوضح أبعاد هذا الموقف بأنه لصالح قريش سواء انتصر محمد عليه الصلاة والسلام أم لم ينتصر. وفي هذا كبح لجماح التهور القرشي من الاستمرار في المعركة. وفتح لآفاق الدعوة أن تخطو الطريق الذي سدته قريش من كل جانب. إنه السلام القائم على مصلحة قريش ذاتها قبل أن يكون مصلحة المسلمين. إلا أن هذا الكلام يعني من طرف آخر خفي أن وهنا قد حل بالمسلمين فراحوا يبحثون عن الحل السلمي للابتعاد عن المواجهة فكان لا بد من اسماعهم منطق القوة الذي يفهمون فيه. وهو: (فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة) إنه المنطق المتوازن الذي لا يريد الحرب للحرب إنما لإظهار هذا الدين وإعلانه وهو جاهز لأن يتفهم وجهة نطر الخصم، غير أن هذا المنطق لا يعني خللا في القوة أو وهنا في الصف ونحن نرى الصف القوي هنا كذلك بعد إعلان النبي - صلى الله عليه وسلم - عن استعداده لخوض المعركة دون أن يعترض جندي واحد على ذلك، في الوقت الذي خرج الجيش فيه للعمرة لا للقتال. ثالثا: والتحام الصف الإسلامي مع قيادته يبدو جليا كذلك في أثناء عرض عضلات قريش من قادة وفودها وذلك على أربعة نمانج. النموذج الأول: وهو بديل بن ورقاء الخزاعي. وهو أقرب ما يكون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - لما بين خزاعة ومحمد من ود. واعتبرت قريش أن هذا الرجل كفيل بأن يثني محمدا عن عزمه على دخول مكة. فأخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه لا يريد حربا. وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما له واسرع بديل ليقول لقريش: إن محمدا لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا لهذا البيت. فقالت قريش لهم: وإن كان جاء لا يريد قتالا. فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدث بذلك عنا العرب. النموذج الثاني: مكرز بن حفص حيث حدد عليه الصلاة والسلام طبيعته. قائلا: هذا رجل غادر وقال له مثل ما قال لبديل. وكان الأمر حتى الآن طبيعيا لا يثير حفيظة هذا الجيش القوي.

النموذج الثالث: وقصدت به قريشا أن تعلم محمدا أن قريشا ليست وحدها في المعركة، بل معها القبائل المجاورة لمكة. فالحليس بن علقمة سيد الأحابيش (¬1). ولم تفت هذه القضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال للمسلمين: إن هذا من قوم يتألهون (¬2) فابعثوا في وجهه الهدي حتى يراه، فلما رأى الهدي. رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعظاما لما رأى. فقال لهم ذلك. فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك. وغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفاكم، ولا على هذا عاقدناكم، لتخلن بين محمد وما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. والدلالة في هذا النموذج صارخة على العبقرية العظيمة للنبوة حين صرف سيد الأحابيش وقد تبنى رأيه بالعمرة دون أن يلقاه، وكاد صف مكة الداخل أن يتفجر وتقع المواجهة بين الأحابيش وقريش لولا أن تداركت قريش الأمر وأصلحته مع الرجل، ومع ذلك فقد أصبح في صف مكة تيار قوي، أعلن عن رأيه بضرورة السماح لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالاعتمار، وهدد بالسلاح ما لم يتم تنفيذ ذلك، وقد تم هذا الأمر حتى دون لقاء بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيد الأحابيش. بحسن اختيار الأسلوب المناسب الذي يفهم به هذا الرجل، وهو بعث الهدي في وجهه. النموذج الرابع: وقصدت به قريشا حربا نفسية كذلك لمحمد وأصحابه لتعلمه أن ثقيفا مع قريش حليفة في هذه المواجهة. فبعثت بأذكى وأدهى ما عندها ليفت في أعضاد أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان تخطيط قريش أن مجرد رؤية عروة بن مسعود زعيم ثقيف يأتي ممثلا لقريش في هذه المفاوضات كفيل بأن يزلزل هذا الصف المتين. فكيف إذا استعمل خبثه ودهاءه. ولننظر إلى هذه الحرب السياسية من المنتصر فيها في نهاية المطاف. (خرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد: أجمعت أوشاب (¬3) الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك (¬4) لتفضها (¬5) بهم، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا وايم الله، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا، قال: وأبو بكر الصديق خلف رسول ¬

(¬1) الأحابيش: قبائل كانت حول مكة وتسكن في جبالها. (¬2) يتألهون: يتعبدون ويعظمون أمر الإله. (¬3) أوشاب الناس: أخلاطهم. (¬4) بيضة الرجل: أهله وقبيلته. (¬5) تفضها: تكسرها.

الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد، فقال: امصص بظر اللات. أنحن ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد: قال: هذا ابن أبي قحافة، قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بها، قال. ثم جعل يتناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكلمه. والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديد. قال فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول: أكفف يدك عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك. قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة قال: أي غدر، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس ... فقام من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى ما يصنع أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وإلا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء فروا رأيكم) (¬1). فلقد عاد عروة بن مسعود بعد هذه الجولة داعية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - على غير وعي منه بدل أن يحمس الناس على حربه لقد هزمت قريش وهزم عروة أمام صلابة الصف المسلم الذي أبدى من ضروب الطاعة والانضباط والالتزام ما أذهل عروة وهزمه في أعماقه لقد بالغ المسلمون في إظهار الطاعة أمام العدو الغادر ما لم يفعلوه من قبل، وجيش هذا طبيعته وهذه نفسيته. يجابه به قوى الأرض لا قريش وحدها أو قريش ومعها ثقيف والأحابيش، حتى الهادىء الوديع الحليم أبو بكر ينقلب أمام عدو الله ليثا يزأر، ويتهكم بأسلوب فج من عروة سيد ثقيف وعقله حين أراد أن يفتن الصف بتخويفه من قوة قريش ويضرب القيادة بالقاعدة فيثني عزيمة محمد عن الحرب لتفرق أصحابه عنه فكان لا بد أن يسمع ما يكره بأسلوب ما عهد عن أبي بكر قط رضي الله عنه. وكلام غير عفيف يجعل عروة في جحره لا يتعداه وكان الرد الثاني أعنف وأشد من المغيرة بن شعبة فلئن اعتدت قريش بعروة الثقفي معها فالبطل الثقفي المغيرة هو سيف محمد صلوات الله عليه ولا يفل الحديد إلا الحديد إن عظمة النبوة السياسية التي لا تدانيها عظمة هي في حسن استعمال اللين في محله والعنف في محله .. لقد ارتد كيد قريش في نحرها، وهزمت نفسيا أمام محمد صلوات الله عليه وصحبه وجنده وراحت تعالج أمرها بعد خطبة ابن مسعود فيها من باب المفاوضة لا من باب التهديد والمواجهة وصار الصف المسلم القادم إلى العمرة بألف وخمسمائة أقوى بألف مرة من صف قريش وثقيف والأحابيش الذي تزعزع وهدد بعضه بالسلاح. إنه درس عظيم للحركة الإسلامية، درس للقيادة التي تتقن فن التعامل مع العدو فتحطم أعصابه، وتهز نفسه من الأعماق وتتعامل مع الخصوم كل حسب طبيعته ونفسيته. ¬

(¬1) السيرة النبوية ج 3: 327 و328.

ودرس إلى القاعدة كي تفقه معنى الالتزام والانضباط خاصة أمام العدو وعلى أرضه فتكون كلها سهما واحدا ويدا واحدة وقلبا واحدا في مواجهة العدو. رابعا: وكانت المحاولة الرابعة من قريش في إيجاد ثغرة في الصف المسلم , من خلال عملية فدائية كلف بها حوالي خمسين من قريش علهم ينالوا بعضا من أصحابه أسرا أو قتلا فيجزع المسلمون ويحاولون إيقاع الرعب فيه. فماذا كانت النتيجة؟! أخذوا جميعا أسرى بيد المسلمين حيث ظفر بهم محمد بن مسلمة قائد حرس المسلمين. وبلغ قريشا حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم ورموا بالنبل والحجارة. فرماهم المسلمون وأسروا منهم اثني عشر فارسا. وكانت هذه العمليات المرتجلة من قريش صدمة عنيفة أخرى لهم. وكانت مع آراء الوفود كفيلة بأن توقع الوهن في صف العدو. وترى كم يسر الجنود المسلمون حين يرون بين ظهرانيهم خمسين رجلا واثني عشر فارسا أسرى بيدهم. خامسا: وكانت محاولا عرض العضلات الأخيرة والتهديد بالسلاح من قريش هي من خلال خيلهم التي كان على رأسها خالد بن الوليد. ودنا خالد بن الوليد في خيله حتى نظر إلى المسلمين فصف خيله فيما بينهم وبين القبلة. فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عباد بن بشر في خيله. فقام بإزائه وصف أصحابه، وحانت صلاة الظهر فأذن بلال وأقام، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه مستقبل القبلة وهم خلفه، يركع بهم ويسجد ثم قاموا فكانوا على ما كانوا عليه من التعبئة. فقال خالد بن الوليد. قد كانوا على غرة. لو كنا حملنا عليهم أصبنا منهم. ولكن تأتي الساعة صلاة هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم , فنزل جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر بهذه الآية {وإذا كنت فيهم ..} فحانت العصر فصلوا صلاة الخوف (¬1). يقول خالد رضي الله عنه: فعلمت أن الرجل ممنوع. لقد غزي قائد فرسان قريش في أعماقه، وأيس من النصر. فمن الذي أعلم محمدا بما بيته من غدر؟ لقد عرف خالد بن الوليد أنه أعجز من أن ينال شيئا من محمد. وأضيف هذا الرصيد من الوهن إلى الرصيد السابق فأسقط في يد قريش. وعرفت أن لا جدوى من المواجهة ففكرت في المصالحة. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1. 380

وها هما الصورتان متقابلتان صورة الصف المسلم الملتحم القوي المصمم على الثبات، وصورة الصف المتناقض في الرأي والمهزوم نفسيا في أعماقه من هؤلاء المئات القلائل. سادسا: وكانت الصورة المقابلة التي لا بد أن يقوم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أن يبعث بسفير من عنده يسمع مباشرة من قريش وينقل لهم وجهة نظره حتى لا تلتبس الأمور فكان. (وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش خراش بن أمية على جمل لرسول الله (س) ليبلغ أشرافهم أنه إنما جاء معتمرا. فعقر الجمل عكرمة بن أبي جهل وأرادوا قتله فمنعه من هناك من قومه فرجع فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخاف على نفسه، وأشار بعثمان رضي الله عنه. فبعثه ليخبرهم: إنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا زوارا لهذا البيت معظمين لحرمته، ومعنا الهدي ننحره وننصرف فأبوا على عثمان أن يدخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورحب به أبان بن سعيد بن العاص وأجاره، وحمله من بلده إلى مكة وهو يقول، أقبل وأدبر ولا تخف أحدا بنو سعيد أعزة الحرم، فبلغ عثمان من بمكة ما جاء فيه، فقالوا جميعا: لا يدخل علينا محمد عنوة أبدا .. وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إقامة عثمان بمكة ثلاثا أنه قتل، وقتل معه عشرة رجال مسلمون قد دخلوا مكة بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليروا أهاليهم .. وأم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منازل بني مازن بن النجار، وقد نزلت في ناحية من الحديبية جميعا، فجلس في رحالهم وقد بلغه قتل عثمان رضي الله عنه، ثم قال: إن الله أمرني بالبيعة فأقبل الناس يبايعونه حتى تداكو. فما بقي لهم متاع إلا وطئوه ثم لبسوا السلاح وهو معهم قليل. وقامت أم عمارة إلى عمود كانت تستظل به فأخذته بيدها، وشدت سكينا في وسطها وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس وعمر بن الخطاب رضي الله عنه آخذ بيده فبايعهم على ألا يفروا، وقيل بايعهم على الموت .. فبايعوه إلا الجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعير .. وبعثت قريش إلى عبد الله بن أبي بن سلول: إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل فقال له ابنه: يا أبت أذكرك الله أن تفضحنا في كل موطن، تطوف ولم يطف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى حينئذ وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله فبلغ رسول الله كلامه فسر به) (¬1). الحرب بين الفريقين قائمة، وخراش بن أمية الخزاعي يقابل بديل بن ورقاء الخزاعي فخزاعة مسلمهم ومشركهم عليه نصح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مع قريش كذلك. ومن أجل هذا وجد من يمنعه من قومه عندما تعرض للقتل. وكانت الشخصية الثانية المرشحة للسفارة هي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولعل ما نزل بخراش من جهة وحقد قريش على عمر رضي الله عنه من جهة ثانية وكون شوكة بني عدي في مكة ضعيفة كل هذه العوامل حدت بعمر رضي الله عنه أن يبسط عذره بين يدي قائده ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج1: 289 و 290 و 291 (مقتطفات).

لأن سفارته لن تحقق الهدفا المطلوب منها ومن أجل ذلك قال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي. وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان. وقبل رأي ابن الخطاب دون تردد. فليس هو محل تهمة أو ظنة. لكن لكل أمر رجاله. وعثمان للسفارة خير من عمر، مع العلم أن السفارة في الجاهلية كانت عند بني عدي، غير أن مكة اليوم يتقاسم النفوذ فيها بنو مخزوم وبنو أمية، ومن أجل ذلك وجد عثمان رضي الله عنه من يحميه حتى يؤدي رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان لعثمان كذلك مهمة سرية أخرى هي الاتصال بالمؤمنين في مكة ودعوتهم إلى الصبر والثبات حتى يأذن الله تعالى بالفتح من عنده. ولما فرغ من تأدية رسالته عرضوا عليه أن يطوف بالبيت. فأبى أن يطوف حتى يطوف رسول الله. وكان هذا درسا بليغا في الالتزام حتى ولو كان طواف الكعبة الذي يحلم به المسلم منذ سنين خلت، لكنه لم ينفذ أمرا حتى يرجع إلى قيادته فيسألها. وامتنع عن الطواف قبل طواف النبي عليه الصلاة والسلام. وحين يلتزم الجندي بأمر قائده عند الأعداء رغم الإحراجات الكثيرة من عشيرته. فهذا يعني أن الولاء لن يكون إلا لله ورسوله. لكن هذا الولاء لم يمنع من قبول حماية أبان بن العاص أحد قادة بني أمية، وما أحوجنا إلى أن نفرق بين القضيتين. لأن الأولى لا علاقة لها بطبيعة المهمة، وتتم المهمة بدونها أما الثانية فهي صلب مهمة عثمان رضي الله عنه. فلم يجد حرجا أو إثما بقبول إجارة أبان بن سعيد. وننتقل إلى المعسكر الإسلامي وقد بلغه إشاعة مقتل عثمان رضي الله عنه. وكان لهذه الإشاعة وقع البارود المتفجر فيه. فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أعز معقل من معاقل الأنصار إلى منازل بني مازن بن النجار، وأخبرهم بأمر البيعة. (فأقبل الناس عليه حتى تداكوا فما بقى متاع إلا وطئوه، ثم لبسوا السلاح، وهو معهم قليل ..). يقول ابن إسحاق: (فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت .. وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر). وإنه لمن أغرب ما روى التاريخ من ولاء والتزام ونصرة. لقد خرج القوم للعمرة، وألحوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحملوا السلاح. فرفض ذلك وقال: لست أحمل السلاح إنما خرجت معتمرا. وساهم في هذا الرأي قادة المهاجرين والأنصار. ومع ذلك فها هو يدعوهم إلى المواجهة

والموت فيتزاحمون إلى البيعة حتى لا يبقى متاع إلا وطئوه. لقد أصبح الصف الإسلامي من القوة والتلاحم بحيث نكاد نقول أن النفاق قد انتهى منه. وحين نذكر أن المنافقين كانوا بضعة عشر في غزوة الأحزاب، فها نحن لا نجد وجودا لهم في الحديبية. إن الصورة الواقعية في عالم الأسباب تقول أن لا يستجيب للبيعة على الموت والمواجهة إلا أفراد قلائل. لأن القوم لم يخرجوا للقتال، وقائدهم أكد لهم أن خروجه للعمرة، ولم يعدوا سلاحا لذلك، وما نعلمه عن عالم الأحزاب اليوم في مثل هذه الحالة أن يغتال القائد ويحاكم بتهمة توريط الجيش في الهلاك. أما أن يسارع الجيش كله للبيعة ويتزاحم عليها. فهذا يعني أن النفاق في هذه المرحلة قد ولى كأمس الدابر، وأن ينفرد رجل واحد من هذا الجيش فيختبىء بظل بطن ناقته ولا يبايع، وأن يكون عبد الله بن أبي من بين المبايعين. فهذا يعني أن الجيش الإسلامي قد تجاوز أزمته. وأجهز على عناصر الضعف فيه. ونذكر مع هذا الالتزام العجيب النسوة الأربع اللاتي شاركن الحملة. فقد شاركن في البيعة كذلك، وكأني بأم عمارة رضي الله عنها، وقد التمع بعينيها بريق أحد بعد أن تسلحت بعمود البيت وشدت السكين على وسطها وجددت بيعتها كما بايعت يوم العقبة. لتكون مع الصف المسلم المقاتل وهؤلاء النسوة القليلات هن اللاتي شددن نظر عروة بن مسعود، وكان مما قاله لقريش: (رأيت نسيبات معه. إن كن ليسلمنه أبدا على حال) (¬1). ولم يفكر جندي واحد من هذا الصف القوي أن يعتب على قائده عليه الصلاة والسلام الذي يطلب منه الآن البيعة على الموت، وقد جاء به إلى العمرة ومنعه أن يهيء سلاحه. ومن قوة هذا الالتزام كذلك أن نجد عبد الله بن أبي الذي جاءه وفد خاص من قريش يدعونه ليدخل مكة ويطوف بالحرم، وكان بإمكان ابن أبي أن يهتبل الفرصة. ويطوف بالكعبة في عز حراب قريش. لكن ظل ابنه عبد الله والموقف الرهيب الذي وقفه منه يوم المريسيع ووضع السيف على عنقه آنذاك عاد فارتسم أمامه. وابنه يذكره بالله فما كان من زعيم النفاق إلا أن رضخ لهذا الجو العام، وأحنى رأسه للعاصفة وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله. وهذا درس عظيم للجماعة المسلمة تتعلم منه أصول الانضباط والسمع والطاعة للقيادة. وكانت البيعة هي محك الرجال فلم يتخلف منهم أحد بل سارع النساء إليها كذلك. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1: 288 والنسيات: جمع تقليل وتصغير للنسوة.

والنقطة الأخيرة في هذا المجال وهي التي نتوجه بها لقيادة الحركة الإسلامية أن تستوعبها بعد درس القاعدة هي أهمية الجندي المسلم عند قيادته. لقد قرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشن حربا على قريش مع من بايعوه على الموت ثأرا لجندي واحد من جنوده هو عثمان بن عفان عندما أشيع أنه قتل. والجندي الذي يرى هذا الاهتمام من قيادته به، وهذه الكرامة والخطوة له عندها، لا ضير أن يفتدي هذه القيادة بروحه ودمه ووجوده وأعز ما لديه في هذا الوجود. ولا ضير إذن أن تغير القيادة موقفا مصيريا ثأرا لجندي من جنودها بعد أن علمها هذا الدرس رسول الله عليه الصلاة والسلام. سابعا: ونحن نعرض للصف الداخلي القوي لا بد أن نعرض للصلح نفسه كما تعرضه كتب السير. (فلما اصطلحوا ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر رضي الله عنه. فقال: يا رسول الله: ألسنا بالمسلمين؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بلى. فقال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله: أنا غبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني. فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر ألسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! فال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال: الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله. وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر الله ولن يضيعه الله. ولقي عمر من القضية أمرا كبيرا، وجعل يردد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلام وهو يقول: أنا رسول الله ولن يضيعني، ويردد ذلك فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول! تعوذ بالله من الشيطان واتهم رأيك! فجعل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم حينا وكان المسلمون يكرهون الصلح، لأنهم خرجوا ولا يشكون في الفتح لرؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه حلق رأسه وأنه دخل البيت فأخذ مفتاح الكعبة وعرف مع المعرفين، فلما رأوا الصلح داخلهم في ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون .. (وبينا الناس قد اصطلحوا والكتاب لم يكتب. أقبل أبو جندل بن سهيل .. وقد أفلت يرسف في القيد متوشح السيف .. ففرح المسلمون به وتلقوه حين هبط من الجبل فسلموا عليه وآووه فرفع سهيل رأسه فإذا بابنه أبي جندل، فقام إليه فضرب وجهه بغصن شوك وأخذ بتلابيبه فصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شرا إلى ما بهم وجعلوا يبكون لكلام أبي جندل. فقال حويطب بن عبد العزى لمكرز بن حفص: ما رأيت قوما قط أشد حبا لمن دخل معهم من أصحاب محمد لمحمد وبعضهم لبعض! أما إني أقول لك لا نأخذ من محمد نصفا بعد هذا اليوم حتى يدخلها عنوة! فقال مكرز: وأنا أرى

ذلك وقال سهيل بن عمرو: هذا أول من قاضيتك عليه رده! فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - إنا لم نقض الكتاب بعد فقال سهيل: والله لا أكاتبك على شيء حتى ترده إلي فرده عليه، وكلمه أن يتركه، لأبى سهيل وضرب وجهه بغصن من شوك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هبه لي، أو أجره من العذاب. فقال: والله لا أفعل، فقال مكرز وحويطب: يا محمد نحن نجيره لك. فأدخلاه فسطاطا فأجاراه فكف عنه أبوه ثم رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوته فقال: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا. إنا عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك عهدا وإنا لا نغدر وعاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله. فقال: يا رسول الله: ألست برسول الله: قال، بلى! قال: ألسنا على الحق؟ قال: بلى! قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى! قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ فقال: إني رسول الله ولن أعصيه، ولن يضيعني. فانطلق إلى أبو بكر رضي الله عنه فقال له مثل ذلك. فأجابه بنحو ما أجاب به رسول الله ثم قال: ودع عنك ما ترى يا عمر فوثب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه وسهيل يدفعه وعمر يقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب! وإنما هو رجل، ومعك السيف. (يحرضه على قتل أبيه) وجعل يقول: يا أبا جندل: إن الرجل يقتل أباه في الله! والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله فرجل برجل، فقال له أبو جندل: ما لك لا تقتله أنت؟ قال عمر: نهاني رسول الله عن قتله وقتل غيره، قال أبو جندل: ما أنت أحق بطاعة رسول الله مني! وقال عمر ورجال معه: يا رسول الله: ألم تكن حدثتنا أنك تدخل المسجد الحرام وتأخذ مفتاح الكعبة، وتعرف مع المعرفين؟ وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحن! فقال: قلت لكم في سفركم هذا؟ قال عمر: لا فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما إنكم ستدخلونه، وآخذ مفتاح الكعبة وأحلق رأسي ورؤوسكم ببطن مكة وأعرف مع المعرفين، ثم أقبل على عمر فقال: أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار؟ أنسيتم يوم كذا؟ أنسيتم يوم كذا؟ والمسلمون يقولون: صدق الله ورسوله. يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه. (فلما حضرت الدواة والصحيفة بعد طول الكلام والمراجعة دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك علي، أو عثمان بن عفان، فأمر عليا فكتب فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل، لا أعرف الرحمن. اكتب ما نكتب: باسمك اللهم فضاق المسلمون بذلك وقالوا: هو الرحمن. والله لا نكتب إلا الرحمن. قال سهيل إذن لا أقاضيه على شيء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكتب باسمك اللهم. هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ فضج المسلمون ضجة هي أشد من الأولى حتى ارتفعت الأصوات وقام رجال يقولون: لا نكتب إلا محمد رسول الله! وأخذ أسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي

الله عنهما بيد الكاتب فأمسكاها وقالا: لا تكتب إلا محمد رسول الله، وإلا فالسيف بيننا علام نعط الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله يخفضهم ويومىء إليهم بيده: اسكتوا وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويقول لمكرز: ما رأيت قوما أحوط لدينهم من هؤلاء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا محمد بن عبد الله فاكتب ...). (فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب، وانطلق سهيل وأصحابه قال: قوموا فانحروا واحلقوا وحلوا فلم يجبه أحد إلى ذلك. فرددها ثلاث مرات فلم يفعلوا فدخل على أم سلمة رضي الله عنها وهو شديد الغضب. فاضطجع، فقالت: ما لك يا رسول الله؟ مرارا وهو لا يجيبها. ثم قال: عجبا يا أم سلمة! إني قلت للناس انحروا واحلقوا وحلوا مرارا فلم يجبني أحد من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي، وينظرون في وجهي. فقالت: يا رسول الله انطلق أنت إلى هديك فانحره فإنهم سيقتدون بك. فاضطبع بثوبه وخرج فأخذ الحربة ويمم هديه، وأهوى بالحربة إلى البدنة رافعا صوته بسم الله والله أكبر ونحر فتواثب المسلمون إلى الهدي، وازدحموا عليه ينحرونه، حتى كاد بعضهم يقع على بعض وأشرك - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه في الهدي .. فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحر البدن دخل قبة له من أدم حمراء فيها الحلاق فحلق رأسه ثم أخرج رأسه من قبته وهو يقول: رحم الله المحلقين. قيل يا رسول الله، والمقصرين! قال: رحم الله المحلقين! ثلاثا ثم قال: والمقصرين) (¬1). هذا العرض المسهب يعطينا صورة بينة عن طبيعة هذا الصف العظيم بكل شعابه ومشاعره فنحن أمام وضع جديد كل الجدة، وقد انتقل من النقيض إلى النقيض. وبعد أن ارتفعت موجة المد الشعوري الحماسي إلى أقصاه بالبيعة على الموت، وبعد ذلك التزاحم والتلاحم، نجد الآن صورة معاكسة تتجه إلى المصالحة في شروط تبدو ظاهر الأمر مجحفة بحق المسلمين أيما إجحاف وأضخم هذه الشروط وأثقلها على أعصاب المسلمين هي أن يرجعوا هذا العام عن مكة خاصة وهم على أعتاب مكة وقلوبهم تتلظى شوقا للمسجد الحرام. وها نحن نرى عمر بن الخطاب يفقد أعصابه، ولم يجرؤ أحد على إبداء هذا الانفعال غير عمر بن الحطاب. إن عمر رضي الله عنه الذي لم تحمل أعصابه في أول لحظة من لحظات إسلامه التخفي في دار الأرقم. واستأذن رسول الله بنفس الصيغة التي يتحدث بها اليوم (ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ ففيم التخفي إذن)؟ وها هو يقول الآن. فلم نعط الدنية في ديننا. وراح عمر يتنقل بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وأبي عبيدة رضي الله عنهم. والجواب يأتيه أن الوحي قد أمر بذلك. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 مقتطفات من الصفحات 292 حتى 296.

والضغط الثاني على أعصاب المسلمين كان من خلال رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه دخل الكعبة وأخذ مفتاحها وعرف مع المعرفين وهم يعلمون أن رؤيا الأنبياء حق. والضغط الثالث على أعصاب المسلمين كان من خلال بروز أبي جندل على الساحة وهو يصرخ يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني. وأبوه يضربه بغصن الشوك. والمسلمون عليهم أن لا يحركوا ساكنا أمام هذا التحدي لمشاعرهم أمام نص المعاهدة. والضغط الرابع على أعصاب المسلمين حين رفض سهل بن عمرو أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ولم لا تثور الدماء في العروق؟ وتشتعل الحرب الضروس للحفاظ على الرحمن الرحيم؟ ولم كانت هذه الحروب في السنوات التي خلت؟ إلا لإعلان الرحمن الرحيم في الأرض؟ والضغط الخامس على أعصاب المسلمين كان حين كتب اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصحيفة. ورفض سهيل بن عمرو اسم رسول الله، وأعلن عن إلغاء المعاهدة لو ذكر. والضغط السادس على أعصاب المسلمين كان من بنود المعاهدة المجحفة في ظاهر الأمر. حيث أن عليهم أن يعودوا عن مكة هذا العام. وأنه جاء من أهل مكة مسلما رده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن جاء من المسلمين إلى مكة مشركا لم يرده المشركون. هذه الضغوط جميعا جعلت المسلمين في حالة نفسية صعبة لا يعلم مداها إلا الله، خاصة وهم يتحولون من المد الشعوري العالي بالبيعة على الموت. ونصر الله المقترب بدخول مكة والذي لا يشكون فيه طالما أن رسول الله قد حدثهم عنه. حتى أن وفدا منهم كما مر لم يتمالك أن ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برؤياه، وكان على رأس هذا الوفد عمر رضي الله عنه الذي لم يفقد أعصابه كما فقدها اليوم، فأجابهم عليه الصلاة والسلام: قلت لكم في سفركم هذا؟ قال: عمر. لا فقال - صلى الله عليه وسلم -، أما إنكم ستدخلونه. وآخذ مفتاح الكعبة. وأحلق رأسي ورؤوسكم ببطن مكة. وأعرف مع المعرفين. والدرس الذي نود أن تدركه القاعدة من هذه الأمور جميعا هو أنه ليس بإمكان القيادة دائما أن تعطي المبررات لتصرفاتها وأوامرها. والمطلوب من جنود الدعوة أن تكون ثقتهم بقيادتهم أكبر من ثقتهم بآرائهم وقناعاتهم. وليس بإمكان القيادة أن تفشي أسرار تصرفاتها للمستويات العامة. وحق جنود الدعوة هو إبداء الرأي والمشورة وبذل النصيحة وعليهم من طرف آخر السمع والطاعة فيما يحبون ويكرهون وفي العسر واليسر وفي المنشط والمكره. وما برز من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي صورة واضحة عن هذا التصرف فرغم أن عمر رضي الله عنه فقد أعصابه. وأكثر من التساؤل لكنه لم يقم بأي تصرف أو مخالفة تحول دون تنفيذ أوامر

قائده عليه الصلاة والسلام، ولم يكن أصلا يبيح لنفسه أكثر من إبداء الرأي قبل أن يسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام. ولا شك أنه كان متوتر الأعصاب من هذه المعاهدة، وتمنى في قرارة نفسه لو فشل الصلح، وانفض القوم بدونه لكن ما كان له أن يتصرف أي تصرف يحقق هذا لغرض، وحين عرض على أبي جندل أن يقتل أباه وسأله أبو جندل: ما لك لا تقتله أنت؟ قال عمر: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقتل أحدا. فأجابه أبو جندل: ما أنت أحق بطاعة رسول الله مني. وكلمته التي كررها مرارا هي التذكير بالبنود المجحفة كما ظهر له من خلال قوله: قلم نعط الدنية في ديننا. وإذا وقفنا عند تصرف الصحابة أثناء كتابة الصحيفة عند الحديث عن البسملة. والرسالة نلاحظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك لهم إبداء الرأي قبل أن يعلن رأيه فأظهروا احتجاجهم وأعلنوا رفضهم. وأمسكوا بيد الكاتب لكن إشارة واحدة منه - صلى الله عليه وسلم - كانت كفيلة بالصمت التام والقبول. ولهذه القضية أثران اثنان: الأول إشعار قريش قوة المسلمين واندفاعهم واستعدادهم للمواجهة والحراب فليست المعاهدة عن ضعف أو تخاذل من الصف. الثاني: إشعار العدو كذلك مدى السمع والطاعة في هذا الصف المسلم الذي يتراجع عن رأيه أمام رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قوله. ولا بد من بروز هذين المعنين أمام العدو ليعرف حقيقة هؤلاء الجنود، وقوة شكيمتهم. فلا تسول له نفسه نقض العهد. إن السمع والطاعة في المكره والمعسر هو أعظم أثرا منه في حالة المنشط واليسر، والذي يلتزم في المكره والعسر لا شك أنه ملتزم عندما يتجاوب الأمر مع حبه وقناعته واستعداده، وهو المعنى الحقيقي للسمع والطاعة. والدرس الذي نود أن نتوجه به إلى القيادات الإسلامية والمسؤولين في الحركة هو أن يرحموا أعصاب جنودهم حين لا يسطيعون تفسير الأوامر لهم. ففي صلح الحديبية. وقائدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموحى إليه من عند الله عز وجل ومع ذلك لم

تحتمل أعصابهم هذه الضغوط وانتهى الأمر بهم أن توقفوا عن تلبية نداء الرسول عليه الصلاة والسلام لهم بالإحلال. انفض القوم، ووقعت المعاهدة، وانتهى الأمر, الذي أصبح حقيقة واقعة, فلا دخول للحرم اليوم ولا حرب ولا مواجهة. ولعلنا نقول أن الموقف الأخير، هو الموقف الوحيد الذي يصدر فيه أمر نبوي ولا ينفذ للتو. ومن أجل ذلك كان هم النبي - صلى الله عليه وسلم - عظيما على جنده الذين يهلكون إن خالفوا أمره ورفضوا تنفيذ توجيهاته. ونؤكد أنه لا يوجد في الأرض قيادة معصومة أو قيادة يوحى إليها وبالتالي فعلى القيادة أن تعذر الصف حين يتلكأ في أمر هو عكس قناعته. أو يتباطأ في تنفيذ قرار يناقض هواه. فإذا كان مجتمع الصحابة الذي هو خير مجتمعات الأرض لم يتمكن من الطاعة التامة بنفس الاندفاع السابق وقائده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا غرابة أن يظهر مثل هذا التصرف في أي صف مسلم قيادته منه تخطىء وتصيب. كما نشير كذلك في موطن اسفادة قيادة الحركة الإسلامية من هذا الدرس إلى أهمية القدوة العملية من القيادة. إن الأمر النظري حين لا تكون القيادة أسرع الناس لتنفيذه لن تستجيب القاعدة له ولقد أدركت أم سلمة رضي الله عنها هذا المعنى حين ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرورة الإحلال والحلق منه. واستجاب عليه الصلاة والسلام لاستشارة أم المؤمنين وخرج دون أن يتكلم بشيء فنحر بدنه، وتسارع المسلمون للنحر، وحلق رأسه وتسارع المسلمون للحلق. فلم يعد لديهم عذر في احتمال تغير الرأي. إن القيادة التي تريد طاعة جنودها لا بد أن تكون أسرع الناس في تنفيذ ما تأمر به أما إذا كان واقعها يخالف أوامرها فقد تستجيب القواعد مرة أو مرتين لكنها سترفض الأوامر في المرة الثالثة وتتخلى عن قيادتها وتدير لها ظهرها غير عابئة بالأمر. وتكون المسؤولية في مثل هذه الظروف على القيادة نفسها لا على الجنود. لقد شهدت الحركة الإسلامية في إحدى فصائلها صورة شبيهة بهذه الصورة حين استنفرت جنودها لمواجهة الطاغية. وسارع الشباب من أقصى الأرض ملبين النداء. وإذا بهم يشهدون انصرافا عن المعركة في ظاهر الأمر إلى حلف سياسي مع خصوم تاريخيين لهذه الحركة. وانسحب هذا التراجع الظاهري على الصف الداخلي فزلزل الصف وبقيت الحركة تعاني منه شهورا طوالا

وسنين كذلك ولما تمح آثاره بعد. والحقيقة أن الانضباط في كف اليد عن المعركة هو أصعب بكثير من التوجيه والدفع للمعركة فنفسية الجندي المسلم هي نفسية شجاعة ترغب في مصارعة العدو وحربه لتحقيق موعود الله. وحين تأتي الأوامر إليه بكف اليد يحس أن الأمر كبت وخنق له فيتذمر وكثيرا ما تفقد الحركة الإسلامية النصر في معاركها حين لا تملك السيطرة على جنودها، وتحدد هي موعد المعركة ويلتزم شبابها بوضع اليد على الزناد فترة طويلة دون إطلاق. نحن بحاجة أن نعيش هذه السيرة المطهرة جنودا وقيادات ونعرف من خلالها الذي يجب علينا فنؤديه والذي يحق لنا فنطالب به. وإذا كان تاريخ الدعوة لم يشهد اندفاعا أعظم من الاندفاع نحو بيعة الرضوان. فهو كذلك لم يشهد تلكؤا وتأزما كما شهد يوم صلح الحديبية. ولم يترك الله تعالى هذا الصف المسلم في قلقه بعد أن أدى امتحانه العسير العسير. واستجاب لأوامر نبيه. بل جاء القرآن بعد ذلك ليهدىء النفوس الثائرة ويشرح أبعاد المعاهدة. ويؤكد للصف المسلم أنها كانت الفتح المبين في تاريخ الدعوة بل كانت بداية عهد جديد فتحت أمامه آفاق وآفاق، وكان نقلة هائلة للدعوة غيرت مجرى التاريخ وبقي الصف القوي الملتزم هو العدة الحقيقية للاستفادة من هذه الظروف. وندع الحديث عن هذا الصف المسلم القوي للشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال ومن خلال حديثه عن سورة الفتح. (هذا الدرس كله حديث عن المؤمنين، وحديث مع المؤمنين مع تللك المجموعة الفريدة السعيدة التي بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة. والله حاضر البيعة وشاهدها وموثقها ويده فوق أيديهم فيها. تلك المجموعة التي سمعت الله تعالى يقول عنها لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا}، وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لها: (أنتم اليوم خير أهل الأرض (¬1)) حديث عنها من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحديث معها من الله سبحانه وتعالى يبشرها بما أعد لها من مغانم كثيرة وفتوح، وما أحاطها من رعاية وعناية في هذه المرحلة. وفيما سيتلوها، وفيما قدر لها من نصر موصول بسنته التي لا ينالها التبديل أبدا. {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي.

عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكميا}. وإني لأحاول اليوم من وراء ألف وأربعمائة عام أن استثرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود كله ذلك التبليغ العلوي الكريم من الله العلي العظيم، إلى رسوله الأمين عن جماعة المؤمنين. أحاول أن أستشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون وهو يتجاوب جميعه بالقول الإلهي الكريم عن أولئك الرجال القائمين إذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود وأحاول أن أستشعر شيئا من حال أولئك السعداء الذين يسمعون بذاتهم أنهم هم بأشخاصهم وأعيانهم يقول الله عنهم لقد رضي عنهم ويحدد المكان الذي كانوا فيه والهيئة التي كانوا عليها حين استحقوا هذا الرضا إذ يبايعونك تحت الشجر، يسمعون هذا من نبيهم الصادق المصدوق على لسان ربه العظيم الجليل. يالله! كيف تلقوا - أولئك السعداء - تلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي التبليغ الذي يشير إلى كل أحد في ذات نفسه ويقول له: أنت، أنت بذاتك. يبلغك الله لقد رضي عنك وأنت تبايع تحت الشجرة إذ علم ما في نفسك فأنزل السكينة عليك. إن الواحد منا ليقرأ ويسمع: {الله ولي الذين آمنوا} فيسعد يقول في نفسه: ألست أطمع أن أكون داخلا في هذا العموم؟ ويقرأ ويسمع: {إن الله مع الصابرين} فيطمئن، ويقول في نفسه ألست أرجو أن أكون من هؤلاء الصابرين؟ وأولئك الرجال يسمعون ويبلغون واحدا واحدا أن الله يقصده بعينه وبذاته. لقد رضي عنه إذ علم ما في نفسه ورضي عما في نفسه. يالله! إنه أمر مهول ...). ***

السمة الخامسة: الاعتراف الرسمي من الوثنية بدولة الإسلام

السمة الخامسة: الاعتراف الرسمي من الوثنية بدولة الإسلام شهدنا في السمة الماضية الصف القوي. وها نحن نشهد الآن عظمة القيادة النبوية من خلال صلح الحديبية. (... فلما جاء سهيل بن عمرو، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سهل أمرهم! فقال سهيل يا محمد إن هذا الذي كان - من حبس أصحابك وما كان من قتال من قاتلك - لم يكن من رأي ذوي رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائتا. فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة، والذين أسرت آخر مرة. قال: إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي. قال: أنصفتنا. فبعث سهيل ومن معه إلى قريش فبعثوا بمن كان عندهم، وهم عثمان وعشرة من المهاجرين وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابهم الذين أسروا وكان - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس تحت شجرة خضراء، وقد نادى عمر رضي الله عنه، إن روح القدس قد نزل على الرسول وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا. فلما رأى سهيل بن عمرو ومن معه ورأت عيون قريش سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتد رعبهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية ولما جاء عثمان رضي الله عنه بايع تحت الشجرة وقد كان قبل ذلك حين بايع الناس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله. فأنا أبايع له. فضرب بيمينه شماله .. (ورجع سهيل وحويطب ومكرز فأخبروا قريشا بما رأوا من سرعة المسلمين إلى التنعيم فأشار أهل الرأي بالصلح على أن يرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعود من قابل (¬1) فيقيم ثلاثا فلما أجمعوا على ذلك أعادوا سهيلا وصاحبيه ليقرر هذا. فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أراد القوم الصلح وكلم رسول الله فأطالا الكلام وتراجعا، وارتفعت الأصوات. وكان - صلى الله عليه وسلم - يومئذ جالسا متربعا وعباد بن بشر وسلمة بن أسلم مقنعان بالحديد قائمان على رأسه فلما رفع سهيل صوته. قالا: اخفض من صوتك عند رسول الله! وسهيل بارك على ركبتيه رافع صوته والمسلمون حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوس ..). (... فلما حضرت الدواة والصحيفة - بعد طول الكلام والمراجعة - دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل لا يكتب إلا ابن عمك علي أو عثمان بن عفان فأمر عليا فكتب فقال: اكتب ...). ¬

(¬1) قابل: العام القادم.

(باسمك اللهم، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه لا إسلال (¬1) ولا إغلال (¬2)، وان بيننا عيبة (¬3) مكفوفة، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل. وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل. وأنه من أتى محمدا منهم بغير إذن وليه رده محمد إليه، وأنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم يردوه. وأن محمدا يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا من قابل في أصحابه فيقيم بها ثلاثا لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في للقرب). شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن مسلمة، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص وكتب علي صدر الكتاب. قال سهيل: يكون عندي، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل عندي ثم كتب له نسخة وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب الأول، وأخذ سهيل نسخته. ووثب من هناك من خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده ونحن على من وراءنا من قومنا. ووثب بنو بكر فقالوا: ندخل مع قريش في عهدها وعقدها، ونحن على من وراءنا من قومنا .. (ثم أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاؤوا وهم صائفون (¬4) فنزل ونزلوا معه فشربوا من ماء السماء. وقام - صلى الله عليه وسلم - فخطبهم فجاء ثلاثة نفر فجلس اثنان وذهب واحد معرضا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخبركم خبر الثلاثة قالوا: بلى يا رسول الله قال: أما واحد فاستحيا فاسنحيا الله منه، وأما الآخر فتاب فتاب الله عليه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه. عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فلم يجبه. ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال: ثكلتك أمك يا عمر! بدرت رسول الله ثلاثا، كل ذلك لا يجيبك! وحرك بعيره حتى تقدم الناس، وخشي أن يكون نزل فيه قرآن فأخذه ما قرب وما بعد لمراجعته بالحديبية، وكراهته القضية. وبينما هو يسير مهموما متقدما على الناس، إذا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي: يا عمر بن الخطاب! فوقع في نفسه ما الله به أعلم ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم. فرد عليه السلام وهو مسرور ثم قال: أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. فإذا هو يقرأ: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ..} فأنزل الله في ذلك سورة الفتح فركض الناس وهم يقولون: أنزل على رسول الله! حتى توافوا عنده وهو يقرؤها ويقال: لما نزل بها جبريل قال: ¬

(¬1) الاسلال: السرقة الخفية والرشوة ويقال هو الغارة الظاهرة بسل السيوف. (¬2) الأغلال: الخيانة. (¬3) العيبة المكفوفة: كناية عن الصلح المعقود على الوفاء. (¬4) صائفون: أقاموا بالمكان صيفا أو مروا به.

(نهنئك يا رسول الله! فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون ...) (¬1). لقد كان اتجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصالحة منذ اللحظة التي بركت فيها ناقته فقال الناس: خلأت (¬2) القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها). والظاهر من الوحي نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلح مع العدو. لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستشر كما تشير النصوص أحدا في هذا الأمر، واكتفى بإعلان هذا لاتجاه بعد بروك الناقة وفي ذلك إشارة دقيقة: حبسها حابس الفيل عن مكة. وهذا يعني أن احتمال الرجوع عن مكة وارد. ومع وصول سهيل بن عمرو الذي تفاءل به عليه الصلاة والسلام قائلا: سهل أمرهم. وانتهاء المفاوضات الأولى بتبادل الأسرى بين الفريقين. لكن وصول هذا الوفد والبيعة على أشدها كان المهماز الأخير في اتجاه قريش إلى الصلح، وكان هدفها الأول: ألا تتحطم سمعتها العسكرية، وتمرغ كرامتها بالتراب نتيجة دخول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة عنوة، أما بقية البنود فقابلة للأخذ والرد. وبين رغبتين جامحتين: رغبة لقريش أن لا يدخل عليهم مكة هذا العام أبدا. ورغبة المسلمين أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت الحرام، ورجوعهم هو هزيمة عسكرية لهم. بين هاتين الرغبتين الجامحتين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوازن بآفاق أبعد وآماد أرحب. وهل من هزيمة أوعظم من قبول قريش المصالحة وبعثه وفد بذلك. قريش قبل عام واحد تحاصر المسلمين مع من جيشت من العرب. وتأتيهم من فوقهم ومن أسفل منهم وهي اليوم تبعث وفدا للمصالحة مع المسلمين على مشارف مكة. إنه نصر ساحق ولا شك والنصر الآخر هو أن تقف مكة على الحياد وتقف الحرب في جزيرة العرب وتفتح أبواب الجزيرة أمام المد الإسلامي. إنه نصر ساحق ولا شك. وأن يعود المسلمون في العام القادم ويدخلوا مكة باعتراف رسمي وحماية رسمية دون أن يتعرض لهم أحد بسوء. إنه نصر ماحق ولا شك. ¬

(¬1) مقتطفات من إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 من الصفحات 291و292 و297 و298 و301 و302. (¬2) خلأت: بركت.

وأن تفتح قريش صفحة جديدة مع المسلمين وتعترف بكيانهم ودولتهم، ويسود الأمن والود بين الفريقين. ويفتح باب الحوار الجديد مع قادة مكة من موقع القوة. إنه نصر ساحق ولا شك. هذا من جهة، ومن جهة ثانية: ماذا يعني إصرار المسلمين على دخول مكة عنوة. إن أول معانيه، أن يكون الحقد والثأر هو الذي يطبع نفوس أهل مكة جميعا. وهذا يسد إلى فترة غير قليلة باب الدخول في الإسلام أو التفكير به. وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغيب عن قلبه أبدا رغبته في إسلام أهل مكة. وهذه خسارة فادحة. وأن تقع معركة غير متكافئة يسقط فيها مئات الشهداء من المسلمين لدخول مكة. وهم قرة عينه وخيرة جنده، فهذه خسارة فادحة ثانية. وأمام هذه التوازنات جميعا وبتسديد الوحي. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماض في خطته، لا يراوده فيها أدنى شك نلحظ ذلك من خلال إجابته الواضحة الصارمة لعمر بن الخطاب: (أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني). والملاحظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفصح عما في نفسه إلا مضطرا وذلك أمام إلحاح المسلمين على دخول مكة. فأعاد لهم شريط الأحداث، لينتقلوا منه ومعه إلى النصر الجديد القادم. (أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب، إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، أنسيتم يوم كذا، أنسيتم يوم كذا؟ والمسلمون يقولون: صدق الله ورسوله، يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا). وعودة إلى نصوص المعاهدة، نلحظ من خلالها أول اعتراف رسمي من قريش بدولة الإسلام. إنه اعتراف بالدولة وليس اعترافا بالرسالة ومن أجل هذا ناقشوا كثيرا بـ (الرحمن الرحيم) وبـ (رسول الله) ولكنا الخطوة الأولى على الطريق وإيقاف الحرب عشر سنين تهيء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين مجالا رحبا للانطلاق بالإسلام إلى العرب كل العرب دون مقاومة أومواجهة من أحد. فقد كانت العرب تنتظر مصير الحرب بين الفريقين. واقفة على الحياد ولا يجرؤ أي تجمع عربي على الانضمام لأحد الفريقين خوفا من غلبة الفريق الآخر، وإن كانت بعض القبائل العربية ظاهرت قريشا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن تلك المظاهرة كانت منطلقة من الثقة المطلقة بقوة قريش. أما بعد الأحزاب، وبعد فشل الهعجوم الضخم، إنتهت التحالفات العربية في المنطقة ضد الإسلام، وأيس الناس من إمكانية القضاء على الإسلام ورسول الإسلام.

3 - وأهم بند من بنود المعاهدة إنتهاء عنصر الخوف في الأرض العربية فمن أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدعا دخل فيه لقد فتحت آفاق الدعوة على مصراعيها دون وجل أو خوف من أحد، وهذا ما كان يريده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ بداية الحملة. (إنا لم نأت إلى قتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه وقريش قوم قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة يأمنون فيها، ويخلون فيما بيننا وبين الناس -والناس أكثر منهم - فإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، أو يقاتلوا وقد جموا والله لأجهدن على أمري هذا إلى ان تنفرد سالفتي، أو ينفذ الله أمره) (¬1). 4 - والبندان الأخيران اللذان أثارا حفيظة المسلمين يجد الناظر لهما لأول وهلة أنهما مجحفان بحق المسلمين. لكن النظرة الأبعد. تؤكد أنها لمصلحة المسلمين. وأول هذين البندين: ((وأنه من أتى محمدا منهم بغير إذن وليه رده محمد إليه)). ولا شك أن هذا البند فيه -في ظاهر الأمر- تخل عن المستضعفين المؤمنين في مكة غير أن ما ذكره القرآن حولهم يؤكد أن تأجيل المعركة مع قريش وتأخيرها هو لصالح هؤلاء المستضعفين في مكة. {ولولا رجال مؤمون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ...} (¬2). لأن الحرب لو اندلعت لتعرض المستضعفون في مكة للإبادة بينما قامت هذه المعاهدة بتحقيق نصر معنوي لهم أهم ما فيه العهد مع دولتهم بالموادعة. ومع أن الإجحاف الجزئي من خلال هذا النص قد أثر قليلا على أعصاب المسلمين لكنه ما لبث أن تعدل بعد أقل من شهرين. وذلك بعد خروج أبي بصير ومن معه من المسلمين إلى ذي المروة بالساحل. وثاني هذين البندين: (وأنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم يردوه) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطمئن إلى المؤمنين عنده وكما قال لصحبه: (ومن جاءهم منا فلا رده الله). ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 286. (¬2) الآية 25:الفتح.

إذ ماذا يجدى وجود عملاء لقريش في الصف المسلم أو منافقين يكيدون للإسلام؟ 5 - ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكة في ظاهره فشل لحملة الحديبية وفي حقيقته اعتراف رسمي بحق المسلمين بدخول مكة في العام القادم. وكم الفرق بين نصر جزئي لن يصل له المسلمون دون مئات الشهداء والقتل من الفريقين. وبين دخول رسمي لمكة من المسلمين بإقرار المشركين. وليس بعد قول الله تعالى قول. فلقد سمى الحديبية - جل شأنه - فتحا مبينا. فقال عز من قائل: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا} (¬1). واقتضت هذه الآيات، تهنئة أهل السماء على لسان جبريل عليه السلام، وتهنئة أهل الأرض وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد استدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين المسلمين جميعا. ليتلو عليه آيات الله، ويسكب الطمأنينة والسكينة والأمن في قلبه. {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليا حكيما) (¬2). يقول أبو بكر رضي الله عنه: (ما كان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبية. ولكن الناس يومئذ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه. والعباد يعجلون، والله لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الودع قائما عند المنحر يقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنه. ورسول الله ينحرها بيده! ودعا الحلاق فحلق رأسه فأنظر إلى سهيل يلقط من شعره - صلى الله عليه وسلم - وأراه يصعه على عينيه! وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم! وإباءه أن يكتب أن محمدا رسول الله! فحمدت الله الذي هداه للإسلام. فصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به. وأنقذنا به من الهلكة) (¬3). والحركة الإسلامية اليوم بحاجة إلى أن تراجع رصيدها على ضوء هذه السمة وأن لا تشغلها ¬

(¬1) سورة الفتح الآيات 1 - 3. (¬2) الآية 4 من سورة الفتح. (¬3) إمتاع الأسماع ص 296.

النزوات والانفعالات الجزئية عن الخطة العامة التي تجعل الهدف العام يضحى من أجله بالمنفعة القريبة العاجلة. إن الانتقال بالدعوة إلى المجال السياسي بحيث تثبت وجودها فيه. بجانب الجهد العسكري الذي تبذله هو الذي يمكن لهذه الدعوة في الأرض. وإن الدعوة حين تسد في وجهها السبل، وتوضع في عجلاتها العصي، وينزل الاضطهاد بها من كل صوب، لا تجد أمامها محيصا من اللجوء إلى القوة حتى تضرب جذورها في الأرض. لكن هذه القوة هي الوسيلة الناجعة للعودة إلى الحوار الفكري والمجال السياسي مع الخصوم. وتستطيع أن تحقق بترانق ذينك الجانبين معظم أهدافها. أما التخل عن واحد منهما فهو خلل كبير تصاب به الدعوة. لقد رأينا الحركات الإسلامية حين تعتمد على الحرية الديمقراطية دون سند لها من قوة. ولو وصلت إلى بعض المواقع، لكنها سرعان ما تخسرها لأن الباطل لا يرضى لها الغلبة وهو قادر على إزاحتها. وتجارب الحركة الإسلامية من خلال منح وزارة أو إعطاء قطاع من القطاعات حرية محدودة سرعان ما ينهار ذلك العطاء، وتجتث تلك الثمرات. كما أن اعتماد القوة وحدها ونسيان هدف الدعوة الرئيسي واعتماد التحرك السياسي. سرعان ما يفصم بينها وبين الناس ويوسع الهوة التي لا تردم بعد ذلك. أما أن يكون الجانب الجهادي بجوار التحرك السياسي. وكلاهما يخدمان دعوة الإسلام هو الطريق الطبيعي لتحقيق نصر الله. يقول الزهري رحمه الله عن فتح الحديبية: (فما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وآمن الناس بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر) (¬1). قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين بعشرة آلاف. ومن الآلاف العشرة يوم الأحزاب، إلى الألاف العشرة يوم فتح مكة يظهر حقيقة هذا الفتح المبين. ولا شك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استثمر هذا الفتح أعظم استثمار. ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 4 ص 336 و 337.

والمؤمنون المجاهدون بحاجة إلى أن يستثمروا المواقع التي يربحونها أعظم استثمار. وها نحن نشهد في السمات التالية آثار هذا الاعتراف ونتائج هذا الفتح بحيث قلب الموازين كلها لصالح الإسلام والمسلمين. {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخل المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) (¬1). ¬

(¬1) سورة الفتح الآية 37.

السمة السادسة: حرب المستضعفين

السمة السادسة: حرب المستضعفين لقد بقي القلق يساور المسلمين على المستضعفين في مكة. ومنظر أبي جندل بن سهيل رضي الله عنه فتت أكبادهم. غير أن قدوم أبي بصير رضي الله عنه قلب الموازين كلها لصالحهم وصالح دولة الإسلام الجديدة. ولنشهد مفهوم العهود الدولية. ومفهوم حرب العصابات من خلال هذه السمة: (فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد، وكان ممن حبس بمكة. فلما قدم على رسول الله كتب فيه أزهر بن عبد عوف، والأخنس بن شريق [إلى رسول الله كتابا مع خنيس بن جابر من بني عامر وخرج معه مولى له يقال له كوثر وفي كتابهما ذكر الصلح، وأن يرد عليهم أبا بصير، فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام فقرأ أبي بن كعب الكتاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه وأشهدنا بيننا وبينك من رد من قدم عليك من أصحابنا، فابعث إلينا بصاحبنا. فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بصير أن يرجع معهم ودفعه إليهما، فقال: يا رسول الله: أتردني إلى المشركين يفتنوني في ديني! فقال: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت. ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا. فقال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين! قال: إنطلق يا أبا بصير فإن الله سيجعل لك مخرجا] (¬1) فانطلق معهما حتى إذا كان بذي الحليفة جلس إلى جدار وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم قال: أريته أنظر إليه؟ قال: انظر إن شئت، قال: فاستله أبو بصير، ثم علا به حق قتله، وخرج المولى سريعا حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طالعا، قال: إن هذا الرجل قد رأى فزعا، فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ويحك ما لك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي فوالله ما برح حتى طبع أبو بصير متوشحا بالسيف حتى وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، وفت ذمتك، وأدى الله عذك أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي. قال رسولالله - صلى الله عليه وسلم - ويل أمه محش (¬2) حرب لو كان معه رجال) (¬3) [وقدم سلب العامري ورحله وسيفه ليخمسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إني إذا خمسته رأوا أني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه. ولكن شأنك بسلب صاحبك. ثم قال لكوثر: ترجع به إلى أصحابك؟ فقال: يا محمد ما لي به قوة ولا يدان: فقال - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) بين المعترضين من إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1:303. (¬2) محش حرب: مسعر حرب وموقدها. (¬3) السيرة لابن هشام ج 3: 337 و338.

لأبي بصير: إذهب حيث شئت] (¬1). فخرج حتى أتى العيص فنزل منه ناحية على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشام وعندما خرج لم يكن معه إلا كف تمر فأكله ثلاثة أيام، وأصاب حيتانا قد ألقاها البحر بالساحل فأكلها. وبلغ المسلمين ال>ين حبسوا بمكة خبره فتسللوا إليه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي كتب إليهم يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير: ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال وأخبرهم أنه بالساحل فاجتمع عند أبي بصير قريب من سبعين مسلما فكانوا بالعيص. وضيقوا على قريش، فلا يظفروق بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر عير إلا اقتطعوها ومر بهم ركب يريدون الشام معهم ثمانون بعيرا فأخذوا ذلك وأصاب كل رجل منهم قيمة ثلاثين دينارا، وكانوا قد أمروا عليهم أبا بصير. فكان يصلي بهم، ويقرئهم ويجمعهم، وهم له سامعون مطيعون. فغاظ قريشا صنيع أبي بصير وشق عليهم وكتبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه بأرحامهم إلا أدخل أبا بصير إليه ومن معه: فلا حاجة لنا بهم. فكتب - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بصير أن يقدم بأصحابه معه فجاءه الكتاب وهو يموت. فجعل يقرأه ومات وهو في يده فدفنوه. وأقبل أصحابه إلى المدينة وهم سبعون ..). (وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قد أسلمت بمكة، فكانت تخرج إلى بادية أهلها فتقيم أياما بناحية التنعيم ثم ترجع حتى أجمعت على المسير مهاجرة. فخرجت كأنها تريد البادية على عادتها فوجدت رجلا من خزاعة فأعلمته بإسلامها، فأركبها بعيره حتى أقدمها المدينة بعد ثمان ليال. فدخلت على أم سلمة رضي الله عنها وأعلمتها أنها جاءت مهاجرة وتخوفت أن يردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما دخل على أم سلمة أعلمته فرحب بأم كلثوم وسهل فذكرت له هجرتها وأنها تخاف أن يردها فأنزل الله فيها آية الممتحنة .. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرد من جاءه من الرجال ولا يرد من جاءه من النساء. وقدم أخواها من غد قدومها الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط فقالا: يا محمد ف لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. فقال: قد نقض ذلك. فانصرنا إلى مكة فأخبروا قريشا فلم يبعثوا أحدا ورضوا بأن تحبس النساء) (¬2). إننا نشهد مبادىء حرب العصابات من خلال حادثة ابي بصير رضي الله عنه. فلا بد لمن يفكر بهذه الحرب أن يكون ذا إرادة قوية وعزيمة فولاذية وتفكير أبي بصير بالهروب من سجن قريش، وتنفيذ ذلك والهجرة إلى المدينة يعني أنه يملك التصميم على المقاومة إنها النفسية الحية التي ترفض الذل وتأبى الهوان، وهذه هي نقطة الانطلاق الأولى في أية مقاومة مسلحة للطغاة في الأرض. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1. 304. (¬2) إمتاع الأسماع ج 1: 305 و306.

2 - وكان من الممكن أن ينتهي أبو بصير رضي الله عنه لو اكتفى بنزوحه إلى المدينة وعودته إلى مكة مع صاحبيه اللذين جاءا لاستلامه غير أن هذه الإرادة برزت في الالحاح على قيادته أن لا يعود إلى الذل، وكان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه لا يحل في ديننا الغدر، فاصبر واحتسب فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا. وها هو يتلقى مبادىء ثلاثة من قيادة الدعوة: المبدأ الأول: الوفاء بالعهود والمواثيق ولو مع المشركين المجرمين المعتدين. المبدأ الثاني: إن مصلحة الجماعة فوق مصلحة الفرد، ولهذا الأمر كان هذا الشرط المجحف. المبدأ الثالث: الثقة بالله وبموعوده أنه لا بد من فرج ومخرج بعون الله. ولكنه لم يكن يدري أنه هو صاحب الفرج والمخرج، إذ أعده الله تعالى لذلك. 3 - ولعل إيحاءات إخوته في المدينة كانت أن لا يدع سبيلا للمقاومة إلا ويسلكها، ومن أجل ذلك بيت في نفسه أمرا وهو القضاء على هذين الصاحبين اللذين جاءا لإعادته إلى ربقة الذل والعبودية، وإعادته إلى قريش يفتنونه في دينه، ونفذ ما عزم عليه في حيلة بارعة توصل بها إلى سيف العامري وقتله به، ولحق بمولاه إلى المدينة. 4 - وكانت الخطوة الثالثة من التصميم عندما جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلا له: وفت ذمتك يا رسول الله، وأدى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، ويعبث بي أو أكذب بالحق. وكانت هذه القوة الفية من أبي بصير منطلقا للتوجيه إلى الحرب الواسعة من خلال تخطيط محكم ومدد بالرجال بدلا أن تكون مبادرة فردية أو نزوة طارئة. وحتى تبرؤ الذمة تماما قال عليه الصلاة والسلام لكوثر المولى الذي نجا: ترجع به إلى أصحابك فقال: يا محمد ما لي به قوة ولا يدان فقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير: اذهب حيث شئت. لا بد من اختيار المكان، واختيار الرجال، والتخطيط لحرب طويلة الأمد، لكن المدينة ليست هي الأرض المناسبة لهذه الحرب. فالمدينة ملتزمة بمواثيق دولية مع مكة. ولا بد من اختيار أرض مناسبة لهذه الحرب والرجال ليسوا من المدينة. الرجال هم من رعايا مكة نفسها والمكان لا بد أن يقض مضجع مكة. فكان ذا المروة بالساحل. ومن تمام الوفاء بالعهود والمواثيق الدولية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رفض تخميس سلب العاري لأن هذا يعني الإعتراف بشرعية انتمائه للمدينة وهذا الانتماء غير شرعي. فلا بد من

البحث عن أرض أخرى، ورجال آخرين، ومضى أبو بصير بهذا الخط العام الذي رسمه له رسول الله عليه الصلاة والسلام. 5 - ومضى رضي الله عنه بكف تمر أكله خلال ثلاثة أيام، والثائر الحقيقي لا بد أن يوطن نفسه على الجوع والعري والفاقة. وأن يتجلد على القسوة والشدة والمحنة. ثم لجأ بعد انتهاء كف التمر إلى حيتان البحر. ورجل الثورة بحاجة إلى أن ينمي الامكانات الذاية للثورة لا أن يكون اعتماده على المعونات الخارجية، لأن هذه المعونات من المحتمل أن تنضب في كل لحظة، أو تنقطع وبالتالي يهلك بذلك. 6 - لقد كان أبو بصير بحق قائد ثورة، ومبادىء الثورة تبيح المواجهة المباشرة وغير المباشرة. وما احتال به على العامري لقتله وأخذ سيفه. خط إسلامي أصيل حين يجمع العدو على القضاء على الحركة الإسلامية وذلك بأن تلجأ إلى التعمية والتغرير بالخصم لقتله وأخذ سلاحه. والثورة الإسلامية حين تنطلق. تستطيع أن تتبع الأساليب المناسبة الناجعة مع أزلام الطغاة وزبانيتهم. لأنهم يعلمون الجريمة التي يساهمون بها. 7 - والثورة الإسلامية التي شهدنا أبا بصر على رأسها، تعذر الدول المرتبطة بمواثيق ومعاهدات. ولا تحرجها حين تتحرك على أرضها وتتقيد تقيدا تاما بمبادىء هذه الدولة وقوانينها. لقد رأينا أبا بصير وارتباطه بالإسلام ارتباط عقيدة، وارتباطه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتباط عقيدة وإيمان، ومع ذلك لم يحرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتحرك على أرضه أو طلب المدد منه وقد تعلم هذا الدرس حين رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أن يخمس له سلبه. وما أحوج الثورة الإسلامية إلى أن تدرك هذه المعاني وخاصة عندما لا يكون ارتباطها ارتباط عقيدة مع الدولة التي تتحرك في أرضها. كما أن على شباب الحركة الإسلامية أن يدركوا الظروف الصعبة التي تمر بها قيادتهم، وتضطر إلى التخلي عن معونتهم ومددهم لمصلحة الدولة ذاتها. فلقد وقع عليه الصلاة والسلام ميثاقا من صلب نصوصه عدم حماية الثوار المسلمين ومددهم وإعادتهم وتسليمهم للدولة العدو لو جاؤوا إليه. 8 - وكان الرصيد الحقيقي للثورة هم رجال مكة المسلمون المستضعفون الذين انضموا إلى أبي بصير واحدا تلو الآخر حتى بلغ عددهم سبعين رجلا من المجاهدين والدرس الذي تستفيده

الثورة الإسلامية من هذا الحديث هو أن الرصيد الحقيقي للثورة هو من أبناء البلد الثائر. هذا هو الرصيد الحقيقي. ومن أجل ذلك لم ينضم لجيش الثورة رجل واحد من المسلمين في المدينة. لأنه جندي نظامي في دولة رسمية. أما المستضعفون المسلمون في مكة فقد انضموا إلى أبي بصير عن بكرة أبيهم وكانوا هم أصحاب القضية وأبناؤها الأصليين والثورة التي تقوم وتعتمد في رصيدها على الرديف من الدول الأخرى لن يكتب لها النجاح. 9 - واختيار المكان المناسب للثورة ذو أهمية قصوى في نجاحها فعصب قريش هو التجارة وتجارتها إلى الشام هي المحور الأول. ولم يرتفع الاختناق عنها إلا بعد صلح الحديبية. فإذا بها تقاجأ من جديد بعودة الإرهاب إلى الطريق، والقافلة إثر القافلة يباد رجالها وتمضي أموالها. فالموقع الاستراتيجي المناسب الذي يمكن الثورة من قطع شريان الحياة عن أعدائها هو اللذي يجعل هذا العدو يلين ويرصخ أما إذا لم يشعر العدو أنه مهدد بحياته ووجوده وأمنه فسوف يسحق هذه الثورة ويبيدها عن آخر رجل فيها. وكل ثورة لا تجد منطلقا تنطلق منه إلى حدود العدو ستنتهي في النهاية إلى لاجئين سياسيين يعيشون على موائد الآخرين. وكل ما من شأنه أن يقصم ظهر العدو ويفل مقاومته هو من حق الثائرين سيان كان أهدافا مدنية أو عسكرية وهدف الثورة هو رفع الظلم والاضطهاد عن المستضعفين. ولن يتراجع الطغاة عن طغيانهم ما لم يصابوا بأرواحهم وحياتهم وأموالهم وأمنهم، عندئذ يسقط في يدهم ويشعرون أنه قد أحيط بهم فيستسلمون. 10 - وليس هدف الثورة الإرهاب والفتك للإرهاب والفتك، إن هدفها هو رفع الظلم والاضطهاد عن المسحوقين الملاحقين بعقائدهم وفكرهم ومقدساتهم وحين يتحقق الهدف تنتهي الثورة ومن أجل ذلك عندما اسفحل أمر الثوار المسلمين في الساحل. وعرفت مكة أنها على وشك الاختناق، وأن جبهة جديدة فتحت عليها تقض مضجعها وأمنها راحت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتفاوض معه وترجوه وتسترحمه أن ينهي هذه الثورة ويضم هؤلاء المسلمين إلى جيشه النظامي. فيسري عليهم ما يسري على جيشه بالتزام الهدنة والصلح. (وكتبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه بأرحامهم إلا أادخل إليه أبا بصير ومن معه. وتحقق هدف الثوة وانضم الثوار إلى دولة الإسلام، وهم سبعون من المجاهدين الذين تزيلوا من صفوف العدو وتميزوا). ولا بد أن نلاحظ حدود الثورة وطاقتها وإمكاناتها. فلم يكن هدف ثورة أبي بصير. هو

إسقاط نظام مكة والسيطرة عليه بمقدار ما كان هدفه هو ضم قوات المستضعفين إلى قيادتهم في المدينة. وحققت الثورة أهدافها، وقائدها على فراش الموت. وكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده أن يقدم بأصحابه معه. فمات قرير العين بتحقيق موعود الله تعالى له بالنصر والشهادة. لكننا نرى تصرفا آخر قامت به أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أعدى أعداء الله. لا يقل بطولة عن أبي بصير إذا روعيت النسبة بين طاقات الرجال والنساء. فأم كلثوم رضي الله عنها وقد خالطت بشاشة الإسلام قلبها وهي في بؤرة العداوة للمسلمين، خططت وغافلت أهلها حتى استطاعت أن تجد رجلا من خزاعة فسافرت معه مهاجرة إلى المدينة. ويبدو فقهها رضي الله عنها في جانبين: الجانب الأول: في التخطيط للهجرة حتى تخلص من جحيم أهلها ونار عداوتهم للإسلام. الجانب الثاني: بحسن اختيارها لمن تنتقل معه فهي تعلم من بنود المعاهدة أن خزاعة هم حلفاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد الحديبية ومن أجل ذلك انتظرت حتى لقيت الرجل الحليف لمحمد وانطلقت معه. ويبدو فقهها رضي الله عنها كذلك حين نزلت عند أم سلمة رضي الله عنها، فهي تعلم من بنود المعاهدة أن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد من يأتيه مسلما من المدينة. فاختبأت عندها، وكانت الأقدار العجيبة، أن تنزل عند المهاجرة الأولى أم سلمة رضي الله عنها، والتي قامت بالمغامرة نفسها قبل ست سنين أو سبع وفي الطريق نفسه، وحيدة فارة بدينها من مكة إلى زوجها في المدينة. والتقت المهاجرتان في بيت واحد. وفي بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعلم عليه الصلاة والسلام بالأمر فرحب بأم كلثوم. وجاء أمر الله تعالى أن لا تعود إلى مكة. ونلاحظ من هذه المغامرة الجريئة أمورا تحتاجها الحركة الإسلامية حين تكون في مرحلة الثورة فالأصل أن لا تسافر المرأة إلا مع محرم. وها نحن نجد أم كلثوم رضي الله عنها تسافر مسيرة ثمان ليال بدون محرم لأن محارمها أعداء الله. ولأن وجودها في محضنها الطبيعي بعيدا عن محارمها وتحت ظل دولة الإسلام هو الأصل. وليس الأخ المسلم فقط هو الذي يؤمن على عرض المرأة المسلمة. بل كذلك الحليف المشرك

ولو رافقها في سفر طويل. لأن هذه الضرورة تقدر بقدرها والحركة الإسلامية وقيادتها لها الولاية على كل امرأة مسلمة تقع في براثن العدو ولو كان هذا العدو أباها أو أخاها أو زوجها لقد قرر الإسلام هذا المبدأ في هذا الظرف، واعتبر رابطة الإسلام فوق رابطة الزوجية وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلوف لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله. يحكم بينكم والله عليم حكيم، وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} (¬1). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على استعداد أن ينقض الاتفاق كله بأمر الله عز وجل لحماية المرأة المسلمة المهاجرة. وما أروع هذا المعنى أن تفقهه المرأة المسلمة. فقيادة الإسلام على إستعداد أن تشن حربا كاملة وتخسر أضخم الامتيازات لحماية إمرأة مسلمة مهاجرة مجاهدة. ومما كتبه عروة بن الزبير رضي الله عنه للزهري حول هذه الآية. ما يزيد المعنى وضوحا وجلاء قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان صالح قريشا يوم الحديبية على أن يرد إليهم من جاء بغير إذن وليه. فلما هاجر النساء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى الإسلام أبى الله أن يرددن إلى المشركين إذا هن امتحن بمحنة الإسلام. فعرفوا أنما جئن رغبة في الإسلام وأمر برد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم. إن هم ردوا على المسلمين صداق من حبسوا عنهم من نسائهم. ذلكم حكم الله يجكم بينكم والله عليم حكيم. فأمسك رسول الله النساء ورد الرجال وسأل الذي أمره الله به أن يسأل من صدقات نساء من حبسوا منهن. وأن يردوا عليهم مثل الذي يردونه عليهم إن هم فعلوا. ولولا الذي حكم الله به من هذا الحكم لرد رسول الله النساء كما رد الرجال، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يردد لهن صداقا. وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد. لقد انتهت رابطة الزوجية بين المسلم والكافرة وبين المسلمة والكافر، وأصبحت العلاقة ¬

(¬1) سورة الممتحنة الآيتان 11،10.

علاقة عقيدة فحسب لكن هذا لا يلغي الحقوق المالية بين الطرفين، ويمكن استيفاؤها بين الدولتين. وهكذا نلحظ طبيعة الظروف التي تضطر الحركة الإسلامية أحيانا أن تتخلى عن بعض البنود وطبيعة الظروف التي تضطر المرأة المسلمة أحيانا أن تتخلى عن بعض الأحكام الجزئية تلافيا لخطر أكبر مثل قضية السفر مع محرم ومثل قضية الهرب من الزوج الكافر والأولياء الكافرين إلى أرض الإسلام والمسلمين. ***

السمة السابعة: الإعلان العالمي للإسلام: مراسلة الملوك والأمراء

السمة السابعة: الإعلان العالمي للإسلام: مراسلة الملوك والأمراء في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له: إنهم لا يقبلون إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتما من فضة، نقشه: محمد رسول الله، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر: محمد سطر، رسول سطر، والله سطر، هكذا، محمد رسول الله. واختار من أصحابه رسلا لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك وقد جزم العلامة المنصور فوري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام. وفيما يلي نصوص هذه الكتب وبعض ما تمخضت عنه. 1 - الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة: وهذا النجاشي اسمه أصحمة بن الأبجر، كتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمرو بن أمية الضمري في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع من الهجرة وقد ذكر الطبري نص الكتاب ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه - صلى الله عليه وسلم - بعد الحديبية، بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي، فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ (وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرا ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر). وروى البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي وهو هذا: هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله أسلم تسلم، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون، فإن أبيت فإن عليك إثم النصارى من قومك. ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النيي - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي أخذه النجاشي، ووضعه على عينه، ونزل عن سريره على الأرض، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وكتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وهاك نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وركاته الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقا، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقد قرينا ابن عمك، وأصحابك فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفرا ومن معه من مهاجري الحبشة، فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فقدم بهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر، توفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجرة بعد تبوك ونعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم وفاته وصلى عليه صلاة الغائب، ولما مات وتخلف على عرشه ملك آخركب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابا آخر ولا ندري هل أسلم أم لا؟ 2 - الكتاب إلى المقوقس ملك مصر: وكتب النبي إلى جريح بن متى الملقب بالمقوقس ملك مصر والاسكندرية: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}. واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بلتعة، فلما دخل حاطب على المقوقس قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك. فقال المقوقس: إن لنا دينا لن ندعه لما هو خير منه. فقال حاطب: ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فقط ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعبسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الانجيل، فكل نبي أدرك قوما فهم أمته فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي

ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به. فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب ووجدته معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر. وأخذ كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعله في حق من عاج، وختم عليه ودفع به إلى جارية له، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بسم الله الرحمن الرحيم) لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك. ولم يزد على هذا ولم يسلم، والجاريتان مارية، وسيرين، والبغلة دلدل بقيت إلى زمن معاوية، واتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مارية سرية له، وهي التي ولدت له إبراهيم، وأما سيرين فأعطاها لحسان بن ثابت الأنصاري. 3 - الكتاب إلى كسرى ملك فارس: وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى ملك فارس: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك. واختار لحمل هذا الكتاب عبد الله بن حذافة السهمي، فدفعه السهمي إلى عظيم البحرين، ولا ندري هل بعث عظيم البحرين رجلا من رجالاته، أم بعث عبد الله السهمي، وأيا ما كان فلما قرىء الكتاب على كسرى مزقه، وقال في غطرسة: عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي. ولما بلغ ذلك رسول الله قال: مزق الله ملكه، وقد كان كما قال. فقد كتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن: إبعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين، فليأتياني به فاختار باذان رجلين ممن عنده وبعثهما بكتاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمره أن ينصرف معه إلى كسرى. فلما قدما المدينة، وقابلا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أحدهما: إن شاهنشاه (ملك الملوك) كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك وبعثي إليك لتنطلق معي وقال قولا تهديديا فأمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلاقياه غدا.

وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لاقت جتوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقد قام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من الوحي. فلما غدا عليه أخبرهما بذلك. فقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر أفنكتب هذا عنك. ونخبره الملك. قال: نعم اخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر. وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيرويه لأبيه وقال له شيرويه في كتابه: انطر الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري. وكان ذلك سببا في إسلام باذان ومن معه من أهل فارس باليمن. 4 - الكتاب إلى قيصر ملك الروم: وروى البخاري ضمن حديث طويل نص الكتاب الذي كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملك الروم هرقل وهو هذا: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإنما عليك اثم الأريسيين (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). واختار لحمل الكتاب دحية بن خليفة الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر، وقد روى البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام، في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش. فأتوه وهم بإيلياء. فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفان فقلت أنا أقربهم نسبا، فقال، أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه. ثم قال: أول ما سألني عنه أنه قال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: هو فينا دو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل صعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه. قلت

:لا قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال: قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها-قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة - قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها. وسألتك هل قال أحد منكم قبله. فذكرت أن لا. قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجد يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك. فذكرت أن لا فقلت: لو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا، قال: فقلت لأصحابه حين أخرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملوك بني الأصفر. فما زلت موقنا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام. 5 - الكتاب إلى المنذر بن ساوى: وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المنذر بن ساوى حاكم البحرين كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام وبعث إليه العلاء بن الحضرمي بذلك الكتاب، فكتب المنذر إلى رسول الله (): أما بعد يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث إلي في ذلك أمرك. فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح لنفسه وإنه من يطيع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد

نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب، فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية). 6 - الكتاب إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة: وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، واجعل لك ما تحت يديك). واختار لحمل هذا الكتاب سليط بن عمرو العامري، فلما قدم سليط على هوذة بهذا الكتاب مختوما أنزله وحياه وقرأ عليه الكتاب فرد عليه ردا دون رد وكتب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم -: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك، وأجاز سليطا بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابه فقال: لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت، باد، وباد ما في يديه، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبىء يقتل بعدي، فقال قائل: يا رسول الله من يقتله؟ فقال: أنت وأصحابك، فكان ذلك: 7 - الكتاب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق: كتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن به وصدق وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك). واختار لحمل هذا الكتاب شجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة، ولما أبلغه الكتاب قال: من ينزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه، ولم يسلم. 8 - الكتاب إلى ملك عمان: وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابا إلى ملك عمان جيفر وأخيه عبدا بني الجلندي، ونصه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبدا بني الجلندي سلام على من اتبع الهدى، أما بعد. فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسلما، فإني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل، وخيل تحل بساحتكم وتظهر نبوتي على ملككما).

واختار لحمل هذا الكتاب عمرو بن العاص (¬1) رضي الله عنه. قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا - فقلت: إني رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم علي بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعو إلى الله وحده لا شريك له وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: يا عمرو إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة قلت: مات ولم يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ووددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام، قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبا. فسألني أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال: وكيف صنع قومه بملكه؟ فقلت: أقروه واتبعوه. قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب. قلت: ما كذبت وما نستحله في ديننا، ثم قال، ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي، قلت: بل. قال: فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجا، فلما أسلم وصدق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال: لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته فبلغ هرقل قوله فقال له النياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين بدين غيرك دينا محدثا؟ قال هرقل: رجل رغب في دين، فاختاره لنفسه، ما أصنع به؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع قال: أنظر ما تقول يا عمرو؟ قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معصيته ويأمر بالبر وصلة الرحم. وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وعن الخمر وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه. لو كان أخى يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ونصدق به، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ذنبا. قلت: إن أسلم ملكه رسول الله على قومه. فأخذ الصدقة من غنيهم فيردها على فقيرهم، قال: إن هذا لخلق حسن وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل. قال: يا عمرو وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟ فقلت: نعم. فقال: والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون لهذا، قال: فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يوما فدخلت عليه. فأخذ أعوانه بضبعي فقال دعوه، فأرسلت فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني أجلس. فنظرت إليه فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففض خاتمه وقرأ حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قرآنه، إلا أني رأيت أخاه أرق منه، قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه، إما راغب في الدين وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم من هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه ¬

(¬1) لا شك أن هذا الكتاب كان متأخرا، لأن عمرو رضي الله عنه أسلم قبيل الفتح.

الخرجة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتبعته تواطئك الخيل وتبيد خضراءك. فأسلم تسلم ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال قال: دعني يومي هذا، وارجع إلي غدا. فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا تبلغ خيله ها هنا، وإن بلغت خيله لقيت قتالا ليس كقتال من لاقى، قلت: أنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إلي فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبي - صلى الله عليه وسلم - وخليا بينه وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم وكان لي عونا على من خالفني. وسياق هذه القصة تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيرا عن كتب بقية الملوك والأغلب أنه كان بعد الفتح. وبهذه الكتب كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك الأرض فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر ولكن شغل فكرة هؤلاء الكافرين وعرف لديهم باسمه ودينه .. إن الرسائل المذكورة تفصح عن نفسها ولا تحتاج إلى تعليق .. فهذه الحركة العالية نقلت الإسلام من المحيط المحلي إلى المحيط العالمي. وهزت عروش ملوك، وأدخلت ملوكا في الإسلام، ووجهت بعض الملوك إلى الحرب، وما كان هذا الأمر ليتم قبل صلح الحديبية. حيث أصبحت الدولة الإسلامية هي الدولة الأقوى في جزيرة العرب بلا منازع. وإنهاء الحرب الطاحنة كان إيذانا بالتفرغ إلى الدعوة وتبليغها للناس كافة، والإشارة التي لا بد منها في هذا الصدد هي أن رأيا قد يرد بخطورة هذه الرسائل على الدولة الإسلامية الفتية، التي توجه الأنظار نحوها، وخصوصا إلى كسرى وقيصر. وقد جرى ذلك في تخوم الشام ولدى كسرى الفرس الذي مزق الرسالة واستدعى محمدا. حيا أو ميتا. وهل بإمكان المدينة أن تواجه دول الأرض؟ ولا بد من إيضاح هذه النقطة بأن تبليغ الدعوة في الوقت المناسب وحي رباني والله تعالى هو الذي يتكفل بحماية دينه. فحين كانت المدينة عاجزة عن مواجهة دولة الفرس الكبرى هيأ الله تعالى لحماية نبيه ودعوته انقلابا عاليا على كسرى. أدى هذا الانقلاب لمقتل الحاكم الطاغية وتراجع ابنه عن موقف أبيه من محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يقول نص الكتاب (انظر الرجل الذي كتب فيه أبي إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري). وكان من طرف آخر فتحا جديدا بإسلام باذان عامل الفرس على اليمن ودخول أهل اليمن في الإسلام. وقد اشترك في هذا الخطر على الدولة الإسلامية الحارث بن أبي شمر الغساني الذي هدد

بغزو المدينة، ومن أجل ذلك كانت الاستعدادات العسكرية مرافقة للتحرك السياسي فكانت سرية مؤتة والصدام مع الروم فلا بد من تحمل تبعات الرسالة وكان تحرك سرية مؤتة ثأرا للرسول الذي قتل على يدي شرحبيل بن عمرو الغساني. بينما اشترك في موقف المراوغة والمهادنة قيصر الروم ومقوقس مصر، والذي حال بينهما وبين الإسلام هو خوفهما على ملكهما وجزعهما من الرعية أن تثور عليهم، ولعل ما نقله أبو سفيان رضي الله عنه عن لقاء قيصر يعطي صورة واضحة وصادقة عن تصديق قيصر لرسول الله وكيف نخرت الرهبان بعد ذلك وهددوه لو أسلم بحربه. ودخل الإسلام نجاشي الحبشة وحاكم البحرين وملك عمان. وراوغ صاحب اليمامة وأراد أن يشترك في الغنيمة والرسالة فأهلكه الله تعالى بعد ذلك. ولعل من أهم آثار الكتب غزو أبي سفيان من داخله وقد ساقه قدر الله إلى بلاط قيصر ليسمع رأيه بمحمد صلوات الله وسلامه عليه وقرع أذنه قول قيصر: (فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه). والأشد من هذا على أبي سفيان قول قيصر (فإن كان ما تقوله حقا فسيملك موضع قدمي هاتين) وأبو سفيان يدري أنه قال الحق كل الحق رغم أنفه. وكان يحسب أن تهوينه من شأن محمد وأتباعه سوف يدفع قيصر للاستهانة بخصمه. لكنه يفاجأ بأن هذا التهوين زاد قناعة قيصر بنبوة محمد. وكان الغزو الداخلي لأبي سفيان حيث اعترف بذلك قائلا: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أن تخافه ملوك بني الأصفر. فما زلت موقنا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام). إن التحرك السياسي الذي تقوم به الحركة الإسلامية يجب أن يهدف أول ما يهدف إلى تبليغ دعوة الله إلى حكام الأرض وملوكهم. ولو كلفت هذه الدعوة الحركة الإسلامية عنتا وحرجا إن من الخيانة لدعوة الله وشريعته أن تبارك الحركة الإسلامية أنظمة الكفر أو توحي إليهم أن أنظمتهم هي الإسلام بعينه، وأن شريعة الله تبارك طغيانهم وظلمهم وحكمهم بغير ما أنزل الله. وهذه الرسائل التي بين أيدينا تعلمنا طريقة الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالسباب والتحدي. ولا بد أن نوضح الخط الفاصل بين قضيتين: القضية الأولى: أسلوب التعامل مع الحاكمين، وحسن اختيار الكلمة المناسبة، والضرب على الأوتار النفسية لهم، والاستفادة من الواقع العملي. القضية الثانية: خلط الحق بالباطل. ومداهنتهم على كفرهم، ومباركة طغيانهم وطمس

معالم الإسلام. والتزلف لهؤلاء الحكام بجعل الإسلام وشريعة الله أداة لتقرير ظلمهم، وعدم القدرة على التفريق بين هاتين النقطتين. يمزق الصف المسلم، ويفجره. فلقد رأينا هذه الرسائل تخاطب الملوك بألقابهم. ولكنها لا تقدمهم أبدا على رسول الله وهذه القضية البسيطة هي التي فجرت غيظ كسرى (عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي) فلم يكن حرجا أن نجد في نص الكتاب: عظيم فارس وعظيم القبط، والنجاشي، وعظيم الروم ونلاحظ كذلك في قضية الدعوة أن فكرة الوحدانية والرساله لا بد من أن تكون واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض حتى إذا أدى الأمر إلى التحديد حتى لا تطمس معانيها فلا بد من ذلك. حيث يكون الأمر جليا في رفض عبادة الأوثان لمن يعبد الأوثان. ورفض عبادة الصليب لمن يعبد الصليب. غير أن هذا الإيضاح الجلي للشهادتين. كان يرافقه كثيرا الحديث عن المبادىء الإسلامية الخلقية من الصدق والعفاف والصلة وغير هذه الأمور التي يلتقي عليها الناس. ونلاحظ كذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب على الأوتار النفسية التي يخشاها الحاكمون، فكانت رسله تطمئن هؤلاء الحاكمين على ملكهم، وأنه سيحفظ لهم إذا دخلوا في الإسلام، حتى أولئك الذين عادوا الإسلام وحاربوه، لم يكن الغيظ أو الحقد لغير هذه السياسة بل كان إكرامهم هو الأساس بعد دخولهم بالإسلام أو حتى بعد انقطاعهم عن حربه. لقد كانت هذه الرسائل منعطفا كبيرا وخطيرا في تاريخ الإسلام. وسمة عظيمة من سماته. حيث ربطت المسلمين بالعالم كله، بين تأييد أو بيعة أو مواجهة وكانت ثمرة عظيمة من ثمار الفتح المبين الذي حدثنا الله تعالى عنه والانتقال من الحرب الضروس على الأرض المحلية إلى تجاوب ملوك الأرض مع الإسلام هو نقلة واسعة بعيدة المدى هائلة الآفاق. وجاءت في وقتها المناسب بعد أن أعلنت قريش هدنتها لعشر سنين لتتيح لدولة الإسلام أن تأخذ أبعادها وجذورها في الأرض كالكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. ***

السمة الثامنة: تجمع القوى والثقة بالنصر

السمة الثامنة: تجمع القوى والثقة بالنصر وتتضح هذه السمة من خلال التوجيه النبوي لجمع هذه القوى: وقدم أهل السفينتين من عند النجاشي بعد أن فتحت خيبر فيهم جعفر بن أبي طالب وأبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري، في جماعة من الأشعريين يزيدون على سبعين وذكر ابن سعد عن الواقدي بسنده، إنهم لما سمعوا خبر هجرة رسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ورجع معهم ثلاثة وثلاثون رجلا وثماني نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة نفر، وشهد بدرا منهم أربعة وعشرون رجلا. فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية الضميري، فأسلم، وكتب إليه أيضا أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان - وكانت فيمن هاجر إلى الحبشة - فزوجه إياها. وكتب إليه أيضا أن يبعث بمن بقي عنده من أصحابه ويحملهم. فحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية فأرسوا بساحل بولا وهو الجار، ثم ساروا حتى قدموا المدينة، فوجدوا رسول الله بخيبر فأتوه فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ثم ضمه وقبل ما بين عينيه، وهم المسلمون أن يدخلوا جعفرا ومن قدم معه في سهماتهم ففعلوا، وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة والطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابهم، ونفر من الأشعريين، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة فقالوا: نعم يا رسول الله) (¬1). لقد مرت الهجرة إلى الحبشة بمراحل ثلاث: الهجرة الأولى: وكانت في السنة الخامسة. وعدد المهاجرين قليل. وعادوا في السنة السابعة عندما تناهى إلى أسماعهم خبر إسلام أهل مكة، وكان خبرا غير صحيح. الهجرة الثانية: وبلغ عدد المسلمين فيها ثمانين ما بين رجل وامرأة. وهو تجمع في عدده قريب من تجمع المسلمين في مكة، وكما ذكر ابن سعد إنه قرابة ثلث هذا التجمع قد غادر الحبشة عقب الهجرة، وحضر منهم بضعة وعشرون غزوة بدر. العودة الأخيرة: وكانت بدعوة رسمية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق النجاشي. ولا شك أن جعفرا رضي الله عنه لا يغيب عن ذهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومدى الحاجة الماسة إليه في المعارك الضارية مع قريش. ومع ذلك لم يستدعه النبي وصحبه مع حرصه عليه الصلاة والسلام أن يكون أقرباؤه هم وقود المعارك، والذادة عن حمى الإسلام. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1: 325 و326.

ولقد كان لمصرع حمزة رضي الله عنه في أحد أعظم الأثر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال عنه: لن أصاب بمثلك أبدا، وقال: ما وقفت موقفا قط أغيظ لي من هذا. وبقي من أقاربه الأدنين علي رضي الله عنه، وعندما برز لعمرو بن عبدود في الخندق يروى أنه قال عليه الصلاة والسلام: رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين، ويؤكد حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن يكون أهله معه في المعركة. ما رأيناه في مؤتة إذ أنه في أقل من أشهر كان جعفر على رأس المجاهدين في مؤتة وأحد الأمراء الثلاثة. وحاجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المجاهدين من صحبه وأهله المهاجرين كانت حاجة ماسة ومع ذلك لم يستدعهم وتفسير ذلك والله أعلم - يعود إلى حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبقاء مراكز احتياطية للدعوة يمكن الانتقال إليها لو فقدت المدينة، وكان احتمال تعرض المدينة لهجوم مباغت كاسح قائما في كل لحظة. ومن أجل هذا بقي الأشعريون في اليمن، والدوسيون في دوس ومهاجروا الحبشة في الحبشة، والغفاريون في غفار بقي هؤلاء جميعا قوى احتياطية لمتابعة المعركة فيما لو فقد موقع من هذه المواقع. ولا شك أن الحبشة هي موقع غير استراتيجي للمواجهة وبين الأبعدين الغرباء لكنها بصفتها مركزا آمنا وملجأ للدعوة هي من خير المواقع لذلك. خاصة وأن النجاشي ملكها قد أسلم سرا وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أما بعد صلح الحديبية، فقد اختلف الأمر، وزال الخطر عن المدينة، وأمن الناس، وأتاحت الهدنة للمحيط العربي والعالمي أن يفقه الإسلام في هذه المرحلة استدعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رصيده الاحتياطي. إذ لم يعد بحاجة إليه في اليمن أو الحبشة. بل صار بحاجة ماسة إليه ليشارك في الجبهات الجديدة المفتوحة خارج جزيرة العرب، ومع غير العرب من الروم والفرس. وهذا درس مهم يحسن أن تقف أمامه الحركة الإسلامية طويلا، وهي تخوض حروبها مع الطغاة أن لا تكون قوتها جميعا في موقع واحد .. فإذا ضرب هذا الموقع انتهت - لا سمح الله - بل لا بد لها أن تبحث عن أكثر من مكان آمن، وأكثر من قاعدة احتياطية. فإذا تغيرت الظروف الصعبة وكشفت المحنة وصارت المواقع كلها آمنة ومراكز للدعوة تستطيع عندئذ أن تنهي بعض المراكز. أو تستقطب القوى حول المركز الرئيسي الذي يرفد كل المراكز الثانوية والتمكن في الأرض هو الذي يتيح المجال لمثل هذه الخطوة. يقول الشهيد سيد رحمه الله: ومن ثم كان بحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة، وتكفل لها الحرية، ويتاح لها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في

مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة ... وهذا في تقديري كان هو السبب الأهم والأول للهجرة. ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب، لتكون قاعدة الدولة الجديدة عدة اتجاهات سبقها الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند الى قرائن قوية. فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا إنما هاجر رجال ذوو عصبيات لهم من عصبيتهم في بيئة قبلية، ما يعصمهم من الأذى، ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين منهم جعفر بن أبي طالب وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي - صلى الله عليه وسلم - -ومنهم الزبير بن العوام- وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة المخزومي وعثمان بن عفان الأموي .. وغيرهم، وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا، وربما كان من وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة من قريش وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم، مرارا من الجاهلية تاركين وراءهم كل وشائج القربى، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم الجاهلية وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها. ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة، وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة. ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه كما ورد في روايات صحيحة) (¬1). ويؤيد ما ذهب إليه سيد رحمه الله إنه مجرد ظهور القاعدة الأمنة والعاصمة الجديدة غادر حوالي ثلث المهاجرين إلى المدينة وبقيت الأكثرية منهم هناك حفاظا على هذه القاعدة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إلى أن زال الخطر، وأمن الناس، وقويت شوكة المسلمين بحيث أصبحت مستعصية على الإبادة كما يقول عليه الصلاة والسلام: الآن نغزوهم ولا يغزونا أمكن عندها استدعاء الجالية الإسلامية في الحبشة لتمارس دورها الفعال في الجهاد في العارك القادمة. وحري بنا أن نقتفي أثر هذا الهدي النبوي، ونتعلم ونحن نواجه هذا المجتمع. أن نرعى هذا الجانب، ولا نضع البيض في سلة واحدة كما يقول المثل فينتهي الوجود الحركي والعياذ بالله. ¬

(¬1) في ظلال القرآن ج 1 ص 24و25 ط الخامسة.

السمة التاسعة: إنهاء الوجود اليهودي في جزيرة العرب: غزوة خيبر

السمة التاسعة: إنهاء الوجود اليهودي في جزيرة العرب: غزوة خيبر كان مما وعد الله تعالى به المؤمنين في سورة الفتح، قوله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم وأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما} (¬1). وسنأخذ تلخيص المباركفوري عن الغزوة فهو من أشمل ما كتب عنها وأوفاه: (كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد ستين أو ثمانين ميلا من المدينة في جهة الشمال، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة. سبب الغزوة: ولما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقوى أجنحة الأحزاب الثلاثة وأمن منه أمنا باتا بعد الهدنة أراد أن يحاسب الجناحين الباقين - اليهود وقبائل نجد - حتى يتم الأمن والسلام، ويسوذ الهدوء في المنطقة، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه. ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتآمر، ومركز الاستفزازات العسكرية ومعدن التحرشات وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولا. أما كون خيبر بهذه الصفة، فلا ننسى أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافنين - الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي - وبغطفان وأعراب البادية - الجناح الثالث من الأحزاب - وكانوا هم أنفسهم يهيؤون للقتال فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متواصلة حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متوالية وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحقيق، وأسير بن رزام، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك وإنما أبطأوا بالقيام بهذا الواجب لأن قوة أكبر وأقوى وألد وأعند منهم - وهي قريش - كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم يوم الحساب. الخروج إلى خيبر: قال ابن إسحاق: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم: ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر .. فلما أراد رسول الله الخروج إلى خيبر. أعلن أنه لا يخرج معه إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب ¬

(¬1) سورة الفتح الآيتان 19و20.

الشجرة وهم ألف وأربعمائة ... وقد قام المنافقون يعملون لليهود فقد أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي إلى يهود خيبر، إن محمدا قصد قصدكم وتوجه إليكم فخذوا حذركم. ولا تخافوا منه، فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، عزل لا سلاح معهم إلا قليل، فلما علم ذلك أهل خيبر، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر، ومظاهرين لهم على المسلمين وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا على المسلمين. الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر: بات المسملون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبا من خيبر، وإلا تشعر بهم اليهود، وكان النبي. - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى قوما بليل لم يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلى الفجر بغلس، وركب المسلمون فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم ولا يشعرون بل خرجوا لأرضهم فلما رأوا الجيش قالوا: محمد، والله محمد والخميس ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، الله أكبر خربت خيبر -الله أكبر خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين (¬1) .. التهيؤ للقتال وحصون خيبر: ولما كانت ليلة الدخول قال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فلما أصبح غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلهم يرجو أن يعطاها فقال: أين علي بن أبي طالب. فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه قال: فأرسلوا إليه، فبصق رسول الله في عينيه ودعا له فبرىء، كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم (¬2). وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين: شطر فيها خمسة حصون: 1 - حصن ناعم، 2 - حصن الصعب بن معاذ، 3 - حصن قلعة الزبير، 4 - حصن أبي، 5 - حصن النزار. والحصون الثلاثة الأولى تقع في منطقة يقال لها النطاة، وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمى الشق. أما الشطر الثاني ويعرف بالكتيبة ففيه ثلاثة حصون فقط 1 - حصن القموص (وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير) 2 - حصن الوطيح 3 - حصن السلالم. وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال. ¬

(¬1) صحيح البخاري 2/ 603، 604 باب غزوة خيبر. (¬2) صحيح البخاري، الباب نفسه ص505 و 506.

بدء المعركة وفتح حصن ناعم: وأول حصن هاجمه المسلمون من هذه الحصون الثمانية هو حصن ناعم، وكان خط الدفاع الأول لليهود لمكانه الاسراتيجي وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد بالألف. خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسلمين إلى هذا الحصن، ودعا اليهود إلى الإسلام فرفضوا هذه الدعوة وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مرحب فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة، قال سلمة بن الأكوع، فلما آتينا خيبر خرج ملكهم يخطر بسيفه يقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز له عمي عامر فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر وذهب عامر يسفل له وكان سيفه قصيرا فتناول به ساق اليهودي ليضربه فيرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه، وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه لأجرين وجمع بين إصبعيه .. (¬1) ويبدو أن مرحب دعا بعد ذلك إلى المبراز مرة أخرى وجعل يرتجز بقوله: قد علمت خيبر أني مرحب- فبرز له علي بن أبي طالب قال سلمة بن الأكوع: فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدرة ... كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه (¬2). ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن وقال: من أنت، قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى. ثم خرج ياسر أخو مرحب وهو يقول: من يبارز؟ فبرز إليه الزبير، فقالت صفية أمه: يا رسول الله، يقتل ابني؟ قال: بل ابنك يقتله، فقتله الزبير. ¬

(¬1) صحيح مسلم باب غزوة خيبر 122/ 2. (¬2) صحيح البخاري الباب نفسه 3/ 603.

ودار القتال المرير حول حصن ناعم، قتل فيه عدد من سراة اليهود انهارت لأجله مقاومة اليهود وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دام أياما لاقى المسلمون فيه مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصعب، واقتحم المسلمون حصن ناعم. فتح حصن الصعب بن معاذ: وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري. ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفتح هذا الحصن دعوة خاصة، وروى ابن إسحاق: أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء فقال: اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه. فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء، وأكثرها طعاما وودكا. فغدا الناس ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه) (¬1). ولما ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجة، ودار البراز والقتال أمام الحصن، ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات. ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران فلما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك نهى عن لحوم الحمر الأنسية. فتح قلعة الزبير: وبعد فتح حصن ناعم والصعب، تحول اليهود من كل حصون النطاة إلى قلعة الزبير وهو حصن منيع في رأس تلة، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه. ففرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحصار، وأقام محاصرا ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم إنك لو أقمت شهرا ما بالوا إن لهم شرابا وعيونا تحت الأرض تخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك (¬2) فقطع ماءهم عليهم فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) ابن هشام 3 ص 346. (¬2) أصحروا: خرجوا إلى الصحراء.

فتح قلعة أبي: وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيها، وفرض المسلمون عليهم الحصار وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر يطلب المبارزة، وقد قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء. وقد أسرع أبو دجانه بعد قتله إلى اقتحام القلعة واقتحم معه الجيش الإسلامي وجرى قتال مرير ساعة دخول الحصن. ثم تسلل اليهود من القلعة وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن من الشطر الأول. فتح حصن النزار: كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر، وكان اليهود على ثقة بأن المسلمين لا يسطيعون اقتحام هذه القلعة وإن بذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع السابقة، وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلا للاقتحام فيه، أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، للاشتباك مع قوات المسلمين لكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصب آلات المنجنيق ويبدو أن المسلمين قذفوا بها القذائف فأوقعوا الخلل في جدران الحصن واقتحموه ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخرى. بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم. وبعد فتح هذا الحصن المنيع، تم فتح الشطر الأول من خيبر، وهي ناحية النطاة والشق وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخرى إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذا الحصن وهربوا إلى الشطر الثاني من بلدة خيبر. فتح الشطر الثاني من خيبر: ولما فتح ناحية النطاة والشق تحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الكتيبة والوطيح والسلالم حصن أبي الحقيق من بني النضير، وجاءهم كل فل كان انهزم من النطاة والشق وتحصن هؤلاء أشد التحصن. واختلف أهل المغازي هل جرى هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا؟ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص. بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجرى هناك مفاوضات للاستسلام أما الواقدي فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاثة إنما أخذت بعد المفاوضة ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال. وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال، ومهما كان فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الناحية -الكتيبة-فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يوما واليهود لا يخرجون من حصونهم

حتى هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينصب عليهم المنجنيق فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح. المفاوضة: وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انزل أكلمك؟ قال: نعم فنزل، وصالح على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلون بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ما كان لهم من مال وأرض وعلى الصفراء والبيضاء - أي الذهب والفضة- والكراع والحلقة إلا ثوبا على ظهر إنسان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا فصالحوه على ذلك وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين وبذلك تم فتح خيبر. قتل ابن أبي الحقيق لنقض العهد: وعلى رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالا كثيرا غيبا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير. قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكنانة بن الربيع. وكان عنده كنز بني النضير فسأله عنه. فجحد أن يكون يعرف مكانه. فأتى رجل من اليهود فقال: إني رأيته يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم فأمر بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي منه فأبى أن يؤديه، فدفعه الى الزبير، وقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى محمد بن سلمة فضرب عنقه بمحمود بن سلمة (¬1). قسمة الغنائم: وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلي اليهود عن خيبر فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون يقومون عليها فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم، وكان عبد الله بن رواحة يخرصها (¬2) عليهم، وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهما وجمع كل سهم مائة سهم فكان ثلاثة آلاف وستمائة سهم فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم كسهم أحد المسلمين وعزل النصف الآخر وهو ألف وثمانمائة سهم، سهم لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة وكان معهم مائتا فرس. لكل فرس سهمان فقسمت على ألف وثمانمائة سهم فصار ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 3 ص 351. (¬2) يخرصها: يقدرها.

للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم واحد. قتلى الفريقين في معارك خيبر: وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلا، أربعة من قريش وواحد من أشجع، وواحد من أسلم، وواحد من أهل خيبر، والباقون من الأنصار أما قتلى اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلا. فدك: ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر، بعث محيصة بن مسعود إلى يهود فدك ليدعوهم إلى الإسلام فأبطأوا عليه فلما فتح الله خيبر قذف الرعب في قلوبهم. فبعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصالحونه على النصف من فدك بمثل ما صالح عليه أهل خيبر فقبل ذلك منهم. فكانت فدك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة لأنه لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب. وادي القرى: ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر انصرف إلى وادي القرى وكان بها جماعة من يهود وانضاف إليهم جماعة من العرب. فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي وهم على تعبئة. فقتل مدعم عبد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال الناس هنيئا له الجنة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لتشتعل عليه نارا .. ثم عبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه للقتال، وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا وبرز رجل منهم فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فقتله، ثم برز آخر فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلا، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام. وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم فيصلي بأصحابه، ثم يعود فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم، وفتحها عنوة، وغنمه الله أموالهم وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا. وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي القرى أربعة أيام. وقسم على أصحابه ما أصاب بها وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها (¬1) كما عامل أهل خيبر. تيماء: ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فدك ووادي القرى لم يبد أي مقاومة ضد المسلمين بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح فقبل ذلك منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) زاد المعاد 2/ 146، 147.

وأقاموا بأموالهم (¬1). وكتب لهم بذلك كتابا وهاك نصه: هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا إن لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء الليل مد، والنهار رشد، وكتب خالد بن سعيد. العود إلى المدينة: ثم أخذ رسول الله في العودة إلى المدينة وفي مرجعه ذلك سار ليلة، ثم نام في آخر الليل ببعض الطريق وقال لبلال: اكلأ لنا الليل فغلبت بلالا عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ أحد - صلى الله عليه وسلم - حتى ضربتهم الشمس، وأول من استيقظ بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم خرج من ذلك الوادي، وتقدم صلى الفجر بالناس، وقيل: إن هذه القصة في غير هذا السفر (¬2). وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر يبدو أن رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في أواخر صفر أو في ربيع الأول سنة 7 هـ) (¬3). أمر الأسود الراعي في حديث خيبر: قال ابن إسحاق: وكان من حديث الأسود الراعي فيما بلغني: أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محاصر لبعض حصون خيبر، ومعه غنم له، كان فيها أجيرا لرجل من يهود فقال: يا رسول الله: اعرض علي الإسلام، فعرضه عليه، فأسلم- وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه، فلما أسلم قال: يا رسول الله، إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم، وهي أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ قال: اضرب في وجوهها فإنها ستريع إلى ربها - أو كما قال- فقام الأسود فأخذ حفتة من الحصى، فرمى بها في وجوهها، وقال: ارجعي إلى صاحبك فوالله لا أصحبك أبدا، فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها، حتى دخلت الحصن ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلى لله صلاة قط فأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضع خلفه، وسجي بشملة كانت عليه، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعه نفر من أصحابه، ثم أعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله، لم أعرضت عنه؟ قال: إن معه الآن زوجتيه من الحور العين. قال ابن إسحاق: وأخبرني عبد الله بن أبي نجيح أنه ذكر له: أن الشهيد إذا ما أصيب تدلت له زوجتاه من الحور العين عليه تتفضان التراب عن وجهه، وتقولان: ترب الله وجه من تربك، وقتل من ¬

(¬1) نفس المصدر 2/ 147. (¬2) ابن هشام 2/ 340 زاد المعاد 2/ 147. (¬3) الرحيق المختوم بتصرف من ص 412 - 425.

قتلك. أمر الحجاج بن علاط السلمي: قال ابن إسحاق: ولما فتحت خيبر كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحجاج بن علاط السلمي ثم البهتري، فقال: يا رسول الله، إن لي بمكة مالا عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة- وكانت عنده له منها معرض بن الحجاج - مال متفرق في تجار أهل مكة، فأذن لي يا رسول الله، فأذن له قال. إنه لا بد لي يا رسول الله من أن أقول قال: قل الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء (¬1) رجالا من قريش يتسمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر، وقد عرفوا أبا قرية الحجاز، ريفا ومنعة ورجالا فهم يتحسسون الأخبار ويسألون الركبان فلما رأوني قالوا: الحجاج بن علاط، قال: ولم يكونوا علموا بإسلامي، عنده والله الخبر - أخبرنا يا أبا محمد، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهي بلد يهود، وريف الحجاز، قلت: قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم، قال: فالتبطوا (¬2) بجنب ناقني يقولون: إيه يا حجاج، قال: قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلا وأسر محمد أسرا. وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فيقتلوه بين أظهرهم ممن كان أصاب من رجالهم، قال: فقاموا وصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال: قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي فإني أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فل (¬3) محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى هناك. قال: فقاموا فجمعوا مالي كله كأحث (¬4) جمع سمعت به قال: وجئت صاحبتي فقلت: مالي. وقد كان لي عندها مال موضوع لعلي ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار؟ قال: فلما سمع العباس بن عبد المطلب، وجاءه عني، أقبل حتى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيام التجار فقال: يا حجاج ما هذا الخبر الذي جئت به؟ قال، فقلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم. قلت: فاستأخر عني حتى ألقاك على خلاء. فإني في جمع مالي كما ترى، فانصرف عني حتى أفرغ. حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة، وأجمعت الخروج لقيت العباس، فقلت: احفظ علي حديثي يا أبا الفضل فإني ¬

(¬1) ثنية البيضاء: هي ثنية التنعيم في مكة. (¬2) التبطوا بجنبي ناقتي: مشوا إلى جنبها ملازمين لها. (¬3) فل محمد: القوم المنهزمون معه. (¬4) كأحث: كأسرع.

أخشى الطلب ثلاثا ثم قل ما شئت قال: افعل قلت: فإني والله تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم - يعني صفية بنت حيي - ولقد افتتح خيبر، وانتثل (¬1) ما فيها وصارت له ولأصحابه، فقال: ما تقول يا حجاج؟ قلت: إي والله فاكتم عني ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي، فرقا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فاظهر أمرك فهو والله على ما تحب، قال: حتى إذا كان اليوم الثاني لبس العباس حلة له وتخلق (¬2) وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة، قال: كلا والله الذي حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها، فأصبحت له ولأصحابه، قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذي جاءكم بما جاءكم به ولقد دخل عليكم مسلما فأخذ ماله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه، قالوا: يا لعباد الله انفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، قال، ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك (¬3). خرص ابن رواحة ثم جبار على أهل خيبر: قال ابن إسحاق: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حدثني عبد الله بن أبي بكر يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصا بين المسلمين ويهود فيخرص عليهم فإذا قالوا: تعديت علينا قال: إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلنا، فتقول يهود بهذا قامت السموات والأرض. وإنما خرص عليهم عبد الله بن رواحة عاما واحدا، ثم أصيب بمؤته يرحمه الله فكان جبار بن صخر أخو بني سلمة هو الذي يخرص عليهم بعد عبد الله بن رواحة فأقات يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسا في معاملتهم حتى عدوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن سهل أخي بن حارثة فاتهمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون عليه. إجلاء اليهود عن خيبر أيام عمر: قال ابن إسحاق: وسألت ابن شهاب الزهري كيف كان إعطاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود خيبر نخلهم، حين أعطاهم النخل على خرجها، أبت ذلك لهم حتى قبض، أم أعطاهم إياها لضرورة من غير ذلك، فأخبرني ابن شهاب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افتتح خيبر عنوة بعد القتال وكانت خيبر مما أفاء الله عز وجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقسمها بين المسلمين، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال، فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها وتكون ثمارها بيننا وبينكم؛ وأقركم ما أقركم الله، فقبلوا فكانوا على ذلك يعملونها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة فيقسم ثمرها، ويعدل عليهم في الخرص، فلما توفى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقرها أبو بكر ¬

(¬1) انتشل: استخرج. (¬2) تخلق: تطيب بالخلوق وهو نوع من الطيب. (¬3) السيرة لابن هشام ج 3 ص 309 - 361.

رضي الله تعالى عنه، بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأيديهم على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله حتى توفي، ثم أقرها عمر رضي الله عنه صدرا من إمارته ثم بلغ عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في وجعه الذي قبضه الله فيه: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود، فقال: إن الله عز وجل قد أذن في جلائكم، قد بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، فمن كان عنده عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليهود فليأتني به، أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليهود فليتجهز للجلاء فأجلى عمر من لم يكن عنده عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم (¬1). من شهد خيبر من النساء: وشهد خيبر عشرون امرأة منهن أم المؤمنين أم سلمة، وصفية بنت عبد المطلب، وأم أيمن وسلمى أمراة أبي رافع مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وامرأة عاصم بن عدي وأم عمارة وأم منيع وكعيبة بنت سعد، وأم مطاع الأسلمية، وأم سليم بنت ملحان، وأم الضحاك بنت مسعود، وهند بنت عمرو بن حرام، وأم عامر الأشهلية، وأم عطية الأنصارية، وأم سليط. وأمية بنت قيس الغفارية (¬2). لم يمض على موعود الله لجند الحديبية أكثر من شهرين بالفتح القريب والمغانم الكثيرة حتى كانت حصون خيبر بما تحوي من خيرات بين يدي المسلمين، وشاء قدر الله أن لا يشارك مع أهل الحديبية أحد معهم في خيبر، اللهم إلا بعض النساء، والوفود القادمة من اليمن والحبشة. ولقد بلغ من جهد المسلمين وجوعهم وفاقتهم في هذه المعركة أن ذبحوا الحمر الأهلية، ونصبوا القدور على النيران، وجاء منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن رسول الله ينهاكم عن أكل لحوم الحمر الأهلية. (قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن عمرو بن ضمرة عن عبد الله بن أبي سليط عن أبيه قال: أتانا نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الحمر الأنسية. والقدور تفور بها فكفأناها على وجوهها) (¬3). وإنها لتجربة قاسية ولا شك، وفريدة كذلك أن المسلمين قد عض الجوع بنابهم وليس لديهم ما يأكلون حتى التمر لا يجدونه، وهم مكلفون بخوض حرب طاحنة مع اليهود وليسوا مسترخين نائمين في المعسكر، وذبحوا الحمر وطهوها، وسال لعابهم عليهم، والقدور تفور باللحم الطازج ثم يأتي الأمر النبوي بالنهي عن أكل لحموم الحمر، فما يترددون لحظة واحدة، أو ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 371. (¬2) إمتاع الأسماع ج 1 ص 326، 327. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام ص 345.

يشكلون استعصاء مسلحا، أو يشكلون فرارا من الجيش والمعركة أو يتموا هذه الوجبة وينتهوا بعد ذلك، أو ينهشوا بنهشة واحدة تقيم أودهم لم يفعلوا ذلك كله، إنما كفؤوا القدور باللحم، واسجابوا لأمر الله ورسوله. وهو درس حي ولا شك في الالتزام والانضباط بالأوامر بالعسر واليسر والمنشط والمكره. وأن يكون الجندي المسلم خارجا من سلطان بطنه، وهو على أشد ما يكون من الجوع، وهو مكلف بخوض معركة، هو مستوى رفيع جدا، حين نرقى إليه نرقى معه إلى مستوى نصر الله. وكان بالإمكان أن ينهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الحمر الأهلية قبل ذبحها، أو بعد ذبحها، وقبل العناء بطهيها وجمع الحطب ونفخ النار تحتها، لكن حتى تكون التجربة في أعمق أبعادها شاءت إرادة الله تعالى أن يكون النهي والقدور تغلي بلحوم الحمر، حتى يكشف الالتزام في أصعب أحواله، والذي يلتزم في هذا الظرف قادر على الالتزام بما هو أدنى منه. وشيء آخر لا يقل صعوبة ومرارة عنه. هذا الشيء هو حفظ الفرج عن الحرام. فلقد مضى المسلمون لخيبر، والمتعة حلال لهم، ولم يشهد المسلمون بعدا عن نسائهم كما شهدوه في خيبر. لقد استمرت المعركة شهرين قاسيين. فكان لا بد من تلبية داعي الجنس الحلال من خلال الاستمتاع المؤقت بالنساء. وكان النهي عن نكاح المتعة كذلك في هذه المناسبة. ولم يكن النهي وهم بجوار نسائهم في المدينة، ولم يكن النهي مجرد وصولهم إلى خيبر لقد كان النهي في أصعب مظانه، في قلب المعركة، وبعد الغياب الطويل عن الزوجات. وحيث الإمكانات المتاحة للمتعة. ولم يكن النهي منصبا فقط عن نكاح المتعة في علاج حفظ الفرج والانضباط فيه. بل كان من أمور عدة يحدثنا عنها رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وقد قام خطيبا في المسلمين بعد أن افتتح قرية من قرى المغرب فقال: (يا أيها الناس إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله فينا يوم خيبر قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره - يعني إتيان الحبالى من السبايا - ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها. ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه) (¬1). إنها أمور تمس ثلاث شهوات هي من أعمق ما تحمله النفس البشرية من شهوات. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ص 345 ج 3 ص 346.

شهوة الجوع التي يتشدق الماديون فيها، حتى ليبيحوا من أجلها الأعراض والسرقة. وشهوة الجنس التي يعتبرها الماديون جزءا من تركيب الإنسان وحاجة عضوية فيه وشهوة التملك التي يستعبد الناس ويسبذلون من أجلها. ويأتي الأمر النبوي، وهذه الشهوات على أشد ما تكون يقظة وحاجة وشدة بالامتناع عنها، فستجيب الصف المسلم كله، دون أن تسجل مخالفة إلا مخالفة واحدة سنعرض لها فيما بعد. ولئن حملت الحديبية إنسانا واحدا تباطأ عن البيعة على الموت. فلقد شهدت خيبر من أهل الحديبية مخالفة لا تكاد تذكر في هذه الأمور. وذلك من خلال ربط هذه الأمور فقط بالإيمان بالله واليوم الآخر. وأمام هذا الصبر على الجوع، والصبر على الجنس في سبيل الله، والصبر على الغنائم حتى توزع وبعد هذه التجربة القاسية الفريدة. كان عطاء الله تعالى وفيض رحمته أكبر من كل التوقعات وشهدنا دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأسلميين الذين جاؤوا يشكون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوعهم وفاقتهم وكان الدعاء الخالد: اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء، وأكثرها طعاما وودكا، فغدا الناس، ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه. ويحدثنا المقريزي عن بعض هذه الغنائم فيقول: (واقتحم المسلمون الحصن يقتلون ويأسرون فوجدوا فيه من الشعير والتمر والسمن والعسل والزيت والودك كثيرا. فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلوا واعلفوا ولا تحتملوا (يعني لا تخرجوا به إلى بلادكم) فأخذوا من ذلك الحصن طعامهم وعلف دوابهم ولم يمنع أحد من شيء ولم يخمس ووجدوا بزا في عشرن عكيما (¬1) محزومة من متاع اليمن، ووجدوا خوابي سكر، فأمر بالسكر (¬2) فكسر في خوابيه (¬3)، ووجدوا آنية عن نحاس وفخار كانت يهود تأكل فيها وتشرب فقال عليه السلام: اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا وأخرجوا منها غنما وبقرا وحمرا، وآلة الحرب، ومنجنيفا ودبابات، وعدة، وخمسمائة قطيفة ...) (¬4). وهذا هو الصف الذي كتب الله تعالى له النصر في خيبر بالتزامه وانضباطه في القليل والكبير، ونحن بحاجة لهذا الصف الذي يلتزم بالأوامر من منطلق الإيمان قبل التزامه من منظلق ¬

(¬1) العكم: ثوب يبسط ويوضع فيه المتاع. (¬2) السكر (ما يسكر به من الخمر). (¬3) الخابية: الوعاء الكبير. (¬4) إمتاع الأسماع ج 1 ص 318، 319.

الخوف والسلطة. 2 - أما الحديث عن المخالفات فهو عجيب حقا. نستمع إلى النماذج التي حدثت في هذه الغزوة: (وشرب الخمر رجل من المسلمين يقال له: عبد الله الحمار. فخفقه رسول الله بنعليه، وأمر من حضروه فخفقوه بنعالهم، ولعنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: فإنه يحب الله ورسوله، ثم راح عبد الله كأنه أحدهم فجلس معهم) (¬1). (ونادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أدوا الخياط (¬2) والمخيط (¬3) فإن الغلول عار وشنار ونار يوم القيامة. فعصب فروة رأسه بعصابة ليستظل بها من الشمس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصابة من نار عصبت بها رأسك فطرحها .. وتوفي رجل من أشجع فلم يصل عليه وقال: إن صاحبكم غل (¬4) في سبيل الله، فوجد في متاعه خرز لا يساوي درهمين (¬5)). نذكر هذه الهنات ونذكر معها مثلا آخر مما وقع بين يدي المسلمين وكانوا قادرين على الغلول فيه: (قال ابن وهب: قلت لمالك: وما الكتيبة؟ قال: من أرض خيبر وهي أربعون ألف عذق فوجد خمسمائة قوس عربية، ومائة درع، وأربعمائة سيف، وألف رمح) (¬6). وفي مكان آخر: وصالح كنانة بن أبي الحقيق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل الكتيبة فأمن الرجال والذرية، ودفعوا إليه الأموال والذهب والفضة والحلقة والثياب إلا ثوبا على إنسان بعد ما حصرهم أربعة عشر يوما (¬7). في هذه الغنائم الكثيرة المثقلة من المال والمتاع والسلاح والطعام، وجد من أخذ خرزا لا يساوي درهمين، ومن عصب رأسه بعصابة. وكان الجزاء الصارم أن قيل لصاحب العصابة عصابة من نار تعصب بها رأسك (¬8). ولم يصل على الثاني لهذا الغلول. ¬

(¬1) المصدر نفسه ج 1 ص 319. (¬2) الخياط: الخيط. (¬3) المخيط: الإبرة يخاط بها. (¬4) غل من الغنم: خان وسرق. (¬5) المصدر ج 1 ص 323. (¬6) إمتاع الاسماع ج 1 ص 319، 320. (¬7) المصدر نفسه 319. (¬8) يحسن أن نذكر أن صاحب العصابة هو المسؤول عن حفظ الغنائم وتوزيعها، ولشدة عمله وصعوبته استظل بالعصابة من حر الشمس.

أمر لا يعرفه تاريخ الأمم والحروب في الدنيا إلا لدى الصف المسلم. ومخالفة ثالثة أن يوجد بين الألف والأربعمائة إنسان، رجل لم يملك نفسه أمام خوابي الخمر وهي تكسر؛ فشرب الخمر في لحظة ضعف، وكانت العقوبة الصارمة أن خفقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنعليه، وخفقه المسلمون بنعالهم، فتلقى العقوبة بصدر رحب، ولم يمض ليبيت ليلا اغتيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه لهذه الإهانة بل أنهى العقوبة وراح يمزح ويضحك مع المسلمين، بل رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنه، وقال عنه، وهو يتلقى عقوبة المعصية: إنه يحب الله ورسوله. فليست مهمة العقوبة أن تسلخ الجندي من الصف، وتحوله إلى حاقد موتور. بل مهمتها تطهيره من الذنب ليغدو أهلا للجندية في هذا الصف المسلم، واللعن يرفض، لأنه عقوبة فوق العقوبة. بل الثناء عليه ليبقى بقلبه الحي المؤمن لاصقا بالصف ملتحما فيه. وما أحرج صفنا وجنودنا إلى هذه المستويات حيث يتقبل الأخ المسلم العقوبة بصدر رحب. وحيث يفقه إخوانه فلسفة العقوبة لا لطرده وتحطيم نفسيته، بل لتطهيره وضمه جنديا في الصف بريئا من الذنب. هذا هو الصف المسلم الذي انتصر بخيبر على اليهود. ويكفي هذا الوصف. لنتعرف على الصف العربي الذي لا يزال يحارب اليهود ثلث قرن ويتلقى الهزائم المكررة: نذكر ذلك الصف في خيبر. حيث يخفق شارب الخمر بالنعال. والصف العربي الذي قال عنه مدير مخابرات العدو، سوف أهزم العرب بما يحرمه عليهم دين محمد، بالخمر والنساء. وفعلا هزم الصف بالمعصية، إذ كان الطيارون ليلة الخامس من حزيران في عربدة مع الخمر والنساء وعلى رأسهم العقداء والألوية والفريق الأول قائد سلاح الطيران وذلك حتى الفجر. وبهذه المقارنات ندرك من ذلك الجيش، ومن هذا الجيش، وفيه الغنى عن أي تعليق. 3 - وبقيت مخالفة أرجأتها للمقارنة مع صورة مقابلة. نلحظ من تلك المقارنة كيف يكون الحكم على الأشخاص لأن صف الحركة الإسلامية يستهجن وجود نوعيات انتهازية فيه: (قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد بن سالم عن أبي هريرة قال: فلما انصرفنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خيبر إلى وادي القرى ونزلنا بها أصيلا مع مغرب الشمس، ومع رسول الله الله - صلى الله عليه وسلم - غلام له، أهداه له رفاعة بن زيد، فوالله إنه ليضع رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه سهم غرب (¬1) فأصابه فقتله. فقلنا هنيئا له الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلا والذي نفس محمد بيده إن ¬

(¬1) سهم غرب: سهم طائش.

شملته (¬1) الآن لتحترق عليه في النار، كان غلها من فيء للمسلمين يوم خيبر. فسمعها رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فقال: يا رسول الله: أصبت شراكين لنعلين لي، قال فقال: يقد لك مثلهما في النار) (¬2). نضع هذا الغلام الذي رآه الناس من أهل الجنة وهو يعيش في الصف المسلم منذ فترة غير قليلة، ثم أصبح من خواص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخدمه مع الغلام الآخر، الأسود الراعي الذي قص لنا ابن إسحاق خبره حين قال: يا رسول الله: اعرض علي الإسلام فعرضه عليه، فأسلم وكان رسول الله لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام، ويعرضه عليه، فلما أسلم قال يا رسول الله إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ قال: اضرب في وجوهها فإنها سترجع إلى ربها. فقام الأسود، فأخذ حفنة من الحصى، فرمى بها في وجوهها، وقال: ارجعي إلى صاحبك، فوالله لا أصحبك أبدا، فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله، وما صلى لله صلاة قط، فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع خلفه، وسجي بشملة كانت عليه، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من أصحابه ثم أعرض عنه فقالوا: يا رسول الله: لم أعرضت عنه، فقال: إن معه الآن زوجتيه من الحور العين) (¬3). صورتان متقابلتان عجيبتان لغلامين في الصف المسلم، ونهايتان أغرب وأعجعب. غلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقتل بين يديه، ويهنأ بالجنة على ظاهر الأمر وغلام يهودي لم يصل لله صلاة قط، ويقتل على باب الحصن الذي خرج منه. والشملة التي غلها غلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي خيانة كانت كفيلة أن تشتعل عليه في النار، ويحرم من الجنة، ولم يشفع له خدمته لرسول الله، وماضيه السابق في الصف المسلم، وأمانة الغلام اليهودي تحولت كرامة له بحفنة من حصباء في وجه الغنم يقول لها: فوالله لا أصحبك أبدا، ويدخل في الاسلام طاهرا من يهوديته ومن ذنوبه بهذه الأمانة العظيمة. وما هي إلا ساعة حتى يغدو الغلام اليهودي قتيلا. فتتدلى له زوجتاه من الحور العين تحفانه إلى الجنة. يا شباب دعوة الإسلام: ليكن هذا الدرس حيا في نفوسكم، فالخطيئة الصغيرة تؤدي إلى النار ولو كانت شملة من غنيمة لا يؤبه لها. ولا يشفع معها قدم في الدعوة أو ماض في الجهاد أو موقع في التنظيم. والاستقامة على المنهح ولو كانت من أعدى أعدائكم لحظة واحدة كفيلة بالشهادة في سبيل ¬

(¬1) الشملة: كساء غليظ يلتحق به. (¬2) يقد: يقطع. (¬3) السيرة لابن هشام ج 1: 345.

الله لا يحول دونها حرب عنيفة للإسلام، أو تحتاج إلى رصيد من الطاعة والعبادة. بل النية الصادقة والتصميم على الاسقامة تكفي في ميزان الله لدخول الجنة. ودعوا عنكم المظاهر فالله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم. وآن لقيادة الحركة الإسلامية أن لا تغالي في الحكم على الأشخاص وخاصة أبناءها من خلال القدم التنظيمي فترفع هذا الجندي إلى المستوى الأعلى عندها بغض النظر عن سلوكه وتربيته. وآن لشباب الحركة الإسلامية أن لا يغالوا في المكابرة بمن يأتيهم صادقا إلى الصف فيحرموه من كل ثقة لأنه لم يمر عليه قدم تنظيمي في الجماعة. فقد يكون ذلك الأخ النقيب من أهل النار، وقد يكون هذا الجندي الجديد الذي لا تزال آثار حربه للإسلام بادية عليه من أهل الجنة. ولتأخذ التربية الحقة دورها في الصف المسلم وليكفكف الشباب المسلم من غلوائه. في قضية الثقة بالمنتبين الجدد إلى الصف وليبق في ذهنهم .. غلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخيانته التي أودت به إلى النار. والغلام اليهودي الذي لم يسجد لله سجدة وأمانته التي افتتح بها إسلامه فقادته إلى الجنة وليكفكف الشباب المسلم من غلوائه كذلك فيستبيح كل صور الغنيمة من العدو إذا ارتبطت بلوثة مع الإسلام وشباب الإسلام. 4 - وحين نتناول هذه السمة بمظاهرها العامة سمة إنهاء الوجود اليهودي من جزيرة العرب وقد عرضنا للصف المسلم وأمانته بينما استحق الصف اليهودي أن تحق عليه لعنة الله وغضبه بعد أن خان الأمانة لا يغيب عن البال غدر كنانة بن أبي الحقيق والذي خان رسول الله وأخفى ما لديه من ثروة مع أنه هدد بالقتل إن أخفى شيئا من ذلك ثم قتل عقوبة له على غدره. لا ننسى أن الصف الداخلي لليهود قد تمزق ومضى بعض أفراده ليدل المسلمين على ثغرات الحصون وثرواتها. وما كان ذلك ليقع لولا أن هؤلاء اليهود قد كفروا بقياداتهم فراحوا يتطوعون بإعطاء الأسرار للجيش المسلم دون مقابل بل ساهم بعضهم بكشف خيانة كنانة بن أبي الحقيق حين رآه يتردد على خربة له وقد أخفى فيها ثروة يهود. ونلحظ معه كذلك المحاولات الإجرامية للاعتداء على المسلمين ونقض العهود حين يتاح لهم ذلك حيث قتلوا عبد الله بن سهل حين أمنوا إخفاء الجريمة وحاولوا اغتيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضع السم في الشاة التي أهدوها لرسول الله ومات على إثرها بشر من البراء بن معرور رضي الله عنه واستحقوا هذه الهزيمة. وحين يكون الصف المسلم يمثل هذه الواصفات فستقع عليه العقوبة ويحال بينه وبين

النصر. 5 - لكن هذه الأمور على مستوى الصف لا تعفي الصف من تقديم التضحيات المناسبة واللازمة فلقد عانى المسلمون من الجهد في هذه المعركة ما لم يعانوه في معركة سابقة فالخندق أطول معاركهم استمرت عشرين يوما أو تزيد، وهم في بيوتهم وبلدهم وحصونهم، بينما نراهم هنا، ولا يملكون من الطعام حتى التمر، وهم في أشد الحاجة يصبرون قرابة شهرين على الحرب. فلم تتم نهاية اليهود بهذه السهولة، ولقد دافع اليهود دفاع المستميت عن وجودهم وحصونهم، وقاتلوا وصبروا، لكن المؤمنين كانوا أصبر الفريقين، وأشجع الفريقين وما بذله أبطال المسلمين من بسالة وبذل في النفس والنفيس، فاق تصورات العدو، وكان البذل مشتركا من الفريقين المهاجرين والأنصار. فعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعمر بن الخطاب في المبارزات الفردية وكذلك الحباب بن المنذر ومحمد بن سلمة وأبو دجانة سماك بن خرشة حطم كل البطولات الفردية عند اليهود الذين كانوا يحسبون كل بطل من أبطالهم بألف رجل. والقتال العام الذي كان يستمر أياما. فيضطر اليهود للانسحاب والتراجع، وقد شارك فيه الجيش كله بلا إستثناء يعني أن الحركة لم يبخل المسلمون عنها بشيء من أرواحهم ودمائهم وهي أطول معركة عجم فيها عودهم، واختبر فيها صبرهم فكانوا على مستوى المعركة. 6 - وتبدو ضراوة المعركة وضخامتها حين نتصور المعركة مع المتحصنين في القلاع والحصون من اليهود. وكما وصف القرآن اليهود {لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) (¬1). وكل هذه الحصون والقلاع لم تفل من عزيمة المسلمين، ولم توهن من مقاومتهم. وهذه طبيعة اليهود اليوم كذلك فمن وراء دباباتهم ومتاريسهم وتحصيناتهم يقاتلون المسلمين اليوم لكن مسلمي اليوم سرعان ما انكشفوا أمام تلك التحصينات وكم أبيد من الألوية العربية في الحروب أمام حصون اليهود. وحين نقارن بين حرب الخامس من حزيران وبين فتح خيبر. فليست مقارنة عرضية. بل هي مقارنة حقيقية. فلقد أعلن موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي بعد أن احتل القدس واكتسح بجيشه الأرض العربية في سورية والأردن ومصر. قال وقد مس ثرى القدس: هذه بخيبر. لقد لقي اليهود قبل خمسة عشر قرنا تلك الهزيمة النكراء التي أنهت الوجود اليهودي في جزيرة العرب ولم تنهه لعقد أو عقدين من الزمان أو لقرن أو لقرنين من الزمان. إنما أنهته لخمسة ¬

(¬1) سورة الحشر: من الآية 14.

عشر قرنا من الزمان لم يقم بعدها لليهود قائمة، ولم يرتفع لهم علم ولم تخفق لهم راية. إلى أن كان منتصف هذا القرن وقامت دولة إسرائيل فوق ربا فلسطين، ولم يغب عن ذهن اليهود مرارة خيبر وقد تجرعوا الذل والهوان فيها، وبقي الجيل بعد الجيل يرويها، ويؤرث سلفهم الحقد لخلفهم ويذكره بالثأر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حتى كانت معركة الخامس من حزيران. حيث سلمت الجولان غنيمة باردة لليهود من الخائن العربي الأكبر. رغم الحصون الضخمة التي فيها، والتي كانت كفيلة أن تقاوم اليهود بعدة جنود قلائل أشهرا طوالا، سلمت بدون قتال، على الجهة السورية، وانهارت تحصينات الجولان التي كان يقال عنها - خط ماجينو- لا بالشجاعة اليهودية ولكن بالخيانة العربية. لقد كان النصر الإسلامي في خيبر من القوة والضخامة بحيث أنهى الوجود العسكري لليهود. خلال هذه القرون الطوال. وفي غفلة من الزمن، وفي غياب لجند الإسلام عن الأرض وفي غياب لخلافة الإسلام وحكم الإسلام برز الوجود اليهودي من جديد. 7 - وحين نعالح ذلك الواقع ندرس من خلاله الصيغة التي انتهى يهود إليها أن يكونوا خولا عند المسلمين وأجراء فيخدموا الأرض ولهم نصف الثمر وللمسلمين النصف، ولقد كانت القيادة النبوية من العظمة ما جعلها فوق أحقاد اليهود، وجعل التعامل معمهم بصفتهم بشرا ومدنيين غير مقاتلين بحيث لا يستغل جهدهم، ولو كانوا أعداء الله ورسوله، ولا تستنزف طاقاتهم عبيدا كالعبيد، بل أمكن إيجاد جو من التعايش معهم. بحيث يشتغلون بأرض المسلمين ولهم نصف الثمر. والحركة الإسلامية اليوم بحاجة إلى فقه هذا المعنى. فمن أجل الجهاد رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينكب الجيش المقاتل الثائر على الزراعة، فيفقد جاهزيته ويفقد عسكريته، ويفقد جنديته، كما علمهم القرآن الكريم. {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (¬1). وليست التهلكة إلا الإنشغال بالزرع والضرع عن المعركة فلا بد أن توجه كل الطاقات للمعركة أما الأرض فلن تلهي عنها ولن تشغل عنها، واليوم والحركة الإسلامية تعد نفسها لمواجهة شاملة لا بد لها أن تجند كل طاقاتها للمعركة. فالإسلام لم يقبل هذا الموقف بعد النصر المؤزر المبين. فكيف تقبله الحركة الإسلامية وهي تخوض معركة وجودها أو لا وجودها في الساحة. ومع ذلك. فقد استفاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخبرة الزراعية المختصة، ولو كانت من اليهود لتلبي هذا القطاع وتؤمن حاجته ومضى العام الأول والثاني ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ماضون في حربهم، وتنقل لهم ثروات أرضهم فهل يستطيع المسلمون اليوم أن يعيدوا اليهود إلى الأرض ¬

(¬1) البقرة: من الآية 195.

وتكون لهم القيادة والسيادة من جديد؟ 8 - وإذا كان أمر التعامل مع اليهود وهم أذلة فإن هذا لا يعني في المفهوم الإسلامي بخسهم حقهم ولوكانوا مستضعفين أو مضطرين للعمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وتذكر كتب السيرة عن ذلك الخرص الوحيد الذي قام به عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لعام واحد وهو يوزع الثمر مناصفة بين اليهود والمسلمين قالوا له: ما نراك عدلت. فيجيب رضي الله عنه: يا إخوة القردة والخنازير، والله ما أحد على ظهر الأرض أبغض إلي منكم وما يدفعني بغضي لكم أن أنقصكم تمرة واحدة. ووالله ما أحد على ظهر الأرض أحب الي من محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما يدفعني حبي له أن أزيده تمرة واحدة. إن شئتم هذه أو شئتم هذه، ويشير رضي الله عنه إلى الحصتين أمامه. أو كما روى ابن إسحاق: (قالوا له: تعديت علينا، قال: إن شئتم فلكم، أو شئتم فلنا، فتقول يهود: بهذا قامت السماوات والأرض) (¬1). وإذن فمفهرم دولة الإسلام وحكم الإسلام الذي نرقبه ونسعى له، ونقاتل من أجله هو في تحقيق هذا العدل بين العدو والصديق والقريب والخصم وهو أكبر ميزان على تحقيق شريعة الله في الأرض أن يأمن العدو قبل الصديق، والخصم قبل الأخ، ولا يطمع شريف في ظلم، ولا ييأس ضعيف من عدل وأن يطمئن المسالم الآمن على ماله وعرضه وعقيدته وأرضه واليهود الذين عاشوا في ظل هذا الإسلام العظيم، نعموا بهذا الأمن، وطردتهم دول الأرض وآوتهم دولة الخلافة الإسلامية فكان جزاؤها أن هدموا هذه الخلافة إنهم يعلمون أن عدل محمد - صلى الله عليه وسلم - لن يستطيعوه هم على أنفسهم، ومن أجل ذلك قالوا: بهذا العدل قامت السموات والأرض، وأن يتعامل عبد الله بن رواحة وهو المبغض الألد لهم بنفس الصيغة التي يتعامل فيها مع حبيبه عليه الصلاة والسلام. إنه ما لم تقتنع قاعدة الحركة الإسلامية بأن قيادتها على الجادة، وأنها تحقق العدل في صفوفها وتؤثر الحق على العاطفة في تعاملها، فلن تخطو خطوة واحدة خارج صفها في تحقيق الهدف الذي ترنو إليه وعندما يطمئن الصف المسلم إلى أن قيادته رائدها العدل دائما وأنه لن يضيع حق لفرد من أفراده فيه. فحينئذ تستطيع أن تكون داعية لهذا المعنى في صفوف الخصوم، ولا بد أن يتربى الصف كذلك على قبول هذا العدل والرصوخ له، ولو كان على حسابه ومن مصلحته. فالقضية ذات طرفين متوازنين الطرف الأول: طرف القيادة الصارمة العادلة التي لا تأخذها في الله لومة لائم، وتكون قوامة بالقسط شاهدة لله ولو على نفسها أو الوالدين والأقربين. وطرف القاعدة التي لا تعتبر الإسلام مغنما ومكسبا، وحقا متسلطا على رقاب العباد بل تعطي من ذاتها ونفسها ما يعين القيادة على تطبيق هذه العدالة وأن تخضع للحق ولا تستجيب للنزوة الطارئة ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 4: 354.

أو الهوى الجموح. 9 - والمعنى الآخر الذي نلحظه من خلال خيبر هو إخراج اليهود من جزيرة العرب إذ لم يكن نقضا للعهد كما يحلو للمغرضين أن يسموه، بل كان جزءا من الاتفاق الأول حين عرض اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعملوا مع المسلمين في الأرض فكان جوابه عليه الصلاة والسلام (فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ومن كل ثمر ما بدا لرسول الله أن يقرهم) وعند ابن إسحاق: (وأقركم ما أقركم الله). وعندما أصبحت المصلحة بإجلائهم عن خيبر، وتأكد لأمير المؤمنين رضي الله عنه هذا المعنى ووصية النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يجتمع بجزيرة العرب دينان، أمر بإجلائهم إلا من كان معه عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاص به بالبقاء. وتبقى دوما مصلحة المسلمين العليا وأمنهم، أهم من مصلحتهم العادية في زرعهم وضرعهم، ويضحى بكل شيء حفاظا على هذه المصلحة علما بأن المسلمين قد اكتسبوا الخبرة المطلوبة في الأرض. وصاروا قادرين على الانتاج ولديهم السعة للعمل في الزراعة بعد التمكين الكبير لهم فاستغني عن هذه الطاقات كما تستغني كل دولة وحركة عن خدمات وخبرات من هم خارج صفها عندما تمتلك هذه الخبرات أو تستغني عنها وتعتمد الاكتفاء الذاتي في تسيير دولتها. 10 - ويبرز المعنى الأخير في خيبر من خلال السبر العام لنفسيه قريش حين جاءها الحجاج بن علاط السلمي، ولم تعط فرحتها لأحد بهزيمة محمد وأسره، لكنها فوجئت بالصاعقة على رأسها حين عرفت أن الحجاج عبث بها حتى أخذ حقه وماله ورحل عنهم. والذي يعنينا من هذا الدرس جانبان: الجانب الأول: في التيقظ من المهادنين، والتعرف على حقيقة نفسياتهم وإمكانية نكثهم للعهد إن أتيح لهم ذلك وعلى الحركة الإسلامية أن تقدم الاختبارات المتتالية للتعرف على نفسية الحلفاء والمسالمين. الجانب الثاني: حق الجندي المعترف على شركه أن يصل إلى حقه عن طريق التضليل بالصف المشترك وإلا لحرم هذا الحق لإسلامه وطالما أن الأخ لم يعلن التزامه في الصف الإسلامي فالمجتمع الجاهلي يحمل وزر تصرفه لا المجتمع الإسلامي فالحجاج في ظاهر الأمر مشرك وأعطي المال على ضوء شركه واستعمل المخادعة للوصول إلى حقه لكنه لم يقدم على هذا الأمر إلا بعد استئذان قيادته. وحري بشباب الحركة الإسلامية خاصة السريين منهم الذين يحسبون في الأصل جواز مثل هذه التصرفات ألا تتم إلا من خلال الإذن من القيادة الشرعية التي تحدد حدود هذه التصرفات

والاجتهاد الفردي مرفوض ولو كان صوابا محضا واستئذان القيادة الشرعية ولو كان خطأ محضا من حيث السلوك فهو صواب محض من حيث التنظيم. 11 - ومن المعاني الواضحة في خيبر والتي لم تغب في كل لحظاتها الدعوة إلى الله تعالى فما من مواجهة بين اليهود والمسلمين إلا والتوجيهات النبوية تؤكد على ضرورة الدعوة إلى الله قبل المواجهة. (فأعطاه الراية فقال: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم) (¬1). فإذن ليست الدعوة إلى الله في حالة السلم فقط، ومقابل المعركة، إن المسلم وهو في قلب المعركة داع إلى الله تعالى قبل أن يكون مقاتلا. والبطل العظيم علي رضي الله عنه يحمل الراية بشهادة رسول رب العالمين. يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ويفتح الله تعالى على يديه، ومع ذلك فالدعوة إلى الله تعالى هي الأصل، والهداية خير من القتل. وهداية امرىء واحد خير من حمر النعم، فليدرك هذا الأمر شباب الحركة الإسلامية أن قضية الدعوة إلى الله يجب أن ترافق المسلم في كل لحظة من لحظات حياته قبل المعركة وخلالها وبعدها وأن يصبح تقييم القيادة والحركة من خلال المعركة ونسيان الأصل الذي قامت عليه الجماعة هو انحراف في الفهم الإسلامي ولا شك. ولئن كانت هذه المرحلة بعد صلح الحديبية هي مرحلة الانطلاق السياسية والدعوية وكانت معركة خيبر ظاهرة خاصة في قلب هذه الأحداث لكنها بقيت تحمل طابع الدعوة إلى الله مع اليهود الذين حاربوا هذه الدعوة منذ مهدها وحاربوا سيد الدعاة محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ ولادته. 12 - ولا ننسى في النهاية دور المرأة المسلمة وقد شاركت في خيبر في أكبر تجمع نسوي بلغ عدده عشرين امرأة، ورضخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهن من الفيء وتبقى هذه الذكرى حتى لا ننسى دور المرأة المسلمة في الصف الإسلامي بجوار الرجل. فإذا كان لها دور في المعركة فمن باب أولى أن يكون لها الدور في الدعوة إلى الله. والمرأة نهبة لدعاة الشر في الأرض يريدون لها أن تهدم فتهدم الأسرة معها. وبالتالي يهدم المجتمع كله. ولعل القلادة التي أهداها النبي - صلى الله عليه وسلم - للفتاة الغفارية تعدل كثيرا من غلوائنا ونحن نتعامل مع النساء وذلك كما روى ابن إسحاق عن امرأة من بني غفار قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة من بني غفار، فقلنا: يا رسول الله، قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا وهو يسير إلى خيبر، فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال: ¬

(¬1) صحيح البخاري 2/ 505.

على بركة الله. قالت: فخرجنا معه، وكنت جارية حدثة، فأردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقيبة رحله، قالت: فوالله لنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح وأناخ ونزلت عن حقيبة رحله وإذا بها دم مني، وكانت أول حيضة حضتها قالت فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بي ورأى الدم قال: ما لك لعلك نفست، قالت قلت: نعم قال: فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا، ثم اغسلي به ما أصاب الحقيبة من دم ثم عودي لمركبك، فلما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر رضخ لنا من الفيء هذه القلادة التي ترين في عنفي فأعطانيها، وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدا) (¬2). ... ¬

(¬2) السيرة لابن هشام ج3: 342.

السمة العاشرة: قيادات العدو تنضم إلى الإسلام

السمة العاشرة: قيادات العدو تنضم إلى الإسلام إسلام عمرو بن العاص: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن حبيب بن أبي أوس الثقفي قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق. جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت أمرا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد. وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي قلت: فاجعوا له ما نهديه له. وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا عليه. فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري وكان رسول الله قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده. قلت لأصحابي هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك، رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحا بصديقي، أهديت إلي من بلادك شيئا؟ قلت: نعم. أيها الملك قد أهديت إليك أدما كثيرا، قال: ثم قربته إليه، فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك، إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه تد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله! قلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي (¬1) .... ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 289.

إسلام خالد بن الوليد (قال الواقدي: حدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: سمعت أبي يحدث عن خالد بن الوليد قال: لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضرني رشدي فقلت قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس في موطن أشهده إلا انصرف، وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمدا سيظهر، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية خرجت في خيل من المشركين، فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه بعسفان. فقمت بإزائه، وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا. وكانت فيه خيرة، فاطلع على ما في أنفسنا من الهم به فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعا، وقلت: الرجل ممنوع فاعتزلنا، وعدل عن سير خيلنا وأخذ ذات اليمين فلما صالح قريشا بالحديبية ودافعته قريش بالرواح، قلت في نفسي: أي شيء بقي؟ أين أذهب إلى النجاشي! فقد اتبع محمدا وأصحابه عنده آمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية. فأقيم في عجم، فأقيم في داري بمن بقي، فأنا في ذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في عمرة القضاء فتغيبت ولم أشهد دخوله وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي في عمرة القضاء فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتابا فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك! ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنك، وقال: أين خالد. فقلت يأتي الله به فقال مثله يجهل الإسلام؟ ولو جعل نكايته وجده مع المسلمين كان خيرا له، ولقدمناه على غيره فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة. قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام وسرني سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة. فخرجت في بلاد خضراء واسعة فقلت: إن هذه لرؤيا، فلما أن قدمت المدينة قلت: لأذكرنها لأبي بكر، فقال: مخرجك الذي هداك الله للإسلام والضيق الذي كنت فيه من الشرك. فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: من أصاحب إلى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب أما ترى ما نحن فيه إنما نحن كأضراس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم فلو قدمنا على محمد واتبعناه، فإن شرف محمد لنا شرف؟ فأبى أشد الإباء فقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدأ. فافترقنا، وقلت: هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر فلقيت عكرمة بن أبي جهل، فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أمية فقال لي مثل ما قال صفوان، قلت فاكتم عني. قال: لا أذكره. فخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي، فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن طلحة. فقلت: إن هذا لي صديق. فلو ذكرت له ما أرجو، ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أن أذكره ثم قلت: وما علي وأنا راحل من ساعتي فذكرت له ما صار الأمر إليه فقلت

: إنما نحن بمنزلة ثعلب في حجر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج وقلت له نحوا مما قلت لصاحبي، فأسرع الإجابة، وقلت له: إني غدوت اليوم. وأنا أريد أن أغدو وهذه راحلتي بفج مناخة، قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج إن سبقني أقام وإن سبقته أقمت عليه، فأدلجنا سحرا، فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة فنجد عمرو بن العاص بها قال: مرحبا بالقوم فقلنا وبك. قال: إلى أين مسيركم؟ فقلنا: وما أخرجك؟ فقال: وما أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإسلام، واتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: وذاك الذي أقدمني فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة فأنخنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسر بنا فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيني أخي: فقال: أسرع فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم، فأسرعنا المشي فاطلعت عليه فما زال يبتسم حتى وقفت عليه فسلمت عليه بالنبوة، فرد علي السلام بوجه طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: تعال. ثم قال: الحمد لله الذي هداك قد كنت أرى لك عقلا رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير. قلت: يا رسول الله: إني قد رأيت ما كنت أشهد عليك من المواطن معاندا للحق، فادعو الله أن يغفرها لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الإسلام يجب ما كان قبله. قلت: يا رسول الله على ذلك قال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيل الله قال خالد: وتقدم عثمان وعمرو فبايعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وكان قدومنا في صفر سنة ثمان قال: والله ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدل بي أحدا من أصحابه فيما حزبه (¬1)). كانت غزوة خيبر قد انتهت وحطمت ما بقي في نفسية مكة من مقاومة. فقد سقط حليف ضخم لها في المنطقة، كانت تأمل أن ينهي على محمد إن فاتها هي ذلك. وحتى غطفان، فقد قام محمد - صلى الله عليه وسلم - بغزوات لها في عقر دارها، خلال هذه المرحلة، وكان عمرو بن العاص بعيد النظرة، حين حكم بعد الخندق بانتهاء قريش كقوة عسكرية بعد أن جيشت الجيوش وقادت عشرة آلاف مقاتل لتستأصل شأفة محمد في المدينة، ورجعت تجرجر أذيال الخيبة. فقد انتهى عمرو بن العاص رضي الله عنه كقائد حربي في مكة منذ الخندق، كما حدثنا عن ذلك، وصمم أن يغادر مكة إلى الحبشة لاجئا سياسيا يعيش عند صديقه النجاشي، تاركا الأمور في أعنتها حيث لا جدوى من المقاومة. وكان الغزو النفسي لخالد رضي الله عنه إبان صلح الحديبية حين صلى رسول صلاة الحوف في الوقت الذي هم فيه خالد بغزوه وأقسم أن الرجل ممنوع. وتلقى عمرو بن العاص هزيمته الأخيرة بين يدي النجاشي حيث تمنى لو أن الأرض ابتلعته فرقا من النجاشي. ورواية الواقدي تقول إن النجاشي لم يضرب أنفه إنما ضرب أنف عمرو وتناثر الدم ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير ج 4 ص 240 ط 3 مكتبة المعارف 1980.

منه. وكانت تلك الهزة الوجدانية التي لامست عمرو فهزته من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه. ولم تنته إلا ببيعة عمرو للنجاشي على الإسلام في ذات اللحظة التي كان يود أن يضرب عنق عمرو بن أمية الضمري لو سلمه النجاشي إليه فلقد كانت الهزة من العمق والضخامة بحيث كسرت أثقال الجاهلية وأغلالها وفتحت عينيه على الإسلام. وكانت الضربة العنيفة هي التي أعادته إلى رشده، وقرر أن يرحل من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام. بينما كانت الهزة الضخمة التي زلزلت كيان خالد بن الوليد رضي الله عنه تلك الرسالة الصغيرة المعدودة الكلمات. وقد غيرت كل مخططات حياته. فلقد غادر خالد مكة والغيظ والحقد يأكل قلبه أن يدخل محمد مكة. بعد سبع سنوات من المقاومة دون أن يقف في وجهه أحد بل بإقرار قريش واعترافها ولا شيء على القائد العسكري أشد مرارة من الهزيمة. وأن يرى بأم عينيه خصمه مظفرا منتصرا، ومن أجل ذلك غادر مكة عند دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، بل فكر أكثر من ذلك بأن يفعل ما فعله عمرو وصحبه. أن يمضي إلى النجاشي أو كسرى أو قيصر. غير أنه وجد الذل واحدا وليس له من الصداقة عند النجاشي ما لصاحبه عمرو وسيكون نكرة في أي مكان يمضي إليه حتى ولولم يكن نكرة مجهولة. فأي معنى أن يضع إمكاناته وعبقريته لينصر فرسا على روم أو روما على فرس. ومن أجل هذا ضاقت الدنيا في عينيه، وهو يعرف في أعماقه أن موقعه الحقيقي في مكة. وجاءت هذه الرسالة. لتعيد تركيبه من جديد. فلقد قدم مكة وخف الضغط على أعصابه أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد غادر مكة. ولم يكن غصة في حلقة أن يراه وهو يطوف حرول الكعبة ويستلم الركن. ويرى من حوله أتباعه من كل مكان يسرحون ويمرحون في بلده. وكانت رسالة أخيه عند والدته. وفض الرسالة، ولم يأبه في بادىء الأمر إلى دعوة أخيه له للإسلام فهو لا يقيم هذا الوزن لرأي أخيه وطالما ساهم في حبسه ومنعه عن المسير إلى المدينة لكن الذي شده، وشد نظره أن يكون محمد رسول الله قد مال عنه: وكاد يلتهم الكلمة التهاما ليرى طبيعة السؤال ويرى دوافعه رأي محمد فيه، وعلى الغالب أنه لم يخطر على باله دافعا للسؤال عنه من محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا الرغبة في إذلاله وإشعاره بالهزيمة والاستخفاف بهؤلاء المعاندين، لكن المفاجأة الضخمة التي هزت أعماقه هي هذه الكلمات العادية في الصحيفة الهائلة في التأثير والمعنى. (فقلت: يأت الله به. قال: مثله جهل الإسلام؟ ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين لكان خيرا له ولقدمناه على غيره). فإذن ليس هو أمام قائد متعجرف أذل كبرياءه أو حتى غاضب ثأر لحروب ضخمة سابقة أو حتى عاتب لائم على مواقف معاندة مكابرة، ليس أمام هذا كله. إنه أمام إنسان لا مثيل له في البشر. إنه أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعاد القراءة الثانية وما يكاد يصدق عقله، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين لكان خيرا له ولقد مناه على غيره، إذن فقد وجد ضالته، ورأى موقعه، تحت

راية محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي الموقع المناسب والمركز الملائم. إذن ففيم يقف؟ وماذا ينتظر؟ لقد حققت هذه الكلمات القلائل تلك النقلة الهائلة لخالد بن الوليد رضي الله عنه من الجاهلية إلى الإسلام. وكانت في ضخامة تأثيرها أشد بكثير من لطمة النجاشي. فلقد بقي عمرو ابن العاص رضي الله عنه شهورا طوالا قبل أن يعزم عزمته الأخيرة على المسير إلى المدينة أما خالد بن الوليد، فقد كان التحول الضخم عنده ليهيء متاعه دون توان ويمضي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان له من شبه في الأثر ففى تلك الضربة العمرية لختنه سعيد بن زيد ولأخته وفي تلاوته لصدر سورة طه تلك الكلمات مست أعماق عمر ومضى إلى دار الأرقم مؤمنا منيبا بعد أن غدا قاتلا. وهذه الكلمات اليوم حولت خالد بن الوليد من حاقد ناقم إلى مؤمن ملتزم. ولم تستطع معارك عشرين عاما وحوار عشرين عاما أن يفعل فعله في خالد بن الوليد رضي الله عنه كما فعلت تلك الكلمات في أعماق خالد، وهو يرى الأرض قد ضاقت عليه ويبحث عن الموقع الذي يضع قدميه فيه. فجاءته الرسالة لتقول له: تعال: هذا هو موقعك. وحلت أكبر عقدة نفسية عنده. ومضى ليستلقي قليلا فيرى الرؤيا التي تتناسب وهذا الوضع النفسي الجديد الذي خرج من صحراء قاحلة مجدبة إلى أرض خضراء ممرعة. والدعاة إلى الله اليوم بحاجة إلى وقفة طويلة مع هاتين القضيتين. قضية إسلام خالد، وإسلام عمرو فأعماق الحادثتين أكبر من الحدث الآني وهو دعوة ملحة لهؤلاء الدعاة أن يتعاملوا مع نفوس الناس. وأخص بالذكر الخصوم وقيادات الخصوم، ليحولوا تلك النفوس إلى الإسلام. وليكن أعظم أهدافهم هو جعل طاقات وعبقريات هؤلاء الخصوم تنصب في معين الإسلام وتذود عنه. تماما كما قال عليه الصلاة والسلام (ولو كان جعل جده ونكايته مع المسلمين ..) وليكن لدى الدعاة من سعة الصدر أن يقولوا لخصومهم ما قاله عليه الصلاة والسلام لأكبر أعداء الإسلام ذات يوم لخالد بن الوليد (ولقدمناه على غيره). أن تنتصر الحركة الإسلامية في معركة حربية. فتجندل بعض القيادات قتل ويلوذ بعض القواد بالفرار ثم يتأجج الحقد والرغبة في الثأر في معركة جديدة شيء عظيم لكن الأعظم منه بلا شك أن تنتصر الحركة الإسلامية في معركة النفوس الكبرى وفي حلبة الصراع العظمى بين الجاهلية والإسلام فتفتح هذه القيادات صدورها للإسلام وتنضوي تحت لوائه هو النصر الأكبر ولا شك. ومن أجل ذلك كان الفتح المبين في الحديبية. حيث أزيح السيف من الطريق، وفتحت معركة العقيدة وسرعان ما انتصرت العقيدة في النفوس، ومن أجل ذلك كان نصر الله والفتح ليس في هزيمة الجيش المكي الهزيمة المنكرة وعدد القتل والجرحى فيه. إنما كان في دخول الناس في

دين الله أفواجا {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}. النصر الحقيقي هو أن تدخل قادة العدو في الإسلام لا أن تهزمهم في معركة من معارك الإسلام. ويبقى هذا الهدف هو الأعلى. نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها، لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. لكن فن الدعوة لا بد أن يلامس تلك النفوس لمسا حادا، وينفذ إلى أعماقها نفوذا حكيما بحيث يكون هو المصير للمدعو ولا مصير غيره هو الحل ولا حل غيره. أما إذا شعر العدو أو الخصم أن الإسلام هو الذي يذل، ويحطم مصالحه. فسيبقى في إطار العداء لله على الدوام. ومن إسلام خالد إلى خطواته في الدعوة بعد لحظات إلى رفاق دربه صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وعثمان بن طلحة. وحين شرح الله صدر خالد للإسلام صار على التو داعية إلى الله وتذكر أحب الناس إليه هؤلاء الثلاثة وراح يعرض عليهم الإسلام فطووا عنه كشحا، فلم تنلهم هزة خالد، ولم يشرح الله صدورهم بعد غير أن إقدامه على دعوتهم ليعطي دلالة واصحة على صخامة هذه الهزة فلقد كان بإمكانه أن يكتم خبره ويمضي وحده إذا كان هذا الإيمان ذاتيا من جهة، وباردا من جهة ثانية، لكن حرارته وصدقه، هما اللذان دفعاه إلى عرض هذا الدين على رفاق الدرب معه بل أصبح يدرك ببصيرة المؤمن، أن عناد هؤلاء الرفاق مرتبط بنزعات جاهلية عميقة ولما يمر عليه في الإسلام ساعات بعد. إذ أن مقتل آبائهم وإخوانهم هو الذي يعمي بصرهم عن الحقيقة ولن يدرك الحقيقة موتور ثائر إنما يدركها مخلص. بعيد عن الهوى والغرض. ولعلنا قبل أن ننتقل مع القادة الثلاثة إلى المدينة نستمع لعمرو رضي الله عنه ينقل لنا طرفا من الحديث من خلال رواية البيهقي عن الواقدي: (... فغضب من ذلك ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فأبتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي، فأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقا منه ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك. قال فاستحيا، وقال يا عمرو تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى لتقتله؟ قال عمرو: فغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي، عرف هذا الحق العرب والعجم

وتخالف أنت .. ثم دعا بطست، فغسل عني الدم وكساني ثيابا وكانت ثيابي قد إمتلأت بالدم فألقيتها ثم خرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك. وقالوا هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة. وقلت أعود إليه. فقالوا: الرأي ما رأيت. قال ففارقتهم وكأني أعمد إلى حاجة فعمدت إلى موضع السفن. فأجد سفينة قد شحنت تدفع قال: فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعبة، وخرجت من السفينة ومعي نفقة: فابتعت بعيرا وخرجت أريد المدينة حتى مررت على مر الظهران ثم مضيت حتى إذا كنت بالهوة فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير يريدان منزلا وأحدهما داخل في الخيمة والآخر يمسك الراحلتين، فنظرت فإذا خالد بن الوليد: قال: قلت: أين تريد؟ قال: محمدا. دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم، والله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها، قلت: أنا والله قد أردت محمدا وأردت الإسلام فخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعا في المنزل ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة فلما أنسى قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح: يا رباح يا رباح يا رباح فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: أعطت مكة المقادة بعد هذين وظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد، وولى إلى المسجد سريعا فظننت أنه بشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدومنا فكان كما ظننت، وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا ثم نودي بالعصر فانطلقنا على أظلعنا عليه، وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفبع طرفي حياء منه فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يحضرني ما تأخر فقال إن الإسلام يجب ما كان قبله والهجرة تجب ما كان قبلها قال: فوالله ما عدل بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في أمر حزبه منذ أن أسلمنا. ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك المنزلة وكان عمر على خالد كالعاتب. ولقد عرضنا هذه الرواية الثانية التي تعطي إيضاحات أكثر على إسلام عمرو رضي الله عنه. وتلقي أضواء على طبيعة شخصيته. فعمرو داهية العراب وقد بايع النجاشي على الإسلام لم يكن من سمته ولا من طبعه أن يطرح ما في نفسه على صحبه كما فعل خالد رضي الله عنه. بل كتم الأمر عنهم وأوهمهم بكسوة النجاشي أنه لا يزال على عهده واستحيا طلب رسول محمد - صلى الله عليه وسلم - لهذه الهدية، واتنسل عن صحبه يبحث عن سفينة تقوده إلى يثرب. وتبرز طبيعة شخصيته ثانيا حين التقى مع خالد ولم يظهر مقدمه للإسلام حتى اطمأن إلى خالد أنه ماض إلى المدينة ليسلم. فشخصيته التي تقوم على أساس الحذر والحيطة المناسبتين لطبيعة الداهية تقتضي منه هذه المواقف. والملاحظ أن عرض عمرو رضي الله عنه لإسلامه وإسلام خالد بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا

يختلف في المضمون لكن نرى في بعض الجزئيات إشارات لمعنى ضخم في طبيعة الدعاة فخالد رضي الله عنه يرى ابتسام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له منذ لقياه. وأنه ينظر به وعمرو رضي الله عنه يرى تهلل وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أن رآهما. وخالد يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعدل به أحد إذا حز به أمر، وعمرو رضي الله عنه يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعدل بهما أحد إذا حز به أمر وهذه الإشارات تدل على عظمة هذا النبي سيد ولد آدم. فكل صحابي كان يشعر أنه أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه موطن ثقته. وحده من دون الناس، وهكذا كان عمرو وخالد يشعران أنهما قد احتلا الموقع المناسب وأن كفاءتهما العسكرية والسياسة لم تذهب هدرا أو عبثا. بل كان لهما محل القيادة والريادة بين المسلمين رغم حداثة دخولهما في الإسلام. ويبقى المعنى الأعمق والأشمل بإسلام هذه القيادات وأثر هذا الإسلام على المعسكر المكي الذي بدأ ينهار إثر هذه الضربة القاضية حتى أبو سفيان القائد العام شهد بأم عينه عند هرقل ما قاله قيصر في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت بداية الغزو النفسي له. لقد أهدت مكة إلى المعسكر الإسلامي ثلاثة أبطال من أبطالها وكل بطل ركن في عشيرته فخالد سيد بني مخزوم وعمرو سيد بني سهم، وعثمان سيد بني عبد الدار وصدق فيهم قول رسول اللهق - صلى الله عليه وسلم - لقد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها، فهم قرة عين مكة، وقادتها الكبار ينضمون إلى معسكر النبوة. ولإسلام عثمان بن طلحة أثر فوق هذه الآثار جميعا هو أن مفتاح الكعبة معه، فبنو عبد الدار عندهم حجابة الكعبة، وعثمان بن طلحة قد انتهت إليه هذه المأثرة. وهذا الأمر يهد قريشا هدا فهي تفاخر العرب بالبيت الحرام وأنها حاميته والذائدة عنه فإذا كان حامل مفتاح الكعبة قد غدا جنديا في جيش محمد - صلى الله عليه وسلم - فلقد انتهت ادعاءاتها في الحامية وصار عثمان بن طلحة المسلم صاحب الحجابة هو المسؤول أمام العرب عن حجابة الكعبة ورعاية البيت الحرام كما أن بني هاشم قد انتهت عندهم السقاية والرفادة وليس موقف العباس بتأييده المطلق الواضح لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بخاف عن أحد، وقد رأينا نموذجا من هذا التأييد المطلق في خيبر، حيث لبس حلته وتخلق بطيب، ومضى يطوف حول الكبة ابتهاجا بنصر ابن أخيه محمد عليه الصلاة والسلام. وتبدو صورة هذه المعاني في وقتنا الحاضر حين ينضم الى الحركة الإسلامية من كان يمثل موقعا مهما في المجتمع الجاهلي، كأن يكون سفيرا أو وزيرا أو ضابطا قائدا فكم يكون لمثل هذا الانضمام من أثر على قوة الحركة الإسلامية، وضربة نجلاء في صميم المجتمع الآخر. وحق لهذا العرض أن يكون سمة واضحة في هذه المرحلة من تاريخ الدعوة.

السمة الحادية عشرة: الصدام الأول مع الروم - مؤته

السمة الحادية عشرة: الصدام الأول مع الروم - مؤته قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثة إلى مؤته في جمادى الأولى سنة ثمان واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، فتجهز الناس ثم تهيؤوا للخروج. وهم ثلاثة آلاف. فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلموا عليهم. فلما ودع عبد الله بن رواحة من ودع من أمراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكى. فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم. ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا}. فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة: لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات قرع تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدثي ... أرشده الله من غاز وقد رشدا ثم إن القوم تهيؤوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فودعه ثم قال: فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا إني تفرست فيك الخبر نافلة ... الله يعلم أني ثابت البصر أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر (¬1) وشيعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثنية الوداع، ثم وقف وهم حوله وقال: أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا اغزوا في سبيل الله فقاتلوا من كفر الله لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى إحدى ثلاث. فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم واكفف عنهم. ادعهم إلى الدخول في الإسلام فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم. فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله ولا يكون لهم في الفيء ولا في الغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. ¬

(¬1) السيرة لابن إسحاق ج 3 ص 373، 374.

وإن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟ وإن حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله. ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وستجدون رجالا في الصوامع معتزلين الناس فلا تتعرضوا لهم؛ وستجدون آخرين في رؤوسهم مفاحص (¬1) فاقلعوها بالسيوف. لا تقتلن إمرأة ولا صغيرا ولا كبيرا فانيا، ولا تغرقن نخلا ولا تقلعن شجرا ولا تهدموا بيتا (¬2). قال ابن إسحاق: ثم خرج القوم وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم قال: خلف السلام على امرىء ودعته ... في النخل خير مشجع وخليل ثم مضوا حتى نزلوا معان فبلع الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم. وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلى ثم أحد إراشة يقال له مالك بن زافلة فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره. فنمضي له. فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة. قال: فقال الناس: قد صدق والله ابن رواحة، فمضى الناس فقال عبد الله بن رواحة في حبسهم ذلك شعرا. ثم مضى الناس. حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له: قطبة بن قتادة. وعلى مسيرتهم رجلا من الأنصار يقال له عباية بن مالك. ثم التقى الناس واقتتلوا. فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شاط (¬3) في رماح القوم. ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألحمه (¬4) القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل، فكان جعفر أول ¬

(¬1) المفحص: حيث تجثم القطا وتفرخ، والمقصود عشعشة الشيطان بالفي. (¬2) إمتاع الأسماع ج 1 ص 345، 346. (¬3) شاط الرجل: إذا سال دمعه فهلك. (¬4) ألحمه القتال: نشب فيه فلم يجد مخلصا.

رجلا من المسلمين عقر (¬1) في الإسلام. وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف. وكان في تلك الغزوة غزوة مؤته قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء. ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها عليَّ إذ لاقيتها ضرابها قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم: إن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء. ويقال: إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين. قال ابن إسحاق: (وبالسند السابق): فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم تقدم بها، وهو على فرس فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم قال: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه أن أجلب الناس (¬2) وشدوا الرنة (¬3) ... ما لي أراك تكرهين الجنة قد طال ما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة من شنة (¬4) وقال أيضا: يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد لقيت وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت يريد صاحبيه زيدا وجعفرا، ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق (¬5) من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده ثم انتهس (¬6) منه نهسة، ثم سمع الحطمة (¬7) في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه من يده ثم أخد سيفه فتقدم. ¬

(¬1) عقرها: ضرب قوائمها وهي قائمة بالسيف. (¬2) أجلب الناس: صاحوا واجتمعوا. (¬3) الرنة: صوت ترجيع شبيه بالبكاء. (¬4) الشنة: السقاء البالي. (¬5) العرق: العظم الذي عليه بعض اللحم. (¬6) انتهس: أخذ منه بفمه يسيرا. (¬7) الحطمة: صوت ازدحام الناس وحطم بعضهم بعضا.

فقاتل حتى قتل. ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد. فلما أخذ الراية دافع القوم وحاشى بهم (¬1)، ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف الناس. وقد أورد ابن كثير روايات البخاري والنسائي والبيهقي حول نهاية الغزوة وبعض جزئياتها نسوقها لتستكمل صورة هذه المعركة. وروى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبر فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم. وروى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤته زيد بن حارثة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا في جسده بضعا وتسعين من ضربة ورمية. وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد دق في يدي يوم مؤته تسعة أسياف وصبرت في يدي صفحة يمانية. قال الواقدي حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية بن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، وكشف له ما بينه وبين الشام فهو ينظر إلى معتركهم فقال أخذ الراية زيد بن حارثة فجاء الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت وحبب إليه الدنيا فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا، فمضى قدما حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله وقال: استغفروا له فقد دخل الجنة وهو شهيد، ولما قتل زيد أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت ومناه الدنيا، فقال الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين يمنيني الدنيا، ثم مضى قدما حتى استشهد فصل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيد دخل الجنة وهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فاستشهد ثم دخل الجنة معترضا فشق ذلك على الأنصار فقيل يا رسول الله: ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فتشجع واستشهد ودخل الجنة فسري عن قومه. ¬

(¬1) حاشى بهم: انحاز بهم.

وقال الواقدي حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن أبيه قال: لما أخذ الراية خالد بن الوليد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الآن حمي الوطيس. قال الواقدي وحدثني العطاف بن خالد قال: لما قتل ابن رواحة مساء بات خالد بن الوليد فلما أصبح غدا وقد جعل مقدمته ساقته وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته. وميسرته ميمنته فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين (¬1). لقد كان قدر هذا الجيل أن يواجه أمم الأرض بهذا الدين وها نحن الآن أمام منعطف جديد في تاريخ دولة الإسلام هو الصدام المباشر مع الروم، ويحسن أن لا يغيب عن البال أن السبب لهذه المعركة هو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابة إلى عظيم بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وكان عاملا على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر، فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه (¬2). فالمعركة إذن نتجت عن الدعوة. ومقتل فرد مسلم يعني عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حربا ضروسا مع المعتدين، ولعل هذا المعنى لا يغيب عن أذهان بعض الدعاة الذين يرون أن بالإمكان تجنب المعركة مع العدو إذا سالمناه وعرضنا عليه فكرنا فحسب. إن الصدام مع أعداء الله أمر لا مفر منه. لكن تحديد وقت الصدام وإمكانيته يعود إلى قيادة الجماعة المسلمة. الفقه النبوي يعني أن مقتل جندي مسلم - وهو رسول إلى العدو - إشعال معركة ضارية وقد فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين: الأولى: يوم الحديبية حين بلغه أن عثمان رضي الله عنه قد قتل، وأخذ البيعة من جيشه على الموت وهذه المرة الثانية. فلا بد إذن من توطين الحركة الإسلامية نفسها على المواجهة وهو تأكيد من جهة ثانية على الدرس السابق، على أهمية الفرد المسلم عند قيادته وأن الجيش كله مستعد أن يخوض معركة للثأر له. لكن الملاحظ أن هذا الأمر مرتبط بإمكانيات الجماعة المسلمة على ذلك ففي حالات الضعف كان كل ما يملكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة، أو يدفعهم إلى الذهاب إلى النجاشي الذي لا يظلم عنده أحد، حتى والمسلمون دولة، قد تكون الدولة المسلمة عاجزة عن الثأر لشهدائها فمأساة بئر معونة والتي ذهب ضحيتها سبعون من خيار المسلمين لم يتمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الثأر لهم إلا بعد لأي. لكن المعنى الأساسي يبقى ثابتا في التحام الصف المسلم، وقيمة الجندي فيه - إنه ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير ج 4 ص 245، 246. (¬2) الرحيق المختوم 435.

حين تكون الظروف مواتية. فلا يجوز أن يذهب دم الشهيد هدرا، ولا بد أن يثأر له. ونقف أمام هذا العدد الضخم الذي تحرك للقاء الروم، فلم يتحرك جيش خارج المدينة أكثر من ألف وخمسمائة مقاتل، وأكبر جيش حشده المسلمون داخل المدينة هو جيش الخندق وكان قوامه ثلاثة آلاف مجاهد، وها هو الجيش الإسلامي يتحرك اليوم مغادرا المدينة إلى الشام بثلاثة آلاف مجاهد، وهنا نشير إلى الفتح المبين في الحديبية. حيث تضاعف عدد الجيش الإسلامي بعد الحديبية بسنة ونصف على التقريب. وبدأت تظهر أسماء جديدة لم تكن تعرف من قبل فقائد ميمنة المسلمين في الحديبية قطبة بن قتادة وهو من بلى وهذا معنى مهم إذ القبائل التي تواجه المسلمين فيهم تجمع كبير من هذه القبيلة. ونضيف في الحديث عن هذا الحشد إلى شعور الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخطورة المواجهة مع دولة عظمى، فلن يصلح لهذه المواجهة عدة مئات. ويؤكد هذا المعنى كذلك تعيين الأمراء الثلاثة فلم يسبق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلال المراحل السابقة أن عين أكثر من أمير على الجيش لكنه كان يعلم عليه الصلاة والسلام بما أوحى الله تعالى إليه أن الأمراء يلقون مصرعهم في هذه المعركة. ولقد أدرك اليهود هذا المعنى حيث قال أحدهم: (إن الأنبياء في بنى إسرائيل كانوا إذا سموا الرجل على القوم فقالوا إن أصيب فلان ففلان. فلوا سموا مائة أصيبوا جميعا ثم جعل يقول لزيد: اعهد فإنك لا ترجع أبدا إن كان محمد نبيا قال زيد: أشهد أنه نبي صادق) (¬1) وقد يقول قائل كان بإمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجنب هذه المواجهة مع العرب الغساسنة في الشام لكن الصورة المقابلة كذلك إن قتل هذا الرسول ولم يثأر له. فقد يدفع عرب الشام مع الروم إلى غزو المدينة. وكثيرا ما يكون الهجوم وسيلة ضخمة من وسائل الدفاع عن النفس. وإذا كانت قوة الجيش تقاس بمعنوياته. فلن نجد أقوى من هذا الجيش والأصل أن يكون المسلمون اليوم في هذا الاتجاه عندهم بعض الخوف والتردد فهم يقدمون على حرب في البلقاء على تخوم الروم، واحتمال المواجهة واردة معهم. ولم يسبق لهم رصيد من التجربة في الحرب مع الروم أو الفرس والدولتان الكبريان آنذاك تتقاسمان الأرض ومع ذلك فقد كان أحد القادة الثلاث يبكي وقد حضره المسير، ولم يكن سبب بكائه جزعا من الموت إنما كان خوفا لما بعد الموت، خوفا من النار التي يرد عليها الناس جميعا: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا} وتصور الناس أن الدعاء بالسلامة هو الذي يثلج الصدر فقالوا له ولإخوانه: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين. فكان جواب القائد الشاعر ابن رواحة ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير ج 4 ص 241 عن البيهقي.

طلب الشهادة في أرض الشام والمغفرة. هذه نفسية الجيش وقيادته قبل التحرك. وكانت أزمته الثانية عندما بلغه التجمع الهائل وهو في معان وهو وجود حوالي مائتي ألف من العرب والروم قد تهيؤوا للقائهم ومضوا يناقشون الأمر وقالوا: نكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره ولم يكن من بين الحلول المطروحة أن يعودوا إلى المدينة. وكل ما يخشونه أن تكون المواجهة مغامرة غير جائزة أن يواجهوا هذا العدد الضخم بقوتهم الضئيلة. وما أعتقد أن جيشا في الأرض لا تنهار معنوياته أمام هذه المواجهة وبينهم هذا الفارق في العدد والعدة ولكن هذا الدين الذي ضرب جذوره في أعماق هذه العصبة المؤمنة، جعل منهم نموذجا آخر لا يبارى في التاريخ وجعل لدى الجيش تلك الأرضة التي تقبل قول الأمير الشاعر ابن رواحة رضي الله عنه. (والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة). وأمكن لهذه الكلمة أن تفعل في الجيش كله فعل السحر، وانطلق الجيش للمواجهة قائلين قد والله صدق ابن رواحة. إن فكرة الشهادة والأمل برضوان الله تعالى ودخول الجنة قد أثبت التاريخ عمليا أنها أقوى دافع في هذا الوجود للمواجهة والموات. لأن المسلم على يقين أن ما عند الله خير وأبقى للمسلم من كل شيء فلا يتوانى لحظة واحدة عن الإقبال على الموت تغمره السعادة ويحدوه الرضا بقضاء الله وقدره. وكلا الأمرين لا يدري أيهما أحب إليه النصر أو الشهادة. وهذه الروح المعنوية التي رافقت الجيش المسلم في كل معاركه هي التي رجحت كفته دائما على عدوه. ودانت له الأرض بسبب ذلك. وكانت الأزمة الثالثة العنيفة لحظة المواجهة؛ أو المفروض أن تكون الأزمة لكن الروح المعنوية العالية، على ما تذكر الروايات، لم تفارق الجيش وهو بعدده الضئيل أمام ذلك الجيش العرمرم وكانت القيادات من الكفاءة بحيث تتسابق أمام جنودها على الموت. وكأنما هي تتجهز له تجهز العروس لعروسه. (قال ابن إسحاق: ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شاط في رماح القوم.)

ومقتل قائد واحد خلال لحظات قليلة كفيل أن يعيد النظر في المواجهة حيث كان الأمر الثاني جعفر بن أبي طالب. لكن شوق الجنة هو الذي حدا بجعفر رضي الله عنه أن يقتحم عن فرسه الشقراء ويتراقص فرحا بالجنة وهو يواجه العدو: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها عليَّ إذ لاقيتها ضربها واستشهد القائد الثاني فجرى بعض الفتور في هذه الروح المعنوية عند ابن رواحة، وكان الفرق واضحا بين طلبه الشهادة وهو في المدينة وبين معاينتها وهو في مؤتة. لقد كانت الرؤى الشعرية الوجدانية عنده أقوى من الواقع العملي. فراح يبرز خلجات نفسه في هذا الحديث الرائع أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه قد طال ما قد كنت مطمئنة ... مالي أراك تكرهين الجنة ولم يكتف بهذا الحديث النفسي، فراح ينقل حديثا آخر: يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد لقيت إن تفعلي فعلهما هديت ... أو تعرضي عنهم فقد شقيت ولكن مهما تزعزع القائد إذا كان له من إيمانه ما يعصمه. فلابد من الثبات بعد ذلك وهذا ما جرى لدى ابن رواحة فقد طغى التدفق الإيماني عليه، وانخرط في القتال حتى قضى شهيدا في سبيل الله. وكانت الأزمة الأخيرة، وهذه الروح المعنوية العالية كفيلة أن تحطم أي روح مهما سمت، وبعد مقتل الأمراء الثلاثة وانتهاء القيادة من المعركة. لم يعد إلا ذبح هذا الجيش كله. فمن هؤلاء من مضى لائذا بالفرار إلى المدينة لكن أكثرية الجيش عادت فتمالكت. وأخذ الراية ثابت بن أقرم رضي الله عنه، وهو يحس بثقل الأمانة. (وصاح: يا للأنصار. فأتاه الناس من كل وجه وهم قليل، وهو يقول: إلي أيها الناس فلما نظر إلى خالد بن الوليد قال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه أنت أحق به، أنت رجل لك سن، وقد شهدت بدرا قال ثابت: خذه أيها الرجل. فوالله ما أخذته إلا لك فأخذه خالد ..) (¬1) وهكذا استطاع هذا الجيش المسلم أن يواجه ذلك البحر المتلاطم من البشر بتلك الروح ¬

(¬1) امتاع الأسماع ج 1: 348.

المعنوية العالية التي لم يرو لها التاريخ مثيلا إلا في المحضن الإسلامي. والذي نؤكده بحمد الله عز وجل أن هذه الروح المعنوية العالية بقيت خلال خمسة عشر قرنا في الأجيال الإسلامية يرثها الجيل بعد الجيل. وما تنبت فئة مؤمنة بالإسلام إلا ووجدت في صفوفها هذه الروح، حتى جيلنا المعاصر. فلم يعرف تاريخ الحركات السياسية اليوم بطولة نادرة واستبسال منقطع وضحايا في سبيل الهدف كما عرف تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة. وثرى فلسطين وأفغاسسان وحماة هي أصدق شاهد على ما نقول. وإذا كان جيش العقيدة بهذه الروح المعنوية العالية فهو جيش المبادىء التي بقيت معلما للبشرية خلال تاريخها الطويل حتى صحت البشرية اليوم ووضعت مبادىء في أصول الحرب، لم ترتفع بعد إلى المستوى الإسلامي فوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - للجيش المعد لمقابلة أمم الأرض. توضح أن الهدف الأعظم فيه هي نشر هذه العقيدة وإبلاغ هذا الدين على يد هذه العصبة المؤمنة التي هيأها الله تعالى لذلك. (فادعهم إلى الإسلام فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم) ليس الأمر طمعا في مال أو أرض أو جاه إنما دعوة الناس إلى الدخول في دين الله. وحين يحال بين الناس وبين دين الله فلا أقل من ألا يحال بينهم وبين شريعة الله والخضوع لهذه الشريعة من خلال الجزية كاف لإنهاء الحرب والكف عن الدماء. وما لم يكن هذا ولا ذاك، فمن يحارب شرعة الله تعالى يحارب، ولا يجوز لجيش المبادىء أن يخالف المبادىء التي انطلق لتحقيقها والدعوة إليها ومن أجل ذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الجيش عن الإخلال بهذه المبادىء قائلا: (لا تغدروا ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدا ... وستجدون رجالا في الصوامع معتزلين الناس فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلن امرأة ولا صغيرا ضرعا ولا كبيرا فانيا) (¬1). فهؤلاء الذين نشدوا السلامة وهجروا الحرب كالوليد والمرأة والشيخ الفاني والمتبتل للعبادة. ليس هم الإسلام القضاء عليهم بل هو يحارب من أجلهم، ويقاتل الذين يشرعون سيافهم ورماحهم في وجه هذه العقيدة وهذه الشريعة، ويحولون بين الناس وبين دين الله وشرعته. ولا يقتل من المدنيين إلا دعاة البغي والانحلال (وستجدون آخرن في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف). وهؤلاء الذين انطلقوا في الأرض وابتعثهم الله ليخرجوا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ليسوا أوصياء على البشرية حين تستجيب لهم البشرية، ولا يعني براءتهم من الخطأ، وأنهم الناطقون باسم الله، بل هم بشر ممن خلق ومن أجل هذا يدعوهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ينزلوا الناس على ذممهم لا على ذمة الله ورسوله، وبذلك يكون الخطأ عليهم لا على هذا الدين الذي ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1: 349.

مضوا يدعون إليه - صلى الله عليه وسلم - ويدعوهم إلى أن ينزلوا الناس على حكمهم لا على حكم الله ورسوله (فإنك لا تدري أتصبب فيهم حكم الله أم لا). وبذلك يلتصق الخطأ بالإنسان لا بعقيدته، بالقائد لا بدينه. وهكذا نرى أن هذا الجيش المسلم هو كتيبة دعاة حضرت إلى أرض الشام لتتابع رسالة المسلم الشهيد الذي قضى نحبه وهو يبلغ رسالة رسول رب العالمين. ولا نستطيع ونحن نتحدث عن مؤته إلا الوقوف عند أبطالها الكبار. فلقد كان زيد رضي الله عنه مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أخص خاصته. فلقد كان حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له حبا مشهورا عند الصحابة جميعا فيطلقون على ابنه أسامة الحب ابن الحب. وهو أول مولى على الأرض أشرق قلبه بنور الإسلام، والمهمات الصعبة كانت عليه، فهو المكلف بعد بدر بإحضار أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قلب مكة، وحين يحدق الخطر في أشد أهواله، فليكن رجل المهمات الصعبة على رأسه، وحين يقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه المخاطر أحب الناس إليه، لا يضن الناس بمهجهم وأرواحهم بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام. وكان الرجل الثاني ... طرازا رفيعا من الرجال. إنه جعفر بن أبي طالب، الذي شهدناه داعية إلى الله عز وجل في الحبشة، ورئيس الجالية الإسلامية فيها، وأكرمه الله تعالى أن تسلم الملوك على يديه فهو الذي أوضح الإسلام للنجاشي، فاعتنقه، ولم نشهده إطلاقا مقاتلا في معركة، إنه سفير فوق العادة لفترة خمسة عشر عاما خلت في أرض الغربة لسانا ووطنا ودينا، إذا به اليوم قائد معركة. وليس في الإسلام ذلك الخط الفاصل بين السياسي والجندي والقائد. فكل مسلم هو جندي في المعركة مهما علت مرتبته واختلفت وظيفته، ولا ننسى أنه لم يمر على انضمام جعفر للصف الإسلامي في المدينة السنة، أو تزيد قليلا عن ذلك فقد وصل خيبر بعد الفتح، وكانت خيبر في ربيع الأول لسنة سبع وكانت مؤتة لجمادى الأولى سنة ثمان. عام واحد فقط. متع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه برؤية حبيبه جعفر، ويكفي أن نعرف مبلغ حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجعفر، بعد غربة خمسة عشر عاما عنه. إن رؤيته له كانت تعادل هزيمة اليهود، فقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر) وعلى شدة هذا الحب، وعلى طول تلك الغربة، عندما لاحت بوارق الصدام مع الروم فكان الرجل الثاني لذلك جعفر بن أبي طالب، وكان الدرس العملي، الأضخم أن يكون المولى زيد بن حارثة أميرا على جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي. وقد شهدنا جعفر رضي الله عنه يمضي من أرض الغربة إلى أرض الغربة فيسلخ قرابة

نصف عمره فيها، وحين يحين القتال، وهو لم يخض معركة من قبل قط، يبدي من ضروب البسالة والقوة والمقاومة ما تتصاغر أمامه الصناديد الأبطال، يأخذ الراية بيمينة فتقطع، ثم يأخذها بشمال فتقطع، ثم يأخذها بعضديه، ثم يسقط شهيدا وقد أفضى إلى ربه وقد انشق نصفين، فلم يجد إخوته المؤمنون حرجا أن ينظروا إلى عدد طعناته ورمياته فكانت تسعين ما بين ضربة سيف وطعنة رمح. وكان لا بد لأنصار الله ورسوله من أن يشاركوا في هذا الشرف العظيم على مستوى القيادة فكان الأمير الثالث هو شاعر الإسلام العظيم عبد الله بن رواحة. وأن تكون قيادة الجيش بين مولى وسفير وشاعر، ليؤكد أن طاقات الإسلام كلها في خدمة المعركة. وأن وقودها في حالة الخطر هو كل شباب الإسلام. وحافظ ثابت بن أقرم الأنصاري بعد عبد الله بن رواحة الأنصاري على الراية حتى دفعها في صدر خالد بن الوليد. وإذا كانت الغرابة عندنا أن ينضم جعفر رضي الله عنه وهو من أوائل من أسلم إلى جيش مؤتة بعد سنة من عودته. لكن الأغرب أن يكون خالد بن الوليد في هذا الجيش ولما يمض ثلاثة أشهر على انضمامه للصف الإشلامي بعد حرب عشرين عاما ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلقد أسلم في صفر ثمان للهجرة. وتحرك للحديبية في جمادي الأولى سنة ثمان للهجرة كذلك، أي أنه أمضى في مدرسة النبوة فقط شهر ربيع الأول وربيع الثاني وبقايا صفر وجمادى. هذه هي كل حياته في الصف الإسلامي، ولو كان في الحركة الإسلامية اليوم لما حق له أن يوجه أسرة بله يقود معركة. لقد مضى خالد رضي الله عنه بعزيمة الرجال يريد أن يطوي تلك الصفحة السوداء من حياته ليكتب صفحة جديدة من نور تغسل تلك الصورة القاتمة عن ماضيه في الصد عن سبيل الله، ومن أجل ذلك فما أن لاحت بوارق التعبئة لمؤته حتى كان من أوائل المنضمين لهذا الجيش. ونفسه تتوق إلى تلك اللحظة التي يشهر فيها سيفه في سبييل الله. ولكنه قدر الله تعالى الذي ادخر هؤلاء الرجال لهذه الأزمات ... لم يكن يدري ابن الوليد أنه سيكون في موقع الاختبار ومنذ اللحظات الأولى، في موضع لقيادة العليا في الجيش، والغريب أن الذي اختاره لذلك هو أنصاري بدري ورضي المسلمون بذلك. وكانت مفاجأة مذهلة لخالد، هكذا وبكل هذه البساطة يغدو قائدا لجيش محمد عليه الصلاة والسلام، ويسلمه القيادة واللواء الأنصاري البدري ثابت بن أقرم، بل لم يدع المسلمون له لحظة اعتذار، فهو بطل المرحلة، والجيش الآن على أتون المذبحة الرهيبة بين يدي الروم لقد دفع إليه اللواء. والمسلمون معدون للفناء بسيوف الروم.

وظهرت معادن الرجال. وبطولات الرجال، وعبقريات الرجال. ويا لعظمة هذا الدين. خالد الذي هم قبل عام ونصف أن ينقض على محمد - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العصر في الحديبية لينهي هذا الصابىء وجنده- على حد زعمه- يطلب منه الآن وبعد أقل من ثلاثة أشهر من إسلامه أن ينقذ جيش محمد صلوات الله وسلامه عليه من المذبحة المحتمة مذبحة الروم. وخالد الذي انقض فعلا على محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل خمس سنوات من الخلف وحطم النصر المؤزر الذي حققه المسلمون يطلب منه اليوم أن يعيد الكرة، فينقذ الجيش المنهزم المعروض للذبح من الفناء. مع فارق واحد هو إن جيشه الذي استعاد النصر فيه في أحد كان أربعة أضعاف جيش محمد - صلى الله عليه وسلم - بينما يطلب منه الآن أن يستعيد النصر بجيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل على جيش قوامه مئتي ألف أي يطلب منه أن يستعيد النصر على جيش يبلغ سبعون ضعفا من جيشه على التقريب ومع ذلك، فقد تحقق النصر، وفتح الله تعالى على يديه. إن روايات السيرة تذكر إنه نجا بالجيش وفر فيه، لكن أصح الروايات، والتي سقنا ثلاث روايات منها في البخاري فقط، تؤكد أن فتح الله تعالى قد تم على يديه، وأن الروم قد هزموا هزيمة منكرة، بعد أن استعمل حيلته الحربية البارعة في فت عضد الروم بتغير مواقع جيشه. ويجمع ابن كثير رحمه الله بين روايات السيرة التي تؤكد خروج أطفال المدينة لملاقاة الجيش بالحجارة لأنهم فروا من المعركة وبين روايات البخاري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بانتصار المسلمين في أن فصيلة من هذا الجيش وفيها عبد الله بن عمر رضي الله عنه قد فرت بعد أن أطبق الموت عليها ونجت بأنفسها إلى المدينة، أما أكثرية الجيش فقد بقيت في أرض المعركة تذود عن حمى الإسلام، واستحق خالد رضي الله تعالى عنه في هذه المعركة أرفع وسام في الجيش الإسلامي، وأعلى رتبة ولم ينل هذا الوسام أحد بعده ولا أحد قبله، أعلنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر. فقال: (وأخذ الراية سيف من سيوف الله سله الله تعالى على المشركين، جعل الله النصر على يديه) إنها لقفزة هائلة في الميدان العسكري من جندي عادي مغمور إلى قائد فذ يقلده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الوسام، ومضى معه حتى لقي به العرب والفرس والروم، فقال له قائد جيش الروم في اليرموك: هل أنزل الله سيفا من السماء فأعطاكه. فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟ ولم ينزل الله تعالى سيفا من السماء. بل أنيت هذا السيف من صلب الوليد بن المغيرة الذي هجاه الله تعالى في كتابه، ونقله بعد عشرين عاما من قلعة الشرك إلى قلعة الإيمان. فإذا معادن الرجال تبرز صارمة صارخة كما يقول عليه الصلاة والسلام: الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري في باب المناقب، ومسلم كذلك.

وتبدو أهية هذه السمة في هذه المرحلة في أنها كانت توطئة للفتح الأعظم في مكة، وكانت كذلك تهيئة للقبائل العربية أن تنضم للإسلام. ولا شك أن ارتفاع معنويات المسلمين قد بلغ الذروة بعد غزوة مؤتة. حيث حدثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفتح الذي تم على يد خالد رضي الله عنه على المنبر، وقبل وصول الجيش الإسلامي من مؤتة. وعاشت المدينة أفراح النصر وآلام الضحايا في لحظة واحدة. وكان أطفال المدينة من اليقظة والوعي ما يضاهئون به يقظة ووعي أبطال الأرض، فمع الحيصة الأولى كانوا يقذفون الفصيل المنهزم بالحجارة ويقولون: أنتم الفرار في سبيل الله، ولم يخفف من وطأة هذا الهجوم إلا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم: بل أنتم الكرارون إن شاء الله، ومع ذلك فقد عاشوا جوا من الهم والقلق. رغم عذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بينما خرج الأطفال أنفسهم يشتدون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقبلون الجيش المنتصر وعلى رأسه سيف الله المسلول خالد بن الوليد. والحركة الإسلامية اليوم بحاجة إلى أن تتدبر هذه المعاني العظيمة في هذه المعركة. وتبحث عن أفذاذ الرجال الذين يعدل الواحد منهم الألف بل المائة ألف. والذين غمروا أو حالت الظروف دون بروزهم وظهورهم، وقد يكون بين خصومها الأقوياء من يدخره الله تعالى ليكتب نصره على يديه فما ندري؟ إذ ما الذي يمنع من أن تتكرر تجربة أفلاذ كبد مكة مرة ثانية. ولعل في رجالها وشبابها المنتثرين في أراضي الغربة في أوربة وأمريكا من هو مؤهل لمثل هذه المواقع، وما أحوج الدعوة إلى أمثال جعفر الطيار، وسيف الله ابن الوليد. لقد قال الله تعالى للمؤمنين الغاضبين الحانقين يوم صلح الحديبية: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ..} (¬1). وتحقق موعود الله بالثورة الإسلامية التي قادها أبو بصير رضي الله عنه، وأنقذ الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات، وشاء قدر الله تعالى أن تتأجل المعركة كذلك رغم هم وغم المسلمين ثم كان الوعد الآخر. {.. ليدخل الله في رحمته من يشاء} (¬2). وأدخل الله في رحمته بعد الحديبية هذه النماذج خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} (¬3). إنها الأقدار .. ولعل أقدار الحركة الإسلامية في هذا الجيل حين يبطىء النصر. وتدلهم المحنة، ويفدح الخطب. أن تكون إرهاصات لأن يدخل الله في رحمته من يشاء. فيكون منعطفا في تاريخ الأمة والحركة، وينقذ الله تعالى الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات. من براثن الكفر وأيدي ¬

(¬1) و (¬2) و (¬3) الآية 25 من سورة الفتح.

الطغاة فيشاركون في معركة الحق الأبلج .. ويكونون الوقود الأساسي لمعارك الإسلام وهم عشرات الألوف. وفي أعقاب مؤتة وعلى خطاها كانت غزوة ذات السلاسل، وكان بطلها فلذة كبد مكة الثاني عمرو بن العاص (وقد ذكرها الحافظ البيهقي ها هنا قبل غزوة الفتح فساق من طريق موسى بن عقبة وعروة بن الزبير قالا: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من مشارف الشام في بلى وعبد الله ومن يليهم من قضاعة. قال عروة بن الزبير وبنو بلى أخوال العاص بن وائل، فلما صار إلى هناك خاف من كثرة عدوه فبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمده فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين الأولين فانتدب أبو بكر وعمر في جماعة من سراة المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، وأمر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة بن الجراح. قال موسى بن عقبة، فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم وأنا أرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استمده بكم. فقال المهاجرون، بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أمير المهاجرين. فقال عمرو: إنما أنتم مدد أمددته. فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان رجلا حسن الخلق لين الشكيمة - قال: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قال: إذا قدمت إلى صاحبك فتطاوعا. إنك إن عصيتني لأطيعنك فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص. قال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان عن يزيد بن رومان أن أبا عبيدة لما آب إلى عمرو بن العاص فصاروا خمسمائة فساروا الليل والنهار حتى وطىء بلاد بلى ودوخها. وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان بهذا الموضع جمع فلما سمعوا بك تفرقوا حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلى وعذرة وبلقين. ولقي في آخر ذلك جمعا ليس بالكثير فاقتتلوا ساعة، وتراموا بالنبل ساعة، وحمل المسلمون عليهم فهزموا، وأعجزوا هربا في البلاد وتفرقوا ودوخ عمرو ما هناك وأقام أياما لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه. وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاة والنعم فكانوا ينحرون ويذبحون. ولم يكن في ذلك أكثر من ذلك. ولم تكن غنائم تقسم. وقال أبو داود عن .. عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عمرو وصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال: فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} (¬1) فضحك نبي الله ولم يقل شيئا. وقال الحافظ البيهقي عن أبي عثمان النهدي سمعت عمرو بن العاص يقول: بعثني رسول ¬

(¬1) النساء (29).

الله - صلى الله عليه وسلم - على جيش ذات السلاسل وفي القوم أبو بكر وعمر، فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده، قال فأتيته حتى قعدت بين يديه قلت: يا رسول الله! من أحب الناس إليك، قال: عائشة. قلت: إني لست أسألك عن أهلك قال: فأبوها، قلت: ثم من قال: عمر، قلت: ثم من؟ حتى عدد رهطا. قال. قلت في نفسي لا أعود أسأل عن هذا. وقد خرجاه في الصحيحين، وفي رواية: فسكت مخافة أن يجعلني آخرهم (¬1). فقد كانت ذات السلاسل على غرار مؤتة وللهدف نفسه. ونجد هنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختار عمرو مباشرة ليعجم عوده في الخط الإسلامي، وبطبيعة عمرو الحذرة الداهية طلب المد حيطة لما بلغه من كثرة العدو، وكان مددا من خيار أهل الأرض فمعظمهم من المهاجرين الأولين وأمر عليهم أبو عبيدة وفيهم أبو بكر وعمر. إنها ليست معركة، أو ساحة تدريب، إنها مدرسة تربوية فذة يشهد فيها عمرو بن العاص ابن الثلاثة أشهر في حضن الإسلام. كيف يمد بخيرة أهل الأرض أبي بكر وعمر، ويشمخ أنفه أن يكون أميرا على الذين أمضوا قرابة عشرين عاما في حضن الدعوة، ولا يرضى أن يكون تبعا لأبي عبيدة وعظمة أبي عبيدة وسماحته ووصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له أن لا يختلفا دفعته للقول: لئن عصيتني لأطيعنك، وسلم إمرة الجيش لعمرو بن العاص الذي كان قبل فترة وجيزة يخطط لضرب عنق رسول محمد - صلى الله عليه وسلم - في الحبشة. ومن حيث الحرب فلقد أبدى إمكانات فائقة ونفذ الهدف المرسوم كله ووطىء أرض قضاعة إذ كان مهيأ لذلك فأمه أو أخواله من بلى من قضاعة. إن أحداث المعركة وتحقيق أهدافها العسكرية لا يعنينا كثيرا بمقدار ما يعنينا بناء هذا الصف المسلم. هذا الصف الذي دخله من جديد أفواج ضخمة بالألوف وفيهم من الشخصيات النابهة أمثال خالد وعمرو. إنه مجتمع يبنى بسرعة فائقة. ويعد لحرب طاحنة فيما بعد فلا بد أن ينصهر هذا المجتمع الجديد، وتتمكن القاعدة الصلبة الأولى أن تضم هذه العناصر الجديدة، وتتكيف معها وتكيفها مع الإسلام، لا بد أن يقوم الرعيل الأول بالتجارب الرائدة الفذة، بالإيثار المطلوب، بالتضحية المناسبة بالبعد عن مراكز الشهرة ليتيح للطاقات الجديدة أن تأخذ مداها وحجمها وتبرز مكنون مواهبها. واستطاعت هذه القاعدة الصلبة التي لم تكن تتجاوز ثلاثة ألاف أن تفتح صدرها لثلاثة ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير ج 4 ص275،276.

أضعافها خلال هذين العامين، وسرعة هائلة امتصت هذه الطاقات دون أن يقع الصراع، أو يقع التصادم، أو تبرز الأنانيات، والصراع على السلطة فيكون أبو بكر وعمر وأبو عبيدة رضي الله عنهم جنودا تحت إمرة عمرو بن العاص. نكتب هذا الكلام وتقف الذاكرة عند واقع الحركة الإسلامية المعاصرة لتنهج هذا النهج وإني لأتصور بعض قادة الكفر وقد هداه الله تعالى للإسلام. كيف تكون نظرة الشباب المسلم الحادة له، وتبالغ في الصفاء والنقاء والحديث عنه لدرجة تتهم فيها قيادة الحركة بممالأة الأعداء والانطلاق في تيار الاحتواء. وأتصور كذلك هذه العواطف الصادقة، وقد شهدت مثل حادثة الصلاة التي صلاها عمرو رضي الله عنه. حتى ليصلي بعد التيمم، ويظهر أن الأمر لم يكن واضحا للقاعدة الإيمانية بجواز التيمم على الجنابة، ومن أجل هذا كان الأمر مستغربا، ووصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسأله: أصليت بالناس وأنت جنب؟ ومن ظاهر جواب عمرو رضي الله عنه أنه اجتهد دون الاستناد على حكم ثابت بجواز التيمم عن الجنابة ولذلك ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتماده على قول اله عز وجل {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} وضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئا. لقد أقر عمرا على اجتهاده وليس ضحكه إلا دعابة له وموافقة على سلوكه. أقول لو جرت مثل هذه الحادثة في الصف المسلم اليوم، وأقدم قائد حديث العهد بالإسلام على هذا الأمر فصلى بالناس وهو جنب لاتهمت قيادة الجماعة بالكفر البواح ولخرج أكثر الصف على هذه القيادة. فالحركة الإسلامية اليوم تعاني أزمة ثقة ضخمة بقياداتها والأصل أنها تضعها موضع الشبهة والظنة والتهمة، في صلاتها مع خصومها. وما أحوج شباب الحركة الإسلامية الذين هم وقود معاركها، أن يفتحوا صدرهم لمثل هذه الحادثة من السيرة، ويروا أكبر أعداء الإسلام، قد صار بعد ثلاثة أشهر من إسلامه أميرا على المهاجرين الأولين وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وأمثالهم، ثم يصلي بالناس على جنابته بعد التيمم ويقتدي به الهاجرون الأولون. إن هذه التجربة الرائدة في تاريخ الأمم ما كانت لتنجح في إضافة ثلاثة أضعافها ونيف خلال سنتين وتأخذ هذه الأعداد موقفها الحقيقي في الصف وتقدم كل طاقاتها في سبيل الله، لو لم تكن القاعدة الصلبة الأولى على المستوى المطلوب من الانضباط والالتزام والطاعة والصبر والإيثار والتفاني في سبيل الله وغياب الذات.

ونحن لا ننفي إطلاقا بل نقول إن الدور الأضخم والأكبر الذي ساعد هذه القاعدة على تمثل هذه العناصر الجديدة هو شخص القائد الأعظم محمد - صلى الله عليه وسلم - الموحى إليه من الله تعالى، ومن أجل ذلك لا يقف الجندي المسلم ليفكر لحظة في مناقشة الأمر طالما أنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنه يفكر في كيفية التنفيذ وسرعته في التو واللحظة. فأبو عبيدة رضي الله عنه لم يقف ليوازن كثيرا نتائج تنازله عن الإمرة لعمرو، واحتمالات أخطائه الكثيرة وهو الجديد على الإسلام، بل كانت وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منارا هاديا له: (لا تختلفا، تطاوعا). فاستجاب على التو وقال. لئن عصيتني لأطيعنك. وتبدو أهمية التربية لهؤلاء القادة الكبار الذين انضموا للصف الإسلامي من جديد من خلال العرض الأخير الذي عرضه لنا عمرو رضي الله عنه، إذ حدثنا صراحة أن إمرته على أبي بكر وعمر وأمثالهم جعلت لديه غرورا بأنه أفضل من هؤلاء جميعا. أو على الأقل أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم، ولكي يؤكد هذا المعنى. يأتي ليسأل نبي الله عليه الصلاة والسلام عن أحب الناس إليه. وكان يتوقع الجواب أن يكون هو ذلك الإنسان فإذا به يفاجأ بأن أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد عائشة زوجه هو جنديه الذي كان تحت إمرته أبو بكر وجنديه الذي كان تحت إمرته عمر، وجنديه الذي كان تحت إمرته أبو عبيدة، وعدد رهطا من الصحب، واستحيا عمرو من ذكر هؤلاء الرهط حتى توقف عن الاستفسار خشية أن يكون آخرهم، وكان لا بد أن يتلقى عمرو في مدرسة النبوة هذا الدرس الشديد حتى يفرق بين المهمة المحددة والموقع الأصيل، يفرق بين التكليف والإكرام وبين الثقة بالمجاهدين الأولين الذين أمضوا حياتهم وأفنوا عمرهم في سبيل الله. واكتفى بهذه الإجابات لتجعله ضمن المدى الذي حدد له، ورضي الله عنهم أجمعين. فلم يغضب ولم تتحرك الجاهلية في كيانه، بل أصبح لاحقا بهذا الرعيل، فيقدم لنا ذاته بخطأ تصوره وعظمة إكباره للشيخين أبي بكر وعمر، وإخوانهما من المهاجرين الأولين. وليستفد الشباب المسلم من هذا الدرس كذلك، وليضعوا ذاتهم خلفهم وليتقبلوا تقويم قيادتهم لهم في المهمات والملمات دون أن يضعوا أنفسهم فوق ما يستحقون ودون أن يحملوا على قيادتهم حين لا تستجيب لأهوائهم كما يشتهون. ونعرض أخيرا هذه الجوانب الجزئية كلها لتنضم في إطار هذه السمة التي لاحظنا خطوطها العريضة في مواجهة الروم، وفي بناء الصف الداخلي المتلاحم المذهل، وأن هذه التوطئة قد كانت إيذانا بالتوجه نحو مكة لتحقيق الفتح الأكبر، وكان جنود المرحلة الأولى كأنما كلف كل واحد منهم بالعديد من إخوانه يثقفه فقها ويربيه سلوكا. وينصحه قدوة ويبنيه مسلما مخلصا

خالصا من براثن الجاهلية لتتسع القاعدة الصلبة المتجهة إلى مكة إلى عشرة آلاف مقاتل. والحركة التي تعجز عن استيعاب عناصرها الجديدة، سوف تنفصم وتتشرذم إلى جماعات عدة. وحركتنا الإسلامية التي تعاني من هذا الداء العضال، يحسن أن تفقه هذا الدرس وتخطط للاستيعاب الحقيقي للطاقات الجديدة الفتية. قبل أن تأكلها هذه الطاقات وتقضي عليها. بدل أن تكون البنيان المرصوص الجديد. ***

السمة الثانية عشرة: نصر الله والفتح: فتح مكة

السمة الثانية عشرة: نصر الله والفتح: فتح مكة قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بعثه إلى مؤته جمادى الآخرة ورجبا ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له الوتير: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة وكانت في عقده وعهده خرج عمرو بن سالم الخزاعي ثم أحد بني كعب حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس. فقال: يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا فانصر رسول الله نصرا أعتدا ... وادعو عباد الله يأتوا مددا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا ... وسجدا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نصرت يا عمرو بن سالم ثم عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنان من السماء فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ... ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته عنه: فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني. قالت: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلمه فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وعنده فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنها وعندها حسن بن علي غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في جاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا. فاشفع لي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بني ذاك أن يجير بين الناس إذ ما يجير أحد على رسول

الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني قال: والله ما أعلم لك شيئا يغنيك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا. قال: لا والله ما أظنه. ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره وانطلق فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته، فوالله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو، ثم جئت عليا فؤجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري أيغني ذلك شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا قالوا: ويلك إن زاد الرجل على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت. قال لا والله ما وجدت غير ذلك. تجهيز الرسول لفتح مكة: وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاز وأمر أهله أن يحهزوه فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أي بنية: أأمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فقال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ. وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، فتجهز الناس. كتاب حاطب إلى قريش: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة ابن الزبير وغيره من علمائنا قالوا: لما أجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة ... وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما صنع حاطب. فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم. فخرجا حتى أدركاها (بالخليقة، خليقة بني أبي أحمد) فاستنزلاها فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه فأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا حاطبا فقال: يا حاطب ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله أما والله إنني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت وما بدلت، ولكني كنت امرءا ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليه. فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنزل الله تعالى في حاطب: {يا أيها الذين آمنوا لا

تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ..} إلى قوله {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ..} (¬1) إلى آخر القصة. خروج الرسول في رمضان: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس قال: ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسفره واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين بن عتبة بن خلف الغفاري وخرج لعشر مضين من رمضان فصام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر، ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين فسبعت سليم، وبعضهم يقول: ألفت، وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأوعب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرون والأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد فلما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلم يأتهم خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يدرون ما هو فاعل، وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به، وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض الطريق. هجرة العباس: قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه راض، فيما ذكر ابن شهاب الزهري. إسلام أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية: وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله أيضا بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك، قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فقد هتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال، قال: فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بنيا له. فقال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيدي بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا فلما بلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رق لهما ثم أذن لهما فأسلما. قصة إسلام أبي سفيان على يد العباس: فلما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب: فقلت: واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه؛ إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر قال: فجلست على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاء، فخرجت عليها، قال: حتى جئت الأراك، فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا ¬

(¬1) الآيات من أوائل سورة الممتحنة.

حاجة يأتي مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. قال: فوالله إني لأسير عليها، وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا، قال يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، قال، يقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل، من أن تكون نيرابها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ قال: قلت: نعم، قال: ما لك؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، واصباح قريش والله، قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأستأمنه لك. قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، قال: فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا عليها قالوا: عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته حتى مررت بنار عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال: من هذا؟ وقام إلي. فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء. قال: فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه قال. قلت: مهلا يا عمر فوالله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد ضمناف فقال: مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت إسلامك كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به. قال: فذهبت إلى رحلي فبات عندي فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله آخر غيره لقد أغنى عني شيئا بعد. قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأني لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فإن في النفس منها شيئا فقال له العباس، ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد ثهادة الحق، فأسلم قال العباس. قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئا، قال: نعم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فلما ذهب لينصرف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم (¬1) الجبل. حتى تمر به جنود الله فيراها ¬

(¬1) خطم الجبل: أنفه حيث يضيق.

قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله أن أحبسه. قال: ومرت القبائل على راياتها كلها مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول سليم: فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفذت القبائل ما تمر به قبيلة ولا يسألني عنهم، فإذا أخبرته بهم قال: ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما قال: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذن. ليس ببعيد أن تكون الأنباء قد وردت متضاربة لأهل مكة حول نتائج سرية مؤته. لأن نقض قادة قريش للعهد لا بد أن يكون وراءه خلفية معينة حول ضعف محمد وأصحابه. فبعد خيبر ارتفعت الثقة بقوة المسلمين، أما إذا وصلت الأنباء إلى مكة عن فرار جيش محمد من الروم، فهذا يطمع في فتح هذه الجبهة، خاصة وأن الذين ساهموا في نقض العهد هم الذين أبرموه سهيل بن عمرو ومركز بن حفص، وحويطب بن عبد العزى، مع آخرين، وقد تكون القضية اندفاعا وحمية عمياء، إذ يذكر المقريزي (أن أنس بن زنيم الدبلي هجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعه غلام من خزاعة فضربه فشجه، فثار الشر بين بني بكر (حلف قريش) وبين خزاعة (حلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (1). وتبدو محاولة مكشوفة تلك التي لجأت إليها قريش في إرسال أبي سفيان لتلافي الأمر وزيادة المدة وتأكيد العهد. لأنه لن يغيب عن ذهن قريش أن خزاعة ستستنجد برسول الله حليفها الأكبر. ولقد أدرك أبو سفيان منذ اللحظات الأولى فشل مهمته حين تأكد من أن بديل بن ورقاء الخزاعي قد وفد إلى المدينة والتفى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فرك بعر راحلة بديل بيده وقال: أحلف بالله لقد جاء بذيل محمدا، وذلك حين رأى النوى في بعر البعير. وكان ذهاب بديل وهو أحد قادة مكة رفدا لعمرو بن سالم الذي جاء المسجد وعرض قضية الغدر بأسلوب مشرق مثير. وذكر بضرورة الانتصار للمضطهدين من خزاعة. وقبل أن نتحدث عن رحلة أبي سفيان لمكة، لا بد من التركيز على بعض النقاط المهمة حين نتحدث عن فتح مكة بصفته سمة بارزة في العهد المدني لا حدثا تاريخيا مر. فالأصل في العهود بين المسلمين والمشركين أن يكون الوفاء بها من الطرفين. ورأينا عظمة تمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - بعهده وعقده، حتى ولو برفض قبول المؤمنين المستضعفين في المدينة، وقد شكل

_ (1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 357.

هذا الأمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحراجا كبيرا أمام هؤلاء المؤمنين الذين اختاروا الإسلام على الكفر. ومع ذلك أعاد أبا بصير التزاما بالعهد وقال: إنه لا يحل في ديننا الغدر. هذه الصورة الإسلامية المشرقة. بينما تقابلها تلك الصورة الغادرة من التواطؤ مع المعتدين، والاشتراك معهم في غزو حلفاء محمد - صلى الله عليه وسلم - من خزاعة. هذه هي القضية الأولى. والقضية الثانية: هناك فرق واضح بين الاسقامة وبين الغفلة فالمسلمون لا بد أن يكونوا على يقظة تامة من تحركات من هادنوهم، وأن يكون التعامل معهم بصدق لكن بحذر. ولعل هذا الأمر يوضح فيما بعد من تحرك أبي سفيان. والقضية الثالثة: حول طبيعة الحلف في الإسلام فانضمام خزاعة ودخولها في عقد محمد - صلى الله عليه وسلم - وعهده يعني كل مستلزمات هذا الحلف، علما بأن خزاعة لم تكن كلها مسلمة. بل كانت قيادتها لا تزال خاضعة للمشركين. ولم تعلن هذه القيادة إنضمامها إلى المسلمين في المدينة. صحيح قد تفشى فيهم الإسلام، ولكن فيها المسلم والكافر، وعندما عاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خزاعة عاهدها على أنها مشركة. وهذا يعني أن من حق الدولة الإسلامية حين ترى مصلحتها في حلف محدد، لا يقتضي بالضرورة أن يكون الحليف مسلما. كما أنه لا تتناقض بين هذا التحالف وبين موادة الذين يحادون الله ورسوله. إن الشباب المسلم بحاجة إلى التفريق بين قضيتين كبيرتين: الأولى: موادة أعداء الله ورسوله الذين يحاربون المؤمنين ويضطهدونهم من خلال قناعات فردية للشباب المسلم دون إذن أو علم قيادتهم. الثانية: التحالف مع كافرين إختاروا أن يكونوا مع المؤمنين ضد عدو مشترك لهما معا. وهذه هي الصورة الثانية التي تمت بين خزاعة والمسلمين. فليس الكفر مانعا من هذا التحالف ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شرع لنا هذا الأمر. وتبقى القضية الخلانية، حول مشروعية هذا التحالف هل هو مرتبط بكون المسلمين دولة قوية يحق لهم ذلك فقط، لأنهم وهم ليسوا دولة قد يبتلعهم حليفهم أو يفرض عليهم شروطه؟ أم إن الأمر عام مرتبط بحاجة المسلمين لهذا الأمر إذ ما رأوا مصلحة في ذلك. وإن كان لا دليل على التخصيص واضح فيدخل الأمر - والله أعلم - ضمن إطار تقدير المصلحة. القضية الرابعة: هي الجدية في تنفيذ بنود التحالف. فعندما وقع اعتداء على خزاعة وثبت

لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تواطؤ قريش مع بني بكر، لم يتمالك أن أعلنها في المسجد صريحة مدوية نصرت يا عمرو بن سالم، أو قوله: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب أو قوله: لا نصرت إن لم أنصر بني كمب مما أنصر منه نفسي. فهذه الجدية في تنفيذ بنود الحلف تجعل الثقة لدى الآخرين بأن ينضووا تحت لواء المسلمين لضمان نصرهم وعونهم. لكننا لو تصورنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعر اهتاما لهذا الأمر، فهذا قد يدفع خزاعة إلى البحث عن حليف قوي ينصرها، أو التخلي على الأقل عن حلف رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. القضية الخامسة: هي أثر هذا التحالف في صف المتحالفين، فهذا الأمر يكسر الحدود المصطنعة بين هؤلاء الحلفاء والإسلام، أولا، وبينهم وبين المسلمين ثانيا. فهي فرصة مواتية لكي يعرض الإسلام على حقيقته دون غبش في صفوف هؤلاء الخصوم، وفرصة مواتية ثانية ليتعرف الحلفاء على طبيعة المسلمين وأخلاقهم وأفكارهم عن كثب. فتكون القدوة والدعوة من خلالها مهيأة أمام الآخرين. وكل هذه القضايا هي في رصيد الحركة الإسلامية ذات بال تحتاج إلى استيعاب وتوضيحها لقواعدها حتى يزول اللبس في الأمور لدى شباب الحركة الذين يسيطر عليهم دائما نقاء الصف وتميزه وطهره. وننتقل إلى مهمة أبي سفيان في المدينة. فقد قدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر سلفا بثاقب نظره، وعميق فكره فقال: (كأني بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة). ووصل أبو سفيان المدينة، وكان يفاجأ بالفشل أينما مضى، وكيفما اتجه وذلك لأن الصف الداخلي القوي كان قلعة منيعة في وجهه، عجز من أن يتسلل إليه ولو من ثقب إبرة، ويكفي أن نعلم أن في هذا الصف المسلم القوي ابنة أبي سفيان وألصق الناس به. وقد تلقى منها منذ اللحظات الأولى أقسى درس في حياته. لا ينساه ما عاش. وذلك حين طوت فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه لأنه نجس على شركه. ولو استطاع أن يتسلل من هذه الثغرة لكانت أخطر ثغرة على الإطلاق. فهو بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولاشك أذ العدو يحاول دائما أن ينفذ من مثل هذه الثغرات إلى الصف المسلم. ولم يكن لدى رسول الله حرج من أن تستقبل أم حبيبة بنت أبي سفيان أبا سفيان أباها في بيت رسول الله فهو مطمئن إلى أهل بيته، واثق بزوجه.

وما أروع الثقة حين تسود في الصف المسلم، فلم يتطرق الشك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا إلى أصحابه الأدنين والأبعدين، ولا إلى بيوت أزواجه الأخرى فيغمزن من قناة ضرتهن أم حبيبة. وحتى طوي فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي سفيان لم يكن بإيحاء نبوي بمقدار ما كان فطرة إسلامية خالصة. وهنا نذكر الشباب المسلم بالفرق بين الموادة، وبين المعاملة الدبلوماسية اللازمة. فلم ينهش المسلمون عرض أم حبيبة رضي الله عنها وهي تستقبل أباها وترحب به. ولم تتهم في دينها أو ممالأتها للكفار، وأبو سفيان يمثل في هذه المرحلة مسؤولية غدر قريش ونقضها للعهد. وهي رضي الله عنها لم تجد حرجا في مثل هذا الاسقبال وهذه الضيافة فهي مطمئنة إلى ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمسلمين بها، لكنها من الطرف الآخر، وصلت بالتميز والمفاصلة مع أبيها أكثر من المطلوب منها حين منعت أباها عن الجلوس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن عصبة تصل الثقة في صفوفها أن تخلي بين قائد العدو وابنته في جلسة خاصة. دون أن يتطرق الشك بهذه المرأة لهي عصبة مؤهلة أن تحكم الأرض ويدين لها الخافقان. ثم كانت المواجهة الثانية بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي سفيان: يقول أبو سفيان: (يا محمد إني كنت غائبا في صلح الحديبية، فاشدد العهد وزدنا في المدة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولذلك قدمت يا أبا سفيان؟ قال: نعم! قال: هل كان قبلكم حدث؟ قال: معاذ الله! قال: فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية) (¬1). لقد كان أبو سفيان القائد العام لجيش المشركين يريد أن يضع كل عبقريته في عقد جديد يلغي ما كان من إخلاله قبله. وتذرع بغيابه عن صلح الحديبية. ولكن أنى له أن تسري أحابيله بين يدي رسول رب العالمين فقال له عليه الصلاة والسلام: ولذلك قدمت يا أبا سفيان؟ قال: نعم! وكان بإمكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينفعل ويغضب، ويكشف غدر قريش. لكن العلاقات السياسية لا تحل عن طريق الانفعالات، ثم استجره أكثر لعله يعترف بغدر قريش. فسأله: هل كان قبلكم حدث؟ قال: معاذ الله. وأبو سفيان مضطر لنفي الأمر رغم معرفته به ورغم توقعه أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - قد عرف به، لأن الاعتراف فيه قد يودي بضرب عنقه، أو علمه على الأقل بهذا الغدر، ومع هذا النفي فكان الجواب الحاسم: فنحن على مدتنا وعهدنا وصلحا يوم الحديبية. يقول الشاعر: ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي وأن تكون هذه الصورة فعلا حقيقية، وهي نجاح أبي سفيان في مهمته، أو إيهام النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) إمتاع الأساع ج 1 ص 358.

بالوفاء التام. فهو عبقرية من أبي سفيان ولا شك لكن هذه العبقرية تبدو سذاجة أمام عبقرية النبي - صلى الله عليه وسلم - في إيهام أبي سفيان بأنه اقتنع بجوابه. وأن العهد لا يزال على ما هو عليه. فلقد سد المنافذ كلها على أبي سفيان. إذ ما معنى تجديد العقد وزيادة المدة، طالما أن قريشا على عهدها ومدتها. ولتمام نجاح هذه المهمة، فلقد كانت الأسرار في الصف المسلم من المناعة، ومن الكتمان بحيث لا يمكن أن تبرز ولو من صفحات الوجه أن المسلمين على علم بغدر قريش. وهكذا برزت البراعة السياسية بأعلى صورها حين سدت على العدو كل منافذه وسبله. لقد كان بإمكان أبي سفيان أن ينجح بشيء من مهمته. لو أن لحظة انفعال أو غضب سيطرت على أحد الجنود الذين التقى بهم أبو سفيان وكان يمكن أن ينجح في شيء من مهمته لو أن سرا قد أفشي من أسرار المسلمين من خلال لقاءات أبي سفيان في المدينة. وحين يرتفع الصف المسلم إلى هذا المستوى. فلن يكون العدو قادرا على تحقيق النزر اليسير من مهمته. بله الأمر الكبير. فليس الداهية هو الذي يخدع الآخرين فقط، بل الأدهى منه هو الذي يوحي له بجواز خدعته عليه. لقد كان بإمكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتقل أبا سفيان أو يهدد به، أو يهدده ولكن لم يكن تخطيط النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحل الأمر بالطرق السلمية أو بحلول محدودة لقد رأى أن الأوان قد آن لفتح مكة. بعد أن أصبح حرا من العقود والعهود التي نقضها العدو. ومن أجل ذلك حرص على إخفاء أية صورة من صور التحدي والإثارة أمام أبي سفيان ثم كانت خطوات أبي سفيان المتلاحقة في اللقاء مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، بين من يراه أمس الناس رحما به، ومن يراه أعدى العدو ولئن اختلفت لهجة الاستقبال من عظيم إلى آخر لكنها كانت جميعا ذات مضمون واحد هي أنه لا يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يقبل أحد أن يكون وسيطا في قضية رفضها رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولم يتورع أبو سفيان في الوساطة أن يطلب من فاطمة بنت محمد، والحسن بن فاطمة بنت محمد رضي الله عنهم أن يكونا وسطاء في زيادة المدة وتجديد العهد. وفاطمة أحب خلق الله تعالى إلى أبيها وكان الجواب واحدا لا يتغير. فلن يشفع أحد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر. بعد أن صدر الجواب الحاسم. فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل. وهو درس كذلك لقواعد الحركة الإسلامية وقياداتها في أن لا تحرج أمير الجماعة في أمر أعلنه والتزم به خاصة حين يكون هذا الأمر مع خصوم الجماعة أو أعدائها أو حلفائها على السواء أو أن يبرز خلاف في الرأي أمام هذا الحليف أو ذاك العدو مهما كانت الأسباب الموجبة لذلك فالأصل أن يصدر الجميع عن رأي واحد خلف قيادتهم وبدون تردد.

وأبو سفيان يدرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يرد شفاعة وجاه أقرب المقربين إليه مثلل أصحابه الأربعة، وابنته وابن ابنته، وإدراك هذا المعنى عند أبي سفيان جعله يقول لفاطمة رضي الله عنها: يا ابنة محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر (¬1)؟ لأنه يتصور أن هذه الإجارة ستوقف حربا ضروسا بين مكة والمدينة لأنه يعلم أن الأخبار لا بد واردة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولن يقبل محمد أن يكون مهيض الجناح، فيسكت على ذبح حلفائه. وننظر هنا إلى الخطوط العامة التي سادت مكة بعد عودة أبي سفيان فنراها تنصب على الاتجاه الذي سلكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر الناس بالتجهز والتهيؤ في بادىء الأمر، حتى أن أبا بكر الوزير الأول ما يدري لأي مكان الاتجاه ويسأل ابنته عائشة عن الأمر: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري ثم يوضح الهدف بعد ذلك بإعلام الناس بالتهيؤ إلى مكة. مع المحافظة على سرية التحرك: (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها). ولم يند عن هذه السرية في المدينة إلا حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه. وكانت زلة ضخمة دفعه لها حرصه على ولده وأهله. ومثل هذا المستوى مرفوض من حاطب البدري، وهو من الثقة لدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كان بمهمة ضخمة بعد الحديبية، بأن كان ممثل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المقوقس وقام بدور إيجابي ضخم في شرح رسالة الإسلام، ومع ذلك كانت هذه السقطة منه. ورأى عمر رضي الله عنه فيها أنها نفاق يستحق صاحبها القتل. غير أن الماضي العظيم لحاطب شفع له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أجاب: (لعل الله اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال: إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). ولا شك أن خطيئة القدوة ضخمة في صفوف العامة. ومثل حاطب رضي الله عنه في موطن القدوة. غير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستغني عن أحد من أصحابه. ويكفي ما جاء من المحاكمة العلنية أمام الناس، والقرآن الكريم الذي جاء بإدانته على هذا التصرف. وتأتي خطورة القضية في أنها تمت دون علم القيادة، ودوافعها مصلحة الأهل والولد. وهذا الدرس يعني بالنسبة للشباب المسلم أنه لا معصوم إلا من عصمه الله تعالى، وقد تقع الزلة والخطيئة ممن هم في موقع الولاية والمسؤولية والذين هم أصحاب الأسرار العامة والخاصة ومثل هذه الخطيئة تستحق القتل فهي بمثابة الخيانة العظمى، ولعل هذه الخاصية -حضور بدر- ¬

(¬1) لم يكن أبو سفيان يدري أنه يتكلم في ظهر الغيب وأن الحسن بن علي صار سيد العرب والمسلمين إلى آخر الدهر، وذلك بعد ثلث قرن من فتح مكة على التقريب حين أجار بين الناس، وأوقف نزيف الدماء بين المسلمين بعد ستة أشهر من خلافته، وحقق نبوءة جده عليه الصلاة والسلام حين قال فيه: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين.) وكانت سيادته تكمن في حقنه للدماء بعد عشرات الألوف من القتلى في صفوف المسلمين، ولا نبعد أبدا أن يكون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابنه الحسن في تلك الفترة، وعقب كلمة أبي سفيان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي ولما يناهز الحسن من العمر خمس سنين.

هي التي شفعت لحاطب رضي الله عنه، وما أعتقد أن أي عمل في الإسلام اليوم يعدل حضور بدر إذ أن ذلك وحي من الله تعالى غير أن المعنى العام الذي يفقهه الدعاة، هو أن بلاء الرجل وجهاده قد يشفعان له في تخفيف العقوبة لا بإلغائها. وهو ضلال عن سواء السبيل كما ذكره القرآن الكريم. وتأتي الصورة الأخيرة في الاستنفار العام للعرب جميعا من المدن والحضر الذين دخلوا في دين الله وكانت صيغة الاستنفار: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة .. وبعث رسلا في كل ناحية حتى قدموا فقدمت أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع المدينة وأتت بنو سليم بقديد، وعسكر ببئر أبي عنبة، وعقد الألوية والرايات). ومع كل هذا التوسع فقد حافظ المسلمون جميعا على سرية التحرك، وكان الدرس القاسي الذي نزل قرآنا يتلى بحق حاطب رضي الله عنه قد تعمم على الجيش كله. ولم يجرؤ أحد بعد وفي قلبه إيمان بالله ورسوله أن يخون هذه الخيانة، ونجحت سرية التحرك دون أن تصل الأخبار إلى مكة. وما كان لمثل هذا التحرك الضخم أن ينجح لولا قوة هذا الصف وسلامته. ولم تكن الخطيئة الكبيرة من حاطب لتغير من هذه النظرة. رغم أن المهاجرين والأنصار لا يبلغون نصف الجيش (فقد كان المهاجرون سبعمائة ومعهم ثلاثمائة فرس، وكانت الأنصار أربعة آلاف ومعهم خمسمائة فرس، وكانت مزينة ألفا فيها مائة فرس ومائة درع، وكانت أسلم أربعمائة فيها ثلاثون فرسا، وكانت جهينة ثمانمائة معها خمسون فرسا، وكانت بنو كعب بن عمرو خمسمائة). وبمقارنة هذا العدد الهائل والاستجابة للنفير العام مع التباطؤ والتلكؤ يوم الحديدبية، نلاحظ الفرق بين تحرك الناس قبل التمكن وتحركهم بعده. ولقد قرع القرآن الكريم في سورة الفتح أولئك الأعراب الذين تباطؤوا وتخاذلوا عن هذا النفير حتى حرموا من حضور خيبر بعدها، هم هم أنفسهم اليوم ينضمون بالآلاف إلى الجيش الإسلامي، وهذا المعنى يرتبط بالفتح المبين يوم الحديبية. فثبات النفر القليل أيام المحنة والأيام السود هو الدرس الحي الذي يقود جحافل الناس بعد المحنة. وثبات النفر القليل هو الذي هيأ الجو لمثل هذه المعاهدة، وهذا لجو هو الذي فتح القلوب للإسلام، والجو المفتوح البعيد عن الخوف، الخالي من المخاطر، هو الذي هيأ المجال للتحرك الجاد من القاعدة الصلبة إلى نفوس الناس المتعطشة لهذا الدين، وما كان لمثل هذا التجمع أن يعطي فعاليته لولا ثبات الرواد الأوائل على الطريق، وقدرتهم على ضم هذه الأعداد الهائلة إلى المعركة.

ونلتقي مع أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمة والعباس بن عبد المطلب من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحركون للإسلام أما مهمة العباس فقد انتهت فكان لابد له أن يدرك الهجرة وأما أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية هم أعدى العدو بالحسام وبالبيان. ولقد رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بادىء ذي بدء قبولها بقوله: (أما ابن عمي فقد هتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال). وقول عبد الله بن أبي أمية بقي جرحا غائرا يحفر في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مرور ما ينوف عن خمسة عشر عاما. فهو الذي قال: (والله لا أؤمن بك حتى تصعد إلى السماء، وتدخل فيها ثم ترجع ومعك كتاب ومعك أربعة من الملائكة يشهدون أن هذا من عند الله ولو فعلت هذا ما أظن أني أصدقك،) وضاقت الأرض بما رحبت بهذين الطريدين فقال أبو سفيان: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيدي بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا .. ويلجأ أبو سفيان بن الحارث لابن عمه علي بن أبي طالب، ويشكو عبد الله بن أبي أمية لأم المؤمنين أم سلمة (فقالت: يا رسول الله لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال علي لأبي سفيان بن الحارث: أئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف {قالوا تالله لقد آترك الله علينا وإن كنا لخاطئين} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه. ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) ومسحت حرب عشرين عاما من الهجاء والإقذع بكلمة واحدة أمام أعظم نفس بشرية لأن مفتاحه أنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا (¬1) فلقد أدرك علي رضي الله عنه مفتاح شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا المفتاح هو أنه قمة الكمال البشري. فلا يرضى عليه الصلاة والسلام لنفسه موقفا أدنى من غيره وهو المؤهل للقدوة العليا للبشرية في الأرض. ومن الموقع نفسه نشهده مع أبي سفيان بن حرب ولقد جاء به العباس بن عبد المطلب ليأخذ له أمانا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عله ينقذ مكة من المواجهة ومما يثلج الصدر أن تكون رواية العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بين أيدينا، وهو يعرض لنا حرصه على نجاة مكة. (فقلت: واصباح قريش. والله لئن دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر). ونجد أن هذا الاتجاه لا يخرج عن رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو حريص على أن تستسلم مكة دون قتال، وهو حريص على حقن الدماء في مكة لتسلم له قلوب أهلها. وتكون مستعدة بالمعاملة الحسنة الكريمة الطيبة أن تنضم إلى الإسلام. فنحن لسنا أمام قائد عسكري فقط، وهو سيد القادة في الأرض تهيئة وتخطيطا، وإعدادا ¬

(¬1) الرحيق المختوم ص 448، 449.

ومواجهة لكننا كذلك أمام رسول رب العالمين، لا يريد أن يشقى أحد على يديه. فهو الرحمة المهداة. ولكم كان حريصا على هداية قومه حتى ليعاتبه ربه عز وجل بذلك {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} (¬1) 0 ولم تغير حرب عشرين عاما من نفسه الطاهرة الشريفة بأن يكون الانتقام رائده. بل بقي النور الذي يغمر الظلام مهما اشتد. ويمثل هذه النفسية العليا في الأرض رؤيا أبي بكر وتفسير النبي عليه الصلاة والسلام لها: (فرأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، في الليلة التي أصبح فيها بالجحفة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دنوا من مكة خرجت عليهم كلبة تهر، فلما دنوا منها استلقت على ظهرها. فإذا أطباؤها (¬2) تشخب لبنا، فذكرها أبو بكر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذهب كلبهم (¬3)، وأقبل درهم. هم سائلوكم بأرحامكم! وأنتم لاقون بعضهم فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه) (¬4). لقد أطلقنا على هذه المرحلة، مرحلة الجهاد السياسي، ولكنه من أعلى مواقع القوة العسكرية. فليس هذا الاتجاه عن عجز أو وهن. بل لأن القوة الضاربة هي التي تلجم اندفاعات العدو وتكبح جماحه وتتيح الفرصة لصوت الحق أن يظهر فحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على سلامة مكة من حرب ضروس هو الذي دفعه لأن يدعو (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها) وحرص العباس على سلامة قريش هو من مشكاة النبوة يريدها أن يسقط في يدها فتستسلم دون حرب وتستأمن لنفسها، فلا تجد حرجا أو غضاضة بعدها في الإسلام، أما لو وقعت المقتلة العظيمة في كل بيت من قريش وفي بطحاء مكة، فستدخل هذه القلوب في الإسلام ذليلة. ويتضح حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى كذلك من موقفه من سيد الخزرج سعد بن عبادة فقد (كانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا، غلما حاذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان قال: يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: وما قال؟ فقال: كذا وكذا. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل اليوم يوم المرحمة، اليوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله قريشا، ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد، وقيل بل دفعه إلى الزبير) (¬5). ¬

(¬1) الكهف: الآية 6. (¬2) أطباؤها: جمع طبي، وهي حلمات الضرع التي فيها اللبن. (¬3) كلبهم: سعار يأخذ الكلاب فتنبح وتعض. (¬4) إمتاع الأسماع ج 1 ص 367، 368. (¬5) الرحيق المختوم ص 452. وقد وردت عند ابن إسحاق وابن عساكر وموسى بن عقبة بروايات متقاربة.

فعز قريش وتعظيم الكعبة والحرص على حقن الدماء هو الخط العام الذي يتحرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلاله لكنه مع ذلك لا يريد أن يؤذي أكبر أنصاره سعد رضي الله عنه وهو الذي كان والخزرج كتائب الفداء الأولى في الإسلام فأخذ الراية وأعطاها لابنه قيس؛ وقيس في حلمه ورجاحة عقله ودهائده ما يجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطمئن إلى جانبه ألا يندفع في ثورته ونقمته على قريش بمقدار ما يندفع ضمن الخط النبوي المرسوم. وكان ذلك اللقاء التاريخي بين قائد جيش العدو-أبي سفيان- الذي وصل شبيه الأسير بين يدي محمد - صلى الله عليه وسلم -. وتحققت نبوءة عتبة بن ربيعة ند أبي سفيان الذي قال له ذات يوم في بطحاء مكة: (لكأني بك يا أبا سفيان تساق إلى محمد كما يساق الجدي ليفعل بك ما يشاء). وها هو بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يحتمل الأمر أكثر من إشارة، أو حركة في العين ليطاح رأسه عن جسده. لكن سيد الدعاة - صلى الله عليه وسلم - لا ينسى أن إسلام أبي سفيان يعني تحولا تاما في مكة وفي بني أمية بالذات. وهم أعدى الأعداء. ورمى عليه الصلاة والسلام عداء عشرين عاما خلف ظهره ليقول لأبي سفيان: (أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ فيجيبه: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد) إنه وهو الذي لا يزال على جاهليته يصعقه نبل محمد - صلى الله عليه وسلم - ويهزمه في أعمق أعماقه. فيفديه بأبيه وأمه وما يتمالك عن القول: ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. ثم يأتي السؤال الثاني ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. وإنها لقمة الانتصار في موازين الرجال وفي معارك النفوس أن يبهت القائد العام للعدو بخلق خصمه الأول فلا يتمالك عن الثناء على حلمه وكرمه وصلته للرحم بل يفديه بأبيه وأمه. وأدرك العباس رضي الله عنه أن عدم إسلام أبي سفيان لن يضمن تجديد معركة وحرب وفي هذه الحالة فقتل أبي سفيان قبل أن يجيش الجيوش من جديد هو الذي تقتضيه طبيعة الخطة النبوية، ومن أجل ذلك قال العباس لأبي سفيان: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. ومع أن هذا الإسلام واضح أنه خوف من السيف. لكن ليس من طبيعة زعيم كأبي سفيان أن يرضى غدرة من خلال إسلامه أو يرضى تلطيخ تاريخه أنه جبن أمام رسول الله محمد. فتمضي سبة عليه بين العرب والعباس الخبير بنفس أبي سفيان طلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من الفخر لابن حرب فقال عليه الصلاة والسلام: من دخل الكعبة فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. فالميزة التي أخذها من هذا الفخر، إظهار لزعامته في قريش، وهذا حق مكتيب له لكن دون أن يبني عليها تعديل ذرة واحد من الخطة، وحين لا تتعارض الجزئية مع الكليات العامة فلا

ضير في ذلك. ولتحقيق الهدف الأساسي من تفويت الفرصة على قريش في أن لا تعد العدة ولا تواجه الحرب كان لا بد من استعراض القوات الإسلامية المسلحة أمام أبي سفيان وذلك عند خطم الجبل حتى ييأس نهائيا من المقاومة فيقنع قريشا بضرورة الاستسلام وها هي نفسيته تلوح وهو يشهد قبائل العرب التي كانت قبل عامين كلها معه ضد محمد. فيقول وهو يرى الكتيبة الخضراء بعد أن هدته القبائل (ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط ولاخبرنيه مخبر ما لأحد به طاقة ولا يدان، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما). إنها خطتان تمشيان جنبا إلى جنب. الخطة الأولى: تلامس نفس هذا القائد في أعماقه وتدعوه إلى الإسلام لتفت في عضد قريش فماذا بعد إسلام قائدها الأكبر أو استسلامه. الخطة الثانية: أن يحطم نفسية المقاومة عنده بحيث يشهد بأم عينه جيش النبوة الذي تهتز الأرض اعتزازا به. وهو يعلم أنه فشل في حربه ولما يتجاوز جيش محمد ثلاثمائة رجل فكيف به أمام عشرة آلاف مقاتل؟ ولا يسعنا قبل أن نغادر أبا سفيان أن نعرض له وهو يرى سيف عمر بن الخطاب ينتظر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليهوي عليه فيقطع رأسه عن جسده. ويرى إلحاح عمر وإلحاح العباس فيه حتى ليكادان يختصمان عليه وفيه. فيحميه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويراجع رصيده قبل عامين وهو في بلاط قيصر الذي يقسم أن محمدا سيطأ ما بين رجليه. وأنه يتمنى أن يكون عنده فيقبل الأرض بين قدميه ونستطيع القول، أن إنهاء أبي سفيان من المعركة هو القضاء على ثلثي العدو فيها. وكم يكون ربح الحركة الإسلامية في القمة حين ينهى جيش العدو بالإجهاز على قائده. وليس إجهاز الإفناء، بل هو إدخاله في الإسلام. وأن تجتنب معركة بتحييد قائدها لصالح الإسلام مع أن الطريق الوحيد لذلك هو القوة الرادعة القادرة على أن تقنع هذا القائد فتعطيه عوضا عن الذل، حلما وكرما وصلة تجعله يفدي أمير المسلمين بأمه وأبيه. إنه الشرط الطويل لكنه هو الطريق. نصر الله والفتح رجوع أبي سفيان إلى أهل مكة: قال: قلت النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة

فأخذت بشاربه. فقالت: اقتلوا الحميت الدميم الأحمس (¬1) قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك، قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. وصول النبي إلى ذي طوى: قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى إلى ذي طوى. وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة (¬2) حمراء وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل. دخول جيوش المسلمين مكة: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء (¬3). طريق المسلمين في دخول مكة: قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله بن أبي نجيح في حديثه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر خالد بن الوليد، فدخل من الليط، أسفل مكة في بعض الناس. وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل رسول الله من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة، وضربت له هناك قبته. تعرض صفوان في نفر معه للمسلمين: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا، وقد كان حماس بن قيس بن خالد، أخو بني بكر يعد سلاحا قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصلح منه، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه قالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء: قال والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال: إن يُقبلوا اليوم فما لي عِلَّه ... هذا سلاح كامل وأله (¬4) وذو عزارين سريع السِّله (¬5) ثم شهد الخندمة مع صفوان، وسهيل وعكرمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد ¬

(¬1) الحميت الدميم الأحمس: الشديد اللحم والمعنى على تشبيه الرجل بالزق لعبالته وسمنه. (¬2) الحبرة: ضرب من ثياب اليمن. (¬3) جبل بأعلى مكة (كداء). (¬4) أله: الحربة لها سنان طويل. (¬5) ذو عزارين: ذو حدين.

ابن الوليد ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر، أحد بني محارب ... وخنيس بن خالد حليف بني منقذ وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء، وأصيب من المشركين ناس قريب من اثنى عشر رجلا، أو ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته: أغلقي علي بابي قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فر صفوان وفر عكرمة وأبو يزيد قائم كالموتمة ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة ... ضربا فلا يسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي باللوم أدنى كلمة وكان شعار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة وحنين والطائف شعار المهاجرين يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. عهد رسول الله إلى أمرائه وأمره بقتل نفر ممن سماهم: وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عهد إلى أمرائه من المسلمين، حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد إلى نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد ... وإنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله لأنه قد كان أسلم وكان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي. فارتد مشركا راجعا إلى قريش. ففر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه للرضاعة فغيبه حتى أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة فاستأمن له فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صمت طويلا ثم قال نعم. فلما انصرف عنه عثمان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن حوله من أصحابه لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟ قال: إن النبي لا يقتل بالإشارة. وعبد الله بن خطل رجل من تيم إنما أمر بقتله أنه كان مسلما. فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضدقا وبعث معه رجل من الأنصار وكان معه مولى له يخدمه. وكان مسلما فنزل منزلا، وأمر المولى أن يذبح له تيسا فيصنع له طعاما. فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركا وكانت له قينتان: وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر رسول الله بقتلهما معه. والحويرث بن نقيذ. وكان ممن يؤذيه بمكة. (قال ابن هشام: وكان العباس بن عبد المطلب قد حمل فاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة يريد بهما المدينة؛ فنخس بهما الحويرث فرمى بهما إلى الأرض) ومقيس بن حبابة. وإنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله، لقتل الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ ورجوعه إلى قريش مشركا وسارة مولاة بني عبد المطلب، وعكرمة بن أبي جهل وكانت سارة ممن يؤذيه بمكة. فأما عكرمه فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام. فاستأمنت له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمنه. فخرجت في طلبه إلى اليمن حتى أتت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وأما عبد الله بن خطل فقتله سعيد بن حريث وأبو برزة الأسلمي،

اشتركا في دمه، وأما مقيس بن حبابة فقتله نميلة بن عبد الله رجل من قومه وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى، حتى استؤمن لها ... وأما سارة فاستؤمن لها فأمنها .. وأما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب. حديث الرجلين اللذين أمنتهما أم هانىء: قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي هند عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب، أن أم هانىء ابنة أبي طالب قالت: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة، فر إلي رجلان من أحمائي، من بني مخزوم. وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل علي علي بن أبي طالب أخي فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إلي فقال: مرحبا وأهلا يا أم هانىء، ما جاء بك؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي؛ فقال: قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما. طواف الرسول بالبيت وكلمته فيه: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد جعفر بن الزبيرى، عن عبد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل مكة، واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده، ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف (¬1) له الناس في المسجد. قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش. إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابن طلحة على السدانة: ثم جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك فقال رسول ¬

(¬1) استكف له الناس: تجمعوا له وتحلقوا حوله.

الله - صلى الله عليه وسلم -: أين عثمان بن طلحة فدعي له، فقال: هال مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء. أمر الرسول بطمس ما في البيت من صور: قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست. سبب إسلام عتاب والحارث بن هشام: قال ابن هشام: وحدثني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب عتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا لو تكلمته لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد علمت الذي قلتم ثم ذكر ذلك لهم: فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك. سقوط أصنام الكعبة بإشارة من الرسول: قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}. فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه. حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. فقال تميم بن أسد الخزاعي في ذلك: وفي الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا كيف أسلم فضالة: قال ابن هشام: وحدثني: أن فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أراد قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفضالة؟ قال: نعم فضالة يا رسول الله: قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال لا شيء كنت أذكر الله، قال: فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث فقلت: لا. وانبعث فضالة يقول: قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله والإسلام

لو ما رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بيننا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام أمان الرسول لصفوان بن أمية: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر، عن عروة بن الزبير، قال: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا منك، ليقذف نفسه في البحر فأمنه صلى الله عليك، قال: هو آمن؛ قال: يا رسول الله فاعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمامته التي دخل فيها مكة، فخرج بها حتى أدركه، وهو يريد أن يركب البحر. فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي. الله الله في نفسك أن تهلكها. فهذا أمان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جئتك به، قال: ويحك! أغرب عني فلا تكلمني. قال: أي صفوان، فداك أبي وأمي أفضل الناس وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، ابن عمك، عزه عزك وشرفه وملكه ملكك قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذاك وأكرم، فرجع معه حتى وقف به على رسول - صلى الله عليه وسلم - فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتني، قال: صدق، قال: فاجعلني في الخيار شهرين؛ قال: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر. إسلام عكرمة وصفوان: قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري: أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وفاختة بنت الوليد، وكانت فاختة عند صفوان بن أمية، وأم حكيم عند عكرمة بن أبي جهل، أسلمتا، فأما أم حكيم فاستأمنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعكرمة فأمنه. فلحقت به في اليمن فجاءت به. فلما أسلم عكرمة وصفوان أقرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندهما على النكاح الأول. إسلام ابن الزبعري: قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، قال: رمى حسان ابن الزبعري وهو بنجران بيت واحد ما زاده عليه: لا تعدمن رجلا أحلك بغضه ... نجران في عيش أخد ليئم فلما بلغ ذلك ابن الزبعرى خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، فقال حين أسلم: يا رسول المليك إن لساني ... رائق ما فتقت إذ أنا بور إذ أباري الشيطان في سنن الغي ... ومن مال ميله مثبور آمن اللحم والعظام لربي ... ثم قلبي الشهيد أنت النذير إنني عنك زاجر ثم حيا ... من لؤي وكلهم مغرور (¬1). إسلام سهيل بن عمرو: وكان سهيل بن عمرو أغلق عليه بابه، وبعث إلى ابنه عبد الله بن سهيل أن يأخذ له أمانا فأمنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه ¬

(¬1) مقتطفات من السيرة لابن إسحاق من ص 405 - 419 ج 4 ط. دار الكنوز الأدبية.

فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع (¬1) فيه أنه لم يكن له بنافع. فخرج عبد اله إلى أبيه فأخبره فقال: سهيل: كان والله برا صغيرا وكبيرا فخرج وشهد حنين وأسلم بالجعرانة (¬2). نتحدث عن هذا النصر والفتح من خلال النقاط التالية التي تحدد معلم هذه السمة: أو تتمة معالمها. أولا: إنهيار المقاومة المسلحة. ثانيا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة والبيت الحرام. ثالثا: المحكوم عليهم بالإعدام. رابعا: إسلام القيادة جميعا. النصر يبتدىء دئما عندما تتحقق الهزيمة النفسية في صفوف العدو، وكان أبو سفيان هو بطل الاستسلام الرسمي فهو التائد العام لمكة وكان كل اهتمامه ينصب على حماية مكة من التدمير، ولن تتم حمايتها إلا إذا أعلنت الانسحاب والتخلي عن المقاومة. ولا نشك أبدا أن إسلام أبي سفيان رضي الله عنه كان دافعا قويا لفتح الطريق أمام محمد - صلى الله عليه وسلم - لدخول مكة. غير أن التطورات كانت على غير ما يهوى أبو سفيان. لقد حملت هند بنت عتبة زوجه لواء المعارضة ضده، ودعت إلى قتله لأنه استسلم، وراحت تهيح المشاعر والنفوس للمقاومة واسطاعت أن تقود تيارا قويا مع القادة الشباب الذين عز عليهم أن تمرغ كرامتهم بالتراب لو لجؤوا إلى بيوتهم مذعورين خائفين، وضبط القائد العام لمكة أعصابه على هول الصفعة من زوجه هند، واكتفى للمحافظة على الهدف أن يقول: لا تغرنكم هذه عن أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به. وكان الجيش الإسلامي كما وزعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكلفا بدخول مكة من عدة محاور. وكان خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وكلف بدخول مكة من أسفلها وتحت إمرته أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة. وكان سلاح الفرسان مع هذه الكتيبة. وخالد هو قائد سلاح الفرسان دائما إذ أن أسلم وحدها، حين انضمت للجيش الإسلامي قدمت بألف فرس وفارس. وتحركت القيادات الشابة تقود الكثير من هؤلاء الشباب للمقاومة وشاء قدر الله أن يلتقي رفاق السلاح في مكان واحد، فخالد قبل أقل من عام هو قائد سلاح الفرسان لقريش وقبل أقل من عام كان يخطط مع صفوان وعكرمة وسهيل لمواجهة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذه أول موقعة يقف فيها خالد ¬

(¬1) يوضع. يجتهد ويشتد. كناية عما كان يعبد. (¬2) إمتاع الأسماع ج 1 ص391.

تجاه أعز أصدقائه من قبل، وأقرب أقربائه الأدنين تجاه عكرمة وصفوان اللذين دعاهما إلى الإسلام من بين كل الناس حين مضى إلى المدينة ليسلم. ولكنها العقيدة هي التي فرقت بينه وبينهما اليوم، وهم يعرفون من خالد بن الوليد، وكانت مفاجأة صاعقة لهم أن يواجهوا به، وإن كان المهم وغيظهم منه أكثر من كل من سواه، فهو الذي تخلى عنهم، وانضم إلى صف محمد وهم الموتورون منه. وحاول خالد رضي الله عنه أن يحول بين المواجهة غير أنه عجز عن ذلك، فلقد كان الغرور والعجرفة هو الذي يسطر على هؤلاء المقاتلين، وقد رأينا مدى ثقتهم بقوتهم أن كان حماس بن قيس يعد امرأته أن يخدمها أحدهم. فسيكون المسلمون أسرى بين أيديهم وكما يقول: إن يقبلوا اليوم فما لي عله ... هذا سلاح كامل وإله وذو غرارين سريع السلة ولن تستطيع قوة الشرك أن تصمد أمام قوة الإيمان حين يكون جند الإيمان هم القلة فكيف إذا كانوا هم الكثرة عددا وعدة، ومن أجل هذا ما تمالك المشركون ساعات حتى تبارى القادة بالفرار صفوان وعكرمة وسهيل، ومع فرار القيادة لاذ الجنود بالفرار والمسلمون في ظهورهم كالنار المشتعلة كما وصفهم حماس نفسه: لم نهيت خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي باللوم أدنى كلمة ونلاحظ أن الخسائر كانت قليلة، فقد قتل من المشركين حوالي ثلاثة عشر رجلا بينما استشهد من المسلمين ثلاثة بينهم اثنان ضلا الطريق فوقعا بين يدي العدو. وقلة القتلى بين الفريقين ناتجة عن سرعة فرار المشركين من جهة بعد فرار قياداتهم. وعدم رغبة المسلمين في متابعة القتال حسب أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جهة ثانية. والدرس الذي نفقهه من خلال هذه المواقف أن نحسب كل الحسابات في مواجهة العدو. فلا يكفي الاعتماد على الاستسلام العام له إذ أن بعض فصائل هذا العدو قد تثور على من وقع وثيقة الاستسلام. فلا بد أن يعد لمثل هذا الأمر في التخطيط الذي تقوم به القيادة. والإرهاب بالقوة في أحيان كثيرة ليس هدفه القتل والذبح بمقدار ما يهدف إلى إحباط مقاومة العدو. والحركة الإسلامية تستفيد كثيرا من هذا الدرس حين تفت في أعضاد خصومها بما تملكه حقيقة من قوة رادعة لهؤلاء الخصوم. ولقد رأينا مثل هذا الموقف في عمرة القضاء حين قال المشركون: سيأتيكم محمد وجيشه قد أوهنتهم حمى يثرب، فاضطبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه وقال لجيشه والمشركون ينظرون إليهم من دار الندوة: رحم الله امرءا أراهم من نفسه قوة ومضى عليه الصلاة والسلام يهرول والمسلمون وراءه. لا بد أن تملك الحركة الإسلامية القوة الرادعة، أو تخطط لذلك، وهذا

هو الضمان الوحيد الذي يمنع الخصوم من حربها، وامتلاك هذه القوة الرادعة لا يعني أن تتحول إلى عصابة قاتلة بل تستطيع بهذه القوة أن تحطم النفوس المعاندة وتردع العدوان الكامن. وفي معظم الأحيان نجد أن هزيمة العدو مرتبطة بهزيمة قيادته. فمع فرار صفوان وعكرمة وسهيل انتهت الحرب. وعلى الحركة الإسلامية أن تقدم إضافة إلى القوة الرادعة القوة المكافئة. فخالد هو الذي واجه سهيلا وصفوان وعكرمة. وهو الأدرى بهم وبإمكاناتهم. وهذا يعني كذلك أن الحركة الإسلابة لا بد أن تعد الوسائل المكافئة كذلك لمواجهة خصمها، وتجربة الحركة الإسلامية حين خاضت حربا ضروسا ضد أعدائها قبل أن تمتلك السلاح والرجال المكافئين للخصم فكانت كارثة مروعة راح ضحيتها عشرات الألوف من القتلى والجرحى والمفقودين. ولا بد أن تأتي الفرصة التي تحدد فيها مسؤولية هؤلاء المسؤولين عن هذه المرحلة. إن فرطوا في هذه الأمانة. ونمضي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة: أولا: فلقد كان وهو القائد المنتصر الذي دانت له رقاب العرب بعد أن أهدر دمه. وقال عنه ربه {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه، وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} (¬1). من ذلك الموقع الذي يقول فيه أبو بكر رضي الله عنه، لو نظر أحدهم إلى خلل قدمه لرآنا. إلى هذا الموقف ويحيط به عشرة آلاف مقاتل على قلب رجل واحد. يفتح بهم الأرض، ويمضي إلى الذين حاربوه عشرين عاما أو تزيد وها هو اليوم يدخل في قلب هذا النصر (يضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل). فهو الآن عبد الله ورسوله الذي أنعم الله تعالى عليه بالقتح، وليس هو كما تقول الجاهلية بطل النصر، وصانعه ومفجره، بل كان الهتاف الإسلامي الخالد: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده لا شيء قبله ولا شيء بعده. فالنصر هو نصر العقيدة، نصر كلمة التوحيد، وليس انتصار الذات، أو انتصار الثأر أو انتصار الهوى وبالتالي فالتذلل لله تعالى في هذه الساعات هو التي يتنزل فيها نصر الله. وهذا الدرس لكل قادة الأرض الذين حفل بهم التاريخ أن يتعلموا من معلمهم الأول كيف يكون القائد المنتصر بين يدي ربه الذي أعطاه هذا النصر. ¬

(¬1) سورة التوبة: 40.

وكم يغيب هذا المعنى عن القادة المسلمين بله الفرد العادي من المسلمين فتأخذه نشوة النصر فلا يكاد يطا له أحد وهو قد انتصر بمظاهرة أو كلمة ألقاها أو كلمن عابرة اثنى عليه بها عابر سبيل. ثانيا: ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة بعد أن أعلنت استسلامها الأخير وكان أول ما يقصده الذي يدخل مكة هو البيت. ولا بد أن نقارن بين طوافين. لقد كان الطواف الأول في عمرة القضاء والمسلمون معه والأصنام الثلاثمائة والستون تملأ فجاج الكعبة وأركان البيت. ولكنه كان عاجزا عن المساس بها. وليس له الحق في ذلك. إذ أن دخول الكعبة في عمرة القضاء دخول سلمي بحماية قريش وموافقتها. فطاف والأصنام قائمة أما اليوم فقد اختلف الأمر، لقد دخل مكة فاتحا، واستسلمت بعد قتال، غزيت بعد نقض للعهد. فالسلطة العليا له. ولا عهد لأحد عليه. فكان أول ما أقدم عليه - صلى الله عليه وسلم - هو تحطيم الأصنام. (فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم إلا وقع). وليت شباب الحركة الإسلامية يدركون هذه المقارنة، ويدركون أن الإسلام لا يطبق طفرة واحدة، فمع أن المسلمين دولة قوية في عمرة القضاء لكن لا سلطة ولا سلطان لهم على مكة. والذين صالحوهم وهادنوهم منحوهم حق العمرة في مكة فقط ولأيام محدودة دون مس بأمن مكة أو شعائرها أو عقائدها، لكن لا يطوفون بإعلان شعائر غيرهم كذلك فالمسلمون يعلنون كلمة التوحيد في مكة وهذا نقض كامل لمبادىء قريش. غير أنهم عاجزون عن القضاء على شعائر المشركين ومقدساتهم من الأصنام. ولقد قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الواقع من خلال معاهدة أقبل على توقيع بنودها، وهو درس هام وهام جدا للحركة الإسلامية يوضح خطوط تحركها، ويوضح المرحلية في الوصول إلى أهدافها، فما كان جائزا من خلال معاهدة بين قريش ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عدم التعرض لأصنام قريش. لم يعد جائزا. بعد مرحلة القوة الجديدة التي فتحت أبواب مكة أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون قيد أو شرط. فقد تقدم الحركة الإسلامية على ميثاق هدنة أو صلح أو تحالف لا يتم من خلاله التميز الكامل لشعائر الإسلام، أو التنفيذ الكامل لمبادىء الإسلام. لكن الذي لا عذر فيه أن يقدم المسلمون شعائر جاهلية. أن تشترك الشعائر كل حسب مقدساته. فلا غرابة في ذلك، إذ لم يثبت أن المسلمين وهم يعطوفون حول الكعبة منعوا طواف بقية الناس، ومنعوا إعلان شعائر الشرك التي تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكا هو لك وما ملك. أو منعوا السجود للأصنام وتقديسها أثناء الطواف لكن كان لهم كامل الحق أن يطوفوا بشعائرهم دون أن يتقيدوا بشعائر المشركين. وهذا التدرج الذي يصل المسلمون إليه خطوة بعد خطوة لا بد أن يفقهه الدعاة إلى الله

تعالى. ولا يسارعوا إلى النيل من قياداتهم حين تسير في هذه الخطوات في التدرج حسب القوة التي تمتلكها. إن معاملة القاعدة للقيادة دائما على أن عليها أن تطبق أحكام الإسلام النهائية كما هي بعد براءة. فهو ظلم لهذه القيادة من جهة، وجهل بحقيقة هذا الدين ومرحلتيه وحركتيه في الوصول إلى أهدافه. وحين نبين الحد الواضح بين الاحتواء الذي يمثل نطقا بفكر غيرنا الذي لا نؤمن به أو يحارب عقيدتنا وبين التعامل التي يحفظ لكل طرف حقه في شعائره وعقيدته. والدليل على هذه المرحلية كما نرى هو اختلاف الموقف بين طواف عمرة القضاء وطواف الفتح. فقد رافق طواف الفتح هدم للأصنام في الكعبة، وإعلان كلمة التوحيد على بابها. والمشركون لا يملكون حتى رفع بصرهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوفا ورهبة وإجلالا كذلك هذا الافتراق بين الطوافين هو الذي يعلمنا كيف ننطلق بهذا الإسلام في منهجه الحركي، ومن خلال سماته، المتتابعة التي تحقق نصرا عقب نصر من خلال خطة واضحة المعالم، محددة المراحل في ذهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي خطط لفتح مكة دون أن يضطر لقيد واحد أو شرط واحد على الفتح. بينما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذاته الشريفة في إعلان مبادىء الهدنة المشتركة بين قريش ومحمد بن عبد الله. ومما كسر كذلك صنم قريش الأكبر الذي كان مفخر عزها، وهو الذي نادى أبو سفيان باسه يوم أحد فقال: أعل هبل .. ولم يترك الزبير رضي الله عنه هذا الأمر. فذكر أبا سفيان بذلك قائلا له: (يا أبا سفيان قد كسر هبل أما إنك كنت يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم! فقال: دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان). ومع انتهاء الطواف. وإلغاء كل مظاهر الوثنية الظاهرة. كان الناس ينظرون إلى القائد العظيم بثيابه الحربية الدرع والمغفر وعلى راحلته وهو بينهم حيث قام عليه الصلاة والسلام بعد الطواف بالشرب من ماء زمزم والوضوء منه استعدادا لخطوات لاحقة. ثالثا: ثم كان دخول الكعبة المشرفة، حيث دعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأخذ منه مفتاح الكعبة ودخلها فكسر شعائر الوثنية داخلها وهي الحمامة من العيدان، وصورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يستقسم بالأزلام. وصلى بالكعبة ثم خرج إلى الناس. وكانت فرصة مواتية، أن طلب العباس بن عبد المطلب ضم الحجابة إلى السقاية وتكونان لبني هاشم. وكان هذا أمام الناس جميعا، ومن يستطيع أن يناقش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر، حتى عثمان بن طلحة، فلقد غدا جنديا مسلما ينفذ أمر رسوله والناس جميعا كأن على رؤوسهم الطير، وهم ينتظرون ما تتحرك به شفتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر وبيده أن يلغي الحجابة ويضعها في يده، أو يعطيها لبني هاشم رهط النبي من بعده. لكن المسلمين والمشركين فوجئوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ادعوا إلي عثمان بن طلحة - وكان - صلى الله عليه وسلم - قال له يوما بمكة: وهو يدعوه إلى الإسلام، ومع عثمان المفتاح. فقال: لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت. فقال له عثمان: لقد

هلكت إذن قريش وذلت، فقال - صلى الله عليه وسلم - بل عمرت وعزت يومئذ - فأقبل عثمان فقال له عليه الصلاة والسلام، خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة، ولا ينزعها منكم إلا ظالم! يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف. فلما ولى عثمان ناداه عليه الصلاة والسلام فرجع إليه فقال له: ءألم يكن الذي قلت لك؟ فذكر عثمان قوله له بمكة. فقال: بلى أشهد أنك رسول الله، فقال: قم على الباب، وكل بالمعروف. ودفع عليه السلام السقاية إلى العباس رضي الله عنه) (¬1). ونقف أمام هذا الدرس العظيم العجيب الذي يفسره قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مال أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج). ولا بد من التذكير أن هذا التوزيع لهذه المآثر بالأصل هو توزيع جاهلي بحت على يدي قصي بن كلاب مؤسس دولة قريش. (وكان ابنه عبد مناف قد شرف وساد في حياته، وكان عبد الدار بكره فقال له قصي لألحقك بالقوم وإن شرفوا عليك، فأوصى له بما كان يليه من مصالح قريش فأعطاه دار الندوة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه. وكان أمره في حياته وبعد موته كالدين المتبع. فلما هلك أقام بنوه أمره لا نزاع بينهم ولكن لما هلك عبد مناف نافس أبناؤه بني عمهم عبد الدار في هذه المناصب، وافترقت قريش فرقتين وكاد يكون بينهما قتال، إلا أنهم تداعوا إلى الصلح واقتسموا هذه المناصب، فصارت السقاية والرفادة إلى بني عبد مناف، وبقيت دار الندوة واللواء والحجابة بيد بني عبد الدار ..) (¬2). ومع أن هذا التقسيم كما رأينا أعراف جاهلية ودين متبع عندهم. لم يكن لدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من بني هاشم أن يعيد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ابن عمه البعيد. تقيدا بأعراف مكة التي تخالف الإسلام. بينما أعلن عليه الصلاة والسلام أن بقية المآثر تحت قدميه. ونحن نعلم أن هذا الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو من عند الله لأن الله تعالى أقر نبيه على ذلك. وشاءت إرادة الله تعالى أن تبقى حراسة بيته بيد بني عبد من عبيده وهو عثمان بن طلحة. وحتى خمسة عشر قرنا من الزمان. لم يتغير الأمر طالما ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي شرعه. وأما السقاية فقد تحولت على يد زبيدة زوج الرشيد (العباسية) ابنة العباس بن عبد المطلب إلى سقاية رسمية من خلال مشروع المياه الذي مددته من الطائف إلى مكة لسقاية الحجيج حين لم يعد زمزم كافيا لذلك. ونفقه من هذا الدرس كذلك أن بإمكان الحركة الإسلامية وهي في ذروة قوتها أن تحافظ ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 387، 388. (¬2) الرحيق المختوم ص 37.

على بعض المآثر التي لا تتعارض مع المفهوم الإسلامي. حفاظا على مشاعر الأمة أن تصدم فيها حين تدخل في صميم حياتها أما ما دون ذلك فمن حق دولة الإسلام أن تلغيه حين يتعارض مع الإسلام، أو مصلحة المسلمين والجماعة الإسلامية. لقد حافظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بداية الأمر على اللواء. حتى أحد حيث كان بيد مصعب بن عمير رضى الله عنه العبدري. لكنه بعد ذلك تخلى عنه، ولم يدخل اللواء في إطار هذا الخلوذ. لأن الله تعالى يعلم أن ألوية المسلمين سوف تملأ فجاج الأرض، وسوف تنتثر تحت كل نجم، فلا يمكن أن يحصر في إنسان بل في أمة بل في جيل من الأجيال. أما حين يرد سكان الأرض إلى البيت الحرام. فلا يصعب أن تكون سدانته في يدي بني أبي طلحة، ولا تزال في عهدتهم إلى اليوم، حتى إن سادن الكعبة قد أعلن عن وفاته قبل عشرة أعوام فقط. وقد استلم ابنه بعده وسيبقى إلى يوم الدين كما قال عليه الصلاة والسلام. خذوها تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم. ونقول في نهاية المطاف مع هذه الفقرة: إن المسلمين وهم في ذروة نصرهم، حيث لا يملك أحد أن يحول بينهم وبين ما يريدون ومع هذا كله فيستطيعون المحافظة على أعراف وتقاليد الدولة التي كانت قبل الحكم الإسلامي ما لم يتعارض ذلك مع الإسلام. رابعا: ثم كانت الخطبة التي أعلن فيها عليه الصلاة والسلام في بداية الأمر عفوه عن قريش (يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم، قالوا خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت. فقال فإني أقول لكم، كما قال أخي يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} اذهبوا فأنتم الطلقاء). ثم أعلن مبادىء الحكم الإسلامي صريحة مدوية، والتي سيبدأ بتنفيذها على التو، بعد أن صار عليه الصلاة والسلام قادرا على تنفيذ هذا الحكم: وها نحن نرى هذه المبادىء. أ - إعلان إسلامية الدولة: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. ب - إسقاط الثارات والأمجاد السابقة: إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مال أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. ج - إسقاط الرابطة الجاهلية: إن الله لد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتكثرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم. د - حرمة الكعبة: ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض؛ فهي حرام بحرام الله لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد كائن بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار، ألا لا ينفر

صيدها ولا يعضد (¬1) عضاهها (¬2) ولا تحل لقطتها إلا لمنشد (¬3) ولا يختلي خلالها (¬4). فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لا بد منه للقبور وظهور البيوت. فسكت ساعة ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال. هـ - في مجال المرأة: ولا وصية لوارث، وأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة أن تعطي من مالها إلا بإذن زوجها. و- إعلان الرابطة الجديدة: والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة والمسلمون يد واحدة على من سواهم يتكافؤون دماءهم، يرد عليهم أقصاهم، ويعقد عليهم أدناهم، ومشدهم على مضعفهم ومسيرهم على قاعدهم. ز - بعض الحقوق للطوائف الأخرى: ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين. ح - بعض الأحكام الاقتصادية: ولا جلب ولا جنب (¬5)، ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم ... ط - في النكاح: ولا تُنكح المرأة على عمتها وخالتها. ي - في القضاء: والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. ك - في المحارم: ولا تسافر المرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم. ل - في العبادات: ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين يوم الأضحى ويوم الفطر. م - في الألبسة: وعن لبستين: لا يحتب أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصماء ولا إخا لكم إلا قد عرفتموها (¬6). ومع نهاية الخطبة ألغي الوجود الجاهلي، وصار الحكم للإسلام. وتم تنفيذ حكمين شرعيين خلال وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة. أولهما: دية القتيل من بكر (وقد قتلتم هذا القتيل والله لأدنيه فمن قتل بعد مقامي هذا ¬

(¬1) ويعضد، يقطع. (¬2) العضاة: شجر عظام له شوك. (¬3) اللقطة: الملقى في الأرض والمنشد: المعرف بالضالة. (¬4) الخلا: الحشيش، واختلى قطع. (¬5) لا جلب ولا جنب: يجلب أموال الزكاة أو تجنيها له. (¬6) أورد المقريزي هذه الخطبة في إمتاع الأسماع ج 1 ص 387 وهي وإن لم تثبت كاملة في هذا اليوم لكنها ثابتة بنسبتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحاديث صحيحة.

فأهله بالخيار إن شاؤوا فدم قتيلهم وإن شاؤوا فعقله). ثم أمر خزاعة يخرجون ديته فأخرجوها مائة من الإبل فكان أول قتيل وداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام. ثانيهما: المرأة المخزومية التي سرقت. وكانت امتحانا مباشرا لدولة الإسلام في الأرض، وبنو مخزوم من أشراف الناس وبدأت الوساطات من كل جانب وكان أسامة بن زيد رضي الله عنه أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجاء يشفع في حدها، فكان الجواب قاسيا جدا عليه: يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله!! ثم أعلن عليه الصلاة والسلام، أسباب محق الأمم وهلاكها: إنما أهلك من كان قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. ثم أعلن كذلك - صلى الله عليه وسلم -، أنه لا أحد في هذه الأرض فوق حدود الله بعد بلوغها للحاكم: والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). والحركة الإسلامية تهلك يوم لا تعدل في أحكامها بين قيادتها وقواعدها، وطالما أنها ترهب أن تقول كلمة الحق في صفها، فلن تعلن كلمة الحق في الناس، وميزان الحكم على النصر والهزيمة من خلال هذه الكلية الضخمة. وإنه لامتحان عسير أن تساوى القيادة في أحكامها على أبنائها مع الآخرين، وحين تنفذ ذلك فتكون لها القوامة على الآخرين. أما الذين أهدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمهم، وكانوا ستة نفر فكان أغلبهم من المرتدين أو الذين آذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هجاء مقذع أو اعتداء أثيم .. وقد قتل نصفهم ونجا نصفهم. وتقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كره منه - وساطة عثمان في عبد الله بن سعد في الوقت الذي أتاح فيه للمسلمين أن ينفذوا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، وشاءت إرادة الله أن لا ينتبه المسلمون لذلك فينجو عبد الله، ثم يسلم فيحسن إسلامه. وعثمان الذي تستحي منه الملائكة، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحي منه ويقول: ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة. جعلت رسول الله يوافق بعد لأي وإلحاح لثلاث مرات على إجارته. وهو موقف كريم من نبي كريم، مع صحابي كريم من صحابته. نرى من خلاله إلى أي مدى ترتفع قيمة الجندي عند قائده ولو في تغيير خطة أعلنها على الملأ. وكرامة عثمان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت يوم تمت بيعة الحديبية على الموت ثأرا له بعد إشاعة مقتله. وها هو اليوم في مكة يشفع لمرتد لا يمكن أن ينجو لولا الموافقة النبوية على ذلك. والإشارة العظيمة إلى أن النبي لا يقتل بالإشارة ذات دلالة على شرف النبوة التي لا تتعامل

بالغدر من الناس مهما كانت التكاليف الباهظة في حقها. إن كرامة العهد غالية جدا على المسلم. وكرامة الرجل المسلم غالية جدا على الحركة الإسلامية. وكرامة حدود الله غالية جدا على الجيش المسلم. ولابد من المرازنات بين هذه الأمور بحيث لا يطغى جانب على جانب. ونلاحظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رفض قبول شفاعة زيد ووساطته من أجل المرأة المخزومية التي سرقت. بينما قبل وساطة عثمان في حد المرتد. ولكن في هذا الأمر شبهة لجوئه إلى مكة. بينما حدثت السرقة في ظل الدولة الإسلامية دون أية شبهة، ودائما تدرأ الحدود بالشبهات. والحركة الإسلامية التي تحمل عبء إقامة دولة الله في الأرض، لا بد لها أن تتحمل مسؤولية التطبيق العملي لذلك، مهما كان الثمن غاليا. والمجرمون الذين يحملون كبر الإجرام من كبار العتاة في الأرض لا بد من عقوبتهم دون مراعاة لعواطفهم طالما أنهم قادة لهذا الشر أو مراوغون مرتدون ثبت غدرهم وكفرهم. هذا بالنسبة لخارج الصف المسلم. وكذلك الأمر داخل هذا الصف فليست الغرابة أن يقع فيه الخطأ. بل نقول أكثر من ذلك إن الغريب ألا يقع الخطأ في هذا الصف. لأن طبيعة النفس البشرية مجبولة على الخطأ. (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم) (¬1). إنما الأشد غربة أن يقع الخطأ في كبيرة أو حد من الحدود. ويتهاون به، وينفذ على الصغير دون الكبير، وعلى الضعيف دون الشريف. فهذه قاصمة الظهر للجماعة وللحركة الإسلامية كاملة فالحركة الإسلامية العاجزة عن تحقيق العدل في صفوفها هي من باب أولى عاجزة عن تحقيقه في صفوف غيرها .. ومن هنا تأتي أضخم أزمة ثقة بين القيادة والقاعدة في صف الحركة حين يصبح المثل المحتذى. والقدوة محل نقد وشك من شباب الدعوة، وجنودها الأوفياء. القيادات جميعا تعتنق الإسلام ولم يحدث في تاريخ الأرض كلها أن يدخل قادة جيش العدو في دين عدوهم إلا في تاريخ الإسلام. الثلاثة الكبار: وهم قادة جيش العدر صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد عن ابن عباس ومسلم عن أبي هريرة.

عمرو. وإسلام كل واحد منهم ملحمة فخار في تاريخ هذه الدعوة. أما عكرمة: فهو الذي قال لابن عمه خالد عندما دعاه للإسلام: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا. ولاذ بالفرار إلى اليمن لينهي حياته هناك. غير أن المفاجأة أذهلته وهو يرى زوجه قد قدمت إليه وحسب أنها فارة إليه. ولكنها الآن تدعوه إلى أمان محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وعكرمة يعرف عهد محمد ووفاءه وكراهيته للغدر. وعلى الصيغة نفسها كانت دعوة صفوان بن أمية للإسلام إذ لحق به صديقه السابق عمير بن وهب أما سهيل فاختبأ في بيته ينتظر أمانا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه إياه. وطبيعي أن يفر هؤلاء الثلاثة أو يختبئوا. فقد رفضوا الأمان الأول، وحاربوا الجيش الإسلامي، وأعلنوا العداء الصريح الواضح أن لا لقاء مع محمد إلا من خلال السيف. لكن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على طوي صفحة الحرب حتى مع هؤلاء القادة المحاربين. كان واضحا بحيث أعطى أمانه لهم دون تردد. وحمل هذا الأمان زوجة وولد وصديق. (وطلبت أم حكيم أمانا لعكرمة وقد هرب إلى اليمن. فأمنه. فخرجت إليه حتى قدم، فلما دنا من مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه. فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ إليه! فلما رآه وثب إليه فرحا، فوقف ومعه امرأته متقبة، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني. فقال: صدقت. فأنت آمن: فأسلم) (¬1). وحين تذكر الخالدات في التاريخ تبرز أم حكيم في ذروتهن. فهي التي استطاعت أن يغلب حكمها جهلها والمرأة تنطلق من الحب والكره أكثر بكثير من الرجل. ولم تكتف بذلك بل اعتبرت رسالتها الحقيقة هي أن تقنع زوجها بالإسلام، وكم تثق بنفسها حين تقطع الأرض إلى اليمن باحثة عن زوجها تدعوه إلى أمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطامحة إلى إسلامه. وهي في أعتى بيئة عداء للإسلام. فأبوها الحارث بن هشام، الذي لم يدخل الإسلام بعد، وعمها أبو جهل، وزوجها عكرمة. فالبيئة تنضح بالكره لمحمد والحقد عليه. ومع ذلك استطاعت أن تتجاوز هذا كله. وتمضي الداعية العظيمة في فجاج الأرض لتعود بزوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومدرسة النبوة الحية في عظمة حلمها وصلتها وبرها تجل عن الوصف. حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي المسلمين بالامتناع عن سب أبي جهل أمام عكرمة. وتوارث سب أبي جهل في الصف ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 392.

الإسلامي هو مدرسة بحد ذاتها. فلم يشتف المسلمون من كافر شفاءهم من أبي جهل. ورغم هذا الحقد المتوارث في النفوس والكره المستأصل فيها، فقد صدرت أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإغلاق هذه المدرسة. إكراما لعكرمة المؤمن المهاجر. وإذا كان المسلمون قادرين على كبت مشاعر الحقد والكره على أبي جهل فرعرن هذه الأمة. لكنهم عاجزون تماما عن إبداء مشاعر الحب إلى الذي بقي حتى آخر لحظة يحارب الإسلام ويحارب الله تعالى ورسوله. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يحمل في قلبه تاريخا كاملا من أذى أبي جهل وحربه له ولعقيدته، كان أكبر من بشر الأرض جميعا في سوه، واستطاع أن يظهر كل معاني الحب والود لعكرمة. فيثب إليه فرحا منذ رؤيته. أولا يحس عكرمة رضي الله عنه أنه يذوب حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أعجز من أن يصمد لحظة واحدة أمام هذا الاسقبال العظيم بعد الحرب الكؤود. وأنه لن يقدر على هذا إلا أولوا العزم من الرسل أو بالأحرى سيد هؤلاء الرسل جميعا. ومع ذلك تمالك وتجلد وتأكد قبل أن يعلن إسلامه من أمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له. وأعلن إسلامه بعد أن نال أمانه. إنها مدرسة في التربية وليس درسا فقط، تجري أمام هذا الجيش المسلم. تتجلى في هذه المعالم الثلاثة كظم الكره والحقد عن أكبر كفار في التاريخ ومجرميهم أبي جهل إكراما للعدو الألد ابنه الذي يأتي للإسلام. القيام والوثوب لاستقبال هذا العدو الألد. ومظاهر الفرح تملأ كيان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما يعلن عكرمة إسلامه بعد. إعطاء الأمان لعكرمة قبل أن يعلن إسلامه وهو الذي ملأ الدنيا حربا ضد الإسلام والمسلمين. وهكذا دخل عكرمة في هذا الدين دون أن تخدش كرامته أو تمس. فقد كان بإمكانه أن يغادر مكة، أو يبقى على كفره بهذا الأمان إلى فترة محددة. ولكنه حرص على أن يدخل في هذا الدين دون أن يكون هذا الأمر تحت وطأة السيف وطريق الإرهاب. واستطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستل حقده كله، وأن يضبط عواطف جيشه كله. فلا ينال من عدو الله أبي جهل إكراما لهذا المستأمن أولا، ثم المسلم بعد ذلك. والذي يؤكد هذا المعنى هو صفوان بن أمية الذي طلب أمانا لشهرين فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمان لأربعة أشهر. وتأخر في إسلامه حتى حضر حنين مشركا. والذي لا شك فيه أن معاملة هؤلاء القادة كانت معاملة خاصة استثنائية. فلا أمان لكافر محارب في الأصل، وإعطاؤه الأمان هو فسح الصدر لهذه النفوس أن تهدأ وترعوي. وصفوان رضي الله عنه، بلغ من حقده أنه رفض في بداية الأمر أن يكلم صديق عمره، عمير بن وهب الجمحي والذي لم يكن حقده عليه أقل من حقده على محمد - صلى الله عليه وسلم - حين عاهده في الحجر بعد بدر على قتل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وراح يحدث القوم: سيأتيك عمير بخبر تتحدث به الركبان.

وجاء الخبر بإسلامه، فأقسم أن لا يكمله. وها هو الآن يلحق به إلى البحر ويدعوه ويلاطفه ويلح عليه ويذكره بابن عمه محمد - صلى الله عليه وسلم - أبر الناس وأوصل الناس وأحلم الناس حتى تلين قناته، وتهدأ نفسه. وعاد يطلب الآمان. وقبل منه أن يدخل مدرسة المسلمين وهو على شركه. إنه يعيش وسط البيئة المسلمة. وهو على شركه وهو على حقده. وجرت حادثة كان من الممكن أن توتر الجو حين جاءه رسول محمد - صلى الله عليه وسلم -. حيث بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقرض من صفوان خمسين ألف درهم، وأدراعا من عنده للحرب فقال: أغصبا يا محمد، قال: لا. ولكن عارية مؤداة. وأداها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له من غنائم حنين، ولئن كفت المعاملة الطيبة لعكرمة مباشرة في دخوله في الإسلام. لكن صفوان تأخر بعد حنين حتى أسلم يقول رضي الله عنه: والله ما كان على ظهر الأرض أحد أبغض إلي من محمد، فما زال يعطيني من غنائم حنين حتى لم يعد أحد على ظهر الأرض أحب إلي من محمد. ولئن كان الوثوب لاستقبال عكرمة والأمان والنهي عن سب أبي جهل استطاعت أن تسل حقد عكرمة فيسلم. وكانت غنائم حنين كفيلة بأن تستل حقد صفوان بعد شهرين. فكان لجواب رسول الله عليه - صلى الله عليه وسلم - لسهيل بن عمرو. أعظم الأثر في استلال حقده. وكانت مدرسة سهيل بن عمرو من مدرسة خالد بن الوليد رضي الله عنه. حيث أسلما من خلال الكلمة الطيبة. كانت كلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالد: ما مثل خالد يجهل الإسلام، وعقله عقله، ولو جاء إلينا لقدمناه على غيره. وكانت كلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن سهيل عن أبيه: من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن بنافع. فقال سهيل، كان والله برا صغيرا وكبيرا. فخرج وشهد حنينا وأسلم بالجعرانة. إن هذا الصبر القليل على هؤلاء القادة الثلاثة. جعلهم يدخلون الإسلام كما قال ابن الزبعري. بعد أن أسلم اللحم والعظام لربهم، ولا يدخلونه خيفة أو نفاقا. إن السخصيات العظيمة لا تتقن النفاق، فقد كان بالإمكان أن يموتوا طريدين مشردين، حاقدين على الإسلام. لكن عظمة المعاملة النبوية. نقلتهم وهم قادة إلى الصف المسلم ليتبوؤوا موقع القيادة فيه. ويكونوا سادة على قومهم يقاتلون بهم أعداء الله. ويسقطون شهداء في المعارك.

لقد مثل هذه الصورة واحد فقط من قادة مكة هو هبيرة بن أبي وهب زوج أم هانىء ولم يتراجع عن حقده، ومات في اليمن طريدا على كفره. فماذا يذكر التاريخ عن هبيرة. وأم هانىء رضي الله عنها، استطاعت أن تنقذ اثنين من أحمائها ليدخلوا في حظيرة الإسلام. ولم تتمكن أن تفعل مع زوجها ذلك. شيوخ مكة: وكان إسلامهم وهم يبثون حقدهم على رؤية بلال رضي الله عنه يؤذن فوق الكعبة تقول جويرية بنت أبي جهل وهي تسمع وأشهد أن محمدا رسول الله - (قد لعمري رفع لك ذكرك أما الصلاة فسنصلي. والله لا نحب من قتل الأحبة أبدا. ولقد كان جاء أبي الذي جاء محمدا من النبوة فردها وكره خلاف قومه). عتاب بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا اليوم. الحارث بن هشام: واثكلاه! ليتني مت قبل هذا اليوم: قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة. الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم، أن يصبح عبد بني جمح على بينة أبي طلحة (¬1). سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطا لله فسيغيره، وإن كان رضى فسيقره. أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئا، لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء. فأتى جبريل عليه السلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرهم) (¬2). (فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد علمت الذي قلتم ثم ذكر ذلك لهم: فقال الحارث وعتاب: نشهد إنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول اخبرك.) (¬3). وهكذا انضم الحارث شيخ بني مخزوم إلى الإسلام، وهو أخو أبي جهل، وانضم الشاب الفتى عتاب بن أسيد إلى الإسلام كذلك. لسان مكة: وكان الناطق الرسمي باسم مكة ابن الزبعري الذي أمضى حياته ووطن شعره ووظفه في حرب محمد - صلى الله عليه وسلم -. وفر إلى اليمن. فأرسل إليه حسان بن ثابت بالبيت المشهور: لا تعدمن رجلا أحلك بغضه ... نجران في عبش أحد لئيم وحرك هذا البيت مشاعر ابن الزبعري، فتقدم إلى مكة، حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهيىء ¬

(¬1) بنية أبي طلحة: الكعبة ودعيت لأبي طلحة نسبة لأبي طلحة بن عبد الدار سادنها. (¬2) إمتاع الأسماع ج 1 ص 390، 391. (¬3) البداية والنهاية لابن كثير ج 4 ص 302.

الجو لقدومه ويقول في صحبه: هذا ابن الزبعري ومعه وجه فيه نور الإسلام ولا يغيب عن البال الشاعر الفحل الآخر، كعب بن زهير الذي فر هاربا إلى الطائف فجاءته رسالة أخيه المسلم بجير. بن زهير يقول فيها: من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهو أحزم إلى الله لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم لدي يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم فدين زهير وهو لا شيء دينه ... ودين أبي سلمى علي محرم فلما بلغ كعب الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه وقالوا: هو مقتول. فلما لم يجد من شيء بد قال قصيدته التي يمدح بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به. ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، كما ذكر لي، فغدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح فصلى مع رسول الله ثم أشار له إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فقال هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه فذكر لي أنه قام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس إليه ووضع يده في يده وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعرفه فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن جئتك به؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم. فقال: إذن أنا يا رسول الله كعب بن زهير. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أنه وثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعه عنك فإنه جاء تائبا نازعا (¬1). وكان مما قاله: نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ... القرآن فيها مواعيظ وتفصيل إن الرسول لنور يستضاء به ... مهندمن سيوف الله مساول في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا نسوة قريش: وأسلمت هند بنت عتبة، وأم حكيم بنت الحارث امرأة عكرمة بن أبي جهل، والبغوم بنت المعذل امرأة صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وهند بنت منبه ابن الحجاج أم عبد الله بن عبرو بن العاص في عشرة نسوة من قريش، فأتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح، وعنده زوجتاه وفاطمة ابنته، في نساء من نساء بني عبد المطلب، فبايعته ولم تمس يده يد ¬

(¬1) البداية والنهاية ج 4 ص 369.

امرأة. (ورؤيت فيهن هند بنت عتبة وهي متنكرة لأجل صنيعها بحمزة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا، فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولا تسرقن. فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح. فإن أنا أصبت من ماله هنأت؟ فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفها فقال: وإنك لهند؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك فقال: ولا يزنين. فقالت: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن أولادهن. فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم ببدر كبارا فأنتم وهم أعلم. فضحك عمر حتى استلقى، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ولا يأتين ببهتان فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، وما تأمرنا إلا الرشد ومكارم الأخلاق، فقال: ولا يعصينك في معروف فقالت: والله ما جلسنا مجلسك هذا وفي أنفسنا أن نعصيك. ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور) (¬1). ها هي مكة بشيوخها وشبابها ونسائها وقادتها وشعرائها تدخل في الإسلام؛ أو في أمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحقق النبي عليه الصلاة والسلام هدفه الأكبر بالنسبة لقريش: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشا. وكان عزها في دخولها أفواجا في دين الله، واستطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم -. أن يتجنب مجزرة فيها فناء قريش كلها من جهة. وأن تدخل قريش كلها في الإسلام. وهذه هي عظمة الجهاد السياسي المسلح. الجهاد الذي ينطلق من القوة الضخمة التي تجعل العدو قد أحيط به، فيستسلم على ضوء ذلك. وهذا هو الفقه الأكبر للنفوس الذي شهدناه من خلال الفتح الأكبر. والحركة الإسلامية التي تحمل لواء الدعوة في سبيل الله، لا بد أن تنتقل إلى الخط المسلح الذي يمنع عنها الإبادة من العدو ولكن هذا الأمر لا يتم إلا من خلال خطة متكاملة محددة المراحل، في طبيعة الصراع مع الباطل والطاغوت، وقمة انتصارها حين تصبح قوة مرهوبة الجانب، عندئذ يدخل خصومها معها في حوار، وينتقلون للاعتراف بها كأمر واقع. وكلما استطاعت أن تتقدم في مضمار القوة أكبر. كلما استطاعت أن تسمع صوتها أكثر للجميع، واستطاعت أن تجد الآذان الصاغية لها ولدعوتها. ولا يجوز أن تفتنها القوة عن هدفها. بحيث تنسى مهمتها الأولى في أن تكسب الناس جميعا لهذا الدين الخصوم والأصدقاء على السواء. ومن الفقه الأكبر كذلك التعرف على نفسيات القيادات والشخصيات الضخمة للعدو. بحيث تتجنب أسلوب الإرغام والإذلال لها. لأن هذا الأسلوب سيقود هذه الشخصيات إلى الحقد الأسود على الداعية والدعوة، ويوجهها إلى الثأر والانتقام من جهة، أو إلى الممالأة والنفاق ¬

(¬1) الرحيق المختوم عن مدارك التنزيل للنسفي ص 460.

ثم الكيد والتآمر في الخفاء من جهة أخرى. وعلى الحركة الإسلامية كذلك أن تعير قضية المرأة اهتمامها الكبير. فهند بنت عتبة، أشهر الحاقدات في التاريخ، هي التي قادت نسوة قريش إلى الإسلام. وبلغ حقدها أن هاجمت زوجها ودعت إلى قتله حين دعا إلى الاستسلام، ومع ذلك أمكن تفتيت هذا الحقد إذ تقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد انتهاء البيعة: والله يا محمد ما كان على ظهر الأرض أحد أحب إلي من أن يذل من أهل بيتك وخبائك. والله ما عاد على ظهر الأرض أحد أحب إلي من أن يعز من أهل بيتك وخبائك. فيقول عليه الصلاة والسلام: وأيضا والذي نفس محمد بيده (¬1). فلو استطاعت الحركة الإسلامية أن تقنع رائدات الانحراف من النساء بطبيعة هذا الدين لأمكن أن يحولن المسار كله نحو الإسلام، والاهتمام بالقيم الكبرى التي تقبع في أعماق القيادات وتختفي وراء بعض المظاهر الخادعة. يمكن أن يساهم مساهمة فعالة في تحقيق الهدف العظيم: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}. ... ¬

(¬1) البداية والنهاية ج 4 ص 319 عن البيهقي بسنده.

السمة الثالثة عشرة: إنهاء الجيوب الوثنية المتبقية

السمة الثالثة عشرة: إنهاء الجيوب الوثنية المتبقية أ - هدم الأصنام العربية وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يوما يحدد معالم الإسلام ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الأيام أمر أبا أسيد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم. وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره. السرايا والبعوث.: ولما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان (سنة 8 هـ) ليهدمها. وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة. وهي أعظم أصنامهم. وكان سدنتها بني شيبان. فخرج إليها خالد في ثلاثين فارسا حتى انتهى إليها فهدمها، ولما رجع سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت شيئا؟ قال: لا. قال: فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها. فرجع خالد متغيظا قد جرد سيفه، فخرجت إليه امرأة عريانه سوداء ناشرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها. فضربها خالد فجزلها اثنتين ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: نعم، تلك العزى. وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا. 2 - ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه، وهو صنم لهذيل برهاط على ثلاث أميال من مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن: ما تريد؟ قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهدمه؛ قال: لا تقدر على ذلك، قال: لم؟ قال: تمن. قال: حتى الآن أنت على الباطل؟ ويحك. فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئا ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. 3 - وفي نفس الشهر بعث سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسا إلى مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم. فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها: ما تريد؟ قال: هدم مناة. قال: أنت وذاك، فأقبل إليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها. فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك. فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره. ولم يجدوا في خزانته شيئا) (¬1). ¬

(¬1) الرحيق المختوم للمباركفوري ص 461.

4 - ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى (بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني جذيمة داعيا ولم يبعثه مقاتلا ومعه قبائل من العرب. فوطئوا بني جذيمة. فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح، فإن الناس قد اسلموا. فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك: فكتفوا، ثم عرضهم على السيف. فقتل من قتل منهم. فلما انتهى الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد .. ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: يا علي أخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال؛ حتى إنه ليدي ميلغة (¬1) الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي رضوان الله عليه حين فرغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يعلم ولا تعلمون. ففعل ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر: فقال أصبت وأحسنت ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه، يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات. وقد قال بعض من يعذر خالدا إنه قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم عن الإسلام. قال ابن إسحاق: وقد كان جحدم قال لهم حين وضعوا السلاح ورأى ما يصنع خالد ببني جذيمة: يا بني جذيمة ضاع الضرب، قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه. قد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف فيما بلغني كلام في ذلك. فقال له عبد الرحمن بن عوف: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام. فقال: إنما ثأرت بأبيك، فقال له عبد الرحمن بن عوف: كذبت، قد قتلت قاتل أبي. ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة، حتى كان بينهما شر. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مهلا يا خالد دع أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم انفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي أو روحته) (¬2). 5 - هدم اللات: فلما فرغوا من أمرهم، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة، في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة بن شعبة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه وقال: أدخل أنت على قومك وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم فلما دخل المغيرة بن شعبة ¬

(¬1) مبلغة الكلب: شيء يحفر من خشب ويجعل ليلغ فيه الكلب. (¬2) السيرة لابن إسحاق ج 4 ص 541.

علاها يضربها بالمعول، وقام قومه دونه -بنو معتب- خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ويقلن: لتبكين دفاع ... أسلمها الرضاع ... لم يحسنوا المصاع (¬1) ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واها لك (¬2). كانت الخطوة الأولى بعد هدم الأصنام بالكعبة هو أن تلاحق الأصنام في الأرض العربية كلها وكان هبل الصنم الأعظم بمكة قد تحطم على يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -. {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى} (¬3). ولقد ارتبطت قدسية البيت الحرام ارتباطا وثيقا بقدسية الأصنام. ولم يكن العربي بعد الله تعالى يحلف بصنم إلا باللات والعزى. وإن كان تأخر اللات بالهدم عن العزى ومناة كان مرتبطا بكسر شوكة ثقيف. غير أن العزى كانت أول المقدسات العربية تحطيما بعد أصنام الكعبة. وتلتها مناة بعد ذلك. وكانت الخطة النبوية أن يقوم قائدا الفرسان في مكة بهذه المهمة، خالد وعمرو أما خالد فكانت مهمته إلى العزى، بينما كانت مهمة عمرو بن العاص إلى سواع. وخالد وعمرو للملمات والمهمات الخاطفة الفدائية. ومن أجل ذلك لم يكن معهما إلا بضعة وعشرين فارسا من فرسان المسلمين، ونجحت المهمتان نجاحا عظيما رغم المظاهرة العنيفة من العزى ومناة التي تظهرمن تلك المرأة العارية السوداء الناشرة شعرها، وكان لتحطيم الصنم، ومقتل المرأة وتهدم بيت السدانة أثر ضخم في اضمحلال قدسية هذه الأصنام. وكانت الآثار ¬

(¬1) المصاع: المضاربة بالسيوف. (¬2) السيرة لابن هشام ج 4 ص 431. (¬3) سورة النجم: 19 - 22.

الإعلامية لهذه الأحداث. أن اجتثت جذور الوثنية وزلزلت أركانها من القواعد. لكننا نلحظ أن مناة كانت من نصيب سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه ولم تكن من نصيب خالد وعمرو وسبب ذلك أن مناة هي المقدسة عند الأوس والخزرج. فلا بد أن يهدمها واحد من الأوس والخزرج كما كانت العزى من مقدسات قريش فكان هدمها على يد خالد، ولا يبعد أن تكون سواع مقدسة عند قوم عمرو أو أقاربه، ومن أجل هذا كلف بهذه المهمة، أو لعلها من المقدسات عند قريش كذلك. وهو تخطيط نبوي واضح، أن يحطم الصنم ممن كانوا يولونه القداسة والعبادة أكثر من غيرهم، وهكذا نلحظ أن الذي هدم اللات فيما بعد - صنم ثقيف - هو المغيرة بن شعبة الثقفي. وترافق هذا الهدم مع التوجيهات النبوية العامة في مكة وحولها. (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره). وليس هذا أمرا سهلا في الحقيقة فهذه الخطوة من حيث الضخامة والخطورة تقارب فتح مكة وتحطيم تلك الآلهة المدعاة. ثم تحطيم تلك الأصنام التي تملأ البيوت العربية. تعني هذه الأمور ثورة كاملة على الجاهلية وإزالة معالمها ومحو مقدساتها من النفوس قبل البيوت وقبل أماكن العبادة وقد استطاع الإسلام حقا في هذه الخطوات أن يهزم الجالهية في أقل عدد من الخسائر في الأموال والأرواح، والتي كان بالإمكان أن ترافقها المذابح الجماعية في الأرض العربية. ولا بد هنا من المقارنة بين خطين كبيرين في العمل الإسلامي في هذه المرحلة. هذان الخطان هما: تحطيم الأصنام، وتحطيم الأشخاص. فبمقدار ما حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحفاظ على الأشخاص، مهما كانت مستويات محاربتهم للإسلام، ومستويات عقائدهم الوثنية. حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحطيم كل أثر من آثار الوثنية. حتى ولو كان الصنم الصغير التافة في البيت. ولم نجد في هذه القضية إطلاقا مراعاة للنفوس التي قد تثور أو تحقد أو تغضب أو ترتد حين تحطم مقدساتها وتكسر. وما أحوج الدعاة إلى التفريق بين الخطين حتى في مرحلة القمة، مرحلة الفتح الأكبر

والنصر المبين إننا في لحظة الانفعلات العاطفية والخط الدعوي الإعلامي كثيرا ما نستعمل هذه المقولة والأشخاص الطغاة الذين يحكمون بغير شريعة الله أصنام يجب أن تحطم. والطغاة حين يصرون على الكفر لا بد أن يسقطوا أو يحطموا. هذا لا شك فيه، ولكن عظمة الإسلام هو في الاغتيال النفسي لهؤلاء الطغاة وإعادة تركيبهم من جديد على ضوء الإسلام فتكون معادلة البناء سهلة في هذا المجال ونحن حين نغزو قلوب عظماء الرجال. ونحتلها بهذا الإسلام العظيم، نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في مجال الدعوة من خلال البنيان القبلي والعشائري الذي يجعل للقبيلة الدور الضخم في شرائح الجهاد الإسلامي. فخالد بن الوليد الذي حطم العزى كان في مرحلة من المراحل من طواغيت مكة. وكان صنما يجب أن يحطم على حد مقولتنا الإعلامية العاطفية لكن عظمة الإسلام أن جعلت منه الأداة التي حطمت العزى في الأرض العربية وقل هذا القول بالنسبة لعمرو بن العاص رضي الله عنه الذي كان أحد طواغيت مكة الكبار. وتم على يديه هدم سواع. وكان من الممكن أن يكون هدف تحطيمه معركة طاحنة. وقل مثل ذلك بالنسبة لأبي سفيان رضى الله عنه الذي كان أكبر الطواغيت في مكة. فلقد كان هدفا بحد ذاته. ولطالما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يغتاله، وشاءت إرادة الله تعالى أن لا ينجح مشروع اغتياله. وبالتالي يدخل ضمن مخطط الهدى النبوي، فيكون الأداة بعد أشهر فقط في هدم اللات مع المغيرة بن شعبة. إنها نقلة ضخمة في عالم العظام أن تسير بهم برفق وبعبقرية من الجاهلية إلى الإسلام وتحولهم من هدف للتحطيم إلى أداة تحطم بها معالم الكفر. وبالتالي تفقه الحركة الإسلامية الفرق بين الخطين المذكورين. وبمقدار ما تراعى أعماق النفس الإنسانية. وتستلم مفتاحها وتوجد الهزة الشعورية التي تنقلها إلى حظيرة الإسلام. بمقدار ما ترمي وراء ظهرك هذه المشاعر جميعا عند بناء العقيدة وتهديم معالم الكفر، وعدم إعطاء أي وزن لغضب النفوس من جراء تحطيم معالم الجاهلية وكان أقصى حد من التساهل في هذا المجال هو أن يعفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القوم من هدم أصنامهم بيدهم، دون أن يكون تأجيل الهدم موضع مساومة، وأنت قادر على ذلك. لكن هذا لا يمنع أبدا من القول: إن هذا المبدأ لم يكن هو المبدأ السائد في كل المراحل ونستطيع أن نلاحظ الموقف من الأصنام إنه قد مر بمراحل متعددة: أولى هذه المراحل: يوم نهى الإسلام عن سب هذه الأصنام. وكان هذا في مرحلة البناء الأولى في مرحلة تأسيس الدعوة.

{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} (¬1). وهذه المرحلة لا ترتبط بزمن وهي بالنسبة للحركة الإسلامية تمتد طالما أن الحركة الإسلامية غير قادرة على مواجهة الكفر بشيء يوم تسب الله تعالى ولا تستطيع أن تحول دون ذلك. والثانية في مرحلة تأسيس الدولة: ويختلف الأمر هنا من داخل الدولة إلى خارجها. فداخل حدود الدولة الأصل أن تزول معالم الوثنية منها. أما إذا اشترك في سلطانها أكثر من جهة فيمكن أن تبقى هذه الأصنام دون أن يشارك المسلمون في تقديسها. فمناة مثلا لم يهدم قبل فتح مكة. وكانت تشترك في تقديسه الأوس والخزرج وغسان، وإذا كان الأوس والخزرج قد انتهى تقديسها عندهم بعد الإسلام. لكن اشتراك غسان في تقديسها، وغسان ذات شوكة ضخة، ومرتبطة مع الروم بتحالفات مصيرية. أجلت عملية الهدم الى فتح مكة. والثالثة في مرحلة تمكين الدولة. ويختلف الأمر في مرحلة التمكين بين حق المشاركة وحق السيادة فحق المشاركة الذي قام من خلال معاهدة الحديبية والذي حدد تنفيذه بعد عام كامل وذلك حيث تختلط معالم الوحدانية بمعالم الشرك. وحيث يقدر المسلمون أن يمارسوا شعائر الإسلام دون أن يشاركوا في شعائر الشرك. كما هو الأمر في عمرة القضاء. وطاف المسلمون حول البيت الحرام. دون أن يحق لهم التدخل في آلهة المشركين. ونلاحظ المرحلية حتى في مجال المشاركة إذ تبدأ كما قلت بعد عام من المعاهدة وأما عند حق السيادة فالأصل إلغاء الوجود الوثني كله. مهما كانت النفوس ضعيفة وذلك الموقف الذي نشهده الآن بعد فتح مكة. ويحضرني من خلال الواقع العملي، قضية الإذاعة التي عانت منها بعض فصائل الحركة الإسلامية المسلحة إذ كانت المصلحة تقتضي فتح صوت إسلامي في هذه الإذاعة يرافقها أصوات غير إسلامية تمثل التيار القومي. وكانت المرحلة الأولى لهذه الإذاعة أن استلمت ركنا محددا بزمن محدد تبث منه فكرها الإسلامي دون أن يكون لها علاقة بما تبثه الإذاعة القائمة أما عندما وجدت الحركة الإسلامية نفسها مضطرة للاشتراك مع حلفائها بهذا الصوت الإذاعي، تحت راية واحدة فكان لابد لها أن تحافظ على تميزها في بثها المنتشر في الإذاعة كاملة من حيث يظهر التميز في نشيدها الذي يمثل فكرها، ولا بد من خطوة ثانية تقتضي، الإشراف على البث كله طالما أنه يبرز تحت ¬

(¬1) الأنعام 108.

راية واحدة حتى لا يخاف الإسلام في الحدود الممكنة. والدعاة بحاجة إلى فقه هذا التدرج مرحلة عقب مرحلة محكومة بالقوة التي تملكها الحركة الإسلامية والقدرة على الانتقال إلى الموقع الأفضل مع القوة الأفضل. ونرجىء المرحلة الأخيرة لما بعد سورة براءة. وفي الحديث عن سرية خالد رضي الله عنه إلى بني جذيمة تبرز معان جديدة متعددة. فمن هذه المعاني أن خالدا رضي الله عنه قد نجح أعظم نجاح بصفته قائدا حربيا في مؤتة وفتح مكة، وهدم العزى. نجده فشل فشلا ذريعا بصفته داعية إلى الله تعالى. وطغى الجانب الحربي على الجانب الدعوي عنده، وكانت تجربة قاسية له ولا شك ولما يمر على إسلامه سنة كاملة وبالتحديد خلال الأشهر الثمانية الأولى من إسلامه. لقد كانت بوادر هذا الإندفاع ظاهرة في فتح مكة حيث قاتل المشركين. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن القتال، وحوسب على ذلك فقال: (جاءني فلان فأمرني أن أقتل من قدرت عليه. فأرسل إليه ألم آمرك؟ قال: أردت أمرا وأراد الله أمرا فكان أمر الله فوق أمرك وما استطعت إلا الذي كان) (¬1). وفي رواية أنه أقسم ما قاتل حتى قوتل. وقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عذره. لكن الخطيئة في بني جذيمة كانت ضخعة. وذات أثر سيء جدا في الصف العربي الذي ينظر إلى المسلمين على أنهم القدوة العليا في الأرض، وعلى اختلاف الروايات. فلا نجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنا يغفر لخالد، بل يرفع يديه إلى السماء متجها إلى القبلة ويقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد. (قالها ثلاثا). وصورة الأمر حين ينتشر يعني أن لا عهد للمسلمين مع خصومهم، وأنه ليس أمام هؤلاء الخصوم إلا المقاومة أو الإسلام. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث خالدا داعيا ولم يعثه مقاتلا ودون الخوض في التعليلات التي سبقت واختلاف الروايات فيها. فمما لا شك فيه أن مقتل الكثير من بني جذيمة يخالف التوجيه النبوي مخالفة تامة، واحتال أن تكون هذه النفوس السبعون أو أكثر قد قتلت ظلما بعد الإسلام هو احتمال قوي كما تذكر بعض الروايات الصحيحة والذي يزيد في المسؤولية أن هناك من احتج احتجاجا شديدا على قتلهم. وأهم من احتج على ذلك عبد الله بن عمر، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الرحمن بن عوف، حتى كاد يكون بينهم شر. وإن كانت بعض الروايات تشير إلى أن عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه هو الذي أمر خالدا بذلك. وكان ألم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألما عظيما من هذه النتيجة. وحاول أن يستدرك الأمر بعلي رضي الله عنه الذي لحق ببني ¬

(¬1) البداية والنهاية ج 4 ص297.

جذيمة فأوقف القتل، ودفع دية جميع القتلى بلا استثناء، وعوض عن جميع الخسائر الماديه حتى ميلغة الكلب. ومن هذه المعاني، الدرس القاسي الذي لقنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالد، حين أعلن براءته مما عمله على مستوى الملأ، هذا بالنسبة له. لكن حرص عليه الصلاة والسلام على الحفاط على ما تبقى من الدماء درس آخر علني في تسفيه سلوك خالد وتخطئته على الملأ من بني جذيمة. ومن طرف ثالث. وضع خالد رضي الله عنه ضمن حدوده حين يتجاوز على أمثال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو من السابقين الأولين من المهاجرين. إن هذه النفسية العظيمة التى كانت تجد الأمجاد أمامها مجدا بعد مجد. لا بد لها حين تخطىء من أن تكفكف عن خطئها. وتطامن من كبريائها، فتبقى هذه التجاوزات محاطة بسياج الإسلام يردها عندما تريد الجموح لقد كانت كلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالد، أقسى من أي درس تلقاه في حياته. درس في التربية، يتلقاه القائد العظيم، ليتعلم أصول الدعوة وطريقها. وذلك حين قال له عليه الصلاة والسلام: دع عنك أصحابي. فلو أنفقت ملء أحد ذهبا ما بلغت مد أحدهم ولا نصيفه. وفي رواية: ما أدركت غدوة رجل من أصحابي أو روحته. كان لا بد لهذه المعاني أن تطرق ذهن القائد العظيم وهو يتلقى دروس التربية في مدرسة النبوة. فذكر الغدوة والروحة لا بد من الإشارة إليه، وكل علاقة خالد بالجهاد لم تبلغ بعد ثلاث معارك خلال ثمانية أشهر فكيف يغيب عن ذهنه جهاد عشرين عاما أو تزيد في صحيفة عبد الرحمن رضي الله عنه هذا من جهة، ومن جهة ثانية. فلذكر جبل أحد معنى ذو مذاق خاص، لا يدرك مذاقة المر مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه. فهو بطل أحد، وهو الذي حارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك المعركة في الوقت الذي كان عبد الرحمن بن عوف واحد من خمسة يذودون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وناله أكثر من عشرين جراحة. فكيف يستويان؟ وفي الوقت الذي كان خالد رضي الله عنه يحمل على كتفيه وسام مؤتة وهو من أعلى الأوسمة العسكرية على الإطلاق. لكن هذا لا يعفيه من المسؤولية، ولا يبيح له قتل كثير من المسلمين دون تثبت. فكان هذا الدرس من أعظم الدروس التربوية التي تلقاها خالد في حياته رضي الله عنه. فقه منه أن الحرب ليست للحرب. كما هي الحال في تاريخه العسكري لعشرين عاما خلت، وفقه منه أنه داعية قبل أن يكون قائد حرب ممتاز، وفهم منه أن استلامه الموقع الأول في القيادة لا يعني أن هذا يعطيه حق التعالي على الآخرين، أو أنه غدا خيرا منهم. بل لا يحق له أن يقارن نفسه مع الجيل الأول من المجاهدين ومع الرعيل الأول منهم. ومن المعاني التي تبرز من خلال هذه السرية حركية الرسول - صلى الله عليه وسلم - العجيبة التي جعلته يتدارك

الأمر قبل فوات الأوان. وحين تقارن هذه الحركية مع الحركية القائمة للجماعة الإسلامية يكاد يصيبنا الذهول والألم للبون الكبير بين الحركتين. مع توفر وسائل المواصلات اليوم. وفي العمق النفسي الذي سلكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختياره عليا بالذات بصفته الممثل الشخصي له فهو أخوه وابن عمه كي يطمئن الناس إلى الموقف الصحيح الذي عالج الخطأ. بهذه الحكمة حتى ليدي مبلغة الكلب، ويوزع الباقي على بني جذيمة لتثلح صدور الناس. من جديد، وتمسح هذه اليد الحانية تلك المجزرة الضخمة. ولا أدل على التعبير عنها مما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نومه إذ قال: (رأيت كأني لقمت لقمة من حيس (¬1) فالتذذت طعمها، فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها فأدخل علي يده فنزعه. فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله هذه سرية من سراياك تبعثها. فأتيك منها بعض ما تحب، ويكون في بعضها اعتراض فتبعث عليا فيسهله) (¬2). ولعل الشيء الأخطر الذي أنقذه علي رضي الله عنه هو سمعة المسلمين، وذلك حين يتناقل الناس النبأ أن المسلمين يغدرون، وإنهم سيذبحون كل من يعاديهم حتى لو دخل في الإسلام. فانتشار هذه القالة دون أن ينتشر معها ذلك التصحيح المباشر الذي يلف الخطأ ويزيل آثاره سوف يقف سدا ذريعا بين الناس وبين الإسلام. وهذا الدرس يعني أن كرامة الحركة فوق كرامة الأشخاص، وسمعة الدعوة فوق سمعة الأشخاص وأن يشرح خطأ خالد علنا. على ما فيه من قساوة على خالد. هو أمر من مصلحة هذه الدعوة التي لا يجوز لها أن تفرط في ذرة من سمعتها على الإطلاق. ومن أجل إرضاء النفوس يبذل المال كله، ولو تجاوز حدود الصلاحيات المتاحة ضمن الهدف العام الذي تتحرك القيادة من أجله وهو تطبيب النفوس، وإعادة الثقة فيها من جديد. ومن المعاني السابقة المذكورة إلى المعنى الأخير الخطير. هذا المعنى، هو قيمة الداعية المجاهد. وقبل أن نمضي بعيدا في هذا المعنى نقف مع هذه اللمحات والخطرات في واقع الحركة الإسلامية من خلال بعض الأمثلة التي توضح الفرق بين هذا الواقع وبين الأفق الوضيء الذي تدعونا السيرة النبوية إليه. 1 - ذات مرة وقع أخ من صفوف الحركة الإسلامية أسيرا بيد حليف هذه الحركة. ولخطأ أو إهمال أو غدر تم تسليم هذا الأخ إلى يد العدو. فأدت هذه القضية في صف هذه الحركة إلى توتر لم ¬

(¬1) حيس: أن يخلط السمن والتمر والإقط فيؤكل. (¬2) السيرة لابن هشام ج 4 ص 429.

يحصر الأمر ضمن الخطيئة. بل زعزع ثقة الجنود بكل القيادة. وأشار بعض المغرضين فيها بأصابع الإتهام إلى خط الجماعة كله، ووصمها البعض بالغباء والتواطؤ. ولا شك أن الحاقدين تكنوا من إثارة هذا الجو وتعبئة النفوس في هذا المسار. لأن هذا التسليم عرض العديد من الشباب للخطر. 2 - ألقى أخ مسؤول ذات مرة كلمة حماسية في الإذاعة المخصصة للحركة الإسلامية، فثار الشباب المتحمس ضده في اليوم الثاني. واتهمه بأنه يريد أن يذبح أسرى هذه الحركة الموجودين في صفوف العدو، وراح الحماس يلعب دوره حتى اتهمه بمسؤوليته عن قتل ستة آلاف شهيد نتيجة تلك الكلمة المذاعة، علما بأن الشهداء سقطوا قبل هذه الكلمة. وأضحت المطالبة بإقصائه ومحاكمته وقتله. 3 - حدث في الإذاعة التي تشترك بها الحركة الإسلامية أن أخطأ بعض الإخوة وأدخل مقطوعة موسيقية ضمن برنامج إسلامي، فقامت القواعد ولم تقعد. متهة القيادة بالإنحراف عن الإسلام، وبأن هذه القيادة غدت أداة في يد العدو. تهادن في دين الله، وتستحل الحرام، وتعلن القواعد فقدان ثقتها النهائية بالقيادة لأن بعض أفرادها مسؤول عن مراقبة البرامج مع عدد من الإخوة وقبل هذا الحرام. ذكرت هذه النماذج الثلاثة، ولا أقول إن القواعد جميعها تسلك هذا السبيل. إنما يوجد بعض الشباب الذين يثيرون هذه الاتهامات وتجد أذنا صاغية لهذا البهتان، وتضخيم الخطأ، وتحويله إلى انحراف كامل بالحركة. وهذه النماذج الثلاثة أضعها بين يدي حادثة بني جذيمة، وكيف أعمل خالد رضي الله عنه السيف بالأسرى بعد أن أمنهم أو بعد إعلان إسلامهم رغم المعارضة العنيفة لهذا التصرف من كبار المهاجرين. ورأينا خطورة هذه القضية التي اقتضت إعلان البراءة مما فعله خالد رضي الله عنه أمام الصحابة جميعا، ثم كف يده عن القتل بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودية من تمت إبادتهم. خطأ أودى بأرواح سبعين أو أكثر من بني جذيمة وقضوا خطأ بعد إسلامهم. وماذا جرى بخالد بعد هذا الدرس النبوي القاسي؟؟ لقد بقي خالد رضي الله عنه في مركزه وبعد أقل من عشرين يوما،. خاض غزوة حنين، وهو بموقفه نفسه قائد خيالة المسلمين. كما يقول المقريزي: وبقيت سليم كما هي في مقدمة الخيل وعليهم خالد بن الوليد (¬1). ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 405.

فالخطأ الذي أخطأه ابن الوليد رضي الله عنه، لم يحرقه، ولم يقض عليه، ولم يعزله، ولم ينل من كفاءته وطاقته. إنما أعلن خطؤه، وسمع التأنيب الضروري، وتلقى الدرس التربوي المناسب وتابع مهمته في موقعه نفسه في القيادة دون أن يشهر به، أو يستغنى عنه، بل نهى المسلمين بعد الخطأ ذاك من الاسترسال في النقد. وطلب منهم الكف عن الحديث في هذا الأمر وقال: (لا تسبوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله. سله الله على المشركين) (¬1). ونخلص من هذا الدرس الأخر إلى أن خطأ الأخ سواء كان في القيادة أو في القاعدة. لا بد أن يعالج المعالجة المناسة، ويحاسب على خطئه لكن هذا لا يقتضي إسقاطه أو عزله، أو التخلي عنه والتخلي عن طاقاته وإمكاناته ومواهبه. والجماعة الحكيمة هي التي تحافظ لا على قيادتها فحسب بل على أصغر جندي من جنودها، والفرق كبير جدا جدا بين محاسبة المخطىء في الحدود اللازمة وبين الإجهاز عليه، وما يوم بني جذيمة بسر. ب - غزوة حنين الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغادر مكة إلى حنين: وفي يوم السبت السادس من شهر شوال سنة 8 هـ، غادر رسول الله مكة، وكان في إثني عشر ألفا من المسلمين عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة، وألفان من أهل مكة، وأكثرهم حديثوا عهد بالإسلام، واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد. ولما كان عشية جاء فارس فقال: إني طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله. وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مرثد الغنوي. وفي طريقهم إلى حنين رأوا سدرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط. كما لهم ذات أنواط فقال: الله أكبر، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. قال: إنكم قوم تجهلون. إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم. وقد كان بعضهم قال: نظرا إلى كثرة الجيش: لن نغلب اليوم. وكان قد شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجيش الإسلامي يباغت الرماة والمهاجرين: إنتمى الجيش الإسلامي إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال، وكان مالك بن عوف قد سبقهم فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي، وفرق كمناءه في الطرق والمداخل. والشعاب والأخباء والمضايق. وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا، ويشدوا شدة رجل واحد. ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 400.

وبالسحر عبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشه، وعقد الألوية والرايات، وفرقها على الناس؛ وفي عملية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين. وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي. فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد. فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانت هزيمة منكرة .. وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهة اليمين وهو يقول: هلموا إلي أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين وأهل بيته وحينئذ ظهرت شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لا نظير لها فقد طفق يركز بغلته قبل الكفار وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب. بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته والعباس بركابه يكفانها أن لا تسرع ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستنصر ربه قائلا: اللهم أنزل نصرك. رجوع المسلمين واحتدام المعركة: وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي الصحابة قال العباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك يا لبيك. ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه فيأخذ عليه درعه. فيقذفها في عنقه. ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت حتى إذا اجتمع إليه مائة استقبلوا الناس واقتتلوا. وصرفت الدعوة إلى الأنصار، يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى كما كانوا تركوا الموقعة. وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال: الآن حمي الوطيس. ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من تراب الأرض، فرمى بها في وجوه القوم: وقال: شاهت الوجوه. فما خلق الله إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة فلم يزل حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا. انكسار حدة العدو، وهزيمته الساحقة: وما هي إلا ساعات قلائل - بعد رمي القبضة -حتى انهزم العدو هزيمة منكرة وقتل من ثقيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان على العدو من مال وسلاح وظعن. وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفررا وذلك جزاء الكافرين}. حركة المطاردة: ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نخلة،

وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامر الأشعري، فناوش الفريقان القتال قليلا، ثم انهزم جيش المشركين، وفي هذه المناوئة قتل القائد أبو عامر الأشعري. وطاردت طائفة أخرى من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة. فأدركت دريد بن الصمة فقتله ربيعة بن رفيع. وأما معظم فلول المشركين الذين لجؤوا إلى الطائف فتوجه إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه بعد أن جمع الغنائم. الغنائم: وكانت الغنائم: السبي ثلاثة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفا والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجمعها ثم حبسها بالجعرانة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف. وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية، أخت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة فلما جيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفت نفسها فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ثم من عليها، وردها إلى قومها. غزوة الطائف: وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هوازن وثقيف دخلوا الطائف مع القائد العام - مالك بن عوف النصري - وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من حنين وجمع الغنائم بالجعرانة في نفس الشهر. شوال سنة 8 هـ وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة من ألف رجل، ثم سلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف فمر في طريقه على النخلة اليمانية، ثم قرن المنازل، ثم على لية، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه ثم واصل سيره حتى انتهى إلى الطائف. فنزل قريبا من حصنه، وعسكر هناك، وفرض الحصار على أهل الحصن ودام الحصار مدة غير قليلة ففي رواية أنس عند مسلم أن مدة حصارهم كانت أربعين يوما، وعند أهل السير خلاف في ذلك فقيل عشرين يوما، وقيل بضعة عشر، وقيل ثمانية عشر، وقيل خمسة عشر. ووقعت في هذه المدة مراماة ومقاذفات. فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رميا شديدا كأنه رجل جراد حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك. ونصب النبى - صلى الله عليه وسلم - المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، حتى وقعت شرخة في جدار الحصن. فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة، ودخلوا بها إلى الجدار ليخرقوه. فأرسل عليهم العدو سكك الحديد المحماة فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل، وقتلوا منهم رجالا. وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام - أمر بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعا ذريعا، فسألته ثقيف أن يدعها لله والرحم. فتركها لله والرحم. ونادى مناديه - صلى الله عليه وسلم -: أيما عبد نزل من الحصن، وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم ثلاثة

وعشرون رجلا فيهم أبو بكر - تسور حصن الطائف وتدلى منه ببكرة مستديرة يستقي عليها. فكناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكة، فأعتقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه. فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة، ولما طال الحصار واستعصى الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيبوا من رشق النبال، وبسلك الحديد المحماة - وكان أهل الحصن قد أعدو فيه ما يكفيهم لحصار سنة - استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نوفل بن معاوية الدولي فقال: هم ثعلب في حجر-إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يغيرك، وحينئذ عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس: إنا قافلون غدا إن شاء الله، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغدوا على القتال، فغدوا فأصابهم جراح فقال: إنا قافلون غدا إن شاء الله، فسروا بذلك وأذعنوا، فجعلوا يرحلون .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك، ولما ارتحلوا واستقلوا قال: قالوا: آيبون تائبون، لربنا حامدون. وقيل يا رسول الله ادع على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفا وئت بهم. وفد ثقيف: كانت وفادتهم في رمضان سنة 9 بعد مرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، وأسلمت ثقيف. وفد هوازن: وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلما وهم أربعة عشر رجلا. لم يكن يكفي سقوط معقل الوثنية - مكة لانتهاء المقاومة المسلحة، فالقبائل المجاورة من هوازن وثقيف لا تزال مركز قوة ضخم، وتشكل خطرا على الوجود الإسلامي كله. ومن أجل هذا كانت خطة النبي - صلى الله عليه وسلم - تتجه إلى إنهاء كل الجيوب الوثنية المتبقية، وهي ذات قوة ضارية فعالة. وحيث أن التربية جزء أساسي من حياة الفرد المسلم والجماعة المسلمة، وحيث أن هذا التجمع الجديد الذي وصل تعداده إلى اثني عشر ألف مقاتل، لم تتح له فرصة التميص المناسبة، ولم تصهره المحنة بعد، إذ تم دخول مكة دون قتال يذكر. فهذا يعني أن هذا الجيش الذي يزيد في أكثر من نصفه من حديثي عن عهد بالاسلام. فكانت المحنة سبرا لهذه النفوس. لقد أثر هذا الحشد الضخم على أعصاب المسلمين، ورأوا هذه الأعداد الهائلة، فيقول قائلهم: لن نغلب اليوم أو يقول عليه الصلاة والسلام: لن يغلب اثنا عشر ألف عن قلة. فالأمر في النتيجة واحد. هو أن التجمع الذي لا تصهره التربية، يصعب عليه أن ينتصر، وهذا ما نزل بالمسلمين يوم حنين. {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين} (¬1). ¬

(¬1) سورة التوبة: 25.

وفي لحظة من لحظات الضعف البشري بالاعتماد على الأسباب المادية والثقة بها، يأتي التأديب الرباني لينال الجماعة المسلمة كلها وهذا التأديب يتناسب مع طبيعة الخطأ الذي تخطئه هذه المجموعة. ومن خلال المحنة والإبتلاء. يتم انصهار هذا التجمع ليتحول إلى جماعة. وكان الابتلاء الرباي في هذه المعركة ذي محورين. المحور الأول في الضراء، حيث كانت هزيمة حنين الأولى، وعدم نجاح حصار الطائف. المحور الثاني في السراء، وذلك من خلال غنائم حنين. فلقد أعد المسلمون من الأسباب المادية ما يفوق الإعداد في أية معركة. وكان قوام الجيش إثني عشر ألفا. وكانت الأسلحة متوفرة كذلك، ومن أحدث أنواع الأسلحة. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غنمها من اليهود في خيبر. فقد كان عند المسلمين المنجنيق والدبابة ولأول مرة في تاريخ حروبهم كانوا يمتلكون ذلك. واستعار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة درع من صفوان بن أمية. هذا من حيث الإعداد المادي، الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الجيوش الإسلامية لكن هذا التجمع الإسلامي لا يزال في صفوفه الكثير ممن دخل في الإسلام وهو في قمة النصر. ورأى أن المسير في الاتجاه الإسلامي يعني نصرا مستمرا وغنائم ضخمة. فكان لا بد من هزة حنين. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استطلاعه الجيد قبل المعركة. وشاءت إرادة الله تعالى أن لا يرى ذلك الاستطلاع كمائن العدو المنبثة في جميع شعاب الجبل. وكانت المعركة. وحين يقرأ المسلم أحداث هذه المعركة يذهله الخبر. فالهجوم المباغت من هوازن أفقد الجيش المسلم كله توازنه، حتى القاعدة الصلبة. فقدت توازنها، ولاذت بالفرار من هول المفاجأة. ولم يسبق لهذه القاعدة الصلبة أن اهتزت هذا الاهتزاز في تاريخها كله إلا يوم أحد. ومع هول المفاجأة، فر الجيش الإسلامي كله، ولم يثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بضعة عشر رجلا وكانوا فريقين: الفريق الأول: أقرباؤه الأدنين. العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

وهذه نماذج جديدة على الساحة ورغم دخولها الجديد في الإسلام، لكنها لم تتراجع خطوة واحدة بجوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الفريق الثاني: وهم الخميرة الأولى للدعوة. أبو بكر، عمر، عثمان، علي، أبو دجانة. كما برز فريق ثالث من الشباب هما: أيمن بن عبيد الخزرجي، وأسامة بن زيد رضي الله عنهما. وبرز فريق رابع من النساء هن: أم سليم بنت ملحان، هي يومئذ حامل بولدها عبد الله بن أبي طلحة، وأم عمارة بنت كعب، وأم سليط وأم الحارث. ولا يبعد أن يكون هناك قتال ضار في مكان آخر. غير أن هذه المجموعة الفدائية بقيت حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحين يكون الصف المسلم فيه من يفكر بقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يعني أن التربية لم تشمله كله بعد. ويحدثنا أحد المغامرين شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، عن هذه اللحظات من الأزمة فيقول: (لما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا مكة فظفر بها وخرج إلى هوازن. قلت: أخرج لعلي أدرك ثأري. وذكرت قتل أبي يوم أحد وعمي. فلما انهزم أصحابه جئته عن يمينه، فإذا العباس قائم عليه درع بيضاء كالفضة، فقلت، عمه! لن يخذله! ثم جئته عن يساره، فإذا بأبي سفيان بن الحارث فقلت: ابن عمه لن يخذله. فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أسوره (¬1) بالسيف إذ رفع لي فيما بيني وبينه شواظ من النار كأنه برق، وخفت أن يمحشني (¬2)، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى فالتفت إلي وقال: يا شيب! أدن مني! فوضع يده على صدري وقال: اللهم اذهب عنه الشيطان. فرفعت رأسي إليه وهو أحب إلي من سمعي وبصري وقلبي ثم قال: يا شيب قاتل الكفار! فتقدمت بين يديه أحب والله أقيه بنفسي كل شيء. فلما انهزت هوازن ودخلت عليه، فقال: الحمد لله الذي أراد بك خيرا مما أردت ثم حدثني بما هممت به (¬3). وهذه الظاهرة التي حالت دون شيبة وقتله للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ظاهرة عامة. فلم تر هوازن أن الجيش الإسلامي قد فر ولم يبق منه إلا بضعة عشر. لقد جاء المدد الإلهي مباشرة. ونزلت الملائكة ¬

(¬1) تسور الحائط: علاه يريد أنه لم يبق شيء إلا أن ارتفع إليه فأعلوه فآخذه بالسيف. (¬2) محشته النار: أحرقت جلده حتى يبدو العظم. (¬3) إمتاع الأسماع: ج 1 ص 411.

بعمائمها الحمر تسد الأفق بين الأرض والسماء. {ثم أنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها}. وكانت المرحلة الثانية من المعركة هي النداء الخالد للعصبة المؤمنة: يا أصحاب سورة البقرة. كان النداء إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. فبدأت الأفراد تفد إلى ساحة المعركة. حتى بلغت المائة، ويقال إن المائة الصابرة يومئذ ثلاثة وثلاثون من المهاجرين وسبعة وستون من الأنصار. ثم خصص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرحلة الثالثة: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة (فنادى العباس بذلك وكان رجلا صيتا فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت إلى أولادها يقولون: يا لبيك يا لبيك: فأشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالمتطاول في ركابيه، فنظر إلى قتالهم وقال: الآن حمي الوطيس، ثم أخذ بيده من الحصا، فرماهم بها وهو يقول: شاهت الوجوه ثم لا ينصرون. ثم قال: انهزموا ورب الكعبة. فما زال أمرهم مدبرا وانهزموا) (¬1). وكانت هذه المراحل المتلاحفة بسرعة. تحدد مراحل المعركة. وتثبت الإيمان في قلوب ضعاف الإيمان. فلو استثنينا تلك القاعدة الصلبة التي تبلغ الألفين من المسلمين، لرأينا أن العمود الفقري من الجيش وهو من حديثي العهد بالإسلام كان لا بد أن يرى هذه المعجزة الإلهية بأم عينه، ويرى نصر الله تعالى لنبيه، ويرى ثبات هذا النبي وحده وبضعة عشر نفرا وهو يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب ولقد كان هذا التحدي مثلجا لصدور العصبة الصغيرة حرولهم، فحوالي ثلثهم من بني عبد المطلب الذين ثبتوا معه، وكانوا بالأمس يحاربونه ويهجونه ويقاومونه. ولا بد أن يطرق هذا المعنى، أذهان الشباب المسلم ويتسع بأفقه بعيدا. ويعترف بقوة رابطة النسب إلى جوار رابطة العقيدة. حين يرى أبا سفيان بن الحارث وأخاه ربيعة والعباس وابنه. وعلي بن أبي طالب. وهذا يعني الاستفادة من روابط النسب وغيرها إلى جوار رابطة العقيدة وتحت ظلها ورايتها، وأكدت هذه المعركة كذلك، أن الصف المسلم سيبقى في محن متتابعة حتى يتم انصهاره وتلاحمه، وأن النصر بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء وأن الإعجاب النفسي بالقوة والطاقة قمين بالمحنة القاسية لتعديل هذه النظرة وتغييرها حتى يتطامن ذلك الإعجاب ويخضع صاحبه لله رب العالمين. وكانت المحنة الثانية العنيفة التي واجهها الجيش المسلم هي حصار الطائف الذي استمر ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1 ص407.

أربعين يوما على ما تقوله روايات الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه. واستمرار هذا الحصار لثقيف التي لا تقل عزة ومنعة عن قريش. كان درسا جديدا لهذا الجيش كذلك، لأن نصر حنين يغري، فلم يكن بد لهم أن يتحملوا مسؤولية الحصار الطويل ويجربوا الالتزام والانضباط، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لا بد أن يشعروا أن النصر ليس دائما حليف المسلمين، فلئن لم يتأخر نصر حنين ساعات. فنصر الطائف لم يتم إلا بعد شهور، ولأول مرة في تاريخ الجيش الإسلامي كذلك يتم انسحابه دون تحقيق هدفه، وعظم ذلك على القاعدة الصلبة المؤمنة. حين تلقوا أوامر الانسحاب. فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقتال في اليوم الثاني. فخرجوا مشمرين نشيطين. غير أن سكك الحديد المحماة، والسهام ومطر النبل عليهم، أدت إلى أن أثخنتهم الجراح. وحين جاء الأمر في اليوم الثاني فسروا له وبشوا به. وضحك القائد العظيم عليه الصلاة والسلام. ولا بد أن تكون التجربة من القيادة حية حين ترى تلكؤا في تنفيذ أوامرها وتعالج هذه النفوس الصعبة من خلال التجربة الحية، حين تزداد قناعة الجنود بقيادتهم. إن عملية بناء الجماعة ورص الصف هي من أشق العمليات. وقد تواجه القيادة أحيانا بخلل حتى في الصفوة المختارة، والقاعدة الصلبة، سواء في الجزع والهلع من المواقف أو بالصورة المعاكسة في التبرم من التريث والصبر. والأمر الذي لا يلامس شغاف القلب لا يمكن أن يثمر ثمرته. ولو أدى الحرص على الإقناع فيه الخسائر في الأموال والأرواح بقدر. لكن كيف انتهت هذه الجيوب الوثنية الضخمة: هوزان وثقيف. إذ أن هوازن قد أمعنت في الهرب وطوردت من المسلمين، لكنها لم تدخل حظيرة الإسلام، وثقيف تمنعت وتأبت، وانصرف المسلمون عنها وفكوا الحصار دون شروط. بقي دور الجهاد السياسي، واستغلال كل الظروف لتفتيت الحقد النفسي. كي تفيء هذه النفوس إلى الإسلام. يقول ابن إسحاق: ثم أن وفد هوازن بالجعرانة أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أسلموا فقال: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. قال: وقام رجل من هوازن، لم أحد بني سعد بن بكر يقال له زهير يكنى أبا صرد فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا (¬1) للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين. ¬

(¬1) ملحنا: أرضعنا.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا فقال: لهم: أما ماكان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم؛ وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا وقولوا: إنا نتشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فقال: المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقاك بنو سليم، ما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال يقول عباس بن مرداس: لبني سليم: وهنتموني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي. فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه. فردوا إلى الناس أبنائهم ونساءهم (1). وفي رواية (فقال الناس. قد طبنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض. فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن. فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت في يديه منهم، ثم ردها بعد ذلك وكسا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السبي قبطية قبطية) (2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوفد هوازن وسألهم عن مالك بن عوف ما فعل؟ فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخبروا مالكا أنه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل. فأتي مالك بذلك فخرج إليه من الطائف وقد كان مالك خاف ثقيفا على نفسه أن يعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له ما قال فيحبسوه. فأمر براحلته فهيئت له. وأمر بفرس له، فأتي به إلى الطائف، فخرج ليلا فجلس على فرسه فركضه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس. فركبها فلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركه بالجعرانة فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه. فقال مالك بن عوف حين أسلم: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في الناس كلهم بمثل محمد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشأ يخبرك عما في غد وإذا الكتيبة عردت أنيابها ... بالسمهري وضرب كل مهند فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر في مرصد فاستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من أسلم من قومه: وتلك القبائل: ثمالة وسلمة وفهم،

_ (1) السيرة لابن هشام ج 4: 490. (2) الرحيق المخنوم للمباركفوري ص 475.

فكان يقاتل بهم ثقيفا، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم فقال أبو محجن: هابت الأعداء جانبنا ... ثم تغزونا بني سلمة وأتانا مالك بهم ... ناقضا للعهد والحرمة وأتونا في منازلنا ... ولقد كنا أولي نقمة (¬1). لقد انهزت هوازن في المعركة وحقق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرا ساحقا عليهم حتى ساق نعمهم ونساءهم وأبناءهم سبايا في المعركة. وفر قائدهم إلى ثقيف. لكن ماذا استفاد الإسلام من هذه المعركة. إذا كان الحقد والكراهية والكفر هو الذي يسود في صفوف هوازن؟ إن النصر العسكري يهم القائد العسكري فقط، ويهم أصحاب المناصب والمراكز والمتصارعين على السلطة. أما الحركة الإسلامية، فالنصر بالنسبة لها هو في دخول كتائب جديدة في الإسلام. وفتح مغاليق هذه النفوس لتجد الرحمة والملاذ والأمن في ظل الإسلام. ومن أجل هذا، فما يركز عليه الداعية المسلم، في السيرة المطهرة هو ما وراء المعارك، وما وراء النصر العسكري. لأن هذا التفكير يعني أن فصائل جديدة تنضم إلى الإسلام كل يوم، لا ترتدعنه وتثور عليه وهذا هو وفد هوازن، أربعة عشر رجلا من قادتهم جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمين. وكان بالإمكان أن ينضم إلى الصف الإسلامي هذا الوفد فقط. لأن الأوان قد فات وتم توزيع السبايا على المسلمين، وهو حق مكتسب لهم. فكيف يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم. إنه القائد الفذ الذي لم تشهد البشرية مثيلا له ولن تشهد. إنه يفكر في أن ينتزع هذه السبايا من إثني عشر ألف مقاتل. ومثل هذا الأمر من خلال النص الشرعي. قد يدفع الجيش كله إلى الثورة عليه. ولو صمت الجيش لصمت على مضض وكتم على ألم وتوتر. فكيف استطاع عليه الصلاة والسلام أن يستعيد هذه السبايا من الجيش. والجيش هانىء راض يتسابق على التخلي عنهن؟ إنها عظمة النبوة ولا شك، وهي بالتالي درس لكل قيادة في الأرض أن تحقق أهدافها من خلال استخراج كل ما في النفس الإنسانية من خير ونبل، ولو كان قابعا في أعمق أعماق هؤلاء الناس وأن يتمكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من استعادة السبايا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، من أصحاب الكتيبة الخضراء من الذين أعادوا بثباتهم النصر من جديد للجيش المسلم، من الذين استحقوا بجدارة هذه السبايا. أن يسترد هذه السبايا من المسلمين الجدد الذين مر على إسلامهم سنة ونيف، ولا يزالون يتحركون من خلال الرغبة الجامحة في الغنيمة. هذا هو عظمة المعاملة النبوية في فقه هذه النفوس، ولم يهدد عليه الصلاة والسلام بسلطة، ولم يلوح بعصا إنما كانت الخطوة الأولى من خلال الأريحية. والثقة وحصر ثقته بأهله بني عبد المطلب. وبذلك خط منطلقا لتيار كبير في الجيش أن يحذو حذوه. وكان لهذا الخط حدود، ما أمكن له أن يستوعب ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 4: 488 و 491.

الجيش كله فلجأ عليه الصلاة والسلام إلى الخط الثاني. خط الترغيب بالعوض عن هذه السبايا. وتمكن عليه الصلاة والسلام بهذا الخط أن يستوعب بقية الجيش حتى العجوز الشمطاء التي كانت من نصيب عيينة بن حصن وألح في الاحتفاظ بها. وترك لزعيم وفد هوازن أن يهز عيينة بن حصن بقوله له: خذها عنك، فوالله ما فوها ببارد ولا ثديها بناهد؛ ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد، ولا درها بماكد (¬1). فردها بست فرائض، وعلى النهج نفسه أمكن جلب قائد هوازن الذي استعصى في ثقيف فأرسل إليه يدعوه إلى الإسلام وسيعطيه أهله وماله ومائة من الإبل، وكان هذا العرض السخي كفيلا بأن يستجيب مالك للإسلام. وليست استجابة سلبية فقط بحيث يركن إلى ماله وإبله وأهله: بل استجابة فاعلة إيحابية ارتضى أن يغزو ثقيفا. الذين كان بحمايتهم وكانوا معه في المعركة ضد محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا دخلت هوازن في الإسلام، وبالتركيز على قرابة الرحم والنسب كما قال أبو صرد: إنما في الحظائر عماتك وخالاتك فامنن عليهم، ومن خلال رابطة النسب نفسها استطاع عليه الصلاة والسلام أن يستثير النخوة العربية، والعزة القبلية، فيوظفها في خدمة الإسلام. ألا ما أحوج الحركة الإسلامية اليوم إلى هذه المعاني، أن تخطط لتدخل الأمة كلها في حظيرة الإسلام، وحين تقارن بين طريقين نجد البون شاسعا جدا بينهما: الطريق الأول: الذي ينطلق فقط من خلال حرفية النظام، وحرفية القرار، فيستعبده النظام والقرار ولو أدى إلى كسر النفوس، وذبح القلوب، وتغير الثقة وتخلخل الصف. الطريق الثاني الذي ينطلق إلى جوار القرار، من دوافع النفس، وخلجات القلب، وطبيعة الفطرة البشرية، ونوازع النسب فتسخر هذه جميعا لخدمة الهدف الأبعد من القرار. وهو حفظ مال الأمة أو حفظ شبابها أو حفظ صفها. ولقد رأينا الحركة الإسلامية في إحدى فصائلها. تتخذ قرارا ماليا ذات يوم تحجب به شيئا من الراتب عن الإخوة الذين شاركوا معها في جهادها وضحوا بأرواحهم ودمائهم لتدفعهم إلى العمل وكسب المعيشة .. فكان الدرس قاسيا للفريقين القيادة والقاعدة. فقساوة الدرس للقيادة أنها كسرت نفوس إخوانها بهذا القرار. فانصرفوا عنها والألم يذبح قلوبهم وماذا تربح القيادة إذا خسرت ثقة قواعدها بها وهم عدتها في الحرب والجهاد والمواجهة وقساوة الدرس للقاعدة أنها اهتزت عند أول أزمة، فنقص شيء بسيط من المال. دفعهم إلى العنف والاحتجاج واتهام القيادة فكيف لو كان الأمر بالتخلي عن ثمار المعركة كلها، وأعز ما فيها من ثمار. ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 4: 490.

وعلى النهج نفسه كانت معالجة قادة مكة بعد نصر حنين وتوزيع الغنائم عليهم. ونكتفي بعرضها فهي في غنى عن أي تعليق: (وانتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس خلون من ذي القعدة والسبي والغنائم بها محبوسة وقد اتخذ السبي حظائر يستظلون بها من الشمس، وكانوا ستة آلاف، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير والغنم أربعين ألفا وقيل أكثر، فأمر بسر بن سفيان الخزاعي يقدم مكة فيشتري للسبي ثيابا يكسوهم، وكساهم كلهم، واستأنى رسول الله بالسبي، فلما رجع إلى الجعرانة بدأ بالأموال فقسمها. فأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس، وكان مما غنم أربعة آلاف أوقية فضة، فجاء أبو سفيان بن حرب والفضة بين يديه، فقال: يا رسول الله أصبحت أكثر قريش مالا: فتبسم عليه الصلاة والسلام، فقال أبو سفيان: أعطني من هذا يا رسول الله: قال يا بلال زن لأبي سفيان أربعين أوقية وأعطوه مائة من الإبل، قال: ابني يزيد: قال: زنوا ليزيد أربعين أوقية وأعطوه مائة من الإبل. قال: ابني معاوية يا رسول الله: قال: زن له يا بلال أربعين أوقية وأعطوه مائة من الإبل. قال أبو سفيان: إنك لكريم فداك أبي وأمي: والله لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيرا. وسأل حكيم بن حزام يومئذ مائة من الإبل فأعطاه ثم سأل مائة فأعطاه، ثم سأل مائة فأعطاه، ثم قال: يا حكيم بن حزام إن هذا المال خضرة حلوة. فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من السفلى وابدأ بمن تعول. فأخذ حكيم المائة الأولى ثم ترك ما عداها. وأعطى النضير بن الحارث -أخا النضر بن الحارث- مائة من الإبل، وأعطى أسيد بن جارية حليف بني زهرة مائة من الإبل وأعطى العلاء بن جار خمسين بعيرا، وأعطى الحارث بن هشام مائة من الإبل وصفوان بن أمية مائة بعير. وفي صحيح مسلم عن الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى صفوان بن أمية ثلاثمائة من الإبل، ويقال إنه طاف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتصفح الغنائم إذ مر بشعب مما أفاء الله عليه فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوءا. فأعجب صفوان، وجعل ينظر إليه فقال: أعجبك يا أبا وهب هذا الشعب. قال: نعم. قال هو لك وما فيه: فقال: أشهد ما طابت نفس أحد قط إلا نبي وأشهد أنك رسول الله. وأعطى قيس بن عدي مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس السلمي دون المائة فعاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعر قاله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقطعوا عني لسانه. فأعطوه مائة (¬1)). ¬

(¬1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 422 - 425.

لكن التعامل مع القاعدة الصلبة يختلف كثيرا عن التعامل مع صفوة الصف المسلم، الذي ينطلق من الثقة العميقة بقائده. غير أن هذه القاعدة لا بد من تذكيرها دائما بهذا الأصل، وإلا فقد تقلق حين تغيب عنها هذه المعاني، وقد تطفوا على السطح أحيانا بعض المعاني المادية وكأن تقويم المرء المسلم من خلالها، فلا بد من اليقظة المستمرة والتربية المستمرة للمحافظة على الأفق العالي لهذه الجماعة: (قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: يا رسول الله أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة. وتركت جعيل بن سراقة الضمري. فقال: أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع. ولكني أتألفهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه) (1) وكانت هذه عند جعيل رضي الله عنه تعدل مال الأرض كله. كان هذا على المستوى الفردي. وكان هذا على المستوى الجماعي. (ولما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا للحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذاك يا سعد قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. قال: فجاء رجال المهاجرين فدخلوا فتركهم، وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، موجدة (2) وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم: قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل: قال - صلى الله عليه وسلم -: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة (¬3) من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم: ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء ¬

(1) إمتاع الأسماع ج 1 ص 425. (2) الموجدة: العتاب. (¬3) اللعاعة: بقلة خضراء ناعمة شبه بها زهرة الدنيا ونعيمها.

والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم. فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله وتفرقوا (1). لقد كلف إنهاء جيوب الوثنية في الأرض العربية أن وضع المال كله أداة لتطييب النفوس وترقيقها وتحبيبها للإسلام. وهذه هي وظيفة المال أن يكون أداة لطاعة الله. والعدالة في التوزيع هي أصل في المال. وتربية النفوس على أن لا تستعبد لهذا المال أصل آخر، ومن أجل هذا أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توزيع هذا الفيء، بعد أن أصدر أوامره بمنع أخذ أي شيء منه حتى الخياط والمخيط. وضبط النفوس ظاهرا على الأقل - والنفسية العربية التي ترى المال بين يديها من الدراهم والدنانير والإبل والشياه. ثم تتمالك دون أن تلتهمه. شيء يختلف مع طبيعة هذه النفسية. وكان هذا هو الدرس الأول. (ثم ثار بعض الأعراب، وهم يلحون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقسمة الغنائم حتى خطفوا رداءه فقال: ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالله أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا، ثم قام إلى جنب بعير، فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين أصبعيه، ثم رفعها ثم قال: أيها الناس والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم) (¬2) وكان هذا هو الدرس الثاني. (وجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال: يا رسول الله أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لي دبر؟ فقال: أما نصيبي منها فهو لك. قال: أما إذا بلغت هذا فلا حاجة لي بها، ثم طرحها من يده.) (¬3) وكان هذا هو الدرس الثالث. ثم كان التوزيع الآنف الذكر على المؤلفة قلوبهم على أوسع مظانه، وكان هذا هو الدرس الرابع. (وجاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه وهو يعطي الناس، فقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت هذا اليوم. فقال رسول الله: أجل فكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلت، قال: فغضب النبي. ثم قال: ويحك: إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله. ألا أقتله؟ قال: لا. دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية (¬4) وكان هذا هو الدرس الخامس. ¬

(1) السيرة لابن هشام ج 4 ص 498 - 499 (¬2) السيرة لابن هشام ج 4 ص 492. (¬3) المصدر نفسه ج 4 ص 492. (¬4) المصدر نفسه ص 496.

ثم كان أعظم الدروس على الإطلاق هو هذا اللقاء مع الأنصار. ولا معنى لأن يكسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زعماء تلك القبائل وزعماء قريش مقابل فقدان الثقة من صفه الأول من المهاجرين والأنصار. وعندما توضح الالتباس وعرف هذا الصف موقعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أن يكون المحيا محياهم والممات مماتهم، وأن يذهب الناس بالشياه والبعير ويذهب الأنصار برسول الله عليه الصلاة والسلام. فهو قرة عيونهم وهم قرة عينه، ومن أجل هذا مسحت هذه الموجدة وذابت والسعادة تغمرهم بهذه الغنيمة. وفي هذا الأمر دروس غنية للصف المسلم اليوم قاعدة وقيادة يحسن أن نستوعبها فنستفيد منها. أولا: التفريق بين المال العام والمال الخاص. وحرمة التصرف في المال العام قبل توزيعه، مهما كان حجمه. ولو كان كبة الشعر والخيط والمخيط والتساهل في التصرف فيه يقود إلى النار: (فإن الغلول يكون على أهله عارا ونارا وشنارا يوم القيامة) (¬1). ثانيا: تقدير التوزيع وعدالته عائد لقيادة الجماعة وأميرها. فهو آمر الصرف فيها، وهو يقدر كمية التوزيع وأهميته. ومصلحة الدعوة تحكمه، ونصوص الشريعة تحكمه. ثالثا: والأصل أن يكون المال في الدعاية إلى الإسلام ولو على حساب الدعاة. وفي كسب القلوب النافرة ورد النفوس الجامحة. رابعا: والصف المسلم القوي قد يحرم من هذا التوزيع كله. وذلك في ذات الله والأصل أن يكون الإيثار خلقه. فلا يقيم المرء من خلال ما يأخذ من راتب. بل تقييم من خلال التقوى والعمل الصالح. خامسا: أن تبقى القيادة على صلة بقواعدها فتلاحق الشبهات التي تثور في نفوسها، وتوضح خط السير العام لجنودها، وتقضي على قالة السوء في صفوفها. وإلا خسرت هذه القاعدة. سادسا: وأن يضع الجندي نفسه موضع قائده، ويصدر أحكامه على قيادته هو أمر خطير وذلك من خلال التمسك بحرفية النص الذي يقوده إلى الخروج من الإسلام من حيث يريد الإسلام، والذي يقوده إلى الصف غير المسلم من حيث حرصه عليه. سابعا: وطبيعة هؤلاء الشباب من حيث صلاحهم وتقواهم لا يرقى إليها الشك، ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 4: 492.

(تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم). لكنهم يضعون أنفسهم موضع القاضي، وموضع المفتي، وموضع إصدار الأحكام. وهذه الظاهرة المرضية. لا بد من التفريق بينها وبين ظاهرة النصيحة والاستفسار والسؤال. فسعد رضي الله عنه والأنصار رضي الله عنهم عتبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوا أنهم محرومون من هذا المال، لكن بقي الأمر خلال السؤال والاستفسار لا من باب الإقرار بينما وجدنا ذا الخويصرة تدفعه جرأته أن يتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدله. ثامنا: ولا بد من التفريق بين موقف الجندي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وموقف الجندي من أمير جماعته. فالشك في عدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر بواح. أما الشك في عدالة القائد فلا يدخل في هذا الإطار. إنما يدخل في إطار الخطأ التنظيمي الذي يفسد صف الجماعة ويفتت تماسكها. تاسعا: ويبقى الجندي المجاهد أعظم في ميزان الله وميزان قيادته من كل قوى الأرض الأخرى وزعاماتها وقياداتها. طالما أنها تنطلق من مصلحتها لا من دينها. ويبقى جعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض مثل عيينة والأقرع، وكلاهما قد دخل في الإسلام حديثا. ونالا من الإكرام ما لا يوصف. عاشرا: وبقيت ثقيف دون أن تنهار معاقلها بالقوة والمواجهة، لتنهار بعد ذلك من خلال حرب العصابات التي شنها عليها مالك بن عوف رئيس هوازن، ومن خلال الحرب النفسية التي زلزلت كيانها فأقنعتها ألا جدوى من المقاومة. ***

السمة الرابعة عشرة: الجزيرة العربية تدخل في الإسلام

السمة الرابعة عشرة: الجزيرة العربية تدخل في الإسلام حين نتحدث عن السمات نلحظ أنها حلقات من سلسلة. كل حلقة تقود إلى التي تليها. وتحدد لنا طبيعة التدرج في السير خطوة عقب خطوة. فلا يمكن أن يقبل الناس على الدخول في دين الله أفواجا، والإسلام ضعيف محارب مضطهد. ممنوع من إعلان صوته وشرح فكرته وعقيدته. وتأتي هذه السمة في موقعها من المنظومة الإسلامية فحين استسلمت قريش العدو الأكبر للإسلام وصار الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيد الجزيرة العربية. وتحطمت قوى المعارضة المسلحة. كان من الطبيعي أن تفد القبائل العربية الضخمة لتحاور أو تناقش أو تسلم. أو تفرض شروطها حسب تصورها عن طبيعة قوتها. ونشهد في هذه السمة الحدود الدقيقة، فيما يحوز التساهل فيه، ومراعاة طبيعة النفوس فيه، وما لا يدخل ضمن إطار المساومة. فنعلم حدود التميز والمفاصلة، وحدود التساهل والمعاملة. وذلك من خلال عرض لمراكز القوى العربية. بعد قريش. ثقيف، تميم، عامر، بنو حنيفة، طيء، كندة، ملوك حمير؛ بنو الحارث بن كعب، بنو عبد النبي. أولا: وفد ثقيف: لقد كانت العرب ترى في ثقيف وقريش. أهم مواقع القوى فيها. وذكر القرآن الكريم هذا المعنى عن القريتين، وهو ينقل مقولتهم {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (¬1). وشاءت إرادة الله تعالى أن ينتهي عظيم قريش الوليد بن المغيرة كافرا مشركا بينما كان عظيم ثقيف شهيدا وفي قومه بالذات، وهو عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه. وكان من حديثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل المدينة. فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما يتحدث قومه: إنهم قاتلوك، فقال عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم، وكان فيهم محببا مطاعا. فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم. فلما أشرف لهم على علية له؛ وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه. فأصابه سهم فقتله - فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله تعالى بها ¬

(¬1) سورة الزخرف: 31.

وشهادة ساقها الله إلي فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم. فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: إن مثله في قومه لكمثل صاحب يسن في قومه. وعظيما القريتين. مرا بموقف متشابه. فالوليد بن المغيرة عرف في قرارة قلبه أن ما يقوله محمد ما هو بكلام الإنس وما هو بكلام الجن. لكنه خاف على موقعه. فقال إن هذا إلا سحر يؤثر. فكانت عاقبته النار. بينما تخلى عروة عن موقعه، وأعلن إسلامه على قومه وهو يعلم أنه أحب إليهم من أبكارهم وبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة (إنهم قاتلوك) فما توانى ولا تراجع، ورموه بالسهام حتى سقط شهيدا في سبيل الله فكان أول داعية في قومه إلى الله ورسوله كما كان صاحب يسن في قومه. وها هو عمرو بن أمية يأتي إلى زعيم ثقيف الثاني عبد يا ليل بن عمرو فيقول له: إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، قد أسلمت العرب كلها، وليست لك بحربهم طاقة. فانظروا في أمركم فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها وقال بعضهم لبعض أفلا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع. فأتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا فكلموا عبد يا ليل بن عمرو .. وأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك فيكونوا ستة (¬1). وعبد يا ليل. هو الذي قال قبل ترابة اثني عشر عاما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أمرط ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك هو نفسه اليوم يمضي إلى المدينة وافدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلن إسلام قومه، وفي الوقت الذي كان المسلمون يدعون على ثقيف ويطلبون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك كان يقول: (اللهم اهد ثقيفا وائت بهم). ولم يغير رسول الله نهجه مع ثقيف سواء وهم يطاردونه بالحجارة، أو يحاصرهم في حصونهم فلقد كانت هدايتهم عزيزة عليه جدا (عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله). ولتمكن هذا المعني في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة المسلمين به كان أبو بكر والمغيرة بن شعبة يتسابقان لنقل هذه البشرى لرسول الله صلوات الله عليه. وجاء الوفد ومعه عزة الجاهلية. وتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجو الإسلامي والبيئة الإسلامية يتعرف على مبادىء الدعوة ومفاهيم الإسلام. وكانت نفسية الوفد منطلقة من صورة معاهدة صلح أكثر من صورة استسلام لله عز وجل؛ ومن أجل ذلك قدموا شروطا خمسة. أن (يأذن لهم بالزنا وشرب الخمور، وأكل الربا، ويترك لهم طاغيتهم اللات ثلاث سنين على الأقل ويعفيهم ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 2 ص 540.

من الصلاة (¬1) ورفضت الشروط كلها. بلا استثناء لأن الأمر ليس أمر ملك دنيوي، بل هو أمر الله تعالى وشريعته. ولا يمكن أن يكون القوم مسلمين، ويحلوا حراما، أو يبيحوا ترك فريضة. والإسلام هو الاستسلام الكامل لله تعالى في كل شيء يحل حلاله ويحرم حرامه وحين رأت ثقيف أن لا مناص من ذلك - طلبت طلبا واحدا تمت تلبيته وهو أن يعفيهم عليه الصلاة والسلام من هدم آلهتهم بأيديهم. فقبل ذلك منهم عليه الصلاة والسلام، وبعث المغيرة بن شعبة الثقفي فهدمها بعد ذلك ورجع الوفد إلى قومه فكتمهم الحقيقة وخوفهم بالحرب والقتال، وأظهر الحزن والكآبة وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألهم الإسلام وترك الزنا والربا والخمر وغيرهم وإلا يقاتلهم. فأخذت ثقيفا نخوة الجاهلية، فمكثوا يومين أو ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب، وقالوا للوفد: ارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وأبدى الوفد حينئذ حقيقة الأمر، وأظهروا ما صالحوا عليه وأسلمت ثقيف (¬2). وبذلك انهارت أمنع الحصون العربية ودخلت في الإسلام؛ وتوضح الأمر أن لا مساومة على دين الله ولو كانت المساومة تأجيل هدم اللات شهرا واحدا فقط وهذا في موقع القوة بينما قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - محو (رسول الله) و (الرحمن الرحيم) يوم الحديبية. وتجلى الفرق بين الدخول في الإسلام ودولة الإسلام؛ وبين التفاوص من موقع المساواة في القوة بل يتضح الفرق أكثر يوم رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ثلاثة عشر عاما يطلب فقط حمايته من ثقيف ليدعو إلى الله عز وجل دون أن يتدخل في دينها ومقدساتها وأي شأن من شؤونها وبين الوضع اليوم والمسلمون قد تمكنوا من الأرض؛ وتزلزلت ثقيف رعبا من حروبهم. والحركة الإسلامية المبصرة، تعرف الفرق بين المرحلتين، وتنطلق حسب الظروف التي تملكها لتمكن لنفسها ولدين الله. وتتعلم كذلك ما يمكن قبوله من الشروط وهي في موقع القوة؛ وما لا يمكن قبوله وهي في الموقع نفسه حين وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفض شرطا يحل حراما أو يحرم حلالا بينما لا يجد حرجا من إعفائهم من كسر أصنامهم بأيديهم. ثانيا - وفد تميم: أما وفد تميم. ففد جاء يباهي بشعره وبيانه فأجابه بالأسلوب نفسه فرد على الشعر بالشعر حيث أفحم شاعر تميم من حسان ورد على الخطبة بالخطبة حيث أفحم تميم من ثابت بن قيس وانتهى الأمر عندهم أن (قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا؛ ولأصواتهم أحلى من أصواتنا. فلما فرغ ¬

(¬1) و (¬2) الرحيق المختوم ص 504.

القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسن جوائزهم) (1). وهذا الأسلوب من الدعوة والطراز الجديد فيها يدعونا إلى أن نعطي الإعلام الإسلامي حقه وأن نتأكد أن معركة الإسلام ليست معركة عسكرية فحسب. بل هي معركة سياسية، ومعركة إعلامية يمكن حين نبرز فيها أن نحول الخصوم إلى أصدقاء، أو محايدين، وننشر فكرنا وعقيدتنا ومبادئنا من هذا المنبر، ونقطع كثيرا من الأشواط التي لا نتصور أن تقطع إلا من خلال القوة مع الإشارة كذلك أن القوة التي ينطلق منها الإعلام، هي التي تفتح القلوب له لكن القلوب تبقى مسدودة أمام منطق الضعفاء. ثالثا - وفد عامر: وجاء وفد عامر ليعرض عضلاته ويفرض شروطه: (فقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد الغدر به وقد قال له قومه: يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم. قال: والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقيبي، أفأنا أتبع عقيب هذا الفتى من قريش: ثم قال لأربد (¬2): إذا قدمنا على الرجل فإني سأشغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف. فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عامر بن الطفيل: يا محمد: خالني (¬3). قال: لا والله حتى تؤمن بالله وحده. قال يا محمد خالني، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يحير شيئا. قال: فلما رأى عامر ما يصنع أربد. قال: يا محمد خالني، قال: لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له. فلما أبى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا. فلما ولى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اكفني عامر بن الطفيل ... وخرجوا راجعين إلى بلادهم (¬4). وفي صحيح البخاري: أن عامرا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخيرك بين خصال ثلاث: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء (¬5). حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه. فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول. فجعل يقول: أغدة كغدة البكر (¬6)، في بيت امرأة من بني سلول. لا يغيب عن البال أن غزوة الأحزاب كان نصف جيشها من غطفان التي بلغت قرابة خمسة ¬

(1) السيرة لابن هشام ج 4 ص 567. (¬2) أربد: أحد زعماء بني عامر. (¬3) خالني اتخذني خليلا وصاحبا. (¬4) السيرة لابن هشام: ج 4 ص 568. (¬5) البخاري. (¬6) غدة البكر: داء يصيب البعير فيموت عنه وهو شبيه بالذبحة التي تصيب الإنسان.

آلاف مقاتل وهم الذين عرض عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلث ثمار المدينة مقابل انسحابهم من حربه في الخندق، ومن أجل ذلك كان عامر ينطلق ويتكلم من منطق القوة. وجاء يطالب بالوراثة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اقتسام السلطة بين الإسلام والجاهلية، فرفض عليه الصلاة والسلام ذلك كله ولم يقبل منه إلا الإسلام، وكان لتهديده بقوته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اكفني عامر بن الطفيل فقضي عليه قبل أن يصل إلى قومه. والفهم الحركي لهذا الوفد يعطينا صورة جديدة من الصور المرفوضة في المساومات، وهي قضية الوراثة أو المشاركة بين الكفر والإسلام في الحكم، وقد رفضت هذه الصورة منذ المرحلة المكية حين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو القبائل إلى الإسلام. فالجانب السياسي له حدود محددة. وهذه الحدود لا يمكن أن يكون الإسلام فيها موضع مساومة أو موضع مفاوضة، لا يجتمع الإسلام والجاهلية في حكم واحد. أو موقع واحد. رابعا: وفد بني حنيفة: ولم تكن بنو حنيفة أقل سطوة وقوة من تميم وغطفان. فلقد كانت تحكم ريف اليمامة. وجاء وفدهم ومعه مسيلمة بن حبيب الذي جاء يراوغ ويداور لعله يصل إلى شيء فكان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له وفي يده عسيب من سعف النخل: لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه .. (ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاؤوه بما أعطاه. فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب له وقال إني أشركت في الأمر معه) (¬1). وكان ثمامة بن أثال أصدق دينا وأثبت أصلا وأندى مروءة من مسيلمة الذي أسره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ويأتيه رسول الله فيقول له: أسلم يا ثمامة، فيقول: إيها يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن ترد الفداء فسل ما شئت. فمكث ما شاء الله أن يمكث ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أطلقوا ثمامة. فلما أطلقوه خرج حتى أتى البقيع. فتطهر فأحسن طهوره ثم أقبل فبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام .. ثم خرج معتمرا فلما قدم مكة، قالوا: أصبوت يا ثمام؟ فقال: لا. ولكني اتبعت خير دين، دين محمد ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا فكتبوا إلى رسول الله: إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع. فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل) (¬2) وبقيت اليمامة بزعامة مسلمة تتهيأ للوثوب. ولعل هذه القيادات القبلية. لم تكن تدرك حقيقة الإسلام، إنما كانت تتصور الأمر هزيمة ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 4 ص 576. (¬2) السيرة لابن هشام ج 4 ص 639.

أمام سلطان حاكم. ولم يفكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باللين مع هذه القيادات بصورة من الصور حين تريد أن تجعل لرأيها وزنا مع الله ورسوله. خامسا: وفد طيء: وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد طيء، فيهم زيد الخيل وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه، وعرض عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، فأسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حدثني من لا أتهم من رجال طيء: ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل. فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه، ثم سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير. وأما عدي بن حاتم فكان يقول: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرءا شريفا وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي بالمرباع (¬1). فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي، لما كان يصنع بي. فلما سمعت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كرهته فقلت لغلام كان لي عربي، وكان راعيا لإبلي: لا أبا لك اعدد لي من إبلي جمالا ذللا سمانا. فاحتبسها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني. ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي: ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات فسألت عنها. فقالوا: هذه جيوش محمد. فقلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها. فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام. فسلكت الجوشية (¬2). وتخالفني خيلي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت. فقدم بها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبايا من طيء. وقد بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هربي إلى الشام المسجد. كانت السبايا يحسسن فيها، فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقامت إليه وكانت امرأة جزلة فقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الرافد، فامنن علي من الله عليك. قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: الفار من الله ورسوله؟ قالت: ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركني، حتى إذا كان من الغد مر بي. فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس. قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست منه. فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه؛ قال: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك فقال - صلى الله عليه وسلم -: قد فعلت. فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم اذنيني فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن أكلمه فقيل: علي بن أبي طالب. وأقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة، قال: ¬

(¬1) المرباع: آخذ الربع من الغنائم. (¬2) الجوشية: جبل قرب نجد.

وإنما أريد أن آتي أخي بالشام. قالت: فجئت رسول الله فقلت: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ. قالت: فكساني رسول الله وأعطاني نفقة. فخرجت معهم حتى قدمت الشام قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي، إذا نظرت إلى ظعينة يصوب إلي تؤمنا، قال: فقلت: ابنة حاتم قال: فإذا هي هي فلما وقفت علي انسحلت. تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك. قلت: أي أخية. لا تقولي إلا خيرا .. فوالله مالي من عذر لقد صنعت ما ذكرت ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها: وكانت امرأة حازمة: - ما ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله. وإن يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت. قال: قلت والله إن هذا الرأي. قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخلت عليه، وهو في مسجده فسلمت عليه فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها؛ قال: قلت في نفسي، والله ما هذا بملك، قال: ثم مضى بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي، فقال: اجلس على هذه، قال، قلت بل أنت فاجلس عليها فقال: بل أنت فجلست عليها، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأرض. قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم ألم تكن ركوسيا (¬1)؟ قال: قلت: بلى، قال: أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى. قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال: قلت: أجل والله. وقال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل ثم قال: لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم: قال: فأسلمت. وكان عدي يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرآة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت وايم الله لتكونن الثالثة ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه (¬2). طيء تمتد في بادية الشام والعراق والحجاز وحاتم الطائي من أشهر العرب في الجاهلية ¬

(¬1) ركوسيا: وهو قوم لهم دين بين دين النصارى والصابئين. (¬2) السيرة لابن هشام ج 4 ص 577 - 580.

بالكرم وبه يضرب المثل. إذ يقول الشاعر: إقدام عمر في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس. ومكارم الأخلاق لها وزن في هذه القبيلة فقد أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سراح سفانة بنت حاتم لأن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وزيد الخيل فبما سمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه من ثناء كان أقل مما فيه، وأطلق عليه زيد الخير، وحصافة سفانة. وذكاء عدي وعمق فكره في التفريق بين الملك والنبوة، حيث أدرك الفرق من خلال وقوفه للمرأة العجوز، ومجلسه التواضع في بيته، وعلمه بمظالم عدي أقنعته بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام. وأدرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبعاد عدي بن حاتم الذي لجأ إلى ملوك غسان، وأنه ينتمي إلى النصرانية التي تقودها مملكة الروم. فكان لابد من غزو هذه الأبعاد، والإحاطة بهذه الأعماق حيث أبرزها على السطح وهي الخوف من الفقر والضعف وقلة العدد. وحيث أن عديا قد تجاوز مرحلة التشكيك في النبوة. كان هذا الحديث عن أفق المستقبل الوضيء ضروريا له ليقوده إلى الحق فتلين قناته، ويذلل جماحه. ولا شك أن النماذج البشرية تختلف فلا بد من الحديث مع كل نموذج بما يناسبه. والحديث المشهور الذي رواه الترمذي عن عدي في لقائه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على نصرانيته. وفي عنقه صليب ذهبي كبير. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم} قال: يا رسول الله ما عبدناهم. قال: ألم يحلوا لهم الحرام، ويحرموا لهم الحلال قال: بلى قال: فتلك عبادتهم إياهم. ويدرك عدي بن حاتم أعماق هذا المعنى، فهو على الركوسية وهو يأخذ ربع الغنائم من قومه وهذا لا يحل له. ومع ذلك يفعله. وهو بهذه النقلة الجديدة ينتقل من دين البشر إلى دين الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن أجل ذلك كان إيمانه عميقا متغلغلا في كل ذرة من ذرات كيانه. وبقي على نهج الإسلام دون تعلثم أو تردد حتى لقي وجه ربه، وشهد كتائب الإيمان تفتح الأرض، ومدائن كسرى تهوي بين قدمي المسلمين، وشرفه الله تعالى بأن كان أحد القادة الذين حاصروا القصر الأبيض. وشهد بأم عينه الظعينة تمضي من القادسية إلى البيت الحرام لا تخشى إلا الله. إن عظمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في كشف المخبوء من الخلل في دينه، من حيث الفكر، وكاث في تقديم القدوة بين يديه في الصورة البديلة، في مواصفات النبوة التي تعيش آلام الناس وحياتهم. ومن هنا تدرك الجماعة المسلمة دورها الكبير في التعامل مع خصومها، بحيث تسبر أغوار

نفوسهم وحقيقة فكرهم، وزيف عقائدهم، وهي لا تنجح حين تداهنهم في هذا الباطل، وتتدسس إليهم في هذا الباطل، إنها حين تفعل ذلك يدرك خصوم الدعوة أن هذه الجماعة فكر بشري قاصر مثل فكرهم. وإن إصرار دعاة الباطل على باطلهم، لا يقتضي من الدعاة تقريظه، أو السكوت عليه فلا بد في الحوار الفكري من الوضوح التام الذي لا يقبل التلجلج والتردد. ومن المأساة حقا على سبيل المثال، أن نجد بعض دعاة الإسلام بحجة الدعوة إلى الله بالحسنى يزينون للنصارى باطلهم، ويقولون لهم، كلنا مؤمنون بالله. والنصراني الذي يعيش هذا التناقض في نفسه. سوف يستخف بهذا الداعية الذي يربت على كتفه ويبارك باطله، ويعلم أن لا مبرر لهذا الداعية أن تكون له السيادة في الأرض طالما أنه مثله في الباطل. ومن جهة ثانية: تبقى عملية القدوة العملية في التعامل والخلق والسلوك؛ ويبقى شرف الخصومة والحفاظ على العهد والصدق في الرضا والغضب. هو مدار الدعوة الحقيقي، ومحوره فإذا تزلزل المحور، تمزقت الصورة وتبعثرت في تقييم الخصوم لهذه الدعوة. وحين نربح أولئك الخصوم، من خلال القدوة العملية، والوضوح الفكري. نستطيع أن نتكلم معهم من منطق القوة والاعتزاز بهذا الدين والثقة بأن المستقبل لهذا الدين. وحين نربط هذه القضايا معا بالقضية المادية المكافئة. نستطيع أن نتحرك بهذه المحاور جميعا نحو الهدف الأول، هدف: إسقاط الخصم في خضم هذه العقيدة. وفي لب هذا الدين. لا بإسقاطه وتصفيته، وتكوين تجمع يثأر له من بعده. وحرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يتلوا آية براءة بين يدي حاتم ويوضح له من خلال هذه الآية أنه ليس على دين كما كان يحسب عدي وتصور وبذلك تنقطع المبررات التي تدفع الخصم للتمسك بمبادئه. ونقول في هذا الصدد إن هذا الخط من الوضح الفكري والقدوة العملية ليس مرتبطا بمرحلة معينة فقد رأينا. والمسلمون في أشد حالات الضعف في الحبشة. ونراه اليوم والمسلمون أسياد الجزيرة العربية. لكن الذي يحكم هذا الخط، هو أن لا يتحول هذا الموقف إلى السباب والشتيمة. والغضب للنفس، فإن القيد الأكبر لهذا الحوار والجدل؛ هو أن يكون بالتي هي أحسن. أي بالصورة التي لا يوجد أحسن منها على الإطلاق ... وجدال التي هي أحسن هو الذي يثمر خصما منفعلا مع عقيدة الإسلام. أو معترفا بعظمة التعامل فيه. سادسا: وفود الجنوب: وكانت هذه الوفود ترد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلنة ولاءها ودخولها في الإسلام، وذلك من خلال الدعوة إلى الله تعالى. ودون توجيه جيوش إليها. وذلك بعد أن رأت سقوط مقاومة قريش

وثقيف وغطفان وتميم وطيء قلب جزيرة العرب، ودخولها في الإسلام ونعرض لهذه الوفود بحيث نرى نماذج الدعوة إلى الله من خلالها. أ - فهذا ضمام بن ثعلبة الذي يمثل صدق الأعراب وصفاءهم وقوة شكيمتهم (... فأقبل حتى وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه. فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا ابن عبد المطلب. قال: أمحمد؟ قال: نعم: قال: يا ابن عبد المطلب الله سائلك ومغلظ عليك بالمسألة فلا تجدن في نفسك. قال: لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك. قال: انشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك - صلى الله عليه وسلم - آلله بعثك إلينا رسولا؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هوكائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا. وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها كما ينشده في التي قبلها. حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. وسأؤدي هذه الفرائض واجتنب ما نهيتني عنه، ثم انصرف إلى بعيره راجعا قال. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة. قال فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام! إتق البرص، إتق الجذم، اتق الجنون! قال: ويلكم! إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليكم كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ررسوله. وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه. قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. قال: يقول عبد الله بن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (¬1)). إنه ليدور في خلدي ذلك الإنسان الذي عاش في صحرائه. ضمام بن ثعلبة. منسجما مع نفسه في إبله وأهله. وله السيادة في قومه. جاء إليه من حدثه عن محمد رسول الله. فسر في قلبه سرورا عظيما. وعزم على أن يمضي بنفسه ليلقى هذا الرسول من عند رب العالين، وسوف يناشده الله أن يصدقه، ومضى بهذا التصميم إليه، ونفسه تتوق طيلة الطريق إلى ذلك اللقاء الذي يتعرف به على هذا المرسل من عند الله رب السماء والأرض. ووصل، واعتذر سلفا عن الأغلاظ في المسألة. وصمم على أن يناشده ربه عن كل شيء. حتى إذا تأكد من صحة كلام هذا المبعوث من عند الله تعالى، أخذ الأوامر المرسلة، والنواهي المجتنبة، ومضى إلى قومه وقد انتهى ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 573 - 575.

إلى اليقين النهائي في نفسه، وأمام هذا الإيمان العجيب، دخل قومه كلهم في الإسلام، ولم يكلف دخول هذه القبيلة كلها أكثر من كلمات: (اللهم نعم) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما كلف دخول قريش في الإسلام حرب عشرين عاما أو تزيد. وهكذا تضم الحركة الإسلامية إلى رصيدها هذه الصورة الجديدة من الدعوة التي لا تعدو أكثر من إجابة واحدة على أسئلة محددة. وتدخل إلى قلوب هذه النماذج. بهذا الوضوح والصراحة. قد نجد الشباب الإسلامي يقرأ المجلدات من الفكر الإسلامي ولكنه يعجز عن الوصول إلى عامة الناس وسوادهم، فهو لا يعرف اللغة التي يفهمون بها. قد يتحدث معهم عن الفلسفة الإسلامية ونظام الحكم، ونظام القضاء والايديرلوجية لكن دون جدوى فهو في واد، وجماهير الأمة في واد آخر، وقد لا يكلف التفاهم مع هذه الجماهير أكثر من وليمة أو كلمة ثناء أو أريحية في خدمة. أو تبسيط دون أي تعقيد، وهذا ما رأيناه في هذا الموقف الذي لم يكلف نبي الله تعالى أكثر من قوله (اللهم نعم) ثم أععطى الدرس لأصحابه: إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة. ب - وعلى نهج ضمام كان مقدم الجارود في وفد عبد القيس. (فلما عرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام ودعاه إليه ورغبه فيه فقال: يا محمد إني كنت على دين، وإني تارك ديني لدينك. أفتضمن لي ديني، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه، قال: فأسلم وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحملان فقال: والله ما عندي ما أحملكم عليه قال: يا رسول الله فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من الناس. أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟ قال: لا إياك وإياها فإنما تلك حرق النار. فخرج من عنده الجارود راجعا إلى قومه، وكان حسن الإسلام صلبا على دينه، حتى هلك وقد أدرك الردة. فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول قام الجارود فتكلم شهادة الحق، ودعا إلى الإسلام فقال: أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله وأكفر من لم يشهد (¬1)). فقد اكتفى الجارود حين ترك دينه بضمانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له دينه السابق، ومثل القاعدة الصلبة في البحرين. حيث سبقه حاكمها المنذر بن ساوى العبدي إلى الإسلام وعلى رأس هؤلاء العلاء بن الحضرمي موفد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم وكان الجارود والعلاء هما اللذان وقفا مع المؤمنين في وجه المرتدين الذين قادهم الغرور بن المفذر بن النعمان بن المنذر. وتبقى القاعدة الصلبة هي الحصن الحصين للدعوة وقت الأزمات. ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 4 - 575.

ج - ومن قبائل الجنوب مراد وزبيد ومذحج يقدم فروة بن مسيك المرادي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفارقا لملوك كندة، ومباعدا لهم إلى رسول الله صلوات الله عليه (فلما انتهى إلى رسول الله قال له: يا فروة هل ساءك ما أصاب يومك يوم الردم. فقال: يا رسول الله من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). فالمعارك بين مراد وهمدان هي التي دفعت فروة بن مسيك لمفارقة قومه إلى المدينة، ومن أجل هذا قال له عليه الصلاة والسلام: (أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا) إذ دفعه ليكون من السابقين للإسلام. ونلحظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص على إبقاء قادة القبائل في مواقعهم من زعامة قبيلتهم بينما يبعث معهم أحد صحابته ليفقه القوم بالإسلام، وبذلك تبقى النفوس على عهدها دون أن تحس بإهانة أو تحطيم، ويبقى كيان القبيلة وزعامتها ضمن إطار الإسلام. وهذا خط نبوي واضح يحسن أن تعيه الحركة الإسلامية في الاستفادة من الزعامات بحيث لا تشعر أن الإسلام خطر عليها إن هي انضوت تحت لوائه لكن دون أن يتخذ الإسلام مطية لظلمها وتعسفها. د - وقد أدى دخول مراد في الإسلام إلى أن تنافسها همدان. فيتحرك وفدها إلى المدينة فيلتقوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرجعه من تبوك بكل ثقلها شعراء وأمراء (فقام مالك بن نمط بين يديه فقال: يا رسول الله نصية (¬1) من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص (¬2) نواج (¬3) متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف ويام وشاكر أهل السواد (¬4) والقود (¬5)، أجابوا دعوة الرسول وفارقوا الإلهات (¬6) الأنصاب (¬7) عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع، وما جرى اليعفور (¬8) بصلع (¬9). فكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا كتاب من رسول الله محمد، مخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحقاف (¬10) الرمل مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه على أن لهم فراعها ووهاطها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة يأكلون علافها (¬11) ويرعون عافيها (¬12) لهم بذلك عهد الله وذمام رسوله، وشاهدهم المهاجرون والأنصار فقال في ذلك مالك ¬

(¬1) النصية: خيار القوم. (¬2) قلص: الإبل الفتية. (¬3) نواج: مسرعة. (¬4) السود: الابل. (¬5) القود: الخيل. (¬6) الإلهات، جمع آلهة. (¬7) الأنصاب: حجارة يذبحون لها. (¬8) اليعفور: ولد الظبية. (¬9) صلع: اسم موضع. (¬10) الحقاف: جمع حقف وهو الرمل المستدير. (¬11) علافها: ثمر الطلح. (¬12) عافيها نباتها الكثير.

بن نمط. فما حملت من ناقة فوق رأسها ... أشد على أعدائه من محمد وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحد المشرفي المهند هـ - وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك ورسوله إليه بإسلامهم، الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل (¬1) ذي رعين ومعافر وهمدان! وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم، ومفارقتهم الشرك وأهله. و- ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر، إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد حتى قدم عليهم فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام، ويقولون أيها الناس أسلموا تسلموا فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام، وكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك كان أمره - صلى الله عليه وسلم - إن هم أسلموا ولم يقاتلوا. فأقبل خالد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب. فلما وقفوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلموا عليه وقالوا: نشهد أنك رسول الله، وأنه لا إله إلا الله. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنتم الذين إذا زجروا استقدموا فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد ثم أعادها الثانية، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثالثة فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة فقال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرار فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أن خالدا لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألفيت رؤوسكم تحت أقدامكم، فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا، قال: فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله، قال صدقتم، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: لم نكن نغلب أحدا، قال: بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم، قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله أنا كنا نجتمع رلا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم. قال: صدقتم، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال أو في صدر ذي القعدة فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر، حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورحم وبارك ورضي وأنعم. لقد تحرك جنوب الجزيرة العربية كلها، نجران وهمدان ومراد وزبيد ومذحج، بقلوب مفتوحة للإسلام، ونفوس متعطشة إليه، بينما دخل وسط الجزيرة العربية هربا من السيف. فكان ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 4 ص 592 - 594.

محضن الردة فيما بعد. وبقي الشمال العربي مستعصيا فلم تتحرك وفوده إلى المدينة، أما ملوك العرب في الجنوب حمير وكندة فقد جاؤوا مستسلمين لله عز وجل منيبين إليه كما وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرق قلوبا وأرق أفئدة. غير أن بني الحارث بن كعب كانت طريقة دعوتهم مختلفة فقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالدا إليهم، لأنهم مشهورون بقوة شكيمتهم وشدة بأسهم، وخالد بن الوليد قد طغت شهرته في الأرض العربية من حيث كفاءته القيادية فلا بد أن يشعر القوم بالقوة المرهوبة الجانب، ومن طرف آخر فالفشل الدعوي الذي لقيه خالد رضي الله عنه في بني جذيمة. كان لا بد أن يغسله في موقف دعوي آخر فكانت الفرصة المتاحة الجديدة في بني الحارث بن كعب. كان لا بد له أن يضبط أعصابه ويتحلى بالصبر الطويل على الخلق البشري، والتعنت البشري وهذا أشق عليه ألف مرة من الصبر في المعارك وتحمل ضراوتها، وأن يتعود هذا السيف الذي سله الله على المشركين، أن يغمد أمام سيل الدعوة المنطلق فترة من الفترات هو أمر ضروري فعظمة الالتزام أن يكون هذا السيف تحت إمرة الله ورسوله وأن تجرب مشاق الدعوة ووعورتها وأثرها الضخم في النفس الإنسانية. ونجح ابن الوليد أيما نجاح في هذه الدورة التدريبية على الدعوة، وهيأ الله تعالى له في مدخر أجر أن يكون إسلام بني الحارث بن كعب على يديه، وبذلك أصبح الجنوب العربي إسلاميا خالصا لله وحده.

السمة الخامسة عشرة: التحدي الأكبر للروم في غزوة تبوك

السمة الخامسة عشرة: التحدي الأكبر للروم في غزوة تبوك في شمال الجزيرة العربية كما ذكرنا من قبل كان إقبال الوفود العربية قليلا جدا، إلا ما ذكر من وفد بلى، ووفد فرع من قضاعة غير أن الحدث المهم في شمال جزيرة العرب هو إسلا م فروة بن عمرو الجذامي الذي كان قائدا من قواد الروم، وواليا لهم على من يليهم من العرب وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام. فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه فحبسوه عندهم فقال في محبسه ذاك: ولقد علمت أبا كبيشة أنني ... وسط الأعزة لا يحص (¬1) لساني فلئن هلكت لتفقدن أخاكم ... ولئن بقيت لتعرفن مكاني ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى ... من جودة وشجاعة وبيان فلما أجمعت الروم لصلبه على ماء لهم يقال له عفراء بفلسطين قال: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها ... على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل ولما قدموه ليقتلوه قال: بلغ سراة المسلمين بأنني ... سلم لربي أعظمي ومقامي وكما كان السبب المباشر في مؤتة مقتل الحارث بن عمير الأزدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان السبب المباشر في تبوك هو مقتل فروة بن عمرو الجذامي الذي استغاث بالمسلمين وبر سول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبع هذا الأمر حشود ضخمة على الحدود الشمالية، وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين حتى كان الخوف يتسورهم في كل حين لا يسمعون صوتا غير معتاد ولا ويظنونه زحف الرومان. ويظهر ذلك جليا مما وقع لعمر بن الخطاب فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهرا فهجرهن (¬2) ففي صحيح البخاري (وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء فضرب بابي ضربا شديدا وقال: أنائم هو؟ ففزعت فخرجت إليه، وقال حدث أمر عظيم، فقلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه) (¬3). ¬

(¬1) لا يحص: لا يقطع. (¬2) الرحيق المختوم للمباركفوري 483. (¬3) صحيح البخاري 1/ 334.

وإن قيمة الجندي المسلم عظيمة في الإسلام؛ وحين يكون المسلمون قادرين على حمايته فلا بد من ذلك أو الثأر له ولو اقتضى الأمر إشعال حرب كاملة من أجله، وما بيعة الرضون بسر، وما غزوة تبوك بسر، وما غزوة مؤتة بسر، وما سرية أسامة إلى تخوم الشام بسر إذ قامت هذه جميعا ثأرا من الغادرين الذين يقتلون الرسل ويستخفون بالأعراف الدبلوماسية حين يكون عدوهم مهيض الجناح حسب ما يتصورون. فالرسل لا تقتل في الأصل وما يقدم على ذلك الغادرون إلا تحديا لخصومهم في ذلك. وسنعرض لغزوة تبوك في خطوط عريضة تتناسب مع طبيعة هذه السمة. الخط الأول: التظاهرة الكبرى في تحرك ثلاثين ألفا من المسلمين: فقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم وذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس، لبعد الشقة وشدة الزمان، وكثرة العدو، الذي يصمد له ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم (¬1). (ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جد في سفره وأمر الناس بالجهاز، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق في ذلك عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها) (¬2). (ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم البكاؤون وهم سبعة نفر من الأنصار فاستحملوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا أهل حاجة. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) (¬3). (وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه فلم يعذرهم الله تعالى) (¬4)). وكان الاتجاه الإسلامي أن لا يتخلف أحد عن المعركة، فقد كان عليه الصلاة والسلام بعد انطلاقه من المدينة كلما ذكر له تخلف أحد من أصحابه أو الخلص منهم كان يقول: إن يكن به خير فسيلحق بنا. وجرى ذلك مع أبي ذر الغفاري وأبا خيثمة. ويحدث كلثوم بن الحصين يقول: (فقلت: استنغفر لي يا رسول الله، فقال: سر فجعل رسول الله يسألني عمن تخلف من غفار فأخبرته، فقال: ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 4 ص 516. (¬2) و (¬3) و (¬4) المصدر نفسه ج 4 ص 518.

على بعير من إبله امرءا نشيطا في سبيل الله، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عن المهاجرون والأنصار وغفار وأسلم) (¬1). فلما رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثنية الوداع عقد الألوية والرايات فدفع لواء الأعظم إلى أبي بكر رضي الله عنه، ورايته العظمى إلى الزبير، وراية الأوس إلى أسيد بن الحضير، ولواء الخزرج إلى أبي دجاذة، وأمر كل بطن من الأنصار، والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء أو راية وساروا معه ثلاثون ألفا، وعشرة ألاف فرس، واثنا عشر ألف بعير) (¬2). ولا شك أن هذه التظاهرة الضخمة سوف تكون حديث الركبان في جزيرة العرب، فقد ارتفع العدد ثلاثة أضعاف عما كان في فتح مكة. ولئن كانت العملية الفدائية الأولى إلى تخوم الروم ثلاثة آلاف في مؤتة فقد بلغت هذه الحملة عشرة أضعاف تلك، إنه لتطور ضخم ابتدأ في العام الأول للهجرة بثلاثين راكبا. وانتهت في العام التاسع للهجرة بثلاثين ألفا. وهذا يعني أن الجيش الإسلامي ارتفع خلال تسع سنوات ألف ضعف عما ابتدأ به. الخط الثاني مسير الغزوة وعملياتها. كما ذكرت فلم يكن في الحملة الضخمة مواجهة تذكر لأن عرب الشام سمعوا بضخامة الحملة فتفرقوا في البلاد، كما أن هرقل لم يكن بنيته مواجهة محمد رسول الله لما يعرفه عنه. (وشاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التقدم فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن كنت أمرت بالمسير فسر، فقال: لو أمرت به ما استشرتكم فيه! قالوا: يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت منهم حيث ترى، وقد أفزعهم دنوك فلو رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث الله لك في ذلك أمرا) (¬3). كما كلف رسول الله البطل المغوار خالد بن الوليد باختطاف أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل في أربعمائة فارس، وكان أكيدر نصرانيا (فقال خالد يا رسول الله كيف لي به وهو وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسير فقال: ستجده يصيد البقر فتأخذه وقال: فلا تقتله وائت به، فإن أبى فاقتلوه فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة وهو على سطح له من الحر، ومعه امرأته وقينة تغنيه وقد شرب فأقبلت البقر (¬4) تحك بقرونها باب الحصن، فأشرفت امرأته فرأت البقر فقالت: ما رأيت كالليلة من اللحم، هل رأيت مثل ¬

(¬1) السيرة لابن هشام ج 4 ص 529. (¬2) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 450. (¬3) المصدر نفسه ج 1: 450. (¬4) البر: بقر الوحش التي تصطاد.

هذا قط؟ قال: لا قالت: من يترك هذا؟ قال: لا أحد. قال أكيدر والله ما رأيت جاءتنا ليلا بقر غير تلك الليلة، ولقد كنت أضمر لها الخيل شهرا أو أكثر ثم أركب بالرجال وبالآلة فنزل فأمر بفرسه فأسرج وأمر بخيل فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيته، فخرجوا قباء حصنهم بمطاردهم وخيل خالد تنتظرهم لا يصهل منها فرس ولا يحرك فساعة فصل أخذته الخيل. واستلب خالد بن الوليد أخاه حسانا قباء ديباج نخوصا (¬1) بذهب فبعث به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عمرو بن أمية فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه فقال عليه السلام: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا. ثم خرج خالد إلى المدينة ومعه أكيدر وأخوه فصالحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجزية وخلى سبيله وسبيل أخيه (¬2)) وخاف أهل أيلة وتيماء فقدم يحنة بن رؤبة ومعه أهل جرباء وأذرح، فصالحهم عليه السلام وقطع عليهم الجزية) (¬3). وهذه هي العمليات الحربية والسياسية التي قام بها جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث تسارع الناس هناك لمصالحته، وذلك من خلال اختطاف أكيدر في عملية حربية ناجحة وأدت التظاهرة العسكرية والسياسية دورها في إرهاب الشمال العربي وكفه عن التفكير بالهجوم على المدينة مستندا إلى قوة الرومان العسكرية. الخط الثالث: بروز المنافقين وتخطيطهم من جديد. بعد أن صفي المنافقون تقريبا عند صلح الحديبية وبقي وجودهم لا يتعدى بضعة أفراد عاد المجتمع الإسلامي فأخذ أبعاده بعد الحديبية ثم بعد الفتح، فتضاعف الجيش الإسلامي عشرين ضعفا، وكثير ممن دخل هذا المجتمع كان دافعه الرغبة والرهبة، وكان عبد الله بن أبي لا يزال على قيد الحياة، فاستعاد بناء معسكره من جديد، ونظم صفوفه من خلال القاعدة الجديدة العريضة التي انضمت له وبرزت مخططات المنافقين بتوزيع المهام بين المدينة قبل النفير ومع الجيش وبعد العودة إليها. أما دورهم قبل النفير فكان ينصب على تخذيل الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوتهم إلى الركون للدنيا {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة ¬

(¬1) مخوصا بذهب: أن يجعل للثوب صفائح من ذهب على قدر عرض خوص النخل وفي صورته. (¬2) إمتاع الأسماع ج 1: 463 - 465. (¬3) المصدر نفسه ج 1: 467.

بالكافرين (¬1)، {وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} (¬2)، {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} (¬3). وأما دورهم في الجش فكان في مخالفة الأوامر، وبث الفتنة في الجيش والفرقة فيه. وعلى رأس هذه المخططات جميعا محاولة اغتيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفوا بعد اسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} (¬4) وأحبط الله تعالى مخططاتهم بإطلاع نبيه عليها حين هموا بما لم ينالوا ومع وضوح الجريمة الغادرة فلم تقم ضدهم عمليات قتل أو تصفية جسدية، حفاظا على السمعة العامة للجماعة المسلمة أن يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه، ومنعا لتكتل قد يظهر على الساحة فيجر بعض الموتورين وهم كثر ممن دخل في دين الله خوفا على مصلحته، وأما في المدينة فقد كانوا يخططون لافتتاح مركز خاص لهم يأوي إليه كل المنافقين وهو مسجد الضرار الذي وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بافتتاحه والصلاة فيه بعد العودة من تبوك، وأطلع الله تعالى نبيه على الهدف من ذلك، فبعث من يحرق مسجد الضرار بمن فيه: {والذين اتخذا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون} (¬5). وكانت آيات سورة براءة التي نزلت في المنافقين قرابة مائة آية أعنف حرب إعلامية عليهم، كشفت جميع مخططاتهم وعرتهم تعرية كاملة في المجتمع الإسلامي حتى كان الصحابة يطلقون عليها أسماء عديدة منها المخزية والفاضحة والمبعثرة واستطاعت هذه الحملة الناجحة أن تهزم معسكر النفاق، وتعيد الكثيرين منه إلى الصف الإسلامي الخالص، فيحسن إسلامهم وكان أكبر فاجعة نزلت بهم هي موت عبد الله بن أبي زعيمهم، وكي لا يفتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معركة مع أتباعه فيما بعد فصلى عليه واستغفر له وأعطاه كساءه وعاتب الله تعالى نبيه في ذلك بقوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} (¬6). وهذا الخط السياسي الذي اختاره النبي - صلى الله عليه وسلم - في عملية البناء الداخلي تحتاج الحركة الإسلامية اليوم إلى دراسة أبعاده وجوانبه وأساليبه بحيث تستطيع أمام أي خلل في صفها أن تعالجه بتفتيت ذلك التجمع المضاد. وفضح أهدافه وضرب مركز القوة فيه حتى لا ينساق سواد الصف معه، وأية معالجة غير هذه المعالجة تصل بالصف الإسلامي كله إلى التفجر والتشرذم ¬

(¬1) سورة التوبة: 49. (¬2) التوبة: 81. (¬3) التوبة: 46. (¬4) سورة التوبة: 74. (¬5) التوبة 107. (¬6) التوبة: 84.

والصلة المستمرة بالقواعد، والتوعية التربوية والسياسية التي تشير إلى دور المغامرين والمقامرين بمصير الجماعة، دون أن تتحول القضية إلى حرب شخصية أو صراعات فردية هي صمام الأمان لسلامة خط الجماعة، وحسن سيرها إلى الهدف الذي تسعى إليه وجهاز الأمن القوي للجماعة الذي يكشف كل المحاولات الخبيثة لتهديم الصف المسلم هو ضرورة ماسة في كل حركة إسلامية ويبقى المحور الإسلامي في هذا المجال هو عزل قادة النفاق أو المشاقين للجماعة المستغلين لها، دون أن يبقى معهم مفرر واحد. الخط الرابع: المخلفين (¬1) الثلاثة وموقف المجتمع الإسلامي منهم. ورغم أن الصحابة الثلاثة رضي الله عنهم هم واحد من عشرة آلاف بالقياس إلى الجيش المسلم لكن أثر موقفهم في المجتمع الإسلامي لم يكن أقل من خط منهجي للحركة تقتفي أثاره. فقد تخلفوا عن المعركة دون عذر، وصدقوا الله ورسوله وقال لهم عليه الصلاة والسلام: (أما هذا فقد صدق، فقم حتى يحكم الله فيك). وكان التوجيه الرباني بالنسبة لهؤلاء الثلاثة هو مقاطعتهم من المسلمين (ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة) وكانت محنة من الطرف الآخر لهذا الصف، ومدى استجابته للموقف الحازم من المخالفين من جنوده، وثبتت قوة الصف والتحامه في المفاصلة مع هؤلاء الثلاثة في أروع ما يحمل تاريخ الدعوات من صور لدرجة أنهم يسلمون فلا يرد عليهم السلام، ولكن أعظم ما في هذه المفاصلة ولا شك هو الأمر الأخير لزوجاتهم بمقاطعتهم، وقد نجحت حتى هذه الخطوة وتحقق العزل الكامل لهم في صورة لم يشهد التاريخ مثيلا لها: وما أظنه يشهد (فأقمنا على ذلك أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول الله يأتيني فقال إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك قال قلت أطلقها أم ماذا؟ قال لا بل اعتزلها ولا تقربها). وتبلغ أهمية هذا الموضوع وخطره على الصف الإسلامي أن بلغ أعداء الإسلام في الشام حتى بعثوا يتصلون بكعب بن مالك أحد الثلاثة والشاعر الإسلامي المشهور يعرضون عليه الإنضمام إليهم إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك قال فجعل الناس يشيرون إلي حتى إذا جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكتب كتابا في سرقة من حرير فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك قال: قلت: حين قرأتها؛ وهذا من البلاء أيضا قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع بي رجل من الشرك فعمدت بها إلى تنور فسجرته فيها) وإذا كان كعب رضي الله تعالى عنه قد فضح هذه الصلة، وعمد إلى الكتاب فأحرقه فكم إذن يا ترى من ¬

(¬1) ما بين قوسين مقتطفات من قصة كعب وتخلفه. انظر السيرة لابن هشام وغيرها.

الصلات والرسائل والمخططات كانت تصل لابن أبي فيكتمها ويجيب عليها، ويتآمر من خلالها على الجماعة المسلمة. وحتى تعرف الحركة الإسلامية سلامة صفها فلا بد من أن تعرف مقدرتها على تنفيذ مثل هذه الأوامر في قطاع خاص من قطاعاتها وحين لا تنجح في هذا الحيز الضيق فهي على المستوى الأوسع أعجز وهي بالتالي تحتاج الى معاناة مستمرة في محاولة البناء المستمر في الانضباط والإلتزام. ونشر في النهاية إلى أن هذا المجتمع قد عاش مأساة إخوته الثلاثة في أشد ما يكون يقظة والتزاما وألما حتى أن التوبة حين نزلت من السماء ما تمالك صارخ أن يصرخ مع الفجر بأعلى صوته من قمة الجبل أن أبشر يا كعب بن مالك حتى إن إحدى أمهات المؤمنين أرادت أن تبشره من السماء فقال عليه الصلاة والسلام، إذن لا يدعكم الناس تنامون) وظهر الصف الإسلامي فعلا أنه كالجسد الواحد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وكان أروع ما في الأمر تمام الانضباط مع تمام العاطفة والحب والاشتراك في الأمل والألم. ***

السمة السادسة عشرة: سورة براءة وإنهاء الوجود الوثني

السمة السادسة عشرة: سورة براءة وإنهاء الوجود الوثني عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك؛ واتجهت العرب إلى المدينة تعلن ولاءها وكان موسم الحج الجديد (ثم أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقية شهر رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر رضي الله عنه ومن معه من المسلمين). قال ابن إسحاق: (وحدثتني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت سورة براءة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان بعث أبا بكر ليقيم للناس الحج قيل له يا رسول الله، لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال أخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فهو له إلى مدته، فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء حتى أدرك أبا بكر بالطريق، فلما رآه أبو بكر بالطريق تقال: أأمير أم مأمور؟ قال بل مأمور، ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم في الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن بالناس بالذي أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففال: أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم اإلى مأمنهم أو بلادهم ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى مدة فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان). لقد كان حج العام التاسع من حيث الشعائر فيه كامل الحرية للمسلمين والمشركين دون وجود سلطة محددة تمنع هذا أو ذاك، ولكن ظهر المجتمع الإسلامي الضخم الذي يقوده أبو بكر رضي الله عنه والمسلمون معه يحجون بحجه، ولا يبعد أن يكون كثير من المسلمين مع قبائلهم وفي مواقعها. وكان هذا التجمع مناسبة طيبة لإعلان الأوامر الربانية في إنهاء الوجود الوثني في جزيرة العرب والذي استمر عدة قرون وفي الكعبة المشرفة.

ولقد تم خلال الحج الماضي إزالة الأصنام من مكة فقط وكانت تظاهرة عمرة الجعرانة قبيل الحج فقط. غير أن إعلان الأحكام الإسلامية في منى يوم النحر كان من الأهمية بمكان ويعني أن شريعة الله سوف تطبق كل أحكامها وعلى الناس جميعا خلال مدة زمنية أقصاها أربعة أشهر إلى السنة فخلال سنة وحتى يحل الحج القادم فيمكن التساهل وغض النظر عن بعض مظاهر الشرك في البيت الحرام، أما الذين كان لهم وجود قانوني ثابت من خلال عهود ومواثيق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} لكن استمرار الشرك بصورة دائمة فهذا مرفوض في شريعة الله في مكة وجزيرة العرب فالعهود المفتوحة بدون قيد، والتجمعات المشركة القائمة بدون عهد حدد الإنذار النهائي لها أربعة أشهر لإعلان الإنضمام إلى المسلمين أو المواجهة معهم. {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفرر رحيم وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} (¬1). وكان هذا الإعلان الرسمي بمثابة حل لأحزاب الشرك والوثنية في أرض العرب، إلا التي أقامت وجودها بإذن خاص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأهم ما يحسن أن تعيه الحركة الإسلامية من هذا الإعلان أن تفقه قصة التدرج في الحكم والأحكام والخطوات المرحلية المؤدية إلى الهدف، وشرف التعامل والعهود والمواثيق مع الآخرين. وإننا لنذكر الشباب الدعاة أنه ما بين تطبيق أحكام الإسلام في الشعائر وما بين فتح مكة سنتان تماما. وكان بإمكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن انتهى من هوازن وحنين وما حولها مظفرا منتصرا. أن يقيم في مكة إلى الحج، ويمنع خلال شهر أداء كل هذه الشعائر إذ أنه دخل مكة عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة ولكن العبادات لا تتم بالحظر فقط، وبالأمر فقط لقد غادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قبيل الحج وجعل أميرا على المسلمين في مكة عتاب بن أسيد الشاب الذي لم يمض على إسلامه شهران أو أكثر، وبقي عتاب بن أسيد رضي الله عنه مع ¬

(¬1) براءة 1 - 2.

من أسلم حديثا من أهل مكة فحج بالمسلمين، وبقي معاذ بن جبل رضي الله عنه في مكة يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن. مضى عام كامل ومعاذ تحت إمرة عتاب يفقه الناس في الدين، وإن كان قد استدعي رضي الله عنه لأداء المهمة نفسها في اليمن، وكانت سنة كافية لأسلمه الحج كله إذا صح التعبير ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدد الأمر عاما آخر حتى تأخذ التربية مداها، ويأخذ التفقيه مداه وأن يتعامل مع قلوب الناس لا مع أجسادهم لا بد من سلخ آثار الوثنية من القلوب والنفوس التي علقت بها هذه الآثار واستمرت التربية سنتين كاملتين حتى كانت حجة الوداع. لقد ارتبط الحكم الإسلامي في جانبيه الشعائر والشرائع بهذا المدى الزمني العظيم والسلطة الوحيدة المسيطرة هي سلطة المسلمين، وهي القوة الوحيدة في الساحة ومع ذلك اقتضى الأمر هذا المدى الزمني الطويل ليمنع فيه حج المشرك وطواف العُريان. إننا نجد الشباب الإسلامي المتحمس وهو يتصور دولة الإسلام القادمة من خلال بلاغات حربية وانقلاب عسكري ومنذ اليوم الأول الذي تعلن فيه إسلامية الدولة. وفي بلاغات متلاحقة. وأيام قلائل. تلغى كل مظاهر الكفر والشرك في الإذاعة والتلفاز، ومظاهر الفساد ومواخير الزنا في المسارح والملاهي والسينمات، ويصدر قرار بالحجاب الإسلامي. إن هذا التصور العجيب الذي يملأ قلوب الكثير من الشباب هو تصور غير إسلامي، بل ويبالغ الشباب بكل أسف في ذلك لدرجة إتهام القيادة المسلحة بالمداهنة في دين الله لو تلكأت عن هذا التنفيذ وبالإنحراف، وبموالاة الكفار. لقد سمعت ذلك الشاب المتحمس وهو يناقشني على صوت موسيقي ظهر خطأ في برنامج إسلامي، من إذاعة لدولة حليفة يقول لي: هذا هو الانحراف، وكما انحرف الفلسطينيون في فتح، وانتقلوا من الإسلام في البداية إلى العلمانية ها أنتم تنحرفون كذلك، بل وبلغ الحماس عند بعض الشباب أن نفض يديه من الجماعة المسلمة حين وجد هذا الصوت في هذا البرنامج. لهؤلاء الشباب الذين تقرأ عتابهم وهم رصيد هذه الحركة، لهؤلاء نقول رويدا رويدا. فها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلم السلطة في مكة ويبقى الحرم يعج بالمشركين والعراة سنتين كاملتين حيث تم التمهيد المناسب والتفقيه اللازم، والتهيئة النفسية الكاملة وتم بعد هذا كله إلغاء هذه المظاهر الماجنة في ظل الكعبة. إنه نداء حار إلى الشباب كي يفقه هذا الدرس في أعظم صور المفاصلة بين الإسلام والشرك ومع هذا وضع له مدى أربعة أشهر لإلغاء التجمع ومدى سنة كاملة لتنفيذ الحكم الإسلامي الكامل في البيت الحرام وغيره وإعلان الحرب على الوجود المشرك، كان في بلاغات لا

تغدر بالناس ولا تفرض عليهم الأمر فرضا بل تتيح لهم الفرصة للتعرف والتفقه بحيث يتمكن كل فرد في الأمة أن يتعرف على الإسلام من خلال الدعاة المنبثين في كل مكان وكانت عظمة الإنذار السادس أن الأمان مفتوح لكل مشرك جاء ليتعرف على الإسلام وله كامل حريته أن يسلم أو يعود إلى تجمعه المشرك إن لم يقتنع بالإسلام، دون خطر على وجوده وحياته بل على المسلمين أن يبلغوه مأمنه إنها دورة تدريبية كاملة لمدة سنة تتيح لكل مشرك في أرض العرب أن يتعرف على الإسلام ويفقه أحكامه خلال هذا العام وله كامل الحرية بعدها في اختيار الإسلام أو الشرك لأن ضمان عودته إلى حزبه قائم فأبلغه مأمنه وبعدها تكون الحرب المعلنة أو الدخول في الدين وليت الشباب يدركون عظمة هذا الدرس، وإنهم يتعاملون مع بشر يحرصون على دخولهم في حظيرة الإسلام ولا يتعاملون مع صنم يكسر ويحطم، وانتهى الأمر ولا ينسوا أبدا أن المظاهر الماجنة في ظل الكعبة بقيت سنتين ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاكم أرض العرب طالما أن هذا الأمر يخص مقدسات الناس فلا بد من التدرج في إزالته حتى يألفه الناس ولا يفرون أو ينفرون.

السمة السابعة عشرة: الحج الأكبر ومائة وثلاثون ألفا من المسلمين

السمة السابعة عشرة: الحج الأكبر ومائة وثلاثون ألفا من المسلمين قال ابن إسحاق: فلما دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذو القعدة تجهز للناس، وأمر الناس بالجهاز له، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس ليال بقين من ذي القعدة. ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حجه فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا: أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا. وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية أما بعد أيها الناس. فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد في أرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم. أيها الناس. إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا. منها أربعة متوالية، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أما بعد أيها الناس: فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحد تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة. فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعتلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت. وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرىء إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه نلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟

فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اشهد. قال ابن إسحاق وحدثني عبد الله بن نجيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وقف بعرفة قال: هذا الموقف للجبل الذي هو عليه وكل عرفة موقف. وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة هذا الموقف وكل المزدلفة موقف ثم لما نحر بالمنحر بمنى قال: هذا المنحر، وكل منى منحر، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج وقد أراهم مناسكهم وأعلمهم ما فرض الله عليهم من حجهم من الموقف ورمي الجمار وطواف البيت وما أحل لهم من حجهم وما حرم عليهم فكانت حجة البلاغ، وحجة الوداع وذلك أن رسول الله لم يحح بعدها. ارتبط مع حجة الوداع نزول قول الله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمني ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}. وفي صدد الحديث عن المنهج الحركي نقف على عتبة النهاية لهذه الخطوات التي ابتدأت بقول الله عز وجل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}. ابتدأ الإسلام بشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة في جبل غار حراء وهو شاخص ببصره بين الأرض والسماء وجبريل يقول له أنت رسول الله وأنا جبريل وها هي تنتهي بجوار غار حراء، وعند الصخرات من جبل عرفه، وحوله مائة وثلاثون ألفا من المسلمين يمثلون جزيرة العرب قاطبة، ومن هذا الموقع وفي هذا الموقف يعلن عليه الصلاة والسلام، إتمام المهمة، وتبليغ الرسالة وإكمال الدين على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، لقد ابتدأت القاعدة الصلبة قبل ثلاث وعشرين عاما بشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهت بهذه المجموعات الضخمة التي تمثل الأرض العربية آنذاك. وأمام هذا الحشد الضخم من الأمة، كان الخط الأول خذوا عني مناسككم وبذلك تتجه الأمة لترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على راحلته يؤدي المناسك فيقتدي الناس جميعا به، ويرونه وهو على الراحلة بحيث يتم بهذه العملية إلغاء كل المناسك الوثنية التي كانت موجودة في أرض الحرم والحج هو أعظم تجمع بشري في ذلك الوقت فلا بد من إيضاح المعالم الكبرى للدعوة، والتي يتم عليها التقاء البشر جميعا لما لها من أهمية خالصة وحيث تقف الناس جميعا بعرفه. أعلن المبادىء الكبرى على الناس جميعا وهي:

أولا: حرمة الأموال والدماء والأعراض. وهذا يمثل الخط الفاصل بين الإسلام ونظم الأرض فالشيوعية اليوم تجعل الأموال والأعراض والدماء في حكم المشاع كما أن الرأسمالية تبيح الأعراض وتنتهك الأموال وتسفك الدماء والميزان الحقيقي للوجود الإسلامي في الأرض هو الحفاظ على حرمة الدماء والأموال والأعراض. ثانيا: حرمة الربا وهو الهرم الذي يرتفع الظلم فيه حتى يسحق الفقراء في الأرض. ثالثا: العدل وهو سمة الإسلام الأولى في هذا الوجود وبه قامت السموات والأرض ومن أجل ذلك فأول ربا يوضع هو ربا العباس بن عبد المطلب عم محمد - صلى الله عليه وسلم -. رابعا: حقن الدماء، وذلك حيث يتحول الحكم الإسلامي إلى القصاص، والانتقال من مفهوم الثأر إلى مفهوم القصاص. هو انتقال من العشيرة إلى الدولة، ومستوى العدل نفسه في الربا هو هو نفسه في الدماء (وإن أول دم أضعه هو دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب) والأمة التي تصان أرواحها ودماؤها هي أمة متقدمة جدا في مضمار الحضارة والمدنية وأن يكون الأمن مستتبا هو الذي يحقق السعادة للأمة. خامسا: إلغاء الوثنية فلن تعود الوثنية للأرض العربية أو تعود الأصنام والأوثان إليها بعد أن جاء الحق وزهق الباطل لكن الشيطان سيتدخل في صرف الناس عن الاستقامة على دين الله. سادسا: حرمة التلاعب بدين الله فقد انتهى دور الشيطان في أرض الإسلام أن يعيد إليها الوثنية من جديد لكنه قد يدخل في دين الله ما ليس فيه حين يشرع الناس ما لم يأذن به الله إنها الحاكمية لله تعالى وليست للبشر فالنسيء نموذخ من هذه النماذج وهو تأخير الأشهر الحرم والتلاعب فيها يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وهذه هي القضية التي يقوم عليها الصراع بين الإسلام والجاهلية إن الحكم إلا لله قضى ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم. سابعا: حق الرجل على المرأة ومن خلاله يتبلور النظام الاجتماعي في الإسلام فالمرأة تبع للرجل، والقوامة للرجل على المرأة والمفهوم الإسلامي للأسرة هو أن تكون المرأة وقفا على الرجل ولا تأتي بالفاحشة البينة، وعند الفاحشة فللرجل قسر المرأة وقصرها عليه ولو في الضرب غير المبرح والهجر في المضجع والموعظة الحسنة. ثامنا: حق المرأة على الرجل وهي حين حبست نفسها عليه فعليه رزقها وكسوتها بالمعروف

وعليه أن يحسن المعاملة فهن أمانة الله عند الرجال، وبكلمات الله استحلت فروجهن فاستوصوا بالنساء خيرا. تاسعا: ودستور الأمة ينطلق من المصدرين الأساسيين ومناط التشريع عليهما كتاب الله تعالى وسنة رسوله ولا ضلال لمن تمسك بهما. عاشرا: والرابطة العليا في الأمة هي رابطة العقيدة ورابطة الإسلام، فالأخوة من خلالها، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفسه. وحيث تم تبليغ هذه المبادىء العشر وقد أعلنت في اجتماع يضم مائة وثلاثين ألفا لا بد لهؤلاء أن يحملوا الأمانة إلى الأرض كلها، وإلى الأجيال فيما بعد. ومن أجل هذا كان الخطاب على الملأ اللهم هل بلغت فتجيب جماهير الأمة اللهم نعم فيرفع يديه لرب السماء قائلا: اللهم أشهد.

السمة الثامنة عشرة: إلى الرفيق الأعلى بعد إتمام النعمة

السمة الثامنة عشرة: إلى الرفيق الأعلى بعد إتمام النعمة ولا غرابة أن تكون وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سمات هذه المرحلة لأن الوفاة التي ارتبطت بقيام دولة الخلافة يعني أن هذا المنهج الحركي لم يكن خاصا بالنبوة بمقدار ما كان خاصا بالأمة. ولعل معيشة تلك اللحظات يعطي الحدود العامة لهذه السمة. روى ابن إسحاق عن عائشة قالت: رجع إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم حين دخل من المسجد، فاضطجع في حجري فدخل علي رجل من آل أبي بكر وفي يده سواك أخضر فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه في يده نظرا عرفت أنه يريده، فقلت: يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال: نعم قأخذته فمضغته له حتى لينته؛ ثم أعطيته إياه، قالت: فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط، ثم وضعه، ووجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: بل الرفيق الأعلى في الجنة، فقلت: خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية لها كذلك، مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري وفي دولتي لم أظلم فيه أحدا فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي. وروى ابن إسحاق عن أبي هريرة قوله، لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عمر بن الخطاب فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توفي، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما مات، لكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات. وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة، ورسول الله مسجى في ناحية البيت عليه برد حبرة فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أقبل عليه فقبله ثم قال بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا ثم رد البرد على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج وعمر يكلم الناس: فقال: على رسلك يا عمر، أنصت، فأبى إلا أن يتكلم فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن

محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا هذه الآية: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}. قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا ـن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم فقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تقلني رجلاي، وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات. أمر سقيفة بني ساعدة قال ابن إسحاق: وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار أن عبد الله بن أبي بكر حدثني عن ابن شهاب الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (... إنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن الأنصار خالفونا، فاجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة، وتخلف عنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم. وقال: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار قالا: فلا عليكم ألا تقربوهم يا معشر المهاجرين إقضوا أمركم، قال قلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقك: من هذا؟ فقالوا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا وجع فلما جلسنا تشهد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو له أهل ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا. وقد دفت (1) دافة من قومكم قال وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم، وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد (2) فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر فكرهت أن أغضبه، فتكلم، وهو كان أعلم مني وأوقر، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته أو مثلها وأفضل حتى سكت، قال: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا ولم أكره شيئا مما قاله غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر. قال قائل من الأنصار أنا جُديلها المحكك، وعُذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر

قريش قال، فكثر اللفط وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف؛ فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته ثم بايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار. وعن أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر بالسقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إني كنت قلت لكم مقالة بالأمس ما كانت مما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهد إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله ورسول - صلى الله عليه وسلم - فإن اعتصتم به، هداكم الله لما كان هداكم له وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة. وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أضخم محنة شهدتها الجماعة المسلمة الأولى في حياتها والمحنة الأولى التي عانتها في أحد كان أضخم ما فيها ما بلغهم من مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيها نزل قول الله عز وجل {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسبجزي الله الشاكرين} (¬1). ولم يكن يدور في خلد المؤمنين أن تكون موجة الردة الضخمة هي التمثيل العملي للانقلاب على العقب ولكن ضخامة هذه المحنة، تبدو في حس المسلم حين يطمئن إلى أن قائده رسول رب العالمين، وحين يطمئن إلى أن قائده سيد ولد آدم فأي شيء يقلق باله، ومن أي شيء يخاف بعد ذلك، فهو على هداه ولكن أن يفتح المسلمون أعينهم على الدنيا ذات صباح فلا يجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أيديهم إنه حقا لأمر جلل، ومن أجل هذا فما أطاقه عمر بن الخطاب ولم يكن على استعداد في حسه أن يقبل أن محمدا قد مات ومن أجل هذا هدد بقطع عنق كل من تسول نفسه أن نتحدث عن موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس موسى - صلى الله عليه وسلم - أكرم منه، فلا غرابة أن يمضي لمناجاة ربه كما مضى موسى عليه الصلاة والسلام. غير أن الصديق الأكبر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأى أنه قد مات حقا بعد أن كشف البرد عن وجهه وقلبه وجاء يواجه الناس بالحقيقة السافرة دون أدنى تلجلج أو تردد وحاول إسكات عمر فلم يفلح، ثم خطب وقال كلمته التاريخية الخالدة. (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت). بهاتين الكلمتين لخص الإسلام كله، لأن الإسلام هو عبادة الله لا عبادة من دونه، {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال: سبحانك ما يكون ¬

(¬1) آل عمران 144.

لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم) (¬1). ولئن بقيت النصرانية بعد عشرين قرنا تعاني من هذه الوثنية، وتعاني من هذا الشرك فلقد استطاع الصديق الأكبر والخليفة الأول أن يحل المشكلة منذ لحظاتها الأولى بهذا البيان الحاسم فعبادة البشر تنتهي بموتهم، أما عبادة الله تعالى فلا تنتهي حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وهكذا ظهر أثر التربية العظيمة، والإيمان الثابت في أعظم المحن التي يتزلزل لها الأبطال وأعاظم الرجال حين تم الفصل بين المبدأ والقائد ويبقى المبدأ هو الثابت وعليه يتلاقى الناس أو حين لم يتمكن الفاروق الأكبر رضي الله عنه أن يصمد أمام هول الصدمة التي هي وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - تمكن الصديق رضي الله عنه أن يجنب المسلمين فتنة ما بعدها فتنة، وبقي الإسلام على مدى خمسة عشر قرنا من الزمان دين الوحدانية أو لا يوجد في هذا الوجود بهذا التوحيد غيره، وأن يصدر هذا الصبر من أبي بكر بالذات الذي كان خدن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قبل البعثة، ولم تجمح العاطفة به هذا الجموح الذي يجعله يستسلم لها بل شعر بأن مسؤولية الأمة في عنقه فما يجدي البكاء في لحظات العاصفة وهو يحس بأعماقه في هذه المسؤولية حين جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خليفته من بعده في الصلاة على المسلمين. والدرس المهم للحركة الإسلامية من هذا الحدث هو أنه لا توجد قيادة في الأرض يحق لها أن تفتن المسلمين، لأن كل امرىء يؤخذ من كلامه ويرد إلا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي يوحى إليه من رب العالمين فأي قائد يحق له أن يستأثر بالأمة بحجة أن الأمة تنهار بانهياره. نحن لا ننكر أبدا دور القيادة في الأمة، ونعلم أن كثيرا من الأمم تنهار بانهيار رجالاتها وأبطالها لكننا نحن الأمة المسلمة بالذات، حين نكون على مستوى هذا الدين، ومستوى هذه العقيدة لا يحوز أن يهز كياننا سقوط أية قيادة باستشهاد أو اعتزال أو عزل لأن العاصم لنا من الفتنة هو هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هذا من جهة ومن جهة ثانية يحسن أن نعذر شباب الدعوة حين يتزلزلون من فقدان قائدهم الذي علقوا آمالهم به فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين مات تزلزل عمر رضي الله عنه فمن هو أكبر من عمر في جيلنا حتى لا يصيبه هذا الزلزال. صحيح أنه لا مقارنة بين فقدان أي قائد في هذا الوجود وبين فقدان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن كل قواد الأرض قد يخطئون ويزلون، وتخونهم الحكمة، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو صلة الأرض بالسماء، ¬

(¬1) المائدة 117. السيرة لابن هشام ج: 651و656 - 658

وكما قالت ام أيمن رضي الله عنها أبكي انقطاع الوحي من السماء فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يغيب عن هذه الدنيا بجسده الشريف، ويغيب معه وحي الله تعالى لخلقه يحق لمن يتحدث عن مصيبته أن يقول: وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد ونحن نتحدث عن المنهج الحركي للسيرة النبوية لا بد أن نلحظ أثر هذا المنهج والرسول - صلى الله عليه وسلم - مسجى في برده الشريف، وقد انتشر الخبر ووصل إلى داخل بيت النبوة أن الأنصار اجتمعت لتختار أميرا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحين ندع العواطف ومنطقها يتحكم فينا يقتضي الأمر منا لو كنا مع أبي بكر وعمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم، أن ندع الدنيا يتصارع عليها المتصارعون ونبقى نحن ويبقى الرعيل الأول بجوار الجسد الطاهر حتى يجهزوه ويكفنوه ويدفنوه وإنه لمن العقوق أن يمضي هؤلاء الخلص بعيدا عنه لكن عندما يكون منطق العقيدة التي تحكم العواطف وتتحكم بها هو الذي يسود تختلف الصورة فوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقتضي أن يتفق المسلمون على أمير بعده قبل أن ينتقض الأمر، واحتمالات انتقاضه واردة لأبعد الحدود فهذا مسيلمة الحنفي في اليمامة قد ارتد وذاك الأسود العنسي في اليمن قد ارتد وكلاهما ادعى النبوة ومن أجل هذا لم يجد الصديق والفاروق والأمين حرجا من أن يمضوا إلى سقيفة بني ساعدة ليعالجوا الأمر هناك قبل أن ينفرد الأنصار بالرأي وتعقد البيعة عندئذ تتفاقم المشكلة أكثر وأكثر ويكون نقض البيعة أدهى وأمر من عقدها ابتداء بلا شك والتقى المهاجرون بالأنصار وكانت الأنصار ترى أنها أحق بالأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالبلد بلدهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أوى إليهم، واختارهم على غيرهم من أهل الأرض، والمهاجرون تبع لهم بذلك. هذا هو منطق الأنصار وحجتهم بينما كان منطق المهاجرين يقوم على أساس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قريش والعرب لا تدين إلا لقريش إذ هم سدنة البيت الحرام وحماته، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - منهم. وأمام توازن المنطقين وإدلاء كل منها بحجته كان الحل الثاني منا أمير ومنكم أمير وكان هذا المنطق مرفوضا عند المهاجرين أكثر من المنطق الأول لأنه لا يجتمع سيفان في غمد ومن أجل هذا كان جواب أبي بكر رضي الله عنه لهم يا معشر الأنصار لقد كنتم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدل وغير. وكانت هذه الكلمة ذات مفعول أشد من وقع السيف أعادت لهم صحوتهم، فهم أنصار الله ورسوله فلم لا يكونوا أنصار خليفته من بعده. وكانت وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم قبيل وفاته، أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم فلحظوا أن هذه

الوصية بهم تعني أنهم سيبقون أنصارا في كل وقت كما تقول الرواية الأخرى إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام. وكانت الخطوة الحاسمة الثالثة أن دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه للبيعة لأحد الرجلين ثم رست البيعة عنده وبايعه المهاجرون والأنصار البيعة الخاصة في السقيفة، ثم كانت البيعة العامة في المسجد. إن اختيار القيادة بين الأقران من أعقد الأمور وفي أكثر النظم ديمقراطية نجد الاختبار يأخذ سنة وسنتين حتى ينجلي الأمر وسقوط القيادة المفاجىء كثيرا ما يوقع الصراع بعد ذلك وتتحكم مراكز القوى فيها وقلما يصل الأكفاء بعد سقوط القيادة أما إذا كانت القيادة تاريخية وكانت عبقرية فالصراع يكون أشد بل يصل في مثل هذه الظروف أضعف المرشحين لأن الأقوياء لا يتنازلون فكيف إذا كانت القيادة هي خير أهل الأرض وسيد ولد آدم وخير الثقلين الجن والإنس كيف يكون الأمر بعد ذلك؟ إن سرعة اختيار الخليفة التي لم تتجاوز ساعات قلائل بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدل دلالة واضحة على قوة هذا الصف وسلامته وانصهار لحمته، وكلما كان الصف ضعيفا ممزقا كلما كان اختيار القيادة صعبا عسيرا ولقد شهدنا بعض فصائل الحركة الإسلامية المسلحة عقب محنة ضخمة زلزلتها أن القيادة المنتخبة انحنت مرات أمام العاصفة، أمام العواطف المتوترة، وسقطت هذه القيادة أربع مرات خلال سنتين متتاليتين. وحين نضع الصورتين قبالة بعضهما بعضا نشعر بعظمة التحام الصف، والتئامه وتشابكه بحيث يستحيل فك اشتباكه. ***

الخاتمة

الخاتمة وأخيرا ونحن نودع المنهج الحركي للسيرة النبوية نود أن نؤكد الخطوة التالية: 1 - سمات هذا المنهج في عهديه ومراحله المتعددة منتزعة من واقع المرحلة وارتباط الحلقات بعضها ببعض بحيث تمثل في النهاية كلا متكاملا يمثل حقيقة المرحلة. 2 - قد تتكرر بعض السمات بين مرحلة وأخرى وتكرارها يعني ديمومة هذه السمة، وأنها تتجاوز المرحلية لتكون أصلية في خط السير كله أو جله. 3 - والهدف من عرض هذا المنهج الحركي هو أن تملك الحركة الإسلامية المعاصرة دليل عمل تسير على ضوئه وتبني خطتها على خطاه. 4 - ولكن هذا لا يعني ضرورة التوافق والتطابق بين مرحلية الحركة الإسلامية اليوم ومرحليتها في السيرة النبوية بل تعني في معظم الأحيان التشابه والتقارب وذلك لاختلاف الظروف والأشخاص والأشياء بين عالمنا اليوم وعالم الدعوة الأولى. 5 - وأهم ما أتمناه من خلال هذا المنهج هو أن يتمكن الدعاة في الحركة الإسلامية من التفريق بين الأسس الدائمة الثابتة وبين الخطوات المرحلية المتدرجة وأن لا يضعوا أحكام مرحلة اكتمال الدين وانتصار الإسلام، محل أحكام مرحلة العهد السري بفرعيه ولو أن الدعاة حين يفاجؤون بواقع معين يختارون الشبه المناسب من المرحلة المناسبة لكان في ظني المنهج قد حقق هدفه الذي كتب من أجله. 6 - وأؤكد للأخ القارىء الذي عشت معه في هذا السفر الطويل أن السمات والأحكام التي وصلت إليها هي أحكام ظنية قد يغلب أحيانا عليها المسحة الشخصية والاندفاعة العاطفية، وبالتالي فقد أخطىء في التشخيص أو الاستنتاج أو الحكم فما كان من توفيق فمن الله وما كان من خطأ فمن نفسي. 7 - وإني لأدعو الأخوة القائمين على الحركة الإسلامية أن يعيشوا هذه التجربة ويمدوني بصالح آرائهم وخلاصة تجاربهم لأتجاوز الخطأ إن كان ثمة خطأ لا شيء أجدى من الحوار في هذا المضمار

لنتلمس الخطى الصحيحة للوصول إلى الهدف البعيد في هذا المسار الطويل. 8 - ولئن عشت ربع قرن في العمل الإسلامي لكنه يبقى محدودا في إطار حركة محددة وتبقى التجارب الأخرى الغنية تمدنا بزادها العظيم في هذا المجال. 9 - ولئن كنت أكثرت من عرض تجربة الحركة الإسلامية المسلحة في قطر من الأقطار فليس هذا يشهد الله ذا صلة بانتمائي لهذا القطر أو ذاك فنحن بحمد الله أبناء الإسلام العظيم أنى حل وأنى ارتحل لكنه من منطلق الممارسة العملية من جهة ومن جهة ثانية فالمنهج الحركي للسيرة النبوية في مرحلة الدولة لا يمكن مقارنته إلا مع الحركة الإسلامية التي انطلقت في تكوين الدولة في تنظيمها على الأقل ومن خلال تجربتها الحافلة بالصواب والخطأ ومن خلال تعاملها مع خصومها وأعدائها وحلفائها على صعيد الواقع العملي. 10 - وكم كنت أتمنى أن تكون التجربة الأفغانية حية بين يدي لأعرض نماذجها من خلال المنهج الحركي فهي صنو الحركة الإسلامية المسلحة التي أمتح منها. وقد تكون أكثر غناء ووفرة وتجربة. والله أسأل في نهاية المطاف أن يتقبل عملي هذا، ويجعله خالصا لوجهه، وأن يرزقني به شفاعة نبيه ولعل دعوة صالحة تنالني من أخ كريم يغفر الله تعالى بها الزلل، ويقيل العثرات. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولاى فانصرنا على القوم الكافرين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1