المنهاج في شعب الإيمان

الحليمي

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. من الحسين بن الحسن الحليمي إلى من بلغه كتابه هذا من أهل القبلة، المشاركين له في الملة، الراغبين في العلم والحكمة، الطالبين علم المنهاج والشرعة، المجعولين لنبي الرحمة، المبعوث بالحنيفية السمحة، محمد خاتم الرسالة، وصاحب الشفاعة، والمؤتمن الشهيد على الجماعة، صلى الله عليه وسلم، وخصه بالفضيلة والزلفة والوسيلة. سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله. أما بعد، أحسن الله توفيقكم، وسهل إلى ما يرضاه طريقكم، وقوانا وإياكم على طاعته ما أحيانا، وأجزل حظنا وحظكم من رحمته إذا توفانا، ونزع من صدورنا كل غل، وجعل الحق أحب إلينا وإليكم من كل خل. فالحمد لله الواحد القديم الماجد العظيم، الواسع العليم الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه أفضل تعليم، وكرمه على كثير ممن خلق أبين تكريم. أحمده وأستعينه وأعوذ به من الزلل، وأستهديه لصالح القول والعمل، وأسأله أن يصلي على النبي المصطفى الرسول الكريم المجتبى محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم كثيرا، ثم إن هذا كتاب جمعت فيه من الكلام في حقيقة الإيمان، وبيان ما يشتمل هذا الاسم عليه ويشار به عند الاطلاق إليه. وشرح ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وتفصيل هذه الشعب واحدة واحدة، والكلام عليها بما يكشف عن حقيقتها، ويقف الناظر فيه على جليتها. ما أملت أن يعظم نفعه،

ويكثر فائدته، ويحسن على متأمليه عائدته. وسميته المنهاج إذا كان إبانة لما نهجه الله- تعالى جده- لنا من الدين، وهدانا له من الصراط المستقيم، وقال تعالى جده في كتابه: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}. وقسمته عشرة أقسام في عشرة أبواب: أولها باب في البيان عن حقيقة الإيمان. وثانيها باب في زيادة الإيمان ونقصانه. وثالثها باب في الاستثناء في الإيمان وما يصح منه أو لا يصح. ورابعها باب في ألفاظ الإيمان وما يصح أو لا يصح. وخامسها باب في إيمان المقلد والمرتاب والتمييز بين المقلد وغيره. وسادسها باب فيمن يكون مؤمنا بإيمان غيره أو لا يكون. وسابعها باب فيمن يصح إيمانه أو لا يصح. وثامنها باب فيمن لم تبلغه الدعوة. وتاسعها باب فيمن مات مستدلا. وعاشرها باب في شعب الإيمان وهذا الباب ينقسم سبعة وسبعين بابا: أولها باب في الإيمان بالله عز وجل بآياته وبيناته. والثاني باب في الإيمان بالنبي ومن تقدمه من النبيين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين بدلائله وحججه. والثالث باب في الإيمان بالملائكة. والرابع باب في الإيمان بالقرآن وسائر كتب الله تعالى المنزلة. والخامس باب في الإيمان بالقدر وأن خيره وشره من الله. والسادس باب في الإيمان باليوم الآخر وتفسيره. والسابع باب في الإيمان بالبعث وكثير من حججه. والثامن باب في الإيمان بالحساب والميزان. والتاسع باب في الإيمان بالجنة والنار وفيه ذكر الصراط. والعاشر باب القول في محبة الله تعالى جده. والحادي عشر باب القول في مخافته والتفكر في وعيده. والثاني عشر باب في رجائه والثقة بوعده، ودخل في هذا الباب القول في الدعاء وشروطه وآدابه وأوقاته وأحواله. والثالث عشر باب القول في التوكل عليه والاعتصام به، دخل فيه القول في التداوي من الأمراض والاسترقاء وما جاء فيهما وفي سائر الاحترازات. والرابع عشر باب حب النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه. والخامس عشر باب في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره. والسادس عشر باب في الشح بالدين.

والسابع عشر باب في طلب العلم والثامن عشر باب في نشر العلم. والتاسع عشر باب في تلاوة القرآن وآدابها وغيره من فضولها. والعشرون باب في الطهارات. والحادي والعشرون باب في الصلوات. والثاني والعشرون باب في الصدقات. والثالث والعشرون باب في الصيام. والرابع والعشرون باب في الاعتكاف. والخامس والعشرون باب في المناسك. والسادس والعشرون باب في الجهاد. والسابع والعشرون باب في المرابطة في سبيل الله. والثامن والعشرون باب في الثبات للعدو عند الالتقاء. والتاسع والعشرون باب في أداء خمس المغنم. والثلاثون باب في العتق ووجه التقرب به إلى الله عز وجل. والحادي والثلاثون باب في الكفارات. والثاني والثلاثون باب في الإيفاء بالعهود. والثالث والثلاثون باب في تعديد نعم الله وما يجب من شكرها. والرابع والثلاثون باب في حفظ اللسان. والخامس والثلاثون باب في الأمانات وما يجب من أدائها إلى أهلها. والسادس والثلاثون باب في تحريم النفوس والجنايات عليها. والسابع والثلاثون باب في تحريم الفروج وما يجب من التعفف عنها. والثامن والثلاثون باب في تحريم أموال الناس وما يجب من التعفف عنها ودخل فيه القول في السرقة وقطع الطريق. والتاسع والثلاثون باب في المطاعم والمشارب وما يجب من التورع عنه منها. والأربعون باب في الملابس والزين والأواني وما يكره منها. والحادي والأربعون باب في تحريم الملاعب والملاهي. والثاني والأربعون باب في الاقتصاد في النفقة وتحريم أكل المال بالباطل. والثالث والأربعون باب في الحث على ترك الغل والحسد. والرابع والأربعون باب في تحريم أعراض الناس وما يلزم من ترك الرتع فيها. والخامس والأربعون باب في إخلاص العمل لله وتحريم الرياء. والسادس والأربعون باب في السرور بالحسنة والاغتمام بالسيئة. والسابع والأربعون باب في معالجة كل ذنب بالتوبة منه. والثامن والأربعون باب في القرابين والابانة عن معناها وغرضها والتاسع والأربعون باب في طاعة أولي الأمر بفضولها. والخمسون باب في التمسك بما عليه الجماعة. والحادي والخمسون باب في الحكم بين الناس وما يتشعب فيه من الكلام. والثاني والخمسون باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والثالث والخمسون باب في التعاون على البر والتقوى، ونصرة المظلوم وإغاثة اللهفان.

والرابع والخمسون باب في الحياء بفضوله. والخامس والخمسون باب في بر الوالدين. والسادس والخمسون باب في صلة الأرحام. والسابع والخمسون باب في كظم الغيظ وحسن الخلق ولين الجانب والتواضع. والثامن والخمسون باب في الإحسان إلى المماليك. والتاسع والخمسون باب في حق السادة على المماليك. والستون باب في حقوق الأولاد والأهلين على الناس. والحادي والستون باب في مقاربة أهل الدين وموادتهم وإفشاء السلام فيهم. والثاني والستون باب في رد السلام. والثالث والستون باب في عيادة المريض. والرابع والستون باب في الصلاة على من مات من أهل القبلة. والخامس والستون باب في تشميت العاطس. والسادس والستون باب في مباعدة الكفار والمفسدين والغلظة عليهم. والسابع والستون باب في إكرام الجار. والثامن والستون باب في إكرام الضيف. والتاسع والستون باب في الستر على أصحاب القروف. والسبعون باب في الصبر على المصائب. والحادي والسبعون باب في الزهد وقصر الأمل. والثاني والسبعون باب في الغيرة والمذاء. والثالث والسبعون باب في الإعراض عن اللغو. والرابع والسبعون باب في الجود والسخاء. والخامس والسبعون باب في رحم الصغير وتوقير الكبير. والسادس والسبعون باب في الإصلاح بين الناس. والسابع والسبعون باب في أن يحب الرجل لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، ويكره ما يكره لنفسه، ويدخل فيه إماطة الأذى عن الطريق. ووجدت في القرآن عدة آيات تشمل كل واحدة منها على من هذه الشعب التي تقدم ذكرها، وفي الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلها، وجعلت لها بابا مفردا أفردتها فيه، وتكلمت على ما يحتاج منها إلى فضل إيضاح وشرح حتى ظهر وجهه، واستبان المراد منه بإذن الله تعالى. وقد كان بعض من ألف شعب الإيمان خرجها على تسعة وسبعين بابا، ووجدته عمد إلى شيء واحد اختلف العبارة عنه في الروايات، فأورده في بابين وعده شعبتين، وربما عمد إلى شيئين لا يتميزان ويجمعهما أصل واحد، فجعله شعبتين. وأخل مع ذلك ببعض ما أوردناه فلم يذكر أصلا، فكتبت بابا مفردا ذكرت فيه السبب الذي دعاني إلى تخريج هذه الشعب على سبعة وسبعين بابا. وبينت أن كل ما يظن

غيري أنه خارج من هذه الأبواب فهو ملتحق بها وداخل بالحقيقة في جملتها، واشتملت إلى وجه ذلك وأوضحته، فصارت جملة أبواب الكتاب اثني عشر، كل باب منها يجمع ما قصدته ووضع له إلا باب الشعب فإنه ينقسم إلى سبع وسبعين بابا كما تقدم بيانه. وكان مما حدا بي على تأليف هذا الكتاب، ورغبتي في جمع ما جمعته فيه، خوفي على كثير بما ضمنته إياه من دقائق العلم وخباياه ولطائف الشرع وقضاياه بين أن يدثر ويعفو رسمه فلا يذكر لزوال الهم به عن الصدور، ووقوع الإعراض عنه من الجمهور، والاشتغال عن العلوم بالجملة بالتبقر في الأهل والمال، والتهافت في الحرام والحلال، والتنافس في رتب الدنيا والتغافل عن درج الأخرى، والانقياد لدواعي الهوى وإن قادتهم عناتا إلى الردى وتزحزح هيبة الله عز وجل عن القلوب لما ران عليها من ظلم المعاصي والذنوب، والميل في عامة الأمور إلى الحفظ والدعة، وانشراح الصدر بالجهل الذي هو أدرك منازل الضعة. وفساد النيات والدخل وفتور العزائم والهمم. فإن الحال لما آل إلى ما ذكرت، وتراجعت للتراجع الذي وصفت، صارت طاعة الله- تعالى جده- تقام فيما تدعو إليه الضرورات الحاصلة، وتترك فيما تحرك عليه المتوقعات الآجلة. وكان الهم بالعلم بقدر الهم بالعمل، فطلب منه ما يضطر إلى العمل به سبب عاجل، وهجر منه ما لا يحمل على استعماله في الوقت حامل. ولذلك وقع الاقتصار بعد تقادم العهد وتطاول الأيام من امتثال الشريعة على أبواب معدودة منها: استباحة المباحات كالتبسط في المكاسب والتوسع في المطاعم والمشارب، وإنالة النفس هواها من المناكح والملابس، إذ كانت الإباحة للهوى موافقة، وللشهوات والمني مطابقة. ومنها لزوم ما يجري من شرائع الدين مجرى الأعلام حتى لا يكاد المسلمون يتميزون عن غيرهم إلا بها كإقام الصلاة الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت، فإنهم لو أهملوها لالتحقوا في ظواهر ما يبدو للناس من أفعالهم بالذين لا يدينون دينهم ولا يعتقدون ملتهم، فكان القائم في نفس كل ذي دين، وراجع من معتقده إلى يقين من الميل إلى إظهار ما عنده، والكراهة من أن يظن به

ما يخالف عقده هو الحامل لهم على إقامة هذه الطاعات، والتمسك بها من بين أصناف العبادات. ومنها القيام بما إن أهملوه لم يحتملوا ولاة الأمور عليه، نحو الزكاة التي تلزمهم في مواشيهم وزرعهم وكرومهم وما يظهر من أموالهم، فإنهم لو منعوها لأخذت منهم قهرا، أو انتزعت من أيديهم جبرا، ونحو اجتناب الكبائر التي بها الحدود. فإن السلطان قائم بأمر الله تعالى جده على كل نفس بما كسبت تردعها عن السيئات وتحول بينهما وبين الموبقات، فمن واحد يقتله، وآخر يقطعه، وثالث يجلده، ورابع يجبسه، وخامس ينفيه ويعذبه، ولولا ذلك لانهمكوا في هذه الجنايات انهماكهم فيما لا حد له فيه من أصناف الخطيات، ولهذا قال بعض السلف: "ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن "، وقيل: لابد للناس من وزعه، وهم الولاة وعمالهم لأنه لولا مكانهم لأكل الناس بعضهم بعضا، وعطلت الحقوق وانتهكت الحرمات، فعم الصلاح بمكانهم واعتدل النظام بحسن قيامهم. ومنها إعراضهم عن الحرمات التي لا يشتهونها ولا تميل إليها قلوبهم، وتنكرها نفوسهم كلحم الخنزير والميتة والدم ونكاح الأم والبنت والأخت فإن كل غرض يكون لأكل لحم الخنزير في أكله فهو حاصل له في غيره ولا فائدة في لذة أو منفعة تكون فيه إلا ومثلها أو أكثر منها موجود في اللحوم المحللة، ثم إنها على كثرتها واختلاف طعومها تزيح علة القرم، وتقضي شهوة المطعم، فلا يبقى معها إلى لحم الخنزير حاجة، ولا نفع إليه ضرورة، وأما الميتة والدم فإنهما لخبثهما ورجاستهما لا يشتهيان، ولو كانا محللين لكانا يتركان، فكيف وهما محظوران ومحرمان! وأما نكاح المحارم فإن في القلوب النفار منه والكراهة له لما فيه من هتك الحرمة ومجانبة الحياء والشبه بالبهائم.

فصارت الشريعة في هذه الأبواب لموافقتها الأهواء مستعملة، كما صارت في المباحثات لمثل هذا السبب ممثلة، ولولا أن ذلك كذلك، لترك من شرب الخمور ما ترك من لحم الخنزير، ومن الزنا بالأجنبيات ما هجر من نكاح المحارم والقرابات. فعلمنا أن ما اتبع من هذه الشرائع قلما حمل على اتباعها من الدواعي التي بيناها. ومنها التعامل بالعقود والمحافظة فيها على الحدود، وذلك أن أحدهم لا يقضي عن صاحبه فيما يجب له من حق عليه، ومن اعتدى على آخر في نفس أو مال لم يمسك الآخر عنه، حتى يرافعه إلى سلطانه أو قاضي بلده، فأخذ على يده، وأنصف المظلوم من ظالمه، فصاروا لذلك يتبايعون ويتواهبون ويتكارون ويتعاقدون العقود المشروعة ويذرون الغصب والاختلاس والنهب في الأمر الأكثر، والأعم الأغلب، لمعرفتهم بما يلحقهم فيها من التبعات، ويؤيدهم إليه عقباها من المثلات، ثم قد يتفق خلال ذلك من ذوي الجهالة والسفالة هنات وزلات يئتون فيها من الاعتزاز بأنهم عسى لا يلحقون، ولا يقدر عليهم فيؤاخذون، فتجترئ على ذلك قلوبهم، وتقوى في الشر عزائمهم، وأما من غلب الخوف على قلبه وصار الاحتراز من همه، فما أقل ما تقع منه هذه الأمور، ولهذا صار الطريق المخوف إذا نقص بعضه، أمن الناس فيه مدة، ولم يعرض المكروه فيه إلا ندره. فلولا الردع من الفساد هو ما يخشى من الإنكار الوحي لاستوت الأحوال، وما ارتدع في كل وقت الجهال، ولولا أن ما وصفنا استعمال الناس له من الشرائع بعد انقراض عصري النبوة والخلافة، جاز في الأصل الذي ذكرت لهم استعمالهم أبواب الشريعة كلها دقيقها وجليلها، ولم يشذ عنهم منها إلا ما لم يبلغهم عنه خبر، ولم يأتهم ببيانه أثر، لأن من عمل من أمرين خوطب بهما أحدهما وترك الأخر مع تمكنه منه، واقتداره عليه، فقد أشعر أن عمله لم يكن لمجرد الأمر لكن لداعية (سوء) دعته إليها، ولولا ذلك لما كان فعله ما فعل أولى به من فعل ما ترك، ولا تركه ما ترك أولى به من ترك ما فعل، وما ينبغي أن يكون هذا بكذا مع تجلي آيات الله تعالى جده

لبصائر العقلاء ووجوب حقوقه في معارف العلماء، بل الأمر اللازم والفرض الواجب أن يجعل المؤمن أمانة الله أمامه، وطاعة الله منهاجه، فلا يفعل الخير إلا إعظاما لأمره، ولا يدع الشر إلا إذعانا لنهيه. ولقد استقصر كثير من العلماء من يفعل الخير رغبة في الثواب، ويدع الشر خيفة من العقاب، وشبهوه بعبد السوء الذي لا يخدم مولاه إلا طمعا في نعمته وتحرزا وتخوفا من سطوته، وبالحمار البليد الذي لا ينساق حيث يساق إلا بالضرب والإرهاق، وإن كانوا لا يختلفون في أن الرجاء والخوف قدما صدق ومنزلتا حق عند الله جل ثناؤه. وإنما ذهبوا في ذلك إلى أن الله تعالى جده وإن كان أطمع وحذر ووعد وأوعد بأنه تبارك وتعالى لو أمر ونهى ولم يضمم إلى الأمر وعدا ولا إلى النهي وعيدا، لكانت الطاعة له واجبة، والمعصية محذورة، كما قال عمر رضي الله عنه لصهيب: "نعم المرء صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه". فثبت أن الثواب والعقاب زيادتان واقعتان بعد لزوم الفرض، العبد بعبودته، وارتهان حقوق الله تعالى جده لرقبته، فالأليق به إذا والألزم له أن يؤدي ما عليه من طاعة، وينتهي عما ليس إليه عبودة، ثم يكون رجاؤه الثواب إذا أطاع، وخوفه العقاب إن عصى للبقية بوعد الله ووعيده، لا لمعنى سواهما فيتباديا منه إيمانا ويكتبا له برا وإحسانا، لا سببا حاصلا على أداء اللوازم، والانتهاء عن المعاصي والمحارم، وإذا كان هذا فيمن وصفنا كما بيناه، فكيف بمن لا يخطر بقلبه من وعد الله ووعيده خاطر، ولا يزجره عن سوئهم به من هيبة الله زاجر، وإنما أمامه الهوى أو الضرورة أو خوف الاقران أو نهب السلطان أو حذر القيل والقال، فإذا انتهى إلى ما خلاه الله تعالى فيه وأمانته، ولم ينصب عليه قيما، ولم يقيض له به مطالبا، ولم يجعل له فيه مخاصما، ولم يخش أن يرفع فيه إلى وال أو قاض، نبذه وراء ظهره، وأعرض عنه إعراض من لا يحفل به، ونسب من يأخذ نفسه به إلى التصنع أو سخر منه كما يسخر من الهازل المتلعب، أما يستحق أن يكون مثله مثل العبد السيئ والحمار السيئ، كلا أنه أسوأ حالا منهما، لأن العبد إنما يدري طاعة مثله، والحمار جاهل بصاحبه لا علم له به وحقه. فأما من تقدم وصفه فإنما يدع طاعة ربه ويضيع حق

خالقه، ولعل بعض المنهمكين في المعاصي خير منه في بعض المعاصي، لأنه إن لم يخف الله تعالى جده لم يخف من دونه، ومن كانت طاعته من أحد الوجوه التي تقدم ذكرها لا يخاف الله ويخاف من دونه، ومن لا يقدم أحدا على الله في حذره أمثل حالا ممن يقدم خلق الله على الله في بره. فأما حال هؤلاء المذكورين في الشغل بعلم الدين فسوف يقرب من حالهم في العمل بشرائعه، لأنهم إذا خصوا بالعمل أياما بأعيانها خصوها كذلك بطلب علمها، وأما ما خرج من جملتها مما يدخل في جملة الأبواب التي كتبناها في شعب الإيمان وتوخينا شرح ما فيها مما تيسر من البيان ومما يرجع إلى علم القرآن تفسيره وتأويله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه، وعلم السنن مستفيضها وشاذها، وموصولها ومقطوعها، ومسندها وموقوفها، ومختلفها ومتفقها، وعلم الاجماع والاختلاف، واللسان الذي نزل به القرآن، وجاءت به السنن والآثار، فإن الأكثرين عنه معرضون، ولم قد يستغنى عنه في أغلب الأحوال عليه مؤثرون. قد رضوا في التوحيد لأنفسهم بمحض التقليد وعابوا الذين جاهدوا أعداء الله تعالى جده فيه، بالكلام الذي يقصر عنه نوافد الهام، والجدال الذي لا يبلغ شأوه شديد القتال، حتى أقاموا قناة الدين، وهدموا بنيان الملحدين، وبلغوا في نصرة الإسلام وأمانة ما نصب الله عليه من الأعلام ما لم تقارب ملي ولا معطل في نصرة قوله مقداره، ولم يبلغ في تأييده والدفع عنه معشاره، وما تركوا لمخالفيهم حجة إلا أدحضوها، ولا علة إلا نقضوها، ولا شبهة إلا جلوها، فليس لهم اليوم بحمد الله كلام يروع مؤمنا، أو يشكل موقنا، وما يخلفهم عن الدخول في دين الله إلا العناد وحب الفساد. ثم إن هؤلاء الموفقين لنصرة الله، القائمين بحق هذه الدعوة ما خصموا أضدادهم إلا بالقرآن وبما أودعه الله تعالى من البيان إلا أنهم لم يقنعوا بعلم ما ظهر منه وتجلى دون الإحاطة بما يظن منه واختفى، ولا بالوقوف على ما يتلى من تنزيله، دون الوصول إلى ما يدل من تأويله، فصرفوا عظم همهم إليه، وقصروا جل شغلهم عليه. حتى أدركوا حقائق ما جاءهم به الرسول، واستبان لهم من قبلها الصحيح والمعلول، وجدوا بعد ذلك واجتهدوا وقرروا مما عرفوا لكل شبهة مدفعا ومن كل معضلة مخرجا، فمن فارقهم في علن ما نزل من القرآن، في هذا العظيم من الشأن، كان لمعظم القرآن هاجرا،

وإن كان بما عداه يصير خابرا، لأن آيات الأعلام في كتاب الله أكثر من آيات الأحكام. وقد ذم الله تعالى وجل ثناؤه {الذين جعلوا القرآن عضين، وأقسم ليسألنهم أجمعين: عما كانوا يعملون}، فكيف يسع عاقلا أن يحتذي حذو مسئول في القيامة ملوم، أو موبخ فيها مذموم. وكما نزل القرآن بالأعلام والأحكام، فكذلك قد نزل بالآداب ومكارم الأخلاق، والإنابة عن حقائق العبودة التي تلزم المكلفين أن يأخذوا بها أنفسهم فيكونوا لله داخرين. وفصلت السنة، ولخصت منها ما فصلت من حمل الأحكام، ولخصت مع جوامع الحلال والحرام، ونهجت للناس من الآداب المحمودة والسنن المرضية، في إقامة العبادات ووجه المعاشرات والمعاملات. وما يحق لكل امرئ أن يحافظ عليه في نفسه ومع غيره مثل ما نهجت لهم من أحكام المعاقدات والجنايات والمظالم والخصومات وما شيء من ذلك إلا وإلى القرآن مرجعه، وإلى بعض معانيه منزعه. فمن ألحق هذه الأبواب بالزوائد والفصول، وميزها عن سائر الأركان والفصول، لم يحصل من علم الدين إلا على القليل، وتلك منزلة لا يحمدها أهل الحصافة والتحصيل. وإذا كان هذا حال من لا ينظر في هذه الأبواب غفلة واشتغالا عنها بغيرها، فكيف بمن يسمي الحديث حشوا، والتفسير قصصا؟ وإذا سمع شيئا من محاسن الشريعة قال: هذا متاع المدكرين. فإن نبأ عنه فهمه قال: إنه كلام المبتدعين. وإن جرى عنده علم اللسان قال: هذا علم المؤدبين. فإن من كان هذا رأيه في هذه الأبواب لم يطلب علمها ولم يحم حولها، لأنه إنما يطلب علم الشيء من عرف قدره ومال إليه قلبه. والعلم لا يتعرض لكارهيه. ولا يتصدى للزاهدين فيه، وما الناس وإن تمنوه بنائليه، حتى يطلبوه أجد الطلب، ويرغبوا فيه أشد الرغب، وما هو بمعطيهم بعضه حتى يعطوه كلهم، وإذا أعطوه كلهم كانوا من إعطائه إياهم البعض على خطر، فكانت عاقبة هؤلاء الراصنين من علم الدين بأيسره والظانين إنهم قد حصلوا على جمهوره أو أكثره، وإن خسروا منه ووزروا من عظيم الإثم وما وزروا بنبزهم إخوانهم الذين جدوا في طلب الآثار وجمع

السنن والأخبار لقب الحشو، وإطلاقهم ألسنتهم فيهم بالهجر واللغو. وإنما أتى القوم من حيث ظنوا أن تعظيم علم الأحكام الذي يعرف بالفقه لا يتم إلا بالوضع من غيره والازراء بمن يتعاطاه ويشتغل به. وكانوا في ذلك كمن يضع من قدر سورة ليرفع به من قدر سورة، أو يزري بسنة ليعلي به قدر سنة. والإنصاف في ذلك أولى بالمسلمين من التشدد في الخلاف، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. ومن نظر وتبين علم: أن الفقه إن كان يستوجب الثناء ويستحق المدح والإطراء لأنه علم أصله وحي. فما وصفناه من إضراب علم الشريعة، وحي أصله، تنزيل كله، وإن كان ذلك لما يحتاج إليه فيه من الفهم والفطنة، فما علم من العلوم إلا ومنه جلي ومنه خفي، ولا وجه لإدراك الخفي إلا الاستدلال بالجلي عليه، ولا سبيل إلى الاستدلال بالجلي على الخفي إلا بعد إدراك المعاني وتبينها، وفي ذلك ما يبين أن اسم الفقه علم العلوم، الشريعة كلها، أعلاها الذي يتوصل بها إلى معرفة الله تعالى وجده ووحدانيته وقدسه وعامة صفاته ومعرفة أنبياء الله ورسله، والفرق بينهم وبين من يدعي مثل ما ادعوا، ولا يأتي من البينات بمثل ما أتوا، وما بعد ذلك من علم العبادات وأحكام الاكتساب والمعاملات، والحدود والجنايات، والفصل بين المتنازعين، وإيصال الحقوق إلى المستحقين، ومن علم الأحوال والأخلاق والآداب والسيرة الحميدة والعشرة الجميلة، والمروءة التي هي قرينة العدالة، وإبقاء معاني العبودة على تصرف الأحوال في الجملة. وعلم مع ذلك، إن التذكير مما أمر الله تعالى جده في كتابه، والله لا يأمر بالهزل ولا بما يهزأ به، ولا بما يصنع امتثاله من تمثيله ويحط استعماله من قدر مستعمله، قال الله عز وجل: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}، وقال: {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكافر ولا مجنون}. فيسمي الله تعالى جده، نبيه- صلى الله عليه وسلم- مذكرا، وسمى تبليغه وتعليمه تذكيرا، وأمره به إرشادا وتبصيرا. فكيف يعرض لأسباب الضعة ما جعله الله تعالى من أسباب الرفعة؟ وكيف يجري في إعداد أهل النقص طائفة: قائدها نبيها وإمامها رسولها؟ أو كيف يخرج علم

التذكير من جملة الفقه وهو لا يقع إلا من أولي الفطنة والتمييز والخبرة بما يوجبه الحال ويرجى أن ينجع فيمن يذكره المقدار الذي لا يستكثر، فيمل منه، أو يتضجر، وبالوقت الذي يكون التذكير فيه أنفع، ومن قلوب السامعين أوقع، وينبوع الذكر الذي يكون إلى القبول أسرع، وفي القلوب أنجع. وإذا تؤمل هذا المقام وما جرى فيه من الكلام، وجد اشبه المقامات بالقضاء بين المتخاصمين، والحكم بين المتنازعين التذكير، لأن المذكر يفصل بين دواعي النفس، فيميز المردية منها عن المنجية، ويلخص الموبقة من المعتقة، ويرجح دواعي العقل على دواعي الهوى والطبع، ويلزم السامعين أن يقفوا عند الحدود المحدودة لهم ولا يعتدوها، ويلزموا المثل الممثلة لهم ولا يتخطوها، كما أن القاضي يفصل بين المحق في دعواه والمبطل الراكب هواه. ويميز البينات عن دواحض الشبهات. ويرجح من أصنافها ما يجب ترجيحه، ويقدم منها ما يحق تقديمه، ويلزم المتحاكمين إليه أن ينتهوا إلى ما يوجبه الحكم لهم، ولا يرضى ببغي أن ظهر له منهم. فإن كان علم القضاء فقها كما يحتاج القاضي إليه من الفهم والفطنة والذكاء والخبرة، فعلم التذكير مثله، لأنه في هذا المعنى شكله. وبعد هذا فكيف ينفر الناس عن علم القصص وهو من براهين النبوة وأعلام الرسالة، إذ يقول الله عز وجل: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين}. هذا وقد سمى الله عز وجل القرآن قصصا، فقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}. وقال: {إن هذا لهم القصص الحق}. وإنما الاقتصاص إذا الخبر على وجهه، فسواء كان المخبر عنه أنباء الأولين أو الحكام أو أحكام ما شرع للآخرين، فكل ذلك قصص. والفقه محتاج فيهما إليه لأن به يدرك مقاصد الاقتصاص، وبإدراكها يتميز العام عن الخاص، وليست بنا من تعظيم اسم الفقه والتنويه باسم الرأي وحسه، ولا ذاك بالذي يلحقنا منه مساءة، فإنا بحمد الله من أهل ذلك كله، وإنا لنحن أحكمنا معاقد الرأي والنظر، بعد أن أوضحنا معالم النقل والخبر، فأبينا على من خالفنا القياس، وأوثقنا منه القواعد والأساس، وفصلنا أقسامه

ولخصنا شروطه وإعلامه، وإنما يسوءنا أن يخرج من جملة الفقه ما ليس بخارج منها لنتذرع بذلك إلى نبذه وهجره، والبخس بحقه والإزراء بقدره، ولا ذلك بالذي يتصور به إلا من يراه، ويركب في استحسانه له هواه. ولكنا من أهل عصر من الأعصار إذا نشأوا عليه، وحدث قبل انقراضهم من يحتاج إلى الأخذ عنهم، احتذى حذوهم ولزم نهجهم، وظن أن لا علم إلا ما حصلوه، وإنهم لو علموا في غيرهم لأحكموه، ولو أبصروا فيه نفعا لم يضيعوه. فلا تزال الأشياء على هذا تتلاحق، والآراء منهم تتوافق وتتطابق، حتى لا يوجد في الناس من يحسن من تفسير القرآن ووجوه الأخيار. وحكم التذكير الذي هو فصل بين السامع وبين هواه، كما القضاء فصل بين المدعي وبين من أنكر دعواه. وعلم القصص الذي عظم الله تعالى شأنه، وأظهر به النبي صلى الله عليه وسلم برهانه، إلا قليلا فتذهب من علم الشريعة أصوله، وتعفو منه أعلامه ورسومه، فذاك الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب، وتقسيمه على ما بينت من الأبواب. وقد أثبت فيه بتوفيق الله وعونه جملا من العلوم المهجورة المجفوة، بمقدار ما حملته من الأبواب التي كتبتها في شعب الإيمان، وضمنت كل باب منها من الكلام فيما يلتحق بسمته، ويدخل في جملته ما يكتفي به ويوصل منه إلى غيره. فمن بلغه كتابي هذا فلا يحرمن نفسه جزيل الحظ من الخير الذي سهلته له وسقته إليه بالإعراض عن تدبره، وترك الوقوف عليه إلى أن يحظى بما جمعته وينعم النظر فيما ألفته، فإن ذلك أن تيسر له ولم يخنه فهمه، وحسنت في سعيه نيته، رجوت أن يبتهج بإذن الله تعالى أجمعه، ولا يرى في شيء منه أن يدفعه، وبالله التوفيق والتسديد، والإرشاد والقصد والتأييد، وهو حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير. ***

القسم الأول: باب البيان عن حقيقة الإيمان

القسم الأول باب البيان عن حقيقة الإيمان الإيمان اسم مشتق من الأمن الذي هو ضد الخوف، كما قال تبارك وتعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}، ومعناه والغرض الذي يراد به عند إطلاقه هو التصديق والتحقيق لأن الخبر هو القول الذي يدخله الصدق والكذب والأمر والنهي كل واحد منهما قول يتردد بين أن يطاع قائله وبين أن يعصى، فمن سمع خبرا فلم يستشعر في نفسه جواز أن يكون واعتقد أنه حق وصدق، فإنما أمن نفسه باعتقاد ما اعتقد فيما سمع من أن يكون مكذوبا له ملبسا عليه، ومن سمع أمرا ونهيا واعتقد الطاعة له، فكأنما أمن نفسه باعتقاد ما اعتقد فيما سمع من أن يكون مظلوما أو مستسخرا، أو محمولا على ما لا يلزمه قبوله والإنقياد له، فمن ذهب إلى هذا المعنى أنزل قول القائل: أمنت بكذا، والمراد نفسي منزلة قولهم ووطنت نفسي على كذا، أو حملت نفسي على كذا، أو رصنت نفسي أو ذللتها، وصنت نفسي عن كذا بمعنى أمنت، أي بدا لي صدق وما سمعت بأذني، وحق ما أدركته بعقلي، وما اعتقدته أمنا من الخطأ فيه، ويكون تركهم ذكر النفس في قولهم: أمنت، إختصارا لما قد كثر استعماله كما يقال بسم الله بمعنى بدأت، أو ابدأ باسم الله، وحذف ذكر الابتداء لكثرة الاستعمال. والله أعلم. وفيه وجه آخر وهو أن يكون معنى أمنت، أي أمنت مخبري أو الداعي لي من التكذيب، والخلاف بما صرحت له به من التصديق والوفاق، فإذا قيل: آمنت بالله، فالمعنى أمنت الداعي إلى الله من الخلاف والتكذيب بما أظهرت له من الوفاق والتصديق

والإيمان بالرسول، إيمانه في نفسه من الشقاق عليه بإظهار التصديق له، والإيمان بالملائكة والكتب إيمان المخبر عنها من الخلاف بإظهار الوفاق. وقد يجوز أن يكون إيمان من آمن بالله من الملائكة لا عن رسول كان إليه إيمانه بنفسه يحسن الإعتقاد لما أوجبه استدلاله من أن يكون الذي وقع له وسوسة أو ظنا، ويدخل في هذا إيمان المستدلين من الناس أيضا، وذهب بعض الناس إلى أن معنى آمنت بالله، أمنت نفسي من عذاب الله بالاعتراف به والتوحيد له، وهذا لا يصح لأنه لا سبيل لأحد من المؤمنين إلى القطع بأنه قد أمن عذاب الله، وقد قال الله تعالى عز وجل: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}، ولأن الأمور بعواقبها ولا يدري أحد بماذا يختم له، ولأن لقطة الإيمان ليست تستعمل فيما يعقب الذهاب عنه عذابا فقط، ولكنه مستعمل حيث لا يتوهم فيه عذاب، لأن معنى الإيمان التصديق، فقد يجوز أن يقول القائل لصاحبه فيما يحدثه: لا أؤمن بما تقول، كما يقول: لا أصدق: ثم لا يكون المعنى لا أؤمن نفسي من العذاب بتصديقك. فبان أن ليس تأويل الآية ما قاله هذا القائل والله أعلم. فصل ثم إن الإيمان الذي يراد به التصديق لا يعدو إلى من يضاف إليه ويلصق به إلا بصلة وتلك الصلة قد تكون باء وقد تكون لاما. أما ما جاء بحرف الباء فمنه قول الله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}، وقوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}، وقوله جل وعز: {آمنوا بالله ورسوله}، وأما ما جاء باللام فمنه قوله تعالى في قصة إبراهيم صلوات الله عليه: {فآمن له لوط}، وقوله حكاية عن نوح صلوات الله عليه: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}، وعن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى وهارون

صلوات الله عليهما: {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون}، وعن أبناء يعقوب صلوات الله عليهم أنهم قالوا لأبيهم: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين}، وعن كفار العرب أنهم قالوا فيما بينهم: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}. فمن الناس من قال: إن قولهم "آمنت به"، و"آمنت له" لغتان يعبر بهما عن معنى واحد. والصحيح ما خالف هذا، وهو أن قولهم: "آمنت به" إنما يراد إثباته وتحقيقه والتصديق بكونه ووجوده. وقوله: "آمنت له" إنما يراد إتباعه وموافقته،.فالإيمان بالله تعالى جده إثباته والاعتراف بوجوده، والإيمان له القبول عنه والطاعة له. والإيمان بالنبي إثباته والإعتراف بثبوته، والإيمان بالنبي موافقته والطاعة له. ويدل على افتراق الصلتين أن إحداهما تصلح حيث لا تصلح الأخرى، فإن بني يعقوب عليه السلام لو قالوا لأبيهم: "وما أنت بمؤمن بنا" لما صلح لذلك. ولو قال كفار العرب: "ولا تؤمنوا إلا بمن اتبع دينكم" لما أدى ذلك لما أرادوه من المعنى. وأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمنافقين: {لن نؤمن لكم}، أي لن نقبل منكم عذركم، ولو كان مكانه: "لن نؤمن بكم"، ما جاز ولا حسن. وقال جل ثناؤه: {قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين}، ولو كان مكان ذلك: "ويؤمن بالمؤمنين" لما جاز ولا صلح. فثبت بما اقتصصنا أن الصلتين موضوعان لمعنيين متغايرين لا لمعنى واحد. ويدل على صحة ما ذكرت أن اسم التصديق الذي هو حقيقة الإيمان قد يحتمل صلتين: إحداهما الباء والأخرى الهاء. فأما الباء فإنه يليق بالتصديق وبما يتصرف عنه من فعل ونعت. وأما الهاء فإنه يلزم ما ينصرف عنه من فعل، فإذا جاء النعت جازت اللام مكان الهاء، فيقال: "صدقت فلانا وصدقت به"، فمعنى صدقته أثبت قوله وخبره ووثقت بصحته ومعنى صدقت به: أثبت وجوده وكونه. ثم يقال: صدقت به وأنا مصدق. وإذا قيل صدقته، جاز أن يقال: "وأنا مصدقه ومصدق له، قال الله تعالى: {مصدقا لما بين يديه من الكتاب}، ولا يصلح مكانه ومصدقا بما بين يديه لأن الغرض، أن هذا الكتاب

مثبت من وحدانية الله تعالى وقدسه ووجوب طاعته وتحسين العدل، وتقبيح الظلم والشهادة للذين جاؤوا بالكتب المقدمة، بأنهم جاؤوا بها من عند الله تعالى ما أثبتته تلك الكتب أنفسها. ولو قيل: "مصدقا لما بين يديه من الكتاب"، لصلح، فعلم أن اللام قائمة مقام الهاء في صدقته. ولو قيل: "ومصدقا بما يديه"، لم يدلك على أكثر من أنه أثبت أن كتبا كانت قبله، فثبت بهذا افتراق الصلتين، وتغاير ما يراد بهما، والله أعلم. وما ينبغي لأحد أن يستنكر هذا الفرق، فإن الوجود منه هو الموافق للصواب والحكمة إذ كان الاعتراف بالله جل جلاله، لابد من أن يسبق حتى يصح القبول عنه وطاعته وعبادته من بعد، والاعتراف بالنبي كذلك لأنه يسبق، ثم تكون متابعته والقبول عنه، ولو تجردت المتابعة بفعل ما يأمر به، والانتهاء عما ينهي عنه عن الاعتراف بالنبوة لما سلمت، ولا سلمت نفعت، فكان حقا أن يعود الأصل من هاتين الخصلتين بإحدى هاتين اللفظتين والتابع منهما بالأخرى. فيكون التصديق بالله إثباته والاعتراف بوجوده، والتصديق له قبول شرائعه، وإتباع فرائضه على أنها صواب وحكمة وعدل، والطاعة فيها لازمة، والمحافظة على حدوده، والثقة بوعده ووعيده. وكذلك التصديق بالنبي، غير التصديق له. فالتصديق به: هو الاعتراف بوجوده وكونه وإثباته نبيا في الجملة. والتصديق له: إتباعه وطاعته وقبول ما جاء عنه، وكذلك الإيمان بالله: هو الاعتراف به وإثباته: والإيمان له: طاعته وإتباع أمره. وعلى هذا الإيمان بالله أو النبي، إيمان بالدلائل التي دلت عليه، لأنه قبول لدلالتها عنها، وانقياد لموجبها. والإيمان بالكتاب إيمان للدلائل التي دلت على أنه من عند الله.

فأما إذا قلت: "آمنت بالكتاب"، لم تكن دللت على أكثر من أنك أثبته كتابا لله تعالى، والإيمان بالنبي إيمان لله لأنه قبول لدلالته التي أيده بها، وطاعة له فيما أتى به من عنده، والإيمان بالله إيمان بالنبي لأنه إجابة لدعوته ومتابعة له على مقالته. وقد يجوز أن يقول: آمنت للكتاب والتزمت العمل بأمره ووعيده. فإن قال قائل: فما يمنع أن يكون الإيمان بالله إيمانا لله؟ لأن الإيمان بالله من فرائض الله، وطاعته فيه إيمان له، والإيمان بالنبي إيمان للنبي لأنه مؤمن بنفسه كما هو مؤمن بالله، والإقرار له بذلك متابعة له على ما هو عنده، فرجع الأمر: إلى أن الإيمان بمن يضاف الإيمان إليه والإيمان له سواء، فالفرق بينهما ساقط! فالجواب: إنا لا ننكر أن يكون هذا هكذا إذا كان أحد هذين المعنيين مضافا إلى صيغة اللفظ الآخر وإلى تأويله! وإنما ينكر أن يكون جميعا مضافين إلى صيغة اللفظ إذا كانت الشواهد التي تقدم ذكرها تشهد بأن كل واحدة من اللفظتين موضوعة لغير ما وضعت له الأخرى. فكانت نفس الصيغة تدل على ذلك، لأنه إذا قيل: آمنت بكذا، أوجب ذلك إلصاق الإيمان بذلك الكذا، إذ الباء عندهم حرف إلصاق، فلا يكاد هذا اللفظ يدل على أكثر من التصديق بذات من أضيف الإيمان بالله. فإذا قيل: آمنت لكذا، أوجب ذلك إيمانا غير ملصق بذلك الكذا لكن واقعا لأجله. فكان قولهم: "آمنت بالله"، كقولهم "أثبت الله واعترفت به". وقولهم: "آمنت لله"، كقولهم: "خضعت لله، والخضوع له عز اسمه معنى غير إثباته، فلو جاز أن يقال: أن أحدهما هو الآخر. مع افتراقهما من حيث ذكرت، لجاز أن يقال: أن اسم الصلاة لصيغته موضوع لطاعته، إذ كانت الصلاة لله طاعة له، والصيام وكل عبادة مثلها، فتكون الصلاة صياما لأنها طاعة مثله، أو الصيام صلاة لأنه طاعة مثلها، وكل واحد منهما مستعملا حيث تستعمل الطاعة، إذ كان كل واحد منهما طاعة. فإذا لم يجز أن يقال ذلك لافتراق الاسمين فيما صيغ كل واحد من اللفظين له من المعنى، فكذلك الإيمان بالله والإيمان لله، هذه منزلتهما. ويدل على صحة ذلك اسم الإسلام يصلح مكان اسم الإيمان عند وصله باللام، ولا

يصلح مكانه عند وصله بالباء. إذ قد يجوز أن يقال: "آمنت لله وأسلمت لله"، ولا يجوز أن يقال: "أسلمت بالله" كما يقال: "آمنت بالله". فثبت بهذا ثبوتا ظاهرا إن الإيمان لله غير الإيمان بالله، وأن الإيمان بالله إثباته والاعتراف به. فلما لم يكن من قولهم أسلمت بالله، هذا المعنى، لم يجز استعماله وأن الإيمان لله هو الطواعية له بإتباع أوامره بعد الاعتراف به، إذ كان إتباع الأمر مع الجحود لا يتحقق، فلما كان ذلك إسلاما للنفس وتسليما لأمر الله، صح أن يقال: "أسلمت لله"، فبان عما قلنا أن من قال: "آمنت بالله"، كان الإثبات والاعتراف به هو المعنى المضاف إلى صيغة اللفظ، وأما ما فيه من معنى الطاعة فهو من تأويل اللفظ لا من حكم صيغته. وأما من قال: "آمنت الله"، كان الإذعان والطواعية له بقبول أوامره وسائر ما جاء من عنده، هو المعنى المضاف إلى صيغة اللفظ. فأما ما فيه من معنى الإثبات له والاعتراف به، من حيث أن إتباع الأمر والنهي لا يكون إلا مع الاعتراف، فهو من تأويل اللفظ لا من حكم صيغته، والله أعلم. فصل ومن هذا الوجه الذي بيناه أوجبنا أن تكون الطاعات كلها: فرائضها ونوافلها إيمانا، ولم نوجب أن تكون المعاصي الواقعة من المؤمنين كفرا. وذلك أن الكفر بالله أو برسوله مقابل الإيمان به. فإذا كان الإيمان بالله أو برسوله الاعتراف به والإثبات له، كان الكفر به جحوده والنفي له والتكذيب به. فأما الأعمال فإنها إيمان لله ولرسوله بعد وجود الإيمان به. والمراد به إقام الطاعة على شرط الاعتراف المتقدم، فكان الذي يقابله هو الشقاق والعصيان دون الكفر، فلذلك قلنا أن تارك الإتباع مع الثبات على التصديق فاسق وليس بكافر. وكان هذا هو الذي يوجبه اللسان إلى أن يحقق المعاني وينظر فيما يوجبه، والله أعلم.

فصل ثم أن التصديق الذي هو معنى الإيمان بالله وبرسوله ينقسم: فيكون منه ما يخفى وينكتم، ويكون منه ما يتجلى ويظهر، وأما الذي يخفى فهو الواقع منه بالقلب ويسمى اعتقادا، وأما الذي يظهر فهو الواقع باللسان ويسمى إقرارا ويسمى شهادة. وكذلك الإيمان لله ولرسوله ينقسم: إلى جلي وخفي. فالخفي منه هو النيات والعزائم التي لا تجوز العبادات إلا بها. واعتقاد الواجب واجبا والمباح مباحا والرخصة رخصة والمحظور محظورا والعبادة عبادة والحد حدا ونحو ذلك. والجلي ما يقام بالجوارح إقامة ظاهرة وهو عدة أمور: منها الطهارة ومنها الصلاة ومنها الحج ومنها العمرة ومنها الزكاة ومنها الصيام ومنها الجهاد في سبيل الله، وأمور سواها ستذكر في مواضعها. وكل ذلك إيمان وإسلام وطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنه إيمان لله بمعنى أنه عبادة له، وإيمان للرسول بمعنى أنه قبول عنه دون أن يكون عبادة له، إذ العبادة لا تحق لأحد عز وجل. فصل ونقول: الخلاف في هذا الأصل الذي تقدم من قبل اللسان تمهيده كثير، ولكن القصد في هذا الكتاب، الكلام على الفريقين: أحدهما: الذين يقولون أن التصديق بالقلب كان لإثبات الإيمان ومزايلة الكفر، وأن الإقرار باللسان وإن كان فرضا، فليس أن الكفر لا ينتفي إلا به، وإنما هو كالصلاة والزكاة وغيرهما من أركان الإسلام. وهي وإن كانت فرضا، فالكفر ينتفي من دونها، فكذلك الإقرار. والآخر: الذين يقولون أن التصديق بالقلب واللسان معا هما الإيمان، فمن اعتقد بقلبه وأقر بلسانه فقد استكمل الإيمان، وأما سائر الطاعات والعبادات فاسم الإيمان لا يلحقها، وإنما يقال أنها حقوق الإيمان أو شرائع الإيمان، فأما الإيمان نفسه الاعتقاد والإقرار. وأما نحن فنقول: أن اسم الطاعات كلها فرائضها ونوافلها. فالاعتقاد

إيمان، وكل عبادة من صلاة أو زكاة أو حج أو جهاد أو غيرها فهي إيمان. ثم في تسميتها إيمانا وجهان: أحدهما أن كلها إيمان بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم. والآخر: أن الاعتقاد والإقرار إيمان بالله وبرسوله، وسائر الطاعات والعبادات إيمان لله ورسوله. وسنتكلم عن كل واحد من الوجهين عند الحاجة إليه إن شاء الله. والدليل على أن التصديق بالقلب لا ينفك عن الكفر دون أن ينضم إليه الإقرار باللسان إذا كان مقدورا عليه- إن الله عز وجل أمر بالقول فقال: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}. ثم قال عز وجل: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا. وإن تولوا فإنما هم في شقاق}. فأمر المؤمنين أن يقولوا: "آمنا" ثم أخبر- بقوله تعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به- إن ذلك القول منهم إيمان، وسمي قولهم مثل ذلك إن قالوه وإيمانا، إذ لا معنى لقوله: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} إلا فإن آمنوا بأن قالوا: "مثل ما قلتم"، فكانوا مؤمنين كما آمنتم. فصح أن القول إيمان، وبأن قوله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا وأن تولوا فإنما هم في شقاق} بعد ما ثبت أن تقديره ما وصفنا أن المعنى. فإن قالوا مثل ما قلتم فقد اهتدوا وإن تولوا وأبوا وامتنعوا فإنما هم في شقاق، ومشاقة الله تعالى كفر، فصح أن القول باللسان محتاج إليه لنفي الكفر، والله أعلم. وقال عز وجل في آية أخرى: {فلما رأوا بأسنا قالوا: أمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا}. إن ذلك القول لم ينقلهم عن الكفر، لأنه كان بعد رؤية البأس، فثبت أنه لو كان قبلها، لنفعها بأن كان ينقلهم عن الكفر إلى الإيمان. ودلت السنة على مثل ما جاء به القرآن، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن

أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها). ومعلوم أن الإيمان هو الواجب للعصمة، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن العصمة المزايلة بالكفر تثبت بالقول، صح أن القول إيمان، وأن الحاجة إليه كالحاجة إلى الاعتقاد لانتفاء الكفر، والنظر يدل على صحة هذا القول، لأن اللسان محل التوحيد كالقلب، فإن القاصد إلى الإيمان كما يخطر بقلبه أن لا إله إلا الله، ويوطن نفسه على أن ذلك كذلك، فيكون موحدا بقلبه. فكذلك يجري لسانه بمثل ما كسب قلبه ويعبر عما في ضميره فيقول: لا إله إلا الله، فيكون موحدا بلسانه، فبان بذلك أن كل واحد من القلب واللسان محل التوحيد، ووجب إذا كان اعتقاد التوحيد أمرا لا ينتفي الكفر بدونه أن يكون القول باللسان في هذا مثله، وأن لا يقضي بزوال الكفر مع خلو محل التوحيد وبالله التوفيق. ووجه آخر: وهو أن الكفر لما كان يقوم بالعقد وحده وبالقول وحده، لأن من تكلم بكلمة الكفر مختار عالما بمعناها غير حاك لها عن غيره كفر، وإن ما كان لا يعتقد أن ما تنبي عنه الكلمة صحيح، كما أن من اعتقد ضربا من ضروب الكفر كفر، وإن لم يعبر عنه بلسانه. دل ذلك على أنه لا ينتفي إلا باجتماع العقد والقول على نفيه، لأنه لما احتيج إلى عقد القلب لنفي الكفر لم تكن العلة فيه، إلا أن فساد العقد مثبت للكفر، وهذا المعنى موجود في القول لأن فساده موجب للكفر، فصح أنه محتاج إليه لنفي الكفر كالعقد، فوجب أن لا يثبت الإيمان إلا بالجمع بين الاعتقاد الصحيح والإقرار الصريح وبالله التوفيق. ووجه آخر: وهو أن الإجماع قد حصل على أن الإقرار فرض، وإن كان مختلف في أن البراءة من الكفر تقع من دونه أو لا تقع، فلا يخلو وجوبه من أوجه ثلاثة. أما أن يكون لشغل جاز حتى التوحيد للجمع بذلك بين ظاهر الإيمان وباطنه، أو

ليعلم المقر غيره أنه قد اعتقد التوحيد وترك ما يخالفه، أو لا لهذا ولا لذلك. ولكنه فرض كسائر الفروض التي هي الصلاة والزكاة والصيام، فبطل أن يكون وجوب الإقرار ليعلم المقر غيره حال نفسه من الإيمان، فإن المنفرد بنفسه حيث لا بأس عنده ولا أحد معه يلزمه من الإقرار والتشهد بشهادة الحق، ما يلزم التارك بين الجماعة ومعلوم أنه إذا كان خاليا بنفسه، فليس يحتاج أن يعلم غيره إيمانه بل لا غير فيعلمه، فثبت أن وجود الإقرار ليس للإعلام، ودل على ذلك أيضا أنه لو أقر من حيث لا يسمع إلا لنفسه لسقط عنه فرض الإقرار، فعلم أن وجوبه ليس لأعلام الغير، وبطل أن يكون وجوبه كوجوب الصلاة والزكاة لأنه أخف كلفة وأقل شغلا من الصلاة والزكاة والصيام، ثم لا يتكرر تكرارا متداينا ولا ييكر امتزاجيا، فلو كان وجوبه على أنه من فروع الإيمان لتكرر كما يتكرر ما هو أشق وأثقل منه، فإن قال: فإن الإقرار يتكرر في الصلوات، قيل: أول ما يجب الإقرار فإنما يجب في غير الصلاة فتكرره يجب مرة بعد أخرى في غير الصلاة ليكون مقصودا بنفسه، وأما إذا وجب في الصلاة فإنما يجب لتكميلها، وليس ذلك من وجوبها لنفسها بسبيل. ألا ترى أن عامة ما يجب على الصائم الإمساك عنه، يجب على المصلي الإمساك عنه؟ ثم لا يكون تكرر صيام لأنه مشروط غيره وليس بمقصود في نفسه! فكذلك الإقرار والله أعلم. ولما بطل هذان الوجهان صح الثالث وهو أن الإقرار إنما يلزم لينضم إلى الاعتقاد ويعاونه على نفي الكفر والله أعلم. ووجه آخر: يدل على أن الإقرار إنما يجب وجوب الاعتقاد، أنه يلزم العاقل البالغ معجلا مضيقا كما يلزمه الاعتقاد معجلا مضيقا، فبان أنه للجمع بين ظاهر الإيمان وباطنه لا لدلالة الغير على استحداث الإيمان، فإن الغرض من الإقرار لو كان تعريف الحال لجاز أن يتأخر إلى أن تقع الحاجة إلى التعريف، ولما لم يجز تأخيره بعد حصول المعرفة كما لا يجوز تأخير الاعتقاد دل على ذلك على أنه لما قلنا من الجمع بين ظاهر الأمر وباطنه والله أعلم.

ووجه آخر: وهو أن الكافر إذا اعتقد وأقر كان مؤمنا، ثم لا يلزمه في غير أحوال الصلاة أن يتكلم بشهادة الحق، وإن اعترضت في أمره شبهة فاحتاج إلى إزالتها للدفع عن نفسه كفاه أن يقول: إني مسلم أو قد أسلمت من وقت كذا، ولم يلزمه أن يأتي بالشهادة على وجهها. فبان أن ذلك للجمع بين ظاهر الإيمان وباطنه لا لمعنى سواه، إذ لو كان الدلالة على حال نفسه للزمه في كل حال من أحوال الأشكال الواقع في أمره أن يأتي بالشهادة على وجهها. وإذا لم يلزمه في ذلك ما يلزم في بدئ أمره، صح أن مجموع الاعتقاد والإقرار هو الإيمان وبالله التوفيق. فإن قال قائل: فما أنكرتم أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده، لأن الله عز وجل أمر بالإيمان بقوله: {آمنوا} والتصديق بالقلب إيمان في اللسان، فمن جاء بذلك فقد وفى الأمر حقه وخرج عن عهدته: فالجواب أن التصديق المطلق قول القائل: صدقت، بقول العرب: إن صدقت فصدقني، وإن أصبت فصوبني، وإن أخطأت فخطئني، وإن أسأت فسؤني، على أن قيل لي: صدقت، أصبت، أخطأت، أسأت،. وقال الله عز وجل: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما}. فسمى قوله: {وصدق الله ورسوله} بعد تقديم الإيمان زيادة إيمان. فثبت أن الإيمان ليس التصديق بالقلب دون القول به، وأيضا فإن هذه الآية لم تتجرد عن سائر الآيات والسنة التي فيها اشتراط القول لثبوت الإيمان، فوجب أن يكون محمولا على الإيمان ومضمومه إليها. وأيضا فإن لا خلاف بيننا وبين قائل هذا القول في أن الإقرار إيمان لأنه يقول الطاعات كلها إيمان، والإقرار طاعة. فهو إذن إيمان. فإن كان قوله عز وجل: آمنوا، محمولا على الإيمان الجامع لجميع شعبه، فالإقرار منها بل هو رأسها. وإن كان محمولا على كل شيء يلحقه اسم الإيمان فلا ينبغي أن يكون التصديق بالقلب أندر إليه من التصديق باللسان، ولا التصديق باللسان أندر إليه من التصديق بالقلب.

فإن قال قائل: ما أنكرتم أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده لقول الله عز وجل: {قالت الأعراب آمنا، قل: لن تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}. فأخبر أن القول ليس بإيمان وأن ما في القلب هو الإيمان. فالجواب: أن الآية إن كانت توجب أن لا يكون القول إيمانا، فإنما ذلك في القول العاري عن الاعتقاد، ولسنا نخالف ذلك، بل نقول به، فإن قال: فإن في الآية أن التصديق بالقلب إيمان، وإنه لو كان في قلوبهم، لكانوا مؤمنين. قيل: لو كان في قلوبهم لكانوا مؤمنين لجمعهم بين التصديق بالقلب والقول باللسان لا التصديق بالقلب وحده، لأن الله تعالى وصفهم بالقول، لا إنه سلب ذلك القول اسم الإيمان ليعري القلب عن حقيقته، فدل على أن حقيقته إذا كانت موجودة في القلب كان وجود الإيمان بالقلب واللسان معا لا بأحدهما دون الآخر. فإن قال: ما أنكرتم أن الاعتقاد وحده إيمان، لأن من سلب البيان يصح منه الإيمان بقلبه، ومن سلب العقل لم يصح الإيمان منه بلسانه. فعلم أن مدار الإيمان على القلب لا على اللسان! فالجواب أن من سلب البيان صحت منه الصلاة بلا كلام، ومن سلب العقل لم تصح له صلاة أصلا، ولا يدل ذلك على أن الجمع بين العقل والقول غير محتاج إليه في وجود حقيقة الصلاة عند القدرة على الجمع بينهما، فكذلك ما ذكرتم، ثم لا يدل على أن الجمع بين العقل والقول غير محتاج إليه في وجود حقيقة الإيمان عند القدرة على الجمع بينهما. وأيضا فإن من سلب العقل، كما لا يصح منه الإيمان بلسانه فكذلك لا يصح منه الكفر بلسانه، وذلك لا يدل على أن الكفر النافي للإيمان لا يقع باللسان، فلذلك امتناع صحة الإيمان من المجنون لا يدل على أن نفي الكفر لا يقع باللسان, والله أعلم. فإن قال: لما كان المكره على الكفر يحفظ الإيمان على نفسه بالثبات على اعتقاده مع إجرائه الكفر على لسانه، دل ذلك على أن الاعتماد في الإيمان على القلب. فالجواب: أن المكره ليس يحفظ الإيمان على نفسه، بمجرد الاعتقاد، لكن به وبالإقرار السابق الذي قدمه ثم لم يتبعه ما ينقصه، وذلك أن القول الذي أكره عليه،

لا يكمل لنقص الإقرار السابق إذ كان المكره لا يتكلم به لما تحته من المعنى، وإنما يتكلم به لأنه محمول عليه بعينه، فلا يخلص نفسه إلا به. فأوجب ذلك إهدار كلامه حتى إذا هدر كان دوام الإيمان بالاعتقاد وبما تقدم من الإقرار الذي سلم عما ينقصه ويرفعه لا بالاعتقاد وحده، والله أعلم. فإن قال: الإقرار عمل بإحدى الجوارح الظاهرة، فهو كالصلاة والصيام والحج والجهاد. ومعلوم أن كافرا لو أسلم وقت صلاة أو قبل الفجر من ليلة من ليالي رمضان، أو في وقت قد وقع النفير، لم يتوقف انتقاله عن الكفر وبراءته منه، على فعل ما قد وجب من هذه الأعمال. فكذلك الإقرار شبيه بها، فكان حكمه حكمها! فالجواب: أن الاعتقاد يتوقف عن الإقرار لأن المقدمة هو المعتقد، والذي يجري على اللسان من الإيمان هو الذي يخطر على القلب ويعقد عليه. وإنما يفرق بين الأمرين الأدلة والوصف، فإن أحدهما يفعل باللسان، والآخر بالقلب، وأحدهما يظهر والآخر لا يظهر. وأما العمل نفسه، فإنه متفق غير مختلف ولا ممنوع فيوقف الاعتقاد على الإقرار للجمع بين ظاهر الإيمان وباطنه. وأما سائر الأعمال، فإنها غير المعتقد بالقلب، والمعبر عنه باللسان، وكلها تزد من الاعتقاد والإقرار منزلة الإمارات من الصحيح، لأن كل واحد بين الاعتقاد والإقرار صريح تصديق، ولا يمكن أن يكون فوقهما أشد صراحة منهما. وأما الأعمال الأخر، فإنها أمارات التصديق يعني أنه إذا كان عاقلا لا يخضع بالتقرب إلى من ينكر وجوده، ولا يتحمل الجهد والمشقة الغليظة في تكلف الأعمال وهو لا يثبته. وإن كان يثبته لا يرى أنه موضع رغبة إليه أو رهبة منه، كانت إقامة العبادات المشروعة ممن يقيمها تصديقا بصانعه، وثقة بوعيده ووعيده، وتصديقا لمن أدى إليه عنه، أنه مريد منه ما هو فاعله ومتعرف عليه. فأما أن يكون ذلك صريح تصديق، فلا! فلم تجز إذا وجد الصريح منه أن يتوقف الحكم به على وجود ما هو أمارة. لأن التوقف على الحكم بأقوى الدلالتين انتظارا لوجود أضعفها، لا معنى له، والله أعلم. ودل على ما قلنا: أن رجلا لو أقر لرجل بمال ادعاه عليه، لأخذ بدفعه إليه، ولم

يتوقف الإقرار على الدفع حتى لا يكون صحيحا إلا به إن كان الدفع- إذا وجد- تصديقا للمدعي كما كان قوله باللسان تصديقا. وما ذاك إلا لأن القول صريح، والدفع أمارته. فلم يجز أن يتوقف صحة الصريح على وجود الإمارة. فكذلك هذا في الإيمان والله أعلم. ووجه آخر: وهو أن الاعتقاد والإقرار معا إيمان بالله عز وجل ونزلا منزلة واحدة. وأما الأعمال فإنها إيمان لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والإيمانان جميعا واجبان، غير أنهما متغايران في الحد والحقيقة، فلم يتوقف أحدهما على الآخر لذلك، ولا تغاير بين الاعتقاد والإقرار في حقيقتهما، فاحتيج إلى وجودهما معا ليقع به الجمع بين ظاهر الإيمان وباطنه والله أعلم. فإن قيل: إن كانت الأعمال إيمانا لله عز وجل، فهل وجدتم في كتاب أو سنة إيجابهما بهذا الاسم؟ فإن كنتم لم تجدوه، فليس علينا أن نقبله منكم بلا رهان. فالجواب: إنا وجدنا ذلك لأن الله عز وجل، أخبر عن قوم نوح عليه السلام: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} قدمهم بذلك، فدل ذلك على أن نوحا عليه السلام كان يدعوهم إلى أن يؤمنوا له فيمتنعون ولولا ذلك لما جادلوه بأن يقولوا له: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}، ولا ذم الله تعالى ذلك منهم إذ قالوه. وهكذا قوم موسى عليه السلام: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا} فدل ذلك على أن موسى وهارون عليهما السلام كانا يأمرانهم أن يؤمنوا لهما. وإذا ثبت ذلك في غير شريعتنا، وكانت الشرائع كلها متفقة على أنها أعمال وقع التعبد بها. صح أنا من حيث أمرنا بها مأمورون بالإيمان لنبينا صلى الله عليه وسلم. فصح لنا ما قلناه من هذا الوجه. فإن قيل: ما أنكرتم أن معنى قولهم: "أنؤمن لك، أنؤمن بك، وكذلك معنى أنؤمن لبشرين مثلنا، أنؤمن ببشرين مثلنا! قيل: ليس كذلك! لأن قوم نوح لما قالوا: "أنؤمن لك، وصلوا ذلك بقولهم:

"واتبعك الأرذلون"، فدل على أنهم أرادوا بقولهم، أؤمن لك. أنقبل عنك ونتابعك ولا نرى أحدا اتبعك إلا الأرذلون لنكون أسوة الأراذل، وإنما نحن أماثل. وكذلك قوم موسى لما قالوا: "أنؤمن لبشرين مثلنا" وصلوا ذلك بقولهم {وقومهما لنا عابدون}، فدل ذلك على أنهم أرادوا: نلتزم طاعتهما فنكون قد عبدنا أنفسا لهما وقومهما لنا عابدون. فنحول الذلة عن قومهما إلى أنفسنا، والعز والرفعة عن أنفسنا إليهما وإلى قومهما. ولو كان المراد نفس التصديق لم يلق أن نعتذر من التأخر عنه بما حكى الله عنهم، أنهم قالوا: لا في الطباع والعادات ولا في قياس النظر، لأن أتباع الأراذل رجلا لا يجعل أن يكون صادقا في قوله، ولا العبودة تجعل أن يكون العبد صادقا في قوله. فأما الاعتذار من ترك الطاعة والانقياد بمثل ما ذكر فلائق بما في الطباع، وإن كانت الشرائع لا تسوغه. فيثبت أن المراد بالاثنين ما قلنا، وفي ذلك ثبوت ما وصفنا. وبالله التوفيق. وجواب آخر: وهو أنا وجدنا في الكتاب والسنة وإيجاب العمل والندب إلى أعمال. ووجدنا في اللسان أن إتباع الأمر إيمان للأمر. فعلمنا من ذلك أن الأعمال التي أمر الله جل وعز طاعة له، والفرق بين الإيمانين قد مضى ذكره وتقريبه والله أعلم، وبه العصمة والتوفيق. ذكر الكلام مع الفريق الآخر: وأما الدليل على أن الطاعات كلها إيمان. فهو أن الإيمان عند العرب التصديق، وكل طاعة تصديق، لأن أحدا لا يطيع من لا يثبته، أو لا يثبت أمره ولا يعتد به، وإذا كانت الطاعة لا تقع إلا لأمر آمر علمنا أن فعل الطاعة تصديق بالأمر وللآمر، فكذلك قلنا أنه إيمان. ووجه آخر: وهو أن الدوام على الإيمان إيمان، وهو منزلة بعد الانتقال عن الكفر، وإنما كان ذلك إيمانا لأنه طاعة، فكل طاعة فهو إيمان قياسا عليه. ووجه آخر: وهو أن كل مستحق بفعله ثواب وبتركه عقاب، فهو إيمان قياسا على الإقرار والاعتقاد.

ووجه آخر: وهو أنه ما لا يلائم الكفر ولا يكون معه برا وقربة فهو إيمان كالإقرار. ووجه آخر: وهو أن الله عز وجل وصف المؤمنين في كتابه فقال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا}، فلما أخبر عز وجل: أن المؤمنين هم الذين جمعوا هذه الأعمال، دلل ذلك على أنها من جوامع الإيمان. فإن قيل: هذا حجة عليكم! لأن الله جل وعز أثبت أن هؤلاء مؤمنون حقا. وأنتم تقولون: أن هؤلاء الموصوفين إن لم يحجوا، ولم يجاهدوا من غير وقوع الكفاية بغيرهم، أو دعي أحدهم إلى شهادة قد تحملها فأبى، أو جحد وديعة عنده، أو كذب، أو قتل، أو زنا، أو سرق، أو شرب خمرا، فليسوا المؤمنين حقا، لأن إيمانهم إيمان ناقص، فالآية توجب أن يكونوا مؤمنين حقا. فهي إذا حجة عليكم! فالجواب: أن هذه معارضة ساقطة عنا، لأن الآية فيمن إذا تليت عليه آيات الله زادته إيمانا، وليس المتخلف عن الفرائض، والقعود عن الواجبات اللوازم، من زيادة الإيمان بسبيل. فالآية فيمن إذا ذكر الله وجل قلبه، وليس ارتكاب المعاصي ومخالفة الأوامر من إمارات الوجل. فصح أن الذين بيننا: أن يكونوا مؤمنين حقا أو حسبنا أن يكونوا ناقصي الإيمان، غير داخلين في الآية. وأيضا فإنه إذا ثبت أن الموصوفين في الآية، إنما كانوا بما استوجبوا اسم المؤمنين حقا لمكان الأعمال التي وصفهم الله بها، ولم تكن الأعمال المتعبد بها هذه وحدها، صح أن المراد بذكرها هي وما في معناها من الأعمال المفروضة أو المندوب إليها، والصلاة إشارة إلى الطاعات التي تقام بالأبدان خاصة، والإنفاق مما رزق الله عز وجل إلى الطاعات التي تقام بالأموال، ووجل القلوب إشارة إلى الاستقامة من كل وجه. ويدخل فيها إقام الطاعات والابتعاد عن المعاصي. وأيضا فإن الله عز وجل وصف الصلاة: أنها تنهي عن الفحشاء والمنكر. فبان بذلك، أن المحافظ على الصلوات، المقيم بها كما شرعت، الموفي حقها من الاستكانة والتباؤس والخشوع لا

يكون إلا منتهياً عن الفحشاء والمنكر، فخلصت الآية إذا في الممتنعين من الفواحش التي وقعت بها المعارضة، والله أعلم. فإن قيل في الآية {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} والوجل أمر يجده المؤمن مجتلبا، لأن من اعتقد من وحدانية الله وعظمته وقدرته والثقة بوعده ووعيده، ما يحق ويلزم، ثم عكف عن التفكر والتدبر، ولم يعرف عنه إلى شهوات الدنيا بقلبه، أورث في قلبه الخشية. وكلما استجد لله تعالى ذكرا استجد منه خشية، فيكون ما يجده منها في قلبه من جلب إكسابه. فلذلك يصح أن يضاف إليه ويسمى إيمانا، ويمدح به ويثني عليه به والله أعلم. ووجه آخر: وهو أن الله جل وعز وصف الإيمان في هذه الآية بالزيادة. ومعلوم أن الإقرار والاعتقاد إذا كانا هما الإيمان، فزيادة الإيمان تأكيد الاعتقاد، وتكرير الإقرار فثبت أن تكرير التوحيد إيمان. فإذا ثبت ذلك بلغ أن الصلاة وما معها من أعمال الإيمان إيمان، إذ يستحيل أن يكون التوحيد المنتقل به إيمانا، والصلاة المفروضة وما يجري من الشهادة المفروضة فيها غير إيمان، وبالله التوفيق. فإن قيل: ما أنكرتم أن زيادة الإيمان تأكيد الاعتقاد، فإن الاعتقاد قد يكون في أول درجاته يدنو من الشك، وقد يكون آكد ومن الشك أبعد. ولهذا صار المعتقد يوصف بقلبه الرأي مرة، وبالإحاطة واليقين أخرى، وكل واحد منهما منزله وراء الشك. فإذا جاز أن يزول الشك إلى غلبة الرأي، ثم يزداد حتى يكون يقينا، جاز أن يزداد حتى يقارب الضرورة أو يكون بمثلها. فهذا زيادة الإيمان ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعرة من إيمان)، وأنه صلى الله عليه وسلم أشار بذلك إلى زيادة الاعتقاد ونقصانه، وقربه من الضرورة وبعده. وإلى هذا أشار الله عز وجل بقوله: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب، ويزداد الذين

آمنوا إيمانا، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون}. فإن سياق الآية يدل على أن المراد بزيادة الإيمان زيادة اليقين. فالجواب: أن هذا السؤال غير ملائم أصل السائل، لأنه يأبى أن يكون الاعتقاد وحده إيمانا في مبتدئه ولا في دوامه. فلا يصح أن يقول: إن الزيادة التي تخص الاعتقاد زيادة إيمان، بل ينبغي له أن يقول: إن الاعتقاد إذا تزايد وتأكد الإقرار معه بالتكرير أو بذكر شبهه، فذاك ازدياد إيمان. وإذا قال ذلك، فقد أوجب أن يكون ذكر الله ومدحه والثناء عليه، الذي دعا تأكدا لاعتقاده إليه إيمانا. وإذا دخل في هذا، لم يجد بدا من أن يقول: وإذا بعثه ما تأكد من إيمانه على أن لا يدع طاعة إلا أتاها، ولا معصية إلا اتقاها، كان ذلك منه إيمانا. فإن قيل: إني كنت لا أقول أن الاعتقاد وحده إيمان ثابت، لا نقول أن الصلاة وحدها إيمان، ثم لم يمتنع من أن يقول: إن إقام الصلاة زيادة إيمان، فلم أمتنع على أن أقول تأكدا لاعتقادي زيادة إيمان؟ وقيل له: ليسا سواء، لأن زيادة الإعتقاد والإقرار بالصلاة عندي كزيادة المال بانضمام مستقاد منه مستقاد، اتفق الجنس أو اختلف، ومل شيء من ذلك حدث، فلا يقتضي صحة وصفه بالزيادة معي سوى سلامة الحادث قبله. فكذلك هذا، وأما أنت فإنك تجعل الاعتقاد الماضي بما حدث من تأكده أقوى، وتلك القوة الحادثة محض الاعتقاد ولا تتعداه إلى الإقرار وإذا كان عندك، أن مجموع الاعتقاد والإقرار هو الإيمان. لم يكن لك أن تقول: أن تأكد الاعتقاد وحده وقوته زيادة إيمان. وأما أنا فإني أجعل سابغ الأعمال زوائد إيمان من طرق كثيرة الأجزاء والعدد. فكلما أحدث منها حادث، وصادفه ما تقدمه ثابتا، صح لي أن أقول زيادة إيمان، لأنه من طريق العدد. فكثر بما تقدمه، والذي تقدمه يكثر به. وهذا فرق ما بيننا. وجواب آخر: عن أصل الكلام وهو الذي يسلمه، من أن تأكد الاعتقاد زيادة إيمان، حجة عليه. لأن أدنى اليقين كاف للنقل عن الكفر إلى الإيمان. ثم كان ما جاوزه

مما يدني المتيقن من المضطر زيادة إيمان باتفاق، ولم تكن العلة فيه إلا أنه زيادة تصديق. فكذلك كل ما حادث من طاعة فهو فصل تصديق، لأن الطاعة لا تكون إلا لأمر مرغوب إليه مرغوب إياه. فإذا وجدت من أحد كان وجودها تصديقا بالمعبود والموعود. فوجب أن يكون ذلك إيمانا، وحدوثه حدوث إيمان. فإن قال: التصديق الواقع بالفعل هذا الذي سبق وقوعه بالاعتقاد. وإنما الفعل إظهار لذلك التصديق! قيل: هذا لا يمنع من أن يكون الفعل تصديقا سوى التصديق الواقع بالاعتقاد. فيكون انضمامه إليه زيادة تصديق حادث، كما أن الإقرار إظهار للمعتقد أيضا ثم لا يمنع ذلك من أن يكون تصديقا سوى التصديق الواقع بالاعتقاد، ويكون انضمامه إليه زيادة تصديق حادث والله أعلم. وأما قول الله عز وجل: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا}. فليس المراد به: أن المؤمنين يزدادون يقينا، وإنما هو: ويصدق المؤمنون بالله ورسوله. فهذا الخبر غير شاكين فيه، فيزداد إيمانهم بانضمام شعبة منه إلى شعبة تقدمتها، وهذا يوجب أن يكون تصديق حادث زيادة إيمان. وما من طاعة تحدث إلا وهي تصديق حادث كما بينت، فوجب أن يكون إيمانا. ووجه آخر للمسألة: وهو أن الله عز وجل سمى الصلاة إيمانا، فقال في كتابه نصا: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}. وأجمع المفسرون على أنه أراد صلاتكم إلى بيت المقدس. فثبت أن الصلاة إيمان. وإذا ثبت ذلك، فكل طاعة إيمان، إذ لم أعلم فارقا فرق في هذه التسمية بين الصلاة وسائر الطاعات. ووجه آخر يدل على أن الطاعات كلها إيمان. وهو أن المؤمن إذا طرى الإيمان في الوقت بعد الوقت. فجدد الاعتقاد وكرر الإقرار، كان ذلك إيمانا منه. وإنما كان كذلك، لأنه بر وقربة، فكذلك كل طاعة فهي بر وقربة وعبادة فإن أنكروا ما قلناه ثبتناه عليهم بالدليل وقلنا لهم: لما كان الاعتقاد والإقرار إيمانا وجب إذا كرروا

تكريرهما بر باتفاق أن يكون حكم الإعادة حكم الابتداء، حتى إذا كان المبتدأ إيمانا كان المعاد إيمانا، ألا ترى أن الصلاة إذا أعيدت- وكانت إعادتها برا-كانت صلاة كالأولى. والوضوء إذا جدد، كان الثاني وضوءا كالأول. والحج إذا كرر كان حجا كالأول. وكذلك الاعتقاد والإقرار إذا أعيدا وكانت إعادتهما برا، وجب أن يكون المعاد إيمانا كالأول. فإن قالوا: كيف يكون المعاد إيمانا كالأول وهو لا يزيل كفرا؟ قيل: كما كان الوضوء المجدد وضوءا ولا يزيل حدثا، وكما كانت الصلاة الثانية صلاة وليست تسقط فرضا، والحج الثاني حجا وليس يرفع واجبا، كذلك الاعتقاد والإقرار إذا أعيدا كانا إيمانا، وإذ لم يرفعا كفرا، والله أعلم. ووجه آخر: وهو أن كل عبادة كان التكذيب بها كفرا، كان فعلها مع الإخلاص جزءا من أجزاء الإيمان كالإقرار. وأنه لما كان التكذيب بوجوبه كفرا، كان الإتيان به مع الإخلاص من أجزاء الإيمان. وكذلك كل عبادة. ومما يقرر هذا، أن التصديق بالشرائع لما كان إيمانا، لم يجز أن لا يكون فعلها وأداؤها إيمانا، كما أن التصديق بوجوب الإقرار لما كان إيمانا، لم يجز أن يكون فعلها مع الإخلاص إيمانا. والله أعلم. فقد بان أن ما كان اعتقاد حكم العبادة فيه إيمانا فلا يخلو وأداؤه مع الإخلاص من أن يكون إيمانا، والله أعلم. فإن قيل: أن الاعتقاد الذي هو أول جزء من أجزاء الإيمان يتقدمه العلم بوجوبه، ويتقدم ذلك العلم الاستدلال المؤدي إليه إلى علم التوحيد، ثم اعتقاد وجوب ما ظهر بالدليل، وعقد القلب عليه دون التغافل عنه، إيمان. قيل: هذا يختلف! فإن كان رجل سمع التوحيد والنبوة فقبلهما واعتقدهما واعترف بهما تصديقا لمن أخبره بهما، ثم أراد أن يعلم ذلك بالدليل. واستدل غير شاك عند استدلاله، في أن ما اعتقد حق، وأن صحته إن لم تظهر له باستدلاله. فلتقصيره وأخطائه جهته، كان هذا الاستدلال منه إيمانا. وإذا ظهر له نية مطلوبة، واعتقد أن الاستسلام لما قال الدليل عليه واجب، وأن إغفاله وتضييقه حرام، كان هذا الاعتقاد إيمانا منه.

فأما إن كان رجل خطر بقلبه النظر في حال العالم فلم يعتقد فيه شيئا حتى استدل فكان عنده أن الاستدلال قد يؤدي إلى حدث العالم، وقد يؤدي إلى قدمه. لم يكن هذا الاستدلال منه إيمانا بعد أن كانت حقيقة الإيمان ما ثبت في صدر هذا الكتاب وبالله التوفيق. ووجه آخر: وهو أن الاستكبار على الله عز وجل بترك الطاعة له فيما أقر به كفر، فدل على أن الاستجداء له بالطاعة إنما يدل على ذلك أن الاستكبار على الله تبارك وتعالى الإقرار به لما كان كفرا كان الإذعان له بالإقرار بربوبيته ووحدانيته إيمانا. فكان كل طاعة في هذا مثله. ووجه آخر: وهو أن الله عز وجل قال: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا. فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون}. فلا يخلو قوله عز وجل هذا من أحد معنيين: أما أن يكون المراد به فزادتهم ثقة بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لما فيها من إطلاعه على أسرار المنافقين، إذ كان لا يمكن أن يكون وقف عليها إلا من قبل الوحي. أو يكون المراد، أيكم رغبته هذه السورة في جهاد المشركين، ودعته إلى بذل النفس والمال فيه. فإن كان المراد هو الأول، فقد بان أن أحداث تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بامتثال أمر من أوامره، وأقام عبادة لله على حده هو الذي دعا إليها ونبه عليها زيادة إيمان. وإن كان المراد هو الثاني فقد ثبت أن الجهاد إيمان، فوجب على قياسه أن تكون كل عبادة إيمانا. وهكذا قوله عز وجل: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}، لا يخلو من أن يكون المراد به ليثقوا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به من الفتح الكائن، فتعجل السرور به، ولا يحزنوا بما وقع عليهم من الصد عن البيت، أو يكون المراد به ليطيعوه بالدخول في الصلح الذي يأمرهم به، وإن كان شديدا عليهم أن يخلوا من أخراهم ويرجعوا وراءهم. فإن كان المراد هو الوجه الأول لزم أن تكون الثقة بصدقه لذي كل عزمة على طاعة بتنفيذها وفعلها، وكل عزمة على

معصية بتركها والإمساك عنها، زيادة إيمان. لأنها تصديق حادث في أمر حادث، إذ لا فرق بين أن يكونوا صدقوه في بدء الأمر جملة، ثم يعودوا فيصدقوه في نبأ من أنباء الغيب، ويثقوا بوعده فيه وبين أن يكونوا صدقوه في جملة ما جاء به من عند الله تعالى جميعه، ولم يصدقوه بفعل ما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه ثقة بموعوده من الجزاء عليه. وإن كان المراد هو الوجه الثاني، فقد بان أو صح بيان أن كل ما وقع بأمر الشرع طاعة له وتسليما فهو إيمان، والله التوفيق. ووجه آخر: وهو أن الله عز وجل قال: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان}، فقابل عز وجل بين ما حببه إلينا وبين ما كره إلينا، ثم أفرد الإيمان بالذكر فيما حبب، وقابله بالكفر والفسوق فيما كره، فدل ذلك على أن للإيمان ضدين، أو أن من الإيمان ما نقيضه الكفر، ومن الإيمان ما نقيضه الفسوق، وفي ذلك ما أبان أن الطاعات كلها إيمان، ولولا ذلك لم يكن الفسوق ترك إيمان، والله أعلم. ووجه: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، ولا يخلو أن يكون أراد بذلك: أن تعاطي هذه الفواحش ترفع الإيمان، وأما ما أراد من ذلك، فإن كنا لا نقول بالأول فقد ثبت أن التعفف عن الفواحش إيمان. فصل ذكر الأسئلة والاعتراضات: فإن قيل ما أنكرتم أن الأعمال كلها ما خلا الاعتقاد والإقرار ليست بإيمان، وبينها في كتابه فقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فثبت بذلك أن الأعمال ليست بإيمان.

فالجواب: أن الله عز وجل كما قال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، فلذلك قال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، ولم يدل ذلك على أن التواصي بالحق وبالصبر ليس من الأعمال الصالحة، فكذلك قوله عز وجل: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} لا يدلل على أن عمل الصالحات ليس بإيمان، وقد قال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا، آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل}، فأثبت لهم الإيمان مطلقا أولا، وناداهم باسمه ثم أمرهم بالإيمان بالرسل والكتب، ولم يدلل ذلك على أن الإيمان بالرسل والكتب ليس بالإيمان الذي لا تمام للإيمان بالله إلا به، فكذلك قوله عز وجل: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ لا يدل على أن عمل الصالحات ليس بالإيمان الذي لا كمال للاعتقاد والإقرار إلا به. وقد قال عز وجل: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال}. ولم بذلك فضله بينهما وبين الملائكة في الذكر، على أنهما ليسا بملكين، فكذلك لابد فضله عز وجل بين عمل الصالحات وبين الإيمان، على أن العمل الصالح ليس بإيمان، ثم المعنى في ذلك، والله أعلم، إن الذين آمنوا أقل الإيمان وهو الناقل عن الكفر والمخرج منه، ثم لم يقتصروا عليه، ولكنهم ضموا إليه الصالحات فعملوها، حتى ارتقى إيمانهم من درجة الأقل إلى الأكمل، كما يقال: أن من صلى وأطال القنوت والقراءة واستكثر من الذكر فله كذا، فيراد بمن يصلي: من حصل الأركان التي لا أقل منها، وبما وراء ذلك، من ضم إليها من نوافل الخير ما يقع منه مع غيره صلاة فيكثر ذلك الخير بها، ويفضل ويشرف. أو يقول: أن المراد بالذين آمنوا، الإيمان بالله وبعمل الصالحات، الإيمان لله، والإيمانان متغايران، فلذلك سميا باسمين ليدل بالتفريق بينهما، والاسم على تغايرهما. وقد مضى بيان هذا المعنى. فإن قيل: فإن الله عز وجل قد قال في أنه أجزى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}،

فدل ذلك على أن الأكساب الصالحة معترضة في الإيمان، لا أنها بنفسها إيمان. فالجواب: أنه لا يمتنع أن يقال لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، فيكون قد حاز أقل الإيمان إلى أفضله، إذ كسب الخير في الإيمان إيمان. كما لا يمنع أن يقال: لمن صلى إذا دخل الوقت، أو قرأ في صلاته فضل قراءة، أو سبح فيها أو كبر، فيكون المعنى- أو فعل ما ذكرنا- فيكون قد كسب لصلاته كمالا، إذ القراءة والتسبيح والتكبير في الصلاة صلاة. ويدل على أن كسب الخير في الإيمان إيمان، قول الله عز وجل في أجزائه الظهار الذي هو منكر من القول، وزور بعد إيجاب الكفارة: {ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله} وإنما أراد ذلك ليمتنعوا من الظهار، الذي هو منكر من القول وزور طاعة لله الذي حرمه عليكم، فسميت الطاعة لله بترك الظهار إيمانا، فثبت أن كل طاعة إيمان، وأن معنى الآيات المتقدمة ما وصفت والله أعلم. فإن قيل: روينا (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برز للناس يوما، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فبان بهذا الحديث: أن الإيمان غير الإسلام، وأن هذه الشرائع إن كانت إسلاما فالإسلام إيمان. قال الله عز وجل: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. فأخبر أنهم لا يؤمنون حتى يسلموا الأمر رسول الله، وإذا كان التسليم لأمر رسول الله، إنما كان التسليم لأمر الله إيمانا. والإسلام والتسليم كالتكريم والإكرام، والتعظيم والإعظام، والتكبير والإكبار، والطاعات كلها تسليم وإسلام لله عز وجل. فثبت أنها إيمان، ويدل على صحة هذا أن الله عز وجل قال: {إن الدين عند الله الإسلام}. وقال: {قولوا آمنا بالله}،

فصح أن قولنا: آمنا بالله، إسلام. وحكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قال له: {أسلم! قال: أسلمت لرب العالمين}، فبان أن الإسلام إيمان. وقال في آية أخرى من قصة لوط عليه السلام: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين}، فسماهم مرة مؤمنين ومرة مسلمين، وهو لا يريد لواحدة من التسميتين إلا تمييزهم من غيرهم بأديانهم. فصح أن الإسلام والإيمان إسمان لدين واحد، وإن كانت حقيقة الإسلام التسليم، وحقيقة الإيمان التصديق، وأن اختلاف الحقيقة فيهما لا يمنع أن يجعلا اسما لدين واحد، كالغيث والمطر هما اسمان لمسمى واحد، وإن كانت حقيقة الغيث في اللسان غير حقيقة المطر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء، أنا محمد وأحمد والماحي والحاشر، والعاقب"، ومعلوم أن لكل اسم من هذه الأسماء الخمسة معنى وحقيقة سوى الذي هو فيها لغيره. ثم لم يمنع ذلك من أن يكون اسما لمسمى واحد. فكذلك الإسلام والإيمان. ثم بين أن بين حقيقة اسم الإيمان وحقيقة اسم الإسلام من التناسب ما ليس بين حقائق هذه الأسامي التي وقع الاستشهاد بها، لأن الإيمان إذا كان هو التصديق بالله، والتصديق بالله يقتضي الإيمان له بالطاعة، وذاك هو الإسلام. والإسلام له لا يكون إلا مع التصديق. فأما التكذيب فإنه من موانع الإسلام دون حواليه. فصح أن الإسلام إيمان، والإيمان إسلام. فإن قيل: فإن كان هذا هكذا! فلم فصل في الحديث بين الإسلام والإيمان؟. قيل: وقد فصل بينهما وبين الإحسان. أفيدل ذلك على أن الإيمان والإسلام ليسا بإحسان؟ وقد قيل في أول درجات الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا. ليدل ذلك على أن إخلاص العبادة لله ومجانبة الشرك والرياء ليس بإيمان. فإن كان لا يدل على ذلك، فلذلك لا يدل على ذلك! كذلك لا يدل على أن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليسا بإيمان، وإنما فصل بينهما- والله أعلم- لأنه أريد بالحديث: الإيمان الناقل عن الكفر،

والإيمان التابع له. فسمي أسبق الإيمانين إيمانا بالإطلاق، أو أحدهما إسلاما. أو بقول فصل بين صريح التصديق وبين إماراته، فسمي صريحه إيمانا وسميت إماراته إسلاما. أو بقول فصل بين ما هو إيمان بالله، وما هو إيمان لله. فسمي الإيمان بالله إيمانا بالإطلاق، وسمي الإيمان لله إسلاما. وإلا فالإسمان موضوعان لدين واحد، والله أعلم. وجواب آخر: أن يقول: اختلفت الروايات في ذكر الإيمان والإسلام. فقيل في بعضها: (قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت. فقال: ما الإسلام؟ قال: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت والغسل من الجنابة). وهذا يومئ إلى أن يكون الإيمان هو الخصال الناقلة عن الكفر، والإسلام هو الطاعات التي تصح وراء الانتفاء عن الكفر، وهي شرائع الإيمان. وقيل في بعض الروايات: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، إلى آخره. قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر). وهذا يوجب أن يكون الإيمان هو الاعتقاد بالقلب، وأن يكون الإقرار مع سائر الطاعات من جملة الإسلام، ويكون الإسلام غير الإيمان. وهذا يلتحق بالمقالة التي بدأت بالكلام عليها، إلا أن فيه على أهل هذا القول- الذي نتكلم عليهم- حجة، وهي أنه لا خلاف بيننا وبينهم أن الشهادة إيمان كالاعتقاد، وقد سميت في هذا الحديث إسلاما، وألحقت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. فقد وجب بذلك أن يكون الإيمان والإسلام اسمين لدين واحد، وأن تكون الطاعات كلها إيمانا. غير أن الإيمان ما بطن والإسلام ما ظهر، ثم هما جميعا إيمان، لأنه لا صحة للباطن إلا بالظاهر، ولا بالظاهر إلا بالباطن. وهما جميعا إسلام، لأن كل واحد من تقويم الظاهر والباطن إذعان لله وخضوع، ولا يكون ذلك إلا مع التصديق. وبالله التوفيق. ويدل على صحة هذا خبر ثالث، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس:

(هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله! قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس). فسمى الشهادة وهذه الأعمال إيمانا، كما سماها في الرواية التي قبل هذه إسلاما فبان أن كل واحد من الاعتقاد والإقرار والطاعات كلها إيمان، وكل واحد منها إسلام. ثم جاءت رواية رابعة تؤكد هذا كله، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أهل الشام: (أسلم تسلم! قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله، ويسلم المسلمون من لسانك ويدك. قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان. وقال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت، قال: وأي الإيمان أفضل؟ قال: الهجرة. قال: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء. قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد. قال: وما الجهاد؟ قال: أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم لا تغل ولا تجبن)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعيه (هما من أفضل الأعمال: حجة مبرورة وعمرة). فأبان هذا الحديث أن الإسلام الذي أخبر الله عز وجل أنه هو الذي عنده بقوله: {إن الدين عند الله الإسلام}، وقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}. وقوله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا}، ينتظم الاعتقاد والأعمال الظاهرة. لأن قوله: (الإسلام أن تسلم قلبك لله) إشارة إلى تصحيح الاعتقاد. وقوله (ويسلم المؤمنون من لسانك ويدك) إشارة إلى تصحيح المعاملات الظاهرة. ثم صرح بذلك فأخبر أن الإيمان أفضل الإسلام، وفسره: بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث. أراد أن الإيمان بالغيب أفضل من الإيمان بما يشاهد ويرى. وهذا موافق لقول الله عز وجل: {الذين يؤمنون بالغيب} مدحا لهم وثناء عليهم.

ثم أبان الاعتقاد وعامة الأعمال إيمان، فقال: (أفضل الإيمان الهجرة) ثم فرع الهجرة، فدل ذلك على أن الطاعات كلها إيمان كما هي إسلام، وأن الإسلام الإذعان لله جل وعز، سواء وقع بأمر ظاهر أو بأمر باطن، بعد أن يكون الأمر مما رضي الله لعباده أن يتقربوا به إليه. ثم جاء نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون أي عرى الإيمان أوثق؟ قالوا: الصلاة! قال: إن الصلاة لحسنة، وما هي به. قالوا: الحج! قال: إن الحج لحسن، وما هو به، قالوا: الصيام! قال: إن الصيام لحسن، وما هو به. قالوا: الجهاد! قال: إن الجهاد لحسن، وما هو به. فلما رآهم يذكرون شرائع الإسلام ولا يصيبون، قال لهم: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) لا ينكر عليهم أن ما عددوا عرى الإيمان، ولكنه أخبر أن الأوثق الذي سألهم عنه غيرها. وزاد ذلك بيانا في حديث آخر فقال: (من أعطى لله، ومنه لله، وأنكح لله، ونكح لله، وأحب في الله وأبغض في الله، فقد استكمل الإيمان). فصرح بأن هذه الخصال إيمان. وأبان بأن أوثق عرى الإيمان الإخلاص. وجاء عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنه قال: (إن الإيمان بني على خمس: تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان)، كذلك حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء عن ابن عمر- رضي الله عنهما- في رواية أنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس ..) فذكر هذه الأعمال، فبان بذلك أن الإيمان والإسلام اسمان لدين واحد ينتظم أعمالا كثيرة، ويتصف أوصافا مختلفة، وأن واحدا من هذين الاسمين ليس لشيء منها دون شيء، والله أعلم. ثم الذي يشمل جميع ما ذكرنا وبينا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق). ومعلوم أن هذه

الشعب هي الأعمال والشرائع. وقد جاءت الأخبار بالنص عليها أو على أكثرها، ودل الكتاب عليها. فثبت أن اسم الإيمان شامل لها، وستذكر في بابها إن شاء الله تعالى. فإن قال قائل: لو كانت الطاعات كلها إيمانا أوجب أن يكون تركها كفرا، فإنكم شبهتم كل طاعة بالإقرار، وترك الإقرار كفر، فلذلك كان فعله إيمانا. وترك الصلاة ليس بكفر فصح أن فعلها ليس بإيمان. فالجواب- وبالله التوفيق- أن الطاعات كلها إيمان بشرط أن تكون موجودة في الإيمان، والطاعة في الإيمان، والطاعة في الإيمان إيمان، ومتى جعلنا فعل الطاعة بشرط التمسك بالإيمان المتقدم إيمانا، لم يلزمنا أن نجعل تركها وحدها كفرا. لأن تركها وحدها ليس بضد لمجموع الفعل وقرينه، فإن هو ترك الفعل وقرينه بأن جحد وجوبه أو جحد الأمر به أو المبلغ له لم ينكر أن يكون ذلك كفرا منه. فإن قيل: هذا جواب غير شديد لأن الإقرار إنما يصح إذا صادف الاعتقاد، ولا يدل ذلك على أن المتكلم بالكفر مع الاختيار لا ينفك عن الإيمان إلا مع تبديل الاعتقاد، ولكنه ينقله وإن كان الاعتقاد سليما بحاله، فقد كان ينبغي أن يقولوا: إن ترك الصلاة ينفك عن الإيمان وإن لم يكن معه تبديل الاعتقاد، إن كان فعلها إيمانا. فالجواب: أن التكلم بالكفر ينسخ الإقرار، فمن تكلم به ولم يبدل الاعتقاد كان كمن اعتقد في أول أمره ولم يعترف. وليس في مجرد ترك الصلاة فسخ إقرار ولا تبديل اعتقاد فافترقا. فإن قيل: الطاعة في الإيمان إن كانت تكون إيمانا، فذاك لا يمنع من أن يزول الإيمان بالمعصية، كما أن الركوع في عقد الصلاة يكون صلاة، ثم إن تركه في موضعه رفع عقد الصلاة. قيل: لا يشتبهان، لأن كل عمل من أعمال الصلاة تقتضي صحته إيصال ما بعده به، فإذا انفرد لم يكن بنفسه صلاة. وكل شعبة من شعب الإيمان عندي لا تقتضي صحتها اتصال أمثالها بها، لكن ما أتى به منها صحيح في نفسه وإن لم يلحق به غيره. فلهذا

لم يكن ترك الصلاة مثلا رافعا لعقد الإيمان، كما كان ترك الركوع مثلا في موضعه من الصلاة رافعا عقد الصلاة. وقد نجد أيام شهر رمضان مجتمعة فيما يجب من صيامها، ثم إن صيام كل يوم إذا لحق الشهر لمصادفته إياه ووقوعه فيه، والفطر فيه لا يوجب هتك حرمة الشهر أصلا حتى تفسد به صيام ما مضى قبله. فلا ينكر أن تكون كل طاعة إيمانا لوقوعها في الإيمان، والمعصية لا توجب حل رباط الإيمان أصلا حتى تحبط ما قدم منه والله أعلم. وجواب آخر: عن أصل السؤال وهو أن الأعمال تترك من الاعتقاد والإقرار منزلة الإمارات من البيان الصحيح الصريح، وقد تقدم هذا المعنى. فكما أن كافرا لو أسلم في وقت صلاة يصبح إسلامه بالاعتقاد والإقرار، ولم يتوقفا على أن يقيم الصلاة، لأن وقف البيان الصريح على وجود الإمارة لا معنى له، وإنما توقف الشيء على وجود شيء مثله أو ما هو أقول منه. فأما وقفه على إمارات نفسه فلا يجوز، وكذلك من وجبت عليه من المؤمنين طاعة فتركها لم يكفر، لأن ترك الطاعات تنزل من صريح الكفر منزلة الطاعة من صريح الإيمان في أنه إمارة من إمارات الكفر، فلا يجوز أن يستعمل الإمارة ويلغي ما قد حصل من صريح الإيمان. فقدم الإمارة على البيان كما لم يجز في الابتداء أن يتوقف عن الحكم بالإيمان بعد وجود الاعتقاد والإقرار انتظار الإمارات، والله أعلم. وجواب ثالث: وهو أن الإيمان ضربان: إيمان بالله ورسوله، وإيمان لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فالإيمان بالله ضده الكفر، لأن ضد التصديق بالله تعالى هو التكذيب به، وذلك كفر. وضد التصديق بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم التكذيب به، وذلك كفر. وإنما الإيمان لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فضده النفاق والخلاف والفسوق والعصيان، إذ الإيمان له هو الطاعة والاتباع، وليس ضد التكذيب الكفر، وقد قلنا بذلك وأثبتناه فلم يلزمنا أن نثبت وراءه ما ليس بضد لهذا الضرب من الإيمان، ولا مناقض إياه، والله أعلم. فإن قال قائل: فما أنكرت أن الأعمال ليس بإيمان، لأن فعل ما يجب منها لا ينفك عن كفره، وتركه لا يوقع في كفره. فالواجبات من هذا الوجه كالمباحات فلما لم يكن فعل المباح إيمانا، لم يكن فعل الواجب إيمانا.

فالجواب: أن فعل المباح إرادة لوجه الله إيمان، وذلك كالكسب الذي يراد به إعانة العاجز، والتسحر لصيام الغد، وإتيان الأهل من غير حاجة إليه نظرا لها، أو توقعا لولد يعبد الله ويوحده، وكالإفطار عند مجيء الليل تحررا من شبه الوصال. وليس شيء من الطاعات إلا ويراد به وجه الله تعالى، فإذا قلنا: إن المباح الذي يراد به وجه الله تعالى، ففعله إيمان. فقد سوينا بين الطاعات وبين ما يشبهها من المباحات، وسقط السؤال عنا لأنه لا يبقى وراء هذا الصنف من المباح إلا ما يراد به وجه الله، وليس ذلك لصفة الطاعات، فلا يلزمنا أن نسوي بينهما مع اختلافهما وتباينهما في المعنى والله أعلم. وجواب آخر: وهو أن هذا الإعتلال لا يقوم به حجة، لأن معنانا في أن كل طاعة إيمان، إن الإيمان هو التصديق، والطاعة تصديق بالأمر وآمره ووعده ووعيده فكانت إيمانا، فهذا ما لا يتهيأ جحده ولا نفيه بالمقايسات، لأن كل ما ينصب منها، لنفي أن تكون كل طاعة إيمانا، فإنما يرجع إلى نفي أن تكون كل طاعة تصديقا، وما كان تصديقا ضرورة، فنفي أن يكون تصديقا بالمقايسة لا معنى لها. وهو كمن ينفي أن يكون خبر يذكره خبرا بعلة يعتل فلا يقبل منه، لأنه إذا كان الخبر مما يدخله الصدق والكذب، وكان ما يذكره قولا يدخله الصدق والكذب، فقد وجب أن يكون خبرا، وكل علة نفى بها أن يكون خبرا فإنما ينفي أن يكون محتملا للصدق والكذب، وذلك وصف ثابت له ضرورة فلا يلتفت إلى نفيها بالمقايسة، فلذلك هذا الاعتلال، وبالله التوفيق. فصل إن قال قائل: أخبرنا عن قولكم: إن الطاعات من الإيمان، ما الذي تستفيدون به إذا ثبت لكم، وأنتم لا تقولون أن ترك العمل بالواجب كفر، ولا أن الفسوق خروج من الإيمان، وليس بدخول في الكفر، فما الذي يفيده ثبوت هذا الأصل على قولكم؟ وما الذي يجب به من الحكم عندكم؟ قيل: -وبالله التوفيق- أول ما في هذا أن كل أصل وقع البحث عن حقيقته، فإنما ذلك لإدراكه على ما هو عليه، لا لما يرى أنه يتوصل منه إليه. وقد أمرنا بالإيمان،

ووجدنا الإيمان شعبا منسوبة إليه، فلما نظرنا في أن تلك الشعب كلها إيمان، أو بعضها إيمان، وبعضها حقوق الإيمان من غير أن تكون إيمانا نفسها. تبين لنا بالدليل أن كلها إيمان، فوصفناها بذلك لنكون مخبرين عن الإيمان ما هو عليه، ومعتقدين إياه على وجهه وحقيقته ثم سواء استفدنا وراء ذلك فائدة أخرى أم لم نستفد، فقد أثرنا بالنظر اعتقاد الشيء على ما هو عليه، وحصلنا به على الغرض المطلوب، وبالله التوفيق. ثم أن هذا الأصل إذا ثبت تفرغ عنه أن الكفار مخاطبون بالشرائع كلها، ومخاطبون بالاعتقاد والإقرار. لأن الطاعات كلها إذا كانت إيمانا لم يجز أن يخاطبوا بشيء منها دون شيء مع اتساعهم لجميعها. ولا يخرج على قول من لا يثبت الطاعات كلها إيمانا، أن يكونوا مخاطبين بالأعمال إلا بعد أن يصح لهم الاعتقاد والإقرار، كما لا يطالب أحد بحق عقد من العقود- ما كان- إلا بعد أن يصح منه أصله، والله أعلم. وقد جاء في هذا الفصل خاصة أن رجلا قال: يا رسول الله! أيؤاخذ الله أحدا بما عمل في الجاهلية؟ فقال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية (ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر) وهذا على أن الطاعات في الإيمان إيمان، والمعاصي في الكفر كفر. فإذا أسلم الكافر أحبط إسلامه كفره، فإن أحسن في الإسلام أحبطت طاعاته تلك المعاصي التي قدمها في حال كفره، وإن لم يحسن في الإسلام بقيت تلك المعاصي بحالها إذا لم يجد ما يحبطها، فأخذ بإساءته في الإسلام وفيما قبله. ومما يؤكد هذا أن المعاصي قد توجد من المسلم في إسلامه فلم يزل أني يحبط ما وجد منها في الكفر بالإسلام الحادث. وبان بهذا أن قول الله عز وجل {قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} معناه يغفر لهم كفرهم فيما خلا من أعمارهم، فإن كان عاما للكفر والذنوب فهو مغفور بشرط الانتهاء. وفي ذلك بيان أنهم إن لم ينتهوا عن المعاصي التي كانوا عليها لم يغفر لهم، كما أنهم ما لم ينتهوا عن الكفر لم يغفر لهم.

فإن قيل: فالزموهم قضاء ما سلف من صلاة أو صوم! قيل: لا يلزمنا هذا، لأنهم إن صلوا وصاموا بعدما أسلموا، سقط عنهم ما تركوا في الكفر بدلالة الحديث، وإن لم يصلوا أو لم يصوموا، أمروا بالصلاة والصيام، وحملهم على ذلك حملهم على ما إذا فعلوه سقط ما مضى عنهم، فلم يلزمنا أن نأمرهم بتجديد القضاء لما تركوا. فإن قيل: فما بال المسلم التارك للصلوات، إذا بات واستقبل فأقام الصلاة لا يسقط ذلك عنه ما مضى منها. قيل: لأن ترك المسلم الصلاة لا يستند إلى أصل معفو عنه، فكان شرط يؤتيه قضاء ما ترك منها، وترك الكافر الصلاة مستند بعد الإسلام إلى أصل قد عفي عنه وهو الكفر. ثم أن ذلك العفو عن ماضيه غنما وقع لا بتدارك- كان له من الأصل إذ ذاك- غير ممكن، لكن باستقبال خلافها والله أعلم. ومما يتفرع عن هذا الأصل أن الفاسق ينبغي أن يكون مردودا لشهادة غير معتمد القضاء بين الناس، ولا لولاية التزويج ولا لولاية أموال الغير، لأنه ناقص الدين، ونقصان الدين يحول عن الترقي إلى مراتب أهل الفضل والكمال في الدين. فإن قضى قاض لم يجز قضاؤه، كما لو أفضى شهادة كافر لم ينعقد قضاؤه ومن لم ينسبه إلى نقصان الدين ردت شهادته للتهمة، فأداه ذلك إلى أن يقول أن الحاكم أن ظن به خيرا أو قبل شهادته كان قضاؤه جائزا، لأن الأصل أنه بريء من الكذب غير مفارق له حتى يثبت خلافه، وأجاز الوصاية إليه، وأثبت له الولاية على أطفاله، ونحن لا نقول ذلك والله أعلم. ومما يتفرع عن هذا الأصل، أن الأعمال إذا كانت إيمانا كان بكاملها تكامل الإيمان، وتناقصها تناقص الإيمان. وكان المؤمنون متفاضلين في إيمانهم، كما هم متفاضلون في أعمالهم. وحرم أن يقول قائل: (إيماني وإيمان الملائكة والنبيين واحد) لأن الطاعات كلها إذا كانت إيمانا! فمن أكثر طاعة كان أكثر إيمانا، ومن كان أفضل طاعة كان أفضل إيمانا، ومن خلط الطاعات بالمعاصي كان أنقص إيمانا ممن أخلص الطاعات، والله أعلم. ويتبع هذا الأصل أن المعاصي إذا كانت تنقص الإيمان جاز أن يكون فيها ما يوجب

القتل، لأن الإيمان هو العاصم للنفس فلا يجوز أن تزول العصمة وهو باق بحاله. وعلى كماله الذي كان له حين أوجب العصمة. وفي هذا ما أبان أن قتل القاتل والزاني المحصن وتارك الصلاة لا يخرج إلا على أن تكون هذه الجنايات مؤثرة في سبب العصمة، ناقصة من درجاته، مخففة لوزنه. ولولا ذلك لما جاز أن يستحل بها الدم. فإن قيل: فيقولوا أن كل معصية فهي تبيح الدم! قيل: لا يلزمنا أن نقول ذلك، لأن سبب العصمة إذا كان إيمانا لا ثلمة فيه. فحديث فيه ثلمة احتمل أن يقال: أن العصمة تزول، واحتمل أن يفصل الثلم ويقال فيها عظم منها أنها تزيل العصمة، وفيما صغر منها أنها لا تزيلها. كما يقال: إن العمل الكثير الذي ليس من جنس الصلاة يفسد الصلاة، والعمل القليل لا يفسدها. وقد قالوا: إذا زاد في صلاته أقل من ركعة لم يفسدها، وإن زاد فيها ركعة أفسدها. وأما الصوم فإن قليل الأكل فيه والشرب وكثيره سواء. ولكن مهما كان سبب العصمة في الأصل إيمانا لا ثلمة فيه لم يجز أن يكون هذا السبب قائما بكماله والعصمة زائلة. فبان بهذا أن قيل: أحد من المسلمين عمل معصية تكون منه، لا تخرج إلا على أن تكون الطاعات إيمانا، والمعاصي ثلما في الإيمان، والله أعلم. ***

القسم الثاني: باب القول في زيادة الإيمان ونقصانه

القسم الثاني باب القول في زيادة الإيمان ونقصانه قال الله عز وجل: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}. وقال: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا}، وفال: {وإذا ما انزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا}. وقال: {والذين اهتدوا زادهم هدى}. فثبت بهذه الآيات أن الإيمان قابل للزيادة. فإن قال قائل: ما أنكرتم أن زيادة الإيمان زيادة العلم والمعرفة، فإن للعلم منازل. أولها غالب الظن ثم اليقين ثم الضرورة. فالجواب: أن يقال له: أخبرنا عن اليقين الواقع للمؤمن، أهو إيمان؟ فإذا قال: نعم! قيل له: فزيادة اليقين الواقعة له إيمان. فإن قال: لا! قل له: فكيف يزداد الأيمان بما ليس بإيمان؟ وإن قال: هي إيمان! قيل: فقد زاد الإيمان بكل حال، ووجب إذا كان الناس متفاضلين في يقينهم، فكان منهم من هو كالمضطر إلى العلم في أنه لا يتهيأ تشكيله في الدين بشدة سكون قلبه إلى معتقدة، ومنهم من يكون دونه حتى لا يؤمن عليه التشكيل إن دخلت عليه شبهة، وجب أن يكونوا متفاضلين في إيمانهم وبطل أن يكونوا في الأيمان سواء، فضلا في أن يكونوا والملائكة والنبيين- صلوات الله عليهم- وغيرهم فيه سواء. ويقال: أرأيت زيادة اليقين؟ هل يقع إلا عن دلالة تقوم وتظهر فيسلم لها ويوثق بمدلولها؟ فإذا قال: بلى! قيل له: فالاستسلام لها والتصديق بمدلولها طاعة زائدة بعد حصول حقيقة الإيمان، فما جاز أن يزيد الإيمان بها. فما أنكرت أنه يزيد بكل طاعة؟

فإن قال: إنما زاد الإيمان بقبول الدلالة الزائدة في اليقين لأن قيامها إنما كان على نفس ما سبق اعتقاده من الإيمان، فكان قبولها قبول الإيمان، وليس كذلك الصلاة مثلا وإن كانت طاعة. ولا الصيام، ولا الصدقة، لأنه غير الإيمان الذي تقدم اعتقاده، والإقرار به. قيل له: إن الدلالة الثانية، إن كانت قائمة على نفس المعتقد الأول، فليس المعتقد هو الإيمان. إنما الاعتقاد الذي هو فعل العبد، هو الإيمان. فأما المعتقد لثبوت البارئ من أنه البارئ، ووحدانيته، ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فذاك مؤمن به وهو نفسه موجود ثابت صدق به أو كذب. فإذا كان كذلك، فالدلالة الثانية إذا أدت من قامت له إلى الاعتقاد مثل الأول- حتى لو لم يكن الأول لكان بالثاني مؤمنا، فازداد بالمعتقد بصيرة وسكون قلب إليه وثقة به- كان إيمانه زائدا بزيادة اعتقاد حادث. وذلك الاعتقاد ليس إلا التصديق. فكذلك إذا صلى بعد إيمانه أو صام فقد زاد تصديقا لأن من لا يصدق بالله لا يصوم ولا يصلي "كما أن من لا يصدق بالله لا يشهد له بالوجود والوحدانية والخلق والأمر، فقد صار اتباع الصلاة والصيام الإيمان كاتباع الاعتقاد الاعتقاد. فإذا كان كذلك زيادة إيمان وجب أن تكون الصلاة زيادة إيمان. وقال قائل: معنى زيادة الإيمان المذكورة في هذه الآيات إعادة لفظ الإيمان وتكرره، ويسمى الازدياد من ألفاظ الإيمان ازدياد مجازا، ويدل على ذلك أنه لم يقل ليزيد إيمانهم وإنما قال: {ليزدادوا إيمانا} ليستكثروا منه بأن يعيدوه ويكبروه. فالجواب: بأنه لا فرق بين قول القائل: ازددت إيمانا وبين قوله: زاد إيماني، كما لا فرق بين قوله: ازددت مالا، وبين قوله: زاد مالي، ولا بين قوله، ازددت أولادا، وبين قوله: زاد أولادي، فإذا كان كذلك، لم يحصل هذا السائل من فرقة بين العبادتين على عوض صحيح. ثم الذي قال حجة عليه، لأنا نسأله عن تكرير الإيمان: إيمان هو أم لا؟. فإن قال: ليس بإيمان! قيل له: فكيف يزداد المكرر إيمانا بأن تلفظ بما ليس بإيمان! أرأيت لو روى خبر أو أنشد شعر أكان يكون مرداد إيمان، فكيف صار يتكرر لفظ الإيمان مردادا إيمان، إن لم يكن ما لفظ به إيمانا؟.

فإن قال: هو إيمان. قيل له: أرأيت لو حكاه عن غيره، أو قرأه من كتاب يريد أن يبثه لغيره، كان يكون مرداد إيمان. فإذا قال: لا! قيل له: فهلا علمت أنه أراد التقرب بتكريره، إنه إنما كان ذلك إيمانا منه، يكون به مرداد إيمان، لأنه قربة منه وبر، وكل بر وقربة فواجب أن يكون إيمانا، وفاعله مردادا من إيمان، ومما يدل على أن الإيمان قابل للزيادة، إجماعهم على أن المولود من المسلمين مؤمن، فإذا بلغ عاقلا فأحدث اعتقادا وإقرار كانا منه إيمانا، وهذا زيادة إيمان كانت منه. فثبت أن المؤمن قد يؤمن فيزداد إيمانه المتقدم بانضمام المتأخر إليه. فإن قال: إنما كان هذا إيمانا منه لأنه لو لم يفعله لكان كافرا. وهل في سائر الطاعات مفقود، قيل: ليس كذلك! لأنه لو بلغ ولم يخطر بقلبه أنه يحتاج إلى تحديد الإيمان، أو كان بلوغه الستين فلم يعلم أنه قد بلغ، فأحدث اعتقادا للحق، ويشهد به للعادة لكان ذلك منه إيمانا، ولو لم يوجد ذلك منه ما كان كافرا، إنما يكفر إذا أبى وامتنع بعد البلوغ. فأما إذا كان تركه تحديد الاعتقاد والشهادة، لأن ذلك لم يخطر بقلبه، وكان ذاهلا عنه، أو لأنه لم يعلم أنه قد بلغ فليس ذلك بكفر، ومع هذا لو شهد لكان مؤمنا، فعلمنا أن ذلك لم يكف إيمانا لأن تركه كفر، ولكن لأنه طاعة في نفسه، فوجب أن تكون كل طاعة إيمانا. وهكذا الأخرس من علة يؤمن باعتقاده وإشارته، فيكون مؤمنا فإذا برأ وزال عنه العلة وجب أن يتشهد فكان تشهده إيمانا على إيمان. وإذا ثبت ما قلناه، فقد ظهر إن المؤمن قد يؤمن فيكون بإيمانه الثاني مردادا من الإيمان، والله أعلم. دليل آخر: وهو إجماعهم أن الناس لما آمنوا بالله تعالى وبالنبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين. فلما جاءهم بالصلاة فقبلوها كان ذلك إيمانا منهم، فلما جاءهم بالزكاة فقبلوها كان ذلك إيمانا منهم. وكلما جاءهم بطاعة فقبلوها كان ذلك إيمانا منهم، وهم في كل ذلك من قبله مؤمنون. فصح أن المؤمن قد يؤمن فيزداد ما تقدم من إيمانه بما تأخر. فإن أعادوا سؤالهم وقالوا: إنما كان يكون قولهم كل ما جاء به إيمانا، لأنهم لو امتنعوا كانوا كفارا، ولسنا ننكر أن ما كان تركه كفرا كان فعله إيمانا، وإنما نخالفكم فيما لا يكون تركه كفرا.

قيل لهم: إن قبولهم الشيء بعد الشيء، مما كان يشرع لهم إذا كان لا يحتاج إليه لرفع كفر واقع موجود، وإنما يخشى أن يعودوا كفارا إن لم يقتلوا، فهم فيما بين حدوث العلم لهم بما قد شرع وبين قبوله، وفي حال القبول مؤمنون ثم القبول زيادة إيمان منهم. فثبت بهذا جواز أن يكون للإيمان امداد إذا تلاحقت زاد الإيمان بها. وعلى أنهم إنما احتاجوا إلى القبول لئلا يكفروا بالرد، كان القبول منهم طاعة، كما لو ردوا فكفروا كان ذلك منهم معصية، فبأن أن قبولهم إنما كان إيمانا لأنه كان طاعة، فوجب أن تكون كل طاعة في إيمان إيمان. وجواب آخر: وهو أن قبول ما يتجدد شرعه في زمان الشرع إذا كان إيمانا، لأن تركه كفر ورفع لما تقدم من عقد الإيمان بالقلب واللسان, فوجب أن يكون التعفف عن كل كبيرة وتركها لوجه الله تعالى إيمانا، لأن تركه إلى خلافه جرح للإيمان. والجرح في مناقضه المجروح كالفسخ في مناقضة المفسوخ. ألا ترى أن محظورات الإحرام كلها مضادة للإحرام، وإن كان أحدهما مختصا بالإفساد لأنها إن كانت لا تفسده فلا يخلو من أن يجرحه. والجرح كالإفساد وإن اختلفا في أن الإفساد يرفع الإحرام كله، والجرح ينقضه ولا ينقضه فكان يرفع بعضه. فلذلك كل ما يجرح الإيمان فهو في مناقضه كالمفسد له. فإذا كان القبول لما تجدد شرعه إيمانا لأن خلافه رافع للإيمان، وجب أن تكون الصلاة في وقتها إيمانا، لأن تركها، حتى يخرج وقتها من غير عذر، خارج للإيمان. ألا ترى أن الإمساك في الإحرام إذا كان إحراما لأن الإقدام عليها رافع له كان الإمساك عن الحلق، وقيل الصيد وتقليم الظفر إحراما، لأن الإقدام عليها خارج للإحرام. والله أعلم. فإن قيل: ومن سلم لكم أن ترك الفرض جارح للإيمان! قيل: أجمعت الأمة على تسمية الفسق جرحا. ومعلوم أن ذلك ليس جرحا لبدنه، إنما هو جرح لدينه. فإن قيل: أرادوا بذلك جرح عرضه. قيل: وليس تحت جرح العرض إلا لصاق شين وسبة به، ولو لم يكن ما ينسب إليه من الفسق ناقصا من دينه شيئا لم يكن شيئاً ولا

سبه، فصح أن عرضه إنما يصير مجروحا بالفسق لئلا يلتصق عن ذلك به من نقصان الدين والله أعلم. وجواب آخر: وهو أن يقال لمن سأل هذا السؤال: أخبرنا عن اليهودي المشبه الذي يزعم أن عزيرا ابن الله، والنصراني الذي زعم أن المسيح ابن الله. إذا قال اليهودي لم يكن المسيح نبيا، أيكون هذا كفرا منه. أو النصراني إذا قال مثل ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم، أيكون كفرا منه؟ فإذا قال: نعم! قيل له: أرأيت لو قال اليهودي: كان المسيح ومحمد نبيين، ولكنه لم ينزع عن قوله عزير ابن الله، أو قال النصراني: محمد رسول الله ولم ينزع عن قوله "المسيح ابن الله" أيكونان مؤمنين؟ فإذا قال: لا! قيل له: فإذا جاز أن يكون كل واحد منهما مردادا من الكفر بشيء، لو تركاه لم يكن تركهما له إيمانا. فلم لا أجزت أن يكون المؤمن مردادا من الإيمان بشيء، لو تركه كفرا! وما الفرق؟ وجواب آخر وهو أن الرفض والنفل مجتمعان، في أن فعلهما طاعة وبر، ثم يختلفان، فيكون ترك الفرض معصية، ولا يكون تركا لنفل معصية، ولا يستدل بافتراقهما في ذلك على افتراقهما في أن يكون فعلوا طاعة فلذلك قبول الفرض بعد الفرض عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل الفرض بعد الفرض يجتمعان في أن يكونا إيمانا، ويفترقان في أن يكون ترك القبول كفرا، ولا يكون ترك الفعل كفرا. ولا يجب على افتراقهما في ذلك، افتراقهما في أن يكون فعلهما جميعا إيمانا. وجواب آخر: وهو أن مفارقة الفعل القبول، في أن ترك القبول كفر، وترك الفعل ليس بكفر، لا يوجب الفرق بينهما في أن يكون كل واحد منهما إيمانا. فإن الله عز وجل قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} فألزم الصحيح المقيم أن يصوم، وألزم وجعل للمريض والمسافر أن يصوم مكان الشهر عدة من أيام أخر. فالصحيح المقيم إن لم يصم عصى وفسق، والمريض والمسافر إذا لم يصم، لم يعص ولم يفسق ولم يمنع افتراقهما- من هذا الوجه- أن يتفقا في أن كل واحد منهما إذا

صام كان بارا مطيعا مؤديا فريضة الشهر. ولم يجز أن يقال: إن الصحيح المقيم إذا صام مطيع، لأنه لو لم يصم كان عاصيا. والمريض والمسافر إذا صاما فليسا بمطيعين، لأنهما لو لم يصوما لم يكونا عاصيين. فكذلك القابل للفرض والفاعل له، مطيعان مؤمنان، هذا بقبوله وذاك بفعله، ولو كان القابل لو لم يقبل "لم" يكفر، والفاعل لو لم يفعل لم يكفر. فإن قيل: المريض إنما لم يعص بالفطر لأنه خير بين الصوم وبين الفطر. قيل: أليس التخيير غير حكم فطره ولم يغير حكم صومه، فلا تنكروا أن الدليل قد غير حكم ترك الطاعات ومنع من أن يكون ذلك كفرا، ولا يغير حكم فعلها، ولا يمنع من أن يكون إيمانا، وبالله التوفيق. فإن قال قائل: القبول لكل ما تجدد شرطه بمنزلة عادة الإيمان المتقدم، لأن الإيمان المتقدم اشتمل على القبول لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فسواء كان قد جاء بما بعث بع جملة، أو جاء به شيئا فشيئا. فالجواب: أنه لو كان إعادة بالتقدم لم يحتج إليه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بعث معاذ إلى اليمن قيل له: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإني رسول الله، فإن هم أجابوك إلى ذلك، فأعلمهم أن عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم)، فلو كان الاعتراف بالله ورسوله قبولا لكل ما يؤديه الرسول عن الله تعالى. قال لهم: فإن هم أجابوك إلى رسول الله فأعملهم أن عليهم الصلاة والزكاة. ولما لم يقل ذلك بل علق كل أمر من ذلك بإجابة إليه جديدة، صح أن التصديق المتقدم على سبيل الأعمال لا يعني عن القبول عند التفصيل. وأكد هذا وأوضحه أن قبول الفرض إنما يجب ويصح بعد الفرض ويستحيل أن يقع القبول لما لم يفرض. فثبت بهذا أن القابل للفرض عند الدخول في الإيمان، ليس قبول ما لم يفرض، لكنه التزام لقبوا ما يعرض، فإذا وقع الفرض وجب القبول والوفاء بما تقدم من التزامه، لا أنه يقع ملتزما مقبولا، ألا ترى أن الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام، وسمعوا منهما البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتزموا الإيمان به أن لحقوا أيامه وأدركوا بعثه، فلو بعث

وهم أو بعضهم أحياء، لم يكونوا بمجرد تصديقهم المبشرين به بعينه، حتى يحدثوا إيمانا به وتصديقا له. فكذلك المصدق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن التزم قبول ما يأتي به فذلك لا يجعله عندما يأتي به قابلا له ملتزما إياه. حتى يحدث له قبولا. فثبت أنه إذا قبل، كان ذلك القبول منه إيمانا حادثا وراء ما قدم من الإيمان، وانضمام الإيمان إلى الإيمان، فوجب ازدياد السابق باللاحق. فصح أن الإيمان قابل للزيادة، والله أعلم. ودل الكتاب على ما وصفت "قال الله عز وجل: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقال {والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا}. فبأن أن رشح الصدر بالحكم الحادث والتسليم له محتاج إليه، وإن كان التزام الإيمان بكل من يبعثه الله تعالى وبرسله قد تقدم، والله أعلم. وأيضا فإنه إذا ثبت إحداث القبول لما يحدث فرضه إيمانا، وكان القبول في هذا الوقت تنفيذ الملتزم منه الفرض، وجب أن يكون تنفيذ كل ملتزم إيمانا مثله، إذ لا فرق بين التزام قبول الصلاة إن شرعت، ثم قبولها عندما تشرع، وبين قولها إذا شرعت ثم فعلها إذا دخل وقتها، والله أعلم. ومما يدل على زيادة الإيمان ونقصانه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا). فدل هذا القول على أن حسن الخلق إيمان، وأن عدمه نقصان إيمان، وإن المؤمنين متفاوتون في إيمانهم. فبعضهم أكمل إيمانا من بعض. فإن قال قائل: هذا من أخبار الآحاد، وكتاب الله عز وجل أولى منه، والله عز وجل يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} وليس بعد الكمال شيء! فثبت أن دين الله تعالى محدود ولا يحتمل زيادة عليه، ولا نقصاناً منه.

فالجواب: أن معنى قول الله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم} أي أكملت لكم وضعه، فلا أفرض عليكم من بعد، ما لم أفرضه إلى اليوم. ولا أضع عنكم بعد اليوم ما قد فرضته قبل اليوم، ولا تغليظ من الآن ولا تخفيف، ولا نسخ ولا تبديل. وليس معناه أنه أكمل لنا ديننا من قبل العلم لنا، لأن ذلك لو كان كذلك لسقط عن المخاطبين بالآية الدوام على الإيمان. لأن الدين قد كمل وليس بعد الكمال شيء وإذا كان الدوام على الإيمان مستقبلا وهو إيمان، فكذلك الطاعات الباقية التي تجب شيئا فشيئا كلها إيمان. والكمال راجع إلى كمال الشرع والوضع لا إلى كمال أداء المؤدين له وقيام القائمين به والله أعلم. ثم إن في الجواب ما يشتق منه العلم بزيادة الإيمان، لأن الإيمان فرض دائم. ولكنه لما لم يكن في الوضع استدامة عقده بالقلب والإعراب عنه باللسان، جعل ما يقع من ذلك على الصحو كالمكرر على الدوام في كل وقت ما لم يتعقب بالنقص والإفساد. وإذا كان الدوام على الإيمان بمعنى التحديد في كل زمان، صح أن للمؤمنين في كل وقت إيمانا وذلك يوجب أن يكون كل متقدم منه مردادا بما يحث بعده، كما أنه إذا كانت في كل وقت صلاة، وجب أن يكون ما تقدم من صلاته مردادا بما يعقبها والله أعلم. وإن قال قائل: الزيادة على الإيمان لا تتحقق إلا وراء الإيمان، كما أن الزيادة على المكتوبات الخمس لا تكون إلا خارجة منها؛ والزيادة على الصيام لا تكون إلا وراء إيمانه والزيادة على الدين لا تكون إلا بعد إيفائه بتمامه فكذلك الزيادة على الإيمان، إن كانت فينبغي أن تكون بعد إيفاء الإيمان بتمامه وانتهائه إلى غايته، ثم الزيادة عليه. وإذا كان من قولكم أن إيمان المؤمن إنما ينتهي بتناهي عمره! فأنى يتوهم الزيادة عليه؟ فالجواب: أن الزيادة على الصلوات الخمس كما لا تكون إلا خارجة منها، والزيادة على الصيام المفروض لا تكون إلا خارجة منها، فكذلك الزيادة على الإيمان الذي هو بضع وسبعون شعبة، لو كانت، لم تكن إلا خارجة منها. ولكن الإيمان الذي يتشعب هذه (الشعب)، ينبغي أن تكون كل شعبة منها إيمانا. كما أن فرض الصلاة إذا انقسمت إلى خمس صلوات في خمسة أوقات، ثم انقسمت كل صلاة منها إلى ركعات، وجب أن تكون كل شعبة من هذه الشعب صلاة. وكما أن فرض الصيام إذا انقسم إلى أيام الشهر، كان صوم كل يوم صوما بالحقيقة وركنا.

كما أن الزيادة على الدين، وإن لم تكن إلا وراء الدين، فإن كل جزء من أجزاء الدين دين. فلذلك لما ثبت بالحديث: (إن الإيمان بضع وسبعون شعبة) وجب أن تكون كل شعبة منها إيمانا. وإذا وجب ذلك لزم أن تكون كل شعبة مما تقدمت تزداد بما يتبعها من شعبة مثلها. فيكون الآتي بجميع هذه الشعب كامل الإيمان، والآتي ببعضها ناقص الإيمان والله أعلم. فإن قال قائل: لو كانت هذه الشعب كلها إيمانا لاستحال أن يكون من يعرفها مؤمنا! فالجواب: إن هذه دعوى لا برهان عليها لأنه لا خلاف في أن الإيمان بأنبياء الله يصح على غير معرفة بعددهم وصفاتهم وأسمائهم. فكذلك الإيمان بكتب الله تعالى يصح من غير علم بما فيها، وقبول ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم يصح من غير علم بأركانها وشروطها. فكذلك الإيمان ممن لا يعلم في الحال شعبه وأبوابه والله أعلم. ومما يدل على أن الإيمان يزيد وينقص قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء (أنكن ناقصات عقل ودين، قفلن يا رسول الله: ما نقصان عقلنا وديننا؟ قال: أما نقصان دينكن، فهو أن الواحدة منكن تجلس نصف دهرها لا تصلي. وأما نقصان عقلكن فهو أن شهادة اثنتين منكن عدلت شهادة واحد). فإذا كانت المرأة لنقصان صلاتها عن صلاة الرجال تكون أنقص دينا منهم، مع أنها غير جانية بترك ما تترك من الصلاة، أفلا يكون الجاني بترك الصلوات انقص دينا من المقيم بها المواظب؟؟ وفي هذا ما أبان خطأ من يقول (إيماني وإيمان الملائكة واحد) مع أخبار الله عز وجل بأنهم {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}. ومعنى التسابيح الصلاة لقوله عز وجل: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه ليوم يبعثون}. وبقوله {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها}. وكقوله عز وجل: {سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون}.

فإذا كانت المرأة من أجل أنها انقص صلوات من الرجل انقص دينا منه، فينبغي أن يكون البشر الذيم يصلون كل يوم وليلة خمس صلوات انقص دينا من الملائكة الذين يصلون الليل والنهار لا يفترون. ثم وجب أن المستويين في مقدار الصلاة إذا كان أحدهما أكمل صلاة كان أكمل إيمانا. والملائكة أكمل صلاة من البشر لأن صلاتهم تخلص عن الإنكار التي لا يليق بها فربما أنسيت مرضا أو حدثت سهوا، وصلاة البشر لا تحلو من أمثالها فصح أنهم أكمل صلوات من البشر، فوجب أن يكونوا أكمل إيمانا. ودليل آخر: وهو أن المعطل وإن كان كافرا بتعطيله، فإن نصرته للتعطيل ودعوته إليه وذبه عنه كفر، والمشبه وإن كان كافرا فإنه كلما أحدث تشبيها كان قد أحدث كفرت مثبت أن المسلم كلما وحد الله وذكره واثنى عليه وقدسه وسبحه كان بذلك المستحدث إيمانا، قياسا على التعطيل إذا كان في أصله كفرا كان الإثبات في أصله إيمانا، وإذا كان التشبه والتشبيه كفرا، كان التوحيد والتقديس إيمانا. وفي هذا ما أبان أن الزيادة في التوحيد والذكر زيادة إيمان. والله أعلم. فصل وإذا صبت أن الإيمان يزيد وينقص، فتبين أنه كيف يزيد وكيف ينقص وبالله التوفيق أن الإيمان ينقسم إلى أصل وفرع، فأصله: الاعتقاد والإقرار. والفروع هي الطاعات كلها. وإنما كانت إيمانا لأن الإيمان هو التصديق. والتصديق الواقع بالقلب واللسان هو الذي يحرك على سائر الطاعات ويدعو إليها. وإنما يقع من المؤمن قصدا إلى تحقيق القول بالفعل وتسوية الظاهر بالباطن، ولأن الطاعة لا تكون إلا لأمر، كما أن الاعتراف لا يكون إلا لذي حق واجب. فلما كان الاعتراف إيمانا لما فيه من إشارة التعرف له والتصديق به، وجب أن تكون الطاعات لأوامره إيمانا له فيها من إثباته والتصديق به. وإنما قصد بالطاعة المبايعة للاعتراف، فجعلها فروعا. إن الاعتقاد والاعتراف باللسان يصح وجودهما في أنفسهما عاريين وراءهما، فإذا وجدا بعثا وحركا على غيرهما من العبادات، ولا يكون وجود الصلاة مثلا أو الصيام أو

الحج من أحد مع جحد الباري جل ثناؤه، أو جحد الرسول الجائي لهذه الفرائض، حتى إذا وجدت حركت وبعثت بعد الاعتقاد والاعتراف. فعلمنا أن الاعتقاد والاعتراف هما الأصل إذ كانا يصحان بأنفسهما. ثم لا يصح أن يقال هذا لأن الموجود من المقر هو المعتقد، وإذا صحا استتبعا غيرهما وإن نما وراءهما. وفروع إذا كانت تحتاج إلى معنى آخر يثبت قبلها ويستتبعها، ولم يجب عليها أن يصح بأنفسها ثم تستتبع غيرها، والله أعلم. فإن قيل: فالاعتقاد هو المحرك على الإقرار. فقل: إن الإقرار فرع وليس بأصل. قيل: لا يصح أن يقال هذا لأن الموجود من المقر هو المعتقد والموجود من المعتقد هو المقر به، وهما جميعا التوحيد الصريح. لأن الإقرار توحيد صريح، فلما كان أحدهما هو الآخر وإنما يختلفان في الآلة لا في أنفسهما، لأن أحد الفعلين باللسان والآخر بالقلب، لم يجز أن ينقسما إلى أصل وفرع. لأن الانقسام إنما يليق بعملين، وقد بينا أن الاعتقاد والإقرار عمل واحد. وأما سائر الطاعات فاتباع لهذين لأنهما اللذان يحركان عليها ويدعوان إليها كما تقدم وصفها، فلاق لها أن تكون فروعا لهما والله أعلم. وإذا ثبت أن الطاعات إيمان، فإن أصل الإيمان إذا حصل إثم تبعته طاعة زاد الإيمان المتقدم بها، لأنه إيمان انضم إليه إيمان كما يقتضيه، ثم إذا تبعت تلك الطاعة طاعة أخرى ازداد الأصل المتقدم بها لأنه إيمان انضم إليه إيمان والطاعة التي تلته بها، لأن الأصل كان يقتضي هذه من طريق أنه كان تحرك عليها لما فيها من تحقيق القول بالعمل، وتعديل الباطن بالظاهر والطاعة بالأولى كانت تقضيها أيضا لاشتراكهما في أمر الآمر بهما، فلا جائز أن يفرق بينهما في الفعل بعدما جمعهما الأمر الذي لأجله كان ما وجد منهما، ثم على هذا إلى أن نكمل شعب الإيمان هذه إحدى العلتين، والعلة الأخرى أن الطاعات لما كانت لا تكون إلا لأمر كانت إذا وجدت إثباتا له وتصديقا به كالإقرار. فإذا كان الإيمان هو التصديق فكلما انضم تصديق إلى تصديق فواجب أن يزداد الأول بالثاني ويتكثر به، فيقال زاد الإيمان، والله أعلم. وأما نقصان الإيمان فقد اختلف فيه، فقيل أن الإيمان يزيد ولا ينقص، وقيل: بل ينقص كما يزيد! ومن قال هذا فللنقصان عنده تأويلان: أحدهما: أن نقصان

الإيمان انفراد أصله عن فروعه، أو انفراد أصله وبعض فروعه عما نفي منها مما اشتمل عليه الخطاب والتكليف. لأن النقصان خلاف الزيادة، فكلما وصفت به الزيادة وجدت، وجب أن يكون خلافه هو النقصان. فإذا قيل لمن آمن وصلى زاد إيمانه، وجب أن يقال لمن آمن ووجبت عليه الصلاة فلم يصل أنه ناقص الإيمان!. وإذا قلنا لمن آمن ووجبت عليه الصلاة فصلى، ولما وجبت عليه الزكاة منعها، أنه ناقص الإيمان! فمعنى ذلك أنه عدم منه فعل مأمور به، ولو وجد منه كان إيمانا في نفسه وزاد به متقدم إيمانه. فلما لم يكن أوجب ذلك انفراد إيمانه المتقدم عما كان من مقتضاه ومعناه في الحقيقة معناه كان ذلك ناقصا. والتأويل الثاني: أن نقصان الإيمان قد يكون من هذا الوجه، وقد يكون نقصانا يلحقه بارتفاع شعبة شعبة، كانت موجودة فبطلت عليه وارتفعت، فنقص إيمانه. يعني أن الزيادة التي كانت لإيمانه لأجل تلك الشعبة، فلما عدمت فحل النقص محلها وأخذ مكانها. وذلك عند قائل هذا القول أن يأتي الرجل بفرع أو أكثر من فروع الإيمان، لم يرتكب معصية وذلك أن هذه المعصية تحبط ما تقدمها من الطاعات بقدرها، فيصير ذلك القدر من الطاعة كأن لم يكن منه، وذلك إيمان كان حاصلا له، فلما حبط كان جزءا من إيمانه نقص. واحتج بصاحب هذه المقالة: أن المعاصي خلاف الطاعات، كما أن الكفر خلاف أصل الإيمان، فلما كانت الطاعات فروع الإيمان وجب أن تكون المعاصي فروع الكفر. ثم إذا وجب ذلك، وكان الكفر محبطا لأصل الإيمان إذا طرأ عليه، وجب أن تكون المعاصي التي هي فروعه محبطة بقدرها من الطاعات التي هي فروع الإيمان إذا طرأت عليها. فإذا قيل لهؤلاء إذا أجزتم أن تحبط المعصية قدرها من الطاعة، أتقولون أن المعاصي إذا تتابعت وكتبت، وقلت الطاعات فأحبطتها المعاصي، ولم يبق إلا أصل الإيمان، أن ما بقى من المعاصي يحبط من أصل الإيمان سببا؟. وما تقولون في كافر أسلم. فكان أول عمل أستقبله بعد إسلامه معصية واقعها انتقص تلك المعصية! من قالوا: كلا، الفرع لا يعترض على الأصل، وإنما يعترض الفرع على فرع مثله، وعلى الأصل أصل مثله، فيكون حاصل قول هؤلاء في نقص المعصية الإيمان. وأنها تنقص ما زاد على الأصل. فأما الأصل فغير محتمل النقصان. والأصل محتمل الزيادة

فجعلوا محل النقصان غير محل الزيادة، ودخلوا في معنى من يقول: الإيمان يزيد ولا ينقص وهم يشعرون. واحتج هؤلاء لقولهم بقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}. وإنما أراد بذلك أن رفع الصوت فوق صوته يوقع معصية، فيخرج إيمان الرافع ويحبط عمله. وإنما قال: {أعمالكم} لأن الخطاب للجماعة، فإذا أحبط لكل واحد منهم بعض عمله فإنما هي أعمال حبطت، والله أعلم. واحتجوا بقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}. قالوا: أبان الله تعالى بهذه أن العبادة قد تحبط مع بقاء الإيمان بجناية تكون من صاحبها. وقد روي عن سفيان بن عيينه أنه سئل عن الإيمان: هل يزيد؟ فقال: نعم. فقال: أينقص؟ قال: نعم، وقد أخاف أن ينقص حتى يذهب كله. وفي رواية أخرى أنه قال: ينقص حتى لا يبقى معك مثل هذا، وقلل أصابعه. وهذا ليس فيه الاحتراز الذي حكيته عن أصل القول الأول. وقد علم أن سفيان لم يكن ممن يكفر أهل القبلة بالذنوب، فإنما يخرج جوابه عن هذا: أن المعاصي تحبط الطاعات. بل يحترز عن هذه العبادة فلا يطلق أصلا، لأن عصاة المؤمنين يأملون من الله العفو إما ابتداء أو تفضلا أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن الله تعالى إذا عفا عنهم وضع السيئات وأثابهم على الحسنات، فلو كانت حبطت لم يكن للشفاعة ولا للعفو معنى! ألا ترى أن الكفر إذا أحبط الإيمان لم يكن فيما حبط منه شفاعة وكذلك لو حبط فروعه بالمعاصي لم يكن فيما حبط منها بشفاعة ثم بسنة، والله أعلم. أن تكون العبادة عن رأي سفيان أن حسنات المؤمن تصير مرتهنة بتبعات سيئاته، فإن عفا الله تبارك وتعالى عنه وزادت حسناته على سيئاته، وضع من ثواب حسناته بقدر ما يوازن الحسنات منها قصاصا بها، واستحق بما وراءها النار، وأصل الإيمان وفروعه في ذلك سوى، فيكون نقصان الإيمان من قوله نقصان ثوابه، ولعل ذلك يرجع إلى أنه ينقص من ميزانه، فلا يثقل به. ويكون وجه هذا أن حسنات المؤمن إذا صارت وقاية له من النار، فأولاها بذلك أصل الإيمان لأنه أقوى، فهو بالوقاية أولى.

وأيضا فإنه قد ثبت أن ثواب الإيمان قد ينقص سيئات المؤمن، وذلك أن الله جل وعز إذا لم يعف عن المؤمن المسيء فأدخله النار، وعذبه فيها مدة من المدد قد علم أن نقصا قد لحقه في ثواب إيمانه، لأن ثواب إيمانه- لولا سيئاته- كان يكون أن يدخل الجنة مع الداخلين ثم يبقى خالدا ولما وافى القيمة مسيئا تخلف عنهم، ففاته التنعم بالجنة مدة كونه في النار. وإذا كان هذا جائزا، لم يصح أن يجعل الأصل في الباب إلا التسوية بين أصل الإيمان وفروعه، في أن السيئة توجب ارتهان الحسنات بتبعاتها، إن كانت أحاطت بها أبطلت الثواب كله! وإن لم تحط بها من الثواب بقدر نفسها. فإن قيل لقائل هذا القول: فبما تقول فيمن استوت حسناته وسيئاته، فلم يكن من ثواب أصلها وفروعه شيء يعبد بعدما أجرت أن يكون هذا، ولا دار إلا الجنة والنار! أين يكون مأواه؟ فإن قلت: النار! فقد أخلفت لأنه ليس بكافر. وإن قلت: الجنة! فقد أحلت، لأنه إن كان مؤمنا فالجنة جزاء الإيمان، فمن لا جزاء له عند الله فأنى يستحق الجنة! فقد يشبه أن يكون جوابه في هذا الموضع: أن من كان بهذه الصفة، فإن الله تبارك وتعالى إما يمن عليه بالعفو عن سيئاته كلها أو بعضها، أو يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم فيعفو الله عنه السيئات أو بعضها، فإن غفر لها كلها أدخله بالعفو كما كانت مرتهنة من سيئاته والله أعلم. واحتج لهذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتنى كلبا ليس كلب صيد أو ماشية، نقص كل يوم من أجره قيراط". فقد أبان أن المعصية تعترض على أجر الحسنات، ولم يقل أنها تحبطها أو شيئا منها، ولم يفصل- مع ذلك- من أجر عمل وأجر عمل سواه، فكانت أجور الأعمال كلها في ذلك بمنزلة واحدة. ومما يحتج به للقوانين جميعا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تعدون المفلس منكم؟ فقالوا: من لا درهم له ولا دينار! فقال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، فيؤخذ من حسناته فيدفع إلى الآخر فإذا لم يبق له حسنات، أخذت سيئات

هذا، فحملت عليه، ثم قذف في النار)، فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الظالم لا يقذف في النار ما لم يتبع بظلمه في حسناته لكن البداءة تقع بسلب الحسنات، فإذا نفذت عدل به إلى النار. فدل ذلك على أن كل عاص فهذا سبيله، ثم ذلك في القول الأول: أن تحبط سيئاته حسناته ما عدا أصل الإيمان. فإذا لم يبق له حسنة سوى أصل الإيمان تحبط سيئة عذب على سيئته بالنار والله أعلم، وفروعه سواء، فإذا لم يبق له ثواب وكانت له سيئة عذب عليها بالنار والله أعلم. وفي القول الثاني أن تحريم ثواب حسناته وأصل الإيمان وفروعه سواء، فإذا لم يبق له ثواب وكانت له سيئة عذب عليها بالنار والله أعلم. ومن ذهب إلى أن الإيمان يزيد ولا ينقص فإنه يقول: أصل الإيمان يتكثر بفروعه، وفروعه تتكثر بعضها ببعض، والمعاصي لا تحبط الطاعات، وإذا لم تحبطها فلا نقصان يلحق الإيمان. والدليل على صحة ذلك أن فروع الإيمان متأبدة بأصلها، فما لا يحبط أصلها لا يحبطها، لأن الفروع لا تتميز عن أصلها، فإذا لم يجز وجود الكفر مع الإيمان، لم يجز وجود فروعه مع الإيمان، ولأن طاعات المؤمن إنما كانت فروع الإيمان لوجودها في الإيمان المحرك عليها، ولأن طاعات المؤمن إنما كانت فروع الإيمان لوجودها في الإيمان المحرك عليها. كذلك معاصي الكافر فروع للكفر لأن كفره هو المحرك له عليها. وقد علمنا أن الأفعال الحسنة في أنفسها إذا وجدت من الكافر لم تكن فروع الإيمان، ولأن طاعات المؤمن لما كانت فروع الإيمان كانت إيمانا. فلو كانت سيئاته فروع الكفر فلتكن كفرا. فإن قال: حسنات الكافر فروع الإيمان كما أن سيئات المؤمن فروع الكفر. قيل: ذلك محال! لأن الفرع يقتضي أصلا يصدر عنه، فإذا لم يكن في المؤمن كفرا استحال أن تكون منه فروع الكفر. وإذا لم يكن من الكافر إيمان استحال أن يكون منه فروع إيمان. فإن قال: لو بطل أن تكون سيئات المؤمن من فروع الكفر لبطل أن تكون حسنات الكافر من فروع الإيمان، فبطل أن نكون سيئات المؤمن معاصي لبطلان أن تكون حسنات الكافر طاعات.

قيل: من لا يلزم هذا لأن الطاعة والمعصية لا تكونا إلا لأمر. ولأن الطاعة موافقة للأمر وامتثاله، فمن لا يثبت الأمر لا يمكن أن تؤخذ منه طاعة. والعصيان مفارقة الأمر، فمن أثبت الأمر أمكن وجود مفارقته منه، والمؤمن يثبت له فيصح وجود العصيان منه وبالله التوفيق. فإن قيل: فإن لم تكن معاصي المؤمن من فروع الكفر، فما هي؟ قبل: ليس بواجب أن تكون المعصية إلا فرع للكفر، لأن العصيان كما ذكرنا مفارقة الأمر، وليس الداعي إلى مفارقة الأمر الكفر وحده، ولو كان كذلك لاستحال وجود معصية من المؤمن. ولكن الهوى وحب الشهوات داع إلى المعصية، كما أن الكفر داع إليها. وإنما توجد المعصية من المؤمن إجابة منه للهوى، ومثلا منه إلى قضاء شهوته، وليست تقع منه قصدا إلى خلاف الباري جل ثناؤه. ولو وقعت لهذا لكانت كفرا. فأما الطاعة فلا داعي إليها إلا تعظيم الأمر وابتغاء مرضاته ولهذا لم يصح وجودهما من الكافر، فلهذا كانت طاعة المؤمن كلها فروعا لإيمانه، ولم تكن معاصيه كفرا ولا من فروع الكفر، وبالله التوفيق. وإذا كان الأمر على ما وصفت كان الجواب عن قول القائل: إن لم تكن معصية المؤمن من فروع الكفر: فما هي؟ أن يقال: هي من فروع هواه ووقوع شهواته. والكفر أيضا من فروع هواه وشهواته، والكفر والمعاصي من ينبوع واحد. فأما أن تكون معاصي المؤمن فروعا لكفر غير موجود منه، فذلك محال! وإذا استحال هذا لم يجز أن يقال: أنها تحبط حسناته وطاعاته. لأن الإيمان كما لا يبطل إلا بالكفر، فكذلك فروعه لا تبطل إلا بالكفر، إذ الطاعات إيمان ولا ضد للإيمان إلا الكفر والله أعلم. ومما يدل على فساد هذا القول أيضا أنه يؤدي إلى المحال، لأن قائله يقول: أن السيئات تحبط الحسنات ما وجدتها، فيتخلص المسيء بما يخطر من حسناته من عذاب النار، حتى إذا لم يبق أصل الإيمان فعمل سيئة هلك وحقت عليه النار، وهذا محال. لأن الحسنة إنما كانت تقي صاحبها النار، فأولى بذلك حسنة الإيمان نفسه، لأنه أصل، ولا أصل أقوى. فينبغي أن يكون أحصن وأوفى. فأما أن يكون ما دونه يكمل لدفع النار عن صاحبه، والأصل لا يكمل لذلك فهذا لا يبين له وجه. وبالله التوفيق.

فإن قال صاحب هذا القول: إني لا أقول ما يؤدي إلى المحال الذي ذكرت، ولكني أقول: أن كل معصية فهي تهبط من الطاعة المتقدمة بقدرها، فإذا أحاطت المعاصي بالطاعات التي دون الإيمان أحبطتها، والعذاب مع ذلك واجب على صاحبها إلا أن يعفو الله تعالى عنه، فلا أقول أن بطلان الطاعة عذاب المعصية دون النار، بل هو كما أجمع المسلمون عليه من أن المسلم إذا ارتد حبط ما مضى من إيمانه، ثم لا يكون ما يبطل من ثواب إيمانه جزاء كفره حتى لا يدخل النار، بل النار جزاؤه لإحباطه إيمانه. فكذلك معصية المؤمن إذا أحبطت طاعاته إلى دون الإيمان، كان جزاء إحباطه إياها النار. وإذا كان هذا هكذا: وكانت الطاعة إيمانا، فحبطت بالمعصية، فقد تحقق نقصان الإيمان بالمعصية. قيل له: إن الذي ظننته لا يصح لأن ثواب الطاعة إذا بطل لأجل المعصية فقد سلب فائدة الطاعة. فوجب أن يسقط بذلك ضرر المعصية. ولو جاز أن يحرم ثواب الطاعة- ومع ذلك يعذب بالنار على المعصية- جاز أن يعذب مرتين. فأما المرتد فليس له عند الله ثواب. فمن وافاها كافرا فلا وعد له منه. فإن قال قائل: إنما وعد ثواب الطاعة من يوافي بها يوم القيامة، ولم يواف بها من أحبطت معاصيه طاعته. قيل: لو لم يواف بها لم تنفعه الشفاعة كما لا تنفع المرتد، ولما نفعته صح أن قد وافى بها. وأيضا فإن من الفروق بينهما أن المرتد ناقص الإسلام بالكفر، والنقض حرام عليه. فإذا وجد منه حبط إسلامه بنقضه إياه، واستحق العذاب على النقض. وأما المحسن بإقام الصلوات وإيتاء الزكوات، إذا زنا أو سرق أو شرب، فليس ينقض شيئا من ذلك ما قدم من طاعاته، لأن الزنا ليس ضد الصلاة، فيصير ناقضا له بها. ألا ترى أن هذا هكذا يكون في أحكام الدنيا. فإن المرتد يكلف إعادة عقد الإيمان، والزاني بعد صلاته لا يكلف إعادة الصلاة، والسارق بعد صيامه وزكاته لا يكلف إعادة صومه وزكاة ماله. وإذا كان هذا هكذا، صح أن الزنا إن أحبط الصلاة أو شيئا منها، فليس يمكن أن يكون ذلك إلا على وجه معاقبة الزاني على الزنا بحرمان ثواب الصلاة عنه. فإن كان كذلك واقعا فلا ينبغي أن يعذب مع ذلك بالنار، فيكون كمن عذب مرتين، وبالله التوفيق.

وأما قول الله عز وجل: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}. قد يخرج على غير ما قاله المحتج به، وهو أن يكون المعنى: لا تحملنكم أيها المهاجرون هجرتكم معه، ولا أيها الأنصار إيواؤكم إياه على أن تضيعوا حرمته وترفعوا أصواتكم فوق صوته. فتكونوا بذلك صارفين ما تقدم منكم من الهجرة أو الإيواء أو النصرة، فمن ابتغاء وجه الله به إلى عرض غيره ووجه سواء، فلا تستوجبوا مع ذلك أجرا. ويخرج على وجه آخر وهو أن يقال: لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، فإن ذلك قد يبلغ حد الإزراء به والاستخفاف له، فتكفروا وتحبط أعمالكم، إلا أن تتوبوا أو تسلموا. وكذلك قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}. فليس على: أن المن يحبط الصدقة. فيجب على قياس ذلك: أن ضرب المتصدق عليه- ظالما له- حبطت صدقته، وإنما وجهه: أن الصدقة ينبغي بها وجه الله، وهو المأمول منه ثوابها. فإذا من المتصدق على السائل وأذاه بالتعبير، فقد صرفها عن ابتغاء وجه الله بها إلى ما يؤذي به السائل، فحبط أجره عند الله تعالى، لهذا وصل عند المتصدق عليه مع ذلك لأنه إن كان حباه فقد آذاه، وإن أعطاه لقد أجزاه. ولو كان ذلك على معنى إفساد الطاعة بالمعصية، لم تختص بالبطلان صدقته ويحبط من جملة طاعاته جزء غير معلوم للعباد، فإن الرجل لو أعتق عبدا ثم قتله، أو قطع من أطرافه طرفا، لم يحبط- عند قائل هذا القول- عتقه بعينه، وإنما يزعم أنه من يحبط من طاعاته شيء غير معلوم عندنا. وهكذا لو تصدق على محتاج بصدقة، ثم ضربه أو جرحه، لم يقل أن صدقته بعينها هي التي تحبط فلما أحبط الله عز وجل الصدقة الماضية بالمن والأذى، علمنا أن وجه إبطالها ما ذكرنا، والله أعلم. فهذا ما يدخل هذا، وأما الوجه الآخر: وهو أن الحسنات يرتهن بتبعة السيئات فيخرج المخرج من ثواب إحسانه ما يوازي تبعة سيئته، وقد يمكن أن تحبط السيئات بالحسنات أصلها وفرعها فلا يبقى للمؤمن عند الله ثواب. فإن من الطعن على هذا القول ما يشمله والذي يقدمه وهو أن سيئات المؤمن متناهية الجزاء، وحسناته ليست بمتناهية، لأن مع ثوابها الخلود في الجنة، وما دام خالداً فيها فلا

يخلو من التنعم بها والتقلب في نعيمها، وإنما يكون الجزاء بالحسنة عشرا أو أكثر، من طريق أنه يكون له في نفسه مقدار مقدر، إلا أن ذلك المقدار يكون دائما لا يسلم إليه جملة وقتا واحدا، ثم لا يعاد له، كضيف تقدر له في اليوم والليلة أشياء معلومة إلا أنه تكون له جارية ما دام نازلا من أضيافه، وإذا كان كذلك لم تبلغ السيئات- وإن كثرت- أن تحبط بثواب حسنة واحدة من حسنات المؤمن، فضلا عن أن تحبط بجميعها، لأن الخلود لا غاية له، فلا يتوهم أن تكون البيعة المتناهية التي يستحقها المؤمن بسيئته تأتي على ثواب حسنة لا نهاية له، فيصح أن هذا من القولين، في أنفسهما باطلان، فلا إحباط حسنة فضلا عن حسنات جائز بسيئة أو بسيئات، ولا أخذ ثوابها كله عن بيعه سيئة أو سيئات يقبل أو يستقيم. فصح أن الإيمان لا ينقص من طريق إحباط الحسنة بالسيئة، ولا ينقص من ميزان المؤمن أصلا بذهاب جميع ثوابها منه. والله أعلم. فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان)، لأن المعنى لو كان غير هذا لم يظهر مقدار المنقوص ولو يعلم أن القيراطين كم ينقصان، وإذا كان المعنى ما ذكرت، فإنما هو محرم لأجل هذه السيئة بعض ثواب عمله. ولسنا ننكر جواز أن يحرم الله تعالى المؤمن بعض أجزاء عمله، ويقلل ثوابه لأجل سيئة أو سيئات تكون منه، وإنما أنكرنا قول من يقول: أن السيئة تحبط الطاعة أو توجب إبطال ثوابها أصلا، وذلك لم يأت به من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خير ولا يمكن أن تكون ماء شرب الخلود للمؤمنين في الجنة والله أعلم. فإن قال قائل: فما تقول في المؤمن إذا خلط عملا صالحا وآخر سيئا! قيل: أمره إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء أدخله النار وعذبه بسيئته، ثم أخرجه إلى الجنة فأثابه بإيمانه والصالح من عمله، وإن شاء حرمه من جملة ثواب الصالح من عمله، ما يكون كفء للعقاب الذي استحقه، فكان ذلك جزاءه، ووقاه به عذاب النار، وليس يمكن أن يقطع من هذه الوجوه بشيء، وبالله التوفيق. وبان ما ذكرناه أن الإيمان لا ينقص بالإطلاق من هذين الوجهين، وإن نقصان الإيمان أن

يتجرد عن الأعمال التي يقتضيها وفيها تحقيقة، ولو وجدت لكان زائدا متكثرا لها، فهو نقصان إضافة تجرده عن فروعه إلى حال إيصال فروعه به، وهو نقصان بإضافة الإيمان، من كان هذا صفاته إلى الإيمان من اتصلت فروع إيمانه به، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن المرأة تكون ناقصة من أنها تجلس نصف دهرها لا تصلي) وذلك على معنى أن صلاتها تنقص في العدد عن صلاة الرجل، فعلمنا أن نقصان الدين ونقصان الإيمان إنما يكون بتكامل عدد شعبها وتناقصه، إذا كانت سيئاته الكثيرة لا توازي تبعاتها ثواب حسنة واحدة من حسناته، لم يكن ميزانه إلا ثقيلا، ولم تكن حسناته إلا أكثر بكثرة ثوابها وأربابه على تبعات سيئاته، فلا معنى للوزن إذا! فالجواب: أن الميزان الثقيل الذي وصفه الله تبارك وتعالى هو ميزان المؤمن الذي يوافي القيمة بلا كبائر، أو تائبا من الكبائر إن كانت له، فهذا الذي قابل الله تبارك وتعالى بينه وبين الكافر، فميزان الكافر يخف، لأنه إذا وضع كفره وفروع كفره في كفه، لم توجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى، فيقع الارتفاع. وميزان المؤمن الذي وصفناه يثقل لأنه إذا وضع إيمانه وفروع إيمانه في كفة، لو توجد كبيرة توضع في الكفة الأخرى، فيثقل بالخير ميزانه. كما خلا من الخير للكافر ميزانه. ألا ترى أنه جل وعز لما وصف المؤمن بهذه الصفة كيف قطع بأنه يفلح، وأنه في عيشة راضية، فبان بذلك أنه أراد بالمؤمن المطلق الذي لم يواف القيمة مع إيمانه بكبيرة، وذلك لا يرفع أن يكون في المؤمنين من يكون حاله غير هذا، إلا أنه لم يذكر، لأن الموازنة كانت بين الكافر وبين المؤمن. فاقضى ذلك أن يكون من المؤمنين من يخالف الكافر بالإطلاق، وإنما توازن أعمال المؤمن الذي ذكرنا لإظهار فضله، كما توزن أعمال الكافر لخزيه وذله، فإن أعماله توزن بمكياله على فراغه، وخلوه من كل خير، وكذلك توزن أعمال المؤمن التقي تحسنا لحاله وإشادة بخلوه من كل شر، وتبريئا لأمره على رؤوس الإشهاد. وأما المؤمن الذي يوافي القيامة بكبيرة أو كبائر، فإن لميزانه حالا أخرى- سوى حال المؤمن التقي، وحال الكافر المخزي- وهو أن تكون كفتا ميزانه ثقيلتين، لأن في كل واحد منها ما يحتمل الوزن، غير أن كفة الحسنات تكون أثقل لأن مع الحسنات أصلها

وهو الإيمان، وليس مع السيئات أصلها وهو الكفر، ولأن الحسنات أريد بها وجه الله تعالى، والسيئات لم يرد بها مخالفة الله تعالى، فإذا ظهر بالوزن قدر السيئات صارت بذلك المقدار معارضة للحسنات إن كان ثقلها كنصف ثقل الحسنات أو كثلثه، أو كربعه جرى من أمره على ما ذكرنا قبل هذا، وهو أن الله تعالى إما أن يعفو عن سيئاته، وإما أن يعذبه عليه بالنار، وإما أن ينقص عن ثواب حسناته بقدر جزاء السيئات، فيفوته بعض ثواب طاعاته ويبقى له بعضه، والله أعلم. فأما قول السائل: لو كانت سيئات المؤمن لا توازي تبعاتها ثواب حسنة من حسناته، فلم توزن أعماله؟ فجوابه: أن ثواب الحسنة وإن كان دائما لا ينقطع، فإن الأعمال هي الموزونة لا جزاؤها، إلا أن الأمر إذا آلت إلى الجزاء فغير ممكن أن تحبط سيئته أو سيئات حسنة، لأن جزاء السيئة مثلها إلى وقت معلوم. وجزاء الحسنة أمثالها دائما لا إلى وقت مخصوص. فلئن أبطل ثواب الحسنة كله لأجل السيئة، فإنما يبطل إلى مثل الوقت الذي كان يمتد إليه عذابه بالسيئة لو عذب، أو إلى وقت ما في الجملة، ولا بد من أن يكون الثواب فيما بعد ذلك واصلا إليه. فلا يصح مع هذا إحباط الحسنة بالسيئة ولا بالسيئات ولا الاشتغال بتفريغ أن السيئات إذا أحبطت الحسنات كلها فلم يبق إلا الإيمان. فهل يمكن أن يخلص الإحباط أو لا يمكن؟، ولا الحاجة تدعو إلى الاحتراز من اسم الإحباط بالعدول إلى اسم ارتهان الحسنات بتبعة السيئات والله أعلم. فصل وهذا الذي ذهبنا إليه في الإيمان هو المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان معرفة بالقلب وإقرار

باللسان وعمل بالأركان)، ومن قبل هذا فقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله صلوات الله عليه أنه قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى! قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي}. ومعلوم أن طمأنينة القلب بصدق وعد الله، أو بقدرته على ما خبر أنه فاعله، إيمان فإنما يسأل الله تعالى ما يزيده إيمانا على إيمان، فثبت بذلك أن الإيمان قابل للزيادة، فإن قيل: إنما سأل الله تعالى أن يضطره إلى العلم بإجابة الموتى والتصديق بما وقع العلم به ضرورة، ولا يكون عبادة. قيل: لم يسأل الله تعالى أن يضطره إلى العلم بإحيائه الموتى للقيمة، ولا الله تعالى فعل ذلك به، وإنما سأله أن يريه كيف يحيي الأجساد بعد موتها وتقطعها، فأراه ذلك عيانا في أربعة من الطير، وليس ذلك باضطرار إلى أن الناس يحيون بعد موتهم، لكنه أكد لليقين المتقدم بأن الله تعالى قادرا على إحياء ما أمات وجمع ما يفرق، ثم ما ينشأ عن المشاهدة من ذلك في الطير. من العلم بأن الذي قدر على ذلك لا يعجزه مثله في الناس استدلال لا ضرورة، وهو فصل الإيمان في المؤمن يعرض للزيادة والله أعلم. ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب قوله: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). فبان بهذا الحديث أن الطاعات إيمان، ولولا ذلك لم يكن الإنكار بالقلب إيمانا أضعف من الإنكار باللسان واليد، والله أعلم. وفي الباب مما جاء عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين. فما جاء عن الصحابة ما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم. وعنه: أنه كان يخرج إلى الخلق فيقول: تعالوا نزدد إيمانا! ومنه ما جاء عن علي رضي الله عنه، أن رجلا سأله عن الإيمان فقال: الإيمان على

أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد. وعنه أنه قال: الإيمان يبدو لمظة في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة. وقيل ما حده في اللمظة التي هي الذوقة وهو أن يلمظ الإنسان بلسانه أو الدابة شيئا يسيرا، أي يذوقه. فكذلك القلب يدخله من الإيمان شيء يسير، ثم يشيع فيه فيكثر. وعنه أنه قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، وعنه: لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وهو محق، وحتى يدع الكذب في الممازحة. وعنه أنه قال: الطهور نصف الإيمان. وعنه: من لم يصل فهو كافر، وعنه: من ترك صلاة واحدة متعمدا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: لن يصيب رجل حقيقة الإيمان حتى يترك المراء، وهو يعلم أنه صادق، ويترك المزاحة في الكذب. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: اجسلوا بنا نؤمن ساعة. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من لم يصل فلا دين له. وعنه: الصبر نصف الإيمان. وعنه: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة، وسيصلي قوم ولا دين لهم، وعنه: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول وعمل إلا بنية، ولا ينفع قول وعمل ونية إلا بما وافق السنة. وعنه: ثلاث من كن فيه فهو منافق: كذوب إذا حدث، مخلاف إذا وعد، خائن إذا اؤتمن، فمن كانت منهن فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. وعنه: ينتهي الإيمان إلى الورع، ومن أفضل الدين أن لا تنال مالا، فكل من ذكر الله. وعنه: لا يجد الرجل حلاوة الإيمان حتى يحل بذروته، حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، وحتى يكون التواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامه سواء. وفسره أصحاب عبد الله: حتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام، وحتى يكون التواضع في طاعة أحب إليه من الشرف في معصية الله، وحتى يكون حامده وذامه عنده في الحق سواء.

وعنه أنه كان يقول: اللهم زدني إيمانا ويقينا، وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: ثلاثة من كن فيه فقد استكمل الإيمان: الإنفاق من الإقتار، وإنصاف الناس من نفسك، وبذل السلام للعالم. وعنه قال: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنفاق من الإقتار، أن تنفق وأنت مقل، تعلم أن الله سيخلف لك، والإنصاف من نفسك إذا كان بينك وبين أحد شيء فلا تمش به إلى سلطان، فإنك إذا مشيت به إلى السلطان فلم تترك، وبذل السلام للعالم. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: الإسلام ثمانية أسهم: فالإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وصوم رمضان سهم، وحج البيت سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له. وسئل حذيفة رضي الله عنه: من المنافق؟ فقال: الذي يصف الإيمان ولا يعمل به؟ وعنه أنه قال: إني لأعرف أهل دينين في النار: قوما يقولون أن الإيمان كلام وإن قتل الرجل أباه وأنه وعمل المعاصي، وقوما يقولون: ما بال أولاء يقولون خمس صلوات وإنما أمرنا أن نصلي أول النهار وآخره!. وعنه قال: يخرج من النار من كان في قلبه دون شعيرة من الإيمان، ومن كان في قلبه حبة من خردل من إيمان. وعنه: قال: أول ما تفقدون من دينكم التخشع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة. وعن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنه كان يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: تعالوا فلنؤمن ساعة، فلنذكر الله ونزداد إيمانا. تعالوا لنذكر الله بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته، فهش القوم للذكر واشتاقوا، فقالوا: اللهم لو نعلم الذي هو أحب إلينا لفعلنا. فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص}. وقال أبو الدرداء: كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني مقبلا ضرب بين يدي، وإذا لقيني مدبرا ضرب بين كتفي. ثم يقول: عويمر اجلس بي نؤمن ساعة. فنجلس نذكر الله، ثم يقول: عويمر هذه مجالس الإيمان.

وعن أبي الدرداء وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوا: الإيمان يزيد وينقص، ولا يخرج هذا إلا على أن يكون قولا وعملا. وعن ابن عباس في قول الله عز وجل: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه". قال: والعمل الصالح يرفع الكلام الطيب. وعن عمرو بن حبيب، وكان بائع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الإيمان زيادة ونقصان. قيل: ما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وخشيناه فذلك زيادة، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه. وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا غلمانا جزاوره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم يعلمنا القرآن. فازددنا به إيمانا. وأنكم اليوم تعلمون القرآن قبل الإيمان). وأما التابعون ومن دونهم فإنه جاء عن عروة بن الزهري رضي الله عنه أنه قال: ما نقصت أمانة عبد إلا نقص إيمانه. وأما عطاء بن أبي رباح، فإن معقل بن عبد الله قال: قلت لعطاء بن أبي رباح أن ناسا يقولون: إنه ليست في الإيمان زيادة. فقال: أرأيت حين يقول الله عز وجل: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}. فما هذا الذي زادهم لعمري أن في الإيمان لزيادة. قال: قلت أنهم يقولون أن الصلاة والزكاة عمل وليسا من الإيمان. قال: أفرأيت حين يقول الله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين لع الدين، حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} فما هذا إذا؟ قال: قلت قد يحلل هذا إثنا عشر شبخا، قال: يحيى بن سعيد: عمر بن در وأصحابه. قال: لا، والله الذي لا إله إلا هو ما كان من هذا قط. قال: فذكرته للزهري. فقال: سبحان الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا ينهب نهبه والناس يرمونه بالحدق وهو مؤمن". قلت: فأين المنتهب؟ قال بيده، الغزو.

وقال عبد الله بن معقل: سألت الزهري وعطاء بن أبي رباح وميمون بن مهران عمن يزعم أن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان. فكلهم قال: هما من الإيمان. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: ست خصال من فعلهن فقد استكمل الإيمان. قتل أعداء الله بالصف، والصيام في شدة أيام الصيف، وتعجيل الصلاة يوم الغيم، وإكمال الوضوء في اليوم الشاتي، والصبر على المعصية، وترك الجدال وأنت تعلم أنك صادقا. وعن الحسن بن أبي الحسين قال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} قال: الكلام الطيب يرفعه العمل الصالح. يعرض القول على العمل، فإن وافق القول العمل وإلا رد. وعنه رحمه الله قال: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتجلي ولكنه ما وقر في القلب وصدقة العمل. وعنه قال: الإيمان قول وعمل. وعنه قال: لو شاء الله لجعل هذا الدين قولا لا عمل فيه، ولكن جعل دينه قولا وعملا، وعملا وقولا، فمن قال قولا حسنا وعمل سيئا رد قوله عليه عمله، ومن عمل صالحا رفع قوله عمله. وعن الأوزاعي رضي الله عنه قال: أدركت الناس وهم يقولون: الإيمان كلام ولا يفرقون بين الإيمان والعمل. وعنه قال: لا يستقيم القول إلا بالعمل، ولا يستقيم العمل إلا بنية موافقة للسنة، وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما تجمع هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل. فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله، فتلك العروة الوثقى لا انفصام لها، ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدقه بعمله لم يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. وعنه قال في كلام ذكره: ويقولون أن فرائض الله على عباده ليست من الإيمان، وأن الناس لا يتفاضلون في إيمانهم، وأن برهم وفاجرهم في الإيمان سواء. وما هكذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلغنا أنه قال: (الإيمان بضع وسبعون بابا أولها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان). وقال:

وقال الله جل ثناؤه: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك. وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} والدين هو التصديق وهو الإيمان. وصف الله تعالى الدين قولا وعملا فقال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}. فالتوبة من الشرك هي الإيمان والصلاة والزكاة عمل. وعن عبيد الله بن عمر قال: ليس الإيمان بالتجلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان قول يعقل، وعمل يعمل. وعنه قال: من صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها، لا يدعها إلا لله، ومن صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء في المكاره وعد أمورا سواه. وعن مجاهد قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كتب إلى عدي بن عدي: أن للإيمان سننا وفرائض وشرائع وحدودا، من استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، وإن أعش بنتها لكم. وإن أمت فوالله ما أنا على صحبتكم بمريض. وعن وهب بن منبه رضي الله عنه قال: الإيمان يشبه الماء، البحر ماء، والغدير ماء، والماء في القدح ماء، والماء في المحارة، فتفاضل الإيمان مثل البحر والمحارة. وعنه أن رجلا قال له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى! وليس مفتاح إلا وله أسنان. فمن أتى الباب بأسنانه فتح له، ومن لم يأته بأسنانه لم يفتح له. وعنه قال: الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حرون بينهما. فإذا قاد القائد ولم يسق السائق لم يغن شيئا، فإذا ساق السائق ولم يقد القائد لم يغن شيئا وإذا قاد القائد وساق السائق تبعتها النفس طوعا أو كرها. وعن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: انتهيت إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله مفعم بالرجال، قيل لي: أي هؤلاء خير؟ قلت لسائلي: أتعرف أنصحهم لهم، فإن عرفه عرف أنه خيرهم، ولو انتهيت إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله مفعم من الرجال. فقيل لي: أي هؤلاء شرهم. فقلت لسائلي: أتعرف أغشهم لهم، فإن عرفه عرفت أنه شرهم، أنه منافق برئ من الإيمان، لو شهد عليه بذلك لشهدت أنه في النار، ولكني أخاف على

خيرهم وأرجو لشرهم، فإذا خفت على خيرهم فكيف خوفي على شرهم، وإذا رجوت لشرهم، فكيف رجائي لخيرهم، هكذا السنة. وعنه قال: فقد الحواريون نبيهم، فخرجوا يطلبونه فوجدوه يمشي على الماء. فقال له رجل منهم: يا نبي الله! قال: تعال. فذهب يضع رجله، فإذا هو قد نغمر. فقال: هات يدك يا فقير الإيمان. وعن ابطأه بن المنكور قال: الإيمان قول وعمل لا يفرق بينهما، وأما الضحاك بن مزاحم فإن له في هذا الباب رسالة بليغة وهي. أن أحق ما بدأ به العبد من الكلام أن يحمد الله ويثني عليه. والحمد لله نحمده ونثني عليه بما اصطنع عندنا إذ هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، ومن علينا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن دين الله الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام، وبه أرسل المرسلين قبله فقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}. وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، والتصديق والإقرار بما جاء به من عند الله. والتسليم لقضاء الله، والرضى بقدره. من كان مؤمنا يحرم دمه وماله. ووجب له ما يجب للمسلمين من الحقوق، ووجب عليه ما يجب على المسلمين من الأحكام، ولكن لا يستوجب ثوابه، ولا ينال الكرامة إلا بالعمل به، والعمل به إتباع طاعة لله، وإتباع طاعة الله أداء الفرائض واجتناب المحارم والاقتداء بالصالحين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، والمحافظة على إتيان الجمعة، والجهاد في سبيل الله، والاغتسال من الجنابة، وإسباغ الطهر، وحسن الوضوء للصلاة، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وصلة ما أمر الله به أن يوصل، وحسن الخلق إلى الخلطاء، ومعرفة حق كل ذي حق من والد ووالده، ومن قرابة ويتيم ومسكين وابن السبيل وسائل وغارم ومكاتب وجار وما ملكت اليمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله والبغض فيه، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله، والحكم بما أنزل الله، وطاعة أولي الأمر في الكره والرضى، والوفاء بالعهد، والصدق في الحديث، وإنجاز الوعود، والوفاء بالنذر، وحفظ الأمانة من كتمان السر

والمال، وأداء الأمانة إلى أهلها، وكتاب الدين المؤجل بشهادة ذوي العدل، والإشهاد على المبايعة، وإجابة الداعي للشهادة على الدين وكتابه بالعدل كما علمه الله، وإقامة الشهادة على وجهها بالقسط، ولو على النفس أو الوالدين والأقربين، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط، وذكر الله عند عزائم الأمور، وذكر الله على كل حال، وحفظ النفس، وغض البصر، وحفظ الفرج، وحفظ الأركان كلها، وكظم الغيظ، ودفع السيئة بالحسنة، والصبر على المصيبات، والقصد في الرضا والغضب، والاقتصاد في الشيء، بالقول والعمل، والتوبة إلى الله من قريب، والاستغفار للذنوب، ومعرفة الحق لأهله، ومعرفة العدل إذا رأى عامله، ومعرفة الجوز إذا رأى عامله، والمحافظة على حدود الله، ورد ما اختلف فيه من حكم، وغيره إلى الله، ورد ما يتنازع فيع من شيء إلى أولي الأمر الذين يستنبطونه، وترك ما يريب. والاستئذان في البيوت، فلا يدخل البيوت حتى يستأذن ويسلم على أهلها من قبل أن ينظر في البيت أو يستمع فيه، فإن لم يجد أحدا فلا يدخل بغير إذن أهلها، فإن قيل ارجعوا، فالرجوع أولى، فإن أذنوا فقد حل الدخول، وأما البيوت التي ليس فيها سكان وفيها منافع لعابري السبيل أو غيرهم يسكن فيها أو يتمتع بها، فليس فيها استئذان. والاستئذان لما ملكت اليمين من صغير وكبير، ومن لم يبلغ الحلم من خدمة أهل البيت، ثلاثة أحيان من الليل والنهار: من آخر الليل قبل صلاة الفجر، وعند القيلولة إذا خلا رب البيت بأهله، ومن بعد صلاة العشاء إذا آوى رب البيت وأهله إلى مضاجعهم. فإذا بلغ الأطفال من خدمة أهل البيت الحلم فقد وجب عليهم الاستئذان كل الأحيان. واجتناب قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، واجتناب أكل أموال الناس بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم، واجتناب أكل مال اليتيم ظلما، واجتناب شرب الخمر، واجتناب الحرام من الأشربة والطعام. واجتناب كسب المال بغير الحق، واجتناب التبذير في غير حق، واجتناب التطفيف في الكيل والوزن. واجتناب نكث لبيعة وخلع الأئمة، واجتناب الغدر والمعصية، واجتناب اليمين الآثمة، واجتناب بر اليمين بالمعصية، واجتناب الكذب والتزيد في الحديث. واجتناب الشهادة بالزور، واجتناب قول البهتان، واجتناب قذف المحصن والمحصنة، واجتناب الهمز واللمز والتنابز بالألقاب، واجتناب النميمة والاغتياب، واجتناب التجسس وسوء الظن بالصالحين والصالحات، واتقاء الإصرار

على الذنب، والتهاون به، واتقاء منع الماعون، والإمساك عن الحق، والتمادي في الغي، والتقصير عن الرشد، والكبر والفخر والخيلاء والفجور، والمبادرة بالشر، والإعجاب بالنفس والفرح والمزح، والتنزه من لفظ السوء، والفحش والخناء وسوء الخلق والنول والقذر، كل هذا صفة دين الله وهذا الإيمان وما شرع فيه من الإقرار بما جاء من عنده، وبين فيه من حلاله وحرامه، وسننه وفرائضه، وقد سمى لكم ما ينتفع به ذوو الألباب، وفوق كل ذي علم عليم. ويجمع ذلك كله التقوى، فاتقوا الله واعتصموا بحبله ولا قوة إلا بالله، أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يبلغ به رضوان الله والجنة، والحمد لله وصلى الله على محمد كلما ذكر. وقال مالك بن أنس وسفيان الثوري ابن عيينة وهشام الدستواني ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وابن جريج ومحمد بن مسلم الطائفي وفضيل بن عياض ومعمر وشريك وأبو بكر بن عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد وعبد الكريم الجزري وأيوب وحفص ويحيى بن سليم ووكيع وجرير والغزاري الكبير وعبد الله بن المبارك: الإيمان قول وعمل، وقال مسعر: يزيد وينقص. وقال سفيان الثوري: لا يستقيم قول إلا بعمل ولا عمل إلا بقول، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بموافق السنة. وقال إبراهيم بن شماس: سألت رجل سفيان بن عيينة وأنا عنده عن الإيمان فقال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى معك إلا مثل هذا، وقلل أصابعه. قال: فكيف يصنع بقوم يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ فقال: يا ابن أخي، إن الله تعالى بعث محمدا إلى الخلق كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها ففعلوا، ثم أمره أن يأمرهم بالصلاة، فأمرهم ففعلوا! فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم ولا هجرتهم إلى المدينة. ولما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يردهم إلى مكة يقاتلون آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا قولهم ويصلوا صلاتهم ويهاجروا هجرتهم، ففعلوا، حتى أتى أحدهم برأس أبيه فقال: يا رسول الله هذا رأس الشيخ الكافر! فلو لم يفعلوا ما

نفعهم الإقرار ولا صلاتهم ولا هجرتهم إلى المدينة. فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم، فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا هجرتهم ولا قتلهم آباءهم. فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يطوفوا بالبيت العتيق تذللا ويحلقوا رؤوسهم تبعدا، فأمرهم ففعلوا. فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم ولا قتلهم آباءهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. هكذا السنة يا ابن أخي فأبلغها عني من سألك من الناس. وقال فضيل بن عياض أصل الإيمان وفروعه بعد أداء الشهادة بالتوحيد، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وأداء الفرائض صدق الحديث وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين والرحمة للعامة أو للناس. فقيل له: هذا من رأيك أو سمعته؟ فقال: بل سمعناه وتعلمناه، ولو لم آخذه من أهل الفقه والفضل لم أتكلم به. فصل وقد دعا قوما قولهم إن الإيمان هو المعرفة والإقرار وليست الأعمال من الإيمان، إلى أن قالوا: كل مؤمن وإن عمل ما عمل من المعاصي فإيمانه كإيمان أكثر الناس طاعة وأشدهم اجتهادا في العبادة. ومنهم من اجترأ ولم يأب أن يقول: إيماني وإيمان جبريل وميكائيل على السواء. واستعظم السلف هذا القول. فروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبوح به، إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل. وذكر لابن أبي مليكة إيمان، فقال: أترون إيمانا مثل إيمان جبريل وميكائيل، وبهذا كان رجلا صاحب شراب.

وقال جويبر: كان الضحاك بن مزاحم يعجب ممن يقول: إيمانه كإيمان جبريل. وأنكر ذلك عطاء بن أبي رباح وميمون بن مهران أشد، وقد كان ينبغي لمن يترك زيادة الإيمان بانضمام فروعه إليه ولا ينكر زيادته من قبل زيادة اليقين وفروعه أن لا يقول: إيماني كإيمان الملائكة والنبيين صلوات الله عليهم لأنه أعلم بالله تعالى، ومن كان أعلم به كان يقينه فوق يقين من يقصر علمه من علمهم وبالله التوفيق. وقد يبرأ أحد الذين ينسب هذا القول منه، فقال: لا نقول هذا، ولكنا نقول دين الله واحد وعباده فيما شرع لهم منه سواء. فيقال لم نتكلم عنه، ومن قال لكم: إن الله تعالى أديانا وعبادة منها أوزاع؟ إنما نقول: دين الله واحد، وهو الإسلام الذي وصفه فقال: {إن الدين عند الله الإسلام} وقال: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}. وسمى الدائنين بهذا الدين مسلمين ومؤمنين. وسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدين الإسلام مرة، ودعاه باسم الإيمان مرة أخرى. فهما اسمان لدين واحد. إلا أن هذا الدين له شعب فمن استكملها كان مستكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يكن مستكمل الإيمان وهذا لا يوجب أن يكون دين الله أكثر من واحد، وإن يكون لقوم دين، وآخر دين. ولو وجب إذا قلنا: إن الطاعات كلها إيمان، أن نكون أثبتنا لله تعالى أديانا، لوجب على الجميع إذا قالوا: الإقرار والاعتقاد معا إيمان، وهما خصلتان، أن يكونوا أثبتوا لله تعالى دينين، وإن كان وصفهم عملين، فإنهما إيمان لا يوجب أن يكون دين الله اثنين. فكذلك وصفنا أعمالا كثيرة بأنها إيمان لا يوجب أن يكون لله تعالى أديان كثيرة. وأيضا فإن الصلاة عبادة واحدة لكنها تنقسم إلى خمس صلوات في كل يوم وليلة، فمن أقامها جميعا كان مستكملا لها، وإن أقام بعضا وترك بعضا، لم يكن مستكملا لها ذلك لا يخرج فرض الصلاة من أن يكون متفقا في نفسه، وإن يكون شرعة للناس واحدا فإن الناس إنما يوفون في التخالف من قيل أفعالهم التي يباشرونها، وإلا فالذي أمروا به غير مختلف في نفسه. والقول في كل صلاة وما ينقسم إليه من قول أو فعال هكذا أيضا. وكذلك صيام رمضان فرض واحد، ولكنه ينقسم إلى أيام، فمن صامها جميعاً كان

مستكملا فرض الشهر، ومن ترك بعضها لم يكن مستكملا له، وذلك لا يجعل الفرض مختلفا في نفسه لكنه متفق، وإنما الاختلاف في أفعال الناس دونه. كذلك دين الله تعالى واحد. ولكن إقامة ذلك الدين من الناس مختلف، فمنهم أقل أفعالا، ومنهم أكثر أفعالا، وذلك لا يجعل الدين أديانا، والله أعلم. وقال القائل: دعا الله تعالى عباده إلى الإقرار به، وتوحيده، وتصديق نبيه. فكان من أجاب إلى ذلك مؤمنا، ومن لم يجب إليه كافرا. ثم شرع الشرائع من بعد فرض الفرائض وحد الحدود، فثبت بذلك أنها ليست من الإيمان، إذا كان ثبوت الإيمان للناس سابقا لها. فيقال له: أرأيت نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم قبل أن أوحى الله إليه إذا كان يمضي التعبد إلى حراء فلا يهتدي إلى شيء سوى متابعة السجود لله تعالى، أكان مؤمنا بالله؟ وخليل الله إبراهيم صلوات الله عليه حين قال لقومه: {إني برئ مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}، أكان مؤمنا بالله تعالى؟ فلابد من نعم! فيقال له: أكان ذلك التصديق والإقرار منه إيمانا؟ فلابد من نعم! فيقال: كيف وقد جرى عليه حكم الإيمان قبل ذلك؟ وإذا اخترت أن يكون منه إيمان على إيمان. فما أنكرت أن الإيمان وأن تقدم على ما وصفته شرعت الشرائع، فإن عامة هذه الشرائع إيمان، وفعلها فعل إيمان. فإن قال: إنما كان المتقدم إيمان لله تعالى، والحادث إيمان بالنبوة! قيل: وكذلك ما تقدم وسبق شرع الشرائع إيمان بالله تعالى وبالنبي، والحادث صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد، فما بين الأمرين من فرق؟ ويقال له: أرأيت إذا فرض الله الصلاة ركعتين ثم زاد في الحصر، أكانت الزيادة زيادة الصلاة في الظهر والعصر والعشاء أولا؟ فإذا كانت زيادة صلاة فيها، قيل له: أليس قد صحت للناس هذه الصلوات من قبل أن تكون هذه الزيادة، فلم لا علمت بذلك، أن هذه الزيادة لا ظهر ولا عصر ولا عشاء كما قلت أن الشرائع لما شرعت، وقد صح للناس إيمانهم، دل ذلك على أنها ليست إيمان. ويقال له: أرأيت الإيمان إذا تقدم كما وصفت ثم شرعت الشرائع لم يلزم قبولها إذا شرعت؟

فإن قال: لأن الإيمان بالله والنبي وصول لأمرهما. قيل له: أو يسبق القبول الأمر، فإن قال: نعم! قيل له: أرأيت رجلا اعتقد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تأتيه الرسالة، أنه إن نبئ سمع له فنبي وأطاع. استغنى بالعقد الذي تقدم منه على الإيمان به بعد أن جاءته الرسالة. فلابد من لا، فيقال له؟ ما أنكرت أن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نبي، والإقرار به لا يغني عن قبول ما يشرع على لسانه إذا شرع. ثم يقال له: فإذا احتاج إلى القبول! فقيل: أما أن يكون ذلك إيمانا منه، فإذا قال ذلك، يكون إيمانا منه. قيل له: كيف وقد سبق الإيمان قبل أن يكون هذا الشرع، وإذا أجزت أن يكون الإيمان بائنا موجودا ثم يشرع ما يكون قبوله إيمانا، فيكون ذلك إيمانا على إيمان، فلم لا أجزت أن يشرع ما يكون العمل به إيمانا، فيكون إيمانا على إيمان، وبالله التوفيق. قال هذا القائل: وإنما ميز الله تعالى بين الإيمان والعمل، ليتقدم الإيمان متجردا عن كل عمل إلى أن شرعت الأعمال وأنزلت الفرائض والحدود، فقال {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ففرق بين الإيمان والأعمال الصالحة! فيقال له: أرأيت إن لم تكن الأعمال الصالحة إيمانا! أتقول: إن الأيمان من الأعمال الصالحة؟ فلابد من نعم؟ فيقال له: فقد ميز الله بينهما، فإن أجاز مع هذا التمييز أن يكون الإيمان من الأعمال الصالحة، فلم لا جاز أن تكون الأعمال الصالحة من الإيمان؟ ويقال له: ما أنكرت أن معنى الآية: أن الذين آمنوا بألسنتهم، وعملوا سائر الطاعات بعامة جوارحهم فكانوا مؤمنين مستكملي الإيمان، وإنما أفرد الإيمان من الصالحات لأنه أراه الإيمان باللسان بعد رسوخه في القلب ولو أراد الإيمان المطلق لكان في ذكر الإيمان كفاية عن ذكر الصالحات، وإذا كان هذا مما تحتمله الآية وجب حملها عليه للدليل الذي سبق ذكره والله أعلم. قال هذا القائل: ويدل على اختلاف الإيمان والأعمال، أنك تجد الناس متفاضلين في الأعمال، ولا تجدهم متقاربين في الإيمان، وتفاضل في الدين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نصا،

حيث أخبر أن جلوس المرأة نصف دهرها لا تصلي نقصان، فكيف يجوز مع هذا أن يقال: الناس يتفاضلون في العمل، ليسوا بمتفاضلين في الدين؟ قال القائل: فإن الله عز وجل شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا: {والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}. فكان الدين يستوي فيه المتقدمون والمتأخرون والملائكة والنبيون والأنس والجان، وهو التوحيد. ثم كانت شرائع الأنبياء عليهم السلام من الاختلاف بحيث لا يخفي، فدل ذلك على أنها شرائع الدين. وأما الدين فهو ما لم يختلفوا فيه. فيقال له: أخبرنا عن قبول الشرائع إذا شرعت أهو إيمان؟ فإذا قال: نعم!. قيل له: فهل كان على الأنبياء أن يقبل بعضهم شرع بعض مع تفرق أزمانهم وتباعد أعصارهم فلابد من لا، فيقال له: فإن جاز أن يتباينوا وأممهم، فما يلزمهم من قبول الشرائع، ولا يلزم كل واحد أن لا يقبل على نفسه إلا ما شرع له إذا كان نبيا، أو ما شرع لنبيه أن كان من إحدى الأمم، ثم يكون القبول إيمانا ودينا، لم لا جاز أن يتباينوا وأممهم في الإيمان التي هي الشرائع، وتكون الشرائع إيمانا ودينا. فإن قال: إن شرائعهم- وإن اختلفت- فقبول الشريعة معنى واحد، وليست بمعان في الكثرة والاختلاف. فإن كانا ففي المقبول لا في القبول! قيل له: فما أنكرت أن العمل بالشريعة معنى واحد وليس بمعان، فالكثرة والاختلاف إن كانا ففي المعمول لا في العمل! ويقال له: أخبرنا عن تصديق الأنبياء، إيمان أو غير إيمان؟ فإذا قال ذلك قيل له: أليس على كل متأخر من الأنبياء أن يؤمن بالأنبياء الذين تقدموه، فأما المتقدمون فليس عليهم من المتأخرين فرض إيمان إلا أن يكون أحدهم أخبر أن نبيان كان بعده، فيكون عليه الإيمان بأنه نبي، فأما الإيمان بأنه نبي فأنكر إذا كان هذا هكذا، فقد اختلف حالهم في ذلك فكان على بعضهم من الفرض فيه ما لم يكن على غيره وذلك لا يدل على أن الشرائع ليست من الإيمان والدين. ويقال له: ما أنكرت أن الدين هو الطاعة، ومعنى الآية: شرع لكم من إلزامكم الطاعة

ما شرع لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبيكم صلى الله عليه وسلم وعليهم، أي أنه لم يرض من أحد من عباده أن يعصيه في أوامره ونواهيه، بل أخذ الأنبياء عامة وأممهم بطاعته وإتباع أوامره، فلذلك ألزمهم طاعته، لم يرخص لهم في خلافها، وليس بقابل منكم غيرها، فأقيموا الطلق أي الطاعة فلا تتفرقوا، وليس في هذا ما يوجب اختلافا بين المتقدمين والمتأخرين في اللين، لأن وجوب الطاعة بشملهم، وإن كان ما تجب الطاعة فيه متفرقا، والأعمال لم تكن إيمانا عندنا لأعيانها، حتى إذا كانت مختلفة أوجب ذلك اختلاف الإيمان وتفرق الدين وإنما كانت إيمانا لأنها طاعات، فإذا كان معنى الطاعة تجمعها، فقد وجد الاتفاق في دين الجميع والله أعلم. ثم أن قوله عز وجل: {ولا تتفرقوا فيه} يدخل في جملته أن لا تتفرقوا في الدين، فيكون من بعضهم الطاعة ومن بعضهم خلافها. فأما إقامة الطاعة ممن يقيمها لا ينفع إلا نفسه دون من وجد منهم خلافا، ويدخل فيه أن لا تختلفوا فيه. فيقول بعضهم لشيء من الطاعات هذا خارج من الدين الذي تعبدنا به، فإن الدين هو الطاعة، فإذا شرع والله أعلم. قال القائل: وقد يكون في الناس من لا علم له بالفرائض وهو مع ذلك يسمى مؤمنا، ولو لم يعلم ما يلزمه الإقرار به لم يكن مؤمنا، وإنما في هذا ما يبين اختلاف الإقرار والعمل. فيقال له: وفي الناس من لا علم له بالتوحيد، وأنت تسميه مؤمنا مثل الصبي المولود بين المسلمين، والمجنون- صغيرا كان أو كبيرا- إذا كان مولودا بين المسلمين، ولا يدل ذلك على أن التوحيد ليس بإيمان، فكذلك الصغير المؤمن إذا بلغ ولم يعلم بلوغ نفسه أو لم يخطر وجود التوحيد في قلبه فهو مؤمن، ولا يدل على أن التوحيد ليس بإيمان. ويقال: كل من كان عليه فرض يؤاخذه الله بتركه، فلم يطلب علمه مع إمكان طلبه، وأخل بفعله لجهله، فليس بمؤمن مطلق إيمان، كلنه ناقص الإيمان من وجهين: أحدهما ترك طلب العلم والآخر الإخلال بالعمل، فكلامك غير لازم. ويقال له: أخبرنا عن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، أكان إيمانا؟ فإذا قال نعم! قيل له: فمن آمن به ولم يره أليس كان يصح إيمانه؟ فإذا قال: بلى! قيل له فإذا لم يكن رآه لم يعلمه بعينه فيعظمه، أيدل هذا على أن تعظيمه إياه ليس بإيمان؟ فإذا قال: لا!

قيل له: فما أنكرت أن ما يعلم الفرائض بأعيانها فيعمل بها، يكون مؤمنا فلا يدل ذلك على أنه إذا علمها فعمل بها لم يكن عمله بها إيمانا، وبالله التوفيق. وقال القائل: ولو كان العمل من الإيمان لكان المنافقون مؤمنين، لأنهم يعملون ما يعمله غيرهم. فيقال له: أرأيت أن قال لك قائل: أن الإقرار ليس بإيمان لأن المنافقين كانوا يقرون، فلو كان الإقرار إيمانا لكان المنافقون مؤمنين، فإن قال كان إقرارهم فاسدا لأنهم كانوا يبطنون خلاف ما يظهرون. قيل: فكذلك أعمالهم فاسدة، لأنهم كانوا يبطنون خلاف ما يظهرون، وشرط الأعمال الإخلاص. فمن لا إخلاص له لا عمل له والله أعلم وبالله التوفيق. وهذه مسألة وجدتها في هذا الباب لبعض المغرورين، فنقصها عليه وإن كنت لم أعرفه، وزعم: أن الإيمان هو التصديق والاعتقاد دون سائر العبادات، لأن الله تعالى سمى من صدق بما جاء به مؤمنا بقوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}، وهذه عبارة عن الاعتقاد دون غيره من الأفعال. فيقال له: ليس في هذه الآية إلا أن الله تبارك وتعالى شهد لرسوله وللمؤمنين الذين كانوا معه، بأنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله. ولسنا ننكر بأنهم فعلوا ذلك واستوجبوا هذا الوصف، وليس من مدحهم والثناء عليهم بأنهم آمنوا ما يبين حد الإيمان وحقيقته، لأن وصف الواحد بالإيمان مطلقا لا ينبي عما كان منه من عقد أو قول أو فعل، فكان به ولأجله مؤمنا. ألا ترى أن الله عز وجل قال فيما مدح به قوما: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}. فلم يتسع ذلك لإيمانه حد الصبر أو الصدق أو القنوت والاستغفار، ولا حقيقته، ولم يكن فيه إلا أن فاعلي هذه الأفعال مستحقون للثناء والمدح، وكان علم حقائقهما وحدودها مطلوبا من غير هذه الآية. وهكذا لما قال: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون

الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله} علم به أن المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم هم الذين يجاهدون في سبيله فيقتلون ويقتلون. وهم بهذه الصفات، ثم لا يعلم بهذا حد واحدة من هذه الخصال ولا حقيقتها. وهكذا كل من سماه الله عز وجل في كتابه باسم مشتق من فعل أو حكي عنه فعلا بالاسم الموضوع لتعريفه، فإن ذلك يدل على وجود ذلك الفعل منه، ولكنه إذا احتج إلى علم حقيقة ذلك الفعل وحده، لم يستفد من قبل تلك القسمة، ولا من جهة تلك الحكاية. ولذلك إذا أخبرنا الله عز وجل أو الرسول أن المؤمنين كلهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، علم بخبره أن الإيمان حقا قد كان منهم، ولكن ذلك لا يكشف عن حقيقة الإيمان وحده، ولا ينبي عن أنهم ماذا قالوا له فعلوا، فأصرف أخبار الله تعالى عنهم بالإيمان إليه، وإذا آل الأمر إلى التحديد، فإنما يحده بما قام الدليل عليه عنده، ثم لا يضاف من ذلك إلى هذه الآية شيء. فقد بان لك أنك الفراء من هذه الآية. ويقال له: ما أنكرت أن هذه الآية إلى أن تكون حجة عليك أقرب منها إلى أن تكون حجة لك! لأن الله عز وجل كما نعت المؤمنين بأنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، فكذلك نعتهم بأنهم قالوا: سمعنا وأطعنا ولم يكن يمدحهم بكذب قالوه، فصح أنهم لم يقولوا، وأطعنا، إلا أن الطاعة لما سمعوا قد وجدت منهم. وهم لم يكونوا سمعوا فرض الاعتراف في هذه الآية دون الشرائع من الأوامر والنواهي، فعلمنا أن الطاعة لما سمعوا قد وجدت منهم، وثم لم يكونوا في عامة هذه المسموعات، كانت قد وجدت منهم. فغنما أخبر الله تعالى عنهم بالإيمان، وسماهم مؤمنين بهذه الخصال، فهذه الخصال كلها لا لشيء منها دون شيء، بأن بذلك أن الطاعات كلها إيمان والله أعلم. ويقال: أليس قد أخبر الله عز وجل عن الرسول وعن المؤمنين أنهم قالوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. ربنا لا تؤآخذنا إن نسينا أو أخطأنا} كما أخبر عنهم أنهم آمنوا به وبملائكته وكتبه ورسله، فما أنكرت أن هذه الأقوال والدعوات كلها إيمان منهم إذ كان إنما سماهم مؤمنين لما أخبر عنهم بأنه كان منهم، وقد أخبر عن

كون هذه الدعوات منهم كما أخبر عنهم عن كون الاعتراف بالله وبملائكته وكتبه ورسله منهم. فثبت أن كل ذلك إيمان، لأنه لو لم يكن إيمانا لم يكن الذي وجد منهم لأجله مؤمنين. وقد أجبت الآية أنهم كانوا مؤمنين لوجود ذلك كله منهم، وبالله التوفيق. ويقال له: زعمت أن هذه الآية عبارة عن الاعتقاد، وذلك يلزمك أن يخرج الإقرار من جملة الإيمان، لأن الله جل وعز جعلهم بزعمك مؤمنين بالاعتقاد، فإن جاز مع ذلك أن يضم الإقرار إلى الاعتقاد- وليس ذلك بزعمك في الآية- لم لا جاز لغيرك أن تضم العبارات إلى الاعتقاد، وإن لم يكن في الآية على أن معنى الآية: والمؤمنون كلهم قالوا آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله. والدليل على ذلك أنه وصل بهذا قوله {لا نفرق بين أحد من رسله}. وهذا لا يليق إلا أن يكون كلام المؤمنين ولو لم يكن تقدير قوله جل وعز: {كل آمن بالله وملائكته ورسله}. ولم يفرقوا بين أحد من رسله. فلما قيل: {لا نفرق} ذلك على أن تقدير الحكاية ما وضعت، وفي ذلك ما يوجب أن يكون اختصاص الإقرار بالآية أشبه من اختصاص الاعتقاد، وبالله التوفيق. قال الرجل: وأمرهم بعد صحة الاعتقاد أن يشهدوا لأنفسهم بالإيمان والإسلام، لقوله تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} إلى قوله: {ونحن له مسلمون} فمدح من شهد بذلك لنفسه، فقال تبارك وتعالى: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا}. فأخبر بأنهم يصيرون بهذا مؤمنين، لقوله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}. وهذا كله راجع إلى التصديق دون غيره من الأفعال، فثبت أنه الإيمان لا غير، فقال له في قوله "أمرهم بعد صحة الاعتقاد أن يشهدوا لأنفسهم بالإيمان" من أين قلت هذا؟ فإن ادعى أنه قاله، إن هذه الآية مرتبة على الآية التي بدأ بذكرها، وأن تلك في الاعتقاد، وهذه في الإقرار، طولب بالحجة في ما تدعيه من ذلك، ولن تحد إليه سبيلا، وإن لح في إثبات أن الإقرار يترتب على الاعتقاد، بدليل آخر، قبل في ذلك منه.

وقيل لهم: أن الله تعالى يأمرهم أن يشهدوا لأنفسهم بالإيمان، فإن الإيمان فرض لله تعالى على عباده، فإذا التزموه فإنما يشهدون به على أنفسهم، كما قال جل وعز: {كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله ولو على أنفسكم} ولا يشهدون به لأنفسهم، بل لله تعالى ينبغي أن يشهد به لهم، ليعلموا أنه قد يقبل منهم. وإذا بطل هذا، فالجواب:- وبالله التوفيق- أنه أمرهم أن يصفوا إيمانهم لخصومهم، وهم اليهود والنصارى، ويعلموهم أن إيمانهم: محمد صلى الله عليه وسلم قصد إلى شقاقهم وخلافهم، لكن لأنه نبي، والتفريق بين أنبياء الله ورسله في الإيمان بهم غير جائز، فإنهم قد آمنوا بعيسى وموسى ولم يمنعهم من الإيمان بهما، إنهم لا يؤمنون بنبيهم، فلو كان القصد إلى الشقاق دون التدوين لم يكن منهم هذا. ثم قال: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتك به فقد اهتدوا} أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم يفرقوا، فقد اهتدوا، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن التدبر إلى الشقاق، فسيكفيهم الله وهو السميع العليم. فهذا معنى الآية، وليس فيها بيان أن الإيمان الذي أمروا به أن يصفوا به أنفسهم، فإذا كان وما حده؟ وما حقيقته؟ وإذا كانت هذه الآية خطابا لقوم قد اعتقوا الحق وأقروا به، وصلوا وصاموا وعبدوا الله تعالى بضروب من العبادات، وقابلوا أوامره ونواهيه بالطاعة، فهم إذا قالوا آمنا بالله وما أنزل إلينا اشتمل ذلك عندنا على كل طاعة وجدت منهم إلى ذلك الوقت. فإن خالفنا الرجل في ذلك وقال: أنه لا يشتمل على الإقرار والاعتقاد، فلهم على قوله دليل، فإنا له فيما قال مخالفون، وله بالدلالة عليه مطالبون. فإن قال القائل على ذلك، لمنه جل وعز قال: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}. ومعلوم أنهم لو شهدوا شهادتي الحق لكانوا مؤمنين مهتدين، فظهر بذلك أنه لم يدخل في قوله عز وجل: {قولوا آمنا بالله} إلا شهادة الحق. قيل لهم: إنما يكونوا مهتدين إذا أدوا ما عليهم، إلا أنهم إن شهدوا شهادتي الحق، لم يتراكم عليهم في ذلك الفوز الفرائض كلها، وإنما تجب شيئا فشيئا. فإذا أدوا في أول

أوقات دخولهم في زمن الحق ما عليهم في ذلك الفوز، فقد اهتدوا، كما أن المؤمنين الذين أمروا أن يقولوا آمنا لما كانوا مؤدين ما عليهم كانوا مهتدين، وصح منهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا، والله أعلم. وجواب آخر: وهو أنا لو سلمنا له أن قول الله جل وعز: {قولوا آمنا} إشارة إلى اعتقادهم وإقرارهم، فليس في ذلك ما يقيم له حجة، لأنا لم ننكر أن يكون ذلك إيمانا، فنكلف إقامة الدليل عليه. وإنما أنكرنا أن لا يكون ما عداه إيمانا، فإنما ينبغي أن يقيم الدليل على ما تنفيه ونثبته، لا على ما نثبته جميعا ولا ننكره، وكل ما قلنا في هذه الآية فهو في قوله عز وجل: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا} مثله. لأن فيه مدحا للذين يقولون بهذا القول، وليس فيه تحديد الإيمان الذي أخبروا أنهم سمعوا مناديا ينادي إلى عبادة الله التي تنقسم أقساما ووجوها كثيرة. غير أن أعلاها وأثبتها التوحيد، فدخلت العبادات كلها في الإيمان الذي نادى به، ودخل في قول المحبين، فآمنا، ووصفهم أنفسهم بذلك إقامتهم كل ما دعاهم إليه المنادي. فإن قال الرجل: لم يكن ذلك كذلك، وإنما المراد من النداء الإجابة إلى التوحيد، فإنما كان إلى الإيمان، والإجابة إن كانت إليه فإنما كانت إلى الإيمان، ولسنا ننكر ذلك الإيمان. وإنما الخلاف في الطاعات سواه، وليس إذا كان التوحيد إيمانا، أو امتنع أن تكون سائر الطاعات إيمانا، فما دليله على أنها ليست إيمان. فإن المختلف فيه أحق بإقامة الدليل عليه من المتفق عليه والله أعلم وبه التوفيق. ويقال له: أرأيت لو قال لك قائل أن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليس بإيمان، فإنما الإيمان هو التصديق بالله تعالى. لأن الله تعالى أثنى على ذلك: {قالوا ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا}، ولم يذكر الإيمان بالرسول، فإذا كنت تقول له: فإن فرغ إلى أن ذلك لما قام الدليل عليه لا في هذه الآية. قيل له: وكذلك الطاعات كلها، قد قام الدليل على أنها إيمان، لا في هذه الآية، فما أنكرت أن الرجوع إليها أولى من الرجوع إلى ما لا دلالة له فيه على موضع الخلاف وبالله التوفيق.

قال الرجل: وقد فرق الله تعالى بين الإيمان وبين سائر الخيرات بقوله: {لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}. فيقال له: ما في هذه الآية ما يدل على أن اكتساب الخير في الإيمان ليس بإيمان. فإن قال: لأن ذلك لو كان كذلك، لكان كأنه قال: أو كسبت في إيمانها إيمانا. قيل: وما الذي يمنع أن يقال ذلك وما فيه من المعاني التي يفسد بمثلها الكلام فأقم الدلالة على صحة ما تدعيه إن كانت عندك، فأنا لما تقولوه رادون، ولك بحجة مؤاخذون. فإن قال: أنه لما قال: {أو كسبت في إيمانها خيرا} دل ذلك على أن المكسوب غير المكسوب فيه، بلى كذلك لا تكون دوائر الإيمان المبتدأ غير ما يقام فيه من صلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد، وإن كان كل ذلك إيمانا، كما أن دوام عقد الصلاة وحرمتها غير ما يؤتى به فيها من ركوع وسجود وغيرها، وإن كان كل ذلك صلاة. فلم قلت: إن الخير المكسوب في الإيمان لا يكون إيمانا؟ ويقال له: ما أنكرت أن تقدير قول الله عز وجل: {أو كسبت في إيمانها خيرا} أو كسبت لإيمانها، كما لا تفعل الخيرات التي هي إيمان، والاستكثار منها، ونظيره قول الناس: أفاد فلان علي في علمه تقدما، أو في صناعته نفادا، أي استفاد كمالا في علمه وكمالا في صناعته. لأن التقدم في العلم علم، والنفد في الصناعة صناعة. قال الرجل: وقال عز وجل: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا} وقال: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن}، فلا يجوز أن تكون الأعمال الصالحة هي الإيمان، فيكون شرط صحة الشيء وسبب قيامه هو الشيء نفسه. فدل ذلك على أن الإيمان غيرها. فيقال له: ما أنكرت أن معنى قول الله عز وجل: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا} أي فيكون إيمانه بالله تاما كاملا إذ العمل الصالح إيمان. وهو كقول القائل: من صلى وأحسن الركوع والسجود فله كذا، فيكون المعنى. من صلى وأحسن الركوع والسجود

فكانت صلاته بذلك تامة لا نقص فيها ولا خلل، إذ الركوع والسجود صلاة، وإحسانهما إحسان صلاة، وقال عز وجل: {ومن تقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا} لا يدل على أن العمل الصالح ليس من جملة القنوت لله ورسوله. فكذلك قوله عز وجل: {ومن يؤمن بالله ورسوله} لا يدل على أن العمل الصالح ليس من الإيمان. وأما قوله عز وجل. {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} يعملها لأنه قد يعمل العمل الصالح في نفسه من لا يكون بفعله إياه مؤمنا، وأن إعتاق العبد والصدقة على الفقير عملان صالحان بأنفسهما، لأن الكافر إذا عملها لم يكن بفعله إياها مؤمنا. وهذا كما يقال: من يركع ويسجد وهو مصل فله كذا، فيراد به أن يكون ركوعه وسجوده صلاة، ويكون المعنى: وهو مصلي بفعلهما، فكذلك هذا والله أعلم. فأما قوله: لا يجوز أن يكون شرط صحة الشيء هو الشيء نفسه! فجوابه أن يقال له: إن كان كذلك، لا يجوز! فأنت القائل بما لا يجوز والداخل في معناه، كان الإيمان شرط لصحة الصالحات. ولا خلاف في أنه بنفسه من الصالحات فقد صار شرط صحة الشيء نفسه باتفاق! فإن قال: لا! قيل له: فقل: إن الإيمان ليس من الأعمال الصالحة كما قلت أن الأعمال الصالحات ليست من الإيمان. وإن جاز ذلك أن يقول: إن الإيمان من الصالحات، وإن كانت الآية واردة بلفظ يوجب ظاهرها، أن يكون الإيمان شرط الصالحات، فيكون ما شرط من الإيمان لصحة الصالحات من الإيمان. فتجعل الصالحات وما شرط لصحتها من الإيمان شيئا واحدا، ولا فصل بين القولين. ويقال له على كلامه في هذه الآيات كلها: أنكرت أن جميعها واردة في الإيمان بالله ورسوله. ولسنا ننكر أن الإيمان بالله ورسوله ما ذكرت. ولكن وراء ذلك إيمانا لله ورسوله، ووجوب أحد الإيمانيين لا يمنع وجوب الآخر. وكذلك استحقاق أحدهما اسم الإيمان لا يمنع استحقاق الآخر اسمه. فما أنكرت أن الطاعات كلها تستوجب اسم الإيمان لله ولرسوله، وإن كانت لا تستوجب اسم الإيمان بالله. فإن معنى قول الله عز وجل: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا} أي ومن يؤمن بالله ويؤمن له. ومعنى {فمن يعمل من الصالحات وهو

مؤمن}. أي فهو مؤمن لله، وقد قدم الإيمان به. ومعنى: {لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}. ذلك إيمانا لله ورسوله. ويكون الدليل على ذلك ما تقدم بحقيقة من هذا المعنى في الباب الأول والله أعلم. ويقال له: هل يجوز أن يكتسب الكافر من كفره شرا يكون ذلك في زيادة كفر منه مثل: أن يكون كافرا بنبي فيجحد نبوة نبي آخر! ويكون جاحدا للنبوات فيحدث شبها لله بخلقه! فإذا قال: يجوز. قيل: لم لا جاز أن يكتسب المؤمن في إيمانه خيرا يكون ذلك إيمانا فيزداد بذلك إيمانه، وما الفرق؟ ويقال: أليس أصحابك قد حملوا ما جاء من القرآن في زيادة الإيمان على أحد معنيين: أما زيادة اليقين، وأما تكرير الإقرار. فبما تقول فيمن كان له في إيمانه فضل استدلال على صحة دينه، وقوى بذلك يقينه أو كرر الإقرار؟ ليس كل واحد من الأمرين خير كسبه في إيمانه، وهو في نفسه إيمان. فما أنكرت أن يكون ذلك الخير الذي أراده الله تعالى بقوله: {أو كسبت في إيمانها خيرا} إيمانا إذ قد ظهر أن تسمية الله تعالى الفعل الواقع في الإيمان خيرا مكتسبا في الإيمان، لا ينفي أن يكون ذلك الخير إيمانا، وهذا كقبول الشرع بعد الشرع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعد صحة الإيمان به كان كسب خير في الإيمان، وكان بنفسه إيمانا، فلا ينكر أن تكون كل عبادة وطاعة كذلك، والله أعلم. قال الرجل: والأشياء تعرف بأضدادها، والكفر الذي هو ضد الاسم التصديق لا غير! فيقال له: أن هذه العبادة ليست من كلام أهل التحقيق وهي خطأ، لأن الأشياء تعرف إما ضرورة، وإما بالدلائل الدالة عليها. فإما أن يقال: إن كل شيء فإنما يعرف بضده، فهذا يوافق إلى أن لا يعرف شيء من المتضادات قط، لأن الإيمان إذا كان يعرف بالكفر، ويجب أن تسبق المعرفة بالكفر، وتتأخر المعرفة بالإيمان، إلى أن يقابل بالكفر فينظر ما الذي تنتجه تلك المقابلة، فيعتقد، وفي هذا ما أبان سقوط هذا الكلام، إذ كان ذلك يؤدي إلى أن لا يعرف إيمان ولا كفر أبدا وبالله التوفيق. ويقال له: زعمت أن الكفر لما كان الجحود، ووجب أن يكون الإيمان الذي هو ضد

الكفر التصديق، وهذا مسلم لك وزيادة، لأنا نقول: الإيمان كله التصديق، والطاعات كلها تصديق، لأن من لا يصدق بالباري عز وجل ولا يصدق برسوله، لا يظمأ نهاره بالصوم ولا يسهر ليله بالقيام، ولا يتعب جوارحه وأعضاءه بالصلاة، ولا ينقص ماله بالزكوات، ولا يجهد نفسه بالحج، ولا يتعرض للقتل بالجهاد، ولا يبكي من خوف الجحيم، وإذا كانت الطاعات كلها تصديقا، وجب أن تكون كلها إيمانا، وما كان منها ضدا للكفر وكان ضد الفسق فسواء، والله أعلم. ويقال له: الكفر والإيمان في انقسامهما إلى الأصل والفرع سببان عندنا، لأن الجحود أصل الكفر، والمعاصي كلها فروعه. إذ الجروح صريح والمعاصي أمارات وكذلك الإقرار الذي ينشأ عن الاعتقاد صريح الإيمان، والطاعات أمارات، وأمارات الكفر في الكفر كفر، وأمارات الإيمان في الإيمان إيمان. والأمارة مقصر بها عن رتبة الصريح في الأمرين، فإذا كانت الأشياء تعرف بأضدادها، فما أنكرت أن هذا وجه معرفة الكفر والإيمان وبالله التوفيق. قال الرجل: ويدل على أن سوى التصديق من العبادات ليس بإيمان، أن الكفار لم يفرعوا عند مبايعتهم بأس الله إلى غير التصديق، كفرعون لما أدركه الغرق قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل}، وقوله: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده}. وقوله: {قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم}. وقوله: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها}. فإنما فرعت الكفر عند الضرورة إلى ما عرفوه حقيقة الإيمان وهو التصديق دون شيء من العبادات، فثبت أن الإيمان غير التصديق. فيقال له: إن الكفار يفرعون عند رؤية البأس إلى أصل الإيمان، وهو صريحه الذي يضاد صريح الكفر وأصله، وليس ذلك إلا الاعتقاد والإقرار ولا يفرعون إلى فروع الإيمان لأن مزايلة أصل الكفر لا يقع بها لكن ذلك لا يمنع من أن يكونوا بعد الدخول في دين الحق محتاجين إليها، لتكمل درجات الإيمان وشعبه، ولئلا يعصوا بترك الفرائض

فيكونوا قد ضموا إلى أصل الإيمان المعاصي التي هي فروع الإيمان وإمارات التصديق، فيكمل بذلك إيمانهم. وهذا كما أن من أراد الصلاة كفاه في الانتقال من الصلاة إلى الصلاة أن ينوي ويكبر وليس إذا صار بمجرد التكبير داخلا في الصلاة وجب أن لا تكون الصلاة كلها التكبير، وامتنع أن تكون بعضه فرائض يحتاج إلى الإيمان بها شيئا فشيئا لا لتتمة الانتقال، ولكن لتتمة ما وقع الانتقال به. وهكذا من يريد الحج ولا يحتاج إلى الانتقال من الإحلال إلى الإحرام إلى أكثره من عقد الإحرام، وأراد به تقلبه ولا يدل ذلك على أن هذا هو الحج دون غيره، بل وراء ذلك أعمال يحتاج إلى الإتيان بها لا لتتمة الانتقال لكن لتتمة ما وقع الانتقال به، فإنه أمر بالإحرام ليقف بعرفه محرما، ويطوف ويسعى محرما. فكذلك الكافر إذا عزم على الإيمان كفاه في الانتقال من الكفر إلى الإيمان الاعتقاد والإقرار وذلك لا يدل على أن هذا هو الإيمان، بل وراء ذلك فرائض تتابع، فكلما وجب منها احتاج منها إلى الإيمان به، إذ هو لم يؤمن بالانتقال وحده، وإنما أمر به، وبأن يصلي في إيمانه، ويزكي ويصوم ويحج ويجاهد، فلا يكمل إيمانه إلا بأداء واجباته كما لا يكمل حجه الذي صار داخلا فيه، إلا بأداء واجباته، ولا صلاته إذا صار داخلا فيها بتكبيرة إلا بأداء واجباته، والله أعلم. ويقال له في قوله: إن الكفار لم يفرعوا عند معاينة البأس إلا إلى التصديق بدليل كذا وكذا، فثبت أن الإيمان غير التصديق، وهل سمعت أحدا من أصحابنا يقول: إن ما ليس بتصديق فهو إيمان؟ قلنا: ما عرفنا أحدا يقول ذلك. والإيمان عندنا هو التصديق، وما ليس بتصديق فليس بإيمان، إلا أن الطاعات عندنا كلها تصديق من الوجه الذي تقدم بيانه. وإذا كان تصديقا وكان الإيمان التصديق، لم يكن تصديق بأن يكون إيمانا أحق من تصديق، وبالله التوفيق. قال الرجل: ويدل على ذلك أنه لا تخلوا كل عبادة من أن يكون إيمانا بنفسها على الانفراد، أو يكون الإيمان اسما لجميع الخيرات، فإن كانت كل عبادة إيمانا على الانفراد ودينا وإسلاما فهي إذا أديان، ويكون مع الواحد عشرة أديان أو عشرون ديناً، ومع

آخر أقل من ذلك، أو أكثر فيبطل أن يفهم من الأمر بالإيمان والإسلام مراد، ويكون من ترك عبادة من العبادات تارك من أديان الإسلام، ويجب وصفه بالانتقال من دين إلى دين وإيمان إنى إيمان، كما يقال ذلك في العبادات، ويجب إذا أفسد عبادة أن يقال: قد أفسد دينا وخرج منه. ويبطل القول بزيادة الإيمان لأنه لا يعرف ما يوصف بزيادة الطاعة، لأن المقصود منهما مجهول، وكذلك القول بالكمال إلا أن يشار إلى عبادة بعينها، فثبت أنه لا يجوز أن تكون كل طاعة إيمانا على الانفراد، وإن كان الإيمان عندهم اسما لاجتماع جميع الطاعات وهو دين واحد، وإيمان واحد، فالقول بزيادة الإيمان لا معنى له لأنه لا احد يبلغ في فعل العبادات والطاعات نهايته، فهو أبدا في جمع الإيمان وتحصيله غير مستكمل له، ولا بالغ غايته، فبطل أيضا اعتبار هذا الوجه، فدل أن غير التصديق من الخيرات ليس بإيمان. ويقال له: قولك أن غير التصديق من الخيرات ليس بإيمان كلام متناقض لأن فعل الخير كله تصديق كما مضى بيانه وتقديره، فإذا كان الإيمان التصديق، فكان فعل الخير تصديقا وجب أن يكون إيمانا. ويقال له: أن الطاعات كلها إيمان، وكل واحد منها إيمان إذا صحت وسلمت، ولا يلزم على ذلك أن يكون من جاء بعشرين طاعة جاء بعشرين إيمانا كما أن عندك أن الاعتقاد والإقرار إيمان، ثم لا يقول أن من جمعها كان جامعا بين دينيين، أو بين إيمانيين. فإن قال: التصديق يجمعهما. قيل: والطاعة تجمعها، وما يتبع من الفرائض والنوافل عشرين كانت أو ثلاثين أو مائة، ولا يكون بذلك أديانا ولا عدة أديان. وأيضا كان الإيمان بالله وملائكته وكتب ورسله واليوم الآخر والبعث والحساب والجنة والنار والقدر واجب، والتصديق بكل ذلك إيمان. ثم لا يقال: إنها عدة أديان وإيمان، فكذلك الطاعات إذا عدت من الإيمان لم يلزم أن يكون الإيمان أعدادا كثيرة، والإسلام أديانا جمعه لا دينا واحدا، وهكذا يقبل كل ما كان بشرع، واحدا بعد واحد. ويقبل ما قد شرع إيمان ومعلوم أنه إذا كان لكل شريعة تقبل، كثير التقبل، ثم لا يصير الدين بذلك أديانا، ولا الإيمان يصير معدودا، فكذلك العمل وإن كثر، فكذلك لا يلحق الإيمان عددا، ولا يجعل الدين أديانا، والله أعلم.

وأما جواز أن يقال لمن انتقل من صلاة إلى صلاة، أو من حج إلى عمرة، فلا يلزمنا أن نقوله. لأنا قد بينا أن الدين واحد وإن كثر. والطاعات لا تنحه علينا مع ذلك هذا الكلام. وأيضا فإن الناس كانوا يقبلون فرض صيام الليل وفرض الصدقة عند التخوف وفرض النيات من الواحد للعشرة، فكان يقبل ذلك إيمانا منهم، فلما نسخ ووضع عنهم سقط ذلك الثقيل، وخرجوا منه إلى اعتقاد أن شيئا من ذلك لا يلزم، فكان هذا الاعتقاد هو الإيمان. وما كان يجوز أن يقال: أنهم خرجوا من دين إلى دين، لأنهم خرجوا من تقبل فرض إلى تقبل سقوطه، وإن كان ذلك الثقيل دينا فلا ينكر أن تكون الصلوات إيمانا ودينا، ومع ذلك لا يجوز أن يقال للخارج من صلاة إلى صلاة خارج من دين إلى دين، وأيضا فإن الإيمان عندك الاعتقاد والإقرار، فمن اعتقد واعترف فقد آمن. ثم لا يقول: إذا تم اعتقاده واعترافه وانقطع كلامه فقد انقطع دينه وانقضى إيمانه، ولا إذا أمسك عن الاعتراف أنه يمسك عن الإيمان أو يمسك عن الدين، فكذلك لا يلزمني إذا قامت الصلاة دين، أن أقول لمن خرج من صلاة إلى صلاة، أنه خرج من دين إلى دين، وأما أن كل طاعة إذا كانت دينا لم يصح القول بزيادة الإيمان، لأنه لا يدري ما الذي يوصف بالزيادة، فإنه يعارض عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فلو أجابوه لكانوا مؤمنين! فإذا قال: نعم! قيل له؟ فإن أمرهم بعد ذلك بالصلاة فقبلوا لكان يكون منزلهم إياها زيادة إيمان. فلابد من نعم. فيقال له: فإذا كنت الشرائع لم تكمل! فعلى ماذا كانت الزيادة؟ وإن قال: كانت الزيادة على ما نص، قيل: فكذلك كل طاعة يستجدها العبد فهي زيادة إيمان على ما مضى من طاعته، لا على نهاية الطاعات التي لم توجد. ويقال له: أرأيت لو بعث الله جل ثناؤه في زمن النبوة نبيا، فدعا الناس إلى الله تعالى، فآمنوا وصدقوا، ثم بعث نبيا آخر، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم الأول، بأن الثاني نبي، أو جاء بمعجزة تدل على صدقة، كان يلزم أن يؤمنوا به، فلابد من نعم! فيقال له: صلي فإذا آمنوا به، أيكون ذلك زيادة إيمان منهم؟ فلابد من نعم! فيقال له: فعلى ماذا تكون الزيادة والنبوة لما بيناه، والأنبياء لم يتكاملوا؟ فإن قال: تكون زيادة إيمان على ما تقدم من الإيمان بالرسل المبعوثين. قيل: فقل في الطاعة بعد الطاعة مثل ذلك، وبالله التوفيق.

وأما قوله: وكذلك الكمال. فجوابه: أن وصف الإيمان بالكمال يصح لأن له شعبا معلومة، فمن استكملها فهو كامل الإيمان في حق ما مضى من أيامه، وإنما يبقى أن يستقبل مثل ما قدم إن بقى، فإن فعل ذلك إلى آخره عمره ما يكامل الإيمان، وهو كما يقول فيمن صدق بقلبه ولسانه أنه كامل الإيمان، لكن في حق الحال وهو محتاج إلى الثبات عليه فيما يستقبل، ووقوع الحاجة إلى الاستدامة في المستقبل، لم يمنعك من وصف الوجود في الحال ما جلبته من الكمال. فقولي في الطاعات كقولك في الدوام والله أعلم. وأما قوله: أن الإيمان، كان جميع الطاعات، والمؤمن إذا بدأ في جمع الإيمان وتحصيله، فمتى تثبت له الزيادة؟ فجوابه: إنما لا يثبت الزيادة من حيث قدر العبادة، وإنما تثبت الزيادة في فعل المؤمن على معنى أنه إذا عمل طاعة فكانت له إيمانا ثم عمل طاعة أخرى كانت له زيادة إيمان. ومعنى الزيادة أنها زيادة على ما مضى، لا أنها زيادة على كل ما يمكن أن يتقرب به إلى الله تعالى. لأن ما في قدر العباد من ذلك إنما ينقضي بانقضائهم. وهذا كما أن من صلى ثم صلى، كانت الثانية له زيادة صلاة. ولا يقال: كيف تكون زيادة وما في قدرة العبد من الصلاة غير محدود؟ فلذلك كل طاعة تحدث فهي زيادة إيمان، وإن لم تكن الطاعات التي قدر العبادة محدودة عندهم ولا معلومة لهم والله أعلم. قال الرجل: والانتهاء عن الكفر لا يكون إلا بالإيمان. لقوله تبارك وتعالى: {قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}. ولو كان الإيمان اسما لجميع الطاعات لم يصر منتهيا عن الكفر حتى يأتي بها كلها، فلما كان التصديق انتهى عن الكفر وبه تجب المغفرة ثبت أن الإيمان سواه. يقال له: لسنا ننكر أن الانتهاء عن الكفر لا يمكن إلا بالإيمان، وإنما ننكر أن لا يكون سوى ما ينتهي به عن أصل الكفر، ويقال: أن ما ينتهي به عن الكفر إيمان. وما يحتذر به من الفسق أو ينتهي به عنه إيمان. وكل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من

شرائعه، فهو إيمان. فينبغي أن يدل على أشياء من ذلك ليس بإيمان، لا على أن ما ينتهي به عن الكفر إيمان، وعلى أن جوابنا في الكافر إذا كان جمع بين أصل الكفر وفروعه من السيئات والمعاصي، أن أنهاه عن أصل الكفر يكون بأصل الإيمان، وعن فروعه بفروع الإيمان. وقد جاء أن رجلا قال: (يا رسول الله! أيؤاخذ الله أحدا بما عمل في الجاهلية؟ فقال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر). وقد مضى شرح معنى هذا الحديث فيما تقدم وفي هذا بيان أن ما قدره من أن الإيمان إلا ما ينتهي به عن أصل الكفر غير ثابت له، والله أعلم. ويقال له: أن الكافر إذا أسلم لم تزدحم عليه العبادات كلها فور إسلامه. فإن كان اعتقاد إقراره إيمانا كافيا في ذلك، فلأنه لا أمر متوجه عليه فيه. وقد يؤمن الأخرس بالاعتقاد وحده لأن فرض الإقرار لا يتوجه عليه، ثملا يدل ذلك على أن لسانه لو أطلق لم يلزمه الإقرار، ولم يكن منه إيمانا. فكذلك الجامع بين الاعتقاد والإقرار يكون مؤمنا بهما، وذلك لا يدل على أن وقت الصلاة إذا دخل فصلى لم يكن ذلك منه إيمانا والله أعلم. قال الرجل: فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" قبل الاحتجاج بهذا الخبر. لأن في نفس الخبر ما يمنع من قبوله، وهو أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة" ولا يحتمل أن يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد شعب الإيمان. فهو في الراوي، ولا يجوز إثبات دين الإسلام بخبر شك الراوي في متنه، وإن صح الخبر لم يكن لهم فيه حجة من وجوه: أحدهما: أن الخبر سمى كل شيء شعبة الإيمان، وهم يسمون كل شيء منها إيمانا، ويدعون على كتاب الله أنه جاء بتسمية الصلاة إيمانا بزعمهم، ورسوله صيرها شعبة إيمان،

فهو خلاف. والله تعالى يقول: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا من باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين}. فلا يجوز أن نخالف الرسول ولا نغير عليه. قال: والخبر جعل شهادة الإخلاص شعبة من الإيمان، وجعل غيرها أحوالها، وهم جعلوا هذه الشهادة وغيرها أغيارا لها. والخير جعل الإيمان اسما لبضع وسبعون، فلا يجوز تسمية الواحد من السبعين باسم الإيمان والصلاة واحدة من تلك الجملة، ولا يجوز أن يطلق عليها اسم الإيمان. فبطل الاحتجاج بالخبر. فيقال له: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك في شعب ولا يخفى عليه عددها، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أحد أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة" وغنما هذا يشكل من بعض الرواة، ولئن كان أحدهم شك، فقد روي غيره قطعا من غير شك أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون بابا" وأكثر الروايات على هذا فلا يجوز تعطيلها والإعراض عنها لشك عرض لغيرهم وفيها، ولو أن رجلا أقام شهودا على رجل بمال. فقال أحدهم: له عليه ألفان أو ألف درهم، وقطع الآخرون بأخذ العددين لم ترد شهادة القاطعين لشك الذي شك من بينهم، فلم تقطع بما قطعوا به، فكذلك هذا. وأما قوله: أن الخبر سمى الطاعات شعب الإيمان، وأنتم تزعمون أن كل شعبة منها إيمان. فجوابه: أن شعبة الإيمان إيمان، كما أن شعبة العبادة عبادة، وشعبة الطاعة طاعة، ولو قال قائل: العبادة كذا وكذا شعبة، فعدد الصلاة والطهارة والزكاة والصيام والحج والجهاد وسائر ما يعبد الله به خلقه مائة مائة حتى أتى على آخرها. ثم قال هذه شعب العبادة لم يمنعه ذلك من أ، يقول لكل واحد منهما: أنها عبادة. ولو قال: هذه شعب الطاعة، لم يمنعه ذلك من أن يقول لكل واحدة منهما أنها طاعة. ولو قال: هذه شعب الشريعة لم يمنعه ذلك من أن يوق لكل واحدة منهما أنها شريعة. أو قال: هذه أحكام الله وأوامره ونواهيه، لم يمنعه ذلك من أن يقول لكل شيء بعينه أنه حكم الله، أو أمره، أو نهيه. فلذلك إذا قال: أنها شعب الإيمان لم يمنعه ذلك من أن يقول لكل واحدة أنها إيمان. وقد يقول القائل: الصلاة خمس، فعد الظهر والعصر والمغرب والعشاء

والفجر، ثم يسمي كل واحدة منها صلاة، فلا يناقض ذلك قوله: "الإيمان بضع وسبعون شعبة". وأما قوله: الخبر جعل شهادة الإخلاص من شعب الإيمان، وجعل غيرها أجزاء لها، وهم جعلوا هذه الشهادة إيمانا وغيرها أغيارا لها فبهتت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". فجعل شعب الإيمان المتشعب بضعا وسبعين شعبة لا لشهادة أن لا إله إلا الله. ومن المحال أن يكون الصيام والصلاة والزكاة والحج أجزاء للشهادة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بالمحال. وأما نحن فلم يقل: أن الشهادة إيمان، بمعنى أنها جميع الإيمان، لكن على أنها أصل الإيمان. ولم يقل: أن سائر الشعب غير الإيمان، كما يقول: أنها غير الشهادة أو غير أصل الإيمان كمالا. يقول: أن كل واحد من الاعتقاد والإقرار غير الإيمان. وأن كنا نقول: أن الاعتقاد غير الإقرار، والإقرار غير الاعتقاد، والله أعلم. وأما قوله: أن الخبر جعل الإيمان اسما لبضع وسبعين، فلا يجوز أن يسمي أحدهما إيمانا. فجوابه: أن أحد هذه البضع والسبعين شهادة أن لا إله إلا الله وهي إيمان باتفاق، فكذلك كل واحدة من سائر الشعب إيمان، وإن كان الإيمان في الأصل اسما لبضع وسبعين شعبة، وبالله التوفيق. قال الرجل: فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان". قيل لهم: إن صح هذا الخبر لم يجز حمله على الظاهر، لأنه لا يجوز أن يوزن توحيد الرب بمثقال ذرة من خردل، بل لوزن بالدنيا والآخرة لرجحها، وقد جعل الله عقوبة عدم الإيمان عذاب الأبد، فلا يجوز أن يكون كل شيء يزن مثقال حبة من خردل يجعل عقوبة عدمه الخلود في النار.

-وكان في النسخة بعد هذا الكلام غلط وقع فيه الناسخ فلو يوقف منه على غرض- ويقال له: إن الاحتجاج بهذا الحديث لا يكون لإثبات أن الطاعات كلها إيمان، فإن كنت أضفت إلينا لهذا، فقد غلطت، وإن كنت انتقلت عن الفصل الذي ابتدأت به إلى فصل آخر، وهو أن الإيمان هل يزيد وينقص، وأردت بما حكيته عنا: أنا إن احتججنا بهذا الحديث لإثبات أن الإيمان قد ينقص حتى لا يكون في قلب إلا وزن خردلة، ثم قد يكون في قلب آخر وزن شعيرة، وفي قلب ثالث وزن بره، كما وردت به الأخبار، وهذا يدل على تفاوت الناس في إيمانهم، ثم جعلت جوابنا عن هذا ما ذكرت، فلقد أسأت الجواب. لأنك زعمت أن التوحيد لا يجوز أن يكون خردلة، بل لو وزن السموات والأرض لرجحها، وأن التوحيد فعل المتوحد كما أن سائر العبادات فعل المتعبد، وما كان فعل العبد يجوز أن يقع هذا ناقصا خفيفا. وإن كان المقصود بذلك الفعل هو الله جل ئناؤه. ألا ترى أن الصلاة عبادة الرجل لله جل ثناؤه، كما أن الإيمان توحيد، وقد يصلي الرجل صلاة يوفيها حقوقها فتكون ثقيلة في ميزانه، وقد يصليها مقتصرة على أقل ما تحوي، ويؤديها غافلا عنها تاركا الخشوع فيها مستعجلا بالفراغ منها، فلا يكون لها ذلك الوزن بل يكون يترك الأول بدرجات كثيرة، فكذلك لا ينكر أن يكون إيمان بعض المؤمنين كاملا بتكامل شعبه وحقوقه، ويضرب له المثل بالحسد وما يشبهه. وإيمان بعضهم خفيفا ناقصا، فيضرب له المثل بوزن الذرة ووزن الخردل، وليس في ذلك شيء يرجع إلى الله تعالى. ألا ترى أن توحيد الرب قد يعدم في بعض العباد وهم المشركون، فلا يكون لهم ما يوزن أصلا. فمن أين استحال منه إذا وجد الناقض الخفيف الذي لا يوزن إلا الشيء اليسير، من نحو ما ضرب له مثلا، والله أعلم. فإن قيل: فكيف يكون ذلك قبل أن يكون في قلب واحد توحيد ليس معه خوف غالب على القلب فيردع، ولا رجاء حاضر له فيطمع، بل يكون صاحبه ساهيا قد أذهلته الدنيا عن الآخرة فإنه إذا كان بهذه الصفة انفرد التوحيد بها إذا كانت كلها تصديقا،

والتصديق من وجه واحد أضعف من التصديق من وجوه كثيرة، فإذا كان كذلك خف وزنه، وإذا تتابعت شهادته ثقل وزنه. وله وجه آخر: وهو أن يكون إيمانا واحدا عن أشياء باستدلال قوي ونظر كامل، وإيمانا آخر واقعا عن الخير والركون إلى المخبر به. فيكون الأول أثقل وزنا والثاني أخف وزنا. فأما قوله: أن شيئا يكون خردلة، فلا يجوز أن يستحق الخلود في النار بعدمه، فكلام فارغ لأنه وإن كان خفيف الوزن فهو إيمان إذا عدم وجد مكانه الكفر، وعليه يكون التعذيب بالنار، فلا ينظر مع هذا الإيمان المعدوم كان خفيف الوزن أو ثقيله. وإنما ينظر إلى أن الموجود بدلا منه وهذا الكفر، والكفر أغلظ الجنايات، فحقه أن يقابل بأغلظ العقوبات والله أعلم. وأما من ولي من أصحابنا من أن الإيمان قد ينقص حتى لا يبقى منه شيء، بمعنى أن المعاصي تحبط ثواب الطاعة بعد الطاعة حتى يخلص الأمر إلى ثواب الإيمان، فلا يزال ينقص منه شيء بعد شيء حتى لا يبقى مما يحيط ثواب منه إلا قدر برة أو قدر شعيرة أو قدر خردلة أو قدر ذرة، فإنه يقول: فإنه يقول: المراد بالحديث (يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من الإيمان). أو شيء لم تحبط المعاصي ثوابه، وإن كان ذلك بقدر ذرة أو خردلة، ولا يخلد في النار من كان بهذه الصفة. وفي هذا دلالة على أن الطاعات من الإيمان وأن المعاصي تحبط ثوابها إذ كان الحديث لا يخرج إلا على هذا المعنى. فإن قيل: أرأيت إن كانت المعاصي أحبطت ثواب جميع إيمانه، أيخلد في النار، قيل: لا، وليس تخصيص الذي بقي في قلبه قدر ذرة وخردلة من الإيمان بالذكر، ما يمنع من أن يكون الذي لم يبق في قلبه إيمان إلا وقد أحبط المعاصي ثوابه غير مخلد في النار ولكن هذا إذا لم يخلد في النار أدخل الجنة بالشفاعة، فيكون ذلك إحسانا يبتدأ به لا ثوابا. والذي في قلبه شيء من إيمان لم يبطل ثوابه إذا لم يخلد في النار أدخل الجنة لثبات بإيمانه والشفاعة إن وقعت به قليلا، يعذب أو لينقص عذابه، فهو فرق ما بينهما والله أعلم.

قال الرجل: وقد يجوز أن يكون معنى الحديث أن من أتى بمثقال حبة من خردل من خير بعد الإيمان، ولم يكن خير غير ذلك أخرج من النار بالشفاعة، وإذا لم يكن له خير قط. فالله تعالى يتفضل عليه بالعفو ولا يجعل لأحد فه شفاعة. لأن التوحيد اعتقاد فيما بينه وبين ربه فهو الذي يتفضل عليه بالإخراج من النار. فيقال له: أنك قد أتيت الخير بعد التوحيد إيمانا، ولا تشعر لأن الحديث خائضا في مثقال ذرة من الإيمان. فقلت معناه: خير كسبه بعد التوحيد، فأوجبت بذلك أن يكون الخير بعد التوحيد إيمانا، ومع هذا فكلامك غير صحيح، لأن الحديث اقتضى الإيمان الذي يكون بالقلب فعلم أنها غير مرادة بالحديث وقوفك بين من يعفى عنه بلا شفاعة. وبين من لا يعفى عنه إلا بشفاعة، نادر غريب. لأنك جعلت أحوج الرجلين إلى الشفاعة وأبعدها من استحقاق الفضل خارجا من أن تكون له الشفاعة لاحقا بمن يبدأ بالفضل والإحسان بلا مسألة، وأدناها إلى الفضل أبعدها منه، وأولاها بأن لا ينال خيرا إلا بالشفاعة، وهكذا يكون حال من يبغي ما ليس له، والله أعلم. قال الرجل: فإن احتجوا بما ذكر في القرآن من زيادات الإيمان، قيل لهم: لا حجة لكم فيها لأن الإيمان عندكم اسم لجميع الطاعات ولا سبيل إلى استجماعها. فالإيمان على قولكم ناقص أبدا غير كامل، فكيف يجوز أن يوصف بالزيادة عليه؟ فيقال له: إن الإيمان اسم لجميع الطاعات، ولكل واحدة منها. فمن أداها جميعا كان كامل الإيمان، وأما في حال الأداء، فإن من أدى منها شيئا واجب زاد به ما تقدم من أدائه، فإن وجب شيء آخر بعده فأداه، زاد به ما مضى قبله. ولا يكون ناقص الإيمان بأن لا يكون قد حل عليه واجب بفعله إلا بالإضافة له، إلى من حل ذلك عليه ففعله، إنما ينقص إيمانه حقا إذا وجب عليه شيء فلم يفعله فبطل. بهذا قولكم أن الإيمان عندكم ناقص أبدا، وقولك لا سبيل إلى استجماع الطاعات كلها بحال، لأنها قد اجتمعت في الشرع ولو لم يكن إلى الجمع بينهما في الفعل، ما جمع بينهما في الشرع ولا نظمت في التكليف والله أعلم. قال الرجل: والآية سمت الزيادة إيمانا لقوله تعالى: {زادتهم إيمانا} وعندكم

أنها أجزاء الإيمان، وبعض جزء الشيء لا يستحق اسم الشيء نفسه، وفي هذه الآية تحقيق اسم الإيمان لكل جزء منها. فثبت أن القول يجعل كل طاعة جزءا من الإيمان، قول فاسد وبراعة أن هذا الرجل إما أن يكون في نهاية الغفلة أو في نهاية الإعجاب بنفسه لأنه يقول بالشيء ثم ينقضه في الحال نفسه ويحب بما فيه كثير قوله وهو لا يشعر قلبه بدأ كلامه لأن الآية سمت الزيادات إيمانا، فيقال له: ما هذه الزيادات أولا فإنك قد أثبتها، وفي جوابك الأول أحلتها، فهل هي إلا الطاعات التي يترادف، فكلما وجد منها شيء ازداد ما قبله، ثم قال: وعندكم أنها أجزاء الإيمان وبعض التي لا يستحق اسم الشيء ثم ينقص هذا على نفسه. فقال: وفي الآية تحقيق اسم الإيمان لكل جزء من أجزاء الإيمان. فما عذرك في رفع اسم الإيمان عن شيء حققته الآية؟ ثم رجع في هذا وقال: فثبت أن القول يجعل كل طاعة جزءا من الإيمان فاسد. فيقال له: أليس زعمت أن الآية حققت اسم الإيمان لكل جزء من أجزائه، فأثبت تجزأ الإيمان، وأثبت اسم الإيمان لكل واحد من الأجزاء. فيكون القول بما حققته الآية فاسدا، وفي هذا ما أبان غفلته. ويقال له: إن بعض أجزاء الشيء قد يستحق اسم الشيء نفسه لأن كل القرآن قرآن، وكل سورة منها وكل كلمة وكل آية قرآن. فالطاعة طاعة وكل نوع منها طاعة، والعبادة عبادة وكل صنف منها عبادة. والسماء سماء وكل جزء منها سماء، والماء ماء وكل جزء منها ماء، والأرض أرض وكل جزء منها أرض. فمن أي استحال أن تكون شعب الإيمان إيمانا، وكل شعبة منها إيمانا، فتكون زيادة الطاعات زيادة إيمان. قال الرجل: والإيمان عندهم اسم لاجتماع جميع الخيرات، وما جعل اسما للكل استحال وصفه بالزيادة، لأنه ليس وراء الكل شيء يتصل به، فيكون زيادة عليه. فيقال: إن الإيمان اسم لجميع الخيرات: فرائضها ونوافلها وأنواعها منه. وليست بخارجة من الشعب البضع والسبعين ولا زيادة عليها، لأن المحدود في الشريعة لا سبيل لأحد إلى الزيادة عليه، ولكن هذا التوفيق يلحق هذه الشعب من قبل الوضع والشرع، فأما أفعالنا وأعمالنا وأداؤنا هذه الشعب فإنها قد تقل وتكثر، كما أنها قد توجد وقد تعدم، والشرع بحالة لا يتغير، فإذا جاز أن تكون هذه الشعب من حيث الشرع

موجودة، ولا يوجد من بعض الناس فعل شيء منها جاز أن يكون من حيث الشرع محدودة ويوجد من الناس التفاوت فيها، فمن جامع بينهما وبين مفرق، فمن جمع فقد كمل إيمانه، ومن فرق نقص إيمانه. ألا ترى أن الصلاة المفروضة محدودة في الشريعة، ثم قد توجد في أفعال المؤدين لها بالزيادة والنقصان، فمن أقامها كان كامل الإيمان ومن أقام بعضها وترك بعضها كان ناقص الصلاة وأجزاؤه كالصلاة وأعدادها والله أعلم. قال الرجل: فتأويل الآية يخرج على وجوه: أحدها: أن يكون المراد بها الزيادة في فضل الإيمان ودرجته، وحسنه وجماله، لا في أجزائه وأبعاضه، كما سميت صلاة واحدة بمكة بألف صلاة، وأريد بذلك الزيادة في الفضل والدرجة لا في العدد. والآخر إن ما كان زيادة في نفس الشيء وأجزائه فإن ارتفاعه يوجب نقصانا فيه، وترك الطاعات لا يوجب نقصانا في نفس الإيمان. فدل ذلك على أنه ارتد به الفصل والدرجة، وهكذا يقول: إن الإيمان يزيد في الفضل والدرجة والحسن والجمال، ومن تعاطى المعاصي كأن إيمانه في الفضل والمنزلة، ومن الإيمان من يتعاطى أفعال الطاعات. فيقال له: إن الآية لا تحتمل ما ذكرت لأن الله عز وجل قال: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون}. ومعلوم أن نزول السورة لا يزيد المؤمنين فضل درجاتهم في إيمانهم، ولكنها قد تزيدهم إيمانا من حيث يعتقدونها ويعملون بها، فتكثر لذلك طاعاتهم. فصح أن المعنى هذا دون ما قاله. فإن قال: وما يمنع من أن يقال أنها تزيدهم إيمانا من حيث يعتقدونها ويعملون بها فتكثر، فتزداد بذلك درجات إيمانهم. قيل: يمنع من هذا أن الإيمان عندك إنما هو الاعتقاد والإقرار فقط. ومجموع هذين لا ينبغي أن يزداد تفضلا في درجات الثواب بطاعة تقام وخير يكسب بعده إن لم يكن ذلك إيمانا، لأن ثواب الإيمان لا يزداد درجاته ولا تتضاعف بما ليس بإيمان.

ألا ترى أن درجات الصلاة عندك لا تزداد بالصيام ولا درجات الصيام بالحج، فكذلك يلزمك أن تقول: أن فضل شهادة الحق ودرجاته لا تزداد بخير، سواها يؤتى به بعدها إن لم يكن إيمانا مثلها. فإن قلت: بل يزداد، لزمك أن تقول: أن كل خير يكتسب بعدها من دوامها فهو إيمان، وإنما يزداد فضل الشهادة بها لانضمام اشتباهها، كما يزداد فضل الصيام واجتماع حقوقها وشرعها والله أعلم. وكل ما قلته في هذه الآية فهو في غير مثله وبالله التوفيق. وأما استشهادك بالصلاة بمكة فغير صحيح. لأن تضعيفها لا يتعلق بزيادة فعل يكون من المصلي سوى ما يكون منه لا بمكة فمثلها أن المراد به تضعيف الثواب فقط، وأما زيادة الإيمان فلا تحدث إلا بفعل يحدثه المؤمن زائدا على ما تقدم منه، فإن لم يكن ذلك الفعل إيمانا، لم يجز أن يزيد في درجات الشهادة المقدمة، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يكون فعل المباحات يزيد في درجات، ولما لم يجز ذلك وزادت الطاعات عنده في درجات الشهادة صح أنها إيمان مثلها، فإذا انضمت إليه يثوب بها، فازداد بذلك ثوابها، والله أعلم. وأما استدلاله على أن المراد بزيادة الإيمان زيادة درجاته ونقصان ثوابه، بل كل زيادة في نفس الشيء، فإن ارتفاعه يوجب نقصانا فيه، وترك الطاعات يوجب نقصانا في الإيمان، ومع ذلك يحتج عليه بقبول نفيه فلا يبالي وكأنه لا غرض له إلا أن يسود بياضا. أو يقال: قد قال: وليس هذا من الآية بسبيل، فإن سئل عن نقصان الإيمان ترك الطاعات. قيل له: أقل ذلك إن صح يكن له طاعة، إلا شهادة الحق صار صريح إيمانه معارضا بأمارات الكفر، لا أن المعاصي كلها فروع الكفر، وهي إذا عارضته أو هنته كما لو صاحبته الطاعات التي هي أمارات التصديق لقوته. ولهذا سمي المسلمون الفسق جرحا وخلافه عدالة. فقلت: إن ترك الطاعات ناقص من الإيمان، وإن الأمر في ذلك بخلاف ما قدر والله أعلم. وأما من قال: إن المعاصي تحبط الثواب، وقد تخلص إلى ثواب الشهادة إذا أحبطت ثواب ما دونها، فإنه يقول: أن المعاصي تنقص الشهادة لأنه يجعلها لا ثواب لها، وإذا جعلها كذلك فقد نقص قدرها وحط رتبتها.

فإن قال الرجل: أرأيت من قال من أصحابك هذا، لم يقل أن زيادة الإيمان زيادة ثوابه، كما قال أن نقصان الإيمان نقصان ثوابه. قيل: بل يلزمه عند هذا، وهو أن الإيمان إذا كان لا ينقص ثوابه إلا بفعل ضده وهي المعصية التي هي من فروع الكفر، لم يرد إلا بفعل مثله وهو الطاعة، التي هي من فروع التصديق، فتزداد الطاعة المتقدمة بالطاعة المتأخرة، ويتضاعف الثواب. فأما أن يزداد ثواب الإيمان لا بإيمان يحدث بعده، فذلك محال، كما أن نقصانه لا بخلاف إيمان يحدث بعده محال، والله أعلم وبالله التوفيق. وأما من قال: إن نقصان الإيمان إنما يزداد به نقصانه عن حد الكمال المبين له أو نقصانه، بالإضافة إلى ما هو أكمل منه، وأنه لا يقول: المعاصي تنقص الشهادة. لأن معنى نقصان الإيمان عنده انقطاع أضداده عنه، فيقال: المعاصي نقصت إيمانه فعل ما تركه إلى ضده لكان ذلك إيمانا منه، ولكثرت به أجزاء إيمانه. فلما كان خلاف ذلك منه أنه وعالجوا الموجود من الإيمان، فكان إيمانه ناقصا بالإضافة إلى ما كان يكون لو لم ينفرد بالإضافة إلى إيمان غيره ممن لم يجن مثل جنايته، ونقصان الإيمان من هذا القول كنقصان المال، وزيادته كزيادة المال، أو نقصان كنقصان بعض الأعضاء وزيادته لتكامل الأعضاء، أو نقصانه كنقصان المال وزيادته كزيادة على مقداره. قال الرجل أيضا: فإن الزيادة في الإيمان إنما ذكرت عند زيادة الإيمان والسور، فمعناها الثبات على الإيمان والقرار عليه والصلابة فيه، لأن الآيات تظهر الحجج، وتزيل الشبهة فيزداد المؤمن بذلك قوة وثباتا على الإيمان. والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا}. فالذي وصفه بالزيادة في تلك الآيات وصفه بالتثبت قي هذه الآية، فدل أن معناها القرآن، والقرآن عليه وكذلك ضرب الله تعالى مثل الإيمان بشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء وصفه بالثبات والقرار عليه، ووصف الكفر بضد ذلك فقال: {اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}. فيقال له: أن الإيمان الزائد للمؤمنين بنزول السور: هو أن

يؤمنوا بالتأويل أولا، فيعتقدوا أنه من عند الله تعالى، ثم أن يعملوا إن كان فيه فرض سبيله أن ينفذ. فإن السورة التي قيل فيها: {وإذا ما أنزلت فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون}. هي التي قيل فيها: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا: ذرنا نكن مع القاعدين}. فعلمنا أن قوله عز وجل: (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) إنما أريد بها أنها إذا أنزلت بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاهدوا ولم يتحققوا عنه مستأذنين ولا غير مستأذنين. ألا ترى أنه قال: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا على رجسهم وماتوا وهم كافرون}. إنما أراد به أهل الطول من المنافقين الذين لا يكون لهم عذر مقعدهم ومع ذلك يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: {ذرنا نكن مع القاعدين} كل ذلك فعل يحدثونه فيحدث لهم به زيادة إيمان أو زيادة رجس، فصح أن المراد بالآية ما قلنا والله أعلم. وأما قوله: أن المراد بالآية أن الآيات إذا أنزلت أظهرت الحجج وأزالت الشبهة، فيزاد المؤمن بذلك قوة في الإيمان! فجوابه: أن تلك القوة ليست إلا فضل تصديق ما كان يحدث منه زيادة إيمان، فقد بينا أن كل طاعة تصديق، فليكن حدوثها زيادة إيمان، هذا ومن قوله: إن ما كان قبل نزول الآية فهو إيمان تام ولا معنى للزيادة على التمام ثم ينقصه على نفسه، ويزعم أن فضل التصديق الواقع بنزول آيات يتضمن على الحق دلالات زيادة حادثة على ما تقدم من الإيمان. فيقال له: إما أن لا يكون الأول تاما بالإطلاق فيكون، تعوض الزيادة، أو إن كان تاما فقد يكون تمام فوق تمام. فلا ينكر أن يرد عليه من الطاعات ما يزيده تماما وبالله التوفيق. وكذلك ما قاله في الثبات على الإيمان لأنه إن كان أراد أن السور إذا أنزلت أراد بها نفيهم حتى يصير ذلك سببا للثبات لولاه لكان لا يقع منهم، فهو تأويله الأول، وإذا

كان كذلك، فكل طاعة تحدث فهو تصديق حادث، فوجب أن تكون زيادة إيمان وبالله التوفيق. قال الرجل: ووجه آخر يحتمل أن يكون المراد بالإيمان نوره في القلوب، وضياؤه فيها، لا نفسه، لأن الله تعالى وصف الإيمان بالنور والضياء لقوله تعالى: {ويخرجهم من الظلمات إلى النور}. وقوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم}. وقال: {كأنها كوكب دري توقد من شجرة مباركة}. وقد سمى هو الشمس شمسا، ونور القمر قمرا، فلذلك يجوز أن يسمي الإيمان نورا، فالنور لا نور له، وإنما النور البين وعندك أن الله عز وجل سمى الإيمان نورا، فإذا لم يكن للنور نور، لم يكن لك أن تحمل الوارد بزيادة إيمان على النور. فإن زعم أن الإيمان نور وأن له نورا، لم يمكنه أن يرجع في إثبات ذلك إلى هذه الآيات، ويسأل عن نور الإيمان: الإيمان ما هو؟ فلا يمكنه أن يشير إلى معنى سوى أنه يدعو إلى الطاعات ويحول عليها، ويزجر عن المعاصي والميل إليها. وذلك نفس قولنا، لأن كل ما حول عليه إيمان فهو إيمان، فإن بدء الإيمان الاعتقاد بالقلب فلما كان إيمانا كان ما يحول عليه من الإقرار إيمانا. ولما كان الإقرار إيمانا. كان ما يحول الإقرار عليه من قبول الشرائع إيمانا. كذلك قبول الطاعات إيمان. فوجب أن يكون ما يحول للقبول من الأفعال إيمانا قبول الإيمان هو أن اعتقاده يهدي إلى الإقرار ويقبل الأمر والنهي، والتقبل يهدي ولا يعقل له معنى سوى هذا وبالله التوفيق. قال الرجل: وروي عن بعض السلف في تأويل الآيات، أن معناها: أنهم كانوا آمنوا بالله ورسله وبجميع ما يأتي من الله، فإذا أتى فرض بعد فرض ازداد إيمانهم بالتفسير مع إيمانه بالجملة. وقال أهل التفسير بأجمعهم في تأويلها: أنه التصديق أي زادهم تصديقا إلى تصديقهم، ويقينا إلى يقينهم، ولا أحد منعم صرف تأويلها إلى الصلاة والزكاة، ولا إلى شيء من القرب، فمن صرفه إليها فقد خالف أهل التفسير.

فيقال له: أن الذي حكيته عن بعض السلف صحيح، ولكن ليس إذا كان ذلك زيادة إيمان امتنع أن يكون غيره وهو العمل بذلك المتقبل إيمانا، فقبول ما يحدث بعينه إيمان، لأنه طاعة، فكذلك ينبغي أن يكون العمل به إيمانا لأنه طاعة ويثبت بزيادة الإيمان بكل حال. وأما المفسرون في إجماعهم على تأويل الآية: هو التصديق. فمرحبا بهم. ومن خالفهم فإنه لا يخالفهم، ويقول كما قالوا: إن زيادة الإيمان ليست إلا زيادة التصديق، لكن كل طاعة تصديق، فحدوثها كحدوث فضل اليقين أو الثبات وبالله التوفيق. قال الرجل: واحتجوا بما روي عن بعض الصحابة: أن القبلة لما حولت خشي كثير من الصحابة على من مات منهم ضياع صلاتهم، فنزل: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}. يعني صلاتكم إلى بيت المقدس. قيل لهم: أن هذا الخبر لا يصح عن الصحابة لأنه لا يجوز أن يسبق إلى فهم أحد أن الله تبارك وتعالى يضيع عملا عمل بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأن ذلك يوجب شكا في خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك كما ذكروا، لكان خوف الصحابة على أنفسهم من ذلك أوجب من الخوف على من مات منهم، والسؤال عن إعادة تلك الصلوات ألزم لهم من غيرهم، ولم يرو عنهم في ذلك شيء. فدل أن هذا التأويل باطل، ولأن الآية جاءت بذكر من بقي من الصحابة دون من مات منهم لقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} ولم يقل إيمانهم. وإذا بطلت القصة التي هي دلالة تسميتهم الصلاة إيمانا بطل التأويل. فيقال له: الذي ذكرت أنه لم يرو وقد روي، وجاء أن هذه الآية كما نزلت سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاتهم إلى بيت المقدس، ومعنى هذا أنهم سألوا: أهل عليهم إعادتها؟ وروي أنهم سألوا عن إخوانهم الذين قتلوا قبل تحويل القبلة. ومعنى هذا أنهم لما سألوا عن أنفسهم فأخبروا أن لا إعادة عليهم، ظنوا أن سقوط الإعادة عنهم إنما هو لأنهم أدركوا القبلة الجديدة. فلما صلوا إليها لم يتبعوا فيما صلوا قبلها إلى غيرها. وأما إخوانهم الذين ماتوا من قبل فعسى أن تضيع صلواتهم فسألوا عنهم. وهذا كما روي: أنه لما نزل تحريم الخمر، قالوا: كيف فمن مات وهو يشربها؟ فأنزل الله عز

وجل: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}. وأخبروا أن الأحياء الذين شربوا قبل التحريم والذي سبق موتهم نزول التحريم سواء في سقوط التبعة عنهم في ذلك. فكذلك أخبروا بقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أن الأحياء من المصلين إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة والأموات سواء، في صلواتهم محتبسة. وقد يجوز أن يكون السائلون عن هذا قوما سوى فقهاء الصحابة، فكان لا يحضرهم عند هذا السؤال قول الله عز وجل: {إني لا أضيع عمل عامل منكم} ولأن العمل إذا أدى بأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم يبطل على عامله وإن لحقه بعد ذلك نهي عنه وتبديل له. هذا وقد كان الزمان زمان الشرع، وقد كان يمكن أن ينوبهم فقهاؤهم إن كانوا هم السائلين. إن العمل إذا نسخ بطل ووجبت إعادته على منهاجه المستأنف دون ما مضى، فإن هذا مما كان يجوز أن يشرع ثم كان يكون، فنزل الله عز وجل: {إني لا أضيع عمل عامل منكم} محمولا على العمل إذا أسلم. وتكون إحدى شرائطه سلامته، أن لا يلحقه نسخ ولا تبديل. وإذا كان هذا جائزا ومتوهما مظنونا، لم ينكر أن يصير سببا للسؤال عن الصلوات المقدمة، فجابوا عنها بما أجيبوا به، ولم يجز أن يتسرع إلى إنكار رواية لا تعدلها في الشهرة والاستقاصة رواية، وما خلا منها كتاب مفسر ولا أحد تكلم في معاني القرآن، والله أعلم. قال الرجل: تأويل الآية عندنا خرج على وجهين: أحدهما: أن تكون الصلاة مضمرة عند الإيمان كأنه قال: وما كان الله ليضيع إيمانكم بالصلاة إلى بيت المقدس، وإنما سألوا عن الصلاة نفسها. فدل ذلك على أنها في الإيمان المذكور في الآية. ألا ترى أنه لما نزل تحريم الخمر لم يسألوا عن إيمان من شربها مستحلا لها، وإنما سألوا عن الشرب نفسه. ويقال له: إن كانت الصلاة سميت إيمانا لأنه سببها، فهو سبب كل طاعة فليسم إيمانا، وهذا مما ذكرنا من نقصه في بعض الأوقات على نفسه.

قال الرجل: احتجوا بقول الله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم} قيل لهم: لا يصح هذا التأويل، لأنه يوجب وصف الدين بالنقصان، ولا يجوز أن يقال أن الدين غير كامل في وقت من الأوقات. لأنه يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدرا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعا، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهمم من أنواع المحن. على دين ناقص، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكان يدعو الناس إلى دين ناقص. ومعلوم أن النقص عيب دين الله فيتم. كما قال: {دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا} ولو كانت الآية على ما توهموا من أن الدين كان غير كامل لقوله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم} لوجب أن يكون قوله: {ورضيت لكم الإسلام دينا} يدل على أنه كان لا يرضى به بعد ذلك. فيقال له: لم قلت أن كل نقصان فهو عيب؟ وما دليلك على هذا؟ فإنا لدعواك جاحدون. ثم يقال له: أرأيت نقصان الشهر! هل يكون عيبا له؟ ونقصان صلاة المسافر، أهو عيب لها؟ ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره} أهو عيب له بكل حال؟ ونقصان أيام الحيض عن المعهود، ونقصان أيام الحمل أهو عيب؟ ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غريق، إذا لم يفتقر به صاحبه أهو عيب له؟ فإذا كانت هذه الوجوه من النقصان وما يشبهها غير عيب! فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدين في زمان الشرع قبل أن يلحق بها الأجزاء الباقية في علم الله تعالى ليس بشين ولا عيب. ولا أنكرت أن معنى قول الله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم} يخرج على وجهين: أحدهما أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب، لكنه يوصف بنقصان مقيد. فيقال له: إنه كان ناقصا عما كان عند الله، أنه ملحقه به وضامه إليه، كالرجل يبلغه الله مائة سنة. فيقال: أكمل الله عمره، ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان من

سنين، كان ناقصاً نقص قصور وخلل. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر". ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيد، فيقال: كان ناقصا عما كان عند الله، أنه مبلغه إياه معمره إليه، وقد بلغ الله، فالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات. فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحا، ولا يجب عن ذلك أنها كانت- حين كانت ركعتين- ناقصة بعض قصور وخلل. ولو قيل: كانت ناقصة عمل عبد الله انه ضامه إليها، وزائدة عليها لكان ذلك صحيحا، فهذا هكذا في شرائع الإسلام، وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أنه أنهى الله تعالى: أن الدين منتهاه الذي كان له عنده، والله أعلم. والوجه الآخر: أنه أراد بقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} أنه وفقهم الحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره. فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه، وقياما بفرائضه. فإنه صلى الله عليه وسلم يقول: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت". وقد كانوا شهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجوا، فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم، أنزل الله تعالى وهم الموقف عشية عرفة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} فإنما أراد به أنه أكمل وضعه لهم، وفي ذلك دلالة على أن أعمال البر كلها دين وإيمان وإسلام. ومن قال بالوجه الأول ذهب إلى أنه أكمل الدين وصفا، واحتج بما روي من أن هذه الآية لما نزلت استقرت الفرائض فيما غير منها شيء إلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك دليل على أن الطاعات كلها دين كما الاعتقاد والإقرار دين والله أعلم. وأما قول الله عز وجل: {ورضيت لكم الإسلام دينا} فإنما معناه ورضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا لكم إلى آخر الأبد. فلا أغير شيئا منه ولا أزيد

ولا أنقص، فأما من قبل ذلك فإنه كان يرضى شيئا من دينهم لهم وقتا ثم لا يرضاه لهم بل رضي خلافه فلما أكمل الدين أخبر أنه قد رضي لهم جميع ما هم عليه لهم دينا فلا يغيره أبدا. فهذا معنى الآية وهو بعيد مما ظنه الرجل وبالله التوفيق. قال الرجل: وعلى أنه لا سبيل إلى إكمال الدين على مذهبهم، لأن الدين عندهم اسم لا حد له من الخيرات، ولا يقدر أحد على القيام بإنفاقه، فلا تمام للدين على هذا المذهب ويبطل امتنان الله على العباد بإكمال الدين. فيقال له: إن الخيرات لا حد لها من ناحية العباد وأفعالهم، وإلا فشعب الإيمان محدودة معلومة، فما دخل في جملتها فإيمان وجماعها جماع إيمان. وهذا كما أن الصلاة عبادة محدودة معلومة، ولكن لا حد لما يفعله الناس منها ولا مقدارا. والمأكول والمشروب بين معلوم، ولكن أكل الناس وشربهم لا حد لها ولا مقدار. فهكذا الإيمان محدود في حكم الله تعالى معلوم، ولكن فعل العباد له عودا على بدء لا حد لها، وإنما وصف الله تعالى بالإكمال وضعه وشرعه لا أفعالهم والله أعلم. قال الرجل: ويحتمل أن يكون معنى الآية، أظهرت دينكم فقدرتم على إعلانه في كل موضع، ويئس عدوكم من أين يتركون دينكم لقوله عز وجل: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} وكما قال: {والله متم نوره} ليس إن نوره كان غير تام حتى يتمه، وإنما أراد إظهاره الخلق. ألا ترى أنه قال: {يريدون ليطفئوا نور الله} فلو كان نوره ناقصا، فدل أنه كان تاما. فيقال له: إن الإظهار لا يسمى إكمالا، وقد يكون الشيء كاملا غير ظاهر، وظاهرا غير كامل. ولا يجوز مع هذا أن يكون بالإكمال في الآية الإظهار، وأيضا فإنه لم يقع يوم نزلت هذه الآية للدين إظهار لم يكن من قبل، وعلى تأويلنا قد وقع له كمال لم يكن من قبل. فنحن إذا أجريناها على ظاهرها اعتدل لنا ظوارها. وأنت إذا تأولتها امتنع عليك ما ينحلها فسيان ما القولان. وأيضا فكيف يجوز أن يكون المراد إظهار الدين الذي وعده بقوله عز وجل: {ليظهره على الدين كله}.

وقد كان ما بقي من مشارق الأرض ومغاربها غير مفتوح أكثر من المفتوح، وفي ذلك ما يبين أن المراد بالآية ما قلنا وبه وردت الآثار فلا معك عنها إل الهواجس التي تشبه الوساوس. وأما قوله عز وجل: {والله متم نوره} فالمراد به دينه الذي هدى به عباده، وإنما أتمه شيئا فشيئا ثم أكمله، فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم} ومن ظن أن لله عز وجل نورا سوى هدايته فهو إلى الإيمان أحوج منه إلى الكلام في الإيمان. ويقال له: أحسبت أن الدين في كل وقت كان كاملا، فما الذي منع من أن يكون الكمال درجات، فيكون كامل أكمل من كامل. وقد قال الله عز وجل: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} فقلت: هذا كمال، ووراءه ما هو أبلغ منه وهو ثلاثون شهرا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من وقف بعرفة فقد تم حجه). وأجمعنا على أن وراءه تماما آخر. فلم أحلت أن يكون للدين في الكمال متأول، ثم يكون لها آخر إذا انتهى إليه قبل الإطلاق، وقد كمل الدين وبالله التوفيق. قال الرجل: فإن احتجوا بقول الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا}. قيل لهم: أن المراد بالجهاد مجاهدة نفسه. فيقال له: قد ثبت أن جهاد المسلم نفسه إيمانا، وأنت لا تقول ذلك، فسواء خالفت الآية بإنكار أن يكون هذا الجهاد إيمانا، وإنكار أن يكون جهاد المشركين إيمانا، وعلى أنه قيل في الآية: {بأموالهم وأنفسهم} فصح أن المراد بها جهاد الكفار والله أعلم. قال الرجل: وإن كان المراد جهاد الكفرة، فالمراد هو القبول دون الفعل، لأن الفعل لو كان شرط الإيمان، لكان سائر ما ذكر من صفات المؤمنين، مثل قوله: {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ومثل قوله: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} {وتواصوا بالحق} شرطا في الإيمان. فبطل أن يون على وجه الأرض مؤمنا، فسقط الخطاب الذي جاء المؤمنين. فثبت أن المراد هو القبول، فيقال: أن الله عز وجل لما

قال: {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} علمنا أن المراد هو الفعل لأن القبول لا يكون بالمال. فإنه من فرائض الإيمان. ثم أكد ذلك بقوله: {أولئك هم الصادقون} أي المحققون قولهم بفعلهم، والصدق لا يظهر في القبول وإنما يظهر الفعل، والذي يقول ولا يفعل ليس بصادق, فبان أن الآية في الفعل، وكل ما عداه من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والتواصي بالصبر والمرحمة والحق فكله إيمان، والقول فيه وفي الجهاد واحد من الفعلة أن يتكلف الرجل هذه الفعول كلها لينفي أن تكون الطاعات إيمانا كما قلنا، ثم يذهب عليه أن هذه الأمور كلها طاعات والقول فيها كالقول في غيرها. وما أشبهه أن يكون معجبا فيغفله إعجابه، أو لم يجاوز في هذا الباب أحدا، وإنما تكلم على ما وجده في بعض الكتب والله حسبه. وأما قوله: لو كان كذلك لم يكن على وجه الأرض مؤمن، فجوابه: إنه عن لم يكن على وجه الأرض من يستوفي شعب الإيمان، فلم يكن كذلك في الأرض مؤمن كامل الإيمان، لم يلزمنا لأجل ذلك أن ينقص من شعب الإيمان. أو يقول: أنها ليست شعب الإيمان، كما أنه لو لم يكن في الأرض من يزيد على التوحيد شيئا ويأبى الإقرار بالنبوة والرسالة والملائكة واليوم الآخر، لم يلزمنا أن نقول: إن مجرد التوحيد إيمان، لأنا إن لم نقل ذلك لم يكن في الأرض مؤمن. وأما بطلان الحساب الذي قصد به المؤمنون، فلا يكون وإن لم يكن في الأرض كامل الإيمان، لأن المقدار الحاصل من الإيمان الموجود من تعبدهم اسم المؤمنين ولاسيما إذا كان صريح الإيمان فقد وجد منهم، وإنما نقول ما يفوتهم من الإمارات والفروع وبالله التوفيق. قال الرجل: وكذلك الجواب لمن يحتج، فمنهم بالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين نصيحة! فسئل: لمن؟ فقال: لله ولرسوله ولجماعة المؤمنين قالوا: فما لله؟ قال: التوحيد واتباع ما أمر. قالوا: وما لرسوله؟ قال: طاعته فيما جاء به. قالوا: وما لجماعة المؤمنين؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). فإن المراد بذلك

كله التصديق والقبول دون الفعل لما تقدم ذكره من الدليل، لأن الاعتقاد لو وجد ولم يدرك من أوقات الفعل شيئا كان مؤمنا. فيقال له: إن هذه الأمور كلها مبنية على التوحيد. ومعلوم أن المراد به إقامته لا يقبله، فكذلك ما بعده ذكر من اتباع أمر الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراد به الفعل التقبل. وأيضا فإنه لا خير للمسلمين ولا فائدة في أن يتقبل بعضهم أمر بعض بالمعروف، ونهيه عن المنكر، ولا ذلك إلى التقبل يصح، وإنما النصح فعل ذلك وإقامته، فصح أنه هو المراد بالحديث، هو الفعل لا القبول وحده والله أعلم. وأما قوله: إن الاعتقاد لو وحد ولم يدرك من أوقات الفعل شيئا لكان مؤمنا. فجوابه: أن الاعتقاد لو وجد ولم يدرك من أوقات الفعل شيئا لم يكن فاسقا بل كان عدلا. أفيدل ذلك على أنه لو أدرك وقت الفعل المأمور به فلم يفعل كان عدلا ولم يكن به فاسقا؟ فإذا قال: لا! قيل له: وكذلك إذا لم يدرك من وقت الفعل شيئا كان من غير الفعل الذي لم يدرك وقته مؤمنا ولا يدل ذلك على أنه لو أدركه وهو مأمور به ففعله، ثم لم يكن ذلك إيمانا منه، ولم يكن به مؤمنا. فالقول في إيمانه عندي كالقول في عدالته عندك. ويقال له: الإيمان فعل الطاعة المأمور بها ومن لا يدرك وقت الطاعة فهو غير مأمور بها، فإن فاته فعلها فلم يفته إيمان، وإذا أمر بها وأردك وقتها، فإن فعلها كانت منه إيمانا وإن لم يفعلها فسق، وكان ذلك جرحا لإيمانه، فإنما المعول على الأمر، والأمر إلا على مجرد الفعل، ولا فعل، والله أعلم. ***

القسم الثالث: باب الاستثناء في الإيمان

القسم الثالث باب الاستثناء في الإيمان روي عن قوم من السلف أنهم كانوا إذا سئلوا عن إيمانهم يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا يقول: أنا مؤمن. وروي عن آخرين أنهم كانوا يقطعون بأنهم: قد آمنوا. وذهب قوم من المتأخرين إلى أن يستثنوا، فيقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وإذا سئل عن معنى استثنائه قال: لاشك في أن آمنت، ولكن لا أدري ما الذي يختم به لي، فإذا كان في علم الله أني أفارق الدنيا متمسكا بما أنا عليه الآن، فله الحمد، وإن لم يكن للأخرى فإن الإيمان الذي أنا عليه الآن يحبط ويصير كان لم يكن فإنما استثنى، فإني لا أعلم أيسلم إيماني أو لا يسلم، فأما اعتقاد الحق والاعتراف به فلست أشك في أنهما قد كانا مني، وأني متمسك به الآن. ومنهم من يقول: لا أريد بالاستثناء حالتي التي أنا فيها، وإنما أريد المستقبل. فأقول أنا مؤمن في المستقبل إن شاء الله كما أني الآن مؤمن حقا، وكنت بالأمس حقا بلا شك ولا ارتياب. وهذا الكلام وإن كان ذا وجه يوجه فليس جوابا لمن يسأل. فيقال له: هل أنت مؤمن، لأن هذا السؤال يقع على الحال، وإذا لم يجب عنها شيء، فأفرد بالخبر عنه المستقبل لم يكن مجيبا، وكان مبدأ كلام من غير ما وقع السؤال عنه. فأما من روي عنه أن كان يرى أن يقول: أنا مؤمن، فأولهم وصدرهم عبد الله بن مسعود. روى إبراهيم بن علقمة قال كنا مع عبد الله بن سعد فلقينا قوما فسلموا. فقلنا: من القوم؟ قالوا: نحن المؤمنون! قال: فلم نجبهم شيئا ولم ندر ما نرد عليهم، حتى لقينا عبد الله، فأخبرناه بما قالوا، فقال: ما رددتم عليهم؟ فقلنا: لم نرد عليهم شيئا. قال: قولا، قلتم أمن أهل الجنة أنتم؟ إن المؤمنين من أهل الجنة. وقال أبو وائل كان عبد الله يقول: من شهد أنه مؤمن، فليشهد أنه في الجنة.

وقال علقمة: قال رجل عند عبد الله أني مؤمن! فقال عبد الله: قل أني في الجنة، كلنا يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. وعن الحسن أن رجلا قال عند ابن مسعود: أني مؤمن! فقال: ما تقول؟ فقالوا: يا أبا عبد الرحمن يقول أني مؤمن؟ قال: فسلوه أفي الجنة هو؟ فسألوه فقال: الله أعلم. فقال: هلا وكلت الأولى إلى الله كما وكلت الآخرة. وعن إبراهيم قال: قال رجل لعلقمة: ألست مؤمنا؟ قال: أرجو إن شاء الله. وعن إبراهيم: إذا سئلت، أمؤمن أنت؟ فقل: أرجو أو عن محل. قال: ذكرنا لإبراهيم ناسا كانوا يأتونا فيؤذوننا فيقولون: أمؤمن أنت؟ قال: فإن أتاكم منهم أحد فقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب. وأما من قطع القول بأنه مؤمن ولم يستثن، فمنهم عبد الله بن عمر. روي أنه أخرج شاة ليذبحها، فقال له رجل: اذبحها، فرآه سيء الهيأة، فقال له: أمسلم أنت؟ فقال: إن شاء الله. فقال ابن عمر: ما أنت بذابح لنا اليوم شيئا. وروى عمر بن در أنه قال: لعطاء بن أبي رباح: أن بمصرنا قوما شكاكا يقولون: لا ندري أمؤمنون نحن أو لا؟ فقال عطاء: سموا أنفسكم مؤمنين، ولا تقولوا نحن من أهل الجنة. فإنه ليس أحد يلقى الله إلا وله الحجة عليه نبي أو ملك، أما نبي فقد أذنب ذنبا، أو ملك أنعم الله عليه بالطاعة فلم يبلغ شكرها. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: إذا سئلت، أمؤمن أنت، فلا تقل إن شاء الله. وروى أهل هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أقروا بالإيمان، وسموا أنفسكم مؤمنين، والذي نفسي بيده، كما لا يخرج العبد المشرك العمل الصالح من كفر به، كذلك لا يخرج الذنوب العبد المؤمن من إيمانه). وقد ذهب ذاهب إلى أنه يجوز أن يقول المؤمن: أنا مؤمن عند الله، ولا يجوز أن يقول: إني مؤمن في علم الله، واعتل بأن (عند) تتغير، والعلم لا يتغير وسئل عن الفرق بين (عند) و (علم) من قبل التفسير، قبل أن يفرق بينهما في الحكم، فإنا لا نعلم

لقول القائل: عندي أن فلان ابن فلان معي، إلا أن الذي أعلمه من نسبته أنه ابن فلان. ولا يقول القائل: عندي أن هذا حلال إلا أن الذي أعلمه من حكمه أنه حلال. ولا يقول القائل: عندي أن هذا الجاني زيد، إلا أن الذي أعلمه منه أنه زيد، وكل ما يليق به علم وعند، فمعنى أحدهما فيه معنى للآخر. ثم قال له: ما تريد بقولك عند تتغير! فإن ذلك أريد به أنه يجوز أن يكون زيد عنده اليوم مؤمنا، أما بعلمه مؤمنا فلابد من نعم. فقال له: ما الفرق بين علم وعند؟ ويقال له: إن كان العلم لا يتغير، فعند لا تتغير! فإن قال: كيف لا يتغير ويكون الشيء عنده على وجه، وهو بعينه في وجه آخر عنده على غير ذلك الوجه. قيل: فكذلك يعلم الشيء وقتا على وصفه، ويعلمه في وقت آخر على خلاف تلك الصفة. فإن قال: علمه لا يتغير، وإنما يغير المعلوم قبل، فقل إن عندكم تتغير وإنما تغير ما عنده وليس بينهما فرق. فصل والعدل بين هذه المذاهب أن المؤمن لا ينبغي له أن يمتنع من تسمية نفسه مؤمنا في الحال، لأجل ما يخشاه من سوء العاقبة نعوذ بالله منه. لأن ذلك وإن وقع وحبط ما تقدم من إيمانه، فليس ينقلب الموجود منه معدوما من أصله، وإنما يحبط آخره ويبطل ثوابه. وذلك الذي لا يحبط لا يخلو من أن يكون قبل أن يحبط موجودا لفقد كان مؤمنا إذا قبل أن يزيد، وإن حبط بالرقة إيمانا فلا معنى لاستثنائه، ولو كان سوء العاقبة وما يخش منه معتبرا في هذا الباب لم يعلم أحد من الذي خاطبهم الله تعالى باسم الإيمان، فقال: {يا أيها الذين آمنوا} و {يا أيها المؤمنون} أو يخبر عنهم فيقول: {إن المؤمنون والمؤمنات} أو {إن الذين آمنوا} ولم يوقف على أنه مراد بخطابه لدحره، لأن كل واحد منهما إذا كان معلقا باسم الإيمان، وكان اسم الإيمان بين أن يثبت أو يزول مما دام إمكان الأمرين فيه قائما فلا سبيل إلى القطع بواحد منهما.

وفي تعذر إزالة الحكم أو الخبر المعلق به عن كل فرد من أفراد المؤمنين، فوجب أن يكون القول في الكافر كالقول في المؤمن، ففي هذا إبطال خطاب الله تعالى من أصله، لأنه: إما للمؤمنين وإما للكافرين. فإذا لم يكن أن يعرف المؤمن ولا الكافر لأن المؤمن يعرض أن يكفر فيحبط ما مضى من إيمانه، ويتبين أنه لم يكن مؤمنا إذ قد حبط إيمانه من أصله. والكافر يعرض أن يؤمن فيحبط ما مضى من كفره، ويتبين أنه لم يكن كافرا، إذ قد حبط كفره من أصله، فليس في الدنيا مؤمن يعرف بعينه، ولا كافر يعرف بعينه، وتعطيل خطاب الله تعالى بواحده، وما أدى إلى هذا فبين أنه فاسد لأجل القول به. ويقال لقائل هذا القول: أرأيت من سئل فقيل له: إنسان أنت، هل يجوز أن يقول: لا؟ لأنه يستيقن أنه صائر ترابا، والتراب لا يكون إنسانا! فإن كان المؤمن لا ينبغي أن يسمي نفسه مؤمنا بالإطلاق لأنه يشك في عاقبة أمره، ويخشى أن يصير فيها إلى غير الإيمان، فالإنسان الذي يستيقن أنه صائر ترابا أولى أن لا يطلق اسم الإنسان عليه. فإن قال: أنه وإن صار غدا ترابا، فلا يخلو اليوم من أن يكون إنسانا. قيل: والمؤمن إن صار غدا كافرا فلا يخلو اليوم من أن يكون إنسانا، قيل: والمؤمن إن صار غدا كافرا فلا يخلو اليوم من أن يكون مؤمنا، ولولا أنه مؤمن اليوم ما أمكن أن يزيد عنه إذا كان مؤمنا أصليا، فكيف يزيد عنه وهو ليس فيه؟ فثبت إذا أنه مؤمن في الحال. فإن قال: إن ذلك الإيمان يحبط إذا ردفه الكفر، قيل: ينبغي إذا كان الرجل مؤمنا أصليا أن لا تثبت ردته، لأن كل ما أدى إثباته إلى إبطاله فإنه لا يثبت، ويعلم أن ردته، إذا ثبت وقيل أنها أحبطت الإيمان من أصله، فوجب إذا أنزل أنه لم يكن مؤمنا قط، أن لا يثبت منه الانتقال عن الإنسان إلى الكفر وإذا لم يثبت هذا، فالردة إذا لم تكن، وفي إجماع المسلمين على ثبوت الإيمان قبله. فبان بهذا أن الكفر إذا طرأ على الإنسان قطعه من حين وجد، إلا أن ما مضى يحبط آخره لا أن عنه يحبط فيصير كأن لم يكن، وينقلب الموجود منه بالحقيقة معدوما، وإذا كان كذلك لم يصح الاستثناء

حذرًا من سوء العاقبة. فإن الردة وإن عرضت لم تخرج المرتد إن كان مؤمنا حين سئل عن دينه فقال: إني مؤمن، والله أعلم. فأما من أنكر من السلف إطلاق اسم الإيمان، فالموضع الذي يليق به ما قال: أن يقول: أنا مؤمن وأعيش مؤمنا وأموت مؤمنا أو ألقى رب مؤمنا ولا يستثني. وكذلك قال عبد الله، ويقال له: أفي الجنة أنت؟ لأن من مات مؤمنا كان في الجنة، وليس كل من كان مؤمنا ساعة من عمره أو يوما أو سنة كان في الجنة. فعلمنا أن عبد الله إذا قال هذا لمن اتكل على أن لم يجد في قلبه إلا حب الإيمان والركون إليه، والنبو عن الكفر والبغض له، فقطع لذلك أنه مؤمن مطلق في عامة أحواله وأوقاته، فلا يعيش إلا مؤمنا ولا يموت إلا مؤمنا ولم يكل أمره إلى الله تعالى بذاك. وأما قول المؤمن: أنا الآن مؤمن، فليس مما ينكر، وهو نظير قوله أن كان قائما: أنا قائم، وإن كان قاعدا أنا قاعد. وليس هذا بالذي ينكر، بل هو الذي لا يجوز غيره والله أعلم. وأما الذي يصح من هذا ومن الاستثناء فهو أن يكون الخير في المستقبل خاصة فيكون المؤمن أرجو أن يمن الله على بالتثبت ولا يستثني هدايته بعد إيمانه. وحديث علقمة وإبراهيم موضوع في هذا الموضع. والاستثناء موضع آخر يصح فيه ويحسن وهو أن يرد على كمال الإيمان لا على أصله وأشد، كما نفى أن رجلا سأل قتادة: أمؤمن أنت! يقال: آمنا، أنا مؤمن بالله وبكتبه ورسله والبعث بعد الموت وبالقدر خيره وشره من الله. وأما الصفة التي قال الله عز وجل: {إنما المؤمنون الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}. فلا أدري أنا منهم أم لا! فقد أبان قتادة أنه قد آمن الإيمان الذي يبعده عن الكفر، ولكنه لا يدري استكمل الأوصاف التي حكى الله تعالى قوماً من المؤمنين،

فأوجب لهم بها المغفرة والدرجات، فكان ذلك تشكيكا منه في الاستكمال الذي يوجب الدرجات لا في مجانبة الكفر الذي سقط عنه العذاب. فمن وضع الاستثناء في أحد هذين الموضعين فليس من الشكاك ولا يصير منهم بأن تسمية غيره شاكا أو يلعن الشكاك وإنما يكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قريش: "أنظروا كيف يدفع الله عني، سموني مذموما وأنا محمد". كذلك يدفع الله بلطفه عن هؤلاء المستثنين بأن يسب غيرهم الشكاك ويلعن الشكاك، وإنما هؤلاء موقنون وما أرى أنه تنازعا في المقالة التي لحظناها منازع أو يخالفنا فيها مخالف والله أعلم. ***

القسم الرابع: باب في ألفاظ الإيمان

القسم الرابع باب في ألفاظ الإيمان قال الله تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}. وقال تعالى: {فلما رأوا بأسنا قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا}. وقال تعالى: {فإن حاجوك فقل: أسلمت وجهي لله، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب}. وقال: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه}. وقال تعالى: {إذ قال له ربه أسلم قال: أسلمت لرب العالمين}. وقال: {يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فكان القول الذي قبله الله تعالى من الكفار إذا أسلموا أو استفاض وانتشر فصار علم الإيمان، وأشركت العامة والخاصة في معرفة قول: {لا إله إلا الله}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل

الجنة". ولا أعلم من أهل الفتيا خلافا في أن الإيمان قد ينعقد بغير القول المعروف فدل ذلك على أن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "حتى يقولوا لا إله إلا الله" أي يقولوها وما يؤدي معناها، ودل الكتاب على ذلك أيضا لأن الله عز وجل أخبر أن إبراهيم صلوات الله عليه قال لأبيه وقومه: {إني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني} ثم قال: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} وليست هذه الكلمة بعينها موجودة في عقبه إنما الموجود فيهم قول: "لا إله إلا الله" فثبت أنه لا فرق بين هذا القول وبين ما يؤدي معناه والله أعلم. التفريع إذا قال الكافر: آمنت بالله ولم يكن يدين من قبل دينا صار مؤمنا بالله، وإن كان ممن يشرك بالله وغيره لم يكن بهذا القول مؤمنا حتى يقول: آمنت بالله وحده وكفرت بما أشرك به. قال الله عز وجل: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} فأخبر أن ذلك إيمان منهم، إلا أهم لم ينفعهم لأجل الحال والوقت. فدل ذلك على أنهم لو قالوه في غير ذلك الوقت أو في غير تلك الحالة لكان مقبولا منهم، وكان أنزل لا إله إلا الله وإن كان كفره من قبل جحده نبوءة نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: "آمنت بالنبي محمد ومحمد النبي"، كان ذلك كقوله محمد رسول الله كما يكون قوله: "آمنت بالله، كقوله: الله ربي، وإن قال أسلمت لرب العالمين، ولأن الله عز وجل قال: {إن الدين عند الله الإسلام} فمن قال: أسلمت لله، فقد دخل في الإسلام، الذي هو الدين عند الله تعالى وتقبله. فإن قال: أسلمت وجهي لله، فهو كقوله: أسلمت لله. قال الله عز وجل لنبيه صلوات الله عليه: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله}. وقال: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا}

وظاهر هذا أنهم لما قالوا: أسلمنا لله، أو، أسلمنا وجوهنا لله لكانوا مسلمين ويحتمل أن الكافر إذا قيل له: أسلم لله، أو آمن بالله، فقال: أسلمت أو آمنت، كان مؤمنا، وكان ذلك جوابا صحيحا، وهذا ظاهر الآية. وإن قال: أو من بالله، أو قال: أسلم لله، بهذا أبان، كما أن قول الرجل: أقسم بالله يمين، ولا يحمل على الوعد أن يريده، فإن ادعى أنه أراده، كان القول قوله. فإذا قال الكافر: الله ربي؛ أو قال: الله خالقي، فإن كان من قبل لا يدين دينا فهذا منه إيمان وإن كان من الذين يقولون بقدم أشياء مع الله- تعالى عما يقولون علوا كثيرا- لم يكن مؤمنا حتى يقول: لا قديم إلا الله، وإن قال من فكر: بأن لا خالق إلا الله، لم يكن مؤمنا. لأنهم يقولون: الله خالق ما خلق لكن من أصل قديم. فإذا قال اليهود المشبه، ويقول: {ليس كمثله شيء}، وإن قال مع ذلك محمد رسول الله، فإن كان يعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بإبطال التشبيه كان مؤمنا، وإن كان لا يعلم ذلك لم يكن إيمانه بالله حتى يتبرأ من التشبيه، وكذلك الذين يقولون بقدم أشياء مع الله جل ثناؤه، وإن علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بإبطال ذلك فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، كان ذلك إيمانا منه، وإن كان لا يعلم ذلك، لم يكن مؤمنا بالله، نازعا عن كفره به حتى يعترف بأنه لا قديم إلا الله. وإن قال النصراني لا إله إلا الله وكان يعتقد من قبل أن عيسى هو الله لم يكن هذا منه إيمانا بالله عز وجل، وهكذا إن كان يعتقد أن عيسى ابن الله حتى يتبرأ من دينه الأول، فإن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهو يعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بأن الله لم يلد ولم يولد، وأن عيسى عبد الله ورسوله كان إيمانا تاما صحيحا، وإن كان لا يعلم ذلك لم يكن نازعا عن كفره حتى يتبرأ من قوله. فإن قال قائل: إذا كان من يدخل في الإسلام لا يحتاج في صحة إيمانه محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يعلم ما الذي جاء به من الشرائع، فلم احتاج إلى أن يعلم أنه جاء بإبطال التشبيه، وبأن لا شيء دون الله قديما حتى يصح إيمانه به! قيل: الشرائع لا طريق إلى معرفتها إلا السمع وهو يعرض التبديل. فمن صدق بنبوة

نبي فقد ألزم أن يقبل شرائعه عنه، وأما توحيد الله تعالى جده وتنزيهه عن الأشياء فليس إدراكه مختصا بالسمع، ولكنه مما يدل بالعقول، وما ثبت من ذلك فليس بممكن أن يتبدل ويتغير. فمن اعتقد أن شيئا سوى الله قديم وأن الله تعالى يشبه شيئا من خلقه فإنما زل عن المعقول، ونحل العقل ما لا جواز له فيه، واعتقد أنه لا يمكن أن يكون الحق غيره. ومن كان بهذه الصفة فأي شيء من الأشياء فإنما يؤمن به على أن يقبل عنه ما لا يعرف إلا بالسمع، وما يمكن أن يكون قد يدل على لسانه من شريعة غيره، ولا يظن به أنه يأتي بخلاف ما هو المعقول عنده، فدخل في جملة إيمانه به تقبل شرائعه ولم يدخل فيها نفي التشبيه وإبطال أن يكون قديم سوى الله إلا أن يكون علم أنه أتى بهما، فاتبعه على ذلك وآمن به والله أعلم. كذلك النصراني إذا كان يزعم أن عيسى أخبرهم أنه إله، أو ابن إله وابن الإله، فهو يرى أن هذا لا يتبدل ولا يجوز أن يصح خبر بخلافه، فلم يكن ذلك كالشرائع التي تعلم أنها تعرض التبديل، ولم يصح إيمانه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى نعلم أنه جاء: بأن عيسى عبد الله وأن الله لم يلد لم يولد، وأن عيسى لم يكن يحيي الموتى، ولا يبرئ ذوي العاهات، ولا يجعل الطين بنفخة طائرا، وإنما كان يفعل ذلك كله ربه الذي خلقه، ويتبعه على ذلك ويؤمن به فيكون بذلك راجعا عن مقالته والله أعلم. وإذ قال الثنوي: (لا إله إلا الله) لم يكن مؤمنا حتى يتبأ بقدم النور والظلمة، وإن قال: لا قديم إلا الله كان مؤمنا. وإذا قال الوثني: (لا إله إلا الله)، فإن كان من قبل يثبت الباري جل جلاله ويزعم أن الوثن شريكه صار مؤمنا. وإن كان يرى أن الله هو الخالق، ويعظم الوثن يتقرب إليه، كما حكى الله عز وجل عن بعضهم أنهم قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}. فلم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الوثن. وإن كان يهودي يقول: (لا إله إلا الله)، إلا انه يشبهه بخلقه، فتبرأ من التشبيه فقال: ليس كمثله شيء، صحت بذلك كلمته، وإنما يبقى أن يؤمن بمحمد وعيسى صلوات

الله عليهما. فإن الله عز وجل لا يقبل الإيمان ممن آمن به حتى يؤمن برسله ولا يفرق بين أحد منهم، فإن فعل تم إيمانه، وهكذا إن كان نصراني يقول: لا إله إلا الله أنه يزعم: أن عيسى ابن الله فتبرأ من قوله، وقال: المسيح عبد الله ورسوله صحت بذلك كلمته، وإنما ينبغي أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن فعل تم إيمانه. وإن كان نصراني يقول: لا إله إلا الله، ويزعم مع ذلك أن عيسى هو الله، ثم يرجع وقال: عيسى خلق الله وليس هو الله صحت بذلك كلمته، فإن آمن يتبع ذلك نبينا صلوات الله عليه، كما إيمانه. وإذا قال أحد البراهمة الذين يؤمنون بالله ويوحدونه، ولا كفر منهم إلا جحد الرسول محمد رسول الله، صار مؤمنا لأن كفره لم يكن إلا جحد النبوة، فإذا قبلها زال الكفر. ولو قال: إبراهيم رسول الله أو أقر بذلك النبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤمن لأن إقراره بنبوة من قبله إقرار بنبوة بعض الأنبياء، وإقراره بنبوة جميع الأنبياء لأنه صدقهم وشهد لهم. وإذا قال اليهودي الذي لا يشبه أو النصراني الذي يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان من الذين يزعمون أن محمدا رسول الله، ولكن إلى العرب خاصة، أو أنه لم يبعث، لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من قوله الذي هو ضلالة وكفر، وإن كان يرى من قبل أن محمدا ليس برسول ولا نبي بعد موسى أو عيسى صار بما أقر به مؤمنا. وإن قال الكافر: محمد رسول الله، ولا إله إلا الله، أو محمد رسول الله الذي لا إله غيره أو إلا هو، كان هذا كله كفر. لا إله إلا الله محمد رسول الله. وإن قال المعطل: محمد رسول الله، فقد قيل: يكون مؤمنا لأنه أثبت الرسول والرسل معا، وليس في أنه ينفي بلفظه أن يكون لله شريك ما يفسد إيمانه لأن كفره إنما كان من قبل التعطيل لا من قبل التشريك. وإذا قال الكافر لا إله إلا الله آمنت به المسلمون كان حرا مؤمنا، أخبر الله تعالى عن فرعون أنه لما أدركه الغرق قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} فرد إيمانه لأجل الحال. وقيل له: الآن يدل ذلك على أنه لو قال في غير تلك الحالة لقبل منه.

أو قال الكافر: آمنت بالذي لا إله غيره لم يكن مؤمنا لأنا لا ندري من يريد ولعله يريد عظيم قومه أو الوثن حتى يقول آمنت بالله الذي لا إله غيره فإن قال: آمنت بالله وبمحمد لم يكن مؤمنا بمحمد وكان مؤمنا بالله لأنه أثبت الإله بهذا القول وإثباته إياه إيمان به، وقد أثبت محمدا أيضا إلا أن إثباته إياه في نفسه، ليس بإثباته نبيا، فلا يؤمن به حتى يقول: آمنت بمحمد رسول الله، ولو قال آمنت بمحمد الرسول لم يكن ذلك لقوله آمنت بمحمد النبي، لأن النبي لا يكون إلا لله والرسول قد يكون لغير الله. وإذا قال الكافر لا إله إلا المحيي المميت، فإن لم يكن من القائلين بالطبائع كان مؤمنا، وإن كان منهم لم يكن مؤمنا لأنهم ينسبون الحياة والموت إلى الطبيعة حتى يقول لا إله إلا الله أو الباري، أو يأتي بلفظ لا إشكال فيه ولا شبهة. وإن قال يهودي: لا إله إلا الله لم أجعله بهذا مؤمنا لأني لا آمن أن يكون أفاد ملك قومه، وقد قال فرعون: {يا أيها الملأ أعلمت لكم من إله غيري} وقد كان ملكهم. وهكذا إن قال لا إله إلا الرازق أو الرزاق، لأنه قد يريد بذلك ملك الجند الذي يقيم لهم العطايا، ولو قال لا ملك إلا الله أو لا رازق إلا الله جعلته مؤمنا، لأنه إن كان أراد ملك قومه فإنما نفى عنه الملك فأضافهما إلى اله عز وجل وهو في ذلك محق. وعلى هذا قول القائل: لا إله إلا الله العزيز، وقوله: لا عزيز إلا لله، ولا إله إلا العظيم، ولا عظيم إلا الله. ولا إله إلا الحليم ولا حليم إلا الله. ولا إله إلا الكريم ولا كريم إلا الله. وإذا قال: لا إله إلا الملك الذي في السماء أو إلا ملك السماء، كان مؤمنا. وقد قال الله عز وجل: {أأمنتم من في السماء} وهو يريد نفسه وليس ذلك على أنه محصور فيها، لكن بمعنى أن أمره ونهيه إنما جاء من قبل السماء، وإن قال: لا خالق إلا الله، كان مؤمنا، وقد تقدم القول فيه. فإن قال: لا إله إلا الخالق، فهو كذلك، لأن من أثبت مع الله أصلا قديما للموجودات، لم يقل: أن ذلك الأصل إله، ويزعم أن الله خلق ما خلق من ذلك الأصل، ولا يكون قوله: لا إله إلا الخالق توحيدا، حتى يعترف بأن لا قديم سوى الله. وإن قال الكافر: لا إله إلا الرحمن أولا رحمن إلا الله، أو لا إله إلا الباري، أو لا باري إلا

الله، كان هذا كقوله: لا إله إلا الله. وإن قال: لا إله إلا بديع السموات والأرض أو إلا خالق السموات والأرض أو إلا فاطر السموات والأرض، فهذا مثل أن يقول لا إله إلا الخالق، وقد تقدم القول فيه. وإن قال: لا رحيم إلا الله أو لا جبار إلا الله، كان هذا مثل أن يقول: لا إله إلا الله. وإن قال الدهري: لا إله إلا الرحيم، ولا إله إلا الجبار، لم يكن مؤمنا لأنه يمكن أن يكون أراد ملكهم الذي يرحمهم الإحسان إليهم، أو يجبر أحوالهم، أو يجرهم على ما يريده منهم. وإذا قال الكافر: لا إله إلا ساكن السماء، لم يكن مؤمنا، لأن سكان السماء الملائكة وإن قال: لا إله إلا الله ساكن السماء كان هذا زيادة كفر منه، لأن السكن غير جائز على الله تعالى واحتظار الأمكنة ليس من صفاته، وإن قال: لا إله ما خلا الله أو لا إله سوى الله، أو لا إله غير الله، أو لا إله ما عدا الله، أو لا إله حاش الله، فهذا كله بمنزلة أن يقول: لا إله إلا الله، وهكذا إن قال: من إله إلا الله، أو ما في إله إلا إله واحد. وإن قال: لا إله إلا الله، أو لا إله إلا الله فهما سواء. وإن قال: لا إله إلا صاحب العرش، أو لا إله إلا رب العرش. فإن كان من قبل دهريا معطلا لم يكن مؤمنا، لأني لا آمن أن يريد بذلك ملك قومه، ويريد بالعرش سرير ملكه، وقد قيل: البلقيس ولها عرش عظيم. وقال سليمان صلوات الله عليه: {أيكم يأتيني بعرشها}، وإذا قال رجل من معطلة الفلاسفة أو نظارهم: أشهد أن الباري علة الموجودات أو سبب الموجودات أو مبدأ الموجودات لم يكن ذلك إيمانا حتى يعترف بأنه مخترع كل ما سواه من الأشياء مبدعه ومحدثه بعد أن لم يكن. وإن قال الكافر: آمنت بالله إن شاء، لم يكن مؤمنا، لأن مثل هذا إنما يحمل على معنى إن قال شئت، ألا ترى أن رجلا لو قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، لم يقع الطلاق حتى تقول: شئت. ومن قال: إن مشيئة الله تعالى للأشياء قديمة، فإن هذا الكلام فاسد، لأنه تعليق الإيمان بشرط مشيئة يحدثها الله، ويستحيل على مشيئة الله

تعالى أن تحدث، كما يستحيل على علمه أن يحدث. وإن قال: إن كان الله شائيا إيماني به فقد آمنت، لم يكن مؤمنا، لأن نفس الشرط تشكيل في المشترط إذا كان سبيل معرفته، فأوقع ذلك شكا في الإيمان المعلق به، والشاك في الإيمان لا إيمان له. هذا جواب ينبغي أن لا يختلف فيه. وإذا قال الكافر: لا إله إلا الله، أحمد رسول الله، فذلك وقوله محمد رسول الله سواء، قال الله عز وجل: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} وتأويل اللفظية واحد. لأن أحمد هو الأحق بالحمد، ومحمد هو البليغ فيما يحمد، وإنما يكون الأحق بالحمد البليغ فيما يحمد، والبليغ في الحمد أحق بالحمد من المقصر فيه، فلا فرق بين أحمد ومحمد، وإن قال: أبو القاسم رسول الله فكذلك والله أعلم. فصل وإذا قال اليهودي: أنا بريء من اليهودية، أو قال النصراني: أنا بريء من النصرانية وحدها، حتى إذا تبرأ منها صار داخلا في الإسلام، ولكن له أضداد كثيرة فكل ملة تخالفه فهي له ضد. والتعطيل ابتداء الأضداد، فلو تبرأ من كل ملة تخالف الإسلام كفر التعطيل الذي هو ضد وليس بملة، ولم يمكن أن يجعل مؤمنا حتى يتبرأ منه، فإن قال: أنا بريء من كل ما يخالف دين الإسلام من دين ورأي وهوى، كان مسلما لأنه لم يمكن تبرئته من عامة ما يخالف الإسلام الآن بأن يجعل مسلما، فإنه لا يمكن أن يجعل مسلما، فإنه لا يمكن أن لا يجعل مسلما ولا مخالفا للإسلام. فإن قال: الإسلام حق، لم يكن مسلما فإنه لا يمكن أن لا يجعل مسلما ولا مخالفا للإسلام. فإن قال: الإسلام حق لم يكن مسلما لأن الإقرار بالحق غير إعظامه، وقد تقدمه من يحبسه ولا يرقبه ويؤخذ في هذا وفي قوله "أنا بريء من اليهودية أو النصرانية" بأن يسلم، فإن أسلم وإلا قتل، وإن كان كافرا: أسلمت أو آمنت ولم يزد على هذا لم يكن مسلما ولا مؤمنا كرجل يقول: خلقت أو أقسمت فلا يكون خاليا، فإن قيل

لعلي: أسلم! فقال: أنا مسلم، لم يكن بهذا إقرار بالإسلام، لأنه يسمي دينه الذي هو فيه إسلاما، ولم يزل الإسلام اسما للمثبت الموحد. قال الله عز وجل: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت، إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي، قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون}. وقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا}. وقال: {وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} أن يكونوا. والآن إذ كنت معنى قوله: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}، فإن كان هذا هكذا، فقد سمى نفسه أيضا مسلما وجميع ذريته الموحدين المسلمين. فإن قال آخر من أولاده المتمسكين بملة من الملل المتقدمة: إني مسلم، فلذلك محمول منه على أنه سمى دينه إسلاما، لا على أنه انتقل من غير الإسلام إلى الإسلام. وإن قيل لمعطل أسلم، فقال: أنا مسلم، وأنا من المسلمين، كان هذا منه إقرارا بالإسلام، لأن الإسلام اسم الدين وإذا أقر به فقد أقر بالدين بعد إن لم يكن له دين أصلا، إذ المسلم اسم لمتدين معلوم، والمسلمون اسم لمتدينين معروفين. فإذا أقر بأنه منهم أخذ بإقراره. وأما إذا قال: أسلمت ولم يقل لله، فإن كان ذلك في موضع العقد لم يكن مسلما حتى يقول: أسلمت لله. وإن كان على وجه الإقرار أجراه قبل منه كما أن رجلا لو قيل له: ما فعلت بابنتك؟ فقال: زوجتها. أو: ما فعلت بأمتك؟ قال: بعتها، كان هذا جاريا في هذا الموضع ولا يجري في موضع العقد. وهكذا إن قال المعطل: أنا من المسلمين، وهو يريد العقد لا الخبر لم يتم إسلامه إلا بأن يقول لله، والعقد مقارن للخبر كما ينتبه. فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا

وقال إنني من المسلمين} مقام قول: لا إله إلا الله، فثبت بذلك أن كل واحد من الكلامين صالح للعقد. فالجواب: أن هذا إن كان هكذا، فيقول المؤذن في أذانه: لا إله إلا الله، ليس من العقد وإنما هو تأكيد للعقد الذي سبق بتطوع منه، ولو أجيز له أن يقول مكانه: إني من المسلمين، فقال: لم يكن منه الاحتراز أو ليشأ، أو ينكر أن يكون هذا القول في موضع الخبر كافيا. وجواب آخر: وهو أن الله عز وجل إن كان جعل المؤذن بقوله: لا إله إلا الله قائلا إني من المسلمين، فقد جعله بقوله: حي على الصلاة داعيا إلى الله فليقم قول القائل: أنا أدعوكم إلى الله، مقام قوله: حي على الصلاة. وجواب ثالث: وهو أن المسلمين أجمعوا على أن المؤذن أن أبدل قوله: لا إله إلا الله بقوله: إني من المسلمين، لم يقم ذلك مقامه مع ما أن الآية فيه، فكيف يستقي منها أن الكافر إذا أراد الإسلام فقال: أني من المسلمين، قام ذلك مقام قول "لا إله إلا الله" ويدل على مفارقة العقد الخبر أن الكافر إذا قال: أسلمت لله، قام هذا مقام شهادة الحق ولم يتم إيمانه حتى يشهد بنوبة صلى الله عليه وسلم. ولو توهمنا قولنا: أسلمت، كافيا ما قام ذلك إلا مقام شهادة الحق وحدها. ومعلوم أنه إذا سئل عن دينه فقال: أنا من المسلمين، كان هذا إقرار بدين، فلم يدخل فيه التوحيد، والإقرار بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وقبول جميع ما جاء به من عند الله، وهكذا لو قال: أسلمت وهو يريد أمخبر أني قد صرت من المسلمين، فعلم بهذا أن صلاح كل واحد من هذين اللفظين لما صلح له من معنى الخبر لا يوجب صلاحه للعقد والله أعلم. فإذا قيل له أسلم، فقال: طال ما أنا مسلم مثلك، أو طالما أنا مسلم مثلكم، أو طالما مسلم منكم، كان هذا إقرار بالإيمان يوجد به. وإن كان كافيا في قوله لم يكن بين الله تعالى وبينه مسلما، كرجل طلق امرأته ثم قال لرجل غيره: طلق امرأتك فقد طالما أنا مطلق مثلك. أو أعتق عبده، فقال لرجل: أعتق عبدك! فقال: طالما أنا معتق مثلك، أو حلف بالله ثم قال لغيره: أحلف، فقال: طالما أنا حالف مثلك كان هذا

إقرار بما يقول، فإن كان كذبا وارد بما قال التلبيس عليه، لم يكن عليه فيما بين الله تعالى وبينه شيء مما قال، والله أعلم. فصل وإن قال مسلم لمسلم: يا كافر، فهذا على وجهين: إن أراد أن الدين الذي يعتقده كفر، كفر بذلك، وإن أراد به كافرا في الباطن ولكنه يظهر الإيمان نفاقا، لم يكفر، وإن لم يرد شيئا لم يكفر لأن ظاهره أنه رماه بما لم يعلم في نفسه مثله، ولأن الإسلام ثابت له باليقين فلا يخرج منه بالشك، وإذا تمنى مسلم كفر مسلم، فهذا على وجهين: أحدهما: أن يتمناه كما يتمنى الصديق لصديقه الشيء سيحسنه، فيجب أن يكون له فيه نصيب، فهذا كفر لأن استحسان الكفر كفر. والآخر: أن يتمناه له كما يتمنى العدو لعدوه الشيء يستقطعه، فيجب أن يقع فيه، فهذا ليس بكفر. تمنى موسى صلوات الله عليه بعد أن أجهده فرعون، أن لا يؤمن فروعن وملأه ليحق عليهم العذاب، وزاد على ذلك أن دعا الله تبارك وتعالى فقال: {ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}. فلم ينكر الله تعالى ذلك عليه لعلمه أن شدته على فرعون وغلظه عليه لما رآه من عتوه وتجبره هي التي حملته على ذلك، فمن كان في معناه فله حكمه. فصل وإذا نوى مسلم أن يكفر إن كان كذا، وإذا جاء وقت كذا، كفر بالحال. وإن نوى كافر أن يسلم إن كان كذا له إذا جاء وقت كذا، لم يكن بذلك مسلما، لأن كافرا لو قال أسلمت لم يكن بهذا القول مسلما، فأولى أن لا يكون مسلما. أو نوى أن يقول ذلك لوقت مستقبل ولما نقله، ولأن الإسلام فرض دائم ولا يصح إلا مع الإخلاص، فإذا نوى مسلم أن يكفر غدا فقد أفسد الإخلاص بما أحدث من عزيمة الكفر ففسد

إسلامه بزوال شرطه وصد الإسلام الكفر، فإذا عدم عدم إليه. والكافر إذا نوى أن يخلص غدا فلا إخلاص منه لأنه متشبث في الحال بالكفر، فلم يكن له إسلام في الحال، ولا إذا جاء عدوا أيضا. فإنه إذا نوى أن يكفر غدا، فقد استحسن الكفر فصار بذلك رافضا للإسلام، لأن استحسان الكفر استقباح الإسلام. وإذا نوى أن يسلم غدا فهو للكفر مستحسن في الحال، واستحسانه إياه استقباح للإسلام في الحال، فلماذا كفر؟ قيل لأن فرض الإسلام فرض دائم لا يجوز تعريفه ولا تقطيعه، فلم ينعقد استحسانه الإسلام في الحال، إذا كان لا يستحسنه فيما بعد الحال، والله أعلم. ***

القسم الخامس: باب في إيمان المقلد والمرتاب

القسم الخامس باب في إيمان المقلد والمرتاب المقلد من يدين ما يدين لأنه دين آبائه وقرابته وعشيرته وأهل بلده ومشايخ قومه وليس عنده وراء ذلك حجة يأوي إليها، وإذا سئل عما يدعوه إلى اختيار ما هو فيه على خلافه، ضجر واختلط ولم يكن عنده إلا أن يقول: ديني ودين آبائي وعليه وجدت الشيوخ وهو الطريق المستقيم، ومن خالف هذا لم يكلم إلا بالسيف. والمرتاب من يقول: اعتقدت الإسلام وتألفت أهله احتياطا لنفسي، فإن يكن حقا وكان بعد الموت بعث وحساب وجنة ونار، فقد فزت وأفلحت، وإن لم يكن من ذلك شيء لم يضرني، وكنت في حرثي محمودا آمنا في نفسي وأهلي ومالي، وواحد من هذين- أعني المقلد والمرتاب- ليس بمسلم. أما المقلد فلأنه أراد بدينه موافقة قوم، وإنما ينبغي أن يراد بالدين إقامة الحق وأداء الواجب وليس يعرف الحق حقا ولا الواجب واجبا بقول الآباء والعشائر وشيوخ البلد. فإن المبطلين لهم آباء كآباء المحقين وعشائر كعشائرهم، وشيوخ كشيوخهم، فمن عرف الحق حقا والواجب واجبا من مثل هذا الوجه فلم يعرفه الحقيقة، واعتقاد الدين من غير معرفة بحصته لا يصح والله أعلم. وأما المرتاب فلا اعتقاد له لأنه شاك لا يدري الإسلام وما يقوله المسلمون حق أو غير حق. والاعتقاد توطين النفس على أحد، فيسمى المنقسم أو أقسامه إذا كانت متباينة بإثباته ونفي ما سواه. فإذا كان الإسلام هو الاعتقاد، والاعتقاد ما وصفت وهو غير موجود من المرتاب، ثبت أنه ليس بمسلم. وأيضا فإن ما ضاد العلم بالله ضاد الإيمان به، والشك فيه مضاد للعلم به، كما الجهل به مضاد له. فلما استحال وجود الإيمان به مع جحده والجهل به استحال وجوده مع الشك فيه والارتياب به والله أعلم. فإن سأل سائل عن المؤمن: هل يكون مقلدا؟ أو يصح إيمانه؟ ومن هو؟ ومن المؤمن غير المقلد؟

قيل له: أما المؤمن غير المقلد فرجلان: أحدهما الذي عرف الله تعالى جده بالدلائل والحجج الدالة على صدقه، ثم اعترف بالله ورسوله، فقبل عن رسوله جميع ما جاء به من عنده، وأسلم نفسه لله بالطاعة فيما أمره به ونهاه عنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. والآخر: من يؤمن بالله إجابة لدعوة نبيه بعد قيام الحجة على نبوته، وهذا فضل يضطرب فيه كثير من الناس ويقولون: كيف يعرف رسول الله من لا يعرف الله، وكيف تثبت نبوة واحد عند من لا يعرف بالباري جل جلاله حتى إذا ثبت إجاب دعوته، ولكن الأمر ليس على ما ظنه هؤلاء، وسنبين ذلك بيانا شافيا بإذن الله تعالى فنقول- وبالله التوفيق-: قد علمنا أن الله تبارك وتعالى، بعث الرسل إلى أن ختمهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إلى طبقات الكفار مع اختلاف آرائهم وتشتت مذاهبهم، فما أحد منهم آمن إلا وثبت إيمانه ومن السنن الذي يخفى أن لقائل الذين آمنوا لم يكونوا كلهم يكلمون الاستدلال على الباري جل ثناؤه ووحدانيته، ولا إن كان منهم من يستدل ثم يؤمن بل كانوا يجتنبون لما يرونه من معجزات الأنبياء صلوات الله عليه، ويكتفون بها ولا يطلبون معها دلالة سواها، وكان أسبقهم إيمانا وأعجبهم إسلاما خيرهم وأحقهم بالتقديم وأفضلهم. فثبت بذلك أن الإيمان بالله إذا وقع إجابة لدعوة من قد ثبتت نبوته، كان صحيحا، سواء كان المؤمن من أهل الاستدلال بوجه آخر ولم يكن تم بنظر. فإن كان المؤمن قبل أن آمن يثبت الله تعالى، إلا أنه ملحد في أسمائه وصفاته كان إيمانه الحادث تركا لذلك الإلحاد لما يقوله النبي ويدعوه إليه. وإن كان قبل ذلك لا يدين دينا. ويروى أن لا صانع للعالم فإنه لم يزل على ما هو عليه الآن، فوجه إيمانه بالله لدعوة نبيه هو أن النبي ذكر أن للعالم إلها واحدا لم يزل ولا يزال، لا يسبه شيئا، قادرا لا يعجزه شيء، عالما حكيما، كان ولا شيء غيره، فأبدع كل موجود سواه، واخترعه اختراعا لا من أصل، وأنه أرسله إلى الناس ليعرفه إليهم، وينبههم على آثار خلقه التي يرونها ويعلقون عنها، ويدعوهم إلى طاعته وعبادته، وأن دلالته على صدقه هي ما أمده من كذا مما لا يستطيع الناس وإن تظاهروا أن يأتوا بمثله، وإنه إذا كان واحد من الناس تجمعه وإياهم البشرية ثم تجمعه وأهل بلده الهواء والأرض والماء، وكان ما عدا هذا الذي يذكر أنه أمد به ليكون دلالة على صدقه، لا يباين فيه أحدا من الناس، ويحتاج إلى الطعام

والشراب إلى مثل ما يحتاجون إليه، ولا يقدر من الأشياء المعتادة إلا على مثل ما يقدرون عليه، ويعجز عما يعجزون عنه، وجب أن تحكموا بأنه من فعل هذا الذي اختص به مما هو خارج عن قضية العادات عاجز مثلهم، وإنه إذا كان عاجزا عنه، وقد وجد به وظهر على يده حق أنه ليس من صنعه، ولكنه من صنع غيره، ولا جائزا أن يكون ذلك الغير من جنسه أو مثله، أو في القدرة تكاثره إذ لو كان كذلك لاستحال وجوده من غيره كما استحال وجوده منه. وفي ذلك ما يوجب أن يكون من صنع صانع، لا يفعل إل شيئا بمثل القوة والقدرة التي بهما يصنع الصناع المشاهدون. وأنه كما لم يشبه صنعه صنعهم فكذلك هو غير مشبه إياهم، ولا جائز عليه من معاني النقص ما هو جائز عليهم، فانتظمت حجة هذه إثبات الصانع على من يجهله ولا يعترف به، وإثبات رسالته من عنده، فمن استسلم لحجته وصدقه في جميع قوله، وآمن بجملة دعوته كان إثبات الرسول والمرسل منه معا في مقام واحد، ولم يكن إثبات الرسول، قبل معرفة المرسل، فهذا وجه الإيمان بالله إجابة لدعوة رسوله إليه، وهذا ما أجابه بحجه. ومن هذا الوجه كان إيمان عامة المستجيبين للأنبياء والرسل صلوات الله عليهم، ثم قد كان فيهم من تنبه بعد، فرأى وبحث ونظر، فبصره الله تعالى من الدلائل ما شد بها أزره، وعصم دينه، وقوى نفسه. فطلب من هذا العلم ما ينصر به الدين ويجادل به أعداءه، وينتصر به للتدافع عنه. فأما أهل الإيمان فما أقل من خرج إيمانه عن الطريقة التي ذكرتها إذا كان الذين شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وسمعوا دعوته، وعاينوا حججه، آمنوا به استبصارا بها، ولم يحتاجوا معها إلى دلالة يستشيرونها بآرائهم من شواهد عقولهم. فكذلك الذين لم يدركوا عصره ولم يشاهدوه، إذا بلغهم خبره، وخبر المشاهدين له بلاغا- لا يمكن أن يكون كذبا ولا غلطا- صاروا كالمشاهدين في وقوع العلم لهم ضرورة بكل ما بلغهم. فإذا أذعنوا لدعوته من غير حجة جديدة يبغونها كانت منزلتهم في ذلك منزلة الأولين وكان إيمانهم سالما صحيحا، ثم كذلك كلما بلغ ذلك الخبر أهل عصر بلاغا، فوقع لهم العلم فآمنوا كانوا كالمشاهدين، وكان إيمانهم حجة لا تغير، وكل مؤمن اليوم فأصل إيمانه هذا البلاغ، ثم في المؤمنين من يوسع في النظر، واستكثر من وجوه الحجج لحاجته إليها

في الدفع والجدل، فقويت بذلك بصيرته، واشتدت من الدين مريرته، وحسن في الإسلام بلاؤه، وظهر جده وعناؤه. فأما الأصل فلم يكن إلا ما ذكرنا والله أعلم. فإن قيل: أرأيت الذي يؤمن اليوم ولا يخطر بقلبه من حقيقة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجته شيء مما ذكرت، ولو أريد إسماعه لذلك لم يسمعه، ولو سمعه لم يدركه، ولو فهمه لم يفهمه، أيقال أنه مؤمن؟ قيل: هذا لا يخلو من أن يكون سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على المشركين بالحجة، فإذا اعتمد هذا البلاغ ولأجله آمن، كان نظير الذين آمنوا واقفين على حجته، وإن لم يعرف هذا عين الحجة، وهذا الذي يدخل في إيمانه شيء من التقليد، ولا يضره لأنه لا يتسع لأكثر منه، وبالله التوفيق. فإن قيل: أرأيتم من بلغه على ألسنة المؤمنين ما وصفهم، وبلغه على ألسنة الكافرين خلافه، فبماذا يرجح عنده خبر المؤمنين حتى إذا قبله وآمن به صح إيمانه، وإن كان فيه من الحقيقة ما يرجحه. فهو إذا كان غافلا عنه وإن لم يكن في غفلة ما يوصله إلى معرفته، فماذا يعني ذلك عنه. قيل: إن البلاغ الواقع من قبل المؤمنين رجحانا وهو أن الكفار لا يتهيأ لهم أن يجحدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد جاء بآيات وأعلام كثيرة، وأنها قد نقلت نقل اليهود أعلام موسى ونقل النصارى أعلام عيسى صلوات الله عليهما فهم مضطرون إلى الاعتراف بإثباته منها، بما يذكره المسلمون. وإذا ثبت ذلك ولم يتهيأ لهم تحقيق شيء فيما يتكلمون فيها، كانوا بترك الإيمان به معاندين، ولم يكن في شيء مما يبلغ مزيد الإيمان عنهم ما يقف موقف ما يبلغه عن المؤمنين، فلا يؤثر خلافهم أثرا، ولا أوقع فيما عند المسلمين من أمر دينهم خللا وبالله التوفيق. فأما من يبلغه الخبران، ولم يكن ممن يدرك الراجحان، فإنه إذا كان لا يدرك أمور الكلامين وأبينهما فبالحري أن لا يدرك أبهمهما وأظلمهما وهو ما يعارض به الكفار من شبههم وزخاريف أقوالهم، وإذا لم يدركها وسلم البلاغ الذي وصفناه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صدره خلص من الشك إيمانه وصح والله أعلم. وأيضا فإن تلك الأعلام وإن كان لا يحصل منها اليوم إلا على الخبر، فالقرآن قائم بين أظهرنا ونحن ندعي أن الأنس والجن لا يقدرون على الإتيان بمثله، فيدل عجزهم اليوم

كما كان سلفهم عنه عاجزين في الزمان الأول على صدق البلاغ الواقع من قبل المسلمين، وكذب البلاغ الواقع من قبل المخالفين. وإن سأل سائل عمن آمن وصح إيمانه إذا سمع من بعض الكفار طعنا في دلائل التوحيد ولم يكن من أهل النظر يهتدي إلى جوابه، ماذا يصنع؟ قيل له: إن هذا لا يخلو عند سماعه معارضة المخالفين من أن يفهمها ويشغل بها قلبه، ولا يفهمها ولا يشغل بها قلبه. فإن لم يفهمها ولا اشتغل بها قلبه فليس عليه منها شيء، وإن فهمها واشتغل بها قلبه لزمه أن يسأل عنها من يكشفها عن قلبه، فإن قدر على ذلك ولم يسأل وشرح بالشك صدرا كفر، وإن لم يشرح بالشك صدرا ولكنه اعتقد فيما سمح أنه شبهه وأن نارها ما يحلها وعلم ذلك موجود عند أهله كفاه ذلك، لأنه إذا جاز أن يثبت له الإيمان لو لم يسمع من المخالفين معارضة اتكالا على النبي صلى الله عليه وسلم، قد جاء بالحجة الباهرة التي لا يذهب عنها إلا المعاند، ولأجلها آمن به من آمن. وإن كان لا يعرفها بعينها جاز أن يدوم بعد سماع المعارضة، اتكالا على أن تلك الحجة لا تخلو من أن يكون فيها الدفع نفسها- وإن كان لا يعلم وجه ذلك الدفع، أو على: أن عند القائلين بها من الانفصال عن الشبهة الواردة عيها ما تزاح به العلة، ولا يخلو ذلك من أن يكون وجد في الناس من يعلمه أو لم يوجد. وكان هذا الذي وصفنا كفره بهذا الاعتقاد داخلا في الذين مدحهم الله بقوله: {الذين يؤمنون بالغيب} لأنه استكمل الإيمان بالحجة التي أوردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ من سكونه إليها وثقته بها أن لم يعدل عنها ولم يشكك فيها عند توجه الطعن والمعارضة عليه وعجزه عن الجواب. لكنه وثق بأن ما أورده عليه شبهه وأن بإزائها ما يدحضها، فلم يكن هذا مما يتخلف عن إثبات الجنة والنار والبعث والحساب بحشر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الدخول في الآية التي ذكرتها واستحباب الثناء أولى وأحق والله أعلم. ولما ذكرناه في أصل هذا الباب من وقوع الاكتفاء معجزات الرسل صلوات الله عليهم نهى من نهى عن السلف عن الخوض في مسائل الكلام، وذلك أنهم رأوا: أنه لا يحتاج إليه ليبين صحة هذا الدين في أصله إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث مؤيدا بالحجج فكانت مشاهدتها

للذين شاهدوا، وبلاغها المستفيض لمن بلغه، كافيا في إثبات التوحيد والنبوة معا عن غيرها، ولم يأمنوا أن يوسع الناس في علم الكلام، أن يكون فيهم من لا يكمل عقله ويضعف برأيه، فيرتبك في بعض ضلالات الضالين وشبه الملحدين، فلا يستطيع منها مخرجا، كالرجل الضعيف غير الماهر بالسباحة إذا وقع في ماء غامر قوي لم يؤمن أن يغرق فيه ولا يقدر على التخلص منه، ولم ينهوا عن علم الكلام لأن عينه مذموم أو غير مقيد. وكيف يكون العلم الذي يتخلص به إلى معرفة الله تعالى وعلم صفاته ومعرفة رسله والفرق بين النبي والمصادق عليه، وبين المتنبي الكاذب عليه، مذموما أو مرغوبا عنه، ولكنهم لإشفاقهم على الضعفة أن لا يبلغوا ما يريدون منه فيصلوا بهوا، وكثيرا من الخاصة كذلك كان الاحتياط للبعض في أن يحصلوا منه ما يقدرون به على جدال المخالفين أن هموا أن يغالبوا بالحجة، ويوهموا المسلمين أن دينهم تقليد وأنهم إن فحصوا عنه تثبيت لهم آثار ذلك فيه: بأنه ليس على أحد من في سرية مطمئن بين أهله وولده أن يشتري السلاح ويجمع ويستغل فعل من قد أحس بعدو يقصده، وبلغه خير عن أحد يريده، ولكن ذلك أن وقع وتحقق فحدث عليه خوف، وتغير له حاله لزمه أن يغير تدبيره ويحكم أمره ويستعد للدفع إن قصد، ويتأهب للدفع إن حضر، ولا يغفل عمن ليس عنه بغافل، ولا يهمل من ليس بمهمل. هذا وقد يحضر المسلم من الكفار من يقول: إني لا أعرف حجة دينكم، ولا أعلم فيما تدعون إليه برهانا، فإن أقمتم على حجة أذعنت لها! فإن هو لم يقدر على إيراد الحجة عليه أصلا، أو قدر من ذلك على ما هو أصل لدعوة لما يثبت فلما أدخل الكافر عليه شبهة أو أحدث له معارضة، انقطع وبقي حائرا عاجزا لا مزيد عنده على ما كان سمعه، قام الكافر من عنده وهو في كفره أرسخ منه، أرجأه وابتدأ مكالمته ولم يتعد أن يكون المسلم قد جهل حال نفسه وظن أن القصور في الدعوة دون علمه، والخلل في الحجة لا في معرفته، فإذا الرجلان قد تفرقا عن اتفاق على الكفر بعد أن كان يرجى أن يتفرقا عن إيمان. فينبغي للمسلم أن لا يعطل هذا العلم، ولا يغفل عنه أصلا، بل يعد منه للخصام والجدال مثل ما يعده المقاتل للقتال، والله أعلم.

القسم السادس: باب القول فيمن يكون مؤقتا بإيمان غيره ولا يكون

القسم السادس باب القول فيمن يكون مؤقتا بإيمان غيره ولا يكون نقول- وبالله التوفيق- أن ما ولد أبوين مسلمين فهو في عامة الأحكام مسلم. وإن كان أبواه كافرين فهو في عامة الأحكام كافرا مثلهما. فإن أسلما أو أسلم أحدهما وهو صغير، صار مسلما. وإن أسلم الجد فقد قبل. وإن أسلم قبل إسلامه كإسلام الأب- وقيل: يفارقه. فإذا سبي الصغير من دار الحرب مع أبويه فدينه دينهما، وكذلك أن سبي ومعه أحدهما فدينه دينه، وإن لم يكن معه واحد من أبويه، فدينه دين سابيه. وما يقال من هذا في الصغير، والقول في الكبير المعتوه مثله، ثم نذكر وجوه هذه الفصول بإذن الله وتوفيقه فنقول: أما إتباع ولد المسلمين أباهما فلأن الأمل في طلب النسل أنه طريق إلى استبقاء الجنس، والغرض من استبقاء الجنس إكبار المؤمنين بالله، والعابدين له، إذ كان الله عز وجل إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تكثروا، فأني أباهي بكم الأمم". وإذا كان هذا هكذا، صح وقوع الإذن من الله عز وجل في طلب النسل، فحكم الولد بحكمها في الدين أيضا، لأنهما إلى غرضهما من الزيادة في عدد المؤمنين به، ولم يتأخر ذلك إلى أن يبلغ المولود فتوجد حقيقة الإيمان والعبادة منه إذا كان يمكن أن يحترم قبل البلوغ، ويمكن أن يلغ أن يخالف الأبوين، فحكم له بحكمها عادلا لما ذكرت والله أعلم. وإنما ولد الكافر فإنما اتبعهما لان غرضهما أيضا من طلب النصل إكبار أهل الدين، إلا أن الدين عندهما فإنهما عليه فألحق بهما، كما يقر أهل الكتاب على ما هم عليه بالجزية، لأن عندهم: إن ما هم عليه هو الحق وإن كان الأمر بخلافه والله أعلم. وأيضا فإن الأبوين المسلمين إذا اكتسبا الإيمان وفشا، فأدامه الله تعالى لهما بعد في سائر الأوقات وإن كان الإيمان لا يخطر بقلوبهما ما لم يحدثا بالكفر كذلك عداه عنهما إلى

الولد الذي هو جزء منهما، فكان الولد مؤمنا من غير سبب إيمان، كما كان الأبوان طول عمرهما مؤمنين من غير كسب منهما في جميعه. والكافر أيضا إنما اكتسب الكفر وقتا، فأدام الله حكمه لها بعد، في سائر الأوقات، وإن كان ذلك لا يخطر بقلوبهما ما لم يحدثنا إيمانا كذلك عداه فيهما إلى الولد الذي هو جزء منهما. فكان الولد كافرا من غير كسب الكفر كما كان للأبوان طول عمرهما كافرين من غير كسب يكون منهما في جميعه والله أعلم. وجاء في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" وقد اختلف في معنى هذا الحديث، فقيل: أن المراد بالفطرة الدين الذي شرعه الله للخلق الأول الذي هو أصل هذا النسل، هو أبونا آدم عليه السلام. وهو التوحيد الذي لا تشريك فيه ولا تشبيه، وإنما قيل على الفطرة لأنه أريد على الدين الذي كان عند ابتداء الفطرة وهي الخلقة والبنية. وقيل: أن المعنى- أن كل مولود يولد خاليا من كل دين لكنه لا يترك كذلك بل يتبع أبويه، فيكونان البساه دين أنفسهما وأدخلاه فيه. فمن ذهب إلى الوجه الأول احتج بحجج أحدهما قول الله عز وجل: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليهما}. قال فقد أخبر عز وجل أنه فطر الناس كلهم على الدين فثبت أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" هو أنه يولد على الحق حتى يكون أبواه هما اللذان يرفعانه عنه، ويمثلان به إلى الباطل. ودل على صحة هذا أنه لم يقل: حتى يكون أبواه يسلمانه، كما قال يهدوانه وينصرانه. فلو كان معنى يولد على الفطرة فيولد خاليا من كل دين، ومعنى يهودانه أن يجعل تابعا لأبويه في الدين إذ لم يكن له في نفسه دين لذكر الإسلام كما ذكرت أصناف الكفر. ولما لم يذكر، بان أن معنى الفطرة الدين الأول الذي شرع لأول فطور من البشر. والحجة الثانية: أن الله عز وجل قال في كتابه: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألبت بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم

القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون}. ووردت الأخبار بأن الله عز وجل لما خلق آدم صلوات الله عليه اخرج كل من علم أنه كائن من صلبه أمثال الذر، فأخذ عليهم الميثاق ما لم يحدث خلافه. فإن قيل: قال الناس لا يذكر أحد منهم أنه أعطى من نفسه هذا الميثاق لا حقيقة ولا ظنا، ولئن كان هذا مما أخذ عليهم فهم في هذه الدار اخذ عهدان منهم في الدار الآخرة، فكيف لا يذكرونه في أقرب الأوقات من وقت هذه الكائنة، ويذكرونه في أبعدها؟ قيل: إن هذا الميثاق لما أخذ عليهم مخرجين من صلب آدم، لا شرك أنه أخذ وقد ركب فيهم الحركة والنطق والعقل، فلما أعيدوا إلى صلب آدم بطل ما كانوا، فردوا به من هذه المعاني فزال العلم الذي كان متعلقا به، ولما عادوا يخرجون من صلبه واحدا بعد واحد على سبيل التوالد، انسوا ذلك الميثاق لأن الدار كانت دار ابتلاء وامتحان وتعبد، فلو ذكر كل واحد ما كان فيه فيها خلال حقه وصدقه يجري الإيمان مجرى الضرورات، وارتفعت المحنة واقتضت الحكمة انساءهم إياه، وابتداءهم بالخطاب والتكليف مقرونين بإرسال الرسم وتأييدهم بالأعلام بعد تركيب العقل فيهم وتمكينهم من التمييز بين الحق والباطل ليكون منهم ما يكون، حتى إذا كان يوم القيامة ذكروا من ذلك ما كانوا نسوه، لاحتجاج به عليهم ما أمدوا به على ألسنه الرسل من التنبيه والوعظ والعد والوعيد وبالله التوفيق. والحجة الثالثة: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله عز وجل خلقت عبادي حنفاء فأحلتهم الشياطين عن دينهم". وهذا يدل على أن أصل الناس في دينهم الأيمان وأنهم في ذلك بمنزلة الماء والثوب والأرض التي أصلها الطهارة ما لم يرد عليه راد ينجسها. ومن قال بالقول الآخر دفع هذه المقالة، فإن الدين كسب لا حيلة، لأن الله تبارك

وتعالى يثيب ما حسن منه ويعاقب على ما قبح منه، ويأمر بالحسن وينهي عن القبيح، وما كان بابه باب الحيلة، فإنه لا ثواب ولا عقاب لأحد عليه، فإن الله تعالى لا يثيب البصير على بصره ولا يعاقب الأعمى على عماه، وكذلك كل من جرى مجراه. وهو يثيب المسلم بإسلامه، ويعاقب المبطلين على باطلهم، فثبت بذلك: أن الدين من باب الاكتساب لا من باب الجبلة والبنية، وإذا كان كذلك، والمولد بين الكافرين لم يكسب دين الحق ولم يكسبه له أبواه فإني كان مسلما! وأيضا فإن الله عز وجل لو خلقه مسلما، لم يرع إتباعه الأبوين الكافرين في كفرهما لوجهين: احدهما لأنه ليس من دينه أن يقبل من أحد كفرا بعد الإيمان، والآخر أن كل من اتبع غيره في شيء فإنما يتبع فيما لا يكون له بنفسه، فيكون محتاجا، فلو كان له بنفسه دين لم يتبع في الدين أبويه. فأما قول الله عز وجل: {فأقم وجهك للدين حنيفا} فطرة الله التي فطر الناس عليها الإسلام، لكن ما يتوصل به إلى الإسلام هو الحق من دلالة العقل، وهي التي لا يتهيأ لأحد تبديلها، فإن ذهب عنها ذاهب كانت هي مجالها حجة عليه وداعية له إلى الصراط المستقيم، وبالله التوفيق. وأما النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يقل حتى يكون أبواه يسلمانه، دل على أن المراد بالفطرة الإسلام، فلا دلالة له فيه لأنه أراد بين أن فساد الدين ضرر يلحق الأولاد من قبل آبائهم وأمهاتهم. فذكر الأديان الفاسدة، ولم يذكر الدين الصحيح ولأن بنوته للولد بابوية نفع وصلاح له وتأس من الضرر، فإنما سكت عنه لهذا: لا لأن ثبوت الدين الحق له من قبل الخلقه- فإنا قد بينا أن الدين لا يجري مجرى الخلق- ولكنه من باب الاكتساب. وفي ذلك ما يمنع أن يكون المراد بالفطرة الدين. وأما قول الله عز وجل: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم، ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم} فإنما معناه أنه أخرجهم من أصلاب آبائهم عقلاء مذ ركب فيهم آلة التمييز ما يعلمون به أن لهم خالقا، فأشهدهم بما في عقولهم المركبة في أبدانهم

على أنفسهم، لأنه لو خاطبهم وأمرهم، ونهاهم من غير أن يعطيهم عقلا يدركون به مراده لم يكن عليه سؤال ولا عيب، وإذا أعطاهم آلة التمييز والمعرفة نوجه عليهم العيب والسؤال، ولم يكن لهم أن يقولوا كنا عما يلزمنا غافلين، ولا نوجه لاختلافهم أن يجبلوا على إسلامهم. فالميثاق إذا هو العقل لا غيره، وبيت فساد تعلق من خالف هذا بالآية أن الله تعالى لم يقل: وإذ أخذ ربك من ظهر آدم ذريته، وإنما قال: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} فظاهر ذلك أنه أراد توكيد بعضهم من بعض على ممر الأزمان، وباشهادهم على أنفسهم، أعطاهم عقلا يدلهم على صانعهم ووحدانيته وقدسه والله أعلم. وأيضا فإنه إن كان أخرج من صلب آدم صلوات الله عليه جميع ذريته وسألهم عن نفسه، فاعترفوا بأنه ربهم، ولا شك في أنه ركب فيهم الخبرة والعقل والنطق وسألهم، لأن ما لا يدري مالا يقال هل فلا معنى لسؤاله، وإن كان فعل ذلك بهم فلا يخلو من أن يكون قولهم "بلى شهدنا" اضطرارا واستدلالا، فما بالهم لم تتفرق بهم السبل، ولم تضطرب آراؤهم، وكان كأمثال الذر وحبوبهم ومعارفهم، وقواهم بحسب أبدانهم أن تكون على الإصابة بعد ما أكمل خلقهم، وأغرزت عقولهم وقويت معاني الخير فيهم أقدر وله أخلق. وإن كان ذلك وقع منهم اضطرابا فلهم من الحجة يوم القيامة أن يقولوا: لا نكث لعهد منا ولا نقص لميثاق، لأنا شهدنا اضطرارا، فلما زال علم الضرورة عنا، وكلنا إلى آرائنا، كان منا من أصاب ومنا من أخطأ. كما كان ذلك يكون المجلون وآراؤهم في كل شيء. وهكذا أن قال قائل: كان إقرارهم عن استدلالهم ولكنهم عصموا عنده من الخطأ ووفقوا للإصابة. قيل لهم: فلهم إذا كان يوم القيمة أن يقولوا: أيدنا يوم شهدنا على أنفسنا بتوفيق وعصمة حرمناها من بعد، ولم أمددنا بها أبدا لكانت شهادتنا في كل وقت وحال كشهادتنا في أول الأمر، ولم يختلف. فقد بان المقصود الذي يدعيه أهل هذا القول، ولا يحصل بالأهل الذي يصفونه، وأيضا فإن الله تعالى يقول: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.

فلو كان الناس قد أخذ عليهم بالإيمان ميثاق ما يقولونه- الذي جلبنا قولهم- لما كانت لهم على الله حجة وأن لم يرسل إليهم الرسل، وقد أخبر الله عز وجل: أنها كانت تكون، فثبت أن أخذ الميثاق عليهم من الوجه الذي يقولونه، لم يكن، والله أعلم. فلو قيل: لو امتنع أن يكون المراد بالآية: أعطاهم العقول، لنفس هذه الآية أيضا، قيل: ولا سواء، لأن ما وضع في العقل من المعارف فهو مختلف: فمنه ما ليس فيه إلا وجه واحد، ومنه ما له وجهان أو أكثر، ومنه ما يدرك البديهة، وفيه ما يدرك بالاستدلال والناس في العقول وسائر القوى مختلفون: فمنهم التام عقله، الساكن نفسه، الجيد طبعه، ومنهم: الناقص عقله، المضطرب نفسه، الركيك طبعه. ومنهم: ذو الشغل الواحد، فهمه مقصور عليه. وفيهم ذو الأشغال الكثيرة، فهمه متوزع بينهما، منقسم عليها. مختلف استدل المستدلين بحسب اختلاف أحوالهم، فيكمل من واحد وينقص من آخر، ويضعف رأي واحد، ويقوى رأي آخر. فاحتاجوا لذلك إلى الإمداد بالرسل ليقووا عزائمهم ويحدوا سرائهم، فيأمنوا مكانهم الوقوع في الغلط والخطأ، وإنما الإقرار وان كان وقع عن الجماعة فشئ قد مضى، ولا يتغير عن حاله- كان بعده رسول أو لم يكن- وأكثر ما يمكن أن ينسوه أو ينكروه عند أهل هذا القول أنهم غير معدودين بما عرض لهم فيه، وإن الإقرار محتج به عليهم يوم القيامة، فلا حاجة مع هذا إلى الرسل إذا! وإذا أخبر الله عز وجل أنه أرسل الرسل لقطع الحجة صح أن هذا الإقرار الذي يصفونه على الوجه الذي يذكرونه غير واضع من الجماعة والله أعلم. وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "يقول الله عز وجل: خلقت عبادي حنفاء فاحالتهم الشياطين عن دينهم"، أنه خلق آدم وحواء صلوات الله عليهما، وجعلهما مسلمين وذرا أولادهم على الإسلام، فكذلك كانوا إلى أن ألقى الشيطان فيهم حدث الكفر، فحال به عن ذلك حال عما كان عليه الأصل، وليس المعنى أن كل مولود فإنه يكون مسلما، ثم يكفر منهم من يكفر. ويقال: لمن زعم أن أصل الناس الإسلام كما أن أصل الماء والتراب والثياب الطهارة:

قد علمنا أن كل شيء من هذا، حكم بأنه طاهر في أصله، فإن تلك الطهارة تظهر عليها ما بانها، وللإسلام في أهله آيات. فما أنه الإسلام في أولاد المشركين وهم كما يتفضلون عن أمهاتهم يمكن لها بحكم المشركين أو حين يكونون اجنة في بطون أمهاتهم كذلك أيضا، وإذا لم يكن للإسلام فيهم انه قط علم أن الإسلام فيهم وانه لا دين لهم من قبل أنفسهم إذا الدين كسب ولا كسب لهم فهم كذلك يتبعون آباءهم وأمهاتهم ويجعل ما كسباه من الدين ككسبه لعلة الحرونة والله أعلم. فصل ثم القول في الأطفال وما هم صائرون إليه من الجنة والنار، يتبع الأصل الذي سبق ذكره وتقديره. فمن قال: أن كل مولود فإنما يولد على الحق، حتى يكون أبواه ينقلانه إلى الباطل. قال: أن الطفل المولود بين مشركين إذا مات ولم يبلغ مبلغ الاختبار، فيختار الدين الحق أو الذي عليه أبواه، زالت عنه ولاية أبويه فزال ما كان فيهما من تغيير دينه، فرجع إلى أصل أمره، فكان بذلك من أهل الجنة. ومن قال: بالقول الآخر قال لا يقطع في أمرهم بشيء، وقد يجوز أن يكون مع آبائهم وأمهاتهم في النار، لأن الله عز وجل قد اتبعهم إياهم في الدنيا، فيمكن أن يتبعهم إياهم في الآخرة. قال: قد يجوز أن يوردوا النار وإن لم يدينوا، لأن من أورد النار، فلأنه خلق لها، ومن أدخل الجنة، فلأنه خلق لها. واحتج بقول الله عز وجل: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجنس والأنس}. ويجوز أن يصاروا إلى الجنة في هذا القول. فيدل ذلك على أنهم خلقوا لها وإن لم يكونوا كسبوا في الدنيا خيرا. وقد قيل: أنهم يصاروا إلى الجنة ليكونوا خدام أهلها، لا تكون الجنة ثوابا لهم. فإن الثواب يقابل الطاعة، وهم لا طاعة لهم. فيكونون لأهل الجنة في الجنة كخدام الملوك في قصورهم وبساتينهم. ومعلوم أنهم بأن ينعموا بها يلبسوا فيها كسادتهم. فكذلك هؤلاء الأطفال وأن ينعموا بالجنة فليسوا فيها كالذين جعلت الجنة ثواباً لهم.

والله أعلم. وقد قيل: إن كل من علم الله منه أنه أن بلغه الكبر آمن به وعده أدخله الجنة، وكل من علم منه أنه بلغه كفر وفخر، أدخله النار. ومن ذهب إلى هذا احتج بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن أطفال المشركين. فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، وقد يحتمل أن يكون المراد بهذا الخبر غير هذا المعنى، وهو أن الله أعلم بما هم صائرون إليه، وما هو كائن من أمرهم. ويجوز أن يكون سئل عن هذا قبل أن يتبين له ما بهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم بمكة قبل ما كتب بدعاء الرسل، وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم، ولم يكشف له عن عاقبة أمره وأمر المشركين، ثم أنزل عليه: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} ثم أنزل عليه: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، أنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون}، وأنزل عليه، {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}. فاعلم أن الذي يفعل به أن يظهره عليهم، والذي يفعل بهم أن يقهروا أو يذلوا، إلا أن يدخلوا في دين الحق، وكذلك يجوز أن يكون لم يعلم خبر الأطفال عند حدوث هذا السؤال فيوقف، وقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين، أيدخلون الجنة آمنين أم يكونوا في النار معذبين". ولم يرد بذلك أن كل واحد منهم يعامل في الآخرة بما علم الله أنه لو خلاه في الدنيا فعله، لأن ذلك لو كان جزاء، فالجزاء لا يكون بما لو وجد ليجزي إليه سبيل لفعل أو إذا يكون بما قعد فعل، ألا ترى أن أحدا من العصاة لا يعذب على معصية كانت تقع منه لو أمهل وترك في الدنيا، أكثر مما كان بها واحدا من الفقراء لا يعذب على منع زكاة كان يكون منه، لو أولي مالا، فالأطفال الذين هم أضعف منه وأقل قوة أولى أن لا يعاملوا بمثل هذه المعاملة وبالله التوفيق. وقد قيل أن أمرهم يجري على ما ورد به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أنه تؤجج لهم نار يوم القيامة، ويؤمرون بدخولها، فمن هم اصرف بها إلى الجنة، ومن أبي أمر به إلى

النار، وقال الله عز وجل: إياي عصيتم، فكيف لو رسلي بالغيب أتتكم". وليس هذا لحديث ثابت، وهو مخالف لأصول المسلمين، لأن الآخرة ليست بدار امتحان. فإن المعرفة بالله فيها تكون ضرورة، ولا محنة مع الضرورة، لأن الأطفال هناك لا لهول من أن يكونوا عقلاء. فإن كانوا عقلاء كانوا مضطرين إلى المعرفة، فلا يليق باحوالهم المحنة. وإن كانوا غير عقلاء، فهم من المحنة أبعد. فإن قيل: لوم، إذا كانوا مضطرين إلى المعرفة لم يجز أن يكونوا ممتحنين ما وراء المعرفة. قيل: لأن سائر الطاعات تقع بالمعرفة، فإذا وقع الامتحان وقع ما وراءها، وإذا سقط الامتحان بها لم يثبت فيما وراءها. ولولا أن هذا هكذا لجاز أن يؤمر الكفار إلى الآخرة بأمر، بعد أن عرفوا الله ضرورة واعترفوا به، فإذا انتهوا إليه ادخلوا الجنة. وأن يمتحن الفقراء بأن يؤتوا في الآخر مالا، ثم يؤمر قوم أن سلوهم منه شيئا، فمن أعطى أدخل الجنة، ومن أبى أدخل النار وعذاب عذاب مانع الزكاة. فإذا لم يجز هذا لم يجز مثله، وعليه أن مرجع هذا الحديث إلى أنهم يقدمون على كفر، لو كفروا في الدنيا لكان يقع منهم، وقد بينا أن التعذيب على مثله لا يكون. وأيضا فإن دلائل الشرع قد استقرت على أن التخليد في النار لا يكون إلا على الشرك، وامتناع الصغار في الآخرة من دخول النار المؤججة ليس بشرك، فكيف يجوز أن يخلدوا لأجله نار جهنم. فإن قيل إذا لا يخلد المسلم بمعاصيه لأنه مؤمن، فهؤلاء لا إيمان لهم مكتسبا. قيل: والكفار إنما يخلدون لكفرهم، وهؤلاء لا كفر منهم أصلا. فثبت بهذا كله أن هذا الحديث مخالف لأصول المسلمين، ولا يجوز إثباته، وبالله التوفيق. فصل وأما ولدان المسلمين، فقد توقف فيهم من توقف في ولدان المشركين، فقال: إذا كان كل منهم معامل بما علم الله تعالى منه أنه فاعله لو بلغه، فكذلك ولدان المسلمين.

واحتج بما روى أن صبيا مات لرجل من المسلمين فقالت عائشة رضي الله عنها: "يا رسول الله، طوباه، عصفور من عصافير الجنة لم يدرك شرا، ولم يعمل به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك يا عائشة! أن الله تعالى خلق للجنة أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم. وخلق للنار أهلا، وجعلها لهم وهم في أصلاب آبائهم". فيما مضى أن ما يروى عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في أطفال المشركين: "الله أعلم بما كانوا عاملين" يحتمل أن يكون معناه غير ما يقول المحتج به. وأما هذا الحديث الأخير، فيحتمل أن يكون إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على التي قطعت: إن الصبي في الجنة، لأن القطع في ذلك بإيمان أبويها، وقد كان يحتمل أن يكونا منافقين، فيكون الصبي ابن كافر. فيخرج هذا على قول من يقول: قد يجوز أن يكون ولدان المشركين في النار، وقد يحتمل أن يكون أنكر ذلك لأنه لم يكن أنزل عليه في ولدان المسلمين شيء، ثم أنزل قوله عز وجل: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم}. فأخبر عز وجل: أن الذين آمنوا في الحياء الدنيا وجعل ذرياتهم إتباعا لهم في الإيمان، فإنه يلحق بهم ذرياتهم في الآخرة. فثبت بذلك أن ذراري المسلمين في الجنة. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سألت ربي عز وجل أن يريني أهل الجنة أهل النار، فجاءني جبريل وميكائيل في اليوم فقال: انطلق يا أبا القاسم، وذكر الحديث إلى أن قال: وأنا أسمع لغط الصبيان، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هم ذرية أهل الإسلام الذين يموتون قبل آبائهم، تكفل بهم إبراهيم صلوات الله عليه حتى يلحق بهم آباؤهم". ففي هذا الحديث أيضا بيان أنهم في الجنة، والله أعلم. فصل وإذا سبى الصبي من دار الحرب ومعه أبواه أو أحدهما، فدينه دين من معه من أبويه لأنهما يبقيان على كفرهما بعد السبي، فكان في ذلك تابعا لهما كما كان عند الولادة تابعا لهما

والله أعلم، فإن سبى وحده فدينه دين السابي لأنه وليه الذي لا أولى به منه كفالة وحمل مؤونة وغيرهما. فقام في دينه مقام أبويه كما قام في الولاية والكافلة مقامها والله اعلم. وإذا أسلم أب الطفل أو أحدهما كان الطفل مسلما، فأما إذا أسلم الأبوان معا فلان دينه دين الأبوين وكذلك كان في حال كفرهما كافرا، فوجب أن يكون في حال إسلامهما مسلما، وبأن أسلم أحدهما صار مسلما، لأن الجمع بين الاسم والكفر له غير ممكن. فكان الإسلام اغلب لأنه أحق والكفر باطل ولن يغلب الباطل حقا. قال الله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فإذا فيدمغه هو زاهق}. وإن أسلم الجد فقد قيل: يكون الولد مسلما وقيل: لا يكون، والأولى أن أب الصغير إن لم يكن حيا، وكان جده يكفله، فإسلامه له إسلام، وإن لم يكن الجد عليه ولاية، فليس إسلامه بإسلام، لان المعتبر هو الولاية والكافلة، ألا ترى أنه لو سبي دون أبويه لكان دينه دين السابي دون الأبوين، وكذلك إذا صادف الولاية للجد يموت الأب أو عتقه أو رقه، وجب أن يكون إسلامه كإسلام الأب، وإذا كان الأب حيا، والولاية له، فإسلام الجد غير معتبر كم يعتبر إسلام السابي إذا كان مع الصغير أبواه أو أحدهما، والله أعلم. فإن قيل: إن كان دين الصغير دين وليه، فينبغي أن يكون دينه دين السابي، وإن كان معه أبواه، لأنه لا ولية لهما عليه وإنما هي السابي. وينبغي إذا أسلم الأبوان وهما رقيقان أو أحدهما أن لا يصير بذلك مسلما. فالجواب: أن الأصل في هذا الباب أن الولد تابع في الدين لأبويه، فإذا ولد بين كافرين كان كافرا بكفرهما، لأنه جزء منهما، على السياق الذي تقدم تقريره في الباب الأول. وإذا سبوا جميعا كان حكمه حكمهما، لأن السبي لم يوجب تغير دين الأبوين، فكان الولد تابعا لهما في أن يبقى على دينه لبقائهما، وأمكن بهذا الإتباع بعد أن كان سبي الواحدة قد ضمهم فكانوا في الإجماع بعد السبي كما كانوا قبله. وأما إذا سبي وحده فهذا المعنى غير موجود لأنه لا سبى في الأبوين، فيقال: إن سبيهما إذا لم يوجب تغيير دينهما، كان الولد في ذلك بمنزلتهما، وإذا لم يتهيأ إتباعه إياهما

وكانت ولايته وكفالته قد صارت إلى السابي، ولم يكن للصغير يد من دين، كان السابي أولى بأن يجعل دين الصغير دينه، فكانت الولاية لترجع السابي بها على غيره بعد أن فات إتباع الصغير أبويه، وذلك لا يوجب أن يكون دينه دين السابي مع وجود أبويه. فإن قيل: فلم لا تركتموه تبعا لوالديه في دينهما، وإن كان منفردا عنهما، وما أنكرتم أنه إذا سبي معها كان تابعا لهما في دينهما لأنه صغير، فكذلك يتبعهما. وإن سبي وحده لأنه صغير وليس سبيه وحده أكثر من موت أبويه، ولو ماتا لم ينقطع بذلك إتباعه إياهما في الدين، فلم لا كان سبيه وحده كذلك؟ قيل: أن السبي إذا كان يقطع حقوق المسبي ولم يغير دينه إذا كان بالغا عاقلا صار ذلك إقرارا مبتدأ له على دينه، فنزل ذلك منزلة عقد الذمة، ألا ترى أن المسبي لا يقبل على الكفر الذي كان يقبل عليه حين حزبيا، كما لا يقبل الذمي على الكفر الذي كان عليه حين كان حزبيا، ومعلوم أن الصغير يتبع في الذمة أباه، وكذلك يتبع ولد المسبي أبويه. وإذا كان هذا هكذا لم يجز إذا أسبي وحده ومات الأبوين هذا المعنى أن يثبت الولد فيعود أصلا في كفره بعد ما كان تابعا، وإذالم يثبت ذلك له وهو لا يحل قبله ولا يمكن إجباره على تغيير الدين فليس إلا أن سلبي كفر أبويه ويجعل دينه دين غيره. ثم كان السابي أولى الناس به فجعل تابعا له في دينه، وكان هذا هو الذي يقتضيه صغره، وإلا أبقاء على كفر أبويه والله أعلم. وأما إذا مات أبواه وهو صغير، فإن الكفر استقر منهما بالموت، واستحال أن يوجب ذلك زواله عنه، وهو تابع لهما فيه. فإن قيل: فلم لا يستقر فيه تابع. قيل: لم يستقر حكم، إن المستقر لعجزهما بعد الموت عن تعبير الدين، ولو كان الاستقرار حكما لتبعهما فيه والله أعلم. فأما إذا سبي بواه فالسبي أيضا لم يضمهم حتى إذا صار أبواه مقرين على كفرهما صار مقرا مثلهما، فبقي في الكفر أسوة بأهل داره كما لو سبي وحده لكان في الدين أسوة بابيه والله أعلم. وأما إذا أسلم أبو الصغير وهما عبدان، فإنهما إن كانا سبيا معه ثم أسلما عند السابي أو عند من باعه السابي إياهما أو وهبهما له، كان بذلك مسلما. وإن سبي الصغير دونهما ثم أسبيا، سواء سبيناهما من سبي الصغير أو غيره، ثم أسلما لم يصير الصغير مسلما بإسلامهما،

لأن السبي إذا جرى عليهم معا، فقد حدث لهما إقرار على كفرهما بالسبي، ولست أعني بالإقرار في هذا الموضع أكثر من أن دينهما لم يتبدل بالسبي كما تبدل ذهابهما فأوجب ذلك أن يكون الصغير تابعها لهما في التقاء على ذلك الكفر، كما كان تابعا لهما في نفس الكفر حين حدث بينهما. وأما إذا سبي وحده، سبى الأبوان، فإن انفراده بالسبي قد أوجب تغيير دينه، فلا يعود تابعا لهما بسبي يحدث عليهما، لأن حال الإتباع حال يحقق الولد مع أبويه كالملوق الذي هو حال يحدث له مع أبويه، والسبي الذي هو حال له مع أبويه. فإذا فات إمكان الإتباع لانفراده بوقوع السبي عليه، لم يعد هذا الحكم، بل ينس أبواه بعده فيجتمع معهما قياسا على أن الميراث إذا كان يستحق باستفاق الدينين عند الموت، فإن كان ذلك إذا فات عند الموت لم يعد بإسلام يحدثه الولد الكافر بعد موت الأب، وكذلك هذا، وإذا لم يعد تابعا لأبويه- إذا سبيا بعده- في الدين، فسبوا، أأسلما بعد ذلك أو لم يسلما. وأيضا فإنه إذا سبي وحده لم يخل سابيه من أن يكون مسلما أو كافرا: فإن كان مسلما فمن المحال أن يعود الصغير الذي صار مسلما بإسلام سابيه إلى الكفر، إذا لحق به أبواه، لأن الله عز وجل لا يقبل الكفر بعد الإسلام ولا يقر أحدا عليه، وإذا كان كفرا غير كفر الأبوين، والانتقال من كفر إلى كفر غير مقبول من أحد أيضا أن كان كفره كفر الصغير وأبويه والعلة فيما ذكرت بها، وهي تجمع الأحوال كلها من أن حال الإتباع حال يتجدد للولد مع أبويه، فلما فات أمكان الإتباع إلى الحل التي تحدث وهي السبي دون أبويه، لم يعد هذا الحكم بان يلحق به أبواه من بعد فيجتمعوا، وإذا كان الأمر على وصفنا لم يصير مسلما بإسلام أبويه لأن كفر ولم يكن من قبلهما، فيزول بزواله عنهما والله أعلم. فصل وإذا حكمنا للمولود بين كافرين بأنه كافر، فإن غاية هذا الحكم أن يبلغ الصغير، فإذا بلغ فله حكم نفسه. فإن اختار دين أبويه، كافرا من ذلك الوقت بكفر نفسه،

وإن مات على ذلك لم يدخل الجنة أبدا. وإن اختار الإسلام كان مسلما، فإن قتله قاتل قبل أن يمكنه اختيار دين أبويه، والإسلام ضمنه لأنه على جملة الدين المتقدم إلى أن يختار تركه فيسلم، وإن عمل قبله وهو كافر عليه القصاص، وإن أمكنه الاختيار فلم يفعل ولم يسلم بذلك كان مختارا لدين أبويه وترك، فإن قتله قاتل في هذه الحالة ضمنه. وإذا أسلم أبواه أو احدهما وهو صغير كان مسلما فإن بلغ بقلبه أن يجدد الإسلام، فإن غفل عن ذلك ولم يعلمه أصلا فهو على حكم الدين المقدم إلى أن يمكنه الإسلام أو غيره، ولا إمكان مع الجهل ولا مع السهو والغفلة، فإن قتله على ذلك قاتل عمدا فعليه القصاص إلا أن يكون مسلما، فلا يقبض منه للشبهة، وهي أنه بالغ، لم تثبت له حكم الإسلام بنفسه، وإن أمكنه الاختبار فأسلم، كان كسائر المسلمين، وإن كفروا بالإسلام فإن اختار كفرا سوى دين أبويه الذي كان له لم يترك، وإن أراد الرجوع إلى دين أبويه قبل أن يسلما، فقد قيل: يترك، لأنه وإن كان كافرا بكفرهما في بدء أمره، ثم أزيل الكفر عنه بما عدم من اتفاق أبويه على الكفر، فلما صار له علم نفسه زال حكم الإتباع عنه، فإن عاد إلى ذلك الكفر فكان ما بينهما لم يكن. وقيل: لا يقر عليه لأنه كفر ببعد إيمان وهذا أولى. والأول مبني على أنه صار مسلما تبعا لأبويه لما اسلما. والثاني مبني على أنه كافر بكفرهما تبعا لهما، فلما اسلما وهو صغير زالت عليه كفره، فلم يجز أن يكون كافرا مع زوال علة الكفر. وكل كافر زال كفره فلا يزول إلا إلى الإسلام، لأنه لا ضد له سواه. وإن كان المولود بين المسلمين فهو مسلم ما دام صغيرا، فإذا بلغ كان عليه إن يحدد الإيمان، فإن غفل عنه ولم يعلم ذلك أصلا فهو على حكم الإسلام، وإذا علم أن عليه التجديد فلم يجدد الإسلام وهو يمكنه، فلا يقر على كفره، بل يكون كسائر المرتدين والله أعلم.

القسم السابع: باب القول فيمن يصح إيمانه ولا يصح

القسم السابع باب القول فيمن يصح إيمانه ولا يصح أجمع المسلمون على أن البالغ العاقل من الكفار إذا أسلم طائعا صح إسلامه. وأجمعوا على أن الطفل إذا لقن شهادة الحق فقالها متلقنا وهو لا يميزها ولا يعرف ما يراد بها لم يكن ذلك منه إسلاما. فأما المراهق الذي يدري ويميز ويعرف من كلمة الإخلاص لفظها وتفسيرها أو يعلم في الجملة أنها شهادة الحق، فقد اختلفوا فيه: إذا تكلم بها مريدا للإسلام فكان أشبه قول المختلفين عندنا أن إسلامه لا يصلح لأنه غير مخاطب في كتاب ولا سنة، فكان كالمعتوه لأن الإسلام شهادة أو إقرار والصبي ليس من أهل واحد منهما، فثبت انه ليس من أهل الإسلام بنفسه، ولأنه لو أسلم أبواه وأمه صار مسلما بإسلامه، ومن ثبت له ذلك الإسلام بغيره لا يثبت له بنفسه كالطفل الصغير إذا لقن والمعتوه، ولأنه لم يسلم لم تجب النار عليه ما لم يكفر وهو بالغ. فدل على أنه لا يصح إسلامه بنفسه كالطفل لأنه ليس عليه جهاد المشركين في ماله لصغره، فدل ذلك على أن الإسلام له بنفسه كالطفل، ولأن عقد الإسلام عقد لازم، والصبي ليس من أهل العقود اللازمة بنفسه كالبيع والنكاح والطلاق. ولأن الإسلام ضمان، وضمان الصبي لا يصح كما لو ضمن دين رجل، ولأن ردته ليست بردة، فكذلك إسلامه ليس بإسلام. والدليل على أن ردته ليست بردة أنه لا يعاقب عقوبة المرتدين وهو صغير، وكل قول لم يؤخذ الصبي بعقوبته لصغره، فإن ذلك القول موضوع عنه أصلا وهو في حكم الساكت عنه كالقذف. وإذا كان كذلك ثبت أن ردته موضوعة عنه، ولان من لا ردة له لا إسلام له كالمجنون. ولأن الموجب لكفره كفر ولييه وكافليه، أعني أبويه، وإسلامه لا يزيل كفرهما. فاستحال أن لا يثبت له الإسلام، فإن الحكم لا يرتفع مع بقاء علته.

فإن قيل: بل العلة في كفره، عدم الإسلام منه بعد وقوع المعرفة له به. قيل: هذا باطل، لأنه لو كان بين أبوين مسلمين لم يكن قبل البلوغ كافرا. إذا لم يعقد الإسلام بنفسه بعد وقوع المعرفة له به، فثبت أنه إذا كان بين أبوين كافرين، فإنما ألحقه حكم الكفر من قبل أبويه لا لما وصفت والله أعلم. فإن قال قائل: ليس إذا كان الصبي كافرا لكفر أبويه، وكان إسلامه لا يزيل كفرهما، وجب أن لا يصح إسلامه. فإن الصبي المسبي إنما يكون كافرا لكفر أبويه، وإذا سباه مسلم دونهما، صار مسلما، وإن كان سبيه إياه لا يزيل كفر أبويه. فالجواب: أن إسلام السابي يجعله مسلما إذا سباه وحده دون أبويه، فإنه نزل منه منزلة أبويه. لما يقل حق الولاية والكفالة عنها إليه، فصار كان أسلما، ولو أسلما لصار مسلما بإسلامها. فكذلك إذا سباه مسلم وحده صار مسلما بإسلامه. فإن قيل: فقولوا أنه يصير مسلما إذا سباه مع أبويه، لأنه وإن كان سباه مع أبويه، فإن حق الولاية يكون له عليه وعلى أبويه جميعا. قيل: وإن سباه مع أبويه فإن حق الولاية والكفالة يحتاج إليها الصغير في تربيته، وتنشئته تكون لأبويه. ولا يكون للسابي أن يحول بينهما ولا بينه، ولا يجوز بيعه إياه دونهما ولا بيعهما دونه، وإن كانت أمه ترضعه لم يكن له أن يحول بينهما وبين إرضاعه، وللأب فيه من حق الكفالة التي يتبع لها الرجال مباشرة، وإشارة بها على الأم ما كان يكون له من قبل، فلذلك كان تابعا لهما في الدين. وأما إذا سبي وحده فقد بطل عليهما ما كان لهما فيه من ولاية وكفالة، وصار للسابي، فلذلك صار دينه دينه والله أعلم. فإن قيل: أليس ولد الأمة يكون رقيقا لرق أمه، ثم قد يعتق وأمه رقيق بحالها فيعتق، ولا يدفع عن الحرية لأجل أن رقع كان حكما لرق الأم ورقها دائم. فكذلك الشاة إذا ماتت نجس جلدها لموتها، ثم يدمغ فيظهر والموت قائم فيه، ولم يرتفع بالدفاع عنه. فلم لا أجزتم أن يكون الصغير كافرا بكفر أبويه، فإذا عقل وميز واسلم صح إسلامه. فإن كان الكفر في أبيه فإنما الجواب: أن رق الأم بشرائطه علة لعلوق الولد رقيقا، فأما دوام رقه فليس معلولا برق الأم. وكذلك الموت بشرائطه علة لتنجيس الجلد، فأما دوام نجاسته فليس معلولا بالموت،

لكن علة دوام الرق تمسك المولي بحقه منه، وعله دوام النجاسة إهمال الجلد وإخلاؤه من الدباغة، وأما علة كفر الصغير في حال العلوق وبعدها فكفر الوالدين اللذين هما ولياه وكافلاه بأنفسهما لا غير، وذلك لا يرتفع بإسلامه، فلم يجز أن يكون مسلما مع بقاء ما يوجب كفره. فإن قال: فإني أقول علوق الولد كافرا لكفر أبويه ودوام كفره إنما هو لتمسكه به وامتناعه من الإسلام. قيل: لو كان كذلك لم يصير مسلما بإسلام أبويه، كما لا يعتق الولد المنفصل بعتق أمه، وفي وقوع الإجماع على أنه يصبر مسلما ما دل على أن كفره من قبل أبويه. وأيضا فالمولود بين مسلمين يلزمه إذا بلغ أن يتشهد شهادة الحق ويجدد الإيمان ولا يلزمه ذلك قبل البلوغ وإن كان يدري ويميز لزوما لو تركه لكفر، فكذلك المولود بين كافرين كان يلزمه الإيمان إذا بلغ فلا يلزمه قبل البلوغ، لزوما إذا تركه كفر. فصح أن كفره من قبل أبويه اللذين ما وليا وكافلاه بأنفسهما والله أعلم. قالوا: روينا أن عليا رضي الله عنه أسلم وهو صغير لم يبلغ وإن حكمه، فدل ذلك صحة الصغير. فالجواب: أن الخبر ورد بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه يومئذ إلى الإسلام والصلاة فاسلم وصلى، فصح إسلامه وصحت صلاته. وأنت تقول: لا صلاة للصغر، فالحديث حجة عليك. وأما أنا فأقول إنما أمره رسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام والصلاة، فهو أحد شيئين: أما أكون يكون خصه بالخطاب لما صار من أهل التمييز والمعرفة دون سائر الصغار، ليكون ذلك كرامة له ومنقبة، فلما توجه عليه الخطاب والدعوة فلا يصح منهم الإسلام. أو يكون خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إياه بالدعاء إلى الإسلام والصلاة يومئذ على أنه بالغ عنه، لأن البلوغ بالسنين ليس مما شرع في أول الإسلام، بل ليس يحفظ قبل قصة ابن عمر في أحد والخندق في ذلك شيء. فالظاهر أن الناس كانوا يحرون في ذلك على رأيهم وما تعارفوه وتوارثوه: من أن الصبي من لا يمكن أن يولد له، والرجل من يمكن أن يولد له. وكان علي ابن عشر سنين لما أسلم. وظاهر من قال: أنه ابن عشر أنه استكمل عشرا ودخل في الحادي عشر، ومن بلغ هذا السن فقد يمكن أن يولد له، ولهذا قلنا أن امرأة

ابن العشر إذا جاءت بولد كان لاحقا به حتى يبلغ، فينفيه باللعان. وإن كان هذا هكذا فلا به أن عليا رضي الله عنه كان في حكم يومئذ بالغا، فلذلك صح إسلامه، وتوجه الخطاب عليه. فلما شرع البلوغ بعد ذلك بالسنين، ونظر إلى السن الذي كل من بلغها جاز أن يولد له دون السن الذي يندر ممن بلغها للإيلاد، كان من قصرت سنوه عن ذلك الحد صغيرا في الحكم، ولم يجب أن يصح إسلامه، وهذا أولى ما يقال في هذه القصة والله أعلم. قال القائل: الإيمان من موجبات العقول، فإذا عقل الصبي الإيمان الزمه عقله أن يؤمن فإذا آمن وجب يعتد بإيمانه لأنه فعل ما التزمته الحجة بفعله. فالجواب: أن الذين يذهبون إلى أن الوجوب والسقوط يدركان في بعض الأشياء بالعقل، وإن الإيمان بالله جل ثناؤه حسن علينه، والكفر به قبيح لعينه، لا يزيدون في الإيمان على ما أصف، وهو أن العاقل إذا استدل فعرف أن يعتقد- ومعنى يعتقد أن يوطن القلب على أن ما ظهر له صحيح، ثم أن يحدث بما عرف فأخبر عنه صدق ولم يكذب. فأما أن يكون عليه في قضية العقل أن يخبره عما اعتقده، ويتحدث به فلا، وليس ما يلزمه أن يصدق أو يحدث خاصا لما عرفه من الله تعالى، ولكنه عام لكل ما عرفه وأدركه. وأجمعنا على أن الإيمان لا يتم بمجرد الاعتقاد ولكنه يحتاج معه إلى الإقرار باللسان، وإذا لم يكن إضافة وجوب الإقرار إلى العقل لم يجز أن يقال: أن إقرار الصبي إيمان لأجل انه يعقل والإيمان من موجبات العقول. ويدل على ما قلنا أن العقلاء اختلفوا في أن الإقرار من كمال الإيمان حتى لا يتبقى الكفر إلا به، أو هو من شرائعه وفروعه، وليس من شرطه كماله، ولم يختلفوا في وجوب الاعتقاد بعد حصول المعرفة، فلو كان الإقرار من موجبات العقول لم يختلفوا في وجوبه كما لم يختلفوا في الاعتقاد، وكما لم يختلفوا في أنه أن قصد الإخبار معتقده كان عليه أن يصدق ويخبر بالحق والله أعلم. وأيضا فإن الإيمان الذي يشاق وجوبه إلى العقل، هو الإيمان بعد المعرفة الناشئة عن الاستدلال، والصبي لا يكمل لمثل هذه المعرفة، فلم يكمل لوجوب الإيمان عليه بالعقل. ويدل على ما قلنا أن الكفار الذين تقع لهم معرفة الباري جل جلالة لما يرون أن الإيمان به

واجب، وإن كانوا بأنفسهم عقلاء مميزين، بل كان ذلك عندهم داخلا في أبواب المحال. وإنما رأى أن الإيمان واجب بالعقل من حصلت له المعرفة، فثبت أن الإيمان الناشئ عن المعرفة هو الذي يضاف وجوبه إلى العقل والمعرفة في قصة العقل له أن يكون اضطرارا، وليس ذلك قولنا. وأما أن يكون استدلالا- وهو قولنا- والصبي لا يتكمل الإستدلال المؤدي إلى المعرفة فلم يمكن أن يضاف وجوب الإيمان عليه إلى العقل والله أعلم. وأيضا فأن الإيمان بالله لا يتجرد على الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، ووجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم يقع لدعوته، ودعوته خطاب يذيع بالسمع، فلما لم يكن الصبي حط في الخطاب المسمعي، دل ذلك على أن حجة النبوة، إنما تقوم عليه، فتلزمه إذا بلغ، وفي ذلك دليل على أنه لا يكون مسلما- وأن آمن بالله- ما لم يبلغ مؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: أرأيت إن قلنا إن المقدار الذي يلزمه بالعاقل من الإيمان يصح منه إلى أن يصير من أهل الزيادة عليه. قيل: ليس لك أن تقول هذا، لأنك قبل منه الإيمان بالله ورسوله، وتنزله في غاية الأحكام الشرعية منزلة الكبير. فلو كنت صححت منه ما يوجبه العقل دون غيره، لوجب أن لا يلبسه الإيمان كله، وهو إنما يلبس ببعضه. وأما من يخالف هذا الرأي فإنه يقول: العقل يدرك به الحسن حسنا والقبح قبيحا، أو المتحسن والمقبح غيره. كما أن البصر يدرك به الأسود أسود والأبيض أبيض، والمسود والمبيض غيره. والدلائل على الباري جل ثناؤه ووحدانيته وقدسيته قائمة ظاهرة متجلية للعقول. فأما أن ذلك المعروف المدل يجب اعتقاده، ويقبح أغفاله، ويجب الإقرار به ويقبح كتمانه، فهذا من فرائض الأمر والنهي المسموعين، وليس واحد منهما حسنا لعينه ولا قبيحا لعينه. وكذلك الصدق والكذب والعلم والعدل وشكر المنعم وكفرانه. ولولا أن هذا هكذا لوجب إذا بلغ الصبي حد من يعقل ويميز، واستدل بأدنى ما يقدر عليه أو بما ينبهه عليه غيره، فحدثت له عنه المعرفة، فعرق واعتقد وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم إعلامه، ووجد ذلك متتابعا في الناس فحدثت له المعرفة به واعتقده أن

يكون مؤمنا لم يلزمه إذا قررت عنده الشرائع العامة المتوارثة، ووقعت له المعرفة بها أن يؤديها، لأن إفادة العقل صاحبه، المعرفة بما يوجبه الإخبار العامة لا يتأخر لأجل أن الصبيان غير مخاطبين، وإذا وقعت المعرفة وجب الاعتقاد، ثم إذا كان المعقد أمرا فطاعة الله واجبة بالعقل عندهم. فينبغي أن يجب التقيد فلا يبقى شيء من الشرائع سوى ما جاءت به الأخبار الخاصة، ألا يلزم الصبي العاقل، وفي هذا بعض الشرع المتفق عليه وإزالته عن سنته، فصح وثبت أن المعول في الفرائض كلها على الأمر، والأمر غير متوجه على الصبي، فلم يكن له بنفسه إيمان ولا كفر والله أعلم. فإن قال: لا يلزم ما ذكرت الصبي وإن أفاده عقله: المعرفة بما توجبه الأخبار العامة عن أمر ونهي، فإن تلك الأوامر والنواهي إنما هي على البالغين، فلا يلزم الصبي بتنفيذها، لأن معرفة الواحد فرض على غيره، لا يلزمه تنفيذه بنفسه. قيل له: أما علمت أن أهل هذا القول يقولون: وكذلك الصبي وإن عرف ربه بعقله، فلا يعرف أن فرضا عليه توحيده والإيمان به، وإنما يعرف ذلك بالأمر، وهو أن عرف أن أمرا بذلك واضع من الله تعالى لم يلزمه امتثاله، لان الأمر للبالغ دونه، وليس عليه بتنفيذ ما أمر به غيره، والإيمان والشرائع في قولهم سواء والله أعلم. وأيضا فلو كان في العقل وجوب شيء وحسنه وسقوطه ضده وقبحه، لم يجز أن يتأخر عن الصبي العاقل الخطاب الشرعي، لأن المعرفة بما يخاطب تقع له المعرفة بما تركت في عقله، فإذا صار محجوبا بموجب العقل وجب أن يصير محجوبا بموجب السمع، لأن الخطاب يقرع سمعه، كما المعقول يخطر بقلبه، وصغره لا يدفعه عن المعرفة بواحد من الأمرين. ولما كان من قول لأمة أنه غير محجوج بخطاب سمعي دل ذلك على أمه غير محجوج بدليل عقلي، ولو كان في العقل الدليل الذي يقولون، لم يجز إلا أن يكون محجوبا به. ولو جاز أن ما يحدث له من بالمعقول فلما أجمعوا على أن حجة لا يقوم عليه بالسمع وهو صغير، دل على أنها لا تقوم عليه بالعقل. فيثبت أنه ليس في العقل هذه الدلالة التي يدعونها، وإنما فيه إحداث الحسن حسنا والقبيح قبيحا، فأما أن يكون حسن لعينه أو قبيح لعينه

ولا يكون، وإنما يحسن ما ينبغي فعليه الأمر به، ويصح مالا ينبغي فعليه بالنهي عنه وبالله التوفيق. ويقال لهذا القائل: قال الله عز وجل: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك، يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها} ومعلوم أن العقول لا تعدم حينئذ ولكن تكون بحالها دالة على ما كانت تدل عليه من قبل، ولكن خطاب السمع لما زال، لم تعتد بعد ذلك بإيمان أحد ولا بتوبته، وكذلك الكفار في القيامة تكون عقولهم معهم لا يعدمون منها شيئا، ولكن خطاب البعيد لما كان زائلا عنهم لم يعتد بإيمانهم، وأحسنوا أن الصبي المراهق عاقل مميز لحب الإيمان في عقله حسنا والكفر قبيحا، أليس خطاب البعيد غير متوجه عليه! فما أنكرتم أنه لا إيمان له وبالله التوفيق. وقال قائل: في الاعتراض على ما استشهدت به من العقول: ليس إذا كان الصبي لا يعقد النكاح والطلاق على نفسه، بطل أن يعقد الإنسان على نفسه، فإن أمه لا تعقد النكاح والطلاق عليه، ثم لا يدل ذلك على أنها لا تعقد الإسلام عليه لعقده على نفسها. فالجواب: أن الصبي لا يعقد شيئا من العقود من نفسه، فلذلك لا يعقد الإسلام الذي هو أشرف العقود وأعلاها، وجواز أن تعقد الأم عليه الإسلام لعقده على نفسه، مع عجزها عن عقد سائر العقود عليه، لا يدل على جواز أن يعقد بنفسه الإسلام على نفسه، مع عجزه عن سائر العقود على نفسه، لأنه تابع في الدين لغيره في الجملة، والتابع يمنع أصلا مرة وأصلا سواه أخرى، وذلك لا يوجب أن يستقل بنفسه فلا يتبع أصلا. ألا ترى أن الولد يتبع في الحرية والرق أمه مرة وأباه أخرى، ولا يمكن أن يكون أصلا في الواحد منهما، فيعلق جزءا وأبواه مملوكان، لا غرور بينهما أو رقيقا وأبواه حران. فكذلك الصغير قد يتبع في الإسلام أمه مرة وأباه أخرى، ولا يمكن أن يكون أصلا في الدين فيسلم فيكون مسلما وأبواه كافران. وأيضا فإن هذه المعارضة غير صحيحة لأن المرأة لا تلي على ولدها الصغير نكاحا

ولا طلاقا، لا تلي عليه إسلاما وإنما يسلم بنفسها فيصير الولد في الحكم مسلما، فلم يظهر بين الإسلام والنكاح والطلاق من الوجه الذي أراده السائل فرق، والله أعلم وبه التوفيق للصواب. فصل وإذا أسر الحزبي وهو من المعطلة أبو عبدة الأوثان فقيل له: لتسلم أو لنقتلنك، فاسلم، صح إسلامه في ظاهر الحكم. فإن لم يؤمن من قلبه فهو عند الله تعالى منافق، وإنما كان إسلامه صحيحا في الظاهر، لأن إكراهه عليه كان حقا إذا لم يكن بدين الله تعالى دينا، فإن الله تبارك وتعالى لا يرضى من قادر على التدين والتعطل، ولا يسوغ أحدا أن يشرك به شيئا إذا كان لا الإكراه لحق لم يكن هو المكره والمختار فرق في الحكم كمن أكره على طلاق لحق، أو تفسير إقرار محمل، فإن طلاق ذلك وتفسير هذا كالواقع من المختار. فإن قيل: ولم يكره أحد على الإيمان، والإيمان لا يصح إلا بالاعتقاد، والإكراه على الاعتقاد لا يتأتى لأنه معيب. قيل له: لأنه ليس وراء الإكراه إلا الإمساك والتجافي عنه مكان الإكراه أعدل، لأنه قد ينتبه على الإكراه على قبح الكفر وضيعته، فيحدث له ميل إلى الإسلام ورغبة فيكون إيمانه إيمان مختار، ولو ترك لتمادى في كفره، فيكون الإكراه أشبه باستفتاح الكفر واستحبابه من الإمساك والله أعلم. وأيضا فإن الكافر إذا كان قد سمع دين الإسلام ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبعض ما جاء به من الإعلام، فالأغلب أن امتناعه من الإسلام عناد وليس عن شبهة واقعة له. فإذا حمل على الإسلام بالوعد فاسلم، فالظاهر إن إسلامه لتبين الحق له، وإن كان أخره إلى أن يوعد عليه، وإنما الإكراه إنما اثر في إزالة عناده لا في تقرير صحة الإسلام. كما أن المريض الذي يعرض عليه الدواء فيمتنع من شربه إذا حمل عليه بوعيد فتناوله لم يخل من أن يكون مستشفيا بالدواء وإن كان أخر تناوله إلى أن يوعد عليه، وكان

اثر الإكراه إزالة الامتناع لا تحقيق شفعة الدواء عنده. فلهذا جعل مسلما في ظاهر الحكم وإن كان إسلامه عن إكراه والله أعلم. مسأله وأما الذمي إذا استكرهه المسلمون على الإسلام فأسلم، لم يلزمه الإسلام إلا بأن يقر بأن رأيه تغير وأسلم مختارا لأنه لم يكن لهم أن يستكرهوه بعد ثبوت الذمة له، فكان ذلك كاستكراه الكفار المسلم على الفر. ومعلوم أنه أن تكلم بالكفر غر مختار لم يكفر. فكذلك الذمي إذا استكره على الإسلام فكلم بالحق غير مختار لم يسلم. فإن قيل: الإكراه على الحق ينبغي أن يكون بحق حتى يصير المكره كالمختار. فأما إذا كان ما يقع الإكراه عليه حقا في نفسه، ألا أن الإكراه عليه غير مملوك، للمكره فيه حكم المختار. ألا ترى أن رجلا من عرض الناس لو استكره رجلا على بيع شيء من ماله في دين عليه في بلد فيه سلطان أو قاض لم يلزمه ذلك البيع. ولو استكرهه عليه الحاكم فباع لزمه، وما افرقا إلا لأن الحاكم يملك والأجنبي لا يملكه، والبيع إذا لم يوصل إلى البعد إلا به حق في الحالين، فكذلك إكراه الذمي على الإسلام غير مملوك للمسلم، وإن كان الإسلام حقا، فواجب أن لا يكون المكره عليه كالمختار والله أعلم. فإن قيل: لم لا قلتم أنا لمسلمين إذا استكرهوا الذمي ساروا بذلك ناقضين عهده، فإذا أسلم كان ذلك كإسلام من لا عهد له. قيل: عهده لا ينتفض، فنقض من المسلمين من غير جناية بحدثها أو اختلاف شرط أن يكون منه، وليس نقضهم عهده كنقضه، لان العهد له وهو المحتاج إليه، فإذا نقضه انتقض، لأنه لا يضر بذلك إلا نفسه، وإذا نقضه المسلمون من غير عذر لم ينتقض لأنه إنما عقد له دفعا لما يخشاه من الضرر من جنايتهم، فلو لم يلزمهم وكان ينتقض أو ينقضوه لم يكن فيه فائدة واستوي وجوده وعدمه والله أعلم.

فصل وإذا ارتد المسلم عن دينه وهو سكران أخذ به، لأنه فيها عليه بمنزلة الصاحي إلا ترى أنه لو أقر بدين أو طلق امرأته أو أعتق عبده لزمه، وهو في وجوب الصلاة بدخول الوقت كالصاحي. فكذلك الردة عليه، فكان فيها كالصاحي. فإن رجع إلى الإسلام وهو سكران صح إسلامه لأنه إقرار وعدل ويلزم نفسه به حقوقا. فهو كنكاحه وطلاقه وعتاقه وإقراره بالديون والجنايات، فلما كان تلك يلزمه فالإسلام أولى أن يلزمه والله أعلم.

القسم الثامن: باب القول فيمن لم تبلغه الدعوة

القسم الثامن باب القول فيمن لم تبلغه الدعوة إن كان في ناحية من الأرض قوم لم تبلغهم الدعوة فالقول فيهم: أن من كان منهم عاقلا مميزا متمكنا من الرأي والنظر، إلا أنه لا يدين دينا، ولا يعرف لنفسه خالقا ولا يعتقد رأيا من الآراء، وإنما يعيش عيش البهائم، فهو كافر، إن قتله قاتل فلا شيء عليه. وإن كان يعتقد دينا نظر فإن كان يعتقد دينا مستقيما في أصله كالنصرانية قبل أن يبدل إلا أنه لم يتحول عنه لأن دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم لم تبلغه، فهذا مسلم، إن قتله قاتل فعليه دية مسلم. وسمعت بعض أصحابنا يقول: عليه القود، فإن كان يعتقد دينا كان مستقيما في الأصل إلا أنه يدل على سببه بما خلط من الباطل فليس مسلم وينظر فإن كان ذلك نصرانية أو يهودية مبدأه ففيه ثلث دية المسلم، وإن كان مجوسيا ففيه ديه أهل دينه، وإن كانوا عبدة أو ثان أو معطلين فهم كافر لا حرمة لهم، ولا شيء علم من قتلهم. وإنما قلنا إن كان منهم عاقل مميز، إذا رأى ونظر إلا أنه لا يعتقد دينا فهو كافر، لأنه وإن لم يكن يسمع دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه سمع دعوة أحد الأنبياء الذين كانوا قبله صلوات الله عليه على كثرتهم، وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم، والذين كفروا بهم، وخالفوهم فإن الخبر قد يبلغ على لسان الموافق، وإذا سمع أية دعوة كانت إلى الله فترك أن يستدل بعقله على صحتها، وهو من أهل الاستدلال والنظر كان بذلك معرضا عن الدعوة فكفر والله أعلم. وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي، ولا عرف أن في العالم من يثبت إلها، ولا يرى أن ذلك يكون فإذ كان، فأمره على الاختلاف: فمن ذهب إلى أن للعقول أحكاما من نحو القطع، فحسن الشيء أو قبحه أو سقوطه، فإنه يقول: أن على هذا أن

ينظر في حال نفسه ويتكعر في أنه وجوده على أي وجه كان أو يقسم ذلك ثوابه وفهمه ثم يستدل على الصواب منها بالدلائل الواضحة اللائحة بالحق المستنير بالصدق، وإذ كان ذلك واجبا عليه فأغفله وأعرض عنه كان حكمه حكم المعرض عن الدعوة بعد أن بلغته والله اعلم. وأما من لا يرى هذا الرأي فإنه يقول: العقل وإن كان طريقا إلى المعرفة، فينبغي أن يأتي الأمر بالاستدلال فيلزم، أو يرد الأمر بالإيمان فيجب. وإنما إمكان معرفة الله تعالى بالعقل كإمكان معرفة ما وعد الله به، وإمكان سائر الأعمال التي تصلح لها الأعضاء والجوارح، وإذا كان شيء من ذلك لا يلزم إلا بأمر، فكذلك هذه المعرفة. وإذا كان كذلك- وقد أخبر الله تعالى: {أنه لا يرضى لعباده الكفر} - صح أن لا يؤخر عنهم الأمر بالإيمان، فلا يمكن إذا وجود من تبلغهم الدعوة إلى الإيمان، ولا معنى لوضع هذه المسألة فيه، والبحث أنه كافر أو مؤمن، والله أعلم. فصل وأما من كان منهم متمسكا بدين مستقيم كان حقا في وقت لم يبلغه الخبر عن غيره فهو مسلم، لأنه لا يصير محجوجا بغيره ما لم يبلغه خبره. ألا ترى أن أهل قباء لم تلزمهم الحجة بتحويل القبلة إلى الكعبة ما لم يبلغهم الخبر، ولذلك استداروا فبنوا ولم يستأنفوا، وقد قال الله عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. بمعنى الرسول للتبليغ، فمن "لم" تبلغه دعوة الرسل فكمن لم يرسل إليه. ألا ترى أن الرسول إذا أوحي إليه وهو في بيته لم يصد قومه محجوجين بما أنزل عليه قبل أن يبلغهم، فكذلك البعداء منه هذا حكمهم. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن أمره أنن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله، وكان إذا بعث سرية يقول لأميرهم: إذا لقيت العدو فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإني رسول الله. فلما لم يأمر بالقتال إلا بعد الدعوة فلمنا أن الحجة لا تلزم من لم يسمع الدعوة إلا بأن

يبلغها أمام القتال، وهذا هو الذي لا يجوز غيره، لأن القتال إنما هو على الدين فيستحيل أن يتقدم الإعلام بالدين لمن ينبغي أن يتقدم الدعوة والإعلام. فإن وقفت الإجابة وإلا كان القتال بعد الإصرار والله أعلم. وإذا كان الأمر على ما وصفت، وجب إذا قيل من ذكرت أن يكون فيه ديته مسلم لأنه مسلم هذا ما قاله غيه غيري، وقائل هذا القول- وإن كان من أهل الفتيا- فيحتمل أن يكون غير ما قال: وهو أن يكون نصف الدية لأنه ناقص الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم لما وصف المرأة بنقصان الدين، من حيث أنه لم يسمع بمحمد صلى الله عليه وسلم، فرسول خاتم النبيين وسيد المرسلين أول من يكمل دينه، وإنه إن كان غير آثم وخرج لقصور الدعوة عنه، فالمرأة أيضا بما تدعه من الصلوات غير آثمة ولا حرجة، ولم يمنع ذلك من حط ديتها عن دية الرجل. ثم إذا لم تكمل الدية، وجب نصفها قياسا على المرأة، لأنه لا أصل له يرد إليه غيرها، ولا يقصر عن الثلث قياسا على أن أهل الذمة لأنه لا إيمان لهم وهذا مؤمن إلا أنه ناقص الإيمان كالمرأة. وفي هذا القول لا قود على قاتله، وإن كان الرجل يقبل بالمرأة لأن النقصان في أصل إيمانه، ونقصان دين المرأة في أحد فروع الإيمان لا في أصله، فلما تساوى المسلم والمسلمة في أصل الإيمان، وكان التباين بينهما في بعض الفروع، تساويا في القصاص الذي هو أصل فاصل، وتباينا في الدية التي هي بدل وفرع. وأما من لم تبلغه الدعوة فإنه لا يساو المسلم في أصل الإيمان ولا في فروعه، فوجب أن لا يساويه في النفس ولا في الدية والله أعلم. فإن قيل: أو كان من ينقص دينه تنقص ديته؟ قيل: لا! ولكن الصلاة تأتي الإيمان التام، والإيمان بالرسول يأتي الإيمان بالله، فمن كان مسلما بمجرد إيمانه بالله، وكان ناقص الدين من حيث لم تبلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤمن به، كان كالتي تم إيمانها بالله ورسوله أو كانت ناقصة الدين من حيث أنها تحيض شطر أيامها في الأغلب، فلا يمكنها أن تصلي، والله أعلم. وأما من كان متمسكا بدين مبدل، فحكمه حكم أهله في الضمان ومقدار الدية. لأن ضمان الكتابي إنما يسقط بمناصبة المسلمين، الا ترى أنه إذا اعتصم بذمة أو أمان ضمن،

والذي لم تبلغه الدعوة ليس بمناصب ولا مخالف، فوجب أن يكون مضمونا. فإن قيل: بل ضمان الجاني إنما يجب إذا اعتصم بذمة أو أمان! ألا ترى أن الناصب منهم لا يضمن، والذي لم تبلغه ليس معتصما بواحد منهما، فوجب أن لا يضمن. قيل له: أن الذي قلناه أولى، لأن أصل الكتابين من حسن، كانوا مقرين على أديانهم الضمان، وسقوط الضمان حادث بحدوث الخلاف والمناصبة، والخلاف لا يظهر إلا بعد وجود الدعوة، فمن لم تبلغه الدعوة فلا خلاف منه، فوجب أن يكون مردودا إلى أصل أمره، والله أعلم بالصواب.

القسم التاسع: باب فيمن مات مستدلا بقول

القسم التاسع باب فيمن مات مستدلا بقول -وبالله التوفيق- من بلغ عاقلا مميزا، أو عرف الدعوة وسمع بعض إعلام النبي صلى الله عليه وسلم المطبق الذي لا يمكن أن يكون كذبا ولا غلطا، فلم يذعن له، ودافع بالإيمان ليستدل وينظر، فهو كافر، وإن مات مستدلا مات كافرا، لأن إعلام الأنبياء صلوات الله عليهم باهرة للعقول، فكما أن من شاهدها ولم يؤمن بها، وشكك فيها نفسه وزعم أنه يستدل وينظر لم يكن معذورا. فكذلك من بلغه خبر هذا البلاغ الذي وصفت، فلم يؤمن لم يكن معذورا. فأما من كان في طرف من الأرض بعيد، لا يبلغه إلا الإفراد في الإفراط، فسمع خبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض إعلامه، فتوقف عن الإيمان به لينظر: أيصدق الخبر به أو يكذب، واعتقد أن الأخبار إن تظاهرت بمثل ذلك، آمن ألا أنه لم يبرح من موضعه ليخشى الأخبار، والبراح يمكنه فهو كافر، لأنه رضي لنفسه بالشك بدلا من اليقين، وغرر مع ذلك بالدين، وإن كان البراح لا يمكنه ولم يكن عنده إلا هبر من يمكن الكذب منه، لم يكن محجوجا به. ولا يشبه هذا، الواحد كان يبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد الملوك بكتابه ليدعوه إلى الإسلام لأنه لم يغفل ذلك إلا بعد انتشار خبره وتطاير الركبان بذكره، وما غافص أحدا برسول أو كتاب، فكان يخلص كتابه إذا ورد على المكتوب إليه لدعوة دون التعريف، فلذلك كان من ورد عليه الكتاب على يد واحد، محجوجا بدعوته والله أعلم. وإذا سمع سامع بدعوته ولم يسمع بشيء من إعلامه لم يكن محجوجا بما سمع، إلا

أنه ينبغي له أن يتوقف، فإن سارع إلى تكذيبه كفر، وإن لم يسمع بشيء من إعلام نوبته إلى القرآن، وقوله: {فأتوا بسورة من مثله} وكان من عليه أهل البلاغة، وأخذ يمتحن نفسه لينظر: هل يتهيأ له بمعارضته، وهو يعتقد أنها لم تستوله واعتاصت عليه آمن به وانفضت مدة لو كانت المعارضة مؤاتيه في ممكنته لواته فيها وأمكنته، فلم يقدر على شيء وآخر الإيمان به كفر. فإن قبل أن يمكنه معرفة حاله وهو يراود نفسه فربما طبع، وربنا يئس، ولم يظهر له من حال نفسه ما يمكنه القطع به. وكان من قبل هذا البلاغ متمسكا بدين حق مات مؤمنا بإيمانه المتقدم. فإن قيل: لم كفرتموه إذا يئس من إمكان المعارضة، وهو يقول: الست أنا الناس كلهم؟ ولعل غيري يقدر على ما عجزت عنه، وأما أنا واحد من الجمع! قيل: لأن مباينة القرآن سائر الكلام المنظوم، إنما هي من قبل خروج نظمه عن معارف الناس، فإنه ليست له طريقة تدرك فيحافظ عليها، كما للشعر الذي إذا أجاب طبع الواحد إليه والأقدر على تعلمه والتوصل إليه بأسبابه، وإذا كان كذلك، فكل من كان من أهل البلاغة والنظم وجاهد نفسه في معارضة سورة من القرآن فلم يقدر عليها، لأن معرفته لم تحط بنظمه ولم تقف له على هيئة مطردة وطريقة منسقة صار محجوبا لعجزه. وكان علمه بما ظهر له من حاله علما باحوا لمن كان في مثل معناه. ألا ترى أنه لو بلغه فمكان القرآن أنه يقول الدلالة على نبوتي، ولزوم أن أحدا لا يسمع كلامي وقولي إلا وينسينا اسمه، فلا يذره ولا غيره إلا أن اذكره، فنسي هذا المبلغ اسمه عند هذا البلاغ ونسبه مبلغه وجهد جهده في تذكره ولم يذكر لصار محجوجا بما بلغه. وإن لم يكن له أن يتوقف عن الإيمان معتلا بأن يقول: إن كنت نسيت اسمي ولم أذكره فلعل غيري لا ينساه أو يذكره، لأن لم ينس اسمه لعارض من العوارض التي تحدث للطباع فينسى ويغفل. فقال: لعل الناس يتباينون في ذلك، فعسى أن يعرض لواحد ولا يعرض لغيره، وإنما نسي لأمر خارج من الطباع فهو وغيره فيه سواه، وليس إلا التصديق والتسليم، فكذلك هذا في العجز عن معارضة القرآن والله أعلم. فإن سأل سائل: عن امرأة ولدت ولدا على رأس جبل إلى أن يعيش وحده، ماتت أمه

وبقي وحده فكبر وعقل ولم ير أنسانا قط، ولا يسمع خبرا إلا أنه يفكر في أمره أول ما اتسع للرأي والنظر ليعلم ما هو وما هذه المحسوسات التي يراها وهل يجب أن يكون لها فاعل؟ أو هي قديمة؟ فلم يزل ينظر ويستدل ولا يغفل عن النظر وقتا إلى وقت تدفعه عنه ضرورة، فمات قبل أن ينتهي استدلاله، فيظهر له ما يطلب، أيموت كافرا أو يموت مسلما؟ قيل له: هذا ينبغي أن ينظر فيه من أصول سبق ذكرها: أحدها: القول بالميثاق. فمن أثبته زعم أن الناس كلهم مولودون على حكم الميثاق المأخوذ عليهم. فمن نقصه بالكفر زال عنه حكمه، ومن لم ينقصه بحدث يحدثه ثبت له حكمه. فقال في هذا الذي مات مستدلا أنه مات مؤمنا ومآبه الجنة. وهكذا من لم يقل بالميثاق ويزعم أن الله تعالى جعل أصل الناس الاستقامة، كما جعل أصل الماء الطهارة، فكذلك يقول أيضا. ومن قال: أصل الناس انه لا يدن لأحد منهم بنفسه، ولكن يجعل في صغره تابعا لأبويه، وإذا بلغ كان له حكم نفسه، قال أن الذي وقع السؤال عنه لا يمكن أن يكن لأنه لو كان، لا يمكن أن يقطع بأنه يموت كافرا، ولا بأنه يموت مسلما. وقد قسم الله عباده قسمين، فقال: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}، ولما قسمهم في الآخرة جعلهم بين وعد ووعيد، فقال: {فمنهم شقي وسعيد} وقال: {فريق في الجنة وفريق في السعير} فثبت أن أحدا ألا يخرج من هذين القسمين. وصح أن المسألة بنفسها فاسدة، وجوابها أن المولود الذي سئل عنه إن كان بلغ حد الاستدلال. فإن الله تعالى يمهله إلى ينهي استدلاله حقا فيصيب، أو ينهيه وعند نفسه باطلا فيخطئ فيحق له الوعد أو يحق عليه الوعيد ولا يعاجله بالاحترام قبل أحد هذين والله أعلم. فإن قيل: أرأيتم إذا استدل أو عرف الحق فآمن بالله كان إيمانه ذلك فرضا أداه، وكان استدلاله وإيمانه حسنين عند الله تعالى أولا. فإن قلتم: لم يكونا حسنين لزمكم أن تقولوا كانا قبيحين. وإن قلتم: كانا حسنين فقد اعترفت بأن الإيمان حسن لعينه، وإن

ذلك مدرك بالعقل من حلمه، وليس يحتاج في تحسينه إلى أمر يرد به. فالجواب: أن من قال أن من الأشياء أشياء حسنة لأعيانها، وأشياء قبيحة لأعيانها، والعقل فارق بين الصنفين، فإنه يقول: كان إيمانه واستدلاله حسنين واجبين، وتركهما- لو تركهما- قبيحين محظورين. ومن خالف هذا الرأي قال: السؤال محال! لأن الله تعالى اخبر أنه لا يرضى لعبادة الكفر، وإذا لم يرضه لهم نهاهم عنه وأمرهم بضده، فلا يمكن أحد المستعين لإدراك الأمر ومعرفته يحكى عن الأمر بالإيمان، فيحتاج إلى أن يتكلم عليه إذا خلا عنه واستدل بعقله على الإيمان. واعتقده، كان ذلك منه حسنا أو غير حسن وواجبا له غير واجب ويعتبر هذه المسائل بعد معرفة الأصل لا وجه له لأن ذلك إنما يراد به المغالطة وليست من فعل أهل الدين إنما فعلهم النصح للمسلمين، وبالله التوفيق. ***

القسم العاشر: باب القول في شعب الإيمان

القسم العاشر باب القول في شعب الإيمان أولها: باب في الإيمان بالله تعالى. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق}. وهذه الشهادة فرض تجمع الاعتقاد بالقلب والاعتراف باللسان، والاعتقاد والإقرار وإن كانا عملين يعملان بجارحتين مختلفتين فإن نوع العمل واحد، وما مثلها إل امثل من قال شيئا وكتبه، فإنه وإن عمل عملين بجارحتين مختلفتين فإن نوع العمل واحد، وهو الإبانة عما حصل مبينا باليد واللسان من قرآن أو شعر أو حديث أو مثل أو قصص أو ما كان من أصناف الكلام أو مثل من مد يديه ورجله إلى شيء فحركه، فإنه وإن كان عم عملين بجارحتين مختلفين، فإن نوع العمل واحد وهو تحريك شيء بعينه. فكذلك الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان عملان يعملان بجارحتين، إلا أن نوع العمل واحد، والمنسوب إلى القلب منه هو المنسوب إلى اللسان والمنسوب إلى اللسان هو المنسوب إلى القلب، كما أن المكتوب مما جمع بين كتبه وقوله هو المنقول، والمنقول هو المكتوب. فإن قيل: فما العمل للحاصل بالاعتقاد والإقرار؟ قيل: مجموع عدة أشياء: أحدها: إثبات الباري عز وجل جلاله ليقع به مفارقة التعطيل. والثاني: إثبات وحدانيته ليقع به البراءة من الشرك. والثالث: إثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض لتقع به البراءة من التشبيه. والرابع: أن وجود ما سواه كان من قبل إبداعه واختراعه إياه لتقع به

من قول يقول بالصلة والمعلول. والخامس: إثبات أنه مدبر ما أبدع ومصرفه على ما شاء لتقع به البراءة من قول القائلين بالطبائع أو تدبير الكواكب أو تدبير الملائكة. فأما البراءة بإثبات الباري عز وجل والاعتراف له بالوجود من ماعين التعطيل، فإن ثوما ضلوا عن معرفة الله عز وجل وكفروا وألحدوا وزعموا أنه لا فاعل لهذا العالم، وأنه لم يزل على ما عليه، ولا موجود إلا المحسوسات، وليس وراءها شيء، وإن الكوائن والحوادث إنما تكون تحدث من قبل الطبائع التي في العناصر وهي الماء والنار والهوى والأرض، ولا مدبر للعالم يكون ما يكون باختياره وصنعه. فإذا أثبت المثبت للعالم إلها ونسب الفعل والصنع إليه، فقد فارق الإلحاد والتعطيل، وهذا أحسن مذاهب الملحدين والعاملين يسميهم غيرهم من أهل الإلحاد الفرقة المتجاهلة وقد يدعونهم غير الفلاسفة. وأما البراءة من الشرك إثبات الوحدانية، فلأن قوما ادعوا فاعلين، وزعموا أن أحدهما يفعل الخير والأخير يفعل الشر، وزعم قوم أن بدء الخلق كان من النفس، إلا انه كان يقع منها لا على سبيل السداد والحكمة، وأخذ الباري على يدها، وعمد إلى مادة تدعمه كانت موجودة معه لا تزل، فركب منها هذا العالم على ما هو عليه من السداد والحكمة، وإذا ثبت المثبت أن لا إله إلا الله واحد، وأن لا خالق سواه، ولا قديم غيره، فقد انتفى عن قوله الشريك الذي هو في البطلان، ووجوب اسم الكفر لقائله كالإلحاد والتعطيل. وأما البراءة من التشبيه بإثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض، فلأن قوما زاغوا عن الحق فوصفوا الباري جل ثناؤه ببعض صفات المحدثين، فمنهم من قال: أنه جوهر، ومنهم من قال: أنه جسم، ومنهم من أجاز أن يكون على العرض كما يكون الملك على سريره، وكان ذلك في وجوب اسم الكفر لقائله كالتعطيل والتشريك. فإذا أثبت المثبت أنه ليس كمثله شيء، وجماع ذلك أنه ليس بجوهر ولا عرض فقد انتفى التشبيه لأنه لو كان جوهرا أو عرضا لجاز عليه ما يجوز على سائر الجواهر والأعراض، ولأنه إذا لم يكن جوهرا ولا عرضا لم يجز عليه ما يجوز على الجواهر من حيث أنها جواهر كالتآلف والتجسم وشغل الأمكنة والحركة والسكون، ولا ما يجوز على الأعراض من حيث أنها أعراض كالحدوث وعدم البقاء.

وأما البراءة من التعليل بإثبان أنه مبدع كل سواه، فلأن قوما من الأوائل خالفوا المعطلة ثم خذلوا عن بلوغ الحق فقالوا: أن الباري موجود، غير أنه علة لسائر الموجودات وسبب لها، بمعنى أن وجوده اقتضى وجودها شيئا فشيئا على ترتيب لهم يذكرونه، وأن المعلول إذا كان لا يفارق العلة، فواجب إذا كان الباري لم يزل أن يكون مادة هذا العالم لم يزل به، فمن أثبت له المبدع الموجود المحدث لكل ما سواه من جوهر وعرض باختياره وإرادته المخترع لها لا من الأصل فقد انتفى عن قوله التعليل الذي هو في وجوب الكفر لقائله كالتعطيل. وأما البراءة من التشريك في التدبير بإثبات أنه لا مدبر لشيء من الموجودات إلا الله، فلان قوما زعموا أن الملائكة تدبر العالم وسموها آلهة. وزعم قوم أن الكواكب تدبر ما تحتها وإن كل كائنة وحادثة في الأرض، فإنها هي من آثار حركات الكواكب واحتراقها، واتصالها وانفصالها وغير ذلك من أحوالها. فمن أثبت أن الله عز وجل هو المدبر لما أبدع ولا مدبر سواه، فقد انتفى عن قوله التشريك في التدبير الذي هو في وجوب اسم الكفر لقائله، كالتشريك في القدم أو في الخلق، وكان معنى من هذه المعاني معقده، ولهذا لم يكن الاعتقاد إحدى شعب الإيمان أو الاعتراف شعبة ثانية، بل كانا معا شعبة واحدة إذا كان المحصل بعقد القلب هو المحصل بلفظ اللسان. فصل ثم أن لله جل ثناؤه ضمن هذه المعاني كلها كلمة واحدة وهي لا إله إلا الله، وأمر المأمورين بالإيمان لأن يعتقدوها ويقولها، فقال عز وجل: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} وقال فيما ذم به مستكبري العرب: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون: "أأنا لتاركوا إلهتنا لشاعر مجنون"} والمعنى أنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله استكبروا ولم يقولوا، بل قالوا مكانها أأنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون. ووصف الله تعالى نفسه بما في هذه الكلمة في غير موضع من كتابه فقال: {الله لا

إله إلا هو الحي القيوم}. وقال: {هو الحي لا إله إلا هو}. وأضاف هذه الكلمة في بعض الآيات إلى إبراهيم الخليل صلوات الله عليه فقال بعد أن اخبر عنه أنه قال لابنه وقومه: {إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه}. وقيل: الكلمة لا إله إلا الله، ومجاز قوله: إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني إلا الله. فيحتمل أن يكون أولاده المؤمنون أخذوا هذه الكلمة عنه، فكانوا يقولون: لا إله إلا الله. ثم إن الله عز وجل جددها بعدد رسوها بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا بعثه لأنه كان من ذرية إبراهيم صل الله عليهما، وورثه من هذه الكلمة ما ورثه البيت والمقام وزمزم والصفا والمروة وعرفه والمشعر ومنا والكلمات التي ابتلاه بها فأتمها والقربان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". في هذا بيان أن هذه الكلمة يكفي الإسلام بها من جميع أصناف الكفر بالله عز وجل. وإذا تأملناها وجدناها بالحقيقة كذلك. لأن من قال: لا إله إلا الله، فقد اثبت الله ونفى غيره، فخرج بإثبات ما أثبت من التعطيل، وبما ضم إليه من نفي غيره عن التشريك وأثبت باسم الإله الإبداع معا إذا كانت الإلهية لا تصير مثبتة له تعالى بإضافة الموجودات إليه على ومعنى انه سبب لوجودها دون أن يكون فعلا وصنعا، ويكون لوجودها بإرادته واختياره تعلق، وبإضافته فعل يكون منها فيها سوى الإبداع إليه مثل التركيب والنظم والتأليف. فإن الأبوين قد يكونان سببا لولد على بعض الوجوه، ثم لا يستحق واحد منها اسم الإله. والنجار والصانع ومن يجري بجراهما، كل واحد منهم يركب ويهيئ ولا يستحق اسم الإله، فعلم بهذا أن اسم لإله لا يجب إلا للمبدع، وإذا وقع الاعتراف بالإبداع، فقد وقع بالتدبير، لأن الإيجاد تدبير ولأن تدبير الموجود إنما يكون بإثباته أو بإحداث

أعراض فيه أو إعدامه بعد إيجاده، وكل ذلك أن كان فهو إبداع وإحداث، وفي ذلك أنه لا معنى لفصل التدبير عن الإبداع وتميزه عنه، وإن الاعتراف بالإبداع ينتظم وجميع وجوهه زعامة ما دخل في بابه. هذا هو الأمر الجاري على سنن النظر ما لم يناقض قوله مناقض، فيسلم أمرا ويجحد مثله، أو يعطي أصلا ويمنع فرعه. فأما التشبيه فإن هذه الكلمة أيضا تأتي على نفيه، لأن اسم الإله إذا ثبت بكل وصف يعود عليه بالابطال وجب أن يكون متيقنا بثبوته، والتشبيه من هذه الجملة لأنه إذا كان له من خلقه شبيه، وجب أن يجوز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على شبهة، وإذا جاز ذلك عليه لم يستحق اسم الإله كما لا يستحقه خلقه الذي شبهه به، فتبين بهذا أن اسم الاله والتشبيه لا يجتمعان كما أن اسم الإله ونفي الإبداع عنه لا يأتلفان وبالله التوفيق. فمن أراد التدين بدين الحق وأطلق لسانه بهذه الكلمة قد استجمعت له هذه المعاني التي سبق سرحها وتلخيصها ما لم يخطر بقلبه عند التفصيل شيء يخالف الجملة، فإن خطر احتاج إلى أن يعتقد الحق فيه مفصلا، ولم ينفعه الأجمال مع دخول الشبهة عليه في التفصيل. ثم إذا انضم إلى ما ذكرته من شهادة الحق ما يذر في باب الشعبة الثانية من شعب الإيمان من اعتقاد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والاعتراف بها، فصل الإيمان بعامة أسماء الله وصفاته لاقتضاء العقائد التي سبق وصفها وتعديدها بمعانيها، واثبات الرسول صلى الله عليه وسلم بالألفاظ الدالر عليها، فإن تصديقه في الرسالة تأتي على قبولها منه وتسمية الله جل ثناؤه بها. وبالله التوفيق. فصل ثم أن أسماء الله تعالى التي ورد بها الكتاب والسنة وأجمع العلماء على تسميته بها مقسمة بين العقائد الخمس التي سبق ذكرها وتعديدها. فيلتحق بكل واحد منهما بعضها وقد يكون منها ما يلتحق بمعنيين ويدخل في ما بين، أو أكثر ثم تنتظمها جميعا شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا شرح ذلك وتفصيله:

1 - ذكر الأسماء التي تتبع إثبات الباري جل ثناؤه والاعتراف بوجوده منها القديم: وذلك مما يوثر على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأت به الكتاب نصا، وإن كان قد جاء فيما تقتضيه. ومعناه: الموجود الذي ليس لوجوده ابتداء، والموجود الذي لم يزل في أصل القديم في الناس، لأن القديم هو القادم. قال الله عز وجل فيما أخبر به عن فرعون: {يقدم قومه يوم القيامة}. فقيل الله عز وجل قديم بمعنى أنه سابق للموجودات. ولم يجز إذا كان كذلك أن يكون لوجوده ابتداء. لأنه لو كان لوجوده ابتداء لاقتضى ذلك أن يكون غير له أو جده، ويوجب أن يكون ذلك الغير موجودا قبله. فان لا يصح حينئذ أن يكون هو سابقا للموجودات. فبان أنا إذا وصفناه بأنه سابق للموجودات فقد أوجبنا أن لا يكون لوجوده ابتداء، وكان القديم في وصفه جل ثناؤه عبارة عن هذا المعنى وبالله التوفيق. ومنها الأول ومنها لآخر: وقد ورد القرآن بهذين الاسمين. والأول: هو الذي لا قبل له. والآخر: هو الذي لا بعد له، قبل وبعد نهايتان، فتقبل نهاية الموجود من قبل ابتدائه، وبعد غايته من انتهائه، فإذا لم يكن له ابتداء ولا انتهاء لم يكن للوجود قبل ولا بعد، فكان هو الأول والآخر. ومنها الباقي: قال الله عز وجل: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}. وهذا أيضا من لواحق قولنا: قديم، لأنه إذا كان موجودا لا عن أول ولا لسبب، لم يجز عليه الانقطاع بسبب وجوده، فلما لم يكن لوجود القديم بسبب، يتوهم أن ذلك السبب أن أرتفع عدم، علمنا أنه لا انقطاع له. ومنها الحق: قال الله عز وجل: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين}، والحق مالا يسع أفكاره ويلزم إثباته والاعتراف به، ووجود الباري تعالى أولى ما يجب الاعتراف به، ولا يسع جحده. إذا لا مثبت يتظاهر عليه من الدلائل البينة الظاهرة ما تظاهرت على وجود الباري جل جلاله.

ومنها المبين: وهو الذي لا يخفى ولا يتكتم. والباري جل ثناؤه لبس بخاف ولا منكتم، لأن له من الأفعال الدالة عليه ما يستحيل معها أن يخفى، فلا يوقف عليه ولا يدري. ومنها الظاهر: ومعناه البادي بأفعاله وهو جل ثناؤه بهذه الصفة، فلا يمكن معها أن يجهد وجوده وينكر ثبوته. ومنها الوارث: لان معناه الباقي بعد ذهاب غيره، وربنا جل ثناؤه بهذه الصفة لأنه يبقى بعد ذهاب الملاك الذي أمتعهم في هذه الدنيا بما أتاهم، لأن وجودهم وجود الأملاك كان به ووجوده ليس بغيره. وهذا الاسم مما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس له في الكتاب ذكر والله أعلم. 2 - ذكر الأسماء التي تتبع إثبات وحدانيته عن اسمه: أو لها الواحد: فهو واحد من حيث أنه ليس له شريك، فيجري عليه لأجله حكم العدد، وتبطل به وحدانيته. والآخر: أنه واحد، هي أن ذاته ذات لا يجوز عليه التكثر لغيره، والإشارة فيه إلى أنه ليس بجوهر ولا عرض، له قوام له إلا بغير يحله، والقديم فرد لا يجوز عليه حاجة إلى غيره، ولا يكثر بغيره، ولا هذا لو قيل أن معنى الواحد انه القائم بنفسه لكان ذلك صحيحا ولرجع المعنى إلى انه ليس بجوهر ولا عرض، لأن قيام الجوهر بفاعله ومثبته، وقيام العرض بجوهر يحله. والثالث: أن معنى الواحد: القديم. فإذا قلنا الواحد، فإنما يريد به الذي لا يمكن انه يكون أكثر من واحد، والذي لا يمكن أن يكون أكثر من واحد هو القديم، لان القديم بالإطلاق السابق للموجودات، ومهما كان قديما كان كل واحد منهما غير سابق بالإطلاق، لأنه أن سبق غير صاحبه فليس بسابق لصاحبه وهو موجود وجوده، فيكون إذا قديما من وجه غير قديم من وجه، ويكون القدم وصفا لهما معا، ولا يكون وصفا لهما معا، ولا يكون وصفا لكل واحد منهما. فثبت أن القديم بالإطلاق لا يكون إلا واحدا. فالواحد إذا هو القديم الذي لا يمكن أن يكون إلا واحدا. فإن قال: إذا كان القديم هو السابق للموجودات، والبادي إذا لم يستحق هذا الإسم

إلا بعد وجود الموجودات، لأنه من قبل وجودها لم يكن موصوفا بسبقها. قيل: أن الموجودات لما كانت بإيجاده وإبداعه كان سابقا لها بوجوده القديم، فإن وجوده لا يكون عرضا، وإذا كان وجوده بعدما أبدع هذا الوجود الذي كان موصوفا به قبل الإبداع، فهو إذا استحق به الوصف بالسبق استحقه قديما لا استحقاقا حادثا. كما أن القدرة وإن كانت لا تكون إلا على مقدور، فإنه إذا استحق به الوصف بالقدرة استحقه استحقاقا قديما لا حادثا، لأنه إنما يوجد المقدور بالقدرة التي كانت له قبل أن يوجده، وليست قدرته عرضية، فتكون قدرته الآن غير قدرته قبل الآن، فكذلك الوجود والله أعلم. وقد ورد الكتاب بهذا الاسم، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل إنما إنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار}. ومنها الوتر: لأنه إذا لم "يكن" قديم سواه، لا إله ولا غير إله، لم ينبغي لشيء من الموجودات أن يضم إليه فيعد معه، فيكون والمعدود معه شفعا، لكنه واحد فرد وتر. ومنها الكافي: لأنه إذا لم يكن له في الإلوهية شريك، صح أن الكفايات كلها واقعة به وحده فلا ينبغي أن تكون العبادة إلا له، ولا الرغبة إلا إليه، ولا الرجاء إلا منه. وقد ورد الكتاب هذا أيضا، قال الله عز وجل: {أليس الله بكاف عبده}، وجاء ذلك أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها العلي: قال الله عز وجل: {وهو العلي العظيم} ومعناه الذي ليس فوقه بما يجب له من معاني الجلال احد، ولا معه من يكون العلو مشتركا بينه وبينه، لكنه العلي بالإطلاق، والرفيع في هذا المعنى. قال الله عز وجل: {رفيع الدرجات}. ومعناه هو الذي لا أرفع قدرا منه، وهو المستحق لدرجات المدح والثناء، وهو أصنافها وأبوابها لا يستحق لها غيره. 3 - ذكر الأسماء التي تتبع إثبات الابتداع والاختراع له. أولها: الله، ومعناه إله، وهذا أكثر الأسماء واجمعها للمعاني، والأشبه أنه كأسماء

الاعلام موضوع غير مشتق، ومعناه القديم التام القدرة، فإنه إذا كان سابقا لعامة الموجودات كان وجودها به، وإذا كان تام أو حد المعدوم، وصرف ما يوحده على ما يزيده، واختص لذلك باسم الإله. ولهذا لا يجوز أن يسمي هذا الاسم أحد سواه يوجه من الوجوه، وتأويل من التأويلات وهو الذي أراده الله جل ثناؤه بقوله: {رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا}. أي هل تعلم من يستحق أسم الإله غيره، ومن قال: ألا أنه هو المستحق للعبادة، فقد يرجع قوله: إلى أن الإله إذا كان هو القديم التام القدرة، فكان كل موجود سرا صنعا له، والمصنوع إذا علم صانعه كان حقا عليه أن يستحذي له في الطاعة، ويذل له بالعبودية لأن هذا المعنى تفسير هذا الاسم. ومنها الحي: قال الله عز وجل: {هو الحي لا إله إلا هو} وإنما يقال ذلك لأن الفعل على سبيل الاختيار لا يوحد إلا مزجي، وأفعال الله عز وجل لها صادرة عنه باختياره إذا أثبتنا أنه حي. ومنها العالم: قال الله عز وجل: {عالم الغيب والشهادة} ومعناه أنه يدرك الأشياء على ما هي به، وإنما وجب أن يوصف عز اسمه بالعالم، لأنه قد ثبت أن ما عداه من الموجودات فعل له وانه لا يمكن أن يكون فعل إلا باختيار واردة، ولفعل على هذا الوجه لا يظهر إلا من عالم، كما لا يظهر إلا من حي. ومنها القادر: قال الله عز وجل: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتي}. وقال: {بل، إنه على كل شيء قدير}، وهذا يدل على معنى أنه لا يعجزه شيء بل تيسر له ما يريد على ما يريد، لأن أفعاله قد ظهرت، ولا يظهر الفعل اختيارا إلا من قادر غير عاجز، كما لا يظهر إلا من حي عالم. ومنها الحكيم: قال الله تعال: {إنه حكيم عليم} ومعناه الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب وإنما أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا

يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من حي عالم قدير. ومنها السيد: هو أسم لم يأت به الكتاب، ولكنه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه روي عنه أنه قال لوفد بني عامر: "لا تقولوا السيد فإن الله هو السيد". ومعناه المحتاج إليه الإطلاق، فإن سيد الناس إنما هو رأسهم الذي إليه يرجعون ويأمره يعملون، وعن رأيه يصدرون، ومن قوته يستمدون. فإذا كانت الملائكة والأنس والجن خلقا للباري جل ثناؤه لم يكن بهم غيبة في يدي أمرهم وهو الموجود، إذ لو لم يوجدهم لم يوجدوا ولا في الإبقاء بعد الإيجاد، ولا في العوارض أثناء البقاء كان حقا له جل ثناؤه وأن يكون سيدا، وكان حقا عليه أن يدعوه بهذا الاسم. ومنها الجليل: وذلك أيضا مما ورد به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الكتاب: {ذو الجلال} ومعناه المستحق للأمر والنهي، فإن جلال الواحد فيما بين الناس إنما يظهر بأن يكون له غيره أمر نافذ ولا تحد من طاعته فيه يد، وإذا كان من حق الباري جل ثناؤه على من أبدعه أن يكون أمره عليه نافذا وطاعته له لازمة وجب له اسم الجليل حقا، وكان لمن عرفه أن يدعوه بهذا الاسم، وبما يجرب مجراه ويؤدي معناه. ومنها البديع: ومعناه المبتدع وهو يحدث ما لم يكن مثله قط. قال الله عز وجل: {بديع السموات والأرض} أي مبدعها. والمبدع من له إبداع، فلما ثبت وجود الإبداع من الله تعالى لعامة الجواهر والأعراض استحق أن يسمى بديعا ومبدعا. ومنها الباري: قال الله عز وجل: {الباري المصور} وهذا الاسم يحتمل معنيين: أحدهما: الموجد لما كان في معلومة من أصناف الخلائق، وهذا هو الذي يشير إليه قوله عز وجل: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها}، ولا شك أن إثبات الإبداع والاعتراف به للباري عز وجل ليس يكون على أنه أبدع بغتة من غير علم سبق له بما هو مبدعه، لكن على انه كان عالما بما

أبدع قبل أن يبدع، فكما وجب عند الإبداع اسم البديع، وجب له أسم الباري. والآخر: أن المراد بالباري فالبر الأعيان، أي أنه أبدع الماء والتراب والنار والهواء لا من شيء، ثم خلق منها الأجسام المختلفة، كما قال عز وجل: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}. وقال: {إني خالق بشرا من طين} وقال: {ومن آياته أن خلقكم من تراب} وقال: {خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين} وقال: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار}. وقال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقت آخر} فيكون هذا من قولهم: برأ القواس القوس إذا صنعها من موادها التي كانت لها فجاءت منها لا كهيئتها، والاعتراف لله عز وجل بالإبداع يقتضي الاعتراف له بالبرء، وكان المعترف يعلم من نفسه أنه منقول من حال إلى حال إلى أن صار ممن يقدر على الاعتقاد والاعتراف. ومنها الذارئ: ومعناه المنشئ، والمعنى قال الله عز وجل: {جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه} أي جعلكم أزواجا وذكورا وإناثا لينشئكم ويكثركم وينميكن، فظهر بذلك أن الذر ما قلنا، وصار الاعتراف بالإبداع يلزم من الاعتراف بالذرء ما يلزم من الاعتراف بالبرء. ومنها الخالق: قال الله عز وجل: {هل من خالق غير الله} ومعناه الذي صنف المبدعات وجعل لكل صنف منها قدرا، فوجد فيها الصغير والكبير والطويل والقصير والإنسان والبهيم والدابة والطائر والحيوان والموات، ولا شك أن الاعتراف بالإبداع يقتضي الاعتراف بالخلف إذ كان الخلق هيئة الإبداع فلا يغني أحدهما عن الآخر. ومنا الخلاق: قال الله عز وجل: {بلى وهو الخلاق العليم} ومعناه الخالق خلقا من بعد خلق.

ومنها الصانع: ومعناه المركب والمهيئ، قال الله عز وجل: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقد يكون الصانع الفاعل، ويدخل فيه الاختراع والتركيب معا. ومنها الفاطر: ومعناه فاتق المرتتق من السماء والأرض. قال الله عز وجل: {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما} قد يكون المعنى كانت السماء دخانا فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، وكانت الأرض غير مدحوة فدحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، ألم يعلموا وقد يكون المعنى ما روي عن بعض الآثار: فتقنا السماء بالمطر والأرض بالنبات. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كنت لا أدري ما معنى فاطر حتى سمعت إعرابيين يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي حفرتها وسففت عن الماء فيه فنبع وظهر، والاعتراف بالإبداع يقتضي هذا المعنى ويأتي عليه. ومنها المقتدر: قال الله عز وجل: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر}، وهو المظهر قدرته بفعل ما يقدر عليا، وقد كان ذلك من الله تعالى فيما أمضاه وإن كان يقدر على أشياء كثيرة لم يفعلها ولو شاء لفعلها، فاستحق بذلك أن يسمى مقتدرا. ومنها الملك والمليك في معناه. قال عز وجل: {فتعالى الله الملك الحق}. وقال: {عند مليك مقتدر} وذلك مما يقتضيه الإبداع هو المخترع للشيء من العدم إلى الوجود، فلا يتوهم أن يكون أحد أحق بما أبدع منه، ولا أولى بالتصرف فيه منه، وهذا هو الملك. وأما المليك فهو استحقاق السياسة وذلك فيما بيننا قد يصغر ويكبر بحسب قدر المسوس وقدر السائس في نفسه ومعانيه. وأما ملك الباري عز اسمه: فهو الذي لا يتوهم ملك يدانيه فضلا على أن يفوته، لأنه إنما استحقه بإبداعه مما يسوسه، وإيجاده إياه بعد أن لم يكن، ولا يخش أن ينزع منه، أو يدفع عنه فهو الملك حقا وملك من سواه مجاز.

ومنها الجبار: في قول من يجعله من الجبر الذي هو نظير الكره، لأنه يدخل فيه أحداث الشيء عن عدم، فإنه إذا أراد وجوده كان ولم يتخلف كونه عن حال إرادته ولم يكن فيه غير ذلك، فيكون فعله له كالجبر، إذ الجبر طريق إلى دفع الامتناع عن المراد، فإذا كان ما يريده الباري جل ثناؤه لا يمتنع عليه فذلك في الصورة جبر. وقد قال الله عز وجل: {ثم استوي إلى السماء وهي دخان} فهذا الباب لم يميزه عن الإبداع وجعل الاعتراف له، فإنه بديع اعترافا له بأنه جبار. 4 - ذكر الأسماء التي تتبع نفي التشبيه عن الله تعالى جده: منها الأحد: وهو الذي لا شبيه له ولا نظير، كما أن الواحد هو الذي لا شريك له ولا عديل، ولهذا سمي الله عز وجل نفسه بهذا الاسم لما وصف نفسه بأنه {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} وكان قوله عز وجل: {لم يلد ولم يولد} من تفسير قوله: {أحد} والمعنى لم يتفرع هو عن شيء، ولا تفرع هو عن شيء كما تفرع الولد عن أبيه وأمه ويتفرع عنهما الولد، فإذا كان ذلك فيما يدعوه المشركون الها من دونه لا يجوز أن يكون الها إذا كانت إمارات الحدوث من التجزئ والتناهي قائمة فيه ولازمة له، الباري لا يتجزأ ولا يتناهى فهو إذا غير مشبه إياه، ولا مشارك له في صفته. ومنها العظيم: ومعناه الذي لا يمكن الامتناع عليه بالإطلاق لان عظيم القوم إنما يكون مالك أمورهم الذي لا يقدرون على مقاومته ومخالفة أموره إلا انه وأن كان كذلك، فقد تلحقه العجز بآفات تدخل عليه فيما بيده فتوهنه وتضعفه، حتى يستطاع مقاومته بل فهره وإبطاله، والله جل ثناؤه قادر لا يعجزه شيء، ولا يمكن أن يعصى كرها، أو يخالف أمره قهرا، فهو العظيم إذا حقا وصدقا، وكان هذا الاسم لمن دونه مجازا. ومنها العزيز: ومعناه الذي لا يوصل إليه ولا يمكن إدخال مكروه عليه. فإن العزيز في لسان العرب هو من العزة والصلابة، وقيل للحديد الصلب غرور لشدته وتعذر كسره، وخلافه الذليل الذي هو في اللسان من الذلة وهو اللين والطواعية. وقيل للمركوب

المطواع ذلول للينة وسلاسته. فإذا قيل لله عزيز، فإنما يراد به الاعتراف له بالقدم الذي لا يتهيأ معه تغييره عما لم عليه منا القدرة والقوة، وذلك عائد إلى تنزيهه عما يجوز على المصنوعين لاعتراضهم بالحدوث في أنفسهم للحوادث أن تصيبهم وتغيرهم. ومنها المتعال: ومعناه المرتفع عن أن يجوز عليه ما يجوز على المحدثين من الأزواج والأولاد والجوارح والأعضاء، واتخاذ السرير للجلوس عليه والاحتجاب بالستور عن أن تنفذ الأبصار إليه، والانتقال من مكان إلى مكان ونحو ذلك. فإن إثبات بعض هذه الأشياء توجب النهاية، وبعضها يوجب الحاجة، وبعضها يوجب التغير والاستحالة، وشيء من ذلك غير لائق بالقديم ولا جائز عليه. ومنها الباطن: وهو الذي لا يحس وإنما يدرك بآثاره وأفعاله. ومنها الكبير: ومعناه المعروف عباده على ما يريده منهم من غير أن يروه. وكبير القوم هو الذي يستغني عن التبذل لهم، ولا يحتاج غي بعض الناس وفي بعض الأمور إلى الاستظهار على المأمور بإبداء نفسه ومخاطبته كفاحا لخشيته أن لا يطيعه إذا سمع أمره من غيره. والله عز وجل لا يحتاج إلى شيء ولا يعجزه شيء. ومنها السلام: لأن معناه السالم من المصائب، إذا هي غير جائزة عليه وإن جوازها على المصنوعات، لأنها إحداث وبدائع. فكما جاز أن يوجدوا بعد أن لم يكونوا موجودين جاز أن يدعموا بعد "ما" وجدوا، وجاز أن تتبدل أعراضهم وتتناقض أو تتزايد أجزاؤهم، والقديم لا علة لوجوده، فلا يجوز التغير عليه. ولا يمكن أن يعارضه نقص أو شين، أو تكون له صفة تخالف الفضل والكمال. ومنها الغنى، ومعناه الكامل بماله وعنده، فلا يحتاج معه إلى غيره، وربنا جل ثناؤه بهذه الصفة لان الحاجة نقص، والمحتاج عاجز عما يحتاج إله إلى أن يبلغه ويدركه، والمحتاج إليه فضل، فوجد ما ليس عند المحتاج. والنقص منفي عن القديم بكل حال، والعجز غير جائز عليه، ولا يمكن أحد "أن يكون" عليه فضل، إذ كل شيء سواه خلق له وبدع أبدعه ولا يملك من أمره شيئا، وإنما يكون كما يريده الله عز وجل ويدبره فلا يتوهم أن يكون له مع هذا اتساع لفضله عليه.

ومنها السبوح: ومعناه المنزه عن المصائب والصفات التي تعثور المحدثين من ناحية الحدث، والتسبيح التنزيه. ومنها القدوس: ومعناه الممدوح بالفضائل والمحاسن، والتقديس مضمن في صريح التسبيح، والتسبيح مضمن في صريح التقديس، لان نفي المذام إثبات للمدائح، كقولنا لا شريك له ولا شبيه له. إثبات أنه واحد أحد. وكقولنا لا يعجزه شيء إثبات أنه قادر قوي. وكقولنا: إنه لا يظلم أحدا إثبات أنه عدل في حكمه. وإثبات المدائح له نفي للمذام عنه، كقولنا: أنه عالم نفي للجهل عنه، وقولنا: أنه قادر، نفي للعجز عنه. إلا أن قولنا هو كذا ظاهرة التقديس، وقولنا ليس بكذا ظاهرة التسبيح، لأن التسبيح موجود في ضمن التقديس، والتقديس موجود في ضمن التسبيح، وقد جمع الله تبارك وتعالى بينهما في سورة الإخلاص. فقال عز اسمه: {قل هو الله أحد، الله الصمد}. فهذا تقديس، ثم قال: {لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد}. فهذا تسبيح. والأمران معا راجعات إلى إفراده وتوحيده ونفي الشريك والتشبيه عنه. ومنها المجيد: ومعناه المنيع المحمود. لأن العرب لا تقول لكل محمود مجيدا، ولا لكل منيع مجيدا. أو قد يكون الواحد منيعا غير محمود كالمتآمر الخليع الجائر، أو اللص المتحصن ببعض القلاع. وقد يكون محمودا غير منيع كأمير السوقه والصابرين من أهل القبلة، فلما لم يقل لكل وحد منهما مجيد، علمنا أن المجيد من جمع بينهما، فكان منيعا لا يرام، وكان في منعته حسن الخصال جميل الفعال والباري جل ثناؤه يجل عن أبن يرام وأن يوصل إليه، وهو مع ذلك محسن مجمل لا يستطيع العبد أن يحصي نعمته ولو استنفذ فيه مدته، فاستحق اسم المجيد وما هو أعلى منه. ومنها القريب: ومعناه لا مسافة بين العبد وبينه، فلا يسمع دعاءه أو يخفى عليه حاله كيف ما تصرف به، فإن ذلك يوجب أن يكون له نهاية، وحاشا له من النهاية. ومنها المحيط: ومعناه الذي لا يقدر على الفرار منه، وهذه الصفة ليست

حقاً إلا لله جل ثناؤه، وهي راجعة إلى كمال العلم ولقدرة، وانتفاء الغفلة والمعجز عنه. ومنه الفعال لما يريد: ومعناه الفاعل فعلا بعد فعل، كلما أراد فعل وليس كالمخلوق الذي أن قدر على فعل عجز عن غيره. ومنها القدير: وهو تام القدرة لا يلابس قدرته عجز بوجه. ومنها الغالب: وهو البالغ مراده من خلفه، أحبوا أو كرهوا، وهذه إشارة أيضا إلى كمال القدرة والحكمة وأنه لا يقعر ولا يخدع. ومنها الطالب: وهو اسم جرت عادة الناس باستعماله في اليمين مع الغالب ومعناه المتتبع غير المهمل، وذلك أن الله عز وجل يمهل ولا يهمل، وهو على الإمهال بالغ أمره، كما قال عز وجل في كتابه: {ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما}. وقال: {فلا عجل عليهم إنما نعد لهم عدا}. وقال: {إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا}. ومنها الواسع: ومعناه الكثير مقدوراته ومعلوماته، والمنبسط فضله ورحمته، وهذا تنزيه له من لنقص والعلة واعتراف له بأنه لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء ورحمته وسعت كل شيء. ومنها الجميل: وهذا الاسم في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه: ذو الأسماء الحسنى. لأن القبائح إذا لم تلق به لم يجز أن يشتق اسم من أسمائها وإنما تشتق أسماؤه من صفاته التي كلها مدائح، والأفعال التي أجمعها حكمة. ومنها الواجد: وهو أيضا في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: الذي لا يضل عنه شيء ولا يفوته شيء. ومنها المحصي: وهذا مما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الكتاب: {وأحصى كل شيء عددا}.ومعناه: العالم بمقادير الحوادث، بما يحيط به منها علوم العباد، وما لا يحيط به منها علومهم كالأنفاس والأرزاق والمعاصي والقروف وعدد القطر والرمل

والحصى والنبات وأصناف الحيوان والموات وعامة الموجودات ما ويبقى منها أو يضمحل ويفنى، وهذا راجع إلى نفي العجز الموجود في المخلوقين عن إدراك ما يكبر مقداره، ويتوالى وجوده، وتتفاوت أحواله عن اسمه. ومنها المتين: وهو الذي لا تتناقص قوته فيهن ويفتر، إذ كان يحدث ما يحدث في غيره لا في نفسه، وذلك أن التغير لا يجوز عليه. ومنها ذو الطول: ومعناه الكثير الخير، لا يعوزه من أصناف الخيرات شيء أن أراد أن يكرم به عبده وليس كذي طول من عباده قد يحب أن يجوز بالشيء ولا يجده. ومنها السميع: ومعناه المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون من غير أن يكون له إذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عيه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الإذن كالأهم من الناس لما لم يكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لإدراك الصوت. ومنها البصير: ومعناه المدرك للأشخاص والألوان التي يدركها المخلوقون بإبصارهم من غير أن يكون له جارحة العين، وذلك راجع إلى "أن" ما ذكرناه لا يخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في العين كالأعمى الذي لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لإدراك شخص أو لون. ومنها العليم: لأن معناه المدرك لما يدركه المخلوقين بعقولهم وحواسهم ومالا يستطيعون إدراكه من غير أن يكون موصوفا بعقل أو حس. وذلك راجع إلى أنه لا يغرب عنه شيء ولا يعجزه إدراك شيء كما يعجز "عن ذلك" من لا عقل له ولا حسن، من المخلوقين. ومعنى ذلك أنه يشبههم ولا يشبهونه. ومنها العلام: ومعناه العلام بأصناف المعلومات على تفاوتها، فهو يعلم الموجود، ويعلم ما هو كائن، وإنه إذا كان كيف يكون، ويعلم ما ليس بكائن، وأنه لو كان كيف كان يكون. ومنها الخبير: المتحقق لما يعلم كالمستيقن من العباد إذا كان الشك غير جائز عليه، وإن الشك ينزع إلى الجهل، وحاشا له من الجهل، ومعنى ذلك، إن العبد قد يوصف بعلم الشيء إذا كان ذلك مما يوجه كثر وأنه لا سبيل له إلى أكثر منه وإن كان يجيز

الخطأ على نفسه، والله جل ثناؤه لا يوصف بمثل ذلك، إذا كان العجز غير جائز عليه. والإنسان إنما يؤتى فيما وصفت من قبل القصور والعجز. ومنها الشهيد: ومعناه المطلع على ما لا يعلمه المخلوقون إلا بالشهود، وهو الحضور، ومعنى ذلك أنه وإن كان لا يوصف بالحضور الذي هو المجاورة والمقاربة. فإن ما يجري ويكون من خلقه لا يخفى "عليه" ما لا يخفى على النائي من القوم ما كان منهم، وذلك أن النائي إنما يؤتى من قبل قصور آلته ونقص جارحته. والله جل جلاله ليس بذي آلة ولا جارحة فيدخل عليه فيهما ما يدخل على المحتاج إليها. ومنها الحسيب: ومعناه المدرك للأجزاء والمقادير التي يعلم العباد أمثالها بالحساب من غير أن يحسب، لأن الحاسب يدرك الأجزاء شيئا فشيئا ويعلم الجملة عند انتهاء حسابه والله تعالى لا يتوقف علمه بشيء على أمر يكون وحال يحدث. 4 - ذكر الأسماء التي تنبع أسبا بالتدبير له دون ما سواه: فأول ذلك المدبر: ومعناه مصرف الأمور على ما يوجب حسن عواقبها. واشتقاقه من الدبر، فكان المدبر هو الذي ينظر إلى دبر الأمور فيدخل فيه على علم به، والله عز وجل عالم بما هو كائن قبل أن يكون، فلا يخفى عليه عواقب الأمر. وهذا الاسم فيما يؤثر عن نبينا صلى الله عليه وسلم. ومنها القيوم: لأن معناه القائم على كل شيء من خلقه يدبره بما يريد. ومنها الرحمن: وهو المزيح للعلل، وذلك أنه لما أمر الجن أن يعبدوه عرفهم وجوه العبادات وبين لهم حدودها وشروطها، وخلق لهم مدارك ومشارع وقوى وجوارح يعلمون بها لتنفيذ ما أراده منهم. وخاطبهم وكلفهم وبشرهم وأنقذهم وأمهلهم وحملهم دون ما يتسع به بينهم. فصات العلل مزاحه وحجج العصاة والمقصرين منقطعة. ومنها الرحيم: ومعناه المثيب على العمل فلا يصيح لعامل عملا ولا يهدر لساع سعيا، وينيله بفضل رحمه من الثواب أضعاف عمله. ومنها الحليم: لأن معناه الذي لا يحبس أنعامه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم،

ولكن يرزق العاصي كما يزرق المطيع وهو منهمك في معاصيه، كما يبقي البر التقي وقد يقيه الآفات والبلايا وهو غافل لا يذكره، فضلا عن أن يدعوه، كما يقيها الناسك الذي يسأله وربما شغلته العبادة عن المسألة. ومنها الكريم: ومعناه النفاع، من قولهم: شاة كريمة، إذا كانت غزيرة اللبن تدر على الحالب، ولا تقلص باخلافها، ولا تحبس لبنها. ولا شك في كثرة المنافع التي من الله تعالى "بها" على عباده ابتداء منه وتفضلا فهو باسم الكريم أحق من كل كريم. ومنها الصبور: وذلك مما وردت به الإخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس له في الكتاب ذلك. ومعناه: الذي لا يعاجل بالعقوبة. وهذه صفة ربنا جل ثناؤه لأنه يملي ويمهل وينظر ولا يعجل. ومنها العفو: ومعناه الواضح عن عباده تبعات خطاياهم وآثارهم، فلا يستوفيها منهم، وذلك إذا تابوا واستغفروا، أو تركوا لوجهه أعظم مما فعلوا، "فيكفر عنهم ما فعلوا"، بما تركوا، أو بشفاعة من يشفع لهم، ويجل ذلك كرامة لذي حرمة لهم به، وجزاء له بعمله ومنها الغافر: وهو الذي يستر على المذنب ولا يؤاخذه به فيشهره ويفضحه. ومنها الغفار: وهو المبالغ في الستر، في يشهر المذنب لا في الدنيا ولا في الآخرة. ومنها الغفور: وهو الذي يكثر منه الستر على المذنبين من عباده، ويزيد عفوه على مؤاخذته. ومنها الرؤوف: ومعناه المتساهل على عباده لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون بدرجات كثيرة، ومع ذلك غلظ فرائضه في حال شدة القوة، وخففها في حال الضعف ونقصان القوة، وأخذ المقيم بما لم يأخذ به المسافر، والصحيح بما لم يأخذ به المريض، وهذا كله رأفة ورحمة. ومنها الصمد: ومعناه المصمود بالحوائج، أي المقصود. وقد يقال ذلك على أنه المستحق لأن يقصد بها، ثم لا يبطل هذا الاستحقاق، ولا تزول هذه الصفة بذهاب من يذهب عن الحق ويضل السبيل، لأنه إذا كان هو الخالق والمدبر لما خلق لا خالق غيره

ولا مدبر سواه، فالذهاب عن قصده بالحاجة وهي بالحقيقة واقعة إليه ولا قاضي لها غيره، جهل وحمق، والجهل بالله تعالى كفر. ومنها الحميد: وهو المستحق لأن يحمد لأنه جل ثناؤه بدأ فأوجد ثم جمع بين النعمتين الجليلتين الحياة والعقل، ووالي بين منحه، وتابع آلاءه ومننه حتى فاتت العد، وأن استفرغ فيها الجهد، فمن ذا الذي يستحق الحمد سواه، بل له الحمد كله لا لغيره، كما أن المن منه لا من غيره. ومنها القاضي: ومعناه الملزم حكمه. وبيان ذلك: الحاكم بين لعباد لا يقول إلا ما يقوله المفتي، غير أن الفتيا لما كانت لا تلزم لزوم الحكم، والحكم يلزم، سمي الحاكم قاضيا، ولم يسم المفني قاضيا، فعلمنا أن القاضي هو الملزم، وحكم الله تعالى كله لازم فهو إذا قاضي وحكمه قضاء. ومنها القاهر: ومعناه انه بدأ خلقه بما يريد فيقع في ذلك ما يشق ويثقل ويغم ويحزن، ويكون منه سلب الحياة أو نقص الجوارح، فلا يستطيع أحد رد تدبيره والخروج من تقديره. ومنها القهار: أن يقهر ولا يقهر بحال. ومنها الفتاح: وهو الحاكم، أي يفتح ما انغلق من عباده ويميز الحق من الباطل، ويعلي الحق ويخزي الباطل، وقد يكون "ذلك" منه في الدنيا والآخرة. ومنها الكاشف: ولا يدعي بهذا الاسم إلا مضافا إلى شيء. فيقال: كاشف الضر أو كاشف الكرب. ومعناه: الفارج والمجلي. يكشف الكرب ويجلي القلب، ويفرج الهم ويزيح الضر والغم. ومنها اللطيف: وهو الذي يريد بعباده المؤمنين الخير واليسر، ويقيض لهم أسباب الصلاح والبر. ومنها المؤمن: ومعناه المصدق، لأنه إذا وعد صدق وعده، ويحتمل المؤمن عبادة بما عرفهم من عدله ورحمته من أن يظلمهم ويجور عليهم. ومنها المهيمن: ومعناه لا ينقص للمطيعين يوم الحساب من طاعاتهم شيئا، فلا يثيبهم عليها، لأن الثواب لا يعجزه، ولا هو مستكره عليه فيحتاج إلى كتمان بعض الأعمال أو

جحدها، وليس ببخيل فيحمله استكثار الثواب إذا كثرت الأعمال على كتمان بعضها، ولا يلحقه نقص بما يثيب فيحبس بعضه. لأنه ليس منتفعا بملكه حتى إذا نفع غيره إلى انتفاعه عنه بنفسه، وكما لا ينقص المطيع من حسناته شيئا، لا يزيد العصاة على ما اجترحوه من السيئات شيئا فيزيدهم عقابا على ما استحقوه. لأن واحدا من الكذب والظلم على جائز عليه. وقد سمى عقوبة أهل النار جزاء، فما لم يقابل منها ذنبا لم يكن وفاقا، فدل ذلك على أنه لا يفعله. ومنها الباسط: ومعناه الناشر فضله على عباده، يزرق ويوسع ويجود ويفضل ويمكن ويخول ويعطي أكثر مما يحتاج إليه. ومنها القابض، يطوى بره ومعروفه عمن يريد، ويضيق ويقتر أو يحرم فيفقر، ولا ينبغي أن يدعى ربنا جل جلالة باسم القابض حتى يقال معه الباسط. ومنها الجواد: ومعناه الكثير العطايا. ومنها المنان: وهو عظيم المواهب. فإنه أعطى الحياة والعقل والنطق وصور فأحسن الصور، وأنعم فأجزل، وأسنى النعم وأكثر العطايا والمنح. قال- وقوله الحق- {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}. ومنها المقيت: وعندنا أنه الممد، وأصله من القوت الذي هو مدد البرية. ومعناه أنه دبر الحيوانات بان جبلها على أن يحلل منها على مر الأوقات شيئا بعد شيء، ويعوض ما يتحلل غيره فهو يمدها في كل وقت بما جعله "قواما لها إلى أن يريد إبطال شيء منها فيحبس عنه ما جعله" مادة لبقائه فيهلك. ومنها الرازق: ومعناه المفيض على عباده ما لم يجعل لأبدانهم قواما إلا به، والمنعم لهم باتصال حاجتهم من ذلك إليهم، لئلا تتنغص لذة الحياة بتأخره عنهم ولا يفقدوها أصلا بفقدهم إياه. ومنها الرزاق: وهو الرزاق رزقا بعد رزق والمكثر الواسع لها. ومنها الجبار: في قول من جعل ذلك من جبر الكسر، أي الصلح لأحوال عباده

والجابر لها، والمخرج لهم مما يسؤهم إلى ما يسرهم، ومما يضرهم إلى ما ينفعه. ومنا الكفيل: ومعناه المتقبل للكفايات، وليس ذلك بعقد وضمان ككفالة الواحد من الناس، وإنما هو على معنى: أنه لما خلق المحتاج وألزمه الحاجة، وقدر له البقاء الذي لا يكون إلا مع إزالة العلة، وإقامة الكفالة، لم يخله من إيصال ما علق بقاؤه به إليه، وإدراره في الأوقات والأحوال عليه. وقد فعل ذلك ربنا جل جلاله إذ ليس في وسع مرزق أن يرزق نفسه، وإنما الله تعالى يرزق الجماعة من الناس والدواب، والأجنة في بطون أمهاتها، والطير التي تعدوا خماصا وتروح بطانا، والهوام والحشرات والسباع في الفلوات. ومنها الغياث: وهو المغيث. وأكثر ما يقال: غياث المستغيثين، ومعناه: المدرك عباده في الشدائد إذا دعموه ومريحهم ومخلصهم. ومنها المجيب: وأكثر ما يدعى بهذا الاسم مع القريب، فقال: القريب المجيب، وقال: مجيب الدعاء، أو مجيب دعوة المضطرين. ومعناه: الذي ينيل سائله ما يريد. لا يقدر على ذلك غيره. ومنها الولي: وهو الوالي، ومعناه مالك التدبير. ولهذا يقال: المقيم على اليتيم ولي اليتيم، وللأمير الوالي. ومنها البر: ومعناه الرفيق بعباده، يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، ويعفو عن كثير من سيئاتهم، لا يؤاخذهم بجميع جناياتهم، ويجزيهم بالحسنة عشر أمثالها، ولا يجزيهم بالسيئ إلا مثلها، ويكتب لهم الهم بالحسنة، ولا يكتب لهم بالسيئة. والولد البر بابيه هو الرفيق به، المتحري لمحابه المتوفي لمكارهه. وقد قيل: أن البر في صفات الله جل ثناؤه المولى، ومعناه المأمول منه النظر والمعرفة لأنه هو المالك ولا يتفرغ للملوك إلا مالكه. ومنها الحافظ: ومعناه الصائن عبده من أسباب الهلكة في أمور دينه ودنيها، وهذا الاسم فيما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في القرآن: {فالله خير حافظا} وجاء: {بما حفظ الله} ومن حفظ فهو حافظ.

ومنها الحفيظ: ومعناه الموثوق به بترك التصنيع. ومنها الناصر: وهو الميسر للغلبة. ومنها النصير: وهو الموثوق منه بأن لا يسلم وليه ولا يخذله. ومنها الشاكر: ومعناه المادح لمن يعطيه والمثني عليه والمثيب له بطاعته فضلا من نعمته. ومنها الشكور: وهو الذي يدوم شكره ويعم كل مطيع وكل صغير من الطاعة أو كبير. ومنها خالق الحب والنوى: يصونها في الأرض عن العفن والفساد، ويهيئهما للنشوء والنمو، ثم يشقهما للإنبات ويخرج من الحب الزرع ومن النوى الشجر لا يقدر على ذلك غيره. ومنها المتكبر: وهو المكلم عباده وحيا وعلى السنة الرسل، قال الله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء}. ومنا الرب: وهو المبلغ كلما أبدع حد كماله الذي قدره له، وهو يسل النطفة من الصلب ويجعلها علقة، والعلقة مضغة ثم يجعل المضغة عظما ثم يكسو العظم لحما، ثم يخلق في البدن الروح ويخرجه خلقا آخر وهو صغير ضعيف فلا يزال ينميه وينشئه حتى يجعله رجلا، ويكون في بدء أمره شابا ثم يجعله كهلا ثم شيخا. وهكذا كل شيء خلقه فهو القائم عليه به، والمبلغ إياه الحد الذي وصفه وجعله نهاية ومقدارا له. ومنها المحيي: وهو جاعل الخلق حيا بإحداث الحياة فيه. وفي القرآن: {يحييكم ثم يميتكم}. وفيه: {فأماتهم الله ثم أحياهم}. ومنها الضار: وهو الناقص عبده مما جل له إليه الحاجة. فمنها النافع: وهو الساد للخله، والزائد على ما إليه الحاجة، وقد يجوز أن يدعى

الله جل ثناؤه باسم النافع وحده، ولا يجوز أن يدعى بالضار وحده حتى يجمع بين الاسمين كما قلت في الباسط والقابض. وهذان الاسمان فيما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها الوهاب: وهو المتفضل بالعطايا المنعم بها لا اعن استحقاق عليه. ومنها المعطي والمانع: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يدعو به: "اللهم لا مانع لو أعطيت ولا معطي لما منعت" "فالمعطي" هو الممكن من نعمه، والمانع هو الحائل دون نعمه. ولا يدعى الله باسم المانع حتى يقال عنه المعطي، كما قلت في الضار والنافع. ومنها الخافض والرافع: وهذان الاسمان مما يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن يفرد الخافض عن الرافع في الدعاء كما قلت في المانع والمعطي، فالخافض هو الواضع من الأقدار، والرافع المعلي للأقدار. ومنها الرقيب: وهو الذي لا يغفل عما خلق فيلحقه نقص، أو يدخل عليه "خلل" من قبل غفلته عنه. ومنها الثواب: وهو المعيد إلى عبده فضل رحمته إذا هو رجع إلى طاعته وندم على معيته، ولا يحبط بما قدم من خير، ولا يمنعه ما وعد المطيعين من الإحسان. ومنها الديان: أخذ من {مالك يوم الدين}، وهو الحاسب والجازي لا يضيع عملا، ولكنه يجزي بالخير خيرا وبالشر شرا. ومنها الوفي: من قوله: {فيوفيهم أجورهم}. قوله: {أوف بعهدكم} ومعناه لا يعجزه جزاء المحسنين، ولا يمنعه مانع من بلوغ تمامه، ولا تلجئه ضرورة إلى النقص من مقداره. ومنها الودود: وقد قيل: هو الواد لأهل طاعته، أي الراضي عنهم بإعمالهم، والمحسن إليهم لأجلها والمادح لهم بها. وقد قيل: هو الودود بكثرة إحسانه، أي المستحق لان يود فيعبد ويحمد.

ومنها العدل: ومعناه لا يحكم إلا بالحق ولا يقول إلا الحق ولا يفعل إلا الحق، والحق هذا يلزم الاعتراف به، هكذا ينبغي أن يكون. ومنها الحكم: وهو الذي قيه الحكم. وأصل الحكم منع الفساد، وشرائع الله تعالى كلها استصلاح العباد. ومنها المقسط: وهو المنيل عباده القسم من نفسه، وهو العدل، وقد يكون الجاعل لكل واحد منهم قسطا عن خيره. ومنها الصادق: خاطب "الله" عباده بما يرضيه عنهم، ويسخطه عليهم، وبما لهم من الثواب بعنده إذا أرضوه، والعقاب إذا أسخطوه، فصدقهم ولم يعزرهم ولم يعزرهم ولم يلبس عليهم، وهذه الأسماء فيما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم. ومنها النور: وهو الهادي لا يعلم العباد إلا ما علمهم، ولا يدركون إلا ما سهل لهم إدراكه. الحواس والعقل فطرته وخلقه وعطيته. ومنها الرشيد: وهو المرشد، وهذا مما يؤثر عن الني صلى الله عليه وسلم. ومعناه الدال على المصالح والداعي إليها، فهذا من قوله عز وجل: {وهيء لنا من أمرنا رشدا}، فإن مهيئ الرشد مرشد. وقال: {ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}، فكان ذلك دليلا على أن من هداه فهو وليه ومرشده. ومنها الهادي: وهو الدال على سبل النجاة والمبين لها لئلا يزيغ العبد "ويضل" فيقع فيما يرديه ويهلكه. ومنها الحنان: وهو الواسع الرحمة، وقد يكون المبالغ في إكرام أهل طاعته إذا وافوا دار القرار لأن من حن إلى غيره من الناس أكرمه عند لقائه وكلف به عند قدومه. ومنها الجامع: وفي القرآن: ربنا أنك جامع الناس لاشتات الدارسين من الأموات وذلك يوم القيامة. ومنها الباعث: يبعث من في القبور إحياء ليحاسبهم ويجزيهم بأعمالهم. ومنها المقدم: وهو المعطي لعوالي الرتب.

ومنها المؤخر: وهو الدافع عن عوالي الرتب. ومنها المعز: وهو الميسر أسباب المنعة. ومنها المذل: وهو المعرض للهوان والضمة. وهذه الأسماء السبعة مما ورد به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يدعى جل ثناؤه إلا مع المقدم، ولا بالمذل إلا مع المعز، ولا بالميت إلا مع الحي المحي، كما قلت في المانع والمعطي. ومنها الوكيل: وهو الموكل والمفوض إليه، علما بأن الخلق والأمر، لا يملك أحد من دونه شيئا. ومنها سريع الحساب: فقيل معناه لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره، فيطول الأمر في محاسبة الخلق عليه. وقيل معناه: أنه يحاسب يوم القيامة في وقت قريب لوتولى المخلوقون مثل ذلك الأمر في مثله لما قدروا عليه، ولاحتاجوا إلى سنين لا يحصيها إلا الله عز وجل. ومنها ذو الفضل: وهو المنعم عما لا يلزمه. ومنها ذو ائتقام: وجاء في الآثار: المنتقم وهو المبلغ بالعقاب قدر الإسحتقاق. ومنها ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لا تقولوا الطبيب" "ولكن" قولوا الرفيق، فإنما الطبيب هو الله. ومعنى هذا أن المعالج للمريض من لآدميين وإن كان حاذقا متقدما في صناعته، فإنه قد لا يحيط علما بنفس الداء ولثن عرفه وميزه فلا يعرف مقداره، ولا مقدار ما استولى عليه من بدن العليل وقوته، ولا يقدم في معالجته إلا مطببا عاملا بالأغلب من رأيه وفهمه، لأن منزلته في علم الدواء كمنزلته التي ذكرتها في علم الداء، فهو لذلك ربما يصيب وربما يخطئ، وربا يزيد فيغلو وربما ينقص فيكبو، فاسم الرفيق "إذا" أولى من اسم الطبيب لأنه يرفق بالعليل فيحميه ما يخش أن لا يحتمله بدنه ويطعمه ويسقيه ما يرى أنه أرفق له. فأما الطبيب فهو العالم بحقيقة الداء والدواء، والقادر على الصحة والشفاء، وليس

بهذه الصفة إلا الخالق البارئ المصور، فلا ينبغي أن يسمى بهذا الاسم أحد سواه. فأما صفة تسمية الله تعالى به فهو أن يذكر ذلك في أحوال الاستشفاء مثل أن يقال: اللهم أنك أنت المصح والممرض والمداوي والطبيب ونحو ذلك. فأما أن يقال: يا طبيب كما يقال يا رحيم أو يا حليم أو يا كريم، فإن ذلك مفارقة لآداب الدعاء، والله أعلم. ومنها ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "أن الله حي كريم" ومعناه أنه يكره أن يرد العبد إذا دعاه فسأله ما لا يمتنع في الحكة إعطاؤه إياه وإجابته إليه، فهو لا يفعل ذلك إلا وانه لا يخاف من فعله ذما كما يخافه الناس فيكرهون لذلك فعل أمور وترك أمور، فإن الخوف غير جائز عليه والله أعلم. فصل ولله جل ثناؤه أسماء سوى ما ذكرنا تدخل في أبواب مختلفة: منها ذو العرش: ومعناه الملك الذي يقصد الصافون حول العرش لتعظيمه وعبادته، فهذا قد يتبع إثبات الباري جل ثناؤه على معنى أن للعباد ملكا وربا يستحق عليهم أن يعبدوه، وقد يتبع التوحيد على أن المعبود واحد والملك واحد وليس العرش إلا لواحد، وقد يتبع إثبات الإبداع والاختراع له لأنه لا يثبت العرش إلا لمن ينسب الاختراع إليه، وقد يتبع التدبير له، على معنى أنه هو الذي رتب الخلائق ودبر الأمور مقلا بالعرش على

كل شيء، وجعله مصدرا لقضايا وأقداره، فرتب له حملة من الملائكة، وآخرين منهم يصفون حوله ويعبدونه. ومنها ذو الجلال والإكرام: ومعناه المستحق بأن يهاب لسلطانه ويثنى عليه بما يليق بعلو شأنه. وهذا قد يدخل في باب الإثبات على معنى: أن للخلق ربا يستحق عليهم الجلال والإكرام، ويدخل في باب التوحيد على معنى: أن هذا الحق ليس إلا لمستحق واحد. ومنها الفرد: لأن معناه المنفرد بالقدم والإبداع والتدبير. ومنها ذو المعارج: وهو الذي إليه يعرج بالأرواح والأعمال. وهذا أيضا يدخل في باب الإثبات والتوحيد والإبداع والتدبير، وبالله التوفيق. فصل وإذا ثبت التحاق معاني هذه الأسماء التي عددتها بالعقائد الخمس التي وصفتها، وثبت انضمام شهادة أن لا إله إلا الله إياها، ثبت أنها تنظم معنى هذه الأسماء التابعة لها ويشتمل عليها كلها، فحصلت أجمع الأفكار وأسناها وأفخمها وأعلاها وأولاها بأن يتقرب إلى الله تعالى ويؤدي شكر ما علم من البيان بادامة ذكرها واستعمال اللسان ما أمكن بها، وحق لها أن تدعى كلمة التقوى كما دعاها الله، ويعصم الدماء والأموال والأعراض بها، ويدل الجنة من كانت آخر كلامه، وتزحزح عن النار من قالها مخلصا من قلبه، كما أخبر صلى الله عليه وسلم به، فالحمد لله الذي هدانا وإياه يستودعها ليحفظها علينا ويؤديها بفضله إليه أحوج ما يكون لها وينفعنا بها أنه ولي ذلك والقادر عليه. فصل وما يتبع الإيمان بالله جل ثناؤه التفكر في إثبات الله تعالى جده للاستدلال بها على إثباته ووحدانيته وقدسه وعظمته ووجوب طاعته، فإن في أخطار ذلك بالقلب تأكيدا للإيمان وتثبيتا للقلب، والإطراء له، ودفعا لخطوات الباطل عنه، والتفكير في وعد الله

ووعيده لينتهي إلى ما وعد به الثواب ويبقى ما أوعد عليه بالعقاب. قال الله عز وجل: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعدوا على جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض}. وقال: {أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} فأخبر عز وجل أن في خلق السموات والأرض وغيرهما آيات، وأمرنا بالنظر فيهما، والمنظر فيها تدبرها ليوقف منها على ما هي إثبات له ودلالات عليه، من أن لنا فاعلا حيا عالما قادرا حكيما، إذ كانت آثار الصنعة لازمة لها، والصنع يقتضي صانعا فلا يتعذر منه الصنع حتى يكون عالما به قبل أن يصنعه، قادرا عليه، ولا يأتي منه متقنا شيء حتى يكون مع علمه وقدرته حكيما، ولا تجتمع القدرة والعلم والحكمة في فاعل إلا وان يكون حيا يريد ويختار، فيأتي الفعل منه على ما يريد. فإن قال قائل ومن لكم بأن أثر الصنعة موجود في السموات والأرض! قيل له: أن السماء جسم محدود متناه، والمحدود والمتناهي لا يجوز أن يكون قديما! لأن القديم هو الموجود الذي لا سبب لوجوده، وما لا سبب لوجوده. فلا جائز أن يكون له نهاية لأنه لا يكون وجوده إلا تلك النهاية أولى به من وجوده دونها أو وراءها. ولان التناهي لا يكون الوجود، لأنه إلى نهايته يكون موجودا ثم يكون وراء نهايته عدما، والقديم لا يعدم فصح أن المتناهي لا يجوز أن يكون والسماء متناهية. فثبت بمقدمه. فإن قال قائل: وما الدليل على أن السماء متناهية! قيل: الدليل على ذلك، أنها متناهية عيانا من الجهة التي تلينا، فدل ذلك على أنها متناهية من الجهات التي نراها ولا نشاهدها، لأن بتناهيها من هذه الجهة قد أوجب أن لا يكون منها قديما موجودا إلا لسبب فصح أن مالا يلينا منها فهي كذلك أيضا، لأنه لا يجوز أن يكون شيء واحد بعضه قديم وبعضه غير قديم. وأيضا فإن السماء جسم

واحد وكل جزء منه محدود متناهي، فدل ذلك على أن جميعها محدود متناهي. فإن قال قائل: ما أنكرت أنها على ما هي عليه من الأجزاء المجتمعة ولا غاية لها ولا نهاية! قيل له: قد ثبت أن كل جزء منها متناه، فبطل بذلك أن يكون لها جميع، لأنه إذا كان كل جزء منها متناهيا، فبطل بذلك أن يكون لها جميع! لأنه إذا كان كل جزء متناهيا ثبت أنه ليس موجودا بذاته لا لسبب لن وجوده عند فاعل، وإذا ثبت ذلك لم يخل الفاعل أن يكون قد يقل السماع وفرع منها، أو يكون لم يفعلها ولم يفرع منها، فإن كان قد فعلها وفرع منها، فقد ثبت أن الأجزاء جميع وكلا، وفي ذلك ثبوت الابتداء والانتهاء. وإن كان لم يفرغ منها والموجود يومنا إذا نقص السماء لا كلها، وليس هذا قول أحد على أنه: إن كان لم يفرغ فمن ذلك لم يكن متناهيا، كما قد خرج إلى الوجود منها متناهي ولا ضير مما لم يخرج إلى الوجود لأن أتباع الفعل لا يبطل ثبوت الابتداء، ولا إنكار وجود الانتهاء، ولأن كل جزء من السماء إذا كان متناهيا، وكان هذا وصفا لا يشذ عنه جزء، ولم يبق منهما ما يوصف بعدم التناهي إليه، لأنه لا يبقى، وأقوالنا كل جزء شيء لآخر، فيرجع الوصف بعد التناهي إليه، فصح بإطلاق القول: أن السماء متناهية. وفي ثبوت التناهي أن يكون وجودها لذاتها لا لسبب. فصح أن وجودها لموجود أو جدها، وليس ذلك إلا لله القديم جل ثناؤه. فإن قال: إنكم إن كنتم وجدتهم السماء متناهية، فإنما وجدتموها متناهية إلى جسم فاقضوا بذلك على أن الجهة التي لا تليكم منها متناهية إلى شيء آخر، فتكون ذوات الموجودات غير متناهية، وكل نوع منها متناهي الخوص الثابتة له، لهذا لا يوجب الحدث! فالجواب: أن الموجودات إذا كانت على أنواعها، وكل نوع منها متناهيا في خواص ثابتة له، فقد وجب أن تكون الأنواع كلها متناهية في الخواص الثابتة لجميعها. وإذا كانت لا تنفك عن تلك الخواص، وقد وجب أن تكون متناهية في حكمها، فليس وراء ذلك إلا أن تكون متناهية في أنفسها.

ويقال له: إن كانت ما عارضتنا به لازما؟ فقل: إن الذي تنتهي إليه أجسام العالم بما تسميه خلاء لما كان متناهيا إلى أجسام، وجب أن يكون وله وراء ذلك تناهي إلى أجسام وأنت لا تقول، بل تقول أن الخلاء لا نهاية له، فبطلت بذلك معارضتك. ويقال له: السماء من الجهة التي تلينا متناهية عندك إلى النار، والنار إلى الهواء والهواء إلى الماء والأرضين، ومعلوم أنه لا سبلي إلى إثبات أنها تتناهى من الجهة التي لا تلينا إلى مثل ما تناهت إليه من الجهة التي تلينا، فثبت أن القضاء في هذا الغائب بحكم المشاهد ممتنع باتفاق. وأيضا فإن الذي يدعونه لا سبيل إلى إثباته لأنه لو كان في الأول مكان خال لا شيء متمكن فيه لما جاء! فإن تغير عن حاله. فيصير ببعضه أو كله مكانا لأجسام يتمكن فيه! لأنه لو كان مات خلا كبقيته، لكان التغير مستحيلا عليه مع بقاء نفسه، ولما كان إثبات الخلاء يردي إلى المحال صح أنه سبيل إلى إثباته، وان أجسام العالم كانت لا إلى شيء والله أعلم. وأيضا: فإن الأفلاك لا تعزى عن الأحداث لأنها دائمة التحرك، والحركة حدث، لأن الحدث ما لم يكن ثم كان، فلما لم يعرض الحدث وجب أن يكون بأنفسها لأن كل ما لم يكن خاليا من شيء لم يجز إذا كان أحدهما ابن خمسين سنة أن يكون الآخر ابن ستين سنة، فكذلك إذا كانت الأفلام لم تخل من الحركة، وكانت الحركة بأحد، لم يجز أن تكون الأفلاك قديمة. فإن قال قائل: فإني أقول أن الأفلاك كانت ساكنة ثم تحركت! قيل له: هذا محال، لأنها لو كانت قديمة، وكانت في قدمها ساكنة، لكان حكم سكونها حكم وجودها، وهو أنها تكون ساكنة لسكون لا سبب له، كما تكون موجودة بوجود لا سبب له، ولو كان كذلك لما جاز أن يعدم ذلك السكون إلى الحركة، كما لا يجوز- عندك- على ذاتها أن تعدم، وإن كانت، قد كانت ساكنة ثم تحركت. فذلك دليل على أن سكونها لم يكن لها إلا عن سبب، وهو لمتسكين الفاعل أبلها وإذا كان التسكين

فعل فاعل بها كالتحويل ببنيانها، لم يخل من تسكين مسكن وتحريك محرك، فلم يجز مع ذلك إلا أن تكون سابقة لها. فثبت أن فاعل السكون والحركة فيما هو فاعلها، وبالله التوفيق. فإن قال قائل: أن حركة الفلك حركة دور وحركة الدور لا بدء: ولا نهاية، فكيف؟ فالجواب: إن هذا جهل عظيم! لأن حركة المنحنون وحركة الرحى حركة دور، ولا يخلو الواحد منهما من أن تكون لحركته بدء ونهاية. لان من قبل أن يتحرك يكون ساكنا ثم يعود بعد حركته إلى السكون، فمن استحال أن تكون لحركة الأفلاك بدء ونهاية، وإن كانت حركة دور. ويقال له: حركة دور الدور ولا تخلو من الابتداء لأنها إذا لم تكن ثم كانت ثم انقطعت، فقد وجد الابتداء والانتهاء ضرورة. وأما الذي يصح أن يقال في هذا أن جزءا مما يتحرك حركة الدور لا يسبق الحركة إليه قبل جزء، فتكون الأجزاء لا أول لها من حلول الحركة إياها، ولسنا ندفع أن يكون ذلك حال الفلك. وأما الحركة نفسها ببدئها وانتهائها فيما بينا عيان، فكان حكم الغائب مثله والله أعلم. ويقال: أن المتحرك دائما دائم الغير، والموجود لذاته لا لسبب لا يجوز عليه التغير، فلو كان الفلك موجودا لذاته لا لسبب، لم يجز أن يكون دائم التحرك فيكون وقتا فوق الأرض ووقتا تحت الأرض، ولم يكن لونه فوق الأرض حين يكون فوقها أولى من كونها تحتها، ولا كونه تحتها حين يكون كذلك أولى من كونها فوقه، فثبت أنه موجود لسبب، فإن الذي له حده هو الذي يدبرهما يؤخذ عليه. وأيضا فإن الأفلاك طيات معدود، وإذا ثبت العدد، وفي ذلك ما يوجب حدتها. وأيضا فإن الأفلاك أجزاء من السماء متحركة، وفي ذلك بيان أن بعض السماء متحرك وبعضها ساكن وكل واحد منهما حد للآخر، فإن الجزء المتحرك منها ينتهي إلى الساكن والجزء الساكن منها ينتهي إلى المتحرك، فقد ثبتت النهاية للبعضين، وفي ثبوت المتناهي بطلان أن يكون بطلان موجود لذاتها لا لسبب وبالله التوفيق. وما قلته في السماء فهو في الأرض مثله وأبين؟ لأن أجزاء الأرض تقبل في العيان أنواعا من الاستحالة، وكذلك الماء والهواء لأن أجزاء كل واحد من هذه الأشياء يجتمع مرة

ويفترق أخرى وينقل من حال إلى حال وفي ذلك شيئان: أحدهما أن ذلك يبين أنها لست موجودة لأنفسها من غير سبب، لأن الموجود لنفسه لا يجوز عليه التغيير، فانا إذا توهمنا له صفة ما وجب أن يتوهمها ثانية له لنفسه كالوجود، فإذا ثبت له ذلك الصفة لم يجز أن يعدم إلى خلافها لأن ذات القديم لا يجوز أن تكون محلا للحوادث، وفي تعاقب الأحوال المختلفة على أجزاء ما ذكرنا دليل على أنها غير موجودة لأنفسها. والآخر: أنها إذا لم تكن قط منفكة من الحوادث، فقد وجب أن تكون بأنفسها حدثا كما ثبت. فإن قال قائل: فأنا لا نقول أن الطينة الأولى كانت خالية من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون. قيل له: ومن سلم لكن أن طينة كانت، تصفونها بما ذكرتم أو خلافه، وأنه ضرورة تدعو إلى انتهائها. ويقال لهم: إن كانت! فأي العرضين سبق إليهما الاجتماع أو الافتراق؟ لأنا نجد الاجسام قابلة للأمرين، فإن قالوا: الاجتماع هو الذي سبق! قيل: فهذا يدل على أنها كانت ابعاضا مجتمعة فكيف يقولون: أنها كانت خالية من الاجتماع! على أنها لو كانت في الأولى مفترقة لكان الافتراق واجبا لها لذاتها، ولما جاز على الافتراق أن يقدم ولو كانت في الأول مجتمعة، لكان الاجتماع واجبا لها لذاتها، ولما جاز عليها أن يقدم في وجود الاجتماع والافتراق متعلقين على الأجسام دل على أن كل واحد منهما ليس بأولى في وجود الجسم غير منفك منهما ما دل على أنه حدث مثلها والله أعلم. فإن قال قائل: إذا ثبت لكم أن ابعاض الأرض والماء والهواء تقبل الاستحالة ولم يثبت لكم أن كلها تقبل الاستحالة، ولأن السماء تقبل الاستحالة في جزء لا في كل، فمن أين ادعيتم أن كلها أو السماء حدث. فالجواب: أنه إذا لم يكن جزء من هذه الأشياء إلا وهو قابل للاستحالة، صح أن الكل لم يعدم استحالته، لأن الاستحالة غير جائزة عليه لكنه الذي يحيل ابعاضها منها ليس يحل كلها ولو شاء أن يحيله لم يمتنع عليه. وهذا أيضا حجة في الأفلاك وفي سائر أجزاء السماء، لأن السماء متماثلة الأجزاء، فلما جاز على بعضها أن لا يتحرك جاز على البعض الآخر أن يعدم حركته فيصير إلى مثل حال سائر الأجزاء، وجاز على غير المتحرك منها

أن يتحرك فيصير إلى مثل سائر الأجزاء، وفي هذا ما إبان أن المتحرك منها غير متحرك لعينه، ولا غير المتحرك منها غير متحرك لعينه، ولا لان بخلاف الصفة التي هي لواحد منها غير جائز عليه والله أعلم. وأيضا: فإن دلالة الحدث ليست في الاستحالة في السماء فقط إذا لم يكن لجملة النار أو جملة الهواء أو جملة التراب استحالة مشاهدة، أو لم يكن للسماء استحالة مشاهدة في جزء امتنع عليها القضاء الحدث. فإن استحالة الأجسام التي في الأرض بأصلها جملة غير مشاهدة، وإنما المشاهد استحالة أجزاء بها، لأن الواحد بعد الواحد يموتون، وتصيبهم الآفات، وكذلك الواحد بعد الواحد من الشجر والدواب والطير، وليس في أن الأجسام كلها تشاهد بطلانها وانتقاصها، دليل على أن البطلان والانتقاص غير جائزين على كلهما، بل هما جائزان على الكل لجوازهما على الأبعاض والحكم بالحديث عليها كذلك واجب. فكذلك استحالة كل الماء والنار والهواء والتراب وان لم يكن مشاهدة. فكذلك لا يدل على أن الاستحالة غير جائزة، لكنها جائزة عليه لجوازها على الابعاض والحكم بالحدث كذلك عليه واجب. واستحالة السماء في الأجزاء والكل وان لم تكن مشاهدة، فقد وجد من نظر الاستحالة ما يدل على الحدث ووجود بعض أمارات الحدث تكفي لإيجاب حكم الحدث. فإن القدم كما لا يقارن جميع دلائل الحدث، فكذلك لا يقارن أحدهما. وقد ذكرنا فيما تقدم أن مجرى السماء واشهاداتها يدلان على حدثها. فإن كانت استحالتها لم توجد ولم تشاهد في كل ولا جزء، فذلك لا يفسد هذا الأصل وبالله التوفيق. وأيضا فإن اشتمال الفلك على كواكب لها طباع في الحر والبرد والرطوبة واليبس يدل على أن الفلك يضر الأجسام الأرضية المشتملة على هذه المعاني وذلك يدل على أنه محدث مصنوع، لأن هذه المعاني متضادة متنافرة، فلم يكن لتجتمع وتتألف بأنفسها، فإن الناس لو اجتمعوا فاحتالوا ليجمعوا بين نار ماء في مكان واحد، ويدفعوا النار عن أماته الماء والماء عن إطفاء النار، لما قدروا عليه. فلما كانت هذه المعاني قد اجتمعت في الكواكب، علمنا أن ما سرى فوقها فثبتوها

على الاجتماع، ودبر الكواكب بالجمع بينهما فيها، ولولا أن ذلك كذلك لم يجتمع مع مضارها ومنافعها في جسم واحد. ويمكن أن يستدل بهذا المعنى على أن الأفلاك قابلة للاستحالة والتغير والفساد، لأنه إذا اجتمعت فيها كيفيات متفاوتة، فقد ضاهت الأجسام الأرضية، وهي بزعمهم أنها تقبل الفساد لاجتماع الكيفيات المتضادات فيها. فإذا كان هذا المعنى موجودا في الكواكب وجب القضاء عليها بأنها قابلة للفساد وثبت بذل حدثها لان القدر لا يفسد ولا يتغير وبالله التوفيق. وأيضا فإن من قولهم أن كل ما يكون في هذا العالم فمتأثر من الأفلاك والكواكب في هذا العالم التغير والفساد والاستحالة، فإن كان ذلك كله من آثار الأفلاك والكواكب ففيها إذا مكان الفساد والاستحالة والغير، وإن لم يكن ذلك منها فكيف يتأثر شيء منها في غيرها ما لبس فيها؟ فأخذ القولين خطأ، وبالله التوفيق. فصل فإن قال قائل: إن كان دليلكم على حدث الجوهر بغير الأوصاف عليها، فإن هذا المعنى منتقض عليكم بالباري جل ثناؤه فإنه قدير بلا خلاف، ولم يكن موصوفا بالفعل إلى أن فعل واستحق أسم الفاعل، وأفعاله أيضا لم تقع ضربة واحدة، ولكنه فعل وترك. وكذلك وفي المستقبل يفعل ولا يفعل، وقد قال: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} فهو يريد بعد أن لم يكن مريدا، ويقول: كن، بعد أن لم يكن قائلا، ثم يدع الإرادة ويدع القول. ويعلم المعدوم معدوما، فإذا أوجده علمه موجودا، وكل هذا أحوال شتى وأوصاف مختلفة، ولم يكن في جوارها على الباري عز وجل ما يفسد القول بقدمه. فما أنكرتم أن اختلاف الأحوال على الجواهر لا يقصد القول بقدمها!

وأن قلتم أن الفعل وغير الفعل موجبان بغير أحوال المفعول. فلا يوجب أن تغير أحوال الفاعل. قلنا: وكذلك تعاقب الأعراض على الجواهر، فوجب تغير الأعراض في أنفسها. فأما الجواهر فأنها بحالها لا تتبدل، ولأنها لا تستحيل ولا تتغير ولا تفسد، فما دلالتكم إذا على حدثها؟ فالجواب: أن حمل الجواهر للأعراض هو الدليل على حدثها، وذلك أن للعرض حدوثا وانقضاء ولا بدله من شيء يكون حدوثه وانقضاؤه فيه، ووجدنا الجوهر حاملا للأمرين فيه ودل ذلك على أن بقاء الجوهر عرض حادث، فلذلك أمكن أن يحدث العرض فيه. ولو كان الجوهر قديما لم يكن بقاؤه عرضا، فكان لا يلائم الوجود لعرض من شيء آخر ولا يحمله، ألا ترى أن الباري جل ثناؤه لا يجوز أن يكون حاملا للأعراض وما ذلك إلا كما وصفت، فلو كانت الجواهر قديمة لكان حكمها فيما ذكرت حكمه، ولما لم يكن كذلك بل كانت حاصلة للأعراض، علما أن المعاني التي تسمى أعراضا إنما جاز أن يعترض فيها المجانسة التي بين ثقلها حال حدوث الأعراض فيها وبين ذلك الأعراض. وهذا يدل على أن الجواهر ليست بقديمة، ومعنى وصفنا إياها بالتغيير أنها مجال للأعراض فهو يقبلها أو يحملها مع اختلافها فتصير لأجل ما حمله منها موصوفا مرة بصفة وموصفا بضدها أخرى. والعقلاء لا يفرقون الغير إلا هذا، وما يزيد وضوحا أن من الأعراض التي تحمل الجواهر ما يعدمها بفعل حال إلا وقد يحلها خلاف ذل فيعجزها عن ذلك الفعل حالا، وكالإنسان يصبح ليفعل أفعالا كثيرة، ثم يعرض فلا يتبع لملك الأفعال، ومعلوم أن الفعل إنما يقع من الجواهر وإذا اتسعت للفعل حالا ولم يتسع له أخرى، فقد وجب التغير. وأما الباري جل جلاله فإنه تعالى عن الأعراض أن تحله، والأحوال أن تكون له. وأما وجود الفعل منه بعد أن لم يكن، فلا يوجب لغيره لأنه لا يفعل في نفسه وإنما يفعل في غيره، فذلك الغير هوا لذي اختلف حاله، فكان مرة معدوما ومرة موجودا، وأما الارداة والقول فإن أصحاب الحديث يقولون: أن الله جل جلاله لم يزل مريدا أن

تكون كل كائنة في الوقت الذي كانت فيه، وهذا يبين أنه لا تغير له بوجه من الوجوه. وأما غير أهل الحديث، فإن الإرادة عندهم من صفات الفعل، لا من صفات الذات، فهل تحل المراد ولا تحل الود، كما أن الخلق حل المخلوق ولا تحل الخالق، فلا يؤدي واحد من القرائن إلى إجازة التغير على الباري جل ثناؤه وتقدست أسماؤه. وأما العلم فإنه إثبات الشيء على ما هو به، وإذا كان الشيء معدوما وما علمه معدوما وإذا كان موجودا، علمه موجودا، فيثبته في كل حال على ما هو به، وذلك لا يوجب غير علمه، إنما يوجب تغير المعلوم، لأنه علمه بالمعدوم لم يكن إلا أثباته إياه على ما هو به، فإذا صار موجودا فقد أثبته على ما هو به بان أن العلم اختلف وبالله التوفيق. فصل فإن قالوا: لا يجوز أن تكون طينة العالم إلا قديمة لان حدوث شيء لا من شيء، مستحيل في العقل! فيقال لهم: أن كان ذلك مستحيلا في عقولكم، فليس بمستحيل في عقول عالم من الناس مثلكم، أو أكثر منكم. فكيف صارت عقولكم عيارا على عقول غيركم دون أن تكون عقول غيركم عيارا على عقولكم! وقد أجيبوا أن الحادث القديم فسمان يخرجهما العقل عند تقسم الموجود وكتخريجه الوجود والمعدوم والجائز والممتنع والحسن والقبيح. فكما أن حقيقة كل من ذلك ثابتة لا تدفع، فكذلك الحادث والقديم لا تدفع حقيقته واحد منهما فلا يحال وجوده. فإذا كانت حقيقة القديم الموجود لا عن أول كانت حقيقة الحادث الموجود عن أول، فوجب أن لا تدفع حقيقة الحدث عن بعض الموجودات، ولا يقال لا حادث، كما لا يقال لا موجود أو لا معدوم، أو لا حسن، أو لا قبيح، أو لا جائز، أو لا ممتنع. فصح بما ذكرنا أن الحدوث ليس بمستحيل في الفعل إذا كان العقل قد خرج في مقابلة القدر، ولا جائز أن يثبته بم يمنع مفه ويدفعه. وقد أجيبوا بأن حدوث الشيء أن كان غير جائز، فلسنا نقول أن شيئا حدث بنفسه لا من شيء، بن نقول إنما حدث بمن يحدثه، لأنه أحدثه محدث وأوجده

موجد، وأكد هذا على من أقر بالله جل ثناؤه، وأنكر الاختراع بأن الله جل ثناؤه لو كان لا يقدر على أكثر من تركيب الجسم من جواهر موجودة لكان ذلك نقصا به وعجزا، لأن منزلته لا تعدوا في التركيب منزلة الناس. وكان فضل ما بين تركيبه وتركيب الناس، كفضل صناعة الصانع على صنعة النجار، وفضل صنعة الرفاء على صنعة الخياط، وفضل صنعة الخباز والطباخ على صنعة من يجمع شيئا إلى شيء بلا تأليف أو تركيب وذل غير جائز. فصح أن لا يحتاج في الخلق إلى مادة تكون حاضرة فيركب منها جسما، لأن الحاجة نقص، وشيء من النقائص غير جائز عليه وبالله التوفيق. ويقال لهم: ليس في إبداع شيء من لا شيء إلا ما في تركيب الجواهر من غير مماسه إياها، وذلك ليس يستحيل في العقل. فما أنكرتم أن الإبداع ليس بمستحيل فيه. ويقال لهم: إذا جاز أن تركيب الباري جل ثناؤه الجواهر بلا مماسة، لأنه قادر لا بسبب، فلذلك يفعلها ويجده عن عدم لأنه قادر لا لسببن ولا يلزم على هذا المحال الذي لا يجوز وصفه لمقدور، لأن ذلك إنما استحال لتناقضه، ولا تناقض في وجود الجواهر بعد عدمه. فصح أنه يجوز أن يكون مقدورا لا مماسة. ويقال لهم: الموجود الحي العالم القادر لا بسبب ينيل غير الموجود وجودا، فلا يستحيل، كما أنه ينيل غير العالم علما، وغي الحي حياة وغير القادر قدرة، بل ذلك أولى، لأن الإيجاد أخص بالموجود من العلم والأحياء والأقدار، وإذا جاز عليه إيجاد العلم أو القدرة أو الحياة لغيره، لأنه مع هذه الصفات موجود لا لسبب كان إيجاده الوجود لغيره مثل ذلك أو أجوز وبالله التوفيق. ويقال لهم: إن المادة التي تدعون قدمها، إذا حقق الخلاف فيها رجع إلى اللفظ دون المعنى، لأنكم تزعمون أنها قديمة بالقوة دون الفعل، والذي يعقل من الموجود بالقوة والموجود بالفعل، أن الموجود بقوة ما يمكن أن يخرج إلى حقيقة الوجود ولما خرج، والموجود بالفعل هو الذي خرج إلى حقيقة الوجود وارتفع عنه اسم المعدوم، وإذا كان كذلك، فليس يجب قولكم: إن المادة قديمة، إلا أنه يمكن وجوها. وقد قلتم: أنها ما لم تخرج إلى حقيقة الوجود، وهي التي تسمونه الوجود بالفعل لم تقبل الخلق والتركيب فثبت

أن الباري جل ثناوه أخرجها- عند تركيب ما ركب فيها- إلى حقيقة الوجود، وليس قبل ذلك الإخراج إلا العدم. فصح أنها كانت معدومة فأوجدها الباري وبالله التوفيق. ويؤكد هذا اتفاقهم على أنها- قبل تركيب ما ركب منها- لا جسم ولا جوهر ولا عرض، وهو بعد التركيب جواهر وأجسام فثب أن الباري هو الفاعل للجواهر جواهر كما أنه هو الفاعل للأجسام أجساما، وأنها من قبل أن تكون جواهر لم تكن إلا عدما، إذ لو كانت موجودة لا جوهرا ولا عرضا، لكان موجودا كذلك لنفسه، ولم يجز أن تتغير عن ذل إلى حال يحدث له في نفسه، إذ القديم لا يتغير وبالله التوفيق. فقال القائل: ليس الباري جل ثناؤه كان غير فاعل ففعل، ولم يستحل ذلك من حيث أنه قديم، فما أنكرتم أن المادة لم تكن جوهرا ولا عرضا تصير جوهرا وعرضا ولا يستحيل ذلك من حيث أنه قديم. فالجواب: أن الباري عز وجل كان غير فاعل ففعل، وأفعل في غيره لا في نفسه، فلم يوجب ذلك، وإنما أوجب بغير المفعول. والمادة التي تدعيها قديمة إذا لم تكن جوهرا فجعلها الله تعالى جوهرا. فقد عبر بفعله الذي فعله فيها، نفسها. والقديم لا يقبل فعلا لفاعل ولا يتغير، فإنه لو جاز عليه أن يتغير لجاز أن يقدم هذا ما شاء وبالله التوفيق .. فصل وكل ما ثبت من حدث السماء والأرض فهو دليل على أن لهما محدثا لا يجوز أن يكون حدثا اتفاقا. فإنه لو جاز أن تحدث السموات والأرضون اتفاقا، فلجاز أن يزداد كوكبه ويزداد جبل في الأرض اتفاقا. ولئن جاز أن يحدث اتفاقا فلجاز أن يعدم اتفاقا. وليجز أن يحدث الإنسان اتفاقا، وليجز أن يحدث عنهما أخرى اتفاقا دون هذه السماء. فإذا كانت إجادة كل شيء مما ذكرنا تجاهلا، كانت أجازة أن تكون السموات والأرضون على ما هما عليه من النظام والصنع الشديد المتفق حديث اتفاقا أولى بالتجاهل وبالله التوفيق. فإن قال قائل: أرأيتم لو قلب هذا عليكم، قال فقال: لو كان وجودها عن أحداث محدث وخلق خالق لجاز أن يوجد مثلهما أو شيء مما ذكرتم اليوم خلقاً له.

قيل له: ولا سؤالا بها إذا كانت خلقا لخالق بعلق وجودها بمشيئته، فإن شاء أحدث وخلق، وإن شاء لم يحدث ولم يخلق. فأما إذا كان الحدوث اتفاقا، فليس شيء بالحدوث اتفاقا أولى من شيء، ولا وقت وجود الاتفاق فيه أولى من وقت، وإن لم يكن الوجود اتفاقا أولى من لقدم اتفاقا، فهذا فرف ما بين القولين وبالله التوفيق. فصل فإن قال قائل: قد ثبت جاز أن يكون الباري جل ثناؤه اخترع الجواهر، فما الذي يدل على أن وجودها من قبل اختراعه لا من حيث أنه كان علة له، فوجب عن وجوده وجودها. قيل: -وبالله التوفيق- أنكرنا ذلك لأن قائل هذا القول لا يخلو من أن يقول: أن الجواهر وجدت لوجود الباري عن غير اختيار منه واردة لوجودها وكونها، أو يقول: وجب عن وجوده من غير اختيار كان منه، ولا إرادة! فإن قال: إنما وجدت لاختياره وإرادته! قيل له: وجدت عندك بعد أن لم تكن. أو يقول: كانت موجودة معه باختياره وإرادته! قيل له وجدت عندك بعد أن لم تكن. أو يقول: كانت موجودة معه باختياره وارداته، فإن قال: وجدت باختياره وإرادته بعد أن لم تكن، فهذا قولنا. وإنما الخلاف بيننا في تسمية الله عز وجل علة، فإنا لا تخبر ذلك لما فيه من اتهام الباطل، وأنه اسم لم يأت به كتاب ولا سنة، ولا وقع عليه من المسلمين إجماع، ولا هو في معنى ما ورد به النص أو وقع الإجماع عليه. وإن قال: كانت موجودة معه لا باختياره وإرادته! قيل له: فهي إذا قديمة عندك. فكل دليل أقمناه على حدثها فهو حجة عليه. ويقال له: ما أنكرت أنه يستحيل، فلا يمكن أن تكون لم تزل موجودة معه بشرط اختياره وإرادته لأن وجوده معه، يوجب قدمها، وتعلق ذلك الوجود بإرادته يحل قدمها، لا ما كان لوجوده سبب لم يكن قديما إذ القديم هو الذي لا سبب لوجوده. وما كان لوجوده سبب، اختص وجوده بذلك السبب، فكان موجودا من جهته ولأجله. ولو توهم منفكا من ذلك السبب لم يكن أن يتوهم موجودا، وهذا هو المحدث.

فأما القديم فهو الموجود بالإطلاق الذي لا يمكن أن يضاف وجوده إلى ما سواه. فصح أن وصف الجواهر بأنها لم تزل موجودة مع الباري جل جلاله، وإن وجودها معه كانت باختيار وإرادته، قول متناقض وحكم فاسد. فإن قال: إنما كان يلزمني هذا لو أجزت إمكان إن كان يكون الباري في الأزل غير مريد لوجود هذه الجواهر معه. قيل: هذا هو الحال الذي لا يجوز الذهاب إليه. لأن الجواهر أن كانت لم تزل موجودة مع الباري، لم يجز أن يكون الباري بأنه شاء لوجودها. كما لا يجوز أن يوصف بأنه شاء لوجود نفسه، ولأن ما تعلق وجوده بمشيئة شاء وجب أن يكون وجوده بعد المشيئة، ولأن مشيئة الموجود لما ليس في حال المشيئة لمعدوم، ولا يقوم في وهم. وإنما يتصور في مثل هذا أن يقال: أنه شاء لبقاء الموجود وذلك أيضا لا يصح، لأن الجواهر أن لم تزل موجودة معه، فوجدها معلوم بمشيئته. وإذا كانت موجودة لا بمشيه لم يحتج في بقائها إلى مشيئة، لأن القديم لا يجوز عليه العدم وبالله التوفيق. ويقال له: إذا نفي عن الباري صفة الإبداع، دليلك على وجوده؟ فأنا إذا نستدل على وجوده، فوجدنا آثار الحدث في عامة الموجودات، واقتضائها محدثا، فإن لم تكن الموجودات محدثات فيما إذا عرفت أن لها بارئا وأثبته. فإن قال: وجب عن وجوده وجودها من غير اختيار كان منه ولا إرادة، دخل عليه ما ذكرت في الوجه الأول، وهو أن يقال له: محدث بعد أن لم تكن أو لم تزل موجودة معه. فإن قال: لم تزل موجودة معه. قيل له: فما الفصل بينك وبين من قال: أنها علة لها؟ وقيل أيضا عن الدليل الذي دله مع هذا القول على التمادي ولن تجد إليه سبيلا. ويقال له: ما أنكر أن هذا حكم فاسد، لان وجود غيره من قبل اقتضائه إياه يحل قدم ذلك الغير، لأن القديم هو الموجود لنفسه لا لسبب فإن كان لوجوده سبب كان موجودا من قبل ذلك السبب، ولم يستحق الوصف بالموجود إلا من جهته خاصة، فثبت أن الجمع بين إثبات القديم لغيره ووصفه بان وجوده كان من قبل انقضائه إياه قول متناقض وحكم فاسد.

وإن قال: حدثت بعد أن لم يكن. قيل له: إن جاز أن يحدث بعد أن لم يكن لا باختياره، فأجوز من ذلك وأحق أن تكون حادثة باختياره. وأيضا فإن وجوده لو اقتضى وجودها لا باختياره لوجب أن تكون قديمة لأنه قديم. ولما جاز له أن يكون موجودا، وما يجب وجوده عن وجوده غير موجود لأن ذلك لو جاز وقتا لجاز أبدا ومنه بطلان أن يكون الباري علة كما قال هذا القائل وبالله التوفيق. فصل وإذا ظهر أن العالم صنع صانع حي عالم قادر حكيم، فالحكيم لا يخلق خلقا، ولا بعل فعلا لا لعرض صحيح منه، وهذا هو المعنى الذي نبه الله عز وجل عليه عبادة بقوله تعالى: {أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا}، وبقوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء}. أي لا لشيء أو من غير غرض كان في خلقهم. وإذا ثبت ذلك، وكان العالم مشتمل على حي عاقل مبين، وعلى أحياء لا تفعل ولا تبين وجماد، لم يجز أن يكون ما يقل مخلوقا لما لا يعقل، لأن العاقل أفضل وأشرف من غير العاقل، لا يجوز أن يكون العاقل الحكيم خلق الأشرف للإدراك والأفضل الأنقص، لأن ما كان مخلوقا لغيره كان المخلوق له هو الغالب عليه إذا كان سببا لوجود ما خلق له. ولا يجوز أن يكون الأنقص غالبا على الأفضل، ولأن ما لا يعقل إذا لم يعلم معاني نفسه استحال أن يعلم معاني غيره، وإذ لم يعقلها ذهب خلق غيره له هدرا، وكان فعل ذلك مناقضا للحكمة. فثبت أن مالا يعقل مخلوق لمن يعقل، وذلك أن ينتفع بكل شيء منه على الوجه الذي يصلح له، والاعتبار يجمعها كلها، لأنه ما من شيء إلا وفيه الدليل على الفاعل القديم المبدع الحي القادر العالم الحكيم، ثم يكون وراء ذلك في شيء منفعة الأكل وفي آخر منفعة الركوب، وفي آخر منفعة الحمل عليه إلى غير ذلك مما يكثر عده، ثم الذي يعقل مخلوق ليعلم ما يقع العلم به على حسب العلم الواقع له.

قال الله عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، والعلم بهذه المحسوسات إنما يقع له بالاستدلال والنظر، وأصلهما التفكر المشاء إليه بقوله عز وجل: {أو لم يتفكروا في أنفسهم، ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} وقوله: {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}. وقوله: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} فثبت بذلك أن حفظ الإيمان بإدامة التفكر والنظر في الآيات والفكر ليرسخ في القلب منه ما علق به، ويزداد على الأيام تأكدا بازدياد الشواهد التي تدرك بالفكر ووضحها على الأيام، من أحق الأمور بصرف الهم إليه، والعكوف في أكثر الأوقات إليه، وبالله التوفيق. فصل فأما ما وراء إثبات الصانع جل جلاله من التوحيد والتقديس، فإن دلائل التوحيد كثيرة، فمنها ما يستدل به على أنه لا قديم سواه، ومنها ما يستدل به على أن لا إله سواه. فأما أنه لا قديم سواه، فإن الكلام فيه مع الذين يثبتون نفسا قديمة ومادة قديمة. والذي حملهم على هذا استنكارهم حدوث شيء لا من شيء، فقد تقدم القول على هذا، وما يقربه وثبته ما فيه كفاية. وأما النفس، فقد اختلف متكلموا المسلمين فيها، فمنهم من أثبتها، ومنهم من لم يعترف بها، وإن ثبت وجودها فلا سبيل للملحدين إلى دعوة التقدم، أما إذا كانوا بأنفسهم يقولون أنها نزلت من عالم لها علوي، إلى هذا العالم السفلي، وتشبثت بالجواهر، وإنها منق بل كانت عاملة، فلما حلت ما ليس من جنسها بسبب وغفلت، فاحتيج إلى تذكريها، والمتعلم هو التذكير، وإنما تجاور أبدان الحيوانات قسرا لا اختيارا ثم تفارقها عند الموت وترجع إلى عالمها. ومن تأمل أن هذا كله تغير وتغلب، والقديم لا يتغير، فلا يكون له أحوال، فبطل بما

يصفونها به أن تكون قديمة. فأما إذا كلموا فيها على سبيل الإنكار، فقد قيل لهم: إن النفس ليست تكون حببا، فوقع العلم به ضرورة ولا ببديهة العقل، والنظر لا يوجبها، وضر الصادق الذي يلزم الحجة بمثله لم يأتنا به، فلم يستغني إثباته؟ فقالوا: بل النظر يدل عليها لأن الأصل الحي العاقل الناطق الحساس الدراك إذا لم يفقد من أعضائه وجوارحه شيئا. ومع ذلك فإن العقل والبيان والإدراكات كلها ترتفع عنه وتزيله. فدل ذلك على أنه كان لهذه المعاني قبل الموت حامل سوى البدن يحملها كلها من صفاته، وإنما إنما عدمت وارتفعت لزوال ذلك الحامل وانقطاع مجاورته للبدن. ولولا أن هذا هكذا لوجب أن يترفع ولا يعدم مع بقاء البدن برمته، فقيل في الانفصال عن هذا أن الله عز وجل ركب العقل في القلب وكل نوع من الحسن في جارحة تختص به، والبيان في اللسان. وجعل كل عضو مما ذكرت متيسرا لما هيأه له بالروح الذي جعله سببا للحياة، فإذا نزع الروح من البدن، زال تيسر القلب للعقل وتيسر الأعضاء الحساسة، وتيسر اللسان للنطق والبيان، وفي تنزيل الأمر على هذا بيان أن لا ضرورة إلى إثبات شيء يدعى نفسا سوى الروح والبدن وإحيائه بهذه الأمور إليه وبالله التوفيق. ولا أعلم في الاعتراف بها ضررا عائدا على الدين بوجه من الوجوه، وقد قال الله عز وجل في كتابه: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}.وقال: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها}. وقال: {والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم}. وقال: {كل نفس ذائقة الموت}. وقال: {إن النفس لأمارة بالسوء}. إلى غير ذلك من آيات كثيرة. ومع هذا فانا نقر مع السائل في الثواب والعقاب تلجأ إلى إثبات النفس على ما سيجيء بيانه. وكذلك ما وصف الله تعالى الشهداء من أنهم أحياء عنده، وذهب إليه ابن عباس من

أن الاستثناء في قوله عز وجل: {فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} راجع إليهم يدعوا إلى انتهائها، والله أعلم. وأما أنه {لا إله إلا الله} فدلالته إثبات الصانع الواحد لاقتضاء الصنع إياه فالصنع يقتضي الصانع، ولكنه لا يقتضي عددا، وفي وجود الصانع الواحد ما يقوم به الصنع، فلم يجز إثبات صانع آخر غير مشاهدة ولا دلالة عقل بوجه من الوجوه. وأيضا فإنه لو كان صانعات لم يخل من أن يقدر بكل واحد منهما على قهر الآخر ولا يقهر عليه، فإن كان يقدر عليه، فالمقدور عاجز، وإن كان لا يقدر فهما عاجزات، والعاجز لا إلها. وأيضا فلو كان إلهان لكان من حق كل واحد منهما أن يكون تام القدرة نافذة الأمر، وإذا وقع منهما القصد إلى الخلق، أن يخلق منهما التدبير، فيرجع أحدهما غير ما يريده الآخر، يفعله الآخر ليظهر بذلك الإلهية وقدرته، فإن ذلك أن لم يكن وقع الخلق والتدبير منهما متفق، لم يعرفا إذا كان الإله إنما يعرف بما كان من أفعاله فإذا لم يظهر فعلا، لم يمكن أن يكون فاعلهما واحدا، لم يعرف الفاعلان، فلو كانا، ووقع ذلك منهما لم يخف في هذا العالم آثارهم، ولزال النظام عنه، وغلب التفاوت عليه، وفي وجودنا إياه متسعا مطردا على ضرب واحد من ضروب التدبير لا تفاوت فيه ما دل على أن خالقه مدبره واحد. فإن قيل: ما أنكرت إنهما إلهان قادران حكيمات فلا يختلفان، لأن ما يريده أحدهما لا يخلو من أن يكون حكمه، فلو خالفه الآخر لم يكن حكيما، وفي كونهما حكيمين ما أحال أن يكونا متخالفين. قيل: إن كانا حكيمين ما تختلف أفعالهما إذا فعلا ليظهر كل واحد منهما بأفعاله التي لا يمكن أن تكون واقعا من الذي وقعت منه أضدادها فإن الحكمة لا تطلق التلبيس، ومن التلبيس أن لا يفعل كل واحد منهما إلا ما يريده الآخر، لأنه لا يظهر بالفعل الواحد أن له فاعلين إذا كان الفعل لا يقتضي لوجوده وتيسره إلا فاعلا، والعدد ليس من شرطه

بالاتفاق على الفعل أداء تلبيس واتهام من كل واحد منهما، أن الإله واحد، وهذا خلاف الحكمة. فثبت بما ذكرنا إن عدم التفاوت في الخلق والتدبير ليس إلا من وجه: أن الإله واحد، وبالله التوفيق. وأيضا: فأنه أن كان فاعلان يتفقان على الأفعال بحكمتهما، ولا يختلفا، فلا يخلو كل واحد منهما من أن يكون قادرا على التفرد بما يفعله الآخر، أو غير قادر. فإن كان غير قادر، فهما جميعا ناقصان، إذا كان كل واحد منهما محتاجا إلى معاونة الآخر. فإن كان فسادا فيهما إذا اجتمعا على الفعل ففعلا، وجد الفعل منهما على وجه التغالب والمنع من كل واحد منهما للآخر، على أن يخلص الفعل له وحده فينسب إليه دونه، والمتغالبان المتقاومان هما جميع عاجزات، وأن العاجز لا يكون إلها، فثبت أن عدم التفاوت في الخلق إنما كان لأن الخالق واحد وبالله التوفيق. فصل وأما التقديس فدلالته: أن القديم لو أشبه المحدث في صفاته لبطل أن يكون قديما، لأن شبه المحدث لا يكون إلا محدثا، كما أن شبه لطويل لا يكون إلا طويلا، وشبه الأسود لا يكون إلا اسود. فلما وجب أن يكون الصناع قديما، بطل أن يكون لخلقه شبيها. وأيضا فإنه ليس في الأفعال فعل يشبه فاعله، ولا فاعل يشبه فعله، فعلمنا أن الباري عز وجل لا يشبه خلقه، وأن شيئا من خلقه لا يشبهه، وبالله التوفيق. فصل ونقول: أنا كما وجدنا في السماء والأرض آثار الحدث، نعلمنا بذلك أنهما محدثان، فلذلك وجدنا فيهما آثار التدبير المتقن السديد، فعلمنا أن محدثهما الذي كان أول تدبيره الإنشاء والاختراع حي عالم حكيم، وأنه هو الذي يدبرهما بعد الإنشاء بما هما عليه، ويبلغهما مشيئته التي كانت له في إنشائهما وخلقهما. فإن قيل: وما آثار التدبير؟ قيل: أما السماء فحملت الأفلاك بما رتب في كل فلك

منها من النجوم والبروج، فلك فيه الكواكب الثابتة فلك، وكل كوكب من الكواكب السيارة فلك. وللفلك من الفلك بعد معلوم، ولكل فلك استدارة معلومة ودرجات معلومة، ولكل كوكب سير وجد فيه معروفه، وللشمس والقمر من بينهما من الاختصاص بالضياء والنور ما ليس لغيرهما، فإذا كان الشمس فوق الأرض فذلك النهار، وإذا كانت تحت الأرض فذلك الليل. ولفصول السنة من التعلق الظاهر: تسير الشمس ما لا تخفى، فإنها إذا تحركت من أول الحمل إلى أن بلغ آخر الجوزاء فالزمان ربيع، وإذا تحركت من أول السرطان إلى أن تبلغ آخر السنبلة فالزمان صيف، وإذا تحركت من أول الميزان إلى آخر القوس فالزمان خريف، وإذا تحركت من أول الجدي إلى آخر الحوت فالزمان شتاء. ويظهر في الربيع اليسر والنمو وتزهر الأشجار وتظهر الثمار ثم نضجها وإدراكها ما بين أول الربيع إلى أوائل الخريف ثم تعبر الحر ويظهر البرد، فلا يزال يقوى ويشتد حتى لا يبقى على الأشجار ورقة، وتتابع الأنداء، وتجمد المياه، وكل ذلك أمور تكرر سنين لا تحصيها العبد، وجرى فيها على وتيرة واحدة لم ينقص فيما بينهما في شيء منها عادة قط. ودون السماء السحاب المثقل بالماء تسوقه الرياح، ثم ينزل منه ما ينزل أكاما، جعله الله حياة للناس وعامة للحيوانات وبعدها للأرضين الموات وأما ثلجا وأما بردا، وفي كل منهما منفعة وفائدة لا تنقضه ويعتده ويمنع من أن يسوغ إليه الانحلال، فيستقبل به أيام القيظ على تبريد الماء الذي لا يمكن شربه على ما هو عليه من السخونة المفرطة. فيجتمع إلى مسكن العطش به إطفاء بوائر الأمراض، والتحرز به من كثير من الحوادث والأعراض. ودونها أيضا للرياح اللواقح والسوابق للفلك من البحار والأرض التي هي قرار ومهاد،

وللأحياء والأموات كفات وفيها أعواد وهي للماء الذي فيه الحياة معادن ومنار. وفيها جبال هي للأرض أوتاد تحوطها من أن تميلها الرياح العواصف، والرجفات والزلازل، وفيها معادن الذهب والفضة، والحديد والنحاس والرصاص، ومعادن الأحجار النفسية، ومعادن الأحجار النفيسة، ومعادن العفر والنوره والزرنيخ وعيون الملح والنفط والكبريت وفي البحر من الحيتان لحوم طرية، ومن الزين اللؤلؤ والزبرجل والمرجان، نظير ما على الجبال من اليواقيت، وفي المعادن من الفيروزنج والجزع والعقيق، وفي كل شيء من ذلك منفعة وللناس عرق وحاجة. وفي سهولها المساكن من الأمصار والقرى والحصون وغيرها، ومنها المزارع والمغارس والحدائق البهجة والزروع أصناف والغراس أصناف، وفي كل صنف منها منفعة، وللناس فيها ارب وبغيه. وعلى ظهرها من الحيوان: الناس المخصوصون بالعقل والبيان وانتصاب القامة، ثم الدواب المقسمة إلى سباع وغير سباع، والطائر المنقسمة كذلك والهوام، وللناس عليها كلها السلطان. وإذا تأمل من المتأمل نفسه علم ماله من الفضل على جميع الحيوانات الأرضية، وما في بينته وجملته من إمارات التدبير الحكيم والصنع المتقن السديد. فإن الدواب كلها وإن شاركت الإنسان في أن لها أعضاء وجوارح، كما أن له أعضاء وجوارح، وإن لم يكن منها كهن منه، وكان لكل منهما ومنه رأس فيه العينات فللبصر، والإذنان للسمع، والأنف للشم، ودونه اليدان للبطش وللأخذ والدفع، ودونهما الرجلان للمشي، وذلك للناس خاصة، وللمشي على أجمعها للدواب، والفم للأكل والشرب والأسنان للطحن، والفروج من الذكور والإناث لطلب النسل، وللإناث الأرحام خاصة، والائداء لأنهن الحوامل والمراضع، وليست من الذكور إلا اللقاح. فقد اختص الناس بالعقل والبيان فساسوا من سواهم، وتوصلوا بعلم ما في الأرض وتمييزه ومعرفته إلى استنزاح منافعها، بضروب المكاسب والاستئثار بفوائدها، فكانت لهم الملابس والري والمراكب والفرش والأثاث والخزائن والذخائر وبيوت الأموال، وأكلوا من أصناف الطعام ما يشتهون، وركبوا من الدواب ما يريدون، وأصابوا من

النساء ما يجبون، وافترشوا من أصناف الفراش ما يختارون، ولبسوا من ضروب اللباس ما يستحسنون. وكانت أحوال الحيوانات سواهم مقصورة من الضرورة دون الاختيار لفقدهم من العقل والبيان، فأوجد منها الناس إلى غير ذلك من أحوال الموجودات التي تذكر على العد، وكلها مجتمعة المعنى في الدلالة على أنها وضع وتدبير، ونظم وترتيب، وإن الواضع لها والمدبر والناظم المرتب عالم حكيم قادر قوي، فإن لم يعلم الحاجة، لم يعلم ما تزاح به العلة، لم يقدر على وضعه وإيجاده. وإذا علم لم يوجد منه وضعه حتى يكون قادرا عليه، فدل عليه على وجود الحاجة ووجود ما تقضي به الحاجة على أن الموجد عليهم حكيم قادر قوي. ألا ترى أن صانع المشربه لا يصوغها إلا عن علم بما يصلح له وقدره، وكان على الصناعة وكذلك صانع المسرجة والمنارة والمجمرة وكذلك صاحب المنزل لا يسر منزلة من الآلات إلا عن علم بما يصلح كل شيء منها له قدرة على جميعها، وإعدادها لوقت الحاجة إليها. فكيف يتوهم أن تكون السموات والأرضون وما بينهما وفيهما وجدت على ما هي عليه، إلا صنعا لصانع عليك حكيم قادر قوي كلا ما يمكن ذلك ولا يجوز، وما هي إلا من صنع اللطيف الخبير تبارك الله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين. فصل فأما الكواكب فلا يمكن أن تكون مدبرة لهذا العالم لأنها مدبرة، وفي هذا بيان أنها غير موكولة إلى نفسها، فكيف يكون غيرها موكلا إليها؟ ألا ترى أنها تكون مستقيمة السير حالا، ولا سبيل لا في تلك الحلل إلى أن تكون راجعة، وتكون راجعه حالا، ولا سبيل لها في تلك الحال إلى أن تكون مستقيمة وزائدة السير مرة وناقصة أخرى، وسالمة تارة ومحرقة أخرى، ولا سبيل لها إذا كانت على حال وقتا إلى أن تكون فيه على خلافها، وكل ذلك يدل على أنها غير موصوفة بتدبير أنفسها، فدل ذلك على أنها من الوصف بتدبير غيرها أبعد. وأيضا فإن التدبير إنما يكمل له الحي القادر، والكواكب بمعزلة عن هذه الأوصاف،

فلا يمكن أن تكون مدبرة، والدليل على خلوها عن الحياة، لزوم التسخير إياها حسب لزوم إحراق النار، والترطيب بالماء. والله جل جلاله إذا أشعر الحياة خلقا أشعره أثرها وهو الإرادة والاختيار، فلما لم يكن للكواكب في سيرها واستقامتها ورجوعها واحتراقها وغير ذلك من أحوالها اختيار علمنا أنها ليست مجية، والفلك نفسه ليست توجل الحركة الدائمة منه اختيارا، ولا سبيل له إلى السكون، فعلمها أنها مسخرة حية مريدة مختارة، فأنا موصوفة بالملائكة لا يختلف حالهم في طاعة الباري جل جلاله، فلا يدل ذلك على أنهم ليسوا بإحياء، ولكنهم أموات مسخرون. قلنا: وجود الخلاف فيهم ممكن عندنا، وقد كان ذلك فيما اقتضه الله جل ثناؤه علينا في شأن آدم إلا أنهم قاموا بعد، ورجعوا إلى ما كان أولى بهم. فثبت أنهم مختارون للطاعة على المعصية بفضل ما عندهم من المعرفة، وفي أنفسهم من المخافة، وتلك الطاعة لهم عبادة. ومن يخالفنا لا يقول: إن حركات الأفلاك والكواكب عبادة منها وطاعة، ولا يمكنه أن يدعي ذلك أبدا، فأني يجوز له أن يناقضنا بالملائكة، وأيضا فإن سيرها في أفلاكها إنما هو كما ركب الله في ذلك السير من منافع غيرها به فهو يجري الماء في الأنهار، وليس ذلك إلا من قبل الاختيار، ولا هو عبادة للماء ولا طاعة منه، فكذلك تسير الكواكب في أفلاكها. فإن قال: كيف يجوز أن تكون تلك الأجسام العلوية على شرفها وفضلها مبرا بما أوتيته الأجسام السفلية من صفات الحياة والسمع والبصر، بل إذا كانت هذه في انحطاط أقدارها على أقدار العلوية مكرمة بهذه الصفات، فالعلوية أولى وأحق بأن تكون مكرمة بها. قيل له: أن الأرض هي التي تكون في مقابلة السماء، وليست حية عاقلة سميعة بصيرة، فيكون لك أن تقول: أنها إذا كانت بهذه الصفات، فالسماء أولى أن تكون كذلك، إذ هي أشرف وأفضل، ولا كل ما في الأرض من الزين جائز لهذه الصفات، ونقول: إن ما في السماء من الكواكب التي هي زينة لها بوجوب هذه الصفات لها أحق وأخلق، وإنما الحياة والعقل والسمع والبصر في الأرض للناس، خاصة الذين هم سكان الأرض المكلفون المتعبدون فيها، فبإزائهم الملائكة في السموات.

ولسنا ننكر أن يكونوا أحياء فاعلين يسمعون ويصبرون، وإن يكونوا فيما لهم من هذه الصفات فوق لناس، فمن أين يلزمنا وراء ذلك أن نقول: أن الأفلاك والكواكب أحياء يعلقون ويسمعون ويبصرون، كلا ما يلزمنا ذلك بوجه من الوجوه وبالله التوفيق. فإن سئل سائل عن الكواكب: هل يجوز إضافة شيء من الكوائن التي تكون في هذا العالم ألها؟ فيل له: أما القول بأنها أحياء عاقلة، سميعة بصيرة، دبر ما تحتها فباطل، ولو ثبت أنها أحياء لكانت إضافة الفعل إليها من حيث هي في هذا العالم من غير سبب يتصل بينها وبينه باطلا، لأن الجسم إنما يفعل في نفسه، ثم قد يتأثر غيره عنه لافصاله به، ولا يمكن أن فعل الجسم في غيره، وهذا كمن يدفع رجلا فيندفع، فتكون حقيقة ذلك أنه جمع قوته في آلة دفعه، ثم قرنها من أراد دفعه والصقها به واعتمد عليها بجهده، فكان فاعلا ذلك كله في نفسه، ثم أن الذي ألصق نفسه به واعتمد بقوته عليها بجهده فكان فاعلا ذلك كله في نفسه، ثم إن الذي الصف نفسه به واعتمد بقوته عليه، لما لم يكن فيه متحمل له اندفع به، فكان الاندفاع أثرا حادثا في المدفوع عن الدافع لاتصال به. ولو أراد رجل من أقوى الرجال وأشدهم أن يدفع آخر عن مكانه وهو ناء عنه من غير سبب فيصل منه، ما استوي ذلك ولا قدر عليه. وليس الفعل في الغير إلا ممن يستحيل الفاعل منه في نفسه، وذلك هو أن الله جل ثناؤه الذي ليس بجسم، ولا يجوز عليه أن تحله الأعراض والحوادث، فمن أدى ذلك لكواكب فهو مبطل في دعواه. وأما القول بأن منها مطبوعا بالحرارة والبرودة والرطوبة أو اليبوسة، وأنه قد يكون لبعضها بعض اتصال ممتزج منه طبائعها، ثم ينادي تلك الطبائع بالمجاورة إلى الجو بمجاورته الأرض إلى الأرض، فيكون سببا لآثار تحدث في الأجسام الأرضية عنها. ف ذا قد يكون إلا بان تلك الآثار حينئذ تكون أفعالا لله جل ثناؤه، لا للكواكب، وليس ذلك بأكثر من حياة الأرض الميتة بالماء الذي يساق إليه، ثم لا يجوز أن يظن به فعلا، فضلا عن أن يقال: أن تنقل الكواكب وتبدل أحوالها مواقيت لا قضية الله تعالى وأقداره. فكما أنه جعل دلوك الشمس ميقاتا للصلاة، ولا يضاف وجوب الصلاة إلى الشمس،

وجهل أهلال رمضان ميقاتا لشهر الصيام ولا يضاف ذلك إلى القمر، فكذلك جعل انتقال الشمس إلى البروج الصيفية ميقاتا لبحر الهواء وانتقالها إلى البروج الشتوية ميقاتا لبرد الهواء وانبساط نور القمر على الرطاب ميقاتا وحالا لنشوئها ونموها، وانبساط حر الشمس على الثمار ميقاتا وحالا لطيها ونضجها، ولا يضاف شيء من ذلك إلى الشمس ولا إلى القمر، ولا يدعى فعلا لهما ولا لواحد منهما. ولذلك قال الله عز وجل: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذب خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} وبالله التوفيق. فإن قيل: فما تقولون في إضافة النحوس والسعادة إلى الكواكب؟ قيل: قد قال الله عز وجل في قصة عاد: {إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر}. وقال: {في أيام نحسات}. جاء في بعض الأخبار التي تؤثر عن جبريل صلوات الله عليه: يوم الأربعاء يوم نحس مستمر، وعن الأربعاء التي لا تدور فعلنا بيان الشريعة أن من الأيام نحسا، والذي يقابل النحس هو السعد فإذا ثبت أن بعض الأيام نحس، ثبت أن بعضها سعد، والأيام في هذا كالأشخاص، منها مسعودة ومنها منحوسة، ومن الناس شقي وسعيد. فإن لصاق أحد الكواكب إلى أنها تسعد باختيارها أوقاتا أو أشخاصا أو تنحسها، فقد قال باطل. وإن قال: إن الكواكب طبائع وأمزجة مختلفة وتلك أيضا يتغير منها اتصال بعضها ببعض وانفصال بعضها عن بعض فطرة فطرها الله تعالى عليها، فإن ما فيها من هذه المعاني ينادي بتوسط الشمس والقمر إلى الأرض وما فيها، فأي شيء منها كان هو المبادئ إلى أن الأجسام الأرضية كانت الآثار التي تحدث عن ذلك فيها بحسبها. فقد يكون منها ما وصلت إلى الأبدان كانت سببا للأسقام، وقد يكون منها ما يكون فيضرب سببا للصحة والسلامة، وقد يكون منها ما إذا وصل إلى الأرواح والنفوس كانت سببا لحسن الخلق وبدل المعروف والأنصاف والرغبة في الخير، ويكون ما إذا وصلت إلى ما ذكرنا كانت سببا للهيج والظلام والأقدام على الشر. فهذا قد يكون إلا أن يكون كل ذل إذا أفعال الله جل ثناؤه وأقداره لا صنع للكوكب فيها.

وما أكثر مما يزيد من هذه الآثار التي ذكرناها إذا كانت نسبة بالدعاء والصدقة، وما أكثر مما يريد منها إذا كانت حسنة بالذنب والخطيئة، فهذا هو الذي ينبغي أن يعتقد في هذا الباب والله أعلم. فصل وأما الملائكة فإنها وإن كانت حية عاعلة سميعة بصيرة، فليس تدبير العلم، ولا أمر الله جل ثناؤه، كما لا خلق إلا الله. قال الله جل ثناؤه: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}. وبيان ذلك أن الملائكة محدثون مدبرون، فكما امتنع لأجل الحدث من غيرهم امتنع منهم، ومعلوم أن الناس لا يتكلمون لتدبير أنفسهم، إذ لو امتنعوا له لكان ينبغي أن يستغني بتدبيرهم أنفسهم عن تدبير غيرهم إياهم، وإنما توافي العجز عما وصفنا من قبل الحدث والملائكة مشاركة لهم فيه فكانوا إلى العجز عنها مثلهم. فإن قيل: أليست الملائكة لقبض الأرواح ولسوق السحاب، ولقلب المدائن ولنسخ الأعمال، وإن كان الناس لا يقدرون على شيء من ذلك، فما أنكرتم أنها تقدر على عامة ما ذكرتم، وإن كان الناس لا يقدرون عليها؟ قيل: الناس لم يعجزوا عن الأعمال التي ذكرتموها لحدثهم، ولكن لكنافتهم أو قصور قولهم، فلما بايتتهم الملائكة في الكيافة فكانوا في اللطافة وفي الضعف كانوا في غاية القوة، نزلوا من الناس منزلة بعضهم من بعض والتفاوت في الأعمال موجود فيهم، فكان وجوده بين الملائكة وبينهم كذلك. وليس الكلام على هذا، وإنما الكلام على ما يعجز الناس عنه بكونهم محدثين مصنوعين، وإن مما عجزوا، لذلك لم يجز أن تقدر الملائكة عليه لأن المشركين في المعنى لا يجوز أن يتباينا في الحكم فلا يتشاركا فيه وبالله التوفيق. وأيضا فإن الملائكة من سكان العلو أجسام كالكواكب، وقد بينا أنه لا يمكن أن يكون من الكواكب فصل في هذا العالم، أو كانت أحياء عاقلة من سبب متصل بينهما

وبينه. فإن الجسم لا يفعل في غيره وإنما يفعل في نفسه، وكانت الملائكة هذا مثلهم وبالله التوفيق. فإن قيل: فإن في القرآن إضافة التدبير في الملائكة، قال الله عز وجل: {فالمدبرات أمرا} وفي سورة أخرى: {فالمقسمات أمرا} وإنما أراد بالاثنين الملائكة! قيل: معنى المدبرات المنفذات لما دبر الله تعالى على أيديها، وكما يقال للفاصل بين الخصمين حاكم، والحكم ليس إلا لله عز وجل وهو الحاكم، غير أنه سمى من ينفذ الحكم بين عباده حاكما، لأنهم منه يسمعون الحكم، كذلك تدبير الله عز وجل إنما يظهر من قبل الملائكة. فقيل لها: المدبرات والمقسمات كذلك، والله أعلم بالصواب.

الثاني من شعب الإيمان - وهو باب في الإيمان بالنبي ومن تقدمه من النبيين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين بدلائله وحججه

الثاني من شعب الإيمان - وهو باب في الإيمان بالنبي ومن تقدمه من النبيين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين بدلائله وحججه- ويتلو الإيمان بالله جل ثناؤه اعتقادا وإقرار الإيمان برسل الله صلوات الله عليهم عامة اعتقادا وإقرارا، إلا أن الإيمان بمن عدا نبينا صلوات الله عليه هو الإيمان، فإنهم كانوا مرسلين إلى الذين ذكروا لهم، أنهم رسل الله إليهم، وكانوا في ذلك صادقين محقين، والإيمان بالمصطفى نبينا صلوات الله عليه هو التصديق بأنه نبي الله ورسوله إلى الذين بعث فيهم والي من بعدهم من الأنس والجن إلى قيام الساعة. قال الله جل ثناؤه: {آمنوا بالله ورسوله} فقرن اليمان برسوله بالإيمان به. وقال: {والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله}. وقال: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ويقولن نؤمن ببعض ونفكر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا، واعتدنا للكافرين عذابا مهينا}. وفي هذه الآية أن الله عز وجل جعل الكف ببعض رسله كفرا بجميعهم، ثم جعل الكفر كفرا به. وقال بعد ذلك: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما}. فثبت أن حسب المآب إنما يكون لمن لم يفرق بين رسل الله تعلى وآمن بجماعتهم.

والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يتضمن الإيمان له، وهو يقول فأجابه من عند الله جل ثناؤه والعزم على العمل به، لأن تصديقه في أنه رسول الله إلزاما لطاعته، كما كان الأمر بالله إلزاما لطاعته إذا أقر أو نهى، وذلك راجع إلى الإيمان بالله تعالى، والإيمان فأما رجوعه إلى الإيمان بالله تعالى فلأنه يستحيل وجود التصديق بأن أحدا رسول الله مع عدم الاعتراف بالله، إذا الرسل تقتضي مرسلا كما تقتضي مرسلا إليه وكان يقضي رسالة، فمن صدق أحدا في أنه رسول الله فقد أثبت الله وصدق به. وأما رجوعه إلى معنى الإيمان فيه فلان القبول عن رسول الله قبول عن الله، والطاعة طاعة الله عز وجل، وإذا كان الله هو المعبود دون رسوله، وهو المرغوب إليه، والمرهوب منه دونه من سواه، فمن ثبت له أنه رسوله وجبت الطاعة لأوامره لأنها أوامر المرسل الذي جب طاعته شكرا للنعمة التي أولاها الإبداع والإخراج من العدم إلى الوجود ثم الحياة ثم العقل ثم البيان، وإجلالا له عن أن يعصى، وهو المالك الذي لا يد فوق يده ولا مانع يرده بوعيده والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان في الجملة تصديقه في الرسالة على الوجه الذي يذكره ويصفه، وأنه يتفرع ويتشعب فروعا وشعبا: أولها: تصديقا في أن الله عز وجل ثناؤه أرسله فميزه برتبة الرسالة من سائر الناس. والثاني: تصديقه في أنه عز اسمه، أرسله بما يقول: وأن الذي يؤديه هو رسالة الله التي أرسله بها. والثالث: تصديقه في أنه أرسله إلى من يذكر أنه أرسله إليهم من خصوص أو عموم. والرابع: تصديقه في انه خاتم النبيين لا رسول ولا نبي بعده، والشريعة المشروعة له آخر الشريعة وعليها تقوم الساعة. والخامس: تصديقه في صفة إرساله إذ أثبتها لقومه. فإن قال: أوحي إلي على لسان ملك، صدق في أن الذي يأتيه ملك، والذي ينزل عليه وحي من الله جل ثناؤه ليقع بذلك تنزهه من الكهانة. وإن قال: ألهمني ربي، صدق في أن ما يجده في قلبه قذف من الله تعالى ليقع بذلك تنزيهه عن الوسوسة. وأن قال: هتف بي، صدق في أنه قد نودي في الحقيقة فاسمع ما.

يقول ليقع بذلك تنزيهه عن التخيلات الباطلة والأوهام الفاسدة. وإن قال: رأيت في المنام، صدقي في أن الله جل ثناؤه أراه في المنام ما يقول، ليقع بذلك تنزيهه عن درجة الذين يحملون في منامهم بما لا أصل له والله أعلم. فصل ومما يجب معرفته في هذا الباب معنى النبوة وتفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة". والفرق بين النبي والرسول فنقول- وبالله التوفيق-: أن النبوة أسم مشتق من النبأ وهو الخبر، إلا أن المراد به في هذا الموضع خبر خاص وهو الذي يلزم الله عز وجل به أحدا من عباده فيميزه بإلقائه إليه عن غيره، ويوقفه به على شريعته بما فيها من أمر ونهي ووعظ وإرشاد ووعد ووعيد، فتكون النبوة على هذا الخبر والمعرفة بالخبرات الموصوفة التي ذكرتها، والنبي هو المخبر بها. فإن أنضاف إلى هذا التوفيق أمر تبليغه إلى الناس ودعائهم إليه، كان نبيا رسولا. وأن ألقي إليه ما ذكرنا ليعمل به في خاصته، ولم يؤمن بتبليغه والدعاء إليه كان نبيا ولم يكن رسولا، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا. ثم أن الأنبياء صلوات الله عليهم يخصون وراء ما وصفت بآيات يؤكدون فيها ليتميزوا بها عمن ليس مثلهم كما تميزوا بالعلم الذي أوتوه. فيكون الخصوص وأفعالهم من الوجهين ألا أن ما في حيز التعليم فهو النبوة، وما وقع في حيز التأييد فهو حجة النبوة. والخصوص من قبل التعليم قد يكون في الجهة التي منها يلقون العلم، وبه تكون في العلم التي تلقى فيهم، والواقع من ذلك في جهة العلم وجوه منها وهو أعلاها: درجة تكليم الله عز وجل من كلم منهم، قال الله عز وجل: {وكلم الله موسى تكليما} وقال: {هل أتاك حديث موسى إذا ناداه ربه بالواد المقدس طوى، إذهب إلى فرعون إنه طغى} وقال:

{فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين}. ومنها أن يلهم الله تعالى واحدا منهم بالكلام يسمعه على كل شيء فيجده في نفسه من غير موصل يقدمه إلا منه إليه بحس واستدلال. ومنها أن يوحى إليه على لسان ملك فيراه فيكلمه كما يكلم واحدا من البشر صاحبه فيقع له العلم بما يسمعه منه. ومنها أن يأمر الملك فينفث في روعه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أن روح القدس نفث في روحي: فإن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". وهذا هو الوحي الذي يخص القلب دون السمع وفي كتاب الله عز وجل: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين}. وقالا لله عز وجل: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا}. وذلك- والله أعلم- أن ينفث الملك في روح المؤمن من الأطماع في الظفر بالعدو، والرغبة في الثواب والأجر والاتكال من القرار، فيحمله ما يجده في قلبه من هذه المعاني في الثبات ويزول عنه ما يسوس به الشيطان من التخويف والإحباط من الظفر، والحمل على اغتنام السلامة بالرجوع إلى الأهل، إذ كان الملك ينفث في روع كل مؤمن. فما الفرق بين النبي وبين من دونه؟ قيل له: لا ينفث في روح من دون النبي صلى الله عليه وسلم علم الأحكام ولا علم الكوائن والحوادث المستقبلة، والوعد والوعيد، وإنما ينفث في روعه ما تقدم ذكره وما يشبهه فيكون ذلك مددا للتوفيق يدرأ به عنه وساوس الشيطان عن صدره والله أعلم. ومنها إكمال عقل النبي وتقويته صيانته عن الخبل والجنون فلا يعرضان له، وبالحر في أن يكون ذلك لا آلة التمييز والعيان على الدلائل كلها هو العقل، فيحق أن يكون من اصطفاه الله تعالى بتكليمه وإرسال ملك إليه بأمره ونهيه ووعده ووعيده أقوى

الناس تمييزا وأصحهم إدراكا في كل ما يلقى إليه، وأثبتهم فصلا فيما هو عنده الخطاب والتكليف، ولولاه لم يكن بين الناس وبين البهائم فرق، ول لهم عليها فضل، فإنه إنما يبلغ عن الله يلقى عنه ويتلقى عنه بحسب ما يؤول فيه من قوة الإدراك والقبول. فإذا لم تكن تلك القوة في نهاية الشدة، ثم أنضاف إلى ذلك خروج للأمر فيما يلقى الله من العرف والعادة، واقتربت به الهيبة والخشية حتى يقيد لهما أحواله في تلك الوقت عيانا، عما كانت تكون عليه في سائر الأوقات عسر عليه ضبط ما يلقى إليه وتثبته على وجهه وحقيقته، فيثبت بما وصفنا أن عقول الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين أكمل العقول وآراءهم أشد الآراء، ولذلك يكملون لقبول الوحي أولا، وتبليغه ثانيا والله أعلم. ومنها تقوية حفظه وذكره حتى يسمع السور التي لم يسمعها، ولا كلاما مثلها منظوما ينظم خارج عن نظوم كلام الناس، من الملك مرة واحدة فيعيها طويلة كانت أو قصيرة ويحويها قلبه ولا ينس منها حرفا حتى يبلغها الناس كما أخذها من الملك. ومنها أن يعصم من الزلل في رأيه، فإذا اجتهد في الحوادث رأيه لم يخطئ، ولم يحلم إلا بالصواب والحق. ومنها إذكاء فهمه حتى يتسع لضروب من الاستنباط بما أوحي إليه لا يبلغها فهم من دونه، وحقيق أن يكون كذلك. وأن العلماء من أمته متفاضلون، فمنهم من يدرك بفهمه ما لا يدركه فهم غيره وان فهمه، فالنبي الذي هو أعلم العلماء أولى بان يفضل أمته فيكمل من الاستنباط لما يقصر عنه غيره. وقال بعض العلماء: أن عامة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعة إلى القرآن. ومعلوم أنه ليس كل شيء منها تقف العلماء على أصله، فذلك إذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يدرك من معاني الوحي مما لا يبلغه فهم غيره فيحسب ذلك كأن يكون استنباطه والله أعلم. ومنها إذكاء بصره حتى يدرك الشيء النائي الذي لا يقوى بصره في كل وقت، ولا يصر غيره على إدراك ما بعد ذلك البعد ولا ما دونه كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربه وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها. ومعلوم أن البصراء

يتفاوتون في البصر تفاوتا بعيدا. وقد كانت زرقاء اليمامة تدرك الشيء من مسيرة ثلاث، وقصتها في ذلك مشهورة. فلا ينكر أن تفاوت بين النبي وبين غيره بإذكاء بصره حالا ووقتا ليدرك به ما يفوض له مما يراد توفيقه عليه، ويكون معنى قوله: "زويت لي الأرض" على هذا أي قربت علي إدراك مشارقها ومغاربها، فكانت من إحاطة بصره بي لها كأنها حاضرة إياه والله أعلم. ومنها إذكاء سمعه: حتى يسمع مالا يقدر غيره على سماعه لبعد المسابقة بينه وبينه، كما روي على نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أطت السماء وحق لها أن تئط، ما منها موضع قدم إلا وفيه ملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى"، وروي عنه أنه سمع وحيه فذكر أنها هوى بصخرة قذفت في جهنم لم تبلغ قعرها إلى الآن، ولا سبيل للملحدين إلى استبعاد هذا واستنكاره، فإنهم يدعون لفيثاغورس أنه كان يسمع أصوات الكواكب والأفلاك إذا تحركت، وأنه الف الحانه عليها، وهم عندنا في ذلك كاذبون إلا أن يثبت أن فيثاغورس كان نبيا، فيجوز أن يكون اسمع ما ليس في العبادات إمكان إسماعه وتأليفه الألحان عليها أنه يصدقه. ومنها إحضار النبي: مشاهد لا يبلغ فوق البشر أن يبلغها، كالعروج بنبينا صلى الله عليه وسلم، ورفع موسى حيا إلى السماء في قول أكثر المسلمين. ورفع إدريس والياس على ما وردت به الأخبار. وهذا إنما يدخل في باب الإعلام لنبينا صلى الله عليه وسلم خاصة لأنه عرج به إلى السماء ليشاهد فيها من الآيات الباهرة للعقول ما لم يكن يشاهد مثلها في الأرض، وليوصي به فرض الصلاة، فيرجع به إلى أمته. فأما عيسى عليه السلام وإدريس، فإنما رفع للإسكان، وإخراجهما من بين أهل الأرض لتعليم شيء لم يكونا علماه من قبل والله أعلم. ومنها إذكاء شمه كما فعله بإسرائيل صلوات الله عليه بأن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه، وفصلت العير من مصر، قال أبوه: {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون}.

ومنها تسييره في مدة يسيرة مسافة طويلة لا يقدر البشر على قطع مثلها في مثل تلك المدة، كالإسراء بنبينا صلوات الله عليه من مكة إلى بيت المقدس، ورده منها إلى مكة في بعض ليلة. قال الله عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}، ولأنه عز وجل أخبر عن فائدة ذلك والحكمة فيه، قال: {لنريه من آياتنا}. دخل في باب الإعلام والتوفيق، وإن كان يدخل من وجه آخر في باب التأييد. ومنها تعيير العبادة في مخاطبته، فقد روى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: "كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيقضي عني وقد وعيت ما قال. وأحيانا تمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما قال" وإنما كان الأول أشد الوحي عليه، لان الملك إذا مثل له رجلا فلقيه في صورة حسنة لم يداخله به روح ولا أمر تحول بينه وبين القبول عنه، وكلمه مع ذلك بلسانه الذي يعرفه كلاما عهد مثله، فلم يبعد مراده من فهمه. وأما إذا لم ير ملكا وسمع صوتا مثل صلصلة الجرس واضطر إلى علم أنه وحي، فأول ما في ذلك أن مثل هذا الصوت إذا قرع القلب، ثم إذا أقيم مقام الكلام ولم يكن في نفسه معهودا نبا القلب عنه أول ما يرد عليه، ثم إذا العلم بأنه خطاب يحتاج إلى تلقيه وحفظه زاد ذلك في شغل القلب به. ثم أن المخاطب بمثل هذا الصوت لا يخلو من أن يحول في ذلك الوقت عن طباعه، حتى أنه ربما أثر ذلك في أحواله الظاهرة منه، ليصير كالصحيح إذا مرض، أو الماشي إذا جهد ونصب، أو الصائم إذا جاع أو عطش. وكان ما يعرض للنبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه من البرحاء والومضاء من العرق منه في اليوم الثاني، ونقله على الراحلة حتى يكاد بطنها يلتصق بالأرض وينكسر عضداها، من هذا الوجه وقد روى في قول الله عز وجل: {حتى إذا فزع عن قلوبهم، قالوا ماذا قال

ربكم، قالوا الحق وهو العلي الكبير}. أن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السموات مثل صوت الصلصلة على الصنوان، ففزعوا فإذا انقضى الوحي قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم، قالوا الحق، وهو العلي الكبير. فإذا كان الوحي الذي يوحى إلى الملائكة صوتا مثل صوت السلسلة على الصفوان. فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا أوحى إليه بصوت مثل صوت الجرس، كان هذا الوحي شبيها بالوحي الذي يوحى إلى الملائكة قبسه، والله أعلم أنه في تلك الحال كان يلزم بأديانه من طباع الملائكة وتمثيله في بعض الوجوه لهم، كما كان الملك في بعض الأحوال يمثل رجلا لتعليمه ومخاطبته فيلقى الوحي الذي يوحي بمثله إلى الملائكة، ويشتد ذلك عليه، إلا أن الله عز وجل يعصمه خلال ذلك من الإغفال والنسيان فكانت تلك الحالة تنقضي عنه. وقد وعى ما قيل له والله أعلم. ومنها أن يحدث الله تعالى في صيوان قد ذبح وشوى كلاما فيسمعه النبي صلى الله عليه ويلم ليدل به على أمر مغيب عنه، كما روى أن الذراع قالت له في بيت يهودي: إني مسمومة فلاتأ كلني وهذا يدخل في باب التعليم من الوجه الذي بينته، ويدخل في باب التأييد من حيث أن كلام الذراع شيء غير معهودة. ومنها أن يحدث الله تعالى في الحيوان الذي لا صوت له، صوتا يحضره نبي ويسمعه إياه فتختص بإدراكه، ثم يخبر به غيره، قال الله عز وجل في قصة سليمات عليه السلام: {حق إذا أتوا على واد النمل، قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون}. وهذا يدخل في باب التعليم، ويدخل في باب التأييد، فأما دخوله في باب التعليم فقد يكون أنه أريد بإقرار النملة على الكلام، واستماعه ذلك منها. ويكون من وجه أن يعلمه عن في طريقه نملا كثيرا ليعدل بجنوده عن ذلك الطريق فلا يحطموها وهم لا يشعرون. وأما دخوله في باب التأييد، فمن وجه انه أمر غيره معهود خص سليمان بأحد آية ونقص الصلاة به لأجله فكان كسائر الآيات والبينات، وهذا مصح إن كان قومه

سمعوا للنملة نغمة ما، ثم بين لهم سليمان من مرادها ما لم يعرفوه. ومنها إنطاق النبات لسليمان صلوات الله عليه، فقد روى إنه كان إذا أصبح كل يوم رأى حشيشة جديدة، قد نبتت بين يديه، فيقول لها: ما أنت ولما أنت؟ فتقول: أنا كذا وأصلح لكذا، فلما كان اليوم نبت فيه الخروب قال سليمان: قد إذن الله في حراب هذا المسجد. ومثل هذا لا ينكر للأنبياء، صلوات الله عليهم، لأن آياتهم لو كانت من جنس الأمور المعهودة المألوفة لم يكن لهم فيها حجة لأنهم محتاجون إلى ما يميزهم عن غيرهم، والتمييز لا يقع بالأمر المشترك فواجب إذا كان تكون آياتهم كلها مباينة للعادات. وأيضا فإن الذي يقدر على أن ينطق غير النبات لا يعجزه أن ينطق بالنبات. فإن قيل: إنما ينطق غير النبات بآلة المنطق، والنبات ليست له تلك الآلة! قيل: إن الذي يسمى آلة المنطق ليس شيئا يقتضي المنطق بكل حال، لأنه لو كان لذلك، لما جاز أن يوجد ذو لسان أخرس، وفي وجودنا ذاك دليل على أن الله تعالى وضع للناس فإجرائهم عليها في أن لفظهم يكون باللسان، وإلا فاللسان والأصبع في جماد أن ينطقه الله فينطق سواء. وكذلك ما له لسان وما لا لسان له في ذلك سواء وبالله التوفيق. ومنها ما جاء من إفهام الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم كلام الذئب، فقد روى أن نبينا صلى الله عليه وسلم جالسا بالمدينة في أصحابه إذ أقبل ذئب فوقف بين يديه، فعوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا وفد السباع إليكم، فإن أحببتم أن تعرضوا له شيئا لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتكم تركتموه واحترزتم منه، فما أخذ فهو رزقه. قالوا يا رسول الله ما تطيب أنفسنا بشيء، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فولى وله عسلان". فهذا يدخل في باب التعليم من وجه أن الذئب لما جاءه فسأله النظر بينه وبين أرباب المواشي، أعلمه الله مراده بعوائه ومحيه، ويدخل في باب التأييد من وجه إن فيه شهادة من الذئب بنبوته. ومنها ما جاء من إفهام الله تعالى إياه رغاء البعير وحنينه. فيما يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم

دخل حائط رجل من الأنصار، فإذا جمل، فأما رأى النبي صلى الله عليه وسن حن وذرفت عيناه، فاتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح شراته وذفراه. ثم قال: من رب هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله! فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة، فإنه شكا إلى أنك تجميعه وترئبه. وفي حديث آخر: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه بعير يرغو حتى سجد له فقال: أتدرون ما يقول! زعم أنه خدم مواليه أربعين سنة، حتى إذا كبر نقصوا من علفه وزادوا في عمله، حتى إذا كان لهم عرس أخذوا الشفار لينحروه فأرسل إلى مواليه، فقالوا: صدق والله يا رسول الله! فقال: إني أحب أن تدعوه، فتركوه. فهذا يدخل في باب التعليم من وجه، أن الجمل لما تظلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنينه والثاني برغائه، أفهمه الله تعالى مراده، فنظر لذلك في أمره وقضى حاجته، فدخل في باب التأييد من وجه أن فيه شهادة من كل واحد منهما بنبوته. ومنها إن سمع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرى مكلما فيقع له العلم بما قيل له، وذكر وهب في كتابه: إن كان للأنبياء منازل، فمنهم من كان يسمع الصوت فيهمه ويحتمل أن ذلك كان يكون صوتا يحدثه الله تعالى عند سمع النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبه ويلهمه الله المراد منه فيعرفه، ويحتمل أن يكون ذلك الصوت كلاما معهودا، فإذا حصل إلى سمعه عرف. ومنها الجمع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الجن، وقد كان نبينا صلوات الله عليه مبعوثا إلى الجن والإنس، فيمكن من مشاهدتهم ومناطقتهم، وبلغهم الرسالة شفاها وعيانا. فقد حل هذا في باب العلم، من حيث أنهم عالم كثير محجوبون عن الأبصار، وفي خلقهم ما يزيد الناظر والواقف عليه بصيرة ويقينا بالله جل ثناؤه، وانبساط قدرته. فإذ ميزت له رؤيتهم ومعرفتهم ازداد علما بالله جل ثناؤه، لما يشاهده من آياته فيهم، ويراه من آثار قدرته الظاهرة عليهم. ويدخل في باب التأييد من وجه أنه يمكن من لقائهم ومكالمتهم وقراءة القرآن عليهم لا تكون إلا مع حجة دعوته وثبوت نبوته.

ومنها أن يحتاج إلى جواب مخالفته إلى العلم بشيء غائب عنه، فيمثل له حتى يراه، فيجربه ويدفع بذلك الخصم عن نفسه، كما أنه لما حدث الناس بأنه أسرى به إلى بيت المقدس، وصل فيه ورجع من ليلته احضروا له من كان رأى بيت المقدس وعرفه فاسعد له، فكان يصفه له وتبعته إلى أن كاد يخفى به بعض النعت، فمثل له المسجد حتى نظر إليه فوصفه. ومنها أن يقصد أمرا متفق عله عند ذلك حال من جنس ما هو كائن، فيعلم به عاقبة ذلك الأمر وحاله، كما أنه لما خرج من المدينة أحد، تعلقت قبضة سيف رجل بشيء من رجل غيره، فانسل من غمده، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا يوم ينتفى فيه السيف". فكان كما قال: وموضع الخصوص في هذا أن ما رأى جعل طريقا له إلى العلم، حتى قطع لأجله الحكم. وأما غيره فإن ذلك أن وقع له لم نعده أكثر من ظن لا يغني من الحق شيئا. ومنها أن يشاهد من دابته حالا بغير معهود له منها فيستدل بذلك على الأمر الذي قصد تغيير شحها حتى كان منها ما كان، كما روى عن غزوة الحديبية: أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تركت، فقال الناس: حلاب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما حلاب، وما ذلك لها بخلق، ولكل حبسها حابس الفيل عن مكة، فاعلم بترو كما من غير أن كان الحران خلقا لها أو سمع رأيه، ففزعت منه، أو كلال أصابها فأوهى قواها، أن ذلك صد من الله تعالى عن مكة أن يدخلها قهرا لئلا يصيب المسلمين من أهلها بالسوء من لا تحره إصابته له، ثم أنزل قول عز وجل: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات}، وتفسير ذلك موجود في موضعه والله أعلم. ومنه أن يكون بينه وبين أحد كلام واختلاف في أمر، فإذا جاء منهم من يخاطبه عنهم، استدل باسمه، مما هو كائن من أمره، كما استدل يوم الحديبية بحي سهيل بن عمرو على أن الصلح واقع بينه وبينهم، ويسهل سبيله إلى مكة، فكان كما وقع له ووقع الصلح في الحال، وأمن الناس ثم عاد العام القابل، فقضى عر به وبلغ مراده والحمد لله.

ومنها أن يهتم بأمر فيرفع له صورة حسنة، ويجعل له مثلا يعلم به حسن استمرار ذلك الأمر له، ويأتيه على ما يريده، كما روي أن حلفاءه من مكة لما جاؤوه يشكون قريشا إليه، ويذكرون أنهم نقضوا العهد، نظر إلى سحابة بيضاء فقال: أن هذه السحابة لتسهل بنصر بتي كعب، ويحتمل أن تلك السحابة كانت تضيء إضاءة فوق المعتاد من مثلها، وكان في مرها تنجو مكة، فعلم أنها مثل ضرب لمصيبة إليها، وإشراقها بنور دعوته، وحيرة قلوب أهلها بتركه، كما تحيا الأرض بالمطر النازل من السحاب والله أعلم. ومنها الرؤية وهي تبشير أو إنذار أو تعليم، وربما الأنبياء صلوات الله عليهم يفارق رؤيا غيرهم من أوجه، أحدهما: أن ما استوي منها واعتدل وانتظم بعضها ببعض حتى صار للتأويل بحا محال صدق منهم بكل حال، وأما غيرهم فقد يصدق منهم وقد لا يصدق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تقارب الزمان لم نكاد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا. وهذا والله أعلم أن النبي لا يكذب ولا يكذب فلا يكذب أن رؤياهم كانت منهم قبل نفسهم فكذبته نفسه، فإن نفسه معصومة من الكذب ومن الهم به، وليس وراء ذلك إلا أن يقال: أنها من الله عز وجل فهو تبارك اسمه من الكذب أبعد. والوجه الآخر الذي يجوز أن يعلم للإحكام في منامه، ولا يجوز ذلك لغيره ممن ليس بنبي كما يوحى إليه بذلك في يقظته، ولا يكون ذلك لغير نبي. والوجه الثالث: يجوز أن يضرب من الأمثال الدقيقة الغامضة ما لا يضرب لغيره لأنه بقوة عقله وذكاء فهمه وسداد رأيه يكمل لإدراكها، ولا يتسع ذلك لمن لا يكائفه في أحواله. فإن قال قائل: إذا كانت الرؤيا الصالحة جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة، فلم جاز أن يكون للكافر فيها نصيب، ونفسه ليست موضعا للنبوة وقد ذكر جالينوس: أنه عرض له قدم في الموضع الذي يتصل بالكبد منه بالحجاب فأمره الله جل ثناؤه في المنان أن يفصد العرق الضارب من كفه اليسرى ففعل ذلك وبرا!

فالجواب: أن الكافر لم يكن موضعا للنبوة، وليس كل مؤمن أيضا موضعا لها، ثم لم يمتنع أن يرى "المؤمن الذي لا يجوز أن يكون نبيا في منامه ما يعود عليه بخير في دنياه. فكذلك لا يمتنع أن يرى الكافر مثل ذلك، ولمعني فيه الرؤيا الصالحة وإن كانت جزءا من النبوة فليس بانفرادها نبوة، كما ليست كل شعبة من شعب الإيمان بانفرادها إيمانا، ولا كل جزء من الصلاة بانفرادها صلاة والله أعلم. ومنها فراسة الأنبياء وهي لا تخطئ كما رؤى أن البيضاء بنت عبد المطلب كانت تحت كرر فلما ولدت عامرا، أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فتأمله، ثم قال: "ما في هذا من عبد مناف مولودا أشد حمقا منه". فبلع من حمقه أنه ورد على ابنه عبد الله وهو أمير البصرة أيام عثمان فرآه يخطب. حتى مثل بين يديه فقال: "أيها الناس أن هذا ابني وأنا أسن منه، وخرج من هذا وأشار إلى ذكره". وأما فراسة المؤمن غير الأنبياء فقد تخطئ وقد تصيب، ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "إني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي". وهذا يحتمل أن يكون على معنى أنهم إذ كانوا على حال يريد الله تعالى أن يطلع نبيه عليها ولا يغيب عنه علمها، مثلهم له فرآهم، ووقف على ما هم عليه، ويكون ذل عياله شهادة ليقع العلم به ضرورة، وإذا أخبر الناس به، كان ذلك مما يزيدهم إيمانا، وصار من جملة دلائله وبيناته، ويكون مجاز قوله: "إني أراكم خلفي" أي إني أراكم وأنت خلفي والله أعلم. ومنها اطلاعه على فعل يكون من الملائكة بأحد من أمته ليبحث عن سيئة، فيعلمه ويخبر بما رأى أصحابه، فيكون ذلك أحد حججه وبيناته، كما روي أن حنظلة الراهب لما أصيب بأحد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إني رأيت الملائكة تغسله بصحاف الفضة بين السماء والأرض، فسال أبو أسيد عن حاله فذهبنا إليه وأبصرناه: فإذا رأسه تقطر ماء قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته. فأرسل إلى امرأته وأستخبرها عن حاله، فذكرت أنه واقعها ثم خرج إلى أحد وهو جنب".

ومنها تيسيره حلال عرض له وجهد أصابه بآيات يجعلها مثلا لفتوح وخيرا مستقبلة، ويريه إياها ليسلوا بها قلبه، ويوقف عليها أصحابه، فيثبتهم بذلك، ويقوى على الصبر عزائمهم، كما روى أنه: كانوا يحفرون الخندق فعنت صخرة لهم أعيتهم، فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعول ثلاث ضربات، وظهرت من كل ضربة برقة، فذهبت أولاها اليمن والثانية إلى الشام والثالثة إلى المشرق، وكان أصحابه يتبعونها أبصارهم. فقال لهم: "أن هذه فتوح يفتحها الله تعلى عليكم". فهذا يدخل في التعليم من حيث أنه خبر عن كائن هذه، وقد ظهر فيه صدقه، فالتحق بجملة دلائله وبيناته والله أعلم. ومنها الزيادة في بصيرته بإنطاق الجماد الذي لم يلحق له منطق في أصله، لتنزاح الخواطر عن قلبه ويستيقن حتى يداني المضطر أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما روي أنه لما استعان له جبريل، لم يكن يمر على حجر ولا مدر إلا ناداه: "السلام عليك يا رسول الله". وإن الجن قالوا له بمكة: "من يشهد أنك رسول الله؟ فقل: تلك السمرة، ثم قال لسمرة منها: من أنا؟ فقالت: رسول الله! ". فهذه اثنان وثلاثون وجها أحصيها للخصوص الواقع من جهة العلم. وهذه أربعة عشر وجها أحصيها للخصوص الواقع في المعلومات: منها ما حكاه الله عز وجل عن سليمان عليه السلام من قوله: {يا أيها لناس علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين}، ويحتمل أنه كانت مناطق سيمان بنغمتها وأصواتها فيلهمه الله عز وجل مرادها. وغنما بينا هذا لأن قوله: {علمنا منطق الطير} يدل على أنها كانت لا تفارق عادتها في مناطقته، ولم يبلغنا أنه كان يفارق عادته إذا ناطقها، فكان الأشبه بذلك ما وصفت الله أعلم. وأما نبينا صلوات الله عليه قد جمع له بين الأمرين فشكى إليه الجمل بحنينه، والعبير برغائه، وعفه عز وجل شكواها، وسأله الذئب بعوائه فأجابه بإيمانه. وأما الطبية فأنها كلمته بكلام الأنس وأخبرته بأنها صديت بالأمس ولها خشف صغير، وسألته أن يأمر بتخليتها لترضع خشفها ثم ترجع. إنما يعرف مثل هذا بالروايات والله أعلم.

ومنها اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على المعاد الذي يصير الناس إليه في الآخرة، ليعلم عظم نعم الله تعالى عليه وعلى الناس به، وإذا كان بعثه إليهم ليدعوهم إلى النعيم الذي أراه بعضة في الجنة ويستنقذهم من النار التي أراه إياها، ويزداد جداً وجهداً الشفقة على الأمة وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (دخلت الجنة فرأيت فيها نبقاً كقلال هجر)، وذكره لعمر رضي الله عنه أنه رأى قصراً من ذهب وسأل عنه فقيل لعمر. ووصفة النار ومن رأى فيها من عمرو ابن يحيى والمرأة المعذبة على حبس الهرة وحبس الطعام عنها حتى ماتت، وغير ذلك. ومنها تعليمه الرؤيا حتى لم يكن في وقته ولا بعده احد أبصر منه بتأويل الرؤيا. ويقال: أنه لم يكن فيمن خلا أعلم بالتأويل من إبراهيم الخليل صلوات الله عليه. والتأويل وإن كان قد أوتي منه كثير من الناس، فان تأويلهم قد يخطئ وتأويل النبي صلى الله عليه وسلم لا يخطئ والله أعلم. ومنها تعليم الله عز وجل آدم عليه السلام الأسماء كلها، وذلك أنه كان خلقه ليحدث النسل وليسكنهم الأرض فيعمروها، وعلى أنه يعرض لهم أحوال لا يستغنى بعضهم فيها عن اطلاع غيره على ما هو عنده، ليتعاونوا على اللف التي هم يحتاجون إليها، وتنزاح عليهم بعضهم لبعض، فعلمه البيان وخلق فيه النطق وعلمه الأسماء كلها، فأخذ من أخذ ذلك من ولده عنه، ثم لم يزل يأخذ كل أحد عن غيره، ولم يبتدئ أحد منهم بتعليم كما ابتدأ اله أبو البشر إلا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قال: الآن حمي الوطيس، وجاء باسم الصلاة والإيمان والإسلام والزكاة والجزية والنفاق. ويحتمل أن المبعوثين بالشرائع من الأنبياء كان يقع لهم في كلامهم من لغاتهم مثل هذا. فأما الأصل فإنما خص به آدم عليه السلام لأنه كان أبا البشر، ومن فيه نشأت الحاجة، فكذلك على لسنه أزيحت العلة ومنها الهداية إلى وجوه العبادات والديانات والهداية للأحكام ووجوه الحلال، أعني العبادات والأحكام جملة الشريعة التي أرادها الله تعالى بقوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً {وهي التي تتفاوت على السنة الرسل لما يعرض فيها من النسخ والتبديل. فأما العبادات فان عظم الغرض في إرسال الرسول إلى الناس دعاهم الله تعالى، ودلالتهم

على ما يستحقه من التذلل له والخشوع والاستكانة والاستشعار للغير واستنفاذ العمر في ذلك دون الركون إلى الجمام والراحة والخفض والدعه. واما الأحكام فإنها سياسة الله تعالى عبادة، وتدبيره إياهم بما فيه انتظام أمورهم ودفع المكاره والمظالم عنهم. فإن الناس إذا خلوا وأنفسهم لم يهتدوا إلى ما فيه صلاحهم واعتدال الجمهور. ومنها الهداية إلى تركيب العالم وهيأته وصفاته مادياً، أو يأتي من حواشيه وأقطاره فإن الوقوف على ذلك مفيد في الاعتبار وكثير من الأمور، وعلم ذلك موجود عند أهله والكتب المنسوبة إلى إدريس عليه السلام في هذه الأبواب، والمنسوبة منها إلى الدين، كانوا هذه فورثوا علمه في أيدي الناس بأبيه. ومنها الهداية إلى مصالح الإيمان، وهي علم الطب الذي حملته حفظ الصحة على الصحيح، ودفع السقم عن السقيمين فإنه لما كان في علم الله تعالى أنه لا يخلص الصحة للناس دائما ولكن يستقيم أوقاتا، وكان خلق في الأرض أشياء إذا استعملوها زالت عوارض الأسقام عنهم، وأشياء إذا تناولوها حلق الأسقام إليهم وقعت لهم الحاجة إلى معرفة المضار والمنافع مما في الأرض على وجهه وحقيقته، واحتاجوا مع ذلك إلى معرفة الإدواء والعلل وأسبابها الجالبة لها وأعراضها التابعة له والدالة عليها، ليستدلوا بمعرفة الأسباب على وجوه التحرز بمعرفة الأعراض على حقائق العلل ثم يتوصلوا بمعرفة الأدوية وطرق استعمالها على دفع ما قد حدث، فتكون للسلامة وتعود الصحة، وإذا كانت الحاجة إلى جميع ما ذكرنا واقعة، وكانت عقول الناس تحسر عن إدراكه لا أخبار مخبر إياهم احتاجوا إلى المخبر عنه، كما أنهم إذا لم يعملوا ما الذي يرضي الله تعالى عنهم. وما الذي يبيحه أو يكره وقوعه منهم احتاجوا إلى الخير عنه، كما أزيحت هذه العلة لهم بالرسل كذلك أزيحت العلة فيها وصفنا بالرسل، وذلك مذكور في الكتب ولا يمكن للأمر إلا على ما وصفت. ومنها الهداية إلى الصناعات، قال الله عز وجل: {وعلمناه صنعة لبوس لكم {يعني داود عليه السلام، وقال لنوح عليه السلام:

{واصنع الفلك بأعيننا ووحينا {ولا شك في أن الحاجة إلى الغزل والنسج والطحن والجر والخياطة والبناء وما يجري مجراها ليست دون الحاجة إلى الملبوس المحصن من اللباس، وإن الناس لو أحلوا من الدلالة عليها في أولي الأمر، لم يقفوا عليها، ولم يهتدوا إليها، كما أن كل من لم يجربه اليوم ولم يرشد إليه لم يبلغه علمه ولم يدركه فهمه، فواجب إذاّ أن يكون أولها تعليماً، كما كان أول علم الأسماء تعليماً. ومنها تخصص الأنبياء صلوات اله عليهم بالأخبار عما قد كان مما ليس علمه موجوداً عند الذين هم بين أظهرهم من غير أن يعرف لهم البقاء ممن أخبرهم به، أو قرأوا كتابا من الكتب الناطقة به ليكن علمهم بها وإخبارهم الناس عنها دليلا على صدقهم وإحقاقهم في دعوتهم، إذا كانت الغائبات لا تدرك إلا بالأخبار. فإذا أدركها واحد من الناس لا من قبل أحد يتهيأ إصابة ذلك العلم إليه منهم أثبت أن الله عز وجل هو الذي أنبأ بها. قال الله عز وجل: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا {. وقال: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أنهم بكفل مريم، وما كنت لديهم إذ يختصمون {. وقال: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إلي، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون {. ومنها تخصصهم بالتوفيق على أسرار الناس ومحباتهم، ودخل في هذا قول الله تعالى حكاية عن عيسى صلوات الله عليه بأن قال لقومه: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم {. وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم العباس: الذهب الذي استودعته أم الفضل. وإخباره كثيرا من الناس بما جاءوه له وبما نالوه في أنفسهم من غير أن يكون سمع سامع ذلك منهم. ومنها توفيقهم على علم المعاشرة. فإن الحاجة إليه كالحاجة إلى علم الحكم والسياسة، فإن من لا خلق لا ولا آداب له اضطر إلى الانقباض والعزلة، ولم يتسع للانبساط والمداخلة، ودخل عليه الخلل في أحواله وأموره.

قال الله عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا، لعله يتذكر أو يخشى {. وقال لنبينا صلوات الله عليه: {خذ العفو وأمر بالمعروف واعرض عن الجاهلين {. وقال: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظم لعلكم تذكرون {. وقال: {فيما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين {. ثم للنبي تبارك اسمه عليه فقال: {وانك لعلى خلق عظيم {. فسئلت عائشة رضي الله عنها: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كان خلقه القرآن، يعني أخذ نفسه بآداب القرآن فتأدب بها وارتاض عليها، فكان كأنه لا يحسن سواها. وهذا مما لا يكمل إلا لمعصوم. وأما من لا عصمة له فإنه إن ضبط شيئاً أعفل بإزائه غيره. ومها تعليمهم طرق الاستدلال ومحاجة الخصوم، قال الله عز وحل: {وتلك حجتنا آيناها إبراهيم على قومه {. وقال: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه اله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويموت، قال أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين {. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن {. ثم علمه الاحتجاج فقال: {لو كان منهما آلهة إلا الله لفسدتا {. وأمره أن يقول لمن قال: {من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم {إلى غير ذلك مما يكثر إحصاؤه.

فإن ما في القرآن من آيات الأعلام والحجج أكثر ما فيه من آيات الأحكام، فمن قدر على شيء من العلوم التي ذكرناها فالاستفادة عن الأنبياء صلوات الله عليهم، أو عن من استفاد منهم. فأما فضيلة الإبداء لهم، وإذا كان هكذا إن علم كل دين وشريعة فإنما يكون جميعه عند النبي المبعوث بها، ويتفرق في الدين يأخذون عنه فلا يؤخذ عند كل واحد من الناس إلا بعضه. وتمت هذه الأقسام أربعة عشر، فبلغت خصائص النبوة فيما مرجعه إلى العلم ستة وأربعين جزءاً من النبوة، ما واحد منها إلا ويليق به أن يكون قريبا للرؤيا الصالحة التي أخبر النبي صلى الله عله وسلم أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً وامن النبوة، والله أعلم بما أراد رسوله عليه السلام. فصل وكلما ذكرنا في الباب الأول من الحاجة إلى معرفة آيات الله الدالة عليه على وحدانيته وقدسه وانفراده ما كان إلا مستبصر بها الجاهل فيؤمن، ويستثيب بها المؤمن فلا يغوي ولا يضل، فهو في هذا الباب مثله، ولا غنى عن دراية أعلام النبوة جملة وتفصيلا، مستبصر بها المنكر معترف، ويستظهر بها المؤمن فلا يزيغ. وليفضل بين النبي والمتنبي، وينزل الأنبياء صلوات الله عليهم منازلهم. ومما يعرف ما لنبينا صلوات الله عليه من الدلائل الراحمة والأعلام اللائحة التي لم يبق معها لمرتاب مقال، لا لسائل سؤال، وقد أرشد الله تعالى النبوة في القرآن كما أرشد إلى آيات الحدث الدالة على الخالق والخلق، فقال عز اسمه: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط {. قال: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل {. وقال: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى {. فأخبر انه بعث الرسل لقطع حجة العباد. وقيل في ذلك وجوه: أحدهما: أن الحجة التي قطعت على العباد هي أن يقولوا أن الله جل ثناؤه إن كان

خلقنا لنعبده، فقد كان ينبغي أن ييسر لنا العبادة التي يريدها ويرضاها لنا، ما هي؟ فإنه وإن كان في عقولنا وجوب الاستجداء له، ولزوم الشكر أياماً على نعمه التي أنعما علينا، فلم يكن فيها أن التذلل والعبودة منا، بما ينبغي أن نكون، على أي وجه ينبغي ان يظهر، فقطعت حجتهم، بأن أمروا ونهوها وشرعت لهم الشرائع، ونهجت لهم المناهج، فعرفوا ما يراد منهم، وزالت الشبهة عنهم. والآخر: أن الحجة التي قطعت هي أن لا يقولوا أنا كنا ركب سهو وغفلة، وسلط علينا الهوى، ووضعت فينا الشهوات. فلو أمدونا بما إذا سهونا نهينا، وإذا أمال بنا الهوى إلى وجه قومنا لما كانت منا إلا طاعة، ولكن لما خيلنا ونفوسنا، ووكلنا إليها وكانت أموالنا مما ذكرنا، غلبت الأهواء علينا ولم نملك قهرنا، فكانت المعاصي منا لذلك. والثالث: أن الحجة التي قطعت هي أن لا يقولوا: قد كان في عقولنا حسن الإيمان والصدق والعدل وشكر النعم، وقبح الكفر والكذب والظلم، ولكن لم يكن فيها. إن من ترك الحسن إلى القبيح عذب بالنار خالداً مخلداً فيها، وإن من ترك القبيح إلى الحسن أثيب الجنة خالداً فيها، لأنه إذا كان يدري بالعقل أن الله جل جلاله خلقاً هو الجنة وخلقاً هو النار الفانية. كيف يدرك أن أحدهما معد للعصاة، هو النار الفانية. كيف يدرك أن أحدهما معد للعصاة، والآخر لأهل الطاعة، ولو أنا نعذب على المعاصي وذنوب متناهية عذابا غير متناهي، أو سار بالطاعة المتناهية، وأما غير متناهي لما كان منا إلا الطاعة، ولم يكن منا مجال معصية، فقطع الله تبارك وتعالى هذه الحجج كلها نبعث الرسل وبالله التوفيق. فصل ثم إذا تاملنا ما في السماء والأرض من أصناف الخلائق، وجدنا في وقوع ما وقع لنابه من العلم ما يدل على الرسل، كما وجدنا فيها أنفسنا وتصاريف أحوالها ما يدل على الباري جل ثناءه. وذلك أنا نعلم أن الكواكب التي نراها بأبصارنا، لما يمكن الوقوف بالنظر إليها على أن منها بروجاً، وكل برج إنما يتم بكذا وكذا كوكبه منها وانها اثنا عشر، لا أقل منها ولا أكثر.

وأن منها كواكب ثابتة وعددها كذا، منها سيارة وعددها كذا، وإن مقادير أجرامها كذا وكذا، وإن أبعادها كذا وكذا، وإن لكل نجم من النجوم السيارة فلكاً على الانفراد. فإن عقل عاقل منها إذا لم يسمع بشيء ما يقوله أهل العلم بهبة السماء، والكواكب في هذه الأبواب. ثم أعمل فكره في إدراك عملها، وعلم شيء منها لم يزد منه إلا بعداً، ولم يصل إليه أبداً أبدا، إلا أن يسمع فيه من عالم شيئاً ويستدل أصلا، فعسى أن يتبع بعد الآن، ينبئ خبره ويتدرج منه إلى ما سواه. فدل ذلك على أن الأوائل لم تقل جميع ما قالته في هذه الأبواب بإزائها من قبل أنفسها، وإنما أدركت الأصول حينا، ثم قاست بعقولها عليه غيره. واستنبط بها ما سواه. وهكذا الأرض لا يمكن أن يعلم ما فيها، فيميز ما يكون قوتا به الأبدان، وما يختص يجبر الكسر كالمومباي، ثم يميز من الأدوية ما يصلح منها لشيء بعينه، وما يصلح منها بخلافه، ومقدار ما ينبغي أن يتداوى به من كل جزء فيصاب نفعه، ويؤمن ضرورة ألا يجبر فإن أغفل عاقل منا لو لم يسمع في هذه الأبواب من أهل العلم بها شيئاً، ثم أراد يهجم عليها بعقله ويدرك منها ما أردكه البصر بمجرد فهمه لما اتسع لذلك ولا قدر عليه. فدل هذا على أن الأوائل لم تصل إلى معرفة ما عرفت وادراك ما أدركت مما سبق ذكره بمجرد أفها وعقولها، ولكنها وقعت على الأصول بالخبر بما استنبطت بازائها من تلك الأصول ما وجدت فيها إدلالة عليه، ثم أن النبي أخبرها بأوائل هذه لو كان مثلهم في التجلي بفعله، والانفراد برأيه وفهمه لم يكن الاختراع عاجزاً مثلهم. فصح أن الأخبار لها أنما كان ممن وفقه الله تعالى عليها وأمره بالأداه إلى غيره، فاولئك المخبرون المؤدون عن الله هم الرسل صلوات الله عليهم، ثم إن وجود الكلام للناس يدل على الرسل، وذلك أن الموجود المعروف فيها شاء أن لم يسمع الكلام أصلا لم يتكلم، فإن من ولد أصم لا ينطق أبداً وإنما ينطق من يولد سمعاً فيسمع كلام جنسه وينشأ عليه، فلولا أن بشراً تكلم كان قد علم البيان واستمع الكلام، لكانت حالة حال المولودين من الناس اليوم ولما يكلم.

ومن المعلوم أن الصبي لا يتكلم إلا باللغة التي يسمعها، فلولا أن رجلا من العرب ولدت له تركيه ولداً،، فغاب الوالد عنه ونشأ مع أمه لم ينطق بالعربة التي لم يسمعها وإنما ينطق بالتركية التي سمعها من امه، ولا يسمع غيرها. فبان بهذا أن أصل الكلام سمع وأن أول من يتكلم من البشر تكلم عن تعليم ووحي، كما قال الله عز وجل: {وعلم آدم الأسماء كلها {فاسمعه الأسماء وألهمه علم ما أسمعه، وأقدره على النطق به، فصار متكلما. ثم أنه لما سمع الكلام منه غير معروف نفس الكلام، وبتلقيه بما ركب الله تعالى في لسانه من التيسير له على المراد باستدلال عقلي رجع أصله إلى العرف والعادة، وهو أن يقف السامع من المتكلم بالعبارة، وأن بنقص الأمارات الحالية على أنه إذا تكلم بكذا أو أراد بكذا وأراد كذا، تدله حال المتكلم على إفادته، كما قد تدل الإشارة التي هي دون العبارة على كثير من الإفادة، فأما أصل الكلام سمع مولا يمكن فيه غير ذلك والله أعلم. وفي ظهور ما وصفت أن الدلائل الدالة على الرسل دالة على القديم جل ثناؤه لا يمكن أن يكون الذي أرسلهم واحداً مثلهم، فيصح أنه إنما أرسلهم من لا يشبههم، ولا يجوز عليه الجهل والعجز ما يجوز على الناس، وليس إلا المباري القدم جل ثناؤه وتباركت أسماؤه. فصل ثم أن رسولاً أرسله الله إلى قوم فلم يجله من إبداء آية وحجة أتاها إياه وجعل تلك الآية مخالفة العادات إذ كان ما يريد الرسول إثباته بها من رسالة الله تعالى أمراً خارجاً من العادات، فيستدل بإقران تلك الآية بدعواه، وأنه رسول الله واستظهاره بها على تصحيح دعواه على صدقه واخفائه، فإنه إذا كان لا يتميز عن سائر الناس بأمر يوجب أن ينقص الله تعالى لأجله عادة سوى دعواه أنه رسوله، ولا يعلم لينقص الله تعالى العادة على لسانه أنه أوغل يده، وفي الجملة لأجله ولسببه وجه سوى أن يكون خصه بذل لتخصيصه إياه مما يدعيه من رسالته بغير هذا الوجه للقبول، لم يكن لتوهم غيره مساغ وإن قال لقومه:

وإن كنت مفتريا على الله فأتوا بمثل ما افتريت، فعجزوا ولم يؤت الله تعالى أحداً منهم مثل الذي أتاه مع حاجتهم إليه لمعارضته وتكذيبه، إن كان كاذباً مفتريا. وقد شعر بإتيانه ما أتاه وحرمانهم مثله، أنه قد أراد إظهاره عليهم، وقطع حجتهم عنه، إلا ترى أن رجلين لو جاءا قوماً، فذكر كل واحد منهما لهم أنه رسول الله إليهم، فكذبوه، فدعوا الله عز وجل معاً وسألاه آية تدلهم على صدقهما، فوقعت الإجابة لأحدهما، واحد بآية من الآيات التي ليس في قوى البشر الاتيان بمثلها. وتتابعت العبر على الآخر، لعلم علما لا يلامسه شك، ان الذي اجيبت دعوته صادق، وإن الآخر كاذب، ولم يجز أن يكون كذلك أقل من تقدم بلداً، فأبدان أو رجلان من كانا يدعى كل واحد منهما أن سلطان المسلمين ولاه ذلك البلد واستدعاه أهله، فلا يصدقا فيكتبا إلى السلطان بخبرهما، ويلتمسا منه دلالة على صدقهما فيخص أحدهما بخلع أخيه، ويعرض للآخر بضروب من الجفاء أولا فأولا، فان ذل لو كان لزال الشك في أمر المكرم وعلى أنه الصادق فيما أدعاء من الولاية دون صاحبه. وكذلك إذا كانت الدعوى من واحد فكذبه قومه، فسأل الله آية فأجابه إليها وأعجزهم عن مثلها، ثم أجرى العادة بأن كل من أصر على التكذيب بعد مجيء الآية عاقبة وعذبه، وجب أن يعلم أن الذي أمده بالآية صادق عليه، وأن المعجزين عن معارضته كاذبون عليه مبطلون فيما ينسبونه إليه من الافتراء على ربه ولو وقع مثل هذا الأهل بلد مع من يدعي أنه واليهم أنفذه سلطان المسلمين إليهم، فارتابوا به، فسأل السلطان آية، فأنفذ إليه حياً وجعله في جواب ما استدعاه من الآية التي تدلهم على صدقه، في أنه ولاه عليهم لعلموا عليه بذلك صدقه، فهكذا فليعلم قوم كل رسول، فسأل الله تعالى أنه يعلم بها قومه صدقة، فأمده لعجزه وأرسله، وقد قرن دعواه الرسالة بمعجزة، فلم يعلم لتميزه واختصاصه بها سوى ما ظهر من دعواه وأنه محق صادق، وبالله التوفيق. وأيضا فلا خفا على ذوي البصائر والعقول أن مدعي النبوة لو سأل الله آية فاخرسه الله مكانه أو سلبه العقل، لكان ذلك دليلا باهرا على أن الله تعالى اراد بما صنع تكذيبه وهكذا لو ادعى انه نبي، أو أنه صرفه أنه يقدر من ادراك المعقولات ووجوه الاستنباط على ما لا يبلغه، فهم احد سواه فسلبه الله العقل مكانه لعلم من يشاهده ويعرف حاله إن

شاء الله تعالى لم يفعل ذل به إلا ليكذبه ويجعله نكالا وموعظة لغيره. فلذلك ينبغي أن يقال: أنه إذا ادعى النبوة وسأل الله أنه إن ما سعف جوابه سؤاله بما تعجز الإنس والجن عن مثله، أو كانت دعواه مقرونة بمعجزة وجب أن يعلم أن الله عز وجل لم يخصصه بها إلا ليدل على صدقه هذا، والكذب على الله والافتراء عليه بدعوى الرسالة من عنده من أعظم الجنايات فلا يليق بحكمة الله أن يظهر على من يعاطى ذلك واجترائه عليه آية ناقصة للعادات، براءة تستظهر بها على كذبه، وبراءة تستظهر بها على كذبه، فيفتتن العباد به، وتظهر في البلاد العبر العظيمة منه، ولا يؤتيه آية إذا سأله قومه إياها، سلبه سمعه أو بصرهن فإن فعل هذا بالصادق في السفير عنه والحث على خلافه لفعل الأول بالكاذب في التسكين إليه والتحريض على اتباعه. وقد نزل الله تعالى من هذا الصنع نصاً في كتابه فقال- يعني نبيه صلى الله عليه وسلم: {ولو تقول لعينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين {. وقال في الدلالة على صدقه: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون {. فثبت أن الله عز وجل لا يمد الكاذب المفتعل بما يكون سبباً لاعتزاز الناس به، كما لا يخذل الصادق المحق ولا يصنع به ما يكون سببا لانحراف الناس عنه، وبالله التوفيق. وكل آية أتاها الله رسولا، فإنه يقدر بها عن الرسول أولا أنه رسول حقا، ثم عند غيره، وقد يجوز أن يخصه بأ، هـ يعلم النبي بها نبوة نفسه، ثم يجعل له على قومه دلالة سواها. وفي الجملة، فإنما يعلم النبي نبوة نفسه اكتسابا لا ضرورة، ويكون متعبداً بالإيمان بنفسه، وذلك في الأخبار المروية عن نبينا صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى أن قوى الأمر وعلا ظاهراً بينا. فصل ومعجزات الرسل صلوات الله عليهم كانت أصنافا كثيرة، ولم يبلغنا عن الذين سبقوا إبراهيم صلوات الله عليهم أن معجزاتهم ما كانت وكيف كانت، ونعلم في الجملة أنهم لم يخلوا من أن يكونوا قد خلوا أقوالهم بما ألزموهم به الحجة.

فأما إبراهيم صلوات الله عليه، فإنه على ما قيل كان في زمان لا يؤمن بالله عز وجل على وجه الأرض غيره وكان الغالب على الملك الذي كان في بلده وعلى قومه بالإلحاد والتعطيل، فجعل الله حجته على قومه النظر الثاقب الذي لم يقاوم وهو استدلالة يتعاقب للأحوال على الكواكب التي هي أعلى ما يرى وأنهاها وأنورها على أنها محدثة لم تكن، ثم كانت، وفي ثبوت حدثها وجوب أن يكون لها محدث خارج من المحسوسات خلاف ما كان يعرفونه، أنه ليس سوى المحسوسات، قال الله عز وجل {وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه {. وإنما هي حجته التي أقامها عليه بها وصف لهم، من أن له ولهم ولعامة ما يشاهدون صانعاً. وكذلك قوله الذي حاجه وادعى القدرة على ما كان يصنعه إبراهيم إلى الله تبارك وتعالى: {إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب {. فأما دلالة نبوته فينبغي أن تكون غير هذه الحجة، ولا شك في أنه لم يخل منها. فأما عصمة الله تعالى إياه من الإحتراق بالنار، فهي تدل على إخفائه فيما كان يدعيه من الرسالة والنبوة، فكما يدل على الصانع جل ثناؤه إلا أن ذلك أيضا لم تكن آيته التي أيد بها دلالة على نبوته، إذ كان القوم قصدوا بما صنعوا بمكانه معاقبة على ما كان منه من كسر للأصنام لامتحانه، لينظروا هل له إله يدفع عنه أولا، إذ كان ذلك إنما يليق لو كانوا سألوه دلالة، فقال: دلالتي أن النار وإن بغلت ما بلغت في لظى لا تحرقني، وإن ربي من أذاها يعصمني، وهو كما كان قال لهم. فثبت ان دلالته كانت شيئا سوى عصمة الله إياه من النار إلا أنها لما وقعت لم تخل من هذه الدلالة أيضا، فهدى الله تعالى من هدى وخلى بين نفسه وهواه من خلى إلى اليوم الذي يجري فيه كل ساع بما يسعى. وقد أخبر الله عز وجل أنه أراه إحياء الموتى عيانا، فإن كان إنما سأل الله تعالى ذلك على أعين الناس ليدل بإجابته إياه على صدقه فيما فعله من ذلك بدعائه له وبينه، وإن كان إنما سأل ذلك لخاصة فهو شيء أرادة ليطمئن قلبه، فكانت دلالته على قومه أمرا سواه وبالله التوفيق.

وأما موسى عليه السلام فإن الله عز وجل أخبر أنه أتاه تسع آيات بينات: العصا، واليد، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والطمس والبحر. فأما العصا فكانت حجته على الملحدين والسحرة جميعا، وكان السحر في ذلك الوقت منتشرا، فلما انقلبت عصاه حية تسعى وتلقفت حبال السحرة وعصيهم، علموا أن حركتها عن خبرة حادثة فيها بالحقيقة، وليست من حد بين ما يتخل بالحبل، فجمع ذلك الدلالة على الصانع وعلى ثبوته جميعا. وأما سائر الآيات التي لم يحتج إليها مع السحرة، فكانت دلالات على فرعون وقومه والقائلين بالدهر، فأظهر الله بها صحة ما اخبرهم به موسى: من أن له ولهم رباً وخالقاً إذ كانت كلها متجاوزة جداً لقوة البشرية، وثبت بإمداد الله تعالى إياه بها حاجته إلى تصحيح دعواه أنه نبي الله ورسوله كما يقول وبالله التوفيق. فأما يوشع ففي الاخبار أن الشمس حبست له لما دعا الله عز وجل وسأله جل ثناؤه أن يحبسها له عند قتاله أهل أريحا وإشرافه على فتحها عشية يوم الجمعة، وإِشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح فيحرم عليهم لأجل السبت القتال، ويعلم به عدوهم فيعمل السيف فيهم ويجتاحهم فكان ذلك آيته التي خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة بخبر موسى عليه السلام على ما يقال والله أعلم. وأما داوود صلوات الله عليه، فإن الله عز وجل ألان له الحديد وسخر له الجبال والطير فكانت تسبح معه بالعشي والإِراق، وكان على ما يقال يقرأ الزبور بأصوات مختلفة: منها صوت يطرب ومنها المهم، وتعكف الوحش والطير عليه إعجاباً به واستتابته إليه. وأما المسيح صلوات الله عليه فإن الله عز وجل خلقة لا من أب، ولكن ذلك إنما علم بخبر الصادق عن الله تعالى، ولم تكن آيته ومعجزاته، وإنما آيته أن الله عز وجل أقدره على الكلام في المهد فكان يتكلم فيه كلام الحكماء وأنه كان يحيي الموتى، ويبرأ بدعائه، أو بيده إذا مسح الأكمه والأبرص، وجعل من الطين كهيأة الطير، فينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله. ثم إن رفعه بين اليهود لما أرادوا قتله وصلبه، فعصمه بذلك من أن يخلص القتل

والصلب إلى بدنه، وكان الطب عاماً غالباً في زمانه ووقته فأظهر الله تعالى بدعائه وأجراه على يده من زوال الداء العظيم دفعة واحدة بدعائه وأجراه على يده من زوال الداء العظيم دفعة واحدة بدعائه، وحدوث جارحة لم تكن أصلا، ورجوع الحياة إلى البدن الميت، وعجز الخلائق من الأطباء عما هو أقل من ذلك درجات كثيرة. إن التعديل على الطبائع وإنكار ما خرج منها باطل، وإن للعالم خالقا ومدبرا لا يتعذر عليه إحياء ميت، ولا إبداع خارجه، ولا إزالة عدمه. ودل بإظهار ذلك له ولأجله وبدعائه وعلى يده وحال حاجته ما يدل على صدقه على أنه محق فيما يدعيه من رسالته وبالله التوفيق. وأما المصطفى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبة وعزته، فإنه كان أكثر الرسل آيات، ذكر بعض أهل العلم أن أعلام نبوته تبلغ ألفا. فأما العلم الذي اقترن بدعوته ولم يزل تزايد أيام حياته، ودام في أمته بعد وفاته، فهو القرآن المعجز المبين، وحبل الله المتين الذي هو كما وصفه به وأنزله، فقال: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد {. وقال: {إنه لقرآن حكيم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، تنزل من رب العالمين {. وقال: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ {. وقال: {إن هذا لهو القصص الحق {. وقال: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه، واتقوا لعلكم ترحمون {. وقال: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة {. وقال عز وجل: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا {, فأبان جل ثناؤه أنه انزله على وصف مباين لأوصاف كلام بشر، لأنه منظوم وليس بمنثور، نظمه ليس نظم الرسائل ولا نظم الخطب ولا نظم الأشعار، ولا هو كأسماع الكهان. وأعلمه أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله ثم أمره أن يتحداهم على الإتيان به،

وإن ادعوا أنهم يقدرون عليه أو ظنوه. فقال: {قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات {. ثم نقصهم تسعا، فقال: {قل فأتوا بسورة مثله {. فكان من الأمر ما يصفه غير أن من قبل ذلك دلالة: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان غير مدفوع عند التوافق والتحالف عن الحصافه والمانه، وقوة العقل والرأي من كان بهذه المنزلة، ومع ذلك قد انتصب لدعوة الناس إلى دينه، وذكر لهم أنه رسول الله. وبلع عن ميله إلى إظهار دينه وحرصه على إدخال الناس في مثله، أن يقاتل ويجاهد ويعاني إلا وابد ويكابد الشدائد، ولم يكن أن يقول للناس ايتوا بسورة من مثلة ما جئتكم به من القرآن، ولن تستطيعوه، فإن أتيتم به فأنا كاذب، وهو يعلم من نفسه أن القرآن لم ينزل عليه وهو الذي تولى وضعه ويعلم أولا ما من أن يكون في قوله من يعارضه وينتتظم له من الكلام، أن صرف إليه همه مثل الذي انتظم له، وإن ذلك إن كان يطلب دعوته وانتفض أمره، وكان أحسن أحواله أن سومح فاستحى، وسوهل فاستبقى أن يصر بين الناس في الكذب آية، ولم يعلم له بعد ذلك عند أحد رأيه، فهذا إلى أن يذكر ما بعده دليل قاطع على أنه لم يقل للعرب إيتوا بمثله إن استطعتموه ولن تستطيعوا إلا وهو واثق متحقق أنهم لا يستطيعون، وليس يجوز أن يكون هذا اليقين وقع له من قبل نفسه، فصح أنه إنما وقع له من قبل ربه الذي أوحى إليه به موثق أجره وبالله التوفيق. وأما ما بعد هذا فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إثنوا بسورة من مثله إن كنتم صادقين فطالت المهلة والنظرة لهم في ذلك ولو أثرت الوقائع والحرب بينه وبينهم فقتلت صناديدهم وسيبت ذراريهم ونساؤهم وانتهبت أموالهم، ولم يتعرض أحد لمعارضته، فلو قدروا عليها فاتدوا بها أنفسهم وأولادهم واهليهم وأموالهم، وكان الإسم في ذلك قريبا منهلا عليه، إذا كانوا أهل لسان وفصاحة وشعر وخطابة، فلو لم يأتوا بذلك ولا ادعوه، صح أنهم كانوا عاجزين عنده في ظهور عجزهم عنه بيان أنهم في العجز مثلهم، إذ كان بشراً مثلهم، لسانه لسانهم وعاداته عاداتهم، وطباعه طباعهم، وزمانه زمانهم، وإن كان ذلك وقد جاء بالقرآن وجب القطع بأنه من عند الله لا من عنده وبالله التوفيق.

فإن قيل: فإن مسيلمة قد ادعى أن يأتي بمثل هذا القرآن، وقال: لقد أنعم الله على الحبلى إذا خرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشاء، وقال: يا ضفدع نقي كم تنقين فلا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين، وقال: الفيل وما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب طويل، وشفر وثيل، وإن ذلك من خلق لقليل، وعارض سورة الكوثر فقال: إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر، إن عدوك هو الكافر. فالجواب: إن كل ما جاء به مسيلمة فلا يعدو أن يكون بعضه محاكاة وسرقة وبعضه كأساجيع الكهان وأراجيز الأعراب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما هو أحسن منها لفظاً وأقوم معنى وأبين فائدة، ثم لم يقل له العرب ها أنا محداث على الآثات بمثل القرآن، ويزعم أن الجن والإنس لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لا يقدرون عليه، ثم قد جئت بمثله مفترى أنه ليس من عند الله وذلك قوله عليه السلام: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب). وقوله: (والله، لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، وثبت الأقدام أن لاقينا). وقوله: (اللهم إن العيش عيش الآخرة، فأرهم الأنصار والماجرة). وقوله: (تعس عبد الدنيا وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط سخط وتعس وانتكس، وان شيك فلا انتقش). ولم يدع أحد من العرب أن شيئا من هذا يشبه القرآن وإن فيه كثيرا، لقوله: إن أحداً لا يقدر على الإتيان بمثله. وقد جاء أن سيف بن ذي يزن، لما ظهر على الحبشة وقصده عظماء قريش بالتهنئة، وكان رأسهم عبد المطلب خلا سيف به وبشره بالنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا ولد مولود

بتهامه، غلام بين كتفيه شامة، كانت له الأمامة، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة، وأنه سأله أ، يوضح له قوله، فقال: والبيت ذي الحجب، والعلامات ذي النصب، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب. وما زالت العرب تسجع وتزجر، فما فطل عنه أحد منهم أنه ادعى أنه يشبه القرآن أسجاعها وأراجيزها، ولو علموا أنه ذلك لا تبدروا إلى المخاصمة والمعارضة، فأنهم كانوا لما قال عز وجل: {وتنذر به قوماً لداً}.وقال: {بل هم قوم خصمون}. فلما لم يقل أحد منهم علمنا أنها غفلت فرق ما بين القرآن والبين الاسجاع والأراجيز، ولذلك ضربت صحبها صفحا ولم يشتغل بها أصلا، فلذلك أسجاع مسيلمة هذا سبيلها مع ما فيها من المحاكاة والسرقة والهذر، وكل واحد من الحاكي والسارق مستغنه بما يأخذه من أعيان ألفاظ المعارض وأوصافه كلامه على معارضته، وإذا كان كذلك، لم تخلص منه المعارضة، وأثار كل واحد من الفعلين ظاهرة في كلام مسيلمة: فأما المحاكاة، فإنه يحاكي نحو قوله عز وجل: {والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى}. وأما السرقة: فإنه أخذ قوله: (لقد أنعم الله) من قوله الله عز وجل: {لقد من الله}، وقوله: (وإذ يقول للذي أنعم الله)، وأخذ قوله: (إذا خرج منها نسمة)، من قوله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم}، وأخذ قوله: (تسعى) من قوله عز وجل: {فإذا هي حية تسعى}، وأخذ جملة ذلك من قوله عز وجل: {(ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} فسرق المعنى كما سرق اللفظ. ثم قوله: (من بين صفاق وحشا) ولأن الولد لا يكون من بين الصفاق والحشا، وإنما يثكون في الرحم، والرحم من الحشا. وقوله: (لقد أنعم الله عىل الحبلى إذ اخرج منها نسمة تسعى) مع ذلك كلام مجيد لأن أنعام الله تعالى على الحبلى إنما هو بتقويته إياها على الحمل وتخليصها إذا جاء وقت الولادة

من غير بأس، وأما ما عدا هذا فإنه وإن كان إنعاما عليها، فليس ذلك من حيث أنها حبلى، والإنعام على أن المولودين بالولد أكبر منه على الأم، لأن الولد إليه ينسب، وبه يعرف، وعليه مؤونته وإليه دعوته. وقوله: (الفيل ما الفيثل وما أدراك ما الفيل) محاكاة لقوله: {القارعة ما القارعة، وما أدراك ما القارعة}. والمحاكاة قريبة المعنى من السرقة، وقد يحاكي الشاعر من ليس بشاعر، فيستوي له ذلك، ولو أراد أن يقول بيت شعر من ذي قبل لما قدر عليه. وقوله: (ذنب طويل وشعر وتيل) من جملة الاسجاع التي قل أحد أن يعجز عن مثله. فإن كان ذلك كالقرآن، فالاسجاع كلها كالقرآن، ومهما بطل أن يكون ما قيل، هذا الكلام معارضة، وثبت أنه محاكاة وسرقة، فقد بطل الاعتداد به. ولما ثبت لما بعده على الإنفراد حكم، لأن أكثر ما فيه أن يكون كمعارضة بعض السورة، وتلك مما لم يقع التحدي عليها، وهذا مع ما في قوله: (له ذنب طويل) من الخلف، لأن ذنب الفيل ليس بالقياس على مقادير أعضائه وجوارحه طويلا، ولا هو مما ينبغي أن يشار إليه إذا وصف خلقه، لأنه لا فرق فيه بينه وبين البعير، وإنما يقع تمييزه من غيره بالخرطوم والنابين والرأس والأذنين وعظم الجثة، وأكبار المفاصل حتى لا تلس للوقوع بالأرض، وإن وقع لم يقدر على القام، فهذه خصائصه. ووجدنا قد قال: (ما أدراك ما الفيل) فلما أخذ فيث وصفه لم يعرفه بما استحق تعريفه، فدلنا ذلك على ركاكته وغباوته. وأما قوله: (يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الشراب تمنعين ولا الماء تدركين) فإنه أيضا من ركيك الكلام، المضاهي لترقيص نساء الأعراب وأولادهن من نحو قول إحداهن أشبه أيا أمك وأشبه حمل، ولا تكونن كلهوف، كل يصيح في مضجعة، قد انحدل وأرق إلى الخيرات وأربأ في الحيل، وعنه هقول من ربيب أباها فقال: وابناه، وابن لليل ليس سروب الفيل يضرب بالذيل كمقرن الحبل فإن كان هذا القول من مسيلمة معارضة القرآن، فكل واحد من كلام هاتين المرأتين معارضة وإلا فليعلم أن ليس كل سجع وكل كلام منقطع كالقرآن والله حسبه.

فصل ونقول في الفرق بين فصول القرآن وبين هذه المتقطعات أن الاسجاع وقوله في الأشعار يتحرى لها الألفاظ وجعل المعاني تابعة لها سيف بن ذي يزن لم يقل: إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب وترك أن يقول لجده حقا لا لمراعاة اللفظ، وليزدوج آخر كلامه بأدلة، وإلا فليس في العادات أن يقول قائل: إن هذا هكذا غير كذب، وإنما يقول حقا أو صدقا، كما قال عز وجل: {فورب السماء والأرض إنه لحق}. وجرى النبي صلى الله عليه وسلم هذه العادة لما قصد السجع، فقال: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب). ولم يقل أنا النبي حقا، قال الله عز وجل: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا} لأن ذلك كان لا يزدوج مع الذي كان في نفسه أن يقوله من قوله: (أنا ابن عبد المطلب) ويجري الاسجاع إتفاق حروف المقاطع نحو ياء وميم وجيم. وعلى هذا عادة الشعراء ويتوفى فيهما معاً تبيان للفضل والبيت والبيت في الطول والقصر، وليس القرآن كذلك، لأن مقاطع آياته لم تبن على استواء الحروف ولا آياته على التساوي، فعلم بذلك أن المعاني فيها بحق المقصودة، والألفاظ تحتها لم تشبه ما تشبه الاسجاع والأشعار، من تخالف الحروف في مقاطعها، ولا طول آية وقصر التي تحتها. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سجع فقال: (أنا النبي لا كذب) اقتصر بعده، على أن قال: (أنا ابن عبد المطلب) ولم يقل: (أنا ابن عبد الله بن عبد المطلب)، وإن كان كذلك بالحقيقة، لأنه لو قال هذا لزلزلت بهجة السجع وحسن النظام عن هذا الكلام. وقد دخل هذا المعنى أكثر آيات القرآن فلم يسوءها ولم يعرضها لأن تمجها الأسماع وتنبوا عنها القلوب. فقيل: {الحمخد لله رب العالمين}. ثم قيل: {الرحمن الرحيم}. وذلك كلمتان، والذي قبله ثلاث كلمات ومقطعها مختلف، ثم قيل بعدها هذا: {إهدنا الصراط المستقيم} وهي ثلاث كلمات ومقطعها الميم، وقيل بعدها: {صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين آمين} وفي هذه إضعاف

التي قبلها ومقطعها النون، فلم يستنكر ذلك احد سمعه من أهل البلاغة والنظم، ولو كان ذلك في شعر أو سجع لا يستهجن ولم يعترف لصاحبه بأن آياته المتفاوتة قصيدة واحدة، فعلم بهذا أن مبنى آيات القرآن على غير مبنى الاسجاع والقوافي. ومن تأمل كلام مسيلمة على مشاكلته للاسجاع ومباينته آيات القرآن، وكذلك بقصد الهزل، والركيك من اللفظ والغث في المعنى، فيقول: (يا ضفدع نقي كم تنقيثن، لا الشراب تمنعين، ولا الماء تكدرين) فإن هذا من قول يدل على أن اللفظ كان أغلب عليه من قصد المعنى، وإلا فليس في هذا الكلام ما يستحسنه عاقل. وهكذا قال الصديق رضي الله عنه لما سمعه: (إن هذا لم يخرج من إله) أي لم يخرج من عند الرب، فإن الرب حكيم، الحكيم لا يتكلم بما لا يستجاد معناه، ولا يستفاد لفظه وكذلك قوله: (وقد أنعم الله على الحبلى إذا خرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشا) قد عرض له في الهجنة والركاكة ما لا تفرضه له إلا تجريده قصداً للفظ وإعراضه عن المعنى. وكذلك قوله في صفة الفيثل الذي تقدم ذكره، والكشف عما فيه، وإنما عرض له التقصير فيه لإرادته اللفظ وقلة حفله بالمعنى. وآيات القرآن كلها تخل من هذه الصفة، فظهرت بذلك فرق ما بينها وبين غيرها وبالله التوفيق. فإن قيل: أرأيتم لو تحدى العرب عليه من الإتيان بمثل هذا القرآن، أهو مثله فيث النظم دون غيره أو في النظم أو المعاني، فإن كان في النظم والمعاني، فأنتم تعلمون أنه لا إعجاز في المعاني، وإن كان في النظم وجب أن يكون من تكلم بكلام منظوم مثل نظمه أتيا بمثله، وإن كان ذلك الكلام هدراً لا معنى تحته، ولا فائدة فيثه، وفي هذا ما يمنعكم من الطعن فيث كلام مسيلمة لما فيه من اختلاف المعاني، وفساد الأعراض. فالجواب: إن الإعجاز في الفظ القرآن ولكن لا يمنع اللفظ من الإفادة والإجادة، فإن تكلم متكلم بكلام يدل على عرض محتج ومعنى مستقيم منظوم بنظم لا يشبه نظم الشعر ولا نظم الخطب ولا نظم الرسائل ولا الاسجاع، كان معارضاً للقرآن آتيا بمثله، ولكن يكون ذلك أبدا شهادة من الله بذلك حقا، فأما أن نظم هدراً أو ضاع

كلاماً لا معنى تحته، واستوى له من ذلك بقدر سورة من القرآن لم يجز أن يقال أنه عارضه أو جاء بمثله، لأنا وجدنا في الناس من لا يحسن أن يقول بيت شعر. وقد قال قصيدة صاغها هذرا ونظمها من ألفاظ لا معاني تحتها. ورأيت من يخدم الملوك ويصيب الرغائب منهم ولا سبب له عندهم إلا هذا الصنيع، وشاهدته وهو ينشد قصائده التي وصفها وهم يضحكون منه، ولو أراد يقول بيت شعر مستقيما لما قدر عليه، فعلمنا أن الإعراض عن المعاني وإغفالها مما يسهل السبيل إلى التوسع في الألفاظ الفارغة وبالله التوفيق. وأما من زعم أنه عارض سورة الكوثر، فهو أضل من حمار أهله، لأن قوله: {إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك}. وبعض ما بعده كلها أعيانه سورة الكوثر، وما بعضها محاكاة وسرقة، فأنى يكون ذلك معارضة، لولا قلة المعرفة، ويدل على صحة ما قدمنا ذكره خطباء العرب وفصحاؤهم لما سمعوا القرآن استعظموه، فقالوا لمعرفتهم مباينته جميع ضروب كلامهم: (إن هذا إلا سحر يؤثر). كما قالت سافر الأمم للأنبياء لما رأوا عنه أعلامهم ما يباين الموجودات عندها، قالوا هذا سحر مبين. وروى أن الولد بن المغيرة جمع قريشاً فقال لهم، ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: هو شاعر، وقال بعضهم: هو كاهن، فقال الوليد: سمعت قول الشعر فما هو شاعر، وسمعت قول كهانه اليمن فما هو مثله! قالوا: فما تقول أنت؟ فسكت ساعة ثم عبس فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر. وفي رواية أخرى إن الله عز وجل لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير}، قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقرأها والوليد قريب منه يستمع إلى قوله، فلما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوليد يستمع إلى قراءته، أعاد هذه الآية، فقال: حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، في ملكه العليم بخلقه، غافر الذنب لمن تاب من الشرك،

شديد العقاب لمن لا يتوب من الشرك، ذي الطول ذي الغناء عمن لا يوجد ثم وجد نفسصه حين لم يوجده كفار مكة، فقال لا إله إلا هو. فلما سمعها الوليد انطلق حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: (والله لقد سمعت لمحمد كلاماً أنفاً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن أسلفه لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليعلوا أو ما يعلا ثم انصرف إلى منزله. فقالت قريش: قد صبأ الوليد، فوالله لتصبون قريش كلها، وكان يقال له ريحانة قريش. فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه كهيئة الحزين، فقال له الوليد: مالي أراك حزينا؟ فقال: وما يمنعني أن أحزن، وهذه قريش، قد أجمعوا لك نفقة ليعينوك على أمرك، وزعموا أنك إنما رتبت قول محمد لتصيب من فضل طعامهم! فغضب الوليثد وقال: أوليس قد علمت قريش أني من أكثرهم مالاً وولداً، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام، فقام الوليد، وانطلق مع أبي جهل حتى مجلس بني مخزوم فقال: يزعمون أن محمداً كذاب فهل رأيتموه كذب فيكم قط، وكان يسمي قبل النبوة (الأمين)؟ فقالوا: اللهم لا! قال: فتزعمون أنه كاهن! فهل سمعتموه يخبر ما يخبر به الكهنة؟ فقالوا: اللهم لا! فبرأه الله من هذه الثلاثة كلها. ثم قالت له قريش: فما هو يا أبا المغيرة؟ فيكفر ما يقول له: ثم نظر فيما يقول ثم عبس وبسر، فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر. وفي حديث آخر أن عيينة بن ربيعة قال لقريش: خلوا هذا الرجل واجعلوها لي والله لقد سمعت الشعر قرضة وزجره وقول الكهان، فما سمعت مثل قوله، وذلك عنهدما سمعه يقول: {حم}. {السجدة}، ومن أولها إلى أن بلغ: {فإن أعرضوا} فأقسم عليه أن يسمكه ويصد قريشاً، فقال لهم ما قال: فقالوا سحرك يا أبا الوليد!

وهذا كله يبين أنه لم يكن يخفي على العرب أن القرآن هو كالاسجاع ولا هوكاراجيز العرب التي كلها أجلى وأنهى وأفصح وأهيأ من اسجاع مسيلمة، فكيف يقبل من مسيلمة، فكيف يقبل من مسيلمة أنه يدعي معارضة القرآن بشيء لولا قصد الحجاج وإزالة الشبهة عنه صدور المستضعفين لجلب نعمة الله على عباده بالسمع أن يصرفوا إليه ويشغلوه به وبالله التوفيق. والاحتجاج بالقرآن وجه ثالث: وهو أنه كتاب ناقص للعادات من كل وجه، ولأن الناس حين بعث الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كانوا فريقين: معطلين ومبلين. فالمعطلون لم يكونوا يقولون بأمر ولا نهي ولا تحليل ولا تحريم ولا وعد ولا وعيد ولا تسبيح ولا تقديس ولا عبادة قط. والمبلون كانوا متمسكين بالشرائع الموروثة لهم عن أسلافهم، المبدلة وغير المبدلة، ولم يكونوا فيث العبادات ولا الأحكام عن المنهاج الذي نهجه القرآن، والمعطلة من العرب لم يكن تعطيلها إلا تقليداً، ولم يكن لهم من النصر بالحجج وطرق النظر ما كانت لمعطلة الفلاسفة، وكذلك المتدينة منها بنصرانية أو يهودية أو مجوسية ما كانت إلا مقلدة، ولم يكن لها في النظر والحجاج والجدل نصيب. وكان النبي صلى الله عليه وسلم مولوداً بمكة، وبها تربى على عادات أهلها، نشأ لم يجالس النظار ولا حملة الأشعار، إذا لم يكن منهم من يليه أحد ولا أن يحل إلى من كان منهم من غير بلده، فجالسه والتقى به، ولا عرف البحث عن الديانة والخوض عنها من همه ودأبه، وكانه مع هذا الإنفراد لا يكتب. ثم إنه جاءهم بالقرآن المشتمل على الإثبات والتوحيد والتسبيح والتقديس والتحميد والدعاء والاستغفار والتمجيد، وإثبات العبادات على اختلاف وجوهها وإبانة الأحكام في عامة الحوادث على كثرها ويقين أصولها وفروعها، وكانت جملتها مخالفة في أنفسها لماعليه المعطلة، وفي أوصافها وشرطها لا عليه الملة المتدينة، فدل على وجوه الحجاج وأرشد إلى طرق الجدل والخصام، وكان في جموع ذل كله ثلاثة معاني أخذها القرآن كتاب وخبر وفيه تكرير.

وعلى ذلك فقد اشتمل من بيان أحكام الحوادث على ما أفاد بعضها الكفاية ببعضه، وفي بعضها ما يضمنه من المعنى الذي يتوصل به إلى معرفة فيما قصر اللفظ عنه، فلا تخلو حادثة تحدث إلى قيام الساعة عن أن يمكن استدراك حكمها من قبله، ومن وجه فيكون مرجعه إليه ومصدره عنه. ومن علم النظر والاستدلال على ما لا متجاوز عنه ولا زيادة عليه، ولا تكاد العقول تبصر طريقا سواه، والنظار وإن أمنعوا وبالغوا وجاوزوا وصنفوا وقدموا وأخروا، فإن أصل احتجاجهم إليه يرجع، وعليه يقف: ومن علم العبادات على ما أتى بها وهذا إلى وجوهها وأقسامها. ومن علم الآداب والشمائل المحمودة على نحو من علم العبادات والمعاملات أحكام الصروف والجنايات. ومن التسبيح والتقديس والدعاء والتحميد ما لا تبلغه بلاغة البلغاء ويعجز عنه علية الفصحاء. ويضاف إلى هذه الأبواب المواعظ والأمثال والقصص والوعد والوعيد، وما بقي منها إلا اليسير خلا عن العبادة، والتركيز في مواضع كثيرة بالألفاظ مختلفة، والأمر فيها مؤتلف، والقائم به واحد منفرد، فلا يمكن أن يكون استوى ذلك كله له حتى تولى وصعد من تلقاء نفسه، لأن إمكان ذلك مباين للعادات لا يكاد يتفق ذلك لأحد من الناس فيما يحفظ أو يعرف أن جميع هذه ولا سيما على شرطه في الإعادة والتكرير والعبادة عنه كل واحد منهما بعبارات كثيرة، وألفاظ مختلفة في كتاب قدره كقدر القرآن، وجملته كجملته، وفي ذلك ما يدل على أنه إنما جاء به من عند اللطيف الخبير الذي هو على ما يشاء قدير. والآخر أنه ما من باب من هذه الأبواب التي ذكرناها إلا وهو ناقص بها عادة فرق من الفرق التي عددناها، فإنه بما جاء به من الشرائع والأذكار والدعوات نقص عادة العرب، وخالف طريقة عامة المعطلة، فلا يمكن أن يكون أخذ عنههم ما لم يكن عنهدهم. وأما أهل الملك فقد خالفهم أيضا، لأنه جاء بغير ما كانوا عليه من العبادات والأحكام وكذبهم في كثير مما كانوا عليه يدعونه دينا وكذبا بالله عز وجل، ولعنهم وكفرهم وضللهم وقتلهم وغنهم أموالهم وسبى ذراريهم ونساءهم وضرب الجزية على الذين سالمهم، وأنذر بالنار والعذاب الدائم من مات منهم، ولم يكن أن يكون أحد من يخالف دينهم عنهم.

وأما ما يوافق قولهم، فلو كان أخذه عنهم لم يخف ذلك عليهم ولو لم يعفوا عليه في أول الأمر، فقد كانوا يدركونه إذا غلبت يده وظهر أمره ثم كانوا لا يمكنونه عليه، بل يفشونه ويذيعونه حرصاً عليه متتابعين فيه، ولما ذهب علم ذلك على النجاشي الذي كان أصحابه يلحون إليه وهو يومئذ ملك النصرانية، وقد جاءهم بنسخ أحكامها وتبديل شرائعها وتكذيب أكثر الدائنين بها مما كانوا يقولونه في عيسى صلوات الله عليه. ولما لم يقدر أحد من اليهود والنصارى والمجوس على أن يضيف إليه شيئا مما ذكرت، وإنما قالت العرب عند تخبرها في الأمر، إنما يعلمه بشر، فليشتبه إلى الأخذ عن أعجمخي لا يحسن العربية، وهو عندي لا يحسن الأعجمية، حتى رد الله جل ثناؤه عليها قولها من هذا الوجه فصح أنه لم يأت بالقرآن إلا من عند الله جل ثناءه وبالله التوفيق. والثالث هو ما أشار إلأيه جل ثناؤه بقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا}. منها عما قد كانه، ومنها عما قد يكون في الدنيا وفي الآخرة ولم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم جملة وإنما أتاهم به شيئاً بعد شيء، وقد جرت العادة، بأن الكذاب لا يسلم من الناقضة في كلامه، ولا سيما إذا تشتت أخباره وتخللت بينها أزمان متباعدة، وأحوال متتابعة. فلو كان القرآن وضعا وضعه من تلقاء نفسه، لوجدوا في أخباره من التفاوت ما هو أظهر إمارات الكذب، وأبين ما يميز بين الناس بين الصادق والكاذب، فيقول قائلهم: أما فلان فلا تجري أقواله إلى على نهج واحد، وأما فلان فإنه يقول مرة كذا ومرة كذا، أي أن الأول محق صادق، والآخر مبطلق مخارق. ولم يوجد ما ذكرنا أنه أمارة الكاذب والكذاب في القرآن، صح أنه إنما جاء به من عند الله عز وجل، وهذا كما قال: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة}. أي الم يقابلوا أحواله وأوصافه بأحوال المتحابين وأوصافهم حتى إذا لم يجدوا شيئا منها له وفيه علموا أنه ليس بمجنون. فإن قيل: أن أخبار القرآن لا تبلغ في الكثرة أن لا يطلق الاحتراز فيها من المناقضة

ولا سيما إذا كان الذي يأتي بما يريد، يتوصل به إلى إثبات الرسالة لنفسه من الله تعالى جده! فالجواب: أنه ما من مخبر كاذب إلا وله في خبره غرض يريد أن يبلغه بخبره، ويكره أن يظهر المخبر كذبه فيه، ثم ليبين في ذلك ما يحتمل وجود التفاوت في كلامه إذا ردده في عدة مجالس في يوم أو أيام متدانية أو متباعدة، وما ذاك إلا أ، التحرز من الناقضة في براعث العقل والتمييز وحب الذكر الجميل، والإشفاء من الإسم الذميم. ومن كان بهذه المنزلة لم يكذب ولم يقتصر على أن يكون كذبه معتدلا دون أن لا يكذب أصلا، وإنما يرضى لنفسه بالكذب من ضعف رأيه وخف وزنه أمامه الذي لومه حاله وعرضه القائم في نفسه حين تكلم تكلما يغرب الحال، واختلف العرض بغير كلامه ولم يجعل بما تقدم له منه. وإذا كان هذا هكذا، مل يكن في إمكان التحفظ من المنا قضة في قدر أخبار القرآن الكريم بما كان يحيل أو يمنع وجود آيات الكذب فيها لو كان الآتي بها صادق وبالله التوفيق. وفيه وجه آخر وهو أن في هذه الآية: أن القرآن لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه التفاوت والتناقض ولكن ليس يها إن ذلك على أي وجه، وجد من حيث أن الآتي به كان لا يقدر على التحفظ فيه أو من وجه سواه فيقول: بل من وجه سواه، وهو أن الله عز وجل إذا رآه مستظهرا بالتحفظ عىل التلبيس، ويتوصل إلى وضع شريعة وصرف الناس على الشرائع الصحيحة إلأيها، حال بينه وبين همه وسلبه الأوصاف الذي يتمكن بها من الاحتراز وعرضه لما يوقعه في المناقضة وحلاه حلية الكذابين، فلما لم يفعل ذلك بمن جاءهم بالقرآن ولا هو أنزل عليه عذابا ولا سلط عليه عدوا بل كتب له النصر عىل من ناوأه أو خالفه وجب أن يعلم أن من جاء بالقرآن من عنده وبالله التوفيق. فصل ومما يدخل في تعظيم قدر القرآن أنه مخصوص: بأنه الدعوه وهو الحجة ولم يكن مثل هذا الرسول قط، إنما كانت تكون لكل واحد منهم دعوة ثم تكون حجة غيرها، وقد

جعل الله تعالى القرآن لرسوله صلى الله عليه وسلم دعوة وحجة، إلا أنه دعوة لمعاينة حجة لألفاظه ونظمه، وحسب الدعوة شرفا أن تكون الحجة نفسها، وحسب الحجة قوة أن لا تتميز الدعوة عنها. ومن خصائص القرآن ان الله تعالى جعل معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم القيامة، وذلك لنفاذ عودته إلى يوم القيامة. وأما سائر الرسل فكانت إيمانهم تبقى قدر ما تلزم بها الحجة .. لا يوجد منها إلا ذكرها وبناؤها. وهذا مما أكرم الله بها نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم أن له عليه السلام وراء القرآن من الآيات الباهرة إجابة الشجرة إياها لما دعاها، وتكليم الذراع المسمومة إياه، وازدياد الطعام لأجله حتى أصاب منه بأس عظيم، وخروج الماء من بين أصابعه في المخضب حتى توضأ منه ناس كثير، وجبر الجذع وظهور صدفة في معينات كثيرة أخبر عنهها وغير ذلك مما قد ذكر ودون. وفيث الواجد منها كفاية، غير أن الله عز وجل لما جمخع له من أمرين: أحدهما بعثة إلى الإنس والجن عامة، والآخر ختم النبوة به، ظاهر له بين الحجج حتى شذت واحدة عنه فريق بلغتهم أخرى، وإن لم تنجع واحدة نجعت الأخرى، وإن درست على الأيام واحدة بيقيت أخرى، ولله في كل حال الحجة البالغة، ولله الحمد على نظره ورحمته لهم كما تستحقه. ذكر الكهانة قال الله عز وجل: {إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر، قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكرون}. فإن قال قائل: ما الدليل على أن نبيكم لم يكن كاهنا؟ أرأيتم لو قيل لكم: أن الكهانة كانت فاشية في العرب وتحاكمهم إلى ظاهرا وقد علم ان الجن تقدر من الصناعات ما لا يقدر عليه الإنس، وقد وصفهم الله عز وجل بذلك، فقال في قصة سليمان

عليه السلام: {ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك}. وقال: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفانه كالجواب وقدور راسيات}. وجاء في الأخبار أنهم كانهوا يعملون له في البحر ويبنون البنايات العظيمة التي لا يبني الناس مثلها، فلا يمكن أن تكون قوتهم على نظم الكلام كقوتهم على سائر الأعمال مع ما كان يذكره كل شاعر من كبار شعاريهم، من أن له تابعة من الجن تلقيه وتعينه، وذلك موجود في أشعارهم، وقد ذكروه واعترفوا به بل تبجحوا وافتخروا. فيكون هذا القرآن من نظم الجن ومن نظم تابعة بينكم، يعنه يأن يكون وحياً إلأيه على لسان الملك، ويكون القتال الذي ينسبونه إلى الملائكة واقعاً من قبل الجن، وأن يكون مجيء الشجرة لما دعاها من قبل الجن إياها، وزجرهم إليه لها، وأن يكون حنين الجذع صوت جنى عنده، لا صوته بالحقيقة، وكذلك كلام الذراع، أن تكون اخباره عن كثير من المغيبات لأنباء الجنه بذلك، فيكون جميع أمره كهانة لا نبوة! فالجواب: -وبالله التوفيق- أن هذا باطل، والنبي صلى الله عليه وسلم أمرا وأبين حالاً والشواهد على نبوته وصدق دعوته أكثر وأبهر من أن تسوغ هذه المعارضة لأحد في أمره. فأما ما يختص بالإبانة على أنه لم يكن كاهناً فعدة أشياء منها يبرأ من الكهانة، فقال فيما قرأه على الناس حاكياً عن الله في وصف القرآن {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزل من رب العالمين}. وقال: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} فلو كان يأخذ من الشياطين، ثم يسبهم ويشتمهم ويغيبهم ويكذبهم وينسب ما يغيبونه ويمدونه إلى غيرهم من غير أن يريد بذلك سرتاً عليهم وصاينة لهم عن مكروه يخافه عليهم من إظهار أمرهم لما سألوه، ولكان أقل ما يعاملونه به إن لم يضروه أن يهجروه.

ألا ترى أن واحداً من الناس إذا كان يتلقى عن أحد علما مستفيد به في الناس ذكرا أو مالا أو جاها ثم ترك إلى أن ينسبه إليه، لا لغرض سوى الترفع أن يقال: أنه يأخذ عن قلان وينسبه إلى ضده ويخالفه وصار مع ذلك إلى سبه وشتمه وتكذيبه من غير ضرورة إليه، أو عذر يعرف له فيه، كان من أقل ما يعامله به إذا عرف ما يكون منه أن يقطع عنه مادته ويرفض في إرفاده عادته دون أن يتحمل لأجله المشاق والكلف في تحصيل حاجته ثم يعصمها عليه مع ما يعرفه من رفعة عنه، وإساءة القول فيه. وإذا كان كذلك ثم لم ينقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم ببراءته من الجن وتكذيبه مسترقة السمع منهم، وذمهم إياهم وتسميتهم بأقبح الأسماء وهو الشياطين، علم ما كان يأتيه، ولقدرت الشياطين على الإضرار به، دل ذلك على أن العلم إنما كان يأتيه من الله تعالى على لسان الملك، دون إن كان شيطان يلقي إليه شيئا، أو يسترق لأجله سمعا، منها: أن نبينا صلى الله عليه وسلم ذكر للناس أن الكهانة قد أبطلت ورفعت، وأن الجن قد حيل بينهم وبين خبر السماء، فقال فيما أوحى الله إليه من قول الجن: {وإنا لمنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً، وشهباً وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} وذكر أن فيما أنزل عليه: {إنا زينا السماء الدينا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الى الملأ الأعلى، ويقذفون من كل جانب دحوراً ولهم عذاب واصب ألا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب لاقب}. قوله عز وجل: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين}. فلو كان ما يقوله إنما يسمعه من مسترقة السمع وكان الإستراق مجالة، والكهانة حالها الكذب وسائر الكهان، ويكون تابع كل كاهن لصاحبه، إنما يأتي محمد أميا فلان، وإنه واحد منكم، ولأخبر الكهان بذلك للناس ليتمكنوا من كهانتهم، كما كانوا متمكنين منها قبل. فلما اسكتوا وبطل أمرهم وانقطع التواقع إليهم لعد العلم الذي كان يوجد فيما مضى

عندهم ثبت أن الكهانه إنما عجزوا عن الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يدعوا أنه من طبقتهم، وواحد من حلتهم، لأنه لم يكن منهم، وكان صادقاً في قوله: أن الجنهة حجبوا عن السماء، وبطلت الكهانة وجاءت النبوة، ولولا ذلك لقالوا: ما ذكرنا أنهم لم يقولوه وزادوا على ذلك أنهم كانوا يشار كونه فيث مخبراته شياطينهم، يأتونهم بمثل ما كان يأتيه به شيطانهه، لو كان منهم، فكان يظهر بذلك أن الجن لم يحجبوا عن السماء، وإن الكهانة لم تبطل وسيبين للناس أنه منهم ومثلهم. وفي انقطاع الكهانة وبطلانه امداد الكهان ما دل ان النبي صلى الله عليه وسلم كان صادقا في جميع ما قال، وأن العلم كان يأتيه من عند الله عىل لسان الملك، ولم يكن للجن إليه سبيل. ومنها أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد ثبت له أعلام لا يمكن أضافتها إلى الجن، نحو الماء ينبع من بين أصابعه فيث المحصب حتى توضأ من ثمانون رجلا. والشتاء التي أكل منها سباع ماية رجل واكثر، وبقى الطعام مع ذلك بحاله، ونحو اشتقاق القمر وغير ذلك مما لا يمكن أن يكون للجن فيه عمل. فيثبت بهذه الأعلام صدقه، ولم يجز معها ان يضاف إليها الكهانة أو هو قديرا منها، لأنه لو كان كاذبا في البراء بينها لما أيده الله تعالى بهذه المعجزات، وفي تأييده إياه بها، وجوب حكم للصدق والأمانة له، فصح أن الكفاية عنده مدفوعة والنبوة ثابتة وبالله التوفيق. ومنها أن استراق السمع خيانة ونجس، وإفشاء ما يجري في الملأ من غير أن يأذن الله تعالى فيه خيانة، كل ذلك فسق ومعصية، فصح أن الشياطين الذين منهم يقع هذا يطرأ على شياطين الإنس الذي تقع منهم السرقات وإفشاء الأسرار وهتك الحرمات. ومعلوم ان هؤلاء إنما يسألون أمثالهم من أسرار الناس، ولا يسألون الصلحاء والبررة والأتقياء ولا يخالطونهم ولا يصحبونهم. فدل ذلك على أن أمثالهم من الجنه إنم ايساكنون من الإنس الشرار والمردة وأهل الخبث والخلاعة، دون الأخيار وذوي الصلاح والأمانة والعفة. وقد علم أن نبينا صلى الله عليه وسلم، كان أوفى الناس نفساً وأحمدهم شمائل، وأرضاهم انحاء ومذاهب، وأصدقهم لساناً وأبينهم أمانة. كذلك كان قبل النبوة، وكان يدعى بينهم

الأمين، ثم ازداد فيها حمدا وفضلا، فكان أبعد الناس من أن تؤاتيه مسترقة السمع من الجن، أو تسالمه أو تصحبه. فثبت من هذا الوجه أيضا بعده عن الكهانة، وهذا هو المعنى الذي أشار الله تعالى إليه بقوله: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون}. وبالله التوفيق. ومنها أن أمره لو كان من قبل الكهانة لم يخل الجني الذي كان يأتيه من أن يكون مؤمنا أو كافرا، فإن كان كافراً استحال أن يأتيه بغرض الإيمان، وعبادة الرب ويحمد الكفر، وقتال جميع طبقات الكفار. فإن كان مؤمنا استحال أن يقول له وهو ليس بنبي نبياً، وادعى أن الله تعالى أوحى إليك ونباك، لأن من أمر بهذا غيره، أو رضي به كفر! فكيف إذا ظاهره على ذلك بأشياء تشبه في ظواهرها المعجزات ليحيل بها الناس سرفه نحو الحنين عند الجميع، ليرى الناس أن ذلك حنين الجزع، أو قوله عند الذراع: أني مسمومة، ليتوصل القول له ذلك إلى أن يدعي الذراع كلمته. وإذا كان كذلك، صح أن أمره لم يكن من قبل الكهانة، ولا علمه كان من وجهة مسترقة السمع، فإن ذلك لو كان لم يخل الجني الذي جاء به موسى وعيسى عليهما السلام، وتبرئتهما من الكهانة، فليقل في نبينا صلى الله عليه وسلم قوله فيهما، لأن الذي جاء به كان نظير الذي جاء به موسى وعيسى، أنه لا نظير كهانة الكهان. وإن كان يزعم أن موسى وعيسى كاهنان كذبتهما المعجزات التي آتياها ما لا يجوز ان يكون للجن فيه صنع بوجه من الوجوه نحو انقلاب العصا حية وانقلاب النيل دماً ثم

عودة ماء الطمس على أموال قوم فرعونه كانفلاق البحر، وظهور طرق يابسة فيها بضربة واحدة، وحياة الميت، انقلاب الطين طائراً حياً، وبرء الأكمه والأبرص، فإن هذه أمور لا تمكن إلا من الله جل ثناؤه، فإذا ثبت بها نبوة موسى وعيسى عليهما السالم، وكانت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم مشاكلة لدعوتهما، ثبت أن أمره لم يكن من ناحية الجن كما لم يكن أمرهما من ناحيتهم والله أعلم. ويؤكد هذا أن الكهنة ما كانت لهم دعوة مستجابة في أحوال الضرورات العارضة للناس، وقد كان منها لنبينا صلى الله عليه وسلم ما كان للأنبياء عليهم السلام مثله. فدل ذلك على أنه كان نبياً ولم يكن كاهناً وبالله التوفيق. فصل فأما قول ما قال: يجوز أن يكون تابعه محمد وأولياؤه من الجن، هم الذين قاتلوا المشركين ببدر، دون أن يكون الله تعالى أمده بجند من السماء لأجل النبوة! فالجواب: أن هذا لو كان هكذا لوجب ان يقاتل توابع المشركين وأولياؤهم توابع النبي صلى الله عليه وسلم وحزبه، وإن كانت فعلت هذا، فهلا وجد في المسلمين من قتلى الجنه مثل ما وجد في المشركين من قتلى غير الإنس، فقد كانه الكافر يقع بالأرض قبلا، ولا يرى قاتله، وترى أبدان المشركين طعنات لا تشبه طعنات بني آدم، ولم ير بأحد من المسلمين من مثل هذا شيء، فهذا يبين ان مدد المسلمين لم يكن إلا الملائكة .. التي لا يجوز أن تبصر إلا أولياء الله بأمر الله، وبالله التوفيق. وأما الشجرة التي دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلت تجر الأرض حتى وقعت بين يديه، لا يخلو من أن يكون فعلها والأمال بها من الجنة أو فعلا لله جل ثناؤه غير منضاف إلى أحد سواه، فإن كان فعلا لله جل ثناؤه ولا يضاف إلى أحد من خلقة منه شيء، فهذا ما قلنا، وإن كان من قبل الجن، فالدلالة به على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم قائمة، لأن ذلك يدخل في باب تسخير الجن له كما سخروا لسليمان عليه السلام وذلك أن من المعلوم الذي لا يلبس أن الجنه لم تكن تعمل لأحد من الكهنة عملا، وما كانت تريد على أن تخبرها ببعض الحساب، وما مضى من الكاتبات.

فأما ما جاوز ذلك فلا، وما كان العمل منها لسليمان عليه السلام تسخيراً من الله عز وجل إياها له. فإن كانت الجن تصحب صلى الله عليه وسلم في وسفره وانفراده بنفسه، واجتماعه مع إخوانه، وحين يساو به أو يرد أن يقضي لنفسه حاجة، أو يقي على أحد برهانا ودلالة جتى أن دعا الشجرة قامتها وأحضرتها إلى غير ذلك ما أضافه الطاغون إلى الجن. فقد كانت إذا مسخرة له وتسخيرها لأحد من الإنس خلاف العادة. ولم يكن فيما مضى إلا لنبي، فهو إذاً نبي. وأيضا فلو كانت جن تفعل ذلك موالاة للنبي صلى الله عليه وسلم، وميلا إليه بطبعها، لعلمت جنه آخرون لمخالفته مثلها منها إياها وميلا إليها بطبعها، ألا ترى أن القتال لما وقع بينه (وبين) قريش أعانه من الموافقين من أعانه، وأعانت قريشاً ايضاً من مواقفها من أعانها فهكذا كان ينبغي أن تعمل الجن، فإذا أعانته جن بما يكون له من المشركين أعانت المشركين جن مخالفون له وموافقون لهم مثله، كيلا يجد إني الاحتجاج عليهم سبيلا، ولما لم يكن ذلك، علم أن ما كان من هذه الأمور، فلم يكن للجن فيها عمل وبالله التوفيق. وأيضا فإن قالوا: علمت النبي صلى الله عليه وسلم بعمل لا يقدر الإنس على مثله، ليتوصل بذلك إلى دعوى أنه نبي، كان أقل ما يقدر عليه جن آخرون، أن يخبروا الذين كانوا يأتونهم من الكهان بذلك فتدوم الكهانة، ويعلم الناس من قبل الكهان ما يظهر للناس من الأمور المخالفة للعادة، فهو من قبل الجن، ولما لم يقدروا على ذلك، علم أنه لم يكن للجن إليه سبيل وبالله التوفيق. وأيضا فإن الشاطين أن قدروا على قلع الشجرة التي لا يقدر الآدمي على قلعها فلا يقدر على إعادتها وركزها وإعلامها حتى تعود في الحال كما كانت، فإن الآدميين قد يتعاونون على القلع أيضا ثم لا يقدرون على أن يعيدوها راسخة ثابتة في الحال كما كانت، والحديث الذي روى فيه دعاء النبوة وإقبالها روى فيه أيضا: أنه لما قضى حاجته أمرها أن تعود فعادت إلى مكانها كما كانت لا يناز منها شيء، فثبت أن ذلك لم يكن من قبل الجنه، وإنما كان من الله الذي لا يعجزه شيء وبالله التوفيق. وأيضا فإن الأخبار ما دل على أن أمر الشجرة لم يكن عمل الجن لأنه روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أمرت أن أتلو القرآن على

الجن، فمن يذهب معي، فسكتوا، ثم الثانية فسكتوا، ثم الثالثة، فقال عبد الله: أنا أذهب معك يا رسول الله. فقال: أنت تذهب معي! فانطلق حتى إذا جاء الحجون عند بعض الشعاب خط علي خطا، فقال لا تجاوزه، ثم مضى إلى الحجون، فانحدروا عليه أمثال الحجل يحدرون الحجارة بأقدامهم، يمشون يقرعون في دفوفهم، كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوة فلا أراه، فقمت فأومأ بيده إلى أن أجلس، فتلى القرآن، فلم يزل صوته مرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فقال له: ما أنت نبي، فقالوا: من يشهد لك؟ قال: هذه الشجرة، تعالي يا شجرة، فجاءت تجر بعروقها الحجارة لها معامع حتى عادت، كما كانت، فلما أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أردت أن تأتيني، قلت: نعم، قال: ما كان لك ذلك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم مدبرين). فثبت بهذه الرواية أن مجيء الشجرة بأمره كان حجة له على خلق كان من الجن يجرونها لم يخف على الجن الآخرين أمرها ولم تكن بذلك حجة عليهم والله أعلم. ذكر القواعد المجيد: وأما القرآن فإنه أكرم وأمجد وأعظم قدراً وأرفع ذكراً من أن ينسب إلى الجن وضعه، أو يتوهم لها قدرة على مثله، بل الجن في العجز عن ذلك كالإنس وأضعف وأعجز، لأن الجن وإن كانت مشاركة للإنس في البيان. فلم يظهر لنا من اقتدارهم على نظم الكلام خطبة، أو رسالة أو شعر أما ظهر لنا اقتدار الإنس، وليس الجن قديماً ولا حديثا قصيدة تؤثر عنهم، ولا كتاب يضاف إليهم ويعرف بهم، فليس إذا كان لهم قوة على أعمال شاقة عنيفة لا تقوى الإنس على مثلها، وجب أن يكون حالهم في البيان مشاكلة كذلك، فإن في الإنس من تشتد قوته وتستحكم جريرته حتى يقدر من الأعمال وحمل الأثقال على ما لا يقدر عله غيره على مثله وما يقرب منه، ثم يكون أبعد الناس من البيان، وأعجزهم عن نظم الكلام. وقد أخبر الله عز وجل عنه الأعمال التي كانت للشياطين تعملها لسليمان صلوات الله عليه، ثم لم يخبر عنه أنه استكتب منهم أحدا واستحفظه، فلو كان عندها من فضل

البيان ما كان عندها من فضل الإختيار على شدائد الأعمال، لكان عليه السالم لا يبخس نفسه حظاً من بلاغتها، كما لم يجنبها إياه من حلاوتها. وفي وقوع السلف من نقلة الأخبار ومبتغى الآثار عنها في هذا الباب دليل على أنه لا حال لهما فيه، فوجب البشر ويقتضي الإشارة والشهر والله أعلم. وأما ما حكى عن شعر العرب من ادعائهم ان نوابغهم يعينونهم على أشعارهم، فليس ذلك على ذلك على معنى أنهم يلقنونهم الشعر، إذا لو كان كذلك، لكان أولئك هم الشعراء، وهؤلاء وداة لهم، مخبرون عنهم، وإنما هو على معنى أنهم يذكرونه، معنى لا يحصرهم من تشبيه أو مدح أو ذم أو شيء قد اعتاض عليهم. فإنه إذا جاز عليها ان تذكر وقد يمكن أن تقع مثل هذه المعونة من الإنسان غير الشاعر للشاعر، فإن وقعت من حتى غير شاعر لا بشأن شاعر لم يبعد وبالله الوفيق. ثم نقول: لو كان القرآن من نظم الجن لم يخل الذي نظمه منهم من أن يكون حكيما أو غير حكم، فإن كان حكيما، فالحكم لا يكذب على الله عز وجل، ولا يصنع كتابا، ثم يقول هذا كتاب الله، ولا يقدر الإنس والجن على مثله، ولا يأمر من ليس بنبي أن يتنبأ ولا يعينه بما يخيل إلى الناس أنه صادق ليقبلوا منه ويأخذوا عنه، فإن لم يكن حكيما فغير الحكيم لا تجري أفعاله وأقواله، لا على الحكمة، والقرآن مبني على أبلغ الحكمة، فيثبت أنه لا يجوز أن يكون من وضع من ليس بحكيم، وإذا بطل الوجهان، وكانت إضافة القرآن إلى الجن لا ينفك منهما، صح أن هذه الإضافة باطلة، لأن مما لا ينفك عنه الباطل باطل. وأيضا فإن تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في أن القرآن كلام الله أنزله عليه على لسان ملك، وادعى أنه كاهن، فإن القرآن من وضع الجن لا فائدة فيه، لمن يكفر به، وإن تكذيبه من هذا الوجه يؤدي إلى تصديقه، وإذا وجب صدقه لم يجز تكذيبه فيكون التكذيب عائداً على نفسه بالإبطال. وبيان ذلك: أن نبينا صلى الله عليه وسلم، أن كان أخذ القرآن عن جني فلم يكن يخلو غيره من الجن من أن يقدروا على مثله أو لا يقدروا، فأ، قدروا فقد كان ينبغي لكفارهم أن يعينوا

إخوانهم من الإنس بالمعارضة بعد أن يجدوا، وقيل: {لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله}. وإذا لم يفعلوا وأسلموا اخوانهم للقتل والسبي، دل ذلك على أنهم عاجزون عن معارضة صاحبهم، وإذا وجب ذلك، صح أن صاحبهم في العجز مثلهم، وإنه لم يأت به من عند نفسه، فعاد الأمر إلى أنه جني أمده الله بمعجزة فشهد على احقاق رجل من الإنس مما يدعيه من رسالة ربه، فيقبل ذلك منه ويعترف بالصدق له، ولا فرق بين أن يرسل الله رسولا، ويقرن برسالته حجة يتولى اقامتها بنفسه، وهي أن يقيض معجزة ليصدقه في أن تصديقه واحد في الحالين. فإن كانوا كما قالوا: فالجن الذي أخذ عنه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بزعمهم، إذا صاحب معجزة! وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضع من القرآن وشهد له بالنبوة والرسالة، فوجب القبول منه وتصديقه، فقد بان تكذيبه وإجراؤه في إعداد الكهان عاد موجباً لتصديقه، ثم الإعتراف له بكل حال. فإن قيل: ما أنكرتم أن توابع الكفار من الجن كانوا قادرين على معارضته ألا أنهم لم يفعلوا الآن الحرب، كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كفار الإنس، وأما الجن فكانوا منه في راحة. قيل: فالجني الذي وضع القرآن بزعمكم للنبي صلى الله عليه وسلم، لما وضعه له؟ أكان غرضه فيه، ولم يكن يرجع اليه من يوجه امره يقع، ولا فائدة! فان قال: هذا وإن كان هكذا، فقد كان يجوز أن يحمله موالاته إياه واختصاصه به على أن يريد تمكينه وإعلاء أمره، فيكيد له أضداده بمثل هذه المكيدة! قيل: فهلا حمخل توابع الكفار موالاتهم إياهم، واختصاص كل واحد منهم بواحد من الكفار على أن يريدوا نصرهم والدفع عنهم وإعانتهم مما كان نازلا بهم بمعارضة يكيدون بها صاحبهم الذي كاد الكفار بالقرآن لأجمل محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا قادرين عليها يزعمك، وما الفضل؟ ذكر الكلام في شهب القذف: وهي من جملة آيات السماء الدالة على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم

الداخلة في قوله عز وجل: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} قال قائل: إن الأصل الذي يذكرونه لبطلان الكهانة ليس بذلك البين لأنكم تزعمون أن الجن كانت تتسمع لخبر السماء، فلما بعث نبيكم حرصت السماء ورصدت الشياطين فمن وجد منهم مسترقاً للسمع رمي نجم فأحرقته، لئلا تنزل به الأرض فيلقيه إلى الناس، فيختلط على النبي أمره، ويرتاب الناس خبره، وان سبب انقضاض الكواكب هذا دون غيره ولا يجوز أن يكون ما يذهبون إليه هذا حقاً، لأن انقضاض الكواكب مذكور في أشعار شعراء الجاهلية الذي سبقوا الإسلام. وقد ذكرته الفلاسفة في كتبهم وزعم الزاعم منهم أن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس، فإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها مكان اللهب الذي يرى غليان ذلك البخار، فإن كانت هناك اجزاء من البخار متجمعة واحترق شيئا فشيئا أرى سهل ذلك اللهب متطاولا، وإن اخترقت دفعة واحدة رئيت كشكل القمر. وهذا يبين أن انقضاض هذه الكواكب ليس لأجل نبوة نبيكم، ولو أن لأجله، لوجب أ، ينقطع بموته، إذ ليس هناك اليوم ما يخشى أن يسابقوا إليه النبي فيسبقونه. وقال قائل: إن كانت السماء خرست في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أفكانت قبل ذلك ضائعة والشياطين للملائكة في علم ما يجري فيها مشاركة، فإنذ كان ذلك جائزاً فهلا سكنت السماء كما سكنتها الملائكة؟ وماذا أثر اخراج ابليس منها؟ فأنكم تزعمون أن الله عز وجل قال له: {فاخرج منها فانك رجيم} أفكانوا بعد هذا القوم متمكنين من السماء يقفون على إخبارهم، ويعلمون ما يجري فيها. وقال قائل: كيف تقتع الثقة بما يصفون من هذا الأمر العظيم، وقد عقل أن الجن الطف حواساً، وأصفى أذهاناً وأثقب إفهاماً، وأقوى على كثير من الأمور من الإنس؟ فكيف يجوز أن يشاهدوا واحداً أو مائة من جنسهم يسترقون السمع، فيقدمون السمع، فيقدمون بالنار ويهلكون، ثم هم على ذلك يعودون لمثل صنعهم، وليس في العادات أن يستنصر عاقل بأمر فيعلمه سبباً للهلاك يقيناً، فيعترض له، فكيف صارت الجن تعقل هذا وتختاره لأنفسها؟

فالجواب: أن أصل الكهانة ما ذكرنا، ولم يكن الكهان يدعون لأنفسهم سبباً غير اختيار الجن إياهم، مما لا يجبرون به غيرهم، وقد عقل أن الجن لا تصل إلى معرفة ما لا يكون في الأرض ولا في الحويل يكون في السماء إلا بان، يخبرهم عنه مخبر، فأما أن يهبط عليهم من السماء من يحدثهم، وأما أن يرتقوا هم إلى السماء فيستمعوا ولما لم يكن يهبط عليه من السماء أحد، دل ذلك على أنهم كانوا ينسبون بالارتقاء إليها إلى معرفة ما يجري فيها، ولا يجوز أن يدخلوا ويتمكنوا فيها، لأنها مكان غيرهم فثبت أنهم لم يكونوا يصلون إلى أكثر من استراق كما وصفه الله تعالى. ثم أن الذي ذكره الله عز وجل في كتابه من أمر الشهب، فجملة القول فيه: أنه ليس فيما يتلوه من كتاب ربنا عز وجل: ان الشياطين ترمي بالكواكب أو بالنجوم وإنما فيه ما يذكره، وهو أنه عز وجل قال حكاية عن الجن: {وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً}. فأخبرت الجن أنه زبد في حراس السماء حتى امتلأت منها ومنهم. وفي ذلك دليل على أنه كان فيها قبل ذلك حراس وشهب معدة معهم. والشهاب في لسان العرب: النار الموقدة، وقال عز وجل: {ولقد زينا السماء الدنهيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} ويجوز أن تكون المصابيح هي الشهب المعدة مع حراس، دون أن يكون المراد بها كواكب السماء لأن المصباح هوالسراج، فلو كانت الكواكب مصابيح لم يكن لتخصيص الشمس بتسميتها سارجا؟ ً معنى. فثبت أن المراد بالمصابيح الشهب المعدة للقذف، وإن تزيين السماء بها هو تزيين ما يلي سكانها منها لا تزيين ما يلينا منها. وقال عز وجل: {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} فمن قرأ بالإضافة والجو فوجهه: أن السماء زينت بمثل زينة الكواكب. وزينة الكواكب النور والإشراق. فكذلك زينت في السماء لأجل الحراسة شعل منيرة مشوقة: كأنها في رأي العين كواكب حساً وكثرة، ولو كان المعنى غير هذا الأشبه أن يقال: أن السماء الدنيا بالكواكب، دل ذلك على أنها زينت بزينتها لأنها أنفسها، وزينتها كما ذكرنا والله أعلم.

ومن قرأ {بزينة الكواكب}، والتنوين والجر، جعل الكواكب تفسيراً للزينة، وذلك ما يدفع ما أوجبته القراءة الأولى، لأن كل نقطة بيضاء هي عند العرب كوكبة. وكذلك من قرأ {بزينة}، فنون الكواكب فنصب، وأراد بزينة جعلنا الكواكب لأنها تصلح أن يكون المراد بالكواكب في هاتين القراءتين الشعل التي أيدت بها الحراس، بل ذلك هو الذي لا ينبغي غيره، لأنه لا يجوز أن يقرأ الآية الواحدة قراءتين متضادتين، فيكون المراد بأحدهما خلاف المراد بالأخرى. وقد بينا أن قرأ بالإضافة والجر فلا تخرج قراءته إلا على أن يراد بها زينا السماء بالزينة التي هي الكواكب. فلم يجز أن يكون المراد بالتنوين والجر، والتنوين والنصب، زينا السماء بالكواكب أنفسها، لأن زينة الكواكب غير الكواكب كما أن زينة كل مزين غيره، ويدل على هذا أن الله عز وجل ذكر السماء ذكرا مطلقاً والكواكب التي يراد بها النجوم هي في الأفلاك خاصة، وليست مثبوته في السماء كلها، فهذا يدل على أن المراد بها الشعل التي هي أشباه الكواكب، وليست بالنجوم. وأما قوله عز وجل: {وحفظاً من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملأ الأعلى} ثم قال: {إلا من خطف الخطفة فأتبعته شهاب ناقب}. فإبان أن القذف إنما هو الشهاب الذي هو النار لا يكون من كواكب الأفلاك، ولم يذكر الله عز وجل في موضع من كتابه أن القذف لا يكون إلا بالشهاب وهو النار، فكان ما ذكرنا مفسراً في عامة الآيات موافقاً لما أحمل في قوله عز وجل: {وإنا لمسنا السماء فدجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً} والله أعلم. ثم أن السلف اختلفوا في أن قذف الشياطين كان مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان ذلك امراً حدث لمبعثه، فروى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عنه ابن عباس رضي الله عنهم قال: (بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه إذا رمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول: يولد عظيم أو يموت عظيم! قال: قال: فإنها لا ترمي لموت أحد ولا لإحيائه، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا

قضي الأمر في السماء سحب العرش ثم سبح أهل السماء وسبح كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، ويسبحوا أهل السماء حملة العرش، فإذا قال ربكم فيخبروهم ويخبر به أهل السماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، ويختطف الجنه فيرمون فما جاءوا به فهو حق، لكنهم يزيدون فيه). قال: قلت للزهري أكان يرمي في الجاهلية؟ قال: نعم! قلت: أفرأيت قوله عز وجل: {وإنا كنا نقعد منها مقاعد السمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} قال: غلطت وشدد أمرها حق بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إن ذلك حدث بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فروى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها سبعاً، فأما الكلمة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، ولم تكن النجوم يرمي بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا الأمر حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي، فأتوه فأخبروه، فقال: (هذا الحدث الذي حدث بالأرض). وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لم تكن قبيلة من الجن إلا ولها مقاعد يستمعون منها، فكان إذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتاً كصوت الحديد ألفتها على الصفا فخروا سجداً فلم يرفعوا رؤوسهم، فإذا نزل قال بعضهم: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وإن كان مما يكون في الأرض يكلموا به، قال: أيكون كذا وكذا، وتسمعه الشياطين فيقولون به على أولوياتهم قد جدوا بالنجوم، فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فإن كانت النجوم التي تهتدونه بها، فهو من أمر الساعة، فإن كانت النجوم لا تعرف، فهو من أمر حدث، فنظر فإذا نجوم لا تعرف، فكفوا. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما كان اليوم الذي نبي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعت الشياطين ورموا بالشهب.

وعن عبد الملك بن سابور قال: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت من الدنو من السماء. وعن أبي كعب رضي الله عنه، قال: لم يرم نجم منذ رفع عيسى حتى نبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بها، فرأت قريش أمراً لم تكن تراه، فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقونه برقابهم، يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف، ففعلت ثقيف من ذلك، فبلغ عبد قابيل بن عمر، فأصفت ثقيف فقال: فلم فعلتم ما أرى؟ قالوا: رمي النجوم فرأيناها تتهافت من السماء، قال: إن إفادة المال بعد ذهابه شديد فلا تعجلوا وانظروا، فإن تكن نجوم تعرف فهو عيد فيأمن الناس، وإن كانت نجوماً لا تعرف، فهو أمر حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف، فأخبروه، فقال: في الأمر مهلة، فهذا ظهور نبي، فما مكثوا إلا يسيراً، حق قدم أبو سفيان على أقواله فجاءه عبد بابل فذكراه أمر النجوم، فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبد الله، يدعي أنه نبي مرسل. قال عبد بابل فعند ذلك رمي بها. وعن نافع بن جبير، قال: كانت الشياطين في الفترة، تستمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب. فهذا القولان من السلف في الظاهر مختلفان، وقد يحتملان التوقيف، فقال: إن الذين قالوا أن الشياطين لم تكن ترمي بالنجوم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رميت، أي لم تكن رمي من جانهب ولا ترمي من جانب. ولعل الإشارة بقوله عز وجل: {ويقذفون من كل جانب دحوراً ولهم عذاب واسب} إلى هذا المعنى، وهو أنهم كانوا يقذفون إلا من بعض الجوانب، فصاروا يقذفون من كل جانب، وكانوا لا يرمون إلا في بعض الأوقات، فصاروا يرمون واصباً، وإنما كانوا من قبل كالمنجسة من الإنس يبلغ واحد منهم حاجته ولا يبلغها غيره، ويسلم واحد ولا يسلم غيره، بل يقيض عليه فيعاقب وينكل به، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم شدد عليهم، وزيد في حفظ السماء، واعدت لهم شهب لم تكن من قبل ليدحضوا عن جميع

جوانب السماء ولا يقعدوا في مقعد من المقاعد التي كانت لهم منها، فصاروا لا يقدرون على سماع شيء مما يجري فيها، إلا أن يختطف أحد منهم بخفة حركته خطفة فيتبعه شهاب ثاقب، قبل أن ينزل إلى الأرض إلى إخوانه فتحرقه فيطلب من فلك الكهانة وخلصت النبوة والرسالة والله أعلم. ومعنى ما يجري في هذا الأخبار من أسماء النجوم ورميها إلى ما هو في رأي الغير كالنجم لأن ذلك الذي فيضيء لونه لون النجوم، وإلا فليس بنجم على الحقيقة، لأن النجوم لا تكون في جميع السماء، وإنما تكون في الأفلاك. وقد أخبر الله عز وجل أن شهب القذف قد ملأت السماء فهذا يدل على أنها ليست بنجوم على الحقيقة، ويدل على هذا أيضاً أن الذي يخر لا يكون كوكباً كالكواكب، ولكنه لا يظهر إلا في حال الانخراز. فيدل ذلك على أنه شعلة يرمى بها من السماء إلى جهة الأرض، فإذا فارقت حد السماء هاوية ظهرت، وإذا اتصلت بالرمي فاحرقته جمدت، ولو كان ذلك كوكبا بالحقيقة لكان مرتباً في مكانه قبل القذف، ويعاد إلى مكانه بعد إحراق من يرمي، وثبت في موضعه، وأيضاً فإن انكدار النجوم وانتشار الكواكب في مواعيد يوم القيامة، فلا يسبقه كما لا يسبقه تكوين الشمس ولا طي السماء وبالله التوفيق. ومعنى ما قيل من أن السماء لم تكن تحرس في قبل هذه الفترة، أي لم تكن تحرس الحراسة الشديدة كما تكون في زمن النبوة إذا بعث نبي وزيد في الحراسة، وأكثر من القذف كان ذلك أنه لبعث ذلك الشيء، فتكون الكهانة الفاشة قبل بعثه منقطعة ذاهبة كمبعثه والله أعلم. وقد تكون الزيادة في الحرس والشهب عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وجه آخر، وهو أن معجزته الناشئة الباقية كانت القرآن، والقرآن من خبر السماء، فلو لم يحرس السماء حتى لا تصل الشياطين اليها ولا سمع ما يجري فيها أصلا لأدى ذلك إلى اختلاف أمر النبوة ولم يقع القرآن من قبل النبي صلى الله عليه وسلم موقع المعجزة. لأن الشياطين كانت تسمع القرآن فينزل به إلى الكهان فيقرأه الكهان على الناس، كما يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم ويزول حكم الحجة، كما تسمع منه لأنه يصير مشاركاً فيه من ليس بنبي، فكان يقرن حجته

بالقرآن واعجازه في حجب الشياطين عن السماء لئلا يسمع احد منهم ما يتلى فيها من القرآن، فيسبق به الملك إلى النزول، ويبلغ الكاهن قبل أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان ذلك بحمد الله ومنه قامت المعجزة ولزمت بها الحجة وبالله التوفيق. وفي هذه الجملة التي ذكرتها ما قطع عنها معارضة من معارضنا بأن الأوائل من الشعراء وغيرهم، ذكربوا انقضاض الكواكب، وإن ذلك يدل على وجود هذا الأمر قبل البعث، وأعياناً عن تكليف الجواب عنهها بغير ما بينا والله أعلم. وأما قول بعض الأوائل أن هذه الشهب سببها الأبخرة، ترتفع من الأرض، فإذا بلغت النار التي دون الفلك احترقت فليس بشيء يلزم الاعتراف به، لأن الذي قاله لم يقله الأعلى أغلب ظنه، وتحسب ما وقع عندنا نظر فيه واجب الوقوف على وجه إن كان له بعد أن كان لا يعرف من السماء ما يعرفه رسل الله صلوات الله عليهم بجهلهم وتكذيبه لهم، وكفره بخالقه ورازقه الذي يتقلب ليله ونهاره في نعمه، ولا غنى به في حال من الأحوال عنه. وليس يجوز لنا أن ندع خبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي قامت الدلائل على صدقه عن خالق الشهب كظن ظنان ولا توهم متوهم. وأيضا فإن هذه الأبخرة تتصاعد من جميع الأرض إذا الشمس تنبسط على جميعها، فكان ينبغي إذا وصلت إلى النار التي قالها هذا القائل وأحرقت بها أن ترى ذلك كهيئة المطبق العالي ما بين الأفق، لأنها لا تنأى عن وجه الأرض النائي الذي يصعد منه في المنظر العظيم، ويدق الجليل الجسيم كالكواكب، بل كان مرئي منه الشيء العظيم المبشر الذي كان لا يخفى أنه لو دنا من وجه الأرض أو قريباً منه، لأن ما يرتفع من وجه الأرض من حين الضحى فيبلغ ما يبلغ، أما في أوائل الليل أو في أوسطه وآخره. فبين أن مسافته في البعد لا تنهي إلى أن يرى المرتفع منه عن أكثر الأرض، والمنتشر المنبسط بعد ذلك في الهواء يحط محطاً، أو جب فيصير بحراً، وكان ينبغي أن يرى ذلك من كل وجه لا يرى منه في جانب ما قيد سهم أو قيد قوس، فإن طال حداً فقدر رمح. وأيضاً فإن العيان يقضي بأن ذلك قذف ومرمي لأن ما يظهر ذلك في السماء، فهو في صورة ما يشاهد من القذافات فيشعل فيه دفعة واحدة، ولكنه في المشاهدة كشيء يبدو

أو يمر مراً طويلا أو قصيرا ثم يقف فهو أشبه بما يرى من قذافات الأرض، فكيف يجوز أن يترك العيان ويجحد بالأوهام والظنون. وأيضا فإن الأبخرة التي تتصاعد عن وجه الأرض، أين كانت إنما اكتسبت اليبس من قبل الشمس، فينبغي إذا انقطعت مجاورة الشمس عنها بمجيء الليل وحالت الأرض بينها أن تعود إلى حالتها الأولى، وترطب برطوبة الهواء، ثم تستحيل إليه وتبلغ النار التي يقولونها وهي حارة يابسة، وإن كان البخار الرطب يبلغ من تأثير الشمس فيه أن تجعله مهيأة للاحتراق ولتؤثر هذا الأثر في الهواء نفسه، فيخترق بالنار المجاورة له بزعمه، أو لتؤثر تلك النار نفسها فيما يجاورها من الهواء وتحرقه، في فساد ذلك فساد ما قاله هذا القائل والله أعلم. ويقال له: أرأيت البخار الحار اليابس إذا احترق بالنار يصير ناراً فلا يمكنه أن يقول أنه يصير رماداً، إلا أن تلك الأبخرة ليست أجزاء من التراب، وإنما هي من قبل الأنداء المركبة في أشياء الأرض، ولا أن يقول أنه يصير شيئاً ما يشير إليه، فإنما ينبغي أن يقول: أنها صارت في طبيعة النار اتحدث بها، فصارت ناراً، فكيف يرى ما يتصل به ويتحد معها. ومعلوم أن تلك ينبغي أنه تكون أعظم وأبسط وأقوى من هذه أضعافاً كثيرة، فكيف صار هذا الجزء اليسير الذي انقلب نارا ترى، والعظيم والكبير الذي انقلب هذا إلأيه واتحد معه لا شيء؟ فإن قيل: أنه يلزمكم من هذا بل ما ألزمتم غيركم لأنه يقال لكم، والجن الذي ترمي تحرق ماذا يصير، فلا يمكنكم أن تقولوا: أنه يصير رماداً، وإن قلتم تصير ناراً، فكيف صار هو وما قذف به النار يرى؟ والنار العظيمة التي من فوق لا ترى؟ فالجواب: أن الله عز وجل أخبر أنه {خلق الجان من مارج من نار}. فقد يجوز إذا ورد عليها نار أقوى منها أن تأكلها وتبطلها، فأما أن هذا يرى، وتلك النار التي يصفونها إن سلمت لهم لا ترى، فلا يلزمنا منه ما يلزم، لأن هذا عندنا من أعلام النبوة، وأعلام النبوة كلها ناقضة للعادات، ظاهرة للإدراكات، خارجة من حكم المغيبات، والله أعلم.

فصل وأما قول من قال: إن كان هذا القذف لأجل النبوة، فلم دام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فجوابه من جوابين: أحدهما دام لدوام النبوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ببطلان الكهانة، وقال: (ليس منها من يكهن) فلو لم تحرس السماء بقدرته لعادت الجن إلى سمعها ولعادت الكهانة ولا يجوز أن تعود بعد ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ببطلانها، ولا قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين، ولم يؤمن أن الكهانة إذا عادت لتباهي النبوة، فإنها إنما كانت ارتفعت لأجلها، فلولا النبوة زالت لما عادت الكهانة، فصح أن الحكمة تقتضي دوام الحراسة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أنه يتوفاه الله تعالى إلى كرامته. والوجه الآخر: أن السماء تحرس بعد وفاته لإقصاء الشياطين عن مشاهدة الملائكة المكرمين سماع كلامهم إذلالا وإهانة، وإن كانت لا تحرس احتياطاُ لما يوحى، إذ كان الوحي قد انقطع، والله أعلم. فصل وأما قول من قال: إن كانت السماء حرست في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أفكانت ضائعة من قبل؟ فجوابه: أنها لم تكن ضائعة بل كانت محروسة، لكن غلط أمرها شددت حراستها بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أنها لو لم تكن محروسة، ولا الشياطين عنهها بالقهر ممنوعة لكان في بيعهم وزرجهم عن الصعود والسمع بالنهي كفاية. وقال الله عز وجل لإبليس: {فاخرج منها فإنك رجيم} وقال: {فاهبط منها فمايكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين}. فمن كان من ذريته أو من جده أو من طبقته فهو مثله، وله من الرجم والزجر ماله،

فإن أغفلوا أو بعضهم التهى، فليس ذلك يلزم ربنا جل ثناؤه بصنعها ولا إهمالها، فما أكثر ما شرع للإنس وأمر ونهى وأباح وحظر ورغب وحدد ونزه وندب ووعد وأوعد، فضلوا عن شرائعه، وتركوا الطاعة في نواهيه وأوامره، ثم لم يعالجهم بالعقوبة، ولم يلجئهم إلى فعل ما يرضيه عنهم ضرورة، ولم يوجب ذلك إضافة التصنيع والإهمال إليه عن اسمه، فلذلك شأن السماء وما جرى فيها، والله أعلم. فصل وأما قول من قال: إن الجن أصفى أذهانا واثقب افهاماً، فكيف يعلم أنها ترصد بالشهب، وتعاين من يحترق من المستمعين منهم، ثم يعود فيجلس تلك المجالس، ويتعرض للإحتراق؟ فجوابه: أن الله عز وجل إذا كان قد قضى على طائفة منها الحرق، لطغيانها وضلالها قيض لها من الدراعي المطمعة في درك المرام المغفلة عن الاختيار ما يقرب عليها بعد الطلب، ويحول بينها وبين سبيل المهرب، ويوردها مواضع حتوفها، فينزل بها قدر الله على رغم أنوفها وبالله التوفيق. وقد ذهب بعض المتكلفين إلى أن نصب الحرس وإعداده الشهب خارق في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما ينسب إلى الأوائل من وضع الكتب في تأويل الشهب فغير موثوق به. فقد جرب المترجمون كثيرا من كلامهم، ونسبت إليهم كتب لم يضعوها، وأشياء لم يقولها، وأما الأشعار فلم يثبت عن الجاهلين فيها شيء من القصائد التي فيها ذكرها، بعضها من نسبت إليه، والأمر في ذلك أبين، وبعضها شعر من المخضرمين الذين جمعوا بين الجاهلية والإسلام ولا يخالف القرآن بوجه من الوجوه، وخصوصا بخبر لا يعرف أصله ولا يعتمد نقله، وبالله التوفيق. ذكر فصول في هبوط الملائكة بالوحي على الأنبياء صلوات الله عليهم: قال قائلون من الطاعنين في النبوءات: أن الإجرام العلوية لا يمكن ولا يجوز أن تنزل إلى الأرض، والأجرام السفلية لا يمكن ولا يجوز أن تعلموا إلى السماء، كالنار التي إذا

تحركت لم يمكن أن تتحرك إلا نحو العلو، والماء والتراب اللذين إذا تحركا لم يتحركا إلا نحو السفل! فالجواب: أن الملائكة أجسام فلا ينكر حركتها في الجهات، لأن ما جازت عليه الحركة نحو جهة، جازت عليه الحركة من كل جهة. فإن قيل أن الملائكة روح مفردة، والأرواح جواهر، ولا ينكر ذلك أحد منكم، وليس إلا جواهر مؤلفة أو يقال لهم: أن كل الجرم العلوي لا ينزل بطبعه فإنه ينزل بالعسير كالجرم السفلي الذي اثبت لم يفك بطبعه، فقد نقلوا بالقسر كلامهم، والحجر يرمى إلى فوق، فلا يخلو من أن يعلو أو يبلغ من العلو ما يبلغ ثم ينزل، فما أنكرت أن يكونه الملك ينزل بالقسر الذي يلحق من الباري جل ثناؤه، وليكون منه في الأرض ما يريد، ثم يرده إلى مكانه. ويقال لهم: أن داعيبكم متفقون على أن النفس عالما من فوق، وقلتم مع هذا أن في كل بدن من أبدان الناس نفسا تجاوره مدة ثم تفارقه، وفي هذا أناله النزول على النفس لمجاورة البدن، فلم جاز أن ينزل الملك ليساكن الناس وقتا ثم يرجع إلى مكانه! ويقال لهم: إذا كانت الملائكة أرواحاً، فهل يخلو حي من روح تجاوره مدة من المدد ثم تفارقه؟ فإ ذا كان وجود الروح في الأرض مستمكناً على هذا الوجه، فما الذي أحال هبوط الأرواح أو الروحانيين إلى الأرض من غير أن يداخل الأبدان ويسكنها، لولا التسرع إلى القضاء بما يدعو إليه الهوى فصل قالوا: إن كان ملك يهبط إلى الأرض على إنسان فيكلمه من حيث يراه، فكيف لا يراه ناس إن كانوا حوله إذ كانوا في قوة البصر مثله؟ فالجواب: أن الله تعالى يخصه بإدراك الملك الذي هو من المدركات بالأبصار في الجملة، ويعجز غيره عن إدراكه كما قد يخص واحداً بإدراك بعض العقولات، ويعجز غيره عن إدراكه. وقد زعمتم أن فيثاغورس كان يسمع أصوات الأفلاك والكواكب إذا تحركت وما سمع أن أحداً سواه سمعها، إلا ما يروى عن نبينا صلى الله عليه وسلم من قوله:

(أطت السماء وحق لها أن تئط) فإذا أخرتم أن تكون الأفلاك والكواكب أصوات عند حركاتها مسموعة، ثم يختص واحد من بين الأولين والآخرين بسماعها، فلم لا أجزتم أن يخص الله تعالى أنبياءه بإدراك الملائكة إذا نزلوا عليهم دون حاضري مجالسهم من الناس تكريماً لهم وتمييزا عن غيرهم. فصل قالوا: زعمتم أن الملك كان ينزل على نبيكم في صورة إنسان، أفكان يكون في تلك الحال ملكاً أو له لساناً؟ فإن قلتم كان يكون إنساناً فالملك إذا لم يهبط على أحد قط. فالجواب: أنه يكون ملكاً لأن التغيير كان يلحق ظاهره دون باطنه، وليس في هذا ما يوجب دخول الشبهة على الناس في تمييز بعضهم بعضاً لأن الملائكة لا تخالط الناس ولا يماشوهم في الأسواق، ولا يجالسونهم في بيوتهم، ولا يصافونهم في مساجدهم، فوقوع العلم لهم بذلك في الجملة تزيح الشك من صدورهم فيمن يرونه، فلا يظنون أنه ملك في صورة بشر والله أعلم. فصل قالوا: إن كان الملك ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان، أفكان هو الذي ينقلب في صورة البشر؟ قيل: كلا، بل الله عز وجل كان يغير صورته، لا يقدر على ذلك أحد سواه كما لا يقدر على خلق الإنسان من التراب، ثم إعادته تراباً، فأما هو جل ثناؤه فلا يعجزه شيء وهو على ما يشاء قدير. فصل قالوا: وكيف كان يعلم الذي ينزل عليه الملك أن الذي يراه ملك، وليس بإنسان؟

قيل: يجوز أن يعلم النبي بها أنه ملك وليس بإنسان، وهكذا القول في موسى عليه السلام حين يسمع النداء، قد يجوز أن يكون علم أن الله تعالى يكلمه ضرورة، ويجوز أن يكون برق بإلهاب النار في شجرة خضراء من غير أن تحرقها، أو تغيرها عن حالتها، وذلك أمر يخالف العادات، إن الله تعالى هو الذي يكلمه، وهذا القول من الملك نفسه، إذا بعث إلى أحد من البشر، قد يجوز أن يعلم أن الله تعالى هو الذي يأمره ويرسله ضرورة، ويجوز أن يعلم ذلك بأنه ينصها الله تعالى فيستدل بها على أنه مبعوث مأمور وبالله التوفيق. فصل قالوا: رويتم أن نبيكم كان يغش عليه عند نزول الوحي عليه، فالمغش عليه لا يدرك شيئا من المحسوسات ولا من المعقولات، فكيف كان يرى الملك ويميزه ويتلقى عنه ما يكلمه به. فصل قد قال بعض العلماء: أن الله تعالى كان يعرفه الوحي في تلك الحال تميزاً له عمن ليس بنبي، فكان ذل إحدى الكرامات والمعجزات، وقد يجوز أن يكون عقله لم يكن فارقه، فإني لا أحفظ فيما جاء الحديث أنه كان يغش عليه، وإنما فيه: إ، هـ كان يثقل وتأخذه البرحاء، فقد يجوز أنه كان يتغير عن حاله المعهود تغيراً شديداً، ولكن العقل لم يكن يفارقه وبالله التوفيق. ذكر فصول في الإيمان بالرسل: إن سأل سائل: عمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقال لا أدري، أكان من البشر أو كان ملكاً أو كان حساً، أيكون مؤمناً به؟ قيل له: أكان القائل هذا لم يسمع أخبار الله تعالى عن محمد بأنه بشر مثل قومه، وأخبار محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، وأخبار الناس عنه، وذكرهم نسبه وشمائله ونعوته، فلا وقف

على شيء مما ذكرنا لم يضره الجهل مجاله شيئا، كما لو عرف بأنه من البشر، ولم يسمع بأنه كان من العرب أو العجم لم يضره ذلك شيئا، وكذلك لو لم يعلم أنه كان شاباً أو شيخاً أو مكياً أو عراقياً لم يضر ذلك إيمانه نبياً وحجته أنه أياً ما كان إنما يظن به، فقد يصلح لأن يكون رسولاً، فلم يوجه الجهل بالحق من ذلك إلى الجهل برسالته ونبوته وفارق ذلك أن تقول: آمنت بالله، ولا لتدري أجسم هو أو غير جسم؟ لأن الجسم لا يجوز أن يكون إلهاً، إذ الجسم هو المؤلف، والمؤلف يقتضي مؤلفاً، وما كان محلاً للأعراض قابلاً للأفعال لم يكن قديماً، ولم يجز أن يكون إلهاً، فلذلك لم يثبت الإيمان بالله مع الشك في أنه جسم أو غير جسم والله أعلم. فصل إن قال قائل: أتقولون أن آمن بالله وحده ثبت له أصل الإيمان، وإنما يحتاج إلى الإيمان برسوله لاستكمال الإيمان، واستيفاء شعبه! قيل له: لا نقول ذلك، بل نقول: إن إيمانه بالله لا يعينه شيئاً ولا يثب له ديناً حتى يؤمن برسله. وحجة ذلك أن الله تعالى نص على أن التفريق بين الله ورسله كفر، لأنه قال: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله، ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا}. فأبان أن الفرق في الإيمان بين الله ورسله كفراً، والفرق بين رسله في الإيمان بهم كفر. فأما إيجاب الكفر بالتوفيق بين رسل الله، فقد ذكرت وجهه، وأما التفريق بن الله ورسله، فإنما كان كفر بالله، لأن الله عز وجل إنما قرض على الناس يعبدونه بما شرع لهم في ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل، ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودة التي أمروا بالتزامها، فنزل ذلك منهم منزلة جحد الصانع، وجحد الصانع، كقولنا فيه من ترك التزام الطاعة، فكان ذلك كفر. فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا بالله}. فأثبت

الإيمان لهم أولا ثم أمرهم بالإيمان بالرسل، فصح أن اسم الإيمان بالإطلاق واجب ولمن آمن بالله وحده. قي: لو دلت هذه الآية على أن اسم الإيمان يجب من غير وجود الإيمان بالرسل لدل على أنه يجب من غير وجود الإيمان بالله تعالى، لأنه كما أمر الذين آمنوا أن يؤمنوا يرسل الله، أمرهم أولا أن يؤمنوا بالله فقال: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله}. أي أجمعوا إلى الإيمان برسوله، فإن الإيمان به غير متقبل منكم إلا أن تضمنوا إليه الإيمان برسوله. وقد بين ذلك بما أتبعه هذه الآية من قوله: {إن الذين يكفرون بالله ورسوله، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا}. فإن في ذلك بيانا أن الفرق بين الله ورسله في الإيمان كفر، وفي ذلك وجود أن يكون معنى الآية ما ذكرنا وبالله التوفيق. فصل فإن سأل سائل: عمن آمن بالله ولم يؤمن برسله أن يكون إيمانه بالله إيماناً ناقصاً يتوقف على ما يصله به من الإيمان برسله، أو يكون فاسداً غير صحيح، فإذا أراد الإيمان بالرسل احتاج إلى أن يستأنف الإيمان بالله! قيل له: أن الإعتراف بالله تعالى بعض الإيمان به، لأن الإيمان به هو التصديق به والتزام عبودته وطاعته، فإذا صدق بالله ولم يلزم طاعته وعبودته كان آتياً بعض الإيمان به فيوقف ذلك على ما يأتي به من البعض للآخر كما أن النصراني إذا لم يكن كفره إلا جحد نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا آمن به تم وإيمانه ولم يحتج إلى استئناف الإيمان بالله وبأنبيائه وعيسى. فلذلك من آمن بالله ولم يؤمن برسله فإنه إذا آمن بالرسل بعد، تم إيمانه بالله ولم يحتج إلى الإستئناف، علة هذا أنه ليس للإيمان وقت محصور تتعلق صحته، لكن الأوقات كلها وقت الإيمان، فهي على سعتها بمنزله أضيق وقت منها.

ومعلوم أن من دعي إلى الإيمان، فأجاب إليه فإنه لا يأتي به إلا شيئاً فشيئاً، لأنه يبدأ مؤمناً بالله ثم نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم اتصل ذلك بما ينبغي أن يصل به، وكما يوقف الإيمان بالله على الإيمان بالرسل في المجلس الواحد، فكذلك يتوقف في العمر لأن الإيمان غير محصور بوقت، فالعمر كله بمنزلة المجلس، فإذا انقضى ولكم يكمل حبط الموجود منه ولم يستوجب صالحة به آخر. ومعنى ما قلت: أن الله عز وجل لما خطاب الناس بالإيمان، وبلغت عنه الرسل صلى الله عليهم صحت الإجابة إليه بمن سمع الدعوة فأجاب إليه في الحال وممن يسمع غيره مالا، أو يستنكح امرأة، فإن إجابه قبل أن يتفرقا أو يحدثا أو أخذهما ما يشبه التفرق صح الجواب، فإن أجابه بعد التفرق لم يصح، وذلك لأن الدعوة إلى دين الحق من حقها أن تدوم، ولا تكون وقتاً دون وقت، وإن كانت الدعوة ولم تختص بمجال دون حال لم تختص للإجابة إليها مجال دون حال، فكذلك قلنا أن بعض الإيمان شيء واحد، أما ربنا ما نفى عليه تراضى عنه أو تدانى منه وبالله التوفيق. ***

الثالث من شعب الإيمان وهو باب في الإيمان بالملائكة

الثالث من شعب الإيمان وهو باب في الإيمان بالملائكة والإيمان بالملائكة ينتظم معاني احهما التصديق بوجودهم، والآخر: إنزالهم منازلهم وإثبات أنهم عباد الله وخلقة كالإنس والجن، مأمورون مكلفون لا يقدرون إلا على ما يقدر لهم الله تعالى، والموت جائز عليهم ولكن الله جعل لهم أمداً بعيداً، فلا يتوفاهم حتى يبلغوه، ولا يوصفون بشيء يؤدي وصفهم به إلى إشراكهم بالله تعالى ولا يدعون آلهة كما قد دعتهم الأوائل. والثالث الإعتارف بأن منهم رسلاً لله تعالى يرسلهم إلى من يشاء من البشر. وقد يحوز أن يرسل بعضهم إلى بعض ويتبع ذلك الإعتراف بأن منهم حملة العرش، ومنهم الصافون حوله، ومنهم خزنة الجنة، ومنهم خزنة النار، ومنهم كتبة الأعمال ومنهم الذين يسوقون السحاب، وقد ورد القرآن بذلك كله أو بأكثره، فأما إثباتهم في الجملة، فقد قال الله عز وجل: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}. وقال في الإيمان بهم خاصة: {أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}. وأما أكثر ما في القرآن من ذكر الملائكة واستقصاه ذلك يطول. وأما إقرارهم ومنازلهم، فقد قال تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون}، {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً، بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملونه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعونه إلا لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم، كذلك نجزي الظالمين}.

فأخبر بهذه الآية عن منازل الملائكة وإبان أنه لا يجوز أن يقال أنهم ولد الله ولا أنهم بنات الله، كما كان كثير من العرب يقولون، فأنكر الله عليهم قولهم، وقال: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شادتهم ويسألون}. وقال: {فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون، أم خلقنا الملائكة إناثاً وهو شاهدون، ألا إنهم من إفكهم ليقوةلون ولد الله، وإنهم لكاذبون}. وإذا تأمل وجد قول العرب: إن الملائكة ولد الله نازعاً إلى قول الأوائل الذين يسمونهم ترابى، ويزعمون أنهم قاصوا عنه، فإن كل ولد فهو يأتي والده وقابض عنه. ثم إن العرب سمتهم أولاداً كما يقولون في كثير من الأشياء: تولد هذا من هذا، وتجاوزت ذلك إلى تسميتهم بنات، على معنى أنهم محجوبون عن الأبصار، فهم كالمخدرات من الأولاد، وهن البنات، فرد الله تعالى ذلك كله عليهم، وانتقى منه، فأنكره واخبر أنه: لا منزلة للملائكة إلا أنهم عباد مكرمون، وإبان عن فضل خشيتهم ورهبتهم له، ودل على أن كرامتهم عنده إنما هي لأجل طاعتهم له، ولو عصوه لعذبهم بالنار، كسائر العصاة. فهذا هو الذي ينبغي أن يعتقد فيهم، فيكون ذلك إيمانهم إلا ترى أن الإيمان بالمسيح صلوات الله عليه ليس أن يترك فوق منزلته، كما يقول النصراني، لكن ذلك كفر بالله عز وجل، وبه أيضاً، وإنما الإيمان به أن يعتقد فيه أنه عبد الله ورسوله، فكذلك الإيمان بالملائكة، ليس أن ينزلوا فوق منازلهم، لكن أن لا يبخسوا حظاً جعله الله تعالى لهم من فضله والله أعلم. وأما تصريفهم على ما يصرفهم الله تعالى عليه في الدنيا والآخرة، فقد قال عز وجل: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس}. وقال {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى}. يعني الملائكة الذين أرسلهم الله إلى قومخ لوط وقالوا: {إنا رسل ربك لن يصلوا إليك}. وقال: {فأرسلنا إليها روحنا}. وقال: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب، إن الله يبشرك بيحيى}.

وقال: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين}. وقال: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم}. وقال حكاية عن الملائكة {وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون}. وقال في يوم القيامة: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}. وجاء في الجنه أن حمخلة العرش أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدوا بأربعة آخرين. وقال في أهل النار: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب}. وقال: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً، حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها}. وقال في أهل الجنة: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم}. وقال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم}. وقال في قبض الأرواح: {تتوفاهم الملائكة طيبين}. فهذا في المؤمنين، وقال في غيرهم: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا والملائكة}. وقال: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم}. وقال في قبيح الاعمال: {وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون}. وقال: {عن اليمين وعنه الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. وقال: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}. وأما سوق السحاب فما وردت به الأخبار، وكل ما ذكرنا مجتمع المعنى في أن الملائكة: يتعرفون على الأعمال لتعريف بني آدم، فهذا هو الذي ينبغني أن يعتقد فيهم وبالله التوفيق.

فصل وأما الملائكة، ما هم؟ فإن من الناس من ذهبوا إلى أن: الأحياء العقلاء الناطقون فريقان: إنس وجان، وكل واحد من الفريقين صنفان: أخيار وأشرار. فأخيار الإنس أبرارهم، ثم ينقسمون إلى رسل وغير رسل، وأشرارهم يدعون فجاراً، ثم ينقسمون إلى كفار وغير كفار. وأخيار الجن يسمون الملائكة، ثم ينقسمون إلى رسل وغير رسل، وأشرارهم بدعون شياطين، ثم قد يستعار هذا الإسم لفجار الإنس تشبيهاً لهم بفجار الجن، وقد يحتمل هذا القسم وجهاً آخر: وهو أن الجن منهم سكان الأرض، ومنهم سكان السماء، فالذين هم سكان السماء يدعون بالملائكة الأعلى ويدعون بالملائكة. والذين هم سكان الأرض هم الجن بالإطلاق، وينقسمون إلى أخيار وفجار، ومسلمين وكفار. وإنما قيل الملأ الأعلى ملائكة، لأ، هم مستصلحون للرسالة التي تسمى الركام أكثر الناس على الملك أصله ملاك، وإن ملاك مقلوب وليس نبياً مستقيم، وإنه قيل لواحد من الملائكة ملاك بمعنى أنه موضع للرسالة لكونه مصطفى مختار للسماء أن يسكنها، أو كانت الرسالة منها تأتي سكان الأرض، ومن ذهب إلى هذا قال: أخبر الله عز وجل أنه أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، ولم يكن من الملائكة، لم يكن لاستثنائه منهم معنى، ثم قال في آية أخرى: {إلا إبليس كان من الجن، ففسق عن أمر ربه}. فأخبر أنه لعنه ورجمه وأخرجه من السموات، وإبان أن المأمورين بالسجود كانوا طبقة واحدة، إلا أن إبليس لما عصى ولعنه صار من الجن الذين يسكنون الأرض، ولا سبيل لهم إلى مخالطة الملأ، فكان العدل من الإنس يفسق أو يرتد فيعصى وينفذ ويدعى فاسقاً وخبيثاً وفاجراً، بعد أن كان يسمى عدلاً وبراً وتقياً والله أعلم. وأيضا فإن الله عز وجل حكى عن الكفار أنهم قالوا: ولد الله وإن الملائكة بناته، وجعلوا بينه وبين الجن نسباً، فدل ذلك على أن الملائكة من الجن، وأن النسب الذي

جعلوه بين الله وبين الجن، إنما هو قولهم: الملائكة بنات الله، تعالى عما قالوا علواً كثيراً. وأيضا فإن الإنس منهم الظاهرون والجن هم المختبئون، والملائكة مختبئون، فينبغي أن يكون إسم الجن لاحقاً إياهم، وأيضاً فإن الله تعالى لما صنف الخلائق قال: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار}. فلو كانت الملائكة صنفاً ثالثاً سوى الإنس والجن لما كان يدع أشرف الخلائق، فلم يتمدح بالقدرة على خلقه، ويذكر ما دونه فيمتدح بالقدرة على خلقه، هذا وقد نبهت أن الجان خلق من مارج من نار، وأن إبليس مخلوق من النار، والظاهر دخوله في جملة الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم، وفي هذا رجوت أن تكون الملائكة من الجن والله أعلم. ومن خالف هذا القول قال: إن سكان الأرض ينقسمون إلى إنس وجن، فأما من خرج عن هذا الحد لم يلحقه إسم الإنس، وإن كان مرئياً، ولا إسم الجن وإن كان غير مرئي، ويدل على هذا أن الجن سموا جناً لأن الإنس لا يرونههم، وإلا فإن بعضهم يرى بعضاً، والناس سموا إنساً لأن الجن يرونهم، وإنما وجب هذا التمييز بينهم، لأن البقعة الواحدة من الأرض، كالدار الواحدةن والفضاء الواحد، وقد تجمع الفريقين، فيرى الجن الإنس، ولا يرى الإنس الجن، وأما الملائكة فإنهم بأشد البعد من الناس، فلا يلحقهم إسم الجن، لأنهم لا يرونهم، كما لا يلحق المشرقي اسم الجن، لأن المغربي لا يراه، ولا المغربي اسم الجن، لأن المشرقي لا يراه والله أعلم. ويدل على أن الملائكة غير الجن، إن الله عز وجل لما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس، أخبر الله عز وجل عن سبب مفارقة الملائكة: {إلا أبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}. فلو كانوا كلهم جناً لاشتركوا في الإمتناع من السجود ولم يكن في أن إبليس كان من جملة الجن ما يحمخله على أن لا يسجد، وفي هذا ما إبان أن الملائكة خير والجن خير وأنهما فريقان شتى. فإن قال: ما معنى دخول إبليس في الأمر الذي خوطبت الملائكة به إن لم يكن منهم؟

قيل: معنى ذلك أنه كان من الجنه خلقوا من النار، وكان إجراته أنه في الأرض غير أن الله عز وجل أذن له في مساكنة الملائكة ومجاورتهم لحسن عبادته وشدة إجتهاده، وقد وردت الأخبار ببيان ذلك من حاله، فلما أسكن السماء وطال اختلاطه بالملائكة ومباينته لجنسه جرى في عداد الملائكة، وصار يواجدهم كالأعجمي يختلط بالعرب ويسكن بلادهم، فتعلم لسانهم وتخلق بأخلاقهم، فيكون أعجمياً مبعوثاً، ويدعى بذلك من العرب المستعربة كلهم هكذا. فلما أمرت الملائكة بالسجود لآدم دخل في الجملة الملك الأصيل والملحق بالملائكة، غير أن مفارقته الملائكة في أصل جملته على مفارقتهم في الطاعة، قال الله عز وجل: إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه، كما يكون الأعجمي المبعوث بين قوم فإذا همت العرب بأمر وأجمعت عليه، حمل الأعجمي أصله المخالف لأصل العرب على خلافهم، فيقال أنه كان من الأعاجم، فكذلك لم يواطئ العرب، فرده الله بعد ذلك إلى مساكن جنسه، وأخرجه من السموات، فصار عند الاقصاء شيطاناً كما كان عند الأدنى ملكاً. وأما قول الله عز وجل: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً}. فإن الناس لم يتفقوا على أن الإشارة به واقعة إلى قولهم: الملائكة بنات الله، لكن ذلك قد قيل، وقيل غيره: وهو أن مشركي العرب كانوا يقولون للأصنام أنها بنات الله، وسمتها لذلك آلهة، ويزعم أن عبادتهم لها تقربهم إلى الله عز وجل، ولذلك كانت تسميها اللات والعزى ومناة. وإنما وقع لهم من حيث أن الشياطين كانت تدخل أجوافها، فيكلمهم منها، فكانوا ينسبون ذلك الكلام إلى الله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} لأنهم سموا الأصنام لمكان تكليم الجنة إياهم من أجوافها آلهة، وادعوا أنها بنات الله وأثبتوا بين الله تعالى وبين الجنة نسباً، جهلاً منهم، بأن الكلام الذي يسمعونه، إنما هو كلام الشياطين، لا كلام الله جل ثناؤه، وليس هذا في الظهور دون الوجه الآخر، والله أعلم. وأما قوله عز وجل: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار}. فإنما هو بيان ما ركبه من خلق متقد، فلم تدخل الملائكة في ذلك لأنهم

مخترعون. قال الله عز وجل لهم {كانوا فكانوا} كما قال للأرض التي خلق منه الجن، والأصل الذي خلق من الإنسان وهو التراب والماء النار والهواء كن فكان، فكانت الملائكة في الإختراع كأصول الإنس والجن، لا كأعيانهم، فكذلك لم يذكروا معهم والله أعلم. فصل ثم أن الملائكة يسمون روحانيين، بضم الراء، على معنى أنهم أرواح لا شيء معها من ماء أو نار أو تراب، وإنما لا يرون للطافتهم، فأما الجن فهم مخلوقون من النار مرئية، لا أنهم حجبوا عن الأبصار، ولذلك سموا جناً، والجنة في لسان العرب السترة، فكأنهم مستورون عن الناس، وقد سمى الله عز وجل جبرائيل صلوات الله عليه الروح الأمين، وروح القدس. وقال: {فأرسلنا إليها روحنا} وقال: {تنزل الملائكة والروح فيها} وقال: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا}. فقيل إن المراد جبريل، وقيل أنه ملك عظيم سوى جبريل يقوم وحده صفا والملائكة صفا، ومن قال بهذا قال: الروح جوهر. وقد يجوز أن يؤلف الله تعالى أرواحاً فيجسمها ويخلق منها خلقاً ناطقاً عاقلا فتكون الروح مخترعاً، والجسم وضم العقل والنطق إليه حادثاً من بعد. وقد يجوز أن تكون الأجسام على ما هي عليه اليوم مخترعة كما اخترع عيسى وناقة صالح. وفي بعض الأخبار الواردة في شأن الملائكة ما يدل على هذا الوجه، وقال بعض الناس: إن الملائكة روحانية بفتح الراء، بمعنى أنهم ليسوا محصورين في الأبنية والطلل، ولكنهم في فسحة وبساطة، وقد قيل: إن ملائكة الرحمة هم الروحانيين-بفتح الراء-، وملائكة العذاب هم الكريبيون فهذا من الكرب، وذاك من الروح والله أعلم. ومما يدل على مفارقة الجن الملائكة أن الله عز وجل أخبر أنه: تسأل الملائكة يوم القيامة عن المشركين، فيقول لهم: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدونه؟ فتقول الملائكة: سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن} فتشهد أن الملائكة غير الجن

إذ لو كانت الملائكة جنا لم يخل عباد من أن يكونوا عباد الملائكة فلم يكن لقول الملائكة أنهم كانوا يعبدون الجن ولا يعبدوننا معنى، والله أعلم. فصل ثم إن الناس قديما وحديثاً تكلموا في المفاضلة بين الملائكة والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر، أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وهذب آخرون إلى أن الملأ الأعلى مفضلون على سكان الأرض، واحتجوا بقول الله عز وجل: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقربون}. فبدأ في نفي الاستنكاف من العبودة لله جل ثناؤه من المسيح ثم نبأ بنفيه عن الملائكة. فدل ذلك على أن الملائكة ارفع قدراً وأعلى مرتبة إذ لم يكونوا كذلك لكان في المعنى ما نفى عن المسيح دلالة على أن من دون بانتفاء ذلك عنه أولى، فقد عقل أن الأعلى رتبة والأرفع درجة إذا لم يأنف منه، فالذي هو أعلى منه يأنف ولا يأنف، فلذلك صار وجه الكلام أن يبدأ في مثل هذا بالأدنى ثم انثني بالأعلى، ألا ترى أنه قال: لن يأنف الوزير أن يدعى خادماً للأمير ولا الكاتب، وما كان كذلك الا لعلو رتبته وارتفاعها عن رتبة الكاتب، وكذلك ما ذكرنا والله أعلم. ومما يشبه هذا أن ينفي علم عن واحد ثم يعطف عليه غيره (فيقال: ما تدري هذا فلان وفلان، فيكون وجه الكلام الابتداء بالأدنى في العلم منزلة، لأنه قد يجوز أن لا يدري ما يدريه الأفضل، ويبعد أن لا يدري الأفضل، ويدري من هو دونه، فيحتاج إلى نفي العلم بعد نفيه عن الأفضل. ولكن إذا نفي الجهل عن واحد ثم يعطف عليه غيره، فإنما ينتفي أن يبدأ بأفضلهما فيقال: ما يجهل هذا فلان، ولا الذي هو دونه لأن العرض عن الإنابة عن وضوح ما نفيت الجهالة عنه، وقد يجوز أن يتضح لأفضل الرجلين في العلم ما لا يتضح لمن دونه، فإذا كان بحيث يعلمه قليل العلم كما يعلمه كثير العلم، فذاك هو النهاية من الوضوح.

وعلى هذا يقال: ما يصلح للحكم بين الناس فلان وفلان، فبدأ بالادونه، وإذا قي: ما يدفع عن الحكم فلان ولا فلان بدئ بالأفضل. وإذا قيل: ما يرضى الأمر فلان وفلان، وأريد به تقبيحه بدئ بالأفضل، لأنه قد يدرك برأيه من الخلل الذي فيه ما لا يدركه الذي دونه فيدعوه ذهابه عليه إلى أن يرضى به، فيفي هذا المعنى باتباع الادون الأفضل ليدل به على إيضاح وجه الأمر، وانتفاء اللبس عنه. وإذا قيل: ما يكره هذا الأمر فلان وفلان، وأريد به بخسه بدئ للأدون لأنه يخفي عليه بعض ما فيه، فلذلك لا يكرهه، فأما من هو أعلى فإنه كوقوفه على حقيقته بكرهه لينفي هذا المعنى بعطف الأعلى على الأدون والله أعلم. وحجة أخرى: هو أن الله جل ثناؤه أخبر عن آدم وحواء عليهما السلام أنه نهاهما عن أكل الشجرة {إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما من الناصحين}. فلو لم يعلم آدم صلوات الله عليه أن الملك أفضل من البشر لما استطاع ابليس أن يغره بأن شبه عليه أنه نهى عن أكل الشجرة لئلا يكون ملكاً، وفي نفاد الغرور له عليه من هذا الوجه ما يدل على أن الملك عند آدم أفضل من البشر. وحجة ثالثة: وهي أن الله تعالى جعل الملائكة شفعاً لبني آدم فقال: {الذي يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} ومعلوم أن استعفار الملائكة لبني آدم ليس لحق بني أدم فيقضونه بالإستغفار لهم، كاستغفار الولد لأبويه، ولا هو على معنى التعاونه كاستغفار بني آدم بعضهم لبعض لأنهم يستغفرون لبني آدم ولا حاجة بهم إلى أن يستغفر بنو آدم لهم. فصح أنه من جنس الشفاعة منهم لبني آدمخ كاستغفار النبي لأمته، وفي ذلك يتأول على أنهم أفضل من الذين يستغفرون لهم، كما أن كل نبي فهو أفضل من أمته والله أعلم. وحجة رابعة: وهو أن يرسله الله تبارك وتعالى إلى أحد فهو أفضل من المرسل إليه.

ويدل ذلك على أن الرسول من البشر أفضل من قومه، فقياس ذلك أن يكون الملك المرسل إليه أفضل منه. وحجة خامسة: وهو أن الله جل ثناؤه سمى الملائكة الملأ الأعلى، وفي ذلك معنيان: أحدهما: أن الملأ في اللسان، هم العظماء والأشراف، قال الله تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه}. على خوف من فرعون وملئهم، أي من أكبر قومه. وقال: {وقال الملأ من قوم فرعون}. أي كبراؤهم، فإن جماعتهم لم يكونوا بخاطبي فرعون، فلما سمى عز وجل عامة الملائكة بالاسم الموضوع للعظماء، دل ذلك على أنه إنما سماهم بذلك لأنهم بالقياس إلى سكان الأرض غاية كبرى عظماء، وليس فيهم من ينحط قدره من أحد من أهل الأرض. والمعنى أن نسبهم إلى العلو دلالة بذلك على فضلهم، وتنبيهاًعلى علو قدرهم، لأنه لا شك أن السماء أفضل من الأرض، فقد ينبغي أن يعقل من ذلك أن الله تعالى إذا كان هو الذي أسكن الملائكة السماء، والبشر الأرض، ولم يكن ليسكن أفضل المكانين أدون الخليقتين، وأدون المكانين أعلى الخليقتين، وفي هذا ما أبان أن الملائكة أفضل من البشر. وحجة سادسة: وهو أن التقى من البشر أفضل من الذي يخلط العمل الصالح بالسيئة. والملائكة كلهم يخلصون للطاعات، وليس فيهم أحد يخلطها بشيء من المعصية، ولا التقاة من البشر أن عصموا من الكبائر فقد لا يعصمون من الصغائر، وان أسلموا من الفعل فقد لا يسلموا من الهم. وقد أخبر الله عز وجل بأنههم لا يعصون الله ما أمرهم، ولا يسبقونه بالقول وهم من خشية ربهم مشفقون، وأنهم لا يستخرون عن عبادته ولا يفترون، وفي هذا سوى ما ذكرنا من أتقياء البشر أن سلموا من كبائر الذنوب وصغائرها فليس أحد منهم يتعبد دائماً، والملائكة يعبدون الله دائماً لا يفترون، فيجب عن هذا أن لا يكونوا أفضل من البشر. فإن قيل: لو وجب أن يكون أفضل الأنبياء يحيى بن زكريا عليهما السلام لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا يخطئ قط، ولا هم بخطيئة؟

فالجواب: أن الملائكة كما لا يخطئون ولا يهمون بالخطيئة فلذلك يعبدون الله دائماً ولا يفترون، ويحيى بن زكريا عليهما السلام لم يكن بهذه الصفة بل كان يأكل ويشرب وينام ويفتر فيستريح، فيكون في هذه الأحوال منفكاً عن التعبد، فإذا تعبد في غير هذه الأحوال، فالظاهر من أمره أنه كان يتعبد بالصلوات والصيام والتقديس والتسبيح، ولم يكن عليه من الجهاد في سبيل الله والدفع عن دين الله وأوليائه بالسيف، ما كان على كثير من الأنبياء، ولا من الحج والهجرة ما كان على غيره، فلذلك لم يجز على القطع بتفضيله على عامة الأنبياء صلوات الله عليهم. فإن قيل: فإنكم تعارضون في الملائكة بمثل هذا، وهو أنهم كانوا لا يعصون ويسبحون دائما فلا يفترون، فإن الناس يكابدون من الحج والجهاد والهجرة والتعليم والتأدب والعفة ما لا تكابده الملائكة، فلا يجوز أن يقطع بفضل الملائكة عليهم. فالجواب: أن نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لا يختلف عن حج الحجاج وإقامتهم في الأرض لنسخ الأعمال، لا تتخلف عن هجرة النبوة، وقد هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أمروه بالجهاد، وإذا لم يجاهدوا، فلأنه لا أعداء في الدين لهم من جنسهم. والناس أيضاً لا يقاتلون من لا يعاديهم في الدين من جنسهم، فالفريقان من هذا الوجه سواء. وإذا لم يهاجروا فإنه لا مانع يمنعهم من حبسهم من عبادة ربهم في مقارهم ومواضعهم، والناس أيضاً لم يؤمروا بالهجرة حيث لم يكونوا يخافون الفتنة على أنفسهم، ولا الحيلولة من طاعة الله وعبادته. والحج ليس فيه إلا قصد البيت والطوائف حوله، والملائكة حافون من حلوه، وأهل النائي منهم عن العرش يلزمهم منه في بعض الأوقات حضوره، وذلك مغيب عنا، فلا نتكلم عليه بنفي ولا إثبات، ثم أن العرش على كواهل عدة من الملائكة، وليس البيت الذي في الأرض على كاهل أحد من البشر، وفي هذا ما يبين أن الملائكة أثقل عملاً وأطول شغلاً. وأما التأدب والتعلم والنفقة فلا حاجة بالملائكة، لكنهم ما رأوا ذلك خزنة كتب الله تعالى وحملة وحيه. وكذلك صار جبريل صلوات الله عليه موصوفاً بالعلم في قوله تعالى علمه شديد القوى،

وليست تقصر رتبة التعليم عن رتبة التعلم، لكنها تعلوها، لأن التعليم إعطاء والعلم قبول. والإعطاء فوق القبول، وليس ما وصفنا من شأن يحيى بن زكريا بسبيل أنه قد كان له أعداء في الدين، ومع ذلك لم يؤمر بإتيانه، وحج البيت الذي فيه، فثبت أنه يلزم من يفضله على سائر النبيين صلوات الله عليهم أجميعن، بالرغم من تفضيل الملائكة على البشر من الوجه الذي ذكرناه. هذا مع أن للملائكة أعمالا لا يتسع لها، نحو نسخ الأعمال وقبض الأرواح، وسوق السحاب، ونحو ذلك، ويحيى بن زكريا لم يكتب له بإزاء ما أسقط عنه، وكان مكتوباً على غيره ما هو مثلها أو أشقق منها، وفي ذلك ما يمنع من المعارضة بأمره والله أعلم. فإن قال قائل: فإن الله تبارك وتعالى أسجد ملائكته لآدم صلوات الله عليه، بأنما يدل بذلك على أنه كان أفضل منهم. فالجواب من وجوه: أحدهما أن معنى قول الله عز وجل: {اسجدوا لآدم}. أي أسجدوا إلى مستقبلين وجه آدم. وإنما هذا لقول الله عز وجل: {أقم الصلاة لدلوك الشمس}. أراد به أقم الصلاة لي عند دلوك الشمس، وكذلك قوله تعالى: {إني خالق بشراً من طين، فإذا سوتيه ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}. معناه: فقعوا إلى عند تمام خلقة ومواجهتكم أياه ساجدين. والدليل على هذا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سجد ابن آدم، قال الشيطان: أمر ابن آدم بالسون فأطاع فله الجنة، وأمرت بالسجود، فعصيت فلي النار). ومعلوم أن ابن آدم لم يؤمر بالسجود إلا لله تبارك وتعالى، فثبت أن الشيطان أيضا، إنما أمر بالسجود لله تعالى، وأنه عن ذلك امتنع فحقت عليه النار والله أعلم. فإن قيل: لو أمر بالسجود لله تعالى لم يمتنع منه، فإنه كان يعبد الله من قبل ذلك! قيل: إنما امتنع من السجود لا لأنه لم يؤمن به لله تعالى، ولكن لأن أمره به لله عز

وجل في وجه آدم كان يرجع إلى تكريم آدم، فقال في نفسه: أنا خير منه! فكيف يؤمر أحد بالسجود لله عز وجل في وجهه عند إتمامه خلقي ليكون ذلك تكريماً لي، فإنما امتنع من السجود حسداً لآدم صلوات الله عليه، على ما أوجب عليه تعالى من تكريمه، لا لأن السجود لم يكن لله جل ثناؤه! فإن قيل: إن السؤال قائم وذلك أنه إذا أمر الملائكة له وجه آدم تكريماً له، دل ذلك على أنه كرمه عليهم. قيل: لا، بل كرمه على سائر من علم أ، هـ مخرجه من ظهره وغير أمرهم أن يسجدوا له من وجه أحد منهم، كما أمرهم أن يسجدوا له في وجهه أو كرمه على الجن وسائر ما كان في خلق قبله من أصناف الحيوان، ولم يرد بذلك تكريمه على الساجدين، كما أنه لما أمر المسلمين أن يصلوا له تلقاء الكعبة، كان بذلك مكرماً لها على الجهات الأخر التي لم يأذن في الصلاة إليها، ولم يكن مكرماً لها على المصلين والله أعلم. وحجة أخرى: وهو أنه يحتمل أن يكون الله أمرهم بالسجود لآدم معاقبة على قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}. كما قال لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة}. وقد كان علم منهم قبل أن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم: {إني خالق بشراً من طينس} وجاعله خليفة في الأرض، {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدينه}. والمعنى ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن، فلا يلزم عن هذا أن يكون أفضل منهم كما لا يلزم عن معاقبة يونس صلوات الله عليه بتسليط الحوت عليه، حتى التقمه الحوت عند هربه من قومه، وامتناعه من تبليغهم رسالة ربه أن يكون الحوت أفضل منه. وقد قال قائل: وقد قال الله عز وجل: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا]}. فأخبر أنه فضلهم على كثير ممن خلق- ومن اسم للذي يعقل- فثبت أنهم مفضلون على غيرهم من العقلاء وهم الملائكة!

فالجواب: لكن العقلاء سوى بني آدم ليسوا الملائكة فقط، لكن الجن مشاركون لهم في العقل، فإذا وجبت لهم الفضلة على الجن وقد وجبت الآية حظها، فلا يجب بعد ذلك تفضيلهم على الملائكة إذ ليس في الآية أنهم مفضلون على كثير منهم، بل في الآية دليل على فضل الملائكة عليهم، لأن العقلاء ثلاثة أصناف: الملائكة والإنس والجن، وقد وجب أن يكون الإنس أفضل من الجن، فثبت الذين ليس الإنس أفضل منهم هم الملائكة والله أعلم. ومما يدل على فضل الملائكة أن الله تعالى جعل دخولهم على بني آدم في الجنة وتسليمهم عليهم من حملة الثواب الذي وعدهم بحسن أعمالهم، فقال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم} فلو كانت الملائكة دونهم لم تكن زيارتهم إياهم نعمة يحتاج إلى التوصل إليها إلى ترك الشهوات، وإجهاد النفس في الصالحات، فلما كان ذلك لا يوصل إليه إلا بما ذكرنا، بأن الملائكة أفضل وأرفع قدراً، وإن زيارتهم للذين يزورونهم زائدة في أقدارهم معلية لرتبهم والله أعلم. وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه استدل على فضل البشر بأن الله عز وجل أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: لعمرك، وآمنه من العذاب بقوله: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}. وقال للملائكة: {ومن يقل منم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم}. فالجواب: إن الله عز وجل إن كان لم يقسم بحياة الملائكة، فلم يقسم بحياة نفسه، فإنه لم يقل: لعمري، ولا قال بحياتي، فلا يدل ذلك على أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم أجل قدراً من حياته، وأقسم بالسماء والأرض، ولا يدل ذلك على أنها أرفع قدراً من العرش والكرسي والجنان السبع التي لم يقسم بها واقسم بالتين والزيتون، فلا يدل على أنهما أجل رتبة من النخل التي جعلها الله مثلا لكلمة الإخلاص، وسماها طيبة. وأما قوله عز وجل: {ومن يقل منهم إني إله من دونه، فهو نظير قوله للنبي صلى الله عليه وسلم، {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من

الخاسرين}. فليس منه إذا دلالة، وقد استوفيت الكلام في هذه المسألة فما خرجته من تفسير قول الله عز وجل: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} - الوقوف عليه- فليرجع إليه إن شاء الله. فصل إن قال قائل: إن ذكرت الرسل جملة وجعلت الإيمان بهم جميعاً شعبة واحدة إذ كان بعض الرسل من الناس وبعضهم من الملائكة، كما قال الله عز وجل: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس}. قيل له: لأن الله عز وجل جعل الملائكة والرسل في الإيمان بهم صنعتين، فقال: {والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}. فلأن الملائكة ليست من جنس البشر، والرسل من بني آدم جمعهم جنس واحد، فكان للأحسن أن يكون الإيمان بالملائكة شعبة، والإيمان بالرسل من البشر شعبة سواها. وأيضا: فإن الإيمان بالرسل هو الاعتراف لهم بالرسالة من الله تعالى، فأما الاعتراف بوجودهم فمما لا خلاف فيه بين المؤمنون وبين المكذبين بهم، وإنما الخلاف في تصديقهم. فإن الملائكة فإنما يحتاج إلى الاعتراف بوجودهم أولاً، ثم الاعتراف بمنازلهم وأحوالهم وأقدارهم، والاعتراف بوجودهم ليس من إثبات الرسالة في شيء، ولذلك وجب أن يكون الإيمان بالملائكة شعبة سوى الإيمان بالرسل من البشر والله أعلم.

الرابع من شعب الإيمان وهو باب في الإيمان بالقرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

الرابع من شعب الإيمان وهو باب في الإيمان بالقرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء صلوات الله عليم والإيمان بالقرآن يتشعب شعباً فأولاها: الإيمان بأنه كلام الله تعالى، وإلا تبين من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من وضع جبريل عليه السلام. والثانية: بأن معجز النظم، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يقدرون عليه. والثالثة: اعتقاد أن جميع القرآن الذين يوفى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، هو هذا الذي في مصاحف المسلمين، لم يفت منه شيء، ولم يصغ بنسيان ناس، ولا ضلال نجيب ولا موت فادي، ولا كتمان كاتم، ولم يحرف منه شيء ولم يزد فيه حرف، ولم ينقص منه حرف. فأما الوجه الأول: فأن الله تعالى يقول: {يا أيا الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل}. وقوله عز وجل: {والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}. وقوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}. وقال: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوحدوا فيه اختلافاً كبيرا}. وقال: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه}. وقال تعالى: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيداً}.

وقال: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين}. وقال: {إنا أنزلناه قرآناً عربيأ لعلكم تعقلون}. وآيات القرآن في هذا المعنى كثيرة، فإن عارض معارض بقول الله عز وجل في كتابه: {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن}. وفي سورة أخرى: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة، عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين} وزعم أن هاتين الآيتين دلالة على أن القرآن كلام جبريل، قيل أنه ليس معنى الآية ما توهمت لأن الله عز وجل قال في آية أخرى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} فأثبت أن القرآن كلامه، ولا يجوز أن يكون كلامه وكلام جبريل معاً، فثبت أن معنى قوله: {إنه لقول رسول كريم} (أي قول تلقاه عن رسول كريم أو نزل عليه رسول كريم). فدل على هذا أن الله جل جلاله قال: {لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله}. فثبت أن القرآن معجز. فلو كان من وضع جبريل لم يكن معجزاً لأن المعجز ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل. فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون قول الله عز وجل: {إنه لقول رسول كريم}. يجري على ظاهره، ويكون معنى قوله حتى يسمع كلام الله أي الكلام الذي أمر الله عز وجل جبريل بإلقائه إلى نبيه. فأما قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه} وسائر ما في مثل معناه، فإن وجهه: أن الله عز وجل إذا أمر جبريل أن ينزل على نبيه كتاباً ثم يحمله إليه، ففعل الكتاب ذلك أن يقال: هذا كتاب ذلك الملك، صدر بأمره أو بعلمه. وأما الإعجاز فقد يجوز أن يوصف به القرآن، وإن كان من قول جبريل لأن الملك يقدر على ما لا تقدر عليه الإنس والجن، ولم يذكر الله عز وجل في التعجيز عن الإتيان بمثل

القرآن إلا الإنس والجن، فما الذي أحال أن يقدر على القرآن، ولا تقدر عليه الإنس ولا الجن. هذا وقد جعل الله هذا، وقد جعل الله تعالى فعلاً من أفعال الملائكة علماً يصدق نبي من الأنبياء، وهو الذي أخبر قومه بأن الله بعث لكم طالوت ملكاً، فلما قالوا: {أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}. قال: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة}. فجعل الله عز وجل حمل الملائكة ذلك التابوت المأنوس لبني إٍسرائيل من الوصول إليه، إنه لصدق النبي الذي أخبرهم أن الله تعالى ملك عليهم طالوت، فلا ينكر أن يجعل الله إلقاء جبريل بالقرآن إلى نبينا صلوات الله عليه دلالة على صدقه، وإن جبريل هو الذي تولى وضعه ونظمه. فالجواب: إن الله عز وجل لم يقصر التعجيز عن الإتيان بمثل القرآن على الإنس والجن لأن الملائكة تقدر على الإتيان بمثله، ولكن لأن الرسالة كانت إلى الإنس والجن فوقع التحدي للفريقين حتى إذا عجزوا كان عجزهم دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم عاجز مثلهم فيظهر بذلك أنه لم يأت بالقرآن من عند نفسه وإنما أتى به من عند الله. فأما الملائكة فلم يتحدوا عن ذلك، لأن الرسالة إذا لم تكن إليهم لم يكن القرآن حجة عليهم فنبئوا أكانوا قادرين على مثله أو عاجزين، وهم عندنا عاجزون. وليس الإتيان بمثل القرآن من قلب المدائن، والإتيان بالتابوت في شيء، لأن قلب المدينة وحمل التابوت العظيم كالذي يوصف من تابوت بني إسرائيل، لقصور قواهم عنه، فإذا زادت قوة الملك على قوة الآدمي أضعافاً مضاعفة زاد عمله أيضا كذلك. وأما نظم القرآن فإنه ليس من جنس نظم كلام الناس ولكنه مباين لهذا، فلا يهتدي إليها فيحتذي ويمثل، فهو تركيب الجواهر غير الأجسام، لتصير أجساماً، ولا على قلب الأعيان ولا يقدرون عليه من ذلك. والملائكة أيضاً لا يقدرون عليه كذلك.

وما لا يقدر عليه الإنس والجن من الإتيان بمثل القرآن، والملائكة أيضا لايقدرون، وفي ذلك ما أبان نظام القرآن ليس من عند جبريل، لكنه من عند الله اللطيف الخبير، وبالله التوفيق. وقد دخل فيما ذكرته من هذا الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة التي تقدم ذكرها في صدر الكتاب. فأما الوجه الثالث فبيانه أنه الله تعالى حفظ القرآن، فقال عند ذكره: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. وقال: {وإنه كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه تنزيل من حكيم حميد}. فمن أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيء في القرآن أو نقصانه منه، أو تحريفه أو تبديله، فقد كذب على الله تعالى فيث خبره، وأجاز وقوع الخف فيه، وذلك كفر. وأيضا فإن ذلك لو كانت ممكناً لم يكن أحد من المسلمين على ثقة من دينه ويقين مما هو متمسك به، لأنه لا يأمن ان يكون فيما كتب من القرآن أوضاع نسخ الصلوات أو بعض شيء منها، أو تغيير أوقاتها أو الزيادة عليها، أو نسخ الزكاة، أو تغيير الأموال بها، والزيادة في مقاديرها، أو النقص منها، أو نسخ الصيام أو الزيادة على شهر رمضان أو تبديله بغيره. أو نسخ الحج أو إيجاب تكريره، أو منع الجهاد، أو تحليل الخمر والميسر وإطلاق المحرم من الفروج، أو تحريم المحلل منها. فكان أحد من الناس لا يقيم عبادة إلا متشككا، ولا يقدر على شيء ولا ينزع عن شيء إلا متشككا. ثم كان لا يؤمن أن يكون وصف نبينها بأنه خاتم النبيين زيادة من نقصان الناس دون أن يكون تنزيلا، فلعله عن قريب يبعت بعده نبي، أو يكون قوله: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}. تحريفا وتبديلا، ويكون المنزل يا بني إسماعيل، وإخباره هذا يدعو إلى تشريع كل خارج من الإسلام أن لا يدخل فيه، وإن الثقة به لا توجد لأهله، وهذا غير الكفر، فصح أن من تمام الإيمان الإعتراف: بأن جميعه هذا، المتوارث خلفاً عن سلف لا زيادة فيه ولا نقصان وبالله التوفيق.

فأما الإيمان بسائر الكتب مع الإيمان بالقرآن، فهو نظير الإيمان بسائر الرسل مع الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم، لأنه قد أخبر عنه الله عز وجل: أنه أنزل كتبا على أنبياء كانوا قبله، كما أخبر عنه بأنه كانت لله تعالى قبله رسل وأنبياء فلا يكمل تصديقه فيما يذكر أنه أنزل عليه إلا بتصديقه عليه إلا بتصديقه فيما أنزل على غيره. وهذا هو المعنى الذي ذكرته في وجوب الإيمان بسائر الرسل معه إلا أن الإيمان بما أنزل عليه يقتضي قبوله واتباعه والعمل به على ما يلزمه ويدعو إليه. والإيمان بما أنزل قبله لا يقتضي إلا الاعتراف بأنها كانت من عند الله، وكانت في أوقاتها حقاً وصدقاً واتباعها واجباً للمتبعين المخاطبين بها، كما أن الإيمان به يقتضي الإيمان بقبول ما جاء به واتباعه في عامة ما أمر به، ويدعو إليه. والإيمان بالرسل قبه لا يقتضي إلا بالاعتراف بأنهم كانوا صادقين محقين، وكانت طاعتهم لازمة للذين بعثوا إليهم والله أعلم. وفي الإيمان بالرسل قبله معنى آخر لا لبس فيه: وهو أن عامتهم أتوا بمعجزات وبينات دلت على صدقهم، فمن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بمعجز، ليقولوا نؤمن بالنبي بعد قوة مع إثباتهم بالمعجزات، كان قد أجاز على صحاب المعجزة مع إجازة المعجزة لغير النبي صلى الله عليه وسلم ضدان يقتضيان لا ما يلقيان ولا يليقان. فلهذا كان الإيمان بعامة الرسل من تمام الإيمان بنبينا صلوات الله عليه وعليهم وبالله التوفيق. فإن قال قائل: إن الله عز وجل قال: {والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}. بدأ بنفسه وثنى بملائكته وثلت بكتبه وذكر الرسل أخيراً، وأنتم خالفتم هذا الترتيب فجعلتم الشعبة الثانية للإيمان بالرسل، والشعبة الثالثة للإيمان بالملائكة، والرابعة للإيمان بالكتب، فهل لكم من عذر في هذا؟ قيل له: أما التنبيه بالرسل فلان الله عز وجل قال في آية الأمر: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله}. وقرن الإيمان برسوله بالإيمان به. وقال: {يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله}.

وقال في آية الوعد: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} فأوجبنا التثنية بالرسل عند تعديد شعب الإيمان، هذا ولان العلى الملائكة، إنما وقع بخبر الرسل، فكانت التثنية بالرسل لذلك أولى من التثنية بالملائكة. ثم ذكر الملائكة بعد الرسل أولى من ذكر الكتب، لأنهم من جملة الرسل وإن كانوا صنفاً غير الرسل الذين من البشر، ولأن الكتب تنزيل الملائكة، فالأحسن إذاً تقديم ذكرهم على ذكر تنزيلهم. فصل ونقول: أن الإيمان بالكتب المنزلة على الأنبياء الذين كانوا قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم، وإن كان واجباً فلا يؤخذ بقراءة ما في أيدي اليهود والنصارى منها، لأن الله عز وجل قد خوفهم وزجرهم ونسبهم إلى أنههم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}. وقال: {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} وقال: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} وإذا كطان هذا هكذا، لم يقع للمسلم تقديماً بقول اليهود أنه من التوراة، ويقول النصراني أنه من الإنجيل، أو يقولان: أنه من الزبور، إذ كان لا يأتيه أن يكون من وصفهم الذي أخبر الله عز وجل بأنهم ينسبونه إلى الله عز وجل، يعلمون من أنفسهم بأنهم كاذبون. وأيضا فإن الكفار لا شهادة لهم أصلا، فكيف يقبل قولهم على الله تعالى ورسله، لكنهم أبعد الناس من ذلك، فأولاهم بالرد والتكذيب. هذا وقد ظهر أكثر ما في أيديهم، لا يجوز أن يكون منزلا من عند الله عز وجل لأن ما يدعونه إليه، إنه التوراة مغازي موسى وقصته بعد فرعون، وما دار بينه وبين بني إسرائيل طول مقامه بين أظهرهم، وصفة وفاته

فلا يخفى على عاقل إن ذلك على وجهه لم ينزل عليه، وأنه بمنزلة الأخبار التي جاءت من السنن ومحاورات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائليه والقادمين عليه من الوفود وغيرهم، وعن جابر أن يلحق شيء من ذلك بالقرآن، أو يدعى باسمه، فلذلك ما كان ذلك لموسى عليه السلام، لا يجوز أن يلحق بالتوراة أو يدعي باسمها. فأما ما في القرآن من ذكر بعض حروب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس على معنى الاقتصاص له بتلك الحروب ولأصحابه وإنما هو ذكر أحوال ومقامات اكرمهم الله تعالى فيها بيده ونصره، فقرر عندهم نعمه التي أنعمها عليها، لئلا يغفلوا عنها، ويزداد بصيرة في دينهم لأجلها، ويحمدوه عليها. وذكر أمور وقعت منهم على وجهه لم يرضه الله تبارك وتعالى، فأنكرها عليهم، لئلا يعودوا لمثلها، وما في التوراة أن يدعو بها ليس على هذا الوجه، وإنما هو اقتصاص مجرد لجميع ما كان من موسى وقومه ظعناً وإقامة، فما ذلك إلا كحديث رسوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه جابر فاستوفاه، وسائر المغازي، وما جاء في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا لم تجز دعوى التنزيل في هذه فتلك مثلها وبالله التوفيق. وأما ما يدعى النصارى أنه الإنجيل، فإن فيه من الكفر الصريح من نحو قولهم: {باسم الأب والإبن والروح القدس}، وقولهم: يا ملكوت الرحمخن، مالا شكل على عاقل أن الله عز وجل لا يرضى من عباده باطلا، فضلا عن أن يأمر بانزاله، وعند علماء المسلمين أنه ليس عند النصارى ذلك الإنجيل المنزل على عيسى صلوات الله عليه، وأنه فات ما جرى على بيت المقدس وبني إٍسرائيل أيام بخت نصر. ولكن جماعة من علمائهم وضعوا لها كتباً تجمعهم، وسموه الإنجيل، ليكون ذلك أعظم لاسمه، وعى الناس إلى قبوله، وما كان بهذه المنزلة فالبر في مجانهبته لا في قراءته وبالله العصمة. ولو ثبت أن شيئاً مما في أيدي اليهود والنصارى منزل من عند الله تعالى لكان الأحب

- واسأل الله التوفيق- أن لا ينسخ ولا يدرس لم روى عن عمر رضي الله عنه أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحيفة فيها التوراة، فكان يقرأها ورسوله صلى الله عليه وسلم بتغير لونه من الغضب، وعمر رضي الله عنه لا ينظر إليه فلا يراه، فلما فرغ قال له: (أمنهو كون فيها أنتم يا ابن الخطاب، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي). فقال عمر: فوددت مما رأيت رسول الله لو كنت أسلمت يومئذ. ففي هذا الخبر أنه لا ينبغي للمسلم أن يدرس التوراة، فلا يجعل لها صحيفة عنده، ومعنى ذلك- والله أعلم- أن النسخ والدرس إنما يراد بهما حفظ الكتاب عن الفناء والضيع، وليس على المسلمين من ضياع تلك الكتب من أيدي اليهود والنصارى ضرورة لأنهم في بقائها في أيديهم نفع، بل ذهابها خير على المسلمين من بقائها، وبقاؤها أضر لهم من ضياعها، لأنها ما دامت عندهم وفي أيديهم، فإنهم يدعون لأجلها أهل الكتاب ويظهرون من أنفسهم الاستغناء بها مما عندنا، وإذا عفت ودرست ولم يبق عندهم منها شيء انقطعت عنا مضاهاتهم إياها، وما تقدرونه من مكافأتنا ومساواتنا، ولعل الضرورة تحملهم على الدخول في ديننا، كما دعت كثيراً من العرب من الفترة في الدخول في دين أهل الكتاب. فأما القرآن، فإنما ينسخ ويعلم ويتعلم ويتلى آناء الليل والنهار لأنها معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجته الباقية بعده، وجامع الأحكام الثانية التي لا معقب لها إلى قيام الساعة، فلا غنى عن حفظه وصونه عن الذهاب والضياع، وهذا المعنى غير موجود في تلك الكتب فيما بينه في النسخ والدرس والله أعلم. وأيضا فإن المسلم إذا قرأ التوراة وقف على الأحكام التي كانت يومئذ، ووجد بينها وبين الأحكام المشروعة لنا ذلك التباين العظيم، لم يؤمن أن يكيده الشيطان فيوسوس إليه في بعضها أنه ما يليق به أنه يكون حكماً، لأنه لا يجد له فيما عنده وجهاً. وفي بعضها أن هذا لو كان اليوم حكماً لكان أشبه لما تجده في قلبه قرب وجهه وحسن

موقعه، وكل واحد من هذين باب يسرع إلى الكفر، فكان ابقاؤه أولى من التعرض له والله أعلم. وأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من استدعاءه التوراة، واستقرابه الرجمخ، فإنما كان لأن الذين أراد رجمها كانا يهوديين، وكان عبد الله بن سلام أخبره، وهو يومئذ مسلم، أن الحكم عندهم في مثلها الرجم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم، أن يضرب ذاك عليهم لئلا ينسبوه إلى أنه قبلا إدخالا للنقص على أهل دينهم، لا لأن القتل كان واجباً عليهم وليصحح عليهم أنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، وإن كتمانهم أمره الذي يجدونه في كتبهم، مثل كتمانهم الحكم الذي كان عندهم، ولم يكونوا يعترفون به، والله أعلم، وبالله التوفيق.

الخامس من شعب الإيمان وهو باب في أن القدر خيره وشره وحلوه ومره من الله عز وجل

الخامس من شعب الإيمان وهو باب في أن القدر خيره وشره وحلوه ومره من الله عز وجل القدر- بفتح الدال- هو المقدور. والدقر- بتسكين الدال- هو الفعل. قال الله عز وجل: {فقدرنا نعم القادرون}. وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}. وهي الليلة التي يفرق فيها كل امر حكيم، وعلمنا أنه أراد بالقدر ذلك الفرق. والقدر والتقدير واحد، والقدر والمقدور واحد. والقدر والقدر كالنقص والنهقص والحبط والحبط، وبإن ذلك أن المراد بالحديث: أن كل مقدور فالله قدره، وإن الخير والشر وإن كانا ضدين فإن قادرهما واحد، وليس قادر الشر غير قادر الخير، وكما يقوله الثنويه. فإن قيل: فإن الله عز وجل خص الخبر بإضافته إلى نفسه، فقال ببدل الخبر: إنك على كل شيء قدير، وعن النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح الصلاة: {والخير منك وإليك، والشر ليس إليك}. فالجواب: أن معنى تخصيص الخبر بإضافته إلى الله عز وجل للاعتراف له بأن النعم كلها من عنده، لأرفع أن يكون الشر من عنده، كما أن تخصيص السموات والأرضين بإضافتهما إلى خلقه، وإنما هو الإعتراف بأن كل موجود سواه وإن عظم ولم يقدر العباد قدره، فالله خالقه، لأرفع أن يكونه الذر والهباء من خلقه. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخير منك وإلأيه والشر ليس إليك) فإن معناه: إن الإحسان منك وإليك، أي أن ما يصيبنا من خير وحسن فأنت مؤاتيه، والمنعم وما يكون منا من طاعة وفعل حسن، فأنت المقصود به، وعبادتك هي المراد منه.

فأما ما يصيبنا من خير وشر فإنه وإن كان منك أيضا فإن ذلك بشرور أنفسنا وهي ما تقع من أعمالنا من سيء وقبيح فلست المقصود به، أي ليس غرض المسيء من في إساءة خلافك وعصيانك، كما أن غرض المحسن منا في إحسانه طاعتك وعبادتك، وإنما هو عقله بغرض فيتبع المسيء فيها شوته وأن يكون العصيان عضده وإرادته، ول قصد ذلك لضاهى إبلس ومن كان من المتكبرين، فإنما هذا الكلام تبرأ من النفاق والعناد لا إنه نفى الشر أصلا عن الله، وإنكار أن يقدر الشر وبالله التوفيق. فإن قيل: قد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وهذا خلاف ما يقولون! فالجواب: أن معنى الآية {ما أصابك من شيء} فسرك من صحة بدن وظفر بعد، وسعة رزق ونحو ذلك، فالله متبديك بالإحسان به إليك، وما أصابك من سوء يسؤك، وتعمل فتكسب يدك، لكن الله تعالى مع ذلك سابقه إليك، والقاضي به عليك، كما قال في أخرى: {وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}. ويدل على صحة هذا أنه عز وجل قال في هذه السورة: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن صبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كال من عند الله، فما لهؤلاء القوم لا يكادونه يفقهون حديثا}. ثم قال بعد هذا بلا تصل {ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. فكان الذي توجبه مجموع الآيات الثلاث التي ذكرتها: إن من أصابك من حسنة من الحسنات التي تقدم ذكرها، فالله موليها ومبتدئ للأنعام بها، وما أصابك من خلافها فالله قاضيها وقادر أيضا، لكنها جزاء لمن أصابه ذلك بكسب حياة على نفسه، فكأنه هو الفاعل بها بمكان نفسه كما أن قتل قتيل كأنما قتل نفسه، وإن كان ولي قتيله هو الي يقتله والله أعلم. وأما قول الله عز وجل {إنا كل شيء خلقناه بقدر}. فليس على معنى يوجب أن يكون القدر هو القدرة والتقدير. ومعناه أنا كل شيء خلقناه بحسب ما قدرناه قبل أن

نخلقه إذ كان علمنا به سابقً له، فأثبتنا منه، فأعلمناه في أم الكتاب وبينا ما هو كائن منه قبل أن يكون، فإذا كان بحسب ذلك الذي قدرناه وفي الوقت الذي قدرناه، فالقدر هو المقدور، وكما ذكرنا في صدر الكتاب وبالله التوفيق. وجاء في ذكر ما نزلت في هذه الآية: أن قوماً من اليهود جاءوا يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت: {أنا كل شيء خلقناه بقدر}. وروى في التغليط عن من قال {لا قدر} وأن أحد الذين هم أشد الناس عذاباً فكذب بالقدر أخبار. وذكر أبو بكر الجلاد البصري عن المزني رضي الله عنه أنه قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن القدرية فقال: هم الذين يقولون أن الله يعلم الذي يكون. ومعنى تسمية هؤلاء قدرية، إن الله عز وجل قال في كتابه: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها}. فمن بغي أن يعلم الله قبل كونه، بغي أن يكون لله تعالى كتاب أثبت فيه ما هو كائن قبل أن يكون، وبين فيه أن يكون ومتى يكون، وأبطل أن يكون الله تعالى قدر قدر المقادير، ودبر بعلمه الأمور، وألحقه في العجز بعباده الذين لا يعلمون الشيء حتى يكون، فقيل لهم قدرية لأن بدعتهم وضلالتهم كانت من قبل ما قالوه في القدر، ثم على ذلك كفار، لأن من عجز الله تعالى وجهله لم يكن عارفاً به وبالله العصمة. وإذ قد كتبنا في تفسير اسم القدر فاعلمنا أنه محتاج إليه، فلنرجع إلى الكشف عن عرض هذا الكتاب، والمقصود به بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القدر خيره وشره من الله وحلوه ومره من الله). فنقول- وبالله التوفيق- أن المراد بهذا إيجاب الاستسلام له قضية الله تعالى وإقرارة بالقلب واللسان معاً لهما بالقلب، فإن لا ينظر أحد ولا يتأثر مما يجري به القضاء بما يوافقه، ولا يأنف ولا يجري لما يأتي به القضاء مما لا يوافقه. وأما اللسان، فهو أ، لا يفتخر على غيره بسبب ذلك إلى سبب يكون مرجعه إلى

نفسه، ولا يضجر مما يسوء فعل ما يشكو أحداً وينسبه إلى ظلم إصابة من قبله، لكن نضيف الأمرين إلى الله تعالى وننسبهما إلى الله تعالى وننسبهما إلى قضائه وقدره ونذغن ونستسل لما يكرهه، ويحمد الله تعالى على ما يسره. ومنزلة هذا الكتاب مما كتبت في باب الله جل ثناؤه والاعتراف له كمنزلة التزام طاعة الله وطاعة الرسول والقبول لما يخاطبه به في كتابه من آيات الباري جل ثناؤه والاعتراف له بالخق والإبداع، فإن الإقرار له وبالخلق كما يقتضي وجوب الطاعة له في أوامره ونواهيه، فكذلك الإقرار له بالتدبير يقتضي الاستجداء له والإستسلام لتدبيره، فلا نسخط منه ما يثقل على الطبائع ولا يستشعر لما يحل عله أشراً ولا بطراً. قال الله عز وجل: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، والرسول يدعوكم في أخراكم فأنابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم}. ومعلوم أن الحزن على ما يفوت والفرح بما يأتي موضوع في التنبيه والتجله، وإن التجلي بالحزن بما يفوت أصلا استحقاق له موجوداً ومعدوماً، والتجلي من الفرح بما يسر ويأتي ازدراء وقلة حفل به أيضا، وهما جميعاً غير مرضيين. فثبت أن المراد بالحزن في الآية حزن السخط والتضجر وبالفرح فرح التبذخ والتكبر والله أعلم. وقال عز وجل حكاية عن قارون أنه لما قيل له: {وأحسن كما أحسن الله إليك ولا بتغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين}. قال: {إنما أوتيته على علم عندي} ثم أنكر عليه قوله، وأخبر باستحقاقه الأذى والعقوبة، فقال: {أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً}. فدل ذلك على أن من أبصر لنفسه حالاً يحبها ويرضاها، فرأى أنها إنما دأبت له بقوة نفسه كان في ذلك مخالفة شرط إيمانه مبايناً لما يجب من حق الله عليه، وقوله: {إنما أوتيته على علم عندي} يحتمل أنه أراد به علم كنوز المتقدمين وقع إليه فاستخرجها فاستولى عليها.

ويحتمل أنه أراد به علم الصنعة، وأنه كان من أحدق الناس بها وأبهرهم فيها، وإن تلك الكنوز لما اجتمعت له من هذا الوجه، وأيا ما كان من هذين فإن الله عز وجل أخبر عنه: أنه فرح لما رأى لنفسه من الأموال، فقال له قومه: {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} والمعنى أنه اختال وافتخر واستطال ونكر كما قال عز وجل في آية أخرى: {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهبت السيئات عني إنه لفرح فخور}. وأنهم سألوه أن يحسن إلى الناس فيواسيهم ويأخذهم بأيديهم فقال لهم: {إنما اوتيته على علم عندي}. وظاهر هذا أنه عارض بهذا الجواب قولهم: وأحسن كما أحسن الله إليك، أي ليس هذا مما لا يأتي الله من غير كدح كان لي فيه، ولكنه قال توصلت إليه بعلم كان عندي، أي أنه فائدة رأيي وتدبيري، فلا يلزمني أن أواسي به غيري شكر الله تعالى به. ثم أنه خرج على قومه في زينته كما يخرج ذو النعمة العظيمة والمال الجم القوي متعظماً بها على قومه، فأنكر الله ذلك عليه وعاجل أخذه بطغيانهه وإضافته المال إلى حوله وقوته، وخسف به وبداره كان فيها من كنوز الأرض ولم يورثها موسى صلى الله عليه وقومه إذا كانت مشؤومة أطغت قارون وأضلته وحملته على ترك الإنقياد لموسى والإيمان به واتباع سبيله، فكان يظن الأرض أولى بها من ظهرها. ألا ترى أن الحل الذي جمعه السامري فاتخذ منه العجل وأضل به بني إسرائيل لم يدبه موسى ولم يردوه إلى الذين أخذ منهم، ولكنه حرق ثم ألقاه في اليم. كذلك كنوز قارون لما كانت كما ذكرنا سحقت وأبطلت، ولم يكن منها أحد من المؤمنين وبالله التوفيق. وقد يحتمل إن كانت الكنوز اجتمعت له بعلم الصنعة، أن يكون لله تعالى خسف بها لأنها كانت معمولة لم يكن ذهبها ذهباُ، ولا روقها ورقاً، فلم ير منها لله تعالى لنبيه موسى صلوات الله عله ولا المؤمنين من قومه، ولو كانت خالصة نقية لأشبه أن يورثها إياه، كما أورثه وقومه أموال فرعون وقومه حيث يقول: {فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم}. {كذلك وأورثناها قوماً آخرين}. وفي آية أخرى: {وأورثناها بني إسرائيل} وبالله التوفيق.

وقال عز وجل في آية ثالثة: {وتجعلون رزقكم إنكم تكذبون}. فجاء في تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يقولون: مطرنا بنو كذا، ومعنى هذا أنهم كانوا يرون النو موجباً للمطر، فكانوا ينسبون المطر إليه، ويعقلون عن خلق الكواكب ورتب أحوالها من الأنوار وغيرها، وأن يزول المطر عند الأنواء، إنما يكون بإرادة الباري سبحانه وتعالى، فإن شاء أن يغير العادة أو يعاقبهم بالجدب، فيحبس المطر عند الإنواء لم يكن له ذلك مانع، ولا كان لما يريده بهم دافع، فذم الله تعالى من قولهم وغايتهم، فقال: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}. فالمعنى- والله أعلم- وتجعلون شكر ربكم أنكم تكذبون بمن يرزقكم وتنسبون ما يأتيكم إلى ما هو خلقه، وإنما صلح أن يوضع إسم الرزق مكان شكره، لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه، فيكون الشكر رزقاً على هذا المعنى، فقيل: {وتجعلون رزقكم} أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقاً لكم، إنكم تكذبون بالرازق أي تضعون التكذيب مكان الشكر كما قال: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}. أي لم يكونوا يصلون، ولكنهم يصفرون ويصفقون مكان الصلاة من المسلمين. وفي هذا البيان ما أصاب العبد من خير أو شر، فلا ينبغي له أن يراد من قبل الوسائط إلى أخرى العادة بأن تكون أسباباً وجهات لحصول أقضيته وأقداره إلى عبيده، بل ينبغي أن يراه من قبل الله جل ثناؤه، ثم يقابله بما يليق به من شكر أو صبر تعبداً له وتدللاً، وبالله التوفيق. ويدخل في هذا الباب أن التاجر الكسوب الضارب في الآفاق إذا اجتمع عنده المال، فما ينبغي له أن يقول: إنما أصبت المال بجهدي وجدي، بل ينبغي أن يقول: وفقني الله للكسب فكسبت، ورزقني فأصبت، لأن لو شاء لأقعده عن الكسب، ولو شاء لحرمه ما كان يأمله بالكسب أو قوته بعدما يحصل، إذ ليس كل طالب بجد ول كل واحد يبقى له ما يجيده وهذا عادة كما أن خلافة عادة، فأضافة الموجود إذاً إلى السبب المختلف خرق وجهل، وإضافته إلى السبب الذي لا يخلف وهو فضل الله ورحمته هي التي تحق وتلزم، وقد قال الله عز وجل: {فإذا مس الإنسان ضر دعانا}.

ثم إذا خولناه نعمة منا قال: إنما أوتيته على علم بل هي فتنة، أي ابتلاء ومحنة ليظهر إخلاصه ومعرفته إن كان من المخلصين العارفين، وجهله وغباؤه إن كان من الأغنياء الجاهلين. فيصف النعمة إلى الله عز وجل ويقوم بشكرها إن كان من الأولين، وينسبها إلى قوله ويغفل عن شكرها إن كان من الآخرين، فيستحق في كل حالته خيراً يجب عمله إلا أن يمكن بالعفو عنه إذا شاء والله أعلم. وقال عز وجل في آية أخرى: {أولم تعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}. فاستجهل عزيزي سعة الرزق وضيقه يكونان إلا من قبل الله تعالى، واستنكر الذهاب عن معرفة ذلك، لأنه لا سبب يقدر العبد أن يصل إلى المال من حصته وقد لا يصل، وذلك أنه يشهد أن الموجب للغناء والوجد ليثس ما يخلف من الأسباب، وإنما هو مما لا تخلف من إرادة الله تعالى، فإنه إن يرد الغناء لأحد يفتقر، ولا الفقر لأحد فيستغني، فمن كان به للإيمان من الإذعان للحق إذا ظهر له، فهذا له أنه كافيه، وبأن يقوله عز وجل: {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}. إن الإعتراف بما ذكرت الانقياد له من الإيمان والله أعلم. وقال عز وجل في آية أخرى: {أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون}. فتداخل وعز بتعريفهم نفسه وأنه خالقهم ومنشئهم، لأن لا يرى أحد منهم أنه إذا أصاب أهله فولدت منه كان هو السبب بنفسه لوجود ذلك الولد، فأنه إذا رجع عقله، علم أنه لا يقدر على إغلاق ما به برحم أهله إن لم يعلق، وإن علق فلا قدرة له على تعليقه من حال إلى حال، ولا الزيادة في أجزائه ولا تركيب الولد منه، وتصويره. وإذا نظر في أنه ليس كل من يواقع أهله يولد له، ولا كل ما يعلق ينمو، ولا كل ما ينمو يسلم، علم أن إحالته كون الولد على السبب المخلف باطل، فإنه لا وجه إلا إحالته على إرادة الباري جل ثناؤه وصيغته ورزقه وبالله التوفيق. ثم قال عز وجل: {أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهونه} فأبان لهم أن ما يحرثونه فليس يثمر غرضهم فيه بنفس

الحرث، وإنما يتم بنائه ونموه وتزايده حتى يبلغ غايته التي يتجاوز له عنهما، وكل ذلك ما لا صنع لهم فيه. وقد يحرث الواحد فيصل من حرثه إلى مراده، ويحرث الآخر فلا يصل من حرثه على شيء مما كان في نفسه. فينبغي لهم أن يعلموا أن الله عز وجل هو المنبت للحب والقلب له حالاً فحالاً، إلى أن يظهر الريع، ويبلغه غايته التي قدرها له. ولا يقول أحد جربت فأصبت بل يقول أعانني الله فجربت، وأعطاني بفضله فأملت واستحب لكل من ألقى في الأرض بذراً أن يقول بعد الإستعاذة: {أفرأيتم ما تحرثونه أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون}. بل الله الزارع، والمنبت والمبتغ، اللهم صليث على محمد وعلى آل محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره، واجعلنا لا نعمك من الشاكرين. ثم قال: {أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجاً}. يعرفهم أنهم كانوا يتخذون المصانع كما ينزل عليهم من القطر، حتى يجتمع لهم فيها ما يشربونه، ويستمتعون به المدة الطويلة، فليس لهم أن يظنوا أن تمكنهم من الماء ووصلوهم إليه، إنما هو من قبل أنفسهم، فيمتدحوا لسعيهم على تحصيله، ويظنوا أنه على ما يسألهم إياه من أهل الحاجة إليه، وينبذ جوابه عىل من لا عنده، بل ينبغي لهم أن يعلموا أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إليهم ويطول به عليهم، وأنهم لو اتخذوا مكان كل مصنعة مصانع، وحبس الله عنهم القطر لم تغن عنهم مصانهم شيئاً. ولو أنزل الله عز وجل عليهم القطر فأبرزه ولم يغزره لما أفادتهم المصانع شيئاً، ولو أغزره ثم ما يمكن عدمه مع وجوده، ووجوده مع عدمه، بل الواجب إحالته على المنان الكريم الفعال لما يريد، ومقابلة فضله بالشكر. رجاء أن يديمه لهم. ثم قال عز وجل: {أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون} فعرفهم أن النار التي يورثونها من الأشجار ويقولون: في كل شجرة نار، واسمخد المزج

والعقار هو الذي ركبها فيما يورى منه لا يستطيعون أن يدعونه أنهم أو آباءهم الأقدمين، الذين هم أودعوهها أياها وركبوها فيها، وإذا كان ذلك من صنعه، كما جمع المتفرق منها في الشجرة عند معالجة الإيراء ثم إخراجها منه صنعه، وإلى ذلك، فهو الذي هداهم أبر النار من الشجرة، ولولا ذلك لما علموا أن الشجر الأخضر الذي جعل قوامه بالماء المطفي النار محلاً للنار، وجامع بينها وبين الماء، ولو شاء عند قعدهم الإيراء أن يحبس النار فعلا ينررها لهم لفعل، وأنه ليس كل قادح يوري وقادح، وأن أمعن لا يورى، لم يجز أن يتوهم أن القدح موجب للإيراء ووجب أن يضاف إلى ذلك إلى السبب الذي لا يختلف وهو إرادة الباري جل ثناؤه وفضله وعطيته، ولا يوصف الشجر بالمجيد من صفات الله تعالى، وهو المجيد والماجد وبالله التوفيق. وقال جل ثناؤه في آية أخرى: {إن تصبك حسنة تسؤهم، وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل، ويتولوا وهم فرحون} فأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه إن أصابته حسنة ساءت المنافقين القاعدين عنه، ويتخطوا إصابتها إياك. وإن أصابتك مصيبة فرحوا وقالوا: إنا سلمنا مما أصاب غيرنا لأنا احتطنا لأنفسنا بالتخليف عنه، واستقلنا الأمر بواجبه، وحسنا التدبير، فذمهم الله عز وجل وعاب قولهم هذا، وامر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم فيقول: {لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا} أي خالقنا، وهو في أيدي الملائكة ينهظرون فيه ويعلمو منه أحاطة الله تعالى بما هو كائن من أمور عباده قبل أن يكون. فلا سبيل لأحد الاحتراز من أن يصيبه ما كتب أن يصيبه، ولا إلى الاحتراز ما لم يكتب أن يصيبه، وبالله التوفيق. وقال عز وجل: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير}. ثم قال: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم}. يحتمل أن يكون المعنى: فاعلموا هذا وأعلمناكم هذا لكيلا تحزنوا على ما يفوت، ولا تفرحوا بما أتى.

وقد بينت فيما تقدم أن هذا حزن السخط وقرح التبذخ، ويدل على ذلك قول الله عز وجل موصولاً بما ذكرت: {والله لا يحب كل مختال فخور} فأبان أن الفرح ذمه وانكره هو الاختيال والتفخر به على من لا يؤت مثل ما أوتي، وذلك فعل ما يرى أن الذي تيسر له فيمن قبل نفسه، فأما من يعلم أنه إنما أنعم به عليه من لا يعجزة تعميم العباد كلهم بمثل ما أعطاه وخير واكثر منه، فإنه لا ينكر بما أوتيه على غيره ولا يروي أحدكما لأجل أنه لا يرى له مثل ما يرى لنفسه على حمد ربه والتقرب إليه بما يديم له عوارف فضله. وقال في آية أخرى: {قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله} فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر أمته أنه ليس إليه من أمره شيء، وأنه لا يقدر على أن ينفع نفسه ولا يضرها، ليعلموا أنه إذا كان مع اصطفاء الله تعالى إياه برسالته لا يملك من امر نفسه شيئاً، فمن لم يكن له من الله هذه الأثرة وهذه المنزلة فهو من أن يملك مضر نفسه أو نفعها بعد، وعن أن يملك نفع غيره أو ضره أعجز، وبالله التوفيق. وأما الحديث الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، وإن خيره وشره من الله، فقد روى فيه: (وأعلم أن ما أصابكم لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن يصيبك). ومعنى هذا وجوب البصر، وإلى الله تعالى من الحول والقوة والاستسلام للقضاء والقدر وشرح الصدر به. ومعنى حلوه ومره ما سر وجف عن الطبع وساء وثقل على القلب والله أعلم.

السادس من شعب الإيمان وهو باب في الإيمان بالله واليوم الآخر

السادس من شعب الإيمان وهو باب في الإيمان بالله واليوم الآخر ومعناه التصديق بأن لأيام الدنيا أخرى، أي أن الدنيا متصفة وهذا العلم يوماً ينتقص صنعه، وينحل تركيبه في الإعتراف بانقضائه إعتراف بإبدائه، لأن القديم لا يغني ولا يتغير، وفي اعتقاده وانشراح الصدر به، ما يبعث عن فضل الهبة من الله تعالى وقلة الركون إلى الدنيا والتهاون بأحزانها ومصائبها والصبر عليها، وعلى مضض الشهوات إحتساباً وثقة بما عند الله تعالى من حسن الجزاء والثواب، وقد ذكره الله عز وجل في كتابه، فقال: {ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين}. وقال: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}، إلى غير ذلك من آيات سواها. ومن أنكر اليوم الآخر، فكأنما أنكره من حيث أن الأفلاك ليست بمحدثه، وأن العناصر وهي الماء والتراب والهواء والنار ليست بمحدثه، كان أهم ذلك إلى أن أنكروا فناءها واقتصاصها، وللمسلمين عليهم في نقض أصولهم، وإفساد مقالاتهم، وإبانة ان كل ما سوى الله فهو صنعه، فلا قديم عليه ما لا يبقى لمتأمله بعد وقوعه عليه موضع شبهة بإذن الله وتوفيقه. وقد كتبنا في الشعبة الأولى من أطراف ذلك ما أمكنا أن تقع به الكفاية، وإذا ظهر أن كل ذلك حدث، فأمره إلى محدثه بنفيه ما شاء ويديم له هباته المشاهدة له ما يشاء. فإن أراد إفناءه أو تغيير كله أو بعضه لم يعجزه، فإنه القادر على ما يشاء والفعال لما يريد. وقد أخبر عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مفنى على وجه الأرض ومبدل الأرض غير الأرض، وأن الشمس تكور، وأن البحار تسجر، والكواكب تنثر فيذرها قائمة

صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وكل ذلك كائن على ما جاء به الخبر، وعد الله صدق وقوله حق. وأما ما وراء ذلك مما لم يخبر الله عز وجل عنه بشيء، فأمره إليه، وهو أعلم بما هو فاعله. ولا ينبغي لنا أن نتكلم فيه بشيء لأن القول على كل حال يغير علم حرام، فالاجتراء به على الله جل ثناؤه أشد وأولى بالحرمة. أغني بهذا إن سائل سأل: أن السماء إذا طويت والشمس إذا كورت أو الكواكب إذا انتثرت، أو عن الأرض بعد ركوب الناس الصراط وفراغها منهم، ماذا يكون من أمرها بعد ذلك؟ لم يكن له جواب يمكن القطع به، والأولى بالمسؤول أن يقول: كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الساعة: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل). فإن مثل هذا لا يدرك إلا بخبر ولم يأتنا في هذه الأبواب عن الله جل ثناؤه خبر إلا أن في الجمله يخبرنا بانتقاض الأجسام، فإن أراد الله تعالى أفناها وحبس البقاء عنها، وفعل ذلك بها، وإن أراد غير ذلك فله الحق والأمر يفعل ما يشاء ويحكم ما يرد، وهو على كل شيء قدير. فصل إن سأل سائل عن تفسير الساعة التي تكرر ذكرها في القرآن، قيل: الساعة على وجهين: أحدهما الساعة الأخيرة من ساعات الدنيا، والأخر الساعة الأولى من ساعات الآخرة، قال الله عز وجل: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض} فهذا على الساعة الآخرة لقوله تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة}. وكذلك قوله: {يسألك الناس عن الساعة} فهو على الساعة الأولى من ساعات الآخرة، وهو حين يبعث من في القبور لقوله تعالى: {يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة}.

وكذلك قوله: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}. وهو بمنزلة قوله: {يوم يبعث الناس ويوم البعث} والله أعلم. فصل وإن سأل سائل: عن اليوم الآخر: ما حده ونهايته؟ قيل له: اليوم الآخر إنما به أيام الدنيا، والدنيا بعث للحياة. قال الله عز وجل: {وما هذه الحياة الدنيا}. وقال: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع الغرور} فاليوم الآخر هذا، هو آخر أيام الحياة الدنيا، فإذا نفخ في الصور وصعق من في الأرض فلم يبق منهم أحد، فيومهم الذي انقضت فيه حياتهم الدنيا هو يومهم الآخر إذا نفخ في الصور نفخة الأحياء فبعثوا فذلك يوم القيامة وما بينهما لا من الدنيا ولا من الآرخرة، وهو البرزخ الذي ذكره الله عز وجل في كتابه فقال: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}. فإن قال قائل: لم لا قلت: إن نهاية اليوم الآخر تكوير الشمس، لأن الليل والنهار حالان من أحوال الشمس، فإذا كانت الشمس فهو نهار، وإذا كانت تحت الأربض فهو ليل، فإذا بطلت الشمس فلا ليل ولا نهار، يعلم بهذا نهاية أيام الدنيا تكوير الشمس. قيل: لو كان هذا هكذا، لكان البعث يقع في الدنيا لأن الشمس تكور على أبصار الناس بعد البعث. وقد أجمع الناس على أن الموتى لا يردون إلى الدنيا، فبطل بهذا أن يكون نهاية أيام الدنيا تكوير الشمس على أن الدنيا صفة للحياة- كما قلنا- فلا جائز أن تكون الحياة منقطعة بالإطلاق إسم الدنيا باقياً والله أعلم.

فصل إن سأل سائل عن يوم القيامة: هل يكون له آخر؟ قيل: قد يسمي الله هذا اليوم يوم الدين، وهو الحساب والجزاء، فإذا لم يكن الجزاء متقضياً لم يكن يومه متقضياً. فإن قيل: فما معنى قول الله عز وجل: {في يوم كان مقداره ألف سنة}. قيل: لم اجمع الله المسلمين على ما ذكرت لم يجز أن يكون يوم الدين مقداراً إلا أن يقول قائل: إن له أياماً كل يوم منها خمسون ألف سنة من أيام الدنيا، فيكون أدعى ما لا يعرف يوم القيامة، ولا يقول له عليه دليل. وإن احتاج إلى بيان ما يقع به النصل بين الأيام لا يمكن أن يقول: إن لها ليالي، وإن أراد أن يقول غيرها لم يجده. وإذا كان الأمر على ما وصفت، بان هذا التقدير إنما هو لعروج الملائكة والروح من الأرض إلى الله جل ثناؤه لأن مفتتح هذه الآية: {تعرج الملائكة والروح إليه}. في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون فيحتمل أن يكون هذا المعنى: أنها تبارك من السماء إلى الأرض ثم تعرج من الأرض إلى السماء الدنيا من يومها، فتنقطع ما لو احتاج الناس إلى قطعة من المسافة لم يقطعوها إلا في ألف سنة مما تعدون، وينزل من عند العرش إلى الأرض ثم يعرج منها إلى السماء من يومها. ولو احتاج الناس إلى قطع هذا لمقدار من المسافة لم يقطعوها إلا في خمسين ألف سنة مما تعدون، وليس هذا الأمر من تقدير يوم القيامة يسأل، وهو لا متصل بما قبله من هذه السورة أو بعده، ولكنه من صلة قوله: {من الله ذي المعارج}. فإنه لما وصف نفسه بذي المعارج بين أن هذه المعارج لملائكته، فقال: {تعرج الملائكة والروح إليه}. أي إلى حيث جعله مضافاً لهم حول العرش في يوم كان مقداره ألف سنة، ثم قال: {فاصبر صبراً جميلا إنهم يرونه بعيداً ونراه قريبا}. فعاد إلى ذكر العذاب الذي وصفه في أول السورة بأنه واقع وليس له دافع

فقال: إنهم- يعني الكافرين- يرونه بعيداً من العذاب، ونراه قريباً، ولم يرد أنهم يرون اليوم الذي تقدم ذكره بعيد، لأنهم لم يكونوا يثبتونه أصلا، فكيف يستبعدون لا يعرفونه ويجحدون كونه. وهذا التقدير الذي يذكر للعروج لا يختض به وقت دون وقت فإن كان ها هنا دليل يدل على أن المراد بقوله تعالى: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} يوم القيمة، فالتقدير أيضا ليس يرجع إلى يوم الجزاء، وإنما يرجع إلى عروج الملائكة ويكون المراد بها يوم الدين، تعرج إلى الله فتقطع من المسافة ما لا تقطع الناس مثلها في خمسين ألف سنة لو عمروها، وذلك لطول الطريق عليهم، فإن السموات إذا طويت لم يكن لهم يومئذ مصعد يفرون فيه، وإنما يعرجون، إذا عرجوا إلى حول العرش. وذكر وهب- رحمه الله أن ما بين الأرض والعرش خمسين ألف سنة من أيامنا وشهورنا وسنيننا، أو يقال: أن الملائكة كانت تستطيع قبل اليوم أن تنزل إلى الأرض من أعلى مقام لهم في السموات وفوقها ثم تعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة. فأما في يوم القيامة فلا تستطيع ذلك، لأنها وإن كانت آمنة من العذاب، فإن ما يشاهدونه من عظمة الله وشدة غضبه ذلك اليوم على أهل العباد من عباده يفرقوهم فيحتاجون للعروج إلى مدة أطول مما كانوا يحتاجون إليه مما قيل، فقد الله ذلك بخمسين ألف سنة، فهذا كما جاءت به الاخبار: من أن العرش على كواهل أربعة من الملائكة، ثم أخبر عز وجل عن انهم يكونون يوم القيامة ثمانية، فقال: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}. وفي بعض الاخبار أن أولئك الأربعة يؤيدون بأربعة آخرين، وهذا على ما يشاهدونه يوم يكشف عن ساق تغرهم فيحتاجون إلى من يمدهم ويعينهم، فيحتمل أن تكون حالهم في العروج مثل هذا. فصل فإن قال قائل: رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن الساعة فقال: (ما المسؤول عنها باعلمن من السائل). وهذا يدل على انه عنده بها علم. ورويتم عنه أيضاً قال: (بعثت

أنا والساعة كهاتين). وهذا يدل على أنه إن كان عالماً بها، فكيف يأتلف وإن الخبر بيان؟ قيل لهم: قد نطق عنه القرآن بأنه لم يكن يعلمها، ولا احد من خلق الله عز وجل، لأنه قال: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي، لا ايجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا يأتيكم إلا بغتة، يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين) أي أني أنا النبي الآخر، فلا يليني نبي آخر، وإنما تليني القيامة وهي مع ذلك دانية، لأن شرائطها متتابعة بيني وبينها، وذلك أنه أشار بإصبعيه المتجاورين إيمانهما. إلا أن توليد الأنبياء عليهم السلام قد انقطع فليس يتراخى الأمر بعده إلا أن ندرس شريعته ويبعث بعده نبي، وإنما تليه القيامة كما تلي السبابة الوسطى، وليست بينهما إصبع وهذا لا يوجب أن يكون له علم بالساعة نفسها، لأن ما بين الأشراط وما بين آخر الأشراط والساعة، وإذا لم يكن معلوماً لم يوجب العلم بأول الأشراط ولا بدنوها العلم بالساعة والله أعلم. وهذه الأشراط قد ذكرها الله جملة في القرآن فقال: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها}. أي دنت، وأولها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نبي آخر الزمان وقعد بعث وليس بينه وبين القيامة نبي. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم بما يليه من الأشراط، فذكر أن تلد الأمة، ومنها: وتطاول الناس في البنيان، وضياع الحكم، وشرب الخمر ويكثر الهرج وتابع الفتن، تظهر المعارف، ويكون زعيم القوم أرذلهم، ويكرم الرجل مخافة شره، وقد كان هذا كله. وذر فيض العلم وقد بدت أوائله، وأموراً تهم الله تعالى ذكرها في قوله عز وجل: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو تأتي بعض آيات ربك، يوم تأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل}.

أراد بهذه الآية طلوع الشمس من مغربها، وقد خبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كائن وأنذر تغلبه الإنزال، وخروج الرجال، وأن عيسى عليه السلام ينزل ويقتل الرجال ويكسر الصليب وقتل الخنزير، وأن المال يفيض في زمانه فلا يقبله أحد، ونطق القرآن بخروج الدابة من الأرض، وجاء ذكرها في الأخبار، وكل ذلك مقبول عندنا مصدق به. ومن استبعد طلوع الشمس من مغربها فليراجع دينه إن كان ذا دين، فإن اطلاع الشمس من مغربها دون تكويرها، فإن كان قد اعتقد تكويرها وطي السموات بأفلاكها فلا يستبعد إطلاع الشمس من مغربها دلالة من الله على عباده: على أنه يناقض تركيب العالم، وحال ربطه، وأن الأمر في ذلك قد دنا وتقارب. وإذا كان يعلم أن الله عز وجل، إذا كان يجعل الكواكب الخمسة حالاً إذا بلغها رجعت، فلا تزال كذلك تبلغ في رجوعها الحد الذي وضعه لها ثم تأخذ في السير المستقيم، فليجز أن يكون الله تعالى جعل الشمس في مسيرها نحو المشرق ودنو طلوعها حالا يبلغها عند دنو الساعة وإذا بلغتها رجعت حتى تكون مغربها، فنظر فيه إلا أنه لم يطلع عباده عل تلك الحال، ولم يعلمهم إياها كما أعلم حال رجوع الكواكب. وإنما قلنا هذا لأنه جاء في الحديث أن تلك الليلة تطول، ولا يعلم بها المجتهدون وأصحاب الأفراد، فإنهم يفرغون من أورادهم ولا يتخلى الليل عنهم، حتى يعودوا فيستوفون أوراد ليلة أخرى، فعلمنا أن طلوع الشمس من مغربها إنما هو: من أن تغرب الشمس فتسير سيراً مستقيماً حتى إذا قطعت ما تحت الأرض وكادت تطلع رجعت وراءها فتقطع ما تحت الأرض راجعة في قدر ليلة أخرى، حتى إذا بلغت موضعها التي غربت منه ظهرت فرآها الناس طالعة من مغربها، فيكون عند ذلك كرجوع الكواكب مما ألقاه الله إلى عباده، وعلم رجوع الشمس مما استأثر به، ولم يوقف أحداً على الحال التي هيأها له وبالله التوفيق. فصل ثم إن الحكم في تقديم الأشراط دلالة الناس عيها وإخبارهم: بأن منها ما إذا وقع لم ينفع نفساً إيمانها بتنبيه الناس عن رقداتهم وحثهم على الاختيار لأنفسهم بالتنزيه والإثابة

لي لا يعامضوا بالخول بينهم وبين تدارك الفوارط منهم وليكونوا عند ظهور هذه الأشراط شيئاً فشيئاً كالمريض إذا صادف إشراط الموت عليه شيئاً فشيئاً، فإنه لا يألوا في ذل الوقت أن يتوب ويوصي ونظر لنفسه ولورثته وسائر أصحاب الوسائل عنده، ولذلك ينبغي الناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة، نظراً لأنفسهم وانقطاعاً عن الدنيا واستبقاء بالساعة واستعداداً لها وبالله التوفيق. فصل وكل ما تقدم ذكره في إخفاء أمر الساعة على الملائكة والأنبياء صلوات الله عليهم، وتفرد الباري جل جلاله بعلم وقتها مما لا يختلف فيه المسلمون، وقد أكثر المنجمون الحوادث في وقت انقضاء العالم، ولم يقل أحد منهم فيه شيئاً يعلم لكن بظن وحدس، لأن جماعتهم استبقوا ما قالوه من أحوال الكواكب، فقال بعضهم: عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعدد النجوم السيارة لكل واحدة ألف سنة. قال بعضهم: ثلاثمائة وستون ألف سنة بعدد درجات الفلك، لكل درجة ألف سنة. وذكرت الهند لذلك حساباً طويلا جعلوا آخره أن تجمع الكواكب كلها في آخر نقطة من الحوت، فتعود كما كانت حتى تحركت من أول نقطة من الحمل، وذلك أمد بعيد جداً، وما بقي من أيام العالم عندهم في هذا الحساب، أكثر مما مضى. وليس هذا حكماً يمكن القطع به، وإن كانوا في الحساب الذي حسبوه مصيبين، لأنه قد يجوز أن يكون هذا الأمر محتاجاُ إليه لتصير الكواكب في آخر الحوت، كما كانت اليوم الأول في أول الحمل إن تركت وبلوغ هذه الحال والمصير إليها، ولكنها لا تترك وذلك لرجل يقول: بيني وبين أن أبلغ سن أبي ثلاثون سنة، فإن أبي بلغ مائة سنة، وأنا ابن سبعين سنة، فيكون صادقك في قوله، ولكن على معنى أن بينه وبين أن يبلغ سن أبيه ثلاثين سنة أن ترك وعمر، وقد يمكن أن لا يترك وبلوغها بل يخترم دونها. فلذلك ما قاله هؤلاء في انقضاء الدنيا فهذا سبيله. وأيضا فإن الذي يؤمنهم أن بلغت الكواكب آخر الحوت وعادت إليه كما كانت أن يكون لها تحرك جديد من أول الحمل، فتتجدد الدنيا دون أن ينصرم وما الذي أوجب

أن تنقضي الدنيا في ذلك الوقت فهذا مما لا دلالة لهم عليه، فإنما هو ظن والظن كذب الحديث وبالله التوفيق. وكل ما قلته في قول الهند والسيارة لكل نجم ألف سنة أو أنه إثنا عشر ألف سنة بعد البروج، لكل برج ألف سنة، لأن هذا الحكم وإن كان ملائماً لوضع الأفلاك والكواكب، فقد يجوز، إذاً بعض الآلاف أن يحدث قطع كالإنسان الذي يمكن أن يبقى لكل طبيعة من الطبائع الأربع التي فيه مدة من المدد، إلا أنه إذا مرت به قسمة بعضها، انقطع عمر، فلم تبلغ قسمة ما بقى منها، فهذا من أصلهم مما يعارضون به، فيلزم أن يخبروا حدوث مثل ذلك على عمر العالم والله الموفق. ويقال لهم أن الكواكب مختلفة الأحوال، مختلفة القوى، متفاوتة الأجرام، وأقدارها وبعضها سفلية. فلم جعلتم للكواكب السفلى من السنين مثل ما جعلتموه للعلوي الكبير، ولم كان الذي يصيب كل كوكب أو كل برج ألف سنة دون أن يكون ذلك أقل أو أكثر. ومال الدلالة القاطعة بهذا والموجبة له، فلا يجدون إلى إقامتها سبيلا. وفي ذلك ما أبان أنه ليس في هذا الباب شيء يجوز القطع به، وليس إلا أن يفوض العلم فيه إلى الله جل ثناؤه كما جاء به القرآن وبالله التوفيق.

السابع من شعب الإيمان وهو باب في الإيمان بالبعث بعد الموت

السابع من شعب الإيمان وهو باب في الإيمان بالبعث بعد الموت يعيد الله تعالى الرفات من أبدان الأموات، ويجمع ما يفرق منها في البحار وبطون السباع وغيرها حتى تصير بهيئتها الأولى، ثم يجعلها حية فيقوم الناس كلهم بأمر جل ثناؤه أحياء صغيرهم وكبيرهم حتى السقط فإنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أن السقط ليظل محنطاً على باب الجنة وأنه يقال له: أدخل، فيقول لا يدخل أبواي، وهذا يدل على أن المراد بالسقط هو الذي تم خلقه ونفخ فيه الروح، فيكون المراد من ساعته. وقد أخبر الله جل ثناؤه: أن الموءودة تحبس وتسأل، {بأي ذنب قتلت}. والسقط التام خلقة قرئت منها. فأما الذي لم يتم خلقه ولم ينفخ فيه الروح أصلا، فهو وسائر الموت بمنزلة واحدة والله أعلم. فإن سأل سائل عن الأحمال التي تضعها الحوامل يوم القيامة من قرع يومئذ، كما قال عز وجل: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها}. قيل له: إن أولئك الحوامل قد متن بأحمالهن مرة فإذا بعثن فأسقطن من قرع القيامة أسقطن الأحمال التي كانت أحياء فماتت بموت أمهاتها أحياء، ثم لم تمت الإسقاط لأن الموت لا يتكرر عليهن مرتين لأنه لا موت في القيامة وإنما هو يوم الحياة. وأما الأحمال التي تكن أحياء قط وماتت الأمهات وهي في احواقهن فإنهن إذا أسقطنها من قرع القيامة أسقطنها أمواتاً كما كانت، ولا تحيى لأن الأحياء ذلك اليوم إنما

يكون إعادة الحياة إلى من كان حياً وأميت، ولم يكن له في الحياة الدنيا نصيب أصلا فلا نصيب له في الحياة الآخرة والله تعالى أعلم. وقد ذكر الله تعالى البعث في كتابه فقال {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا، قل: بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم، وذلك على الله يسير}. وقال: {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن}. وقال: {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليا الماء اهتزت وربت، إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير}. وقال: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه، قال: من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}. وقال: {فسقناه إلى بليد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور}. وقال: {قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه}. فأخبر الله عز وجل عباده أنه يميت جمعهم ثم يحييهم ويبعثهم من قبورهم وبجمعهم في صعيد واحد ويحاسبهم بأعمالهم ويجزيهم بما وقرت ذلك عليهم بأشياء كثيرة منها: الإحالة على القدرة، ومنها المعارضة بالابتداء، ومنها التنبيه على ما يشاهده من لقائه أحياء وإحيائها بعد موتها. ومنها ما اخبرهم به من أرائه إبراهيم صلوات الله عليه إحياء الأموات، وقد نقله عامة أهل الملك، ومنها ما أجبتم عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم: موتوا ثم أحياهم. ومنها ما أخبر به من شان أصحاب الكهف الذي ضرب على آذانهم زيادة على ثلاثمائة سنة ثم أحياهم ليدل يومهم عندما اعتزم عليهم على أن ما أنذروا به من البعث بعد الموت لا ريب فيه. ومنها ما أخبرهم به من قلبه عصا موسى عليه السلام حية، ثم أعادتها خشبة، ثم جعلها عندن محاجة الشجرة حية ثم إعادتها خشبة، وقد اشترك عامة أهل الملك في نقله. فأما الإحالة على القدرة: فقوله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السموات

والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى إنه على كل شيء قدير}. وأما المعارضة بالابتداء فقربته من هذه الحجة، وهو قوله عز وجل: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} وإنما فرق بين الاحتجاجين أن أحدهما ما يبدأ خلق الذين وعدهم أن يعيدهم كما بدأهم، والآخر يخلق الأجسام التي هي أعظم وأكبر من الناس، وكل واحد منهما لا يلزم لمنكري البعث أشد اللزوم. أما أحدهما فلان الإنسان أحد الحيوانات الأرضية، فينبغي أن يكون خلق الأرض نفسها بما يحيط بها من السموات أكبر من خلق الإنسان مبتدأ ومعاداً. فإذا كان الله قد خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقها، فأولى أن يقدر على خلق الإنسان مبتدأ أو معاداً. وأما الآخر فلان الإعادة ليس منها ما في الابتداء فإذا جاز أن يخلق آدم من حمأ مسنون، ثم جعله صلصالاً كالفخار، ثم نفخ فيه الروح فجعله لحماً ودماً وعظاماً وعروقاً وأعصاباً، فلم يجوز أن يجعل الأموات منه ومن ولده تراباً ثم يخلقهم منه مرة أخرى بشراً كما خلق آدم أولا. وهاتان الحجتان على من اعترف الباري جل جلاله وابتدائه الخلق، وأما من بلغت به الزناخة أن يجحد الباري جل جلاله فإنما تكلم في إثباته أولا، ولا يقدم على ذلك مالا يطلق النظر قديمه عليه والله أعلم. فإن قال قائل: أليس الخزاف قد يعمل الجرة أو الكوز، فإذا انكسر الإناء لم يقدر على إعادته. فيقال له: إن إعادة الخزف تراباً لدنا كما كان قبل، لا يمكن للخزاف أن يعمل منه ثانياً مثل ما كان عمله أولا! ألا ترى أن الإناء المفروغ من صنعته لو انكسر من قبل أن يصير فخاراً لأمكنه إصلاحه وإعادته، ولكن تكسره بعدما صار فخاراً لا يعيده تراباً لدنا كما كان. والإنسان إذا رسم عاد تراباً كالتراب الذي خلق أول إنسان منه، فلما كانت القدرة قد أتت على الخلق الأول فلذلك يأبى على الخلق الثاني، ألا ترى أن أواني الحديد والرصاص

والنحاس إذا انكسرت أو دخلت النار فأذيبت حتى عادت تبرا كما كانت أولا، لا تمكن الصانع الذي صنع منها تلك الأواني أولا يصنعها منها ثانياً، فلذلك الباري جل جلاله لما خلق آدم من تراب ثم جعله تراباً يقدر أن يخلقه منه مرة أخرى وبالله التوفيق. وأيضا فإن الخزاف لا يتهيأ له تغيير الطبائع التي طبعها الله تبارك وتعالى والله جل ثناؤه لم يطبع الماء على أن يؤلف بين خزفين كما طبعه على أن يؤلف بين آخر التراب، فإنما يمتنع على الخزاف إعادة ما ينكسر عليه بتعجيز الله جل ثناؤه لم يمتنع عليه شيء ولا يعجزه فالابتداء والإعادة في قدرته سواء وبالله التوفيق. ومن ذكر أمر الخزاف مبتدأ للاحتجاج به لا معارضاً، قيل له سواء ما ذكرت. أليس الخزف لولا صدع الخزاف على أن يلام بما هو من حبسه حتى يعود كما كان، ولو اتخذ آنية صغيره لم يقدر أن ينمها ويكبرها على الأيام ويحدث كل يوم منها زيادة يسيرة ولا يختص بها مكان معلوم، ولكنها تسبغ في جملتها ولو مرتين يظن آنية، أو أظهرها فذهبت الأضراس لم يكنه أن يعيدها، والله يبري الشحاح والجروح، ويجبر العظام المنكسرة، ويكبر الصغير وينميه على ما وصفته، ويعيد الأسنان بعد سقوطها، فلا ينكر أن يعيد الأموات بعد بلو أو رموا أحياء. وإن كان الخزاف لا يمكنه أن يعيد الخزف المنكسر كما كان. وأما الاحتجاج بما يشاهده من إحياء الله تعالى الأموات، فإنه وقع تبليه أشياء: أحدهما بالأرض تكون حبة تنبت وتمر وتموت، فتصير إلى أن تنبت وتبقى خاشعة هامدة. فأما حياتها فإنها تكون عند سخونة الهواء الذي جاورتها وإسخانه إياها، وانسياق الماء إليها وترطيبه لها. وأما موتها فإنما يكون عند اسخان الشمس إياها من غير ما تصل إليها، لأنها تصير عند ذلك كالفخار، وعند برودة الهواء المجاور إياها وتبريده لها، وصل الماء إليها أم لم يصل. وهذه أحوال تتعاقبل على الأرضين كل سنة، فإنها تنبت وقتاً ثم تصير إلى أن لا تنبت وقتا، فإذا انبتت كانت حية تهتز، وإذا لم تنبت كانت ميتة هامدة، والله عز وجل هو

الفاعل للأمرين، والمصرف لها على الحاليين، فإذا قدر على ذلك لم يعجز أن يميت الإنسان أو يسلبه معاني الحياة ثم يعيدها إليه ويجعله كما كان وبالله التوفيق. فإن قيل: ليس فيما أن الأرض لا تنبت في الشتاء ما يوجب لها حكم الموت ولا اسمه، فإن الشجر لا ينبت الأوراق ولا يخرج الثمار في الشتاء ولا يوجب ذلك لها حكم الموت ولا اسمه. فالجواب: أن هذا السؤال ليس يطعن فيما قلنا بالحقيقة، وإنما هو معارضة لأن الشجر إذا لم يورق ولا يثمر في الشتاء فإن الأرض ميتة لا تنبت، وورق الشجر وثمره غير خارجين من أن يكون انباتهما مضافاً إلى الأرض، فإذا ماتت الأرض فلا انبات منها لا لنفس الشجر ولا لورقها لا لثمرها، فلم يجز أن يستبدل بعدم الأوراق والإثمار من الشجر على انها ميتة، لأن الشجر ليس بأصل في نفسه وإنما هو مستعد من غيره، فإذا انقطع المدد عنه لم يكن له ورق ولا ثمر، ولا صح الاستدلال بذلك وبغيره من وجود الاثبات على أن الأرض تموت في الشتاء إذا كانت لا تهتز لما يساق إليه، ولا شمس تنبسط عليه، ولا يكون منها اثبات كما لا يهتز الميت بسبب من الأسباب ولا تأتي منه الأفعال التي كانت تأتي في حال الحياة وبالله التوفيق. فإن قيل: لو كانت الأرض ميتة لم تبق الأشجار الراسخة فيها حية ولماتت ثمرتها. فالجواب: أن الأرض تموت كما قال الله عز وجل، ولكن الشجر الراسخ لا يموت بموتها. لأه قد استمد منها حسناتها تتباقى به إلى أن يحيي الله تعالى الأرض، بذلك أجرى الله تعالى العادة ولو توهمنا الموت مستمراً بالأرض لم نتوهم الأشجار الثابتة فيها حياة. ألا ترى أن الشجر الرطب إن أقلع في الربيع فقد يتباقى أياماً كثيرة إلى أن يغرس ثانية، ولم استمر به القلع ولم يغرس، يتوهم مع ذلك حبة فكذلك يبقى بعد موت الأرض، وهي انقضاء الشتاء إذا كانت قد استمدت قبل ذلك من الأرض والماء ما يكفيها، ولو استمر الموت بالأرض لم تبق، كما استمر بها القلع لم تبق. فإن قيل: قد استمدت من الأرض قبل موتها ما يحتاج إليه، فلم لا يورق ويثمر. قيل: إن الاستمداد في المستقبل ينقطع ولا يتسع ذلك الموجود لها، ولزوائد تحدث فيها. وقد يمكن أن يسبق من هذا الموضع فرق بين الشجر والأرض جواباً عما عورضنا به

وإن كنا مستغنين عنه، وذلك بأن نقول: إن حياة الشجر بالماء في طراوته ورطوبته بما تيسر به بعروقه من الماء سوى ما يجري به الماء من أجزاء الأرض وتيسره لذلك. فإن انقطع في الشتاء فإن ما اشتد به من قبل لا يزايله، ولكن يبقى منه فيه ما تدوم عضاضته طراوته فيه، وإن لم يبلغ حداً يكون من ورق أو ثمر، فلذلك لم يجز أن يوصف بالموت. وأما حياة الأرض فإنما تكون بتعديل الهواء الحار ليردها، وتعديل الماء الذي هو رطب لنبتتها حتى يتسع عند اعتدالها لها الانبات. ومعلوم أن الشتاء إذا جاءت فإن هذا التعديل كما ينقطع منه شيء، وكذلك لا يكون الانبات فاستحقت لذلك الوصف بالموت والله أعلم. والثاني من الثلاثة الأشياء التي ذكرناها أن الله تعالى احتج على عباده قوله عز وجل {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم}. يعني نطفاً في الاصلاب والأرحام فجعلكم منها بشراً تنتشرون. وقال: {ألم نخلقكم من ماء مهين، فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم، فقدرنا فنعم القادرون}. فأعلمهم أنه إذا أخرج النطفة من صلب الأب صارت ميتة، ثم أنه عز وجل يجعلها حية فيخلق من خلق منها، ويركب الحياة فيه، فهذا حيات ميت في المشاهدة، فمن يقدر على هذا لا يعجز عن أن يميت هذا الخلق ثم يعيده حيا، وبسط هذا المعنى جل ثناؤه في آية أخرى فقال: {ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}، وهذا أبلغ ما يكون على الاحتجاج في هذا الموضع وبالله التوفيق. والثالث قوله عز وجل: {إن الله فالق الحب والنوى، يخرج الحي من الميت}. وذلك أن الحب إذا جف ويبس بعد انتهاء تمامه ووقوع الناس من ازدياده. وكذلك النوى إذا تناها عظمه وجف ويبس كانا مسببين ثم أنها إذا أوعا الأرض الحبة فلقهما الله تعالى وأخرج منما ما يشاهد من النخيل والزرع حبا ينشأ ويثمر إلى أن

يبلغ غايته ويثمر أجل في هذا المعنى للبيضة بفارق الناقص، فيجري عليها حكم الموت ثم يخلق الله تعالى منها فرخا حيا، فهل هذا الأحياء الميتة وهو أمر مشاهد والعلم به ضرورة. قال قائل: الحب والنوى والبيض كلها حية لبقاء الرطوبة الأصلية فيها، فلذلك تنبت الحبة والنوى ويخرج البيض الفرخ. ألا ترى أن البيض إذا استوى، والحب إذا قلى، فلم يكن من ذاك فرخ ولا من هذا نبات! فالجواب: أن البيض ميت فلذلك يعفن ويفسد بتطاول الزمان عليه، والحي لا يعفن بمرور الزمان، ولا الفرخ الذي يحدث من البيض يحدث ولا حياة به إلى أن تنفخ فيه الروح فيصير حيا، فلو كان البيض حيا لكان إذا انقلب فرخا ينقلب فرخا حيا. ولو كانت النطفة حية لكانت إذا انقلبت ولدا ينقلب حيا، ولما كان الأمر بخلاف ذلك ولم يكن بين الحياة والموت واسطة، علمنا أن الحال السابقة لنفخ الروح لم تكن إلا الموت وبالله التوفيق. وأما الحب والنوى، فإن الماء الذي هو سبب حياة الأشجار منقطع عنهما، وليس يتوقع أن تحدث فيهما زيادة بعد ما جفا ويبسا، فكانا كالميت الذي انقطع الغذاء عنه، ولا يتوقع أن يكون له نشوء وثمر، فلم يجز وصفهما مع ذلك بالحياة. وأما الرطوبة التي فيهما فإنما هي الدهنية، ومعلوم أنه لا سبيل إلى استخراج الدهن من اللب الرطب فعلمنا أنه قد مات إذا صار أن يسيل منه الدهن فقد فارقته المائية بواحدة فلا منه ماء ولا هو يفرض أن يستمد من الماء فيزداد مقداره، فعلمنا أنه قد مات وبالله التوفيق. وأما أن البيض بعدما يستوي والحب بعدما يقلى لا يكون من أحدهما فرخ ولا من الآخر شجر. فجوابه أن ذلك ليس أن الله تعالى لا يقدر أن يخرج من هذا فرخا، ولا من ذلك شجرا، فإن الله عز وجل خلق آدم صلوات الله عليه من صلصال كالفخار، ولكنه لم تجر العادة بذلك كما لم تجر العادة بأن يخلق إنسانا لا من أبوين، ولو شاء لخلق، كما خلق آدم صلوات الله عليه من صلصال كالفخار، ولكنه لم تجر العادة بذلك كما لم تجر العادة بأن يخلق إنسانا لا من أبوين، ولو شاء لخلق كما خلق آدم لأمر مثله. والأصل أن وجود خلق البشر من الله دليل قاطع، على أنه تعالى قادر على مثله وعدم

خلق الشيء منه، ليس بدليل على أنه عاجز عن خلقه لأنه إنما يخلق ما يخلق مختارا، فغن شاء يخلق على ما يقدر على خلقه، وإن شاء لم يخلق وهذا في كل مختار ينشأ، هكذا يكون، لأن اتخاذ النجار بابا يدلنا على أنه يمكنه أن يتخذ بابا سواه، فغن لم يتخذ سريرا لم يكن ذلك دليل على أن ذلك خارج من وسعه. فكذلك وجود إخراج الله تعالى الفرخ من البيض غير أن المستوى والنجم والشجر من الجنة والنوى غير المقلي، دليل قاطع على إحياء الموتى كما هو قادر على ما ذكرنا. وعدم إخراجه من البيض المشوي والحب المقلي، لا يدل على انه ليس بقادر على ذلك، وأقصى ما عسى أن يقال في هذا أنه يعيد إلى البيض المشوي والحب المقلي ما أخذت النار منهما ثم يخرج من هذا فرخا، ومن ذلك شجرا، وهو إذا قدر على هذا، فقد قدر على إحياء البيض والحب والنوى. وليس الكلام على أنه كيف يحيي؟ وإنما الكلام على الإحياء نفسه، فقد ثبت أنه ليس بخارج من قدرته والله أعلم. وأما ما أراه إبراهيم صلوات الله عليه لما قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى} فهو أن أمره بأن يأخذ أربعة من الطيور، فيقطعن، ويجعل على كل جبل منهن جزءا ثم يدعوهن. فرجع كل جزء إلى مثلة حتى يلتئم جملة ذلك الطير، ويرد الله الحياة إليها، ويأذن له في إحيائه، فيأتينه سعيا، فجعل إبراهيم صلوات الله عليه، وأنجز الله له وعده. وقد أدى جل ثناؤه مثل هذا، الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها، وكان معه حمار وركوة عصير وسلة تين، على ما جاءت به الأخبار. فأماته الله مائة عام ثم بعثه، قال: كم لبثت يوما أو بعض يوم، قال: بل لبثت مائة عام. وكان قد أمات الحمار وأبلاه، فعلم أن لبثه لم يكن يوما أو بعض يوم، ثم أن الله تعالى أحياه على عينه. وقال له: أنظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما. وأعلم أن الله على كل شيء قدير، فنبهه فأحيا الحمار على أنه أن يحيي تلك القرية بعد موتها وهي بيت المقدس لم يعجزه ذلك، وقد يكون أبقى الله عز وجل التين

والعصير بحالهما ليدله بذلك على أنه لو شاء لأبقى الحمار بحالة أيضا. ولكنه أراد أن يريه إحياء الميت عيانا لئلا يعود فيقول ما قال ولا يستعيذ من أمر الله تعالى ما تقدمه كمال القدرة وليكون ذلك حجة على إنكار البعث ممن شاهده أو بلغه. فأما عصا موسى عليه السلام فإن الله تعالى قال لموسى: {ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى}، فجعل الله الحية لحما ودما. وخبر ذلك شاع في أهل الملك لا ينكره أحد منهم. فقال له: {خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} فلما أخذها عادت عصا كما كانت. ثم أن فرعون جمع له السحرة، فألقوا حبالهم وعصيهم، وخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فقال الله عز وجل: {وألق ما في يمينك}، فلما ألقاها تلقفت حبالهم وعصيهم ثم عادت كما كانت. فليس لأحد أن يستبعد مع هذا إحياء الله تعالى للأموات وبعثتهم، ويكذب الرسل الذين هم وعدوا ذلك عن الله عز وجل أمامهم وبالله التوفيق. وأما أصحاب الكهف فإنهم كانوا بين ظهراني قوم يكذبون بالبعث، فضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين، ثم أقامهم، واغتر قومهم عليهم ليعلموا بحفظ الله تعالى أجسادهم مع فقدهم الغذاء تلك المدة وصيانة شعرهم وبشرهم مع ذلك عن أن تأكلها الأرض، وكل ذلك خارج عن العادة، إن الله تعالى قادر على إحياء الموتى، وإعادة الأجسام الهامدة كما كانت، وإن كان ذلك مفارقا للعادة وبالله التوفيق. فصل إن الله جل ثناؤه كما دل بالآيات التي سب ذكرها على جواز البعث، فقد ذكر بآيات سواها على وجوبه، فقال: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى، ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى!}. فذكره القدرة على إحياءه الموتى، احتجاجا بها على من يحسب أنه يترك سدى.

فدل على أن المراد بالآية أنه يحسب الإنسان أنه يترك سدى. فلا يجزى بما يسعى، وإن الجزاء إذا لم يكن قبل الموت في هذه الدار وجب أن يكون في دار أخرى بعد الموت، وإذا كان الميت يعرض البلى فواجب أن يعلم أن يجيء بما يكون في دار أخرى بعد الموت. وإذا كان الميت يعرض إلى بإعادته حيا بعد ما مات، ونقله من الدار التي قطعه عنها إلى دار سواها والله أعلم. وقال عز وجل: {أفحسبتهم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا ترجعون}، ليهملكم فلا يأمركم ولا ينهاكم فعل من يعبث بالشيء فيريده، لا لغرض صحيح، أو أنا خلقناكم: أغفلنا أمركم فلا نجازيكم، أي فلا تحسبوا هذا، فإن البعث ليس من صفاتنا ولا هو لائق بنا، وأعلموا أنكم إلينا ترجعون، أي إلى دار عددناها لنجزيكم فيها بأعمالكم، فدلهم بهاتين الآيتين على أن البعث واجب في حكمته كما دل بغيرها على أنه جائز في قدرته. فإن قال قائل ليس لكم أن تقولوا شيئا مما قلتموه لأنكم تتلون في كتابكم: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا}. ومن يعمل سوء يجزيه. ويروون أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف الصلاح بعد هذه الآية يا رسول الله! فقال: يا أبا بكر، ألست تحزن ألست تمرض، أليس تصيبك البلوى؟ قال: بلى! قال: فإن كل ذلك مما تجزون به في القرآن في قصة اليهود، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم: {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون}. وفيه: {علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت، فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين}. وفيه: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا}. وفي هذا إثبات الجزاء في هذه الدار نصيبا. وفيه: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببعضهم}.

وفي آية أخرى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وفيه في حد المحاربين: {ذلك لهم خزي في الدنيا}. وفيه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}. وفيه في قصة اليهود: {أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}. وفي قصة النصارى: {فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة}. وفيها معنى إثبات الجزاء في هذه الدار، وفيه في قصة اليهود: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}. وفيه في ذكر قوم نوح: وإنهم أغرقوا لتكذيبهم نوحا، وذكر عاد وثمود، وما بالهم لتكذيبهم هودا وصالحا وذكر فرعون وما ناله وملأه لتكذيبهم موسى، وذكر قوم لوط وما أصابهم لعصيانهم لوطا قد عرفتم. وإذا تتبع ما في كتابكم من أمثال هذه الآيات كبرت، وفيما تدعون أنه حدود الله تعالى من فعلهم، وقبلهم عقوبة لهم بكفرهم، وسبي ذراريهم ونعيم أموالهم، وجلد الزاني ورجمه وجدل الشارب والقاذف وقطع (يد) السارق وقتل المرتد وتارك الصلاة. وقتل القاتل وجرح الجارح ما ينبي عن وقوع المؤاخذات في الدنيا، وكذلك الكفارات التي يدعون أنها واجبة بالأسباب التي تذكرونها شاهدة عليكم بمثل شهادة الحدود. وقال نبيكم صلى الله عليه وسلم: (اليمين الغموس يدع الديار بلاقع من أهلها). وفيما يروى أيضا مما جاء: (ما شيء أعجل عقوبة من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تمحق البركة، والبيعان أن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وأن كذبا وكتما خفت بركة بيعهما). وقد جاء في منع الزكاة بما يشبه هذا.

فأما ما يدخل في باب حسن الجزاء والثواب، ففي قصة إبراهيم، وأتيناه أجره وأنه في الآخرة لمن الصالحين. وفي غيرها من الآيات: {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة}. وفيه: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة}. وفيه: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}. وفيه: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا}. وفيه: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله}. وفي قصه زكريا وما استجاب فرد عليه: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا، وكانوا لنا خاشعين}. وفيه: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}. وفي قصة إبراهيم لما أمر بذبح ولده، ثم أفدى بذبح عظيم: {سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين}. وكذلك في قصة موسى وهارون وإليس وقصة نوح أنه قال لقومه: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}. وفيما يروى عن نبيكم صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تطفي غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في

العمر، والدعاء يرد البلاء، لا يزال بالعبد يخرجه من ذنوبه ويجعله كيوم ولدته أمه). وهذا النوع أيضا إذا تتبع وجد كثيرا، فأخبرونا عن هذه المثوبات والمثلاث أن كانت موجودة عاجلا، فما الذي يضطر إلى إثبات دار أخرى للجزاء؟ وما معنى قولكم: ما لم يكن الناس مجربين بأعمالهم في هذه الدار ولم يجز أن يكونوا مهملين، صح أن وراءها دار أخرى ينقلون إليها ويجزون فيها، وأنتم تقولون بألسنتكم: من آمن وعمل صالحا فهو عدل تقبل شهادته، ومن عمي فهو فاسق رد شهادته، ومن بر أباه ورثه لئن مات، ولئن قتله حرم ميراثه. ومن تصدق بماله، ومن منع مخالفة بركة ماله. وتتلون في كتابكم، وتروون عن نبيكم صلى الله عليه وسلم ما حكيناه وكتبناه، وعن ذلك مما تركناه، وأي احتجاج ثبت لكم في هذا الباب مع الذي ألزمناكم؟ فالجواب:- وبالله التوفيق-: إن الجزاء بكل واحد من الحسنى والسوء على ضربين: فأما آية جزاء السوء فجزاء الانتقام، وهو الجزاء المطلق. والآخر جزاء الدفع والرجس وليس هذا جزاء بالإطلاق. وأما أحد جزاء الحسنى فالتفويض من الطاعة والصبر عليها ومقاسات الشدة. وهذا هو الجزاء لمطلق. والآخر جزاء البشرى ويراد به الترغيب والتحريض، كما يراد بالذي قبله الردع والترهيب. فأما جزا السيئة فما يكون كفء لها، وهو جزاء الانتقام. وجزاء الحسنة إنما يكون كفء العبودية والطاعة، وليس شيء منه بموجود في هذه الدار. وأما جزاء الردع والزجر وجزاء الحرض والترغيب فهو الموجود. وفي هذه وهذا ليس بجزاء مطلق، لأن الترغيب من توابع الأمر ولواحقه. والترهيب من توابع النهي ولواحقه. فإذا لم يصلح أن يكون الأمر بنفسه جزاء، فيقف معنى الجزاء فيما يراد به البعث على فعل المأمور به، وإذا لم يصلح أن يكون النهي حسن الضعيف، معنى الجزاء فيما يراد به البعث على ترك السعي عنه واحد هذين الجزاءين، إذا بما يؤدي إليه الإضراب من العذاب والآخر مبشرا لما يوجبه الدوام من الثواب، وليس هذا الجزاء بنفسه مطلقا لكن غير ضرب التقييد، ومن وجه دون وجه.

فيقال للإحسان الذي هو الترغيب جزاء بمعنى أنه لم يكن مبتدأ، وإنما وقع في مقابله حين تقدم من المحسن إليه، فكانت صورته صورة الجزاء. ويقال للإساءة التي هي الترهيب جزاء بمعنى أنها لم تكن مبتدأ، ولكنها وقعت في مقابلة شر يسبق من المساء إليه، فكانت صورتها صورة الجزاء، وكل ما عده هذا القائل فقال فيها الآيات، وروي فيها الأخبار فهو داخل فيما وصفنا، أنه للعصاة وردع وتقويم وترهيب، ومنع لهم عن الأضرار، وللمطيعين حرض وترغيب وبعث على البيان والدوام، فلذلك كان موضعه هذه الدار، وذلك أنها دار العمل والترغيب والترهيب فيما يحسن وبها يليق. فأما جزاء الانتقام وجزاء التعويض، فلا يكتفيان بدار العمل، لأن الحياة مادامت باقية، والمحسن العدل، يعرض أن ينقلب مسيئا فاسقا، والمسيء الفاسق يعرض أن ينقلب محسنا عادلا، والمؤمن يعرض أن يكفر، والكافر يرض أن يؤمن، فلاحق أن يتأخر جزاء كل منهما إلى أن تنقضي حياته التي هي نهاية لمدة تكليفه، فيكون جزاؤه بحسب ما يختم به عمره، ويلقي به ربه، وهذا جملة الجواب عن السؤال وبالله التوفيق. ثم التفضيل أن الله عز وجل أن أمر يقبل المرتين فقد جعل لبعضهم منه مخرجا بالجزية ولجماعتهم بالرق إذا جرى عليهم، فلو كان ذلك جزاء الكفر لما سقط بالجزية ولا بالاسترقاق لأن الكفر منهم مع الآخرين قائم ولأن ذلك لو كان انتقاما منهم لكفرهم لأمكن منهم ليقتلوا. ومعلوم أن الأولين هم الذين وصل إلى قتلهم ويسلم الأكثرون، فلا يبقى وراء هذا إلا إباحة لدمهم، والإباحة نفسها لا انتقام يقع بها حتى يكون معها إراقة الدم وإهلاك النفس، فما كان ذلك مما لا يوصل إليه، وقد يعرض عند القتال ما يمنع عنه في حكم الله تعالى، علمنا أن قتل الكفار ليس إلا ردعا لمن يفضله السيف منهم عن الأضرار، ولذلك قام أخذ الجزية والاسترقاق لما فيها عليهم من الذلة والصغار فقام القتل والله أعلم. فإن قيل: فالمقتول منهم كيف يرتدع؟ قيل: إنما كان ردعه بإعلامه أنه مقتول على كفره، والتعويض بالسيف، فإن أبي وقاتل فهو القاتل نفسه، والله أعلم. والقول في الحدود كلها على هذا، وذلك إنما روادع بما فيها من إيلام المحدود عليه من الشين والعار،

والكفارات أيضاً روداع بما فيها من نقصان المال وإجهاد النفس، وليس منها جزاء الانتقام. ألا ترى أن الحدود كلها تسقط بالتوبة لوقوع الاستغناء بارتداع من كان عليه الحد عن ردعه، والقتل أيضا بعد وجوه يزول عن الكافر بإسلامه، يعلم أنه المردع في المستقبل عن الإضرار، فلما ارتدع سقط، ولو كان عرض الانتقام منه لكفره، لما نفعه الإسلام بعد ما حق القتل عليه. وأما كل جرم ذهب ما المجرم لأهله، ولا يخلو ذهاب ماله من أن يكون ردعا له عن الأضرار، ولغيره عن مثل فعله. ألا ترى أنه لو كان مات قبل أن يذهب ماله لما ذهب له لجرمه. وأيضا فإن ماله إذا ذهب لم يهمله الله تعالى ولم يجعله من نظره لأنه يجب على المسلمين أن لا يضيعوه ولا يغفلوا عنه فيموت جوعا أو عريا في شدة حرا وبردا، ولكنهم يكفونه ويموتونه فيصير كالمتروك بعض ماله عليه، وهو ما لا بد منه، وفي هذا ما يبين أن الغرض إنما كان التقويم لا الانتقام والله أعلم. وأما ما في باب الإحسان من قوله عز وجل في قصة إبراهيم عليه السلام: {وآتيناه أجره في الدنيا وأنه في الآخرة لمن الصالحين}. فإنما هو إشارة للبشرى والترغيب، لأن الله عز وجل لما ركب فيه العقل الذي يتوصل به إلى معرفته ليستدل به معرفته وحده. فلما أراد عدوه ألقاه في النار توكل على الله، وآثر ما لديه فلم يرجع عن دينه، ولما اضطره إلى الجلاء عن وطنه هاجر وقطع الأقربين في ذاته وابتلاه الله في ابنه، بأن أمره بذبحه، فأسلم وصبر فعصمه الله تعالى من النار، وأورثه الأرض المقدسة وكثر ماله وأنمى ولده، وجعل فيهم النبوة والملك، وأزال عنه الأمر بذبح الولد، وفاده عظيم، وجمع عليه الاسم فلا يكذبه أحد منهم بل يؤمنون به ويطيعون، وكل ذلك ترغيب له ما دام حيا في الدوام على الطاعة، وترغيب لمن يتبع غيره في إيثار طاعة الله تعالى والصبر على ما يلقاه فيها من أذى يؤذيه وجفاء من يجفوه، فهذا أجره الذي أتاه الله في الدنيا وهو أجر الترغيب والبشرى فيما هو قادم عليه في الدار الآخرة، فهذا وكل نعمة أنعمها الله تعالى على أحد من مال أو غيره فسبيله ما ذكرت. ألا ترى أنه لا يخول فيما أنعم الله عليه من فرائض تلزمه، فلو كانت غرضا لسعيه وعمله

الذي قدمه، لكان من حقه أن يكون محلي وإياه يعمل به، وفيه ما يريد، ولما لم يكن كذلك، بل كانت لله عليه مطالبات، علم أنها ليست غرضا لما قدم من بر وطاعة، وإنما هي من جهة ماله فيها من الرفق ترغيب وتحريض على الثبات والدوام، ومن غيرها إنعام مبتدأ سبيله أن يشكر الله تعالى ويؤدي حقوقه منه، وما كان هكذا لم يستحق أن يكون جزءا بالإطلاق، وبالله التوفيق. ونقول من غير هذا الوجه أن قتل الكافر ليس يجوز أن يكون جزاء الكفر لأن القتل يجب بكفر ساعة كما يجب بكفر مائة سنة جزاء له، لأن عظم ما في القتل موت القتيل، ثم الألم الذي يصل إليه قبل خروج الروح. ومعلوم أن الموت لا بد منه، فإنه مدرك كل واحد، فلم يجز أن يقال: أن الموت جزاء له ولا حد سواه، فلم يبق إلا الألم، وذلك المقدار من الألم مما لا يشكل على ذي عقل أنه لا يوازي كفر مائة سنة، فبطل بهذا أن يكون القتل جزاء لكفر الكافر. وكذلك الزاني لو زني ثلاثين سنة، فبطل بهذا أن يكون القتل وإفساد حرم الناس وهتك أستارهم وتلويث أنساب أولادهم. والشارب لو شرب سبعين سنة وهو لا يحتقر أراد الإمام حده، لم يزده على أربعين جلدة. والسارق لو سرق من إلف مسلم أموالا عظيمة وهو لا يقدر عليه أو لا يعلم به من خبأ واعترف، فإنه لا يزاد على أ، تقطع يمينه لهم جميعا. ومعلوم أن ما ينال كل واحد من هذين لا يوازي عظيم جرمه، ولكنه وغيره ما تقدم ذكره يصلح لوقوع الزجر والردع به. فعلمنا أنه لذلك لا للانتقام والله أعلم. وكذلك له الذين تعود الحلف بالله تعالى باطلا، فهو يقدم كل وقت عليها، وجرى على ذلك سنين، فأذهب الله تعالى ماله وألقى بمؤونته على غيره، فليس يجوز أن يكون تعويضه للحاجة إلى غير مواز بالجزاء به على الله تعالى، والحلف باسمه على مالا حقيقة له فعلمنا أ، ذلك ردع وترهيب وليس بانتقام، وبالله التوفيق. وعلى هذا، فإن من أتاه الله تعالى بعد مقامات كانت له في طاعة نبوة أو ملكا عظيما أو جاها عريقا، وأدام له الصحة والسلامة، فليس يليق بشيء من هذا أن يكون غرضا، وإن كان إحسانا وبرا لأن الذي كان من العبد عبادات أخلصها الله تعالى.

فهذه الوجوه كلها سوى ما يرجع إلى العبد من فوائدها، حقوق الله تعالى تلزمه وتفترض عليه، لأنه تعالى أنبأه احتاج أن يقوم بأعباء النبوة وينخرد لها ويصير على ما يستقبله فيها، وإن مكله احتاج إلى الزنا حد نفسه بالعدل بين الناس، والأخذ للضعيف من القوي، وإقامة حدود الله تعالى، واستبقاء حقوق الله تعالى ووضعها مواضعها ومجاهدة أعداء الله تعالى إلى غير ذلك، مما يطول على التعديد والإحصاء، وإن كثر ماله أو بسط جاهه، فعليه من كل واحد منهما حق معروف، وجملته أن يواسي من كل واحد منهما غيره مما يحتاج إليه وإن صح بدنه لزمه في الصلاة والصيام والحج والجهاد فرائض الأصحاء، فعلمنا أن كل شيء من هذا لا يخلص التعويض فهو إذا ترغيب وتحريض كما ذكرنا وبالله التوفيق. ثم المعنى في عامة ما وصفت أن هذه الحياة كلها وقت له، فكان الجزاء واقعا بعد نقض العمل لإحلاله. والمعهود من الناس كلهم أنهم يوفون العامل أجره، إذا فرغ من عمله، فذلك عند جماعتهم حسن جميل، فكانت معاملة الله تعالى بنحو ما عرفوه واعتادوه. بل كان ذلك أليق بأن يكون له حكما لما ذكرت من أن العدل يفسق، والفاسق قد يعتدل، والمؤمن قد يكفر، والكافر قد يؤمن. ولا وجه لأن يجمع الجامع في حياته بين العدالة والفسق من أن يثاب على عدالته ويعاقب على فسقه، ولا للجامع في حياته بين الكفر والإيمان أن يعاقب على الكفر وثبات الإيمان، لأن هذه المعاني متدافعة غير متلائمة، أعني أن العدالة والفسق صفتان لا تجيئان معا لأحد، لكن العدالة تنسخ الفسق إن كان تقدمها، والفسق ينسخ العدالة إذا تقدمه، والكفر ينسخ الإيمان ويحيطه، والإيمان بنسخ الكفر ويحيطه. فإذا كانت هذه الأوصاف مناسخة متنافية، لم يجز لأحد أن يجمع لأحد بين الواجبات التي تجب فيها، فيؤتي ثواب العدالة مدة اعتداله تاما، ويعاقب بالفسق مدة فسقه تاما، ويعذب على كفره مدة ما كفر، ويثاب إيمانه مدة ما آمن، لأن من حكم الله عز وجل وموضوع سنة نبيه، أن من فسق ثم تاب وأصلح حبط فسقه، ومن أصلح وقتا ثم فسق أحبط فسقه من الطاعات التي قدمها دون أصل للإيمان بعدده حتى لا يجب له ثوابها.

وأما أصل الإيمان فأمره على الاختلاف، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الجزاء بعد انقطاع العمل وتقضي مدته، ثبت أن الله عز وجل قد أعد للجزاء دارا سوى دار العمل، وأنه يوردهم إياها واجبا ليجزيهم بأعمالهم، فيثيب المحسن ثوابا يشترك فيه من يثيبه كل ما اشترك منها عن حسن العمل، فيعاقب المسيء عقوبة يشترك فيها من ينيبه كلما اشترك فيها من سوء العمل وبالله التوفيق. ويقال للمعارض الذي حكيت قوله واجبته عنه: أرأيت العابد الخاشع الناسك الذي لا يعصي الله، ولا يخلو من وجع أو شدة جوع أو عري في الحر والبرد بما يؤذي، ويخفي وهو بصير ولا يفارق عادته، إذا مات على هذه الجملة، فليس إنما مات ولم يستوفي ثواب عمله. أرأيت الفاسق الخليع المتهتك إذا رضى أيامه في ضروب المعاصي، فلم يدع شهوة إلا قضاها ولا لذة إلا استوفاها وهو في ذلك لا يصيبه غم ولا وجع ولا نيلا ولا يزداد على الأيام إلا غناء وثروة وجاها، ورفعة وهو لا يقلع عما فيه إلا أن مات على هذه الجملة! أليس إنما يثاب غير مجزي بعمله، فما حال هذين الرجلين عندك، أضاع الموت سمعيهما، فهذا خلاف الحكمة، والله الموفق تعالى حكيم له يجزيان، فأين تجربان إلا أن يجيئا مثقلا إلى دار أخرى فيجربانها كما تقول! وإذ كان هذا هكذا، بأن العباد إذا كانوا متقاربي الحال، فمنهم محسن يلقي في حياته خيرا ومسيء يلقي في حياته شرا، ومحسن ومسيء لا يلقى واحد منهما في حياته ما يليق بحاله. فواجب أن لا يكون الخير الذي يلقاه المحسن ولا الشر الذي يلقاه المسيء جزاء بالحقيقة، وإنما يكون الجزاء ترغيبا وتحريضا وبشرى للمحسن، والشر ترهيبا وإنذارا للمسيء، لأنه لا يجوز أن يكون بعض العمال يجزون وبعض العمال لا يجزون، وإذا لم يجز ذلك صح إنما تفاوت فيه القوم لم يكن جزاء بالحقيقة، وإنما كان الغرض منه شيئا آخر والله أعلم. فإن قيل: هذه المعاني التي ثبت عليها جوابك كلها معان شرعية، وإنما يعترض عليك بالسؤال الذي مضى، من لا يعترف بالشريعة، فكيف يلزمه ما أمعنت فيه من الجواب.

قلنا: إن الاعتراض إنما وقع علينا بأشياء مستخرجة من القرآن، وأخبار الرسول. وإذا بينا أن مصادرها غير ما ظن وجوهها، ليس ما قدر، سقط السؤال عنها. وإن أفردنا ما قال عن أن سنوه إلى ربنا ونبينا، وكان جوابنا له: إن وجوب ما خبر الجزاء إلى دار أخرى يتفرع عندنا عما وضع الله حكمه وشرعه عليه، وذلك بما قام الدليل عندنا على أنه من عند الله تعالى. فإن سلمت لنا معانه ما كتبناه لازم لك، وإن أنبت كان الكلام معك في النبوة وما يشتمل عليها من الأوضاع والأحكام وأفراد البعث بالكلام فضل وبالله التوفيق. فصل وسأل سائل فقال: أرأيتم أن من كان في الدنيا خالط الطاعة بالمعصية، وكان ينحل جسمه ويعتل وقتا، فكيف يحشر؟ فإن قلتم: يحشر أعظم ما كان جسمه فقد أجزتم أن يعاقب على السيئات التي أخرجها في حال الدقة والنحولة أجزاء من بدنه حدثت بعد تلك الجرائم، ولم يكن لها في اقترفها نصيب. وإن قلتم يحشر أنحل ما كان جسما وأدقه، فقد أجزتم أن يخلوا الأجزاء التي زادت في بدنه عند العظم، والعفو له من ثواب الطاعات التي عملها في تلك الحال، ولو جاز أن يخلي بعض أجزائه من الثواب لجاز نحلها، كلها، فإن جاز ذلك فليجز أن لا يبعث أصلا! فالجواب: أنه يجوز أن يقال: الله تبارك وتعالى أن أدخله النار عذبه على كل ذنب أتاه، وهو ناحل أصلا، وعلى كل ذنب أتاه، وهو عند العظم. فأما إذا صاره إلى الجنة، فإنه لا ينجل عليه فيثبته بما أتاه من الطاعات، وهو ناحل أصلا، لأن التفضل بالإحسان كان منه، وإن كان الإشراف في العقاب غير واقع منه، فيجعله في الجنة عبد ليصل إليه ثواب ما عمله من الخير في جال عبولته باسم الجزاء، ويكون بنعم أجزائه الزائدة على ما كانت عندما عمل من الخير، وهو ناحل ابتداء، فضل من الله تعالى لا جزاء بالحقيقة والله أعلم.

وسأل سائل عن كافر قطعت يده في حال كفره ثم أسلم، ومات مسلما برا تقيا ويصار إلى دار الجزاء، فإن قلتم تبعث يده، فإنما هو جزء من بدنه الذي كفر به، فكيف يكون موضعها دار الثوب؟ وإن قلتم يبعث بلا يد، فقد أجزتم أن يبعث بعضه ولا يبعث بعضه. وسأل عن مسلم قطعت يده: لم ارتد ومات على ذلك، أيبعث بيده أو بلا يد؟ فإن قلتم يبعث بيده، فكيف تلج النار يد لم يذنب بها صاحبها؟ وإن قلتم: بلا يد، فقد أجزتم أن لا يبعث بعضه. فالجواب: أن كل واحد منهما يبعث تام النمو، كامل البدن. وأما الذي مات مسلما وقد كانت يده قطعت في حال كفره، فإن إسلامه أحبط كفره عن جميع بدنه، فالتحق بذلك أن تورد يده مورد سائر أعضائه، ولا ينظر إلى اتصال اليد به، وانفصالها عنه، لأن اليد تابعة للبدن لا حكم لها على الانفراد في طاعة ولا معصية. وأيضا فإن واحدا من الإسلام أو الكفر لا يقع باليد، ويقع بالقلب واللسان كانت يدا أو لم تكن، فإن جاز أن تدخل الجنة يد كانت، إلا أن الإسلام لم يقع بها، وإن وقع بغيرها جاز أن تدخلا يد لم تكن عند الكفر أصلا أو وقع الكفر بغيرها والله أعلم. وأيضا فإن اليد المقطوعة من جملة البدن الذي كان حيا في هذه الدار، فلا يخلو من أن تعود الحياة إليها في الآخرة، ومعلوم أن حياتها في هذه الدار كانت لحياة الجملة، تدل ذلك على أنها في الآخرة تكون حية بحياة الجملة، لأن الله عز وجل قال: "كما بدأكم تعودون" ثم يكون فرح الإسلام بردها إليه من جملة ثوابه، وردها أيضا إلى الكافر مما يتغلظ به عذابه، لأن ألم ما يمس اليد من النار زيادة ألم يصيبه، وقد جاء في الحديث: "إن ضرس الكافر في النار مثل أحد" فهذا دون ذلك وأقرب منه وبالله التوفيق.

فصل وسأل سائل عن قوله عز وجل: {وإذا الوحوش حشرت} وعما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الحماء تفيض من القرناء"، وقال: قد جعل الله بهيمة الأنعام وكثيرا من الوحوش طعمة للناس، أفرأيتم ما أكل من لحومها أيعاد إليها يوم القيامة للحشر أو لا يعاد؟ فإن أعيدت فما حال الأبدان التي أعيدت تلك اللحوم، انقرض منها غيرها أولا، فإن عوضت، فكيف يجوز أن تصل لذة الثواب وألم العقاب إلى غير ما اكتسبت الطاعة والمعصية من البدن، وإن لم يعرض أوجب ذلك أن يكون ابن خمس سنين إذا اغتذى اللحوم حق كبر وصار ابن خمسين سنة، فيرع منه تلك اللحم كلها، وردت إلى مواضعها أن تصير كابن خمسين سنة، ولذلك تدخل الجنة أو النار! فإن قلتم: لا تعاد إلى الحيوانات لحومها التي أكلتها النار، فكيف تحشر ولا لحم لها ولا دم ولا نفس ولا مخ، وإنما تكون لها الحياة دون هذه الأشياء. فالجواب:- وبالله التوفيق: أنه إذا كان لها هناك تعويض فتتعوض الحيوانات من لحومها ولحوما غيرها، أشبه بأن ترد لحوما إليها، ويعوض الناس منها غيرها، لأن ما نما من أبدان الناس بتلك اللحوم، فقد صار من جملة أبدان مكلفة أحسنت وأساءت، فصارت بذلك مستحقة للثواب والعقاب، فلا ينزع عنها، وتعاد إلى البهائم فيكون بدن الإنسان قد قلب بهميه، وعوض منه عوضا لاحظ له في طاعته ولا معصيته، فيخرج من ذلك من أن يجزى بخير أو بشر مع ما في ذلك من مخ المنجس في دار الجزاء، وإنما المسخ من سخط الله وعقوبته وخزيه، فكيف يجوز أن تكون عاقبة الذي آمن وعمل صالحا إذا ورد يوم القيامة أن يمسخ؟ وأما البهائم فقد قيل: إنها تحشر لتعوض ما خلص إليها من ألم الذبح ومهانة السلخ والتمزيق والأكل عرضا، ولا تحشر لمحاسبة ولا لجنة أو نار، فلاحظ لها في الحسنات والسيئات. وإذا كان حشرها للتعويض، فهي إذا عوضت إتمام أبدانها وتصحيح أجسادها،

والذت بذلك ونعمت فقد توفر على الحشر عوضه وبالله التوفيق. قال قائل: لو كان البعث بعد الموت حقا لما جاز أن يأمر الله العباد أو ينهاهم، ويكلفهم ضروبا من التكليف من لدن آدم إلى زمان عيسى، ولا يطلع أحد على ما هو فاعل بهم، ولا يدري أحد منهم أنه قد أعد للمطيعين دارا مشحونة بالنعمة والكرامة، وهي الجنة، وأعد للعصاة دارا تتأجج نارها مشحونة بالنقمة والعقوبة، ولو كان قد أعد لهم ذلك، واطلع العباد عليه لوجب ذكره في كتب المتقدمين، والأمر بخلاف ذلك، لأن دعاء الأوليين إلى الله جل ثناؤه كنوح وإبراهيم وموسى ما أخبر أحد منهم قومه بان لهم معادا يحاسبون فيه ويجزون بأعمالهم. وإنما كانت مواعيدهم كلها عاجلة كما قال نوح لقومه: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}. وقال هود أيضا لقومه: {استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم}. فإذا تصفحت التوراة لم تجد فيها للمعاد ذكرا ولا عن الجنة خبرا. وإنما هو وعد الخصب والصحة والظفر على الأعداء وما شبهها على المعصية، وما ذكر أحد قبل عيسى معادا. فكان أول من رمز فقال: أن المسلمين المنحلين من الدنيا المتفرغين لعبادة الرب يرقون إلى ملكوت السموات وأن الأئمة والظلمة يصيرون إلى أغوار ومغور مظلمة، فيلقون فيها جزاء أعمالهم السيئة، ثم جاء بعده نبيكم فلم ينقع بذكر الأرواح حتى أخبر أن لابد أن يعاد بهما، ووصف دارين: أحدهما مشتملة على الملاهي والملاذ، فذكر أنها للثواب. والأخرى مشحونة بألوان المكاره والآلام فأخبر أنها للعقاب وهذا يدل على أن الأوليين لم ينتهوا في طلب الرئاسة، فما ينتبه به الآخرون، فاقتصروا على المواعيد العاجلة اتكالا على أنه إن اتفق لمن يطيعهم خير، قالوا: هذا لطاعتك، وإن أصابه شر، قالوا: هذا لعصيانك وإن جرى الأمر بخلاف هذا فيكون للطبع، أو يخلف عنه ما وعده، قالوا: هذا الشيء أحدثه أو سريرة رديئة بين الله تعالى وبينه أتاه لوجده كان يفعل كذا،

وإن أصابت القاضي حسنة ويحلف عنه ما أوعده به، فقالوا: هذا لحسن خلقه، أو لأجل جاره الصالح، أو استعطاف من الله تعالى إياه واستتابه، ومثل هذا سائر موجود في العامة. فإنهم إذا رأوا رجلا صالحا عندهم قد وسع الله عليه الرزق وأصلح حاله، قالوا: هذا من بركة الصلاح والخير، وإن رأوا خيرا مثله عليه سيء الحال، قالوا: ألا ترون أن الله تعالى تحميه الدنيا لموته في الآخرة ما هو أسنا وأفضل، ونسوا ما قالوه في غيره، وإذا رأوا رجلا كافي المعاصي والمفاسد ضعيف الحال شديد الفقر والحاجة، قالوا: هذا من شؤوم المعصية، وإن رأوا آخر مثله موسعا عليه قالوا: إن الله تعالى أتاه الدنيا ليجد منه الآخرة، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقي الكافر منها شربة، ونسوا ما قالوا في غيره. فعلى هذا كان أمر الأوليين، ثم أن الآخرين يذهبوا لوجه لآخر أبعد من أن يقع في حلف يحتاجون إلى أن يطلبوا له علة، أو يذكروا له عذرة، وما حالوا على مواعيد أحله ذكروا أنها تكون بعد الموت وإلى مدة لا يعلم انقضاؤها إلا الله تعالى، وعلموا أنه لا شيء أحب إلى الناس من الحياة، واتظهروا عليهم بحرصهم عليها، وأخبروهم أنهم في الدار التي ينتقلون إليها يحيون حياة شر مدتها لا انقضاء لها ليكون ذلك مأتما لهم على أتباعهم والقبول منهم حرصا على أن يحيوا أبدا في النعيم الذي بشروهم به، قال: فهذا سبب وقوع خبر البعث بعد الموت فيما بين الناس. فالجواب:- وبالله التوفيق- إن الله جل ثناؤه لم يحل أحدا من رسله من إنذار قومه على لسانه بالبعث بعد الموت والمحاسبة والجزاء بالجنة والنار، ونحن قد علمنا ذلك قبل أن يدعيه ولا يتوقف فيه، وهذا المعترض لا علم له بما قال، ولا يرجع فيه إلا إلى ظن مجرد، والظن لا يعني من الحق شيئا. وإنما قلنا هذا لأن نبينا صلوات الله عليه النائب إلى بالإعلام الكثيرة الباهرة صدقة كما أخبرنا بالبعث بعد الموت. فلذلك قد أخبرنا عن الله تعالى ما أرجاه من ذلك إلى أنبياء آدم صلوات الله عليه، وعن النبيين قبله صلوات الله عليهم، قبل موسى عليه السلام من الكتب قليلا ولا كثيرا، ولا شاهدا عن الذين كانوا يدينون بالدين، ورجوا عليه أحدا أو أكثر مما يفزع إليه في

تصحيح قوله: "أنه لم يجد في المعاد الذي يصفه ذكرا في التوراة، ولا عنه خبرا عند اليهود، فمن له بالتوراة حتى نحاكمه إليها؟ فإن الذي في أيديهم يدعون أنه التوراة فيها مغازي موسى عليه السلام ووفاته وحزن قومه عليه، وفيه من تعجيز الله وتكفيره وتشبيهه بخلقه، وتكفيره هارون، ورميه باتخاذ العجل ما لا يمكن أن يكون منزلا من عند الله تعالى. فإن كان ذكر المعاد لا يوجد فيها فلا خير فإن الجناية في حد ما أنزل من عند الله وإسقاطه أيسر منها في التقول على الله وإضافة ما ليس في تنزيله إلى تنزيله، علما أني سمعت عالما من علمائهم يقول: أن الله تعالى يقول في التوراة لموسى أني رفعت القتل عن النافين من الذين اتخذوا العجل فأخرت أمرهم إلى قوم علمه عندي، فإذا جاء ذلك اليوم كنت بجزائهم بصيرا، وسألت عن الكتب المنزلة بعد موسى، فأخبرني أن ذكر البعث بعد الموت فيها كثير. وأن يوشع بن نون عليه السلام يسأل الله تعالى أن يريه إحياء الموتى فأمره أن يذهب إلى واد سماه له، فيه ما لا يحصى من رميم الأموات، فأذن الله تعالى العظام المفنية من الأبدان المتفرقة أن تحيى، فكان كل عظم وكل مفصل يفقد منه مكانه، ويرجع إلى موضعه من بدن صاحبه إلى أن تتم جملته، وتستوي كما كانت حتى أراه الأبدان كلها ناشرة، ولم يذكر أنه أحياها. إلا أن المنكر للإحياء، منكر للإعادة، وقد ثبت وجود الخبر عنها. ما نقلته اليهود عن يوشع، وثبت أيضا أن يوشع سأل الله تعالى أرائه إحياء الموتى، فأجابه إلى ما يتقدم للإحياء من إعادة الأبدان، ولم يجبه إلى الأحياء لالتقائه بما أراه، فإنه لم يكن يخفى عليه أن الأحياء بعد إعادة الأجساد، كيف تكون. ولم يكن يوشع ليسأل الله تعالى أن يريه إحياء الأموات، إلا بعد أن أخبره الله تعالى وأخبر موسى عليه السلام أنه ما تحب عبادة بعد الموت، فإذا أراد أن يتعجل النظر إلى ذلك ليطمئن قلبه، وإن كان قد تقدم منه الإيمان به. وقرأت أنا فيما يذكرون أنه الزبور الخبر عن يوم القيامة، وجزاء الناس بأعمالهم في عدة مواضع، فليس لأحد أن يدعي على الأنبياء قبل عيسى عليه السلام أنهم لم يذكروا

لأمهاتهم المعاد ولا أن يدعي على الأنبياء قبل عيسى عليه السلام، أنهم لم يذكروا لأمهم المعاد، ولا أن يقطع بنفي ذلك اعتمادا على أنه لم يجد في التوراة له ذكرا. فإنه لو ثبت أن التوراة المنزلة كانت خالية من ذكر المعاد، لكان وجه ذلك أن الله عز وجل اخبر موسى بالمعاد بوحي، أو جاءه خارجا عن التوراة. فكيف وغير ذلك ثابت، وليس شيء مما علومه عنه ثقة، ألا ما ثبت بغير خبرهم أنه فيما أنزله الله تعالى، وبالله التوفيق. وأيضا فإن بعض نسخ الكتاب الذي يدعون أنه التوراة هو الخالي من ذكر البعث بعد الموت، فأما الذي ترجمه أحمد بن عبد الله للإنجيل وفيه شيء كثير، ذكر أنه مما أنزل الله على موسى من صحف إبراهيم صلوات اله عليهما، فما أكثر ما فيه من ذكر القيامة، وقد قرأته مرات وعلقت كثيرا منه، ولو لم يكن من هذا شيء ليس من المجتمع عليه أن نبينا صلوات الله عليه كان من أولي الألباب ومشهورا بالحكمة، فغن كان الخاسرون لا يشهدون له بالنبوة، ومعلوم أن القاتل المكلف بأمر من الأمور، الحريص على جمع الناس على الاعتراف لديه، لا يأتي بما ينفرهم عن تصديقه، ويضطرهم إلى تكذيبه، وإنما يجتهد في تقريب قراه عليهم، وأشرابه قلوبهم. فإذا كان هذا هكذا، لم يجز أن يكون محمد نبينا صلوات الله عليه، أخبر بني إسرائيل بأن نبيهم ومن تقدمه أخبروهم بمعاد فيه الجنة والنار، من غير أن يعلم أن ذلك كان منهم، أو مع علمه بأنه لم يكن، وإنما كانت مواعيدهم كلها عاجلة لا آجلة، ولم يكن يخفى عليه وهو عاقل مميز أنه إذا أخبره عن أنبيائهم وكتبهم خلاف ما يعرفون، كان ذلك مدعاة لهم على تكذيبه وجحد نوبته، وتنفيرا لهم عن الدخول في دينه. فثبت أنه إنما أخبرهم بذلك بأن الله عز وجل قد أنزل ذكره وصفته في كتبهم على أنبيائهم لاستبانة أن ذلك حق، ولم يكن هذا اليقين يقع له إلا أن يكون صادقا في أن الله تعالى يرسل إليه الملك بما يشاء من أمره، ويطلعه على الغيب الذي يريد اطلاعه فصح ووضح أنه كان رسول الله حقا فوجب تصديقه عن مخبراته والبعث بعد الموت وأن الرسل المتقدمين أخبروا قومهم به جملتها، فلزم تصديقه وبالله التوفيق. وأيضا فإن خبر المعاد لم يزل فاشيا في الملتين وغيرهم من الأوائل المتقدمين، وقد ذكر

سقراط أن الذين يمضون إلى الآخرة، وقد أفنوا أعمارهم بالطهارة وسبيل القصد، فإن الملك يقودهم إلى الأرض مشرقة عجيبة، وما تنبت فيها من الأنوار والأشجار بخلاف هذه، إذا كانت التربة والأحجار خلاف لتلك الأحجار، ملس متسقة، حسنة الألوان كأنصاف اليواقيت والزبرجد، وليس فيها بأكل ولا فساد، ولا في تربتها عفونة، وجميع ما تم من الحيوان ومن النبات بخلاف هذا كله. وتلك الأرض مزينة بالذهب والفضة، وليس لأولئك مرض، وحواسهم بخلاف حواسنا، وأذهانهم بخلاف أذهاننا ومفهومنا، وثم لهم ملائكة يكتبون، ووحي وآثار سيئة ومعارضات عجيبة، وأن الذين عظمت ذنوبهم وجناياتهم، ونزلوا واجبات الشريعة فإنهم يحملون إلى نهر يلتهب بنار عظيمة، ويغلي بماء وطين، فيكون فيها أبدا، لا يخرجون عنها، وأما الذين برزوا في حسن السيرة وأنهم يصيرون إلى فوق إلى السكن التقي فيسكنونه، ومن كان من هؤلاء قد آثر الحكمة ويبقى بها نقيا بالغا، فإنهم يعيشون بالأبدان، ويصيرون إلى مساكن لا تسهل الدلالة عليها. قال: فقد ينبغي لما قلت يجتهد الجهد كله حتى ينال في سيرتنا الفضيلة وللفوز في الذكاء والفهم. وهو الذي قاله سقراط من أن من آثر الحكمة ويبقى بها ويعيش في الآخرة بلا بدن، يدل على أن عامة ما قدمه في غير هذه الطبقة من خير أو شر، فإنما أراد به أن ينال أبدانهم، فإنهم لو كانوا عنوة بلا أبدان لم يكن بينهم وبين المؤثرين للحكمة فرق. وهذا هو الذي أنكره المعترض الذي حكينا اعتراضه وقدحه، ورغم أن المسيح أول من رزم بإعادة الأرواح، ولم يرض الذي جاء بعده- يعني المصطفى نبينا صلى الله عليه وسلم- بذلك حين قال: (إن الإيمان يعلو) فيقال له: إن كان الأمر كما قلت، فمن وأين قال سقراط ما حكيناه منه، وهو على ما يقال: كأن قبل موسى عليه السلام بسنين كثيرة، وإن أيامه كانت قريبة من عصر إبراهيم عليه السلام، وهل يمكن أن يكون ما قال استنباطا واستخراجا له بعقله، فإن كان ذلك يمكن إدراكه بالعقول. فما أحرى بالذي جاءوا به عن الأنبياء صلوات الله عليهم التصديق والتنزيه من أن

يكون زوروه أو افتعلوه، ليكذبوا به العامة ويقودهم إلى طاعتهم واتباعهم، فإن مثل هذه التهمة إنما تليق بمن قال قولا لا يجد له في المعقول أصلا، فإذا ذلت عليه العقول، وشهدت بصحته الأصول، فإن القبول إله منه يلزم، وإن لم يكن نبيا. فكيف يجوز أن يتهم فيه بالتزوير إذا كان نبيا، أتى بالمعجزات، وأتت نبوته بالدلائل والبينات، فإن كان سقراط لم يقل ما حكيناه عنه من قبل المعقول، وإنما قاله سماعا من الدعاة إلى الله، كانوا في ذلك أو قبله، فقد بطل قول المعترض: أن أول من جاء بهذا الوعد محمد صلى الله عليه وسلم. وأما الذين تقدموا فإنما كانوا يعترضون على المواعيد العاجلة، وقال سقراط عند موته إلى الله الابتهال في أن يكون نقلي من هذه الدار إلى الدار الآخرة نقلة سعادة. وقال تاليس المليسي، أحد السبعة الذين كانوا يدعون أساطين الحكمة: أن فوق السماء عالم مبدعة، لا بقدر المنطق على أن يصف تلك الأنوار، وذلك الحسن والبهاء، وهي مبدعة من غير لا يرك العقل غوره، وهو الدهر المحض من نحو آخره لا من نحو بدئه وإليه تشتاق العقول والأنفس أشد الشوق، وهذا الذي سميناه الديمومة والبقاء في حد النشأة الثانية. فقد أثبت هذا الرجل أيضا النشأة الثانية، وقوله في السماء عوالم لا يقدر على أن يوصف حسنها يوافق ما جاء من ذكر العرش، وإن جنة عدن في ظلاله وبقربه، وما جاء من قول الله جل ثناؤه: {أعددت لعبادي الصالحين. ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر}. فكيف يجوز المعترض أن يقول: أن فكر المعاد أبدعه محمد؟ وإن هذا القول مستعان على أسرائه قلوب العامة مما يعلم منهم من الحرص على الحياة، وقد سبق محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا من ذكرناه ممكن لا يعد في أصحاب الشرائع وليس عند المعترض بموضع تهمة. وقال هرقل العظيم من أهل افيسيوس: إن السماء في النشأة الثانية تصير بلا كواكب لأن الكواكب فيها ذكر، تهبط سفلا حتى تحيط بالأرض، وتلتهب فيصير بعضها متصلا ببعض حتى تكون كالدائرة حول الأرض، فكل نفس شريرة تبقى محيطة بها تلك النار

وتصير الأنفس الزكية المطهرة إلى السماء وتكون سماؤهم سماء نورية أشرف من هذه، فيها آثار الباري عز وجل بلا متوسطات وهناك الصور والحسن المحض والقوة. فقد أثبت هذا أيضا النشأة الأخرى، وقد سمى الله عز وجل الحياة الآخرة بهذا الاسم في القرآن فقال: {وأن عليه النشأة الأخرى} وقوله: إن الكواكب تهبط سفلا، وهو عين ما ورد به القرآن من قوله عز وجل {وإذا الكواكب انتثرت}. وقوله في النار التي تحيط بالأرض، قول الله عز وجل: {نار أحاط بهم سرادقها} وقوله في الأنفس الزكية أناه تصعد إلى السماء وسماؤهم أنور وأشرق من هذه، يدل على أن التي أشرق كواكبها تزول عنده فيضاهي ذلك ما في القرآن من قوله: {والسموات مطويات بيمينه}. وقال سقراط: فغن الذين مروا من قديم الدهر، إن الذي يصير إلى الآخرة من البقاء والاستبصار، فإنه ساكن الملائكة وعلى زرابيته الأكاليل، وإن الذين يمضون إلى الآخرة وليس عندهم نقاء فإنهم يكونون في الحمأة والبلاء، لم يكوناو اخساء ولا اراذل ولا جهال ولكن أهل فهم وعقل وفضل وجلاله، وأنا قد اجتهدت عند هذا كله في طلب الصواب وتيقنت تيقنا لا يتقدمه شيء أن مصيري إذا أخرجت من هذه الدنيا إنما هو مؤول في غابة الجود والخير، ورؤية أقوام خيار، فلم أعسر على مختلف من أخلقه من إخواني وساداتي لما أرجو أني ألقى هناك إخوانا وسادات خيارا ليسوا بديلا من هؤلاء. فقد أثبت سقراط أن ذكر الآخرة موجود سائر في الناس عند قديم الدهر، وأن الذين أخبروا بذلك كانوا أهل جلال وفضل وفهم، وذلك تكيفت للمعترض في دعواه، أن أول من جاء بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ها هنا ومما كتبناه من كلامه قبل هذا: إن أهل البقاء يصيرون إلى فوق وخلافهم يكونون في الحمأة والبلاء، موافق لما في القرآن من قول الله عز وجل: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين}، وقوله: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين}.

وقول سقراط: إن الحياة تذهب بهم إلى نهر يلتهب بنار عظيمة وتغلب ماء وطين، يوافق بما جاء غير واحد من الصحابة في قوله: {وإذا البحار سجرت}، إنها تحمي فتصير جهنم ويحبس فيها قوم من العصاة. وقال بعضهم: سجرت أي سألت، فقد يجوز أن يحيي ويرسل فتصير أنهارا جارية يغل بعضها بنار وبعضها بماء وطين، وبالله التوفيق. فإن قيل: كيف يجوز إثبات حكيم عن بقراط ولم يكن مصدقا بالرسل؟ قيل: إنما حكينا عنه قوله، ويقال: إنه كذا وكذا، فإنه قد أثبت لهذا الخبر أنه سمع ما قال إنه ليس بذلك، إنما ادعاه المعترض من أول إبداع هذا الوعد، إنما كان نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنه تنبه لما كان لا يجوز أن يثبته له، إلا الأولون من الدعاة إلى الله تعالى، إن كانوا هم المبتدئين للأمر بهت وكذب، وإن كان هذا مسموعا متعالما منذ قديم الدهر، ثم سواء كان سقراط مثبتا لهذا الوعد مصدقا لهذا القول، أو منكرا إياه ومكذبا به، وعلى أنه يمكن أن يكون مثبتا له من جملة ما أخبرت به الرسل، وإن كان غير معترف برسالتهم لاستبصاره من دلائل العقل ما يوحيه في الجملة، فإن لم يكن فيها التفصيل الذي جاءت به الرسل والله أعلم. وعلى أن سقراط فيما قيل من خبره كان مصدقا بالرسل فيما خلا ثم صار إلى تكذيبهم، لا من حيث رأى: إنه لا يجوز أن يكون الله تعالى إلى خلقه رسول، ولكن لأمر يسير دخلت عليه الشبهة من قبله، وهو أنه كان صاحب جهد في استنباط العلوم التي كانوا يسمونها رياضية وطبيعية. فلما شاهد الرسل أمل أن يجد عندهم من هذه العلوم ما يستغنى بها عن الجهد والطلب، وستبين له الحقائق وتزول عنه الخواطر والشكوك، فلما لم يجد عندهم منها شيئا استبعد أن يكون الرسول الموحى إليه في البعد من هذه المعلومات كالعامة، فصار ذلك سبا لاتهامه إياهم، وجحده ثبوتهم. ولو كان الله تعالى كتب له السعادة لعلم أن الله عز وجل إنما بعثهم ليوقف عبادة بهم على ما خلقهم له من عبادته ولم يكلهم أن يعلموا ما يبعث سقراط وأمثاله فيه أنفسهم

شيئا، ولا ذلك مما ينفعهم في الآخرة شيئا، وإذا كان هذا سبب كفره فلا ينكر أن يكون ما حكاه من أمر النشأة الثانية شيئا سمعه من أحياهم قبل أن يتغير رأيه فيهم ويكون منه ما كان وبالله التوفيق. وأيضا فإن في أشعار العرب في الجاهلية قولا يثبت المعاد يوما لسحاب، فقال زهير بن أبي سلمى في قصيدته المعروفة: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى فمهما تكتم، الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أم يجعل فينقم وليس يمكن أن يكون زهير أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سبق أيامه، فصح أنه أخذ عمن يقدمه، وأن علم العباد كان خاشيا عندهم والله أعلم. وأما قول المعترض في المواعيد العاجلة، فجوابه: أن المواعيد العاجلة أدل به على صدق الوعد لأنه لم يبق عن نفسه الثقة التامة بأنه صادق مصدق لا يقدم على أن يعد الناس على اتباعه، ويوعدهم على خلافة مواعيد عاجلة ويصرف لنا مواقيتا معلومة لأنه لا يأمن أن وقع فيها قال خلف: أن ينتهك ستره ويعامل ما يعامل به الكذابون المزرورون. ولما كانت الدعاة إلى الله عز وجل المتقدمون فعلوا ذلك صح أنهم كانوا مسبقين لصدق أنفسهم فلا يمكن أن يكون اليقين وأفعالهم للأمر قبل إخبار الله تعالى وإياهم بما أخبروا به قومهم، فثبت بذلك أحقاقهم ولم يجز بعد ذلك أن يتأول عليهم ما تأوله المعترض من أنهم قدروا في أنفسهم أن خلفا أن وقع في ميعادهم وضعوا له علة، فإنا قد بينا أن ذلك غير ممكن أن يكون منهم مع قطعهم بما ذكروا أنه كان بعينه وقت تنبئه بعينه، وإنما يصلح طلب العلة لمن وعد خيرا منها أو وعد شيء منها لا في وقت بعينه. وأيضا فإن ما قال: أن كان مثله يمكن أن يكون من واعد وموعود، فلم يقع في خبر أحد من الأنبياء عليهم السلام، حلف احتاج إلى أ، يطلب له علة لكن كل ما أخبر به وقع في الوقت الذي قال بعينه. لأن نوحا عليه السلام أن أنذر قومه بالاحتياج ودعا على قومه بأن لا يذر على الأرض من الكافرين ديارا. وقد كان ذلك بعينه، فإن الله عز وجل أرسل الطوفان فعم الكافرين بالغرق ولم يتخلص إلا نوح ومن آمن به.

ولئن كان هود صلى الله عليه وسلم أنذر قومه بالبوار، فقد حقق الله تعالى ذلك فأرسل عليهم ريحا عاتية لم يبق منهم أحدا. ولئن كان صالح عليه السلام أنذر قومه: إن آذوا الناقة ومسوها بسوء بعذاب قريب، فعقروها ولم يخافوا عقبى جناتهم عليها، فقد صدق الله تعالى وعده وأرسل عليهم الثالثة والرابعة صيحة أهلكتهم وإن كان موسى عليه السلام وعد بين إسرائيل عن الله تعالى أن يخلصهم من فرعون واستبعاده إياهم، ويورثه أموال قومه فقد فعل ذلك بهم. وما يتهيأ للمعترض أن ينص على وعد ووعيد لبني أخلف، فاحتاج إلى أن يطلب لاخلافه عله، فدل ذلك أن مواعيدهم لم تكن صادرة من جهتهم وإنما كانت تصدر عن عبد الله تعالى عاجلة كانت أو آجلة، وبالله التوفيق. وأما ما حكاه عن عوام المسلمين من اختلاف أموالهم في المطيع والعاصي، إذا رأوا أحدا منهما بأحسن حال، فإنما هو مثل ضربة للأنبياء عليهم السلام من مواعيدهم، وقد ثبت أن الحال التي وضعها لم تكن لهم، فبطل بذلك أن يكون مثلهم مثل الذي ضربه لهم، وبأن ذلك أنه وضع التشبيه غير موضعه، وشك النبي بخلافة لا بنظره على أن ما قاله ليس بقدح في الكلام الذي حكاه من العوام لأن جميع ذلك حق. وقد فاوت الله بين عباده في الأخلاق والهمم فجعل منهم من لا يصلحه إلا الغني، ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر، فهو عز وجل يوسع على المصلح الذي جبله على الصبر وسعة الصدر، ليجزيه في الآخرة بصبره كما يجزيه بغيره من عمله. والمفسد أيضا قد يوسع عليه إفساده ليبتليه حتى إذا قابل أنعامه بالكفر، جزاه بذلك كما يجزيه بغير ذلك من سيئات أعماله، وقد يقر عليه تشقيقا وتشديدا علي. فيكون ذلك وبالا عجلة له، فأي شيء من ذلك قاله قائل فيمن ذكرت كان مصيبا صادقا، ومحى حد السالكين سبيل المعترض هذا أيضا، لن المنجمين منهم قد ينظرون في حال الرجل، فإذا وجدوها شبهة ضيقة قالوا: هذا من آثار رجل. وقد ينظرون في حال آخر، فإذا وجدوها رفيعة صالحة، قالوا هذا من عطية رجل: فلو قيل لهم: هذا أيضا مختلف، قالوا: كلا، فإن الرجل إذا كان في موضع من الفلك موافق أعطى، وإن كان في موضع رديء أخذ، فجعلوا لكل واحد من القضائيين

حالا غير حال الآخر يتحرزون بذلك قضاؤهم عن التناقض ولا ظنا منهم ينظرون إلى رجل متحرز حذر يسلم، فيقولون ما تفعل الحكمة بأهلها، ونظروا إليه لا يسقم، وعلى اختلاف الحالات يسلم. وقد ينظرون إلى متحرز محاذر لا يسلم، فيقولون الحمية ليست محمودة بالإطلاق. ولبعض الأطباء كتاب في الحمية مفرطة مهلكة للبدن، ونسوا ما قالوه للآخر. وقد يرون رجلا يتهافت بالطعام والشراب وعلى ذلك يسلم فيقولون: ما أقوى طبعه وأحكم تركيبه. وقد يرونه لا يحتضرز ولا يسلم، فيقولون: هذا لأنه لا يسامح نفسه ولا يحسن تدبيره، ونسوا ما فضلوا به للآخر. فلو قيل لهم: إن هذه القضايا مختلفة متفاوتة مضطربة، قالوا: كلا إن لكل قضاء من هذه حالا يخرج، وبها يتعبد، فيقال للمعترض: فإن عوام المسلمين كذلك يقولون لك ويزعمون أن لكل مقام مقالا، وأن لكل قول حكيته عنا حالا، فأرض منا بما ترضى به من الأطباء والمنجمين وبالله التوفيق. ويقال له أن المواعيد العاجلة لم تصدر من الأنبياء عليهم مصادر المواعيد الآجلة، التي استبعدتها، وإنما كانت من جهة حجج، أو لذكر الأنبياء على قومهم فغنها، إذا خفت كانت حلا له على صدقهم، وكان يزول ما نفع الأبعاد به بالموعدين تردعه لمن يأتي بعدهم من المنذرين عن أن يكونوا أنبياء، أن جاءهم بآية، وبوعدهم على تكذيبه بوعيد، وأن لا يقنعوا منه بتلك الآية، ويتربصوا لينظروا أيصدق وعيده أو يكذب، وهذا بين في اقتصاص الله تعالى أيضا الأمم الماضية، لأنه قال في قصة نوح: {فكذبوا عبدنا، وقالوا مجنون وازدجر، فدعا ربه إني مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر}. وقال: {كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر، إنا أرسنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر}. وقال: {كذبت ثمود بالنذر، فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إلى قوله: {فتعاطى فعقر، فكيف كان عذابي ونذر}.

وقال: {كذبت قوم لوط بالنذر، إنا أرسلنا عليهم حاصبا، إلا آل لوط نجيناهم بسحر}. وقال: {ولقد جاء آل فرعون بالنذر، كذبوا بآياتنا فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر}. فقد أبان الله عز وجل المواعيد العاجلة أنها مؤكدة لبينات الرسل، فلما لم تقبل منهم آياتهم أرسل عليهم من العذاب ما كانوا أنذروا به، ليؤكدوا ذلك الآيات التي أعدوها في الدلالة على صدقهم، أو تردع الجائين بعدهم عن مثل صنيعهم، إذا كانت الدار دار التكليف والتعبد. فأما هتك حرمة الإله المبدع البارئ المصور، الخالق الرازق، فليس يجوز أن يكون العرق أو الصحة أو الريح أو الخسف جزاؤه، لأنه ليس في شيء من ذلك أعظم من سلب الروح، وذلك عقبى كل ذي روح، آمن أو كفر. وما وراء ذلك فإنما هي روعة ساعة أو كرب ساعة. ولا يشك أن ذلك لا يقابل عند عظيم حرمة الله عز وجل لإيواء الكفر مع تتابع نعمه التي لا تحصى، الزمان الطويل والأمد البعيد، ولا تكذبت رسله والكفر بهم، فصح بذلك أن هذه المواعيد لم تكن تصدر من الأنبياء عليهم السلام، مقابلة الحق والإيمان والكفر، ولا الإيمان والكفر بهم أنفسهم، وإنما كانت تصدر منهم على الوجه الذي بيناه وشرحناه. وإذا كان كذلك صح إنما يستخص به بالكفر بالله وبرسله، هو شيء خارج عن هذه المؤاخذة العاجلة، وأن جزاءهم بالحقيقة زائد عليها أضعافا لا يحصيها إلا الله تعالى، فهو لا محالة واصل إليهم إذا صح ذلك، ثم وجدنا الإنذار بما دون ذلك، لم يجز أن لا تكون الأبدان هذا إلا عظم وأنفا لأن ظن الخبر عنهم غرور لهم، ولا يجوز على الغرور. فثبت أنه قد وقع منهم وإن لم يوجد في كتبهم وبالله التوفيق. وإذا قد ثبت لنا، أردنا إثباته في مجيء الأنبياء عليهم السلام، بذكر البعث بعد

الموت، في الجزاء بالأعمال، علمنا أن الذائعين له، يبعثون بذلك البروج على المنعمين المترفين من الملوك، وذوي الأعمال العظيمة ليستأكلوا بها أعمالهم، ويكتسبوا بها الوجاهة عندهم. وإنما يستعينون على إشراب ذلك قلوبهم بما في الطباع من حب الجمام والراحة، والميل إلى الخفض والدعة، فلا مكيدة لهم ولا لغيرهم من طبقات الكسالى أعظم من أن تصور ما يقرب عليهم ترك الصلوات ومنع الزكوات والعقول عن غيرها من الطاعات، وتسهيل سبيلهم إلى إتباع الشهوات، ومن تأمل الحال عرف صدق المقال وبالله التوفيق.

الثامن من شعب الإيمان وهو باب في حشر الناس بعدما يبعثون من قبورهم إلى المواقف الذي بين لهم من الأرض

الثامن من شعب الإيمان وهو باب في حشر الناس بعدما يبعثون من قبورهم إلى المواقف الذي بين لهم من الأرض فيقومون ما شاء الله تبارك وتعالى، فإذا جاء الوقت الذي يريد الله (به) محاسبتهم أمر بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون، تذكر فيها أعمال الناس، فأتوها. فمنهم من يؤتي كتابه بيمينه، أولئك هم السعداء. ومنهم من يؤتى كتابه بشماله، أو وراء ظهره وهؤلاء هم الأشقياء. قال الله تعالى في المطففين: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون لوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين}. فأخبر أن الناس يكونون يوم القيامة واقفين على أقدامهم. وأبان أن لا حال لهم سوى القيام من قعود واضطجاع. قال: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}. وقال: {وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون}. وقال عز وجل: {عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. وقال: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}. وأخبر أن الذين يقرأون كتبهم يقولون: {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}. وإن من أوتي كتابه بيمينه يقول: {هاؤم اقرؤوا كتابيه، إني ظننت أني ملاق حسابيه، فهو في عيشة راضية، وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول: {يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية}.

وقال: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا}. فإذا وقف الناس على أعمالهم من الصحف التي يؤتوها حوسبوا، قال الله عز وجل: {فأما من أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا}. فدل ذلك على أن المحاسبة إنما تكون إيتاء الكتب، ولعل ذلك- والله أعلم- لأن للناس إذا بعثوا لا يكذبون ذاكرين لأعمالهم، فإن الله عز وجل يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا، أحصاه الله ونسوه، فإذا ذكروها وقفوا عليها: حوسبوا بها، ولا يمكن أن يقطع في صفة المحاسبة بشيء لأنها لا تدرك إلا بتوقيف. غير أن جاء في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد إلا وسيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان). وسمعت منهم من يقول: إن الملائكة يحاسبون بأمر الله والمحاسبة حكمة، فلذلك يضاف إليه كما أنه أضاف الحكم إلى نفسه. فقال: {ألا له الحكم}، وقال: {وهو خير الحاكمين} ألا أنه جعل مع ذلك إلى العلماء عباده أن يحكموا بين الناس، فالحكم له والعباد يتولونه بإذنه. كذلك المحاسبة حقه وحكمة، غير أن الملائكة يتولونها بإذنه، والله أعلم. وقد قيل أن الله عز وجل لما قال: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم}. فخص هؤلاء بأن الله لا يكلمهم يوم القيامة، دل ذلك على أن من لم يكن في معناهم فإنه- تعالى جده- يكلمهم، فإن كان هكذا فإنه سيكلم المؤمنين ويحاسبهم حسابا يسيرا بنفسه من حيث لا يكون بينه وبينهم ترجمان إكراما لهم. كما أكرم موسى عليه السلام في الدنيا بأن كلمه تشريفا له وتفضيلا، فإن المغضوب

عليهم من الكفار وغيرهم، فإنه لا يكلمهم، ويأمر الملائكة بمحاسبتهم ليميزهم بذلك عن أهل الزلفة والكرامة والله أعلم، ما هو فاعله. وقد وصف الله تعالى نفسه في كتابه بأنه أسرع الحاسبين وأنه سريع الحساب وقال: {وكفى بنا حاسبين}، فقيل: إن معناه محاسبة الخلائق لا يعتاص عليهم لكثرتهم وكثرة أعمالهم كما يحتاج المحاسب من البشر إلى مدة مديدة إذا كثر الذين يحاسبهم، لكنه حاسبهم جميعا بنفسه لمحاسبة أحدهم ومحاسبة أحدهم لا يتطاول عليه لكثرة عمله، فيحتاج منها إلى وقت أمد من وقت محاسبة غيره، ممن هو أقل عملا منه، لكن مدته تتسع لمحاسبتهم معا وإن كثروا، وكان بعضهم أكثر عملا من بعض. وإن كان المعهود من محاسبة الناس بعضهم من بعض خلاف هذا، ألا ترى أن مدته تتسع لأحداث خلائق كثيرة معا كما تتسع لأحداث أحدهم، وقدرته على أحداث الخلق العظيم، كقدرته على أحداث خلق صغير، وقد بين جل ثناؤه ذلك في كتابه فقال: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة}، أي إلا لخلق نفس واحدة، وليس هذا للعباد، ولأن أحدا منهم لا يقدر على الجمع بين بناء دارين وركوب دابتين، وقطع ثوبين وخياطة قميصين. وإذا تعاطى أحدهما لم يفعله إلا شيئا فشيئا، واحتاج لأكثرهما شغلا إلى زمان أطول، لذلك تتسع قدرة الله تعالى لمحاسبة الخلق كلهم معا ولا يحتاج لمحاسبة أكثرهم عملا إلى زمان يطول هذا إن حاسب نفسه، فأما أن أمر الملائكة بالمحاسبة، فإنه يقتص لكل واحد منهم ملكا بحسابه، فيقتضي محاسبتهم في وقت واحد من هذين مما لا يقدر عليه غيره على مثله، فيستحق في الوجهين أن يكون أسرع الحاسبين وبالله التوفيق. فصل وقد أخبر الله جل ثناؤه، أن المحاسبة تكون بمشهد النبيين والشهداء، فقال عز وجل: {وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون}.

وقال: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}. فالشهيد في هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم. وشهيد كل أمة نبيها، وأما الشهداء من قبلها فالأظهر أنهم كتبة الأعمال بحضرة الأمة ورسلها، فيقال للقوم: ما أجبتم المرسلين؟ فيقول الرسل لله تعالى: {لا علم لنا إنك علام الغيوب}، وذلك إما لأنهم نسوا ما أجيبوا به، وإما لأن الهيبة تأخذ بمجامع قلوبهم، فيذهبون في تلك الساعة عن الجواب، وإن كانوا ذاكرين له من قبل. ثم إن الله تعالى ينبئهم ويحدث لهم ذكرت فيشهدون بما أجابتهم به أممهم، فهذا فيما بين كل نبي وقومه. فأما كل واحد من القوم على الانفراد فالشاهد عليه صحيفة عمله وكاتباه، فإنه قد أخبر في الدنيا بأن عليه ملكين موكلين يحفظان أعماله وينسخانها، وأعلم أن جميع ما ورد عليه قبل أن يرد، وعرف أن الملائكة أمناء لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم من خشيته مشفقون، فريق بذلك كله، واعتقد واعترف بأنهم لا يزيدون ولا ينقصون ولا يحرفونه ولا ينتمون ولا يغلطون ولا ينسون، فلا حجة عليهم في موقف العرض والحساب أولى بأن يقام عليهم من شهادتهم وما كتبوه لهم وعليهم. وليس هذا لأن الله عز وجل غير محتاج في تثبيت الذنب على العبد ليعاقبه به إلى حجة وبينة، ولكن الناس يردون القيامة، وقد تباعد عهدهم بأعمالهم ونسوها وأغفلوا عنها. فقد كانوا في الدنيا ينسبون ما يكون منهم بأخف من هذه العوارض التي عرضت لهم. فإن تلك الحوادث إذا قوبلت بالموت والبلى، ثم الإعادة والبعث ومشاهدة أهوال يوم القيامة، كانت هباء. ولذلك قيل لهم: كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: {لبثنا يوم أو بعض يوم} فإذا عرضت عليهم الصحف الناطقة بأعمالهم وشهد عليهم كتبتها بما فيها، ووقع لهم العلم بما كان منهم ضرورة، وتبين لهم من الصواب والخطأ وفيما كان منهم ما كانوا في الدنيا جاهين أو مستكينين فيه، وذلك مما وعدهم الله عز وجل أن يفعله بهم، لأن الله عز وجل خبر في غير آية أنهم يردون إليه فيثيبهم بما كانوا فيه يختلفون. فدخل من دخل

النار منهم عن بصيرة باستحقاقه إياها. ودخل من دخل منهم الجنة متحققا بفضل الله تعالى عليه، بما أهله له من الكرامة التي أورده إياها يوم القيامة والله أعلم. وأما أخبار الله عز وجل عن شهادة الجوارح على أهلها بقوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}. وقوله تعالى: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وقالوا لجلودهم: لما شهدتم علينا، قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء}. وقوله عز وجل: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}. ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: {إنكم مقدمون يوم القيامة، فأول ما يتكلم من أحدكم فخذه}. وإن ذلك والله أعلم- يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون زيادة على ما ينطق به كتاب بعض العصاة، يريد الله تعالى به فضيحة يوم القيامة، لأنه في الدنيا كان يجاهر بالفواحش ويخلو قلبه عندها من ذكر الله عز وجل فلا يفعل خائفا مشفقا. لكن فعل من لا يرى عليه تقية بحال، فيجزيه الله تعالى بمجاهرته إلا ساعة تفحشه وفجوره على رؤوس الأشهاد، ويكون معنى قوله تعالى: {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون}. أي فعلتم فعل من يظن هذا. كما قال في قصة يونس عليه السلام: {فظن أن لن نقدر عليه فنادى}. أي فعل من يظن أنه لا يقدر عليه والله أعلم. والآخر أن يكون هذا، فيمكن أن يقرأ فلا يعترف بما ينطق به على هذا. أنهم يقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا. فهذا يدل على أن الذين يشهد عليهم جوارحهم،

بلغوا غاية التمرد، فلم يذعنوا لشهادة الصحيفة، ولا كاتبيها، فاستحقوا من الله تعالى الفضح والإجزاء، نعوذ بالله منها والله أعلم. فصل والحساب وإن كان لله تعالى ذكره جملة، وكذلك جاء ذكره في كثير من الأخبار، فإن في بعضها دلالة على أن كثيرا من المؤمنين يدخلون الجنة بغير حساب وهم المتوكلون. فصار الناس إذا ثلاث فرق: فرقة لا تحاسب أصلا، وفرقة تحاسب حسابا يسيرا، وهاتان الفرقتان من المؤمنين، من يكون أدنى إلى رحمة الله فيدخله بغير حساب. وليس يبعد أن يكون من الكفار من يكون أدنى إلى غضب الله فيدخل النار بغير حساب. فتكون الفرق أربعا. وقد جاء في الحساب اليسير عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم حاسبني حسابا يسيرا، قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاتهم، وأما من نوقش الحساب عذب، قلت: فأين قول الله عز وجل: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا}. قال ذلك العرض. وقيل في معنى العرض: هو أن يقرأ كتابه ليقرأه ويعرف ما كان منه من حسنة وسيئة ثم يتجاوز عن سيئاته من غير أن يقال: لم فعلت هذا، ولم تركت هذا. فيسأل عن الحجة إذا سئل عنها لم يجدها، فكان العذاب يحق عليه. ومناقشة الحساب أن يقول: هلا فعلت هذا؟ أم هلا تركت هذا؟ ولم تركت هذا؟ ويطالب بالحجة، فإذا لم يجدها عذب والله أعلم. فصل فأما الكفار فإن الله عز وجل ثناؤه قال: {أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم، وقفوهم إنهم مسؤلون}.

وقال في سورة أخرى: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} وقال في ثالثة: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان}، {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان}. {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام}. وفي آيات العدل التي ذكر بعد الفراغ من ذكر الحساب إبانه بالغة عن محاسبة الكفار وهذه الآيات لا اختلاف فيها تناقض لأنها آيات عامة الألفاظ واللفظ العام قد يطلق والمراد به بعض من يشملهم اللفظ اعتمادا على أصل قد يفرد مما إذا رجع المخاطب إليه وجد فيه دلالة الخصوص فيكون الموجود في تلك الدلالة، اللفظ عام بمنزلة الاستثناء المقترن باللفظ. وإذا كان هكذا احتمل الجمع بين هذه الآيات من وجهين: أحدهما من الكفار يحاسبون بالكفر الذي كان طول العمر شعارهم ودثارهم. وكل دلالة من دلائل الإيمان خالفوها وعاندوها وذهبوا عنها، فإن ينكثوا عنها يسألون عنها ويسألون عن الرسل وتكذيبهم إياهم وذهابهم عن الدلائل الدالة على صدقهم. فأما تعاطيهم وتصرفهم، فكل شيء أتاه على مما كان ممنوعا من الملك أو معطلا وكان قبيحا في العقول فإنه يسأل أيضا عنه ويحاسب به. فأما ما فعله على مما كان مطلقا في قلبه وغير مطلق في الإسلام فهو إنما يسأل عن ملته التي كان يعتقدها بعد أن تميل عنها، ويسأل عن ذلك الذنب نفسه كما يسأل المسلم عن ذنوبه كلها، لأن سؤال المسلم عن ذنوبه، أن يقال له: إذا كنت مسلما وكان الإسلام لا يطلق لك هذه الأعمال، فلم عملتها، وما الذي هون عليك تعاطيها ويبعد أن يقال لمعتقد ملة من الملك، إذا كنت تعتقد ملة كذلك، وكانت الأعمال مما يطلقها لك ملك الملة، فلم عملتها وما الذي هون عليك تعاطيها؟ لأنه يقول: هونها علي أن ملتي كانت توحيها، وتمنعني من خلافها. ولو قال هذا لكان يقال له: ولم اخترت تلك الملة وقد كان تعالى نسخها ودعاك إلى غيرها. وبعث بذلك الغير إليك رسولا، وانزل بك كتابا وأمد ذلك الرسول من الدلائل بكذا وكذا، فبان بهذا الرسول لهؤلاء إنما يكون عن كفرهم.

وما احرموا من الذهاب عن الحق ودلائله لا عن الذنوب، إلا أن تكون الذنوب بالصفة التي ذكرتها وإذا كانت هذه الجملة معقولة وجب أن يرجع إليها في تبين منازل الألفاظ التي وردت بها تلك الآيات، فيقول- يعني قول الله عز وجل: {وقفوهم إنهم مسئولون} عن الله ورسله صلوات الله عليهم، وعن الإيمان في الجملة، وهو معنى قوله عز وجل: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} ومعنى: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون}، أي لا يسألون عما فعلوه مما كانت مللهم وتقتضيها وتوجبها لما ذكرت. وله وجه آخر: وهو أنهم لو فعلوا خلاف ما كانت تلك الملك توجبه، لم يكن في ذلك بر ولا قربة لهم مع تمسكهم بالملك الفاسدة، فكيف يقال لهم: ألا خالفتم ما كانت مللكم تدعوكم إليه، ولو كانوا فعلوا ذلك لم يكن ذلك بانفراده برا ولا قربة لهم. وأما المسلم فإنه يقال له: لم فعلت ما كان دينك لا يقتضيه، لأنه لو فعل بخلاف ذلك، لكان لزوم ما يوجبه دينه عليه برا له وقربة، فهذا فرق ما بينهما والله أعلم. والوجه الآخر: أن الكفار يحاسبون بتعاطيهم كما يحاسبون بأصل دينهم، ومعنى قول الله عز وجل: {وقفوهم إنهم مسئولون}، أي محاسبون. ومعنى: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} ومعنى {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} سؤال التعرف لتمييز المؤمنين من الكافرين، أي أن الملائكة لا تحتاج إلى أن يسأل أحد يوم القيامة فيقول: ما كان دينك، وما كنت تصنع في الدنيا حتى يتبين له بأخباره عن نفسه، أنه كان مؤمنا أو كافرا، لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه، منشرحي الصدور، والمشركون سود الوجوه زرقا مكروبين، فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار، أو تمييزهم في الوقف عن المؤمنين كفتهم مناظرهم عن تعرف أديانهم والله أعلم. ومن قال هذا فيحتمل أن يقول: أن الأمر يوم القيامة يكون بخلاف ما هو كائن قبله على ما وردت به الأخبار من سؤال الملكين الميت إذا دفن وانصرف الناس عنه، يسأل عن ربه ونبيه ودينه، أي إذا كان يوم القيامة، لم تسأل الملائكة عند الحاجة إلى

تمييز فريق عن فريق عن هذا لاستبقائهم بمناظرهم عما وراءها والله أعلم. ومن رأى بهذا الرأي فعسى أن يحتج بقول الله عز وجل: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون}. فأخبر أنهم يسألهم عن أعمالهم، وهذه الآية في الكافرين. ولمن ذهب المذهب الأول أن يقول: إذا سألهم عن أصل كفرهم ثم تحديهم إياه في كل وقت باستهزائهم بآيات الله ورسوله، فقد سألهم عما كانوا يعملون، وذلك هو المراد بالآية والله أعلم. فصل وإذا انقضى الحساب، كان بعده وزن الأعمال للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة فإن المحاسبة لتقرير الأعمال والوزن لإظهارها معانيها دبرها ليكون الجزاء بحسبها قال جل ثناؤه: {ونضع الموازين القسط يوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئا}، {والوزن يومئذ الحق، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}. وقال: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح وجوههم النار، وهو فيه كالحون}. وقال: {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه، نار حامية}. وفي هذه الآيات كلها أخبار بوزن أعمال الكفار، لأن غاية المعنيين بقول الله تعالى: {خفت موازينه} في هذه الآيات هم الكفار. فإن في أحديهما، {أولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} والظلم بآيات الله للاستهزاء بها وترك الأذعان لها. وفي الثانية: {فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون}.

وفي الثانية: {فأمه هاوية وما أدراك ما هية، نار حامية}. فهذا الوعيد بالإطلاق لا يكون للكفار فإذا جمع بينه وبين قوله تعالى: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}. إن الكفار يسألون عن كل ما خالفوا فيه الحق من أصل الدين وفروعه، إذ لو لم يسألوا عما وقفوا فيه أصل دينهم من ضروب تعاطيهم ولم يحاسبوا لم يعيدوها في الوزن أيضا، وإذا كانت موزونة في وقت الوزن، دل ذلك على أنهم محاسبون بها في وقت الحساب والله أعلم. ومن قال بالوجه الآخر بقي أن يقول: إنما وصف الله تعالى ميزان الكافر بالخفة، وذلك يقتضي أن يكون له وراء كفره، معاصي توزن معه، لأنه وإن لم يوزن من أعماله إلا الكفر وحده، فليس ذلك بدافع الخفة عن ميزانه، فبطل الاستشهاد بهذه الآيات، على أن فروع كفره موزونة، فأما قوله عز وجل: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها}، فإنما هو في أن اليسير من الطاعة لا يضع لفاعل ليكون قد ظلم. فأما السيئة إذا لم يؤت بها فليس في ذلك ظلم يلحق صاحبها، فدل أن ذلك يعزل عما أريد بالآية والله أعلم. فإن قيل: فإن معاصي الكافر لا توزن مع الكفر، فهل يعاقب عليها؟ قيل: من قال بهذا القول فينبغي أن يقول: يعاقب الكافر المنهك في السيئات على كفره عقوبة أغلظ مما يعاقب به الكافر المجرد للكفر عن تلك السيئات، لأن كفره هو الذي حمله على ما اقترفه وجناه، ولا يعاقب على سيئة عقوبة مفردة، هو الذي يليق بأن الكفار مخاطبون بالشرائع. وأما القول الآخر: فإنه إنما يليق بأن يكونوا غير مخاطبين بالشرائع حتى يؤمنوا، وفي القرآن ما يدل على أنهم مخاطبون بها مسئولون عنها، محاسبون مجزيون على الإخلال بها، لأن الله عز وجل يقول: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة}، فتوعدهم على منعهم الزكاة، وأخبر عن المجرمين أنه يقال لهم: {ما سلككم في سقر}، فيقولون {لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا

نكذب بيوم الدين}، فبان بهذا أن المشركين مخاطبون بالإيمان بالبعث، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأنهم مسئولون عنها محاسبون بها، مجزيون على ما أخلوا منها والله أعلم. فصل أن قال قائل: أما وزن أعمال المؤمنين فظاهر وجهه لأنه قد يكون للمؤمن حسنات وسيئات، فإذا قوبلت أحداهما بالأخرى وجدت حقيقة الوزن، والكافر لا يكون له حسنات فما الذي يقابل بكفره وسيئاته وأنى يتحقق في أعماله الوزن؟ فالجواب: أن ذلك على وجهين: أحدهما أن الكافر يحضر له ميزان فيوضع كفره، أو كفره وسائر سيئاته في إحدى كفتيه، ثم يقال له: هل لك فن طاعة تضعها في الكفة الأخرى، فلا يجدها فيشال الميزان فترتفع الكفة الفارغة، وتبقى الكفة المشغولة، فذلك خفة ميزانه، وهذا ظاهر الآية، لأن الله جل ثناؤه إنما وصف بالخفة الميزان لا الموزون، وإذا كان فارغا فهو خفيف. والوجه الآخر: إن الكافر قد تكون منه صلة الأرحام ومواساة الناس ورحم الضعيف وإعانة الملهوف والرفع عن المظلوم وعتق المملوك ونحوها، مما لو كانت من المسلم لكانت قربا وطاعات، وهي تقع حسنات في أنفسها، وإن كانت لا تسلم له عبادة وطاعة، كما أن من المباح من الطعام والشراب واللباس، إذا تعاطاه وقع ذلك منه مباحا، فهذه الخيرات من الكفار فإنها تجمع وتوضع في ميزانه، غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها، ولم يخل من أن يكون الجانب الذي فيه هذه الخيرات من ميزانه خفيفا ولو يكن له الأخير واحد وحسنة واحدة لا حضرت ووزنت كما ذكرناها. ومن قال بالوجه الأول، قال: لو احتسب جزاؤه حتى يوزن لجوزي بها جزاء مثلها، وليس له منها جزاء، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جدعان وقيل له أنه كان يقري الضيف ويصل الرحم ويعين في الثواب، فهل ينفعه ذلك؟ فقال: لا، إن عبد الله ابن جدعان لم يؤمن يوما قط رب أغفر لي خطيئتي يوم الدين، أي لم يكن يؤمن بالله

والبعث والحساب، فيدعوه ذلك إلى الاستغفار وسأله عدى بن حاتم عن أبيه مثل ذلك، فقال: (إن أباك طلب أمرا فأدركه) ويعني الذكر. فدل ذلك من أن خيرات الكافر ليست بخيرات له، وإن وجودها وعدمها سواء. ومن قال بالوجه الآخر قال: قد قال الله جل ثناؤه: {فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} وليس في الآية فصل بين نفسين، فبخيرات الكافر تحضر وتوزن ويجزى بها، إلا أن الله تعالى حرم عليه الجنة فيجزي بها أن يخفف عذاب الكفر عنه. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {إن أبا طالب في صحصاح من نار وعليه نعلان من النار تغلي منه دماغه، ولولا مكانة لكان في الدرك الأسفل من النار}، فقد بان إحسان أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينفعه من حيث يخفف عذابه فكان كل ذي حساب وخيرات من الكفار في هذا مثله. وأما ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن جدعان وحاتم طي فإنما هو في أنهما لا يدخلان الجنة ولا ينعمان بشيء من نعيمها والله أعلم. وهذا الثاني وجه فاسد، لأن الله عز وجل إذا خفف عن الكفار العذاب الذي ذكره جزاء الكفر كان ذلك مغفرة منه لبعض الكفر، وقد أخبر الله عز وجل في كتابه أنه لا يغفر أن يشرك به، فلو جاز مع هذا الخبر أن يغفر بعض الشرك، لجاز معه أن يغفره، وذلك ممتنع. وفي هذا بيان خبر أبي طالب صحيح، لا يجوز إثباته عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون معناه: إن جزاء الكفر من العذاب واصل إليه، ولكن الله تعالى وضع وراء ذلك عنه ألوانا من العذاب على جنايات جناها سوى الكفر تطيبا لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، وثوابا له في نفسه لا لأبي طالب، ولا في هذا القول احتسابا بحسنات الكافر، وتلك ليست بحسنات منه في الحقيقة.

ولا لقائل أن يقول: وجود الحسنات منه كوجوه السيئات من المؤمن لأن الحسنات طاعة والكافر لا يثب الجنة دار المطيعين والكافر لا طاعة منه، وأما السيئة فهي معصية المؤمن، فثبت الأمر الذي يتصرف العصيان إليه، فصحت السيئة منه ولهذا جاز أن يستوجب بها النار. وإذا كان كذلك صح أن حسنات الكافر لا يجوز أن توزن ليجزي بها خيرا، وأقصى ما يكون أن يقال فيها: إنها توزن قطعا بحجته، وعلى معنى أن يقال: إن كانت خيرا بلى هذه فقد وزناها إلا أن الكفة لما قابلها رجح بها وأحبطها، فما ذلك بعد هذا فأما على غير هذا الوجه فلا يمكن أن يكون موزونة والله أعلم. ولا يصح لأصحابنا من هذا الوضع قول سوى هذا، لأنهم إن قالوا: إن تثبت حسناته كما تثبت سيئات المؤمن، وإنها تحبط بقدرها من سيئات الكافر كما تحبط سيئات المسلم بقدرها من حسناته، فماذا تهيأ لهم أن يقولون إذا لم يبق للكافر سيئات وخلص الأمر إلى كفره. فإن قالوا: لا تحبط حسناته من أصل كفره شيئا، فماذا ثواب حسناته وقد حرم الله عليه الجنة، وإن قالوا تحبط، لزمهم أن يقولوا أن حسناته إذا ترادفت لم ترك يحيط من أصل كفره الشيء بعد الشيء حتى يحيط جميعه. فإذا قالوا: كذلك يكون، قيل لهم: أن يكون هذا الكافر بعد ذلك ولا دار إلا الجنة أو النار، ولاحظ في واحد منهما، فيضطرون عند ذلك إلى ترك هذا القول، ولا يعرض لهم مثل هذا في سيئات المؤمن، لأن الله تعالى لم يحرم النار على المسلمين، ما حرم من الجنة حتى على الكافرين فهم يقولون: إن سيئات المؤمن تحبط حسناته التي هي دون الإيمان، فإذا لم يبق منها شيء أزهقت نفسه بالنار، ومن أجاز من المتقدمين أن تحبط السيئات ثواب أصل الإيمان. قال: إذا لم يبق من ثوابه شيء فإن كانت له مع ذلك مسيئة باقية خفت عليه النار إلا أن يعفو الله تعالى عنه، وإن لم تكن عليه سيئة باقية، فإن الله تعالى يحسن إليه فيدخله الجنة إما بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ابتداء بالتفضيل عليه ولا يمكن أن يقال في الكافر إن خيراته أحبطت سيئاته كلها أدخل الجنة، فيتبين بهذا تباين الفرقين وبطلان التسوية بين الطبعتين وبالله التوفيق. فإن قيل: إن كان الكافر مثلما يعمل الخيرات بالأمر الذي يسجله في الكتاب الذي يدين الله تعالى به، فلم لا يكون فعله لها طاعة كما تكون السيئة للمؤمن معصية؟

قيل: لأنه مأمور بتلك الخيرات بالأمر الذي بلغه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله جل وثناؤه، فإذا لم تثبت له طاعته، وأما الأمر المتقدم فقد تناهى وزال قيام الحجة به، ولولا أن هذا هكذا لكانت بعض رسالة رسل المتقدمين باقية، ولكان الرسل إلى بني إسرائيل في بعض محمد صلى الله عليه وسلم وحده، فمن لم يثبت الأمر الذي بلغه على لسانه لم تثبت له طاعة الأمر، ولم يكسب بما يفعل بر ولا قربة. فإن قيل: أرأيت إن كان للكافر إنما يفعل هذه الحسنات لأنه يجدها حسنة في عقله، ويجد الإحسان حسنا، والعقل داعية من دواعي الله تعالى، فلا تزول على حكمه طاعة. قيل: إن الأمر المقرون بالوعد والوعيد هو السمعي، فمن لم يفعل ما يفعله من الخير لأمر يثبته فلا طاعة منه تستحق به الجزاء. فإن قيل: قفوا، إن لم يثبت الأمر لم يثبت له عصيانه كما قلتم، إن من لم يثبت الأمر لم تثبت له طاعته، فلزمكم على هذا أن لا يكون المعطلة عصاه. قيل: إن العصيان إنما هو مفارقة الأمر وترك العمل به، وجحد الأمر من أعظم الدواعي إلى ترك العمل به، فاستحال أن يقال: إن لم يثبت الأمر لم يؤخذ منه عصيانه وأما الطاعة فهم العمل بالأمر وجحد الأمر ليس من الدواعي إلى العمل لكنه من الموانع، فاستحال أن تثبت طاعة الأمر ممن لا يثبت، لأن الشيء لا يوجد مع مواقعه، وإنما يوجد عند وجود دواعيه وبالله التوفيق. ومما يدل على صحة هذا القول، قول الله جل ثناؤه: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}، فإن أعمالهم الصالحة في أنفسها لم تنفعهم، وخفف عنهم العذاب لأجلها لما كانت هباء منثورا. وقال جل ثناؤه: {عاملة ناصبة، تصلى نارا حامية}، وذاك أيضا إشارة إلى نصيب الكافر في عمله الذي يرى أنه طاعة له وقربة لا تجدي عليه شيئا، ولا تدفع عنه من شدة حمى النار شيئا والله أعلم.

فصل فإن سأل سائل عن وزن الأعمال كيف يكون، فإنما الأعمال حركات الناس وهي أعمال لا بقاء لها، وقال: كيف تبقى الأعمال إلى يوم القيامة وكيف يمكن وزنها؟ قيل له: قد تكلم الناس في ذلك فقالوا: ما يكون المراد من الوزن مقابلة الأعمال، ويتبين ما ينبغي أن يعامل به بيانا ظاهرا للملائكة والنبيين والشهداء، أو قد تدعو الحاجة في الدنيا إلى أن يعرف مقدار عمل، كالذي يحتاج إلى أن يعطي آخر مثله، فيقابل عمله ذلك بأمثاله من غير ميزان يكون التعديل به. وقد استعمل الناس ذكر الوزن في الشعر، وفي كل كلام مستحال، ولم يريدوا به إلا الاعتدال، واستوى بعضه ببعض عند المقابلة بين فصوله، فقيل إن وزن الأعمال يوم القيامة من هذا. وقال آخرون: أنه تكون هناك موازين بالحقيقة، لكل ميزان كفتان، أحداهما من نور والأخرى من ظلمة، كما جاءت به الأخبار، فالكفة المنيرة للحسنات، والكفة المظلمة للسيئات. ثم إن الناس يومئذ ثلاث طبقات: إحداهما المؤمنون المتقون، وهم الذين يوافون يوم القيامة بلا كبائر الذنوب. والثانية المؤمنون المخلطون وهم الذين يوافون القيامة بالفواحش والكبائر. والثالثة الكفار. فأما المتقون فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة، وصغائرهم- إن كانت لهم- في الكفة الأخرى، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزنا، وتثقل الكفة النيرة حتى لا تبرح، وترفع المظلمة ارتفاع الفارغة الخالية، وأما المخلطون فإن حسناتهم أيضا توضع في الكفة النيرة، وآثامهم وسيئاتهم في الكفة المظلمة. فيكون يومئذ لكبائرهم التي جاءوا بها ولحسناتهم ثقل، إلا أن الحسنات تكون بكل حال أثقل لأن معها أصل الإيمان، وليس مع السيئات كفر، ويستحيل وجود الإيمان والكفر معا لشخص واحد، فيوزن أحد بالآخر، ولأن الحسنات لا يراد بها إلا وجه الله تعالى، والسيئات لم يقصد بها مخالفة الله تعالى، وإشفاق من غضبه فاستحال أن

توازى السيئات وإن كثرت حسنات المؤمن، ولكنها عند الوزن لا تخلو من ثقيل يقع بها للميزان حتى يثقلها كبعض ثقل الحسنات، فيجزي أمر هؤلاء على ما يثبت في باب زيادة الإيمان ونقصانه. وأما الكفار فإن كفرهم ومعاصيهم التي دعاهم إليها، وهو بها عليكم، كفرهم في الكفة المظلمة ولا يوجد لهم حسنة توضع في الكفة الأخرى، فتبقى خفيفة لفراغها وخلوها من الجزاء، فيأمر الله تعالى جده بهم إلى النار، ويعذب كل واحد منهما بقدر أوزاره وأيامه. وأما المتقون فإن صغائرهم باجتنابهم الكبائر تغفر، ويؤمر بهم إلى الجنة، ويثاب كل واحد منهم بقدر حسناته وطاعاته. وهذا أن الصفات هما المذكوران في القرآن في آيات الوزن، لأن الله عز وجل لم يذكر حيث ذكر وزن الأعمال إلا من ثقلت موازينه ومن خفت موازينه، وقطع بل ثقلت موازينه بلا فلاح، والعيشة الراضية على الإطلاق. ولمن خفت موازينه بالخلود في النار بعد إن وصفه بالكفر، وقد علمنا أن الناس كلهم لا يكونون هذين الفريقين، لكن يكون معهما فريق ثالث وهم الذين يخلطون الشيء الصالح. ووردت الأخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيهم فيخرجون من النار بعدما صاروا حمما. إلا أن هذا الفريق لم يذكروا ذكرا مفصلا في آيات الوزن، ولكن الله عز وجل قد قال: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}. وفيها بيان المخلط توزن حسناته وسيئاته، ولذلك قال {فلا تظلم نفس شيئا}، أي لا توزن له سيئة، لأن نقصانها من ميزانه كان لا يحول بينه وبين الجنة، كما لو تركت للمخلط حسنة ازداد ذلك من ثقل سيئاته، وأوجب ذلك زيادة عذاب عليه. فعلمنا أن الطبقات يومئذ ثلاث كما بينا والله أعلم. فأما أن الوزن كيف يكون، ففيه وجهان: أحدهما أن صحف الحسنات توضع (في) الكفة المضيئة، وصحف السيئات توضع في الكفة المظلمة، لأن الأعمال لا تنسخ في صحيفة واحدة ولا كاتبها يكون واحدا، لكن الملك الذي يكون على اليمين يكتب الحسنات

والملك الذي على الشمال يكتب السيئات، فيفرد كل واحد منهما بما ينسخ، فإذا جاء وقت الوزن وضعت الصحف في الموازين فيثقل الله منها ما يحق تثقيله، وخفف ما يحق تخفيفه. والوجه الآخر: أنه يجوز أن يحدث الله أجساما مقدرة بعدد الحسنات والسيئات، ويميز أحدهما عن الآخر بصفات يعرفونها، كما توزن الأجسام بعضها ببعض في الدنيا، والله أعلم. فصل إن سأل سائل: عن الأعمال إذا وزنت ما يعتبر فيها في الوزن فيظهر بها الأخف والأثقل. قيل له: تعتبر فيها مواقعها من رضي الله عنه تعالى أو سخطه، وذلك أن المؤمن قد يأتي بحسنة لا يريد فيها إلا وجه الله تعالى ولا يحمله عليها إلا حبه لله تعالى ورغبته في تحصيل مرضاته. وقد يأتي بها خوفا من عقابه، وقد يأتي بها فرقا في حال إتيانه بها من أن لا تقبل منه، وأن لا تكون وقعت من كل وجه على ما يرضاه الله تعالى. وقد يأتي ساكن العلم إليها معتقدا أنه قد أدلها وخرج عن عهدتها وعلى هذا قد يواقع السيئة غافلا عن نهي الله تعالى لا يخطر بقلبه أن الذي يأتيه سيئة لا يرضاها الله تعالى وذلك لألفة إياها ومرونية عليها وإن كان لو وقف في تلك الساعة وسئل عما يأتيه لأعترف بها سيئة خائفا من تبعتها فرقا من مواجدة الله تعالى إياه بها. إلا أن ما يغلب عليه من الهوى يحول بينه وبين الكف عنها ثم ذلك الهوى أيضا يختلف فقد يشذ حتى يجد صاحبه إتباعه لذة كثيرة، وقد يخف فلا يجد صاحبه في إتباعه إلا لذة يسيرة. وكذلك الداعي إلى الحسنة يختلف وقد يقوى حتى يجد صاحبه من إجابته وفعل الحسنة التي دعا إليها فرحا شديدا، إنما تبشره لها، وقد لا يبلغ هذا المبلغ فيكون فرح الفاعل للحسنة بحسنه دون فرح الذي ذكرناه، وكل هذا الوجوه معتبرة في الوزن. فلذلك يصلي رجلان بصلاة واحدة ويصومان يوما واحدا ويحجان معا، ويكون ما يظهر من أعمالهما سواء إلا أن عمل أحدهما أثقل وزنا وأكبر ثوابا، ويصل واحد ركعتين

فرقا وركعتين مثلهما وقتا آخر، فتكون إحدى صلاتيه أفضل من الأخرى. وكذلك الصيام وغيره، ويشتركان في معصية فيكون ما يظهر من أفعالهما سواء، إلا أن عمل أحدهما يكزن أكثر تبعة، وأظهر في ميزانه من الآخر، فقد قيل في قول الله عز وجل: {وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة}، معنى اطلاعها على الأفئدة أن تؤلم كل أحد بقدر ما في قلبه من المعصية التي واقعها فصار معاقبا عليها. فإن محل الدواعي كلها هو القلب، والأفعال إجابة عن الأعضاء لتلك الدواعي مختلف مقاديرها وما يستحق بها بحسب اختلاف تلك الدواعي في أنفسها. ألا ترى أن العبد قد يدعوه سيده خير فيجيبه إلا أن إجابته غير سعيدة لا يقع منه موقع إجابته سيده، فإنه إنما يجب سيده على أن ذلك واجب عليه لا يسعه خلافه ويجب غير سيده تبرعا في الجملة، فبان بذلك أن الأحكام الأفعال مأخوذة من دواعيها، وهي كذلك في الدنيا وكذلك يكون في الآخرة والله أعلم. فصل إن سأل سائل: عن كبائر الذنوب وصغائرها وواجباتها. فقد قال الله عز وجل: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن}. وقال: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}. وقال: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم}. وقال: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون}. وقال: ما الفرق بين ما سماها الله تعالى كبائر وما سماها فواحش، وما يجوز أن يقال لها صغائر؟. فالجواب: أنه ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، فقد تنقلب الصغيرة كبيرة

بقرينة تنضم إليها وتنقلب الكبيرة فاحشة بانضمام قرينة إليها إلا الكفر بالله عز وجل، فإنه أفحش الكبائر وليس من نوعه صغيرة، فأما ما عداه فالأمر فيه ما ذكرته. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكبائر، فذكر الشرك بالله جل ثناؤه، وقتل النفس بغير حق والزنا بحليلة الجار، وقذف المحصنات والفرار من الزحف وعقوق الوالدين والسرقة، وقد قال الله جل ثناؤه: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}. وقال: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وإن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق}. وقال: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}. وقال النبي: صلى الله عليه وسلم: (من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر)، والمعنى فقد استحق ما يستحق الكافر وهو القتل. وإذا تتبع ما في الكتاب والسنة من المحرمات كثر، وإذا أردنا هذه لنبين الصغائر والكبائر بيانا خارجا نأتي على ما يحتاج إليه من هذا الباب بإذن الله تعالى فنقول: إن قتل النفس بغير حق كبيرة، فإن كان المقتول أبا أو ابنا أو ذا رحم في الخلة أو أجنبيا بالحرم فهو فاحشة، وأما الخدشة والضربة بالعصا مرة أو مرتين فمن الصغائر، والزنا كبيرة، فإن كان بحليلة الجار أو بذات رحم أو لا بواحدة من هاتين، لكن يأثم في شهر رمضان أو في البلد المحرم فهو فاحشة. قال الله عز وجل: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}، فالزنا كله

كبيرة، إلا أن ما كان منه على وجه مما تقدم ذكره فازداد كثيرا فالتحق بالفواحش، وأما ما دون الزنا الموجب للحد فإنه من الصغائر، فإن مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو مع أجنبية إثم لكن على سبيل القهر والإكراه كان فاحشة كبيرة. وقذف المحصنات كبيرة، فإن كانت المقذوفة أما أو أختا أو امرأة فإنه كان فاحشة كبيرة. وقذف الصغيرة والمملوكة والحرة المنتهكة من الصغائر، وكذلك القذف بالخيانة والكذب والسرقة والفرار من الزحف كبيرة، فإن كان من واحد أو اثنين ضعيفين وهو أقوى منهما، أو اثنين حملا عليه بالسلاح وهو شاك السلاح، فذلك فاحشة وعقوق الوالدين كبيرة، فإن كان مع العقوق سب أو شتم أو ضرب فهو فاحشة، وإن كان العقوق الاستثقال لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجههما والتزم بهما مع بذل الطاقة ولزوم الصمت فهذا من الصغائر، فإن كان ما يأتيه من ذلك ينجيهما إلى أن ينقصا عنه فلا يأمراه ولا ينهياه أو يلحقهما من ذلك ضر فهذا كبيرة، والسرقة من الكبائر، فأما أخذ المال في قطع الطريق فاحشة. وكذلك قطع يد السارق ويد المحارب ورجله من خلاف وقتل النفس في قطع الطريق فاحشة. وكذلك لا يعمل عفو المولى عنه إذا قدر عليه قبل التوبة وسرقة الشيء التافه صغيرة، فإن كان المسروق منه مسكينا لا عناية عما أخذ منه فذاك كبيرة، وإن لم يكن على السارق الحد وأخذ الأموال بغير حق كبيرة، فإن كان المأخوذ ماله يفتقر أو كان أب الآخذ أو أمه أو كان الأخذ بالاستكراه والقهر فهو فاحشة، وكذلك إن كان على سبيل القمار، فإن كان المأخوذ باقيا، والمأخوذ عنه غنيا لا يتبين عليه من ذلك ضرر، فذلك صغيرة. وشرب الخمر من الكبائر، فإن استكثر من الشرب حتى سكر أو جاءهم به فذلك من الفواحش، فإن مزج خمرا مثلها من الماء فذهبت شدتها وشربها فذلك من الصغائر. وترك الصلاة من الكبائر، فإن صار عادة فهو من الفواحش، فإن أقامها ولم يوفها حقها من الخشوع، لكنه التفت فيها أو فرقع أصابعه أو استمع إلى حديث الناس أو سرى الحصى، أو أكثر مس لحيته فذاك من الصغائر، وإن ترك إيتاء الجمعة من غير عذر

فذاك من الكبائر، فإن اتخذ عادة فهو من الفواحش، وإن ترك إيتاء الجمعة لغيرها فذاك من الصغائر، وإن اتخذ ذلك عادة قصد به مباينة الجماعة والانفراد عنهم فذاك كبيرة، وإن اتفق على ذلك أهل بلده فهو من الفواحش. ومنع الزكاة كبيرة ورد السائل صغيرة، فإن اجتمع علة منعه أو كان المنع من واحد إلا أنه زاد على المنع الإشهار والأغلاط فذاك كبيرة. وكذلك إن أتى محتاج موسعا على طعام فتاقت إليه نفسه، فإن تعاطيه كبيرة وتعاطيه على وجهه يجمع وجهين أو وجها من التحريم كان فاحشة، وتعاطيه على وجه يقصر به عن رتبة المنصوص أو تعاطي ما دون المنصوص الذي لا يستوفي معنى المنصوص الذي نهي عنه، لئلا يكون ذريعة له إلى غيره، فهذا كله من الصغائر، وتعاطي الصغيرة على وجهين أو وجها من التحريم كبيرة. مثال ذلك أن قتل النفس بغير حق محرم بعينه منهي عنه لمعنى في نفسه، فهو انتهاك حرمة الله عز وجل بانتقاص مخاطب مكلف من الجملة، فذلك إن كان عمدا كبيرة، لأن العامل متسع لاستيفاء من يريد قتله وانتقاصه. فإن احتقار الانتقاص وقتل فقد أراد الخيانة وآثرها فكانت منه كبيرة. وإن وقع ذلك خطأ لم تكن كبيرة، ولأن زوال العمل يقتصر بقتله عن رتبة المنصوص فإنه لا يكون عند ذلك مؤثرا لانتقاص عدد المخاطبين المكلفين من بين الجملة. فإن كان المقتول أبا أو ذا رحم، أو كان القتل في البلد الحرام أو قطع طريق كانت فاحشة لما في ذلك من انتهاك حرمات كثيرة مضمونة إلى حرمة المقتول، وإن ترك القتل إلى شيء دونه من إيلام بضرب غير منهك أو جرح لا ينقص به المجروح عضوا ولا يتعطل به عليه من منافع بدنه منفعة لم يكن ذلك كبيرة. لأن هذه الجناية لا تستوفي معنى القتل المنصوص وإن وجد فيه بعض معناه. لأن معنى الإيلام أو أنهار الدم وإن وجد، فإن أماته الحي لا يوجد فيه، فيفارق بذلك القتل وقطع الطريق ولا يكون كبيرة. وإن تعاطي قتل أب أو أم أو ذوي رحم من كان، أو كان ذلك في حرم أو أشهر حرام أو استضعافا لمسلم أو استعلاء عليه، فذلك كبيرة لأنه فعل يجمع إيلام المجني عليه، وإنهار شيء من دمه أو طرفه إليه فصار بذلك كبيرة.

وإن دل رجل على مطلوب ليقتل ظلما، أو أحضر المرتد للقتل سكينا فهذا كله محرم لأنه يدخل في قوله: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} لكنها صغائر، لأن المنهي عنه ليس لأنفسهما لكنها ذرائع الظالم إلى التمكن من ظلمه، فأكثر ما في إعانة القاتل بها، أن المعين مشارك له في القصد، والقصد إذا خلا عن الفعل لم يكن كبيرة. وكذلك سؤال الرجل غيره الذي لا تلزمه طاعته أن يقتل ليس من الكبائر، لأنه ليس فيه إلا إرادة هلاكه من غير أن يكون معها فعل والله أعلم. فصل إن سأل سائل عن أصحاب الكبائر عن أهل القبلة إذا وافوا القيامة بلا توبة قدموها، ماذا يكون من أمرهم؟؟ قيل له: -وبالله التوفيق- أمرهم الله تعالى، فإن عفا عنهم مبتدئا وإن شاء شفع فيهم نبيهم، وإن شاء أمر بإدخالهم النار وكانوا معذبين بها مدة، ثم أمر بإخراجهم منها إلى الجنة إما بشفاعة ولا يخلد في النار إلا الكفار. فإن سأل عن الدلائل على ما قلنا! أما الدليل على أن غبر الكفار لا يخلد في النار فهو قول الله عز وجل {من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، فأخبر أن التخليد في النار إنما هو لمن أحاطت به خطياته، والمؤمن صاحب الكبيرة والكبائر لم تحط به خطياته، لأن رأس الخطايا هو الكفر، وهو غير موجود منهم، فصح أنه لا يخلد في النار. فإن قيل: هذا معارض بأن الله تعالى قال بعقب هذه الآية: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}، فوعد الجنة من جمع بين أصل الإيمان وفروعه وصاحب الكبيرة أو الكبائر تارك الصالحات فصح أن وعد الجنة ليس له. فالجواب: أن التعاطي للكبائر إذا تاب عنها ووافى القيامة تائبا لا يخلو من أن يكون

تاركاً للصالحات التي هي أضداد الكبائر، ثم لأنه إذا شرب الخمر فقد ترك العمل بقول الله عز وجل. وإذا زنى فقد ترك العمل بقول الله عز وجل: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم}. وإذا فر من الزحف فقد ترك العمل بقول الله عز وجل: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}، وعلى هذا جميع الكبائر. ثم أنه إذا تاب سقط العذاب عنه بالتوبة، وصارت الجنة داره، وإن لم تصر بالتوبة جامعا بين أصل الإيمان وفروعها من الصالحات. لأنه وإن تاب منها اليوم فلا يخلوان من كان من تاركا لها بالأمس وقع بهذا، جاز أن تكون داره. فلا ينكر أن الذي يوافي القيامة بكبائر لم يتب منها مثله، فإن تقل ليسا سواء، لكن التائب يقيم التوبة مقام السيئات التي قدمها، والمصر ترك الطاعات ولم يقم مقامها شيئا، قيل التائب غير مبدل من الطاعات التي تركها شيئا، لأن التائب هو الذي يندم على ما جنى ولا يعود لمثله في المستقبل. فأما بذمة على ما معنى فإنما هو بكرهه لما كان منه، وقد كان مأمورا من حين: فقيل: إلا أن تاب بأن يكون متكرها له، فلما لم يفعل وآخره إلى الوقت الذي تاب منه كان إيتاء من هذا الغرض ببعضه لا يجمعه. وأما نزوعه عن الفعل وترك العود لمثله في المستقبل فهو أيضا بعض ما كان عليه، إلا أنه كان عليه أن يكون نازعا عن الفعل أبدا، فإذا قدم عليه وقتا ثم نزع عنه وقتا كان بذلك مبغضا للغرض، وبعض الفرض لا يكون بدلا من جميعه، فصح أن التائب غير مبدل من الطاعات التي تركها بدلا ولا يقيم مقامها خلفا، ومع ذلك جاز أن يدخل الجنة، فليجز أن يدخلها المصر. فإن قيل: لو كانا سواء لكانت الجنة واجبة للمصر، كما هي واجبة للتائب، ولما كان المصر معذبا كما لا يكون التائب معذبا، دل أنهما لا تستويان. قيل: إنما أردنا بما أجبناكم به، أن التائب لا يخلو من أن يكون تاركا للصالحات التي

كانت عليه، ومع هذا يدخل الجنة، فعلم بهذا أن الجنة ليس للجامع بين أصل الإيمان وفروعه دون غيره، وقد ثبت هذا. فأما قولكم: أن المصر لو كان كالتائب لما كان معذبا، فجوابه أن يقال. أن التائب إنما لا يعذب لأنه رجع إلى ما كان عليه، وترك ما لم يكن فعله فعفى الله عنه عما لا تمكنه مداركه فيما مضى، فإنه لا يمكنه أن يجعل ما كان منه غير كائن. والمصر مجدد للمعصية في كل وقت يعرض العقوبة إلا أن يمن الله تعالى عليه بالعفو، إما باستغفار يكون منه أو بشفاعة من يشفع له في الآخرة. ألا ترى أن التائب من الكبائر إذا احتدم من ساعته فقد يفارق المتقي الذي يرد القيامة بلا كبيرة في أن المتقي يجب له من الثواب ما لا يجب للتائي من كبائره، وافتراقهما هذا يستوجب من الإحسان ما لا يستوجبه الآخر، ولا يمنع من أن يمن الله تعالى على التائب بكرامات وخيرات تعدد ثواب المتقين أو يؤته ذلك بشفاعة النبي عليه السلام. فكذلك اقتراف التائب والمصر في أن التائب يستوجب الجنة، والمصر لا يستوجبها عاجلا لا يمنع من أن يمن الله تعالى على المصر فيدخله مع التائب الجنة، إما باستغفار أو بشفاعة تشفع له والله أعلم. والدليل على جواز أن يعفو للمصر باستغفاره قول الله عز وجل: {إن الحسنات يذهبن السيئات}، وهذا في الصلوات المفروضات إنها كفارات، وإذا كانت الصلاة كفارة للمذنب، والمذنب ليس هو الداعي إليها والباعث عليها، فلئن كان الاستغفار كفارة وهو طاعة تدعو الذنب إليها وتحمل عليها أولى وأحق. ووجه آخر: هو قول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، ولا يجوز أن يعرض في خير الله تعالى خلف. فإن قيل: المعنى أنه يغفر الصغائر لمجتنب الكبائر، ولا يغفرها لمن لا يجتنب الكبائر، كما قال في آية أخرى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما}.

فأما الكبائر أنفسها فلا يغفرها إلا للتائب. والدليل على ذلك أنه تعالى لما توعد أصحاب الكبار بالنار والخلود فيها لم يستثن منهم إلا التائبين، لأنه عز وجل قال: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يعف ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب}. فعلمنا أن يخلص أصحاب الكبائر بالتوبة فإن المغفرة الموعودة لها دون الشرك، إنما هي لأصحاب الصغائر المجتنبين للكبائر. فالجواب: -وبالله التوفيق- أن هذا الوعيد ينصرف إلى جميع ما تقدم ذكره، فإن الله عز وجل ثناؤه فتح بهذه الآية بذكر الشرك فقال: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا}، فانصرف قوله ومن يفعل ذلك إلى جميع ما تقدم ذكره. ولسنا ننكر أن يكون الجامع بين هذه الكبائر مستوجبا هذا الوعيد، وأن لا يخرج منه إلا التائب. ويدل على أن المراد بالآية هذا، أن الله عز وجل لا يضاعف له العذاب، فبان أن المراد بها أن من جمع بين الشرك وغيره من الكبائر، فيصير العذاب مضاعفا عليه، وذكر الخلود في هذا الوضع، فثبت أنه لاحظ في ذلك لمن اقتصر على الكبائر التي هي دون الشرك، ولم يضم إليها شركا. ويدل على هذا أيضا أنه عز وجل لما ذكر التوبة قال: {إلا من تاب وآمن وعمل صالحا}، فذكر في التوبة الإيمان العمل الصالح، فثبت أن الوعيد على من أشرك وضم إلى الشرك أعمالا سيئة فكانت توبته، أن يؤمن ويعمل في إيمانه الأعمال الصالحة، فيحبط الإيمان كفره ويحبط إصلاحه في الإيمان إفساد الذي كان في الكفر. ومثل هذا جاء حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثبتناه في أول الكتاب- وبالله التوفيق- وإن جعلوا دلالتهم على صحة تأويلهم، قول الله عز وجل: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها}، قيل لهم: جاء الحديث عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذلك جزاؤه أن جازاه"، وكذلك يقول ويذهب إلا أن لا يجازيه لأنه من حكمه أن يغفر ما دون ذلك لمن يشاء والقتل دون الشرك فثبت أنه قد يغفره لمن يشاء. وأيضا فإنه لم يقل: فجزاؤه جهنم إلا أن يتوب، ولكن حمل المطلق منهما على أنه الاستثناء التي كان تأويلها عندهم إنها في صاحب الكبيرة، كافرا كان أو غير كافر، فلا يدفعونها عن أن تحملها على الآية التي فيها وعد المغفرة، فيقول: "ذلك جزاؤه" لولا أن الله تعالى وعد أن يغفر ما دون ذلك لمن يشاء أن يغفر أصلا، فلا يأخذ فاعله به. وإذا كان كذلك، علمنا أنه إذا أخذه به لم يخلده النار لأنه لا قائل يقول: إن من القائلين من يعفو عنه، وإن لم يكن قدم توبة فلا يعاقب أصلا ومنهم من يخلد في النار. فإن قيل: انفصلوا عمن قلت هذا عليكم، فنقول: قد ثبت بقوله تعالى: {ويغفر لمن دون ذلك لمن يشاء} لبعض أصحاب الكبائر، فيجريه مجرى الشك، لأنه قد حكم تائبا ما عدا الشرك، وإذا كان دونه كانت عقوبته دون عقوبته، فصح أن القلب الذي ادعوه، لا يتوجه لهم وبالله التوفيق. فإن قيل: قالوا عقوبته دون عقوبة الشرك في الخفة والغلظ لا في طول المدة وقصرها. قيل لهم: انفصلوا فيمن قال هو في الطول والقصر لا في الخفة والغلظ، وإذا لم يكن أحد هذين القولين أولى من الآخر ولم يكن بينهما تنافي وجب أ، يجمع بينهما فيقال: عقوبة بما دون الشرك دون عقوبة الشرك في الخفة وقصر المدة وبالله التوفيق. وجواب آخر: وهو أن هذا تخصيص الآية بلا دليل، لأن قوله عز وجل: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فيه تخصيص كبيره من صغيره ولا دليل يوجب هذا التخصيص فوجب أن يضم هذا في الوعد إلى التوبة فيكون كأنه قال: {من تاب أو شاء الله أن يغفر له}. فإن قيل: أفتقولون أن من أصحاب الكبائر من لا يشاء الله أن يغفر له فيخلده النار. قيل: يقول: إن منهم من لا يشاء الله أن يغفر له، ولا يقول: أن منهم من إذا لم يغفر له

خلده النار، لأن الله عز وجل قد أخبر: أن ما عدا الشرك فهو دون الشرك. وقد علمنا أن في عدله لا يسوى بين جزاء من خف ذنبه وجزاء من عظم ذنبه، كما لا يسوي بين المحسن والمسيء، فدل ذلك على أن جزاء المشرك إذا كان التخليد كان جزاء من قصر دينه عن ذنبه مقاما دون ذلك والله أعلم. وجواب آخر: عن كلامهم في أنه المغفرة، وهو أن يقول: إن كان لا يستثني من الوعيد إلا التائب، فما بال الصغائر تصير مكفرة مغفورة لا حساب الكبائر؟ لم لا جاز أن يغفر الكبائر لاجتناب الكفر؟ فإن قيل: صاحب الصغائر أصلا وصاحب الكبيرة إذا وافى القيامة بلا كفر واخاها، وكبرته مستحقا لأن يعذب عليها. فكيف يستويان؟ قيل له: إن مغفرة الصغائر لمجتنب الكبائر بفضل من الله جل جلاله عليه، ومن تفضل الله عليه بشيء لم يجب أن يتفضل، فدل ذلك على أن الله تعالى إذا كان يتفضل على مجتنب الكبائر بالصفح عن صغائره جاز، ولم يمتنع أن يتفضل على مجتنب الكبائر بالعفو عن كبائره، وإن كان ذك غير واجب والله أعلم. وإن أصبحوا بصحة جمعهم بين الآيتين بقول الله عز وجل: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا}، وقالوا: لما وعد الجنة من باب علمنا إن المصر لا حظ له في الجنة. وقيل: ومعناه إلا من تاب أو شاء الله تعالى أن يجعل أخذ ما تيسير باجتنابه الكفر غفران خطاياه، ووضعها عنه، أو يشفع النبي صلى الله عليه وسلم أو كثرت نوافله وخيراته. فأراد الله تعالى أن ينبه منها العفو من كبائره فإن كان مما دلت الدلائل على جواز أن تقابله مغفرة الكبائر من هذه الوجوه يصير كالمقرون بالتوبة نصا، إلا أن يرى الدليل لما دل على أن اجتناب الكبائر يجوز أن يكون سببا لمغفرة الصغائر. كأن اجتناب الكبائر من يرتكب الصغائر كالتوبة من مرتكب الكبائر. وكذلك الوجوه التي ذكرتها هي لمرتب الكبائر كالتوبة، ولا فضل وإن احتجوا بقول الله عز وجل: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى،

ويقولون: سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه، ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق}، وقالوا: في هذه الآية دليل على أن قولهم المصر على الكبيرة ستغفر في قول غير حق. قيل لهم: إن هذه الآية في اليهود، والذين وصفهم الله تعالى في أكل أموال الناس بالباطل في آية، وأكلهم السحت، في آية أخرى، وتخويفهم كتاب الله، وقولهم مع ذلك {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}، ودعواهم إنهم أبناء الله وأحباؤه، أي أنه متجاوز عنهم حيالهم كما يتجاوز الناس عمن يحبونه، ما لا يتجاوزنه عن غيره. فأخبر الله عز وجل أن قولهم سيغفر لنا قول غير حق، لأن من حكم الله تعالى أن لا يغفر للكفار وهم كفار، وإن احتجوا بقول الله جل ثناؤه، {إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم، يصلونها يوم الدين، وما هم عنها بغائبين}. قيل لهم: إن اله تعالى قابل الفجار بالمتقين في غير هذه الآية فقال: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}، فولت هذه المقابلة على أن الفاجر خلاف المتقي. ومعلوم أن رأس التقوى هو الإيمان فلا يقال لغير المؤمن تقي. فدل ذلك على أن رأس الفجور المقابل للتقوى هو الكفر، وقابل في هذه الآية: الفجار بالأبرار، ورأس البر الإيمان. قال عز وجل: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر}، فعلمنا أن رأس الفجور هو الكفر، وإن الفجار المقابلين بالأبرار وبالمتقين هم الكفار، ولسنا ننكر أن يكون الكفار مرادين بالآية. وجواب آخر: وهو إن ثبت أن المراد بالفجار أصحاب الكبائر من أهل القبلة، فلسنا ننكر أن يصلوا يوم القيامة النار، ولكن قوله عز وجل: {وما هم عنها بغائبين}، عن حضرتها فلا يمكن أن يصلوها لكنهم لابد مارون عليها مشاهدوها، والآخر إنهم إذا دخلوها لم يخرجوا منها، فوجب صرفه إلى الوجه الأول للمعاني التي سبق تكريرها.

وجواب ثالث: وهو أن الله عز وجل إنما نفى الغيبة عن الجحيم بعد صلتها عن الفجار أجمعين، ولذلك يقول: لا تغيبون عنها حتى لا يبقى فيها أحد منهم، وأما بعضهم فيدعون أن تغيب عنها، وإذا احتملت الآية ذلك، وجب تنزيلها عليه لما سبق ذكره. فإن قيل: على الجواب الأول: روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إلا أن الصدق يدعو إلى البر، والبر يدعو إلى الجنة، والكذب يدعو إلى الفجور، والفجور في النار)، وإنما أراد بذلك أن التوحيد الذي هو صدق يدعو إلى تحقيق ما صدر منه عن اللسان بالأفعال التي كلها بر، ويوجب لصالحها الجنة، والكفر الذي هو كذب، ويدعو إلى موافقة ما نهى الله عنه أو ذلك فجور يوجب لصاحبها النار. فثبت أن الفجور اسم الإفساد في العمل. فالجواب: إن الصدق نفسه بر، يقال: في يمينه إذا صدقها، وفجور في يمينه إذا كذبها، واليمين الفاجرة هي الكاذبة، وكان معنى الحديث: (إن الصدق هو يدعو إلى ما يكون برا مثله، والكفر الذي هو فجور يدعو إلى ما يكون فجورا مثله) وذلك ما لا ينكر والله أعلم. والذي يخالفوننا في هذا، لهم أصول عليها، بنوا قولهم في التخليد إحداهما أن قالوا: إن الوعد كالوعيد، فلما كان أحد الذين وعد الله تعالى الجنة لا يجوز أن يدخلها لأن ذلك إذا كان أخلف بوعد فصار كذبا، والكذب ينفي عن الله، فكذلك أحد الذين أوعدهم الله تعالى النار لا يجوز أن يدخلها لأن (الله) لا يخلف وعيده فيصير كذبا. وهو جل ثناؤه وقد أوعد من غير التائبين النار، فلا بد لهم من أن يدخلوها. والثاني: قولهم: أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن وإنما هو فاسق، والفسق منزلة بين الإيمان والكفر، والجنة دار المؤمنين فمن لم يكن مؤمنا فلا حظ له فيها. والثالث أنهم يقولون لا يجوز أن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكبائر من وجوه أحدها أن الله تعالى مدح الملائكة {لا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون}، دل ذلك على أن الشفاعة لأصحاب الكبائر مخالفة لخشية الله تعالى فلا يجوز وجودها من النبي صلى الله عليه وسلم.

ووجه آخر: وهو أن الله عز وجل وصف يوم الدين بأنه {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا} ولو جازت الشفاعة لأصحاب الكبائر ونفعت لكان قد ملكت فيه نفس لنفس أعظم الأشياء وهو الخلاص من النار وذلك خلاف ما وصف الله تعالى به ذلك اليوم. ووجه آخر: لما نزل قول الله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله فإني لا أغني عنكم من الله شيئا)، خص عين واحد منهم بمثل ذلك، حتى قال: (يا فاطمة بنت محمد، اشتري نفسك من الله، فإني لا أغني عنك من الله شيئا). فدل ذلك على أن الشفاعة يوم الدين لا تقع لأصحاب الكبائر لما جاز أن يخبر بها أمته، ولكان إخفاء خبرها عنهم أولى من إخفاء ليلة القدر لئلا يتكلون، لأن في علمهم ذلك تجزئة الشقاق، وحملانهم على أن يغرموا بضروب الفسق وينهمكوا فيها، متكلين على الشفاعة. وفي ذلك بطلان حكم الله تعالى في الوعيد، وتنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من يقول: إن الله تعالى يوعدكم بالنار، ولكن لا يأمن عليكم فإني أشفع لكم، وهذا غير جائز على أن يخرجه وينقصه. والدليل على ذلك أنه إذا ثبت لم يحتج أن تجريد الإقرار، فلو كان خارجا من الإيمان لم يعد إليه بعقد جديد. وفي اجتماع الأمة على أنه محتاج في ثبوت الإيمان له إلى عقد جديد، وما دل على أنه خارج من الإيمان. ووجه آخر: وهو أن إجماعهم على أنه لا يكفي، والله عز وجل يقول: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن. فقسم هذي القسمين. فلما لم يكن صاحب الكبيرة كافر أظهر أنه مؤمن. ووجه ثالث: وهو أن إيمانه أكبر طاعته، وكل ذنب طول الكفر، فليس بأكبر معاصيه، فلم يجز أن يحبط الأصغر الأكبر، كما لا يجوز أن يقال: الصغائر تحيط الإيمان، أو ما يتفرع عنه من فرائض الطاعات.

ووجه رابع: وهو أن المعاصي دون الكفر. لا يوجد من مسلم على سبيل مضادة الإيمان، لأن المسلم لا يريد بها الخلاف والعباد، وخلع رباق الطاعة من عنقه، وإنما يتبع الهدى ويريد قضاء شهوته، فهي إذا توجد منه مضادة لما كان علي مكانها، ولا توجد مضادة لأجل الإيمان، فلم يجز ارتفاعه بها كالصغائر، وأما معاصي الكافر فإنها توجد منه مضادة الإيمان لأن الكفر هو الذي يحرك عليها، ألا ترى أنه لا يعتقد فيها أنها معاصي، وإن الله تعالى وصفها فكانت كمحسنات المؤمن التي تكون إيمانا. لأن أصل الإيمان هو الذي يحرك عليها، ألا ترى أنه يقطعها على أنها طاعات تقربه من الله تعالى. فأما معاصي المسلم، فإن هواه يحركه عليها لا الكفر، فكانت كبائره من هذا الوجه كصغائره، ولم يجز أن يرتفع بها الإيمان وبالله التوفيق. وتدل على هذا حسنات الكافر لا تخرجه من الكفر، لأن الإيمان ليس هو يحركه عليها لأن التكريم وطلب الذكر وشبه ذلك ممالا يرجع في الحملة إلى المدين، فكذلك سيئات المؤمن لا تخرجه من الإيمان، لأن الكفر ليس هو المحرك لها عليها، لكن الهوى والشهوة، وبالله التوفيق. وأما الجواب عن تشبيه الوعيد بالوعد، فهو أن العفو عن صاحب الكبيرة لا يوقع حفلا في الوعيد، لأن الله عز وجل إذا قال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، فما أخذه بوعيد مع هذا إلا ويصير ذلك الوعيد مقرونا بشرط المشبه، فيكون قوله عز وجل: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}، فإنه قرن به الاستثناء. فقيل: إلا أن يكون ممن سبقت له مشيئة الله تعالى بأنه يدخله الجنة، أو إلا أن يشفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون المعنى هذا جزاؤه، ولكنه قد لا يجزيه بل يعفو، فمن عفا عنه لم يلحق خبره من ذلك خلف والله أعلم. وجواب آخر: هو أن خطاب الله تبارك وتعالى في القرآن عباده عما وقع بلغة العرب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان منهم ومن ظهرانيهم فلذلك خابطهم بحسب عاداتهم عن حكم العادة فيما تتفق فيه عاداتهم، وعادة غيرهم.

ومعلوم من عادات الناس أجمعين أن وعيدهم يكون باتا ووعيدهم معلقا، فمن قال عنهم لغيره: لأعطينك كذا، لم يقله على خيار، ومن قال: لاضربنك قاله على خيار. وذلك لأنهم يعلمون أن الإحسان والعفو أولى بالمدح من العقاب والمؤاخذة، فإن العقاب ينزع إلى استيفاء الحق والعفو ينزع إلى التصديق بالحق. ولا يخفى بعد ما بين الأمرين. وتفاوت ما بين الفعلين. فمن وعد آخر خيرا فمنحه كان تاركا للفضل إلى ما لا فضل منه. ومن يرعد آخر بشر فلم يفعله، كان تاركا لما لا فضل فيه إلى ما هو الفضل. وإذا كان كذلك صح أن الوعد يصدر من صاحبه باتا، لأنه يريد الإحسان الذي هو سبب المدح والثناء عليه في الدنيا وسبب المثوبة في الآخرة، فلا يليق الخيار بكلامه الذي كان لهم في تخاطبهم. وإذا كان خطابه لهم فيما تختلف فيه عادتهم وعادة غيرهم بحسن عادتهم وإن الوعيد يصدر معلقا، لأن الوعد قد يرى أن يدع غير الفض إلى الفضل، فلا يليق مع هذا بوعيده الثبات، بل يكون المعلق أولى به، فيكون عند قوله: لأفعلن بك كذا وكذا، كأنه يصر على الاستثناء فوصله به. وقال: إلا أن يشفع شافع، أو إن شئت. وإذا كان هذا عادة الناس في وعدهم ووعيدهم، وجب أن يكونوا من الله تعالى محمولين على قبضته، العادة المعروفة التي نزل القرآن بها بين ظهرانيهم، ووقع الخطاب به لهم، فيصير الوعد كأنه نص على بته، والوعيد كأنه نص على تعلقيه، فلا ينقلب الوعيد بالعفو كذبا وبالله التوفيق. فإن قيل: لو كان هذا هكذا، لوجب أن أحلف الرجل: ليضربن عبده اليوم مائة، ثم عفا عنه ولم يضربه حتى انقضى اليوم، أن لا يجيب، لأنه لو صرح فقال: لأضربنه اليوم إلا إن شاء العفو عنه فعفا عنه ولم يضربه حتى انقضى اليوم ولم يحنث، قيل: إنما حنث لأن كلامه يحمل على التعليق الذي ذكرنا إذا صدر منه مطلقا، فلم يظهر لنا أنه أراد خلاف ما هو العادة في مثله. وأما إذا أكد وعيده باليمين التي يراد بها في العادات أيضا تأكيدا للأمر المحلوف عليه، والاحتراز من وقوع الحلف منه كان البت أغلب عليه وأولى بظاهره من التعليق وصار

الحالف لذلك كأنه قال:"لأضربنك اليوم شئت أو كرهت "شفع شافع أو لم يشفع. ولو قال ذلك فانقضى الوقت ولم يضربه يحنث. وكذلك إذا أكد قوله باليمين، ثم خالف ما قال حنث والله أعلم. وأما الجواب: عما قالوه في الشفاعة، فهو أنه قد جاء عن بينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة، وإني خبأت دعوتي لأمتي يوم القيامة". ووردت الأخبار المتواترة فلا عذر في ردها والذهاب عنها. وأما قول الله عز وجل ولا تشفعون إلا لمن ارتضى أن تشفعوا له، كما قال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} ولا يحتمل أنه غير ذلك. لأن المرتضين عند الله لا يحتاجون إلى شفاعة ملك ولا نبي. فصح أن المعنى ما قلنا، ولا يجوز أن يقال: إن الله عز وجل لا يرتضي أن يشفع لصاحب الكبيرة لأن المذنب هو الذي يحتاج إلى الشفاعة، حائلا بينه وبين الشفاعة. فإن قيل: ما جزاء الشفاعة للكافر؟ قيل: امتناع الشفاعة للكافر لأن ذنبه كبير، تعالى الباري المشفوع إليه جل ثناؤه، أو الرسول الشافع صلوات الله عليه، أو لأن الله عز وجل أخبر أنه لا يشفع فيه أحد، فهذه المعاني كلها معدومة في صاحب الكبيرة من أهل القبلة، فجاز أن يشفع له عند النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذبك بمخالف خشية الله عز وجل لأن الشفاعة لا تكون إلا بعد الإذن من الله تعالى فيها. وإذا جاء الاستئذان والتوقيف إلى أن يكون الإذن، فقد وفيت الخشية حقها والله أعلم. وأما قول الله عز وجل: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا}. فإنه لا يدفع الشفاعة لأن المراد بالملك، الدفع بالقوة، كما يكون في الدنيا أن يدفع الناس بعضهم عن بعض وعن أنفسهم بالقوة، ولا يكون ذلك يوم الدين. والشفاعة ليست من هذا الباب

لأن ذلك من ذي الشفاعة للمشفوع عنده، وإقامة الشفيع بذلك من المشفوع له، فلا يوم أليق به وأشبه بأحواله من بيوم الدين. فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا". فقد يخرج على أن يكون نهاهم عن التقصير في حقوق الله اتكالا على أنهم عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلهم لا يسألون عما يعملون لأجله. فأخبرهم أن أفضالهم به لا يسقط عليهم تقلب أعمالهم، وإنهم مسئولون ومحاسبون كغيرهم، وأمرهم بعد ذلك إلى الله تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم، ولم يرد به أن لا يشفع لهم، وليست الشفاعة أغنى عنهم من الله شيئا، لأن الشفاعة فيما بينا ليس بمرحبة، فكيف يتوهم أن تكون الشفاعة عند الله تعالى مرحبة وبالله التوفيق. وأما قولهم أن الشفاعة ولكنات واقعة لأصحاب الكبائر فيه لما جاز أن يخبر بها لما في ذلك من تجربة الخاطئين في خطاياهم. فجوابه: أنه ليس في إخبارهم بذلك إلا ما في أخبارهم بأن من قضى شهواته كلها دهرا طويلا ثم تاب إلى الله تعالى توبة صحيحة، صحت بتلك الميزة عنه في تلك الساعة جميع الأوزار، وصار كيوم ولدته أمه. فإن كان هذا جائزا، والأخبار به جائزا مثله، فلم لا جاز أن تكون الشفاعة والأخبار بها جائزين؟. فإن قال: لا تجزئه في منزل التوبة وإحباط الخطايا، لأن الخاطئ لا يعلم من نفسه أن التوبة تنفعه له أو لا تنفعه: فيل له: والخاطئ لا يعلم أن الشفاعة تناله أو لا تناله. فإن الخاطئين كلهم لا يسلمون من النار إنما يسلم منها بعضهم وبالله التوفيق. فإن قال قائل: الشفاعة حق، ولكنكم تضعونها في غير موضعها، وإنما هي لصاحب الكبيرة، والمنهك في الخطيئة إذا مات، قم أخبرهم، من قريب توفي في القيامة، وليس وراء الإيمان عمل صالح فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الله تعالى ليحسن إليه منتدبا أن كان لا يستحق أن يحسن إليه جازيا ومشيئا. فالجواب: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". تأبى هذا

التأويل، لأن فيه أن المشفوع له يكون أهل الكبيرة حتى يشفع له، والتائب في الدنيا لا يوافي القيامة بكبيرته، فلا تكون الشفاعة كما ذكرت شفاعة لصاحب كبيرة لأنه لا كبيرة له يحاسب بها يوم القيامة. وأيضا فإن الروايات قد نطقت بإبطال هذا التأويل لأن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: شفاعتكم للمتقين! فقال: إن المتقين في غناء، إن الله عز وجل يقول {إن للمتقين مفازا}، إنما شفاعتي للهلاك من أمتي. ومعلوم أن التائب لا يكون هالكا، فصح أن المراد به المضر على الكبيرة والله أعلم. وأيضا فإن التائب إذا دخل الحنة أثبت بالإيمان، فلو جاز أن يشفع لكل مقصر به عن غيره ليبلغ درجة من فوقه إلى أن يستوي أهل الجنة كلهم في نعيمها، ويزول التفاضل من بينهم. ومعلوم أن ذلك لا يكون، فالذي قاله مثله وبالله التوفيق. وأيضا فإن الذي في العادات، إن الشفاعة لمن عظم ذنبه بعد ما عفي عنه ليخلو بمن لا ذنب له إحسانا إليه أعظم من الشفاعة له ليعفي عنه. فإن كانت أعظم الشفاعتين جائزة، فلم لا تجوز دونها؟ وبالله التوفيق. وإذا بطلت هذه العلل كلها صح أن يخلو أصحاب الكبائر من أهل القبلة في النار، وكان مما بيناه أنهم مؤمنون بما يوجب أن يكون لهم في الجنة نصيب، وأن وافوا القيامة غير تائبين، لأن الله عز وجل في قضائه، فلا يجوز أن يستوفي بتعذيب صاحب الكبيرة حقه ولا يوفيهم من عذاب الإيمان حقه. وإذا كان ذلك غير جائز، وكان من أدخل الجنة للثواب لا يخرج منها أبدا، دل على أنه إذا عذب لم يعذب دائما، ولكن إلى وقت، ثم يخرج إلى الجنة، وبالله التوفيق. فإن قيل: الدار داران: الجنة والنار، وقد أجمعنا على أن من أدخل الجنة للثواب لم يخرج منها، ومن يدخل النار ولم يكن كافرا لم يخرج منها أيضا، كما لا يخرج المؤمن من الجنة، وإن كان غير كافر لم يجز أن يخلد فيها، لأن ذلك يؤدي إلى حرمانه أجر الإيمان، وذلك غير جائز، وبالله التوفيق. قال قائل: ما أنكرتم أن يكون جزاء إيمانه تخفيف العذاب عنه في النار، فقال:

بما يفضل ممن قال: لا يدخل النار أصلا بل يدخل الجنة ويجعل جزاؤه بكباره حطة عن بعض الدرجات، وحرمانه بعض ما نواه، لو كان في إيمانه مجانبا للكبائر، فإن كنت لا تجيز هذا، فالذي قبله مثله فلا يجزه وبالله التوفيق. فصل إن قال قائل: أخبر الله تعالى عن الناس أنهم محاسبون مجزون. وأخبر أنه يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولم يخبر عن ثواب الجن ولا عن حسابهم، فما القول في ذلك عندكم؟. فالجواب: أنه قد قيل: إن الله تعالى لما أن قال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}. وقال عز وجل: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} دخل في الجملة الجن والإنس، فثبت للجن من وعد الجنة بعموم الآية، ما ثبت للإنس. فإن قال قائل: فما الحكمة في إفراد الجن عن الإنس في الوعيد، وترك أفرادهم عنهم في الوعيد؟ فقيل في جواب ذلك: أنهم قد ذكروا في الوعد لأن الله عز وجل يقول: {أولئك الذين حق عليم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين}. ثم قال: {ولكل درجات بما عملوا}، وإنما أراد ولكل من الجن والإنس، فقد صاروا مذكورين في الوعد مع الأنس كما ذكروا في الوعيد. فإن قيل: أليس قد ذكر يخاطب الجن في النار، ولم يذكر يخاطب الفريقين في الجنة لأن الله عز وجل قال: {وقال الشيطان لما قضي الأمر أن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم}. وقال: {قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد}. ولم يأت عن تعارض الفريقين في الجنة خبر.

قيل: إنما ذكر في معارضهم في النار أن الواحد من الأنس يقول للشيطان الذي كان في الدنيا قرينه أنه المغاوي وأضلني. فيقول له قرينه: ما أطغيته، ولكن كان ضالا في نفسه غويا، وهذا تخاصم يدعو إليه طاعة الإنس لقرنائهم من الجن وهم الشياطين في الدنيا، ولا سبب بين الفريقين يدعو أهل الجنة منها إلى التفاوض، فلذلك سلب عنهما. وأيضا فإن الله جل ثناؤه، أخبر الناس إن عصاتهم يكونون قرناء الشياطين يخاصمون في النار ليزجرهم بذلك عن التمرد والعصيان. وليس في إجبار الأخيار باجتماع الجن معهم في الجنة ما يحرضهم على الازدياد من الطاعات ولاستكثار من الخيرات، إذ لا معنى فيهم يسوق الإنس إليهم ويحثهم على مجاورتهم. فيحتمل أن يكون ذكرهم مع الإنس في الوعيد، والسكت عن ذلك في الوعد لهذا، والله أعلم. ووجه آخر: وهو أن السكت عن ذكر الجن وإدخالهم الجنة يحتمل، لأنهم لا يخالطون الإنس فيها، ولا يجاورنهم مجارة الإنس بعضهم بعضا، ولكنهم مع الإنس في الجنة كما يكونون معم في الأرض، لا يرى هذا ذاك، ولا ذاك هذا ولعل ذلك لا يجاوز الأشكال أنس ويجاوز الأضداد وحشة، والجن أضداد الإنس. فإن الجن مخلوقون من النار، والإنس مخلوقون من الماء والتراب. والماء ضد النار، وفي التراب أيضا بعض المضاد لأنه يطفئ النار كما تطفئها الماء. فالتضاد بين الفريقين في أصل الجملة، ولأن الجن في الدنيا إنما كانوا يعيشون بروائح الأطعمة دون أجسادها، فلذلك في الجنة يتنعمون بنسيم الجنة وطيب روائحها، وروائح الأطعمة والأشربة التي تكون فيها، فتكفيهم من المكان في الجنة مثل ما كان يكفيهم منه في الدنيا، فيكونون لاختبائهم عن الأبصار كالمعدومين، فتشبه أن يكون أفرادهم بالذكر بما لم يقع لهذين المعننين أو لأحدهما والله أعلم. فأما الذين يوردون النار من الجن، قد يجوز أن يكونوا أيضا غير مرئيين للأنس، ولا تطهر لهم فيرونهم، {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون}. فكذلك أهل النار من الفريقين، وإن تخاصموا فذلك لا يقتضي أن يرى بعضهم بعضا، والله أعلم.

وأما المحاسبة فإن الله جل ثناؤه قد أخبر أن في الجنة يسألون، لأنه تعالى قال جزاءا عما يقال لهم يوم القيامة يا معشر الجن والإنس: {ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا: بلى}. وهذا سؤال، وإذا ثبت بعض السؤال ثبت كله، والله أعلم. فصل فإن سأل سائل عن الملائكة، هل تكتب أعمالهم يحاسبون ويثابون؟. قيل له: أما كتبة أعمالهم فما يشبه أن تكون؟ لأن الملائكة هم الذين يكتبون أعمال الناس، ولو كتبت أعمال الملائكة لاحتاج كل ملك إلى كاتب أو اثنين، وذلك الكاتب إلى مثل ذلك إلى ما لا يتناهى. والقول بذلك فاسد. والمحاسبة أيضا لا معنى لها، لأنهم لا يخلطون الحسنات بالسيئات، وما أكثر من لا يحاسب من بني آدم، فلا تكون الملائكة أولى ولا أدى منزلة منهم. وأما الإثابة فقد قيل: يرفع التكليف عنهم فيتنعمون بالراحة ويتلذذون بالخفض والدعة، وليسوا من أهل المطاعم والمشارب فيوردون موارد بني آدم من الجنة، ويحتمل أن يكون قد أوضع التكليف غيرهم نعمة أعدها الله لهم ولا تبلغها أفهامنا وعقولنا، فإنه تعالى يقول: (أعددت لبعادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر). وإذا جاز أن يعيد للناس مثل هذا الثواب المغيب، فأولى أن يكون ذلك للملائكة والله أعلم. فصل إن سأل سائل: عن قول الله عز وجل: {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون بينهم} فقال: التعارف بينهم يكون بالكلام. وقد قال الله عز وجل

في آية أخرى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما} وفي آية ثالثة أنهم يقولون {من بعثنا من مرقدنا هذا}. وهذا كلام وهو مضاد إليكم. والتعارف تخاطب وهو مضاد للصم والبكم معا. وقال عز وجل {وقفوهم أنهم مسئولون}. وقال جل ثناؤه: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين}. والسؤال لا يكون إلا بالسمع والناطق يتسمع للجواب. وقال. {ونحشر المجرمين يومئذ زرقا، يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا} وهذا كلام، والأبكم لا يستمع له. وقال في آية أخرى: {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} وفي آية أخرى: {يوم يخرجون من الأجداث سراعا، كأنهم إلى نصب يوفضون}. والنسلان والإسراع مخالفان للخبر على الوجوه فما وجوه هذه الآيات عندكم؟ فالجواب- وبالله التوفيق-: إن الناس إذا أحيوا وبعثوا من قبورهم، فليست حالهم واحدة، ولا موقفهم ومقامهم واحد ولكن لهم مواقف وأحوالا. واختلف في الأخبار عنهم لاختلاف مرافعهم وأحوالهم. وجملة ذلك أنها خمسة أحوال: أولها حال البعث من القبور، والثانية حال السوق إلى الحساب، والثالثة حال المحاسبة، والرابعة حال السوق إلى دار الجزاء، والخامسة حال السوق إلى مقامهم في الدار التي يصارون إليها. فأما الحالة الأولى: وهي حال البعث من القبور، فإن الكفار يكونون فيها كاملي الحواس والجوارح لقول الله عز وجل: {يتعارفون بينهم} وقوله: {يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا} أو قوله: {كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم. فاسأل العادين، قال: إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون، أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون}.

والحالة الثانية. حال السوق إلى موضع الحساب، وفي هذه الحال أيضا أبحواس تامة يقول الله عز وجل: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فأهدوهم إلى صراط الجحيم، وقفوهم إنهم مسئولون}. ومعنى فأهدوهم دلوهم عليه، ولا دلالة للأعمى الأصم، ولا سؤال الأبكم، فثبت أنهم يكونون بأسماع وأبعاد وألسن ناطقة. وأما الحالة الثالثة: وهي حالة المحاسبة فإنهم يكونون فيها أيضا كاملي الحواس ليسمعوا ما يقال لهم، ويقرأوا كتبهم الناطقة بأعمالهم، وتشهد عليهم جوارحهم بسيئاتهم، فيسمعوها، وقد أخبر الله عز وجل أنهم يقولون: {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}، وإنهم يقولون لجلودهم لم شهدتم علينا وليشاهدوا أهوال القيامة وما كانوا مكذبين في الدنيا به من شدتها، ويصرف الأحوال بالناس فيها. وأما الرابعة: وهي السوق إلى جهنم، فإنهم يسلبون فيها أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم وعلى ذلك يوردون جهنم، لقوله عز وجل: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما، مأواهم جهنم} ويحتمل أن يكون قوله عز وجل: {يعرف المجرمون بسيماهم}. فيؤخذ بالنواصي والأقدام، إشارة إلى ما يشرعون به من سلب الأسماع والأبصار والنطق. والحالة الخامسة: حال الإقامة في النار، وهذه الحالة تنقسم إلى بدء ومآل. قيدوها أنهم إذا قطعوا المسافة بين موقف الحساب وشفير جهنم عميا وبكما وصما بإذلالهم وبشيرا عن غيرهم ردت الحواس إليهم ليشاهدوا النار وما أعد لهم فيها من العذاب، ويعاينوا ملائكة العذاب، كل ذلك مما كانوا مكذبين به، فيستقرون في النار ناطقين سامعين مبصرين. ولهذا قال الله عز وجل {وتراهم يعرضون علها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي}. وقال عز وجل: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين}.

وقال عز وجل {كلما دخلت أمة لعنت أختها، حتى إذا أدركوا فيها جميعا، قالت أخراهم لأولادهم}. وقال عز وجل: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتهم ألم يأتكم نذير؟ قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء}. فأخبر الله عز وجل: أنهم ينادون أهل الجنة فيقولون: {أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله} وإن أهل الجنة ينادونهم {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا، قالوا، نعم}. وإنهم يقولون: {يا مالك! ليقض علينا ربك، قال: إنكم ماكثون}. وإنهم يقولون لخزنة جهنم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب}، فيقولون لهم: {أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟ قالوا: بلى، قالوا فادفعوا، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}. وأما العقبى والمال، فإنهم إذا قالوا، ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا فإنا ظالمون. فقال عز وجل: {إخسأوا فيها ولا تكلمون}. وكتب عليهم الخلود بالمثل الذي يضرب لهم. وهو أن يؤتى بكبش يسمى الوزح، ثم يذبح على الصراط بين الجنة والنار، وينادوا: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت. سلبوا من ذلك الوقت أسماعهم وقد يجوز أن يسلبوا الأبصار والكلام، ولكن سلب السمع بين لأن الله عز وجل يقول: {لهم فيها زفير وهم لا يسعون}. وإذا سلبوا الأسماع صاروا إلى الزفير والشهيق، ويحتمل أن تكون الحكمة في سلب الأسماع أنهم إنما أوتوا من قبل أنهم سمعوا نداء الرب عز وجل على السنة رسله فلم يجيبوه بل جحدوه وكذبوا به بعد قيام الحجة عليهم بصحبته، فلما كانت حجة الله تعالى عليهم في الدنيا للأسماع عاقبهم على كفرهم في الأخرى، فسلب الأسماع تبين ذلك أنهم

كانوا يقولون: {وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب}. وإن قوم نوح كانوا يستغشون ثيابهم يتستروا منه لئلا يروه ولا يسمعوا كلامه. وقد أخبر الله عز وجل عن الكفار في وقت نبينا صلى الله عليه وسلم بمثله فقال: {ألا أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون}، وبالله التوفيق. وإن سلب أبصارهم فلأنهم أبصروا بالعين فلم يعتبروا، أو النطق فلأنهم أوتوه فألحدوا وكفروا والله أعلم. وأما الحشر على الوجوه: فالمراد به حال السوق إلى جهنم، فيجمع عليهم فيها بين الحشر على الوجوه وبين سلب الحواس والمنطق، وقد بين ذلك في آية أخرى فقال: {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا} فبان الحشر على الوجوه، إنما يكون حال السوق إلى النار. فأما حال البعث: فإنهم يبعثون قياما، لقول الله عز وجل: {فإذا هم قيام ينظرون} وأما حال السوق إلى موضع الحساب، فإنهم ينسلون فيها ويسرعون {كأنهم إلى نصب يوفضون}. فهذا وجه الجمع بين هذه الآيات عندنا والله أعلم. وقد يحتمل قول الله عز وجل: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما}. على ما ذكرنا في أن هذا يكون في حال سوقهم إلى النار وجها آخر، وهو أن يكون ذلك مثلا مضروبا لهم: وهو أن الله عز وجل وصفهم في هذه الدار بأنهم صم وبكم وعمي، ثم كان معنى ذلك لأنهم صم عما يسمعونه من دعاء الداعي إلى الله عز وجل، بكم عن الإجابة عمي عن البينات والحجج. فكذلك وصفهم الله تعالى في الآخرة، عندما يحشر المتقون إلى الرحمن وفدا أو يساق المجرمون إلى جهنم وردا، بأنهم يكونون عميا بكما صما على السنة، وهو أنهم صم عن تحيات الملائكة وبشارتهم، بكم عن المعاذير والحجج، كما قال الله عز وجل: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} أي لا يكون لهم كلام يجري عليهم فيتكلمون به،

ولا عذر فيؤذن لهم في تركه عمي عن طريق الجنة لأن الله عز وجل قد قال: {فأهدوهم إلى صراط الجحيم، وقفوهم إنهم مسئولون} فهم لا يهتدون إلى غيره. وهذا أيضا كما قال الله عز وجل: {لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم} وقال: {لا بشرى يومئذ للمجرمين}. فدلت هذه الآيات على أن المراد بهذه الآيات الصم والبكم والعمي في الآخرة ما ذكرنا والله أعلم. وأما قوله الله عز وجل: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} فيحتمل أن يكون المراد أنهم من مر الذلة يكونون ناكسي رؤوسهم، لا يبصر أحد منهم إلا موضع قدمه، فهو كذلك كأنه يمشي على وجهه قصد قدميه لا قصد نفسه، وقد وصفهم الله تعالى بذلك فقال: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم}. فيحتمل أن تكون إشارة إلى حشرهم على وجوههم، لأن وجوههم إذا كانت على الأرض، كانوا ناكسي الرؤوس، ويكون الدليل على هذا ما روى أنس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، الكفار يحشرون على وجوههم. قال (أليس الذي امشاه على رجليه في الدنيا قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة). فهذا الحديث ينبئ أن ذكر الحشر على الوجه تحقيق وليس بمثل للخشوع، وليس ذلك بمستنكر، فإن الله تعالى جعل الجنة التي هي عدو بني آدم يمشي على بطنها، فإن ألحق الكفار والذين هم أعداء المؤمنين في الآخرة بها فجعلهم مشاة على بطونهم ووجوههم لم يبعدوا والله أعلم. فصل إن سأل سائل عن كيفية انتهاء الحياة الأولى وابتداء الحياة الأخرى، وصفة يوم القيامة، وما يكون قبل المحاسبة، قيل له- وبالله التوفيق-:

أما انتهاء الحياة الأولى فإن له مقدمات تسمى أشراط الساعة، وهي أعلامها: منها خروج الدجال ونزول عيسى صلوات الله عليه وقتله الدجال، ومنها خروج يأجوج ومأجوج، ومنها خروج دابة الأرض ومنها طلوع الشمس من مغربها، فهذه هي الآيات العظام. وأما ما تقدم هذه من قبض العلم وغلبة الجهل واستعلاء أهله وتتبع الحكم، وظهور المعارف، واستفاضة شرب الخمور، واكتفاء النساء بالنساء والرجال بالرجال، وإطالة البنيان وزخرفة المساجد وإمارة الصبيان، ولعن آخرة الأمة أولها وكثرة الهرج، فإنها أسباب حادثة، ورواية للأخبار المنكرة بها بعدما صار الخبر عيانا، إلا أنها في الجملة أعلام للساعة، وقد مضى من هذا القول في هذا ذكر اليوم الآخر. وأما الدجال فإنه رجل من بني آدم كأعظمهم وأجسرهم، أعور كأن إحدى عينيه عنبة طافية، وقد أنذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته ووصفه لهم، ولكنه لم يبين لهم وقت ظهوره. وأخبرهم عن تميم الدرامي: أنه رآه في جزيرة في البحر، مغلولة يداه إلى عنقه، مصفدا بالحديد عن ركبتيه إلى عقبيه. وإنه سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم العربي، وطاعة العرب له. فأخبروه أنه قد خرج وأنه قد أذعنت له العرب وأطاعته، فقال: ذلك خير لهم أن يطيعوه، وأنه قال له فيما قال: يوشك أن أطلق، فلا يبقى بلد وأرض إلا وطئتها ما خلا طلبة. فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أراد بذلك المدينة التي سماها طلبة، وأن عليها ملائكة يمنعونها عنها، وأن مكة محرمة عليه، فلا يدخلها، وأنه كان في حديث تميم: أنه في البحر الذي في المغرب، فإنه لا يأتي الناس إلا من قبل المشرق. وأخبرهم أن الناس يقحطون قبل خروجه بثلاث سنين، فتحبس السماء في السنة الأولى ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها. وتحبس السماء الثانية ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها. وتحبس السماء في السنة الثالثة جميع قطرها والأرض جميع نباتها، ثم يكون خروج الدجال. وأخبرهم أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه ينزل بيت المقدس وقت صلاة الفجر، والمؤمنون يومئذ قليل، وشيعة الدجال اليهود، فيصل عليه السلام ويتوجه نحو الدجال

والمؤمنون معه فينصره الله تعالى عليه، فيقتله ولا يبقى بعده كافرا إلا ويقتل أو يسلم، فيكون الدين كله يومئذ لله تعالى، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويفيض المال في زمانه حتى لا يقبله أحد. وأخبرهم أن الدجال إذا بلغ ظاهر المدينة، رأى بها رجلا من خير الناس. فيقول له أشهد أنك الدجال الذي قد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه. فيقول الدجال: أرأيتم لو قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر، فيقولون لا: فيقتله ثم يحييه، فيقول له: ما قتل، أشد بصيرة مني اليوم، فيزيد الدجال قتله، فلا يتسلط عليه. ومعنى إحيائه ذلك القتيل أنه يعالج منه أمرا ما فيحييه الله تعالى هو فتنة للناس، كما يحيي الموتى المسيح صلوات الله عليه دلالة للناس على صدقة في دعوته. فيظن بعض من يراه أنه هو المحيي له، وأنه صادق فيما يدعيه من أنه رب الناس والههم. ويتمسك بالحق من يوقفه الله تعالى. فإن قال قائل: إذا كان لا يجوز أن يمد الله تعالى مدعي النبوة باطلا بالمعجزات فمن أين جاز أن يحيي الميت ليدعي الربوبية عند حاجته إلى ذلك. قيل له: هذا لأن مدعي الربوبية غير منفك في نفسه من دلائل الحديث، وإمارات الخلق والصنعة، لأنها به محيطة وعليه بالكذب شاهده، فلا يؤدي إحياء الميت له إلى تبيين حاله، فيمكن أن يكون إلها، لأن من راجع عقله علم انه لا فرق بينه وبين سائر المحدثات من الناس وغيرهم من الشواهد المحدثة عليه. ولم يسأل مع ذلك بأنه ليس بإله، إذ المحدث لا يكون إلها. ولو جاز أن يكون محدث إلها، لجاز أن يكون كل محدث، فتكون الموجودات كلها آلهة وذلك فاسد محال. وأما مدعي النبوة، فإنه مدعي أمرا ممكنا بالا أنه مغيب ولا شاهد من نفسه على أنه محق أو مبطل فيه. وإنما يحتاج إلى علم ذلك بدليل يفرح من جهة أوصافه وأحواله المعهودة. فإذا كان كاذبا وأمد بالمعجزات كما يمد الصادق لم يكن الفرق بينهما أبدا وصار ذلك سببا للشك في كل مدعي النبوة، أو الكفر بالصادق والإيمان بالكاذب، وذلك خارج من الجملة، فلهذا أنكرنا أن يمد الله تعالى بآياته وبيناته إلا من كان صادقا عليه في أنه رسول والله أعلم.

فصل إن سأل سائل: عن وجه إنزال عيسى صلوات الله عليه لقتل الدجال دون نصرة المؤمنين الذين يكرمون يومئذ عليه، فيكونوا هم الذين يقتلونه. قيل له: يحتمل أن يكون ذلك لأن اليهود همت بقتل المسيح عليه السلام وصلبه. وجرى أمرهم معه على ما بينه الله تعالى في كتابه، وهم أبدا يدعون أنهم قتلوه، وينسبونه إلى السحر وغيره، إلى ما كان الله تعالى يراه، ونزهه منه. وقد ضرب الله تعالى عليه الذلة، فلم تقم منذ أعز الله تعالى الإسلام وأظهره راية، ولا كان لهم في بقعة الأرض سلطان ولا قوة ولا شوكة. ولا يزالون كذلك إلى أن تقرب الساعة فيظهر الدجال، وهو أسحر المسيح، ويتابعه اليهود فيكونون يومئذ حيرة مقديرين أنهم ينتقمون به من المسلمين، فإذا صار أحدهم إلى هذا أنزل الله تعالى المسيح عليه السلام إلى عندهم أنهم قتلوه، وأبرزه لهم ولغيرهم من الموافقين والمخالفين حيا، ونصره على رأسهم وكبيرهم المدعي الربوبية فقتله، ويهزم جنده حتى إذا فرغ منه اتبع بمن معه من اليهود المؤمنين اليهود فلا يجدون مهربا وأن توارى أحد منهم بشجرة أو مدرة أو حجر أو جدار ناداه: يا روح الله ها هنا يهودي حتى يوقف عليه، فإما أن يسلم وإما أن يقتل. فكذلك كل كافر من كل صنف فلا يبقى على وجه الأرض كافر ويدرك المسيح صلوات الله عليه من أعداؤه، عندما رفعوا رؤوسهم وظنوا أن الأمر قد عاد إليهم تارة، ويشفي الله تعالى منهم صدره ويذيقهم ما هموا أن يذيقوه، وظنوا أنهم فعلوه. ويظهر للمسلمين أن ما بلغهم نبيهم صلى الله عليه وسلم من أمره عن الله تعالى كان حقا كما عرفوه واعتقدوه، فيقع العلم به عيانا، ويصير ذلك دلالة باهرة على موته، بعدما قبضه الله تعالى إلى كرامته والله أعلم. ووجه آخر: وهو أنه يحتمل أن يكون إنزال عيسى صلوات الله عليه وسلم لا لقتال الدجال، ولكنه لدنو أجله، لأنه رفع إلى السماء فبقى فيها ما أراد الله تعالى، إلا أنه قد جعل له أجلا إذا جاء أدركه من الموت ما يدرك أمثاله، ثم لا ينبغي للخوف من التراب

أن يموت في السماء ولكن أمره يجري على ما قال الله تعالى: ليقره في الأرض مدة يراه فيها من يقرب منه ويسمع من ناب عنه، ثم يقبضه الله تعالى بتولي المؤمنين أمره، ويصلون عليه، ويدفن حيث دفن بقية الأنبياء الذين أمهم مريم من نسلهم، أعني الأرض المقدسة فينشر إذا نشر معهم. هذا سبب إنزاله غير أنه يتفق في تلك الأيام من بلوغ الدجال باب الدماء قد وردت به الأخبار، فإذا اتفق ذلك، كان الدجال قد بلغ من فتنته أن ادعى الربوبية، والمؤمنون قلة لم يكن أحد لينتصب لقتاله ويتوجه نحو لخوف منه، ولا أحد بأن يظفر عليه، ويجري قتله على يده أولى منه، إذ كان ممن اصطفاه الله تعالى لرسالته، وأنزل عليه كتابه، وجعله آية، وأنه فعل هذا الوجه ليكون هذا الأمر لا أنه ينزل لقتال الدجال قصدا، والله أعلم. وقد ورد الخبر بما ذكرنا من أنه يموت ويلي أمره المسلمون، ويصلون عليه، فمن هناك وقع الاشتقاق، بهذا الجواب وبالله التوفيق. فصل لئن سأل سائل: عن منزلة عيسى صلوات الله عليه إذا نزل أنه يكون نبيا أو غير نبي وإنه إذا كان حكما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير" فبماذا يحكم وكيف يكون مع المسلمين أمره؟. قيل له: -وبالله التوفيق-: أن عيسى صلوا الله عليه قد تناهت رسالته عندما بعث الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، فإن عامة قومه لزمهم أن يدخلوا في دين محمد صلى الله عليه وسلم، وينتقلوا إلى دعوته وشريعته، فيرفضوا مما تقدم بخلافها ويعلموا بها يوافقها على أنه شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه شريعة موسى وعيسى صلوات الله عليهما. وإذا كانت رسالته قد تناهت في ذلك الوقت، وقد أخبر الله عز وجل أن محمدا نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لم يجز أن يتوهم أن عيسى صلوات الله عليه إذا نزل نزل رسولا،

فصح أن يكون يومئذ من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، كما أخبر به عن موسى عليه السلام، حيث قال لهم: لو كان حيا ما وسعه إلا أتباعي. وجاء في بعض الأخبار أنه إذا نزل صلوات الله عليه صلى خلف الأمام ببيت المقدس ولم يتقدمه، وإنما صار حكما، فإنه لا سلطان له يومئذ للمسلمين، ولا إمام ولا قاضي ولا مفتي قد قبض الله العلم وخلا الناس منه فينزل، وقد علم بأمر الله عز وجل في السماء قبل أن ينزل ما يحتاج إليه من علم هذه الشريعة للحكم به بين الناس والعمل به في نفسه فيجتمع المؤمنون عند ذلك إليه، ويحكموه على أنفسهم، أو يكون له أن يحملهم على أن يحكم بينهم، لأن تعطيل الحكم غير جائز، ولا أحد يصلح لذلك يومئذ غيره. ولا يبعد على هذا أن يقال أن قتاله الدجال يكون من هذا الوجه، وذاك أنه إذا حصل بين ظهراني الناس وهم مفتونون، فدعم فرض الجهاد أعيانهم، وكان أحدهم لزمه من هذا الغرض لم يلزم غيره، فلذلك يقوم به، وذلك داخل في أتباع نبينا صلى الله عليه وسلم وبالله التوفيق. فصل وأما دابة الأرض، فإن الله تعالى ذكرها في القرآن: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون}. فيحتمل أن يكون معنى وقوع القول عليهم: أي وجب الوعيد عليهم لتماديهم في العصيان والفسوق، وإعراضهم عن آيات الله عز وجل وتركهم تدبيرها والنزول على حكمها، وانتهائهم في الطغيان إلى ما لا تنجع فهيم موعظة، ولا تصرفهم عن غيهم تذكره بقول عز من قائل فإذا صاروا كذلك {أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم}. أي دابة تعقل وتنطق، وذلك- والله أعلم- ليقع لهم العلم بأنها آية من قبل الله تعالى ضرورة، فإن الدواب في العادات لا كلام لها ولا عقل، فإذا خرجت لهم دابة تعقل وتكلم، ولم تكن مع ذلك من الدواب المعهودة، لكن دبة مباينة لأصناف الدواب، انبثقت عنها الأرض وكانت منفردة بنفسها لا يتعلق أمرها بمدعي نبوة أو أحد من الناس.

فيقال: إنه سحر وتخيل، انبثقت إليهم عنها من كل وجه، ولم يشك أنها آية أراها الله تعالى عباده والله أعلم. وأما الأمر الذي لم يخرج الدابة، فهو تمييز المؤمن والكافر والمنافق، ورسم كل فريق من هؤلاء الفرق في وجهه بما يعلم الله تعالى منه، وهي وإذا تعقل ذلك بإلهام الله عز وجل إياها، لا باختيار وامتحان يقع فيها للناس، ووردت الأخبار بعد القرآن بذكرها، وفي بعضها أنها تخرج بمكة بين الصفا والمروة. وجاء عن عبد الله بن عمر أنه قال وهو يومئذ بمكة: لو شئت لاخترت بشيء به هاتين، ثم مشيت حتى أدخل الوادي الذي تخرج منه دابة الأرض، فإنما تخرج، فتلقى المؤمن فتسمه في وجهه وكفيه، فيبيض بها وجهه، وتسم وجه الكافر وكفيه فيسود بها وجهه. وهي دابة ذات رغب وريش، فيقول: {إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} وهذا والله أعلم، إنما نذكر الناس بهذه التلاوة، إنها الدابة التي أخبر الله تعالى عنها في القرآن، فقال: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون}. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن دابة الأرض تخرج من بعض أودية تهامة ذات زغب وريش، لها أربع قوائم، فتكتب بين عيني المؤمن بكتة يبيض منها وجهه، وتكتب بين عيني الكافر بكته فيسود منها وجهه. والبياض في هذين الأثرين بياض من غير سوء، يشبه أن يكون ذلك عبارة عن النور والإشراق والله أعلم. وأما ظهور يأجوج ومأجوج فغنه يكون في أيام عيسى صلوات الله عليه بعد قتله الدجال بذلك. ووردت الأخبار، وفيها أنهم إذا خرجوا لم يأتوا على أحد إلا أهلكوه فتهرب الناس، ويأتون عيسى عليه السلام مستغيثين منهم، فيدعو الله عليهم دوابا يقال لها النغف فتأخذ بأقفيتهم فتقتلهم، فتتبين الأرض منهم، فيأتي الناس صلوات الله عليه ثانية فيدعو الله عليهم، فيبعث الله عليهم الماء فيذهب بهم فيقذفهم في البحر. وأما طلوع الشمس من مغربها، فقيل في قول الله عز وجل: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة، أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا

ينفع نفسًا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}. أن المراد بطلوع الشمس من مغربها. وجاء ذكره نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الأخبار أن تلك الليلة تطول فلا يعلم بحالها إلا المجتهدون أصحاب الأوراد، فغنهم يفرغون من أورادهم، والليل بحاله، فيعودون لمثلها. فإذا فرعوا منه ولم يصبحوا قاموا ظنا ولم يستفتوه حتى يعودوا لأورادهم، فإذا فرغوا وجدوا الليل لا يجلى استفتوا، وفرق الناس فصاحوا وفرغوا إلى ذكر الله تعالى والصلاة والبكاء، فإذا طلع الفجر رأوه من قبل المغرب ثم طلعت الشمس من مغربها فيشاهدونها لا نور لها، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها. وفي بعضها أنها تطلع من قبل وتبقى الدنيا حتى يلتقي الشيخان الهرمان، فيقول أحدهما للآخر: متى ولدت؟ فيقول: أخبرتني أهلي أني ولدت ليالي طلعت الشمس من مغربها. فصل فأما أول الآيات ظهور الدجال ثم نزول عيسى صلوات الله عليه ثم خروج يأجوج ومأجوج ويبين ذلك أن الكفار في وقت عيسى عليه السلام يفنون، لأن منهم من يقتل ومنهم من يسلم، وتضع الحرب أوزارها، فيستغنى عن القتال على الدين بذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كانت الشمس طلعت قبل ذلك من مغربها لم ينفع اليهود إيمانهم أمام عيسى صلوا الله عليه، ولو لم ينفعهم لما صار الدين واحدا بإسلام من يسلم منهم. فأما الآيتان الباقيتان فالذي نسبه أن عيسى صلوات الله عليه، إذا قبضه الله تعالى دخلت الأرض منه، وتطاول الأيام على ذلك أخذ الناس في الرجوع إلى عاداتهم وأحدثوا الأحداث من الكفر والفسوق كما أحدثوه بعد كل قائم نصبه الله تعالى حجة عليهم، ثم قبضه فيخرج الله تعالى دابة من الأرض كما تقدم وصفه، فيميز المؤمن من الكافر، ليرتدع بذلك الكفار عن كفرهم والفساق عن فسقهم ويستبصروا وينزعوا أعمالهم فيه من الفسوق

والعصيان ولا يتجاوزون الأمر في ذلك الوقت هذا الحد، وتغيب الدابة عنهم ويمهلون ويصيرون إلى طغيانهم. أطلعت الشمس من مغربها لم تقبل بعد ذلك لكافر ولا فاسق توبة، وأزيل الخطاب بها والتكليف عنهم. قم كان قيام الساعة على أثر ذلك قريبا لأن الله عز وجل يقول: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. فإذا قطع التعبد عنهم لم يقرهم بعد ذلك في الأرض زمانا طويلا، إلا أنه لا يعلم متى تقوم إلا الله تعالى. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يكثر السؤال عنها حتى نزلت: {فيم أنت من ذكراها، إلى ربك منتهاها}. فأمسك عن السؤال بعد ذلك. وقال عز وجل: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو، ثقلت في السموات والأرض لا يأتيكم إلا بغتة، يسألونك كأنك حفي عنها، قل إنما علمها عند الله}. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتقومن الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ولا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها". وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم إلا نهارا، وأنها تقوم يوم الجمعة" والله أعلم. وفيما ذكر أنه يكون في زمان عيسى صلوات الله عليه أن الضريح يأتيه إن ذا السويقين الحبش قد سار إلى البيت ليهدمه، فيبعث عيسى صلوات الله عليه طائفة من بين الثماني إلى التسع. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوشك أن يحشر الفرات عن جبل من ذهب، فمن

حضر فلا يأخذ منه شيئا) فيشبه أن يكون هذا الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المال يفيض فلا يقبله أحد" وذلك في زمان عيسى صلوات الله عليه. ولعل سبب هذا الفيض العظيم، ذلك المثل مع ما يغنمه المسلمون من أقوال المشركين والله أعلم. فإن قيل: فما المعنى في نهي النبي صلى الله عليه وسلم: "من حضر ذلك الجبل لا يأخذ منه شيئا". قيل: يحتمل أن يكون ذلك لتقارب الأمرين، وظهور اشراطه، فإن الركون إلى الدنيا والاحتشاد لها، مع ذلك جهل واغترار. ويحتمل أن يكون لأنه مجرى المعدن، فإذا أخذه، ثم لم يجد من يخرج حق الله تعالى إليه، لم يوفق بالبركة من الله تعالى فيه، فكان الانقباض عنه أولى والله أعلم. وفي بعض الأخبار ما يدل على أن أول الإشراط نار تظهر بالحجاز، فتضيء منها أعناق الإبل ببصرى. وفي بعضها: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قطحان يسوق الناس بعصاه. وفي بعضها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لن تذهب الأيام حتى يملك رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا لما ملئت جورا". وفي بعضها: أنه يفتح القسطنطينية وجبل الديلم، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد يطول الله ذلك اليوم ففتحها على يده) وفي بعضها: لا تقوم الساعة حتى يقتتل فتيان عظيما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة، وحتى يخرج دجالون كلهم يزعم أنه نبي. فأما قول الله عز وجل: {اقتربت الساعة وانشق القمر}. فقد روى أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فأراهم القمر منشقا بنصفين والجبل بينهما، فقال: أشهد وأومن. قال معناه: ينشق كما قال: (أتى أمر الله فلا تستعجلون) معناه يأتي. فإن كان هذا هكذا فقد أتى. ورأيت ببخارى الهلال وهو ابن ليلتين منشقا بنصفين عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس، وما زل انظر إليهما حتى اتصلا، ثم لم يعودا كما كانا ولكنهما صار في شكل اترجة ولم أمل طرفي عنها إلى أن غابت،

وكان معي ليلتئذ جماعة ما بين شريف وفقيه وكاتب وغيرهما من طبقات الناس، وكل رأي ما رأيت. وأخبرني من وثقت به، منطان خبره عندي كعيان: أنه رأى الهلال وهو انب ثلاث منشقا بنصفين، وإذا كان هذا هكذا، ظهر أن قول الله عز وجل: {وانشق القمر} إنما هو على الانشقاق الذي هو من أشراط الساعة دون الاشتقاق الذي جعله الله تعالى آية لرسوله صلى الله عليه وسلم وحجة أهل مكة وبالله التوفيق. فصل وإذا انقضت الأشراط وجاء الوقت الذي يريد الله تعالى إماتة الأحياء من سكان السموات والبحار والأرضين، أمر إسرافيل وهو أحد حملة العرش وصاحب اللوح المحفوظ ينفخ في الصور. وفي بعض روايات العرب، يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كيف أنعم الله أو قال كيف أضحك، وصاحب القرن قد التقمه، وحتى ظهره ينتظر متى يوم ينفخ، فإذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض، إلا من شاء الله). وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه أن الاستثناء لأجل الشهداء فإن الله عز وجل يقول: {أحياء عند ربهم يرزقون} وهذا مما لا تحتمل الأمة غيره، لأن من خالف هذا القول زعم أن الاستثناء لأجل الشهداء وحملة العرش وجبريل وميكائيل وملك الموت. أو زعم أنه لأجل موسى صلوات الله عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول من تنشق الأرض عنه، فأرفع رأسي، فإذا موسى متعلق بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي إذ كان ممن استثنى الله تعالى). وشي من هذه الأقوال يصح. أما الأول فلأن حملة العرش وجبريل وميكائيل ليسوا من سكان السموات ولا من سكان الأرض، لأن العرض فوق السموات كلها، فكيف يكون حملته في السموات.

وأما جبريل وميكائيل فمن الصافين المسبحين حول العرش، فإذا كان العرش فوق السموات لم يكن الاصطفاف حوله في السموات. وكذلك القول الثاني لأن الولدان والحور في الجنة والجنان، وإن كانت بعضهما أرفع من بعض فإن جميعها فوق السموات دون العرش وهي بإنفرادها عالم مخلوق للبقاء فلا شك أنها بمعزل عما خلف للفناء والله أعلم. وأما صرف الاستثناء إلى موسى صلوات الله عليه فلا وجه له، لأنه قد مات بالحقيقة، فلا يموت عند نفخ الصور ثانية، فلهذا لم يعد في ذكر اختلاف المتأولين بالاستثناء بقول من قال: إلا ما شاء الله، أن الذي موتهم قبل نفخ الصور، لأن الاستثناء غنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة. فما من لا يمكن دخوله فيها فلا معنى لاستثنائه منها، والذين ماتوا قبل نفخ الصور ليس بغرض أن يصعقوا، فلا وجه لاستثنائهم، وهذا في موسى صلوات الله عليه موجود، فلا معنى لاستثنائه والله أعلم. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر موسى ما يعارض الرواية الأولى وهو أن قال: "إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، وإذا أنا بموسى أخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أو جرى بصعقة الصور". فظاهر هذا الحديث أن هذه صعقة عيسى يوم القيامة لا صعقة الموت الحادث عن نفخ الصور. فإذا حمل الحديث عليها، فذاك. وإن حمل على صعقة الموت عند نفخ الصور وصرف ذكر القيامة، إلى أنه أراد أوائله، قيل المعنى أن الصور إذا نفخ فيه أخرى كنت أنا أول من يرفع رأسه، فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو جرى بصعقة الصور، أفلا أدري أن بعثة قبلي كان برسالة، وتفضيلا من هذا الوجه كما فضل في الدنيا بالتكلم، أو كان جزاء بصعقة الطور، وقدم بعثه على بعث الأنبياء الآخرين بقدر صعقته عندما تجلى به الجبل إلى أن أفاق ليكن بهذا جزاء له بها، وما عداها فلا يثبت والله أعلم. فأما الملائكة الذين ذكرناهم فإنا لم ننف عنهم الموت وإنما أثبتنا أن يكونوا هم

المرادين بالاستثناء من الوجه الذي ذكرناه. قد رودت الأخبار بأن الله عز وجل يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل، ثم يميت آخر من يميت جبريل عليه السلام ويحييه مكانه ويحيي هؤلاء الملائكة الذين ذكرناهم. وأما أهل الجنة فلم يأت عنهم خبر، وكما ظهر أنها دار الخلد، فإذا كان الذي يدخلها لا يموت فيها أبدا مع كونه قابلا للموت، فالذي خلق فيها أولى أن لا يموت أبدا. وأيضا أن الجنة دار لذة وسرور، لا خوف فيها ولا حزن، وإن من فيها لا يمرض ولا يموت. وأما أهل السماء فإنهم خائفون وجلون، وأهل الأرض بالبلايا والمصائب منتحبون. فلا ينكر أن يكون هؤلاء يموتون وأولئك لا يموتون. وأيضا فإن الموت إنما هو لقهر المكلفين ونقلهم من دار إلى دار وأهل الجنة لم يبلغنا أن عليهم تكليفا، فإن اعفوا عن الموت كما اعفوا عن التكليف لم يكن ذلك ببعيد. فإن قيل: إن الذين يدخلون الجنة إنما لا يموتون ولا يخافون ولا يحزنون، جزاءا لهم بأعمالهم، والولدان والحور لم يربوا في الجنة، جزاءا لهم بعمل صالح قدموه فإن ماتوا فذلك، ولا يبعد من أمرهم. قيل: لو صح هذا لجاز على قياسه أن يمرضوا بالمجاعة والجهد والخوف من الذين يحرمونه من أهل الجنة، فإن كان شيء من هذا لا يلحقهم، وإن لم تكن الجنة جزاءا لهم، فلا ينكر أن لا يكتب عليهم الموت، وإن لم تكن الجنة جزاءا لهم، وبالله التوفيق. فإن قيل: فإن الله عز وجل يقول: {كل شيء هالك إلا وجهه}. وفي هذا دليل على أن الجنة يفنيها ثم تعاد ليوم الجزاء. فما أنكرتم أن الولدان والحور يموتون ثم يحيون! قيل: يحتمل أن يكون معنى كل شيء هالك إلا وجهه، أي ما من شيء إلا وهو قابل للهلاك. فيهلك إن أراد الله ذلك إلا وجهه أي إلا هو، فإنه تعالى قديم والقديم لا يمكن أن يفنى، وما عداه محدث والمحدث إنما يبقى قدر ما يبقيه محدثه، فإذا حبس البقاء عنه هلك، ولم يبلغنا في خبر صحيح ولا معدل، إنه يهلك العرش ويبقيه، فلتكن الجنة مثله والله أعلم.

فصل وقد سمى الله عز وجل الصور بإسمين: أحدهما الصور والآخر الناقور، وذلك قوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور، فذلك يومئذ يوم عسير، على الكافرين ليس يسير}. وقول المفسرين أنه الصور. والظاهر أن الصور وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفخات جميعا، فإن الإصعاق يخالف صحية الإحياء. وجا في الأخبار: إن في الصور ثقبا يعد الأرواح كلها، وإنها تجمع فيه النفخة الثانية، فيخرج عند النفخ كل روح من إحدى الثقب نحو الجد الذي نزع منه وحتى يرجع إليه، فيعود الجسد حيا بإذن الله تعالى، فيحتمل أن يكون الصور يجمع الآيتين، ينقر في أحدهما، وينفخ في الأخرى، فإذا فيه للأصعاق جمع بين النقر والنفخ لتكون الصيحة أهل وأعظم. وإذا نفخ فيه للأحياء لم ينقر فيه، واقتصر على النفخ، لأن المراد إرسال الأرواح في ثقب الصور إلى أجسادها لا ينفرها من أجسادها. والنفخة الأولى للتنفير، وهي نظير صوت الرعد الذي قد يقوى فيموت وبالله التوفيق. فصل فإذا مات الأحياء كلهم تركوا أربعين سنة، ثم نفخ في الصور نفخة الأحياء واتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين، وقال العلماء: هي أربعون سنة، وذلك- والله أعلم- بعد أن يجمع الله تعالى ما يفرق من أجساد الناس من بطون السباع وحيوانات الماء وبطن الأرض، وما أصاب النيران منها بالحرق، والمياه، وما ابلته الشمس وذرته الرياح. فإذا جمعها وأكمل كل بدن منها ولم يبق إلا الأرواح، جمع الأرواح في الصور، وأمر إسرافيل صلوات الله عليه. فإن سلها بنفخة من نفث الصور، فرجع كل روح إلى جسده بإذن الله تعالى. وجاء في بعض الأخبار: ما يبين إن كل شيء أكله طائر أو سبع حشر من جوفه أو هو ما رواه الزهري عن أنس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة يوم أحد، وقد جدع

ومثل به فقال: (لولا أن نجد صفته في نفسها لتركتها حتى يحشره الله تعالى من بطون السباع والطير). فإن سأل سال عن كافر أكل لحم مؤمن، أو مؤمن أكل لحم كافر، كيف يحشر هؤلاء؟ قيل له: الله أعلم بذلك، لكن الذي تبلغنا علمه فيه، هو أن الكافر إذا أكل لحم مؤمن لم يرجع لحمه من بدن الكافر إلى بدن المؤمن، إذا كان قد بقي في جوف الكافر، وصار غذاءا له. فأما إن أكله فمات أو قيل: قبل أن يصير غذاءا له، فإنه يرجع منه عند البعث إلى بدن المؤمن، وإذا لم يرجع في الحال الأولى عوض المؤمن مثله، وأكمل جسده، ونفخ فيه روحه فقام بإذن الله تعالى حيا. وعله هذا- والله أعلم- إن تلك الأجزاء التي انقلبت بدن كافر، بعد أن كانت من بدن المؤمن، فقد وجد منه الكفر والمعاصي بها، فلو أعيد إلى بدن المؤمن فأدخل الجنة لكان قد أدخل الجنة أجزاء من كافر، وليست الجنة دار الكفار. فصح إذا أنها تصار إلى النار ويعوض المؤمن من أمثلها اختراعا يخترعه الله عز وجل. فإن قيل: وكذلك إذا قلتم إنها لا تعاد إلى بدن المؤمن، قلتم إنها تصار إلى النار، وفي ذلك إبطال ما عمل المؤمن بها من الطاعات أيام حياته. فالجواب: إن ذلك الثواب لا يبطل عمل المؤمن، وإنما يبطل بنعم تلك الأجزاء التي انقلبت فصارت من بدن الكافر بالثواب، وذلك لأن الثواب إنما هو لنفس المدين، ولكن أيضا من بدنه إذا سلمت له وصلت نعمة الثواب إلى نفسه من أماكن شتى، فإذا مات بعضها وصلت هذه النعمة إليه مما بقي من عرض ما فات. وأما الأجزاء الفانية التي صارت من بدن الكافر، فإنها لا تنعم بشيء، فإن ذلك لو كان يفرح به الكافر ولم يشعر به المؤمن الذي كانت هذه الأجزاء من بدنه، وذلك غير جائز والله أعلم. وأما المؤمن إذا أكل لحم كافر واغتذى به، فالقول فيه على ما وصفت أيضا، وهو إن أجزاء الكافر لا ترد من بدن المؤمن إلى بدن الكافر، إنها أجزاء وجدت من المؤمن

الطاعات بها فلو أعيدت إلى بدن الكافر لكانت أجزاءا من المؤمن فدخلت في النار، وإنما الخلود في النار للكافر وأما عذاب الكفر كاملا فإنه واقع بالكافر لا ينقص منه شيئا لما فات من أجزائه. فإن قيل: فكيف يبعث: يجوز أن يقال أن الله عز وجل يعوضه مما أكل المؤمن من لحمه مثله، فيكمل جسد الذي كان. فإن قيل: افيخلص العذاب إلى هذا العوض، أو يكون الألم كله على البدن القديم؟ فإن قلتم إن العذاب يخلص إلى العوض الحادث اجزتم تعذيب ما لم يكن له نصيب في الذنب. وإن قلتم: إن الألم يحل كله على البدن القديم، أوجبتم نقل حصة الأجزاء الفانية من العذاب إلى الأجزاء الباقية، وذلك غير جائز. قيل: وما في هذا إن قلنا إن العوض الذي كمل به جسمه يتألم بالعذاب، فإن الله عز وجل قال: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها، ليذوقوا العذاب} فليس هذا مثله وإن قلنا أن الألم كله يخلص إلى باقي البدن القديم، فإن عذاب الكافر القتل وعذاب الكافر القتل قد يجوز أن يكون سواء، فأمكن هذا مثله، وليس ما قالوا من نقل العذاب من بدن إلى بدن في شيء، لأن العذاب كله على النفس الكافرة فإن كملت أبعاض البدن خلص الألم إليها من أماكن شتى، وإن نقصت أبعاض البدن خلص الألم إليها فيما بقى لمقدار في الحالين واحد والله أعلم. وأما المؤمن يأكل لحم مؤمن فإن المأكول لحمه يعوض من لحمه ما يأكل به بنيته، ويبعث ويجزى بما عمل من الطاعات، ويوصل إليه ثوبا كاملا لا يبخس منه شيئا. فأما الأجزاء التي كان عمل بها عمل الطاعات، ثم صارت من بدن غيره فإنها لا تفرد بثواب. لأن الثواب للنفس المؤمنة، فلو كانت تلك الأجزاء الباقية مع ما بقي من بدنه لكانت نعمة الثواب تأتي نفس المؤمن من قبل جميعها، ولكنها إذا ماتت لم تنعم بنعمة لا يشعر بها المؤمن الذي كان قربها منه ولا يجدها في نفسه. وأما الكافر يأكل لحم كافر، فالقول فيه على هذا أيضا، وهو أن المأكول لحمه يعوض ما يكمل به بنيته ويجزي بها علم من السيئات جزاء كاملا ولا تعود الأجزاء التي صارت

من بدن غيره لجزاء، لأن ذلك لو كانت بتألم به الكافر الذي كانت هذه منه. وإنما الجزاء له، فكيف يجزي بما لا يجده في نفسه ولا يشعر والله أعلم. فإن قيل: فما الفرق بين ما أكله السبع وحوت الماء والطير؟ يقولون أنه يرد إلى الأبدان التي أكلت منها، وبين ما أكله الناس بعضهم من بعض يقولون أن شيئا منه لا يرد إلى أصله لكن صاحبه يعوض منه. قيل: الفرق بين الناس ما أكله الناس من بعضهم من بعض، فقد انقلب من مكلف إلى مكلف، فلا بد للمكلف في الدنيا من معاد وجزاء في العقبى. والمعاد إما جنة وإما نار، أوجبنا أن يكون الأكل أحق بأن يبقى له ما أكل من المأكول منه، لأن ذلك إن لم يكن كذلك يؤدي إلى إدخال جزء من الكافر الجنة أو جزء من المؤمن النار، وقد بينت في أكل المؤمن لحم الكافر، وأكل الكافر لحم المؤمن، وإذا وجب هذا الحكم من هذين، كان أكل المؤمن لحم المؤمن وأكل الكافر لحم الكافر في معناها. لأن كلا من ذلك أكل مكلف من لحم مكلف. فقلنا: إن ما أكله الآكل فمتروك عليه والمأكول لحمه يعوض عنه. وأما ما أكله سبع أو طائر أو حوت، فهو في معنى ما أكلته الأرض نفسها فلما كان ما تأكله الأرض لا يترك ترابا، لكنه يعاد كما كان فكذلك ما يأكله حيوان لا تكليف عليه. فإنه يعاد كما كان أولا يترك على ذلك الحيوان والله أعلم. فإن قيل: إذا أجزتم أن يخلو الجزء الذي أكله الكافر من لحم المؤمن عن التنعم بالثواب الذي يصل إلى المؤمن، فلم لا أجزتم أن يخلو بدنه من التنعم أصلا، وأن يكون ثواب نفس المؤمن والسرور الدائم والراحة دون المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، فيصير بذلك إلى قول غيركم. قيل: إنما أجزنا أن يخلق الجزاء الفائت من بدن المؤمن عن التنعم بالثواب الذي يصل إلى المؤمن على شرائطه أن يعوض الله جل جلاله المؤمن منه عوضا فيكون وصول نعمة الثواب إلى النفس من قبل البدن قديمة وحديثة، فإنما يقام وصوله إليها من قبل الأول لو كان باقيا بحالة لم يفت منه شيء. فكيف يلزمنا عن هذا أن نجيز خلو البدن من التنعم بالثواب أصلا، وانفراد النفس

به دونه، بل الأصل أن نفس المؤمن لما لم تنفرد باكتساب الطاعات عن البدن، لكن جهد العبادة خلص إلى النفس من قبله، فلذلك ينبغي أن تخلص نعمة الثواب إليها من قبل البدن. فإن كان البدن المكتسب للطاعات فإنما تخاله معرضا للإبانة بتنعم الثواب. وإن كان أو بعضه فانيا، قام المثل الذي يبتدئ الله جل جلاله خلقه المؤمن مقامه والله أعلم. فإن قيل: كيف يجوز هذا، والعوض المبتدأ خلقه ليس هو الذي كان اكتساب الطاعات به. قيل: يجوز، لأن الذي كان اكتساب الطاعات منه لم يتفق ذلك إلا بحلول النفس المؤمنة إياه، وتصريفهما له، فإذا انقلب بعد، فصار من بدن كافر، وكان إيراده الجنة فتجاوز كل ما يخلق للنفس من مثله ليحله ويخلص من قبل ما يناله من الثواب والنعمة واللذة إليها، فذلك قائم مقام الفائت وعامل عمله. فإن قيل: فما تقول في كافر قتل مؤمنا ومزقه وقطعه ولم يدع منه لحما ولا عظما ولا شيئا قط إلا أكله، كيف يبعث؟ قيل: الأصل الذي ذكرنا، يقتضي أن يخلق الله تعالى لنفسه بدنا جديدا ويصرف الثواب الذي استحقه عليه، فيكون هذا الخلق الجديد عوضا له من بدنه الفائت والله أعلم. فإن قيل: فإن كان هذا هكذا، فأجزاء يحدث الله تعالى عند النشأة الثانية. لكل نفس بدنا جديدا أو لا يعيد البدن الذي كان؟ قيل: ولا هذا يلزمنا لأنا لم نقل أن ما فات من بدن المؤمن، فإن صار بدنا للكافر ولا يعاد، فيلزمنا عن ذلك إجازة أن لا يعاد شيء أصلا. وأما التعويض فإنما يليق بما فات، لأن ما هو قائم بعينه، فكلما أكلته الأرض فإنما هو البدن غير أن أغراضه تبدلت بإعادة الأعراض التي كانت له حتى يصير بدنا كما كان، أولى بها من خلق بدن جديد لينال بالثواب ما أجهده العمل بعينه، حتى إذا كان اتصال الثواب إلى ما أجهده العمل مجالا لانقلاب ما كانت الطاعة اجهدته بدن كافر، كانت إقامة مثله مقامة ما عدل وأمثل، فإنه لم يقم مقامه مثله حلت النفس، ولم تتبع وحدها لتنعم أصلا، ففي ذلك اتصال الثواب وإبطاله يضيع الحسنات.

وقد أخبر الله عز وجل: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} وإن كان يتسع للحياة، والاستئناس بمثلها، والفرح بمكانها الذي فيه، ففي ذلك تقليل الثواب، لأنها لو كان معها بدن طاعم وشارب لابس يتمتع بالشهوات، ويتقلب في اللذات لكان بنعمها مما يخلص إليها من النعمة واللذة من قبل البدن أكثر. فعلمنا أن التعويض من الفائت أقرب إلى الإنابة بالحسنات لا عن تعويضه. فإن قيل: النفس العاقلة لا تنتعم بالشهوات. قيل: إنما لا تتنعم بها إذا كان في أتباعها إغفال للطاعات والحسنات والخيرات، والتوغل في المفاسد والسيئات، وهذا إنما يكون في الدنيا. فأما الدار الآخرة فلا تكليف فيها، وإنما هي دار فراغ، والتنعم فيها بالشهوات واللذات هو الخير المحض لن من فاته لا يرجع منه إلى ما يكون له خيرا منه. فبطل قول من قال: إن النفس العاقلة لا تتنعم بالشهوات والله أعلم. فصل فإذا أكمل الله تعالى جسده للأجساد على ما هو أعلم به من صفة إكمالها، إلا أنها بعد تراب. ففيه بعض الأخبار: إن الله تعالى يمطر عليهم من تحت العرش فتنموا به أجسادهم. فقد يحتمل أن كان هذا ثابتا إنه ينبتهم بهذا الطين الذي ينزل عليهم حق يجعلهم بشرا كما روى في قصة الذين يخرجون من النار. وقد صاروا حمما أنهم يغتسلون من نهر يأتي الجنة فينبتون به كما تنبت الحبة في حميل السيل، حتى إذا لم يبق إلا أن يحيوا، أمر إسرافيل عليه السلام بنفخ الصور، فإذا وصل ما في الصور إلى هذه الأجساد وصار فيها عادوا أحياء بإذن الله تعالى، وتكون هذه الأجساد من هذا الوجه كالحسل في بطن أمه، ينقلب حالا حتى إذا صار في هيئة البشر فعند ذلك ينفخ فيه أحد الملائكة الروح بأمر الله تعالى. فأما نفخ جبريل عليه السلام في مريم، فإنه يحتمل وجهين: أحدهما يحتمل أن يكون الله تعالى وحده، اخترع عند مخاطبة جبريل مريم بأن يكون

عيسى بشرا سويا في رحم مريم، ثم أمر جبريل فنفخ الروح فيها. لكن إذا وصل الروح المنفوخ إلى عيسى يحيى، فكانت فضيلة عيسى بأن الله تعالى جده خلقه لا من تراب. ثم بأن نفخ فيه الروح، كان من الروح الأمين الرسول الكريم، لا من بعض الأملاك الموكلين بالأرحام. والوجه الآخر: إن جبريل عليه السلام نفخ في مريم عليها السلام، وهي غير حامل فحملت عند وصول نفخته إلى رحمها، وتكون نفخة جبريل في هذا الوجه كالرياح التي وصفها الله تعالى بأنها لواقع، فإذا جاز أن تلقح الريح الشجر، فيكون لها منه حمل، جاز أن يجعل الله بنفخة ملك وهي في الحقيقة ريح لاقحة، لا نبيا من ولد آدم، فتكون منها لها حمل. ومن قال هذا، قال: ألا ترى أن الله عز وجل قال بعد اقتصار هبوط جبريل عليها، ومخاطبته إياها فحملته. فدل ذلك على أنها من قبل لم تكن حاملا، فيكون أثر جبريل نفخ الروح في الحمل فقط. ومن قال بالوجه الأول، قال: إنما قال: {حملتهن فانتبذت به مكانا} فأراد إنما حملته من ذلك المكان إلى مكان آخر لأنها حملته وهو في رحمها ولم يرد به الحمل الذي هو المعلق والله أعلم. فصل وإذا أحيى الله تبارك وتعالى الناس كلهم، قاموا بمجلس ينظرون ما يراد بهم، لقوله: {ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون} وقد اخبر الله عز وجل عن الكفار إنهم يقولون: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} وإنهم يقولون: {يا ويلنا هذا يوم الدين} فتقول الملائكة: {هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون}. ثم يعرض الجميع إلى موقف العرض والحساب وهو الساهرة. قال الله عز وجل: {فإنما هي زجره واحدة، فإذا هم بالساهرة}. وجاء

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {عليكم بالشام أرض المحشر والمنشر} ويقال: إن الساهرة أرض معروفة عند بيت المقدس. والساهرة عند أهل اللغة وجه الأرض. ومعنى فإذا هم قد صاروا على وجه الأرض بعد أن كانوا في جوفها. قيل الساهرة صحراء قرب شفير جهنم والله أعلم. وقد جاء في صفة الحشر في قول الله عز وجل: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا}. أخبر منها ما روى النعمان بن سعد عم علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) قال إما أنهم ما يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقا، ولكنهم يؤتون من فوق ينظر الخلائق إلى مثلها، رحالها الذهب، وزمامه الزبرجد، فيعقدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة. وسمي المتقون وفدا لأنهم يسبقون سائر الناس إلى حيث يدعون إليه، فإنهم يكونون على نجائب تسرع بهم، ومع ذلك لم يعلموا أن قدومهم على ما يسرهم فهم المتبطئون، لكنهم يجدون ويسرعون، والملائكة تتلقاهم بالبشارات. كما قال عز وجل: {وتتلقاهم الملائكة، هذا يومكم الذي كنتم توعدون} فيزيدهم ذلك إسراعا. وإنما فسرنا الوفد إذ ذكرنا لأن الوافد في الإبل والقطا وغيرها مما سبق سائر الصنوف في طيرانه ووروده. قال كثير من أهل العلم باللسان: وحق للمتقين أن يكونوا سابقين إلى المحشر، لأنهم كانوا يسبقون المخلطين في الدنيا إلى الطاعات، ويفوتون الظالمين فينبغي لهم أن يشعروا إذا خرجوا من قبورهم بشعارهم، فيكونون هم السابقين إلى موضع الحساب والجزاء. كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: إن المحرم إذا مات يبعث يوم القيامة ملبيا ليكون إحرامه الذي عنده لله تعالى على نفسه شعارا له وجمالا في دار الجزاء والله أعلم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين، إثنان على

بعير، وثلاث على بعير، وأربع على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، يقيل منهم حيث قالوا، ويبيت منهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث مسوا" فيحتمل أن يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس على ثلاث طرائق" إشارة إلى الأبرار والمخلصين والكفار. فالأبرار هم الراغبون إلى الله تعالى مما أعد لهم من ثوابه، والراهبون الذين هم بين الخوف والرجاء، فأما الأبرار فإنهم يؤتون بالنجائب كما روي في الحديث الآخر. وأما المخلطون فهم الذين ارتدوا في هذا الحديث. وقيل: إنهم يحملون على الأبعرة. وأما الفجار فهم الذين تحملهم لنار، بأن الله تعالى لا يمهلهم بأن يبعث إليهم الملائكة فيقبض لهم نوقهم، ولم يرد في الحديث إلا ذكر البعير. فأما أن ذلك من إبل الجنة أو من الإبل التي تجيء وتحشر يوم القيامة. فهو مما لم يأت بيانه والأشبه أن لا تكون من نجائب لجنة، لأن من خرج من جملة الأبرار المخلصين كان مع ذلك من جملة المؤمنين، فإنهم بين الخوف والرجاء، لأن من هؤلاء من يغفر الله تعالى له ذنوبه، فيدخل الجنة مع الداخلين، ومنهم من يعاقبه بالنار، ثم يخرجه منها ويدخله الجنة. وإذا كان كذلك لم يلق أن يوردوا موقف الحساب على نجائب الجنة، ثم ينزل عنها بعضهم إلى النار. لأن من أكرمه الله تعالى بالجنة مرة، لم يهنه بعد ذلك بالنار. وفي حديث آخر عن ابن هريرة رضي الله عنه قال: "يحشر الناس ثلاثة أصناف، ثلاث ركبان وثلاث على أقدامهم مشاة، وثلاثة على وجوههم" إلا أنه قال بعد هذا: قلنا يا رسول الله: فكيف يمشون على وجوههم، فقال: "إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، ألا أنهم يتقون بوجوههم خدد وشوك" وهذا إن ثبت مرفوعا، ففيه أن الناس يكونون أثلاثا، ومعنى أصناف ثلاثة إلا أنهم أثلاث

متساوية. أحدهم الركبان وهم المتقون السابقون الذين يغفر الله تعالى لهم ذنوبهم بعد الحساب، ولا يعذبهم، إلا أن المتقين يكونون على نجائب الجنة. والصنف الثاني الذين يعذبه الله تعالى بذنوبهم ثم يخرجهم من النار إلى الجنة وهؤلاء يكون مشاة على أقدامهم، فقد يحتمل على هذا أن يمشوا وقتا ويكونون ركبانا. فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا ليتفق الحديثان والله أعلم. والصنف الثالث المشاة على وجوههم، وهؤلاء هم الكفار، وقد يحتمل أن يكونوا ثلاثة أصناف: صنف وكلهم ركبان لكن على من أتت لهم. وصنفان من الكفار: أحدهما العتاة وأعلام الكفر، فهؤلاء يحشرون على وجوههم، وآخرون الأتباع وهم يمشون على أقدامهم. وقد ذكرت فيما مضى أن مشي الكفار على وجوههم إنما يليق أن تكون حالهم في سبقهم من موقف الحساب إلى جهنم، لأن الله تعالى قال: {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا} لأن الله تعالى خص أبصارهم فوصفها منهم بالخشوع في حال المعنى إلى موقف الحساب. فقال: {يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون، خاشعة أبصارهم}. وقال: {خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر}. فلو كانوا في هذه الحال مشاة على وجوههم لم يكن الخشوع من أبصارهم وحدها. وفيما ذكرت دليل على أن المشي من القبر إلى موقف الحساب فيكون على الأقدام. ومن المواقف إلى جهنم تكون على الوجوه. ويؤكد هذا أن الله عز وجل قال فيما وصفهم به: {يوم يسحبون في النار على وجوههم}. فلو كان ذلك حالا بهم من حين يبعثون إلى أن يدخلوا جهنم لم يكن لتخصيص حال دخولهم النار. فهذا الوصف معني، إلا أن هذا، وإن كان كما وصفت، فإن حديث أبي هريرة الثاني رويناه، يدل على خلافه، فقد يحتمل أن يخرج ذلك على الكفار بعضهم أغنى من

بعض لأن منهم من جحد ربه أصلا، ومنهم من جحد رسله كلهم، ومنهم من أقر بهم إلا بواحد منهم، ولا شك أنهم متفاوتون في العذاب، ولولا ذلك لم يقل الله عز وجل: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} فلما قال: علمنا أن للنار دركات، كما أن للجنة درجات. وقد يجوز أن يكون بعض أهلها يحشرون مشاة على الأقدام، وبعضهم مشاة على الوجوه، وجاء شرهم وسابقهم في الحالين النار والله أعلم. وقد قال الله عز وجل فيما ذكرهم به: {ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا} فقيل في تفسير: عطاش. وقيل في تقريب هذا المعنى: إن الإبل لا تورد الماء إلا بعد أن تعطش، فكأنه قال: ونسوق المجرمين إلى جهنم أو زاد الإبل لشدة ما بهم من العطش. وقد يجوز أن يكونوا سموا أورادا، لأنهم يشربون الحميم في جهنم شرب الهيم. وأما العطش الحادث عليهم فهو بشقيق من الله عز وجل عليهم، والأخبار تدل على أن العطش يعم الناس، ذليل كلهم في ذلك اليوم إلا المتقون، يسقون من حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال في صفة من شرب منه شربة لم يظمأ أبدا. وأما الكفار فلا يسكن عطشهم، ولكن يزداد عطشهم فوق عطش المؤمن، لأن عطش المؤمن إنما هو تعريض من الله تعالى إياهم، لا يكرمهم بالسقي من حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيجدوا لذة الماء وطيبه، إذ كان الريان لا يستلذ كما يستلذ العطشان. وعطش الكافر تشديد وتفسير ذلك المشي والوقوف عليهم وتعويض الله تعالى المؤمنين ما ذكرنا زيادة في التشقيق على الكافرين، فإنهم إذا علموا أن هناك ما يمكن منه المؤمنون، ولا يمكن منه الكافرين، كان ذلك أشق عليهم من أن يكون عندهم إلا ما يرده أحد مؤمنا كان أو كافرا والله أعلم. وقد يحتمل أن تكون شدة عطش الكافر يومئذ للجهد الذي يلحقه من المشي على قدميه أو على وجهه مسرعا، من دنو النار العظيمة منه، لأنه سابقة وحاشرة على ما ورد به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.

فصل إن قال قائل: لم أخبر الله أن الكفار يكونون يوم القيامة مهطعين مقنعي رؤوسهم وقد علم أن اقناعها دمعها، وأنه لا يرتد إليهم طرفهم. وقال في غير هذه الآية: {خاشعة أبصارهم} وقال: {خشعا أبصارهم} فكيف يكون الرافع رأسه، الناظر نظرا طويلا، حتى أن طرفه لا يرتد إليه، خاشع البصر. فالجواب: -وبالله التوفيق-: أنهم يكونون في حال المشي إلى الموقف خاشعة أبصارهم. وفي هذه الحال، وصفهم الله تعالى بخشوع الأبصار وأما إذا توافوا، وضمهم الموقف، وطال القيام عليهم، فإنهم يصيرون من الجناة، كأن لا قلوب لهم، ويرفعون رؤوسهم فينظرون النظر الطويل الدائم فلا يرتد إلهم طرفهم، كأنهم قد نسوا الغمض أو جهلوه، وذلك داخل في جملة التشقيق عليهم إلا أنه في غير ذلك الحال والله أعلم. فصل إن سأل سائل عن قول الله عز وجل: {يوم يسمعون الصيحة بالحق، ذلك يوم الخروج} فقال: إنما تكون الصيحة للخروج وهم أموات، فكيف يسمعونها. قيل: إن نفحة الأحياء تميد وتطول، فكانت أوائلها للأحياء وما بعدها للإزعاج من القبور، فما كان للأحياء فإنهم لا يسمعونه. وما كان للإزعاج فهم يسمعونه. ويحتمل أن تتطاول تلك النفخة كما ذكرت، والناس يحسبون منها أولا فأولا، وكلما حيي واحدا سمع ما يحيي به لمن بعده إلى أن يتكامل أحياء الجميع والله أعلم. فصل وإذا حشر الناس بعد ما نشروا وحشروا حفاة عراة غرلا، لأنهم كذلك بدؤا، والله عز وجل يقو: {كما بدأنا أول خلق نعيده} فلما كانوا بدئوا غرلا بعثوا غرلا،

لئلا يمتد عن الإعادة شيء من أخبارهم، ويحشرون حفاة عراة، لأن الملابس في الدنيا أموال، ولا مال في الآخرة، زالت الأملاك بالموت وبقت الأموال في الدنيا. ولأن كل نفس يومئذ فإنما تثيبها المكاره ثوابا وجب لها بحسن عملها، أو رحمة مبتدأة بما يمن الله تعالى عليها، فأما الملابس فلا غناء فيها يومئذ، ثم أن الأخبار وردت بأن كثيرا من الناس يكسون إذا خرجوا من قبورهم. روى عباد بن كثير عن ابن الزبير عن جابر قال: إن المؤذنين والملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم، فيؤذن المؤذن، ويلبي الملبي، وأول من يكتسي من حلل الجنة إبراهيم خليل الله ثم محمد صلى الله عليهما، ثم النبيون والرسل صلوات الله عليهم، ثم يكس المؤذن، وتتلقاهم الملائكة على نجائب من ياقوت أحمر، أزمتها من زبرجد أخضر رجالها من اللهب، ويشيعهم من قبورهم تسعون ألف ملك إلى المحشرة. وفي رواية أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا، فأول من يكس إبراهيم ثم أوتى بحلة لا يقوم بها البشر". فيحتمل أن يكون تقديم إبراهيم صلوات الله عليه بالكسوة لما يروى أنه لم يكن في الأولين والآخرين لله تعالى عبد أخوف له من إبراهيم فيعجل كسوته ما ناله ليطمئن قلبه ويحتمل أن يكون ذلك لما جاء به الحديث أنه أول من يلبس السراويل إذا صلى مبالغة في السير وحفظا لفرجه من أن يماس فضلا، ففعل ما أمر به، فيخرج بذلك أن يكون أول من يستر يوم القيامة. ويحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جردوه ونزعوا عنه ثيابه على أعين الناس كما يفعل بمن أراد قتله. وإن كان ما أصابه في ذلك في ذات الله تعالى، فلما صبر واحتسب وتوكل على الله، دفع عنه شر النار في الدنيا والآخرة أو جزاء بذلك العري أن جعله بأول من يدفع عنه العري يوم القيامة على رؤوس الأشهاد والله أعلم. وإذا بدأ بالكسوة بإبراهيم وثنى بمحمد صلى الله عليه وسلم، أتى لمحمد صلى الله عليه مسلم بحلة لا يقوم بها البشر لينجز التأخر بنفاسة الكسوة، فيكون كأنه كسي مع إبراهيم عليهما السلام ولم يؤخر عنه والله أعلم.

فصل فأما الكوائن يوم القيامة قبل الحساب، فقد قال الله عز وجل: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}. وقال جل ثناؤه {بسم الله الرحمن الرحيم. إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها. وقال الإنسان مالها. يومئذ تحدث أخبارها. بأن ربك أوحى لها. يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}. والذي يثبت بسياق الآيات وشواهدها أن هذه الزلزلة إنما تكون بعد إحياء الناس وبعثهم من قبورهم، لأنه لا يراد بها إلا إرغاب الناس والتهويل عليهم، فينبغي أن يشاهدوها، ويعلموا أنها لهم ليفرغوا منها، ويهولهم أمرها ولا يمكن المشاهدة منهم وهم أموات. ولأنه عز وجل قال: {يومئذ تحدث أخبارها} أي تخبر بما حمل عليها من خير وشر، يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم، فدل ذلك على أن هذه الزلزلة إنما تكون والناس أحياء. واليوم يوم الجزاء، ولأنه عز وجل قال: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة، فيومئذ وقعت الواقعة، وانشقت السماء، فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}. فدلت هذه السورة أيضا على أن اصطدام الأرض والجبال الموجب لابد حال زاويتها وبنيانها، وتلالها وجبالها وأشجارها. إنما تكون يوم القيامة، والعرض لا يكون إلا بعد الأحياء، فثبت أن هذه الكوائن إنما تكون بعد النشأة الثانية، والله أعلم. وإذا كان ذلك كذلك، فالمعنى- والله أعلم- إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت

الأرض أثقالها، وفرغت وتجلت وشهد بذلك قوله عز وجل: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد}. فنص على أنهم يرونها ويفزعون منها ويصيرون من الخوف إلى الحال التي وصفها، ثم أبان ذلك، لأن عذاب الله شديد، فصح أن الزلزلة الموصوفة بالعظم إنما تكون يوم التقدير والجزاء والله أعلم. وأما قوله: {تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها}. فإنه يحتمل وجهين: أحدهما. أن يكون ذلك مثلا، أن يكون يوما لا يهم أحدا فيه إلا نفسه، والحامل تسقط من مثله كما تسقط الحوامل من الصيحة الشديدة من طلب السلطان ونحوه. فإنما أريد بذلك على أن الهول يكون عظيما والخوف شديدا. والوجه الآخر: أن يكون ذلك حقيقة لا مثلا، ويكون المعنى أن من كانت محشورة مع ولد رضيع، فإنها إذا رأت هذه الزلزلة ذهلت عن ولدها، ومن حشرت حاملا وضعت حملها. ثم يحتمل أن يحيي الله كل حمل كان قد أتم خلقه، ونفخ فيه الروح ويسويه ويعدله، فإن الأم تذهل عنه، ولو لم تذهل ما قدرت على إرضاعه، لأنه لا غذاء لها يومئذ ولا لبن، واليوم يوم الحساب والجزاء لا يقبل من أحد فيه عذر ولا علة، فكيف والاشتغال بالولد ما عليها من الحساب، وهي بصدده من الجزاء. وأما كل حمل لا ينفخ فيه الروح قط، فإنه إذا سقط صار مع الوحوش ترابا، ولم يبدأ حياة، لأن اليوم يوم الإعادة فمن لم يمت في الدنيا لم يحيى يومئذ والله أعلم. وقد قال الله عز وجل: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمنا}. وقال: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة، وحشرناهم}، {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب}.

وقال: {وسيرت الجبال فكانت سرابا}. وقال: {وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت}. وقال: {إذا رجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت هباء منبثا}. وقال: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش}. وقال: {يوم تبدل الأرض غير الأرض}. وقال: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا}. فصل أنها تبدل، بمعنى أن أعراضها وصفاتها تغير، فإنها ذات جبال وتلال وروابي وأكام، وأودية ووهاد، وغدران وأشجار وبنيان، فتزال هذه كلها، ويسوى بعضها ببعض ثم تمد مد الأديم، فتزيد بذلك سعتها، فتتمكن الخلائق من الأولين والآخرين من الوقوف عليها، وعلى هذا معنى قوله عز وجل: {وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت}. فيكون ذلك من جملة تبديلها، لأنها إذا كانت مشرفة على أن تضيق بأهلها، فمدت حتى وسعتهم، فقد غيرت. إلا أن ذلك تغيير الأعراض، دون قلب العين. وأما قوله عز وجل: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} فليس معناه أنها تجعل شيئا آخر سوى الأرض، فكون مكان الأرض مرفقا ليس بأرض. وإنما هو أنها تهيأ هيئة أخرى، حتى تكون المنظر غير هذه التي تشاهدونها، وهو الرجل بغير خلقه وسيرته مع صديقه، فيقول تبدلت وتغيرت، ولست الرجل الذي كنت، والله أعلم. وأما الجبال فقد وضعها الله تعالى بصفات مختلفة فيما ترجع إلى الجبال منها، ومجتمعة فيما ترجع إلى الأرض، لأنها كلها تعود تفريغ الأرض منها، وإبراز ما كانت تواريه من محلها حتى يبرز وينكشف.

فأما تلك الصفة فمنها الاندكاك، ومنها تصير كالعهن المنفوش، ومنها أن تصير هباءا منبثا، ومنها أن تنسف، ومنها أن تمر مر السحاب، ومنها أن تسير فتكون سرابا. فيحتمل- والله أعلو- أن يكون أول أحوالها الاندكاك، وذلك من قبل الزلزلة. والحالة الثانية أن تكون كالعهن المنفوش، وذلك إذا صارت السماء كالمهل، وقد جمع الله تعالى بينهما في موضع فقال: {تكون السماء كالمهل، وتكون الجبال كالعهن}.والحال الرابعة: أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة بارزة في مواضعها، والأرض تحتها غير بارزة، فتنشق عنها لتبرز، فإذا انشقت فبإرسال الرياح عليها، والحال الخامسة أن الرياح ترفعها هن وجه الأرض، فتذرها شعاعا في الهواء كأنها غبار فمن نظر إليها من بعد حسها ليحسبها أجسادا خامدة، وهي بالحقيقة مارة، إلا أن مرورها مرور الرياح مندكة متنقبة. والحال السادسة أن تكون سرابا يعني لا شيء، فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا منها، كما أن من يرى السحاب من بعد إذا جاء الموضع الذي كان يراه فيه لم يجد شيئا، والله أعلم. فصل قد وصف الله تبارك وتعالى هذا اليوم بأن العشار تعطلت فيه، كما وصفه بأن كل مرضعة تذهل فيه عما أرضعت، ومعنى ذلك- والله أعلم- أنهم إذا قاموا من قبورهم وشهدوا بعضهم بعضا ورأوا الوحوش والدواب محشورة، وفيها عشائرهم التي كانت أنفس أموالهم، لم يعبأوا بها ولم يهمهم أمرها، ويحتمل تعطل العشار، وإبطال الله تعالى أملاك الناس عما كان ملكهم إياها في الدنيا وأهل العشار يرونها لا يجدون إليها سبيلا والله أعلم. فصل ووصف الله تعالى هذا اليوم بأن البحار تسجر وتفجر منه، فقال في سورة: {وإذا

البحار فجرت}. وقال في آية أخرى: {وإذا البحار سجرت}. فقيل: إن معنى سجرت وفجرت واحد. وقبل: معنى سجرت أمحيت. فمن قال معنى سجرت وفجرت واحد، قال يحمل ذلك وجهين: أحدهما أن الأرض والجبال إذا حملتا ودكتا فقد يمكن أن تصير فيها أخاديد عظيمة تفجر إليها مياه البحار. وقيل: معنى فجرت، تفجر بعضها في بعض، وترتفع الحواجز التي بينها اليوم، وأي واحد من هذين، قيل: فإن مرجعه إلى أن البحار إذا أخليت من المياه، أبرز مكانها نار مخلوقة تحتها، ملأت البحار ملء المياه إياها، وذلك هي جهنم. وأرض البحار أطباق لها، فإذا كشف الغطاء برزت، فذلك قوله: {وبرزت الجحيم لمن يرى} وأما من قال: سجرت، أحميت، فإنه يقول: معناه أن البحار تقلب نارا وكذلك عند تكوين الشمس كما سنبينه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يركبن أحد البحر إلا حاجا أو معتمرا، أو مجاهدا في سبيل الله، فإن تحت البحر نار ثم مجرثم نار حتى عد سبعة أبحر وليس المعنى في السبعة أنها محاذية تحاذي الأطباق، ولكنه أن كل بحر من البحار التي على وجه الأرض تحته نار ثم العطف ها هنا لا للترتيب. وروى يعلى ابن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البحر هي جهنم) فقيل له في ذلك فقال: "نار (أحاط بهم سرادقها) ثم قال يعلى: لا تصيبني منه قطرة حتى أعرض على الله، ولا أدخله حتى ألقى الله. وهذا إلى قول من يقول: أن البحر تقلب نارا أقرب. وقد قيل في معنى قوله عز وجل: {وإذا البحار سجرت} قلبت، وقد يحتمل أن تنشق أرضها الماء، فكان الماء نارا، ويحتمل أن تقلب المياه نيرانا، ويزداد فيها فيزداد أمثلا والله أعلم.

فصل وقد وصف الله عز وجل هذا اليوم بأن السماء تنشف منه، وتكور الشمس فقال عز وجل: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا}. وقال: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان. فيومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان. وقال: إذا السماء انشقت. وقال: {إذا السماء انفطرت}. وقال: {وإذا السماء فرجت}. وقال: {وفتحت السماء فكانت أبوابا}. وقال: {إذا السماء كورت، وإذا النجوم انكدرت}. وقال: {إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت}. وقيل أن السماء إنما تنشق لما يخلص إليها من حر جهنم، وذلك إذا بطلت المياه، وبرزت النيران، فأول أنها تصير حمراء صافية كالدهن. وتنشق لما يريده الله تعالى من نقص هذا العالم ورفعه. وقيل: أن السماء تتلون فتصفر ثم تحمر، أو تحمر ثم تصفر كالمهرة الورد في الربيع إلى الصفرة. فإذا اشتد البرد مالت إلى الحمرة، ثم بعد ذلك إلى الصفرة. والله أعلم. وقيل: أن الجبال بعد اندكاكها، أنها تصير كالعهن من حر جهنم، كما تصير السماء من حرة كالمهل. وهذا- والله أعلم- لأن مياه البحر كانت حاجزة بين جهنم وبين السموات والأرضين، فإذا ارتفعت وزيد مع ذلك في إحماء جهنم أقرب في كل واحد من السماء والجبال ما ذكرنا والله أعلم.

وقد قيل في قوله عز وجل: {إذا الشمس كورت} أذهب ضوؤها حتى تصير هي والقمر كالخاسفين، فذلك قوله: {وخسف القمر وجمع الشمس والقمر} وقيل: كورت: لفت. وقيل: تلق ثم تتلقى في البحار، فمنها يحمي وينقلب نارا ويحتمل أن هذا كان هذا هكذا، إن البحار في قوله بين فقد فسر التسجير بالامتلاء. مما هو أن النار حينئذ تكون أكثر ما كان الماء، لأن الشمس أعظم من الأرض مرات كثيرة. فإذا كورت وألقيت في البحار، فصارت نارا، ازدادت امتلاء والله أعلم. وأما الكواكب بعد انتشارها فليس في شيء من أخبار المسلمين ذكر لها يكون من حالها. وفي بعض كتب الأقاويل أن الكواكب في النشأة الثانية تهبط سفلا وتحيط بالأرض كالدائرة، وتلعب فتتلقاها الأنفس الشريرة. فقد يحتمل أن كان ما وصفوه مأخوذ عن شيء، فإن الكواكب إذا انتثرت سقطت في البحار فصير معها سرابا، وإذا ذهبت المياه برزت الجحيم فتناثرت الكواكب، سقطت في النيران والتهب منها. وقد أخبر الله عز وجل {أن السموات يوم القيامة مطويات بيمينه} وقال: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} ويحتمل أنها إذا وهت كما قال عز وجل: وانشقت السماء فهي يومئذ واهية، إن الملائكة يطودنها بأمر الله جل ثناؤه طيبا شديدا لئلا تعود فتنشر، كما يطوي الرجل ما يكون مكتوبا فيه من ذكر حكم مبرم أو غير مبالغة في صيانته عن أن ينشر فيلحقه من الانتشار خلل، ولذلك قال عز وجل بيمينه، فإن كل عمل عمله العامل بيمينه كان أشد وأوفى من الذي يعمله بيساره، إذ اليمين أقوى من الشمال فضربت اليمين مثلا لشدة الطي، والله أعلم. وكلما طويت سماء نزلت ملائكتها إلى الأرض كما قال عز وجل: {ويوم تشقق السماء بالغمام، ونزل الملائكة تنزيلا}. وقيل أن معنى قول الله عز وجل: {وفتحت السماء فكانت أبوابا}. هو أنها تفرج بعد أن لم يكن لها فرج وتفتح لها أبواب وتنزل فيها الملائكة.

وقيل: أنها تصير الفروج لها والأبواب من قبل السقف والله أعلم. ودل القرآن على أن الملائكة يومئذ يكونون من بين الناس أجمعين، وإنهم يسوقون الكفار إلى النار، ويلقونهم فيها، ويعذبونهم من حيث يرونهم، فإنه عز وجل قال حكاية عنهم: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين، ويقولون حجرا محجورا} فابان إنهم يرونهم يوم القيامة. ووردت الأخبار بان الناس في قيامهم يعرفون حتى يبلغ الرسخ نصاف آذانهم ويسيل عنهم سبعين ذراعا، فقيل أن ذلك من شدة الحر. فيحتمل أن يكون ذل بثني الأفلاك وانحلالها. وأجمعت الأقاويل على أن الفلك المحيطة بالأملاك نار محضة. وفي أخبار المسلمين أن فوق السموات نارا، وإن لم يكن فيها أنه فلك، وإن اسمها الأثير، كما سماه الذين ذكرناهم به، فإن كان ذلك مأخوذا لهم عن شيء، فتلك النار من جملة هذا العالم، لا فرق بينهما وبين سائر الأفلاك وغيرها من أجزاء السموات والكواكب، فلا يخلو من أن يلحقها ما يغيرها عن حالها الأولى، كما يلحق غيرها من أبعاض العالم. وإذا كانت الكواكب منيرة، فتشبه ولا تبعد بقطع تلك النار وتنزل سفلا، فيجمع بينهما وبين نار جهنم، كما جمع زمن الطوفان، بين ماء السماء وماء الأرض. قال الله عز وجل: {ففتحنا أبواب السماء بمار منهمر، وفجرنا الأرض عيونا} فالتقى الماء على أمر قد قدر. وإن كان هذا كما وصفنا، فقد يمكن أن يكون اشتقاق للسماء من أنها إذا وهت وانحلت تدانت ودنت الغالبة منها بعد أن كانت شديدة البعد حدا فتكون بغيرها من هذا الوجه لا من النار التي تكون في السفل والله أعلم. ثم تكون الحمله- والله أعلم- في بعث الناس قبل هذه الكوائن، أن يشاهدوها فيكون ذلك اشد لتكذيب الذين كانوا يقولون في الدنيا أن هذا العالم لم يزل على ما هو عليه، فلا يزال على ذلك أيضا .. وتصديق الذين كانوا يؤمنون بانقضائه وزواله، إذا العلم يقع للفريقين

بذلك ضرورة ثم يكون حجة للمؤمنين على الكافرين، أمر الله عز وجل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قل اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه مختلفون}. فصل ووردت الأخبار بأن الناس يطول عليهم القيام في ذلك اليوم، فإنه يوم القيام وقد وصفه الله عز وجل بذلك، فقال: {يوم يقوم الناس لرب العالمين}. ويحتمل أن يكون معناه يوم القيام صرعة الموت، ويحتمل أن تكون تسميته للمعنيين جميعا. فإذا ضجروا وجهدوا سألوا أباهم آدم صلوات الله عليه: أن يشفع إلى الله جل ثناؤه، فيقضي فيهم قضاؤه، فيحيلهم على نوح، ونوح على إبراهيم، وإبراهيم على موسى، وموسى على عيسى، وعيسى يحيلهم على محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين. فيسجد نبينا المصطفى تحت العرش، ويحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ولا يزال ساجدا إلى أن يقال له: ارفع رأسك، وسل تعطى واشفع تشفع. فيسأل الله تعالى أن يحاسب عباده ويقضى فيهم قضاءه. فيأمر الله جل ثناؤه عند ذلك أن يحضر النبيون وكتاب الأعمال، وهم الكرام الكاتبون والمعنيون بالشهداء في قوله تعالى: {وجيء بالنبيين والشهداء}، فحوسب الناس، ما تنطق بهم كتبهم ورويت لهم الأعمال، فيقضي بينهم بالحق، وقيل الحمد لله رب العالمين. فصل ثم الذي أوجب أن يكون الاعتراف بالحساب من شعب الإيمان أن الله عز وجل ذم الكفار بإنكارهم إياه، وتكذيبهم به، فقال: {إنهم كانوا لا يرجون حسابا} وقال: {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} فكان ذلك نظر ذمة جل ثناؤه إياهم بإنكارهم البعث في قوله: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل:

بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما علمتم. وذلك على الله يسير}. فلما كان التكذيب بالحساب كفرا، ذلك على أن الاعتراف بالحساب من الإيمان، كما أن التكذيب بالبعث لما كان من الإيمان كان الاعتراف بما كان الخلق لأجله، وهو الطاعة والعبادة والتزام ذلك وتقبله من الإيمان والله أعلم. وإنما عددت الحساب والميزان بيعة واحدة، لأن المحاسبة تكون بالأعمال، وتميز الأقل والأكثر من الطاعة والمعصية، وإنما يكون بالوزن، فلم أر لتمييز الوزن عن الحساب وجها، فعددتها بيعة واحدة. والله أعلم. فصل وقال قائل من السفهاء الملبسين بالحكماء: أخبرونا عن الكرام الكاتبين أين يجلسون، وعلى ماذا يحيطون؟ وماذا يكتبون؟ وإن دخل أحد الخلاء، فهل يدخلون معه؟ وقد رويتم: لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو صورة، فإن كان هذا حقا فليربط من يريد أن لا تكتب أعماله في بيته كلبا، أو يعلق سترا فيه صورة، فيأمن بذلك من أن تنسخ أعماله ولا شيء أحب إلى الأحياء من الحياة، وأنتم تتلون: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم}. فما الذي يمنع أحدكم من اقتناء الكلب في بيته، لينفر به ملك الموت عن نفسه، فيبقى في الدنيا خالدا ولا يخرج منها أبدا! فالجواب- وبالله التوفيق- أن الملائكة لا يدخلون بيتا فيه كلب أو صورة. هم الذين يدخلون بيوت الأخيار للدعاء لهم والترتيل عليهم والاستماع إلى ذكر يجري فيه، والبيت لقلوبهم في الحال إلى يحتاجون إلى ذلك فيها، فإن هؤلاء إذا وجدوا أخذ من ذكرنا خالف ما يليق بطريقه إلى ما لا يليق بها ازور عنه، ولو وجوده يقني كلبا، وقد نهى عن اقتنائه، لم يدخلوا عليه لأن الكلب فيه شيئان: أحدهما سبع عاد إلى أن يكون

معلماً مطواعاً لصاحبه، واقتناؤه سوء نظر من يقتنيه لنفسه ولجيرانه، ولمن يدخل عليه ويخرج من عنده. والآخر أنه يحبس لا يؤمن أن ينجس إناء أو بساطا أو لباسا أو طعاما أو شرابا من حيث يشعر به صاحب البيت أو من حيث يشعر به، وكذلك ممن يدخل عليه أو يخرج من عنده من بيوت الجيران، وباب البيت والممر كان إمساكه، وفيه هذان المعنيان. فإذا رأت الملائكة ذلك من أحد اجتنبوه، لأنهم يعدون ذلك حدثا أحدثه صاحب البيت مما لا يرضي الله تعالى. وكذلك الصورة لأن تصوير ذوات الأرواح حرام. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن المصورين يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، وذلك لأن المصور يريد أن يضاهي بتصويره خلق الله عز وجل، وهذا أعظم والملائكة أخوف لله تعالى من أن يصبروا على مثله. فلذلك ينصرفون عن بيت فيه التصاوير ولا يدخلوه لحط من الخير يكون لصاحب البيت في دخولهم إياه. فأما الملائكة الموكلون بنسخ الأعمال وقبض الأرواح، فإنهم لا يمنعون من دخوله بيت أحد يحدث قبيح يحدثه فيهم، لكنهم ينتهون إلى ما هم ما يتورون به ويبلغون فيه رضي الله جل ثناؤه. ومثل هذا في ما بيننا ما لا يستنكره أحد من العقلاء موجود، فإن الخير من الناس قد يغشاه الخيار متبركين بمجالسته، متكثرين بصداقته، فإن ظهر لهم منه ما يكرهون، انقبضوا عنه وتركوا غشيانه، ولكن المحسنين وإخوانهم يأتونه بل يهجمون عليه، مقومين إياه ورادعين له عن سوء صنيعه، ويدخله أحوال المسلمين، فيخرجونه ليقيموا عليه حدا عن كان لزمه ليحاسبوه. فلذلك الملك لئن لم يدخل بيتا فيه كلب أو صورة لينتفع بدخوله صاحب البيت، فقد دخل بيته ليحصي أعماله، أو ينزع روحه، لا يمنع احد به معصية الله باقتناء الكلب أو نصب الصورة الملك من دخوله بيته لأمر يكون عليه، وإن منع من دخوله لحط عن الخير يكون له ويرجع إليه، كما يمنع إفساد صاحب المنزل، فيلجأ الناس من أن يدخلوا

منزله مؤاخين إياه، متوددين إليهم. ولا يمنعهم من أن يدخلوه منكرين ومغرين عليه، أو مطالبين بحق ربه وبالله التوفيق. وأما أن الملائكة لا تصحب رفقة فيها كلب أو جرس، فلأن الكلب سبع عاد محرم الاقتناء إلا لصاحب صيد أو ماشية، لا تدفع لصغرها وضعفها السابع عن أنفسها وهي الغنم. فأن أراه الناس أن يحترزوا من عوائل بما هذا سبيله، لم يطلبوا من الله تعالى أن يبعث معهم ملائكة يحرسونهم ويحفظونهم. والجرس تسكن إلى صوته الإبل، ويقال أن الجن كلها تميل إلى أمثاله وتجتمع عليه والإبل فيها مغان من الجن ومن ذلك يكون نفارها في كثير من الأوقات بلا سبب ظاهر يعرف، أو من شيء لا يليق بها على ما هي عليه من الشدة والقوة أن تنفر منه. فإن ما يحمل ذلك منها على أن الشياطين تعرض لها وتستهويها فتنفر وتميل إليها بالمشاكلة التي بينها خاصة دون سائر الدواب. فإن كان هذا هكذا فإن تعليق الأجراس، كاستدعائهم وتآلفهم وجمعهم، وهم بالحقيقة أحد المسلمين، فمن آثر لنفسه هذا في سفره كان حقيقا لكن لا يقيض الله تعالى لحراسته ملائكته وأولياءه إلا أن هذا لا يمنع الموكلين بهؤلاء السفر من ملائكة الله تعالى أن يكتبوا عليهم أعمالهم، لكنهم في حال المعصية أولى بالتضييق عليهم منهم في حال الطاعة، وإن يقبضوا أرواحهم إذا جاءت آجالهم، فإن المقيم على ما يرضاه الله تعالى أولى أن يمهل ولا يؤجل عن أحد أجله من المتمسك بالطاعة والله أعلم. فإن قيل: وما فائدة المسلمين في صحبة الملائكة إياهم. قيل: فائدتهم إذا لزموا الطاعة لله تعالى أن تثبت الملائكة قلوبهم، فلا يحلوا ولا يضيعوا بالحل والترحال والسير بالليل والنهار درعا، ولا تنفر دوابهم لمعارضة الشياطين إياها، ولا يصلوا عن سوار فيه من الهوام والسابع واللصوص، إن حضروا سرا ليعلم بهم، فلا يقدروا على الأضرار بهم أو حضورهم جهدا، فيجهدوا ولا يصلوا إلى مرادهم. ولعل لهم من الخير في ذلك ما لا يحضر ذكره ولا يعلمه إلا الله تعالى وبالله التوفيق.

وأما قول القائل: أن الكرام الكاتبين، هل يدخلان الخلاء بدخول وكلائه إياه؟ فجوابه: أنه لا علم لنا بهذا، ونقول في الجملة: إن كانا مأمورين بالدخول معه دخلا، وإن كان الله تعالى يكرمهما عن ذلك ويطلعهما على ما يكون من الداخل مما سبيله أن يكتباه لئلا يغفلا عنه وينسخاه، فعلا ما يؤامران به. وليس في خفاء ذلك عابنا ما يوجب قدحا في ديننا ومقالتنا. وأما قوله: أين يجلسان، فإن الله عز وجل يقول: {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون}. وقال: {عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عنيد}. والمعنى عن اليمين قعيد وقد يعلم في الجملة إن الملائكة حيث هم من السماء والأرض حالا في الاستفزاز يكونون عليها خلاف الحال الذي يكون لهم إذ كانوا مثقلين ذاهبين وحابين أوصافهم حول العرش مستحين قبل الحال التي تكون لهم إذا رحلوا بهم، فيفرقوا في جوانبهم. وتلك الحال إن كان نحوا من قعود الناس، وإلا فأنتم القعود لها، مستعار وبالله التوفيق. وأما قوله: أنهم بماذا يكتبون وعلى ماذا يخطون، فجوابه: أن لا علم لنا بذلك ونقول في الجملة: إنهم يكتبون على شيء يحتمل الطي والنشر، لقوله الله عز وجل {ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا}. وإن الله الذي خلقهم وخلق غيرهم لا يعجزه أن يخلق لهم بتنوير الجلود والقراطيس وما يكتب عليه الناس شيئا يخطون عليه، أما بقلم يخلقه بتنوير الأقلام التي يخط بها الناس، وأما بشيء كالقلم بمدام أو بغير مداد، والله أعلم بحقيقة ذلك.

التاسع من شعب الإيمان وهو باب في أن دار المؤمنين ومآبهم الجنة ودار الكافرين ومآبهم النار

التاسع من شعب الإيمان وهو باب في أن دار المؤمنين ومآبهم الجنة ودار الكافرين ومآبهم النار قال الله جل ثناؤه: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئه، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}. وقال فيما وصف يوم القيامة: {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد. فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك، فعال لما يريد. وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ}. وقوله جل ثناؤه: {إلا ما شاء ربك فيه وجهان: أن الله تبارك وتعالى لما اخبر عن اليوم لموعود بأن الذين شقوا ففي النار، والذين سعدوا ففي الجنة. كان الذي يقتضيه هذا الظاهر أن دخول كل واحد من الفريقين الدار المعدة لهم يقترن بإتيان اليوم الموعود. فقال جل ثناؤه: {إلا ما شاء ربك} من وفقهم حيث كانوا فيه إلى أن حوسبوا ووزنت أعمالهم، وسيق كل فريق منهم إلى حيث قضى له لئلا يعارض الخبر المقدم خلق. ومن قال بهذا قال: أن قوله ما دامت السموات والأرض، لم يرد به أنهم يبقون حيث ذكر وسمي قدر ما بقيت السموات والأرض، لأن التوقيت ينافي الخلود، وإنما ذلك عبارة عن طول مدة بقائهم، فضرب للمخاطبين مثل ذلك بهذه بقاء السموات والأرض، إذا لم يكن فيما يعلمونه من خلق الله جل ثناؤه، ويعرفون حاله أطول بقاء منها، ولم يكن في جملتها شيء، اخبروا أنه ليس بمنقض، فيضرب لهم مثل الجنة والنار.

فهذا القدر هو المراد لأن بقاء أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار كما يتبين إلى وقت ثم ينقضي، لكنه دائم باق ولا انقضاء له والله أعلم. والوجه الآخر: أن المعنى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من الزيادة عليه. ألا ترى أنه قال في أهل الجنة {عطاء غير مجذوذ} أي غير مقطوع، فلو كان المعنى أنهم يقيمون قدر ما دامت السموات والأرض ثم يخرجون، لكان العطاء مجذوذا فلما أخبر أنه غير مجذوذ علمنا أن معنى الاستثناء ما ذكرنا والله أعلم. قال بهذا، قال إلا بمعنى سوى، وذلك يحسن إذا كان المستمنى أكثر من المستثنى منه كرجل يقول: لفلان علي ألف درهم إلا الألفين التي هي إلى سنة، فيكون المعنى سوى الألفين. وعلى هذا يكون قوله تعالى في أهل النار: {إن ربك فعال لما يريد} بمعنى أنهم خالدون في النار ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الزيادة على ذلك فلا يتعاظمنكم ذلك في أمره، فإنه يفعل ما يريد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويحتمل أن يكون ذكر مده السموات والأرض في هذا الوجه إشارة إلى أن الآخرة لا تتقدر بمقدار الدنيا، ولكنهم أن استوفوا في الجنة والنار مدة العالم المقتضي، فلا الجزاء الذي قوه منقض، ولا المآب الذي أعد لهم منقض، ولكن هذا كل دائم والله أعلم. فإذا ظهر أن مآب المؤمنين الجنة، ومآب الكافرين النار، وقد قال عز وجل: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} {كلا إن كتاب الإبراز لفي عليين}. وكان المعنى ما كتب لهؤلاء علمنا أن السجين خلاف العليين، كما أن الفجار خلاف الإبرار، وسمى الله عز وجل النار هاوية، ووصف الجنة بأنها عالية، وجاء في الميزان: روح المؤمن تعلى به، وإن روح الكافر تهوي به، ولم نعلم أحدا قال: أن الجنة في الأرض ثبت أن الجنة فوق السموات ودون العرش. واحتمل قول الله عز وجل: {وإذا السماء كشطت} أنها تكشط عما وراءها

من الجنان فتظهر آثارها. وأن يكون ذلك أولى بها في قوله عز وجل: {وأزلفت الجنة للمتقين} وقد قالت الأوائل: أن فوق السماء عوالم لا يقدر المناطقة على أن يصفوا حسنها، وإليها تشتاق العقول. وهذه إشارة منهم إلى الجنان ونعيما، وأن لم يسمعوا بأسمائها. وفي كتاب الله عز وجل: {عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى} وفي بعض الأخبار: أن جنة عدن تحت ظلال العرش وفي قول الله عز وجل بعد قوله {ولمن خاف مقام ربه جنتان. {ومن دونهما جنتان} دلالة على أن الجنان في العلو ولذلك يكون بعضها دون بعض والله أعلم. وأيضا فقد تتابعت الأخبار بذكر الصراط وسمي في بعضها جسر جهنم فعلمنا بهذا أن الجنة لا في الأرض ولا عند نهايتها ذائبة منها. إذ لو كانت كذلك لم يحتج الصائر إليها إلى جسر يجتاز منه إليها. وفيما وردت به الأخبار من هذا بيان أنها في العلو كما أن جهنم في السفل والله أعلم. وإذا كان الأمر على ما وصفنا، وكان الله تبارك وتعالى لم يهئ الناس هيئة من سفل إلى علو من غير سبب يتعلق به، فيمسك قدميه، احتاجوا في الانتقال من الأرض إلى الجنة إلى سبب متصل من طرف الأرض إلى طرف الجنان، فكان ذلك هذا السبب هو الصراط الذي جاء به الخبر. وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أن على جهنم جسرا أعلاه نحو الجنة وخص منزله بجنبيه كلاليب ومسك من النار، يجلس الله تعالى به من يشاء من عبادة الزالون والزالات يؤمئذ كثير، والملائكة بجنبيه قيام ينادون: الهم سلم، ويعطون النور يومئذ على قدر إيمانهم وأعمالهم، فمنهم من يمضي عليه كلمح البرق، ومنهم من يمضي عليه كمر الريح، ومنهم من يحصر عليه كحصر الفرس السابق، ومنهم من يشد عليه شدا، ومنهم من يهرول ومنهم من لا يعطى نور إلا قدر قدميه، ومنهم من يحبو حبوا، وتأخذ النار منه بذنوب أصابها، وهي تحرق من شاء الله منهم على قدر ذنوبهم حتى تنجوا أول النار منه بذنوب أصابها، وهي تحرق من شاء الله منهم على قدر ذنوبهم حتى تنجوا أول

زمرة سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، كأن وجوههم القمر ليلة البدر. ثم الذين يلونهم كأضواء نجم في السماء حتى يخلصوا إلى الجنة برحمة الله". وفي بعض الروايات في هذا الحديث "أن الصراط أدق من الشعر، وأحد من السيف" والمعنى- والله أعلم- أن أمر الصراط والجواز عليه أدق من الشعر، أن يكون عسره على قدر الطاعات والمعاصي، ولا يعلم حدود ذلك إلا الله تعالى جده لخفائها وغموضها، وقد حرت العادة بتسمية الغامض الخفي دقيقا، وضرب المثل به بدقة الشعر، فهذا والله أعلم من هذا الباب. وأما أنه أحد من السيف، فيكون معناه- والله أعلم- أن الأمر الدقيق الذي يصله من عند الله تعالى إلى الملائكة في إجازة الناس على الصراط يكون في نفاد حدة السيف ومضيه، إسراعا منهم إلى الطاعة وامتثالا، ولا يكون له مرد، كما أن السيف إذا نفذ نجده وقوة ضاربة في شيء لم يكن له بعد ذلك مرد. فأما أن يقال: أن الصراط نفسه أحد من السيف وأدق من الشعر، فذلك مرفوع بنفس هذا الحديث، لأن فيه: "أن الملائكة يقومون بجنبيه ويقولون: اللهم سلم سلم" وفيه "إن فيه كلاليب ومسكا" وفيه "ن ممن يمر على الصراط من يقع على بطنه، ومنهم من يزل ثم يقوم) وفيه: "أن من الذين يمشون عليه من يعطى النور بقدر موضع قدميه" وفي ذلك إثبات أن المارين عليه مواطئ الأقدام" ومعلوم أن دقة الشعر لا تحتمل هذا كله. وقد سألت أحد الحفاظ عن هذه اللفظة فذكر أنها ليست ثابتة. فأما أن لا يشتغل بها، وأما أن يحمل على المعنى الذي ذكرنا والله أعلم. فأما ما قيل في هذه الرواية: من أن أعلى الحسن نحو الجنة، ففيه بيان أسفله نحو طرف الأرض، وذلك لما مضى بيانه من أن جهنم سافلة، والجنة عالية. فأما نهاية الميزان وقدر بعد الجنة منها، فلم يرد فيها شيء إلا أن الله عز وجل قال في سورة الشعراء {وأزلفت الجنة للمتقين} وقال في سورة ق: {وأزلفت الجنة للمتقين غير

بعيد}. أخبر أنه يقال لهم قبل أن يدخلوها: {هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ}. وفي ذلك دليل على أنها تكون بحيث يمكن الإشارة إليها، فقد يحتمل- والله أعلم- أن السموات إذا طويت أدنيت الجنان من أهلها، وذلك لأن أبعادها قبل يوم الدين إنما يكون ليؤمن أهلها بها وهي غائبة، ليس عندهم منها إلا الخبر عنها، فيستوجبوها بإيمانهم بها. فإذا كان يوم الدين جاء وقت الجزاء وكشفت الأعطية عنها، أعني كشط السموات أدنيت أيضا. كما تبرز الجحيم لأهلها بعد أن كانت محجوبة عن أبصارهم ولا يمكن أن يشار إلى مقدار دونها وهو أعلم بالحقائق، ليس عندنا أكثر من أن الأرض تمد مد الأديم، فنزول استدارتها وتنقلب عن حالها فتكون يومئذ مسطحة ذات طول وعرض، والجنان فوقها ولكن متنحية منحى مشارق سطح الدار عن الدار عن صحنها لأن الله عز وجل سماها غرفا فقال: {وهم في الغرفات آمنون} وقال: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا وقال: لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية}. وظاهر هذا أنه عز وجل سمى جميع أبنية الجنة غرفا، فثبت أنه سماها بذلك لإشرافها على مساكن الآخرين، ولأنه أخبر أن من في الجنة وقد تطلع فيرى من يريد في سواء الجحيم. وذلك كاطلاع من ينظر من طرف سطح أو لرأس جدار إلى من في سطح الدار فيراه. وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك أن أهل الجنة ينادون أهل النار، وأهل النار ينادون أهل الجنة. وأخبر أن أصحاب الأعراف ينظرون إلى أهل الجنة مرة فيسلمون عليهم طمعا في المصير إليهم والاختلاط بهم، وإلى أهل النار فيستعيذون بالله من حالهم، وإنما هم كالو إقف على رأس جدار عال يشرف منه على غرفة منها قوم على مقيمون على سرور ولذة من وجه، وعلى صحن كان فيها مأتم وبكاء وجزع من وجه.

فأهل الجنة العالية أصحاب الأعراف كأهل السطح الذين هم في السرور، وأهل النار هم كأهل الصحف الذين هم في الغموم. إلا أن بين الجنة العالية من الوجه الذي يشرف على الأرض والنيران السافلة حجابا، وهو سور يضرب يوم القيامة، والأعراف أعلى من هذا السور، فلا يكون بين أهل الجنة وأهل النار تلاق ولا تقارب، إلا أن يكون تناد من أهلها إلى ملائكة الجنة ينادي أهلها إلى ملائكة العذاب، وملائكة النار ينادي أهلها إلى ملائكة الجنة، أو يقوى الله تعالى الأصوات والإسماع فيسمع أحد الفريقين مع بعد المسافة الآخر، وهذا قبل أن يسلب أهل النار إسماعهم. وإذا كانت البحار تسجر يوم القيامة فتكون هي جهنم والبحار في الأرض، فقد صار بعض الأرض جهنم، فلا يبعد أن يكون تبديل الله تعالى الأرض غير الأرض بعد ركوب الناس الصراط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم هو أن تقلب الأرض كلها نارا، كما تقلب مواضع المياه منها نارا، وأن يكون بقاء الأرض ترابا مدة فيها يحتاج إليها للقيام عليها. فإذا فرغت منهم صارت نارا. وقد قال بعض العلماء: إن الكفار لا يجازون على الصراط لأنهم في النار وهم في معدن النار إذا النار في الأرض فإذا خلص المؤمنون وحصلوا على الصراط وانفروا الكفار بمواقفهم صارت مواقفهم من النار، فلم يلق مع ذلك بأحوالهم أن يجازوا على الصراط، وهذا القول قرب ما قلناه والله أعلم بما هو فاعله. وذكر وهب في كتابه: أن الله عز وجل إذا أراد أن يكشف عن سقر غطاها خرجت منها نار تفتق بالبحر المطبق على شفير جهنم، واشتغلت في الأرض السبع فتركتها جمرة واحدة، فقد يحتمل أن يكون شقها البحر قبل حساب الخلائق، واشتعالها في الأرضين السبع لتصير جمة واحدة بعد أن ركب المؤمنون الصراط، فيرجع هذا القول الذي حكته والله أعلم. وأما ما ذكر في هذا الحديث من الأنوار، فقد قيل: أن ذلك إنما يكون إذا أمر بأهل الجنة إلى الجنة وبأهل النار إلى النار، فيتقدم المؤمنون، وقد أعطى كل واحد منهم فوراً

بقدر عمله. والباقون في ظلمة شديدة من دخان جهنم، فيقولون لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا. قال الله عز وجل: {فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} فيحتمل- والله اعلم- أن هذا السور إنما ضرب عند انتهاء الصراط، وينزل له باب يخلص منه المؤمنون إلى طريق الجنة، فذاك هو الرحمة التي في باطنه. وأما ظاهره فإنه يلي النار، وإن كانت النار سافلة عنه لا محاذية إياه، فإذا لم يجد المنافقون إلى باطن السور سبيلا إلا أن يقذفوا من أعلى الصراط، فيهوون منه إلى الدرك. الأسفل من النار، ولم يذكر الله تعالى في قصة النور إلا المنافقين. فقد يحتمل من قول من يقول أن الكفار لا يجاوزن على الصراط، أن المنافقين يخصون بالإجازة عليه على معنى أن يجلوا وأتباع المؤمنين، ليظنوا أنهم ينجون بنجاتهم، حتى إذا بلغوا الحد ميزوا عنهم، فنادوا المؤمنين: {ألم نكن معكم، قالوا: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتم الأماني حتى جاء أمر الله، وغركم بالله الغرور}. فيكون هذا مما أخبر الله تعالى أنه فاعله بهم في قوله: {قالوا: إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} والله أعلم. واختلف الناس في أصحاب الأعراف فقال قائلون: {أنهم ملائكة يقومون عليها، وينظرون إلى أهل الجنة مرة فيحيونهم، وإلى أهل النار مرة فيبكونهم، ويحملهم ما يشاهدونه من سوء أحوالهم على الاستعاذة بالله تعالى منها وذلك بعيد من وجهين: احدهما أن الله عز وجل قال: {وعلى الأعراف رجال} واسم الرجال لذكور العقلاء، والملائكة ينقسمون إلى ذكور وإناث. والأخر: انه تعالى أخبر عنهم أنهم يقولون لأهل الجنة: {سلام عليكم}، طامعين أن يدخلوها. والملائكة غير محجوبين عن الجنة، إلا أن تكون ملائكة العذاب، ولئن كان منهم من أن لا يدخلها، فإنه لو دخلها ليتلذذ بنعيمها، إذ التلذذ بما يتلذذ به الناس غير

مركب فيهم. فيقال إذا لم يصل إليها أنه يطمع أن يدخلها. وأيضا فإن الحيلولة بين الطامع وطمعه تستبق ولا عذاب يومئذ على ملك. وقيل: أنهم قوم قتلوا في سبيل الله أنهم مع ذلك أصحاب كبائر، فلم يدخلوا النار، إلا أرواحهم ذهبت في سبيل الله تعالى ولم يدخلوا الجنة للكبائر التي وافوا القيامة بها فيحبسهم الله تعالى بين الجنة والنار خائفين، راجين إذا نظروا أهل الجنة، قالوا {سلام عليكم} مستعجلين بأن يلحقوا بهم، وإذا أشرفوا على النار، قالوا: {ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين}. فيكون ذلك الخوف عقوبة لهم إلى أن يمن الله تعالى عليهم بالجنة. وقيل. أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، لأن الحسنات تحول بينهم وبين النار، والسيئات تحول بينهم وبين الجنة، فيحبسون هناك ما شاء الله عقوبة لهم على سيئاتهم ثم يدخلون الجنة. وهذه حال قد بينا من قبل أنها لا تكون ولا يمكن أنها لا تكون، ولا يمكن لأنه لو جاز أن تستوي الحسنات والسيئات بأصلها وهو الإيمان، وانفراد السيئات عن الكفر لا يمكن أن تزيد السيئات على الحسنات حتى يكون ميزانها هو الثقيل وميزان الحسنات هو الخفيف، ولو أمكن أن يكون ذلك لم يدخل من كان هذا حالة الجنة أبدا، لأن الوزن لم يظهر له حسنة قط إذا كان ميزان السيئات هو الذي يثقل، ولا يوازي ثقلها من جانب الحسنات ثقيل أصلا. ولو كان لا يجوز أن يكون مؤمن يخلد في النار، علمنا أن زيادة سيئات المؤمن على حسناته غير ممكن، وإذا نظرنا في ذلك وجدنا المعنى: أن مع حسنات المؤمن إيمانه الذي هو أصل الطاعات، ولا يوازن الأصيل ما ليس بأصل. فإذا وجب هذا المعنى أيضا: أن لا تساوي حسنات المؤمن سيئاته، وأن يكون أثقل ميزاني المؤمن ميزان حسناته- والله أعلم- ألا أن يقول قائل: أن حسنات المؤمن سوى إيمانه، وسيئاته قد يستويان، ولكنه هذا إذا كان وضع الإيمان مع حسناته في الميزان

فرجح. فيزول حينئذ استواء الحسنات والسيئات والله أعلم. ألا أن هذا فإن كان هكذا، فقد يجوز أن يكون أصحاب الأعراف قوما كثرت سيئاتهم، ولم يرد الله تعالى أن يحشرهم في النار وينالهم فعذبهم بحر النار وكربها ولم يسلطها على أجسادهم فيحرقها والله أعلم. وأما قول الله عز وجل، ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، قالوا: {ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون} فإنما هو أنهم يقولون لقوم من أهل النار هذا فيقول لهم أهل النار في جواب ذلك وأنتم فما أغنى عنكم إيمانا، والله لا يأليكم من الله رحمه فيكذب الله تعالى يمين أهل النار ويقول لهؤلاء: أقسمتم عليهم أي ومن أين أجزتم لأنفسكم أن تحكموا على الله، ثم يقول لأصحاب الأعراف: {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} والله أعلم. ومما يدخل في هذا الباب قول الله عز وجل {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} فقيل: أن الورود النظر لا الدخول، ألا ترى أن ورود الماء بلوغ مكانه والوقوف على طرفه لا حوضه، ولا الشروع فيه، وقد أخبر الله عز وجل أنه يحصر الكفار حول جهنم جثيا، والجثو حال المحاسبة، كما يقال عز وجل: {وترى كل أمة جاثية، كل أمة تدعى إلى كتابها}. فإذا كان موضع الحسنات حول جهنم، وحيث يكون الصراط والمؤمنون والكافرون في ذلك سواء، وذلك هو الورود على هذا الخارج قوله عز وجل {ثم ننج الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا أي تخريج وذلك على وجهين أحدهما ننجي الذين اتقوا بأن نباعد بينهم وبين النار، ونأمر بالظالمين إلى النار ويذرهم فيها. والآخر: ننجي الذين اتقوا من حول جهنم بالإجازة على الصراط، وإذا أخرجناهم سلطنا النار على الظالمين الذين كانوا جثيا، فأخذتهم على حال جثوهم بركبانهم، فيها. وهذا على أن ذلك المكان يصير من جهنم بمزايلة المؤمنين إياه، وإن الكفار يجازون على الصراط المستقيم، والله أعلم،

وفيه قول آخر: وهو أن المؤمنين والكفار يجازون على الصراط والله أعلم، وذلك ورود المؤمنين النار، لأن الصراط إنما هو جسر جهنم، وقد يلحق الذين يجوزون فيه من النار أذى. فإن كان من شرط الورود مس النار والورود، فقد كان ذلك، وإن كان لا يلحقهم أو بعضهم منها أذى، فإن ركوب جسرها الذي يلقي منه إلى النار، وتختطف الكلاليب بعضهم حقيقة بأن يقال له ورود ذلك، وذلك هو الذي أراد الله تعالى بهذه الآية. ومن قال هذا ولم يقطع بأن الأرض قصير أو شيء منها من جملة جهنم قال الأشبه أن الأرض تعدم إذا ركب الناس الجسر، ما طويت لسموات فكانت عدما. والدليل على ذلك أن الله عز وجل سوى بين السموات والأرضين في قوله خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك، فبان أن مدة الأرض متناهية، كما تكون مدة السماء متناهية، ومن قال بالأول، قال: مدى أرضها متناهية كما أن مدة سمائه والله أعلم. فإن قيل: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات له ثلاثة لم تمسه النار ألا يخله القسم) يعني قول الله عز وجل: {وإن منكم إلا واردها} وهذا يدل على أن الورود ليس هو التطرف، فيكون الجواز على الصراط، وحضور شغير جهنم عند المحاسبة جازيا عنه قبل. قيل: اسمي مس النار كما قال أيوب صلى الله عليه وسلم {إني مسني الشيطان بنصب وعذاب} أي عوضني. كذلك لأن مسه بالحقيقة وكما قال عز وجل: {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء، ولا هم يحزنون}. أي لا ينادون بسوء ولا يسوءهم شيء. فيكون معنى تمسه النار، أي ينادى بها. وإذا كان هذا هكذا، وقد أخبر الله عز وجل أن جهنم {ترمي بشرر القصر، كأنه جمالات صفر}، وجاء الحديث أنها ترمي زفرة لا يبقي ملك مقرب ولا نبي مرسل

ألا تهمه نفسه وأنها إذا برزت غشيت أهل المجمع منها ظلمة شديدة، وإن شررها يقع على رؤوس الخلائق، فتكاد أفئدتهم تنخلع من الخوف إلى غير ذلك. فليس يبعد أن يكون ورود المؤمنين جهنم أن يحضروا شغير جهنم للمحاسبة فيروها عن اليقين، وإذا أخذت تموج وتتأجح وترمي بشررها أشفقوا منها وإذا زفرت فرقوا من زفيرها، وتغشاهم من ظلمتها ماء يفشي غيرهم. فيكون هذا مس النار إياهم دون اللذع والإحراق والله أعلم. فإن سأل سائل عما روينا، وقال: كيف يجوز إثبات الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين تهمهم أنفسهم يوم القيامة مما يرون من الأهوال والشدائد والله عز وجل يقول فيمن دونهم من الأولياء: {إن الذين سبقت لهم منا الحسني، أولئك عنها مبدعون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.} ويقول: {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون}. قيل له: أن المذكورين في هذه الآية يكونون آمنين من حيث يبشرون بالخير والنعمة، ولكن لا ينكر أنهم إذا رأوا هؤلاء لم يشاهدوها قط، ولا خطرت على قلوبهم أن يغفلوا في ذلك الوقت عن الأمن الواقع لهم، ويغلب الخوف على قلوبهم، فقد يحمل أن يكون خوف الأنبياء عليهم السلام في الحال التي ذكرتها من هذا الوجه. وأما قوله عز وجل: {لا يسمعون حسيسها}، فالمعنى أنهم لا يسمعون ما تفعله النار بأهله إذا حصلوا في الجنة، وحصل أهل النار في النار. ألا ترى أنه قال على أثر هذا: {وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون}. فأما من قبل دخول الجنة فقد يسمعون زفيرها، ويردون كثيرا من أهوالها والله أعلم. فإن سأل سائل: عن معنى إيراد الله تعالى جده المؤمنين جهنم. قيل له قد قال الناس في ذلك وجهين: أحدهما أن يعلم المؤمنون بالعيان ما كانوا يخبرون عنه من شدائد بدار أعد الله تعالى جده الكفار من العذاب، فإذا صاروا منها إلى

الجنة كانوا أشهر بها وأقر عينا، وكانت في نفوسهم أعظم قدرا موقعا. والآخر أن الفريقين إذا جمعهما مجمع واحد وهو شغير جهنم أو الصراط، ثم ميز أحدهما عن الآخر، وصير به إلى الجنان، والآخر إلى النيران أن كانت الحشرة على الذين يصار بهم إلى النار أشد، ومصيبته أقطع وأوجع. وقد يجوز أن يكونا معا هما المراد. فإن قيل: فلم لا يرى أهل النار أهل الجنة، كما يرى أهل الجنة النار ليعلموا ما الذي فاتهم وحرموه بالمعاصي أنفسهم، فيكون ذلك اعم وأوجع لهم. قيل: لان حريم الجنة وحريم النار كالنار، فلما كانت النار يخرج منها عصاة المؤمنين، ولا يخلدون فيها، صلح إيراد المؤمنين شغيرها ليروها، ويعاينوا أحوالها، قم ينقلوا عنها، ولما كانت الجنة لا يخرج منها دخلها لم يلق بها أن يورد الكفار حريمها فيستنشقوا رائحتها ويشاهدوا نعيمها ثم ينقلوا عنها. فصل فإن قال قائل: كأن جهنم هو البحر، فما يبقى قوله عز وجل: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين، لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم}. فإن كانت النار في أسفل كما وصفهم فإجازة الكفار على الصراط لأي سبب؟ قيل له: أن من قال. أن الكفار يركبون الجسر، فقد يخرج عن قوله أن تكون أبواب جهنم في الجسر فروجا، فيه أشباه أبواب السطوح، فهم يقذفون منها في جهنم، وإنما يجمع بينهم وبين المؤمنين على الصراط ليكون فرج المؤمنين بالفوز والخلاص أعظم، وحسرة الكفار وغمهم أشد وأفظع، وإلقاؤهم من الجسر أخوف وأهول. ولعل قول الله جل ثناؤه: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} يكون في هذا الوقت، وما في القرآن من قول الله عز وجل: {كلما ألقي فيها فوج}، وقوله تعالى {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد}. فالدليل على هذا، لأن الإلقاء في الشيء

أكثر ما يستعمل في الطرح من علو إلى أسفل، نحو قولهم: ألقاه في الحوض وفي البيت، وإذا لم تكن كذلك، قيل: ألقاه على قارعة الطريق، وألقاه على ظهره والله أعلم. ومن قال: أن الكفار لا يركبون الجسر، قال: قد يكون لجهنم يوم القيامة سبعة مشارع يصار بالكفار إليها، ثم يلقي بعضهم فيها، ويسحب بعضهم على وجوههم، ويساق بعضهم سوقا، ويكلفون دخولها، وليس يكون هذا، لأن الملائكة يتعذر عليها هذا الأمر في مكان من جهنم، ويتيسر في موضع ولكن لأهل النار سبعة أصناف، كما يقال الله تعالى {لها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم} فيجعل الله يومئذ لها سبعة مشاعر لتتميز الأصناف بعضها من بعض والله أعلم. وقد ذكر الله تعالى النار، سماها بثمانية أسماء: الجحيم- والسعير- وسقر- ولظى- وجهنم- والحريق- والحطمة- والهاوية. وقد يحتمل أن يكون ما عدا جهنم أسماء الدركات المحتملة، التي أعدت لأهل النار كما يليق بأحوالهم وسيئات أعمالهم، وسكون جهنم اسما للجميع، كما قال: {وإن جهنم لموعدهم أجمعي، لها سبعة أبواب} وقال: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا، حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها} فالأبواب السبعة في المشارع إلى هذه المسميات السبعة وجهنم اسم لجملتها. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يرويه سلام الطويل عن أبي سفيان عن انس بن مالك رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: لها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم: "جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء صيروا رعيتهم بحطهم من الله، وجزء عتوا على الله". فإن كان هنا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمشركون بالله هم الثنويه والوثنيه، والشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلها أولا إله لهم، ويسألون في شريعته ولا يدرون أنها من عنده. والغافلون عن الله هم الذين يجهدون أصلا ولا يتبعون، وهم الدهرية. والمؤثرون

شهواتهم على الله، المنهمكون في المعاصي لتكذيبهم رسل الله تعالى جده وأمره ونهيه، والشافون غبطهم غضب الله، القتالون أنبياء الله وسائر الداعين إليه المعذبون من ينصح لهم، أو يذهب غير مذهبهم، والمصيرون وغيهم يحطهم من الله، هم المنكرون للبعث والحساب. فهم يعبدون بأي ما يرغبون فيه لهم جميعهم، حطهم من الله جل ثناؤه. والعاتون على الله الذين لا يبالون بأن ما يكون ما هم فيه حقا أو باطلا، فلا يتفكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون ولا يستدلون، والله أعلم بما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان الحديث ثابتا عنه. فصل وقد أخبر الله تعالى جده: أن في النار انكالا وهي القيود ومقامع من حديد، وإن فيها شجرا طلعها كأنه رؤوس الشياطين. وقال في آية أخرى، أن شجر الزقوم طعام الأثيم وأن فيها جميما وهو الماء الجار المقطع للأمعاء. وجميع ذلك يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون كل ذلك نيرانا مختلفة الأوصاف، كما أن فيها في الأرض ما بين دواب وأشجار وزروع كلها من تراب، إلا أن الأعراض مختلفة، والأصناف متغايرة بالخشب والحديد، هناك نار مهيأة بهيئة الشجر ونار مهيأة بهيئة الحديد، والحميم نار مهيأة بهيئة الماء. وكل ما جاءت به الإخبار، من أن في النار حيات وعقارب فإن كانت تلك الأخبار ثابتة فهي محمولة على هذا المعنى وهو أن تلك نيرات مهيأة بهيئة الحيات والعقارب. وليس ينكر أن يخلق الله تعالى من النار المفرده خلقا ويجعله حيا، فقد أخبر عز وجل أنه: خلق الجان من مارج من نار، وهو على ما يشار قدير. والوجه الآخر: أن يكون الشجر خشبا، والقيود والمقامع حديدا، والحميم ماء، والحيات والعقارب ما عرفت إلا أن الله عز وجل يمسكها، ويدفع الاحتراق والفساد عنها. فأنه خالق الطبع والمطبوع. فكلما أنه إذا أراد تغيير المطبوع غيره. فكذلك إذا أراد تغيير الطبع غيره. وإذا كان يحرق أهل النار ولا يمسهم خلاف المعروف في الدنيا من أن من أحاطت به

النار وأحرقته هلك، فما الذي ينكر من أن يمسك في النار خشبا وحيات وعقارب فلا حرق بالنار ما لا يطغا بالنار ولا تأكله النار وبالله التوفيق. فصل فأما الجنان، فإن الله حصرها بأربعة أعداد فقال عز وجل: {ولمن خاف مقام ربه جنتان، وقال بعد ذلك: {ومن دونهما جنتان} ولم يذك سوى هذه الأربعة جنة خامسة. فإن قال: {عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى} قيل: جنة المأوى اسم لجميع الجنان يدل على ذلك أنه قال: {فلهم جنات المأوى، نزلا بما كانوا يعملون}. والجنة اسم الجنس، فمرة يقال: جنة، ومرة يقال: جنات عدت، وجنة عدن. لان المعدن الإقامة، وكلها دار الإقامة، كما أن كلها مأوى المؤمنين. وكذلك دار الخلد ودار السلام لأن جميعها للخلود والسلامة من كل خوف محزن. وكذلك جنات النعيم، وجنة نعيم، لأن جميعا مشحونة بأنصاف النعيم جنة تنوى لأن الله عز وجل أن كان سمى شيئا من هذه الأسماء جنة في موضع فقد سمى الجنان كلها بذلك في موضع آخر فعلمنا أن هذه الأسماء لتمييز جنة من جنة ولكنها للجنان أجمع لا سيما وقد أتى الكتاب بذكر العدد ولم يثبت إلا أربعا. وقد أثبت الله عز وجل هذه أبوابا بقوله: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبواها}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن أبوبا الجنة ثمانية" فقد يحتمل أن يكون ذلك لأن لكل جنة من الجنان الأربع بابين. وقد وصف الله تعالى هذه الجنان في كتابه، فوصف أهل الجنة، فصفهم صفين: أحدهما السابقون المقربون، والآخر أصحاب اليمين. فعلمنا أن السابقين أهل الجنتين

العليين في قوله تعالى {ولمن خاف مقام ربه جنات} إلى قوله {ومن دونهما جنتان} فقال: فهاتان للمقربين، وهاتان لأصحاب اليمين. وعن أبي موسى الأشعري نحو من ذلك، وأصحاب اليمين هم الذين يؤتون كتبهم بإيمانهم وتخصيصهم بهذا السام ليس لان السابقين لا يقرأون كتبهم، ولكن لا الثناء عليهم بالسبق إلى الطاعات أشرف لهم من وصفهم بإيتاء الكتب بإيمانهم، لأنهم يشركهم في إيتاء الكتاب باليمين من ليس له سبقهم وقدمهم، ولا يشركهم في إيتاء الكتب باليمين من السبق غيرهم. فذكروا بأرفع الذكرين، ولما لم يكن من أهل الجنة بعدهم إلا من لم يكن لهم مثل فضيلتهم، فيذكروا معهم قيل لهم أصحاب اليمين أي الباقون بد السابقين من أصحاب اليمين والله أعلم. والسابقون هم المتسارعون إلى الطاعات من أتباع الأنبياء صلوات الله عليهم، وتصديقهم ونصرهم على أعدائهم، وما يتبع ذلك من أوامر الله جل ثناؤه وغير متباطئين عنها ولا مستغلين لها أولا مطلبين للأعذار والعلل للأخذ بالهويني فيها، فإن جزاءهم عند الله أن يجعلهم سابقين إلى جنته والنعيم التي أعد فيها لأهل رضوانه، وتقدمهم على غيرهم، كما قدموا في الدنيا طاعته على أهوائهم، وتركوا أهلها أراد بهم. ولما وصف الله تعالى بعض نعيم الجنان أشار إلى الفرق بين الجنتين اللين ذكر أنهما لما خاف مقام ربه وبين الجنتين ومن دونهما فقال في الأوليين: {فيهما عيتان تجريان} وفي الأخريين: فيهما عينان ناضحتان} أي فوارتان، ولكنهما ليستا كالجارتين لان النضح دون الجري. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنتان من ذهب للمقربين، أو قال للسابقين وجنتان من ورق لأصحب اليمين" فقال في الأوليين: {فيهما كل فاكهة زوجان} فعم ولم يخص. وقال في الآخرين: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} ولم يقل من فاكهة وقال في الأوليين: {متكئين على فرش بطائنها من إستبرق} وهو الديباج. وفي

الأخريين {متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان} والعبقري الوشي. ولا شك أن الديباج أغلى من الوشي، والرفرف كثير الخباء، ولا شك أن الفرش المفردة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء. وفي الأوليين في صفة الحور العين: {كأنهم الياقوت والمرجان}. وفي الأخريين: {فيهن خيرات حسان}. وليس كل حسن بحسن الياقوت والمرجان. وقال في الأوليين: {ذواتا أفنان} وقال في الأخريين: {مدهامتان} أو خضراوتان، كأنهن من شدة خضرتها سوداوان. فوصفت الأوليين بثرة الأغصان، والآخرين بالخضرة وحدها. وفي هذا كله إشارة إلى تحقيق المعنى الذي قصد بقوله: {ومن دونهما جنتان} ولعل ما يذكر من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر. فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الأوليين. قيل: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه، إلا أن الخائفين لهم مراتب. والجنتان الأوليان على العباد ربة في الخوف من الله جل ثناؤه. والجنتان الأخريان لمن حاله في الخوف من الله تعالى عنهم. واختلف في الحور العين المذكورات في القرآن، فقال الحسن البصري: أن الحور العين هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين، يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، والمشهور أن الحور العين ليس من نساء أهل الدنيا، إنما هن مخلوقات في الجنة، لأن الله عز وجل يقول: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان}. ونساء الدنيا أكثرهن مطموثا. فعلمنا أن الحور خلقهن غيرهن ولا النبي صلى الله عليه وسلم يروى عنه: (أن أقل ساكني الجنة النساء) وإذا كانت نساء الجنة أقل من رجالهم لم يصب كل واحد منهم امرأة. ووعد الحور العين لجماعهم فثبت أنهم غير نساء الدنيا. ومن ذهب مذهب الحسن قال: إذا قضى الرجال شهواتهم في الجنة، علمنا أن النساء لهن مثل ذلك، فلو لم يدرون إلى الرجال لم يجدن غيرهم فثبت أن نساء أهل الجنة أزواج رجالهم.

وجواب أن ذلك يمكن أن يكون ولا يجب عنه أن يكون الرجال مقصورين عليهن، فإنه لا يمنع أن يرددن عليهم. ويراد من الحور العين خيرا منهن، وأيضا فإن الله عز وجل جعل الحور العين من أوصاف الجنان وعدهن في نعيمها، كما ذكر الفواكه والماء والخمر واللبن والفرش واللباس. وليس يجوز أن تكون الثياب بالجنة من نعيم الجنة وأوصافها، فيكو أهل الجنة مسوقين إليها بأنفسهم. فصح أن الحور العين مخلوقات في الجنة وليس من نساء الدنيا والله أعلم. وأما الولدان والغلمان فإن من الناس من قال: لما لم يكن في الجنة ولدان علمنا أنهم من ولادة الدنيا. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأطفال خدم أهل الجنة) وعن سلمان: أطفال المشركين خدم هذه الجنة. وعن الحسن في قوله عز وجل: {يطوف عليهم ولدان} قال لم تكن لهم حسنا يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا هذا الموضع. وقد يحتمل مع هذا أن يكون الغلمان مخلوقين في الجنة. فيكون ذكور الخدم كآبائهم، وسموا ولدانا من طريق التشبيه لهن في صور الولدان والغلمان، كما قيل في الفرش وعبقري حسان. وليس في الجنة عبقري، كما ليس فيها ولادة، وقيل. {وزر أبي مبثوثة} وليس في الجنة نسخ والله أعلم. ومعنى مخلدون، والخلده الحليه، وقيل مفرطون، وقيل على سن واحد لا يتغيرون عنها أبدا. وقيل مخدلون مع من يحرمونهم ولا يزايلونهم أبدا. وذكر وهب وغيره أن الجنان سبع: دار الجلال- ودار السلام- وجنة عدم- وجنة المأوى- وجنة الخلد- وجنة الفردوس- وجنات النعيم. على الهامش. وفي بعض الأخبار الشائعة جنة نعيم، ويشبه أن تكون الفردوس أسماء لجميع الجنان كلها، كجهنم التي تجمع النيران كلها. لأن الله عز وجل مدح في أول سورة المؤمنين أقواما

وصفهم ثم قال: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} ثم أعاد ذكرهم في سورة المعارج وقال: {أولئك في جنات مكرمون} فعلنا أن الفردوس جنات لا جنة واحدة كما قال وهب والله أعلم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله فسلوه الفردوس) فهذا والله أعلم- أن للجنات مراتب لا يستوي الناس في استحقاقها، فلا ينبغي لأحد أن يتخير أحداهما فيسلمها الله، وإنما أعدها الله تعالى لغيره، فيكون داخلا في جملة قوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} بل ينبغي له أن يسل الله الفردوس، فيكون قد سأله الجنة. في الجملة، وليس في شيء من دراجاتها بمرغوب عنه والله أعلم. فصل قال بعض الضلال: أن للثواب والعقاب صورا للناس بصور جسمانية لتقرب إلى إفهامهم. فقيل لهم: إن في الجنة مآكل ومشارب ومناكح وملابس ثم وضعت لهم بأحسن الأوصاف، وأولاها بأن بشوق إليها لأنهم لم يعرفوا اللذة والسرور والغبطة في الحياة الطيبة في العيش، إلا من هذه الوجوه، فضربت مثلا لهم وإلا فالحقيقة أنه لا ألم هناك ولا موت ولا حزن، وإنما هو مسرة دائبة متصلة، ولذة وبهجة وغير منقطعة، كما يلتذا الطاعم بطعم الشيء الطيب اللذيذ، ومجامعة من يميل إليها ويستحسنها، والفرش والملابس الناعمة. قال: ومما يبين ذلك أن الله عز وجل ذكر في أن في الجنة زرابي، وقد علم أنها الطنافس، وإن الطنافس التي يعرفونها أصواف مصبوغة مغزولة منسوجة، وإنه لم يردها بما قال، وإنما جعلها مثلا. وقال: {متكئين على رفرف خضر وعبقري}. والعبقري ما كان نسج من عنبر. فصح أنه جعل ذلك مثلا ولم يرد عينه، فكان جميع ما ذكر من المطاعم والمشارب والمناكح مثلا، قياسا على ما ذكرنا.

فالجواب- وبالله التوفيق- أن ما يقال لهذا القائل: وما الذي يلجيء إلى هذا التأويل؟ ويمنع أن يكون في الجنة مآكل ومشارب وملبس ومنكح. فأنا لا نجد في عقولنا لامتنع هذه الأمور وجها: قال: أن الذي يلجيء إليه النفوس هي الصائرة إلى الآخرة دون الأجساد. قيل: وما الذي يمنع من اصارة الأجساد إلى الآخرة وتخليه فلا نجد على ذلك دلالة، وإنما يفرغ في دعواه إلى أن ذلك يبعد في وهمه، وليس كل ما بعد من الوهم لم يكن على أن ذلك قريب من وهم غيره حتى أنه يبعد في وهمه، وليس كل ما بعد من الوهم لم يكن على أن ذلك قريب من وهم غيره حتى أنه لمتسلط على نفسه، فيقطع بأنه هو الأمر الذي لا يجوز غيره. وقد كتبنا في هذا الباب ما نرجو أن تقع به الكفاية، ويقال هل: أن البعث إنما يكون للجزاء بالحسنات والسيئات؛ والنفوس لم تكتسب بانفرادها خيرا ولا شيء، وإنما كان التكسب مشتركا بينها وبين الأجساد، فيجب أن يكون الجزاء مشتركا بينهما وبين الأجساد سواء كان الكسب فعل شيء أو ترك شيء. فإذا اجتمع النفس والبدن على التبع في الدنيا بإتباع الشهوات الممنوعة، فكانت الحكمة أن يؤلما جميعا بأشد الآلام، وليكن ذلك إلا عذاب النار. وإذا جرت الدنيا من مطاعم وملابس ومناكح كان يشبهها من جنس ما أهل الله له غير أنه لم يجدها فلم يتسخط قضاء الله تعالى لحبسها عنه وأحسن الظن به فيه أو من جنس ما حرم الله تعالى جده عليه فتركها أو صبر عنها جاهدا محتسبا، كان أولى ما يعوض عنه في الحكمة أن يوصل من جنسها إلى ما هو أسنى وأجزل وأعظم قدرا وأجل خطرا منها لتصل اللذة إلى ما وصل الألم إليه ويتنعم بالإصابة ما تأذى بالقوت. ثم لا ينكر أن يصير إلى ذلك من غير هذه الأجناس أسباب يتمتع ويفرح ويتلذذ بها، ولكن ما يدخل في جملتها أشبه بمعاني الثواب. ويبين ما قلنا أن إقامة العبادات في الدنيا لما كان سببا للتعب والنصب، وجب أن تكون الراحة عوضا منها في الآخرة باتفاق. فلذلك تخريج المرادات وقمع الشهوات في الدنيا لوجه الله عالي يقتضي أن يكون التمكين من قضائها على وجه أفضل وأكمل عوضا منها في الآخرة، وبالله التوفيق. هذا والشر لا من بعض الوجوه المعقولة في الدنيا مما لا يتصور فهم ولا هم ولا يكاد إلا

حالة عليه، ويحرك على الطاعة، ولا يقع موقع التبشير، وكذلك الغم لا شيء من الأسباب المعقولة في الدنيا أمر غير معقول، فالإنذار به لا يزجر عن معصية، ولا يقع موقع التحريف وهم أبدا يحاكموننا إلى العقل، فإذا هم في هذا الموضع قد فارقوه، وقالوا بما لا شاهد لهم عليه منه وبالله العصمة. فأما قولهم: أن كل موعود من نعيم الجنة، فمثل مضروب، واستشهادهم بالزرابي والعبقري، فجوابه: إن الزرابي ليس بمثل وإنما أريد بها الزرابي في مناظرها غير أنها ليست من أصواف مصبوغة منسوجة، وغنما هي مخترعة مبتدعة، وهي وأن أشبهت في مناظره الزرابي، فهي أنعم منها والين، واللذة التي تخلص إلى البدن من الجلوس عليها لا تكون في قدر ما يوجد منها في زرابي الدنيا، لكنها تزيد على ذلك زيادة لا يعرف قدرها إلا الله عز وجل. وكذلك العبقري إنما أريد به أنه في منظر العبقري إلا أنه ليس الفرش، بل هو فرش غير أنه يزيد في معاني اللذة والنعمة على مثله من فرش الدنيا أضعافا مضاعفة لا يحصيها الناس ولا يقدرونها. ولذلك لبنها لبن إلا انه غير محلوب، وخمرها خمر غير أنها ليست بمعتصرة، وكيف لا تكون خمرا بالحقيقة، والله عز وجل يقول: {يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك ومزاجه من تسنيم} فهلا جعل مثلا لشيء آخر ليعرفوه به، ومتى كان المجهول يعرف إلا أن هذا كله والثمار وغيرها تكون مخترعة مبدعة، وإن الذي خلق خير منها، وأسنى وأفضل في الدنيا والآخرة. فإن كان الذي سأل السؤال الذي ذكرنا يعرف بالله جل ثناؤه فليس له أن يعجب من هذه الموعودات. فيطلب لها تأويلا ويسميها أمثالها وبالله العصمة. وقد قال من قال من الأوائل: أن جوهر الشمس الذهب، وجوهر الزهرة الزبرجد والزجاج، وجوهر عطارد الألماس جوهر القمر الفضة، ومعلوم أن الناس لا يعرفون الذهب ألا ما يستخرج من المعادن، وكذلك الفضة والحديد والنحاس. وإن الكواكب لا تخلق من المستخرجات من المعادن من هذه الأجناس، فإنها في

جواهرها ليست كالتي في المعادن من هذه الأشياء في الكثافة والصلابة ونحوها، ولكن التباين بينهما شديد. فإن جاز أن يخلق الله تعالى في السماء خلقا من ذهب أو ورق أو نحاس غير مستخرج من معاد الأرض والطف من المعدن أضعافا مضاعفة، فلم لا جاز أن يحدث في الجنة خمرا غير معتصرة من العنب ولبنا غير مستدر من ضرع، وزرابي لا من صوف مجزوز عن ظهر الغنم، وإن كان المعروف في الدنيا أن الخمر من العنب واللبن من الضرع، والزرابي من الأصواف التي على ظهر الغنم وبالله التوفيق. فصل إن سأل سائل فقال: إنكم تزعمون أن للجنة خزنة ورأسهم في رضوان، وللنار خزنة ورأسهم ملك، ويتلو في القرآن: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب} فأخبرونا عن هؤلاء الخزنة، ماذا يفعلون؟ وعن من يخزنون والخزن فيما بيننا أن يكون حفظا لما يخشى عليه أن يؤخذ ويفوت على صاحبه، فمن الذي يمكن أن يأخذ من الجنة شيئا، فيفوته؟ ولئن كان ما في الجنة يخزن لأنه نعيم مرغوب فيها، فالذي في النار يخزن منها، وما الذي يدعو إلى خزنه؟ الجواب: أن خزن ملائكة الجنة نعيمها إنما يكون لأهلها، فكل واحد منهم يجعل إليه مراعاة قسط معلوم من تلك النعم لمن أعد له، حتى إذا وافى الجنة كان هو الذي يمكنه منه بأمر الله تعالى بخزنه إياها قبل التسليم هو مقامه على ملاحظة ما جعل بسبيله وانتظار من أهل له، واتصال ذلك إليه إذا حضر، وعرضه عليه على الوجه الذي يكون أسر له والترتيب الذي يكون أوقع بقلبه وأنغم بعينه، وذلك عبارة منه لله تعالى لأنه يأمره بعمل ما يعمل، فهذا خزن نعيم الجنة لاحفظها عن أحد يخاف منه عليها. وأما خزن ملائكة النار فيحتمل أن يجزى كل واحد منهم بعض الأنكال والمقامع والأغلال والسلاسل لمعنى أن ينفرد به، فيكون هو المستعمل والواضع والرافع إلى الذين

يباشرون العذاب ويتولونه، فتكون مراعاة ذلك منه أيضا عبادة له لأنه بأمر الله تعالى يفعل ولا ينتقم لا أن هناك من يخش أن يأخذ شيئا منها ويفوت بها والله أعلم؟ فصل إن سأل سائل عن قول الله عز وجل: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} فقال: إذا لم تكن الدار لا الجنة والنار، وكانت الجنة العالية والنار سافله، وليس في السفل شيء إلا النار، قال أين يريد أهل النار أن يخرجوا؟ قيل له: يحتمل أن يكون المعنى المعذبين منهم في جب من منهم أو موضع أغم من غيره أن قصدوا أن يخرجوا إلى صحصاح يكون الغم والألم فيه أقل، لم يتركوا وأعيدوا أن كانوا قد رجعوا قليلا إليه، وقد قال عز وجل في آية: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم، أعيدوا فيها، فيقرب أن يكون هذا معنى الآية والله أعلم. فصل إن سأل سائل: عن المعذبين من أهل الكبائر، إذا خرجوا إلى الجنة كيف يصار بهم إلى الجنة؟ والأولون إنما أخبروا إليها على الصراط، أفيكون الصراط باقيا ما بقي في النار من المؤمنين أحدا! أو يعاد الآخرون أو يجعل لهم سبب سواه، فيخلصوا إلى الجنة. قيل له: لم يبلغنا من أمر الصراط، وإن المؤمنين إذا جازوا عليه يرفع أو يترك إلى أن يجوز عليه آخر من يبقي منهم، خبر، وقد يحتمل أن يكون باقيا ما دام من المؤمنين أحد يعرض الجواز عليه، وإن أزيل عن مكانه، فقد يحتمل أن يرفع من يعفو الله عنه إلى السور الذي فيه الأعراف، وذلك بأن يصعد به ملك إليه، أو يجعل الله تعالى له سببا ما شاء بمن يعجزه الاجتياز فيرتقي من قبله إلى السور ثم ينزل منه كما ينزل أصحاب الأعراف وإذا أمر بهم إلى الجنة فيصيروا إليها والله أعلم.

فصل إن سأل سائل عن قول الله عز وجل: {عليها تسعة عشر، وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيمانا، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون: ماذا أراد الله بهذا مثلا}. وقال: ما تفسير هذه الآية وتأويلها؟ قيل له: إنما قال عز وجل: {عليها تسعة عشر} التي هي إحدى دركات النار فإنه قال تعالى: {سأصليه سقر وما أدراك ما سقر. لا تبقي ولا تذر. لواحة للبشر، عليها تسعة عشر} فلا يمكن أن يقطع بأن ملائكة العذاب كلهم تسعة عشر إذا لدركات سبع وقد يمكن أن يكون كل واحد من هذا مثل هذه العدة أو أكثر. فأما قوله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} فإنه يقال أن أبا جهل لما سمع عليها تسعة عشر هوى وقال لقريش أنا أكفيكم عشرة وأكفوني تسعة فأنزل الله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} أي التسعة عشر ليسوا بني آدم فيقاوم أمثالهم أو يقاوم الواحد عشرة منهم، وإنما هم ملائكة غلاظ شداد ينقلون المدائن، وينزلون من السماء إلى الأرض، ثم يرجعون إليها من نومهم، وقال: من قال لا يقاس الملائكة بالحدادين أي بالنحاسين من بين آدم إنكار المبالغة عن أبي جهل. وأما قوله عز وجل {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن} أي وما جعلنا أخبارك بعد أصحاب سقر إلا فتنة للذين كفروا، وقوله: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون. وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا}. فيكون أخبارنا إياك بعدهم فتنة للكافرين والمنافقين، واستيقان المؤمن وأهل الكتاب، هو أن علم عدد هؤلاء الملائكة ليس من العام، ولا هو مما يوجد مثله عند العرب.

فإذا أخبرت به أهل الكتاب ووجدوه موافقا لما عندهم، ازداد المؤمنون بك إيمانا لمعرفتهم بأن أحدا لم يخبرك به إلا الله جل ثناؤه واستيقن أهل الكتاب أن ذلك ينزل من الله تعالى عليك كما هو تنزيل من يقدمك، ولا يرتاب المؤمنون وأهل الكتاب بذلك، ولو لم يكن في كتبهم من هذا خبر، لأنهم إذا راجعوا عقولهم، علموا أن الله تعالى قادر على أن يقوي تسعة عشر ملكا ومن دونهم على تعذيب عالم من الناس، وأنه لم يقصرهم على هذه العدة إلا لحكمة كانت له فيها، ولكنه استأثر بها ولم يطلع عليها خلفه فلم يوقع فله العدد الذي أخبرناك به رتبة في قلوبهم. {ويقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا} أي ليقولوا: هذا مثل وليس بحقيقة، فما أراد الله بهذا، وليستعدوا أن يكون الذين يوردون سقر على كثرتهم، بلى يعذبهم تسعة عشر ملكا، فأخبارك بهذه العدة يجري مجرى سائر ما أنزلناه عليك اختبارا لقومك، ليظهر المؤمن المستيقن من المرتاب والمشكك وتثبيتا للذين آمنوا وتقوية لعزائمهم والله أعلم. فصل إن قال قائل: أليس الله بكل شيء عليم؟ قلنا: بلى! قال: أفيعلم مبلغ حركات أهل الجنة وأهل النار؟ قيل: إنها لا مبلغ لها، وإنما يعرف مبلغ ما يكون له مبلغ. فأما ما لا مبلغ له فيستحيل أن يوصف بأنه يعلم لها مبلغا. يقال لهذا القائل هل يعلم الله مقدارها كلها؟ فإن قال: لا كل لها. فيقال: إنه يعلم. قيل له: وكذلك لا كل لحركات أهل الجنة وأهل النار. قيل: إنها لا مبلغ لها وإنما يعرف مبلغ ما يكون له مبلغ. فأما ما لا مبلغ له فيستحيل أن يوصف بأنه يعلم لها مبلغا. يقال لهذا القائل. هل يعلم الله تعالى مقدوراته كلها. فإن قال: لا كل لها. فيقال إنه يعلمه. قيل له: وكذلك لا كل لحركات أهل الجنة وأهل النار معلمه وبالله التوفيق.

فصل إن قال قائل: ما أنكرتم أن أهل النار لا يبقون في النار معذبين أبدا، لأن الله عز وجل عدل في حكمه، وليس من العدل تعذيب قوم أنبوا نوبا متناهية بعذاب غير متناه. وإذا لم يجز ذلك، فليس إلا أن يبقوا فيها قدر ما يكون جزاء لهم بأعمالهم، ثم يكونون فيها غير معذبين ولا متألمين. وكذلك أهل الجنة يثابون بأعمالهم، ثم يؤول أمر الفريقين في السكون الدائم. فالجواب: أن مقدار الذنب لا يعرف بالمدة لأنه لو كان كذلك لوجب أن تكون الذنوب كلها أكبر من الكفر، لأنه يقع بالخطرة تسكن النفس إليها، واللحظة واللفظة، ولا ذنب أقل اقتضاء للمدة منه. وفي ثبوت أن لا ذنب أعظم من الكفر، ما أبان أن الذنوب لا تقدر بالمدة، وأيضا فلو كانت أقدار الذنوب تعرف بالمدد لم يجز أن يكون لذنب ساعة إلا عقوبة ساعة، ولما جزا أن يعاقب الكافر على كفره يوما، أكثر من يوم. ولما جاز أن يزيد مقام الكافر الذي لم يكن في يوم الكفر يوما، ثم هلك في النار على قدر يوم من أيام الدنيا. فعلمنا أن الذنوب لا تقدر بالمدد، وإما تقدر بواقعها من سخط الله تعالى جده. ألا ترى أن الزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا بالأجنبية، والقتل في الشهر الحرام أغلظ منه في غيره، وضرب الوالد وشتمه أعظم من ضرب الأجنبي وشتمه، وزنا المحصن أغلظ من زنا غير المحصن. ومدة الأغلظ وغير الأغلظ في هذه الذنوب متفقة. وإذا جاز أن يكون هذا هكذا في أحكام الدنيا جاز في أحكام الآخرة مثله. وهو أن لا ينظر إلى مدة الذنب، وإنما ينظر إلى موقعه من هتك الحرمة، وإذا نظر إلى ذلك لم يقدر قدر الكفر، لأن حرمة الله تعالى التي تهتك به، وليس لجلال الله وعظمته مدد تحاط به، ولا لحقوقه على العبد في الوجود قدر يشار إليه، ولا النعمة التي بذاتها عبادة في معاني الإحسان قدر يعبر عنه، فكذلك حرمته لا قدر لها في معنى الإشارة يعرف ولا حد لها يوصف. فجزاؤه إذا عذاب لا يقدر قدره ولا يمكن حده. فمن هذا الوجه إستحق الكفار التخليد في النار، وإن كانت ذنوبهم في الزمان

متناهية. وأما ما عدا الكفار فإن ما فيه من هتك الحرمة أقل لأن فاعله يعتده دينا، ويعتقد أن له تبعية، فيأتيه مترددا بين الخوف والرجاء، فكان في حال الدنيا مراعيا لبعض الحق، فأوجب ذلك أن يكون لجزائه قدر وجد، كما كان لدينه قدر وجد، من حيث كان في الجملة دون الكفر بدرجات كثيرة، فلذلك قلنا أن التخليد لا يقع لها وبالله التوفيق. ويدل على أن نعيم أهل الجنة وشدائد أهل النار غير منقضية، أن نعيم أهل الجنة لو كان منقضيا لكان أهل الجنة أشد خوفا وحزنا لأنهم كانوا يخافون انقضاء نعيمهم فيحزنون له. وقد أخبر الله عز وجل أنهم {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ولو كان عذاب أهل النار منقضيا لكان في رجاء الانقضاء والخلاص واحد لهم في الحال، وليس في النار أمن ولا سرور، كما ليس في الجنة خوف ولا حزن. فثبت أن واحدا من الجزائين ليس بمنتقض والله أعلم. ومن العلماء من قال: أن الله عز وجل إنما يدخل النار من يدخلها لأنه خلقهم منها، ويدخل الجنة من يدخلها لأنه خلقهم لها. والطاعة والمعصية علامتان يميز بهما المخلوق للجنة من المخلوق للنار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وقال: "ما أحد يدخل الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته". وقال الله عز وجل {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس} ومن ذهب إلى أن هذا لم يلزمه السؤال الذي قدمت ذكره، لأنه يقول: بأنه خلق الكافر للنار، ولا يغني تناهي دينه في الزمان شيئا والله أعلم. فصل وكل معذب في الآخرة من كافر أو مؤمن، فإنه يميز بينه وبين من لا عذاب عليه عند

نزول الملائكة عليه لقبض روحه، وفي حال القبض، وفي الموضع الذي تصار إليه روحه وبعدما تغير. قال الله عز وجل: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم فيها تدعون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم، ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم} فقيل: إن هذا عند حضرة الموت تبشرهم الملائكة بالجنة وتؤمنهم ما كانوا يخافون، ويعلمونهم أنهم كانوا كونهم في الدنيا ويوالونهم في الآخرة. وقال في الكفار: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} ويقولن لهم هذا تعريفا إياهم أنهم يقدمون على عذاب الحريق. وقال {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم، أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون غير الحق، وكنتم عن آياته تستكبرون}. فدلت هذه الآيات على أن الكفار يعرف عليهم في نزع أرواحهم، وإخراج أنفسهم، ويعرفون مع ذلك أنهم قادمون على الهوان والعذاب الشديد، كما يرفق بالمؤمنين، ويبشرون بما هم قادمون عليه من الأمن والنعيم المقيم. وقال الله عز وجل: {كلا إن كتاب الأبرار لفي علين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون} وقال: {كلا إن كتاب الكفار لفي سجين، وما أدراك ما سجين} فأبان جل ثناؤه: إن الكتاب الذي يشتمل على أن أعمال الأبرار يعلى به فيكون بمشهد المقربين، وذلك- والله أعلم- إشارة إلى أن روحه تعلو به إذا نزع من بدنه ليعرف المقربون أنه روح صاحب الكتاب، فيكون له بذلك شرف وفضل. وإن كتاب الفجار يهوى به إلى أشد المحابس والسجون، وذلك عند جهنم المكتوبة تحت البحار الموارة بها، إلا أن يأذن الله في إبرازها، وذلك- والله أعلم- إشارة إلى

روحه تهوي به فيكون حيث يكون كتابه وصحيفة عمله، ويشاهد من آثار ما هو قادم عليه ما يتعجل الغم والله أعلم. وأما ما ينال المقبور فإن أوله ضغط القبر، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو نجا أحد من ضغطه القبر لنجا سعد بن معاذ". وجاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: لو سمع أحدكم ضغطة القبر لجزع أو قال يجزع، وقيل في قول الله جل ثناؤه: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} المراد عذاب القبر. وفي قول الله عز وجل: {والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} دليل على أن لهم عذابا وأصلا إليهم يوم الموت. وفي قصة بدر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على القليب الذي قد طرحت فيه جيف القتلى من المشركين، فناداهم "يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، حتى عده. هل وجدتم ما وعدكم ربكم حضا، فقيل له يا رسول الله: أتنادي أقواما موتى. فقال: والذي بعثني بالحق، أو قال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول". وفي حديث آخر أنه مر بقبر فقال: "لا دريت، فسئل عن ذلك فقال. أنه سئل عني، فقال: لا أدري، فقلت: لا، دريت". وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث ذكره: "ولقد أوحى إلي أنكم تفتنون في قبوركم، يولى أحدكم في قبره، فيقال: ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم. فأما المؤمن فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى. فأجبناه واتبعناه، فيقال له: علمنا أنك

تقول فيهم صالحاً، فأما المنافق المرتاب فيقول: لا أدري، فيقال له: لا، دريت، ويغلظ له في قبره". فقد أثبتت هذه الأخبار وغيرها أن الموتى يسألون عن دينهم إذا قبروا، وفي بعضها أن ملكين يدعيان منكرا ونكيرا، يأتيان الميت فيسألانه والذي يشبه أن تكون ملائكة السؤال جماعة كثيرة يسمى بعضهم منكرا وبعضهم نكيرا، فيبعثون إلى كل ملك منهما إثنان كما كان الموكل عليه للكتب أعماله في حياته ملكان. فإذا انقضى السؤال، فمن أصاب الجواب أفلح، ولم يكن عليه بأس إلى يوم القيامة، ومن أخطأ وزل، ضرباه بعمود يصير بدنه منها نارا ثم تخمد بإذن الله، بهذا جاءت الرواية. ومن كان من هذه الطبقة، فأمرهم يختلف، لأن الله عز وجل قال في قوم نوح مما {خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} وظاهر ذلك أنهم عوجلوا بالعذاب، وقال في فرعون: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا، ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب}. هذا دون ما دل ظاهر الكتاب عليه من حال قوم نوح صلوات الله عليه، لأن ذلك إنما يدل على إدخال النار. وهذا على العرض على النار، وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المعذبين ما قال، وفي ذلك دلالة على أن أجاب الملكين بجواب المسلمين، فإنه إذا كان مختلطا لم يسلم في القبر من عذاب كان في الآخرة معذبا، وليس يكون في المسلمين مذنب يداني قوم فرعون، فإذا كانوا لا يرادون على العرض على النار وجوبا أن يكون عذاب المسلم المخلط دون ذلك أيضا بدرجات كثيرة والله أعلم. ولم يعلمن أهل السنة خلافا. إن عذاب القبر حق، وإنما تكلم الناس في كيفية التعذيب وفيما يصل إليه العذاب من الشخص المعذب، وإلا ظهر أن السؤال والتعذيب لا تكون إلا مع الأحياء. وقيل في الاحتجاج لهذا أن الله تعالى أخبر عن الكفار، وأنهم يقولون يوم القيامة

{ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين، فاعترفنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من سبيل} وأنهم أرادوا بإحدى الأماتتين. الموت المعروف، وبالأمانة الثانية الموت بعد الأحياء في القبر للسؤال والتعذيب. وبإحدى الإحيائين، الأحياء في القبر للسؤال والتعذيب، وبالأحياء الثاني الأحياء يوم القيامة. فإن قيل: فإن من تعذب غدوا وعشيا يجيء كل غدو وعشي، وهذا يزيد على الرب فضلا عن اثنتين. قيل له: قد قال بعض العلماء في ذلك أن الأحياء في القبر إنما يكون لأدنى جزاء يحتمل الحياة والعقل، فإن كان ذلك كما قاله هؤلاء فلا حرر من أولى، فهذا الحكم من القلب الذي كان من قبل أن يموت ينبوع حياته، ومحل عقله وفهمه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد لمضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) فيسيل ويعذب بم يشاء ويعذب أن كان أهلا للتعذيب، ويكرم إن كان أهلا للتكريم، ثم لا يمات ما دام الله يريد تعذيبه، وإنما يمات إذا رفع العذاب عنه إلى يوم القيامة، فلا يكون الموت على هذا أكثر من اثنين والله أعلم. ومن قال هذا، قال: قد يجوز أن يكون قوم نوح اغرقوا ببعض البحار، والبحر نار يوم القيامة، فعل ما غرقوا فيه جفت عليهم نارا، فصلتهم قبل النيران لا قبل المياه والله أعلم. ولا أعلم لهذا القائل في تخصيصه بعض أجزاء الميت بالأحياء غرضا صحيحا، فإن كان إنما فرضى أن جميع الميت إذا أحيي، فلا يخلو من أن يترك حيا، ما دام الله يريد تعذيبه. أو يحيي كلما عذب وأميت، فإن نزل حيا فلا فرق، وإذا بين المقبور بين المنشور، وإنما هو كالذين على ظهر الأرض، إلا أنه لا يطعم ولا يشرب. وإن أحيي ثم أميت ثم أحيي ثم أميت، لم يكن هذا اماتتين ولا إحياءين. ولكنه يبلغ عددا أكثر لا يحصيه إلا الله جل ثناؤه. فهذا كله في البعض موجود، ولأنه إذا أحيى منه أقل خبر يحتمل الحياة والعقل، لم

يكن هذا الجواب، لأنه ليس كل من يفهم ما يقال له يقدر على الجواب، ولكنه يتاج مع هذا إلى أن يطلق له آلة الكلام كما أطلقت له آلة الفهم ثم إن كل أحيى آلة للفهم وآلة الكلام، لأن السؤال والجواب من دونهما مستحب، فليحيى كله، لأنه إذا جاد في الجواب عن الحق ضرب بعمود يلتهب منه، وفي هذا ما دل على أن الأحياء ينبغي أن يعم جميعه أو يخص بالعذاب قلبه ولسانه وذلك أمر غير معقول والله أعلم. وهذه الطريقة التي شرحناها هي لمن لا يثبت إلا الروح والبدن. فأما من قال: أن الإنسان له أجزاء نفس وروح وبدن، وإنه يقول: إن نفس الحي هي الموصوفة بالعلم والجهل والغم والسرور واللذة والألم، وإذا فارقت البدن مات البدن لأنه يصير بغرض الفساد والبلى بعدما كان بغرض التيسر والنمو. فأما النفس عددها فإنها تبقى حية تعلم وتفهم وتتلذذ وتتألم مما يعمها ويسيرها، وهي في هذه الحالة أشبه بالملائكة منها إذا كانت مجاورة البدن الطاعم الشارب الناكح. فمعنى السؤال في القبر أن يحبس هذه النفس بعد خروجها من البدن، وتورد معه القبر حتى يحضر الملكان فيسألها وهي على صورة بحيال قلبه. فقال: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها} فإن ظهر لهما منها الفجور، علما بأن البدن إنما كان يتصرف فيما يأتمره به النفس الفاجرة، فأي شيء فعلا مما يجري مجرى الإهانة، فإنه وإن وقع بالبدن. فإن النفس التي هي تتعذب بما يخلص إليها من الكرب والخوف، ويقع لها من العلم بأنها إذا أعيدت فيه يوم الجزاء تعذبت معه بما يصل إليه من الشدائد كما تنعمت معه في الدنيا بما وصل إليه من الملاذ، وإن ظهر لهما منه البر انصرفا عنه. ألا أنه إن كانت للميت ذنوب يريد الله تعذيبه عليها في الآخرة، فإن النفس هي تعذب وهي محبوسة في القبر، بلى البدن أم لم يبلى، ويعرض على النار أو تجر بما هي لا فيها، فتكون مكروبة مغمومة بذلك ما شاء الله تعالى جده. وقد يمكن أن تخرج النفس من القبر إذا انقضى السؤال وتورد مورد أمثالها، فتكون في تنعم به من البشارات والاطاعات وتغم به التخوينات والتوبيخات هناك إلا أن

ذلك كله يسمى عذاب القبر، بمعنى أنه العذاب الذي يكون ما دام الميت في القبر لم ينشر منه لم يجمع بينه ويبن ما غاب عنه والله أعلم. ومن قال هذا، قال: إن العذاب لا يسبق الحساب، ولو كان الله عز وجل معذباً قبل الحساب لم يمت بعد، ولينقله عند انتهاء مدته إلى مكان الجزاء الذي أعده له، ويفعل ذلك بالواحد بعد الواحد من غير إمهال وتأخير. فلما أخبر عز وجل أنه: {جامع الناس ليوم لا ريب فيه} ومحييهم وباعثهم ومحاسبهم وجازيهم بما تنطق به كتبهم وصحف أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر وذلك بعد أن توزن. وتميز بين (من) ثقلت موازينه وبين من خفت موازينه، علمنا أن الذي سبق هذه الأمور بعد الموت هو السؤال ثم التبشير والإنذار والتخويف والإيمان والإطماع في الجنة، أو العرض على النار. وهذه كلها مما يكفي النفس لها، وليست تحتاج إلى البدن فيها، وإنما تحتاج إليه إذا جاء الوقت الذي يوفى فيه الموعود من تغريق في الهوان، أو تقليب في نعيم الجنان، ويدل على ذلك أن الأخبار وإن جاءت بعذاب القبر فليس في شيء منها إن من لا عذاب عليه يطعم أو يسقى أو يلبس في قبره، فعلمنا أن ما تأجل في ذلك للمحسن، فإن خلافه أيضاً يتأجل للمسيء، وإن التعجيل للفريقين ما ذكر والله أعلم. ومن قال هذا، قال: معنى أمتنا باثنتين وأحييتنا اثنتين، امتنا بارسالنا من اصلاب آبائنا نطفة ميتة، ثم أحييتنا في أرحام أمهاتنا، هم أمتنا في الدنيا ثم أحييتنا يوم القيامة ويحتمل أن يقال أن الميت كلما يحيى للسؤال لأنه إنما يقع في البدن الذي يعم النفس والبدن. فإذا انقضى السؤال فالجواب أميت ولعل معنى ذلك- والله أعلم- إن الميت قد حول من ظهر الأرض إلى بطنها الذي هو الطريق إلى الهاوية، فيوقف في قبره ويحيى ثم يسأل، فإن وجده الملكان من الأبرار عرجت الملائكة بنفسه وروحه إلى عليين وكان ذلك نظيرا أن يوقف في المحشر على تشفير جهنم، ويستعرض عمله، فإذا وجد في الأبرار أجيز على الصراط، وإن وجده الملكان من الفجار هوت الملائكة بنفسه وروحه إلى

سجين، وكان ذلك نظير أن يوقف في المحشر على شفير جهنم، فإذا نظر في عمله فوجد من الفجار التي في النار. فأما ما وراء ذلك من عذاب أحداً من المسلمين لا تداني ذنوبه ذنوب آل فرعون، فإذا كان الله عز وجل لم يعاملهم قبل الآخرة بأكثر من العرض على النار دون إحساسها أبدانهم، رجونا من فضله ورأفته أن لا يمس مسلماً ناراً قبل أن يورده الآخرة، وكل ما دون ذلك من إرغاب وتخويف وتعريض للحسرات والندامات، أو خلاف ذلك من أطماع وتبشير وإعلام بالمحاب والمسرات، فإن النفس لا تحتاج في الإجابة إلى البدن فيكون ما يكون لها وعليها والله أعلم. وفي هذا الرأي جمع بين القولين الذين سبق أيضا ضمهما، فيكاد من هذا الوجه أن يكون وسطاً والله أعلم. وإنما نذكر هذه الوجوه إزاحة لما عسى يعترض به الملحدون وينسبون إليه أخبار الديانات وحبيها بالامتناع إليه فيا لعقول، لكن له مكان الوجه الواحد أوجهاً، وإلا فالأولى بالمسلم الإيمان بما يثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم له دون أن يتوقف في ذلك إلى أن يبين له وجهه. فإن الصحابة قبلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبرهم به وأنذرهم إياه من عذاب القبر وغيره، ولم يراجعه فيه منهم أحد، ولا سأله عن وجهه وكيفيته، فكذلك ينبغي لمن بعدهم أن يفعل فيكون التابعين لهم بإحسان وبالله التوفيق. فصل إن سأل سائل عن معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه). قيل له: هذا حديث رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابنه عبد الله يزعم ولما بلغ عائشة رضي الله عنها قولهما، قالت انكم لتحدثون من غير كاذبين، ولكن السمع قد يخطئ، إن الله أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه وفي رواية أخرى قالت عائشة: إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية فقال: (إنكم لتبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها) ولكن للحديث وجوهاً إذا حمل عليها خرج خروجاً حسناً. ولم تقع ضرورة إلى تغليط عمر وابن عمر مع فضلهما وكبر محلهما، أحدهما: أن أهل الجاهلية كانوا يوصون بأن يناح عليهم إذا ماتوا وتذكر أحوالهم ومقاماتهم، فكان إذا مات أحدهم بكى عليه أولياؤه، وأقاموا عليه النوح، يذكرون أعماله وعاداته، وحروبه وركوبه المحارم من النساء، وغيرهن، فقل إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الميت يعذب ببكاء أهله عليه) إذ بكاؤهم عليه بوصيته وعلى الوجه الذي بينته. وقيل قد يجوز أن يكون الميت قد استحق عذاباً بذنوبه غير أن الله تعالى قضى أن أهله إن بكوا عليه عذبه بذنوبه، وإن تركوا البكاء عليه ترك تعذيبه ثواباً بصبرهم، ويبلغ النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) كي إذا سمع أهل الميت هذا وعرفوه تركوا البكاء عليه وارتدعوا كما يكون سبقاً لإيصال العذاب إليه. ويقال يعذب ببكاء أهله عليه، وإن بكاؤهم عليه إن لم يكن مؤمناً لتعذيبه، فقد كان سبباً لتعذيبه بذنبه، فيجوز في الكلام أن يقال عذب ببكاء أهله وهذا تأويل يليق بالمسلمين خاصة، لأن الله تعالى يترك تعذيب الكافر بصبر أهله عليه عن البكاء عليه، ولا يعرض أهل الكفار أيضا من صبرهم أن لا يعذب ميتهم. وقيل: المعنى أن المختصر إذا رأى أهله يبكون عليه البكاء المفرط، فأعجبه ذلك منهم فسكت وأراد عنه ليثيبوا عليه رضاء منهم بصنيعهم، وقد كان قيمهم وصاحب أمرهم فكان عليه زجرهم عما لا يجوز، فلما لم يفعل، قام ذلك مقام لآمر به، فلذلك عذب.

وقيل: سواء كان المعنى هذا، والوصية بالندبة والنياحة، فليس في هذا الحديث إلا أنه يعذب ببكاء أهله عليه، وليس فيه متى يعذب فقد يجوز أن يكون المعنى يوم القيامة، وليس يجب البحث عن معنى هذا الحديث للوقت. فإن التعذيب في القبر ليس بمتنكر. وقد جاء في اليهودية أنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها، وإنما يجب الوقوف على معنى تعذيب الميت ببكاء الحي عليه. وقد ذكرنا من ذلك منا ما فيه الكفاية وبالله التوفيق.

العاشر من شعب الإيمان وهو باب في محبة الله جل ثناؤه

العاشر من شعب الإيمان وهو باب في محبة الله جل ثناؤه قال الله تعالى: {ومن الناس يتخذ من دون الله أنداداً، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حباً لله}. فدل ذلك على أن حب الله تعالى. ويدعو إلأيه. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فالرجل يحب المرء لا يحبه إلا الله. والرجل إن قذف في النار كان أحب إليه من أن يرجع يهودياً أو نصرانياً" فبان بهذا الحديث أيضاً أن حب الله تعالى جده من الإيمان. وقال الله جل ثناؤه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فأبان عز وجل أن اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم من موجبات محبة الله. فإذا (كان) اتباع النبي صلى الله عليه وسلم إيماناً فقد وجب أن يكون حب الله الموجب له إيماناً من العبد، كما أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لما كان من موجبات الإقرار بالله تعالى. فكان بنفسه إيمانا، كان الإقرار الموجب له إيماناً من العبد والله أعلم. فصل فإن قال قائل: ما معنى محبة الله تعالى جده؟ قيل له: إن محبة الله تبارك وتعالى ليست اسماً لمعنى واحد ولكنه اسم لمعان كثيرة. أحدهما: اعتقاد أنه- عز اسمه- محمود من كل وجه، لا شيء من صفاته إلا وهو مدح له.

والثاني: اعتقاد أنه محسن إلى عباده بنعم متفضل عليهم. والثالث: أن الإحسان الواقع منه اكبر وأجل من أن يقضي قول العبد وعمله، وإن حسناً وكثرا شكره. والرابع: أن لا يستقل العبد قضاياه ولا يستكبر تكاليفه. والخامس: أن يكون في عامة الأوقات مشفقاً وجلاً من إعراضه عنه، وسلبه معرفته التي أكرمه بها، وتوحيده الذي حلاه وزينه به. والسادس: أن تكون آماله معقودة به، ألا ترى في حال من الأحوال أنه غني عنه. والسابع: أن تجمله يمكن هذه المعاني في قلبه، في أن يديم ذكره بأحسن ما يقدر عليه. والثامن: أن يحرص على أداء الفرائض والتقرب إليه من نوافل الخير بما يطيقه. والتاسع: أنه إن سمع من غيره بني عليه، وعرف منه تقرباً إليه، وجهاداً في سبيله سراً وعلانية مالاه وولاه. والعاشر: أنه سمع من أحد ذكراً له بما يجل عنه، أو عرف عنه عناء عن سبله شراً وعلانية فأنبه وناوأه، فإذا استجرت هذه المعاني في قلب أحد فاستجماعها من المشار إليه باسم محبة الله تعالى جده وهي إن لم تذكر مجتمعة في موضع، فقد جاءت مفرقة عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونه. فما جاء عنه صلى الله عليه وسلم مما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنه فإنه قال: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة" وهذا يحتمل أن يكون عاملا بالأنعمة كلها، وأن يكون اسم الغذاء في الطعام والشراب حقيقة، ولما عداهما من التوفيق والهداية ونصب أعلام المعرفة، وخلق الحواس والعقل مجازاً، ويكون جميع ذلك بالاسم مراداً. فقد جاء في بعض الأخبار- وقد رويناه- ثلاث من كن فيه، وجد حلاوة الإيمان" وفي بعضها "طعم الإيمان جازت تسميته غذاء" فيدخل الأيمان وجميع نعم الله في هذا الحديث والله أعلم.

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "علامة حب الله تعالى جده، لم يعد المصائب التي يمتضيها عليه إساءة منه إليه، ولم يستقل وظائف عبادته وتكاليفه المكتوبة عليه، كما أن من أحب أحداً من جنسه لم يلد يبصر منه إلا ما يستحسنه ويزيده إعجاباً به ولا يصدق به من خير المخبرين عنه إلا ما يجده سبباً للولوغ به والغلو في محبته" وجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: من ذاق حب الله تعالى شغله ذلك عن حب الدنيا، وهذا لأنه إذا تشاغل بالدنيا عن عمارة السبل التي تؤدي إلى الله تعالى جده لم يأمن أن يقطع الله عنه الطاقة ويكله إلى نفسه. وقد حكى الله جل جلاله عن أهل الجنة أنهم يقولون {إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين}. فقيل في تفسير: كانوا مشفقين أن يسلبوا الإسلام، وهذا أحد ما تقدم ذكره. وجاء بعض المتقدمين أنه قال: لا يكون العبد محباً لربه حتى يذل نفسه في مرضات الله ظاهراً وباطناً وعن بعضهم أنه قال علامة من أحب الله أن يحب ما أحب الله، ويبغض ما أبغض الله، وعلامة من أحب الله أن يبغض الدنيا ومتاعها ويقال أن في كتاب داود عليه السلام: من أحب الله لجأ إلى طاعته، ومن أبغض الله لجأ إلى معصيته. وعن سعيد المقبري رضي الله عنه أنه قال: مفتاح حب الله تعالى معرفة منه الله. وقال بعض السلف: أول أحوال المحبة الموافقة والإقفال على من هو مقبل عليه، والإعراض عمن هو معرض عنه، وخوف السقوط من عينيه، قال ومن علامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب القرآن فحب القرآن ما احمداه وبعض ما ذماه. قال بعضهم: علامة المحبة استجلاء الطاعة ولزوم الخدمة وإدامة الفكرة. وقال بعضهم: الحب اللزوم، فإن من أحب شيئاً لزم ذكره قلبه فمحبة الله تعالى لزوم ذكرهن وهذا الذي فسر به هذا القول: المحبة من أنه اللزوم وموافق لقول أهل اللسان لأنهم يقولون: أحب وإذا ترك فلزم مكانه. وقيل في قوله عز وجل حكاية عن سليمان عليه السلام: "إني أحببت، أي كسلت فأقمت مكاني من حب الخيل حتى توارت الشمس بالحجاب، ولم أقم الصلاة. وقد قال عز وجل

لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} أي إنكم تحبون الله فإني قائم بالدعاء إلى الله جل ثناؤه، وأداء حقوقه والجهاد في سبيله وإعلاء كلمته وحشر الناس إلى دينه، فلا أحد أشد موافقة لكم مني، فأحبوني تحبوا الله، واتبعوني فإن محبتكم لله تعالى تقتضي اتباعي لا مخالفتي والإزورار عني، فإن أبيتم فاعلموا أنكم غير محبي الله، وإن اسم العداوة والبغض أولى بكم وألزم بكم من اسم المحبة والله أعلم. وقال الله عز وجل: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين}. فأعلمهم جل ثناؤه أنهم إذا قعدوا عن الجهاد إشفاقاً من أن يصابوا فيتضرر بذلك قراباتهم أو حسرة على المساكن التي يرضونها، وأسفاً على ما يفوتهم من التنعم بسكناها، أوشحاً بالأموال التي اكتسبوها، وخوفا من نقصانها، لم يكونوا محبين الله عز وجل بل كان ما يتركون لأجله الجهاد في سبيله، ويحملوا بسببه كفر الكفار، وغيهم وانتهاكهم محمارم الله، هو الأحب إليهم والآثر لديهم. فإن واحداً من أمثالهم لو سبهم وأذاهم وأسمعهم في أنفسهم أو في بعض أسلافهم، وحسب لأحدهم امرأة وجارية لقاتلوه ولم ينتفعوا على أموالهم ولا مساكنهم ولا على ما يكسد من تجارتهم. وإذا سمعوا الذين يلحدون في أسماء الله. ويستهزئون بآيات الله، وعرفوا ما قدم أسلافهم من قبل الأنبياء صلوات الله عليهم، وأنهم اليوم لفعلهم راضون، ثم لم يوادوهم إشفاقاً على القرابات والأموال أو على الأنفس لم يكونوا محبين لله تعالى جده حقاً، بل كانوا أحب بغيره منه، أي لا ينبغي أن يكون ذلك كذلك، بل خلاف ذلك هو الأولى بكم والألزم لكم، فثبت بجميع ما يثبت أن حب الله تعالى من الإيمان وبالله التوفيق. فإن سأل سائل: عن قول الله عز وجل: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} فإذا أريد به: الذين يعترفون بالله جل ثناؤه. فإن ظاهره

يوجب أن يكون الكفار محبين لله جل ثناؤه، ولولا ذلك لم يقل: يحبونهم كحب الله، أي كحبهم لله. قيل له: قد يجوز أن يكون المعنى يحبونهم كالحب الذي ينبغي أن يكون لله عز وجل وقد يحتمل أن يكون أراد به المشركين الذين يعترفون بالله عز وجل ويزعمون أنهم يحبونه، وهو أيضاً يحبهم، غير أنهم مشركون به بعض خلقه، كالنصارى الذين يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وزعموا مع ذلك أن المسيح ابن الله. ومشركي العرب الذين عبدوا الأوثان وعظموا، وقاتلوا من سبها، هي بعينها، وقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فأحبوا الله تعالى وأحبوا الأوثان أكثر من حبهم لهم، فحبط بذلك حبهم لله تعالى، ولم يحصلوا على ثواب واستحقوا بإيجادهم الأنداد من دونه أعظم العقاب والله أعلم. فصل فأما ما بدأ بذكره من معاني المحبة وهو في اعتقاد أن الله عز وجل محمود ممدوح من كل وجه، فإنه أبين أركان المحبة إذا كانت العبادة الجارية ماضية به، فإن أحداً لا يحب المذمة تكون فيه، وإنه يحب لمحمده يعرفها له إما بالإطلاق وإما بحسب ما يكون عنده فيها. فإما بالإطلاق: فنحو محبة المسلمين بعضهم بعضاً لأن المواتاة والموافقة من بعض لبعض محمودة عندهم، وإن كانت الموافقة على الخير هي المتسوفية للحمل. فثبت أن الحب لا يكون إلا على ما يحمدون ما يذم بحبة الله تعالى، أولها: اعتقاد أن كلها مدائح، وهي كذلك بالحقيقة، فوجبت لها المحبة عليها وبالله التوفيق. وكذلك اعتقاد المعنيين الآخرين وهما إحسانه وإنعامه، وإلا مجاوزتها حد ما يأتي عليه الشكر، هما باللسان للمعنى الذي تقدم ذكره، لأن أولها يلزم الشكر والآخر يضاعفه والأول يلزمه المنة والآخر يؤنس من إسقاطها، نوكل واحد منهما ينافي البغض لأن من أبغض أحداً لم يستطع حمده ونشر محاسنه، والاعتراف له بالفضل والأفضال.

ومن أنس من مقابلة منعم إذا شكره علم أن أقل ما يلزمه له أن يعتقد أنه مرتهن بحقه، ويصلح قلبه له حتى لا يتمكن منه ما لو بدأ المنعم يكرهه، ولا بتوطئه إلا ما ظهر له منه كبيرة وأعجبه، والله عز وجل لا يخفى عليه شيء ولا إنعام يعدل إنعامه، ولا إحسان يوازي إحسانه. فهو أحق بأن لا يعتقد العبد في ذاته إلا ما يرضاه، ويعصي في ارتكاب ما يكرهه هواه وبالله التوفيق. وكذلك ما ذكرته في ترك الإشتغال لقضاياه، وتر الاستكثار لتكاليفه، لا استقال القضايا واستشعار ظلم، واستكثار التكاليف واستشعار حمل، وكل واحد منهما حقا وأعيان فمن أضمر هذا للآخر في نفسه فقد سهل لبغضه لأن المظلوم لا يحب الظالم ولا المحمول عليه الحامل. وأما إذا لم يستقل القضايا وعلم ما نفذ فيه قضاؤه فإنما كان ملكه، وكان أولى به منه أو تجاوز ذلك إلى أن يستجلي ما يجزي به القضايا لأجل إنما عرض، فمن قبل المولى من قبل أحد، لقوله: وواحد، فيكون ذلك عائدا عليه بفضاضة وحقارة، فناهيك بالأمرين: أما أولها فإبعاد لما يفسد المحبة عن القلب، والآخر فيوصل إلى اكتساب محبة الله، وكل واحد منهما مما تبعث عليه الرغبة في رضا الله جل جلاله، والكراهة تسخطه، وإذا لم ينكر الفرائض علم أن الله تعالى قد أبقى عليه ولم يخرجه، ويساهله ولم يشدد عليه، فدعاه ذلك إلى نعيم طاعته، ويطلب رضاه وموافقته. فإن الإتقاء ممن يملك الاستيفاء اتصال، كما أن الاستيفاء ممن يملك الاتقاء شديدو الإيفاء والإنعام والإفضال عن دواعي المحبة والبواعث عليها. وكذلك للإشفاق من انقطاع نظر الله جل جلاله هو اكدار كان المحبة، لأن الإشفاق لا يكون إلا على مظنون به متنافس فيه فمن كان نظره إلى ما أكرمه الله تعالى من معرفته وتوحيده هذا النظر دل ذلك من حاله على علمه بحقه. والعارف بحق سيده والمنعم عليه لا يكون مبغضا له وكذلك تعلق الأمل بالله عز وجل، مع العلم بأنه لا غنى عنه، وأنه جواد كريم هو من أسباب المحبة، لأن أحدا لا

يبغض من لا يصل إلى محبوبه إلا به ومن قلبه، فكذلك يجب من يوصله إليه، ولاسيما إذا لم يكن له إليه موصل غيره، وكان كريما يصدق الأمان ويكثر الأفضال ويحب الدعاء ولا يحب الرجاء. وكذلك هيجان القلب للذكر الحسن والتقرب بنوافل الخير، ومولاة من يجده على طريقته، ومناوأة من لا يجده وتبرئه منه، والغلظة عليه كل ذلك من أركان المحبة في العبادات المعروف، وهو أمر لازم للطباع. وقد قال الله عز وجل: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان}، ومن يتولهم منكم، فإنه منهم}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}. فدل ذلك على أن ولاية الله تعالى جده لا تفارق موالاة أعدائه من أعلام ولايته ومحبته والله أعلم. فصل فأما إدامة ذكر الله تعالى جده التي ذكرناها أنها من إمارات المحبة، فقد جاء منها قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا} وقوله عز وجل: {فاذكروني أذكركم}. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الأحوال التي يستحب الذكر فيها وفي فضيلته والحث عليه أخبار، فمنها ما جاء في الحث والاستكثار من الذكر، فإنه ليس شيء أفضل من ذكر الله، ولو اجتمع الناس على ما أمروا به من ذكر الله ما كتب الله الجهاد على عباده وإن الجهاد شعبة من ذكر الله.

وفي هذا الحديث أن المراد بالذكر ليس هو الذكر باللسان وحده ولكنه جامع اللسان والقلب، والذكر بالقلب أفضل لأن الذكر باللسان لا يردع عن شيء، والذكر بالقلب يردع عن التقصير في الطاعات والتهافت في المعاصي والسيئات، وعنه صلى الله عليه وسلم، أنه أتى في طريق مكة على جبل فقال: "الله أكبر، هذا حمدان، سبق المؤذنون قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات". وفي بعض الروايات: "الذين اهتزوا بذكر الله". وعنه صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر عن الله تعالى جده: "أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه يعني باسمي وقال- إن أهل الجنة لا يتحسرون على شيء إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله فيها". ومنها ما جاء في لزوم مجالس الذكر ومصاحبة أهله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برباط الجنة فارتموا، قالوا يا رسول الله، وما رباط الجنة؟ قال: مجالس الذكر، فأعدوا فيها وروحوا في ذكر الله" وعنه صلى الله عليه وسلم: (ما لمجتمع قوم يذكرون الله إلا حتفهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده". ومنها ما جاء في عمارة البيت بذكر الله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت". ومنها: الأحتراز من الشيطان بذكر الله تعالى جده، يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أوحى الله إلى يحيى ثم زكريا عليه السلام أن الله يأمر الناس بكر الله تعالى". ثم قال: "مثل ذاكر الله كمثل رجل طلبه العدو وسارع في أثره حتى أتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه، فكذلك العبد لا ينجو من الشيطان إلا بذكر الله". وعنه

صلى الله عليه وسلم: "أن الشيطان واضع خطمه في قلب ابن آدم، فإن ذكر الله حبس وإن نسي الله التقم قلبه". ومنها: ما جاء في مفارقة المجلس من غير ذكر الله تعالى جده فيه ثم يفرقوا عنه إلا كان كأنما يفرقوا عن صفة حمار، وكان ذلك عليهم حسرة يوم القيامة. ومنها: "الذكر عند كل اضطجاعه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كان شره عليه يوم القيامة". ومنها الذكر عند كل مشي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مشى مشيا لم يذكر الله فيه، كان عليه برة يوم القيامة". ومنا ذكر الله عز وجل عند كل حجر ومدر وشجر، قال معاذ بن جبل رضي الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أوصني! قال: "اذكر الله عند كل حجر وشجر، واتق الله ما استطعت". ومنها الذكر في الخلوة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي زرين: "يا أبا زرين، إذا خلو فأكثر ذكر الله" والأغلب أن المراد به في هذا الحديث ذكر القلب، لئلا يكون منه في الخلوة ذنب لا يستطاع منه في الملاء. وعنه صلى الله عليه وسلم: "سبعة في ظل الله يوم القيامة منهم رجلا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". ومنها الذكر في الملأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن الله عز وجل "أنا مع عبدي إذا ذكرني، فإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وأطيب". ومنها الذكر الخفي، وهو ضربان: أحدهما الذكر في النفس، وقد قال الله عز وجل

{واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية} والآخر ما دار به اللسان ولم يسمعه إلا صاحبه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي". وقال: "يفضل الذكر الخفي الذي لم تسمعه الحفظة على الذي سمعته الحفظة سبعين ضعفا". ومنها الذكر عند الشدة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيما يؤثر عن الله جل جلاله: عبدي الذي هو عبدي حقا الذي يذكرني وهو ملاق}. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى لمن أكثر من ذكر الله جل ثناؤه في الجهاد، والكلمة بسبعين ألف". ومنها: الذكر بعد الغداة إلى طلوع الشمس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن أجلس إلى قوم يذكرون الله بعد صلاة الغداة إلى أن تطلع الشمس، أحب إلى مما طلعت عليه الشمس". ومنها- الذكر بعد العصر إلى غروب الشمس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد العصر إلى غروب الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس". ومنها: الذكر بين الغافلين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل في الغازين، وذاكر الله في الغافلين مثل المصباح في البيت المظلم، وذاكر الله في الغافلين مثله مثل الشجرة الخضراء وسط الشجر الذي قد تجاف ورقها، وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأبكم، وذاكر الله في الغافلين يعرفه الله مقعده في الجنة". ومنها: الاشتغال بالذكر عن المله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها ذكره الله عز وجل:

"من شغله ذكري عن ملتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" ثم الذي شذ عن هذا كله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أكثر من ذكر الله بريء من النفاق". وعن معاذ بن جبل رصي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإيمان أفضل؟ قال: "أن تعمل لسانك في ذكر الله" فبان بهذا أن ذكر الله تعالى إيمان وإذا كان الذكر وهو مما يبعث عليه الحب والخوف، وكل واحد منهما كسب العبد، ثبت أنهما إيمان، كما أن عقد القلب لما كان هو الباعث على الإقرار باللسان، وكان الإقرار إيمانا، كان الاعتقاد إيمانا، والله أعلم. وإذا كان محل ذكر الله عز وجل ما وصفت، كان من حق المبد أن يحافظ عليه، ولا يخل به ما استطاع ثم أن يتخري من الأذكار ما طهر فضله وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحث عليه. فمن ذلك قوله الذي صح منه: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحا الله وبحمده، سبحان الله العظيم". ومن ذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربع كلمات لا تضرك هذه دابة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر". وقد خصت بهذه الأذكار صلاة شرع التنفل بها لمن أحب، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قدم من أرض الحبشة: "ألا أخبرك إلا لنجيك" فعلمه هذه الصلاة. وروي عنه صلى الله عليه الصلاة والسلام أنه علمها العباسي، وأمره أن يصليها كل يوم مرة فقال لا أستطيع قال ففي كل جمعة. قال: لا أستطيع. قال: في كل شهر. فقال: لا أستطيع. قال: ففي كل سنة مرة تكبر الله وتقرأ الفاتحة وسورة ثم تقول: سبحان الله والحمد لهل ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها عشرا، ثم ترفع فتقولها عشرا. وفي الثانية مثل ذلك، فذلك مائة وخمسون مرة، ومن ذلك الاستغفار.

قال الله عز وجل: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "للقلوب صدأ كصدأ النحاس، وجلاؤها الاستغفار" وعنه صلى الله عليه وسلم: "من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، وفي كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب" وقال "إن لأستغفر الله في اليوم مائة مرة". وعنه صلى الله عليه وسلم: "ما لقي عبد ربه في صحيفته بشيء خير له من الاستغفار". وعنه صلى الله عليه وسلم: "من استغفر الله إذا وجبت الشمس سبعين مرة غفر له ذنبه" وشكا إليه صلى الله عليه وسلم حذيفة دون اللسان على أهله، وقال إني أخشى أن يدخلني النار: فقال له: "فأين له أنت يا حذيفة من الاستغفار، فإني أستغفر الله كل يوم مائة مرة" وبالله التوفيق.

الحادي عشر من شعب الإيمان -وهو باب في الخوف من الله تعالى-

الحادي عشر من شعب الإيمان -وهو باب في الخوف من الله تعالى- قال الله عز وجل: "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين". وقال تعالى: {فلا تخشوا الناس اخشوني}. وقال: {وإياي فارهبون}. وقال تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية}. وأتى على ملائكته يخوفهم فقال: {وهم من خشيته مشفقون}. ومدح أنبياءه عليهم السلام وأولياءه مثل ذلك فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا، وكانوا لنا خاشعين}. وقال: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب}. وعاتب الكفار على غفلتهم، فقال: {ما لكم لا ترجون لله وقارا، وقد خلقكم أطوارا} فقيل في تسفيره ما لكملا تخافون عظمة الله، وذمهم في آية أخرى فقال: {الذين لا يرجون لقاءنا}. أراد به لا يخافون. فدل جميع ما وصفنا على أن الخوف من الله من تمام الاعتراف بملكه وسلطانه، ونفاذ مشيئته في خلقه. فإن إغفال ذلك إغفال للعبوده، غذ كان من حق كل عبد ومملوك أن

يكون راهباً لمولاه لثبوت يد المولى عليه، وعجز العبد عن مقاومته، وترك الانقياد له. والخوف على وجوه: احدها: أما يحدث عن معرفة العبد بذلة نفسه، وهو أنها وقصورها وعجزها عن الامتناع عن الله تعالى، إن أراده بسوء. وهذا نظير خوف الولد والديه، وخوف الناس سلطانهم، وإن كان عادلا محسنا، وخوف المماليك ملاكهم. والثاني: ما يحدث من المحبة، وهو أن يكون العبد في غاية الأوقاف وجلا من أن يكله الله إلى نفسه ويمنعه مواد التوفيق، ويقطع دونه الأسباب. وهذا خلق كل مملوك أحسن إليه سيده يعرف قدره إحسانه واجبه عليه، وإنه لا يزال مشفقا على منزلته عنده، خائفا من السقوط عنها والفقد لها. والثالث: ما يحدث عن الوعيد، وهذا دون هذه الأنواع وتألفها بالأنفس الخسيسة التي لا يأتيها ولا قوي فعلها مريض. ومن كان من هذا النوع فإنه قد يحدث عند الهم بالمعصية، فأما أن يردع عن مواقعها فيكون قد وقع. وأما أن لا يقطع به ارتداع فيصير سببا ليغلظ المعصية، فإن مواقعتها على ذكر من الوعيد، أغلظ من مواقعتها على غفلة وسهو عنه، وقد يحدث بعد المعصية، فأما أن يحدث يوما عاجلا أو آجلا، فيكون قد أفاد خيرا، وأما أن يتبعه سهو نسيان، فيعود الخائف بعده كما كان. وقد نبه الكتاب على هذه الأنواع كلها. فأما الأول فقوله عز وجل: {ما لكم لا ترجون لله وقارا} أي تخافون لله عظمة. ولا فرق بين أن يقول السيد لمملوكه: ما لك لا تخاف سلطاني ومملكتي، وبين أن يقول له: ما لا تعرف نفسك قدرها، ولا ينزلها منزلة مثلها. فبين أن الكلامين يراد بهما تقدير حال العبد عند نفسه لئلا يأمن من سطوة سيده، ويدعوه ذله إلى مفارقة طاعته. وأما ما هو أبين من هذا فقوله عز وجل: وإذا مسكن الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوران أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا. أم أمنتم أن يعيد من فيه تارة أخرى فيرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا. أم أمنتك أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا علينا به تبيعا}.

فعرفهم أنه لا ينبغي لهم في حال من الأحوال أن يفارقوا طاعته أو يقصروا فيه مستبشرين منه أمر لما يرونه من نعمه السابغة عليهم مقدرين أنه راض منهم بالتستر من الطاعة التي يوفونه من أنفسهم، فإنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون. بل سبيلهم في الأحوال كلها أن يكونوا مشفقين من سخطته ومؤاخذته، محضرين بقلوبهم أنه إن أراد بهم بلاء سوى دونه ما كان لم يجدوا من يدفع عنهم ولا من يمنعه بما يهلكهم منهم. وأما الثاني: فإن الله عز وجل أثنى على الذين يدعونه فيقولون: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} وسماهم راسخين في العلم. ومعلوم أن أحدا لا يدعو فيقول: رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، إلا وهو خائف على الهدى (الذي) أكرمه الله تعالى به، من أن يسلبه إياه. كما أن أحدا لا يدعو: رب لا تسلبني سمعي وبصري بعدما جعلتهما لي، وهو خائف عليهما، وجل من ذهابهما. فلما أثنى الله تعالى على الداعين إياه بما ذكرنا، كان ذلك الثناء في الحقيقة مما استحقوا بمعرفتهم قدر النعمة عليهم في هداية الله تعالى إياهم، وحبهم بها، لأن دعائهم عنها بشأنها ولأجلها كان وقال عز وجل حكاية عن أهل الجنة أنهم يقولون: إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم}. وجاء في التفسير: أنهم كانوا مشفقين من أن يسلبوا الإيمان ثم يوردوا يوم القيامة موارد الأشقياء، وكانوا يدعون الله تعالى بأن لا يفعل بهم ذلك، وهذا عين ما ذكرت، والقول في عامة نعم الله تعالى كالقول في الإسلام، وإن كان الإسلام أعلاها وأعظمها. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدعو: "رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين" وهذا أيضا للإشفاق من أنه إذا سلب التوفيق لم يملك نفسه ولا يأمن أن يضيع الطاعات ويتبع الشهوات فينبغي لكل مسلم أن يكون هذا الخوف من همه وبالله التوفيق

وأما الثالث: فما أكثر ما في القرآن من ذكره والبعث عليه. قال الله عز وجل في غير موضع: يا أيها الناس اتقوا ربكم وقال {وإياي فاتقون}. وقال: واتقوني يا أولي الألباب وقال: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا، وقودها الناس والحجارة}. إلى غير ذلك من الآيات الكثير المجتمعة المعاني ومرجعها إلى الأمر بالتقوى. وهو أن يقي المخاطبون أنفسهم نار جهنم بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه. ومعنى اتقوني: اتقوا عذابي ومؤاخذتي، والكلام لا يحتمل غيره والله أعلم. ولعل الإخافة بالوعيد إنما هي لأنه ليس كل مخاطب يكمل لأن يلتقي ما يعرفه من ذلة نفسه وعظمة الله تعالى عن التحويل على ما فيه رضى الله تعالى بالوعيد، فكان الوعيد بينها لأهل الغفلة، ودلالة على ما في العصيان من الشقوة. وقد جاء في هذا المعنى أخبار كثيرة مرجعها إلى ما ذكت والله أعلم. فصل وقد يجد الناس في أنفسهم الخوف من أشياء كثيرة مثل خوف الوالد من موت ولده، وذهب ماله والغرق أو الحرق أو الهدم، أو ذهاب السمع أو الوقوع بيد سلطان جائر أو ابتلاء بسبع أو عدو ومن كان وما يشبه ما ذكرنا من أصناف المكاره، إلا أن هذا ينقسم إلى محمود ومذموم: فالمحمود أن يكون الخوف من هذه الأمور مما يمكن أن يكون تحتها من سخط الله جل ثناؤه، فإنها قد تكون عقوبات ومؤاخذات ممن خافها وامتنع لأجلها من المعاصي خيفة النار، وكذلك أن خشي أن يكون أخذ الله تعالى منه ما أعطاه إيلاء واختبارا حتى أن صبروا واحتسب اثابه، وإن جزع واضطرب لم يسلم لقضائه، زاده مثلها، فخاف أن ذلك أن كان لم يملك نفسه، وكان منه بعض من لا يحبه الله تعالى جده. ومن

هذا الوجه كان إشفاقه وكراهيته لهذه الأمور. فهذا أيضا محمود، وهذا خوف ينشأ من المحبة والتعظيم جميعا. وأما المذموم فهو أن يكون خوفه بعض هذه الأمور لحرصه على ماله منها من المنافع الدنيوية، وشدة ركونه إليها في مثله إلى التكثر بماله منها، والتوصل بها إلى ما يريد ويهوي، كان في ذلك رضى الله أو سخطه، وإنما كان مذموما للغرض الذي كان ينشأ هذا الخوف، ولأن جميع نعم الله عند العبد من مال وولد وما يشتهيها إنما هي عوادي والركون إلى العوادي ليس من فعل العقلاء والمخلصين. فصل فأما شرائع الخوف فمنها أن يتهيب العبد بآيات الله التي يهب خلقه لخسوف الشمس والقمر والزلازل والرياح والعواصف والرعد والبرق والظلمة في غير وقتها، وانقطاع المطر في وقته ونحو ذلك. فإن الله عز وجل وضع في قلوب عباده الانزعاج لهذه الحوادث، كما وضع فيها السكون والطمأنينة لما يخالفها، فلما كان ضياء الشمس والقمر، وهدوء الأرض وسكون الرياح المؤذية وخلق الحساب من الرعد والبرق وصفاء الهواء ونزول المطر في وقته نعمة. وروحا من الله تعالى ورحمة وجب أن يكون ما بخلافها تهيبا وتخويفا ومؤاخذة. قال الله عز وجل: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} فمن غفل عمن يبدو له من ذلك ولم يترك لأجله قبيحا كان فاعله ازداد جرمه وتغلظ ذنبه واستحق من العقاب ما لم يكن مستحقا قبله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفا لموت واحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى" وفي رواية أخرى (إلى الصلاة).

وفي حديث آخر: "ولكن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له" فقد يحتمل أن يكون معنى هذا أن الله تعالى إذا ظهرت قدرته على شيء فيه ما يريد، ولم يكن امتناع عليه. وكذلك إذا تجلى لكم بأن خالف بكم ما عودكم وسلب الشمس وضياءها في نهاركم، أو القمر نوره في ليلكم، فأحسنوا له بأن تصلوا وتسبحوا وتقدسوا وتستغفروا ولا يمنعكم عن ذلك أن تقولوا: عن قريب ستجلوا اعتمادا على عادة ألفتموها، فإنه إذا تجلى كان ذلك التجلي ابتداء نعمة منه ينعمها عليه، وليس يجوز أن يكون لتحديد النعمة سببا للإخلال بشكر ما سلف فيها والله أعلم. ومنها التخشع عند قراءة القرآن وسماعه وذكر الجنة والنار كما قال عز وجل: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا}. وقال جل ثناؤه: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم}. وقال جل ثناؤه: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله}، أي لو كان حقه أن لا يستقر بل يتصدع من خشية الله فكتب لا تراه أن رأيته إلا متصدعا، فكيف بقلب المؤمن الذي هو ألين من الجبل أنه بالخوف والخشية والتهيب والرهبة أولى وأحق. ويحتمل أن يكون المعنى. إن قلب الكافر الذي إنما هو كمضغة لحم ليس بلين لقبول مواعظ القرآن ولا لنبين إعجازه وما فيه من صدوف حجج الله على عباده، أي فقد كان بأن يخشع أولى من الضجر لولا أن الشقي لا ينقلب سعيدا، والخبيث لا يتبدل طيبا، وما ذكرنا في هذا الفصل فلا يكاد يخفي وجهه، لأن الرهبة من الله تعالى وإن كان حقها أن لا يلزم المؤمن دائما، فإنها عند تجدد العهد بسماع الوحي، والوعد والوعيد، أحق وأخلق. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبكي إذا قرأ بالليل في صلاته حتى يكون لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وكان إذا مر بآية رحمة سأل الله رحمته، وإذا مر بآية عذاب استعاذ بالله

من عذابه، فكذلك ينبغي للمؤمن سواه أن يكونوا هم أولى بذلك منه إذا كان الله تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكانوا من أمرهم على خطر- وبالله التوفيق- لما يرضيه والعياذ مما يسخطه إنه أولى للأمرين ومالكهما برحمته. ومنها إساء الظن من كل أحد بنفسه حتى لا يظن في حال قط إلا أنه مقصر في حق الله تعالى جل جلاله وغير موف حق العبودية كما يلزمه، وإن كان مؤديا للفرائض غير مخل بها أمرها وتهتكا لا تبدوا وطاعة ولا مواقع معصية، وذلك أن يعتقد أن ما كلفه الله عز وجل إذا كان لا يستغرب وسعه ولا يستنفذ طرفه. وكان الله عز وجل خلقه لعبده، فهو إذا قد أبقى عليه كثيرا من حقه، ثم إنه إذا كان أمره أن يعبده بما يثبه له وفضله على شرط الإخلاص، فقال: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} وكان لا يصلي إلا وما في قلبه من أشغال الدنيا أكثر من شغل الصلاة، أو لا يخلو من اختلاطها به، ولعله مع ذلك يرابي، ويتصنع ولا يزكي إلا من جزاء الدفع، مماطلا ثم متساهلا بنفسه فيما يعطي وفيمن يعطي. ولا يصوم إلا متبرما بالصيام مستطيلا للنهار، مستعجلا للسماء، ومعرضا للنوم، لئلا يشعر بالصوم، أو مستكثرا من الطعام لئلا يبين عليه أثر الصيام، أو حافظا للإمساك عن الطعام والشراب، ما لو وقع في أعراض الناس وغير ذلك مما لا يجوز ولا يحل. ولا يحج إلا مدافعا بالفرض مستبينا ثم مكدا للطهر محملا إياه ما لا يطيقه ولا يكون في أوله وآخره إلا غافل عما شرع الحج له حتى يدعوه ذلك إلى أن يكون بعده كما كان قبله أو شرا منه. فكيف يجوز له مع هذا كله ومع ما تركناه من أمثاله، فلم يمكنه أن يرى أنه قد وفى حقوق الله تعالى فيؤديه ذلك للأمن وسكون الحساس فالأولى به إذا، أن أهيي له داعيا إليه في العفو والغفران. فإن ذلك أشبه بالعبودية والاستكانة والله أعلم. ومنها أن التخوف لا يحق إلا من الله عز وجل لأنه ملك الملك وولي النفع والضر والأخذ والترك والنواصي كلها بيده، لا يملك أحد من دونه ضرا ولا نفعا. وقد يقصد الواحد من عباده أن يسيء إلى مثله، فيصرف قلبه عنه، إما إلى الإساءة وإما إلى الحرمان.

قال الله عز وجل حاكيا عن هود صلوات الله عليه أنه قال لقومه: {إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم}. وقال: {وإياي فارهبون} وقال: {وإياي فاتقون}. وقال: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} فقيل تفسيره هو أهل التقوى، هو أهل أن يتقى فلا يعفي وهو أهل لن يغفر لمن اتقى أي لا أحد يستحق أن يتقى غيره. وقال جل ثناؤه {فلا تخشوا الناس واخشوني} وقال {فلا تخافوهم- يعني الشيطان- وخافوني إن كنتم مؤمنين} وذم قوم يهشون غيره فقال {فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} فذم هؤلاء كما ذم الذين يتخذون أندادا من دونه فيحبونهم كحب الله. فإن ما ذكرنا أن الخوف من الله تعالى جده وحده، فمن خاف غيره فإنما صرف إليه حقا من حقوق ربه، فأما من أخلص للخوف له، فإنه جل جلاه مدحه وأثنى عليه ووعده إلا من يوم الفزع، فقال: {أن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير}. وقال: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}. وقال: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى}. وقال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يلج النار حتى يكتب من خشية الله حتى يعود اللبن إلى الضرع".

وأما ما يخص قولنا أن الخوف من الله تعالى إيمان فالدلالة عليه قوله: {وخافوني إن كنتم مؤمنين}. فلما كانت طاعة الله ورسوله إيمانا كان خوف الله إيمانا. وقوله جل جلاله: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} فإنه تعالى طالب الخشوع من قد آمن واستطابه فيه لأجل ما قدم من الإيمان. فدل ذلك على أنه طاعة من الطاعات التي يحرك عليها الإيمان، فوجب أن يكون إيمانا كأمثاله. ويقدر بهذا أن ضد الخوف الأمن، والأمن من الله تعالى من غير إيمان منه كفر، لأن ذلك لا يقع من صاحبه إلا على أحد أوجه: أما أن يقدر به عجوزا عن مؤاخذته ويظن به إغفالا وتصنعا لأمره. أو يرى أنه راض عنه غير مفكر ما يفعله أو يتركه، إذ كان لا يفعل إلا ما أمر به ولا يتركه إلا ما نهاه عنه، أو يحسب أن ما يفعله يخفى عليه، فلا يعلمه. وكل هذه الأوجه ترجع إلى إضافة النقص إلى الله تعالى وإجازته عليه وذلك كفر. ولعل قائلا يقول في هذا الموضع: ما في ظن العبد أنه إذا أقام الطاعات وتجنب المعاصي، فلا ينبغي أن يكون عليه خوف ما ينبغي أن يلام عليه. فيقال له: موضع الخلاص في هذا أن الله عز وجل على العبد سلطانا من غير وجه الأمر والنهي، وهو أنه يملك أن يسلبه ويعرضه للمصائب والمكاره من غير ذنب يكون منه كما يفعل ذلك بغيره وأحد من رسله صلوات الله عليهم. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل". فإذا اعتقد العبد أنه إذا أدى الطاعة في أمره ونهيه فلا ينبغي أن يخافه، فإذا اعتقد أن لا سلطان له عليه للأمر قبل التكليف، وهذا كفر. ثبت أن الأمر من الله تعالى بلا نص إيمان يكون منه جل ثناؤه وكفر، فوجب أن يكون ضده وهو الخوف إيمانا وبالله التوفيق.

الثاني عشر من شعب الإيمان وهو باب في الرجاء من الله جل جلاله

الثاني عشر من شعب الإيمان وهو باب في الرجاء من الله جل جلاله وهو على وجوه: أحدها: رجاء الظفر بالمطلوب والوصول إلى المحبوب. والثاني: رجاء دوامه بعدما قد حصل. والثالث: رجاء دفع المكروه وصرفه لئلا يقع. والرابع: رجاء الدفع والإماطة لما قد وقع. وكل ذلك حسن جميل على التفضيل الذي بينا ذكره للدعاء، وإذا استحكم الرجاء حدث عنه من التخشع والتذلل نحو ما يحدث عن الخوف إذا استحكم لأن الخوف والرجاء متناسبان إذ الخائف في حال خوفه يرجو إخلاف ما يخافه ويدعو الله به ويسله صرفه، فلا خائف إلا وهو راجي، ولا راجي إلا هو خائف، ولذلك كانت طريقتهما في الدعاء والاستكانة واحدة فالراجي بقوة رجائه وشدة رغبته فيما يرجو لا يبقى شيئا أو يرى أنه يقرب مراده إلا وينتهي إليه، والتذلل لمن وقعت الحاجة أولى سبب لتقريب المراد، لأن من إليه حاجة إذا كان كريما- أي لصاحبها- يتذلل لله حقا، وأوجب له به ثوابا، وقد لعم أنه لا ثواب أحسن موقعا عنده من نيله ما يريد، وهو يجيبه ولا يخيب رجاءه. والدعاء والجملة من جملة التخشع والتذلل، لأن كل من سأل ودعا فقد أظهر الحاجة وباح بها واعترف بالذلة والفقر والفاقه لمن يدعوه ويسأله، فكان ذلك في العبد نظير العبادات التي يتقرب بها إلى الله عز اسمه، ولذلك قال الله عز وجل: {أدعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} فأبان الدعاء عباده، والخائف فيما وصفنا كالراجي لأنه إذا خاف خشع وذل لمن يخافه، وتضرع إليه في طلب التجاوز عنه.

فإذا وقع ذلك من العبد لله جل ثناؤه، كان ذلك في الاعتراف بالحاجة إليه والذلة له، نظر عباداته التي يتقرب بها إليه، ولأجل تناسب الأمرين جمع الله تعالى بينهما في غير آية من كتابه فقال: {وادعوه خوفا وطمعا أن رحمة الله قريب من المحسنين} فالخوف للإشفاق، والطمع للرجاء. وقال في قوم مدحهم وأثنى عليهم: {يرجون رحمته ويخافون عذابه}. وقال: {ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}. فالرغبة والرجاء والرهبة والخوف، وإنما كان الرجاء من شعب الإيمان لأنه من إمارات التصديق، وإمارات التصديق كلها إيمان فكذلك الرجاء. وبين ما قلنا أن من لا يصدق بأن له ربا أمره بهذه وهو على ما يشاء قدير، لا يرجوه، فإن من الموجود بيننا إن كل عبد فإنما يأمل الخير من قبل مالكه ولا يأمله حتى يعلم مالكه أنه قادر على إبطاله، فدل ذلك على أن تعليق العبد أمله بالله تعالى تصديق منه به وبملكه وقدرته موجودة. فوجب أن يكون ذلك إيمانا كسائر ما تحرك عليه التصديق. وقد ضرب بعض العلماء الآيات: إن التصديق قد يكون بالفعل كما يكون بالقول مثلا. فقال: لو أن رجلا قال لرجل في يوم تسفر السماء فيه مصحية والشمس طالعة. أنا نظر الساعة فقال الآخر: صدقت فسميناه مصدقا. ولو أنه بعد قوله قام يجمع ثيابه ويكنس سطحه ويفتح مجاري الماء لما عد الصلاة هذه الأفعال دون قوله صدقت. بل أجروه مجراه وجعلوه تصديق مثله. فإن هذا على أن كل ما كان من إجازات التصديق بالله تعالى فهو إيمان كالإقرار والله أعلم. فإن قيل: فإن ضد الرجاء اليأس، أتقولون أن اليأس كفر كما قلتم أن الرجاء إيمان. قيل: الرجاء يوقع الخير من الله تعالى للعلم بأنه بيده لا مالك له غيره ولا مانع لما أعطاه لا معطي لما منه، وضده صرف الأهل عن الله تعالى. أما التكذيب به أو بأنه الرازق والمعطي والمانع والمدبر والمقدم والمؤخر، والرجاء على الوجه الذي ذكرت إيمان، واليأس على وجه الذي وصفت كفر، قال الله عز وجل حكاية عن يعقوب صلى الله عليه وسلم: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.

وأما إذا كان اليأس على وجه الاستبعاد للمأمون، وترجح أنه لا يكون، على أنه يكون في النفس فذلك خطأ وضلال. وقال الله عز وجل: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}. ويدخل في الرجل يسرق على نفسه، وينهمك في المعاصي ويغرق في الذنوب ثم لا ينزع عنها ولا يتوب ما يطأ من أن تنفعه التوبة مع عظم ذنوبه وطول أيامها فهذا مثل جهل وخطأ، لأنه لو لم يكن في النزوع إلا قلة الذنوب لكان ينبغي له أن يختار على التمادي والإصرار فكيف وفيه تمحيص ما مغني وتكفيير؟ وفي هذا يدل قوله عز وجل: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}. ويدخل فيها الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها. قال: {أنى يحي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال، كم لبثت، قال: لبثت يوما أو بعض يوم قال: بل لبثت مائة عام. فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه، وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير}، أي لا تستبعدن مع علمك بقدرته أصلا. وبالله التوفيق. والقول في الخوف نظير القول في الرجاء: فلو سأل سائل فقال: إذا كان الخوف من الله جل ثناؤه إيمانا، أتقولن أن الأمن منه كفر؟ قيل له: الذي ينشأ عن المعرفة بالله حل ثناؤه إيمان، والأمن الذي ينشأ هن الجهل به كفر، وأما ما يشبه الأمن من الانهماك إلى المعاصي، وترك أخطار العقبى بالقلب من غير جهل بالله تعالى، فإنه غفلة وضلال وليس بكفر. وهذا يقع من العبد على وجهين: أحدهما: أن يرى نفسه قد ركب من المعاصي رأسه، ولا يرى من الله جل جلاله تغييرا عاجلا فيغفل عن المؤاخذة وينساها أصلا، ولا يرى من الله جل جلاله كالماشين، إذا استمرت بهم أيام الحر وتطاولت عليهم بسوء البرد، وغفلوا عنه فلم يذكروه ولم يخطر بقلوبهم أنه آيتهم، فيستعدوا إلى أن يهجم عليهم بغتة.

والآخر: أن يركن إلى حسنات يعملها لنفسها خلال السيئات، فيقول في نفسه لئن كنت أسيء فلقد أحسن قبل بتلك، فإن هذا الحكم وهذا التعديل يكون أعظم ذنوبه إذ الحكم لله جل ثناؤه ولا للعبد، والله عز وجل لم يأمره إلا بالإحسان، ولم يأذن له، فليس إذا أحسن في شيء أن يسيء في غيره، ثم يزيد على ذلك أن يحكم لنفسه ويعدل إساءته بإحسانه من غير علم منة، بقدر حسنة ولا بقدر سيئة، فإنما علم ذلك عند الله عز وجل دون غيره وبالله التوفيق. وقال بعض أهل العلم: الرجاء واسطة بين المعرفة والطلب فإن من لا معرفة له بالمرتجى لا خيرا له فيه على الطلب لمعرفة تبعث على الرجاء، والرجاء على الطلب، والخوف واسطة بين المعرفة والهرب، والمرتجى هو الخير أو ما يظن به أنه خير، والمخوف هو الشيء، أو ما يظن به أنه شر. وكل ما ذكرته في باب الخوف من أنه لا ينبغي أن يكون الرجاء إلا لله جل جلاله إذا كان المنفرد بالملك والدين، ولا يملك أحد من دونه نفعا ولا ضرا، فمن رجا ممن لا يملك ما لا يملك هو من الجاهلين، وإذا علق رجاءه به جل ثناؤه فينبغي أن يسأله ما يحتاج إليه صغيرا وكبيرا، لأن الكل بيده لا قاضي للحاجات غيره، وسؤاله إنما يكون بالدعاء على ما سنبينه. قال عز وجل: {أدعوني استجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} ولم يزل الدعاء دأب الأنبياء الذين خلفوا أئمة وأمر أن يقتدي بهم فهداهم ذكر الله عز وجل: إن أبانا آدم صلوات الله عليه لما ابتلي بالخطيئة، فرغ إلى الدعاء، وأمنا عليهما السلام معه كذلك فقالا: {ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}. وإن نوحا صلى الله عليه وسلم لما طال عليه الأذى من قومه لجأ إلى الدعاء فقال: {ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم} ولعل بدله كان قوله: {إني مغلبوب فانتصر}.

وقوله: {لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} أو غير ذلك مما دعاه ولم يحكه عنه. وإن أيوب صلى الله عليه وسلم لما أبح عليه البلاء دعاه فقال: {إني مسني الشيطان بنصب وعذاب} {إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} فاستجاب له ربه، فكشف الضر عنه وأتاه أهله ومثلهم معهم. وإن ذا النون نادى في الظلمات: {أن لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين} فاستجاب له ونجاه من الغم. وإن زكريا صلى الله عليه وسلم دعاه لما تمنى أن يكون له ابن يرثه فقال: {رب لا تذرني فردا} {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب، واجعله ربي رضيا} فاستجاب له بيحيى. ثم إن عز وجل أبان أنه جعل إجابة دعوات المذكورين صلوات الله عليهم أجمعين ثوابا لها بأعمالهم الصالحة، فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} متذللين بالطاعة خائفين حذرين، فجعلنا إجابتهم إذا دعونا ثوابا لهم بطاعتهم، إذ أمرنا وتعجيل ما سألونا جزاء لمسارعتهم إلا ما كلفنا. وفي ذلك تحريك على الطاعة وزجر عن المعصية وحث على البدار إلى فعل المأمور، ومجانبة التفريط والتقصير. والله أعلم.

ذكر فصول في الدعاء يحتاج إلى معرفتها الدعاء: قول القائل يا الله، يا رحمن يا رحيم، وما أشبه ذلك وهو أيضا نداء، قال الله عز وجل: {بسم الله الرحمن الرحيم، كهيعص، ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا}. وقال {وزكريا إذ نادى ربه، رب لا تذرني فردا} وقال في آية أخرى {هنالك دعا زكريا ربه قال: رب} ومعنى رب، يا رب. فثبت أن النداء دعاء. ثم إن له أركانا وآدابا، فأما أركانه فمنها: أن يكون المرغوب فيه مما يبلغ فكر السائل إن سأله. ومنها: أن لا يكون عليه في سؤال ما يسل حرج. ومنها: أن يكون في السؤال غرض صحيح. ومنها: أن يكون حسن الظن بالله جل ثناؤه عند الدعاء فتكون الإجابة أغلب في قلبه من الرد. ومنها: أن يدعو الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. ومنها: أن لا يسل ما يسأل إلا بجد وحقيقة، ولا يأخذ دعاء مؤلفا فيسرده سردا أو من حقائقه غافل. ومنها: أن لا يشغله الدعاء عن فريضة الله تعالى حاضرة فيفوتها. ومنها: أن يكون دعاؤه سرا لا بالحقيقة، لا اختبارا بربه جل ثناؤه. ومنها: أن يصلح لسانه، إذا دعا، ولا يخاطب ربه جل ثناؤه بما لو خاطب به كفؤه وقريبه ينسبه إلى قلة الحياء وسوء الأدب أو ركاكة العقل. ومنها: أن لا يدعو ضجرا مستعجلا يضمر، إنه إذا في الوقت الذي يريده. وإلا

يدعو متعمدا خاشعا يضمر أنه لا يزال يدعو أو يتضرع إلى أن يجاب، وكلما زادت الإجابة عنه تراخيا زاد الدعاء تتابعا وتراكنا. ومنها: أن حاجته إذا عظمت لم يسألها الله تعالى مستعظما إياها في ذات الله، بل يسأله الصغيرة والكبيرة سؤالا واحدا، ويرى منه الله تعالى في إجابته إليها عظيمة، فتلك فيما تبلغه معرفتي أحد عشر. فأما آدابه: فمنها: أن يقدم التوبة أمام الدعاء. ومنها: الجد في الطلب والإلحاح. ومنها: المحافظة على الدعاء في الرخاء دون تخصيص حال شدة والبلاء. ومنها: إن يعزم إذا سأل. ومنها: أن يدعو أملا فاته. ومنها: أن يقتصر على جوامع الدعاء ما لم تعرض له حاجة بعينيها فينص عليها. ومنها: افتتاح الدعاء وختمة بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها: أن يدعو وهو طاهر. ومنها: أن يدعو مستقبلا القبلة. ومنها: أن يدعو دبر الصلاة. ومنها: أن يرفع اليدين حتى يجاري بها النكبين إذا دعا. ومنها: أن يخفض صوته بالدعاء. ومنها: أن يمسح بيدي وجهه إذا فرغ من الدعاء. ومنها: أن يحمد اله إذا عرف الإجابة. ومنها: أن يخلى يوما وليلة من الدعاء ويتحرى للدعاء الأوقات والأحوال والمواطن التي ترجى فيها الإجابة. فأما الأوقات: فمنها: ما بين الظهر والعصر ومن يوم الأربعاء. ومنها: ما بين زوال الشمس من يوم الجمعة إلى أن تغرب الشمس. ومنها: الدعاء في الأسعار. ومنها عند الأفياء. ومنها: الدعاء يوم عرفة إلى أن تغرب الشمس. وأما الأحوال: فمنها حال النداء للصلاة. ومنها: حين فطر الصائم. ومنها: عند نزول الغيث. ومنها: عند التقاء الصفين.

ومنها: عند اجتماع المسلمين على الدعاء. ومنها: إدبار المكتوبات. ومنها: عند القيام من المجلس. وأما المواطن: فالموقفان والحرمان وعند البيت والملتزم خاصة وعلى الصفا والمروة. فأما الفصل الأول فتفسيره أنه ليس لأحد أن يتشبه بإبراهيم صلوات الله عليه وسلم، فيدعو الله جل ثناؤه أن يريه كيف يحيي الموتى. ولا أن يتشبه بموسى صلوات الله عليه فيقول: {رب أرني أنظر إليك} ولا أن يتشبه بعيسى صلوات الله عليه فيقول: {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء}. ولا لأحد أن يسأل الله جل ثناؤه إنزال ملك عليه فيسله عن خبر من أخبار السماء، إحياء أبوية وإحياء ولده، لأن بعض العادات إنما تكون من أمر الله تعالى، التأييد من يدعو إلى ذنبه لشهوات العبادات ومناهم إلا أن يكون السائل نبيا، فيجمع إجابته أثناء نبوته وتأييده بما يصدق دعوته، ولكنه إن دعا كما دعا نوح صلى الله عليه وسلم فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} جاز لأن الله عز وجل إنما فرض الجهاد ليقاتل المشركين. فإما أن يسلموا وإما أن يستأصلوا، فمن دعا بهذا الدعاء فإنما يسأل تيسير ما أمر الجهاد لأجله، وليس ذلك من شهوات النفوس وأمانيها، وإنما يبعث عليه نقص من الله تعالى، فكان دعا النبي صلى الله عليه وسلم وغير النبي واحد والله أعلم. وليس لأحد أن يدعو فيقول: اللهم اجعل لي الصفا ذهبا، أو احبس لي الشمس، أو برد لي النار، لأن هذه أشياء خص الله لكل شيء منها نبيا، ليظهر بذلك محله وقدره عند عباده. فكان تحويل الصفا ذهبا مما ورد الخبر، بأن جبريل صلى الله عليه وسلم نزل على بينا صلى الله عليه وسلم يخبره عن الله تعالى في ذلك. فقال: "بل أكون عبدا نبيا". وحبس ليوشع بن نون صلى الله عليه الشمس، وتبريد النار إبراهيم الخليل صلوات الله عليه. فمن سأل الله تعالى لنفسه شيئا من (هذا) فإنما يسأل الله أن يسوي بينهم وبينه ويلحقه فيما أهلهم له من ذلك بهم، فلا فرق بينه وبين من يقول: رب اسجد لي ملائكتك،

كما أسجدتهم لك، أو رب كلمني كما كملت موسى، أو أسر بي هذه الليلة إلى المسجد الأقصى كما أسريت بمحمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت هذه الدعوات مما لا يجوز الاجتراء على الله بها، فالأولى أمثالها والله أعلم. وقد يجوز أن تحدث للعبد حاجة وضرورة فيسأل الله عز وجل كشفها عنه سؤالا مطلقا، إلا أن الله عز وجل عند الإجابة ينقص له عادة أو يفعل ذلك به من غير مسكنة جزاء له لتوكله وقوة إيمانه، مثل أن يكون في بادية لم يدخلها إلا في ثواب الله عز وجل على وجه ما دون له فيه، فتصيبه مخمصة شديدة، وليس معه ولا قربه أحد. فيقول: اللهم ادفع عني الجوع بما شئت فيحدث الله مكانه طعاما فيأكله. وإن أصابه برد شديد خاف على نفسه منه ولم يكن له ما يتدثر به، فيقول: اللهم اصرف عني البرد بما شئت، فيحدث له كسوة ليلبسها. أو يشبع الأول بلا طعام، ويدفئ الثاني بلا كسوة. ومثل هذا أن يسأل الله تعالى أعمى لا قائد له، ولا أحد يسعى في حوائجه أن يرحمه ويكفيه بما شاء في وجوه كفاياته فيرد البصر عليه مكانه. لأن هذه ضرورات واقعة لا كاشف عنها إلا الله جل ثناؤه. فمن رغب عن هذه المسألة مع حدوث الضرورة فلم يوف العبودة حقها. وإذا صح السؤال من العبد ووقع موقع الجوار، فكثر ما أجاب الله به دعوته، فهو داخل في حد المحكمة، وليس يثني منه تخارج عنه والله أعلم. وأما الفصل الثاني: فهو أن ليس لأحد أن يسأل الله سبحانه وتعالى خمرا يشربها، وامرأة يزني بها أو الظفر على غير حرج ليقطع عليها ونحو ذلك. قال الله تعالى لو أجاب دعاءه، ويسر له ما يسأله لكان قد أباحه ذلك، وأطلقه له ولم يكن عليه فعل شيء من ذلك ما تم، ولما كان بموقع التحليل من الله تعالى لذلك محالا صح أن دعاءه ومسألة تيسيره وتسهيله محال غير جاز والله أعلم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يدعو الله ليس بشيء فيها قطيعة رحم ولا إثم

إلا أعطاه الله إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وأما أن يدخرها له في الآخرة، وأما أن يدفع عنه مثلها). فصح أن الدعاء بما فيه من غير جائز، إذ كان جزاؤه على الله تعالى، وتوقع إجابته والله أعلم. ويدخل في هذا الباب أن يدعو أحد بالشر على من لا يستحقه أو على بهيمة، يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا في سفره يلعن بعيره، فقال: (من هذا اللاعن بعيره؟ فقال: أنا يا رسول الله. فقال انزل عنه، فإنه لا يصحبنا ملعون) فعاجله بالإنزال عنه وهو في الحاجة إليه قائمة، عقوبة له بلعنه. ومعنى لا يصحبنا ملعون مدعو عليه باللعن، لأن الذي أدركته اللعنة. ثم قال صلى الله عليه وسلم (لا تدعو على أف=نفسكم ولا على أولادكم ولا على أموالكم، لا تواقعوا من الله عز وجل ساعة عطاء فيستجاب لكم) ومعنى هذا النهي عن أن يدعو الرجل على فنسه أو على ماله بالهلاك، فيعطى ما سأل عقوبة له على دعائه لا إكراما بالإجابة والنهي عن أن يلعن البهيمة فتهلك أو يبيد غيرها، أو أن تقع بيد الأعداء فيقاتلوه عليها، وكل ذلك عقوبة له بدعائه لا إكرام له بالإجابة والله أعلم. وأما الفصل الثالث: فتفسيره أن يدعو الله تعالى مريض بالعافية، فينبغي أن يكون غرضه في ذلك أن يبرأ، فيصل ويصوم. أو يدعوه فقير فيسأله ما لا ينبغي أن يكون ذلك ليسقط مؤونته عن المسلمين ويبرأ فيتصدق ويواسي. أو يدعوه فرد فيسأله ولدا. فينبغي أن يكون ذلك ليخرج من صلبه من يوحد الله تعالى ويعبده ويعمل بشريعته. أو يسأله سائل عمرا طويلا فينبغي أن يرغب في ذلك لتكثر طاعاته وحسناته. فأما طلب المال للتفاخر والتكاثر والإستعانة على قضي الشهوات، وطلب البر والتمكن به مما منع المريض عنه من الأمور التي تبعث عليها الأهواء، وكان ذلك غير جائز، والدعاء به جرأة على الرب عز وجل.

وأما الفصل الرابع: فإن أصل الدعاء هو أن الرجاء يبعث عليه إذا الدعاء طلب، ولا طلب إلا بعد الرجاء فإذا كان الأغلب على قلبه والداعي أنه لا يجاب لم يكن رجاؤه صدقا فلم يخلص الدعاء ولم يتحقق منه الطلب إلا بعد الرجاء. فإذا كان الأغلب على قلبه الداعي أنه لا يجاب لم يكن رجاؤه صدقا فلم يخلص الدعاء ولم يتحقق منه الطلب كما لا يتحقق الباعث عليه، والداعي إنما يجاب تصديقا لرجائه، فإذا لم يصدق رجاءه ولم يستوجب أن يجاب والله أعلم. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة) والأشبه أن يكون معناه وأنتم لا تظمون الرد، ولا يكون هو الغالب على قلوبكم لأنه أراد: ادعوه معتقدين أن الإجابة إلى غير ما يسألون واقعة لأن الرد ممكن، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر أن يعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه. وأما الفصل الخامس: وهو أن يدعوا الله بأسمائه الحسنى ولا يدعوه بما لا يخص بنا وإن كان في نفسه حقا. قال الله عز وجل: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} قيل في تفسيره: الله، والرحمن والرحيم، وهي قراءة في أول آية في القرآن، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اجتهد في الدعاء قال: (يا حي يا قيوم). وعنه صلى الله عليه وسلم: (يا ذا الجلال والإكرام). وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رجع من سفر فابصر المدينة قال: (اللهم رب السموات وما أقللن، والشياطين وما أضللن، والرياح وما ذرين، أنا نسألك من خير هذه البلدة وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها). وكان ينبغي أن يدعي وإن قال: رب السموات ورب العرش. أو قال: ملك يوم الدين. أو قال: له الأولين والآخرين- أو قال: ربنا ورب آبائنا الأولين أو قال: رب محمد وإبراهيم، فإنه كان من أعظم دعاء بني إسرائيل، إله إبراهيم واسحق ويعقوب وكل ذلك حسن.

ولا يقال في الدعاء ولا الثناء المميت حتى يقال معه المحيي، ولا الضار حتى يقال معه المقدم. لأن المعنى أن يعترف له بالقدرة على الشيء وخلافه ليسل خيرها ويستعاذ من شرها، والاقتصار على المستعاذ منه في النداء والثناء ليس بتمجيد ولا تحميد والدعاء به ليس بدعاء. ولا ينبغي أن يقال: يا خالق القردة والخنازير، ويا خالق الحيات والعقارب لأن هذه كلها ضارة مؤذية، فمن قال من ذكرنا فكأنما يقول: يا ضار أو مسلط الضرار، وليس ذلك لأن الدعاء بدعاء تعبد وتذلل وليس الإعراض عن دعاء الله بما توجبه نعمه العارضة منه على عباده له من الأسماء والتجريد لذكر ما خلق فتنة للناس من التعيذ في شيء فلذلك لا ينبغي أن يعيذ به في الدعاء. وبالله التوفيق. وأما الفصل السادس: فغنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله فأعظموا الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه اعطاؤه) وليس معنى هذا أنه لا ينبغي لأحد أن يسل الله تعالى إلا شيئا عظيما، وإنما هو على أن من عظمت حاجته فلا يمنعه عظمها عنده من أن يسلها الله جل ثناؤه فإنها وإن تعاظمت فلا يتعاظم الله ولا يكبر عليه شيء. والعظيم والصغير من حاجات العباد في اتساع قدرته لقضائها. وأما عوارض الحاجات فإن صغيرها وكبيرها متفقان في أن سبيلهما أن يرفعا إلى الله جل ثناؤه ويتوقع نجاحهما من عنده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اسألوا الله حوائجكم كلها حتى شسع نعالكم إذا انقطع وحتى الملح). وأما الفصل السابع: فإن الدعاء سؤال في عمد إلى سؤال غيره، فسرد يسرد أو هو لا يحيط بمعناه، وإن أحاط به كان مصروف الهم عنه إلى لفظه، وكان اختياره ذلك الدعاء على غيره لأجل الذي نظمه وإعجابه به لم يكن داعيا ولا سائلا وإنما يكون كالقاضي دعا غيره. والمنشد شعر غيره إلا أن تكون استعانته بدعاء غيره لأن يجب أن يكون ما يسأل

الله تعالى بألفاظ حسنة، والثناء عليه أمام المسألة بليغا لا يقصد فيه فئة ولا يهتدي مع ذلك إلى تأليف ونظم، ويجد لغيره في مثل ما أنعمه من السؤال دعاء مستحسنا أو يكن عن تسبب الدعاء إليه ممن يقتدي به ويترك بكلامه، فيستعين به لهذا المعنى ويحضر عند السرد قبله وتوفيه من إخلاص الطلب حقه، فيكون عند ذلك والمنشئ للدعاء من عنده سواء بل أفضل من بعض الوجوه والله أعلم. وأما الفصل الثامن: هو أن لا يشغله الدعاء عن فريضة الله حاضرة، فلأنه إذا اشتغل بالدعاء عن فريضة حاضرة صار عاصيا فلم يستحق أن يعطيه الله من إذا سأله يمنع مراده، ولأن الدعاء بعد أن يكون تصاحبه الإجابة، والله أعلم. وأما الفصل التاسع هو أن يكون الدعاء لا على وجه الاختبار، فلان الرب مختبر العبد فيجزيه بما يظهر عنه، وليس العبد أن يختبر الرب، لأن الطاعة له لازمة أساء أو أحسن إليه، ولأن الاختبار ليس باستنجاح، وإنما الدعاء طلب واستنجاح فما خلا عنهما فليس بدعاء والله أعلم. وأما الفصل العاشر: وهو التحفظ من الخطأ في الدعاء، فلأن تعظيم الله تعالى واجب على العبد بكل حال، وهو في حال مسألته والرغبة أوجب والزم، فلذلك ينبغي للعبد إذا دعا أن لا يخرج في دعائه إلى ما هو في العبادات فجة وركاكة. كما يروى عن بعض السلف كانوا يدعون به للتقوية على غشيان النساء، لكنه إذا أراد ذلك. قال: اللهم متعني بأعضائي وجوارحي. وإن كان يشتهي الطعام ولا يقدر على أن يصيب منه صاحبه فلا يقول. اللهم قوني فأصيب من الطعام حاجتي، وليقل. اللهم أجزل من رزقك فارزقني وزدني به قوة ازد ذلك طاعة وعبادة. إن نفرت عليه امرأته فلم تحضر فراشهن فلا يقولن: اللهم ألهما أن تحضر فراشي، ولا: اللهم اسكنها ونحو ذلك. وليقل. اللهم أصلحها لي، كما قال الله عز وجل في زكريا صلوات الله عليه. {وأصلحنا له زوجة} أي جعلناها تلد بعد أن كانت عاقرا، واسم الإصلاح يأتي على ذلك وغيره مما ذكرت.

وقد جرت عادة المسلمين بأن يدعوا الله تعالى بإصلاح واليهم لأنهم رأوا اسم الصلاح منتظما عمة ما فيه النفع له ولهم. فأمر المرأة أقل من ذلك. وأما الفصل الحادي عشر: وهو أن لا يدعو ضجرا مستعجلا، فإن ذلك فعل من له حق عند آخر يقتضيه. وليس لأحد من الله حق حاصل عنده، متأخر عنه، فيستعجل به ويضجر من تأخره، فلا عتب ولا اعتراض عليه ولأن الدعاء عبادة واستكانة والضجر والاستعجال به إقصاء بهما فدل ذلك على أنهما من الحوائل بينهما وبين الإجابة كما يرجى أن يكون خلافهما من مقربات الإجابة والله أعلم فهذه الأركان. وأما الآداب فالفصل الأول منها: تقديم التوبة أمام الدعاء، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام، أخبر قومك أنه لا يغرب علي شيء، فلا يدعوني أحد منهم وهو مقيم على ذنبه، فإنه لا يزداد مني إلا بعدا، ولا أزداد عليه إلا غضبا، ولكن ليتب ثم ليدعي). وليس معنى هذا الحديث عندي. أن المذنب لا تجاب دعوته بحال، فإنه لو كان هكذا لأشبه أن لا يجاب إذا قال: اللهم بغض إلى معاصيك ووفقني لما تحب وترضى، أو قال: اللهم تب علي ومعلوم أن له أن يقول هذا، ويأمل الإجابة. فوجه الحديث إذا- والله ألعم- أن لا يدعني أحد بأسمائي الحسنى ولا يتقرب إلي بالثناء على إتمام حاجة يستقضيها وهو مقيم على ذنبه، فإني وإن قضيت حاجته، فلا أعد دعاءه عادة، لأنه إنما أدخلته فيه حاجته لا تعظيمه إياي، وحبه إلي، إذ لو كان كذلك لم يعصني ولم يرتكب ما يهينه عنه، ولا يزداد مني إلا بعدا، لأني أرد عليه ثناءه ولا أقبله منه، ولا أزداد عليه غضبا لأني ابتليته بالحاجة التي لا يحملها دعائي فلم ير في حق جلالي وعظمتي أن يتقدس بالتوبة أمام دعائي، لكنه لزم خطيئته، ولم يفارق فيها عاداته. ولئن كان هذا الوعيد مع الإجابة فكأنه يقول: لا ازداد عليه إلا غضبا لأنه عرف الحاجة، فلم يتذلل بالتوبة، ثم رأى الإجابة فلم يشكر بالتوبة، فتغلظت ذنوبه السالفة بذلك، واستحق لها زيادة الغضب من الله تعالى.

وفي هذا الحديث معنى آخر: وهو أن إجابة الدعاء للمصر على الذنب يكون تعريضا عاجلا له من الثناه على الله، فيخرج دعاؤه كذلك من جملة العبادات التي يثاب عليها في الآخرة، وينزل ذلك منزلة رد بنائه عليه التي يتداعى فإن دعاءه يكتب له عبادة حسنة، وأقل جزاء: الحسنة عشر أمثالها، يتعجل منها الإجابة ثم يكون ما وراءها مدخرا له إلى يوم القيامة. وأما الفصل الثاني: فقد جاء عنه فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب الصالحين في الدعاء) وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل أو ساهي) وإنه صلى الله عليه وسلم قال (إن الله إذا أحب عبدا ابتلاه لكي يسمع تضرعه) أي يجيب دعاءه، ويثيبه بتضرعه. وفي هذا بيان التضرع من آداب الدعاء والله أعلم. وأما الفصل الثالث: فقد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يستجاب له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء). ويحتمل أن يكون الدعاء في الرخاء بدل الثناء والشكر والاعتراف بالمنن ومسألة التثبت والتوفيق والمعونة والتأييد والاستغفار لغواهم، والتقصير فإن العبد وإن جهد لم يوف ما عليه من حق الله تعالى بتمامه. وأما الفصل الرابع: فقد جاء فيه عن النبي: (إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء. فإن الله لا يشكره له) وجاء أنه قال: (فليعزم في الدعاء ولا يقبل اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم اعطني إن شئت، وليسل مسألته عزما، فإن الله يشكره). ومعنى هذا: إن من سأل آدميا مثله فإنما يقول: إن رأيت وإن أملت وليتك، فقلت لا تقدر في المسؤول كراهيه، ويخش إن عزم عليه أن يحمله الحياء، أو معنى سؤاله على إجابة، وهذا لا يليق بالباري عز وجل، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

وإذا كان كذلك، وكان الدعاء سؤالا وطلبا وجب تجريد الطلب لأنه أخشع من خلافه فإن الطلب إذا كان تدللا، فكل ما كان منه أخلص وأبين كان التذلل فيه أشد والله أعلم. وأما الفصل الخامس: فقد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سأل سأل ثلاثا، وإذا دعا دعا ثلاثا. وقد يجوز أن يدخل في هذا الباب الإلحاح، ولكن لأن الدعاء اوله وآخره على الله عز وجل وذكر له بمدائحه، وهو جل ثناؤه قال: {اذكروا الله ذكرا} وأقل الكثير ثلاث والله أعلم. وأما الفصل السادس: وهو أن لا يستشعر البأس إذا دعا فلم يظهر الإجابة ولكنه يدعو ما دامت الحاجة قائمة ولا يقطع الرجاء. فإن هذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يستجاب لأحدكم ما يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي فيخسر عند ذلك الدعاء) وهذا لأنه قد جاء في حديث آخر: (إن الله تعالى إذا أحب عبدا أخر إجابته ليسمع صوته، وإذا أبغض عبدا عجل إجابته أو ألقى البأس في صدره). فلا ينبغي للعبد أن يقطع الدعاء إذا لم ير له إجابة عاجلة، بل يحسن الظن بالله تعالى ويرجو أن يكون تأخيره إجابة دعائه لأنه ممن يحبه، فأراد أن يسمع تضرعه، فإن لم يقدر على هذا ولم تطاوعه نفسه عليه، واستشعر بأسا فأمسك عن الدعاء خيف أن يكون ممن كره الله صوته عن الدعاء بالإقناط. وأما الفصل السابع: وهو الاقتصاد في الدعاء على الجوامع، فلأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (أحب الدعاء إلى الله وأعجبه إليه الجوامع) والله أعلم- مثل أن يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وأن يقول: اللهم إني أسألك خيرا من خير ما سألك به محمد عبدك ونبيك، ومثل أن يقول. (اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل). وما أشبه هذا.

لأنه إذا دعا بالجوامع فقد سأل الله تعالى من كل خير، وإذا اقتصر على حسنة بعينها، فقد قصر في النظر لنفسه، فلا ينبغي له أن يععدل عن الجوامع إلا أن تعرض له حاجة بعينها. فينبغي في المسألة عليها مثل أن يمرض له من يعز عليه أو يغيب أو يصل إليه قال أو يخاف أحدا، فيدعو الدعاء الجامع ويضم إليه الفرد الذي وجب الحال إلى مسألته والله أعلم. وأما الفصل الثامن: فهو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دعا أحدكم فليحمد الله ثم ليصلي على نبيه ثم ليسل) وقال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع) والدعاء أمر ذو بال وقد يجوز أن يكون المعنى في حمد الله مدحه والثناء عليه وهذا شيء لا يخلو الدعاء منه. وقد يجوز أن يكون المعنى شكره على سوالف نعمه، رجاء أن يجعل الله ذلك الشكر سببا للمزيد، وأن تكون إجابة الدعاء مما تزيد، وإذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في أول الدعاء صلى الله عليه في آخر الدعاء، كما أنه يثني على الله تعالى ويذكره بمدائحه في طرفي الدعاء جميعا، وذلك إرجاء أن لا يميز الله تعالى دعاءه فيجب ويرد بعضه، وقد يكون لأن الدعاء وأركانه وآدابه إنما أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى لسانه علمنا الله تعالى ما علم. فيقضي ختمه عند الدعاء فرحا بما علمناه منه واعتدادا بالنعمة وجزيل الحظ فيه بأن يدعوا له قبل الدعاء الذي يكون في نفوسنا وبعده لما تدعوا له في صلاتنا بعد ذكر الله تعالى لهذا المعنى والله أعلم. وأما الفصل التاسع: هو الدعاء في حال الطهارة، فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم "توضأ حين دعا لأهل المدنية، وأمر عائشة أن تتوضأ ثم تدعو وهذا لأن الدعاء ذكر يراد به العبادة فهو كقراءة القرآن والأذان والخطبة، وكل منها تستحب له الطهارة، فاستحب للدعاء". وأما الفصل العاشر: وهو استقبال القبلة، فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقبل القبلة حين دعا لأهل المدينة وحين دعا يوم بدر وهذا لأن استقبال القبلة في كل مجلس مستحب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشرف المجالس ما استقبل به القبلة" فهو باب

يستحب الدعاء أحق، ولأن الدعاء ذكر يراد به العادة، فهو كالأذان وقراءة القرآن والله أعلم. وأما الفصل الحادي عشر: فهو الصلاة أما الدعاء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك فعل حين دعا لأمته بقباء، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} فقيل معناه: فأجهد نفسك بالدعاء، وإليه فارغب وسله ما عنده من الخير، فإنه لا يمكنه ولا يمكن به غيره وفي هذا بيان. أن الدعاء ينبغي أن يكون بعد الصلاة والله أعلم. وأما الفصل الثاني عشر: وهو رفع اليدين بالدعاء لما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يستحيي من العبد أن يرفع إليه يديه فيردهما خائبتين" ومعنى يستحي لا يفعل، لأن في العادات أن من استحيا من شيء، تركه. ومعنى لا يفعل: أي لا ينبغي أن يكون الظن به أن لا يفعل لأن ذلك هو الأحسن، وحسن الظن بالله في الجملة أولى، ولأنه يؤثر عنه جل جلاله أنه قال: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني". فالذي يليق بهذه المقدمة أن يكون الظن الداعي بالله جل جلاله حين دعائه إياه أنه داخل في هذا الوعد، وإن كان ذلك خيرا يحتمل إطلاقه من الخصوص، والتقييد بالشروط ما يحتمله الأمر والنهي والله أعلم. وغاية رفع اليدين أن يحاذي بهما المنكبين، لما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدعاء هكذا، ورفع يديه حذو منكبيه، وجهل ظهورهما مما يلي السماء، والابتهال هكذا، ورفع يديه إلى السماء مدا. والإخلاص هكذا، ورفع إصبعه التي تلي الإبهام من اليد اليمنى ليشير بها" والابتهال أشد الدعاء فكذلك تمد اليدان به نحو السماء. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصابته شدة رفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه، وهذا- والله أعلم- على أن الداعي يمد يديه أشد ما يقدر عليه رفعا لهما نحو السماء، كالحريص على شيء يراد إلقاؤه إليه، لتكون يده أقرب إليه. فإن أصل

ورفع اليدين هكذا، وهو أن يكون الداعي كالمتكفف المتعرض، وإن يملأ كفيه مما يسل، وكذلك إذا جد به الأمر مدهما لما ذكرت. وأما الفصل الثالث عشر: وهو خفض الصوت بالدعاء، فإن الله عز وجل قال: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر في القول} ومعنى ذلك أنه أخشع وأخضع، وذلك بحال الداعي أليق وأشبه. وأما الفصل الرابع عشر: وهو مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، فلما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما يمنع أحدكم إذا عرف الإجابة في نفسه، فشفي من مرض أو قدم من سفر أن يقول الحمد لله الذي بعزته وجلاله تتم الصالحات، وإذا أبطأ عليه شيء من ذلك أن يقول: الحمد لله على كل حال وهذا أيضا على حسن الظن بالله جل جلاله وأنه لم يؤخر الإجابة إلا لحين علمه لعبده، وأراد به ولم يستشعر به، ولا بأسا يمنعه عن الدعاء في المستقبل. وقال اللهم لك الخلق والأمر. تفعل ما تريد وأنت على كل شيء قدير". وأما الفصل الخامس عشر: وهو أن لا يخلي يوم وليلة من الدعاء لما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل مسلم ومسلمة في كل يوم وليلة دعوة مستجابة". وأيضا فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع غضب الله عليه" وقال عز وجل بعد قوله: {أدعوني استجب لكم. إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. فإذا كان هذا هكذا، فما ينبغي لأحد أن يخلي يوما وليلة من الدعاء لأن الزمان يوم وليلة وما وراءهما تكرار فإذا كان ترك الدعاء أصلا موجب الغضب، فأدنى ما في تركه يوم وليلة والله أعلم. وأما الفصل السادس عشر: فهو تحري الأوقات والأحوال والمواطن أرجى من بعض والدعاء طلب واستنجاح، فينبغي أن يتحرى له ما يقرب منه النجاح والإجابة. فالأوقات التي تقدم ذكرها خمسة:

أولها: بين الظهر والعصر من ظهر الأربعاء، قال جابر بن عبد الله دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد ثلثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرفت البشر في وجهه، قال جابر فلم يزل في أمرهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة، فأدعو فيها فأعرف الإجابة. وقد يحتمل ما جاء في هذا الحديث أن وجهه ما جاء في خبر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني جبريل فقال أن الله يأمرك أن تقشي باليمين مع الشاهد" وقال: يوم الأربعاء يوم نحس مستمر" ومعلوم أنه لم لذلك أنه نحس على المصلحين بل أراد به نحس على الفجار المفسدين. كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القرآن نحس على الكافرين من قوم عاد لا على نبيهم، والمؤمنين منهم. وإذا كذلك أن تمهل الظالم من يوم الأربعاء إلى نزول الشمس، فإذا أدبر النهار ولم تحدث رجفة استجيب دعاء المظلوم عليه، فكان اليوم نحسا على الظالم. ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على الكفار قول جائز لم يترك أمر غائظ فيه إشارة إلى ما ذكرت والله أعلم. والثاني: ما بين زوال الشمس من يوم الجمعة إلى أن تغرب الشمس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه" ثم روي عنه: "أن تلك الساعة قبل غروب السمي أغفل ما يكون الناس". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر: "أن الساعة ما بين أن يجلس إلى أن يقضي الصلاة" وهذا إما أن يكون إذا جلس الإمام قبل أن يفتتح الخطبة وإما بين خطبته، وإما بين الخطبة والصلاة، وأما في الصلاة بعد التشهيد. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في صلاة العصر من يوم الجمعة، فلما صلى ركعتين جاء كلب ليمر بين يديه، فدعا عليه رجل من القوم فوقع ميتا، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين الأخريين، فلما قضى صلاته قال: "من الداعي على هذا الكلب؟. قال سعد بن مالك:

أنا يا رسول الله. قال: بأي شيء دعوت؟ قال: قلت: سبحانك لا إله إلا أنت بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، أهلك هذا الكلب. فقال: "والذي بعثني بالحق، لقد دعوت في ساعة لو دعوت فيها على ما بين السماء والأرض لاستجيب لك". وقال بعض العلماء: هذه الأخبار في يوم الجمعة غير متنافية، لأنه أخبر أن فيها ساعة، ثم أجاز أن تكون كل ساعة من الساعات المذكورة تلك الساعة، كما أخبر ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، ثم أجاز أن يكون كل وتر من أوتارها تلك الليلة والله أعلم. والثالث: الأسحار، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل لما أخر يعقوب بنيه إلى السحر فقال صلى الله عليه وسلم: "لا دعاء السحر مستجاب"، وقد أثنى الله عز وجل على المتهجدين بالأسحار فقال: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون}. وقال: {والمستغفرين بالأسحار} قبلت بذلك فضيلة هذا الوقت. والرابع في الافياء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تحروا الدعاء في الافياء" فقيل معناه أن يتحول الظلال عن الزوال من جانب إلى جانب. وقيل معناه: إذا فات الافياء وذلك قبل غروب الشمس بيسير. والخامس. يوم عرفة. وروي عن النبي صلى الله عيه وسلم قال: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك ولع الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير". وقد يجوز أن تكون تسمية النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذكر، وإن لم يكن ندا ولا سؤالا، لأن الغرض منه ذلك اليوم، وفي ذلك الوقت خير يعود من الله عز وجل على الذاكر، فكان بالحقيقة سائلا، وإن كان لا يأتي بلفظ السؤال كالذي يطوف على بعض الأبواب والأسواق، ليدعو الناس يكون سائلا، وإن حذف لفظ السؤال، وعلى أن الذاكر قد يثني على الله عز وجل بمحامده، ويظهر حاجته فلا يبوح بها، علما بأن الله تعالى يعلمها مني ويشتغل

بالذكر مكان التكلم بحاجته اعتمادا على ما بلع الرسول عن ربه عز وجل: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطلته أفضل ما أعطي السائلين) وبالله التوفيق. وأما الأحوال التي سبق ذكرها فسبع أولها: حال النداء للصلاة، وبين الأذان والإقامة، وعند الإقامة لما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا نودي للصلاة فتحت أبواب السماء، وأبواب الجنان واستجيب الدعاء" ومعنى هذا- والله أعلم- أن الله يستجيب الذين يسمعون النداء للصلاة فيأتونها ويقيمونها كما أمروا به إذا دعوه وسألوه، لتكون إجابته- جل ثناؤه- إياهم إلى ما سألوه ثوابا عاجلا بمسارعتهم إلى ما أمرهم به. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد" وعنه صلى الله عليه وسلم: "إنه إذا أقيمت الصلاة لم تر دعوة" وعنه صلى الله عليه وسلم: "تفتح أبواب السماء عند الإقامة، ويستجاب الدعاء". والثانية فطر الصائم. يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للصائم عند فطره دعوة لا ترد". والثالثة. نزول الغيث. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. (إن أبواب السماء تفتح عنده) وقال الله عز وجل: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته} فبان بهذه الآية أن حال نزول الغيث حال رحمته، والاسترحام في حال الرحمة إرجاء فيه حال لا يعرف حقبها. والرابعة: التقاء الصفين. وفي هذه أيضا جاء النبي صلى الله عليه وسلم: "أن أبواب السماء تفتح عندها، وأحد ما تفتح السماء أن يكون مثلا لإجابة الدعاء". أي أنه لا يحجب، ومعنى لا تحجب تجاب ولا ترد. والخامسة: اجتماع المسلمين على الدعاء. فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا

يجتمع أربعون رجلا من المسلمين يدون في أمر واحد إلا استجاب لهم حتى لو دعوا على جبل لزلزلوه" وقد يحتمل أن يكون هذا، لأن الأربعين عدد من يلزمهم الجمعة وتنعقد بهم، وعدد المسلمين الذين لما بلغوه أظهروا الإسلام، فيرجأ إذا بلغ عدد الدعاة هذا إن يلحقهم الله تعالى بجماعة المسلمين الذين لو أمكن أن يجتمعوا على دعاء فاجتمعوا عليهم لاستجاب لهم وبالله التوفيق. والسادسة: أدبار المكتوبات. يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل. أي الدعاء أسمع؟ قال: "شطر الليل الآخر، وأدبار المكتوبات". وهذا قد يلتحق بقول الله عز وجل. {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} وقد تقدم الكلام فيه. وقد يحتمل أن يكون المعنى في أدبار المكتوبات أن القوم لما أوفوا ما عليهم منها طالبين به رضوان الله تعالى. وقد يرجى أنهم دفعوا في تلك الحال حاجة أجيبوا، لأن الإجابة في حال كأن منهم فيها ما يوجب الرضى عنهم أرجئ منها في حال سواها والله أعلم. والسابعة: القيام في المجلس. وهذه الحال إنما يدعي فيها الكفارة المجلس دون غيرها. وروي عن رسول الله صلى الله عليها وسلم أنه قال: "كفارة المجلس أن يقول: إذا أردت أن تقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارت اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" وقل سبحانك اللهم وبحمدك، استغفرك وأتوب إليك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول بعد نزول سورة الفتح: فلقصيري عليه، وذلك لأن نفسه نعيت إليها بها، فينبغي لكل من ظن أنه لا يعيش مثل ما قد عاش أو قام من مجلس يظن أن لا يعود إليه أن يستعمل الذكر والله أعلم. وأما المواطن فسبعة: الموقفان والجمرتان وعند البيت وعلى الصفا، وعلى المروة. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن فذكرها" والمعنى. لا ترفع الأيدي بالدعاء إلا في هذه المواطن، لأنها ترفع فيها بالدعاء لفضلها، ولما يرجى من الإجابة عندها.

فصل وكل ما ذكرت من الأوقات والأحوال والمواطن فإنها أسباب تقوي الرجاء بالله جل ثناؤه، وفي إجابة الدعاء، لأن الدعاء لا يقبل إلا عندها، فمن عرضت له حاجة في غيرها، فلا ينبغي له أن يمتنع من الدعاء خيفة الرد، بل يدعو قوي الرجاء، حسن الظن بالله تعالى، فإنه يستجيب دعاءه بجودة وكرمه. فصل إن قال قائل: إذا كان الله تعالى قد قدر التقادير ودبر الأمور وميز السعداء من الأشقياء، وأجرى العلم بمن هو صائر إلى الجنة أو صائر إلى النار، فما فائدة الاجتهاد في العبادات. ما نقول له؟ فإن قال: العبادات مأمور بها وإنما على العبد الطاعة والتدبير إلى الله تعالى. قيل له: فإن إحدى العبادات الدعاء وهو مأمور به، وسئل العبادات يسمعوا ويطيعوا ويدعو الله تعالى في الشدة والرخاء والتدبير إلى الله تعالى. وإن قال: إنما ينبغي الاجتهاد في العبادات لأنه قد أبان أن المطيع يدخل الجنة والعاصي يدخل النار، فكل يجتهد برجاء أن يدخل الجنة قيل، وقد أمر بالدعاء، وقال حكاية عن نبي من أنبيائه عليهم السلام أنه قال: {لا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا الثوم الكافرون} وقال: {ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع غضب الله عليه". فينبغي للعبد أن يدعو أو يرجو إنجاح حاجاته من الله تعالى، فإنه إن لم يفعل كان إما قانطا وإما مستكبرا، وكل واحد من الأمرين موجب للغضب. ويقال له: أليس العبد وإن اجتهد فقد كان ممكنا أنه يجتهد أن يدخله الجنة بفضله فما معنى الاجتهاد؟ فإن قال: يجوز أن يكون عند الله تعالى انه إن اجتهد ثبته بالقول الثابت في الحياة

والدنيا وفي الآخرة فأدخله الجنة، وإن ساهل نفسه واتبع الشهوات سلبه الإيمان وأدخله النار. قيل: وقد يجوز أن يكون عند الله تعالى أن العبد إن سأله خيرا من خير الدنيا والآخرة أتاه إياه، وإن لم يسأله لم يؤته، وأنه إن استعاذ به من النار أعاذه، وإن لم يستعذ به منها لم يعذه. فينبغي لهذا أن يدعوه. ويقال له: أليس الله تبارك وتعالى، قد قدر الأعمال والآجال والصحة والسقم فما فائدة التداوي من الأمراض؟. فإن قال: قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوي. قيل له: قد أمر الله بالدعاء، وأنه قال يجوز أن يكون عند الله تعالى في بعض المرضى أنه إن تداوى سلم فعاش، وإن أهمل أمره أفسده المرض فهلك. قيل: ويجوز أن يكون عند الله أن بعض المرضى إن دعاه وسأله العافية أو دعا وسأل له عزة عافاه. وإن لم يدع لنفسه ولا دعا غيره أهلكه، فليحسن الدعاء بمثل ما أحسن له الدواء وبالله التوفيق. فصل إن سأل سائل: عن قول الله عز وجل: {ادعوني استجب لكم} وقال: قد يدعي فلا يستجيب، فما وجه هذا؟ قيل: أمره جل جلاله بالدعاء للإجابة كالأمر بالتداوي للعافية، وخلقه الدواء لإماطة الداء ثم قد يتداوى فلا تكون العافية، وقد يتداوى من الداء بدوائه فلا يزول، ولا سؤال يؤخذ هناك فكذلك هاهنا. ونقول: معنى قوله جل ثناؤه ادعوني استجب لكم، أي بحسب نظري لكم ورحمتي لكم، لا بحسب أهوائكم وأمنيكم، صحت أو فسدت وخفت أو بطلت لأن هذه الآية غير مفردة في القرآن عن أخرى فيها بينا بها، وهو قوله عز وجل: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض} وقوله: {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير،

وكان الإنسان عجولا} وذلك والله أعلم- على معنى أنه ربما دعا بما هو شر له ولا يدري، فيحسبه خيرا له. فدلت الآيتان جميعا على أن الله تعالى إنما يستجيب الدعاء بالمستجمع شرائطه إذا علم للداعي فيما سأل خيرا. فأما إذا علم أن له فسادا أو شرا فإنه لا يستجيب له دعاءه إكراما وثوابا له بدعائه. ولكنه إذا كان عليه ساخطا فقد يفعل ذلك به عقوبة له والله أعلم. وقيل: ليس بشيء من دعاء المؤمنين إذا استجمع شرائطه غير مستجاب لأنهما منزلتان الإجابة أو الرد. فإذا لم يكن رد فليس إلا الإجابة. والرد أن لا يعطي بدعائه شيئا فتكون منزلته بعد ما دعا كمنزلته قبل أن يدعو، أو ما عدا هذا فليس يرد وإنما هو إجابة. إلا أن الإجابة تختلف كما قال النبي صلى الله عيه وسلم: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليست فيها قطيعة رحم، ولا إثم، إلا أعطاه إحدى خصال ثلاث: إما يقبل دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه مثلها، قال يا رسول الله. إذا نكبر. قالوا الله تعالى أكثر أتي الله أكثر خيرا وفضلا لا يعجزه اعطاؤكم وإن كثر سؤالكم". فبأن بهذا الحديث أن الإجابة تنقسم ستة أقسام أحدها عطاء السائل عما سأل، ثم قد يكون ذلك قريبا، وقد يكون بعيدا. والآخر: تعويضه منه مثله أما خيرا بعطائه، أما شرا يصرف عنه وهذا أعظم ما تكون معنى للإجابة، وإذا كان الله جده أوجب على عبده غير حق ثم رضي منه بالبدل والفدية ويجعله بها مؤديا حقه، فكيف لا يجيب العبد ما يعوضه الله تعالى من دعائه ومسألته إجابة له وتصريفا لأمله. بل يرى أن ذلك رد وتحبيب. والثالث. أن يعوضه في الآخرة. ومعنى ذلك أن يغفر له، فكان ما سأل في الدنيا دينا أو ذنوبا في الآخرة، فيعود هذا إلى صرف بلية بقدر ما سأل بدعائه لأنه لا بلية أعظم من النار، فإذا أشرق عليها، ثم صرف عنها كان سروره بذلك أشد من سروره في الدنيا بما سأله لو كان أعطاه. وفي هذا أيضا إجابة دعائه لأنه لا يخلو من أن أعطى به شيئا كان لا يعطاه ولا دعاؤه

وليس هذا من الرد بمستحيل. فأما قول الله عز. {بل أياه تدعون} فيكشف ما تدعون إليه إن شاء، وهذا للكفار كقوله. {وتنسون ما تشركون} وهو كقوله هز وجل: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون}. إن انه قد يحرمهم ويرد دعاءهم بكفرهم، قد يجبهم عين ما يسألون تأكيدا للحجة عليهم. أما المؤمنون فإن دعاءهم لا يرد إذا استجمع شروطه، ولكنه يجاب، ثم الإجابة على ما كشفت وبالله التوفيق. فصل فأما الفرق بين دعاء الرجل لغيره بالخير وبين الشفاعة له، فهو أن الدعاء إنما يكون قبل ظهور حال المدعو أو لعله حسن الحال عند الله تعالى، وما يراد له حاصل بلا دعاء أحد، فيكون الدعاء لمن يدعو له محافظة على حق الإسلام الجامع بينهما، أو حق المدعو له قبله ولم يكن شفاعة. أما الشفاعة فإنها تكون بعد أن يظهر سوء حال المشفوع له، معناها استهاب العقوبة أو استحاط المتعة، فلا تحل إلا لمن كان حسن الحال عند الله تعالى، ومن لم يعلم ذلك لنفسه، فمن المحال أن يشفع لغيره، ولعله محتاج إلى من يشفع له. فلهذا لم تكن الشفاعة مطلقة لا تكون إلا من عن المذنب للمذنب، فدل ذلك على تباينها والله أعلم. نجز الجزء الأول من كتاب الحليمي وبالله التوفيق. يتلوه في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى الثالث عشر من شعب الإيمان، وهو باب في التوكل على الله جل ثناؤه .. على يد العبد الفقير إلى الله تعالى الراجي عفوه وامتنانه أحمد بن محمد الشافعي البتنوي الكناني نسبا غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين آمين ...

الثالث عشر من شعب الإيمان - وهو باب في التوكل على الله جل ثناؤه -

بسم الله الرحمن الرحيم الثالث عشر من شعب الإيمان - وهو باب في التوكل على الله جل ثناؤه - قال الله عز وجل:} الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانًا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل {. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:} إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى الله فليتوكل المؤمنون {. وقال عز وجل} والله يكتب ما يبيتون، فاعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا {. وقال عز وجل:} يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم، فكف أيديهم عنكم واتقوا الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون {. وقال:} إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون {. وقال:} ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون {. وقال:} هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب {وقال:} وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده. وكفى به بذنوب عباده خبيرًا}.

وقال:} وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين {. وقال:} فتوكل على الله إنك على الحق المبين {وقال:} يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليمًا حكيمًا، واتبع ما يوحي إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرًا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا {. وقال:} قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا {وقال} رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا {. وقال:} الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون {. وقال:} ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرًا {وقال:} والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوءنهم في الدنيا حسنة، لأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون {وقال:} إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئًا إلا بإذن الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون {. وقال حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه قال:} ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير {وقال حكاية عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه:} يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله. فعلى الله توكلت فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم افضوا إلي ولا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم {. وقال حكاية عن يعقوب عليه السلام.} يا بني لا تدخلوا من باب واحد، وادخلوا من أبواب متفرقة، وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت، وعليه فليتوكل المتوكلون {. وقال حكاية عن شعيب أنه قال لقومه لما أرادوه أن يعود في ملتهم.} وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً، على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين {. وقال حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال

لقومه: {إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين. فقالوا على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين {وقال في قصة موسى صلوات الله عليه.} قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين {. وقال حكاية عن رسل قالوا لقومهم:} إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وما لنا إلا أن نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون {. وجملة التوكل تفويض الأمر إلى الله عز وجل والثقة بحسن النظر فيما أمر به وأباحه، واحده من وكل يكل، إلا أنه يقال: وكل الأمر إلى فلان وقد توكل على الله. لأن المعنى يحمل ذلك ويكله اعتمادًا على الله جل ثناؤه وهو من باب الاختصار. واختلف أهل المصائر في ذلك. فقال قائلون: التوكل الصحيح ما كان من قطع الأسباب، فإذا جاء السبب إلى المراد ارتفع التوكل وقال آخرون: كل أمر بين الله تعالى لعباده فيه طريقًا ليسلكوه إذا عرض لهم والتوكل يقع منهم في سلوك تلك السبيل والتسبب به إلى المراد، فإن فعلوا ذلك متوكلين على الله في أن ينجح سعيهم ويبلغهم مرادهم كانوا آتين الأمر من بابه، ومن جرد التوكل عن السبب بما جعله الله سببًا، فلم يفعل ما أمر به ولم يأت الأمر من بابه واحتج الأولون بالآيات المطلقة التي فيها أمر بالتوكل ومدحه، وبما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل من أمتي سبعون ألفًا من غير حساب، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون). وبما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (لو أنكم تتوكلون على الله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا

خماصًا وتروح بطانًا،. وبأنه قال: (الذي عرض أن يعالجه من زيادة رآها بظهره طيبها الذي خلقها). وبأنه صلى الله عليه وسلم قال: (أبي الله أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين من حيث يحتسبون). وبأنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تكمل رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب). وبأنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود: (لا تكثر همك، فما تقدر يكن وما ترزق يأتك). وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حكاية عن الله عز وجل. (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء إن خيرًا أو شرًا). واحتجوا أيضًا بقصة مريم عليها السلام، وقول الهل جل ثناؤه:} كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا. قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب {. وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:) انتظار الفرج من عند الله عبادة) وبأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه مرض فقيل له: ألا ندعو لك طبيبًا؟ فقال: قد رآني الطبيب، فقالوا ما قال؟ قال لي. إني فعال لما أريد، وإن أبا الدرداء رضي الله عنه مرض فقيل له، ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي. فقيل له: ما تشتهي؟ قال: الجنة. فقالوا: ألا ندعوا لك الطبيب، فقال: هو أضجعني. واحتجوا أيضًا بأنا وجدنا كثيرًا من الصابرين المتعففين يفعلون، وكثيرًا من المرضى يعالجون فيموتون، وكثيرًا منهم لا يعالجون فيبرأون، وكثيرًا من الناس يدخلون المفازة بلا زاد فيرزقون، وكثيرًا منهم يدخلونها بأزواد فتذهب ويرقأون. وكثير من الناس

يبتلون بالسلطان الجائر والسبع فيسلمون، وكثيرًا منهم يضطرون في طلب الخلاص فلا يجدون. فعلمنا مدار هذه الأمور على مشيئة الله تعالى وحدها، فكان التوكل فيها أحق من غيره، وأولى بالسلم مما سواه. واحتج الآخرون بأن الله تعالى قال للحجاج وهم زواره ووفوده:} وتزودوا فإن خير الزاد التقوى {أي فإن خير الزاد ما عاد على صاحبه بالتقوى. وهو أن لا يتكلوا على ازواد الناس ويضيقون عليهم، ومن دخل البادية بلا زاد متوكلاً، فإنما يرجو أن يقبض الله تعالى له من يواسيه من زاده، وهذا عين ما أشارت الآية إلى المنع منه. فبان أنه لا معنى لاستحبابه، وإنما المستحب هو التزود، والحارس إذا لم يكن زاد حتى يكون. وأيضًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظلال رمحي) فلو كان انتظار الرزق بالصبر، والصمت أفضل من طلبه بما أذن الله تعالى فيه لما حرم الله تعالى رسوله أفضل الوجهين وعرضه لإرغامه. وجاء في الأخبار، قال أبو هريرة رضي الله عنه بينا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما جالسان، إذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: (ما أخرجكما؟ قال: الجوع، خرجنا نبغي شيئًا، فقال: والذي بعثني بالحق أنه الذي أخرجني فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن نبهان وهو من الأنصار فرحب بهم وقدم إليهم رطبًا باردًا وماء باردًا). فدل هذا الحديث على أن من احتاج إلى طعام فلم يجده ولم يعلم أحد حاله كان عليه أن يخبر بحاله من يظن أن عنده وقاء بغيرها لا أن يسكت ويتصبر. وقال أصحاب الصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد لبثت أنا وصاحبي بضعة عشر يوماً بلا طعام إلا البربير، والله لو أجد الخمر واللحم لأطعمنكم، ولكن لعلكم تدركون أو من يدرك منكم، يلبسون مثل استار الكعبة وتروح الخفان، وتغدو عليكم وأنتم اليوم خير

منكم يومئذ أنتم اليوم أخوان، وأنتم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض). ففي هذا الحديث أن أصحاب الصفة لم يصبروا على المجاعة حتى اعلموا من أملوا أن يغير أحوالهم. فلم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه أجابهم بما سئل عنه. فدل ذلك على أن طلب ما تقع الحاجة إليه ليس بمضاد للتوكل إذا كان الطالب لا يطلب إلا متوكلا على الله تعالى في أن إظفاره بمطلوبه إن شاء الله في حديث آخر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا لم يطعم الطعام حتى شق ذلك عليه، فطاف على منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة منهن شيئًا، فأتى فاطمة رضي الله عنها - فقال: يا بنية، هل عندك شيء آكله فإني جائع. فقالت: لا والله بأبي أنت وأمي. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندها بعثت لها جارة برغيفين وبضعة لحم. فأخذته منها ووضعته في جفنة لها وغطت عليها. وقالت: والله لأوثرن بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي من عندي، وكانوا جميعًا محتاجين شبعة طعام، فبعثت حسنًا أو حسينًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إليها. فقالت بأبي أنت وأمي، قد أتانا الله تعالى بشيء فخبأته لك، فقال: هلمي، فأتته فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزًا ولحمًا، فلما نظرت إليها بهتت، وعرفت أنها بركة من الله عز وجل، فحمدت الله جل ثناؤه وصلت على نبيه صلى الله عليه وسلم. فقال: من أين لك يا بنية. فقالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فحمد الله عز وجل وقال (الحمد لله الذي جعلك الله يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقها الله تعالى شيئًا فسئلت عنه، قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي ثم أكل وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته حتى شبعوا. قالت فاطمة وبقيت الجفنة كما هي، فأوسعت منها على جيراني، وجعل الله عز وجل فيها بركة وخيرًا كثيرًا). فأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) فقد يحتمل

أن يكون أراد بهم العاطين عن أحوال النار، وما فيها من الأسباب المعدة لدفع الآفات والعوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء، ولا يعرفون فيما ينزل بهم ملجأ إلا الدعاء والاعتصام بالله عز وجل. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكثر أهل الجنة البله عن شهوات الدنيا وزينتها، والحبائل التي الشيطان فيها) وقال الله عز وجل:} إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات {فقيل: أراد الغافلات لما يرمين به من الفحشاء لا يتفكرون فيها ولا تخطر بقلوبهن، فلا تكون من همهن. فكذلك هؤلاء الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر هم الغافلون من طب الأطباء ورقي الرقاة فلا يحسنون منها شيئًا إلا الذين يحسنونها فلا يستعملونها. والدليل على صحته إن سيد المتوكلين رسول رب العالمين يروى عنه أنه اكتوى من الكلم الذي وقع بوجهه يوم أحد، وكوى سعد بن زرارة من الشوكة، وأمر أبي بن كعب أن يكتوي من سهم أصابه يوم بدر، فدل ذلك على أن الاكتواء الذي وصفه الله تعالى فلا يستشفى به مع التوكل على الله في أن موقعه موقع النفع. ويشفى به. أفضل من التوكل بلا اكتواء ولا غيره من صروف المعالجات. وأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو تتوكلون على الله يرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانا) فأول ما فيه: أن الطير إذا غدت فإنما تغدو بطلب الرزق، ومعروف من عاداتها أنها لا تقع إلا حيث تبصر لقطا، وإنها لا تزال تسبح في الهواء حتى ترى ماء فتنزل عليه، وكل ذلك ابتغاء منها للرزق. فثبت أن الأولى بالحديث أن يحمل على أن الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل المال، ولو توكلوا على الله جل ثناؤه في ذهابهم وصحبهم وتصرفهم، ورأوا أن الخير بيده ومن عنده، ولم يتصرفوا قط إلا سالمين غانمين كالطير الذي يغدو خماصا وتروح بطانا ولكنهم يعتمدون على قوتهم وحذرهم، فيفتنون ويكذبون، ويحلفون على الباطل ولا ينالون وكل هذا خلاف التوكل ونقيضه، فلذلك يخفقون. فتارة تقطع عليهم الطريق، وتارة يكسد المتاع وينخفض السعر،

وتارة يفلس المشترون إلى غير ذلك من وجوه الخسران. ومثل هذا إن الخرابين يتركون التوكل على الله فيظلمون الكثير. إن اللائي يخربون عليها ويعيدون على شركائهم في الماء، وعسى أن لا يؤدوا حق الله تعالى فيما تخرجه الأرض، فلذلك بعث عليهم بالجراد والبرد، ويقطع عنهم الماء، ويزاد على الحاجة حتى يكون منه الغرق والضياع. والآخر: يخربون ولا ينفتحون، وذلك منهم ترك للتوكل، فلذلك لا يرزقون ما يريدون. فهذا أشبه بمعنى هذا الحديث مما سواه وبالله التوفيق. وأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي عرض عليه أن يعالجه من الزيادة التي رأتها بظهره طبيبها الذي خلقها، فيحتمل أن يكون لم يثق بالذي يعرض لمعالجته فدفعه بأحسن وجه وأجمله. والدليل على ذلك أنه قد عالج وداوى كما سنبينه بعد انقضاء الكلام في هذه المنزلة إن شاء الله عز وجل. فأما ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن الله يرزق عباده المؤمنين من حيث لا يحتسبون) فمعناه. أبى الله أن يجعل أرزاقهم من حيث يحتسبون وهو كذلك، ولكنه قد جعل كثيرًا من أرزاقهم من حيث يحتسبون. كالتاجر رزقه من تجارته والحراث رزقه من حراثته، والصانع يرزقه من صناعته، والمحتاجين يرزقهم من صدقات المسلمين هذا هو الأصل العام. وقد تخرج منه أمور نادرة كالرجل يصيب معدنا أو ركازًا من حيث لا يحتسب أو يموت له قريب فيرثه أو نحو ذلك. ونحن لم نقل إن الله تعالى لا يوصل أحدًا إلى خير إلا بجهد وسعى وتكلف، وإنما قلنا إنه قد بين لخلقه وعباده طرقا جعلها أسبابا لهم إلى ما يريدون، فالأولى بهم أن يسلكوها متوكلين على الله تعالى في بلوغ ما يؤملونه دون أن يعرضوا عنها ويجردوا التوكل منها. وليس في الحديث ما يفسد قولنا والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله واجملوا في الطلب). فأول ما فيه أنه أمر بالطلب وأذن فيه، إلا أنه أمر بإجماله، وإجمال الطلب هو المقرون منه بالتوكل. فإنه إذا خلا منه وكان

الطالب ملاحظا في طلبه قواه ومكائده وحيله لم يكن مجملاً للطلب، وكان ذلك منفيا عنه والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: (لا تكثر همك فما تقدر يكن وما ترزق يأتك) فليس فيه المنع من الطلب، وإنما فيه المنع من الهم، وذلك على أصل الحرص الشديد، لا يزال أحدهم جده واجتهاده مهموما قلقا يخشى أن يضيع ما عنده، ولا يأتيه ما ليس عنده، وذلك خلاف التوكل، وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لا عن الطلب، فمن طلب من الوجه المأذون فيه، وفوض أمره في اتجاه طلبه وأرباح تجارته، وإحسان عقبى حراثته إلى الله تعالى، وآمل منه الخير والبركة فلا عتب عليه والله اعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن ما شاء إن خيرًا أو شرًا). فلا دليل منه على كراهية السعي والطلب، ألا ترى أنه لا يدخل في هذه الجملة أن يكون الطعام جاهزًا والحاجة واقعة، فيمتنع المحتاج إلى الأكل ظنًا أن يصير إليه الطعام إلى جوفه من غير مس منه، ولا إيصال إليه. ولا من يريد بدلاً لحاجة عرضت له فيه، ومعه الزاد والراحلة، والطريق آمن مسلوك خصب فلا ينهض مع السيارة إليه، ولكنه يلزم مكانه، ظنًا أن يلقيه الله تعالى ذلك البلد من غير كلفة منه. فكذلك لا يدخل فيها من لا يكسب ما يصيبه من مال غيره، وهو قادر على الكسب، والدليل على صحة ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي). وفي رواية. (ولا لذي مرة مكتسب محرم عليه الصدقة لقدرته على الكسب فلو لم يلزم الكسب لوقى على نفسه حاجتها، لما حرمت عليه الصدقة، إذا كان قادرًا على الكسب والله أعلم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب المؤمن المحترف) وقال عقبة بن عامر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يلوم بالعجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا

عليك، فقل حسبي الله ونعم الوكيل). وقال معاوية بن قرة رضي الله عنه أتى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على قوم فقال: ما أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون. قال: بل أنتم المتآكلون، إلا أخبركم بالمتوكلين، رجل ألقى حبة في بطن الأرض ثم توكل على ربه، وأما قوله (المتآكلون) أي على أموال الناس. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا معشر القراء، ارفعوا رؤوسكم، فإن الطريق وضح، من لم يعمل منكم اتهمناه، ومن عمل حمدناه، وقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما فتح الفتوح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ادخر لأهله قوت سنة وجعل ما بقي من الكراع والسلاح، واشترى غلمان رحمه الله وسقاء من طعام، فقيل له في ذلك فقال: إن النفس إذا أحرزت القوت اطمأنت. وقال سعيد بن المسيب رضي الله عنه. ومن لزم المسجد وليس له ما يقينه، فقد الحف في السؤال بقي أنه شغل قلوب الذين يأتون المسجد للصلاة بنفسه واضطرهم إلى مواساته، فكأنما سأل فألحف، أن ينبغي له أن يعمل ويكسب إلى أن يلزم المسجد. وفي بعض الأخبار جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (في منزلك شيء؟ فقال: نعم. ملس نلبس بعضه ويبسط بعضه، وقدح نشرب فيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائتني بهما. فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتري هذا؟ فقال رجل: أنا آخذه بدرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثًا؟ فقال رجل أ، اآخذه بدرهمين. فأعطاه إياه، وأخذ الدرهمين، فدفعهما إلى الرجل، وقال: اشتر بواحد طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما وائتني به. فاشترى قدوما وأتاه به، فسوى النبي صلى الله عليه وسلم بيده عودًا، فقال: انطلق واحتطب وبع. ولا تقربني خمسة عشر يوما. فذهب واحتطب حتى أصاب عشرة دراهم، فعاد إلى النبي، فاشترى ببعضه طعاما وببعضه ثوبا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خير من أن تأتي بالمسألة تكنه في وجهك، ثم قال: إن المسألة لا تحل إلا لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مقطع، أو لذي دم موجع). وأما قصة مريم عليها السلام، فإنما كانت ارهاصا لأمر عيسى عليه السلام، وإكراما

لزكريا صلوات الله عليه، فقد كان كافلها والقيم عليها، ولم تحل مع ذلك من عمل لأنها كانت تخرج من المسجد فتأتي السقاية لتأخذ من الماء حاجتها وهو وقد هربت بعد الولادة بعيسى صلى الله عليه وسلم. وليس على ما يكون لأجل الأنبياء عليهم السلام قياس. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (انتظار الفرج بالصبر عبادة) فمعناه لا مخلص ولا مفرج إلا الصبر. فأما من جعل الله تعالى له إلى الخلاص مما هو فيه سبيلا، فينبغي له أن يسلكها متوكلا على الله تعالى أن يؤدي به ذلك إلى الخلاص. ألا ترى أن الأسير في دار الحرب إذا قدر على الانقلاب من أيدي المشركين، فعليه أن ينقلب ويتوكل على الله تعالى في انقلابه ليعصمه، فلا يؤاخذه برد أو تقبل. والجائع إذا حضره الطعام فعليه أن يطعم ويتوكل على الله ليرزقه خير الطعام، ويدفع عنه ضرورة لا أن يصير عنه متوكلاً عند نفسه والله أعلم. فأما قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قد رآني الطبيب، فقال: إني فعال لما أريد، وقول أبي الدرداء رضي الله عنه: هو اضجعني فمحمول على أنهما علما أن آجالهما تصرمت أما برؤيا أو ببعض العلامات، يدل على ذلك أن أبا بكر قال لعائشة رضي الله عنها في ذلك المرض. إني كنت مجليك واحد وعشرين وسقا ووددت لو كنت خريب وإنما هو اليوم مال الوارث، فقطع بأنه موروث ولو لم يكن عنده علم واقع بذلك لم يقله، فلذلك لم يأذن في دعاء الطبيب لا أنه لم يرض المعالجة حقًا والله أعلم. وأما قول من قال: إنا وجدنا كثيرًا من السؤال يخدمون، ومن المتعففين يعطون إلى آخر الفصل، فجوابه أن يقال: ووجدنا كثيرًا من المتضورين يموتون جوعًا ومن المعترضين لما أباحه الله تعالى لهم يرزقون، فيحيون ويعيشون. وقد وجدنا من يحضره الطعام فيهم يأكله، فحال بينه وبينه. ومن يؤتى ما ليس عنده فيلقيه، فليكن هذا دليلاً على أن تناول الطعام الحاضر والمقصد إليه ليس بجواب على المحتاج إليه، وليكن ما قلناه دليلاً على أن التصبر لا معنى له، وإلا فقد وقف الأمران موقفًا واحدًا، فيحتاج إلى الفصل بينهما، فنقول -وبالله التوفيق- إن الله تعالى هو الذي وضع المكاسب للناس فأباحها لهم، وهو الذي فرض على الأغنياء أن يواسوا المحتاجين، وعلى المستطيعين أن يعينوا اللهفان،

وينصروا المظلوم ويأخذوا على يدي الظالم ويكفوه وهو الذي فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك ضياعًا فيشغلها، ويغزو فيغنم، فيأخذ من الغنيمة حقه، وهو الذي خلق الأدواء، والأدوية، وعلم المعالجات وهدى إليها وأباح التطبيب والقبول عن الأطباء، فأرسل الله صلى الله عليه وسلم وأذن لغيره بالرقية بل هو في الآكل بها. وحكي الله عن موسي صلى الله عليه وسلم أنه سقى لبنتي شعيب صلوات الله عليهما، ثم تولى إلى الظل فقال:} رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير {أي إني لما سقته لي من خير بما عرضتني إليه من العمل لمن تأجرني عليه فقير، فكان من أمره ما كان. ووجدنا من يخالفنا ويقول بقطع الأسباب، ويزعم أنه إذا نزلت به حاجة لم يتسبب إلى نجاحها بشيء سوى أن يصير متوكلاً على الله تعالى متوقعًا منه أن يظفره بحاجته لأن السبب قد لا ينجح، وهو يعلم أن بصبره قد يخلف فلا ينجح، كما أن تسبب المسبب قد يخلف فلا ينفع. ألم تر لقوله من هذا الوجه رجحانا على خلافه، ولكن وجدنا المتسبب أبين عددًا من غيره، لأنه أن يصدر باحتباس حاجته بعد أن يسبب إليها بأقصى ما قدر عليه، فلم يجز مع ذلك أن يوصف بجر الضرر إلى نفسه. فالمتجرد الصبر إذا تضرر باحتباس حاجته عنه لم يأمن أنه لو ترك التصبر إلى التسبب لم يلحقه الضرر الذي لحقه فعلمنا أنه يترك التسبب مخاطر، ووجدنا المتسبب جامعًا بين السبب المأمور أو المأذون فيه. وبين التوكل في نسبه، وذلك منه طاعة، ولزم الحجة وختم التوكل إليها، المتصبر المعرض عن الأسباب راد للسبل المشروعة على الله جل جلاله بالغيث، بزعمه أنها قد تنجح وقد لا تنجح، ومقتصرًا على التصبر الذي يلزمه ما أكرم غيره في التسبب، فعلمنا أن المتسبب المتوكل في تسببه أثقل حالاً من المتصبر الرافض لما جعل له من الأسباب. وأن ضايقنا القوم قلنا لهم: تركهم الأسباب معتلين بأنها قد تخلف، فلا ينجح متهمين لله جل ثناؤه في الأسباب التي سببها لهم، وغير معولين في التعلق بها على فضله، مفوضين أمره إلى تدبيره. وما أبعد ما بين المتهم بربه وبين المتوكل عليه. فإن كان من يرى هذا الرأي يجوز أن يسمى متوكلاً، فإنما ذلك كتسمية المهلكة مفازة، والحبشي أبا البيضاء وإلا فلا توكل بالحقيقة منه، وأما غيرهم، فإنه إذا لم يقتصر على مجرد التصبر لم يفعل ذلك،

لأنه قد يخلف ولا ينجح، وإنما يقتل، لأن الله قد بين لكل ذي حاجة وحلة نهجًا، وقبض لكثير منهم من أهل دينه أقوامًا أمرهم أن يأخذوا بيده ويريحوا عليه كما أمر الأغنياء بمواساة الفقراء، وأمر المطيعين أن ينصروا المظلوم ويغيثوا اللهفان. فالأولى بأصحاب الحاجات والحلات. أن ينتهجوا المناهج المعجولة المبينة لهم، ليكونوا مطيعين لله عز وجل، مفوضين الأمر إليه مسلمين لحكمه وتدبيره، وهذا لا يدخله ما دخل القول الأول، وبالله التوفيق. ثم نتكلم في الأبواب التي كتبناها في أول الباب فنقول: أما قول الله عز وجل:} الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل {فإن فيه أن الذين تخوفوا بجمع أهل مكة لقتالهم لم يخافوهم لكثرة عددهم، لأنهم وثقوا من الله بأنه لا يخل نبيه صلوات الله عليه من نصره ومعونته، فقد كانوا شاهدوا ذلك يوم بدر واستيقنوه، ففوضوا أمرهم إلى الله جل ثناؤه، ووطنوا أنفسهم على القتال إن حضر العدو فكانوا بذلك جامعين بين التسبب إلى دفعهم على أنفسهم بالقتال الذي هو طريق الدفع، وبين التوكل على الله تعالى والتفويض إليه، ولم يقعدوا في بيوتهم متربصين إنهم إن حضروا، تولى الله جل ثناؤه كفايتهم إياهم وصدهم عنهم، ولا كان ذلك مما أذن لهم فيه عن أن يؤمروا ويندبوا إليه فعلمنا أن التوكل ليس في قطع الأسباب لكن في استعمال الأسباب على حد الأمر وموافقته، وتفويض النجاح إلى الله تعالى. والقول في الآية التي في هذه السورة ومن قوله:} إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى الله فليتوكل المؤمنون {هو أن هذه الآية فيها تنبيه على أن النظر إلى القلة والكثرة خلاف التوكل. ولذلك قال الله عز وجل} ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة {. وقال:} ويم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل سكينته ... {إلى قوله:} على من يشاء والله غفور رحيم {. فعرفهم أن الاعتزاز بالكثرة، والانخذال لأجل القلة خلاف التوكل. فلا ينبغي

للمؤمنين أن يتوقعوا النصر إلا من عند الله تعالى، ولا أن يخافوا الخذلان إلا من جهته وأن يطيعوا فيما يأمرهم به من القتال إذا عرض، فيقاتلوا أعداء الله متوكلين مفوضين أمر النصر إليه. وفي هذا حث على التسبب لكن بشرط التوكل إلى الأمر بقطع الأسباب والاقتصار على الصبر وحسن الظن، إذ لو كان لذلك لم يفرض القتال ولم يأمر به} والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا {. فإنه نزل في المنافقين. وقد كان الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم ظواهرهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى. فأمره في هذه الآية أن يعرض عنهم ولا يعاتبهم على ما يقولون إذا خرجوا من عنده، بخلاف ما كانوا يقولونه إذا حضروه، وأن يتوكل على الله في الإعراض. ولسنا ننكر أن يكون التعبير والإمساك واجبين أو مستحبين، أو كان الأمر واقعا بهما، وإنما ننكر ذلك حيث جعل الله تعالى للناس إليه به إلى تغيير الحال ودفع ما يكرهون والتوصل إلى ما يريدون بشرط التوكل فيما يباشرونه من ذلك السبب، وهذا لم يقم في خلافه دليل، بل يقام عليه عينه، وهو أن الله عز وجل لما فرض الهجرة على نبيه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ولم يأمره أن يتصبر بمكة، متوكلاً على حسن دفاعه، والميل بقلوب الناس إليه، ولم يكن ذلك بعد ذلك إلى أن يثبت فيها متصبرًا بل لزمه أن يفارقها متوكلاً على الله في مفارقته. ولا خلاف بين المسلمين في أن امرأة لو أسلمت في دار الحرب وأمكنها أن تهاجر بلا فتنة تخاف على نفسها، فإن عليها أن تهاجر، ولا يكون لها أن تقيم متوكلة برحمها بل يلزمها أن تهاجر وتتوكل على الله تعالى في هجرتها. وأجمعوا على أن رجلاً لو طلبه حربي أو سلطان جائر، أو فتاك داعر، لم يكن له أن يقعد برصد أو يتعرض له وحده بلا سلاح ولا آلة، وإن فعل ذلك ومعه جماعة يعينونه حل ذلك له إذ كان مع ما وصفنا متوكلاً على الله تعالى في إعانته وإعانة الذي معه على ما يريده بظلم فإن رجلاً لو وضع ماله في صحن داره وترك الباب مفتوحا أو على الباب للنهب والفتنة، فدخل داخل داره، وأخذ ماله كان مضيعا لماله، ولو كان ذلك وديعة لغيره عنده يضمنه، ولم يكن في شيء مما ذكرنا متوكل.

فعلمنا أن كل ما بين الله تعالى لعباده فيه طريقا فسبيلهم أن يسلكوه ويتوكلوا عليه في سلوكه، إلا أن يعرضوا عنه ويزعموا أنهم متوكلون عليه مع مفارقتهم وضعه وأمره، وانتهائهم إلى ما لم يأذن لهم فيه والله أعلم. وقد قال الله عز وجل:} إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها {فأخبر أن الملائكة يوبخون الذين يقيمون ببلد لا ينفد لهم فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معتذرين بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض، ويقولون: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فلو كانوا إذا تصبروا وهم مستضعفون فاقتصروا على التوكل من غير هجرة معذورين، أو كان ذلك أفضل لهم لما عاتبتهم الملائكة على مقامهم. فإن الملائكة لا توبخ من كان آثر الأفضل واختاره والله أعلم. وكل ما ذكرنا في الآيات التي كتبناها من ذكر الصبر مع التوكل نحو قوله عز وجل:} الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون {وقوله:} ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون {فلا يخلو من وجهين: أما أن يكون المراد من صبر حين لم يكن له وجه إلا الصبر. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره مأمورًا بالصبر، فلم يكن يلزمه يومئذ غيره، ولكنه لما أمره وقفوا الصبر إلى الهجرة ثم يضم إلى الهجرة ثم يحره الصبر وإن استشعر في نفسه التوكل المراد من صبر على مجاهدة الأعداء أو الصبر على الهجرة التي أمر بها واحتمل جهدها ومشقتها، متوكلا على الله عز وجل في أن الحسن أمانته ويكفيه ما أهمه وليس واحد منهما قادحًا في أصلنا بحمد الله ومنه. وقول نوح صلوات الله عليه لقومه:} إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري {. الآية إلى آخرها، خارج على أنه لم يكن مأمورًا بالهجرة ولا ممكنًا من القتال، وإنما كان فرضه الصبر على ما يلقاه من الأذى، وقد كان الله تعالى اعلمه ما هو فاعل بقومه، وقال

له: {فلا تبتئس بما كانوا يفعلون {. فتوكل على الله في صبره، ووثق بأنه لا يخلفه وعده. وقال لقومه:} فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة. ثم افضوا إلي ولا تنظرون {وكذلك هود صلوات الله عليه إنما قال لقومه:} فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم {الآية، لم يكن مأمورًا بأكثر من مصابرتهم، ولعل الله تعالى كان أخبره أنه يعصمه ويشفي منهم صدره، فلذلك اقتصر على الصبر، ولو كان واحد من النبيين صلوات الله عليهم مأمورًا بالقتال أو الهجرة، لما حل له أن يلزم الصبر، وإن أضمر التوكل بأن كان لا يسعه إلا أن يفعل ما أمر به ويتوكل كما بينا والله أعلم. وقصة يعقوب صلوات الله عليه دليل بين على هذا، فإنه قال لبنيه:} لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة، وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت .. {فنهج لهم من الاحتراز في العين نهجًا وأمرهم به، ثم توكل على الله في دفع ما خاف عليهم ولم يفرد التوكل عن بعض وجوه الاحتراز التي وصفها الله تعالى. فدل على صحة ما قلنا. ويدل على هذا أيضًا أن الله تبارك وتعالى أخبر عن موسى صلوات الله عليه أنه قال لقومه:} ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين {فأثنى الله على الذي قالوا هذا، واقتصه علينا إشارة لما كان منهما على أن مجرد التوكل لا يعني إذا كان التسبب المباح أو المفروض لا مجردًا عنه والله أعلم. ويدل على ما قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر يوم أحد بين درعين ولبس المغفر يوم دخول مكة، ولا يخلو ذلك قبل نزول قوله تعالى:} والله يعصمك من الناس} أو بعده.

فإن كان ذلك قبله فقد احتاط وتوكل وانتهى إلى ما بينه الله تعالى للناس وجعله لهم سبيل التحصين والاحتراز، حيث قال في قصة داود صلوات الله عليه:} وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون {ولم يبرز للقتال مكتشفًا متوكلاً وإن كان ذلك بعد نزول العصمة، فلقد تأول أن الله تعالى قد أخبره أنه يعصمه، ولم يخبره بماذا يعصمه، وأنه آتاه درعين والمغفر ومكنه من لبسهما فلا يحتاج أن يلقى العدو بارزًا متجردًا، فذاك من عصمته له فليعتصم. فهكذا ينبغي لمن أوجب الله تعالى في مال غيره الكفاية وابتلاه بالحاجة أن يعلم أن ذلك كفاية من الله تعالى إياه فليكتف بها، وليتعرض لها دون أن يلزم مكانه ولا يعلم أحدًا بحاله، ويزعم أنه متوكل. ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما ظاهر بين درعين ولبس المغفر لأن الله تعالى أخبره أنه يعصمه من الناس على أثر قوله} بلغ ما أنزل إليك من ربك {فكان الظاهر أنه وعده العصمة بما يمنعه من التبليغ وهو القتل والأخذ والحبس ولم يدخل في جملته الجرح والكسر، متحصن ما لم يستيقن العصمة منه ولم يخل في تحصنه من ذلك مما بينه الله تعالى ووصفه لمثله، في مثل ما نزل به من الأوضاع المعروفة المعهودة، وليتوكل في تحصنه بها. فأما تجريد المتوكل عن السبب بإثبات الله تعالى فخلاف ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فصل وإن سأل سائل عما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (الطيرة شرك وما منا إلا يجده، لكن الله تعالى يذهبه بالتوكل) وقوله مع ذلك (فر من المجذوم فرارك من الأسد) وقوله: (الشؤم في ثلاثة: المرأة والدار والفرس) ونهيه الرجل أن يسمى عنده يسار

وأفلح ونجاح ورباح لئلا يقال: هاهنا يسار، وهاهنا نجاح. فقال: وقوله لرجل: (ما اسمك؟ فلما قال: حزن، قال له: أنت سهل). وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجبه الفأل الحسن. فقال: ما الفرق بين ما جاء عنه من هذه الأقوال، وبين ما نهي عنه من التصير ومن الشؤم والتمن بالفأل الحسن؟ فالجواب -وبالله التوفيق- التطير قبل الإسلام كان من وجوه منها: ما كان يحكي عن العرب من زجر الطير وإعاجها عن أوكارها عند إرادة الخروج للحاجة فإن مرت على اليمين تفاءلت به ومضت لوجهها، وإن مرت عن الشمال تشاءمت به وقعدت وكانوا يتطيرون بصوت الغراب ويناولونه البين. وكانوا يستدلون بمجاوبات الطير بعضها بعضًا على أمور بأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك. وهكذا الظباء إذا مرت سانحة، ويقولون إذا برحت مساء بالسانح بعد البارح وسموا هذا وما شابهه تطير، لأن أمور ذلك عندهم وأكثره كان ما يقع لهم من قبل الطير فسموا الجميع تطيرًا من هذه الوجه. ومنها ما يحكي عن الأعاجم أنهم كانوا يتشاءمون عند الخروج بالغداة برؤية الصبي يذهب به إلى المعلم، ويتيمنون إذا خرجوا للحاجة ورأوا صبيًا يرجع من عند المعلم إلى بيته. ويتشاءمون برؤية السقاء وعلى ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السقاء مفتوحة ويتشاءمون بالحمال المثقل بالحمل، والدابة الموقرة، ويتيمنون بالحمال الذي وضع حمله ويحكي، والدابة التي حط عنها حملها. فجاء الإسلام بالنهي عن التطير والتشاؤم بما يسمع من صوت طائر مما كان على أي حال كان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقروا الطير على أوكارها) أي لا تزعجوها وتطيروها لتنظروا كيف تمر فتظعنوا أو تقعدوا. وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تحكم أو تلهى أو رد عن سفر تطيرًا). وقال صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك) وذلك إذا قدر المتطير إن ما شاهده من حال الطير

موجب أن يكون ما استشعر في نفسه، ولم يصف التدبر إلى الله تعالى، فإذا علم أن الله تعالى هو المدبر وأن ما يكون فليس يكون لأجل أحوال الطير وأصواتها، ولكن أشفق من الشر، لأن التجارب خصت بأن ضربًا من أصواتها معلومًا ازجالاً من الأحوال معلومة، لم يخل من أن يرد فيها، أمر يكره، فلم يأمن أن يكون في هذا الوقت مثل ذلك، إلا أنه لم يوطن قلبه عليه، وسأل الله تعالى الحياة واستعاذ به من الشر ومضى لوجهه متوكلاً على الله تعالى، لم يضره ما وجد في نفسه من ذلك وكفاه الله تعالى ما يهمه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا وجد أحدكم ذلك فليقل: اللهم لا يأت بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب، بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك. ومعنى. ما منا إلا ويجده أي إلا ويخطر بقلبه لا أنه يعتقده، لكن الله يذهبه بالتوكل أن لا يأخذه بالخطر، لأنه ينسخها بالتوكل فإن لم يتوكل واستشعر الخيفة، وترك ما أراد أن يعلمه معتقدًا أنه لم يتركه حل به المكروه، كان ذلك شركًا، وإن حلول المكروه، ومضى على عزمه خائفًا وجلا حقت الطيرة عليه، إلا أنها حق في نفسها، لكنها تحقق عليه عقوبة له من هذا الوجه، وهو أن الله عز وجل يحقق ذلك عقوبة لهم على تطيرهم ويتركهم، فهذا هو المنهي عنه، وعليه أن أصله باطل، والناس منهيون عن الباطل. مأمورون إذا أرادوا سفرًا أو غيره، أن يحتاطوا لأنفسهم من الوجوه التي يشهد بصحتها العقل دون ما لا يوجد له في المعقول أصل، ثم يتوكل على الله عز وجل، ويمضون لما يريدون قوله صلى الله عليه وسلم: (الشؤم في ثلاث، المرأة والدابه والفرس) فليس من التطير في شيء، لأنه عز وجل أحل له من النساء ما لم يحلل لغيره، فلو تشاءم بالنساء لما نكحهن. وقال: (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة). وقال الله عز وجل: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم). فكيف يكون فيما هذا سبيله شؤم. وأما معنى الحديث ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: شؤم الفرس صعوبة رأسه ومنع جانبه، وشؤم المرأة صلافتها وسوء خلقها، وشؤم الدار شر جوارها، وضيق فنائها). فبان بهذا أن الشؤم التي وصفت هذه الثلاثة إنما هو المضار والمفاسد، وليس من قبل الطيرة والله أعلم. وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ومن يحب المضار، لأن الجذام معد مقب، أعني تعدى من شخص إلى شخص، ويؤخذ في النسل. والأمراض منها معدية وهي سبعة: الجدة والجدري والحصبة والنحر والرمد والأمراض الوبائية ومنها معقبة وهي أيضًا سبعة: البرص والدق والسيل والمالتحو لنا والصرع والتضرس وواحد اجتمع فيه المعنيان فهو معد معقب وهو الجذام. فكان الأمر بالفرار من المجذوم لهذا الأمر، إلا من قبل التطير، كما أن الفرار من الأسد لخوف افتراسه، والتباعد من النار لخوف إحراقها لا من قبل التطير. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوج امرأة، فرأى بكشحها بياضًا فقال لها (الحقي بأهلك) وذلك لأنه يقدرها. فذلك من باب تجنب الضرر لأن حب النفس مما شاهده ضرب من الطير، كما أن إزالة النجاسة عن الثوب أو البدن تطهر وليس بتطير والله أعلم. فإن قيل: أليس جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى" وقيل له أباح البقية تكون بسفر البعير لتجرب الإبل كلها، فقال "ما أعدى الأول". قيل: قد روى بإزاء هذا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يوردن ذو عاهة على مصح" وفي هذا إثبات العدوى. فقد يجوز أن يكون عليه السلام أراد لا عدوى إلا بقدر الله، خلاف ما كان يظن. من أن الطبع يوجب ذلك، ولا يمكن غيره. وإن كان ذلك فما أجرب الأول وإنما قلنا هذا لأن القوم لو كانوا لم يقولوا هذا، ولم

يزيدوا على أن الجرب قد يعدي، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليدفعهم عن هذا بأن يقول: (ما أجرب الأول)، لأنهم كانوا يقولون: لم ينكر حدوث الجرب من غيره عدوى، وإنما قلنا: قد يعدي. فثبت أنه صلى الله عليه وسلم، إنما وجه هذه الحجة على من قال: إن الجرب كله عدوى، والله أعلم. وقد يجوز أن يكون قوله: (لا عدوى) نحو قوله في تلقيح إناث النخيل، فلما أمسك الناس عنه ولم تحمل النخيل في تلك السنة إلا شيئًا ضعيفًا، قال لهم: (ما أمرتكم به من أمر دينكم فخذوه، وما أمرتكم به من أمر دنياكم فأنتم أعلم به). أو كلامًا هذا معناه. فرجع الناس إلى تلقيح نخيلهم، ورجعت النخيل إلى حملها. فقد يجوز أن يكون قال: (لا عدوى أشد) ربما أعدى الأول. فلما تبين له أن ذلك قد يكون قال: (لا يوردن ذو عاهة على مصح) وإنما قلنا هذا لأن إنكاره العدوى بما يتصل بأحكام الدين، ولكنه إنكار طبع ووضع، فهو أشبه بإنكار تلقيح النخيل. فإن قيل: إنما قال: (لا يوردن ذو عاهة على مصح) كي أن جربت الإبل لم يقل صاحبها أعدى الجرب إلى إبلي من ذي العاهة فيأثم. قيل: إن للناس في ضم الإبل إلى الإبل فوائد وإغراضًا، وأراد هذا المعنى، لأن في الإيراد نهي عن هذا القول، فلما نهي عن الإيراد، بأن أنه خاف العدوى والله أعلم. فإن قيل: كيف تكون العدوى؟ قيل: بأن تخلص رائحة البدن المريض إلى البدن الصحيح، فيتغير نجبها طبع اللحم والدم، كما يتغير طبع الماء من جيفه تقربه إذا علقت به رائحتها. بأن يماس البدنان حتى يشحن أحدهما بالأخرى كما أن صفة العدوى أشد لأن الرائحة في هذه الحال تكون أشد وصولاً إلى عمق البدن. ويضم إليها من حرارة البدن السقيم، فإذا تركت في البدن الصحيح انتقل إليه بانتقالها طبع المكان الذي كانت فيه، ويدل على صحة ذلك ما روي فروة بن مسيل، قال: قلت يا رسول الله أن عندنا أرض ولكنها شديدة الوباء، فقال (دعها فإن من القرف التلف) فقيل أن القرف الخلط،

وقيل الملازمة والمقاربة وهذا والله أعلم إشارة إلى ما قلت وبالله التوفيق. فإن قيل: لم جاز خوف العدوى وهو خلاف التوكل، ولم لا قلتم: إن سئل الناس أصحاؤهم ومرضاهم أن يتخالطوا ويتواكلوا ويتشاربوا، متوكلين على الله، ظانين أن بعضهم لا يضر بعضًا، لئلا يصير سقم السقيم من ذلك في نفسه حرج أو لا وحشة هذا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، فقال: (كل بسم الله ثقة بالله وتوكلاً على الله) فثبت أن التوقي من المجذوم خيفة العدوى غير جائز. فالجواب: أن التخالط والتعاشر حق المسلمين بعضهم على بعض ما لم يمنع أحدهم من ذلك مانع، وخوف الضرر من أعظم الموانع. وفي معايشة المجذوم ومن يشبهه، ومطاعمته خوف الضرر، فدل ذلك على أنه لا يستحق على غيره من الأصحاء، أن يداخلوه أو يخالطوه مداخلة من الإلفة به، ولا مخالطته، وليس التعرض للآفات من التوكل بسبيل إنما التوكل طريق إلى الاحتراز من الضرر، فكيف يكون التعرض للضرر توكلاً؟ أرأيت رجلاً اقتحم نارًا تتأجج أو ألقى نفسه في البحر إلى غمران اللجج وقال توكلت على الله أيكون قد وضع التوكل موضعه أو يكون قد ظلم نفسه؟ فلذلك يعرض لعدوى علة خبيثة متوكلاً عند نفسه فهذا حاله ومنزلته. فأما ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث المجذوم، فإن كان له أصل فقد يحتمل أن يكون فعل ذلك به استشفاء من الله تعالى بالإصابة من طعام بينه واجتماع يدة في القصعة مع يده حتى أخذها منه وأدخلها. ألا ترى أنه قال: (كل بسم الله ثقة بالله وتوكلاً على الله) راجيًا أن يستقبل ولم يزد به إني آكل معه وأضم يدي إلى يده ثقة بالله أن لا يضرني، فإنه لم يرد في الحديث. إن النبي صلى الله عليه وسلم أكل معه. وقد يجوز أن يكون أطعمه من طعامه وأدخل يده أثبته رجاء أن يعرفه الله تعالى من تركته أن يشفيه ولم يطعم معه، وإن كان قد طعم فلأنه إذا كان يرجو من يطاعمه الرجل إياه أن يشفى استحال أن يخشى على نفسه منه العدوى. فأما من دونه فلا يخلو من خوف الضرر مهما لابس عليلاً وصاحب عاهة، فكان توكله في أن يباعدهم راجيًا في مباعدته فضل الله تعالى بأن يعيده مما يهم فيقول مع ذلك ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (من رأى صاحب

بلاء فليقل الحمد الله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً) والله أعلم. وأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه أن يسمى يسارًا ورباحًا واملح ونجاحًا، لئلا يقال: أفلان هاهنا؟ فيقال: لا، فليس أيضًا من معاني التطير وإنما هو كراهية للكلمة القبيحة نفسها لا لخوف شيء وراءها كالرجل يسمع حباء أو نداء أو هزوًا أو لغوًا ما كان فيكرهه. وإن لم يخف على نفسه منه شيئًا، فأما الفأل الحسن الذي كان يعجبه، والفرق بينه وبين الشؤم، إن الشؤم سوء الظن بالله عز وجل من غير سبب ظاهر يرجع الظن إليه، ويبني في الحقيقة عليه. والتيمن بالفأل الحسن حسن الظن بالله تعالى وتعليق حسن الأصل به وذلك بالإطلاق محمود. فأما إساءة الظن به عز اسمه من غير إمارة ظاهرة وسبب معروف فمذمومة فرق ما بينهما وبالله التوفيق. فإن عارض معارض في الطيرة بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يصلي على جنازة، فجاءت امرأة معها مجمر فما زال يصيح بها حتى توارت بآجام المدينة، فهل إلا التطير للميت بالنار؟ فالجواب: أنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يتطير له بالنار، ولكنه بفأل تصرفهم عنه أن صاح بها فانصرفت وتوارت وأمل من الله تعالى أن يصرف النار عنه في الآخرة بدعائه كما صرفها عنه في الدنيا بندائه والله أعلم. وله وجه آخر غير هذا. وهو أن هذا ليس من الطيره إنما الطيرة أن يعيذ بما يعيذ بما يرى أو يسمع مثلا بمكروه ولا يناسب بينه وبين المرئي أو المسموع، ولا يعلق له به. فأما المجذوم نفسه يعاين في حال الإشفاق منه، أو ما يشبهه فيكره هذا غير الطيرة فإن رجلاً لو خرج من منزله يريد سفرًا، فرأى دابة أريد ركوبها أو الحمل عليها، فهربت راجعة إلى أربها، فقال: هذا يدل على أن خرجت احتجت إلى أن أولى هاربًا لم يكن هاربًا لم يكن هذا من الاستدلال الذي يجوز أن يعمل به، لأنه ليس في هرب الدابة هذه الدلالة، ولا هربها كان أبصرته وإنما كان لانف المكان. ولكنه لو خرج فرأى واحدًا كان مسافرًا إلى البلد الذي يريده لمثل غرضه، فمات،

فرد إلى بيته، فكره ما رأى وخطر بقلبه منه شيء لم يلم على هذا، لأن الذي رآه عين المحذور ونفس المظنون. والناس في طبائعهم متقاربون، والأسفار سبب للمشاق والحوادث، والأهوبة والبلدان والمياه مختلفة، فقد يوافق بعضها قومًا، ولا يوافق غيرهم. فإن خشي الذي ذكرناه أن يصيبه في سفره ما أصاب مثله لم يكن مبعدًا في ظنه. فكذلك الميت ليس يخشى عليه إلا النار. والنيران كلها متناسبة، فإذا اتبع النار نفسها كان ذلك مما ينبغي أن يكره، وما يعرض في القلب من ذلك يتوافق لما جبلت القلوب عليه، فلا يستحق به ملام ولا عتب والله أعلم ومن هذا الباب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره الشكال في الخيل، وذلك أن تكون ثلاث من قوام الفرس محجلة، وواحدة مطلقة كسائر البدن. وذلك إنما كان بهذه الصفة كأنه المشكول والمشكول لا يستطيع المشي، فكانت مشاهدة هذه الصفات كمشاهدة الشكال، وكرهت ما يكره الشكال إلا في وقته وحينه، حتى إذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهية. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأحد أصحابه: (إذا أردت أن تغزو فاشتر فرسًا كميتا أقرح أرتم محجل الثلاث مطلق اليمنى فإنك بغزو أو سلم). وفي حديث آخر. (أغر محجلاً)، وفي حديث آخر. (فإن لم يكن كميت فأدهم) على هذه الصفة، وفرق بينهما أن البياض إذا كان في ثلاث قوائم وحدها فذاك شكال فكره، لأن الشكال يمنع الدابة من الجري، وإذا كان معه في الوجه والشفة كما يكون في القوائم ارتفع شبه الشكال كان كأنه رفع الشكال. فلهذا قال: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن والله أعلم. وقد يجوز أن يكون المشكول من الخيل التحجيل جرب، فلم يوجد فيه بلاء فلذلك أكرهه، وأن يكون الاقرح والاريم المحجل بثلاث المطلق اليمنى جرب فوجد فيه عند الطلب والهرب بلا ظاهر، فلذلك خمد وفارق ذلك التطير، لأن كل واحدة من هاتين الصفتين مركبة في الدابة، فقد يجوز أن يختلف حالها في قلة البلاء وكبره، لاختلاف

الصفات المركبة فيها، وأما أحوال الطيرة فلا يعلق لها بما يجعل دلالة عليها ولا لها علم كائن، فضلاً عن مستقبل فيجزيه. ولا في الناس من يعلم منطق الطير إلا ما كان الله تعالى خص به سليمان صلى الله عليه وسلم فالتحق التطير بجملة الباطل والله أعلم. - ذكر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الداء والأدوية - وقال الله عز وجل في سورة النحل:} يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس {. يعني العسل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء). وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تبارك وتعالى لم ينزل داء إلا ما نزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله) وعنه صلى الله عليه وسلم. (إن رجلاً خرج على عهده، فقال: ادعوا له الطبيب، فقالوا: يا رسول الله. هل يغني الطبيب من شيء؟ قال نعم ما نزل الله من داء، إلا أنزل له شفاء). وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت دواء نتداوي به ورقي نسترقي بها، وتقي نتقي بها. هل ترد من قدر الله؟ قال: (هي من قدرة الله). ويروي في الدواء خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدواء من القدر) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي) وفي بعض الروايات (العلق) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالحجامة لا يتيع أحدكم الدم فيقتله) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغ الرجل من أمتي خمسين سنة فليبطل الحجامة) يعني ليبطل ما بين نوبها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان منكم صحيحًا فليحجم لسبع عشرة

أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين فإنه لا يتبغ بكم الدم). وقال مكحول لرجل شكا إليه الصداع: (احتجم وسط الرأس فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحتجم ويسميه منقذًا). وروى عنه صلى الله عليه وسلم. (نعم العبد الحجام، يذهب بالدم، ويخف الصلب ويجلو البصر) وروى أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه جاء يعود المقفع بن سناء فقال له: ما تشتكي؟ فقال: جراح منعني النوم. فقال جابر: يا غلام ادع لنا حجامًا. فقال المقفع: وما تصنع بالحجام؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن كان شيء في أدويتكم خير، ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لدغة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي) فدعا الحجام فأغلق المحجم في خراجه، فلما بلغ منه حاجته شرطه بمشرط معه، فأخرج الله ما كان فيه، وعوفي. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشتكي إليه أحدًا وجعًا في رأسه إلا قال له: (احتجم) وأنه احتجم على وركه من وقى به. وروى أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخي يشتكي بطنه فقال (اسقه عسلاً) فسقاه فبراه. وقالت عائشة رضي الله عنها. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أخذه الوعك أمر بالحساء فصنع، ثم أمرهم فحسوا منه وكان يقول: (أنه ليرتو فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم كما يسروا أحد من الوسخ بالماء عن وجهه). وروي أن رهطًا من عريبه جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: (إنا اجتوتنا المدينة فعظمت بطوننا وانهشت اعطاؤنا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا براعي الإبل فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صلحت بطونهم). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في الجنة السوداء الشفاء من كل شيء إلا السأم) والسأم الموت، والحبة السوداء الشونيذ قاله الأزهري.

وقالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التلبينة تجم فؤاد المريض ويذهب ببعض الحزن). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة من النساء (بما توغرون أولادكن بهذا العلاق عليكن بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب، ويمعط من الغدوة، ويلد منه من ذولت الجنب والعلاق) يراد به الفلق، وذات الجنب تداوي بالقسط الرمح الحاسة تحت الأضلاع إلا الحادة التي يقال لها البرسام. وفي حديث آخر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل قال: أن بطن أخي قد استطلق، فقال: (اسقه العسل) فقال: قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا. فقال: (اسقه العسل ثلاث مرات يقول فيهن ما قال في الأولى، وقال في الرابعة. صدق الله وكذب بطن أخيك). وهذا والله أعلم لأن الاستطلاق لم يكن من حرارة، ولكن من برد في الأحشاء، ورطوبات فيها مؤلفة، فأمره بالعسل الذي يلحيها وبعثها والله أعلم وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم، والكمأة من السن وماؤها شفاء للعين) ويحتمل معنى العجوة من الجنة، إن فيها شبهًا من ثمار الجنة في الطبع، فلذلك صارت شفاء من السم القاتل، وثم الجنة خال من المفاسد والمضار، فإذا اجتمع ما يشبهها، والسم في جوف عدل السليم منها الفاسد ما يدفع ضرره عن البدن بإذن الله. وعنه صلى الله عليه وسلم. (من تصبح بسبع تمرات عجوة لمريض لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل على أم سلمة رضي الله عنها وعندها الشبرم وهي تريد أن تشربه. فقال لها: (أنها حار جار) وأمرها بالسنى. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير أكحالكم الأثمد يحلو البصر وينبت الشعر).

وسئل سهيل بن سعيد الساعدي. بأي شيء دووي جرح النبي صلى الله عليه وسلم (كان علي رضي الله عنه يسكب الماء بالمعجن وفاطمة تغسل الدم عن جرحه وأخذ حصير وأحرق وحشي به جرحه). وعنه صلى الله عليه وسلم، أن رجلاً سأله عن الخمر فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها داء وليست بدواء). ومعنى هذا -والله أعلم- أن الرجل سأل عن شربها تداويًا من غير ضرورة، وذلك أن يشربها للتقوي بها، أو لمرض يوجد له دواء غيرها، فقال أنها داء وليست بدواء لأنها تزيل العقل الذي هو أشرف ما في الإنسان إلى غير ذلك من علامات تحدث عنها. وإذا كان حدوث هذه المضار عنها أمرًا غالبًا، وهي أن يعقب من داء، فذلك قليل نادر، جاز أن يقال إنهاء داء وليس بدواء، اعتبارًا بالأعم الأغلب من أمرها والله أعلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له). فمرض جابر بن عبد الله، فدعا بماء زمزم وأخذ الإناء بيده ثم قال: اللهم إني أشربه لما أجد من هذا المرض إيمانًا وتصديقًا لرسولك فأشفى به، ثم شربه، فقيل له: ما هذا فقال: ماء زمزم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ماء زمزم لما شرب له) فما برح الناس من عنده حتى طعموا منه، ثم راح من ليلته إلى المسجد. وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بزيت الزيتون فكلوه وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة أنه ينفع من الناسور). وقال طلحة بن عبيد، أتينا النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده سفر جلة يقلبها، فلما جلست إليه رماها نحوي وقال: (دونكها أبا محمد، وأنها تطيب النفس وتشد القلب وتذهب بطحاء الصدر). وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تداووا بألبان البقر، فإني أرجو أن يجعل الله فيها شفاء، فإنها تأكل من كل شجر). وقد روى

هذا عنه صلى الله عليه وسلم بغير هذا اللفظ. (عليكم بألبان البقر فإنها ترتم من كل شجر ليس من الحار والبارد والرطب واليابس، فيقرت ألبانها بذلك من الاعتدال) ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في البقر: (ألبانها شفاء وسمنها دواء ولحومها داء) ويحتمل أن يكون قال ذلك، لأن الأغلب عليها البرد واليبس، وكانت تلك البلاد شقة يابسة، فلم يأمن إذا انضم إلى ذلك الهواء أكل لحم البقر أن يزيدهم يبسًا فيتضرروا به. وإما ألبانها فرطبة، وسمنها بارد جيدًا. ففي كل واحد منهما الشفاء من ضرر والله أعلم. وعنه صلى الله عليه وسلم. (الحمى من فيح جهنم، فأبردها بالماء) وفي بعض الروايات. (أن شدة الحمى من فيح جهنم فاطفئوها بالماء البارد) وهذا يحتمل أن يكون المراد به سقي المحموم من الماء البارد ما تنطفئ به حرارته الزائدة، وليسكن عليك عطشه في صبه عليه أو سقيه بالغداة على الريق ماء باردًا، فإنه لم يكن بحضرتهم إلا بشربه النافعة من الحميات، فأمرهم أن لا يهملوا العليل ويتعهدوا بالماء البارد أن لم يجدوا غيره والله أعلم، لمن كان أمر بصب الماء البارد على المحموم فيزيد والله أعلم لأن سبب الحمى كان حرارة من خارج وهو حرارة الهواء، فأمر بصب الماء البارد عليه إلا في حال هيجان الحمى لكن بعد مفارقتها البدن أروح الأوقات، ليكشف جلودهم ويصلب أعصارهم فلا يخلخلها حتى الهواء، ولا تخلص إلى بواطن أجسامهم. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن أصحابه قدموا خيبر، فأكلوا التمر فحموا، فأمرهم أن يفرشوا المساء في البستان، أي يبردوها - ثم يفيضوها عليهم ما بين أذان الصبح، ففعلوا ثم راحوا كما انشطوا من عقال. وهذا لأن اغتذاء التمر وحده لم يكن يضرهم ولكن الحرارتين إذا اجتمعتا، التمر من داخل والهواء الحار من الخارج حدثت الحمى، فأمر أن يتعالجوا بالماء البارد، وأن يصبوا على أبدانهم في أرواح الأوقات لتصلب بشرتهم فلا يبقى فيها حر لهم. فإن حر التمر إذا تجرد عن حر الهواء لم يهج حمى، إذا كان ذلك غذاؤهم المعتاد والله أعلم.

وأما إضافته صلى الله عليه وسلم الحس إلى فيح جهنم، فإشارة إلى حدوثها من حر الشمس وسخونتها بالنار المحيطة بالعالم الكاتبة يوم القيامة محابسة العصاة وقد مضى ذلك في بعض الأبواب المتقدمة والله أعلم. وعنه صلى الله عليه وسلم. (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام، فإن الله تعالى يطعمهم ويسقيهم) أي أن المرض الذي يمنع من الطعام والشراب واقع من الله تعالى فسلموا الأمر ولا تكرهوا المريض على الطعام والشراب فتكونوا قد عارضتم الله تعالى في أمره. فإن قيل: فلا ينبغي على هذا الطعام المحتاج وقد قال قوم من الكفار، فحكي الله تعالى عنهم أنهم قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه! قيل: المريض أبطل الله تعالى بالمرض حاجته إلى الطعام والشراب اللذين كان يحتاج إليهما في صحته، فإذا أكره على الطعام والشراب، وطعمه لا يحتملهما أضر ذلك به. والفقير محتاج إلى الطعام والشراب محتمل لهما، ولكنه لا يجدهما، وإذا لم يواس بهما هلك، فوجبت المواساة لكيلا يهلك، كما وجب الكف عن إكراه المريض عليهما لئلا يهلك. فالمقصود في الناس دفع الضرر إلا أن الفقير محتاج غير واحد، فدفع الضرر عنه يكون بالإطعام، والمريض غير محتاج وطعمه غير محتمل، فدفع الضرر عنه يكون بالكف عنه. والله أعلم. وعنه صلوات الله عليه أن رجلاً رمي فأجفن، فدعا له رجلين من بني انمار، فقال: (أيكما أطب؟ فقال أحمدهما؛ أو في الطب خير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنزل الدواء من أنزل الداء، فقال أحدهما: أنا أطب فأمره فعالجه فبرأ). وعنه صلى الله عليه وسلم. (أن هذا الوباء رجز عذب الله به بعض الأمم ممن كان قبلكم، فإذا سمعتم بها فلا تأتوها) فيقول في هذا الحديث -والله الموفق- إذا وقع الوباء بأرض فلا ينبغي لمن لم يكن بها أن يأتها لأنه بذلك يتعرض للبلاء، وذلك مخالفًا، وذلك لما يلزم كل أحد من حبس الظن لنفسه. وأما من كان بها فلا يخرج منها، وفي بعض الروايات. ولا تخرجوا فرارًا منها. فقد يحتمل أن يقال: أنه إذا بدا له الخروج لحاجة عرضت له، أو لأنه كان قدمها لحاجة

فغضب فذلك له. وإن أراد بالخروج الفرار من الوباء فلا ينبغي له أن يفعله، لأن الوباء إذا كان غالبًا، فالظاهر أن الله تعالى أرسله إلى عامة أهل البلد، فلا يخرج منه أحد بأن يستثنى نفسه فيعتزل وإنما يخرج منه بأن يستثنه الله تعالى فيسلمه. والفرار من الوباء باستثناء منه لنفسه، وذلك مما لا يملكه فكان ممنوعًا عنه، ولزمه أن يقيم. فإن كان له عند الله استثناء فسيعصمه، وذلك أشبه بالعبودة والتسليم لحكم الله تعالى من الفرار. ليس الفرار في هذا المجال كالتداوي من المرض خيفة الهلاك، وكالفرار من المجذوم خيفة العدوى، كما ذكرت أن من ظاهر الوباء المرسلة أن أرسلها على الجماعة فليس لأحد منهم أن يقذف في مخلصها منها بجلده وحيلته، وتناقض بذلك العبودة. وليس التداوي كذلك، لأن الله تعالى لم يخلق الدواء إلا ليدفع به الداء، فهو فرار إلى الله تعالى لا فرار منه، وإنما الفرار من المجذوم فلأن ابتلاء الله تعالى إياه بالجذام ليس ليعدي منه إلى غيره، كما الظاهر من الوباء الواقع في البلد أنه مرسل على جماعة أهله، فلم يكن الفرار منه فرارًا من عدوى، فوجهت نحوه في الظاهر، فكان كمن يسمع الوباء في بلد فيمتنع عن قصده ودخوله، لا كمن حصل فيه فيريد الخروج منه والله أعلم. ووجه آخر. وهو أنه يحتمل أن يكون بدنه قد استعد لذلك، فإذا انتقل عنه إلى بلد أكيف هواء منه اختفت مادة المرض الموجودة في جوفه، ولم ينتشر ولم يبرز إلى ظاهر البدن كما كانت تكون لو بقي في ذلك البلد، وما يخش من ذلك أكثر ما يخش من المقام في بلد الوباء. وفيه وجه ثالث وهو أنه إذا كان حدث في بدنه شيء من الوباء الذي كان في ذلك البلد فانتقل إلى بلد آخر لم يؤمن أن يعدي الآبار التي تعلقت ذلك الوباء في البلد الذي انتقل إليها، فلذلك كان النهي والله أعلم. فأما واحد يقدم بلدًا أو جماعة يقدمون فلا تأتهم أرضه ولا ماؤه وهواؤه، فيمرضون، فلهم أن ينتقلوا عنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نقل الغريبين الذين قدموا المدينة فاجتووها، فلم يلزمهم المقام بها، وليس في ذلك واحد من المعاني الثلاثة التي ذكرتها لأن البلد في هذه الحال ملائم أهله وإنما يلائم الغرباء فليتبعوا، كالطعام المحمود في نفسه إذا لم يوافق واحدًا بعينه كان سبيله أن يجتنبه.

وأما إذا كانت القلة حادثة في البلد، فقد يخش من الانتقال عنه إلى ما يخالفه جميع ما ذكرنا، كما يخش من الانتقال من بيت شديد الحر إلى هواء شديد البرد الضرر، ويخش أيضًا من الانتقال من بيت شديد البرد إلى هواء شديد الحر مثل ذلك، ولهذه العلة لم ينقل الله تعالى خلقه من الصيف إلى الشتاء إلا بربيع جعله بينهما، فيكون انتقالهم عما كانوا فيه قليلا قليلا، وشيئًا فشيئًا. فكذلك ينبغي أن يكون الانتقال من أرض مخالفة الاعتدال إلى غيرها، فيكون الضرر مأمونًا والله أعلم وبه التوفيق للصواب. وعنه صلى الله عليه وسلم. (أن أحدكم يشك إليه وجعًا في رجله إلا قال له أخضبها) يعني أحمل عليها الحناء. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن الدواء الخبيث، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أبالي ما أتيت أو شربت ترياقًا وعلقت تميمه، أو قلت شعرًا من قبل نفسي). فقد يحتمل أن الدواء الخبيث هو النجس، كان من قبل ما يخلط به من لحوم الأفاعي أو كبد الذئب أو رماد العقارب، ونحو ذلك. ونقول. أن كل محرم لا يحل شربه إلا عند ضرورة يشهد طبيب عالم عدل من المسلمين أنه لا مدفع لها، إلا بأخذ ما ذكرت، فيحل منه قدر ما يدفع به الضرر ضرورة كالميتة لمن اضطر في مخمصة والله أعلم. وإنما قال (أوقلت شعرًا من نفسي) لأنه ضرب نفسه مثلاً لغيره، وأراد أن من شرب ترياقًا أو علق تميمة أو قال شعرًا من قبل نفسه فيما يبالي بما أتى بعد ذلك، كما قال جل ثناؤه فيما خاطبه.} وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف {فجعله مثلاً لغيره، وإلا فمعلوم أن أبويه عند نزوله كانا متعرضين. وقال في سورة الكهف:} وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين {وهو عليه السلام ما كان يرى كهفهم، ولكنه جعله مثلاً لغيره. والمعنى وترى كهفهم من ينظر إليهم بهذه الصفة، أو ترى لو كنت تنظر إليهم كذلك المعنى في قوله (أو قلت شعرًا) أي لو كنت أحسنه، وإن قال ذلك من يحسنه والله أعلم.

وقالت أم المنذر بنت خنيس الانصارية رضي الله عنها. دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه وهو ناقه من مرض واقتاده إلى معلقه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه يأكلان منها، فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك ناقه حتى كف علي رضي الله عنه) قال: وقد صنعت شعيرًا وسلقًا فلما جئت به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه. (من هذا فاحسب فإنه انفع لك) فأكلا من ذلك. فأما الكي فإن الروايات فيه مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فروى عنه أنه اكتوى من الكلم الذي أصابه في وجهه يوم أحد. وكوى أسعد بن زاراة في الشوكة. وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فأما أنا فلا أحب أن أكتوي) ونهي عن الكي. وروى أن رجلاً جاءه وقد بعث له الكي، فقال: (اكووه وارضفوه) أي احملوا عليه الرضف، وهو الحجر المحمي. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى أبي بن كعب، فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (الكماة من المن وماؤها شفاء للعين) أي الماء الذي ينبت به وهو مطر الربيع. وإن كان أراد ماء الكماة نفسها، فقد يجوز أن يكون أراد بللها ونداها الذي يخلص إلى المورد منها إذا غرقها ثم اكتحل به، فإن ذلك يرجى أن ينفع العين التي غلب اليبس القديم عليها والله أعلم. - ذكر ما جاء في الرقي والعوذ - يروى عن أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى فرقاه جبريل عليه السلام، فقال: (باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك والله يشفيك). وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول

الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا نم الأوجاع كلها، والحمى هذا الدعاء. (بسم الله الكريم أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل على مريض لم يحضر أجله فقال: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، سبع مرات شفي) وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض قال: (اذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا) وعن ابن عباس رضي الله عنهما يعود الحسن والحسين يقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) ويقول: (هكذا كان إبراهيم يعوذ ابنيه إسماعيل وإسحاق). وقال عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي وجع قد كان يظلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعل يداك اليمنى عليه وقل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد، سبع مرات) ففعلت ذلك فشفاني الله. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي إذ لدغته عقرب، فلما فرغ دعا بماء وملح، فجعل يصرف الماء بذلك الملح ويقول المعوذتية (وقل هو الله أحد) ثم قال (لعن الله العقرب ما تدع المصلي ولا غيره). وقال خارجه بن الصلت، انطلق عمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أعدائي وهو موثق في الحديد مختون. فقال له أهله: أن صاحبكم هذا قد جاء يحبر، فهل عند شيء تداويه. قال: فرقيته بأم الكتاب ثلاثة أيام، كل يوم مرتين فبرأ. واعطوني مائة شاة،

فلم آخذها حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: (هل قلت غير هذا؟ قلت: لا، فقال: كلها بسم الله فلعمري من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق). وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (إن إناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك، إذ لدغ سيدهم فقال: هل من راق؟ فقلت: أنا، ولكنكم لم تقرونا، فلم نفعل حتى تجعلوا لنا جعلاً فقالوا: إنا نعطيكم ثلاثين شاة. فقرأت فاتحة الكتاب سبع مرات، فبرأ. فأتوا بالشاة، فقلنا: لا تعجلوا حتى نسل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدمنا عليه، ذكرت له الذي صنعت فقال: ما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي منها بسهم) ويروى، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى. وكان عند آل عمرو ابن حزم رقية يرقون بها من العرب فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فعرضوها عليه وقالوا: إنك نهيت عن الرقي، فقال: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الرقي في المجهولة التي لا تعرف حقائقها. فأما ما كان له أصل موثوق به، وعلى أنه قد جاء عن طريق أنس. وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية في العين والحمة. وروى أن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعدة عند حفصة بنت عمر، قال: (ما يمنعك أن تعملي هذه رقية النملة) فدل هذا الحديث على أن ترخيصه في الرقية من العين والحمة. وقوله الذي يروى عنه: (لا رقية إلا من عين أو حمة) يراد به ما نص عليه وما يشبهه من الأدواء الخفية. فأما الكسر والجرح فإنما لهما الدواء بدون الرقية، والعين لها الرقية، ولا دواء لها، والحمة لها الدواء والرقية معًا والله أعلم. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فنزل منزلاً قال: (يا أرض ربي وربك الله،

أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك وما يخرج منك، وما يدب عليك وأعوذ بالله من أسد وأسود وحيه وعقرب، ومن شر ساكني البلد، ووالد وما ولد). ودخل أبو بكر على عائشة رضي الله عنهما، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئًا من جسده قرأ: قل هو الله أحد والمعوذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي. وعنها أيضًا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني إذا عزبت أو غضبت أن أضع المسبحة في طرف أنفي ثم أعصره، وأقول: الله رب محمد اغفر ذنبي، اذهب غيظ قلبي وما دخل جوفي وأجرني من مضلات القين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا عسر على المرأة ولادها تكتب في جام أو في شيء بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الذي لا إله إلا هو الحليم الكريم، لا إله إلا هو وتعالى الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها من نهار. وفي رواية أخرى بعد الحليم الكريم، سبحان رب السموات ورب العرش العظيم. وقد تكتب هذه الكلمات في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها. ولم ير مجاهد أن تكتب آيات من القرآن، ثم يسقاه صاحب الفزع، وكره إبراهيم أن يكتب القرآن ثم يغسل ويسقى، وقال: أخاف أن يصيبه بلاء وكأنه ذهب الآخرون إلى أن غساله شيء له فضل، فهو كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أن عائشة رضي الله عنها كانت تقر بالمعوذتين في إناء ثم يأمر أن يصب على المريض. وعن أبي قلابة رضي الله عنه أنه كتب كتابًا ثم غسله فسقاه إنسانًا مريضًا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ أحدكم من يومه فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وسوء عقابه، ومن شر عباده وشر الشياطين ومن أن يحضروا). وكان عبد الله بن عمر وهو الذي يروي هذا الحديث يعلمها ولده من أدرك منهم، فمن لم يدرك

كتبها وعلقها عليه. واختلف في التعليق، فروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من علق شيئًا وكل إليه). وعن ابن مسعود رضي الله عنه، رأي علي أم ولده تميمة مربوطة بعضدها، فجذبها جذبًا عنيفًا فقطعها. وقال: أزال ابن مسعود لاعتنائه عن الشرك، ثم قال: (أن التمائم والرقي والقول من الشرك. قيل: وما القول؟ قال: ما تجتنب به المرأة. وقد يحتمل أن يكون ابن مسعود أراد بمكره تعليقه غير القرآن من أشياء مأخوذة عن العرافين والكهان، إذ الاستشفاء بالقرآن تعليقًا وغير تعليق لا يجوز أن يكون عند أحد شركًا. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من علق شيئًا وكل إليه) يدل على هذا المعنى أيضًا، لأنه إذا كان من علق شيئًا وكل إليه، فمن علق القرآن ينبغي أن يتولاه ولا يكله إلى غيره، لأنه جل ثناؤه وهو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن. فثبت أن المراد بالحديث من علق شيئًا من التمائم الجاهلية والله أعلم. وسئل سعيد بن المسيب عن التعويذ أيتعلق؟ قال: إذا كان في قصبة أر رقعة يجوز فلا بأس. على أن المكتوب قرآن. وروى عن الضحاك أنه لم يكن يرى بأسًا أن يعلق الرجل الشيء من كتاب الله "إذا وضعه عند الجماع وعند المعابط. وسئل أبو جعفر محمد بن علي رضي الله عنه عن التعوذ يعلق على الصبيان ورخص. وعن ابن سيرين كان لا يرى بأسًا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان. واختلف في النفث، فروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفى فيه، طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث بها على نفسه وأمس بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوذات، ثم مسح بهما جسدة وقال ابن جريح: قلت لعطاء القرآن ينفخ به أو ينفث، قال: لا شيء من ذلك ولكنه يقرأه هكذا، ثم قال بعد أن أنفث إن شئت. وعن عكرمة رضي الله عنه، قال: لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يعقد. وعن إبراهيم

قال: كانوا يكرهون النفث في الرقي. وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجع فقلت: لا أعوذك يا أبا محمد، قال: بلى. ولكنه لا تنفث. فعوذته بالمعوذتين. وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة. وعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث في الرقية) وعن محمد بن حاطب. أن يده احترقت، فأتت أمه به النبي صلى الله عليه وسلم. فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام زعم أنه لم يحفظه. وقال محمد بن الأشعث ذهب أبي إلى عائشة رضي الله عنها وفي عيني سوء فرقتني ونفثت. وسئل محمد بن سيرين عن الرقية ينفث فيها. فقال: لا أعلم به بأسًا وإمامًا. روى عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: "لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد، فإنه ذهب فيه على أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستفاد فيه، فلا يكون بنفسه عوده، وليس هذا هكذا لأن النفث في العقد إذا كان مذمومًا لم يجز أن يكون النفث بلا عقد مذمومًا، ولأن النفث في العقد، إنما أريد به السحر المضر بالأرواح والأبدان. وهذا النفث لاستصلاح الأبدان والنفوس فلا يقاس ما ينفع بما يضر. وأيضًا فإن النفث في العقد السحر إذا كره. فذلك النفث فيستعان على اتصال السحر إلى المسحور، وجب أن يستحب النفث في الرقية والعوذة لأنه يستعان به على اتصال ما يقرأ من الراقي والتعوذ والله أعلم. وقد كره عكرمة المسح. والسنة جاءت بخلافه، لأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: اشتكيت، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم أن أجلي قد حضر فارحمني وإن كان متأخرًا فاشفني أو عافني، وإن كان بلاء فضر بي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف قلت له: قال فسحبني بيده ثم قال: (اللهم اشفه أو عافه فما عاد ذلك الوجع). وقد دخل في جملة ما روينا الاسترقاء، منه العين. ومما جاء به خاصة قول النبي صلى الله عليه وسلم

(أن العين تدخل الجمل القدر والرجل القبر) وقالت أسماء بنت عميس: يا رسول الله أن بني جعفر تسرع إليهم العين، أفأ سترقي لهم؟ قال: نعم، لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين). وروى أن عامر بن ربيعة رأس سهيل بن حنيف. فقال: ما رأيت كاليوم وراء جلد محياه مليط به حتى ما يفسد من شدة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهمون أحدًا لو أنعم عامر بن ربيعة، وأخبروه بقوله، فأمره رسول الله، أن يغتسل في قدح له، فراح مع الركب. قال الزهري: يؤتي الرجل العائز بقدح، فيدخل كفه اليسرى فتصب على كفه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فتصب على كفه اليسرى، ثم يدخل اليمنى فتصب على مرفقه الأيسر ثم يدخل يده اليسرى فتصب على ركبته اليسرى ثم يغسل داخل إزاره، أي طرف إزاره الذي يلي جسده وهو يلي الجانب الأيمن، لأن المؤتزر يبدأ بجانبه الأيمن إذا اتزر، فذلك الطرف يباشر جسده فهو الذي يغسل. وروى في هذا الحديث أن النبي قال: (علام يقتل أحدكم أخاه إذا رأى أحدكم ما يعجبه من أخيه فليبارك عليه). وروى أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ركب يومًا فنظرت إليه امرأة فقالت: أن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين، فرجع إلى منزلة فسقط. فبلغه ما قالت المرأة، فأرسل إليها، فغسلت له. ولم أعلم أحدًا يتكلم في حقيقة العين بما يعتمد عليه ويوثق به. وقد قيل أن الله تبارك وتعالى قد برأ في خلقه، سوى ما ينسب على الأوضاع والنظر من ذلك أنهم يستشفي منه بالصلاة والدعاء والصدقة فيشفهم ويخلصهم. ويفرط الواحد على آخر في البغي عليه،

فيأخذ مكانه ببغية ولا يسهله ولا يكاد يعرف من أسباب هذه الأمور ما يعرف من أسباب شفاء المرضي بالأدوية، وإزاحة المبتلي بسلطان جائر. أما بإلهامه الرأفة به، وأما بتنبيه من يشفع له، وحفظ المار على اللصوص باغفالهم عنه، أو صدف همهم عما معه، وإلهامهم خوفًا منه، أو من غيره لأجله وغير ذلك. وصيانة دار الواحد عن النار في حريق واقع، إما بإرسال ريح تصرف النار عنها إلى غير وجهها، وإما بتسيير إطفائها. قبل أن يبلغها. وإما ببقائها في شيء مجانب لها، فتصير بذلك عادلة عن طريقها. فإن هذه أمور قد عرفت وجوهها، فأمكن الإعراب عنها والإشارة إليها، وتلك التي ذكرناها والعين معها إنما تضاف في الجملة إلى قدرة الله تعالى وإرادته من غير معتد لأنه ليس لشيء من الأحداث والكوائن سوى إرادة الله تعالى سبب يوجبه وما عدا إرادته بدعاء سببًا. بمعنى أنه الوقت أو الحال التي أراد الله تعالى الكون عندها، فعلى هذا سبب الإخلاص من البحر دعاؤهم وتضرعهم. وسبب السقيا في حال الجدب الدعاء والمسألة. وسبب أخذ الباغي ببغيه ادعاؤه من القدرة والبسطة ما لا ينبغي إلا لله جل ثناؤه. كما أن سبب شفاء المريض إذا تداوي بدواء إلى أمر الله تعالى أن يتداوى به. وسبب انصراف النار، والسلامة من اللص والخلاص من السبع والسلطان الجائر ما وصفت. وليس يجب بقوله أنها أسباب، إلا أنها الأوقات والأحوال التي أراد الله حلول قضاياه وأقداره عندها. وإلا فليس شيء منها موجبًا كون ما يتفق كونه بهذه إذًا وهلاك ما يهلك بالعين وسائر ما ذكر معه سواء لا فرق بينهما والله أعلم. وقد انتهى في هذا الموضع بيان ما أردنا بيانه من أن كل حادث من الله تعالى لم يبتليه به طريقًا يسلكه ويستبيح به حاجته بسلوكه، والأولى به أن يقبل ذلك عن الله تعالى جده، ويستشعر التوكل عليه عز اسمه في قبول ما نهجه له عنه، لا في مفارقته وانتهاج نهج سواه برأيه والله أعلم. فإن قال قائل: كل شيء فرض الله تعالى علينا فيه فرضًا معلومًا، فلسنا نقول أن تركه إلى التوكل يجوز. وذلك كالأكل من الطعام عند شدة الجوع واللبس عند البرد، وجودًا للبأس وقتال المشركين في كثير من الأحوال. وأما ما لم يفرضه، ولكنه أباحه كالتداوي

من الأمراض والاسترقاء والاستطعام عند الحاجة ونحو ذلك. فينبغي أن يكون الصبر والاقتصار على الدعاء والتوكل أفضل لأن المتداوي والمسترقي والمستطعم لا يجدون بدًا من التوكل فهو إذًا واجب بكل حال فينبغي أن يكون ما خلص منه وتجرد عن واسطة بين الله تعالى وبين العبد أفضل مما يكون مع الوسائط. فالجواب: أن الوسائط لو كانت غير ما دون فيها وكان الناس يصيرون إليها بمجرد آرائهم وظنونهم لكان الأمر على ما ذكرتم، ولكنها أوضاع من الله تعالى، وضعها ودبر أمور عباده بها، وجرى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون بعدهم على استعمالها. فلا معنى بعدهم للرغبة عنها وطلب الفضل في رفضها، لأن القبول في إتباعها أكثر منها في استشعار الغيبة عنها. ألا ترى أن الدعاء أيضًا ليس بفرض، ولكن رفع الحاجة إلى الله تعالى بالدعاء أفضل من التوكل المجرد عن الدعاء. وما ذلك إلا لأن الله تعالى جعل الدعاء سبيلا للمؤمن. إلى استنجاح الحاجة فكان سلوك السبل المجعولة له أشبه بالعبودية والاستكانة والخشوع والذلة عن مجرد الصمت والصبر فكذلك سبيل التي ذكرناها. ولو جاز الفصل بينهما وبين ما وصفه السائل بالوجوب لجاز الفصل أيضًا من تلك الواجبات وبين الدعاء، فلما لم يكن في ترك الدعاء وإن لم يكن واجبًا فصل. فلذلك لا فصل بين بعض الأسباب للآخر، وقطعها، وإن لم تكن بأعيانها فريضة واجبة. وأيضًا فإن فرض الله تعالى ما فرض من السبب إلى بعض الأشياء، دليل على أن السبب حيث لم يفرضه، ولكنه أباحه أولى من تركه لأن ترك التسبب في الأصل لو كان أفضل لكان الفرض إذا وقع يقع من جنسه. فلما لم يفرض على أحد قط توكلاً بلا سبب مقدور عليه، وفرض السبب إذا كان مقدورًا عليه في بعض الأشياء، علمنا أن التسبب أفضل من مجرد الصبر ورفض السبب والله أعلم. وفي المسألة وجه ثالث: وهو أن كل من كان قوي العزم يقدر على تجريد الصبر وترك مجاوزته إلى الدعاء، وكان إذا تصبر مدة، فلم ينكشف عنه صبره لم يعد إلى التسبب، ولم يندم على إجباره التصبر عليه، أو لم يكن في عامة أوقاته شاكيًا في أن الصبر الذي آثره أعود عليه، والتسبب أولى به، أو السبب. فكان إذا صبر وقتًا لم يثبت على

صبره وعاده منه إلى التسبب، فينبغي أن يكون مع المتسببين، كما أن من قدر على الصيام وقيام الليل غير مستقل جهدها، ولا يتبرم بطول النهار أو الليل، بل مقسمًا له أن يعبد الله تعالى بالصيام والقيام. ومن كان إذا دخل في الصوم ولم تزل عيناه ممددتين إلى الشمس، كم تبارت وأين بلغت، وهل دنت من الغروب أو لم تدن، ويحدث نفسه خلال ذلك بالفطر وربما يندم على الدخول فيه، فليس الصوم برًا والفطر أولى به إلا الفرض، فإنه لابد منه ما دام يطيقه استقله أو استحقه، والقول في القيام على ذلك أيضًا، كالصبر على الحادثة واستنجاح الحاجة ما عداه مثل ذلك والله أعلم. * * *

الرابع عشر من شعب الإيمان - وهو باب في حب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -

الرابع عشر من شعب الإيمان - وهو باب في حب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - فإنه يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه فقد وجد حلاوة الإيمان منها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواه). وأصل هذا الباب أن يوقف على مدائح رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمحاسن الثابتة له في نفسه ثم على حسن أثارة في دين الله، وما يجب له من الحق على أمته شرعًا وعادة فمن أحاط بذلك، وسلم عقله، علم أنه أحق بالمحبة من الوالد الفاضل في نفسه، البر الشفيق على ولده. ومن المعلم الرضي في نفسه المقبل على التعليم المجتهد في التخريج ومدائح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة منها. شرف أصله، وطهارة مولده. ومنها. اسماؤه التي اختارها الله له وسماه بها. ومنها. إشارة الله تعالى بذكره قبل أن يخلقه حتى عرفه الأنبياء صلوات الله عليهم. وأصمهم قبل أن يعرف نفسه ويعرف ابنه. ومنها حسن خلقه، وكريم خصائله وشمائله. ومنها بيانه وفصاحته، وقوله: (اوتيت جماعة واختصر لي الحديث اختصارًا). ومنها. حدبه على امته ورأفته بهم وما ساق الله تعالى به إليهم من الخيرات العظيمة في الدنيا، وعرضهم له من شفاعة لهم في الآخرة. ومنها. زهده في الدنيا وصبره على شدائدها ومصائبها. فأما المرتبة العظمى وهي النبوة والرسالة فله فيها من المآثر الرفيعة عموم رسالة الثقلين

وشمولها من بين الخافقين، وأنه مقامًا. وذلك أنه أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع ومشفع، وهو صاحب اللواء المحمود، وصاحب الحوض المورود، وأقسم الله بحياته، ولم يخاطبه في القرآن باسمه ولا كنيته، بل دعاه باسم النبوة والرسالة، واصطفاه بذلك على الجماعة. فأما شرف أهله، فأول ذلك أن إبراهيم صلوات الله عليه لما أخذ في بناء البيت، دعا الله تعالى أن يجعل ذلك البلد آمنًا، ويجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ويرزقهم من الثمرات والطيبات، ثم قال:} ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم {فاستجاب الله دعاءه بنبينا صلوات الله عليه، وجعل الرسول الذي سأله إبراهيم صلوات الله عليه ودعاءه أن يبعثه إلى أهل مكة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا دعوة أبي إبراهيم). وروى العرباض بن سارية السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني عبد الله في أم الكتاب بخاتم النبيين، وأن آدم لمجدل في طينته، وسوف انبئكم بتأويل ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نورًا أضاءت له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين). فيحتمل هذا الحديث أن يكون قضى الله تعالى بأنه خاتم النبيين سبق خلقه، وكان قبل أن يكون أبو البشر، وأول الأنبياء صلوات الله عليهم، وأما قوله سأنبئكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم، فيحتمل أن يكون معناه أن الله تعالى لما قضى بأن يجعل محمدًا خاتم النبيين. وأثبت ذلك في أم الكتاب أنجز هذا القضاء بأن قبض إبراهيم الدعاء الذي ذكرنا ليكون إرساله إياه بدعائه كما تكون نقلته من صلبه إلى مكة أولاده أمام عيسى صلوات الله عليه. فبشر به قومه فعرفه بنو إسرائيل قبل أن يخلق، وأرى أمه أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، ليدلها ذلك، على أنها تلد ولدًا تضيء بهداه الأرض، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور والله أعلم.

وله صلى الله عليه وسلم فيما اقتضت من الحال فضيلة أخري. وهو أنه كان نبي الحرم الذي فيه بنته الحجوج والماء من المعلوم فإن إبراهيم صلوات الله عليه بذلك دعا ربه فقال:} ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم {. وقد قال الله عز وجل في تفضيل البيت،} إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا، ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) وقال: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها {ولم يخص بلدًا سواه بإضافته إلى نفسه بتخصيصه مكة بها، فدل ذلك على شرفها وفضلها عنده. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت) فثبت بخبره. أن مكة أفضل البلاد والله أعلم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أن الله خلق الخلق، فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشًا، واختار نم قريش بني هاشم واختار من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فيحبني أحبهم، ومن أبغض العرب فيبغضني أبغضهم) وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل:} وأنه لذكر لك ولقومك {. قال: يقال ممن الرجل؟ فيقال: من العرب. فيقال: من أي العرب؟ فيقال؟ من قريش. وأما طهارة مولده، فقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما خرجت من فحاح، ولم أخرج من سفاح من لدن آدم، ولم يصبني سفاح الجاهلية، لم أخرج إلا من طهر). وأما أسماؤه عليه السلام، فقد رويت عنه أخبار منفردة، فإذا جمعت بلغت عشرة أسماء

وهي: محمد، وأحمد، والحاشر، والماحي، والمقفي، والعاقب، والخاتم، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة. فأما محمد وأحمد فاسمان نم أسماء الأعلام التي يراد بها التمييز بين الأشخاص، وهذه الأسماء وإن كان لا يراد ما تحتها من المعاني فالذي يشتمل منها على معنى من معاني الفصل مقدم في الاستحسان على خلافه. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل (ما اسمك؟ قال: حزن. قال: أنت سهل) وقد كان الكفار يضنون بهذين الاسمين عليه فيقولون مذمم حتى قال صلى الله عليه وسلم (ألا تعجبون كيف يصدق الله عز وجل عني بشتم قريس ولعنهم؟ يسبون مذممًا ويلعنون مذممًا وأنا محمد) ومن تأمل علم أنه ليس من أسماء الناس ما يجمع من الحسن والفضل ما ينتظمه محمد وأحمد، لأن محمدا هو المبالغ في حمده، والحمد في هذا الموضع المدح، وأحمد هو الأحق بالحمد وهو المدح أيضًا. فمن سمي بهذين الاسمين، فقد سمي بأجمع الأسماء لمعاني الفضل والله أعلم. وأما الحاشر فهو الذي يحشر الناس على قدميه. والمعنى أنه أول من يبعث من القبر، وكل من عداه فإنما يبعثون بعده. وهو أول من يذهب إلى المحشر ثم الناس بعد على أثره. وأما الماحي فمعناه أنه يمحي به الكفر وكل باطل، وقيل يمحى به سيئات من اتبعه وإذا كان معنى الحاشر والماحي ما ذكرنا، فمعلوم أن الله تعالى هو الحاشر والماحي، وإنما سمي النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الاسمين، لأن الله عز وجل يحتمل حشره سببًا لحشر غيره، ونبوته سببًا لإرهاق الباطل كله من الكفر وغيره. فصار من طريق التقدير كأنه الحاشر والماحي. وأما المقفي فمعناه المتبع، فقد يحتمل أن يكون المراد المقفي لإبراهيم صلوات الله عليه فإن الله عز وجل قال:} ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفا {. ويحتمل أن يكون المقفي لموسى وعيسى وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، لنقل قومهم عن إتباعهم إلى إتباعهم، وعن اليهودية والنصرانية إلى الحنيفية السمحة.

وأما العاقب: فالذي جاء بعد الأنبياء عليهم السلام، فإنهم يقدموه في أوائل الزمان وتأخر عنهم وكان مجيئه في آخر الزمان. وأما الخاتم: فالذي لا نبي بعده، كما ليس بعد خاتمه الأمر منه شيء، وليس بعد ختم الكتاب بشر، ولا بعد ختم الكيس إخراج شيء منه والله أعلم. وأما نبي الرحمة: فقد جاء عنه عليه السلام أنه قال: (أنا رحمة مهداة) وذلك على معنى أن الله تبارك وتعالى بعثه ليرحم به عباده ويخرجهم على لسانه من الظلمات إلى النور كما قال عز وجل حين امتن عليهم:} واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها {. وأما نبي التوبة: فلأنه أخبر عن الله أنه يقبل التوبة عن عباده إذا تابوا، ولا يأبه، إذا أنابوا، أكبرت ذنوبهم أو صغرت حتى أن معاني شريعته أن حدود الله تعالى كلها تسقط التوبة، ولعل الأمر في شرائع المتقدمين لم تكن بهذه السهولة، فلذلك قال: (أنا نبي التوبة، وأنا نبي الملحمة) فلأن الله تعالى فرض عليه جهاد الكفار وجعل شريعته باقية لها قيام الساعة. وما فتحت هذه البلدان إلا بحد السيف أو خوف السيوف ما عدا فإنما فتحت بالقرآن. وقال صلى الله عليه وسلم: بعثت بين يدي الساعة بالسيف، وجعل رزقي تحت ظل رمحي والذلة والصغار على من خالفني). وأما إشادة الله تعالى بذكره قبل أن يخلقه، فقد أخبر الله تعالى أنه أنزل ذكره في التوارة والإنجيل، فقال فيما أخبر به أنه كلم موسى عليه السلام فقال:} ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم

عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون). وقال عز وجل:} وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فإن قيل: فإن نبيكم يعرف بمحمد. قيل: ويعرف أيضًا بأحمد. وعلى أن عيسى إنما أدى إليهم هذا الاسم بالسريانية، فقال: ما معناه أحمد وهو يريد محمد. لأن تأويل الاسمين واحد. فإن وصفت الشخص بأنه أحق بالحمد مبالغة في حمده، والمبالغة في حمده تقديم له في الحمد على من لم يبالغ في حمده، فأحمد هو علي هذا محمد، ومحمد أحمد. وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:} ورفعنا لك ذكرك {فقيل في تفسيره أنه شهد قبل خلقه وإعلاء ذكره في الأولين قبل أن يخرجه نبيًا في الآخرين. وعن كعب الأحبار قال: قال الله عز وجل: (محمد عبدي المتوكل، ليس فظًا غليظًا ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، ومهاجرة المدنية، وملكة بالشام، امته الحامدون، يحمدون الله على كل حال وفي كل منزلة يغضون أطرافهم ويأتزرون على إنصافهم رعاة الشمس، يصلون إذا أدركتهم الصلاة ولو كانوا على ظهر كتائبه صفهم في القتال كصفهم في الصلاة) وفي حديث آخر زيادة على هذا. وهي لعينه وأعطته مفاتيح ليفتح عيونًا عمياء وآذانًا وقرًا، ويحمي قلوبًا غلفًا، ويقيم ألسنًا معربة حتى تشهد أن لا غله إلا الله). وفي قصة موسى عليه السلام أن الله عز وجل، ذكر له نبينا صلوات الله عليه، ووصفه له فقال: وضاح الجبين براق الثنايا، يتلألأ نوره، لونه تلألأ الذهب الأحمر، أكحل العينين، كان إنسان عينيه لون الخمر العتيق، وكأن حبات الماء حين ينحدرن من وجهه اللؤلؤ المنظوم بيمينك بأصل الحكمة ويعطي أمته فروعها، ويأمر بني إسرائيل من بعدكم بالمعروف

وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم أجرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعززوه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه. أولئك هم المفلحون، ولأنه رأفة ورحمة وحكمة وعلمًا وحلمًا، املأ الأرض خيرًا ونعما نفعا، ولا يضر شيئًا. ولا ينزع بعصاه ولا بسوطه إلا في سبيل الله من سبلي. اسمه أحمد، إلا في مولده بمكة ومهاجرة بطيبة ثم يظهر التوحيد في الأرض، والتسبيح والتكبير والتحميد، وبه تكثر وتفشو أمته الحمادون الموحدون خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إيمانًا بي وتوحيدًا وإخلاصًا لي وتصديقًا لما جاءت به رسلي. وفي حديث آخر. إن الله تعالى لما قرب موسى قال:} رب إني أجد في التوراة أمة في صدورهم أناجيلهم، وكان من قبلهم يقرأون كتبهم تطيرًا، ولا يحفظونها، فاجعلهم أمتي، قال تلك أمة محمد. قال: فإني أجد في التوراة أمة يأكلون صدقاتهم في بطونهم وكان من قبلهم إذا خرج صدقته بعث الله عليها نارًا يأكلها، فإن لم يقبل لم تقدمه النار، فاجعلهم امتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في التوراة أمة إذا هم أحد بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف، فاجعلهم امتي. قال تلك امة محمد: وقرأت فيما يقال أنه برحمة زبور داود، قال لنبي إسرائيل ومر سليمان يقل من بعدك أن الأرض أورثها محمد وأمته وهي خلافتكم، فلا تكون صلاتهم بالطنابير، ولا يقدسوني بالأوتاد. وهو الذي يشبه أن الله تعالى أراده بقوله:} ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون {. ومما ذكر العلماء أنه في التوراة. إذا جاءت الأمة الأخيرة إتباع راكب البعير، يسبحون الرب في الكنائس الجدد، بأيديهم سيوف ذات شهرتين ينقضون من الأمم، فاستبشروا بهم، وبادروا إليهم. وفيها أن سيأتيكم نبي من أخوانكم فاسمعوا له وأطيعوا. ولا يمكن أن يكون أراد بهذا عيسى صلى الله عليه وسلم، لأنه من قبل أمة نبيهم لا من إخوانهم. إنما إخوانهم

بنو إسماعيل وهو بنو إسحاق، ولا يجوز أن يكون أراد نبيًا من أنبياء بني إسرائيل، لأنه لما أخبرهم أنه يأتيهم من أخوانهم شمل بالخبر جميع بني إسرائيل، فكانوا جميعًا نابين. فينبغي أن يكون إلا في غيرهم وبالله التوفيق. وفيها: جاءكم النور من جبل سيناء أي التوراة، وأيضًا من جبل ساعين أي الإنجيل، واستعان من جبل قاران أي القرآن. فإن جبال قاران من جبال مكة. وقال: خسوف النبي جاء الله بالبيان من جبال قاران وامتلأت السموات والأرضون من تسبيح أحمد وأمته صلى الله عليه وسلم. وفي الزبور. قد أتيت موسى التوراة، وأعطيت عيسى برهانًا لم أعطه أحدًا قبله، ولا ظهرت من جبال القرف شمسًا لا تغيب ولا تظلم. ومعنى أعطيت عيسى، أي قضيت له به. وفي التوراة يقول الله تعالى لإبراهيم صلى الله عليه وسلم. وفي إسماعيل سمعت دعاك وباركت عليك، وكثرته بمحمد، ولأخرجن من صلبه اثنى عشر عظيمًا ولا جازيبه بالدين العظيم. وما تسميه النصارى الإنجيل. إن عيسى قال لقومه: أنا أذهب وسيأتيكم الفار قليط وروح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه، وإنما يقول كما يقال له: وكل شيء أعده لكم يخبركم به وفيها ومما أتيت بحبس الحواريين حين نسخ الإنجيل أن عيسى قال في كلام ذكره: فلو قد جاء المتحميا هذا النبي يرسله الله إليكم فهو يشهد معي. وقيل: المتحميا بالسريانية محمد، وهو بالرومية الفرقليط. وفي التوراة لن يعدم سبط يهودا نبيًا مرسلاً أو مليكًا مسلطًا حتى يلقى الله له الملك، اليعرب إياه يرتجون، وفي ترجمة أخري. حتى يأتي الذي بني له وإياه ينتظر السحرت، ولا يمكن أن يكون المراد بهذا المسيح صلوات الله عليه. لأنه لم يكن له الملك، ولا لأحد أن يقول: إن كان المراد ما يدعون، فإنما أخبر عنه بالملك، لأن الملك لا يقطع النبوة، فلما أخبر أن سبط يهودا تنقطع عنه النبوة والملك معًا بمجيء المنتظر علمنا أن ذلك إنما يكون لاجتماع النبوة والملك للمنتظر. ووجدنا أحد الأمرين باتًا لسبط يهودا إلى وقت نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم انقطعنا، فعلمنا أنه كان المراد بالمنتظر وفي قصة شعيبا النبي عليه السلام أنه لما خرج أمر نبي إسرائيل وفيهم شعيا لا يقتلون منه أوحي الله تعالى إليه "قم في

قومك أوح على لسانك" فلما قام أطلق الله لسانه بالوحي. وقال: يا سماء أسمعي ويا أرض انصتي، فإن الله عز وجل يريد أن يقبض شأن بني إسرائيل فذكر معاتبة الله إياهم إلى أن قال "وزعموا أنهم لو شاءوا أن يطلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين اطلعوا، وكلهم يستخفى بالذي يقولونه، وهم يعلمون أني أعلم غيب السموات والأرض، واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، وإني قضيت يوم خلقت السموات والأرض فيما اتيته وصححته على نفسي وجعلت دونه أجلاً واقعًا، فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليتخيروا مني أبعده، وفي أي زمان يكون، وإن كانوا يقتدرون على أن يأتوا بما يشاءون، فليأتوا بمثل القدرة التي اقضيت، فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما شاءوا، فليؤلفوا مثل الحكمة التي أدبر ذلك العصر كانوا صادقين. فإني قضيت يوم خلقت السموات والأرض، أي اجعل النبوة في الآراء، واجعل الملك في الرعاة، والعز في الأذلة والقوة في الضعفاء والغنى في الفقر، والثروة في الإملاء، والمدائن في الفلوات، والآجام في المفاوز، والبردي في الغيطان، والعلم في الجهلة، والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا، ومن القائم بهذا؟ وعلى يد من أسبب؟ ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره، وإن كانوا يعلمون فإني سبقت كذلك نبيا أميا أعمى من عميان، ضالاً من ضالين، وليس فقط غليظ، ولا صحاب في الأسواق، ولا يبر من الفحش، ولأقوال للخنساء، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم. أجعل السكنية لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه أهدى بعد ضلاله، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، واسموا بعد النكرة، وأكبر به بعد القلة، وأتمنى به بعد الصلة، وأجمع به بعد الفرقة، وألف به بين قلوب مختلفة، وأهواء مشتتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر. وتوحيدًا إلى وإيمانًا بي وإخلاصًا يصلون لي قيامًا وقعودًا، وركعا وسجدًا، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، يخرجون من أموالهم ابتغاء رضوان الوفاء، إلهمتهم التكبير والتحميد والتوحيد والتسبيح والتحميد في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف، ويظهرون إلى

الوجود والأطراف، ويعقدون النيات في الأنصار، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم، رهبانا بالليل، ليوثا بالنهار ذلك فضلي أرينه من أشاء وأنا ذو العقل العظيم". وروى عن ثعلب بن مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا مالك عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، وكان من علماء اليهود، فقال: صفته في كتاب بني هارون الذي لم يبدل ولم يغير، أحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم وهو آخر الأنبياء وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف مئذر على وسطه، ويغسل أطرافه في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة مثل زر الحجلة، ليس بالقصير ولا الطويل، يلبس الشملة ويحتوي بالبلغة، ويركب الحمار ويمشي في الأسواق معه حرب وقتال وينبي سيفه على عاتقه، لا يبالي من لقي من الناس معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان ولو كانت في قوم عاد ما أهلكوا بالصيحة مولده بمكة، ومنشأه بها، ونبوته دار هجرته يثرب. بين لا نبي حر ويحل وسبحه، وهو أمي لا يكتب بيده، وهو انجماد على كل شدة ورخاء، سلطانه بالشام صاحبه من الملائكة جبريل، يلقى من قومه أذى شديدًا، ويجبهونه جبها شديدًا ثم يدال على قومه فيجدهم تحصيدًا يكون له وقعات يثرب منها له، ومنها عليه، ثم تكون له العاقبة، معه أقوام هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم، قربانهم دماؤهم، رهبان الليل ليوث النهار، يرعب منه عدوه مسيرة شهر يباشر القتال بنفسه حتى يخرج ويكلم لا شرطة معه ولا حرس يحرسه. ومما روى من أمر تبع أنه لما قدم المدينة نزل بقباء بعث إلى أحبار تيماء وخيبر ووأدي القرى وممن كان بيثرب من زهرة وقينقاع وقريظة والنضير وغيرهم وقال: اللهم إني مخرب هذا البلد حتى لا يقوم يهود به أبدًا، ويرجع الأمر إلى دين العرب، فقال الأحبار: أن يدعنا فسنخيره. فلما تكلموا قال: سأتولى اليهودي، وهو يومئذ أعلمهم، أيها الملك. أن هذا بلد يكون إليه مهاجر من ولد إسماعيل. مولده بمكة واسمه أحمد. هذه دار هجرته، وإن منزلك هذا الذي أنت فيه يكون به من الجراح والقتل أمر كثير في أصحابه وفي عدوهم. قال تبع: ومن يقاتله يومئذ وهو نبي كما تزعمون قال: يسير إلى قومه فيقتتلون هاهنا. قال: فأين قبره؟ قال: بهذا البلد. قال: فإذا قوتل فلمن تكون الدحرة؟ قال تكون له مرة وعليه مرة. وبهذا المكان الذي أنت به يكون عليه، ويقتل

أصحابه، لم يقتلوا في موطن، ثم تكون له العاقبة فلا ينازعه في هذا الأمر أحد. قال: وما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يركب البعير، ويلبس الشملة، سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقاه أخا أو عما أو ابن عم، حتى يظهروا أمره. قال تبع: مالي إلى هذه البلدة من سبيل، وما كان ليكون خرابها على يدي: فخرج تبع منصرفا إلى اليمن، وذكر الحديث. وقيل: أنه قدم على تبع شافع بن كليب الصدمي، وكان كاهنًا فأقام عنده. فلما أراد توديعه، قال له تبع: ما بقي من علمك؟ قال: حبر ناطق وعلم صادق. قال: فهل تجد لقوم ملكًا يوازي ملكي؟ قال: لا، غلا لمثل غسان، قال: فهل تجد ملكًا يزيد عليه؟ قال: نعم. قال: لمن! قال: أجده لبار مبرور، أيد بالطهور، ووصف في الزبور، وفضلت أمه في السفور، بقدح الظلم بالنور، أحمد النبي طوبي لأمته، حين يجيء نبي لؤي ثم أخذ بني قصي. فبعث تبع إلى الزبور، فنظر فيه، فإذا هو يجد صفة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، سمعت أبا مالك بن سنان يقول جئت بني عبد الأسهلي يومًا لنتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحي، سمعت يوشع اليهودي يقول: أطل خروج نبي، يقال له أحمد، يخرج من الحرم، فقال له خليفة بن تغلبة الأسهلي، كالمستهذئ به. ما صفته؟ قال: رجل ليس بالطويل ولا بالقصير في عينيه حمرة، يلبس الشملة، ويركب الحمار سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره. قال فرجعت إلى قومي بني خدرة، وأنا يومئذ أتعجب مما يقوله يوشع. فقالوا ويوشع يقول هذا، وكل يهودي بيثرب يقول هذا: قال أبي: فخرجت حتى جئت قريظة فأخذ جمعًا منهم، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلا لخروج نبي وظهوره، ولم يبق إلا أحمد وهذه مهاجره. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا، أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الزبير وذووه من رؤساء اليهود، لأسلمت

يهود كلها، إنما هم لهم تبع، ولكنهم أهل حسد). وذكر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خرج مع بني مالك إلى المقوقس، فقال لهم: كيف تخلصتم إلى طائفيكم ومحمد وأصحابه بيني وبينكم؟ قالوا: أتينا البحر وقد خفناه على ذلك. قال: فكيف صنعتم؟ فيما دعاكم إليه؟ قالوا: ما تبعه منا رجل واحد. قال: ولم ذاك؟ قالوا: جاءنا بدين لا يدين به الآباء ولا يدين به الملك. ونجز على ما كان عليه آباؤنا. قال: فكيف صنع قومه؟ قالوا: تبعه أحزابهم وقد ناظر من خالفه من قومه، وغيرهم من العرب في مواطن تكون عليهم الدائرة مرة، وتكون له مرة. قال: ألا تخبرونني وتصدقونني، إلى ماذا تدعون؟ قالوا: ندعو إلى الصلاة والزكاة. قال: وما الصلاة والزكاة؟ ألهما وقت يعرف، وعذر ينتهي إليه؟ قالوا في اليوم والليلة خمس صلوات كلها لمواقيت، وعدد قد سموه له، ويؤدون من كل ما بلغ عشرين مثقالاً نصف مثقال، وكل إبل بلغت خمسًا شاة، وقال: حتى أخبروه بصدقات الأموال كلها. قال: أفرأيتم إذا أخذها، أين يضعها؟ قالوا يردها على فقرائهم، ويأمر بصلة الرحم والوفاء بالعهد ويحرم الزنا والخمر، ولا يأكل ما ذبح لغير الله. قال: هو نبي مرسل إلى الناس كافة، ولو أصاب القبط والروم تبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى بن مريم، وهو الذي يصفون، بعث به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافز، ومنقطع البحور ويوشك قومه يدافعونه بالراح، قال: فقلنا لو دخل معه الناس كلهم ما دخلنا معهم. قال: ما يغض رأسه، وقال: أنهم في الملعب، ثم قال: كيف نسبه في قومه؟ قلنا: هو أوسطهم نسبًا. وقال: وكذلك المسيح والأنبياء تبعث في نسب قومها. قال: فكيف صدق حديثه؟ قلنا: ما يسمى إلا الأمين من صدقه. قال: انظروا في أمركم أترونه بصدق فيما بينكم وبنيه، وتكذب على الله. قال: فمن اتبعه؟ قال: الأحداث. قال: هم أحداث الأنبياء قبله. قال: فما فعلت يهود يثرب، فهم أهل التوراة، قلنا خالفوه، فأوقع بهم، فقتلهم وسباهم وتفرقوا في كل وجه. قال: هم قوم حسد حسدوه أما أنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف. قال المغيرة: فقمنا من

عنده وقد سمعنا كلامًا ذللنا لمحمد وخضعنا، وقلنا: ملوك العجم يصدقونه ويخافونه في بعد أرجائهم منه، ونحن أقرباؤه وجيرانه لم نوجل منه، وقد جاءنا داعيًا إلى منازلنا. قال المغيرة: فرجعت إلى منزلنا بالإسكندرية، لا أدع إلا كنيسة إلا دخلتها وسألت أساقيفها من قبطها ورومها عما يجدون في صفة محمد صلى الله عليه وسلم. وكان أسقف من القبط هو رأس الكنيسة التي يحبس كانوا يأتونه بمرضاهم فيدعو لهم، لم أر أحدًا قط أشد اجتهادًا منه. فقلت: أخبرني، هل بقي من الأنبياء أحد؟ قال: نعم، واحد وهو آخر الأنبياء ليس بينه وبين عيسى بن مريم أحد، وهو نبي، أمرنا عيسى باتباعه، وهو النبي الأمي العربي اسمه أحمد، ليس بالطويل ولا بالقصير في عينيه حمرة، ولا بالأبيض ولا بالأدهم. ويضفر شعره ويلبس ما غلظ من الثياب، ويحتوي بما بقي من الطعام، سيفه على عاتقه، ولا يبالى من لاقى، يباشر القتال بنفسه، ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم هم له أشد حياء منهم لأولادهم وآبائهم، ويخرج من أرض القرط من حرم يأتي وإلى حرم يهاجر إلى أرض ساع ويجل بدين إبراهيم صلى الله عليه وسلم. قال المغيرة: زدني من صفاته. قال: يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه، ويخص بماله يكن للأنبياء قبله عليهم السلام قبله، كان النبي يبعث إلى قومه وبعث إلى الناس كافة وجعلت له الأرض مسجدًا طهورًا، أين ما أدركته الصلاة تيمم وصلى. ومن كان قبله كان مشددًا عليهم لا يصلون غلا (في الكنائس والبيع). قال المغيرة: فوعيت ذلك كله من قوله وقول غيره: وجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم أحببته صلى الله عليه وسلم عند مخرجنا من الطائف حتى قدمنا الإسكندرية، ثم أخبرته بما قال الملك وقالت الأساقفة ورؤساء القبط والروم، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أن يسمعه أصحابه، فكنت أحدثهم بذلك. ويروي عن قصة إسلام ثعلبة بن شعبة وأسد بن شعبة وأسد بن عبيد: إنما كان إن رجلاً من اليهود قدم عليهم المدينة من الشام قبل الإسلام بسنوات، لم ير رجلاً يصلي الخمس أفضل منه، كان إذا أحبس عنهم المطر، قالوا له: أخرج فاستسق لنا، فيأمرهم أن يقدموا صدقة، ثم يخرج بهم إلى ظاهر واديهم، فلا يبرح مجلسه حتى تمطر، فعل ذلك مرات كثيرة وحضرته الوفاة، فقال: يا معشر اليهود دماء الذي تروني، أنه أخرجني من أرض

الحمر والحمير إلى أرض البؤس والجوع معًا. فقالوا: أنت أعلم. قال: إني إنما خرجت أتو كف نبيًا يبعث، وقد أظلكم زمانه، هذه البلدة مهاجرة، فكنت أرجو أن أدركه فاتبعه، فإن سمعتم به فلا تسبقن إليه، فإنه يبعث بسفك الدماء وبسبي النداري، فلا يمنعكم ذلك منه، ثم مات. فلما كان في الليلة التي في صباحها صبحت قريظة، قال لهم ثعلبة وأسيد وأسد، كانوا فتيانًا شبابا. يا معشر يهود. أنه الرجل الذي كان وصف لنا، فاتقوا الله واتبعوه، قالوا: ليس به بلى والله، أنه هو ثم نزلوا فأسلموا. وفي حديث سيف بن ذي يزن: أنه لما ظهر على الحبشة، وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنين أتاه وفود العرب وأشرافها وشعراؤها مهنئة، ونذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه، وأتاه وفد قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس وعبد الله ابن جدعان وأسد بن عبد العزى ووهب بن عبد مناف وقصي بن عبد الدار، فدخل عليه بأذنه، وهو في رأس قصر يقال له غمدان، عليه بردان أخضر أن مرا به يأخذهما متزر بالآخر، سيفه بين يديه، وعن يمينه وشماله الملوك وأبناء الملوك. فأخبر بمكانهم فأذن لهم، فدخل عليهم فدنا منهم عبد المطلب فاستأذنه في الكلام، فأذن له، فقال: أن الله أحلك أيها الملك محلاً رفيعا باذخا منيعا شامخا وأتاك بأطايب ارومية، وعظمة حرنونية وثبت أصله وبسق فرعه في أطيب مواطن وأكرم معدن، وأنت أبيت اللعن - ملك العرب وما فيها، وربيعها الذي به يخصب، وأنت ملك العرب، الذي له سباد وعودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلتجئ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منه خير خلف، فلن يهلك ذكر من أنت خلفه، ولن يحمل ذكر من أنت سلفه، نحن أهل حرم الله وسدنة نبيه، أشخصنا إليك الذي أنهجنا من كشفك العرب الذي فرحنا فنحن وفد التهنئة، لا وفد الرزئة. فقال له الملك: ما أنت أيها المتكلم، فقال: عبد المطلب بن هاشم. قال: ابن أخي؟ قال نعم قال: أدنه ثم أقبل عليه وعلى القوم وقال: مرحبا وأهلاً وناقة ورجلاً ومشتاقا سهلاً وملكا ونجلاً يعطي عطاء جزلاً، وقد سمع الملك مقالتكم، وعرف رسالتكم، وقبل وسيلتكم فأنتم أهل الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم والخباء إذا أطعتم وكان أول من قال مرحبا وأهلاً وناقة ورجلاً فأرسلها مثلاً،

ثم انهضوا إلى دار الضيافة والوفود وأجرى عليهم الإنزال، فأقاموا بذلك شهرًا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم بالانصراف. ثم أن الملك انتبه لهم انتباهه، فأرسل إلى عبد المطلب، فأدناه، ثم قال له: يا عبد المطلب، إني مفض إليك بسر علمي، لو غيرك يكون لم أبح به، ولكني رأيتك معدله، فأطلعتك عليه، فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه. إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا وحجبناه عن غيرنا خبرًا عظيما وخطرًا جسيما فيه شرف الحياة وفضله للناس عامة وأهلك كافة ولك خاصة. فقال له عبد المطلب مثلك أيها الملك سر وبر، فما هو فداك أهل الوبر زمرًا بعد زمر. قال إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة. قال عبد المطلب: أبيت اللعن أيها الملك، لقد أتيت بخبر ما آت به وافد قوم ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من ساره إياي، ما ازداد به سرورًا. فقال له الملك: هذا حينه الذي يولد نيه أوفد، ولد اسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، وقد ولد له مرارًا، والله باعثه جهارًا. أو عاجل له منا أنصارًا يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، وسيفتح بهم كرائم الأرض، يخمد النيران، ويعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، ويكسر الأوثان. قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله. فقال له عبد المطلب: عز جدك ودام ملكك وعلا كعبك، فهل الملك يساري إفصاح وقد أوضح لي بعض الإيضاح؟ فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك يا عبد المطلب بجده غير كذب. فخر عبد المطلب ساجدًا. فقال ابن ذي يزن: ارفع رأسك، ثلج صدرك وعلا كعبك. فهل أمسست بشيء مما ذكرت؟ قال: نعم أيها الملك، أنه كان لي ابن وكنت معجبا به وعليه تنبيقا، وأنه زوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام فسميته محمدًا، فمات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه. فقال له الملك: أن الذي قلت كما قلت فاحتفظ من أنبأك واحفظ عليه فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، وأطر ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن يدخلهم التعاسة من أن تكون لك الرياسة، فينصبون لك

الحبائل ويبغون لكل العوائل، وهم فاعلون ذلك وابناؤهم غير شك، ولولا إني أعلم أن الموت مخرمي قبل مبعثة، لسرت بخيلي ورحلي حتى أجعل يثرب دار ملكي، فإني أجد في الكتاب الباطن، والعلم السابق، أن يثرب استحكام أمره ودار نصرته وموضع قبره، ولولا أني أقية الآفات، واخذر عليه العاهات، لا عليت على حدائه سنة أمره، ولا وطأت العرب كفيه، ولكني صارف ذلك لك من غير تقصير بمن معك. ثم دعا القوم، فأمر لكل واحد منهم بعشرة أعبد وعشر اماء وكرسي بماء وعنبر، ومائة من الإبل، وحلتين من حلل البرود وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضة، وأمر لعبد المطلب بأضعاف ذلك، وقال: إذا كان الحول فاتني بما يكون من أمره سيف بن ذي يزن، قبل أن يحول عليه الحول. فكان عبد المطلب كثيرًا ما يقول: يا معشر قريش، لا يغتطبن أحد منكم بجزيل عطاء الملك وإن حل فإنه إلى نفاذ، ولكني يغبطني مما يبقى لي ولعقبى ذكره وفخره، فإذا سئل ما هو؟ قال: ستعلمون ما أقول: ولو بعد حين. وفي قصة إسلام كعب: قال كعب الحبر: كان أبي أعلم الناس بما أنزل الله على موسى ابن عمران صلوات الله عليه، فكان لم يدخر عني شيئًا ما كان يعلم، فلما حضره الموت دعاني فقال: يا بني، إنك قد علمت أني لم أدخر عنك شيئًا فما كنت أعلم إلا إني حسبت عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يبعث. وقد أطل زمانه، وقد جعلتها في هذه الكوة التي ترى، وظننت عليهما، فإذا يرد الله بك خيرًا، وخرج ذلك النبي تتبعه، ثم أنه مات فدفناه، ولم يكن شيء أحب إلى الله من المأتم حتى أنظر ما في الورقتين. فلما انقضى المأثم فتحت الكوة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيها. محمد رسول الله. خاتم النبيين، لا نبي بعده، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، لا فظ ولا غليظ، ولا صحاب في الأسواق، ويجري بالحسنة، ويعفو أو يصفح امته الحامدون، يحمدون الله على كل حال بذلك ألسنتهم بالتكبير، وينصر نبيهم على من ناو أهم، يغسلون فروجهم ويأتزرون على أوساطهم، أناجيلهم صدورهم، وتراجمهم بينهم، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم. فلما قرأت ذلك قلت في نفسي: وهل علمني أبي شيئًا خيرًا من هذا. فمكثت بذلك ما شاء الله، ثم بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بمكة، فهو يظهر مرة ويستخفى أخرى. فقلت: هوذا. فلم يزل كذلك حتى قيل لي: أتى المدينة، ثم بلغني بعد، أنه توفي.

فقلت في نفسي. لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أنهم الذين ارجأوا وانظر سيرتهم وأعمالهم. فلم أزل أدافع ذلك وأوخر لا سبب، حتى قدم علينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فلما رأيتهم ووفاءهم بالعهد وما صنع الله لهم على الأعداء، علمت أنهم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في دينهم، فو الله إني ذات ليلة في سطحي، إذا رجل من المسلمين يتلو قول الله عز وجل "يا أيها الذين أوتوا الكتاب، آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوهًا فنزدها على أدبارها، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولا. فلما سمعت هذه الآية حسبت إني لا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي. فما كان شيء أحب إلى من الصباح، فغدوت على المسلمين، فقال كعب: وقلت لعمر بالشام: أنه مكتوب في هذه الكتب أن هذه البلاد التي كانت لبني إسرائيل، أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكفارين، سره مثل علانيته وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد سواء في الحق عنده، أتباعه رهبان في الليل، وأسد بالنهار، متراحمون متواصلون متبارون فقال عمر رضي الله عنه: ثكلتك أمك، أحق ما تقول؟ فقلت: أي والذي اسمع ما أقول: فقال الحمد لله الذي أعزنا وأكرمنا وشرفنا ورحمة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورحمته التي وسعت كل شيء. وفي قصة إسلام سلمان رضي الله عنه، قال: كنت رجلاً فارسيًا من أهل أصفهان، وكانت لأبي صنيعة عظيمة، فأمرني أن أذهب إليها، فاطالعيا. فمررت بكنيسة النصارى، فسمعت أصواتهم منها وهم يصلون. فدخلت عليهم انظر ما يصنعون، فأعجبتني صلاتهم، وقلت هذا والله خير من الذي نحن فيه، فما برحت حتى غربت الشمس، وقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. فقدمتها. فقلت: من أفضل هذا الدين علمًا، قالوا: الأسقف في الكنيسة. فدخلت معه إلى أن مات. وجعلوا مكانه رجلاً فما رأيت أحدًا يصلي الخمس إني به حتى هرم في الدنيا ولا أذوب ليلاً ونهارًا منه، فأقمت معه إلى أن حضرته الوفاة، فأمرني أن الحق برجل بالموصل، فلما مات وغيب لحقت بالموصل. ووجدته على أمر صاحبه، فأقمت عنده، فلما حضرته الوفاة سالته، فأمرني أن الحق برجل بنصيبين، ذكره لي، فلحقت به وأقمت معه خير رجل، فلما

حضرته الوفاة، قلت ما تأمرني، قال والله ما أعلم أحدًا بقي على أمرنا إلا رجلاً بعمورية فإن أحببت فاته. فلما مات وغيب بحثت بصاحبه بعمورية. وأخبرته، قال: أقم عندي، فأقمت عنده واكتسبت، ثم نزل به أمر الله تعالى، فقلت: ما تأمرني، أي شيء لم يهيج على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد ظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم صلوات الله عليه، يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حربين، تحل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد، فافعل، ثم مات. فمر بي نفر من كلب تجار العرب، فأعطيتهم ما عندي ليحملوني إلى أرض العرب، فحملوني إلى وادي القرى، ثم باعوني من يهودي، وقدم ابن عم له من أهل المدينة من بني قريظة فاتباعني منه، واحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن ترابها فعرفتها بصفة صاحبي فأقمت بها فبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له ذكرًا مما أنا فيه من شغلي، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي عذو أعمل فيه، إذ قبل ابن عمر لسيدي، فقال: فاتك الله نبي قبيلة، والله أنهم لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، فلما سمعت أخذتني العذو حتى ظننت إني أسقط ونزلت عن النخلة وجعلت أقول لابن عمه: ماذا يقول؟ فغضب سيدي، فكلمني كلمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ ولقد كان عندي شيء جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء. فدخلت عليه، فقلت: هذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقربته إليه فقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل. فقلت في نفسي هذه واحدة. فانصرفت عنه، فجمعت شيئًا، وتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجئته به، وقلت: هذه هدية أكرمتك بها لما رأيتك لا تأكل الصدقة، فأكل منها، وأمر أصحابه فأكلوا. فقلت في نفسي: هاتان اثنتان. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه عليه شملتان، فسلمت عليه، ثم ابتدأت انظر إلى ظهره، وهل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فعرف إني أتيت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه اقبله وأبكي. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول فتحولت، فقصصت عليه حديثي. فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اسمع ذلك، وشغلفي الرق حتى يأتي يد

زوجتي، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة ابتعتها له بالعفر وأربعين وقية ذهب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين ودية. والآخر بالعشرين والرجل بالخمسة عشر والرجل بعشرة حتى اجتمعت ثلاثمائة ودية. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان فقعرها فإذا فرغت فأتني أكن أنا أصفها بيدي فقعدت حتى إذا فرغت جئته، فخرج إليها فضرب له الوادي فيضعه بيده حتى فرغنا فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة. فأديت النخل وبقي على المال. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة فرد هي من بعض المعادن، وقال: (فماذا فعل الفارسي إذ كانت قد دعيت له، قال (خذ هذه فأد بها ما عليك يا فارسي، قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله؟ قال: خذها، فإن الله سيؤدي بها عنك) فأخذتها فوزنت له منها، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرًا. وما ذكر وهب بن منبه رضي الله عنه أن الله تعالى أوحي إلى داود صلوات الله عليه. يا داود، أنه يأبى من بعدك نبي يسمى أحمد ومحمد صادق سيد لا أغضب عليه أبدًا، وقيل: غفرت له، قيل: أن بعض ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وأفرضت عليهم الفرائض التي أفرضتها على الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة، ونورهم مثل نور الأنبياء، قبلهم. وأمرتهم بالجوار كما أمرت الأنبياء قبلهم. أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم، لا اؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه عن غير عمد، إذا استغفروني منه غفرته لهم، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبه به تقواهم، عجلت لهم أضعافا مضاعفة، ولهم في المدخور عندي أضعاف مضاعفة، وأعطيتهم على المصائب والبلايا إذا صبروا، وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، الصلاة والهدى والرحمة إلى جنات النعيم. فإن دعوني استجب لهم فأما أن يروه عاجلاً وإما أن أصرف عنهم سوءًا، وإما أن أدخر لهم في الآخرة. يا داود من لقيني من أمة محمد. وقد كذب محمدًا أو كذب بما جاء به، واستهزأ بكتابي، صببت

عليه في قبره العذاب صبا، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم ادخله الدرك الأسفل من النار. وأما خلقه وخلقه صلى الله عليه وسلم: فقد روى عظمها في حديث جامع سوى ما جاءت به الأخبار متفرقة. وروى عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وأنا استهي أن يصف لي منها شيئًا اتعلق به. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخمًا مفخمًا يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر إن انفرقت عقيصته وإلا فلا تجاوز شحمة أذنيه إذا هو وفره. أزهر اللون واضح الجبين، ازج الحاجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، اقنى العرنين، اشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المكبين، ضخم الراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري اليدين والبطن، مما سوى ذلك أشعر الذراعين والمنكبين، وأعلى الصدر وطول الزندين، رحب الراحة، سبط العجب، شتى الكعبين والقدمين، سابل الأطراف خمصان الأخمصين، مسح القدمين ينبو عنهما الماء، إذ زال زال فلعًا يخطو بكفؤ أو يمشى هونًا، ذريع المشية، كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت جميعًا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسبق أصحابه يبدأ بالسلام من لقيه. قلت: صف لي منطقه؟ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتح الكلام ويختم بأشداقه. ويتكلم بجوامع الكلم فضل لا فضول ولا بقصير. دمث ليس بالجاهل ولا المهين. يعظم النعمة وإن دقت ولا يدم منها شيئًا ولا يذم ذواقًا. ولا يمدحه ولا تعصبه الدنيا وما كان لها فإذا به وطئ الحق، لم يعرفه أحد، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب نفسه ولا ينتصر لها. إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث ليفصل بها يضرب براحته اليمنى على باطن إبهامه اليسرى. وإذا غضب أعرض واشاح، وإذا فرح غض طرفه جل ضحكه النسيم. ويفتر عن مثل حب الغمام.

قال الحسن: فكتمنها للحسين زمانًا، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه، فسألته عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه ومجلسه وشكله فلم يدع منه شيئًا. قال الحسن: سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان دخوله ماذونًا له، فكان إذا أوتى منزلة جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله تعالى وجزء لأهله وجزء لنفسه. ثم جزا جزأه بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة بالحياضة ولا يدخر عنهم شيئا، فكان جزء سيرته في جزء الأمة اثبارًا أهل بأذنه. وقسمه على قدر تفضلهم في الدين. فمنهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحوائج فيشاغل لهم ويشغلهم فما أصلحهم والأمة من مسألتهم عنهم، وأخبارهم بالذي ينبغي لهم. ويقول: ليبلغ الشاهد الغائب. وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من بلغ سلطانا حاجة من يستطيع إبلاغها إياه، ثبت الله قدميه، يوم القيامة لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون عليه روادًا ولا يتفرقون إلا عن ذواق ويخرجون أذلة. قال: فسألته عن مخرجه، كيف كان يصنع فيه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا بما يعنيه، ويؤلفهم ولا يفرقهم، أو قال: ولا يقربهم يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليه، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي على أحد شره، ولا خلقه ويتفقد أصحابه ويحسنى الحسن ويقويه، ويقبح القبح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفلى مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عباد، لا يقصو عن الخلق ولا يجوزه الذين يلونه من الناس خيارهم وأفضلهم عنده، أعمهم نصيحة وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. قال: فسألته عن مجلسه، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر لا يوطن الأباكر وينهى عن أبطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحتسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المتصرف. ومن سأله عن حاجة لم يرده غلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منهم بسطه وخلقه، فصار لهم أبا وصاروا

عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حكم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤتى فيه الحرم، ولا ينبي فلياته، وقيل لا يثنى متفاضلون فيه بالتقوى، ويحفظون القريب متواضعين، يوقرون فيه الكبير ويرحمون الصغير ويؤثرون الحاجة. قلت: كيف كانت سيرته في جلساته؟ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب. ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب ولا فحاش، ولا غياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهى. ولا يوس منه ولا يحب فيه. قد نزل نفسه من المراء والإكبار ما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث، كان لا يذم أحدًا ولا يعيره، ولا يطلب عورته ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أوليهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون. ويصير للقريب على الجفوة في منطقة ومسألته، حتى أن كان يستجلبونهم. ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه ولا يقبل إنشاء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجور فيقطعه بنهي أو قيام. قال فسألته: كيف كان سكوته؟ قال: كان سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على أربع: الحلم والحذر والتقدير والتفكير. فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع من الناس. وأما تفكيره ففيما يبقى ويغنى وجمع له الحلم والصبر فكان لا يغضبه شيء ولا يستنفره وجمع له في الحذر في أربعة أخذه بالحسن ليقتدي به. وتركه القبح بسلها عنه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته، والقيام فيما جمع لهم الدنيا والآخرة. ومنها ما يروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بالطويل البائن ولا بالمشذب الذاهب، ولا القصير المتردد، وكان ينسب إلى الرفعة إذا مشي، ولم يكن على ذلك يماشيه أحد من الناس. بسبب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، وإذا فارقا نسبا إلى الطول، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفعة ويقول: جعل الخير كله في الربعة. وكان لونه ليس باهق ولا بأدم وكان أزهر اللون، وكان عرقه في وجهه مثل اللؤلؤ، أطيب من المسك الأدفر. وكان

أول من سدل ناصيته بين عينيه كما تسدل نواصي الخيل، ثم جاءه جبريل صلوات الله عليه بالفرق ففرق، وكان أحسن الناس قضاء وأنورهم لونًا لم يصفه واصف قط إلا شبه وجهه بالقمر ليلة البدر. وقال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أصحبان، وهو في حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر فهو كان أدنى في عيني من القمر. وقال صلى الله عليه وسلم: (إني أشبه الناس بأبي آدم، وكان أبي خليل الرحمن أشبه الناس به خلقًا وخلقًا) وقال بعضهم: كان أقنى العرنين، له نور يعلوه بجبينه، من لم يتأمله أثم، وكان كفه كأنه كف عطار مس طيبًا، أو لم يمسه بمصافحة المصافح فيظل يوم يجد ريحها أو يضعها على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان من ريحها على رأسه وكان بين القوم إذا سارع إلى خير أو مشى إليه، ويسوقهم إذا لم يسارع إلى شيء. وكان واسع الظهر، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو مما يلي منكبه الأيمن، فيه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة، حولها شعرات متواليات، كأنها من عرق فرس. ومنهم من قال: كانت شامة النبوة بأسفل كتفه خضراء منحفوة في اللحم قليلاً، وكان إذا طلع جبينه من بين السفر أو عند طفل الليل، أو طلع بوجهه على الناس، رأو جبينه كأنه ضوء السراج المتوقد تلألأ. تفسير ما عسى يشكل من ألفاظ هذه الأخبار: قوله: فخمًا مفخمًا، أي ممتلئ الوجه جميلاً مهيبًا. والمربوع: بين الطويل والقصير. والمشذب: المفرط في الطول. رجل الشعر: أي ليس بالسبط الذي لا يكثر فيه. والقطط: الشديد الجعوده. والعقيصة: الشعر المعقوص، وهو نحو من المظفور. والرجع في الحاجب: أي يكون فيه تقوس مع طول في أطرافها، وهو السبوع. والقرن: اتصال الحاجبين، فإذا كانت بينهما فرجة فذاك البلح، والعرب تستحبه بينهما عرق يدره القصب، أقنى الأنف أي علوه، والقنا في الأنف: أي يكون مستويًا لا تعوج في نصبته. والشمم: الارتفاع. وقوله: كث اللحية، أي كثيفة من غير عظم ولا طول. ضليع الفم: يعني حد الشفتين. الأشنب: الذي في لسانه دقة وتجرد. والفلج: مفرق الأسنان. والمسربة: الشعر الذي من اللبة إلى السرة. جيد دمية. الجيد العنق، والدمية. الصورة. ضخم الكراديس.

قيل عظم الألواح. وقيل رؤوس العظام والزندان العظيمان اللذان في الساعدين، المتصلان بالكفين. سبط العصب. أي ممتد، كل عظم فيه مخ، كالسلقين والعضدين والفراعين. شتن الكفين والقدمين. أي فيها بعض الغلظ. والأخمص من القدم. ما بين صدرها وعقبها وهو الذي يلصق بالأرض في الوطئ. وقوله خمصات الأخمص. يعني دقيق بطن القدمين فيه تجاف عن الأرض. فسيح القدمين. متساويان، ليس في ظهورها تكسر، فالماء ينبو عنهما كذلك إذا خطا بها أي تمايل. وذريع المشية واسع الخطى، كأنما ينحط في صبب، أي مقبل على ما بين يديه. لا يرفع بصره إلى السماء. وكذلك يكون المنحط قد فسره، فقال: خافض البصر. نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء. قوله: إذا التفت التفت جميعًا. يريد لا يلوي عنقه دون جسده، فعل أهل الخفة والطيش. والدمث: اللين السهل. وقوله: اعرض وأشاح، يعني جد وبالغ يغتر عن مثل حب الغمام: أي يكسر ضاحكًا من غير قهقهة. وحب الغمام: البرد. يدخلون رواد: أي طالبين واحدهم رائد. ويخرجون أدلة. قيل الخبر. فكان المعنى: يدخلون متعلمين ويخرجون أئمة بكل حال عنده عباد: أي شيء أعده له. لا يوطن الأماكن: أي لا يجعل شيئًا منها، وطيئًا لنفسه بل يجلس حيث تيسر له الجلوس فيه. وقوله: لا تؤثر فيه الحرم. أي لا توصف فيه النساء إلا بشيء قليل أي لا يتحدث بالسقطات. والأمهر: الأبيض الذي يضرب بياضه إلى الشهية. والأزهر: الأبيض الناصع البياض الذي لا تشوبه حمرة ولا صفرة. قال صاحب هذا التفسير: فأما ما روى أنه كان أبيض مشرب حمرة، فإنما أريد به واضحًا منها الشمس والرياح، وما عدا ذلك فإنما كان أزهر، والذي تدل الأخبار عليه أنه لم يبعث بالأزهر لنصوع بياضه، لكن لإشراقه، كما قيل للزهرة التي هي أحد الكواكب السبغة زهرة لأنه ليس في أمثالها أشد إشراقًا منها في مناظر الناس. وقد كتبنا في جملة صفاته أن جبينه كان يكون كالسراج المتوقد وأنه على أنفه نور يعلوه فيحسبه لذلك متى يتأمله أشم، فإنما قيل له أزهر عن هذا الوجه والله أعلم. وكانت عيناه نجلاوين، والنجلاء: الواسعة الحسنة. والدعج: شدة سواد الحدقة. وجاء أنه كان في عينيه تموج من حمرة، وأهدب الأشقار: كثيرها وطويلها. سهل الخدين صلتهما: أي أسيل مسنون. أي لا يفوق بعض لحمه لحمًا. وليس بالطويل الوجه ولا المكلثم

أو كانت لبكاء بارزتين. أي ما حول العنفقة من جانبيها، لم يكن فيه شعر، بل كان في بياض اللؤلؤة. كان عريض الصدر ممسوحه كالمرايا في شدتها واستوائها لا يعدو بعض لحمه بعضًا. وكان قليل الكند وهو مجتمع الكتفين والظهر. ومن قال: كان طويه مسربه الظهر، أراد بها القضاء، والذي في الظهر من أوله إلى آخره. وفي حديث الهجرة. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليله هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ومولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط. فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية، فسألوا تمرًا أو لحمًا ليشتروه، فقالت: لو كان لم نعوزكم القرى. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر خيمتها فقال: (هذه الشاة يا أم معبد. فقالت: شاة خلفهما الجهد عن الغنم. فقال هل بها لبن؟ فقالت: هي أجهد من ذلك؟ قال: أتأذنين أن أحلبها؟ قالت نعم. بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة، فمسح ضرعها، وذكر اسم الله وقال: اللهم بارك لها في شاتها. فتفاحت وأدرت وأحبرت، فدعا بإناء لها بربص الرهط، فحلب فيها نجاء فسقاها حتى رويت، ثم سقى أصحابه فشربوا حتى رووا وشرب آخرهم، وقال بباقي القوم آخرهم شربًا فشربوا جميعًا، ثم قعد نهل حتى أراضوا، ثم حلب فيه ثانيًا، فغادره عذبًا، ثم ارتحلوا عنها فقفل. ما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا حبلاً عجافًا، شاؤك هزلى فيجهر قليل، لا بقي لهن. فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين لكم هذا والشاة عازبه، ولا حلوب في البيت. فقالت: والله ألا أخه مر بنا رجل مبارك وكان من حديثه كيت وكيت. قال إني والله لأراه صاحب قريش الذي يطلب. صفيه لي يا أم معبد؟ قالت رأيت رجلاً ظاهر الوضأة ملح الوجه حسن الخلق، لم تعيه نحله ولم ير بربه صلعه وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره وطف، وفي صوته ضحل، أحور أكحل أزج أقرن، رجل شديد سواد الشعر، في عنقه سطح، وفي لحيته كثافة، إذا صمت يعلوه الوقار وإذا تكلم سماه البهاء، كان منطقه جهرات نظم يتجرون، جلو المنطق، فصل لا نزر ولا هدر، أجهد الناس وأجملهم من بعيد وأجلاهم وأحسنهم من قريب. ربعة لا تساوه عين من طول، ولا يفتحه من قصر غصن من غصنين، فهو من أنصر الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدرًا له رفقا يحفون به. إن قال اجتمعوا لقوله: وإن أمر تبادروا إلى أمره، ولو كب وافقته لالتمست أن أصحبه ولا فعلته إن وجدت سبيلاً إلى ذلك.

التفسير. كسر الجمجمة: مؤخرها. ففاحت: فزحت بدخلها مجي. يعني سبيلاً. أراضوا: شربوا من لبن مصبوب فوق لبن يشارك بشين. مسينا: ضعيفا. والحل: جمع حائل خلاف الحامل. الوجأة: الجمال المشلح. المين. التحلة. عظيم البطن. الصلعة: بصغر الرأس. الوسيم: القسيم، الجميل. الدعج: سواد الحدقة. الوطف: طويل الأشعار. الصهل: يشبه القبح لا الشديد لكن قدر ما استحسن. السطع: الطول. الازح: المنقوش الحاجبين. والاقرن: الملتقي حاجباه ولم يسمع ذلك في صفة الرسول إلا في هذا الحديث. الهذر: الكثير. ولا يقتحمه عزيز قصير: أي لا تزدريه قلبه، ولكن يفعله المحقود المجذوم والمحسود المحفوف. حشده أصحابه: أطافوا به. ذكر ما تدل عليه الصفات التي تقدم ذكرها من الأخلاق والشمائل عند أهل الفراسة: روى عن عبد الله بن سلام أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت فيمن جاء، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وقد قال بعض الصالحين: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخير أما اللون: فقد قيل أنه كان أبيض وقيل أزهر، وقيل أبيض مشرب حمرة. وقالوا: البياض الناصع يدل على سكون الطبع، وهذا موافق لما وصف الله به رسوله عليه السلام من اللين والدمائة في قوله:} فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك {. قالوا: البياض المشرب حمرة، يدل على اعتدال المزاج، ومعلوم أن المزاج إذا اعتدل لم يكن الخلق منه إلا حسنًا كريمًا. وقد قلنا أن الأزهر هو المشرق، والإشراق لا يكون من شيء يذهب البياض. ألا ترى أن الفجر يطلع أول ما يطلع أبيض، فإذا أذنت الشمس من الطلوع أشرق. فيقرب إذا معنى الأزهر من معنى الأبيض المشرب حمرة. إلا أن الإشراق الزائد على أن المعهود كان له عليه السلام من أعلام النبوة.

وقالوا من علامات الفهم الدقيقة الطبع أن يكون بين الأبيض والأحمر، ويكون للونه رونق وبرق. وأما القامة. فقد قالوا أن الاعتدال فيها أن يكون بين الطول والقصر هو من علامات الفهم الرقيق الطبع. وقالوا: أن العين إذا كانت متشربة من السهلة ما يكسر سوادها، كانت أبهر العيون وأقربها من الذكاء والوفاء وحسن الأمانة. وهذه صفة عين المصطفي صلى الله عليه وسلم لأنا روينا أنه كان يمازج الدعج منه خمرة. وقالوا إذا ضيقت العين وحسن ناظرها، ولم يكن رحبًا ولا ضيقًا، فإن ذلك دليل على عقل وصلاح. وأما الشعر. فإنهم قالوا إذا كان بين السبط والجعد، دل ذلك على الفهم ودقة الطبع. وكذلك ميل الجبهة إلى السعة دليل الفهم والعلم. كما أن مثيلها إلى الضيق دليل على سوء الفهم وقلة العلم. وأما الأنف فإنهم قالوا ارتفاع القصبة واستواء الأنف بالجبهة دليل على الفهم وحسن العقل. وهكذا كان أنفه صلى الله عليه وسلم أقنى الأنف، إلا أنه كان عليه نور يحسبه لأجله من لم يتأمله أشم. وأما الحاجبان. فإنه يقال فيهما أن القرن دليل على ضيق الخلق، وأن البلج دليل على سعة الخلق، والأخبار كلها سوى خبر أم معبد - ناطقة بأن المصطفي صلى الله عليه وسلم كان أبلج، ويجوز أن يكون البلج يخفى عن الناظر من بعد ولا يدركه، لاسيما أن كان يسيرًا، أو من القرن قريبًا، وأكثر صفاته صلى الله عليه وسلم أنه مائل إلى الاعتدال كشعره وقامته. فلعل حاجبيه كانا بين القرن والبلج. وقالوا: من كان واسع الفم، فهو فم شجاع، وقالوا: اعتدال الفم دليل على الفهم والعقل والحياء، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضلع الفم، فإذا كان الضلع الكبير فهو الواسع الذي هو القول عليه. وإذا كان الضليع التام ليس إلى العظيم أقرب منه إلى الصغير، فهو الذي حكينا قولهم فيه، وقد فسرنا هذا اللفظ بالمعنيين جميعًا. وأما الرأس. فقد قالوا أن أعظم الرأس واستواءه ما لم يفرط دليل على ارتفاع الهمة وحسن الفهم.

وأما الصدر والأكتاف، فإنهم قالوا: استواء الصدر واتساع جوفه يدل على حسن العقل وكثرة العلم. وأما ضخامة الكراديس وهي ضخامة عظم المنكبين والمرفقين والركبتين والكتف فإنهم قالوا: عن ذلك دليل الشدة والقوة. وأما طول اليدين. فإنهم قالوا أنه يدل على حسن السيرة وقلة السوء وملء النفس وعظم الهمة. وقالوا: طول العضد يدل على بعد الهمة. وقالوا: كثرة لحم العضد والساعد يدل على سوء الحفظ وبطئ التعلم. والنبي صلى الله عليه وسلم يجل عن كل وصف مسترذل ما كان، فلا يحل ذكره به ولا إطلاق عليه. فإن ذهب وهم وأهم إلى تحقيق هاتين الصفتين له عليه السلام لما خاطبه الله تعالى من قوله:} ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علمًا {وقوله:} لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه {قلنا إن كان لضنه بالقرآن وإشفاقه عليه من أن ينساه يتلقى الوحي باستعجال، فيحرك به لسانه ويعيده قبل أن ينقضي على نفسه، فآمنه الله تعالى مما كان يخافه، ونهاه عن العجلة، وأمره أن يدعوه، فيقول:} رب زدني علمًا {فلا يقول: أنه كان يسيء الحفظ ويبطئ التعلم. والذين قالوا هذا لم يعنوا به نبينا، وإنما قالوا ذلك على الجملة. وجاء في الحديث استواء البطن والصدر مع انتصاب القامة وقوة المفاصل والأصابع علامات الشجاعة. وقالوا أيضًا: لطافة البطن تدل على جودة العقل. وقالوا: استواء الظهر من أعلام الخير والصلاح. وقالوا إذا رأيت الرجل مستوى القامة مشربًا حمرة. رجل الشعر عتل الالواح، ضعيف شعر الجسد العقبين وسعها سبط رحب الصدر، حسن الجبهة، ليس باللحم ولا الضعيف، في عينه شهلة خفيفة مشفر الوجه تبين فيه البشر فلا شك في عقله وفهمه أنه من أهل الحكمة والصلاح. وهذا الذي أجمله هذا القائل قد سبق ذكره مفصلاً فيما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، لأنا ذكرنا في اللواء واستواء القامة، وصفة الشعر، وضخامة الألواح، وأنه كان موصول ما بين اللبة والسرة شعر كالخط وكان عادي الثديين

والبطن، والفه شثن الكفين والقدمين، XXX الاخمصين، وفي هذا تخصيص العقبين بالكبر والقوة. وأنه كان سبط العصب وهو كل عظم فيه مخ، وأنه كان عريض الصدر أجلس الجبين، وأنه كان في سواد عينيه مزاج من حمرة، وذلك هو الشهلة. وفي بعض الأخبار أنه كان أسعر العينين، فيقال: السحرة أن يكون سواد العين مشربا بحمرة وأنه كان وضيء الوجه وهذه هي الصفات التي ذكر للقائل أنها صفة الصلاح والعقل والحكمة وبالله التوفيق. وأما الشامة التي رويت أنها شامة النبوة، فقد يحتمل أنها كانت شامة لم تعهد في بدن أحد غير نبي، وإنما كان مثلها فيما خلا لنبي. وقد تكلموا في الشامات وقالوا: من كانت على ظهره شامة سوداء فإنه يكون كثير العناء ويلقى الشدة. وقالوا: إن كان عليها شعر نابت أصاب أهل بيته منه مكروه، ولا يطول عمره، ويكون موته من قبل السموم، فهذا الحكم حكموه به في الجملة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. كثير العناء ولاقى من الشدائد ما لا يخفى وأصاب بني هاشم لأجله من جفاء مشركي قريش ما قد عرف، وقتل من قتل من قراباته في دفعهم عنه، وذلك كله في العاجل مكروه لقضية الطبع والحيلة، وإن كان الله تعالى يأمرهم عليه. قال عز وجل:} كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم {فإذا القتال مكروهًا لهم فلا يكون نفسه مكروهًا. وأما الموت فمن قبل السم، فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما زالت أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان انقطاع ابهري) وهذا ما وجدنا من قبل المتقدمين في صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:} وإنك لعلى خلق عظيم {أي عظيم القدر، لا يكون مثله إلا للأنبياء. والأغلب أن الخلق توصف بالكريم دون

العظيم، لكن الوصف بالكريم يراد به الثناء على صاحبه بالسماحة والديانة. ولم يكن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصورًا على هذا، بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بأولياء الله أجمعين، غليظًا على الكافرين شديدًا على المخالفين. لا يغضب لنفسه ولكن يغضب لربه أشد الغضب حتى ينتقم له. وكان مهيبًا في صدور الأعداء منصورًا بالرعب ينهزم العدو منه مسيرة شهر فرقا منه. فلم يكن من حقه أن يقتصر في وصف خلقه على الكريم بل كان الوصف العظيم أولى به ليدخل فيه الأنعام والانتقام معا، والغلظ والشدة جميعا، ويعلم أنه لم يكن يتصرف راجي خير منه بيأس ولا يسلم له عدو من بأس. وقال سعد بن هشام: قلت لعائشة رضي الله عنها، أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت بلى. قالت: أنه كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء: المعنى شاهدًا أن خلقه كان ما أمر الله تعالى في القرآن من الاجتهاد في طاعته والخضوع له والانقياد لأمره والتشدد على أعدائه، والتواضع لأوليائه ومواساة عباده، وإرادة الخير لهم والحرص على نجاتهم، الاحتمال لأذاهم والقيام على مصالحهم وإرشادهم إلى ما يجمع خير الدارين لهم، والحلم على جهالهم وخفض الجناح لهم، والتعفف عن أموالهم. لم يتغير في حال من الأحوال، ولا زمن من الأزمان عن ذلك، ولم يؤخذ خلق محمود إلا وهو أول الناس حظا منه، ولا خلق مذموم إلا وهو وهو أبعد الناس عنه. وفي بعض الروايات أن عائشة رضي الله عنها لما قالت: كان خلقه القرآن. قرأت العشر الآيات من أول سورة المؤمن إن كان خلقه على ما ذكر في هذه السورة. وأبين من هذا أنه إذا حيل بيان خلقه على القرآن أن يقال: كان في خلافه وما جمله الله بقوله:} خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين، وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم {. وقوله:} ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم {وقوله تعالى:} إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي {وما يشبه هذه الآية ويلتحق بها من

معانيها. ومن رغب في الزيادة على ما أوردت في هذا الفصل من حال الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حسن خلقه وخلقه، فلينظر فيما ألف من شمائله وفضائله ليصل بها إلى أقصى غرضه إن شاء الله. وأما حدبه على أمته صلى الله عليه وسلم ورأفته بهم فإن الله تعالى يبين بقوله:} لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم {. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لم يكن لنبي إلا كانت له دعوة مستجابة، وإني خبأت دعوتي شفاعة). وعنه صلى الله عليه وسلم. (أنه ضحى بكبشين فقال في أولهما: اللهم عن محمد وآل محمد. وقال في آخرهما: اللهم عن محمد، ومن لم يضح من أمة محمد). وهذا أبلغ ما يكون من البر الشفقة. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا أن أشق على أمتي لأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل، ولأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). وأنه امتنع من الخروج في الليلة الثالثة من شهر رمضان لما كثر الناس وقال: (خفت أن حرص عليكم فلا ترعوا الحق برعايته، فيصيروا في استحباب الذم أسوة من قبلكم) وهذا كله رأفة ورحمة صلى الله عليه وسلم، وجزاه عنا أفضل جزاء، رسولاً نبيًا عن أمته، وسمى الله تعالى نبينا في كتابه} سراجًا منيرًا {وذلك على معنى. أخرج الناس به من ظلمات الكفر والطغيان إلى نور الهدى والبنيان كما قال عز وجل:} كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور {. وقال:} وأذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}.

وقد علم تعالى أنه إنما فعل ذلك كله وغيره على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ومما وقفه له من البلاغ وحبه وحث الناس على إتباعه وزجرهم عن مخالفته ومقاصاته الشدائد في نظم العرب عما كانوا ألفوه في الجاهلية الجهلاء عن سفك الدماء وقطع الأرحام وسلب الأعراض ونهب الأموال. وحملهم على شريعة أيسر الشرائع كلفًا، وأخفها محملاً، وأبعدها من الأصفاد والأغلال. التي هي على من تقدمهم من غير أن يسألهم على أمر من أمورهم في حال اجرًا، أو ألزمهم لنفسه مؤونة. إنما قطع الله تعالى له من مال المشركين ما قطع، ومنعه من مال المسلمين ما صنع، لئلا تكون يده ولا نفسه الشريفة محمل منه، ولا موضع ظهره. فإذا تأمل العاقل مواقع الخيرات التي ساقها الله تعالى إلى عباده بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وما هو سائقة إليهم بفضله من شفاعته لهم في الآخرة علم أنه لا حق بعد حقوق الله تعالى أوجب نم حق النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم لكل أحد من أمته من حق أبويه لم يكونا إلا سبب كونه ووجوده. والنبي صلى الله عليه وسلم كان سبب انتفاعه بنفسه وحياته وعقله وسمعه وبصره وجميع أعضائه وجوارحه، والزمان الذي يحويه، ألا ترى أن الذين لم يرزقوا شرف الإيمان به، كيف دعوا صمًا بكمًا عميًا، وقال:} إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً {وسبب سلامة روحه وبدنه وأهله وولده وماله. فإن الناس عند استيلاء الكفر عليهم، كانوا متمازجين تمازج السباع وقوامها عن عزيز، ومن فكر بتلك لا آمن لأحد منهم على نفس ولا عرض ولا مال ولا ولد ولا أهل. فلما رزقوا الإسلام بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ودخلوا في طاعته، نالوا الأمن ووجدوا رفاهية العيش ولذة الحياة، وسلم لكل أحد زوجه وبدنه وعرضه وماله، مما أرسله الله تعالى به نم الأمر والنهي. وشرع على لسانه من الحدود الرادعة عن الظلم والعدوان، المانعة من الفسوق والعصيان، فكانت همته جل جلاله عليهم بمكانه أعظم من نعمة الوالدين اللذين لم يكونا إلا سبب الوجود، ولئن علما وأذنا وراضًا ونصرا، فبأمره صلى الله عليه وسلم وبحب شريعته ومنهاجه، ولهذا جعل الله منزلته من أمته فوق منزلة الوالد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

(أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وجعل أزواجه كالأمهات لهم. وكانت بركاته على أمته أعظم من بركة رجل يأتي إلى قوم في فلاة سبعة لا يؤمن شرها ولا يهتدي إلى الخروج منها، فيرشدهم إلى طريق ويعرفهم وجوه الاحتراز من تلك السباع، ويقوم عليهم أحسن القيام حتى يأمنوا ويخرجوا منها سالمين. ومعلوم أن من كان يمثل هذه المعونة لم ير أن حقه يقضي، وإن تنكره يؤذي، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أرسل الناس إلى ما يسلمون به في الدنيا من غوائل الشيطان وشرور أنفسهم الأمارة بالسوء في الآخرة من الخلود في النيران، فإن كان حب من يوالي ويحب يتبع مواضيع فضله ومواقع نفعه، فلا أحد ينظر النظر الذي وصفنا إلا ويحب النبي صلى الله عليه وسلم، أكثر من حبه لنفسه وأبيه وأمه، ويعلم أن تلك وإن بالغ فيه دون حقه وبالله التوفيق. وأما بيانه وفصاحته فأشهر وأظهر من أن نحتاج إلى وصفه، ولو لم يكن على ذلك دلالة سوى أن الله تعالى نصبه منصب البيان لكتابه فقال:} وأنزلنا إليك الذكر {ليبين للناس كتابه والكشف عن معاني خطابه. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن سحائب مرت أحقًا أم وميضًا أم يستق سقاء. فقالوا: اسق سقاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاء الحياء، وإن القوم قالوا: ما أفصحك يا رسول الله. قال: حق لي، وإنما أنزل القرآن بلساني). ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى ما جاء إن القرآن نزل بلغة قريش، إني كنت قرشيًا، ولغة قريش أفصح اللغات وكذلك نزل القرآن بها فحق إلى أن أكون فصيحًا وإذا تتبع ما في كتبه ومحاوراته من الألفاظ الجزلة، وجدت كثيرة، فمنها كتابه لوائل ابن حجر الخضرمي: (من محمد رسول الله إلى الاقبال العياهلة من أهل حضرموت باقام الصلاة وإيتاء الزكاة

لما بالتبعوه شاة والنتمة لصاحبها، وفي السبوب الخس لا خلاط ولا وراط ولا ساق ولا شفار ومن اجتبى فقد أوتى وكل مسكر حرام) فالاقيال الملوك دون الملك الأعظم، والعباهلة المجلون، والتبعوه الأربعون من الغنم، والنتمة الشاة التي تقتن في البيت فتعلف والسبوب جمع السبب وهو العطية، والمراد به في هذا الموضع الزكاة وقوله: (لا خلاط ولا وارط) لقوله: (لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع). والوراط الخديعة والفتن. وقوله: (لا يعارض رب المال في السيق) وهو ما بين الفريضتين. والشغار لا يزوج بنته أو أخته الرجل على أن يزوجه الآخر بنته أو أخته، على أن كل واحد منهما صداق الآخر. ومن اجتبى فقد أوتي الأضابيع الحرب قبل أن يبدوا إصلاحه. وله من الكتب الفصيحة ما هو موجود عند الفقهاء والكتاب، فمن أراد أن يزداد علمًا بفصاحة نبيه صلى الله عليه وسلم وبلاغته فلينظر فيها، ولسائلها نقول أوتيت جوامع الكلم، واختصر إلى اختصارًا فيقال: أن من جوامع الكلم قوله صلى الله عليه وسلم الذي سأله ما يدعو به (سل ربك اليقين والعافية) وذلك أنه ليس شيء مما يعمل للآخرة يتقبل إلا باليقين، وليس شيء من أمر الدنيا يهيأ صاحبة الأمر، والصحة وفراغ القلب) جمع أمر الآخرة كلها في كلمة، وجمع أمر الدنيا كله في كلمة أخرى، ومما يدل في حسن الجوامع وجادة الكلام، جوابه عن كتاب مسليمة إليه إذ كتب: أما بعد فإني أشركت في الأمر معك، فلي نصف الأرض ولك نصفها ولكن قريشًا يعتدون. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ومن جوامع كلامه. (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مؤمن كافر، ولا ذو عهد في عهده).

فإن كان فصل من فصول هذا الحديث إذا بسط اقتضى كلامًا وشرحًا طويلاً، ومن أراد استيفاء هذا الباب، فلينظر في الكتاب المعروف بجوامع الكلم المفرد لهذه الأخبار إن شاء الله. وأما زهده وصبره على شدائد الدنيا، فإن الله تعالى اختار ذلك له ووصاه به فقال:} ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى {. فروى عنه صلى الله عليه وسلم: أن عمر بن الخطاب دخل عليه وفي البيت أهاب معلقة وقرظ رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على حصير قد أثر في جنبه فوجد ريح الاهاب. فقال: يا رسول الله، ما هذه الريح؟ قال. (يا ابن الخطاب، هذه متاع الحي، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الحصير أثر في جنبه فقال عمر رضي الله عنه. أما أنا فأشهد أنك رسول الله، وإنك أكرم على الله من كسرى وقيصر، وهما فيما هما فيه من الدنيا، وأنت على حصير قد أثر في جنبك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال. بلى. قال. (لنا الدنيا ولنا الآخرة). وخيره الله تعالى بين أن يكون عبدًا نبيًا وبين أن يكون ملكًا نبيًا فاختار أن يكون عبدًا نبيًا. وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول. (اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين) كان ذلك تواضعًا وتذللاً لله عز وجل، وإشفاقًا على نفسه من الطغيان والاشتغال بالمال من عبادة الرحمن. وكان فراشة الذي قبض عليه محشوًا من وبر الإبل، طوله ذراعان أو نحوهما، وعرضه ذراع وشبر أو نحوه وكان له فراش من أدم، حشوه ليف، ووسادة حشوها ليف. وجاء أنه ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز البر مذ قدموا المدينة ثلاثة أيام تباعًا حتى قبضه الله عز وجل. ولما أفاء الله تعالى عليه القرى القريبة كان يحبس من غلاتها لعياله قوت سنة ويصرف ما فضل إلى الكراع والسلاح عدة في سبيل الله والأخبار في هذا الباب كثيرة وهي موجودة فيما جمعه الناس في الزهد والوقوف عليها ممكن.

وأما براءته صلى الله عليه وسلم في النبوة، فمنها أنه كان رسول الثقلين. وأما الأنس فإن الله عز وجل قال:} قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا {"وأمره أن يقول} وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ {. وأما الجن فإن الله تعالى يقول له.} وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا. انصتوا، فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين، قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى مصدقًا لما بين يديه، يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم {. وقال:} قل أوحي إلى أنه اجتمع نفر من الجن فقالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا {فبان بقولهم، يا قومنا أجيبوا داعي الله أنهم عرفوا أنه مبعوث إليهم وسمعوا دعوته إياهم، والذين لم يحضروه من جملتهم، فلذلك قالوا: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به. فقالوا: آمنا به. فإن قيل: ما أنكرتم أنه كان مبعوثًا إلى العرب وحدهم، لقول الله عز وجل:} وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه {فلما كان عربي اللسان، علمنا أن قومه كانوا من العرب، وذلك لا يمنع أن يكون مبعوثًا إلى غيرهم فيؤدي إليهم على لسان نبيه، ويأمرهم أن يبلغ نم وراءه. ألا ترى أن موسى وعيسي عليهما السلام بعثا إلى بني إسرائيل، فلو كان من جملتهم جماعة ولدا بين ظهران العرب، وكان لسانهم لسان العرب دون العبرية والسورية لكان رسولاً إليهم. ألا ترى أن عيسى صلوات الله عليه كان رسولاً إلى الروم، والروم لم يكونوا يعرفون السورية، وعيسى عليه السلام لم يكن يعرف اليونانية، وغير هذا من اللغات بالروم، والإنجيل لم يكن نزل بجميع اللغات ولا التوراة بالعبرية، والإنجيل بالسورية، وقد أوجبتم أن يكون الروم محجوجين بهما، ولسانهم غير هذين اللسانين. فإن كل واحد من موسى وعيسى مرسل إلى الروم. فلا ينكر أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إلى بني إسرائيل وغيرهم

من أصناف الناس، وإن كان عربيًا ولا يعرف لسانه إلا العرب، وإن القوم الذين بعث فيهم النبي إذ كانوا يعرفون لسانه كان في ذلك كفاية، فإن جهل غيرهم لسانه لم يخلوا من أن يكون فيهم واحدًا وأكثر على لسان غير العرب، لأن الناس لن يزالوا متخالطين وإن تنأى ديارهم ولا يحد بعضهم من بعض بل أنهم يتلاقون ويتخالطون وإن حالت بينهم البوادي والبحار، ولا سبيل مع التخالط إلى قضي ما في نفوس من الأوطار إلا التخاطب، ولا معنى للتخاطب من غير التفاهم، فكان اغوار من يؤدي إلى الأعاجم من العرب ممتنعًا بعيدًا، ولاسيما إذا كانت الدعوة إنما يقصد بها الملوك، ثم يكون غيرهم تبعًا لهم وما من ملك إلا وقد أعد فيما أعد لنفسه من يترجم له وعنه، ما لا يفهمه من لسان غيره عنه من لسانه. وفي ذلك ما لا يدفع الاستحالة عن عموم دعوة النبي عليه السلام الناس كلهم من حيث إن ما عدا العرب لا يفهمون عنه، إذ قد ثبت أن اتهامهم كان ممكنًا من الوجهين اللذين ذكرناهما، وبين أن الاستحالة إنما هي في جهل الرهط الذي يختصون بالشيء ويكون بعينه فيهم بلسانه في جهل من عداهم الذين جعلوا إتباعا وبالله التوفيق. وأيضًا فإن الذين علمهم الله تعالى من الأولين الطب والحساب وعلم الهيئة، ولم يعلمهم ذلك ليختصوا به ويستأثروا بإدراكه دون غيرهم من عباد الله تعالى، وإنما علمهم لينتفعوا به وينفع من يحتاج إليه من الناس. ومعلوم أن أكثر الناس لم يكونوا يعرفون لغاتهم ومع ذلك تأدى ما كان عندهم إليه فعرفوه، وشملت حكم الله ونظره العباد كلهم بما علمه بعضهم من العلوم التي ذكرناها، فلا ينكر لذلك أن تشملهم رحمته وبصرهم بالمصطفي صلى الله عليه وسلم فيكون رسولاً إليهم وينادي بما أرسل عنه إلى قومه، وإلى الذين لا علم لهم بلسانه كما فادت العلوم التي ذكرنا عن الذين علموا بها إلى غيرهم الذين لم يكونوا يعرفون لسانهم والله أعلم. وقال قائل: إن كان الأمر على ما وصفتم، أفكان نبيكم رسولاً إلى يأجوج ومأجوج قبل كان التبليغ، أو كان رسولاً إلى إبليس ليبلغه؟ قيل له: إنه كان لا يقوم لدعي خصومه برسالته حجة أبدًا، وذلك لأنه اعترف بأنه كان رسولاً إلى الرعب، لزمه أن يبرئه وينزهه عن الكذب فإن الكذاب لا يكون نبيًا. وإذا لزمه ذلك وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي وإلى هرقل وإلى كسرى يدعوهم

إلى الإسلام لم يمكنه أن يقول: أنه يعرض لدعوتهم من غير أن يكون رسولاً إليهم، وادعى أنه مرسل إليهم من غير أن يكون كذلك بالحقيقة لم يلزمه أن يصدقه. فإنه إن أجاز عليه الكذب انتقض إثباته أن يكون رسولاً إلى العرب وإذا أثبت رسالته إلى العرب لزمه تصديقه على عامة ما يخبر به عن الله تعالى. وإذا قال (إني رسول الله إلى الناس كلهم وإلى الجن معهم) لزم تصديقه وبالله التوفيق. وأما تبليغ إبليس فإنه إن كان بعث قد بلغه، وإن كان لم يلقه فإنما بلغ الجن الذين لقيهم على شرط أن يبلغ شاهدهم غائبهم، كما كان كذلك يبلغ من يحضره من الناس ويقول: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب) فأي وقت بلغت يأجوج ومأجوج فيه دعوته، فقد صاروا مبلغين. وقد أخبر الله تعالى أن السد الذي بيننا وبينهم سدل يومًا، ووردت الأخبار بأنهم يخرجون، فإذا خرجوا وراء المسلمين، وحاط بهم إمامهم يومئذ أو سلطانهم وعرفهم أن الغيث الذي هم فيه حرام لا يرض به الله تعالى، فقد بلغتهم الدعوة. ومن أنكر ما قلنا وزعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول على العرب خاصة، لم يمتنع أن يكون رسولاً إلى الموجودين، كانوا يومئذ، وإلى من يوجد من أولادهم، وأولاد أودلاهم، معلوم أنه لم يكن له إلى التبليغ إلى الأصحاب قبل أن يكونوا سبيل. ولكن دعوته إذا بلغتهم عند وجودهم صار في ذلك الوقت مبلغًا بتبليغ غيره عنه بإرشاده وتعليمه، فكذلك هذا في يأجوج ومأجوج وبالله التوفيق. وأما أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. فإن الله تعالى يقول:} ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين {كان خاتم الرسل لأن كل نبي، وإن لم يكن نبي رسولاً. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه. (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وقال (بعثت أنا والساعة كهاتين) وقد تقدم تفسيره. فإن قيل: فإن

غيركم يدعي من هذا التنبيه مثل ما يدعونه لنبيكم. فإن اليهود تزعم أن موسى أخبرهم أن شريعتهم قائمة ما قامت السموات والأرضون. قيل: إنهم إن كانوا صادقين في قولهم، فإنما أراد موسى عليه السلام بما قال: التوحيد الذي أراد الله تعالى بقوله:} شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين {وإنما أراد به التوحيد، فإن الله تعالى لم يشرع خلافه ولم يرض من أخذ به وإنما شرع التوحيد وأمر به. فإن كان موسى صلوات الله عليه: يدعونه. فإنما أراد أن شريعته وهي ملته ودينه الذي هو التوحيد لا يزال هو الدين. وإن المجوسية والفرس لا يكونان دينًا أبدًا ولم يرد الشرائع التي تحتمل النسخ والتبديل، وما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: فإنه لا يحتمل مثل هذا التأويل، لأنه ذكر أنه لا نبي بعده، لأن شريعته تدوم. فتناول هذا التوحيد فضح أنه آخر الأنبياء كما قال وبالله التوفيق. ويدل على أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان رسولاً إلى الأنس والجن، وأنه خاتم النبيين، إن الله تعالى جعل القرآن حجة له، ودلالة على نبوته، وينزل بين الجن والأنس على وصفهم على الإنسان بمثله، فدل ذلك على أن المشركين في هذا العجز مشركين في لزوم الحجة إياهم. ولا يجوز أن تكون دعوته خاصة وحجته، لأنه لو جاز أن يكون أحد من العاجزين عن الإتيان بمثل القرآن من داخل في دعوته لجاز أن يكونوا كلهم غير داخلين في دعوته، وفي هذا إبطال أن يكون العجز الذي ذكرنا حجة على أحد. وإذا كان هذا في زمانه إلى يومنا هذا هكذا، فهو إلى أن تقوم الساعة مثله لأنه لو كان بعده رسول لكانت رسالته لا تحيل وجود القرآن في قلوب الناس وفي مصاحفهم. ومعلوم أنه كان لا يكون مع القرآن إلا معجوزًا عن الإتيان بمثله، لأنه لو استطاع يومئذ أحد أن يأتي بمثله لصار قوله:} قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله {كذبًا. لأن الخلف إذا عرض فيه ظهر أنه يمكن من عند الله، ولأن الناس كلما تطاول الأيام عليهم ازدادت حظوظهم من اللسان العربي نقصانًا، وقلبه يدل على ذلك، أنهم اليوم فيه دون ما كانوا

قبل خمسين سنة، دون ما كانوا فيه بمائة سنة. فإذا جاء واحد منهم من الذين يأتون بعد. وقد غلب الجهل باللسان العربي، ونقصت بلاغتهم وفصاحتهم جمل القرآن كان ذلك دلالة على أن المتقدمين كانوا على ذلك أقدر، ولكنهم امتنعوا بسبب، أو قد جاءوا بمثله، ولكنه كتم ولم يعترف به. فإن كل واحد من هذين الدليلين يوجب أن تكون الدعوة من أصلها فاسدة لا منقطعة متناهية. وقيل: بل هو القول يدفعه عن الرجاء له إلى العرب، فلم يكن أن يجيز واحدًا من الأمرين اللذين ذكرتهما، فبان إن رسولاً لو جاء لم يجيء إلا عاجزًا ومن معه عن الإتيان بمثل القرآن. والإعجاز حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجز بأن تكون حجته باقية ودعوته منقطعة، إذ لو جاز هذا بعد سنين لجاز في عصره وزمانه أن يكون القرآن معجزًا عن مثله، ولا يكون له مع إثباته به دلالة على دعوته، وإذا أوجب أن تكون دعوته باقية لبقاء حجته فقد بان أنه النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قال لا نبي معي أو بعدي صح أن الذي جاء مدعيًا أنه نبي مبطل في دعواه. فإن قيل: أرأيتم لو قال من خالفكم أنه بعث بعده نبي رفع القرآن من بين الناس، فلم يكن من أحد منهم معجوز عن مثله ولا مقدور على مثله. قيل: هذا غير جائز، لأنه لو وقع لصار الناس مضطرين إلى العلم بانتهاء دعوة القرآن وتجدد غيرها، ولا يجوز أن يكون العلم بدعوة نبي ضرورة. فصح أن رفع القرآن من الوجه الذي قاله المعترض غير ممكن والله أعلم. وأما أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، فإنه روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد ولد آدم) وهذا دليل قاطع في الباب. ووجه آخر أن شرف الرسول بالرسالة. ونبينا صلى الله عليه وسلم خص بأشرف الرسالات أنها تستحب، تقدمها من الرسالات، لا يأتي بعدها رسالة تنسخها. وإلى هذا المعنى أشار ربنا عز وجل فيما وصف به كتابه إذ قال:} وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من

بين يديه ولا من خلفه {فقيل في معناه. وليس فيما تقدم به ما يكذبه ولا بعده ما يوقفه. وفي هذا ما دل على أن هذه الرسالة أفضل الرسالات، فصح أن المرسل بها أفضل الرسل. ووجه ثالث: وهو أن أمته خير الأمم لقول الله عز وجل:} كنتم خير أمة أخرجت للناس {. فدل ذلك على أن أصحابه خير الأمم. ووجه رابع: وهو أن الله تعالى أقسم بحياته، ومعقول أن من أقسم بحياة غيره، فإنما يقسم بحياة أكرم الأحياء عليه. فلما خص الله تعالى نبينا عليه السلام من بين البشر بأن أقسم بحياته فقال:} لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون {بأن أنه أفضلهم وأكرمهم. فإن قيل: فقد أقسم بالتين والزيتون وطور سينين فما في هذا؟ قيل: ما من شيء أقسم به إلا وذلك دلالة على فضله على ما يدخل في عداده والله أعلم. ووجه خامس. وهو أن الله تبارك وتعالى جمع له. بين إنزال الملك عليه وإصعاده إلى مساكن الملائكة، وبين إسماع كلامهم الملك وارائه إياه في صورته التي خلق عليها. وجمع له بين إخباره عن الجنة والنار وإطلاعه عليهما، فصار العلم واقعًا بالعالمين، ودار التكليف ودار الجزاء عيانًا. وأصل النبوة أنه الخبر والمعرفة. إما أن يكون ضرورة أو إكتسابًا، ولا شك أن درجة الضرورة فوق درجة الاكتساب. فلما أعلم الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا خبرًا، كما أعلم غير من إخوانه عليهم السلام، زاده من علم الضرورة ما لم يؤتهم علمنا أنه أوضح في النبوة وأعلى قدمًا فيها من الذين تقدموه، وبالله التوفيق. ووجه سادس. وهو أن من ينزل عليه الملك كرامة له إذ كان أفضل ممن لم ينزل عليه فيتجاوز مكانته إلى مقاتلة المشركين عنه حتى يظفره الله تعالى عليهم أفضل من لا يكون من الملك إلا إبلاغ الرسالة إياه، ثم الانصراف عنه، ومعلوم إن هذا لم يكن إلا لنبينا عليه السلام. فينبغي أن يكون لذلك أفضل الأنبياء صلوات الله عليهم.

فإن قيل: أرأيتم لو استدل مستدل على تقديم آدم صلوات الله عليه على الجماعة بمثل هذا الدليل فقال: إن الله أسجد ملائكته لآدم، ولم يسجدهم لغيره، وسجودهم أكبر من مقاتلتهم عمن قاتلوا عنه من وجهين. أحدهما أن عامة الملائكة اشتركوا في السجود ولم يشتركوا في القتال يوم بدر. والآخر أن السجود من الخضوع للمسجد له ما ليس في المقابلة مع المعاني بالقتال عنه، فوجب لهذا أن يكون أفضل الجماعة. فالجواب -وبالله التوفيق- أن السجود لآدم إنما كان سجودًا لله عند خلقه لآدم تعظيمًا لله عز وجل إذ لم يخلق قبل آدم خلقًا أجمع، فإنه جمع فيه من المعاني. الخلائق السماوية والخلائق الأرضية التي كانت قبل آدم، فقال لهم قبل أن يخلقه:} إني خالق بشرًا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين {. فكان المعنى. فقعوا عند إتمامي خلقه ساجدين، كما كان معنى قوله تعالى:} أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل {أي عنده. وقوله عز وجل:} اسجدوا لآدم {جملة وتفسيرها ما ذكرنا من قوله: أي خالق بشرًا من طين من هذا القول أمرًا لهم في ذلك الوقت بالسجود. والدليل على صحة ما قلت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. (لأن ابن آدم إذا سجد أدبر الشيطان) وقال أمر ابن آدم في السجود فأطاع فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار، ومعلوم أن ابن آدم إنما أمر بالسجود لله تعالى لا لغيره، فدل ذلك على أن السجود الذي أمر به الشيطان فلم يفعله إنما كان من جنس ما أمر به ابن آدم ففعله وهو السجود لله تعالى. وإذا كان السجود الذي أمرت به الملائكة لله جل ثناؤه لكن عند خلقه آدم إعظامًا لقدرة الله عز وجل التي أظهرها لهم بخلقه مؤلفًا من أضداد شيء من قلبه إياها بشرًا حيًا سميعًا بصيرًا عاقلاً ناطقًا. ومعلوم أن أولاد آدم إذا كانوا مشاركين له في أوصاف خلقه، وكانوا مع ذلك متفرعين عنه، لم يخلوا من مشاركته عن غرض

الملائكة الذين كان لهم في السجود لله تعالى عند خلقه، وأما قتال الملائكة مع نبينا صلى الله عليه وسلم فإنما كان لنصرته ونصرة الدين الذي بعث به، وذلك مما لا يتعداه إلى الذين تقدموه، ومنها بجنهم. والمتأخرون عنه ليسوا مبعوثين بالدين إيمانهم، مأمورون بإتباعه، فليست منزلتهم فيه كمنزلة ولد آدم من آدم والله أعلم. وجواب آخر وهو أن السجود من الملائكة أن كان لآدم، فقد يحتمل أن ذلك إنما كان غير حالهم على قولهم لله عز وجل ثناؤه لما قال لهم:} إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء {. ولئن أمرهم بالسجود له قبل أن يخبرهم إني جاعل إياه خليفة، فإذا كان أمرًا معلقًا بحال إتمامه خلق آدم، فقد يجوز أن يكون أمرهم بالسجود له إذا خلقه، لعلمه أنه يقول لهم قبل أن يتم خلقه، إني جاعل في الأرض خليفة ويحسبون بما أجابوا به. فأراد أن يكون ذلك عند فعلهم إياه عقوبة لهم بما قدموه من القول. وهذا وإن كان فيه كرامة لآدم صلوات الله عليه، فإن عرض الكرامة له فيه وليس يخلص من عرض العقوبة لهم، وإيصال عرض العقوبة بعرض الكرامة موهن عرض الكرامة إذا كان المقصود تكريمه، ثم لهذه الكرامة حتى حديث إليها داعية سوى قدره ومنزله، وهي القصد إلى معاقبة المأمورين بالسجود. وأما قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم فإنها كرامة خالصة عرضه الله تعالى فيما يفضله دلالة الأولين والآخرين على نفاسة قدره وعظم منزلته، فاستحق به التفضيل كما بينا والله أعلم. ووجه سابع: وهو أن الأفضل من يفضله الله تعالى يوم القيامة ويكرمه بما لا يكرم به غيره، وجاء عن نبينا الصادق في أخبار الدنيا والآخرة وما كان ويكون صلوات الله عليه أنه قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأنا أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع ومشفع ولواء الحمد بيدي، منحته آدم ومن دونه ومن بعده من المؤمنين ولا فخر)

ومعنى ولا فخر، أي ولا أقوله متطاولاً ولا متمدحًا على أحد. ولم يرد أنه لا فخر له فيه، فإن له منه أعظم الفخر. ووجه ثامن: وهو أنه في الدنيا أكثر الأنبياء صلوات الله عليهم إعلامًا ومعلوم إن أقل الأعلام إذا كان يوجب الفضيلة له، فإن كثرة الأعلام توجب كثرة الفضيلة، وكثرتها توجب لصاحبها اسم الأفضل. وقد ذكر بعض المصنفين. إن إعلام نبينا صلى الله عليه وسلم تبلغ ألفًا، وفيها مع كثرتها معنى آخر وهو أنه ليس في شيء من أعلام المتقدمين ما ينحو نحو اختراع الأجسام، وإنما ذلك في إعلام نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة مثل ما سنبين من إعلامه المشهورة دون ما نحتاج إلى تتبعه والتقاطه من الكتب المتفرقة أسأل الله التوفيق. وهذا ذكرها: أولها: القرآن المجيد المنزل من عند الوحي الحميد، وقد تقدم في الأبواب السالفة ذكره. ومنها: (ما روى إن فاطمة عليها السلام دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فأخبرته إن ملأ من قريش في الحجر يتعاقدون لو رأوك ليقتلوك. فقال: اتيني بوضوء، فتوضأ وخرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وطأطأوا رؤوسهم وسقطت أقانهم بين أيديهم، فلم يرفعوا إليه أبصارهم، فتناول النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب مجمرتهم وقال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلاً منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا). ومنها: ما أشار إليه الكتاب من قوله عز وجل:} وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا {. وروى أنه لما نزلت} تبت يدا أبي لهب وتب {جاءت امرأة أبي لهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبو بكر جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها أبو بكر قال: (يا رسول الله امرأة بذيئة، وأنا أخاف أن تؤذيك. قال: أنها لن تراني، وقرأ قرآنًا اعتصم به. فجاءت فقالت: يا أبا بكر، هجاني صاحبك. فقال أبو بكر وما يقول الشعر: قالت فإنك عندي مصدق وانصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما رأتك؟ قال: ما زال الملك يسترني منها بجناحه).

ومنها: أن يهودية أهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم إما شاة وإما شملة مسمومة، فلما قربته إليه وبسط القوم أيديهم قال: (أمسكوا فإن عضوًا من أعضائها يخبرني إنها مسمومة) فدعا صاحبها، وقيل جمع اليهود رؤساءهم واعترفوا وقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن نبيًا لم يضرك. ومنها: إن النضر بن الحارث كان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه يومًا وقد أبعد في قضاء حاجته ليغتاله. وقال: لا أجده أخلا منه الساعة. فلما دنا منه ولى مذعورًا، فلقي أبا جهل، فقال له: من أين الآن؟ فقال: اتبعت محمدًا رجاء أن أغتاله وليس معه أحد، فإذا أساود تضرب بأنيابها على رأسه فاتحة أفواهها، فهالني فذعرت منها ووليت راجعًا. ومنها أن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس، قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافقين على الغدر. فقال عامر: يا محمد حاكني! فقال: لا، حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له. فقال: أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجلاً. وخرج من عنده فقال لاربد: أين ما كنت أوصيك به. فقال أربد: لا أبا لك، لا تعجل، فوالله ما هممت بالذي أمرتني به غلا حيل بيني وبينه، لو ضربت بالسيف ما ضربت غيرك. فترى إن كنت ضاربك لا أبالك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ولى عامر: (اللهم اكفني عامر بن طفيل) فلما كان عامر ببعض الطريق أصابه الطاعون في عنقه فقتله. ومنها: حراسة السماء من الجن عنده، وقد تقدم القول فيها. ومنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم (شكا إلى جبريل المستهزئين، وأراه الوليد بن المغيرة، فأومأ إلى عينيه وقال: كفيته. ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه وقال: كفيته. ثم أراه الحارث بن عطل السهمي، فأومأ إلى بطنه وقال: كفيته. ثم أراه العاص بن وائل السهمي، فأومأ إلى أخمصه وقال: كفيته).

فأما الوليد فمر برجل من خزاعة يرس سلاله، فتعلق سهم بازاره فخدش في رجله فمات. وأما الأسود بن عبد المطلب فإنه عمي، وأما ابن عبد يغوث فخرجت في رأسه قروح فمات منها. وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه فمات منه. وأما العاص بن وائل فدخل في أخمص رجله شوكه فقتلته. ومنها: أن أبا جهل لعنه الله ابتاع من غريب ابلا ومطله بأثمانها، فأقبل الرجل حتى وقف على ناد من قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بناحية، فقال: من رجل يعديني أبي الحكم بن هشام، فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي. فقال أهل المجلس: ترى ذلك الرجل - لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وهم يهزأون، اذهب إليه فهو يعديك عليه. فأقبل الرجل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتبعه القوم رجلاً لينظر ما ينصع. فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: محمد، فاخرج إلى. فخرج وقد امتقع لونه، وقال: أعط هذا الرجل حقه، لا يبرح حتى أعطيه الذي له. فدخل، فأخرج إليه حقه فدفعه إليه. وجاء الرجل الذي بعثوا معه، فقص عليهم القصة فلما جاء أبو جهل قالوا: ويلك مالك؟ وماذا نبا منك الذي صنعته؟ فقال: ويحكم أما والله لو أبيت لأكلني. ومنها: أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية! فانشق القمر فرأوه فلقتين والحبل بينهما، وقيل في ذلك: "اقتربت الساعة وانشق القمر". ومنها: (أن ملكين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذهبا به إلى زمزم، فشقا بطنه، فأخرجا حشوته في طست من ذهب فغسله بماء زمزم، ثم ملأ جوفه حلمًا وعلمًا). وفي حديث آخر قال: (أتيت بطست من ذهب مليء حكمة وإيمانًا). ومنها: أنه أسري إلى بيت المقدس ثم عرج به، ولما رجع وأخبرهم من الغداة استواء

صفوة بيت المقدس بحضرة من كان رآه وعرفه، فلم يزل يصفه لهم حتى كاد يشكل عليه بعض البعث، فمثل له حتى نظر إليه ووصفه لهم أنه رأى غيرهم في موضع كذا، ومر عليهم ليلاً فند بعض الإبل من فرسه. وإنه استسقى لهم ماء فسقوه، فشربه حتى لم يبق في الإناء شيء. وأنه كان يقدم العير جمل أو رق، فسألوه عن وقت ورودهم مكة، فقال: بعد الغد، أراه عند طلوع الشمس. فوردوا للوقت الذي ذكر يقدمهم جمل أورق. وسألوهم: هل مر عليهم راكب فندت الإبل من فرسه، فقالوا نعم. وسألوهم عن الماء فأخبروهم بمثل الذي قال لهم. ومنها: إن النبي صلى الله عليه وسلم، لما خرج من مكة مهاجرًا إلى المدينة ومعه الصديق رضي الله عنه تبعه سراقة بن جعثم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساحت قوائم فرسه في الأرض إلى بطنه، ووثب عنه. وقال: يا محمد. قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن يخلصني مما أنا فيه، ولك علي أن لا يمنن على من ورائي. فدعا له. ومنها ما روي في هذه القصة. إن فارسًا لحق فقال أبو بكر: يا رسول الله هذا فارس قد لحق، فالتفت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم اصرعه فصرعه فرسه فقام يجمع. فقال: يا رسول الله، مرني بما شئت. فقال (قف مكانك، لا تتركن أحدًا يلحق بنا) فكان أول النهار جاحدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي آخر النهار مسلحة له. ومنها ما روى في هذه القصة أيضًا: قال عبد الله بن مسعود، وكنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط. فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال لي (يا غلام، هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن. فقال: هل من شاة لم ينز عليها الفحل؟ قال: فأتيته بشاة، فمسح ضرعها، فنزل اللبن فحلبه في إناء فشرب، وسقى أبا بكر، وقال للضرع: أقلص فقلص). ومنها ما روى في هذه القصة أيضًا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، مروا في مهاجرتهم إلى المدينة على حمى أم معبد، وقد ذكرنا هذه القصة.

ومنها ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار، أمر الله عز وجل العنكبوت فنسجت على مدخل الغار، وأمر حمامتين فوقعتا بفم الغار، وأقيل فتيان قريش من كل بطن رجل، حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ذراعًا، فجعل ينظر في الغار، فرأى حمامتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه، فقالوا له: مالك لم تنظر في الغار؟ قال: رأيت حمامتين بفم الغار فخلت أن ليس فيه أحد. وقال: أمنه ابن أبي بكر يعرف النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد درأ عنه. ومنها أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم اسقفا نجران: السيد والعاقب، ويقال: الطبيب والعاقب، فدعاهما إلى الإسلام، فامتنعا، فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه الغداة. فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا أو قالا ومر عليهما يعوذ بالله، فقال: فإن أبيتم فاعطوا الجزية، فقبلوها، فجعل عليهم كل سنة ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر. ومنها: أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لليهود:} إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين {ثم أخبره أنهم لا يتمنوه قال:} ولن يتمنوه أبدًا بما قدمت أيديهم {فلم يتمن أحد منهم الموت ولا أطلق به لسانه، فدل ذلك على أنهم صرفوا عنه وحيل بينهم وبينه ليحق خبر الله الذي أخبر به عنه نبيه صلى الله عليه وسلم، إذ لو لم يصرفوا عنه لابتدروا إليه، وكان دفعهم إياه به أهون من تكلف الحروب له. ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينا أعرابي في غنم له إذ عدا الذئب فأخذ بشاة منها، فأدركه فاستنقذ منه، فعانده الذئب يمشي واقعي مستقرًا بذنبه ثم استقبله وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله فأخذته مني. فصقق الإعرابي بيده وقال: والله ما رأيت كاليوم قط. فقال له الذئب: وما يعجبك، قال: والله ما يزيدني إلا عجبًا، لم لا أعجب من ذئب يخاطبني. فقال: والله إنك لترى أعجب من ذلك قال: وما أعجب من ذلك؟ قال: نبي الله في النخيلات بين الحرتين يحدث الناس قرآنًا، ما

قد سبق وعن ما هو كائن. فأتى الرجل وكان يهوديًا وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمع وأسلم. ومنها ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا بالمدينة إذ أقبل ذئب فوقف بين يديه وعوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا وفد السباع إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئًا لا تعيدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه واحترزتم منه، فما أخذ فهو رزقه. فقالوا: يا رسول الله ما تطيب أنفسنا بشيء! فقال: فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم فولي وله عسلان). وقد روى في مثل هذا، وأنه قد جاء مائة ذئب دفعة واحدة. أخبار من طرق شتى. ومنها ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بإعرابي قد صاد ظبية، فصاحت يا رسول الله، إن هذا قد صادني عشية أمس في سفح هذا الجبل ولي حشف صغير، فقل له يرسلني حتى أرضعه ثم أعود إليه قال: وتعودي؟ قالت: نعم، عذبني الله عذاب النار إن لم أعد. فأطلقها، فمرت تعدو. فما كان للغد، وافته على باب الخباء، والإعرابي نائم فاستيقظ. فقال هل لك فيها حاجة يا رسول الله، قال. نعم قال. خذها فاطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا للأنصار ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ورجال من الأنصار، وفي الحائط غنم، فسجدت له فقال أبو بكر. كنا نحن أحق بالسجود لك من هذا الغنم، قال (أنه لا ينبغي أن يسجد أحد لأحد، ولو كان ينبغي أن يسجد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). ومنها. ما روى عن جماعة من الأنصار جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله أنه كنا لنا جمل نستسقي عليه فاستصعب علينا، ومنعنا ظهره، وقد يبس النخل والزرع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوموا فقاموا معه، فجاء إلى الحائط، والجمل قائم في ناحية، فجاء يمشي حتى خر ساجدًا بين يديه. فقال أصحابه. هذه يهيمة لا تعقل، ونحن نعقل، فنحن أحق بالسجود لك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (لا يصلح البشر أن تسجد للبشر) وفي حديث آخر في مثل هذه القصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال (السجود ليس إلا إلى

الحي الذي لا يموت). والأخبار في سجود الجمل الصائل، إنما يكون بتسخير الله تعالى إياه كذلك. وقد كان يجوز إذا فعل ذلك وقتًا، إن لا يفعله وقتًا، كما أن الله تعالى قد يشفي من مرض وقتًا ولا يشفي منه وقتًا، فلو يعوذ متعوذًا، من مرض كان به فعوفي، فلم ينكر ذلك. وكذلك أن أسلم النبي صلى الله عليه وسلم مرات. فزاده الله تعالى على السلامة، إن أسجده له جحده على الكفار، فذلك غير مانعه من أن يتعوذ بالله تعالى منه. وقد كان يجوز أن تكون سلامته من صول الصائل، ثم أتي له به غاية وتعوذ بالله من شره، واسجاد الصائل له بعد السلامة للاحتجاج به على الكفار، هذا ولم يتفق الناس على أن أحدًا لا يخاف من الجمل الصائل. وقد قيل أنها السيل والحريق والله أعلم. ومنها: ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائط رجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سرابه ودفر به فسكن، ثم قال: (من رب هذا الجمل، فجاء فتى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله. فقال: الا تتق الله في هذه البهيمة التي ملكك إياها، فإنه شكا إلى أنك تجيعه وتذئبه). ومنها ما روى في قصة الحج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت إليه بديات خمس أرست فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ. وقد روى في شكاية البعير إخبار منها ما روى بعلي بن مرة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً، فقال: إيت ذلك الأسى فقل للأسابين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر كما لتجتمعا. فوثبت إحداهما إلى الأخرى. فاجتمعا فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقضى حاجته، ثم قال لي: قل لهما يتفرقا، فقلت لهما فوثب كل واحد منهما إلى مكانها. وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال لي اذهب إلى الاسابين فقل لهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركما أن تتعلقا بعروقكما وأصولكما وطنبكما حتى تستراه، ففعلنا ذلك، فسترتاه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته. ثم قال له: إيتهما فمرهما أن ترجعا إلى مكانهما ففعل.

ومنها ما روي أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أعرف أنك رسول الله قال: (أرأيت أن دعوت لك هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أنني رسول الله قال: نعم. فدعا العذق، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض فجعل يبعد حتى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ارجع فرجع حتى عاد إلى مكانه، فقال: أشهد أنك رسول الله وأقر به). ومنها: أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، فأرني شيئًا ازدد به يقينًا، قال: (إيت تلك الشجرة فادعها، فأتاها فقال لها: يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمالت على جانبها فقلعت عروقها، ثم مالت على مقدمها، فقلعت عروقها، ثم مالت على مؤخرها فقلعت عروقها، ثم أقبلت تجر عروقها وفروعها، حتى عادت إلى مكانها. فقال له الرجل: إئذن لي فاسجد لك: قال: لا يسجد أحد لأحد). والإخبار في مثل هذا وفي الحصا مع الشجر كثيرة. ومنها ما روى عن طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وذكر الحديث إلى أن قال: فإذا نحن بامرأة قد عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسمل معها صبي تحمله، قالت: يا رسول الله، ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات فلا يدعه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناوله فجعله بينه وبين مقدم الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إخسأ عدو الله، أنا رسول الله، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات. ثم ناولها إياه). فلما رجعنا فكنا بذلك الماء عرضت لنا امرأة لها كبشان يقودهما والصبي يحمله، فقالت: يا رسول الله، اقبل مني هذين، فوالذي بعثك بالحق إن ما عاد إليه بعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا أحدهما وردوا الآخر). ومنها ما يرويه أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى

خشبة يسند ظهره إليها، فلما كثر له الناس بني له منبر، فلما قام عليه يخطب بكت الخشبة حنين الوالد، فما زالت تحن حتى نزل إليها فاحتضنها فسكتت) فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكي ثم قال: يا عباد الله الخشب يحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقًا إليه لمكانته من الله عز وجل، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه. وهذا الحديث يحتمل من المعنى أن يكون الله تعالى أحدث في الجذع حنينًا لحنين الوالد من غير أن يركب فيه حياة وعقال ليبين للناس أنه لو كان يعقل ويميز لكان من حقه إذا فقد خطبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحن هذا الحنين ويجز هذا الجزع. ثم إذا وجد من ذلك ما فقده سكن ليكون ذلك دلالة لهم على وجوب السكون إليه، والفرح بلقائه والقرب منه، وليكون ذلك من إعلام نبوته إذا كان أمرًا خارجًا من العادات، وله صلى الله عليه وسلم كرامة رفعه والله أعلم. ومنها ما روى جابر رضي الله عنه قال: (أصاب الناس عطش يوم الحديبية، وبين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ذكوة فتوضأ منها. فأقبل الناس نحوه فقال: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ماء فجعل الماء يغور أصابعه أمثال العيون، حتى شربنا وتوضأنا) قيل لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمسة عشر مائة والإخبار في مثل هذا كثيرة جدًا. ومنها ما روى جابر رضي الله عنه في قصة الخندق قال: كنا نعمل فيه نهارنا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهلينا. وكانت عندي شويهة غير جد سمينة، فقلت لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت امرأتي فطحنت شيئًا من شعير، فصنعت لنا خبزًا أورى تلك الشاة فشويناها فلما أمسينا، قلت يا رسول الله: إني صنعت لك شويهة كانت عندنا وصنعنا شيئًا من خبز هذا الشعير فأحب أن تنصرف معي إلى منزلي، وأنا أريده وحده فقال: نعم، ثم أمر صارخًا، فصرخ، أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر، فأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها فبرك وسمي ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم وجاءنا ناس حتى صدر أهل الخندق عنها وهم ثلاثة آلاف.

ومنها ما رواه رجل عن الصحابة، يقال له نافع. قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن أربعمائة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عين ماء ونزل الناس، قالوا: يا رسول الله أنك نزلت على عين ماء، فبيناهم إذ جاءت شاة محدودة القرنين حتى قامت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء فحلبها، فلم يزل يحلبها حتى أروى الجيش كلهم وهم أربعمائة، ثم قال لي: (يا نافع، املكها ولا أراك تملكها، فانطلقت بالشاة إلى رجل، فأخذت عودًا فركزته في الأرض، وأخذت حبلاً فشددتها ولم أزل استوثق، فقمت، فلما قمت فإذا بحبل مشدود ولا شاة. فقال: يا نافع، ألم أقل أنك لا تملكها، أن الذي جاء بها هو الذي ذهب بها. ومنها ما رواه زياد بن الحارث العوائي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام وذكر حديثًا طويلاً قال فيه: فقلنا يا رسول الله أن لنا بئرًا، إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها، فاجتمعنا عليه، وإذا كان الصيف فني ماؤها وتفرقنا عما حولها، وإنا لا نستطيع الآن أن نتفرق وكل من حولنا عدو، فادع الله أن يسعنا ماؤها. فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم بسبع حصيات، فجرهن في يده فقال: إذا رأيتموها فألقوا واحدة واحدة، واذكروا اسم الله، فما استطاعوا أن يسببوا قعرها بعد. ومنها ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى المشركين يوم بدر بحصيات من يده فسمعوا وقعها كأنها فرقعت في طست فانهير مواقعها نزل قوله عز وجل:} وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا {. ومنها: ما روى أنه كان في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيًا يسبحن، فدفعهن إلى غير واحد من أصحابه فسبحن في يده، وكل ذلك يسمعه من في الحلقة، ثم دفعهن إلى آخرين فلم يسبحن في يد واحد منهم. ومنها ما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع تسبيح الطعام.

ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس: (يا أبا الفضل، الزم منزلك عنا أنت وبنوك، فإن لي فيكم حاجة، فصحبهم فقال: تقاربوا فزحف بعضهم إلى بعض، حتى إذا أمكنوا اشتمل عليهم علامة ثم قال: يا رب، هذا عمي صفو أبي، وهؤلاء أهل بيتي، فاسترهم من النار كستري إياهم فامنت اسكنه الباب وحوائط البيت آمين آمين). ومنها ما روى أبو هريرة هل معك شيء؟ قلت نعم. ثم في مزود معي فأخرجت التمر فإذا هي سبع وعشرون تمرة، فصفهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ناس، فقال: (كلوا باسم الله فأكلوا حتى شبعوا، وبقي منه، فقال: يا أبا هريرة خذه فأعده في مزودك. فإذا أردت أن تأخذ منه شيئًا، فداخل يدك ولا تلبه، فما زال معي أكله حتى كان حصار عثمان فسقط مني وكنت في شغل منه). ومنها ما رواه أبو هريرة قال: (كنت ألزم النبي صلى الله عليه وسلم ملء بطني وإن شهتيه، فقال من بسط رداءه حتى أقضي مقالتي فليس تنس شيئًا سمعته مني أبدًا، فبسطت بردة كانت علي، فلما قضي مقالته قضممتها إلي. فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئًا سمعته منه صلى الله عليه وسلم). ومنها ما روى جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما رجعنا أعيا علي بعيري، فلحقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا جابر ما خلفك؟ قلت: أعيا علي لو نصحتي فأخذ عودًا من الأرض فمسحه به ثم قال: اركب بسم الله، فما ركبت بعيرًا قبله ولا بعده كان أوسع ولا أوطأ منه). ومنها خبر الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أصحابه يمشون، فثقل معهم متاعهم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبسط كساءك، فبسطت، فجعلوا فيه متاعهم ثم حملوه علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احمل، فإنما أنت سفينة)

فلو حملت منه يومئذ ومر بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة ما ثقل علي إلا أن يخفوا. ومنها ما يرويه أنس رضي الله عنه قال: فزع الناس فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون، فقال لي: فراعوا أنه لبحر. قال: والله ما سبق بعد ذلك اليوم. ومنها: إن صوته كان يبلغ حيث لا يبلغه صوت البشر، فروى أنه خطب بمنى وكان الناس في منازلهم يسمعون ما يقولون، وأنه جلس على المنبر يوم الجمعة فقال: اجلسوا فسمع عبد الله بن رواحة قوله وهو في بني تميم، فجلس. فقيل له: يا رسول الله! ذاك عبد الله بن رواحة جالس في بني تميم سمعك وأنت تقول للناس اجلسوا، فجلس في مكانه وليس معنى هذا أنه كان أندى صوتًا من سائر الناس بمقدار تباين العادات، وإنما معناه أن صوته على ما كان عليه من موافقة أصوات أهل بيته وصحابته كان يخلص إلى الأسماع البعيدة. ولهذا تعجب الناس من سماع ابن رواحة قوله اجلسوا. فإنه لو كان صرخ بهذا القول لم يكن في سماع ابن رواحة إياه. وهو بحيث يذكره أنصار من عند المنبر موضع تعجب والله أعلم. ومنها ما روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في بئر كانت في دار أراس فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها. ومنها أنه دعا على مضر، فقال: (اللهم أشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف) أصابتهم السنة حتى هلكوا، فاكلوا الميتة والعظام، ويرى الرجل ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان. وقيل: إن الذين أنذرهم الله عز وجل إياه بقوله} فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين {. كان هذا. وأن البطشة الكبرى اصطدام صناديد يوم بدر.

ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقي لقومه، وما في السماء قزعة فسقوا مكانه ولم تحبس السماء قطرها حتى دعا وقال: (حوالينا ولا علينا) فانجاب السحاب عن المدينة كأنه الإكليل والأخبار في هذا كثيرة. ومنها ما روى عن أم سليم أنها قالت: يا رسول الله، أنس خادمك، ادع الله له، فقال: (اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته) قال أنس فما من الأنصار أكثر مالاً مني، وأخبرني بعض ولدي أنه قد دفن من ودلي وولد ولدي أكثر من مائة. ومنها ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبشر بن راعي العنز من أسجع وقد رآه يأكل بشماله: كل بيمينك فقال: لا أستطيع فقال: لا استطعت، فما وصلت إلى فيه بعد. ومنها ما روى أن راعيًا لبني عمرو بن تميم في إبلهم يقال له أنو شر وان، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تخلل الإبل لخوف أصابه من قريش، فقال له: من أنت! فقال: لا تسل رجل أردت أن استأنس إلى إبلك فقال له: أي! إياك الرجل الذي تزعمون أنه خرج نبيًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله! فقال له أنو شروان: أخرج فلا تصلح إبل أنت فيها! وأبي أن يدعه. فدعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم أطل شقاءه وبقاءه) قال هارون بن عبير فأدركته شيخًا كبيرًا سقيمًا يتمنى الموت، فقال له القوم: ما نراك إلا هلكت، دعا عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلا إني أتيته بعد فأسلمت ودعا لي، ولكن الأولى قد سبقت. ومنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا:} والنجم إذا هوى {فقال عتبة بن أبي لهب. كفرت برب النجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك). فخرج عتبة مع أصحابه في عير إلى الشام، حتى إذا كانوا في الشام، زأر الأسد فجعلت فرائصه ترتعد فقيل له: من أي شيء ترتعد؟ فقال: إن محمدًا دعا علي، ولا والله ما أظلت السماء واهجة

أصدق من محمد. ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه، حتى جاء النوم فحاطوا عتباهم ووسطوه بينهم. وناموا، فجاءهم الأسد يشنشق غروبتهم رجلاً رجلاً، حتى انتهى إليه فضغمه ضغمة فقتله. ومنها ما روى عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت فاطمة، فنظرت إليها، وقد ذهب الدم من وجهها وعلتها الصفرة من شدة الجوع فنظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم فأدناها، فوضع يده على صدرها وفرج أصابعه ثم قال (اللهم مشبع الجماعة ورافع الوضعة لا تجع فاطمة بنت محمد) قال عمران: فنظرت إليها وقد علا الدم على الصفرة في وجهها، فلقيتها بعد، فقالت: ما جعت يا عمران. ومنها ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لعلي رضي الله عنه قال: (اللهم أذهب عنه الحر والبرد) فكان يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف قال: لا وجدت حرًا ولا بردًا يومئذ. ومنها خبر يرويه جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن بلال رضي الله عنه قال: أذنت في ليلة باردة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أذهب عنهم البرد). قال: فرأيتهم يتروحون. ومنها خبر ترويه أم جندب رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي جمرة العقبة ثم انصرف، وتبعته امرأة من خثعم ومعها صبي أصابه بلاء، فقالت يا رسول الله، هذا ابني وبقية أهلي وإن به بلاء لا يتكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أئتوني بشيء من ماء، فأتي بماء فغسل يديه ومضمض فاه، ثم أعطاها فقال: اسقيه منه، واستسقي الله له) فلقيت المرأة من الحول، فسألتها عن الغلام فقالت: برأ وعقل عقلاً ليس لعقول الناس. ومنها حديث ابن أبي العاص رضي الله عنه قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء

حفظي للقرآن، قال: (ذلك شيطان، أدن مني يا عثمان، ثم تفل في في ووضع يده على صدري، فوجدت بردها بين كتفي، وقال: يا شيطان! أخرج من صدر عثمان). قال: فما سمعت بعد ذلك شيئًا إلا حفظته. ومنها ما رواه عثمان بن حنين رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه ضرير فشكا بصره قال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي. قال: (إيت الميضأة وصل ركعتين، وقل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بالنبي، نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتجلي عن بصري، اللهم شقعه في وشفعني في نفسي). قال عثمان: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضرر. ومنها ما روى حبيب بن مدرك إن أباه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، فأبصر، قال: فرأيته يدخل الخيط في الإبرة، وإنه لابن ثمانين سنة عيناه لمبيضتان. ومنها ما روى محمد بن خاطب قال: قالت لي أمي أقبلت بك من أرض الحبشة، فطبخت طبيخًا، فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك. فقدمت بك المدينة حتى أتيت بك النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هذا محمد بن حاطب أول من تسمى بك فتقل فيك ومسح على رأسك ودعا لك، وجعل يتفل على يدك ويقول: (اذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما) قال: فما قمت بك من عنده إلا وقد برأت يدك. ومنها ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو يوم عاشوراء بالصبيان فيتفل في أفواههم ويقول لأمهاتهم: لا ترضعنهم إلى الليل، فكان ريقه يحرسهم. ومنها إن امرأة وقفت بين يديه وهي تبكي وهو صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ كفًا من ماء

فنضحه في وجهها. فكانت بعد ذلك في المصائب ترمي الدموع من عينيها ولا تسيل على خدها. والأخبار في دعواته المستجابة في عظائم الأمور كثيرة. ومنها ما روى عيسي بن مطاوع بن مسعود، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى أباه مطاعًا، وقال له يومًا: جاءني جبريل صلوات الله عليه، فأخبرني إن ابن مسعود يقاتلني بكرة مشركًا ويأتيني بالعشى مؤمنًا، فلما كان من زوال الشمس، قالوا: يا بني الله أما ترى شخصًا مقبلاً فأقبل مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن. ومنها أن الله عز وجل أمده يوم بدر بألف من الملائكة فقاتلت معه، وقال مالك بن ربيعة للذين كان يحدثهم بعدما ذهب بصره، لو كنت معكم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي صفت به الملائكة، لا أشك ولا أعادي. وقال ابن عباس رضي الله عنه عن رجل من ظفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى اصعدنا في جبل أشرف بنا على بدر إذ دنت منا سحابة وسمعت فيها حمحمة الخيل، وسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم. فأما ابن عمي فانكشف قناع قتله فمات. وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت. وقال ابن دارة: حدثني رجل من قومي قال: أبي المنهزم يوم بدر، إذ أبصرت رجلاً منهزمًا بين يدي، فقلت ألحقه فاستأنس به قندلي من حرف فلحقته، فإذا رأسه مذ زائله ساقطًا وما رأيت قربه أحدًا. وقال أبو داود المازني إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن قد قتله غيري. وروى أن رجلا من الأنصار حضر أحدًا والعباس يوم بدر أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله، إن هذا والله ما أسرني. لقد أسرني رجل أجلخ من أحسن الناس وجهًا على فرس ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسيره يا رسول الله، فقال له: اسكت قد أيدك الله بملك كريم. ومنها أنه لما أتي بالعباس أسيرًا فأفداه بمائة أوقية من ذهب، فقال: للقرابة، صنعت هكذا فوالذي يحلف به العباس، لقد تركني فقير قريش ما بقيت كيف يكون فقيرًا وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل ثم أقبلت إلي فقلت: إن قبلت فقد تركتك غنيه ما

بقيت، وإن ارجع فلا يهمنك شيء فقال: إن الذي يقوله قد كان وما طلع عليه إلا الله عز وجل وأشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله وما أخبرك بذلك إلا الله عز وجل ومنها أن عمرو بن وهب الجمحي واطأ صفوان بن أمية على أن يقوم المدينة فيفتك بالرسول صلى الله عليه والسلام، وضمن له صفوان دينه، وعياله، وأمر بسيفه فصقل وسم، وكان ابن عمرو أسير في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي عنده علة، أقول قدمت على أبي، فقدم المدينة ونزل بباب المسجد، وعقل راحلته، وتقلد السيف، ففزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأوه وأخبروه بخبره، ثم أدخل عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما اشترطت لصفوان بن أمية بالحجر، ففزع عمرو وقال: ماذا اشترطت له؟ قال (تحملت له قتلي على أن يعول بيني وبينك، ويقضي دينك، والله حائل بينك وبين ذلك) فقال عمرو: أشهد أنك رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله، إن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان بالحجر، كما قال رسول الله لم يطلع أحد غيري وغيره ثم أخبرك الله به، فآمنت بالله ورسوله والحمد لله الذي ساقني بهذا المساق. ومنها قول عمر رضي الله عنه، أرانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصارع أهل بدر بالأمس يقول: (هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا تلك الحدود يصرعون عليها، ثم جعلوا في بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم، فقال: يا فلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان، أوجدتم ما وعد ربكم حقًا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا، فقال عمر رضي الله عنه. يا رسول الله، كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئًا). ومنها أن أبي بن خلف كان يقول: لأقتلن محمد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال (بل أنا أقتله إن شاء الله. فلما كان يوم أحد، حمل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم بحربته فوقع عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم. فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو

يخور خوار الثور، فقالوا: ما أجهز عليك إنما هو خدش. فقال: والذي نفسي بيده لو كان الذي في بأهل ذي الحجار لقتلهم، أليس قد زعم أنه يقتلني والله ما كذب. ومنها ما روى أن عين قتادة بن النعمان أصيبت يوم أحد حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أحسن عينيه وأبصرهما. ومنها أن حنظلة بن الراهب استشهد يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة). وقال أبو سيد: فنظرنا فإذا رأسه تقطر ماء، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى امرأته فسألها، فأخبرته أنه خرج وهو جنب. ومنها ما ورد به القرآن من ذكر الريح التي أرسلت قبل كفار قريش لما ورد المدينة وتحصن أهلها منها بالخندق، قال الله عز وجل:} يا أيها الذين آمنوا، اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها {. وروى أن الريح التي أرسلت عليهم لم تدع لهم مضربًا إلا أسقطته، ولا قدرًا إلا أكفأته، ولا رمحًا منصوبًا إلا وضعته، فكان يتعلق بأوتاد فسطاطه وخيمته، فلا يمكنه ضبطها ولا إمساكها والمسلمون هنالك لا يفصل بينهم وبين أولئك إلا الخندق وهم سالمون من أذى الريح آمنون. ومنها ما روى في غزوة بني المصطلق، أنه هاجت ريح شديدة أشفق الناس منها، فقيل (يا رسول الله، ما شأن هذه الريح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مات منافق عظيم النفاق، لذلك عصفت، وليس عليكم منها بأسًا إن شاء الله). فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد أخا بني قنيقاع، وكان من عظماء اليهود وكهفًا للمنافقين مات ذلك اليوم.

ومنها ما روي في هذه القصة أن الناس جمعوا أظهرهم، وفقدت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسعى لها الرجال يلتمسونها، فقال رجل من المنافقين أفلا يحدثه الله بمكان راحلته، فأنكر عليه أصحابه وسبوه. فأقام المنافق معهم شيئًا، ثم قام وتركهم، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس الحديث، فوجد الله، قد خبره حديثه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق يسمع. (إن رجلاً من المنافقين شمت إن ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ألا يحدثه الله بمكان ناقته، وإن الله قد حدثني بمكانها، وإنها في هذا الشعب المقابل لكم، قد تعلق وحابها بشجرة فجاءوا لها، وأقبل المنافق حتى أتى النفر الذين سمعوا قوله، فوجدهم لم يتفرقوا ولا حضر أحد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبات وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترف بذنبه واستغفر له). ومنها ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم اكمدي طلول فوضعت بطنها على الأرض فأخذ حفنة من تراب، فرمي بها وجوه المشركين، وقال: (شاهت الوجوه). فأخلق الله منها إنسانًا إلا ملأ عينيه ترابًا فانهزموا. ومنها إن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا خيبر قال: (لأعطين الراية عبدًا يحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح الله عليه فلما أصبحوا، أقبل علي رضي الله عنه يشتكي عينه، فأرسل إليه فتفل في عينه، قال سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. فرأيتها صحيحة ما بها من علة. ودفع إليه الراية، فلم يرجع إليه حتى فتح عليه). ومنها ما روى أبو هريرة رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر لرجل يدعى الإسلام ممن معه. إن هذا في النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراح. فجاء رجل فقال: يا رسول الله أن الرجل قد قاتل في سبيل الله أشد القتال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أنه من أهل النار فكاد بعض الناس يرتاب. فبينما هو كذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها سهمًا فانتحر

بها، واشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك فقال الله أكبر، أشهد إني عبد الله ورسوله). ومنها ما روى أن حميد الساعدي قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك حتى أتى وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة، فقال: اخرصوا، فخرص القوم وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أو سق، وقال للمرأة احصي ما يخرج منها حتى أرجع إليك. فسار حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنه سيأتيكم الليلة ريح شديدة فلا يهز من فيها أحد، ومن كان له بغير فليربطن عقاله. فهبت ريح شديدة فلم يقم إلا رجل واحد فألقته في جبل طي. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، قال للمرأة: كم جاءت حديقتك؟ قالت عشرة أوسق، خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها ما روى في غزوة تبوك أن الناس أصابهم جوع فقالوا: يا رسول الله يخرج الروم وهم شباع ونخرج ونحن جياع وهم الأنصار أن ينحروا رواحلهم فنهاهم. وقال: إلا من كان عنده شيء فليأتينا به. فجعل الرجل يأتي بالصاع وآخر بالمد، فوضعوا، فحرر جميع ما جاءوا به بضعًا وعشرين صاعًا. والناس أكثر من أربعة آلاف. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا بدعاء كثير، ثم أدخل يده في الطعام، وقال: لا يتذاكر صاحبه ولا يأخذن أحد حتى يذكر اسم الله عليه. فجعل الرجل يربط كم قميصه ويأخذ، ويحبون بالجوالبق فيحملون حتى قام الناس وقد ملأوا أوعيتهم، وفضل فضل فحرر ما بقي مثل الذي كان حين وضعوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله، وأشهد أن لا يقولها عبد أبدًا من حقيقة من قلبه إلا وقى الله وجهه من النار). ومنها ما روى في قصة دومة الجندل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه في تبوك في أربعمائة وعشرين فارسًا إلى كثير. قال خالد: كيف لي به في وسط بلاد كلب وأنا في أناس يسير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستجده يصيد البقر

فتأخذه) فخرج خالد رضي الله عنه، حتى إذا كان من حصنة بمنظر العين في ليلة قمراء صافية، وهو على سطح له مع امرأته، فصعد على ظهر الحصن وقينه تعينه، ثم دعا بشراب. فأقبلت البقر تحك بقرونها باب الحصن وأشرفت امرأته على الحصن فرأت البقر فقالت: ما رأيتك الليلة. هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: فمن ترك هذا؟ لقد كنت أضم الخيل، فإذا أردت أحدها شهرا، ثم اركب بالرجال والالة. فنزل وأمر بفرسه فأسرج، وأمر بخيل فأسرجت، وركب معه نفر من أهل بيته وأخوه حسان، ومملوكًا له، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم، فلما فصلوا من الحصن وخيل خالد تنظر إليهم لا يصهل منها فرس، فأخذته الخيل فاستأسر وقابل حسان حتى قتل. ومنها ما روى عبد الله بن عبيد أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فمروا بقبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا قبر أبي رغال، وكان من قوم ثمود، فلما أهلك الله قومه منعه لمكانه من الحرم، فخرج فلما بلغ هذا الموضع مات. فدفن ودفن معه غصن من ذهب) فابتدرنا فاستخرجناه. ومنها أخباره: بالكوائن التي تكون من بعده، وبأمور وقعت لا في بلده ولا في حضرته فكان كما قال: ومنها قوله: صلى الله عليه وسلم لسراقة بن جعثم، وقد نظر إلى ذراعيه. (كأني بك وقد ألبست سواري كسرى) فألبسهما إياه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (تفتح عليكم الآفاق ولتصبن عليكم الدنيا صبا، ولتكثرن عليكم الخبز واللحم حتى لا تذكر على كثير منه اسم الله تعالى). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا امتنت أمتي المطيطاء وجد منهم أبناء الملوك أبناء فارس والروم، سلط الله على خيارهم شرارهم) وقوله صلى الله عليه وسلم: وقد أشرف على أطم من أطام المدينة.

(سبحان الله، هل ترون ما أرى مواقع القبر خلال بيوتكم كمواقع القطر) فكانت بعده الفتنة بقتل عثمان رضي الله عنه، ثم جرى على أهل بيته في أيام يزيد ما جرى. وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: لعله إنما يمنعك من الإسلام ما ترى أصحابي من الخصاصة هل رأيت الحيرة قط؟ قلت: نعم. قال: يوشك أن يخرج الظعينة من الحيرة حتى يطوف بالبيت، يعني حوله، ويوشك أن يفتح على أصحابي هؤلاء كنوز كسرى. قلت: كسرى هرمز. قال: كسرى بن هرمز. قال عدي: فلقد رأيت المرأة تخرج من الكوفة حتى تطوف بالبيت يعني حوله. وقد كنت في أول خيل غارت بالمدائن. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط، فإن لهم رحمًا وذمة). وقيل: أراد أن هاجر أم إسماعيل صلوات الله عليه كانت قبطية. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يفتح اليمن، فيأتي قوم فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون). وقوله صلى الله عليه وسلم: (يظهر المسلمون على فارس والروم ويظهرون على الأعور الدجال. وقد حق مما يبرئه واحد ويستحق الأحزان إذا شاء الله). وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتلوا صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنف، كان وجوههم المجان المطرقة) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكًا ثم يكون سلطانًا وجبروتًا، يحلون الفروج ويشربون الخمور، ويلبسون الحرير ويرزقون على ذلك، وينصرون حتى يأتي الله). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس ولده والده وكان فيه بياض، فدعا الله عز وجل. فذهب منه الأمر صفاء كالدر في بشرته) قال عمر بن الخطاب

رضي الله عنه. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل بشفاعته الجنة مثل ربيعة ومضر). وقوله: (يخرج رجل من أهلي عند انقطاع من الزمن وظهور من الفتن، يقال له السفاح يكون عطاؤه حسنًا) وفي رواية أخرى. أنه صلى الله عليه وسلم قال: (منها السفاح ومنصور ومهدي). وقوله صلى الله عليه وسلم قال: أخبر صلى الله عليه وسلم وقد مر ابن عباس رضي الله عنهما، وعليه ثياب قال: (أتعرف هذا؟ قال نعم، إما أن ولده يلبسون السواد). وقوله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه: (إن الله مقمصك بيعا فإن أرادك المنافقون على خلعه، فلا تخلعه حتى تلقاني) ثم فسرها يوم دخل عليه وهو محلل الازار. فرقاها النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وقال له: (كيف أنت يا عثمان إذا لقيتني يوم القيامة وأود أهل يشجب وما خافوك من فعل بك هذا، فيقول: بين قائل وجادل وآمر). وقوله صلى الله عليه وسلم لما ارتج أحد، وعليه ومعه أبو بكر وعمر وعثمان. (أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) وفي بعض الروايات (جرى مكان أحد). ومنها ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أن لا أموت، حتى ازمرتم تخضب هذه هذه يعني لحيته من هامته فكان كما قال. ومنها أنه ذكر المارقين فقال: (يخرجون على خير فرقة من الناس أبيهم ادعج، إحدى يديه مثل يدي المرأة). فقال أبو سعيد: إني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد إني كنت مع علي حين قتلهم، فالتمس في القتلى فأتي به على البعث الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذا اليدية، فقال إلى راع الخيل يحتذره رجل يجيلة يقال له الأشهب أنه قال: ابن الأشهب علامته في قوم ظلمة. قال سفيان: فأخبرني حماد الذهبي. أنه جاء به رجل من يجيلة يقال الأشهب أو أبو الأشهب. وقوله صلى الله عليه وسلم لطلحة، وقد مر (الشهيد يمشي على وجه الأرض). وقوله صلى الله عليه وسلم وقد بكى الحسين، فقال: (أخبرني جبريل صلى الله عليه وسلم، إن أمتي تقتل ابني الحسين ثم قال لي: هل لك أن أريك من تربته، فقلت: نعم. فمد يده، فقبض قبضة، فلما رأيتها لم أملك عيني أن فاضتا). وقوله صلى الله عليه وسلم للحسن: (إن ابني هذا سيد، وعسى الله يصلح به بين فئتين من المسلمين). وقوله صلى الله عليه وسلم لعمار: (تقتلك الفئة الباغية) فلما كان يوم صفين استسقى فأتى بصاع من لبن، اليوم ألقى الأحبة محمدًا وحزبه ثم تقدم فقتل. ومنها ما روى عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: لو حدثتكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجمتموني، قالوا: سبحان الله، نحن نفعل هذا؟ قال: أرأيتم لو حدثتكم إن بعض أمهاتكم يأتينكم في كنفه. قلنا: سبحان الله من يصدق بهذا. ثم قام فدخل مخدعًا له. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (التسابه أبكي صاحبه الجمل تنبح عليها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيرة، وينجو ما كادت فلما كان من أمر عائشة ما كان وبلغت بعض مياه بني عامر نبحت عليها الكلاب، فقالت: ما هذا؟ قالوا: الجوأب. قالت: ما أظنني إلا راجعة. فقيل لها: لا ترجعي لعل الله يصلح بك الناس). وقوله صلى الله عليه وسلم: وقد ولد بها غلام فسموه الوليد. (أتسمون باسم فراعنتكم هو أشد على هذه الأمة من فرعون على قومه).

ومنها ما رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بينما أنا وأبو عبيدة بن الجراح وسلمان جلوس ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم. أن خرج علينا من الهجر مرعوبًا متغير اللون. فقال: (من ذا يا معاذ أبو عبيدة، وسلمان؟ فقلت: نعم. قال: أنا محمد النبي أوتيت فواتح الكلام وجوامع الكلم. فأطيعوني ما دمت بين أظهركم. فإذا مت فعليكم بكتاب الله، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، إلى أن قال. امسك يا معاذ ابن أم معاذ، وأخبر ما حدث من أبي بكر). فلما بلغت يزيد. قال: رب لا تبارك في يزيد ودمعت عيناه قال هي إلى حبيبي وسبطي الحسين بن علي وأنبت بربه، وأخبرت بقاتله إلى أن قال: فلما بلغت ثلاثة عشر. قال الوليد اسم فرعون هادم الشرائع فهو يذمه رجل من أهل نبيه. ومنها ما رواه أبو ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر أهل الكوفة فقال: أنهم ستنزل بهم بلايا عظام. ثم ذكر أهل البصرة فقال: أقوم الناس قبلة وأكثرهم مؤذين، يدفع الله عنهم ما يكرهون. ومنها أخبار برده تكون بعيده. قال أبو الدرداء: قلت يا رسول الله، بلغني أنك تقول ليرتدن قوم بعد إيمانهم، قال: أجل، ولست منهم. ومنها قوله: (إن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم) فجاء فأسلم. وأخباره أبا ذر بأنه يموت فردا ويبعث فردا، وهو إشارة إلى القرية التي عرضت له. وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه، وقد مر ببقعة من الأرض: (رب أمتني في هذا المكان لا يصعد إلى الله عز وجل). قال أبو هريرة: (فمررت بعده بها، فإذا فيها النخاسون). ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن بشر وقد مسح برأسه. (بأبي أنت وأمي يا رسول الله. وكم القرن؟ قال: مائة سنة) وقوله صلى الله عليه وسلم لأم ورقة وقد استأذنه في الغزو لتمرض

المرضى؟ وتداوي الجرحي، لعل الله يرزقها شهادة. (اجلسي في بيتك فإن الله مهد لك شهادة) وكان لها غلام وجارية فاغتالاها وقتلاها. وكان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدخل عليها فوجدها مقتولة فقال صدق الله ورسوله. وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم مات النجاشي (مات اليوم عبد صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم). وقوله صلى الله عليه وسلم وقد نام في بيت خزام بنت ملحان زوج عبد الله بن الصامت ثم انتبه وهو يضحك. فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله، يركبون لجج هذا البحر، ملوكًا على الأسرة. فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا) فغزت فيمن غزا، وركبت معهم البحر. ومنها ما رواه علي رضي الله عنه، بعثني النبي صلى الله عليه وسلم والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة ضاح فإن فيها ظعينة معها كتاب فخذوه منها حتى تأتوني قال: فانطلقنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة معها كتاب فقلنا لها: اخرجي الكتاب. فقالت: ما معي كتاب. فقلنا لها: لتخرجن الكتاب أو لتلقي الثياب. فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه. من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا فقال: ما هذا؟ فقال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرءًا من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وليس أحد من أصحابك إلا وله بمكة قرابة تحفظ في أهله، وماله غيري. فأحببت أن أتخذ فيهم ليحموا بها قرابتي، ولم أفعله كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقكم). ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لعشرة من أصحابه في بيت أحدهم سمرة بنت جندب. (آخركم موتًا في النار) وكان آخرهم سمرة ومات في الحريق.

وقوله صلى الله عليه وسلم (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم). وقوله صلى الله عليه وسلم لوابصة وقد جاء يسأله عن البر والإثم. (أخبرك عما جئت تسأل عنه أم تسل؟ قال: يا رسول الله أخبرني قال: جئت تسأل عن البر والإثم. قال: البر ما اطمأن القلب واطمأنت إليه النفس. والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر، وإن افتاك الناس وافتوك). وقوله صلى الله عليه وسلم لرجلين جاءا يسألانه إن شئتما أخبرتكما، بما جئتما تسألاني وإن شئتما إن اسكت لتسألاني. قالا: بل أخبرنا يا رسول الله نزداد إيمانًا. فأخبرهما أنهما جاءا ليسألا عن مناسك الحج، فأجابهما عن كل شيء منها فأجلاه فعلا. فقالا: والله الذي بعثك بالحق لعن هذا نسألك. ومنها ما روى أن رجلاً من المسلمين حمل على رجل من المشركين، لما غشيه الرمح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله إني مسلم فطعنه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله استغفر لي. فقال: ماذا؟ فأخبره بما صنع. فقال له صلى الله عليه وسلم: (فهلا شققت عن قلبه، فعلمت ما في نفسه؟ فقال: يا رسول الله لئن شققت عن قلبه. أكنت أعلم ما في نفسه. فقال: فلا أنت قبلت قوله، ولا أنت تعلم ما في قلبه) فسكت عنه فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات. فدفن، فأصبح على وجه الأرض. فقالوا: لعل عدوًا نبشه فدفنوه، وأمروا غلمانهم فحرسوه. فأصبح على وجه الأرض، فقالوا: فلعل الغلمان نبشوه وكفنوه ثم حرسوه فأصبح على وجه الأرض، فألقوه في بعض تلك الشعاب. ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها أول أهله لحوقًا به. وقوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: اسرعكن لحوقًا بي أطولكن يدًا). فكانت زينب أول من ماتت. وقيل كانت تعمل بيدها وتتصدق به.

ومنها ما أخبر صلى الله عليه وسلم ابن عباس من أن بعده سيذهب، فذهب بعده، وأنه يغرق، فغرق في بحيرة الطبرية ثم نجا. ومنها ما روت أم سلمة قالت أهديت لي قدرة من لحم، فقلت للخادم: ارفعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يجيء فنقدمها بين يديه. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت للخادم: قدمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القدرة من اللحم، فجاءت بها فأرتها أم سلمة فإذا هي قد صارت مروة حجر. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا أم سلمة؟ فقصت عليه القصة فقال: (لعل قام على بابكم سائل فاهنتموه؟ قالت: أجل يا رسول الله. قال: إن ذاك لذلك). ومنها ما روى عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اذهب فائتني بابيك فنزل جبريل صلوات الله عليه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك. إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه فما سمعته أذناه. فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعاه من هذا. أخبرني عن شيء قلته في نفسك فما سمعته أناك؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما تراك تزيد ما بك يقينًا، قلت في نفسي شيئًا فاسمعته أذناي. فقال: قل فأنا اسمع. قال: قلت: غذوتك مولودًا وعلتك يافعًا ... لعل بما أحنى عليك وتنهل إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت ... لسمعك إلا ساهرًا أتململ كاني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيني تمهل تخاف الردى نفسي عليك وأنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إن لم ترع حق أبوتي ... كما يفعل الجار المجامل يفعل

قال فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد ابنه وقال أنت ومالك لأبيك. ومنها ما روى محمد بن حمزة الأسلمي عن أبيه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فتفرقنا في ليلة ظلماء، فأصاب أصابعي حتى جمعوا عليها ظهورهم. ومر آياته صلى الله عليه وسلم ما ظهر بعد موته: فروى أنهم لما أرادوا غسله سمعوا نداء ألا تنزعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ويروى أنهم أتاهم في وقت التعزية آت يسمعون ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم، إلا أن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله. وروى أن عمر رضي الله عنه خرج بالعباس رضي الله عنه لما قحطوا يستسقي به فقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقينا به سقينا، وإنا نتوسل نعم نبيك فاسقنا، فسقوا وروى عن سفينة قال: ركب البحر فانكسرت السفينة، فخرجت على لوح فرماني إلى أجمة، فأقبل الأسد يتمطى. قلت أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فخضع برأسه، وجعل يدفعني أمامه حتى افاضني على الطريق ثم همهم وولي عنهم. وإعلام الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، ومما كتب ما يحقق أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الرسل إعلامًا، وإن من إعلامه ما لا يوجد في إعلام غيره، مما ينحو نحوه اختراع الأجسام فعله الله تعالى لأجله وليكون حجة على من يشك في نبوته، دلالة ظاهرة على فضله وأربابه على معاني الكرامة على غيره. ومما يدل على فضل نبينا محمد المصطفي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل لم يخاطبه في القرآن قط إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الرسول أو لم يناده باسمه، بل قال: {يا أيها

النبي {وأما سائر الأنبياء صلوات الله عليهم فإنه دعاهم بأسمائهم. فقال:} يا آدم، اسكن أنت وزوجك الجنة {} ويا آدم أنبئهم بأسمائهم {} يا نوح، إنه ليس من أهلك، يا نوح اهبط بسلام منا {} يا إبراهيم اعرض عن هذا {} يا موسى إني أنا الله {} يوسف اعرض عن هذا {} يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس {. وهذا في الشريعة والصلوات دلالة التفضيل لمن يدعي باسم شخصه، إلا ترى أن الأعراب لما كانوا إذا دعوا رسول الله، قالوا: يا محمد، ويا أبا القاسم، نهوا عن ذلك، وقيل:} لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا {. أي عظموه وفخموه فقولوا: يا بني الله، ويا رسول الله، وكذلك عادة الناس، لأن الوالد يدعو الولد باسمه، والولد لا يدعو الوالد باسمه. والعالم يدعو المتعلم باسمه، والمتعلم لا يدعو العالم باسمه، فلما فاوت الله تعالى بين الأنبياء عليهم السلام فدعاهم كلهم بأسمائهم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه دعاه باسم النبوة والرسالة، علمنا أنه أراد بذلك إظهار كرامته وفضله على إخوانه، إذا كان يستحيل أن يقال أنه فضله على نفسه والله أعلم. ومما يدل على فضله صلى الله عليه وسلم: ما ورد به الخبر من أن آدم في الجنة يكنى أبا محمد فلولا أنه أفضل النبيين لما خص عند القصد إلى أن يكنى باسم أحدهم دون اسم نبينا صلى الله عليه وسلم فيكنى به دون اسم نوح أو إبراهيم أو غيرهما. وفي تخصيصه بذلك ما يدل على أن أفضلهم، وأولادهم بأن يحمل آدم أن يدعى أباه والله أعلم. فإن قال قائل: من أين استجزت المفاضلة بين الأنبياء، ثم تفضيل أحد منهم على غيرهم وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تخايروا بين الأنبياء). قيل له: قد قال الله عز وجل "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض" فأخبر أنه

فاوت بينهم في الفضل. فإن وصفناهم بما وصفهم الله تعالى فلا عيب علينا في ذلك. فأما المخايرة بين الأنبياء الذي ورد فيه النهي، فإنما يراد بذلك محاذات أهل الملك في تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم كاليهود تجادل في موسى، والنصارى تجادل في عيسى، وتفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهما. أو المعنى في ذلك. إن هذه المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين مختلفين لم يؤمن أن يخرج كل واحد من المخايرين في تفضيل من يريد تفضيله إلا الازراء بالآخر، والتعيير منه، فيكفي بذلك. فإذا كانت المخايرة من مسلم يريد الوقوف على الأفضل، فيقابل بينهما ليظهر له رجحان فليس هذا بنهي عنه، لأن الرسل إذا كانوا متفاضلين وكان الأفضل يوجب فضل حق، وكان الحق إذا وجب لا يهتدي إلى أدائه إلا بعد معرفته، ومعرفة مستحقيه، كانت إلى معرفة الأفضل حاجة، ووجب أن يكون الله تعالى دلالة. وطلب العلم المحتاج إليه من قبل إعلامه المنصوبة عليه ليس مما ينكر والله أعلم. فإن قيل: لم لا فضلتم إبراهيم صلوات الله عليه لأنه خليل الرحمن، وقد علم أن الله يحب أولياءه كلهم، فالذي لا ينكر غيره أن يكون إنما خص إبراهيم باسم الخليل، لأنه أحب أوليائه إليه، ولأن الله عز وجل جعل نبينا صلى الله عليه وسلم تابعًا له، بقوله:} ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا {وليس التابع كالمتبوع، ولأن مكة حرم إبراهيم، والمدينة حرم نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة) ووجدنا المتبوع من حرم إبراهيم من الصبر والشجر مضمونًا بجزاء، والمتبوع في حرم النبي صلى الله عليه وسلم مضمون، فكان ذلك إمارة تشهد بفضل حرم إبراهيم. وفي طور ذلك وجوب أن يكون محرمه أفضل. ولأنه روى في الصحيح. (أنكم محشورون عراة، فأول من يكن إبراهيم) وفي

ذلك دليل على فضله وتقدمه، وإن أفضل ما يدعو به نبينا صلى الله عليه وسلم، أن نقول: اللهم صلى على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فإذا كان أقصى ما نسأل ربنا عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يلحقه إبراهيم فيصلي عليه كصلاته على إبراهيم، أفلا ذلكم دليل على فضل إبراهيم صلوات الله عليه. فالجواب. أن الله عز وجل قد أخبر أنه اتخذ إبراهيم خليلا، ولم يخبر أنه اتخذ النبيين خليلا، فيكون ذلك حكمًا بتفضيله عليهم. إنما معنى ذلك ما أشار قوله عز وجل أن إبراهيم كان قانتًا لله، ولم يكن من المشركين شاكرًا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم. وقيل: (إن إبراهيم عليه السلام إنما هداه الله إلى معرفته ووفقه الله لتوحيده، حتى كان الكفر طبق الأرض، ولم يكن في الدنيا نسمة تعرف الله عز وجل ويعترف به غيره واتخذ خليلا بأن جعله أهلاً لهدايته أولا، ثم بأن أمره ونهاه وظهرت منه الطاعة ثانيًا بأن ابتلاه، فوجد منه الصبر ثالثًا فكان يومئذ خليله، وأهل الأرض كلهم أعداءه، لأنه كان المطيع، والناس غيره عصاه. فأما أن يقال: أنه اتخذه خليلا على الذي لا يشك في أنه كان يحبهم ويحبونه من عامة النبيين فلا يقال ذلك، لأن من خالف الخليل فهو عدوه. وقد علمنا أنه ليس في الأنبياء لله عدو، فصح أن اتخاذ إبراهيم خليلا ليس عليهم، وإنما هو على أعداء زمانه كما بينا، ويدل على ما قلت أن الأولياء كلهم يحبون الله ويحبهم، ودرجة المحبة فوق درجة الخلة، وكل حبيب خليل، وليس كل خليل حبيبًا، فكيف يجوز مع هذا أن يكون اتخاذ الله إبراهيم خليلا اتخاذه إياه خليلا على إخوانه مع النبيين بل الأشبه أن يكون ذلك على عناء، ولم يؤهل أحد منهم للهداية غيره. فهكذا ثم هدى به من أراد، فكان ذلك اتخاذ أباه خليلا والله أعلم. وأما قوله جل وعز:} ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا {فإنما فيه أمره بإتباع ملة إبراهيم لا إتباع إبراهيم. وملة إبراهيم لم يلزم إتباعها لأجل إبراهيم لكن

لأنها الحق الذي لا يتسع إنكاره، ولذلك كان يلزم إبراهيم، فكذلك يلزم غيره كما وصف الله عز وجل في هذه الآية التوحيد. بأنه ملة إبراهيم فكذلك أدخل معه غيره في آية أخرى، فقال:} شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى {لا يوجب أن يكون نبيًا صلى الله عليه وسلم تبعًا لموسى وعيسى فكذلك لا يوجب ما احتج به القائل أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم تبعًا لموسى وعيسى فكذلك لا يوجب ما احتج به القائل أن يكون نبينا تبعًا لإبراهيم صلى الله عليهما. وأيضًا فإن المعارضة بإبراهيم عليه السلام تسليم لفضل نبيا صلى الله عليه وسلم على ما عدا إبراهيم. وقد ذكر الله عز وجل في كتابه نوحًا ثم قال:} وإن من شيعته لإبراهيم {فإذا جاز هذا المعارض تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على نوح فكيف يأبي تفضيله على من هو شيعة نوح وبالله التوفيق. وأما المعارضة بالحرمين فلا يلزم، لأن مكة حرم الله تعالى حرمها يوم خلق السموات والأرضين، وبذلك وردت الأخبار وجعلها مع ذلك موضع النسك وما عداه من الحرم فهو تحريم الدار للدار. ويحتمل أن يكون معنى إبراهيم حرم مكة، أن أمر البيت والحرم كان قد عفى ودرس. فلما أحياه الله تعالى على يدي إبراهيم بين على لسانه الحل والحرم. فأخذ الناس حكم الحرم عنه، لأن التحريم كان في ذلك الوقت. وأما تحريم المدينة، فإن كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن قبله، ولا المدينة أيضًا موضع نسك، واختلف الحرمان من هذا الوجه الذي قدره المعارض والله أعلم. وأما أن أول من يكتسي إبراهيم، فقد ذكرت فيه ثلاثة أوجه فيما تقدم. وأما قولنا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. فلا يدل على ما قاله للسائل، لأن محمدًا لو كان في الفضل دون إبراهيم لما جاز لنا أن نقول. اللهم صلى على محمد كما صليت على إبراهيم، ولما كان ذلك مطلقًا، علمنا أنه ليس في الفضل دون إبراهيم.

فإن قيل: فما معنى هذا التشبيه؟ قيل: معناه إن الله عز وجل أخبر أن الملائكة قالت في بيت إبراهيم مخاطبة لسارة:} رحمة الله وبركاته عليكم، أهل البيت إنه حميد مجيد {. وقد علمنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم من أهل بيت إبراهيم، وكذلك آله كلهم. فمعنى قولنا: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين أي أجب دعاء ملائكتك الذين دعوى لآل إبراهيم فقالت: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت في محمد وآل محمد. كما أجبته في الموحدين كانوا يومئذ من أهل بيته أيضًا، وكذلك تختم هذا الدعاء بقول: "إنك حميد مجيد" فإن الملائكة ختمت دعاءها بقوله "إنه حميد مجيد" وليس في هذا ما يقصر بمحمد عن إبراهيم وبالله التوفيق. فإن قال قائلون: لم تفضلون محمد على موسى وقد جاء عنه إنه لا تفضلوني على موسى لئلا يحمل ذلك اليهود على الرفعة فيه، فيكون ذلك مما عرضه له المسلمون وجروه إليه. وهو كقول الله عز وجل:} ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم {. يدل على ذلك قوله:} ولو كان موسى حيًا ما وسعه إلا إتباعي {. فإن قيل: فلم تفضلونه على يونس، وقد قال:} لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى {. قيل معناه: ليس لأحد أن يفضل نفسه على يونس، وهذا لأن الله عز وجل أخبر عنه أنه اتق وأنه هب مغاضبًا، وأنه لم يصبر على ما ظن أنه يصبه من قومه فقد كان يمكن أن يتوهم متوهم إذا وجد صابرًا على ما يصيبه في ذات الله، قوي العزم على مجاهدة أعداء الله أنه خير من يونس. فأبان النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا ينبغي لأحد أن يقوله، لأن يونس كان نبيًا، وغير النبي لا يكون خيرًا من النبي، فهذا معنى الحديث والله أعلم.

وإذا ظهر أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان. وبينا ما جمع الله له من المحامد والمحاسن التي هي الدواعي إلى محبة اعتقاد مدائحه وفضائله والاعتراف له بها، والولوع بذكرها، وإكثار الصلوات عليها. وخصوصا في الليلة الغراء، وباليوم الأزهد كما جاء ذلك من أمره ولزوم طاعته، والحرص على إظهار دعوته، وإقامة شريعته، والتسبب إلى استحقاق شفاعته، والمقام مع البعد من زمانه على الحال التي كان ينبغي أن يستحي منه، أو كان المقام عليها يصرف عينه، والفرح باللون من أمته، ومستحي دعوته، وإدمان التلاوة للقرآن الناطق بحججه. فمن فعل ما ذكرنا وما يتصل به من أمثاله فقد أحبه. ويدخل في جملة حبه صلى الله عليه وسلم حب آله وحب أهل بيته الذين حرمت عليهم الصدقة، وأوجب لهم الخمس لمكانتهم. فإن الله تبارك وتعالى ألحقهم بهم، وميزهم على غيرهم، فاقتضى ذلك أن يعرف العباد حق هذه الرفعة والرتبة، ويحبونهم بحب النبي صلى الله عليه وسلم، كما أكرمهم الله تعالى بكرامته، وصان أقدارهم كما صان عنه قدره، وعوضهم عما حرمهم مثل ما عوضه. ويتبع ذلك حب صحابته لأن الله جل ثناؤه أثنى عليهم ومدحهم فقال:} محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كرزع أخرج شطأة فآزره فاستغلظ فاستوي على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرًا عظيمًا {. وقال} لقد رضي عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا {. وقال:} والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم {. وقال} والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًا لهم مغفرة ورزق كريم}.

فإذا نزلوا هذه المنزلة استحقوا على جماعة المؤمنين أن يحبوهم ويتقربوا إلى الله عز وجل بمحبتهم، لأن الله عز وجل إذا رضي عن عبد أحبه، وأوجب على العبد أن يحب من يحبه مولاه، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب الأنصار فيحبني أحبهم، ومن أبغض الأنصار فيبغضني أبغضهم). وعنه صلى الله عليه وسلم: (حب الأنصار من الإيمان، وعلامة المؤمنين حب الأنصار) وهذا لأن حب المهاجرين لله ورسوله كما ظهر بهجرتهم ديارهم وأموالهم وأبقارهم أنفسهم، فكذلك حب الأنصار لله ورسوله قد ظهر بايوائهم النبي صلى الله عليه وسلم وعامة المهاجرين في نصرهم إياهم. وقد قال عز وجل:} والذين تبوأ الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة {وإنما أراد بذلك الأنصار من أهل المدينة، فمن كانت صفته هذه الصفة، وثنى الله عليه الثناء، فلا شك في محبة الله تعالى إياه ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي ظهور ذلك وجوب محبتهم على الأمة. فإن ظهر أن حب الصحابة من الإيمان فكذلك لن يعتقد فضائلهم ويعرف لهم بها، ويعرف لكل ذي حق حقه، ولكل ذي غناء في الإسلام غناه، ولكل ذي منزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم منزلته، وييسر محاسنهم، ويدعي بالخير لهم، ويقتدي بما جاء في أواب الدين عنهم، ولا يتبع ولاتهم وصفواتهم، ولا يعمد بهجين أحد منهم بيت ما لا يحسن عنه، ويسكت عما لا يقع فلأصرفنه إلى الخوض فيما كان بينهم وبالله التوفيق.

الخامس عشر من شعب الإيمان وهو باب في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره

الخامس عشر من شعب الإيمان وهو باب في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره ... وهذه منزلة فوق المحبة لأنه ليس كل محب معظمًا، إلا ترى أن الوالد يحب ولده فيجمع له بين التكريم والتعظيم، والسيد قد يحب مماليكه ولكن لا يعظمهم، والمماليك يحبون ساداتهم ويعظمونهم، فعلمنا بذلك أن التعظيم رتبة فوق المحبة، والداعي إلى المحبة ما يقتضي على المحب من المحبة من الخيرات، والداعي إلى التعظيم ما يحب للمعظم في نفسه من الصفات العلية، ويتعلق بها، من حاجات المعظم الذي لا قضاء لها إلا عنده. ويلزمه من منبه التي لا قوام له بشكرها. وإن جد واجتهد، وصار ما قلت إن المماليك يحب مماليكم لمعرفتهم بانبساط أيديهم عليهم وخاصتهم في مطاعمهم ومشاربهم وملابسهم ومساكنهم إليهم، وعلمهم بما في لزوم موتهم ساداتهم من الرفق والفائدة لهم ويتجاوز جاههم معهم لما وصف من المحبة إلى التعظيم، وهكذا الوالد يحب ولده، لأنه سلالة منه، وإليه ينسب، وله جمال وقوة وكثرة، فلا يتجاوز أمره معه عن الحب والتكريم إلى التهيب والتعظيم، والولد يحب والده لمعنى فيه بأنه كان سبب كونه ووجوده، والقائم بتربيته وصيانته عن المهالك لموته، والمزيح لهلكه إلى أن بلغ حد الرجال، وعلمه بأنه له، وإليه ينسب، كما يدعي العبد لسيده، والمعتق إلى معتقه، فيتجاوز حاله معه عن التكريم إلى التعظيم، لأنه إذا نقله علم إن هذه حقوق لا سبيل له إلى شكرها وإن نفسه بر بهيبته. وإذا كان هذا هكذا، فما بين العبد وسيده، والوالد وولده، فمعلوم أن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم وألزم لنا وأوجب علينا، من حقوق السادات على مماليكهم والإماء على أولادهم، لأن الله تعالى، أنقذنا من النار في الآخرة وعظم به أرواحنا وأبداننا وإعراضنا وأموالنا وأهلنا وأولادنا في العاجلة.

فهذا إثابة لما أطعناه فيه أدى إلى جنات النعيم، فأية نعمة توازي هذه النعمة، وآية منه إلى هذا الشيء. ثم أنه عز وجل ألزمنا طاعته وتوعدنا على معصيته بالنار، ووعدنا بإتباعه الجنة، فأي رتبة تضاهي هذه الرتبة؟ وأي درجة؟ فحق علينا القول إذًا أن نحبه ونجله ونعظمه أكثر من إجلال كل عبد سيده، وكل ولد والده وبمثل هذا نطق الكتاب ووردت أوامر الله عز وجل، قال الله عز وجل:} وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي معه أولئك هم المفلحون {. فأخبر أن الفلاح إنما يكون جمع إلى الإيمان به تعزيره ولا خلاف في أن التعزير هاهنا التعظيم. وقال:} إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرا {ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروه ويوقروه. فأبان أن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته أن يكون معزرًا موقرًا مهيبًا، ولا يعامل بالاسترسال والمباسطة كما يعامل الكفار بعضهم بعضًا. وقال عز وجل:} لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا {فيؤخروا إجابته بالاعذار والعلل الذي يؤخر بها بعضكم إجابة بعض، ولكن عظموه بسرعة الإجابة ومعالجة الطاعة، ولم تجعل الصلاة لهم عذرًا في التخلف عن الإجابة، إذا دعا أحدهم وهو يصلي إعلامًا لهم أن الصلاة إذا لم تكن عذرًا يستباح به تأخير إجابته، فما دونها من معاني الأعذار بعد؟ فروى أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأناء وهو يصلي، فلما فرغ جاءه، فقال له: ما منعك أن تيجيبني إذ دعوتك؟ فقال: إني كنت أصلي، قال: ألم تسمع الله يقول:} استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم {. فاعلمه أن إجابته واجبة عليه وإن كان في الصلاة، وقيل معنى هذه الآية} لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا {وذلك أنهم كانوا ينادونه على رسم أعداء بينهم فيقولون له: يا محمد ويا أبا القاسم، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يعظموه فيقولوا: يا رسول الله تعالى أتاه في عامة القرآن:} يا أيها الرسول {أو} يا أيها النبي {إنما كانت لتعليم أمته ما يلزمهم أن يخاطبوه به، وحملهم في ذلك على الأدب المستحسن المحمود ولكن كثيرًا من الأعراب لما لم يكتفوا بذلك ولم ينتهوا للمراد شرح لهم فقال:

{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا {والله أعلم بما أراد. وقال عز وجل:} وما كان لمؤمن ولا مؤمنه إذا قضى الله ورسوله أن يكون لهم الخيرة من أمرهم {فلم يجعل لأحد من المخاطبين خيار في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا أمر، لكنه ألزمهم إلزامًا. ولا سبب ادعى إلى التعظيم من وجوب الطاعة. وقال:} ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا عن نفسه {فاعلمهم أن نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أكرم وأشرف وأزكى وأجمل من أنفسهم، فلا يسعهم من ذلك أن يصرفوا أنفسهم عما لا يصرفوا نفسه عنه، فيتخلفوا عنه إذا خرج لجهاد أعداء الله معتذرين من شدة حر أو طول طريق أو عوز ماء أو قلة زاد، بل يلزمهم متابعته ومشايعته على أي حال رضاها لنفسه. وفي هذا أعظم البيان لمن عقل، وأبين الدلالة على وجوب تعظيمه وإجلاله وتوقيره وبالله التوفيق. وقال:} يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث، إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم، والله لا يستحي من الحق، وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن، وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا إن ذلكم كان عند الله عظيمًا {. فنهاهم عن أن يعاملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوسع في الانبساط والاسترسال كما يعامل من لا يهاب ولا يتقى، فيدخل بيته بغير أذنه إذا دعاهم إلى طعام يعلمون لم يدرك عجلوا إليه وأحاطوا به منتظرين إدراكه، وإذا أحضر الطعام ودخلوا وطعموا لزموا مجالسهم مستأنسين بالمحادثة، وأخبرهم أن ذلك منهي عنه، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد يتأذى به ويستحي أن يكلمهم، ونهاهم أن يتباسطوا نساءهم، فيدفعوا إليهن شيئًا ويأخذوا منهن شيئًا، ناظرين إليهن كما يفعل ذلك بعضهم في بيت بعض عند اتساع الخلطة وتأكد الثقة،

أثم كد ذلك كله فقال عز وجل:} وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا {فاعلمهم أن كل ما يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل فهو حرام عليهم، وليس بمملوك لهم من حياته وبعد وفاته، وكما لا يحل لهم أن يفعلوا في حياته ما يتأذى به، فكذلك ليس لهم أن يفعلوا بعد وفاته ما لو أعلم في حياته أنهم فاعلوه بعده، لتأذى به وشق عليه نحو تزوج نسائه من بعده. وهذا ليعلموا أنه لا رخصة لهم بحال من الأحوال في إيذائه وتعاطي ما يشق عليه، وإن إرضاءه وتعظيمه وبوحي من أبهته هو الملازم لهم والواجب عليهم، ليكونوا مؤمنين به كما يقولون وبالله التوفيق. وقال عز وجل:} يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم {. والمعنى لا تقدموا قولاً أو فعلاً بين يدي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله فيما سبيله أن يأخذوه عنه من أمر دين أو دنيا، بل أخروا أقوالكم وأفعالكم إلى بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بما يراه. فإنكم إذا قدمتم بين يديه كنتم مقدمين بين يدي الله عز وجل إذا كان رسوله لا يقضي إلا عنه، واتقوا الله أي واحذروا عقابه بتقديمكم بين يدي رسول الله ومعاملته بما يوهم الاستخفاف به ومخالفة شيء مما يأمركم به عن الله بوحي متلو أو بوحي غير متلو.} إن الله سميع عليم {أي سميع لما تقدمونه بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، أو يأتونه اقتداء به وإتباعًا له عليهم بما يكون منكم من إجلاله أو خلاف ذلك، فهو يجريه بما سمعه ويعلمه منكم. وروى في نزول هذه الآية آثار منها: إن ناسًا ذبحوا يوم النحر قبل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فكره ذلك. ومنها أن رجلاً صام في يوم شك، فقالت عائشة رضي الله عنها: لا يفعل فإنهم كانوا يرون أن هذه الآية نزلت فيه. ومنها أن ذلك في القتال. وقال الله عز وجل:} يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}.

فنهاهم الله عز وجل أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي ويخرجوا عن مكالمته من خبر الاستماع إلى الجهر، لأن ذلك في العادات غض من المخاطب واستخفاف بقدره وضرب من الاستعلاء عليه، كما أن خفض الصوت تذلل ورعاية لحقه وإكبار لقدره. ثم حذرهم أشد التحذير من فعل ما نهاهم عنه، فقال:} أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون {وذلك بأن يستقر أحدهم أمر غده في نفسه فيقول: وماذا علي أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم لا أبلغ ما في نفسي فيختلط ويرفع صوته إلى صدا أن يعلن فيلزمه حكم الاستحقاق والتهاون برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكفر ويحبط عمله، وهو لما فيه غافل على أمره، ولا يشعر أنه كفر وحبط عمله. وهذا أبلغ ما يكون من الأمر بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الأمر بجميع ما ذكرنا مقبحات، والناس باسم الإيمان بينهما لهم به على أنهم إن كانوا مؤمنين فمن الإيمان أن يكونوا بهذه الصفات دون ما يخالفها والله أعلم. ثم قال الله عز وجل:} إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم {فأخبر أن الذين يأتمرون ما أمروا به، وينهون مما نهوا عنه، هم قوم امتحن قلوبهم للتقوى، أن جعل الله ما أورد على قلوبهم من هذا الغرض اختبارًا لهما لتظهر منهم التقوى التي علم أنها هي التي تكون منهم إذا اختبروا، فيغفر لهم ما أسلفوه من رفع الأصوات وغيره من الذنوب، ويأجرهم أجرًا لا يشاكل ثواب أعمال الآدميين، لكنه يكون نعيمًا مقيمًا لا يزول ولا يبيد. ثم قال الله عز وجل:} إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبوا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم والله غفور رحيم {فيسلي نبيه صلى الله عليه وسلم بما أخبره من أن الذين يصيحون خارج منزله ولا يصبرون حتى يخرج إليهم إنما حملهم على ذلك جهلهم وقلة عقلهم وأكثرهم لا يهتدون، إلى ما يلزمهم من تعظيمك في حال مخاطبتك إلى أن يهدى إليه، وفيهم من لا يهتدي وإن هدى ولا يستنصرون. وإن يصروا فهذا يجمع تركة القوم وقسامة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم روى الأقرع بن حابس وعليه ومن جاء معهم، جاءوا شفعاء في أسارى بعيرهم

الذين نادوه فقالوا: أخرج إلينا يا محمد، فنزلت هذه الآية وروى أن وفد بني تميم وهم يسمعون رجلاً منهم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم وغيرهم هم الذين نادوه والله أعلم. ولما وقع من هؤلاء ما وقع ونزل من هذه الآثار ما نزل، روى أنه كان إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمونه ويأمرهم بالسكينة والوقار عنده. وهذا والله أعلم غير محمول على الزهو والبذخ، ولكن في تعظيمه النبوة التي يرجع تعظيمها إلى الله عز وجل، وتركه أن يقتضي في حقها، فيكون مقتضيًا حق الله تعالى لا حق نفسه. وروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال له لما نزلت هذه الآية: والذي بعثك بالحق لأكلمنك إلا كأخي السرار. وإن ثابت بن قيس بن شماس دخل بيته وقعد يبكي وقال: أخاف أن يكون قد حبط عملي، فإني رجل صيت، أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، فأخرجه وأعلمه أنه ليس منهم وبشره بالجنة، فقتل بعد ذلك شهيدًا. وقال الله عز وجل:} إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فإذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم {فخرج المسلمون إذ كانوا معه على أمر جمعهم لأجله أن يفارقوه قبل أن يقضي ذلك الأمر إلا بإذنه. وأخبر أن المؤمنين بالله ورسوله الذين يستأذنونه إذا عرض لهم ما يحوجهم إلى الذهاب فثبت أن استأذانهم إياه في مثل هذا الحال إيمان منهم. ومعلوم أن ذلك من جملة إجلاله وتهيبه وتوقيره، فصح أن كل ذلك إيمان بالحري، أن يكون كذلك إذا كانت استهانته واستخفافه كفرًا والله أعلم. وقال الله عز وجل:} وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا}.

فوبخهم على ما كان منهم، حين قدم دحية الكلبي والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب، فانفضوا عنه، وخرجوا إلى أبواب المسجد ينظرون إلى دحية ومن معه، وما قدم به من أقسام، ودلهم على عظيم خطئهم وسوء صنيعهم، بأن قرر عندهم حالة النبي التي كانت له منهم حين وقع منهم ما وقع. فقال:} وتركوك قائمًا {أي تركوك وأنت قائم لأجلهم تخاطبهم عن الله عز وجل وتعظمهم وتذكرهم وتدعوهم إلى الله عز وجل، أو تدعو الله لهم وتستغفر ذنوبهم وهم مترفهون بالجلوس لا شغل لهم إلا الاستماع، فلا يرعون حقك ولا يتفكرون في قيامك وخطابك ويعرضون عما فرض الله تعالى من الاستماع إليك عليهم، ولكنهم يريدون هذا كله ويخرجون جهارة فعل أهل اللهو، وفي هذا من إيجاب تعظيمه وتوقيره بغير ما في الآيات قبلها والله أعلم. ثم أن المخاطبين بهذه الآيات من الصحابة انتهوا إلى العمل بها وبلغوا في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عرفوا بعض حقه، فروى عن عبد الله بن مسعود حين كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهيل بن بيضاء يوم بدر قال: فجعلت أنظر مني الحجارة من السماء، وقلت أقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويورى في قصة الحديث أن عروة بن مسعود الثقفي لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه في الصلح، ورجع إلى الصحابة وقال: وأي قوم، والله لقد دخلت على الملوك ودخلت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت قط ملكًا يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله أن تنخم نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم، فذلك بهي وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يجدون النظر إليه تعظيمًا له. فهذا كان من الذين ورثوا مشاهدته وصحبته. فأما اليوم فمن تعظيم زيارته، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي). ومن تعظيمهم: تعظيم حرمه -أعني المدينة- والانتهاء، كما حرمه منها وقتها، وأكرم أهلها لأجل سلفهم الذين آووه ونصروه.

ومنه قطع الكلام إذا جرى ذكره، وروى ما جاء عنه: وصرف السمع والقلب إليه، ثم الإذعان له، والنزول عليه، والتوقي في معارضته، وضرب الأمثال له، ومنه أن لا ترفع الأصوات عند قبره كما كان لا ينبغي أن ترفع في مجلسه، ومنه أن لا يخاض عنده، في لهو ولا لغو ولا باطل ولا شيء من ا/ور الدنيا لا يليق بجلال قدره ومكانته من الله عز وجل. ومنه الصلاة والتسليم عليه كلما جرى ذكره، وقد أمر الله تعالى في كتابه بالصلاة والتسليم عليه جملة فقال:} إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما {فأمر الله تعالى عباده أن يصلوا عليه ويسلموا، وقدم قبل أمرهم بذلك أخبارهم: بأن ملائكته يصلون عليه، لينبئهم بذلك على ما في الصلاة عليه من الفضل، إذا كانت الملائكة مع انفكاكهم من شريعته تتقرب إلى الله بالصلاة والتسليم عليه ليعلموا أنهم بالصلاة والتسليم عليه أولى وأحق. وكان المخاطبون بهذه الآية لا يدرون كيف الصلاة، وسألوا عنه فأخبروا به، وأرشدوا إليه، ووردت في ذلك أخبارًا. منها حديث كعب بن عجرة قال: (قلنا يا رسول الله، هذا السلام عليك قد علمنا، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم). فقيل لسفيان: كيف لم يقل: على إبراهيم وآل إبراهيم قال: ألم تسمع إلى قوله:} ادخلوا آل فرعون أشد العذاب {وفرعون معهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم شهدت له يوم القيامة، وشفعت له يوم القيامة شفاعة).

وفي رواية عن علي رضي الله عنه قال: عدهن في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: (عدهن في يدي جبريل صلوات الله عليه، وقال جبريل: هكذا نزلت بهن من عند صاحب العرش: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم تحنن على محمد وعلى آل محمد، كما تحننت على إبراهيم وآل إبراهيم أنك حميد مجيد. اللهم سلم على محمد وعلى آل محمد، كما سلمت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد). وفي حديث بريدة الخزاعي رضي الله عنه قال: (قلنا يا رسول الله علمتنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يكتال بالمكتال إلى وفر إذا صلى علينا أهل البيت، فليقل: (اللهم صلي على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته). وعن الساعدي رضي الله عنه قال: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ فقال: قل: اللهم صلي على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي؟ قال: قولوا: (اللهم صلي على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد).

وعن عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة عليك؟ فقال: (إذا صليتم علي فقولوا: اللهم صلي على محمد النبي، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا عليه الصلاة وقولوا: اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وزكاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقامًا محمودًا يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد). فصل إن سأل سائل عن معنى الصلاة والتسليم والمباركة والرحمة قيل له: أما الصلاة باللسان فهو التعظيم، وقيل الصلاة المعهودة سميت صلاة لما فيها من حني النبي صلى الله عليه وسلم وهو وسط الظهر، انحناء الصغير للكبير إذا رد تعظيم منه له في العادات. ثم سموا أيضًا قراءته صلاة، إذا كان المراد منه عامة في الصلاة من قيام وانحناء وسجود وقعود وقراءة وتسبيح وثناء على الله عز وجل، تعظيم الرب فاتبعوا عامة الأقوال، والأفعال الانحناء، وسموها باسمه، فسموا كل دعاء صلاة إذا كان الدعاء تعظيمًا للمدعو بالرغبة إليه والثناء بين له تعظيمًا بابتغاء ما ينبغي له من فضل الله تعالى وجميل نظره. وقيل: الصلاة لله والأذكار التي يراد بها تعظيم المذكور والاعتراف له بجلال العبودية

وعلو الرتبة كلها لله، أي هو مستحقها لا يليق بأحد سواه. فإن قلت: اللهم صلي على محمد، فإنما يراد به اللهم عظم محمدًا في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإيتاء شريعته. وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجراء أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود، وتقديمه على كلمة النبيين في اليوم المشهود. وهذه الأمور وإن كان الله تعالى قد أوجبها للنبي صلى الله عليه وسلم واحد من أمته، فاستجيب دعاؤه فيه، إن يراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الدعاء في كل شيء مما سميناه رتبة ودرجة، فلهذا كانت الصلاة عليه مما يقصد به قضاء حقه ويتقرب بإكبارها إلى الله عز وجل فيدل على أن قولنا: اللهم صلي على محمد صلاة منا عليه إنا لا نملك اتصال ما يعظم به أمره، ويعلو به قدره إليه. وإنما ذلك على الله تعالى، فيصح إن صلاتنا عليه الدعاء له بذلك، وابتغاؤه من الله عز وجل، ويبين بذلك أن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:} خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلواتك {. فجاءه ابن أبي أو في بصدقة قال: اللهم صلي على ابن أبي أوفى فكانت عليه دعاؤه به أن يصلي عليه إن كان ذلك أكثر مما ملكه والله أعلم. وقد تكون الصلاة على رسول الله وجه آخر وهو أن يقال: الصلاة على رسول الله كما يقال: والسلام على فلان، وقد قال الله عز وجل:} أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة {ويقال: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، فإذا جاز هذا، جاز أن يقال: الصلاة على رسول الله أي الصلاة من الله عليه، والله أعلم. ووجه هذا أن التمني على الله سؤال، ألا ترى أنه يقال: غفر الله لك ورحمك الله، فيقوم ذلك مقام: اللهم اغفر له واللهم ارحم، ويقال للمريض وهب الله لك العافية، وشفاك الله، فيقوم ذلك مقام اللهم اشفه، اللهم هب له العافية، وكذلك الصلاة على فلان، وصلى الله على فلان، تقوم مقام: اللهم صلي عليه، والله أعلم. وأما التسليم، فهو أن يقال: السلام على النبي والسلام عليك أيها النبي، والسلام عليك يا رسول، وفي الصلاة أن يقال: سلم عليك أيها النبي، لا يعني ذلك عن تحديد الصلاة عليه بعد التشهد، ولو أخر السلام إلى وقت الصلاة، فقال: اللهم صلي على محمد

ولا يعني ذلك عن السلام عليه في التشهد، ووقني السلام عليك، اسم السلام عليك، والسلام من أسماء الله، فكان يقال: اسم الله عليك، وتأويله لا خلوت من الخيرات والبركات، وسلمت من المكاره والمذام، إذ كان اسم الله تعالى إنما يذكر على الأعمال توقعًا لاجتماع معاني الخيرات والبركات فيه، وابتغاء عوارض الملك، والفساد عنه. ووجه آخر، وهو أن يكون معناه: لكن قضى الله عليك السلام، وهو السلامة، كالمقام والمقامة، والملام والملامة والمكانة، والمذام والمذامة، أي سلمك الله من المذام والنقائص. وإنما قيل هذا السلام عليك، ولم يقل: السلام لك، لأن المعنى قضى الله بهذا، وقضى تعالى، إنما يتقدم في العبد من قبل الملك والسلطان الذي له عليه، فكان قولهم: قضى الله عليك بالسلامة أشبه من أن يقال، قضى الله لك بها، وإن كان ذلك ناقصًا لو قيل جايز والله أعلم. فإذا قلنا: اللهم سلم على محمد، فإنما نريد: اللهم أثبت لمحمد في دعوته وأمته تكابرًا وذكره ارتفاعًا، ولا يعارضه ما يؤخر له أمرًا بوجه من الوجه والله أعلم. وأما الترحم، فقل ما جاءتا بيانه في الحديث، وهو ارحم محمدًا أو ترحم على محمد، والرحمة تجمع معنيين: أحدهما إزاحة العلة، والآخر: الإبانة بالعمل. وهو في الجملة غير الصلاة، ألا ترى أن الله عز وجل قال:} أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة {ففصل بينهما. وجاء عن عمر رضي الله عنه: ما دل على انفصالهما عنده، وهو قوله: ونعم العبد لا ونعمت الصلاة، فعين بالعبد، لأن الصلاة والرحمة بالعلاوة} وأولئك هم المهتدون {وقيل في تفسير قوله:} أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة {، أنها كشف الكربة وقضاء الحاجة. وقوله عز وجل:} وأولئك هم المهتدون {. يريد وأولئك هم المصيبون طريق الحق دون من خالفهم، فجزع عن المفقود وبالسخط المعبود. وهذا الذي فسرت الرحمة به من أنها كشف الكربة وقضاء الحاجة لأن الكرب إذا استولى

على النفس قد يعجز عن كثير من الأعمال لأنه يدخل وينس، كما أن فراغ القلب يغفل خلاف ذلك والله أعلم. وأما المباركة فإنها فعل الله تعالى، وإنما يكون منا لتبريك، وهو أن يقول: اللهم بارك على محمد. واصل البركة الدوام. وهو من يبرك البعير إذا نهج في موضع يلزمه، وقد يوضع موضع النماء والزيادة، وأصلها ما ذكرنا، لأن تزايد الشيء يوجب دوامه. فإن الماء إ ذا انصب إلى واد وتتابعت بعد ذلك إمداده، قيل: قد دام. وقد قال الله عز وجل: فيما وصف به الجنة:} أكلها دائم {وإنما أراد سابغ لا تنقطع إمداده. وقد يوضع أيضًا موضع اليمن، ولا ذلك يخالف الأصل الذي ذكرنا، لأن البركة إذا أريد بها الدوام، فإنما يستعمل ذلك فيما يراد ويرغب في ثنائه، لا فيما يكره ويستعجل بثنائه. ألا ترى أنهم يقولون: فلان مبارك في عمله وماله وولده، إذا كان ما كثر له من ذلك باقيًا عنده، ولا يقولون: فلان مبارك في جهله وضره إذا كان ما عرض له ذلك لا يزايله، فلا ينكر على هذا أن يقال للميمون مبارك، بمعنى أنه محبوب ومرغوب فيه والله أعلم. فإذا قلنا بارك على محمد، فالمعنى اللهم أدم ذكر محمد ودعوته وشريعته وكثر أتباعه وأشياعه، وعرف لقيه من يمنه وسعادته، أن يسبغه فيهم ويدخلهم جناتك ويحلهم دار رضوانك، فيجمع التبريك عليه والدوام والزيادة والسعادة وبالله التوفيق. فصل إن سأل سائل: عن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من هم؟ قيل له: آله قرابته الذين أوجب لهم خمس الخمس، وحرمت عليهم الصدقات المفروضات فإن سأل سائل: عن الدليل على ذلك، قيل له: روينا إن فتيانًا من بني الحارث بن عبد المطلب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا استعملنا على الصدقات نصيب ما تصيب الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، ولكن انظروا إذا أخذت بخلقه الجنة، هل أوثر عليكم غيركم). وفي حديث قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم

بتمر من تمر الصدقة فأمر فيه بأمره، ثم قام فحمل الحسين على عاتقه، فسال عليه من لعابه، فنظر فإذا يلوك تمرة من تمر الصدقة، فحرك شدقه وقال: كخ، ألقها يا بني، أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة). ومعلوم أن صدقات المسلمين موضوعة فيهم غير مخرجة إلى غير أهل دينهم، فبان أنه أراد بالآل قرابته الخاصة. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين موجوءين، فذبح أحداهما عن أمته من شهد منهم التوحيد وشهد له بالبلاغة. وذبح الآخر عن محمد وآل محمد). فثبت بهذا أن اسم الآل للقرابة خاصة، لا لعامة المؤمنين. ودل على هذا أنه لما أخبر أن الصداقة لا تحل لآل محمد ولا لأهل بيته، وإنما هو لفقراء المؤمنين وفي سبيل الله، ويبين ما قلنا أيضًا أن الآل عند أهل اللغة هو الأهل، وأصله آل بهم بين، ثم قد تقلب الثانية منهما ألفا، وقد تقلب هاء، وقد فضل الله تعالى بين أهل نوح عليه السلام والمؤمنين به، فقال:} فإذا جاء أمرنا وفار التنور، فاسلك فيها من كل زوجين اثنين، وأهلك إلا من سبق عليه القول {ومن آمن. فجعل المحملين في السفينة بدت قرين الأزواج التي أمره بها من أصناف الحيوان وأهله، والذين آمنوا به. فثبت أن الأهل أخص من الأتباع، وإذا ظهر ذلك ثبت أن الآل أيضًا هم الخاصة من أهل النبيين دون عامة المؤمنين. وقد قال الله عز وجل في قصة لوط عليه السلام:} إلا آل لوط نجيناهم بسحر {. وقال في موضع آخر:} فأنجيناه وأهله إلا امرأته {فسمى المحبين مرة أهلاً ومرة آلاً، فثبت أنهما في المعنى واحد والله أعلم. وقال الله عز وجل:} إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على

العالمين}، ولم يرد إلا أهل البيت. ثم فسر فقال:} ذرية بعضها من بعض {. وقال حكاية عن يعقوب عليه السلام أنه قال ليوسف صلوات الله عليه:} وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق {. وإنما أراد بآل يعقوب أهل نسبه لا عامة أهل دينه، فقال عز وجل:} فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا {. وأراد به نسله والراجعين بأنسابهم لا عامة المؤمنين به. وكانت العرب تقول: (قريش آل الله) أي خاصته من حيث أنهم سكان حرمه. وقد يدعي الواحد نفسه لأنه أخص من نفسه، وذلك يشير أن اسم الآل موضوع للخصوص دون العموم. قال الله عز وجل:} وبقية مما ترك موسى وآل هارون {فقيل: ما ترك موسى وهارون؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أوفى لما جاءه بصدقه: (اللهم صلي على آل أبي أوفى)، ويريد بذلك إياه نفسه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أبا موسى الأشعري يقرأ، فقال: (لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود) وإنما أراد داود نفسه، فإنه كان الموصوف بحسن الصوت، واجتماع الناس والطير والوحوش على صوته إذا قرأ الزبور، لا أحد سواه. وقال عبد الله بن مسعود: إذا وقفت في آل حم، وقعت في روضات فيهن، وإنما أراد بآل حم، سورة حم. فإذا ظهر أن اسم الآل للخصوص، حتى يدعي الواحد إلى نفسه، ظهر أن آل كل واحد، فهو ينزل منزلة نفسه، لاختلاط الأبدان وامشاحها، وهم القرابات والله أعلم. وأما الأزواج فإن اسم الأهل أغلب عليهن، فيقال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أهله، وكذلك أزواج غيره، فمن أهل لأزواجهن، ولذلك يقال تأهل الرجل إذا تزوج، ويقال: بنى

على أهله، إذا زفت امرأته إلى بيته، وقد قال الله عز وجل:} فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله مسرورًا {أي إلى التي قضى أن تكون أهله وهي زوجه، وقد يستعمل اسم الأهل للولد كما قال نوح عليه السلام:} إن ابني من أهلي {. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: (أنت أول أهلي لحوقًا بي). وسأله العباس وعلي رضي الله عنهما: أي أهلك أحب إليك؟ قال: (أحب أهلي إلي فاطمة بنت محمد، ويدعى سيد الأمة أهلها). قال الله عز وجل في الإماء:} فانكحوهن بإذن أهلهن {يعني بإذن سادتهن. فكذلك يجوز أن يعار الأزواج اسم الآل، وخصوصًا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لأن اتصالهن به غير مرتفع، وهن محرمات على غيره في حياته وبعد وفاته فالسبب الذي لهن قائم مقام السبب. ويجوز أن يسمين لذلك آله، إلا أن هذا تشبيه، وتشبيه أهل النسب به تحقيق. وكذلك الموالي المعتقون يجوز أن يدعو آلا للذين أعتقهم، لأن الولاء الذي له عليهم قائم مقام التسبب لا يحتمل القطع ولا الفصل والله أعلم. ومما جاء في تسمية الأزواج آلا، ما روي في الأخبار، قالت عائشة رضي الله عنها: ما شع آل محمد مذ قدموا المدينة ثلاثة أيام متتابعة من طعام حتى قبض، وإنما أرادت بذلك الأزواج، يدل على ذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "والذي نفس أبي هريرة بيده ما أشبع النبي صلى الله عليه وسلم أهله ثلاثة أيام تباعًا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا" فعلمنا بهذا أن أزواجه اللائي كان عليه إشباعهن لأمر لم يكن يلزمه نفعته من قرابته. ومما جاء في المولى ما روى عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهله، فذكر عليًا وفاطمة وغيرهما، قال ثوبان، قلت: (يا نبي الله أمن أهل البيت أنا؟ فسكت. ثم قلت: يا نبي الله أمن أهل البيت أنا؟ فقال في الثالثة: ما لم يقم على باب سيده، أو يأتي

أميرًا فيسأله). وهذا في الحديث تسميه أصلاً لخصوص سببه الذي يعدل النسب، فإن سمي كذلك آلاً، جاز ولم يعد والله أعلم. ويحتمل أن يكون معنى هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لثوبان: (أنت مشرف باسم أهل بيتي، ما لم تهن نفسك بمسألة الأمر، أو لم تقم على باب سيده أحد فيخلفه بعد أن يخدمني، فلا يكون حنيئذ من أهل بيتي). وأما اسم أهل البيت فإنه للقرابة والأزواج معًا. وأما الأزواج، ففيهن نزل القرآن، قال الله عز وجل:} يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولاً معروفًا. وقرن في بيوتكن، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا {. فدلت هذه الآية على أن نساء النبي من أهل بيته، ولما قيل في الآية} يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم {علمنا أن الخطاب لم يخلص لهن ولكنه أدخل معهن القرابة الذين ينقسمون إلى الذكور والأناث والله أعلم. وأما تسميته القرابة بهذا الاسم، فإن روى عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر، كان آخر عهده ما بيان عن أهله فاطمة، وأول من يدخل عليه فاطمة، فقدم غرامه له، فإذا مسح على بابها ورأى على الحسن والحسين نعلين من فضة، فرجع. فظنت إنما منعه ما رأى فهتكت، ومكث القبلتين عن الصبيين، فقطعتهما فبكيا، فدفعته إليهما، فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهما يبكيان فأخذه منهما فقال: يا ثوبان، اذهب بهذا إلى آل، إلى أهل بيت في المدينة بهم حاجة. إن هؤلاء أهل بيتي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوار من عاج). والعصب الخرز الصغار الصغر، والعاج الإبل.

ففي هذا الحديث تفسير الآل بأهل البيت وإقطاع اسم الأهل على الولد. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة بعد أن بني بها علي رضي الله عنه بستة أشهر، فيقول: (الصلاة أهل البيت)} إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا {. وفي حديث أبي الحمراء أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (السلام عليكم) إنما يريد الله ليذهب ...). وعن وائلة بن الأشفع رضي الله عنه قال: إني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ جاء علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فألقى عليهم كساء ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. فقلت يا رسول الله وأنا قال: وأنت فوالله إني لأوثق عملي في نفسي). وعن بن أسيد الأنصاري رضي الله عنه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: (يا أبا الفضل، لا تروم من منزلك هذا أنت وبنوك، فإن لي فيكم حاجة. فانتظروه فجاء فقال: (السلام عليكم، قالوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. قال: كيف أصبحتم؟ قالوا: بخير، بحمد الله تعالى. كيف أصبحت بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله؟ قال: بخير أحمد الله تعالى. قال: تقاربوا تقاربوا ليزحف بعضكم إلى بعض، فلما أمكنوه اشتمل عليهم بملائه فقال: اللهم هذا العباس وسلمان وصنواي ونقولا أهل بيتي، استرهم من النار كستري إياهم بملائي هذا. قال: فآمنت أسلفة الباب وحوائط البيت، فقالت: آمين ثلاثًا). ففي هذه الأخبار بيان أن اسم أهل البيت للولد والقرابات والأزواج والموالي، وهؤلاء هم الآل، وإن كان ذلك -قال بعضهم- تخفيفًا وللآخرين نسبها والله أعلم. فإن قيل: لم لا قلتم إن المؤمنين كلهم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما روى أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الآل فقال: (كل مؤمن تقي).

قيل: معنى ذلك أن المؤمنين الاتقياء من قرابته هم آله. فأما الكفار فليسوا من آله، لقطع الله الولاية بين المسلمين والكافرين، ولم يرد بذلك إن كل مؤمن تقي فهو آله، قريبًا من كان منه أو أجنبيًا، فإنه لو كان كذلك لكان كل مؤمن به من الأمم الخالية مع أنبيائنا عليهم السلام من (آله). وفي استحالة ذلك مع ما بيناه وفيما تقدم، من إن الاسم الأول الخصوص دون العموم، دليل على أن معنى ما قلت والله أعلم. فإن قيل: قد أخبر الله عز وجل إن نوحًا عليه السلام لما قال له} إن ابني من أهلي {} قال يا نوح، إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح {. فأخبر أن يخرجوه من جعله أهله، وإن كان ابنه. فدل ذلك على إن صلاح المؤمن بالنبي يدخله في جملة أهله وإن لم يكن من ذوي نسبه. فالجواب: إن معنى قوله "إنه ليس من أهلك" أي أهلك الذين أمرتهم أن تحملهم في السفينة ليسلموا من الغرق لأنه كافر وأنت مسلم، لا لأنه ليس من أهلك أصلاً. وعلى هذا يتأول من سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهله من هم على أنه أراد من آلك الذين أمرتنا أن نصلي عليهم معك، فقال: (كل مؤمن تقي من قرابتي) لأنهم كانوا غرباء لا يجهلون اللسان فلم يكن يخفي عليهم من الآل. وإنما كان الحكم هو الذي أشكل، وإليه ينبغي أن يصر سواهم. وجواب النبي صلى الله عليه وسلم إنما سألوا عن مستحقي الصلاة عليهم، بأنهم آل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كل مؤمن تقي) ممن يقع عليه في اللسان اسم الآل. وهم القرابة، فخرج غير الأنبياء من حكم الآل لا من اسمه، كما أن ابن الكافر أو القاتل وإن خرج من حكم الإرث بكفره أو عقوقه، فإن اسم الابن لا يزايله والله أعلم. وجواب آخر: وهو أنه قد قيل: إن الذي دعاه نوح ابنه لم ابنه، فإنما كانت امرأته خائنة بادخاله عليه من غيره وهو لا يشعر، وكان مع ذلك كافرًا. فلذلك قال الله عز وجل: "أنه ليس من أهلك"، أي لا صلة بينه وبينك. فإنه أجنبي منك، وهو مع ذلك كافر، فلا تسألن ما ليس لك به علم، وبالله التوفيق.

فصل إن سأل سائل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أفرض هي أم سنة؟ قيل: أما في الصلاة يجب التشهد به، فرض هي لا تجوز الصلاة إلا بها، وإما خارج الصلاة فقد تظاهرت الأخبار بوجوب الصلاة عليه كما جرى ذكره فإن كان يثبت إجماع يلزم الحجة بمثله، على أن ذلك غير فرض، وإلا فهو فرض على الذاكر والسامع. فإن رام رائم أن يثبت هذا الإجماع من حيث إن العلماء يختلفون في إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول غير فريضة، ومعلوم أن ذكره في التشهد يتكر مرتين. ففي هذا بيان إن الصلاة عليه كما جرى ذكره لا تجب قبل. إما الإجماع على أن الصلاة عليه لحق الصلاة لا تجب لمسلم. فإما الإجماع على أنها لا تجب فمعه ذكره، فليس بالذي يمكن به لأن إحداهما غير الأخرى. فإن المسبوق ينقص الصلاة إن أدرك الإمام رافعًا رأسه عن الركوع فدخل معه فهو الاقتداء به، لزمه أن يسجد معه، وليس ذلك لحق الصلاة، وإنما هو لحق الإقتداء. ومن نوى السجود عند آيات السجدة، فما يؤمر المصلي إذا تلي أنه منها ولم يركع بها أن يسجد وليس ذلك الصلاة وإنما هو التلاوة، فلم ينكر إن يوم التشهد يقرأ إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه لأجل ذكره، وإن كان لا يؤمر لأجل الصلاة. وقد يجوز أن يقال: إن الصلاة حال واحدة، فإذا ذكر المصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصل إليه حتى يشهد آخر الصلاة، فصلي عليه أجرى ذلك عن الفرض، وعما مضى من ذكره، فلا يمكن أن يقال: إن ذكره في التشهد الأول لم يوجب الصلاة بل قد أوجبها، إلا أن وصفها لم يفت حتى صلي عليه، فصار بذلك قاضيًا للفرض والله أعلم. والأصل في الباب قول الله عز وجل:} إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها النبي آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا {. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا من العلم المكنون، ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به، إن الله تبارك وتعالى وكل بي ملكين، فلا أذكر عند

عبد مسلم يصلي علي إلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك). وقال الله عز وجل "وملائكته" جوابًا لذينك الملكين آمين. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، إن النبي صلى الله عليه وسلم رقي المنبر، فلما رقي الدرجة الأولى قال: (آمين: ثم رقي الدرجة الثانية فقال: آمين ثم رقي الدرجة الثالثة فقال: آمين فقالوا: يا رسول الله سمعناك قلت آمين، ثلاث مرات قال: رقيت الدرجة الأولى جاءني جبريل، فقال شقي عبد أرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه في الجنة، فقلت آمين ثم قال: شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت آمين. وفي هذا الحديث عن طريق كعب بن عجرة رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ارتقى درجة قال: (آمين. ثم درجة ثانية فقال: آمين. ثم ارتقى درجة ثالثة فقال: آمين فلما فرغ نزل عن المنبر، قلنا يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم ما كنا لم نسمعه فقال: إن جبريل عليه السلام عرض علي فقال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت آمين. فلما رقيت الثانية، فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت: آمين. فلما رقيت الثالثة فقال: بعد من أدرك أبويه أكبر أو أحدهما فلم يدخله الجنة قلت آمين). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر درجة فقال: آمين. ثم ارتقى الثانية فقال: آمين. ثم ارتقى الثالثة فقال: آمين. ثم استوى فجلس، فقال أصحابه: على ما آمنت؟ فقال: أتاني جبريل عليه السلام فقال: رغم أنف أدرك ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت آمين، فقال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه فلم يدخل الجنة، فقلت آمين، فقال: رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئك بأبخل الناس؟ قلت بلى، يا رسول الله قال: من ذكرت عنده فلم يصل علي، فذلك من أبخل الناس). وفي حديث آخر يرويه عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي). فإذا كان ترك الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سماع ذكره بخلاً، والبخل صفة من صفات الذم لا يستحقها إلا من حبس ومنع راجيًا، قال الله عز وجل:} إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورًا، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل {، فدل على أن الصلاة على النبي صل الله عليه وسلم واجبة على من ذكره عنده، كانت على الذاكر أوجب. ألا ترى أن سامع السجدة إذا كان يؤمر بالسجود كان التالي بذلك أحق. وقال قائل: لما لم يلزم الذاكر له جل ثناؤه كما ذكره، إن يقرن ذلك بتحميده وتقديسه فيقول عز وجل: وتبارك وتعالى ونحو ذلك، كانت الصلاة على رسوله كلما ذكر أولى لا يلزم. فالجواب: إن ذكر الله تعالى إنما يكون بأحد أسمائه والتمجيد والتقديس أيضًا يكون بأسمائه. فلم يلزم كما ذكر باسم أن يتبع ذلك غيره أسماء سواه. ومثل هذا لا يجب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا ذكر باسم الرسول لم يلزم أن يضم إلى وصفه بالنبوة، ولا إذا ذكر بالنبوة أن يضم إلى ذلك وصفه بالرسالة. فأما الصلاة عليه فدعاء منا له، فلم يكن في مقابلة قولنا لله عز وجل: وتبارك وتعالى ولم يكن في أن ذلك لا يلزم ما يوجب أن يكون الدعاء للنبي عليه السلام لا يلزم. وإن سأل سائل عن الكافر إذا أسلم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان به، هل يلزمه أن يصلي عليه؟

قيل: لا، لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من فروع الإيمان، فإنما يلزمه بالإيمان. أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من فروع الإيمان قائمًا بعد صلى عليه، فأما الذكر الذي صار به مؤمنًا فلم يعمل في إيجاب ذلك شيئًا. ألا ترى أن من آمن في آخر وقت الصلاة، فانقضى مع استكماله الإيمان لم يكن عليه قضاء تلك الصلاة، ولا يكون وجود الإيمان منه، وآخر الوقت موجبًا عليه صلاة الوقت، بل يلزمه بإيمانه أنه أدرك صلاة لوقتها صلاها، فأما أن يجعل بالإيمان مدركًا كالصلاة الوقت الذي كان الإيمان فيه، فلا يجعل مدركًا لها، كذلك الذاكر للنبي صلى الله عليه وسلم للإيمان به، لا يجعل هذا الذكر ملتزمًا للصلاة عليه. وإنما يجعل ملتزمًا أن يصلي عليه إن ذكره بعد والله أعلم. وإن قال قائل قد كان الناس عامهم وخاصهم إذا كلموا رسول الله يقولون له: يا رسول الله، ويمضون في حديثهم، ولم يبلغنا أن أحدًا منهم صلى عليه في الحال، أو تدارك ذلك بعد الحال، املاكم ذلك على أن الصلاة عليه كلما ذكر ليست بواجبه. فالجواب: أن المخاطبين له صلى الله عليه وسلم إن كانوا لا يصلون عليه إذا خاطبوه فرضًا، فقد كانوا لا يصلون عليه سنه، بل كانوا يدعون الصلاة عليه بلا كراهية ولا وعيد يستوجبونه ولم يدلك عند الغيبة عنه لا يلزمه الصلاة عليه. جواب آخر: وهو أنه قد روى في الأخبار قال: قالت عدة المهاجرين: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم -يعنون الأنصار- يباركوننا في قلتهم وكثرتهم من الخير، لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر لعجزنا عن مكافأتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شكرتموهم ودعوتم الله لهم فقد كافأتموهم) فقد يحتمل أن الصلاة عند مخاطبته كانت عادة للجماعة، فيقل ذلك عن بعضهم واكتفى به عن نقله عن جميعهم. وجواب آخر ثالث: وهو يحتمل أن يقال: أنهم لا يؤمروا بالصلاة عليه إذا خاطبوه، لأن إيجاب الصلاة عليه عند ذكره إنما هو لتعظيمه وتمييزه عن غيره، فلو صلوا عليه عند مخاطبته لكان الله تعالى لا يرضى له مع خلقه العظيم الذي أكرمه به أن لا يجب المصلي عليه بمثل صلاته، وخصوصًا إذا كان فيها أنزل الله عليه:} وإذا حييتم بتحية فحيوا

بأحسن منها أو ردوها {ولو أجابه بذلك لزال معنى التعظيم والتمييز، وبطل قصد المخاطب من صلاته عليه، ولصارت صلاة من يصلي عليه عند مخاطبته درجة له إلى أن يصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون قد كافأه بنفسه بجانب التعظيم، فأرسلته عنهم الصلاة عليه من وجهه، لأن المقصود منها ما يتحقق عند المخاطبة وقضى على حال الغيبة عنه إذا ذكر والله أعلم. ولا يشبه هذا إن شمت العاطس إذا حمد الله ولم يؤمر بالجواب، لأن مشمته ليس بتعظيم له، وإنما هي كرامة، وجزاء الكرامة بمثلها لا يزيل معنى الكرامة مما جزاه. والتعظيم في هذا يخالف التكريم وبالله التوفيق. فإن قال قائل: لو كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة عند ذكره لكان عليه أن يصلي على نفسه، كما أخبر عن نفسه بخبر، ألا ترى أنه لما لزم غيره بالإيمان به، لزمه الإيمان بنفسه، فكذلك الصلاة عليه عند ذكره لو لزمت غيره للزمه ذلك في نفسه. فالجواب أن هذا لا يلزم، لأن العاطس إذا حمد الله عز وجل استحق على غيره أن يشمته ولم يستحق على نفسه، إذا أخبر على نفسه بخبر، أو انتسب إلى رسالة الله تعالى، ويلزم غيره إذا ذكره أن يصلي عليه والله أعلم. فإن سأل سائل عن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، إذا تكرر في مجلس واحد مرات، يكفي الصلاة عليه في آخر المجلس مرة واحدة أولا. قيل له: أما إذا كان المجلس معقودًا ليس العلم فيه من رواية السنن، أما لتذكير فيحتمل أن يكون الغافل عن الصلاة عليه كلما جرى ذكره إذا ختم المجلس بالصلاة عليه، كان ذلك جائزًا عنه، لأن المجلس إذا كان معقودًا للذكر، كان كله حالا واحد، ويكون الذكر المتكرر فيه كالذكر الواحد. وأما إذا كان المجلس لا لهذا الشأن فاتفق إذ جرى فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أرى كلما ذكر أن يصلي عليه ولا أرخص في تأخير ذلك، ولا يكون ذكره في هذه الحال أحق من غير العاطس إذا حمد الله عز وجل. ومعلوم

أن رجلاً لو عطس في مجلس واحد مرتين أو ثلاثًا، وحمد الله كلما عطس اشمت بكل مرة، فكذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تكرر في المجلس الذي وصفت مرات وجب أن يصلي عليه فيه ذكر والله أعلم. فصل أن سأل سائل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبيحة والعطاس والتعجب قيل له: أما عند الذبيحة فمستحبة لأن حل الذبيحة بالذبح، وأحكام فوائد من الله تعالى ألزمنا بها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة يقربنا كذلك إليه تبارك وتعالى بالصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم عند الذبح، ولا يدخل ذلك في حد الإشراك، فإنه لا يقال "بسم لاله واسم الرسول" وإنما يقال بسم الله وصلى الله على رسوله أو بسم الله اللهم صلي على محمد عبدك ورسولك، فهو كما يقال: بسم الله، اللهم تقبل مني، وعند العطاس أيضًا لا يكره لأن المعنى على ما دفع عني من الأذى، وصلى الله على رسوله الذي علمني في لسانه حمده. فأما عند التعجب والأمر الذي يتندر ويضحك فيه، فإن أجتنى على صاحبه، لأن من تعجب من شيء ظهر له من غيره، فقال صلى الله عليه وسلم على محمد بصورة من يعجب صاحبه كما عجب، فإذا كان يعجبه أتاه الصلاة على محمد، قد كان قد أنزل الصلاة على محمد عجبًا. فإن كان الذي يفعل هذا يدري ويميز ويدرك ما ذكرنا فلم يتحاشه كفر، وإن كان أخذ ذلك عن غيره، ولم يكن ممن يدرك هذا ويميزه فلم يكفر، وينبغي له إذا عرف أن يستغفر الله تعالى ويتوب ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم حقًا. ويدخل في هذا المعنى ما جرت به عادة من السفهاء من قولهم إذا استغربوا أمرًا أو كلامًا: صلى الله عليه وسلم على لوط، إن كان هذا كالصلاة على لوط فيها يستحقه من الاستغراب والاستئذان. وهذا ازراء من قابله بلوط. فإن كان يميز ما قلنا ولم يعبأ به كفر، وإن كان بخلاف ذلك لم يكفر، ويستغفر الله، ويعتقد أن الصلاة على لوط ليست مما ينبغي أن يستغرب ويتعجب منها، وأنها كالصلاة على سائر الأنبياء عليهم السلام. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سلمتم على فسلموا على إخواني من المرسلين،

فإن الله بعثهم كما بعثني وأرسلهم كما أرسلني)، فإن كان التعجب من الشيء وبما يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول: "سبحان الله ولا إله إلا الله، أي لا يأتي بالنادر وغير النادر إلا الله، فسبحان الله وصلى الله على محمد"، فهذا إيمان وإخلاص وهو من الكراهية بعيد وبالله التوفيق. إن سأل سائل عن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها إذا تركت هل يقضي؟ قيل له: إن صلى عليه الذي أغفل حقه في المستقبل بعد أن يتوب ويستغفر، رجونا أن يكفر عنه، ولا يطلق عليه اسم القضاء، لأن الغرض من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره تظيمه، وغيره عن غيره، فلا يكون ذكره لذكر من سواه، وهذا أمر يتعلق بالحال، فإذا انقطعت تلك الحال لم تقع الصلاة عليه هذا الموقع، وإنما يكون قربه مبتدأه كرجل يدخل على رجل، فيسلم عليه، فلا يرد عليه، ثم يستأنف له دعاء في وقت آخر، فيقول: اللهم سلم على فلان، أوثق فلانًا مني السلام، فيكون دعاء ابتدأ به، ولا يكون قضاء لما حبسه عنه من جواب سلامه والله أعلم. ومما يدخل في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقابل قول حكي عنه أو فعل له يوصف، أو حال له يذكر، بما يكون إبقاؤه، ولا يسمى بشيء من الأسماء التي هي في متعارف الناس من أسماء الصنعة، فلا يقال كان النبي فقيرًا، أو لا يقال له إذا ذكرت مجاعته، أو شدة لقيها مسكين، كما يقال في مثل هذه الحالة لغيره ترحمًا وتعطفًا عليه. وإذا قيل كان النبي يحب هذه، ألا يقابله أحد بأن يقول، أما أنا فلا أحبه، ولا إذا قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أنا فلا آكل متكئًا) لم يقابله أحد بأن يقول: أما أنا فلا آكل متكئًا ثم يتكئ فيأكل، فإن هذه وما يشبهها تشرع أبوابها إلى الكفر. ومن تعظيم الله جل جلاله وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يحمل على مصحف القرآن، ولا على جوامع السنن كتاب ولا شيء من متاع البيت ما كان. وإن ينفض الغبار عنه إذا أصابه، وأن لا يمس أحد يده من طعام ولا غيره بورقة فيها ذكر الله أو ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم

ولا يمزقها تمزيقًا، ولكنه إذا كان له تعطيلها فليغسلها بالماء حتى تذهب الكتابة منها، وإن أحرقها بالنار، ولكنه إن كان له بتعطيلها فليغسلها فلا بأس، أحرق عثمان رضي الله عنه مصاحف كانت فيها آيات وقراءات منسوخة، ولم ينكر ذلك عليه أحد والله أعلم. ومن هذا الباب لا يكسر درهم فيه اسم الله أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من يائس واليائس أن يكون رابها فجلس لئلا يعثر به مسلم. ووجه النهي عن الكسر أنه كتمزيق الورقة التي فيها ذكر الله تعالى، وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا كانت الحروف تنقطع والكلم يتفرق، وفي ذلك ازدراء بقدر المكتوب، ومتى كسر لعذر فإنما أتم الكسر على ضاربه كاسره، لأنه هو الذي غير ودلس فأحوج إلى الكسر لإظهار ما أسر والله أعلم. ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أولاد المهاجرين والأنصار، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدموا قريشًا ولا تقدموها) وما ذلك إلا أنه صلى الله عليه وسلم منهم، فإذا أوجبت التقدمة لفرقتين كانت لبني هاشم أوجب، لأنه أحق به من قريش ثم الأقرب فالأقرب. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (فاطمة نطفة مني، من أذاها فقد أذاني) فكل ذي سبب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وجبت أن تعرف منهم خصوصية ويرعلى له نسبه منه حرمته وبالله التوفيق. ومما يتصل بهذا الباب تعظيم العرب وإجلالهم لأنه صلى الله عليه وسلم عربي. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشًا، واختار من قريش بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فيحبني أحبهم، ومن أبغض العرب فيبغضني أبغضهم).

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سب العرب فأولئك المشركون، فلا ينبغي لأحد أن يطلق لسانه بتفضيل العجم على العرب) فصار فرضًا على الناس بأن يتعلموا لغة العرب، وإن كان ذلك من فروض الكفاية ليغفلوا عن الله عز وجل أمره ونهيه ووعده ووعيده ويفهموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه وتبليغه، وحكم بأن الأئمة من قريش، فلا يمكن أن يكون إمام المسلمين إلا عربيًا، ونزع أيدي الأعاجم من المماليك، فأبطل أن يكونوا إلا أذنابًا لا رؤساء، وبعلهم رقيقًا وحولاً للعرب، ولم يجعل العرب حولاً لغيرهم لكنه صانهم عن جريان الرق غلاً لأقدارهم، ودلالة في الفضل على مكانهم، لأن الله تبارك وتعالى لم يكن ليختار إلا فضل رسله إلا أفضل الأوصاف، فلما كان الناس عربًا وغير عرب، فجعل أفضل رسله العرب، علمنا أنه إنما فضل ذلك لأنه أبهى وأعلى لقدره تفضيل العرب من سواهم، كما أنه لما جعله من أهل حرمه، علمًا بذلك أنه أراد أن يكون ذلك أعظم لحرمته لفضل الحرم على من سواه. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل:} وإنه لذكر لك ولقومك {قال: ممن الرجل؟ فيقال: من العرب، فيقال: من أي من العرب؟ فيقال: من قريش. من أطلق بدم العرب والوقيعة فيهم، وتفضيل الأعاجم عليهم لسانه. فقد آذى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أسمعه في قومه خلاف الجميل، والله عز وجل يقول:} إن الذين يؤذون الله روسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابًا مهينًا {ووجدت الذين يتجاسرون على إطلاق القول بفضل العجم على العرب يدور مكانهم على عدة معاني: منها إنهم يزعمون أن اسحق بن إبراهيم صلى الله عليهما كان أبا العجم، وملوك الأعاجم من ولده، ويصفون أيضًا أنسابهم به على ما هو موجود من مواضعه من كتبهم، وإن إسماعيل كان أبا العرب، وكان اسحق أولى بالفضل من إسماعيل لأنه الذبيح الذي ابتلى الله عز وجل فيه إبراهيم عليه السلام فصبر، لم يجاوز ذلك بعضهم، إلا أن اسحق كان ولد الأنبياء والملوك ولم يخرج من صلب إسماعيل إلا عبدة الأصنام، وسافكوا الدماء والعابثون

في الأرض، إلى أن كان النبي صلى الله عليه وسلم، فاسحق إذًا أولى بالفضل من إسماعيل، ويتجاوز عن ذلك بعضهم إلى أن يقول: إن أم إسماعيل كانت الأمة لأم اسحق، وذلك يحطه عن مساواة اسحق ومجارته، ويحتجون بما روى عن صفية بنت حيي أنها قالت: دخلت على رسول الله وأنا أبكي، فقال: (يا بنت حيي ما يبكيك؟ فقلت: بلغني أن حفصة وعائشة ينالان مني ويقولان: نحن خير منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يكونان خير منك وإن أباك هارون وعمك موسى وزوجك محمد). وعن علي رضي الله عنه قال: لقد قرأت ما بين الدرجين، فما وجدت لولد إسماعيل على ولد اسحق فضل هذه! ودفع قذاة إلى الأرض لا تكاد أن ترى بين إصبعيه، قالوا: وقد أخبر الله عز وجل أنه فضل بين بني إسرائيل وأخيارهم على علم على العالمين، وكيف يجوز مع هذا تفضيل ولد إسماعيل عليهم؟ ومنه أنهم يحتجون بقول الله عز وجل:} إن أكرمكم عند الله أتقاكم {، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:} كلكم بنو آدم طف الصاع لا يملأه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى {. وأنه قال: (لا تفاخروا بآبائكم، فلجعله يد هذا الحر ويمنحونها حر من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية) وأنه قال: (إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعزيزها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب). ومنها: أن الله عز وجل قدم العجم على العرب لما ذكر الفريقين فقال: "أعجمي وعربي" فدل ذلك على اللغة العربية، فروى القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله تبارك وتعالى إذا تكلم بالرضي تكلم بالفارسية

وإذا تكلم بالغضب تكلم بالعربية)، وعن علي بن ربيعة الوابلي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يرسل الرحمة على قوم أرسلها مع ميكائيل بلسان فارسي، وإذا أراد الله أن يرسل على قوم البلاء أرسله مع جبريل بلسان عربي). وعن القاسم عن أبي امامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حملة العرش يتكلمون بالفارسية الدرية). قالوا: فإن أبيتم وقلتم: كلا، إن اللغة العربية أفضل اللغات قلنا: فليكن كذلك إذا تعلمها الأعجمي وصار يتكلم بها، فما فضل العربي عليها بها. قالوا: وقد روى أبو عبيدة الناجي عن الحسن البصري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما العربية لغة، فمن نطق بها فهو عربي). ومنها: أن العرب آذت النبي صلى الله عليه وسلم حيًا وميتًا، لأنهم أضروه إلى مفارقة بلده والمهاجرة منها إلى غيره، بعد أن هموا بقتله، فلما لم يتفق لهم ما أرادوه، تحالفوا على أن لا يخالطوا بني هاشم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم، وكان منهم ما كان، ثم ناصبوه القتال بعد الهجرة وقتلوا عمه وكثيرًا من قرابته وكسروا رباعيته، ودموا وجهه، وقصدوا بعد موته إلى نقل الخلافة عن أهل بينه، وأعانوا على قتل أولاده، ثم كانت الأعاجم هي التي انتقمت أو انتصرت لقرابته حتى أعادوا إلا من إليهم، وأقروه فيهم، وكتب الأخبار تنطق بذلك مشروحًا مفصلاً، فمن أراد الوقوف عليها فليرجع متأملاً إليها. ومنها: أنهم يعيرون العرب بالمساوئ المنقولة عنهم وما كانوا عليه، ومن الجاهلية من السفاح الفاحش الذي لم يكن يتحاشاه رجالهم ونساؤهم، فكانوا يستكسبون فيه آباءهم، وينصبون للحرائر على أبوابها رايات يعرفن بها، وتعرف الواحدة منهن برجال،

فإذا ولدت غلب على المولود أقواهم وأعزهم حتى افتخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى أخرجه من صلب آدم إلى أن وضعته أمه من نكاح لا من سفاح، عصمة له من ألواث الجاهلية. ويتجاوزون هذا إلى أن نعيرهم بالفقر والفاقة وشدة البؤس والحاجة، وأكلهم الحشرات والهوام والدماء، ثم الفخر عليهم بما أسنده ملوك الأعاجم إليهم، وبأنهم كانوا إلى وقت النبي صلى الله عليه وسلم تحت أيديهم، لا يسبون عليهم ولا يستوي لهم إلا طاعتهم والانقياد لهم في غير ذلك مما يشبه هذا. ونعني إجماله عن تفضيله. ومنها أنهم قالوا: إن كانت طائفة من العرب دخلت في الإسلام أولاً، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن العرب ترجع إلى دين آبائها قبل أن تقوم الساعة، وأن الأعاجم هم الذين يقومون بنصرة دين الله. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يرجع العرب إلى دين آبائها) وقال: (ليضربنكم الموالي على الإسلام عودًا كما ضربتوهم بدءًا). ومنها أن استيلاء العرب على رقاب الناس مما عدا النبوة معدود في اشراط الساعة. فقد روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله سائل: متى الساعة: فقال: (إن الله تعالى عنده علم الساعة، ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك: قال: أجل يا رسول الله فحدثني قال: إذا رأيت الأمة ولدت ربتها، ورأيت أصحاب الشاء يتطاولون في البنيان، ورأيت الحفاة العراة الجياع العالة، رؤوس الناس، فذلك من معالم الساعة واشراطها. قالوا: يا رسول الله من أصحاب الشاء الحفاة الجياع العالة؟ قال: العالة على رقاب الناس) مستنكرًا استنكارًا أن تلد الأمة ربتها، واستنكار قلة العلم وظهور الجهل، واستغلال المعارف وشرب الخمور وبيع الحكم لما استدل به على أدبار الدنيا وقرب زوالها. وفي هذا ما يمنع من تفضيلهم وتقديمهم. ومنها أن قالوا: أزعمتم أن العجم ليست أكفاء العرب في المناكح، وأنتم تعلمون أن

العجمي يكون كفؤًا للحور العين، فكيف أبيتم أن يكونوا كفؤًا للعربيات؟ هذا وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، كائنًا من كان، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير عريض)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنسابكم هذه ليست نساب على أحد، ما أنتم ولد آدم طف الصاع لم تملؤوه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالدين أو عمل صالح، حسب الرجل أن يكون بدنًا فاحشًا بخيلاً). وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لرجل من قريش وخطب إليه رجل من الموالي أخته وأعطاها وأرغبها فأبى القرشي أن يزوجه قال له: وإصلاحًا وقد أحسن عطيته أختك؟ قال القرشي: لها حسب، وليس لها بكفؤ، فقال عمر: قد جاءكم بحسب الدنيا والآخرة، أما حسب الدنيا فالمال، وأما حسب الآخرة فهو الهدى! انكح الرجل إن كانت المرأة راضية، فرضيت المرأة، فزوجه. قالوا: زوج النبي صلى الله عليه وسلم المقداد بن الأسود وهو من الموالي إلى ضياعة بنت الزبير بن عبد المطلب. وزوج زيد بن حارثة وهو مولى زينب بنت جحش، وأمها أميمة بنت عبد المطلب، وقال: (إنما زوجت المقداد وزيد بن حارثة ليعلموا لأن الأشرف، الأشرف للإسلام)، بما أوردنا من هذه الروايات بطلان قولكم: إن العجم ليست أكفاء العرب. ومنها ما قالوا: قد غير الله تعالى بالعجم، فقال:} وإن تولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم {قال أبو هريرة نزلت هذه الآية وسلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله، من هؤلاء؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان فقال: (هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس).

وعن أبي هريرة قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر عنده الأعاجم فقال: (لأنا أوثق بهم مني بكم) أو قال: (ببعضكم). قالوا: فهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في العجم، وقد قال الله عز وجل في العرب:} وكذب به قومك وهو الحق {. قالوا: وأنزل في بجير الراهب وفعلته وأسيد بن أبي شعبة ووهب بن تامين وعده من قومه:} الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذ يتلى عليهم، قالوا: آمنا به أنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبله مسلمين {. وقال الله عز وجل في العرب:} إنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون {فشتان ما بين القولين: ومنها أن قالوا: روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السباق أربعة: أنا سابق العرب، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق الفرس، وصهيب سابق الروم، وأولى فضيلة المسلم سبقه إلى الإسلام). لقد ثبت منها العجز ما لم يثبت للعرب، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم لا من العجم. فإن أنكرتم هذا وقلت قد سبق إلى الإسلام أبو بكر وعمار وأمه سمية وبلال وصهيب والمقداد قلنا: فالسابق إذًا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة عرب وستة عجم، والنبي صلى الله عليه وسلم عربي، فلم يساوي عدد أتباعه من رهطه عدد أتباعه من غيرهم دون أن يزيدوا عليه أضعافًا مضاعفة إلا عن عتوهم وتكبرهم على الله ورسوله، ولم يساو عدد الأجانب منهم عدد رهطه إلا حصين بن الأغن سرعة إدعائهم للحق وانقيادهم لله ورسوله، فأي أشكال يبقى مع هذا في فضل العجم على العرب. ومنها أن قالوا: ما أسلم من الأعاجم أحد ثم نافق وارتد بعد إيمانه، وإنما كان النفاق والردة في العرب خاصة، فدل ذلك على أن الأعاجم أقوى بصائر، وأعلم بالله عز وجل

ورسوله من العرب ورأس لفضائل الدين، فإذا كانت الأعاجم فيه أرسخ من العرب، فما فضل العرب بعد ذلك على العجم؟ فالجواب -وبالله التوفيق- إن كل فضل ثبت لواحد على آخر، أو لفريق على فريق، لا يخلو من أن يكون رجحانًا في الأسباب التي تتعلق بها مصالح الحياة الدنيا، أو رجحانًا في الألباب التي يستحق بها الثواب في النشأة الأخرى. وهذا القسم الذي ذكرته آخرًا، ولا يمكن أن يقطع بان العرب فيه أفضل من العجم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض من أهل بيته وأصحابه وأزواجه والأبناء الذين كانوا قبله من العرب، فأما غير الذي ذكرناهم فلا يبعد أن يكون في العرب من يدأب في الصالحات ويتنزه عن السيئات، فكثر بها ثوابه في الآخرة، ويكون بما اكتسب أفضل من عجمي لا يوافي القيامة بمثل عمله. وإذا كان ذلك مما لا يمكن أن يقطع به في الآحاد، فكذلك هو في الجملة، لأنه لا يعلم أحد سوى الله تبارك وتعالى أن جملة العرب أكثر حظًا من إحسانه يوم القيامة أو جملة العجم. وكل ما أورده المعترض من الآيات والأخبار في دفع غيره من تفضيل العرب على العجم، فإنه ينحو نحو هذا الباب وإنما أريد بها الفضل الذي يظهر في الآخرة دون ما سواه، على أنها أن منعت من تفضيل العرب على العجم بالإطلاق، فكذلك يمنع من تفضيل العجم على العرب، ولا ملجأ للمعرض عليها ولا حجة له فيها، لأن النكتة إذا كانت "إن من كان أتقى فهو أفضل" فالتقوى قد توجد في الفريقين، وإن كل أعجمي أتقى من عربي، وقد يكون عربي أتقى من عجمي بالاحتجاج بما يستوي الفريقان فيه، لا يعني في موضع الخلاف شيئًا. وأما القسم الأول فإنه يتفرع فيه البيان الواقع باللسان المعرب عما في الضمير المترجم عن القلب، وفيه العلم والحكمة، وفيه الحمية والشجاعة، وفيه الجود والسماحة والوفاء بالذمة، فأما البيان، فللعرب فيه التقدم والفضل الذي يعترف به لهم اضرارًا من لم يعترف لهم به اختيارًا، ولهم من أصناف النظم الذي لا يدخل بعضها على بعض نحو نظم الشعر، ونظم الخطب، ونظم الرسائل والاسجاع الحسنة، والأمثال الدالة على وفرة الذكاء، وصحة الذهن. وهذا الفوز في المعرفة والحكم الموجودة في إشعارها الدالة على مثلما وصفنا من دلالة الأمثال ما ليس لغيرهم، وإنما أخذت العجم قول الشعر عن العرب، ثم

لم تلحق ثناءهم، ولا نكرت على مثل رسائلهم وخطبهم، ولا تعرفت لغاتهم، كتعرفة العربية، ولا اتبعت الوزن فيكون لها النحو والصرف الذي هي على الإنفراد علم كثير، وله علماء يعتكف على الأخذ عنهم ويرتحل في طلبه من البلدان إليهم، وفيه من الكتب المتقسمة بين الواضح والغامض مثل ما لسائر العلوم الجلية، ولربما استنفذ الشغل به من الواحد، العمر الطويل، ثم لا يقف من جملته إلا على الشيء القليل، أما العلم والحكمة، فإنه لا يعرف للفرس علم تفردوا به، إنما لهم أنساب ورسوم اجتمعوا عليها ووضعوها لما سلبهم الله تعالى كتابه، ورفع من بينهم خطابه، فاضطره إلى اختراع، اخترعوه من المثل المرسوم، فكانوا فيها كما قال الله عز وجل:} بئس للظالمين بدلاً {وما من قوم إلا ولهم فيما بينهم عادة وموضوعات تعارفوها وجروا عليها، ولا يكادون يعرفون غيرها. وذلك موجود في اهل كل سوق، وفي أهل كل بيت، فلئن كانت علماء الفرس اتخذت لأنفسها مع أصاغرها وضعًا يجرون عليه ويتعاجلون به، فكذلك لا يوجب أن يكون العلماء الأمم وحكماء الفرق. وأما العرب فلهم علم الأنواء ومعرفة الأوقات الحر والبرد، لا من قبل سير الشمس الذي هو عنان، والعلم به ضرورة، ولكن من وجود دقيقة لا يدركها إلا من ياخذها عنهم، فيحسبون منها ما يحسبه المنجمون، ويصيبون منه أبدًا، فلا يخطئون. وأما ذم الله تعالى من قال: "مطرنا بنو كذا" لا لأنه كاذب في وقوع المطر عند ذلك النو، ولكن لأنه كان يرى المطر نعمة من الكوكب، وكان حقه أن يراها من الله تعالى. ولها من العلم بالخيل من الإنفراد، مثل ما لها من الفضل بحبلها العراب، فلو اقتصر عليها وجعلت مثلاً لأدبارها. وقيل أن رجحان العرب على العجم كرجحان العرب على براذين العجم، فكان ذلك من أقرب الأمثال، فلهم في العلم ما يحتاج إبانه فيه قراطيس كثيرة، ولا يكمل لإدراك ألفاظهم التي يعتبرون بها من خلقها وأخلاقها وسيئاتها إلا يشار إليه في علم اللغة، معترف له بالفضل والأخذ به.

ولها علم الفراسة والقيافة المعمول بها في الجاهلية والإسلام، الموثوق بها في مقاطع الأحكام. قد كانت فيها مع ذلك الكهانة والعيافة، فأما الكهانة فلم يكن من قوم أفشى منها فيهم، وكانت عمدتها الأخبار المسترقة من السماء، وأما العيافة فقد كانت من نتاج الفهم والذكاء والكيس. ولكن الإسلام أبطلها، ومتع من النزول عليها والحكم بها، وليس للفرس مما ذكرنا شيء. وقد كان في العرب أيضًا كتب كثير وأطباء معروفون، ثم لا يشكل على أحد أنه لا خط كالخط العربي، ولا لفظ أبهى من اللفظ العربي، ولا قوم أشد حمية ولا أنفة من العرب. فقد قيل: الحمية عشرة أجزاء، تسعة منها في العرب، ولأجلها كانوا يئدون البنات وإن كانت الحمية إذا بلغت هذا الحد، كانت شرفًا، ونهى الله تعالى عن الشرف. ولا قوم أشجع من العرب، ولذلك كان عظم قتالهم بالرماح والسيوف، لأن القتال إذا كان بالسهام تباعدت المواقف، وتباعدها شهادة من كل واحد من الفريقين على نفسه بالإخافة من صاحبه، وإذا كانت بالسيوف والرماح، تدانت الصفوف والدنو من العدو دلالة بأنه الجرأة والشهامة وقلة الحفل بالخصم، ولذلك قال زهير حكيم العرب فيما مدح به هرم بن سنان المري: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضاربت حتى إذا ما ضاربوا أعنفا وشجعان العرب وأبطالهم معروفون وأخبارهم مدونة. ولذلك جود الاجواد منهم وحفظهم حق الجار والتذمم. فقد كان منهم هاشم بن عبد مناف الذي بلغ بين إطعامه كل من ورد عليه ومر به، إذ كان يقال له: (مطعم طير السماء)، وكان ينفق على الحاج في كل سنة ربع ماله، وقد كان في العرب من لا يسميهم من أثر غيره على نفسه بما كانت في قعده هكلته. ومنهم من ورد على أسير فاستغاث به ففداه، وماله غائب عنه فأطلقه، وأمام في القدم كأنه حتى أحضر ماله، فأذاه. ومنهم من استجار به غيره فقتله، فلم يمت من قرابة جاره أحد إلا وذاه، ومنهم من نزل به ضيف، ولا مال له إلا بعير فنحره للضيف، ولولا أن كتابنا هذا ليس إلا لأخبار الديانات لا وردت مما جاء في هذه الأبواب ما يشفي الصدر، ولكنها موجودة عند أهلها لا يتعذر الوصول إليها على من أرادها بإذن الله تعالى. فأما الفرس بالعراء من هذا كله، وإنما لهم البذح والزهو والصلف والفخر بالأموال

والعدد التي كانت لسلفهم، وقد سلبهم الله عز وجل جميعها بأيدي العرب ورماحهم وسيوفهم. والبسر بن أقر بن جعثم أعرابيًا من نبيئ بذبح سواري كسرى، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره بذلك، فأنى يسوغ لهم الفخر على قومهم أذلهم الله بهم وأعلى بهم عليهم، ويفل الملك عنهم إليهم حكمًا منه عدلاً، وقضاء حقًا وبالله التوفيق. ثم جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب العرب فيحبني أحبهم، ومن أبغض العرب فيبغضني أبغضهم) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لسلمان: (يا سلمان، لا تبغضني فتفارق دينك: قال: قلت يا رسول الله وكيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال: تبغض العرب فتبغضني). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يقول: إني امرؤ حميري بنسبي، لا من ربيعة آبائي ولا مضر، فقال له: (ذاك أضرع لجدك وأبعد من الله ورسوله) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي)، وعنه صلى الله عليه وسلم: (إذا اختلف الناس فالحق في مضر) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش) وقال: (الناس تبع لقريش، خيارهم أخيارهم، وشرارهم أشرارهم) وعنه صلى الله عليه وسلم: (أن قريشًا أهل صبر وأمانة، فمن فعالهم الغواء تركته الله لوجهه يوم القيامة) وعنه صلى الله عليه وسلم: (تعلموا عن قريش ولا تعلموها، وقدموا قريشًا ولا تقدموها) وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن القرشي قوة الرجلين من غير قريش) قيل للزهري: ما عنى بذلك؟ قال: في نيل الرأي. وقيل أن قريشًا لهم ولد النضر بن كنانة خاصة، وكانوا متفرقين، فجمعهم قصي بن

كلاب بمكة، فقيل له القرشي، وسموا به قريشًا، والقرش الجمع والتقرش الجمع، فأما ما قاله المحتج لباطله: إن أبا العرب والعجم إبراهيم صلوات الله عليه، لأن إسماعيل أبو العرب، واسحق أبو العجم، فإنه يريد العجم بني إسرائيل خاصة، وهم كما قال: وإن كان يريد بهم لما فرس الذين كانوا مجوسًا، فإن هذه دعوى لا تبين صحتها، وأهل الأنساب لا يعرفونها، فإنه لم يثبت. ونسب العرب من إبراهيم ثابتة، كان لها من الفضل البين على العجم، إنهم من ولد خليل الله إبراهيم، وليس للعجم من الأبناء الذين يختصون بهم والد مثله. وإن ثبت كانت المقابلة بين إسماعيل وولده، واسحق وولده من أول أيامها إلى ألآن. وسنقول في هذا لك بعد ما يوفق تعالى له غير أنا نقتصر في هذا الوقت على ذكر ما انتهى إليه من الفريقين ونؤخر ما كان قبله، فنقول للمحتج: قد علمنا أن بني إسرائيل الذين لا شك في أنهم ولد إسحق، قد كان الله تعالى فضلهم على غيرهم سنين وأعمارًا، ثم أخرهم، وقدم العرب عليهم فحول النبوة والملك عنهم إلى العرب وحكم لهم بالأمرين إلى يوم القيامة، فبان بذلك فضل العرب على العجم. ألا ترى أن بني إسرائيل يوم كانت النبوة والملك فيهم، كانوا أفضل من الروم والهند والترك وكذلك العرب اليوم أفضل من بني إسرائيل ثم هم بذلك أولى، لأن النبوة والملك بعدما خلا منهم ليسا بمرتحلين، ويوم كان في بني إسرائيل، كانوا مدرجة لهما إلى العرب وبالله التوفيق. وأما قوله: "إن اسحق أبو الأنبياء والملوك وإسماعيل لم يلد إلا عبدة الأوثان وسفك الدماء والغائبين في الأرض إلى أن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم". فجوابه: إن اسحق ابن عمه ولد المجوس الذين هم عبدة الأوثان ومستحلوا البنات والأمهات، وهم ولد الروم على ما مضى وبقي فيهم من أصناف الكفر إلحادًا وغير إلحاد، وما كانت عبادة الأصنام في العجم أقل منها في العرب، فما في هذا. وأما دعواه في إن أم إسماعيل كانت أمة لأم اسحق، فالأخبار في ذلك مختلفة، فقد روى أن النمرود الذي استدعى سارة إلى داره، لما أراد أن يمد يده إليها يبست يده، فسألها أن تدعو له، فدعت فأطلق الله تعالى يده فأرسلها ووهب لها هاجر، ثم أن سارة وهبتها لإبراهيم صلوات الله عليه لتعجيزها وعقمها من الولد.

وروي أنه أراد أن يمسها، فزلزل البيت من قواعده، فأجرها إلى البستان، فلما أرادها يبست يده ورجلاه، فسألها عن إبراهيم، فأخبرته أنه نبي الله وزوجها، فدعاه فحضر فسأله أن يدعو ربه ليطلق يده ورجليه، فأوحى الله لا تفعل حتى يخرج إليه من جميع ملكه فأعلمه إبراهيم صلوات الله عليه ذلك فخرج إليه من جميع ملكه، وكانت هاجر، فدعا له إبراهيم عليه السلام. فأطلق الله تعالى، وعمل إبراهيم إلى ما كان أعطاه، فرد إليه ما خلا هاجر فإنه أمسكها. وفي هذه الرواية بيان أن هاجر لم تكن لسارة، ولو كانت لسارة لصارت لإبراهيم إذا وهبتها له، ولكن إسماعيل ابن أمة إبراهيم، لا ابن أمة سارة. وليس في هذا ما يمنع من تقديم إسماعيل على اسحق، فإن ابن الكافرة قد يكون أفضل من ابن حرة، وإنما الذي حدث الكفر، ولا يكون أكثر منه. وأما دعوى هذا المحتج: أن اسحق هو الذبيح فإنها غير ثابتة، لأن المسلمين من لدن الصحابة إلى الآن مختلفون في الذبيح من ابن إبراهيم صلوات الله عليه، وإلا ظهر أنه إسماعيل، لأن الله عز وجل أخبر عما أراه إبراهيم في منامه، وما كان منه، ومن آيته في الإسلام لأمره، وما تدار كفاية من رحمه، وقيضه له من الذبيح الذي قد أولده، وجزاه به بعد أطال من السلام والمباركة عليه، ثم قال بعد ذلك كله:} وبشرناه باسحق نبيًا من الصالحين {فدل هذا السياق على أن إسحق لم يكن في ذلك الوقت مولودًا، فكيف يكون هو الذبيح؟ فإن قيل: إنما أراد وبشرناه، يكون إسحق نبيًا، فإنما وقعت البشارة له بنبوته لا بكونه. قيل: إن قوله عز وجل:} وبشرناه باسحق نبيا {فوجب أن تكون البشارة بنفسه أولاً ثم بنبوته. فمن قصرها على النبوة، فقد أخل بمقتضى هذا الخبر. وأيضًا فإن الله عز وجل: أخبر أنه لما صرف عن إبراهيم كيد أعدائه قال:} إني ذاهب إلى ربي سيهدين {يعني الهجرة. فإنه دعا فقال: {رب هب لي من

الصالحين {فأجابه وبشره} بغلام حليم {ثم وصف هذا الغلام الذي بشر به، فإنه لما بلغ معه السعي، فلما أسلم لأمر الله تعالى فيه إنقاذه، وتركه له وميزه مع ذلك بأن أخبر كما قال في قصة أيوب عليه السلام:} وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين {. ويؤكد هذا أنه لما قال:} رب هب لي من الصالحين {لم يكن له يومئذ ولد. فلما بشر بغلام حليم، لم يكن ذلك إلا عن إسماعيل، لا عن من يخلق بعد ولم يولد. وقول الله عز وجل} فبشرناه بغلام حليم {، يدل على أن المعنى فبشرناه بغلام يأمره بما يشق الصبر على مثله، فيحكم ولا يضطرب، وكذلك فعل. لأنه لما قال:} يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك، فانظر ماذا ترى، قال: يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين {. فبان بهذا أن الخبر عن إسماعيل كان الذي بشر به من ذلك الوقت والله أعلم. وأيضًا، فإن الأخبار تظاهرت بأن هذا الأمر كان بمكة وإسماعيل هو الذي أمر إبراهيم بإسكانه الحرم. فأما اسحق عليه السلام، فلا يذكر أنه دخل الحرم قط. وقال ابن عباس: "لقد جاء الإسلام ورأس الكبش بقريبه في الحرم. وقد تبين أنه دخل في الحرم ويزيد، أن إراقة دماء الهدى إنما صارت سنة موروثة في الأرض المقدسة. فعلمنا أن أصل ذلك إنما كان ذبح إبراهيم، كما كانت سائر المناسك من إرث إبراهيم وابنه الذي كان بالحرم إسماعيل. وأيضًا فإن الملائكة الذين بشروا سارة بالولد بشروها باسحق، ومن وراء إسحق يعقوب. واعتقد إبراهيم أن ذلك كان لأن وعد الله حق. فلو أمر الله تعالى بذبح اسحق قبل أن يولد له يعقوب، إلى أن يعتقد أن يعقوب غير كائن من اسحق. واعتقاد ذلك اعتقاد الخلف من خبر الله تعالى، ولا يليق اعتقاد ذلك بأنبياء الله. فصح أن الكلام لم يكن باسحق، وإنما كان بإسماعيل.

فإن قيل: قد بشر إبراهيم باسحق، ومن وراء إسحق يعقوب، ولكنه الخبر إن يعقوب كائن من إسحق. فلعله لما بشر به ظن أنه كائن له من صلبه. فلما أمر بذبح اسحق لم يحتج إلى اعتقاد الخلف في خبر الله تعالى. قيل: إن الرجل لا يكون وراء ابن آخر، لأنهما جميعًا لصلبه ينسبان إليه نسبة واحدة، وإنما يكون ابن الابن وراء الإبن لأنه لا ينسب إليه إلا بعد أن ينسب إلى الإبن، فيكون ابن الصلب هو الذي يليه، ثم ابنه من ورائه. فلما بشر إبراهيم باسحق ومن وراء اسحق يعقوب فقد بين أن يعقوب كان من اسحق. وأما ما رواه المحتج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لصفيه، فإن ثبت فقد يخرج أنهما افتخرا عليها بأنهما من قريش، وإن قريشًا ذروه الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان افتخارهما بالكفار ومن آبائهما، فأنت أحق بالفخر، لأن أباك هارون وعمك موسى فإنهما نبيان). والمفاضلة إذا كانت بين الأبناء ثم كانت في آباء أحد المتفاخرين نبي، فلم يكن في الآباء الآخرين وجه ذلك النبي من النسب إلا أب كافر لم يشكل على ذي عقل، إن عدو الله لا يعدل نبي الله. فإن قيل: يقدمه عليه لآبائه الكافر، وإنما يقدمه عليه بإسماعيل، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم صفيه، إنما أبوهما إسماعيل وأبوك اسحق. فيكون ذلك دليلاً على ما أردت والله أعلم. فإن قال قائل: لم امتنعتم من تقديم ولد اسحق على ولد إسماعيل، وفي ولد اسحق النبوة الدائمة إلى مبعث نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في ولد إسماعيل نبوة إلى أن كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أنكرتم أن يكون من ولده نبيان أو ثلاثة أشرف وأكرم من ولد نبي واحد. قيل -وبالله التوفيق- إنما أثبتنا ذلك من أوجه: أحدهما أن أصل العرب والعجم، إذا كان إبراهيم صلوات الله عليه كما دعيت، وكان فخر النبيين به، ثم أن النبوة لما درجت منه إلى اسحق، ومنه إلى أولاده وصارت لها شرائع غير شريعة إبراهيم، فكان من أهلها يهود ونصارى} ما كان إبراهيم يهوديًا ولا

نصرانيًا {ولما درجت منه إلى إسماعيل ولم يزل بعد ذلك إلى أن أورثها الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأحبابه ما درس منها كان ولد إسماعيل في هذا الوجه، أمس لإبراهيم وأخص به. وإذا كان جل الفخر به، وجب أن يكون أولى به، أحق بهذا الفخر والله أعلم. يتبين بما قلنا أن العرب في جاهليتها لم تكن تدع حج البيت وتعظيم الشهر الحرام ويبقى نكاح البنات والأخوات والأمهات خلاف الفرس ولا يدع الختان والغسل من الجنابة، ويعمل في العتق والطلاق على ما جاء به الإسلام، ويرى الثنيوية بالثلث والتزوج على المرأة والرجعة في الواحدة والتبيين، ويحكم في دية النفس بمائة من الإبل ويورث الحشي من حيث يقول، ويعترف بالملكين، وينسخ الأعمال، فإن فيما يروى أن عبد المطلب بن هاشم كتب بخطه ذكر حق له على رجل من أهل حمير فقال: باسمك اللهم ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري، من أهل صنعاء له ألف درهم فضة طيبة، ومتى دعاه بها أجابه أشهد الله والملكان وقال الأعشى: فلا تحسبني كافرًا لك نعمة ... على شاهدي يا شاهد الله فاشهد فالشاهد الأول لسانه، والشاهد الآخر الملك، وأما الفرس ولا يخفى بعدهم من هذا كله، وذلك لصدق ما وصفت. ووجه آخر: وهو أن شريعة إسماعيل لم يلحقها النسخ من الله تعالى. إلى أن جاء محمد صلى الله عليه وسلم، ولحقت شريعة اسحق النسخ، إذ قد علمنا أن شرائع التوراة استوثقت لموسى لما أنزل التوراة عليه، فقد صار إسماعيل من هذا الوجه مقدمًا على اسحق، لأن من نسخت شريعته على لسان غيره، فقد تناهت نبوته بعد مدة. ودامت نبوة إسماعيل أضعافها إلى مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم. وقد ظهر أن حظ إسماعيل من النبوة أجزل وأكثر من حظ اسحق. ووجه ثالث: وهو أن شرائع الأنبياء من ولد اسحق نسخت على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وهي قائمة تعرف ويعمل بها ولم يعلم لإسماعيل شريعة قائمة نسخت. ولكنها قد كانت

درست إلا أشياء فيها، فإن كانت السابقة هي الدراسة، فإنها شريعة واحدة بعث الله تعالى بها إسماعيل ثم لم ينسخها. وهذا يوجب له الفضل والتقديم، وإن كانت المستأنفة غيرها، ففي ذلك شيئان: أحدهما: أنه ليس نسخ الدارس كنسخ القائم. والآخر: أن محمدًا ولد إسماعيل ودعوة إبراهيم صلوات الله عليه، فإن نسخ شيء من شريعة إسماعيل على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فكأنما نسخ على لسان إسماعيل عليه السلام. وأما إذا نسخت شرائع ولد اسحق على لسان نبي ولد إسماعيل، كان هذا نقلاً للأمر من فريق إلى فريق، وينبغي أن يكون المنقول إليهم خيرًا من المنقول عنهم وبالله التوفيق. ووجه رابع: وهو أن الله عز وجل ثناؤه اختار إسماعيل لحرمه والاجتماع مع أبيه على إعادة البيت، وجعله أصلاً للعرب، كيعرب بن قحطان، ولم يكن يختار لأفضل البقاع ولجوارته والقيام بعمارته من ابن خليله، بعد أن أكرمه، فأتم البيت، وقضى إعادته على مده إلا أفضلهما وأكرمهما والله أعلم. ووجه خامس: وهو أن ولد اسحق، لما كانت فيهم أنبياء لم يكن أمثالهم في ولد إسماعيل فكذلك فيهم كانت قبلة أنبياء، والمعتدون الذين بلغ من اعتداءاتهم أن مسخوا قردة وخنازير، ولم يكن من ولد إسماعيل قبل نبي ولا ما أوجب الله تعالى به، فمسخ أحد منهم لو مسخه، فأخذ الأمرين في كل واحد من الفريقين بالآخر. ووجه سادس: وهو إن إسماعيل دعوة إبراهيم، فإنه قال:} رب هب لي من الصالحين {فرزقه الله تعالى إسماعيل. وأما إسحق فجزاء جزاه الله به لما كان من إسلامه إسماعيل لأمر الله فيما هو ثواب طاعة أقامها إبراهيم بإسماعيل. وكيف يتوهم أن يكون مقدمًا على إسماعيل هذا والنعمة المبتدأة أسنى وأجزل وأنهى وأجزل مما يجري مجرى الأعراض والله أعلم. ومما جاء في فضل إسماعيل عليه السلام ما روى عن الضحاك بن معد، أغار على بني إسرائيل

في أربعين رجلاً من بني معد، فقال بنو اسرائيل لموسى: أن بني معد أغاروا علينا وهم قليل، فكيف لو كانوا كثيرًا، وأنت نبينا، فادع الله عليهم. فتوضأ موسى وصلى وقال: يا رب، أن بني معد أغاروا على بني إسرائيل، وسألوني أن أدعوك عليهم! فقال الله عز وجل: (يا موسى لا تدع عليهم فإنهم عبادي، وأنهم ينتهون عند أول أمري، وإن منهم نبيًا أحبه وأحب أمته). وفي حديث آخر أنه دعا عليهم ثلاث مرات فلم يجب منهم. فقال: يا رب! دعوتك على قوم فلم تجبني منهم بشيء! فقال: يا موسى دعوتني على قوم هم خيرتي في آخر الزمان. وأما ما احتجوا به من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الفخر بالجاهلية فله تأويلان: أحدهما: أنه دلهم بذلك على أحكام الآخرة، فأخبرهم أنهم لا يعنون موضع الحاجة إلى الأعمال الصالحة شيئًا. وهذا يدل على أنهم لا يعنون في موضع الحاجة إلى التقديم والترجيح لبعض أحكام الدنيا شيئًا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله، فإني لا أغني عنكم من الله شيئًا) فهذا خبره عن نفسه في حكم الآخرة. ثم قال مع هذا: (الأئمة من قريش) وقال: (قدموا قريشًا ولا تقدموها). فاعتبر النسب في الدنيا، فدل ذلك على ما وصفت من معنى قوله في الآباء الذين مضوا في الجاهلية من تعظيم قبيلة إلى قبيلة، حتى كانت تصل الجماعة من غيرها بالواحد من نفسها. وزعم أن غيرها ليس بأكفاء لها. فأبان النبي صلى الله عليه وسلم: أن دماءهم وأعراضهم متساوية. والتأويل الأول أشبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى). والتقوى لا توجب فضلاً في حكم القصاص. فعلمنا أن المراد أحكام الآخرة والله أعلم.

وأما المحتج: إن الله تعالى ذكر العجم قبل العرب من قوله} وأعجمي وعربي {. فجوابه: إن هذا شيء أخبر الله تعالى أن العرب كانت تقول: لو أنزل عليهم كتابًا لأعجمته. ولو كان الله تعالى قال ذلك عن نفسه بطل قوله جل وعلا:} هو الذي خلقكم، فمنكم كافر ومنكم مؤمن {وقوله عز وجل:} وجعل الظلمات والنور {وليس ذلك دليل على أن فضل الظلمة على النور، ولا فضل كافر على مؤمن. وأما الاحتجاج بالأخبار التي رواها في تفضيل الفارسية على العربية. فجوابه: أنها كلها موضوعة مزورة، لا يثبت أهل الجرح والتعديل، وعلماء التصحيح منها شيئًا. والمحتج بها أصلاً مخالف لها لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العربية لغة فمن نطق بها فهو عربي). لأنه وكثير من العجم قد نطقوا بالعربية ثم لم يكونوا عربًا. وإن كانوا قد صاروا عربًا، فمن ألف منهم بالعربية ما ألف في فضل العجم على العرب إنما جنى على نفسه، وخطب على أمثاله، وهو يرى أنه قطيع من غيره ويرفع من نفسه، وكفى به جهلاً أن لا يميز بين ما له وما عليه. وأيضًا فإن معنى الحديث أن يثبت إنما العربية لغة، ولغة كل قوم ما جبلوا عليه، فمن نطق بالعربية بأن جبل عليها فهو عربي. فأما من جبل على غيرها ثم يعلمها فإنه يكون بنفس النطق بها عربيًا، كما لا يصير الطائر ملقن كلام الناس إنسانًا. فإن قيل: وكيف صار إسماعيل أبا العرب؟ قيل: قد روى إن الله تعالى ألهمه العربية. وقد يجوز أن يكون أوحى إليه بأحدها عن الملك لا عن الناس. وفي الجملة علمه الله تعالى العربية كما علم آدم الأسماء كلها، فلذلك صار أصلاً للعرب. وخص مع ذلك ببلد العرب، وقيض له جيرانًا من العرب، كما علم آدم الأسماء كلها فكان لهذه الأمة ليعرب بن قحطان الأمة المتقدمة التي يقال لها "العرب العاربة". وأما ما روي من أن الله تعالى إذا تكلم بالرضى، تكلم بالفارسية، وإذا تكلم بالغضب

تكلم بالعربية. فإنه لو ثبت لدل على أن لغة العرب أهذب وأجزل وأجل، وإن الله عز وجل، لم يبعث النبي العربي إلا كما بعثه بالسيف والرمح. فكانت اللغة العربية أشبه بها من الفارسية اللينة التي تنزل من العربية منزلة الرخاء من الصبا، والهواء من السماء. وأما ما روى أن حملة العرش يتكلمون بالفارسية، فيحتمل أن يكون المراد به أنهم يحسنونها حتى إذا عرض الكرام الكاتبون عليهم أو على صاحب اللوح منهم، ما نسخوه من ألفاظ أهل الفارسية، عرفها المعروض عليه، لأن التكلم بالفارسية عادتهم. وإن كان المراد به ما قاله المحتج، فلا دليل له فيه على فضل العجم على العرب، لأن الناس لا يحتلفون في إن العربية أبهى الألسنة وأفضل اللغات، وإنما يرجح من يرجح بخصال سوى المنطق لا باللغة، ولولا أن ذلك كذلك لم يتحمل المصنفون في فضل العجم على العرب بنياتهم العربية للإعراب بها عما في نفوسهم. ويجادل عن قومه بلسانهم. ولكنه عرف ما فيه من الصغار والمذلة غياب قياسته بالعربية، وإضافة إليها. فلذلك عدل عنها. فإن قيل: إذا فعلوا ذلك ليفهموا أخصامهم من العرب! قيل: كانت العرب بأسرها غافلة عن الأعجمية ليس بينها من يعرفها! كلا أن ما يصنف في هذا الباب، لا يقصد به التأدية، وإنما يقصد فيه الحاضر، وقل أحد منهم يجهل الأعجمية. فلو كان كذلك لكان ينبغي للعرب إذا جاء ذكر العجم جوابًا، أو كتابًا أن يعدل في مكالمتها إلى الاعجمية، وليسوا يفعلون هذا بل يلزمون نساءهم، ولم يعلم أحد من العجم أنكر ذلك عليهم واستدعى منهم غيره كما كان ذلك إلا لاستغناء العرب بنفس لغتها عن غيرها، وحاجة العجم إلى اكتساب الجمال لأنفسها بالنسبة للعرب في منطقها، فقد كان ينبغي لها أن لا تغلظ في نقضها وبالله التوفيق. هذا وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه: أن أهل الجنة يتكلمون بالعربية بلغة محمد صلى الله عليه وسلم. وروى أيضًا أن أهل النار يتكلمون بالفارسية. وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي). وقال رضي الله عنه: "لا يدخل الجنة أعجمي" يقول:

تقلب ألسنتهم فيكون عربيًا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الجنة لا يدخلا العجز). أي نشآن النشأة الثانية غير عجز. ولا يختلف المسلمون، أن أشرف كتب الله القرآن، وهو عربي، فلو لم تكن العربية أشرف اللغات لم ينزل الله تعالى أشرف كتبه بها. وأما قول المحتج: إن كانت العربية أفضل فمن يعلمها من العجم فنطق بها، فما فضل العربي عليه؟ فجوابه: أن فضل العربي عليه أنه أصل فيها وهو دخيل، وأنه ينزل من العربي منزلة الطائر الملقن من ملقنه. ولو جاز له ما جاز من نفسه من هذا القول لجاز أن يقال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من غيره بأن يوحي إليه، فهو إذا أدى إلى الناس جميع ما أوحي إليه فعلموه. فماذا فضله بعد ذلك عليهم؟ وأدى إلى هذا فبين فساده ظاهر غراره. فإن سأل سائل: عن العربية، لم سميت العربية؟ قيل له: -وبالله التوفيق- إن الجواب المشهور في ذلك؟ أن يقال: إن أول من عدل عن السريانية وتكلم بالعربية يعرب بن قحطان وكان يجب أن يقال اللغة اليعربية، ولكنهم حذفوا الياء طلبًا للتخفيف وقالوا: العربية. وفي هذا نظر، لأن العلماء ذكروا أن غابر أبا قحطان كان له ثلاثة بنين: أحدهم قحطان، والآخر يقطان، والآخر يقال له: ماتح ويقال: فالغ، ويقال: بلاغ. فإن كان هذا هكذا لم يمكن أن يكون يعرب أول من نطق بالعربية، لأن قحطان وفالغ ويقطان أسماء عربية. ولا يحفظ هذا، إن الإسمان -أعني يقطان وقحطان- إلا عربيان. فلو لم يكن غابرًا عربي اللسان، لأشبه أن لا يسمى ابنيه باسمين عربيين والله أعلم. وعلى أن غابر أيضًا اسم عربي، فالأشبه أن يكون المسمى به عربيًا. وفيه وجه آخر: وهو أن اللغة المنسوبة إلى العرب، والعرب سموا عربًا لأنهم سكان البدو وينزلون على الماء حيث أصابوه. فإذا تقادموا فيه عرفوا بموضع آخر فيه ماء وصاروا إليه، والعرب في لسانهم الماء. يقال: بئر كثيرة العرب. أي الماء. وبئر عربة: أي

كثير الماء. فسموا عربًا لأنهم يبتغون العرب وهو الماء، ويسكنون حيث يكون، كما سموا المطر سماء، لأنه من قبل اسماء يأتي ومن ناحيتها ينزل. وعلى هذا فيحتمل أن يكون إسماعيل صار أصلاً جديدًا للعرب، لأن الله تعالى لما أسكنه واديًا غير ذي زرع، وماء خصه بماء أنيط له، ثم وردت غيرهم إحدى قبائل العرب ذلك الماء، فنزلوا عليه، فعلمه الله تبارك وتعالى العربية، ليمكنه مناطقة جيرانه. وكان الماء يسمى في لسانهم عربًا، ولا يسميهم إياه، سموا بهذا الاسم. استحق في اللسان الذي أحدث الله تعالى تعليمه إياه إن يسمى عربيًا، لأن غيره إنما كان يدعى باسم ما مشترك بينه وبين غيره. وأما الذي اتبعه الله تعالى لإسماعيل إنما كان كرامة له خاصة مكان يدعى له وينسب إليه في اللسان الذي استحدثه أحق، فصار أصلاً جديدًا للعربي من حيث علمه الله لغة العرب الذين كانوا. وحقق له المعنى الذي لأجله كانوا يسمون عربًا والله أعلم. ووجه آخر: هو أنهم سموا عربًا لشدة إعرابهم الخيل إذا ركبوا، وسميت خيلهم عربًا لشدة جريها، وسرعتها. لأنهم يسمون النهر الشديد الجري عربه، فشبهوا خيلهم بها، إذ كان لا يشكل أنه ليس في دواب الدنيا أشد منها ولا أجرى، وأغذ سيرًا منها. وشبهوا ركبانها أيضًا بها، فقيل لهم عرب ولخيلهم عراب والله أعلم. ويشبه أن يكون النهر يسمى عربه، ويجمع على العراب كالسبخة والسباخ، والرملة والرمال، ويقولون للخيل عراب، أي أنها شديدة الجري. ويكون قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس الذي ركبه وجد به نحو أخبار: (يا علي أن كل فرس شديد نهر). وهذا يجري فضله في الجري على غيره، كفضل البحر على البحر والله أعلم. وهذا المعنى أيضًا يقتضي أن يكون إسماعيل أصلاً آخر للعرب، لأنه لما سكن مكة واختلط بجرهم وتزوج فيهم، يعلم الرمي، ولم يكن يركب إلا الخيل العراب، وانضم إلى ذلك تعليم الله جل جلاله إياه لسان العرب إما إلهامًا وإما وحيًا. فصار اللسان لسانهم والمركب مركبهم، والأصل منهم، والعادة عادتهم، فوجب أن يكون كأحدهم والله أعلم.

ووجه آخر: وهو أن العرب سموا عربًا لإعرابهم الكلام، وهو إلزامهم وآخر الأسماء والأفعال حركات مختلفة على حسب اختلاف مقاصدهم واغراضهم، وسموا هذه الحركات إعرابًا، إذ كانت تعرب، أي تبين على الأعراض. وأما غيرهم فإنهم لا يتكلمون بالأسماء والأفعال إلا مرسلة مسكنه، وصلوا الكلام أو رفقوا ويحتاجون إلى التمييز بين المفاصل إلى زيادة الحروف ونقصانها، وذلك مما يشركهم العرب فيه، لأن لهم من حروف العلات التي يشتقونها حالاً، ويحذفونها حالاً ويبدلونها لغيرها حالاً، مثل ما لغيرهم. فأما الدلالة بالحركات على المقاصد، فإنهم يختصون بها من بين أهل اللغات، وهي في لسانهم إعراب وبيان وإيضاح، سموا لذلك عربًا. ولما أتى الله تعالى من ذلك لإسماعيل صلوات الله عليه ما أتى بأول من تكلم لهذه اللغة من غير إحراج له إلى التعلم صار أصلاً للعرب كالأصل الذي تقدمه والله أعلم. وأما قول المحتج: إن العرب آذت رسول الله عليه وسلم حيًا وميتًا إلى آخر الفصل .. فجوابه: أن بني إسرائيل ما قصروا في قتل الأنبياء عليهم السلام، وأتاهم خطاب الله تعالى إذ يقول:} فكم تقتلون أنبياء الله من قبل {وإياهم عنا بقوله عز وجل:} فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير الحق وقولهم: قلوبنا غلف، بل طبع الله عليها بكفرهم، فلا يؤمنون إلا قليلا، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا، وقولهم، إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله {إلى قوله:} فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل {. وفيهم نزل:} لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون. ترى كثيرًا منهم يتولون الذين كفروا {} وترى كثيرًا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت، لبئس ما كانوا يعملون {. وفيهم نزل:} وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم، ولعنوا بما قالوا، بل يداه

مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين {. وفيهم نزل:} قل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله، من لعنه الله وغضب عليه، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، أولئك شر مكانًا وأضل عن سواء السبيل {. وآيات كثيرة أمثالها ما كتبناها. ومعلوم أن ابن إسماعيل لم يبلغوا في ارتكاب المحارم هذا التبلغ. ولا ضربوا مثل بيت المقدس، ولا حرقوا مصاحف كتب الله تعالى، ولا سبوا ذراري الأنبياء عليهم السلام. كما فعله (بخت نصر) الذي من رؤوس العجم. فكيف يكون لبني إسرائيل وغيرهم من العجم أن يعيروا العرب بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم قد فعلوا ما هو كثير من ذلك وأكثر. وأما قولهم: أن العجم أعانت على نقل الملك من بني أمية إلى هاشم. فجوابه: أنا لم نقل أن الأفضل للعجم بحال، وأنا لم نأت أمرًا نحمد عليه أو يؤجر قط، وإنما أنكرنا تقديمهم على العرب وإعانتهم على نقل الملك إلى بني هاشم، لا يستثقل من تقديمهم بما أنكرناه، لأن نصرة العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل قدرًا من إعانة العجم قرابته على الملك. فلا يجوز أن يؤخروا على العجم مع عظيم بلائهم لما ذكرتموه من بلاء العجم بعده. واحتمال العرب على قتال الفرس حتى سلبهم الله تعالى ملكهم من يديهم لا يقصر عن إعانة العجم بعدما كثروا في الإسلام على بني هاشم، لينتزعوا الملك من بني أمية، لكنه يزيد عليها درجات كثيرة، فصح أن الذي اعتمدوه لا معتمد فيه، وأما تعييرهم العرب بالزنا، فجوابه: أن الزنا ليس بأقبح من نكاح البنات والأمهات ووطئهن. لأن الزنا من العرب كان يكون بالأجنبيات اللاتي يحللن بالنكاح والأم والبنت لا تحلان بنكاح قط. وقد كان في المجوس من يعمل هذا. كل عروس يريد إدخالها على زوجها. فيقبضها ثم ترد إلى زوجها. وهذا في المجاهرة بالفاحشة لا ينقص على نصب الرايات، ولا عن إكراه الإماء بالبغاء.

وأما تعييرهم العرب بالفقر والفاقة. فجوابه: إن العجم لم يكونوا كلهم ملوكًا ولا أغنياء ولم يخلوا مرات كان فيهم غني وفقير. والعرب أيضًا لم يكونوا كلهم فقراء، بل كان فيهم محتاج وغير محتاج إلا أن العرب في الجملة كانت أقل مالاً. وعلى قلة مالها أبين جودًا، وأعون على النوائب، وأقرى الأضياف، وأوصل للأرحام، فليس لهم مما قالوه متعلق. وأما دعواهم إعانة ملوك العجم من استعان بهم من ملوك العرب، فإنها ما فعلت من ذلك ما يستحق به حمدًا ولا تكرمًا. فإن المحفوظ من هذا، أن سيف بن ذي يزن سأل أبو وذيان يعينه على استخلاص اليمن من أيدي الحبشة فقد كان ظهروا عليها وعاشوا فيها. فأجابه بعد مدة طويلة، وأمر فأخرج من السجون كل من كان القتل وجب عليه فيما عندهم، فضموا إليه، فخرج لهم فأظفره الله تعالى على الحبشة، فهكذا كانت إعانته إياه، فلينظر العاقل فيه، ألوم هو أم كرم؟ ولئن كان أعان سيف بن ذي يزن على الحبشة، فلقد قتل النعمان بن المنذر لأنه خطب إليه ابنته، فرده عنها، ولم يره لها كفئًا، وما وضع بقتله الصغار الذي ألبسه النعمان باستعاضة إياه، فإن القتل قد يصيب الناس من الأكفاء، وغير الأكفاء، فليحسب ابرويز حية نهشت ملك العرب أو عقربًا لدغته، فلا عار في ذلك عليه. وقد شفا الله عز وجل الصدور من ابرويز بتسليط ابنه عليه حتى قتله، ثم لم يمهل جماعتهم إلا قليلاً حتى سلبهم الملك، ونقل عنهم الملك إلى العرب، فتقلوهم حقًا وسلبوهم حقًا، وألجأهم إلى دين الله فقبلوه، ولم يسلموا حتى أسلموا بهذا عاقبة أمرهم التي قضى الله جل ثناؤه بها عليهم، والعقول تشهد بأن الله تعالى لا يظلم عباده ولا يصطفي الأرذل على الأفضل، فلا إشكال مع هذا بفضل العرب على غيرهم، إذ قال الله تعالى إخبارهم على جميع من تقدمهم وأقر النبوة والملك فيهم إلى قيام الساعة. فلا يقدم أحد عليهم كما قدموا على غيرهم وبالله التوفيق. وأما قول المحتج: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: أن العرب ترجع إلى دين آبائها، وأن الموالي يضربونهم على الدين عودًا كما ضربوهم عليه بدءًا. فجوابه: أن هذا إذا كان وقضى وكان الموالي الذين يضربون العرب الراجعة إلى دين

آبائها، خير من أولئك العرب إلا في النسب، كما كان العرب المسلمون الذين ضربوا أكفار العجم على كفرهم حتى تركوه، خير من أولئك العجم عندكم إلا في النسب. وليست المفاضلة بين المؤمنين أو الكافرين، لأن بعض الكفر يغني عن كل فضل وسرت الإيمان تسير كثيرًا من النقص. وإنما المفاضلة بين المسلمين أو بين الكافرين، فالمعارضة بالفضل الذي يوجب إيمان النوعين على الكافر لا معنى له والله اعلم. وأما قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق رياسة العرب لأشراط الساعة، فدل ذلك على أنها من أدبار الدنيا. فجوابه: إنه أتاه بذلك الذين سماهم عربًا. البدويون الذين لا يقرأون ولا يحجون ولا يعتمرون، ولا يتراهنون بالقمار ويستألكون أموال الناس، ولا ينصرون الله تعالى دينًا ولا يكرمون له وليًا ولا يذلون له عدوًا. وليس يبعد أن يكون برؤيته هذه الفرقة من أشراط الساعة، أمارتها بادبار الدنيا، إلا أنه كما يوجد في العرب من يكون بهذه الصفة فلا يستحق تفضيلاً بذلك أن يقدم في العدم أمثالهم واردًا منهم، ثم أن ذلك لا يوجب تأخير العجم كلهم عند هذا القائل. كذلك ما قاله لا يوجب تأخير العرب كلهم عندنا، وإنما الكلام على الجملتين بلا تفضيل، أو على أهل الفضل من الفريقين. هل يجب للعربي بعربيته زيادة حق أو لا يجب؟ وأما رواية المحتج في هذه الأخبار لا يحكم في موضع الاختلاف والله أعلم. وأما ما قاله في الكفاءة، ورواه فيها من الأخبار. فجوابه: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العرب بعضها أكفاء لبعض، قريش بعضها إلفًا لبعض، والعجم بعضها إلفًا لبعض) وأجمع المسلمون على أن العجمية إذا دعيت إلى عربي وجب على وليها تزويجها. فصح أنه لم يرد بالحديث. أن العرب ليسوا أكفاء للعجم، وإنما أريد به أن العجم ليسوا أكفاء للعرب. كما أن الله جل ثناؤه لما قال في القصاص {الحر بالحر والعبد

بالعبد} وأجمع المسلمون على أن العبد يقتل بالحر، علمنا أن هذا التمييز إنما كان من قبل الحر للعبد. والأخبار التي رواها، وضعها في غير موضعها لأنه ليس في شيء منها وجوب تزويج العربية العجمي، وإنما منها الأذن في ذلك، ولسنا ننكر أن المرأة والولي إذا رضيا بذلك جاز، وإنما الخلاف في أن أحدهما إذا كان يأبى، هل يجبر على ما يأباه نم ذلك أو لا يجبر؟ ولم يرو في هذا خبر إلا عن عمر رضي الله عنه، ولم يكن من ذلك من عمر عزمًا وإنما كان اختيارًا. فأما احتجاجه بالحور العين، فلا يلزم. لأن الحور العين ليس بأفضل من حال أهل الجنة لا من عربهم ولا من عجمهم. فإن جميع ما يوصف من فضلهن، طريقه طريق حسن الخلقة واعتدال البنية والدلال والملاحة والنقاء والصفاء، وحب الأزواج والعطف عليهم، وشيء مما يجري هذا المجرى لا اعتداد به في تفضيل أحد من العرب والعجم على غيره. والمعاني التي تقع بها المفاضلة بين العرب والعجم لا وجود لها في الحور العين، وإنما خلقهن الله لرجال أهل الجنة، فلا كلام عليهن بكفاءة، وغير كفاءة، وإنما يليق هذا الاعتبار بما بين أهل الدنيا والله أعلم. وأيضًا فإن الله عز وجل آثر الحور العين في الجنة منزلة الأماء في الدنيا، لأنه لم يجعل لهن فيما بينهن وبين رجال الجنة أمرًا على أنفسهن، كما لم يجعل للإماء في الدنيا أمرًا على أنفسهن. فمن اشترى أمة من شريف أو وضيع ملكها. وأما الحرائر في الدنيا، فقد جعل لهن على أنفسهن أمرًا، لأن من شاه منهن أن لا تتزوج أصلاً تركت. وهذا ما لا يكون للحور العين، فكذلك لا ينكر أن يكون لإحداهن رضاء واحد أو كراهية، ولم يجعل لهن تزويج أنفسهن وإنما تزويجهن إلى أوليائهن. لكان لهم إذا لم يعلموا أنهن فيما يدعون خير أن لا يزوجوا ولا خير في غير الكفر، فلهم أن لا يزوجوه، هذا هو الجملة. ثم الذي يبين أن العجمي لا يكون كفيًا للعربية، ما قدمنا ذكره والله أعلم. يبين هذا أن العربية والإسرائيلية إذا كرهت هندًا يحبطها أو تركيًا لم يجز أن تزوج

وهي كارهة. وقد يكرم الله تعالى في الجنة من يدخلها إياهم من الترك والهند بالحور العين. فكذلك العربية إذا كرهت العجمي لم تزوج إياه وهي كارهة. وإن كان الله تعالى قد يكرم العجمي إذا أدخله الجنة الحور العين والله أعلم. وأما احتجاجهم بقول الله عز وجل:} ثم لا يكونوا أمثالكم {، فإن الذي رواه في نفسه من الحديث لم يكن فيه حجة، لأنه بين أن المعنى. ثم لا يكونوا أمثالكم في الذهاب عن أوامر أمثالكم. ولسنا ننكر أن العجم المطيعة لله تعالى خير من العرب العاصية لله تعالى. وإنما الخلاف في الفريقين إذا كانا جميعًا مطيعين. وقد علمنا أن في كل واحد من الفريقين عاصيًا ومطيعًا. فلا معنى للاحتجاج بالآية في غير موضع الخلاف. وأما ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن احسابكم هذه ليست بمسيئات على أحد) ولسنا نخالفه ونقول: ليست العجمية نسبة، ولكن العربية فضيلة، كما أن لا هاشمية ليس بسنة، ولكن الهاشمية فضيلة. ولا نبوة تسبب نسبة، ولكن النبوة والرسالة فضيلة والله أعلم. وأما ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو كان الدين معلقًا بالثريا، لتناوله رجال من الفرس). وتشبه أن تكون أخبار بأن الفرس يسلمون، وتفتح بلادهم، ويذهب ملك الاكاسرة. وإن الدين وإن كان بعيدًا منهم اليوم لتشددهم في المجوسية فسيقلب الحال، ويكون منهم رجال يتدينون، وليس هذا ما يوجب بفضلهم على العرب. وأما ذكر المحتج بقول الله عز وجل في العرب:} وكذب به قومك {. وقوله في نفر من أهل الكتاب:} الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون {. فجوابه: إن كل العرب لم يكذبوا، وكل أهل الكتاب لم يصدقوا، وإن كان قوم منهم صدقوا فقوم من العرب قد صدقوا، فلا نقول: إن المكذب من العرب خير من

المصدق من العجم، بل المصدق من العجم أفضل. وإنما كلامنا في مصدق من العرب ومصدق من العجم. وقد يكون هذا في مواضع وبإزاء ما أثنى الله تعالى على النفر الذين ذكرهم الله من أهل الكتاب ثناؤه على العرب إذ يقول:} لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة {إلى آخر السورة. وقوله:} والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار {إلى آخر القصة. وبإزاء ذمة المكذبين من العرب ذمه المكذبين من أهل الكتاب:} أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم {إلى آخر الآية. وأمثالها كثيرة. وفي ذلك ما يشغل المحتج عن الإحتجاج بما ذكره. وأما ما قاله في السابق، فغلط منه. لأنه ليس معنى ذلك الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث سابق العرب إلى دين الإسلام تبعه في الإسلام أبو بكر وعمار وأمه وصهيب ثم بلال وسلمان، وإنما المعنى أن صهيبًا أول من أسلم من الروم. وسلمان أول من أسلم من الفرس، ثم كان قد أسلم من العرب خلق كثير، إلى أن أسلم كل واحد من هؤلاء. ألا ترى أن سلمان إنما أسلم بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فكيف يجوز أن يقال: إن السابق سنة بلائه من العرب وبلائه من العجم. وأما قول المحتج: أنه لم يرتد من العجم أحد بعدما أسلم. فجوابه: أن العجم إن كان من ولد إسحق صلى الله عليه وسلم، فقد علم أن إسحق لم يكن يعبد النار، ولا كان ثنويًا، فهل يكون أحد أب لولده هذا، إلا كفر بعد إيمان. وهل قول النصارى للمسيح: هو الله أو ابن الله إلا كفر. ألم يكونوا ولا آباؤهم من قبل عليه. وهل الإنكار لنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم بعد تقدم البشارات به في الكتب المتقدمة إلا كفرًا بعد إيمان. وأما اليوم فإن نصرة العجم بالروم معروفة، وزيادة ضررهم على ضرر الروميين عنه فلا يخفى. فكيف يجوز لهذا المحتج أن ينزههم هذا التنزيه إلا لعصبيته، وبالله العصمة والتوفيق.

السادس عشر من شعب الإيمان - وهو باب في شح المرء بدينه -

السادس عشر من شعب الإيمان - وهو باب في شح المرء بدينه - متى يكون القذف في النار أحب إليه من الكفر؟ وذلك لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه فقد وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والرجل يحب القوم، لا يحبهم إلا لله عز وجل، والرجل إن قذف في النار كان أحب إليه من أن يرجع يهوديًا أو نصرانيًا). فأبان صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر أن للشح بالدين من الإيمان، لن ذكره الحلاوة وليس الإيمان مما يطعم، دليل على أنه ضرب الحلاوة مثلاً للإيمان، وأراد أن الشحيح بدينه كالمتطعم للشيء الحلو فكما -أي الراغب في الحلو- لا يجد حلاوته فيلتذ بها إلا بتطعمها، كذلك الراغب في الإيمان لا يسلم مقصودة منه، إلا بأن يكون شحيحًا به، فإنه إذا شح بالإيمان لم يأت ما يفسده عليه، كما أن من وجد حلاوة الحلو لم يأت بما يبطلها عليه والله أعلم. ويأتي في هذا الباب ما اقتصه الله تعالى من خبر شعيب النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال له قومه:} لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا. قال أو لو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبًا، إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علمًا، على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين {. فإن في الجواب عدة معاني مرجعها كلها إلى الشح بالدين:

أحدها: أن شعيبًا عليه السلام سمى مهانته، المستكبرين من قومه نجاة قومه وقد علم أن ضد النجاة الهلكة، ومن كان عنده: أن الكفر هلكة والإيمان نجاة، لم يكن شحيحًا إلا على دينه. والثاني أنه أشار بقوله على الله توكلنا إلا أنه قد فوض أمره إلى الله تعالى، فإن العصمة من الجلاء عن الوطن، فذلك فضله، وإن جلاهم وما يهمون به من إخراجه بالجلاء أحب إليه من مفارقة الدين، وهذا من الشح بالدين، لأن الله عز وجل جعل الجلاء عن الوطن بمرتبة القتل. فقال:} ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم {. فضرب المثل بمفارقة الدار كما ضربه بمفارقة الحياة. قال:} ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا {. فأخبر أنه إنما لم يسلط النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمين على أولئك اليهود فيقتلونهم بل بأسيافهم لأنه كتب عليهم الجلاء. فبان أن الجلاء نظير القتل إذ كان يقوم في مستحق العذاب العاجل مقامه. وإذا كان كذلك، وقد امتنع شعيبًا النبي صلى الله عليه وسلم مما ورد عنه بعدما توعد بالجلاء، فقد أظهر الشح بالدين، فلذلك ينبغي لغيره أن يكون. والثالث أن شعيبًا عليه السلام فرغ إلى الله تعالى واستنصره، فدعاه كما يدعي في الشدائد إذا عرضت، والخطوب إذا نزلت، فقال:} ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين {استعظامًا منه لما كان يخاطب به، وتأملاً أن يدفع الله عنه أذية الكفار فلا يسمعونه في دينه ما يشق عليه سماعه. وهذا أيضًا من الشح بالدين، كما لو كان يراد منه مال وهو يأبى فاسترفع الله تعالى شرهم بدعائه وتضرعه، فكان ذلك شحًا بالمال. ومعلوم أن الله عز وجل إنما يقيض علينا هذا ومثله لتتأدب بآداب الذين يصف لناسيرهم ثم يمنعها، وبيان مذاهب الذين يصف لنا طرائقهم ثم يدعها، ويتبع الأحسن من الوجهين دون الأصح منها، كما قال عز وجل:} فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب {. فصح أن الشح بالدين من أركان الدين، لا يجد حلاوة الدين من لا يجد به الشح في قلبه والله أعلم. وهو

الذي ورد به القرآن، والخبر عن المصطفي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فهو الأمر الذي يشهد بصحته العقل، ولا يوجد فيه بخلافه وجه، لأن من اعتقد دينًا ثم لم يكن في نهاية الشح به والإشفاق عليه كان ذلك دلالة على أنه لا يعرف قدره، ولا يبين موضع الحظ لنفسه فيه، ومن لاحق عنده أمل يكن الحق عنده وبالله العصمة. ثم أن الشح بالدين ينقسم قسمين: أحدهما الشح بأصله كيلا يذهب. والآخر الشح بكماله كيلا ينقص. والشحان جميعًا من أركان الإيمان، ألا ترى أن الله عز وجل كما مدح شعيبًا صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه بأنه شح على دينه، فلم يفارق مع استكراه قومه إياه على مفارقته وكذلك قد مدح يوسف صلوات الله عليه بأن استعصم حين مراودته امرأة العزيز عن نفسه، وقال} رب السجن أحب إلى مما تدعونني إليه {فبان أن الشح على شعب الإيمان لئلا ينقص كالشح على أصله كيلا يذهب وبالله التوفيق، وهذا سبيل كل متنفس مسنون به لأن الشحيح بماله، كما لو شح بجماعته يشح بابعاضه. والشحيح بنفسه يشح بأطرافه، كما يشح بجميع ماله لذا يبغضه كذا الدين وبالله التوفيق. وقد قيل في قول الله عز وجل أخبر أن أهل الجنة يقولونه أنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، أنهم كانوا مشفقين أن يسلبوا الإسلام فجزاهم الله تعالى بإشفاقهم على دينهم الناس من جهنم إياه وعز فإنهم قدره أن بينهم عليه فأداهم في الآخرة إلى رضوانه وطول دار المقامة من حسناته. وروى أن حذيفة المرعشي رحمه الله سئل عمن كانت المعاصي قبره عينه، هل يعرف. الله عز وجل؟ فقال: أرأيت من كانت نعله أحب إليه دينه أي دين دينه. رأيت رجلاً صنع نعله. ومعنى هذا أن المغرمين بالباطل لا يتفكرون في أن ما يتعاظمونه يثلم إيمانهم ويقلب سماهم ويعر حكمهم، ويحبط في مواقف أهل الدين قدرهم. ثم لا يرى أحدًا منهم يصنع نعله لأنه إن كان في داره لم يتركها حيث تصل الأيدي إليها، بل يخزنها ويحفظها إذا خلفها عند دخول مسجد أو غيره، لم يهملها ولم ينتظرها ويجوزها إما بنفسه وإما بغيره، لئلا توجد. فهذا يدل على أن فعله أعز عليه من دينه إذا كان يقصد الدين فيثلمه

الثلمة بعد الثلمة، ثم يواقعه نفسًا باضاعة النعل، فمن كان هذا دينه، فأي دين دينه؟ أما أن يكون منافق القلب أو يكون إيمانه في نهاية الضعف. وما قال حذيفة رحمه الله من هذا، فكما قال: فمن أهمه من أمر دينه ما ذكرنا، وكره أن يكون المنزلة التي وصفنا، فليدع المعاصي كما يدع الكفر نفسه، حتى إذا أسلم له أصل دينه بأجزائه فلقي الله عز وجل وهو كامل، وفضل الجميع له حاصل وبالله التوفيق. ومن الشح على الدين أن المؤمن إذا كان من قوم لا يستطيع أن يوفي الدين حقوقه بين ظهرانيهم، وهاجر إلى حيث يعلم أنه خير له وافق قال الله عز وجل:} ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت، فقد وقع أجره على الله {. فيدخل في هذا من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ليلقاه ويصحبه ويجاهد معه. ومن هاجر بعده إلى حيث يستطيع إظهار دينه ونصب إعلام شريعته، فيه قال الله تعالى} فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول {. فدخل في ذلك الرجوع إليه حقًا في سؤاله عما أشكل والرجوع بعد وفاته إلى سنته وما بلغ الناس عن ربه جل جلاله فكذلك يدخل في الهجرة، وإليه الوجهان اللذان ذكرتهما والله أعلم. فإن أقام بدار الجهالة ذليلاً مستضعفًا وهو يقدر على الانتقال إلى حيث يخالفها فقد ترك -وفي قول كثير من العلماء- فرضًا واجبًا، لأن الله تعالى قال:} إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة، فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكن الله عفوً غفورًا {. ويوعد تارك الهجرة من البلد الذي يكون مستضعفًا فيه، إذا كان قادرًا عليها مثل هذا الوعيد، فثبت أنها فريضة لازمة أيضًا. فإن الهجرة من مكة كانت واجبة قبل الفتح لما كان المسلم يخشاه بها من الفتنة على الفتنة، وأنه كان يعجز من إظهار دينه ولا يتمكن كما ينبغي من عبادة ربه، فأي مسلم حرص له أو مثله في بلد فهو في معنى المسلمين كانوا يومئذ.

فإن قيل للذاهب إلى هذا المعنى قد يجوز أن تكون هذه الآية في الناس على الكفر فغابهم من الليل إلى الإيمان، لأنه ليس فيها تصريح بذكر المؤمن. قيل: ليس كذلك، لأن الله تعالى استثنى الضعفاء من الجملة فقال: "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم". والله جل ثناؤه لا يعفو عن الكافر وإن كان عازمًا على الإيمان مائلاً إليه ما لم يؤمن. فبان بهذا أن الآية فيمن آمن وكان يدين الحق، إلا أنه مستضعف بين قومه لا يتمكن معه إقامة الدين والله أعلم. فإن قيل له: إنما نزلت هذه الآية قبل فتح مكة فلما فتحت مكة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة من مكة بعد الفتح، لأنها تصير بالفتح دار الإسلام). والهجرة المفروضة من دار الكفر لا من دار الإسلام، لأن دار الإسلام مهاجر إليها فلا تكون بها. وأما غير مكة إذا لم يكن فيها إقامة الدين فيها لزمهم الهجرة منها، لأنها قد عادت إلى حالها الأولى، فكل بلد ظهر فيه الفساد كانت أيدي أهلها أعلى من أيدي أهل الصلاح أو غلب الجهل على سكانه أو انبعث فيهم الأهواء أو ضعف العلماء وأهل الحق عن مقاومتهم، واضطره إلى كتمان ما عندهم خوفًا من الإعلان على أنفسهم فهو في وجوب الهجرة منه عند القدرة كمكة قبل الفتح والله أعلم. فمن ذهب إلى هذا الرأي قال: من أقام ببلد يكون الحال فيه على ما وصفنا، ولم يكن فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا الردع عن الباطل أو نصرة الحق، وهو يقدر على مفارقته إلى حيث يكون الحال فيه بخلاف ذلك لم يكن من إلا شحًا بدينه لكنه من السمحى به المتساهلين فيه والله أعلم. وأما شعيب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يهاجر بلده بعد أن قال له قومه:} لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا {لم يكن جزاه مهاجرًا، فإنه كان بين مصر والمؤتفكات والبوادي الفارغة، وكان مصر يومئذ دار الكفر والإلحاد، وقد

استولى عليها فرعون وملأه، فلم يكن ليهاجر من بلده وقومه إلى شر منه ومنهم. فلما تردد أمره بين المقام خلال الكفار أو الانتقال إلى بلد آخر ونزول بعض البوادي بين السباع فاختار المقام في بلده، وتوكل على الله جل ثناؤه فيه، إلا أن يجري فيه من قومه ما لا يظن وقعه، وكان ظنه بالله تعالى إلا يخليهم وما يريدون والله أعلم. وأما من خالف هذا الرأي قال: أنا لا ننكر وجوب الهجرة من دار الكفر، وعلى كل دار كان الكفار ظاهرين عليها، والمسلم فيها غير مجلي وإسلامه، وهو في كل وقت فيه على نفسه في دينه، ولا فرق في ذلك بين كفر وكفر. وأما ما كان من دار الإسلام إلا أن الفساد كان غالبًا فيه أو بعض الأهواء، أو كان أهله ظاهرين على أهل الحق فلا تحبب الهجرة منه. وكذلك المسلم في دار الكفر إنما كان على دينه، ولا يعرض له ولم يكن يخاف أحدًا على دينه ولا نفسه ولا ماله، فليس عليه أن يهاجر منها إلى غيرها. وأما الأول فلأن الدار دار الإسلام، فلا يجب على مسلم هجر داره. وأما الآخر فلأن مكانه من دار الكفر قد ظهر من نجاسة الكفر، فصارت له كالدار كلها لأهله، لو أسلموا مكانه فإن أوذي أو منع من التدين بالإسلام هاجر إن استطاع، لأنه قد صار محولاً بينه وبين سكانه من الدار، إذ قد فارق أن تكون له مأمنًا وعقدًا، كما تكون المساكن لأهلها، ولا سبيل إلى رفض الدين. فأما إذا لم يمكنه أن يقيمه إلا بالهجرة، هاجر والله أعلم. وأما قول الله عز وجل:} إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها {. فالمراد يد القادرون على الهجرة من مسلمي أهل مكة إذا لم يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، يوعدهم الله عز وجل لهذا الوعيد الغليظ على تلك الهجرة، واستثنى العاجزين عنها ذكورًا كانوا أو أناثًا، وكبارًا أو صغارًا، ومناهم العفو والمغفرة، ثم أخبر عما في الهجرة من الفضل والمهاجر من الثواب، فقال:} ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت، فقد وقع أجره على الله {. فأخبر أن أجره لا يضيع وعمله لا يحبط

عاش حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو احترم دونه. وهذا كله قبل الفتح، فلما فتحت مكة وصارت دار الإسلام سقط فرض الهجرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد اليوم). وإنما كانت الهجرة قبل الفتح واجبة لمعنيين. أحدهما حيلولة المشركين من أسلم بها، وبين التدين بالإسلام والعمل به، وكانوا هم الظاهرين عليها ولم يكونوا يطافون. والآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام والمتبع، فلما هاجر من مكة وهي وطنه، وفيها عشيرته، لم يكن لمسلم أن يرغب بنفسه عن نفسه فيقيم بها وهو مفارق إياها، رغبة عنها لظهور الكفر فيها واستيلاء الكفر عليها. فلما فتح الله تعالى مكة لنبيه صلى الله عليه وسلم فصارت دار الإسلام بعوده إليها، زال المعنيان جميعًا، فزال معنى الهجرة. وفي وجوب الهجرة على من أسلم بمكة معنى ثالث، ولكنه ذلك إنما يكون بعد نزول فرض القتال، لزم المسلمين من أهل مكة أن يتحيزوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكونوا معه يدًا واحدة على قتال المشركين، ولئلا يغتالهم أهل مكة إن سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هم بقصدهم وقتالهم، فتجتمع لهم الأمة على أنفسهم، والاجتماع مع أخوانهم على قتال الأعداء والله أعلم. فإن قيل: فما الذي يفعله المبتلي لمجاورة الفساق وأهل الأهواء؟ قيل: يعمل لخاصته، ويدرأ العوام، وقد يمكنه من ذلك ما لم يمكن المبتلي بمجاورة المشركين، لأن للفساق يعلمون إن خلاف ما هم فيه، فلا يحملهم ذلك على أن يتحولوا بين الصلح وإصلاحه، وأهل الأهواء قد علموا من أنفسهم أنهم متأولون، والمتأول قد يخطئ ويصيب فلا يحملهم ذلك أيضًا على أن يكرهوا أحدًا منهم من يخالفه على إتباع هواه، فيصير المحق أن يرجى بين ظهرانهم أيامه، وليكم المصلح أيضًا أن يدافع فيما بين المفسدين أوقاته، وليس المشركين كذلك لأنهم يعتقدون أنهم المحقون، وإن المسلمين هم المبطلون قطعًا بذلك وبناء فلا يبعد أن يحملهم ذلك على أنه المسلمين واغتيالهم. فلذلك يلزمه إذا أشفق على نفسه ويخاف أن يقضي على دينه وإن لم يكن لهم منهم مخافة فلا هجرة عليه والله أعلم.

السابع عشر من شعب الإيمان وهو باب في طلب العلم

السابع عشر من شعب الإيمان وهو باب في طلب العلم والعلم إذا أطلق علم الدين، وهو ينقسم أقسامًا. فمنها علم الأصل. وهو معرفة الباري جل ثناؤه، وقد تقدم القول عن كثير من فصولها. ومنها معرفة ما جاء من عند الله تعالى. ودخل في هذا علم النبوة، ومما تميز به الشيء من الشيء. وعلم أحكام الله تعالى وأقضيته. ومنها معرفة بطلب علم الأحكام فيه وهو الكتاب والسنة. نصوصها ومعانيها، وتمييز وجوه القياس وشروطه ومعرفة أقاويل السلف من الصحابة والتابعين ومن دونهم، وتمييز الاجتماع والاختلاف. ومنها معرفة ما به يمكن طلب الأحكام في الكتاب والسنة، وهو العلم بلسان العرب وعاداتها، وفي مخاطباتها وتمييز مراتب الأخبار لينزل كل جزء منزلته، ويوفي بحسنها حقه، ثم أن طلب العلم من فروض الدين، إلا أنه من فروض الكفاية دون الأعيان والمقدار الذي يجب طلبه وتحصيله منه ما يقع به الكفاية للعمل. وأفتى من لا علم له عنده ممن ينزل به ونبوته، فإن فرض أولئك مسألة العلماء وتقليدهم وذلك أن يعمل أن الدلائل الدالة على الباري جل جلاله، وقدمه ووحدانيته وقدرته، ما يخرج به من معرفة الله من حدود المقلدين، ويتسع به للدعاء إلى سبيله والنصح بالحجة عن دينه، ويعلم من دلائل النبوة ما يخص منها نبينا صلى الله عليه وسلم ما يستيقن بنبوته وصدقه ويكمل به للنصح بالحجة عنه، ويعلم من علم الكتاب ما يميز به الحكم من المتشابه، والخاص من العام، والمحمل من المفسد، والمطلق من المفيد، والظاهر من المحتمل، والناسخ من المنسوخ، والمجازي من الحقيقة، والأمر من الندب، والإباحة والنهي عن

التنزيه، وما جاء منها بلفظ الخبر وليس بخبر. ومما جاء بلفظ الخبر وهو بالحقيقة خبر فإذا ميز وجوه الخطاب بعضها من بعض، وعرف الأكثر مما جاء في كل شيء منها، وقال الناس في تأويله، وإلا ظهر الأشبه أن يكون هو المراد، فلا عليه أن بقي وراء ذلك شيء لم يبلغه فلم يعلمه. فإن الإحاطة بعلم الكتاب كله لم يكن إلا لمن أنزل عليه. وأما الناس بعده، فعلم الكتاب فيهم متفرق ولا يؤخذ عند أحد منهم إلا تعلمه. وعلوم الكتاب كثيرة. منها علم بألفاظه وما أريد بها، وهذا هو الذي يقال له التفسير، ويدخل في هذا القسم ما اختلف فيه من القراءات ووجوهها. ومنها علم المكي والمدني وأسباب التنزيل، ومن نزل فيه وما نزل لأجله. ومنها علم الحاجات التي فيه، فقد أودعه الله تعالى من البراهين والحجج ما إذا عرفت حق المعرفة لم يحتج معها ولا وراها، إلى غيرها. ومنها علم الأحكام المثبتة فيه جملة وتفصيلاً وتمييز الثابت منها والزائل. ومنها علم الأمثال المضروبة فيه، والوقوف على ظاهر أمثاله فيه ودلائل عليه. ومنها علم الوعد والوعيد والمدح والذم. ومنها علم القصص وأنباء الأولين المذكورة للاعتبار بها وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتصبيره. ومنها علم ما فيه الحث على الاعتصام بالله عز وجل والالتجاء في النوائب إليه، والدلالة على وجوه الاحتراس من شياطين الأنس والجن. ومنها علم الأخبار بالعواقب تبيينًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتبيينًا للمؤمنين. ومنها علم إعجازه ومبانيه في نظمه شعر الشعراء وخطبة الخطباء، وبلاغة البلغاء، وما بني من هذه العلوم إلا ويوجد منه في السنة مثل ما يوجد فيه في الكتاب إلا الإعجاز، فإنه يخص بالقرآن، وفيها زيادات كثيرة لأن الله سبحانه وتعالى جعل نبيه صلى الله عليه وسلم مبينًا الكتاب، ومعرفًا للناس منه بما لا يدركونه إلا ببيانه، وأوصى الله كثيرًا مما لا ذكر له في الكتاب، فبلغه عنه كما لا أن ما ينتهي من سنته إلينا، فقد تأتينا متواترة، وقد تأتينا مستفاضة غير متواترة، وقد تأتينا من قبل الاحاد، والقلة يختلفون مرة، ويتفقون أخرى، وقد يكون الناقل موثوقًا به، وقد يكون غير موثوق به، ومواقع الثقة تختلف.

فيكون منه الجرح ألين، وقد تكون منه الشهرة بالتدليس أو الغفلة أو مخالفة الحفاظ الإثبات لمن شاركهم في الرواية، ولا يكون في منزلتهم. ومن الأخبار ما يعارض ومنها ما يلم من التعارض، ومنها مسند ومرسل فمنقطع ومنقطع لا غنى بالمعنى من رواية الأكثر الأظهر من عامة ما وصفنا، فإن شذ عنه بعد الطلب الحثيث والعناية الشديدة بعض ما ذكرناه بلا غلبة ولكنه لا علم له أن يعتمد ما يراه مثبتًا في كتب العلماء، ويشهدوا على أنه سنة حتى يسمعها فمن يرويها له وحدثه إياها بإسناد متصل منه للنبي صلى الله عليه وسلم بكون نقلتها عدولاً، وكلما قلت أنه لا شيء على من جهله من بيان الكتب والسنة، فإنما أريد به، إن العالم الذي حصل ما رواه، إن عمل بخلافه أو أفتى به غيره بعدما أوجبه الاستدلال عنده، فلا حرج عليه فيه ما لم يبلغه الذي قضي عنه، أو ينصح له ما كان كائنًا عليه. فإذا علم منه ما كان لا يعلمه، فقد صار محجوبًا به، والتحق بسائر ما عنده، وكذلك أقاويل السلف وما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه لا يتهيأ أن يحاط بجميعها، ولكن أكثر ذلك قد عرف وحفظ وجلد في كتب أفردت لذلك الاختلاف ما خلد من السنن وتفسير القرآن وتأويله. فينبغي للمفتي أن يتبع ما جاء منها ولا يقتصر على ما عده منها في كتابه دون أن يسمعه ممن يبلغ وتأويله. فينبغي للمعنى به قابله، ثم يقابل بعضهما ببعض ويتحر عند العمل والفتيا أرجحهما. ولا يحل له أن يتخذ لنبيه صلى الله عليه وسلم عديلاً من أمته، فينصبه بالانتساب إلى مذهبه، ويعادي فيه، ويوالي ويدع لقوله السنن الصحاح، ولا يبالي بل ينبغي له أن ينزل علم السلف منزلة واحدة، إلا المقدار الذي ظهر من فضل بعضهم على بعض، فإنه لا يذكره ولا يدفعه، ولا يلزم إتباع أحد منهم بعدما جهد، وتبلغ حد المجتهدين، وصار من أهل الفتوى والقضاء بين المسلمين، قد يجد قوله على الإنفراد أمامه، ولا وفاق أصوله أصله وليتبع النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو من أمته، ومحجوج بالكتاب الذي أنزل عليه من ربه. وما يثبت عنده من قوله وفعله وبسحر وفاقه لا زمان من دونه، وليحذر خلافه، لا خلاف من ليس مثله، وليعلم أنه هو المعصوم، المبرأ من الكذب فيما يبلغ، والخطأ فيما يحكم. والمنزه من كل قصد فيما اصطفاه الله تعالى من النبوة، وأكرمه به من الرسالة. فأما من عداه كائنًا من كان، من أفراد الصحابة والتابعين فليس أحد منهم في درايته ورأيه، معصومًا من الخطأ أو الزلل، ولا عنده من علم الدين

لا يبغضه، وإن كانوا قد يتفاوتون، فيكون البعض الذي عند واحد منها أرجح من البعض الذي عند غيره. وينبغي لمن أراد طلب العلم، ولم يكن من أهل لسان العرب، أن يتعلم اللسان أولاً، ويتدرب فيه، ثم يطلب علم القرآن، فلن تتضح له معاني القرآن إلا بالآثار والسنن، ولا الآثار إلا بأخبار الصحابة، ولا أخبار الصحابة إلا بما جاء عن التابعين. فإن علم الدين هكذا أدى إلينا، فبلغنا درجة بعد درجة، فمن أراده فليتدرج إليه بدرجة. فيكون قد أتى الأمر بابه، وقصده من وجهه، فإذا بلغه الله درجة المجتهدين فلينظر في أقاويل المختلفين، ويتخير منها ما يراه أرجح وأقوم، وليقس ما يحدث وينوب على أشبه الأصول وأولاها به. فأما أن يقصد علم الدين ثم يقتصر عند المطلب على قول رجل من علماء السلف، من كان، وإن كان بعد في العلم شأوه، ويتبع ما جاء منه، ويرفض من يخالف ولا يقتديه فكل ما بلغه عنه قلبه، وكل ما بلغه عن غيره تركه، وينتصب مع ذلك داعيًا للناس من احتباه، ومنفرًا إياه عن سواه، كأنه نبه المبعوث إليه وإلى غيره. فيكون المسلم تبعًا عنده، من اتبع متبوعه، ويترك الحائدين عنه عند منزلة أهل الكتاب من المسلمين، إذ كان أهل الكتاب تمسكوا بما لا يتمسك به. وهؤلاء عنده أيضًا عدلوا إلى ما لا يعد إليه. فهذا هو النبأ العظيم الذي الناس عنه معرضون، ولنسألن يوم القيامة عما كانوا يعملون. وأقرب ما يلزم ذكره أن الذي ارتضاه لا يأمنه واتخذه قدوة لنفسه بما كان يرضى أن يكون له، دون رسول الله صلي الله عليه وسلم أمام ينتهي إليه ويقصر نفسه عليه، فلا يقتدي إلا به، ولا يأخذ إلا من علمه، ويقارب من اتبعه، ويباعد من رغب عنه، لكنه طلب العلم حيث وجده، وأخذه ممن كان عنده. فقد كان ينبغي لمن نحا نحوه، وانتهج نهجه أن يأخذ طلبه العلم عنده، كما يأخذ علمه، فلا يتبغض في بدء الأمر قوله، ولا يفسد عليه أصله، فمن يخرج في علم أحد العلماء خاصة، ولم يكن عنده علم تأويل غيره، ولا بالأبواب التي سبق ذكرها، فلا تعد منزلته أن يكون من المقلدين فإن عمل بها أخذه من علمه في خاصة نفسه، فإن كان إمامه حي فسأله عن نازلة نزلت به، وأفتاه فيها برأيه، فيحل له أن يعمل بقوله، ولا يجوز له أن يفتي به غيره، ولا أن يحكم به. ومن طلب من الوجه الذي

ذكرناه، وحصل من علم الكتاب والسنة ما وصفنا، ومن أقاويل السلف إجماعًا واختلافًا ما شاء، وسلم عقله، وصح رأيه وفهمه بقدر على استنباط معاني الأصول، واهتدى إلى تمييز ما يتعلق الحكم به من جملة أوصاف الأصل مميزة، وكان ممن إذا أخفى المعنى واعتاض لم يصلك عن فهمه، وإذا عارضه مثله، لم يخبر عن تمييز أولاهما، بأن يقال به. كان له أن يعمل فيما ينزل به بعلمه، وأن يفتي به غيره، وكل ما قدمت ذكره في علم الكتاب والسنة، فهو في علم لسان العرب كذلك. لأنه في الجملة لابد منه إذ القرآن إنما نزل بلسانهم وليست فيه كلمة ولا لفظة بلسان غيرهم، ولكن فيها ما كان غير عربي في أصله، فعربه الله تعالى كما كانت العرب بأسرها غير عرب، فعربهم الله تعالى. كذلك السنن كلها عربية، فلا سبيل إلى معرفة الكتاب والسنن إلا بالوقوف على اللسان أولاً، وليس يكفي من علم اللسان علم الأسماء والأفعال والصلات حتى تكون معه، ارتباص فيه ومعرفة لعادات العرب على مخاطباتها. فإن لها في الخطاب مذهبًا وفي البيان عادة، وإذا عرف من لسانها وعادتها ما تيسر به، بعلم الكتاب والسنة، فلا عليه أن يسد عنه من غرائب كلامها، وبدائع أمثالها ما لا يحتاج. وهذا جملة من القول في هذا الباب، فأما تفسيرها فيرجع فيه إلى الكتب المفردة إن شاء الله تعالى. فصل ونتكلم في وجوب العلم وفضله، ثم في بيان إن العلم المطلق علم الدين، وأنه أشرف، العلوم، فنقول إن من الدليل على وجوب طلب العلم قول الله عز وجل:} وما كان المؤمنين لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذ رجعوا لعلم يحذرون {. أراد -والله أعلم-: وما كان المؤمنون لينفروا كافة، والنبي مقيم لا ينفر، فتركوه وحده، فلولا نفر بعدما علموا إن النفر لا يسع جميعهم من كل فرقة منهم طائفة لتبقى

بعضها عند النبي صلى الله عليه وسلم، فيحملوا عنه الدين ويتفقهوا، فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموا، وفي هذا إيجاب النفقة وإثباته أنه على الكفاية دون الأعيان. ويدله على ذلك أيضًا قوله عز وجل:} فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون {فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنة، ليلزمه سؤال من يعلم عن ما لا يعلم ليعلمه، فيعلم كما دخل فيه من نزلت به نازلة، فلم يعلم الحكم فيها، ودل على وجوب علم التوحيد، خاصة قوله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:} فاعلم أنه لا إله إلا الله {. فأمره جل ثناؤه وبعلم وحدانيته تعالى، وذلك منزلة فوق التوحيد باللسان، ولا شك أنه قبل نزول هذه الآية، كان عالمًا أنه لا إله إلا الله، فدل على أنه أمر باستدامة العلم والثبات عليه، وذلك بالتفكر في آياته الدالة عليه، وإحضارها بالبال، كالرجل يدرس ما قد حفظه لئلا ينساه، كذلك المدرك بالاستدلال يداوم عرض أدلته على القلب لئلا يغفل عنه، ولا يذهل عن مدلوله، وإن كان استيفاء العلم واجبًا على من سبق له العلم بوحدانية الله تعالى، دل ذلك على إن اكتساب هذا العلم على السير عنده بالرجوع إلى الأدلة، والنظر مما يوجبه ليعتقده على وحيه أولى بالوجوب، وإذا وجب ذلك فإنما هو طلب علم وجب على من لم يكن عنده، فكل علم من علوم الدين لم يكن عند أحد، فعليه طلبه حيث يؤمل أن يجده إذا طلبه فيه والله أعلم. وقد يجوز أن يعبر عن معنى هذه الآية بأن يقال بتقدير قوله تعالى} فاعلم أنه لا إله إلا الله {فكن عالمًا أنه لا إله إلا الله. وهذه الكلمة تصلح لابتداء العلم ولاستدامته فانصرف الأمر بها للنبي صلى الله عليه وسلم للابتداء به ولغيره إلى ما لا يليق بحاله والله أعلم. وفي هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار منها ما جاء أنه قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) وهذا نص جلي لا يحتاج إلى الكشف عن وجه دلالته. ومنها ما جاء في التحذير من ارتفاع العلم، وذلك تحريض على طلابه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم

يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فآمنوا بغير علم فضلوا وأضلوا) ويدل على وجوب طلب العلم من طريق المعنى، إن عبادة الله تعالى وإقامة فرائضه لا يمكن ولا يتهيأ إلا بعد العلم بما نهجه لعباده من وجوب التقرب إليه، بأن إذا ما لا يعرف غير موجب، وأوجبوا بهذه الدلالة فالعلم إن كان لا يقع للناس اتفاقًا، ولا يعية من غير طلب، بأن أن طلبه واجب والله أعلم. ثم مما يدل على طلب العلم وشرف مقداره عز وجل:} شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم {فقرن اسم العلماء باسم ملائكته، كما قرن باسمه. فكما وجب الفضل للملائكة بما أكرمهم به، بما وصفنا بذلك بحب الفضل للعلماء بما أكرمهم به من مثله. وقال عز وجل:} إنما يخشى الله من عباده العلماء {. فأبان أن خشيته جل ثناؤه إنما تكون بالعلم، وقال في آية أخرى:} إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه {. فأخبر في هذه الآية إن هذا الجزاء إنما هو لمن خشي ربه. وأخبر في الأولى إن العلماء الذين يخشون ربهم مكانه. قال ذلك للعلماء: وقال عز وجل:} قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون {وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممتنًا عليه:} وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيمًا {. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما عند الله بشيء أفضل من فقه ودين). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يسلك طريقًا يطلب فيه علمًا إلا سهل الله طريقًا إلى الجنة، ومن أبطأ به عمله لا يسرع به نسبه) وعنه صلى الله عليه وسلم: (طالب العلم يستغفر له كل شيء

حتى الحيتان في البحر). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضي بما يصنع، وأنه يستغفر له الطير في السماء والوحوش حتى الحيتان في الماء) ويحتمل أن يكون تضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم رضي بما يصنع في الدنيا، ويحتمل في الآخرة، فإن كان في الدنيا فله وجهان: أحدهما أن يعطف عليه ويرحمه، كما قال الله عز وجل فيما أوصى به الأولاد من الإحسان إلى الوالدين:} واخفض لهما جناح الذل من الرحمة {أي تواضع لهما وتعطف عليهما. والآخر أن يكون المراد بوضع الأجنحة فرشها، لأن في بعض الروايات أن الملائكة تفرش أجنحتها: أي إن الملائكة إذا رأت طالب العلم فرشت له أجنحتها في رجليه وحملته عليها فمن هناك يسلم فلا يخفي إن كان ماشيًا، ولا يعني، ويقرب عليه الطريق البعيد، ولا يصيبه ما يصيب المسافرين من أنواع الضرر كالمريض وذهاب المال وضلال الطريق والحصر والله أعلم. وإذا قلنا بالوجه الأول، فيحتمل أن الملائكة الكرام الكاتبون، أولها ينظر إلى كتبه العلم الذين وصفناهم، يعني: البهاء والجلال. فتستشعر في أنفسها تعظيمهم وتوقرهم. وجعل وضع الجناح وفرشه مثلاً لذلك. أي أنها تفعل مع طلاب العلم نحو مما كانت تفعل مع الأنبياء صلوات الله عليهم، لأن العلماء ورثة الأنبياء. ويحتمل أن يجتمع تواضع الملائكة لهم استشعارهم في نفوسهم فضلهم وعلو مقدارهم والدعاء لهم، والرغبة إلى الله عز وجل تأييدهم وتوفيقهم وتسديدهم والله أعلم. فإن كان ما ذكر عن الملائكة في الآخر فلا يعلم له. بمعنى إلا أن الملائكة تتلقاهم يوم القيامة معظمين إياهم متواضعين لهم، فيحيونهم تحيات شريفة ويبشرونهم بما هم لا قوه من إحسان الله عز وجل إليهم، ويكون إلقاؤهم ذلك إليهم على سبيل التصابر عنهم، لا على وجه الموقع عليهم، وذلك لما كانت ترضاه من صنعنا، الذي كان الناسخون للأعمال يرفعونه عنهم، حين كانوا في الدنيا والله أعلم.

ويحتمل أن يكون استغفار الحيتان وطير السماء والوحوش لطالب العلم، أن يكتب لله تعالى تعدد كل من أنواع الحيوانات الأرضية استغفاره سبحانه. وجه الحكم في هذا إن إصلاح العالم بأسره بالعلم. إلا ترى أن بالعلم يدرك الطير من السماء، لا يبغي أن يؤذي ويخرج ويقتل إلا إلى الله. ولا يجوز أن يرمي فيخرج أو يقتل نائمًا. وأنه لا يجوز إزعاجها عن مكانها للرجل يأخذ فراخها من أوكارها، وإن ما يمسك منها إذا قص جناحه، ومنع أن يطلب رزقه لم يجز تعذيبه بالجوع والعطش، ولا إمساكه في حر أو برد، ولا يحبسه حيث يناله تلف. وبالعلم يدرك إن إقرار الحيتان في الماء إذا لم يكن إليها حاجة، واجب. ولا يجوز التباهي بإخراجها من الماء والنظر إلى اضطرابها في أكبر من غير قصد إلى أكلها. وإنها إذا اصطيدت للأكل وألقيت في البحر، وجب الصبر عليها إلى أن تموت. ولم يجز وقده بالعصا أو الحجر. وبالعلم كان ينهي عنها ليالي السبت وأيامه حين كان اصطيادها في هذه الأوقات حرامًا. وبالعلم استحلت بعد ذلك، وبالعلم تفضل بين الحلال والحرام من الرجس، فيبقى الحرام ويجنب الحلال في الإحرام والحرم. وعزى كل منها إذا أصيبت، ومن الطائر بما هو جزاؤه، ولا يقبل الحلال الأكل تذكيه إلى كله ولا يؤدي من الحرام إلا ما كان ضارًا مؤذيًا. فما من شيء مما ذكر في الحديث إلا له مصلحة معقودة بالعلم. فإن كتب الله تعالى على كل نوع من الأنواع المذكورة لطالب العلم استغفاره فيجازه جزاء له عنها بعلمه المعقود به صلاحها، لم يكن ذلك مستبعدًا ولا مستنكرًا والله أعلم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حسد ولا ملق إلا في طلب العلم). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء ثم الشهداء). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين). وأنه قال: (العلم للعامة والعبادة للرجل وحده).

وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (العلم أحبب إلى الله من فضل العبادة، وخير دينكم الفزع). وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوزن فيزاد العلماء على دم الشهداء). وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (يقال للعابد يوم القيامة. قم فادخل الجنة. ويقال للعالم قم واشفع). والأخبار في هذا الباب كثيرة لا سبيل إلى استيفائها، ولكنه الذي يزجي له هذه المقامات هو العامل بما يعلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ثلاث شبابه فيما أبلاه، وعن ماله فيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به، وأما من أخذ العلم مكسبة لنفسه وحسن السلاطين ليأكل عندهم بعلمه، فمرة يصدقهم ومرة يكذبهم. وإذا رضي عنهم نصرهم، وإذا سخط عليهم خذلهم، والخوف عليهم أكثر منه على غيره) جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، ويدخلوا في الدنيا، فإذا دخلوها، فقد خافوا الرسل فاعتزلوهم وأخزوهم وهذا والله أقل ما في السلطان الجائر. فأما السلطان العادل، فلا بأس بمخالطته لأجل عدله وحسن نظره). وروى أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإمام العادل لا ترد دعوته) وسنكتب في هذا المعنى ما هو أقوى من هذا في غير هذا الباب، إن شاء الله تعالى. فصل وأما بيان أن العلم المطلق علم الدين. فهو إن الله عز وجل لما قال:} شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة أولوا العلم قائمًا بالقسط {. وقال:} إنما يخشى الله من عباده العلماء {. وقال:} تلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون {. وقال} بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}.

لم يفهم السامعون من هذه الآيات إلا العلماء بالدين. فبان إن العلم المطلق علم الدين، إذ كان هو الذي يبتدر إلى إفهام السامعين إذا سمعوا العلم والعلماء، وكان الله عز وجل سماه العلم إطلاقًا غير مصنف إياه إلى العلوم الذي أراده له بذلك على إن إطلاق الاسم له وغيره هو الذي يحتاج في الإنابة عنه إلى تقييد العلم وإضافته والله أعلم. وأيضًا فإن فضل العلم بحسب فائدته وقدر عائدته، إذ كان العلم إنما يراد لما يوصل به إليه، ولا شيء أعود على العاقل من معرفة الله تعالى بصفاته ومعرفة ما يرضيه عنه ليأتيه. وأما سخطه عليه لتحبيبه، فثبت أن أشرف المعلومات الدين، وأفضل العلوم وأهمها علم الدين، ثم إن كل ما سوى الدين، فإن علمه إنما يحتاج إليه الدين، وما لا يحتاج إلى علمه الدين بوجه وعلى معنى فإن علمه كجهله، أو جهله خير من علمه. فالطب خير محتاج لإقامة الأبدان وحفظ صحتها. ودفع الأسقام عنها. فإن فرائض الله تعالى المفروضة على الأبدان، لا سبيل إلى إقامتها إلا بسلامة الأبدان واستقلالها بما يزاد دواؤه منها، فيلحق من الوجوه بما ينبغي إليه، ولا يطلق الحكم بصنعه، إلا أنه على ذلك تابع لعلم الدين إذا لم يكن مقصودًا لنفسه. لكن المتمكن به من استعمال الأبدان بشرائع الأديان وعلم الحساب يحتاج إليه في بعض مسائل الأحكام، فيلحق ذلك منه بعلم الدين. وأما ما وراء ذلك فليس بمحتاج إليه الدين، وإنما هو فضل يستغل به من فضل زمانه عن الفرائض والواجبات. فإن كان لا أحد يجد فضلاً من الزمان لا يحتاج ما لا أحد ينبغي له أن يصرف همه إلى قراءة المجسطي، وكتاب اقليدس وما يجري مجراهما لأن وقوف همه العالمين لا ترشد على شيء معقول عنه من أمر الدين. ولا يقدر عن معجوز عنه من جملته والاستدلال بما يظهر من أحوالها على الصانع جل جلاله من غير العلم، فخفاياها ودقائقها ممكن. وأكثر ما يقوله المدعون علمها فيما لا تقع الثقة به. وقد يمكن أن يكون كما يقولون، ويمكن أن يكون بخلافه فلا فائدة فيه. ومن العجب أن بعض الملحدين هاجم بين ظهراني المسلمين بثلب وتفضيل المجسطي عليه، وزعم أنه ليس في القرآن تنبيه على أمر معقول عنه، ولا أفاده شيء كما في المجسطي

بيان هيئة السماء والأفلاك، ومن عقل فنظر وتأمل علم أنه لا كتاب، وخصوصًا في قدر القرآن اجمع الفوائد من القرآن لأنه ذاك على الباري سبحانه وتعالى، وتعليم أسمائه التي إن يدعي بها، والإنابة عن صفاته، والحث على الاستدلال والنظر والإرشاد إلى وجوه المحاجات والمجادلات، والأذكار بآلائه ونعمه، والتحريض على شكرها، والبيان لفائدة الشكر، ومضرة الكفران، والدلالة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والأخبار على من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام، وتعديد أيامهم، واقتصاص من كان من قومهم ومعاملة الله إياهم ومؤاخذته للعامدين منهم بضروب من نقمة، لتعتبر بهم هذه الأمة، والإشارة إلى إعجاز القرآن، ولزوم الحجة به، وفرض للعبادة على الناس جملة، ثم نقصها وتضييعها، وتعريف شروطها وحدودها، وتحليل ما اقتضت سعة رحمة الله تحليله، وتحريم ما أوجب بالغ حكمه تحريمه، ونصب الحدود وتقديرها، ووضع الشرائع بين الناس في المعاملات والجنايات، والإيمان والنذور والكفارات، والإبانة عما يفعل به بين المتنازعين وإخبارهم بما لم يكونوا يدركونه بعقولهم من أنهم مبعوثون من بعد الموت، ومحاسبون ومجزيون بأعمالهم، والمسيء منهم يعاد إلى النار، والمحسن منهم يعاد إلى الجنة، ووصف كل من الجنة والنار مما في الجنة من أصناف النعيم، ومما في النار من العذاب الأليم، وضرب الأمثال للناس، ووعظهم. وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن أبناء الغيب ما لم يكن ولا قومه من مثل يعلمون ليزدادوا بصيرة في دين الله، وبعد فإن الكتاب الذي جاءهم به ليس إلا من عند الله، وإخباره وكوائن تكوين في المستقبل حتى إذا كانت ازداد إيمانهم وكتابهم، وتيقنوا إنه منزل من ربهم ويكون أكثر ما ذكرنا في غير موضع زيادة في البيان، وإبلاغًا في التبصير، ولا الفوائد بالحقيقة إلا ما وصفنا، ولا الفوائد إلا ما عددنا. وقد كان الناس غافلين عنها قبل نزول القرآن، أما العرب الذين هم أولاد إسماعيل صلوات الله عليه، فقد كانوا أضلوا شريعته، وأما ولد قحطان فقد كانوا من الشرائط أهل الإلحاد فجاء القرآن هدى من الله تعالى ورحمة وشفاء لما في الصدور. فكيف يجوز الملحد الذي حكينا قوله: أن يقول إن القرآن لم ينته على أمر معقول عنه، وهو بالحقيقة إنما نزل للتنبيه عن الغفلات العظيمة التي ذكرتها. ووجدنا هذا الملحد مع قرع القرآن سمعه في أشد الغفلة عن معرفة الله تعالى. فما الظن لو لم يسمعه وأمثاله الذين سمعوا نزوله؟

فأما المجسطي وما ذكرنا فيه فإنه على الاستئناس وكتاب الفراغ يقرأه الكسالي والمترفون والمحجوبون عن الله تعالى بسوء النيات، ودخول الظنونات الذين لا يؤهلهم الله تعالى لقراءة كتبه وإتباع سنن نبيه، ويصرف قلوبهم عن علم سعته، كما قال عز وجل:} وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد، ثم انصرفوا، صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون). وما منزلة هؤلاء القوم وما القوة من فصول الهندسة وهيأة العالمين، وذكر إجرام الكواكب وأبعادها وطبائعها بزعمهم، من قراء القرآن، وطلاب الآثار والمجتهدون في علم القضايا والأحكام، إلا منزلة عبيد بين مالكهم، لهم دار، أو أسكنهم إياها، وقدر لهم فيها كفاياتهم، وكتب لهم بجوامع أمره ونهيه ووعده ووعيده كتابًا. ونصب عليهم فيما يذكرهم متى نسوا، ويقومهم متى زاغوا، فامتثل بعضهم أمره وعظموا كتابه، وأطاعوا يمينه، وحكموه على أنفسهم، وصارت هذه الطائفة تشد بعضها بعضًا، ويقوم عالمهم على جاهلهم وكبيرهم على صغيرهم، ولا يغنهم الأرض مالكهم أن يسلم لهم وطاعته أن يكون منهم، ورفض الآخرون هذا كله، وأقبلوا على الدار التي أسكنوها بناء صلوبها، وينظرون كم عرضها وطولها، وما فيها من البيوت، وقدر كل بيت منها، وبعد ما بين البيت والبيت، وأنها أسخن، وأنها أروح وأنها، أقدر وأنها أيبس ويعطلون الأوقات التي تأتيهم فيها المواد. والألفاظ من عند مالكهم. وينزعون ما يأتي منها ويصفون أحوالها وطبائعها، ويتكلمون على الزمان الذي يأتيهم فيه الحر والزمان الذي فيه البرد، ويقدرون كلاً من ذلك بمقدار، ويخوضون في هذه المعاني خوضًا يشغلهم عن عهد مالكهم، وينسيهم أمرًا لضم المنصوب عليهم، ثم اختلفوا على ذلك. فقال الأول: هذا دار مولانا أسسها وأحكمها ورتب فيها دياناتنا، وأزواج بها علينا. وسيدعونا يومًا فنجيب، ويحاسبنا بأعمالنا ويجزينا بالخير خيرًا وبالشر شرًا. وقال الآخرون: إنكم مغرورون، سفهاء لا تعقلون، ما لنا مولى ولا يؤمنا أحد ولقد كانت هذه الدار قبلنا لأمثالنا، وما نرجو من أحد حسنًا ثوابًا، ولا نخاف إنسانًا عقابًا. وقال بعضهم: بلى إنا لنا مولى، ولكنه وجد إلات الدار وما فيها حاضرة، فركبها ونظم بعضها بعضًا، لم يكن يقدر على أحسن منه، ولا على صنع دار أكبر من ذلك.

فهؤلاء الفلاسفة الذين سموا أنفسهم حكماء، وأصحاب المجسطي والاقليدسيون. والأولون في القرآن بالليل والنهار، فيتبعون السنن والآثار. فلينظر العاقل بعقله في بعد ما بين الفريقين، ولنستعذ بالله من أسوأ المثلين وما فيه العصمة. وأما علم الألحان وتأليفها. فإن الأوائل المحتجين إلى الحكمة سموه العلم الأوسط، وعدوه ثاني علم التوحيد. وجعلوا الثالث على الأبدان والطب، وقد أبطلت الشريعة حكم العلم واسمه، وشرفه على تأليف الألحان والحقته باللهو، وحكمت عليه بحكم الباطل واللغو وهو الذي يقول: إن جهله خير من علمه. لأن الذي يعلمه من زمان صنيعه، إما بتعليم غيره، وإما باستعمال ما يعلم منه، وكل ذلك تضييع للعمر واستفاء دله بالباطل وإنما أذن للناس في تحسين الصوت بالقرآن من غير معنى فيه، ورخص في الحداء ونشيد الإعراب. فأما ما جاوز ذلك مما لا يراد به إلا للتطرب، ولا يستعمل إلا في غزل، وإذا أريدت المبالغة فيه، استعين عليه بتحريك الأوتار ونحوها، فإنه لهو باطل، وإن ما عمل كان بنفسه لهوًا وباطلاً لم يكن العلم به شرفًا والله أعلم. وأما علم الصناعات: فإنه لمصالح المعاش الذي فيه يتمكن من العبادة، فهو تابع لعلم الدين، كما أن علم الأبدان تابع له. فثبت بجميع ما وصفنا أن العلم المطلق المستحق للشريف والتفضيل علم الدين وبالله التوفيق. وسمعت أحد علماء الطب يدعي أن أشرف العلوم بعد علم التوحيد علم الطب، ويحتج بحجتين، أحداهما أنه علم متفق عليه، ليس في العقلاء أحد يبيحه، والثاني. أنه يشتق لله تعالى منه اسم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طبيبها الذي خلقها) ولا يشتق له في الفقه واللغة والنحو والتنجيم قط. فصح إن الطب أفضل العلوم. والجواب: إن ما ادعاه من أن علم الطب متفق عليه، فليس كذلك، وقد ذهب كثير من الناس إلى أن علم الطب لا يجري فيه القياس، وإنما هي تجارب. والتجارب قد تختلف، فربما يقع وربما قيل: واستدلوا بأنه من نوع من العلاج أشار به الأطباء في مرض إلا وقد عوفي به قوم، وهلك معه قوم. فصح أن علم ليس يجري فيه القياس ويدرك

به أصل وقد صنف الناس في هذا كتبًا، وتكلف قوم من الأطباء الرد عليهم والنقض لقولهم، فكيف يقال: أن علم الطب متفق عليه، وعلى أنه لا اختلاف بيننا وبين مؤمني الأطباء، إن علم التوحيد أجل وأفضل وأشرف من علم الطب، وإن الخلاف معهم في علم الأحكام. ومعلوم أن التوحيد مختلف فيه، وإن كان بطلان قول المخالف فيه ظاهر لإخفائه، ثم لم يوجب الاختلاف فيه حط علمه عن مرتبة علم الطب، الذي لا خلاف فيه، فكذلك علم الأحكام فانتقض بهذا كلامه. والجواب: عن استدلاله بما يشتق لله تعالى من اسم الطب فيدعي طبيبًا فهو إن هذا ليس بمسلم، وليس الطبيب بموجود في أسماء الله تعالى، ولا يجوز أن يقال لله تعالى عند الدعاء يا طبيب. وإنما روى أنه كانت تظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم سلفه، فقالوا له: لا تدعو لك طبيبًا؟ فقال: (طبيبها الذي خلقها) أي إن الذي ترجونه من الطبيب، فإني أرجوه من الله عز وجل. وهذا لا يوجب أن يكون قد سمى الله طبيبًا، كما أنه قال: (لا تسبوا الدهر) فلم يوجب ذلك تسمية الله تعالى دهرًا. وأيضًا فإن الله تعالى سمي صانعًا، ولا يدل ذلك إن علم الصناعات أشرف من علم الأحكام. فلذلك إن جاز أن يقال لله تعالى من بعض الوجوه طبيب فذلك لا يوجب أن يكون الطب أشرف من علم الأحكام. ويقال: إن علم الفقه علم الأحكام. ولئن كان لا يجوز أن يدعي الله فقيهًا، فإنه يجوز بل يجب أن يسمى حاكمًا وقاضيًا. فقل: إن علم القضاء والحكم أشرف مما عداه، وبالله التوفيق.

الثامن عشر من شعب الإيمان وهو باب نشر العلم وأن لا يمنعه أهله

الثامن عشر من شعب الإيمان وهو باب نشر العلم وأن لا يمنعه أهله فإذا حضر العالم من يسأله عن علم عنده سؤال المسترشد المستفيد، أو يحال ذي الحرج الشديد، وجب عليه إخباره بما عنده، ولم يسعه كتمانه. والحرج في كتمان النصوص أشد منه في كتمان الاستنباط. قال الله عز وجل:} وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم {. فأبان الله على المقيمين أخبار النافرين إذا رجعوا إليهم بما حملوا في حال غيبتهم من علم الدين. ليشارك الغريقان في العلم، ولا يستأثر به من حضر دون الذي غاب. وقد قال الله عز وجل:} وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه {فثبت إن علم الدين محمول عن أهله على شريطة الأداء إلى من يعرض له على ألا ينفرد به حامله ولا يرويه غيره. وقال عز وجل:} فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون {. فلما أمر من لا يعلم أن يسأل العالم، دل على إن العالم إذا سئل أن يجيب. كما أنه عز وجل لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:} خذ من أموالهم صدقة {. دل ذلك على أن من طالبه بصدقة، فعليه أن يدفعها إليه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضر الله أمرء سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها. فرب متبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم

(ألا فليبلغ الشاهد الغائب). وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سئل عن علم فكتمه، جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار). وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يتعلم العلم ولا يتحدث به كمثل رجل أعطاه الله مالاً فلا ينفق منه). ويدل على ما قلنا أن طلب العلم إذا كان فرضًا على الكفاية دل ذلك على أن الطالب طالب لنفسه ولغيره. فأي علم حصل له فهو بمنزلة عنده، فإذا سئلها كان عليه أن يرد بها لقول الله عز وجل:} إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها {. وأيضًا فإن الله عز وجل ألزم من ائتمنه مثله على ماله أن يؤدي إليه الأمانة. فقال تعالى:} فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته {. فدل ذلك على أن من ائتمنه عالم على علم عنده، بأن ألقاه إليه لزمه أن يؤدي الأمانة فيه. ومن أدى الأمانة فيه إذا طلب منه أن لا يكتمه. وأيضًا فإن في منع العلم هجر الدين، والتعفية على آثاره، وحمل الناس على ارتكاب العظائم وانتهاك المحارم. فدل ذلك على أنه حرام ممنوع والإثم فيه كبير، وبالله التوفيق. فصل وإذا كان في البلد علماء فأي واحد منهم جاءه سائل فسأله عن علم عنده، ليتعلمه فينبغي له أن يخبره به، ولا يكتمه. ولا يجوز له أن يقول: سل غيري، فإن عنده من العلم مثل ما عندي، فإن طلب العلم وإن كان في نفسه فرضًا على الكفاية، فإن الذين حملوا العلم يلزم كل واحد في عينه، إذا ما عنده منه، إذا سئل عنه، كما إن الناس إذا دعوا إلى حمل الشهادة كانت الإجابة لازمة بقدر الكفاية. وإن حضروا جميعًا أو بعضهم فيحملوها ثم سئلوا إقامتها لزم مستشهد في عينه أن يؤديها، والله أعلم.

فإن أغفلت العامة ما يلزمها من سؤال العلماء، عما يفوتهم، وأعرضوا عن العلماء بواحده، وخاف العلماء أن يخلو البلد من العلم أن انقرضوا، ولم تحمل منهم ما حملوه ولا سئلوا عنه فأدوه. ويعفوا إعلام الدين، وتدرس آثاره، كان عليهم أن يدعوا الناس إلى التعلم منه، ويحثوهم على الرجوع إليهم فيما يفوتهم، ويبصرونهم ما في رفض العلم، وقلة الحفل بالحكم من عظيم الضرر والإثم. ويذكروهم ويسمعوهم ما يرجون أن يردعهم فيملأوا أبدانهم بالوعظ والنصح، ويرووا لهم الأخبار ليخرجوا إليهم من عهدتها ويرفعوا أحوالهم إلى السلطان، ليأمرهم السلطان بتعلم الدين، والرجوع إلى العلماء في ثوابهم، وإلى حاكمه في مطالبهم. فإذا لم يفعلوا أمر واحدًا أو أكثر بقدر سكان البلد ليجلس وقتًا معلوم، للتذكير والرواية والفتيا. ثم أمر العامة أن يحضروا المجلس، فإذا حضرت منهم طائفة تدرك ما تسمع وتحسن أن تسأل عما يحتاج إليه وتعي ما يجاب به أمسك عن الآخرين. وإن كان السلطان لا يوثق لما يلزمه بحسن العلماء لهم في مشاهدتهم الأخبار التي يرون إنها أجمل للتذكير، فأسمعوهم منها ما يظنون أنه أنجع فيهم وأحق بحسن الموقع منهم. فإن أصابهم في ذلك مكروه صبروا واحتسبوا كما صبر الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم أجمعين. قال نوح:} رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارًأن فلم يزدهم دعائي إلا فرارًا، وأني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارًا. ثم أني دعوتهم جهارًا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم أسرارًا {. وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:} فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل {. وقال:} فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت {. وحكى جل ثناؤه عن لقمان فيما وعظ به ابنه:} واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور {. وبالله التوفيق.

فصل وهذا الذي ذكرت عن وجوب نشر العلم على العالم، فإذا أردت به علم الكتاب والسنة، فلا يجوز أن يسأل عن أنه إن يكتمها ولا يخبر بها. ولا أن يسأل عما جاء في تفسيرها، وقد سمع فيه شيئًا أن لا يخبر به. ولا أن يسأل عن حكم نازلة عنده فيها خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أن لا يؤديه كما سمعه. وينبغي لمن روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا، ولم يكن عالمًا متقنًا أن يرويه كما سمعه، ولا يعبر عنه لفظًا، ولا يقدم مؤخرًا، ولا يؤخر مقدمًا. وإن كان عالمًا فطنًا جاز له أن يبدل اللفظ بمثله، فإن أخطأ كان اللفظ محتملاً، أبدله بما يحتمل كاحتماله، ولا يتجاوزه، وإن كان غير محتمل أبدله بما يحتمل غير معناه، ولا يبدل خاصًا بعلم، أو عامًا بخاص، ولا مطلقًا بمقيد، ولا مقيد بمطلق، ولا خبرًا بأمر، ولا أمرًا بخبر، وإن كان الذي يسأل عنه العالم، رأيًا، تأمل، فإن كان عنده به المسلمين فيما وقع السؤال عنه، وأي مجتمع عليه فينبغي أن يخبر به، وإن كان يعلم من العلماء اختلاف رأي أخبر بما يحفظ منه، وإن لم يكن عنده فيه إلا رأيه الذي أداه إليه نظر. فإن كان السائل متفقهًا يسأل عما يسأل العالم، أخبره برأيه. وإن كان عاميًا يسأل للعمل لا العلم، وقد وقع له ما يسأل عنه، أو كان سئل لمن وقع فعليه أن يفيه به. وإن لم يقع ذلك لأحد. فإن شاء أفتاه، وإن شاء لم يفته، والأخبار أن لا يفتيه. فقد روى أن بعض الصحابة كان إذا سئل على شيء يقول: أوقعت؟ فإن قالوا: نعم أجاب. وإن قالوا: لا قال: فحتى تقع، وهذا لأن الاجتهاد إنما أبيح للضرورة. ولا ضرورة إذا كان السؤال عما لم يحدث فأشكل حكمه فكان إحباط العالم للفتية في أن يكف عن الاجتهاد إلى أن يحدث ما نظره إليه، ويؤكده أنه قد يجتهد حتى يسأل فيرى رأيًا، فإذا وقع ما يسأل عنه، لم يجز له أن يفتي برأيه المتقدم، لكن لزمه أن يحدث اجتهادًا جديدًا. فإن أداه الثاني إلى غير ما أداه الأول. لم يجز له أن يفتي إلا بالثاني. فعلمنا إن الاجتهاد قبل حدوث الحادثة وبال على صاحبه. وإنما جاز أخبار المتفقة بالرأي السانح في الحال، لأن الغرض تثبيته

وإرشاده إلى طريق النظر والانتباه وتفتيح ذهنه. ألا ترى أنه لا يجوز أن يفتي غيره بما يسمع، فبان في ذلك أنه يخالف لما يسأل العمل وبالله التوفيق. فصل ولا يجوز لمن كانت عنده أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها أن تمتنع عن روايتها، ليعطي عليها مالاً، لأنه لا يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أداه الرسول إلى أمته. ومعلوم أن الله تعالى لم يكن أطلق أحدًا الآخر من أمته على ما يبلغهم إياه عن ربهم، ولذلك لا ينطلق ذلك لأحد من المؤدين عنه وإن رواها وأخبر بها قومًا. ثم رغب قوم آخرون في سماعها فهم بالخيار بين أن يسمعوها من الذين سمعوا قبلهم ولا يمنع أولئك السامعين خبره صاحبهم الذي حدثهم أن يرووا، فيحدثوا. ومن أن يسمعوا ممن سمع منه الأولون. فإذا أرادوا ذلك، لم يكن للعالم أن يمتنع عن تحديثهم، ويقول لهم: اسمعوا من بعض من قد سمع مني، لكن منزلة هؤلاء الآخرين كمنزلة الأولين، لأنهم يحتاجون إلى ما عندهم مثل حاجتهم، ولو كان الذي سمع منه شريك قيمًا سمع له، لم يكن له أن يحمل الراغبين في روايته، فكذلك لا يكون له أن يحملهم على الذين سمعوا منه فإن قيل: إنه إذا روى ما عنده فسمع منه، فقد أدى الأمانة، وأراح المحتاجين لعلمه. فإن أبي أن يسمع ممن سمع منه، فإنما يريد على الإسناد والإسناد النازل في إفادة الناس، وإلزام الحجة كالإسناد العالي. فهلا قلتم أنه يلزم العالم أن يجلس للآخرين فيحدثهم كما حدث الأولين. قيل: لأنه إذا ألزمهم السماع من بعض من سمع منه عرضهم لكلفة ذات خطر، وهي أن يجتهدوا فيمن يسمعون منه لم يروون عنه، ولا يأمنون أن يزالوا عند الاجتهاد، فيرون من ليس بعدل عدلاً فيصدقوه في روايته، ويثقون به في الرواية عنه، فيكونوا قد ائتمنوا الخائن وعدلوا الفاسق، وقبلوا خبر من أوجب الله تعالى التثبت في خبره، ورأوا من هو عدل غير عدل، فيدعوه، وفي ذلك تخوين الأمين، وتفسيق العدو، وإضاعة السنة، فلم يجز له ذلك.

كما كان لا يجوز له في أول ما سئل عن الحديث أن يكتبه، فيعرض لم يبلغه ولم يسمعه الاجتهاد فيما جاء الحديث فيه. ولعله إذا اجتهد أخطأ وترك وظن ما ليس بحكم حكمًا، وأنزل ما ليس عند الله حقًا. فلما لم يسعه في أول الأمر كتمان الحديث، فلهذا المعنى لم يسعه من بعد ردهم إلى أحد بمن الذين جاءوا أخر وإحالتهم على الأولين والله أعلم. وإن أخبر العالم بما عنده قومًا فسألوه أن يعيده عليهم مرة أو أكثر ليحفظوه. فإن كانوا فهموه وأدركوا معناه، ولكنهم أغفلوا ألفاظه أو بعضها لم يكن عليه أن يعيده عليهم، وإن كانوا لم يفهموه مع علمهم باللسان، فعليه إعادته، كما عليه تحديث غيرهم به إذا سألوه. لأن حاجة الذي سمع علم يفهم، وهو يرجو إذا أعيد عليه أن يفهم لحاجته من لم يسمع، وهو يرجو إذا سمع أن يفهم، وكذلك لو سمع وفهم ثم نسي واستعاد، فهو كالذي لم يسمع. وعلى الراوي بحديثه إلى ثلاث، فإن جاوزها لم يكن عليه أن يعيده بلا عوض، وينبغي أن يكتبه السامع لئلا ينساه، أو يستكتبه غيره، وهذا إذا نسي الحديث أصلا، فلم يذكر لفظه ولا معناه. فإن استعيد ما روى في مجلس واحد مرات ليحفظ ألفاظه بعدما فهم معناه، كان له أن لا يفعل إلا بعوض، لأن هذا تعليم لا رواية. فإن الحديث قد حصل عند السامعين بما عرفه من معناه، وإنما يريد أن يحتمل ألفاظه بأعيانه لئلا يحتاج إلى أن يكتبوا ما عرف من المعنى ألفاظًا من عنده، إذا أخبر به غيره، وإنما كان على الراوي إذا ما سمع إليه ليشركه في علمه. فأما إنكاره على إبلاغ ذلك، فليس إليه. ألا ترى أنه لو كان لا يقدر على الحفظ، ولم يكن عنده ما يكتب فيه، أولا لا يحسن أن يكتب لم يلزمه أن يكتب له بغير عوض وكذلك لا يلزمه أن يكرر عليه ما روى عودًا على بدء، وليحفظ فيمكنه أن يؤديه إلى غيره بغير عوض والله أعلم. وإذا استملى العالم الحديث فعليه إملاءه، وإن كان ما رواه وسمع منه ثم استعيده إملاء، فعلى ما وصفت والله أعلم. وإذا حضر ليسمع منه الحديث، فأذن في القراءة عليه فقالوا: نريد لفظًا كان به أن لا يتكلف القراءة بنفسه إلا بعوض. وإنما يحرم عليه إذا لم يخرج ما عنده، فيقرأ أو يقرأ عليه إلا أن يعوض. فأما إذا أخرجه وأمر بالقراءة عليه فكلف أن يقرأ، فهذا شغل زائد على التبليغ والأداء، فله أن لا يفعله بغير عوض له

وإن أعطى لم يجز له أخذه، وإن حضر من يقرأ عليه، إلا أنه أبى أن يقرأ كغيره بلا عوض. فإذا كان قد سمع عنه ما يريد الآخرون سماعه، كان له أن لا يقرأ، إلا كعوض. وإن كان قد سمعه من غيره ولم يسمعه منه لو لم يسمعه من أحد فلا عوض عليه، وأن يحدث بالحديث أو الحديثين أو الثلاثة ما زادوا فيه، أما بطول به المخبر منقطع به عن البغي على نفسه وعماله، بأن له أن يأخذ على إدمانه الجلوس، وتعريفه نفسه لهم ما يعطونه، ما لم يكن شرفًا، والشرف أن يطالبهم بأكثر مما كان يعود عليه من سمعه، لو لم يجلس لهم والله أعلم. ومن روى حديثًا سمعه من المروي عنه لفظًا أو جرى عليه فأثر به سواء قال حدثنا فلان، أو قال: أخبرنا والأمثل إذا كان إنما سمع قراءة على من يرى عنه أن يقول: أخبرنا فلان، لأنه لم يقل له ذلك بالحقيقة، ولكنه تأول عليه لأنه قيل حدثك فلان، فقال نعم. والظاهر أمثل من التأويل وأبعد من التحريف والتبديل، وإن يرى على رجل سماعه من كتابه وهو ساكنه، ولم يقل له هذا كاذبًا، وإن دفع صاحب الحديث إلى رجل كتابًا، فقال حدثني فلان عن فلان بجميع ما في هذا الكتاب على ما فيه وقد رأيته وأثبته، هل للمدفوع أن يرويه عنه. وهذا كالسماع. وإن قال أذنت لك أن تروي ما في هذا الكتاب عن فلان، ولم يذكر سماعه من فلان، لم يجز للمدفوع إليه أن يرويه. وإن قال لك: إن تروى عني كل ما صح عندك من حديثي، فصح عنده شيء من حديثه لم يجز له أن يرويه عنه، لأن جواز الرواية بالسماع لا بإجازة المروي عنه، فإن السماع منه لو صح وقال: لا ترو عني ما سمعت كان له أن يرويه عنه، ولا سماع لمن وصفت فلم يكن له أن يروي عنه. وإن قال: قد حدثني بكذا فلان عن فلان، على ما ينطق به كتابي، والنسخ المنسوخة منه، فما ثبت عندك أنه قرئ علي منه أو كتب من أصل أوعورض بأصلي، فاروه عني على ما أخبرتك عدل، بأن هذا أصل الرجل أو مكتوب منه أو مقابل أو معدل به. جاز أن يرويه عنه بشرط أن يخبر من سمع منه تبليغه الحال والله أعلم. ومن سمع حديثًا

فأثبته بخطه في صحيفة، ثم نسي الحديث، ووجده في كتابه من حيث لا شك في أنه كتابه وخطه، جاز له أن يرويه. وليس الخبر في هذا كالشهادة، لأن الشهادات لا تكثر كبيرة أخبار الديانات، فيمكن من حفظ الشهادات لقلتها ما يتعذر من حفظ الأخبار لكثرتها، ولأن أمر الأخبار أوسع من أمر الشهادات. ألا ترى أنه يقبل في عامتها النساء والعبيد، ويكتفي بالواحد العدل، ويقبلان عن فلان، ولا يقنع في الشهادات بشيء من ذلك. وإن نسي الراوي الذي عد في كتابه السماع فيه، فلم يذكره بقلبه، ولم يتصور في وهمه شيء من أوصافه وأحواله، ولا ينبغي له أن يروي عنه، لأنه أن روى لم يدر عن من روى في الأول، يروي ما يروي، فكذلك الفرقان، والله أعلم. وإذا سئل العالم عما لا نص فيه عنده، واحتاج إلى تعرف حكمه بالاجتهاد لم يجز له أن يأخذ على الأخبار بما يظهر له أجرًا، كما لا يجوز ذلك له في النص يؤديه، وأن أفادوا منه أن يجلس لهم أوقاتًا يستفتونه فيها، ويسألونه عما لا يقع ليأخذوا عنه رأيه، ويعلموا طريقة فيها، وكان يتضرر بانقطاعه عن كسب يكون له في تلك الأوقات، فجائز له أن يأخذ أجرًا بما يكون منه قصدًا كما قلت في الرواية والله أعلم. فصل وينبغي لطالب العلم أن يكون تعليمه، وللعالم أن يكون تعليمه لوجه الله تعالى لا يريد به المتعلم أن يكتسب بما يتعلمه مالا، ويزداد به في الناس جاهًا، أو على أقرانه استعلاء ولاشداده ألمًا. ولا يزيد العالم بتعليمه أن يكثر الآخذون عنه، فإذا أخذوا وجدوا أكثر من الآخذين عن غيره، ولا أن يكون علمه أكبر في الناس من علم غيره، بل يريد العالم أداء لأمانه تيسر ما حصل عنده وإحياء معالم الدين وصيانتها، من أن يدرس كتبًا. روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لولا آية في كتاب الله لما حدثتكم. ثم

قرأ. {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا يكتمونه {ويزيد المتعلم عبادة الله تعالى بطلب علم الدين، ليتوصل بما يعلمه إلى العمل بما يرضي الله عنه، وإن يكثر العلماء، فيكون ذلك أحوط وأحرى لبقائه، بل سمع له بما عنده ولا يعامله بما يبقى عنه. وكذلك إن كان قصد التعلم ما وصفت، فينبغي له أن يصير خفاء العالم وصية بما عنده وامتناعه من إخراجه إليه إلا معيدًا. فإن القليل إذ انضم إلى القليل كثر، فليس الشهر إلا أيامًا تتابعت فاجتمعت، ولا السنة إلا شهور تلاحقت فكملت والصبر يقرب البعيد، ويسهل العسير وبالله التوفيق. * * *

التاسع عشر من شعب الإيمان وهو باب في تعظيم القرآن

التاسع عشر من شعب الإيمان وهو باب في تعظيم القرآن وذلك ينقسم إلى وجوه: منها تعلمه، ومنها إدمان تلاوته بعد تعلمه، ومنها إحضار القلب إياه عند قراءته والتفكير فيه، وتكرير آياته وترديدها واستشعارها يهيج البكاء من مواعظ الله تعالى ووعيده فيه. ومنها افتتاح القراءة بالاستعاذة. ومنها قطع القراءة في وقته بالحمد والتصديق، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والشهادة له بالتبليغ، فإذا ختم القرآن وقرأه كله. فلذلك آداب. منها: أن يعود إلى أوله فيقرأ أشياء، منه ثم يقطع. ومنها أن يجمع أهله وولده عند الختم. ومنها أن يتحر للختم أول النهار وأول الليل. ومنها التكبير قبل الدعاء. ومنها الدعاء بما يراد من أهل الدين والدنيا. ومن تعظيم القرآن: الوقوف عند ذكر الجنة والنار والرغبة إلى الله في الجنة والاستعاذة به من النار. ومنها الاعتراف لله بما يقرر به في آيات القرآن. ومنها السجود في آيات السجود منه. ومنها أن لا يقرأ في حال الجناية، ولا الحيض. ومنها: أن لا يحمل المصحف ولا يمس في غير الطهارة. ومنها: تنظيف الفم لأجل القراءة بالسواك والمضمضة. ومنها: تحسين اللباس عند القراءة والتطيب، وإن كان الطيب دائمًا إلى الفراغ من القراءة فهو أحسن وأفضل. ومنها أن يجهر بالقراءة في الليل ويسر به في النهار إلا أن يكون في موضع لا لغو فيه ولا صخب. ومنها أن لا يقطع السورة بكلامه الناس، ويقبل على قراءته حتى يفرغ منها.

ومنها أن يحسن صوته للقراءة أقصى ما يقدر عليه. ومنها. أن يرتل القراءة ولا يهذها هذاء، ومنها أن لا يقرأ القرآن كله في أقل من ثلاث. ومنها أن يعلم القرآن من يرغب إليه فيه، ولا يترفع عنه، بل يحتسب الأجر فيه ويغتنمه. ومنها أن يقرأ بالقراءة المستفيضة الجمع عليها، ولا يتعداها إلى الغرائب والشواذ. ومنها: أن لا يقبل القراءة إلا من العدول العلماء بما أخذوا وبما يؤدوا. ومنها: أن لا يعطل مصحفًا إن كان عنده. ولا يأتي عليه يوم لا ينظر فيه ولا يقرأ فيه. فإن كان يحفظ القرآن قرأه من المصحف وقتًا، وغير ناظر فيه، ولا يهمله إهمالاً، ومنها أن يقطع قراءته آية آية ولا يدرجها إدراجًا. ومنها أن يتحرى بقراءته وختمه الصلاة، فتكون قراءته فيها ما استطاع ولم يمنعه مانع. ومنها أن يعرض القرآن في كل سنة ما هو أبين فضلا في القراءة منه، وأولى الأوقات بذلك شهر رمضان. ومنها: أن يزداد من القراءة في شهر رمضان على ما يقرأ في غيره. ومنها ترك الممارات في القرآن. ومنها أن لا يقرأ القرآن بالظن، ولا يقال معنى هذه الآية هكذا، إلا بدلالة تقوم عليه. ومنها أن لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ولم يتجاوزها إلى أن يعرب القرآن ويقرأه بالتفخم ولا يتجوزانه. ومنها أن يؤخذ في سورة منه لم يجاوزها إلى غيرها قبل أن يستكملها. ومنها أنه إذا أراد أن يتم الختم له بإطلاق، استوفى الحروف المختلفة فيها فلا يبقى حرف يثبته فارئ من إعلام القرآن ولم يقرأوه. ومنها أن يقرأ في أول كل سورة ما خلا سورة التوبة "بسم الله الرحمن الرحيم" ويحافظ على ذلك في فاتحة الكتاب أشد من محافظته عليه في غيرها، بل لا تحل بها فلا يكون قد ترك الآية الأولى منها. ومنها أن يعرف في كل سورة جاء في فضلها أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدع قراءتها في وقت ورد الخبر بفضل قراءتها فيه. ومنها أن يستشفي قارئ القرآن بما يجيئه منه، ويتبرك بقراءته على نفسه وعلى غيره، مريضًا وحزينًا وخائفًا ومغتمًا ومسافرًا، وقته وغير وقته، ويتبعه الدعاء والمسألة. ومنها أن يفرح بما أتاه من القرآن فرح الغني بغناه، وذي السلطان بسلطانه ويستعظم نعمة الله تعالى عليه ويحمده عليه. ومنها أن لا يباهي بقراءة القرآن قارئًا غيره.

ومنها أن لا يقرأ في الأسواق والمجالس لستأكل الأموال بالقرآن. ومنها أن لا يقرأ في الحمام، ولا في المواضع القذرة، ولا في حال قضاء الحاجتين. ومنها أن يتعمق في القراءة، فيقومه بقوم القدح، ويتحرى أن لا يفاوت مدة مدة ولا همزة همزة، ولا أن يخرج الحرف إلا من جميع مخرجه، فتكون الألفاظ عند ذلك بلسانه كما يلاك الطعام. ومنها أن الجماعة إذا اجتمعوا في مسجد وغيره يقرأون القرآن، لم يجهر به بعضهم على بعض جهرًا يكون فيه متخالجين متنازعين، وهذا في غير الصلاة والخطبة، وأما فيهما فالإمام يقرأ وينصت القوم لما يجهر به منه، وإن قرأوا خلفه يجهروا ولم يزيدوا على أن يسمعوا أنفسهم، ولا يقرأ أحد في حلل الخطبة إن كان شيئًا، وإن قرأ أحد لجماعة لا في صلاة جهرًا نصت له الباقون إلا أن يكون فيهم مصل ولا ينصت. ومنها أن لا يحمل على المصحف كتابًا آخر، ولا ثوب ولا شيء خطير ولا حقير، إلا أن يكون مصحفان، فيوضع أحدهما فوق الآخر بمتجوز. ومنها أن يفخم المصحف فيكتب مفرجًا بأحسن خط يقدر عليه، ولا يصغر مقداره ولا يقرط حروفه. ومنها أن لا تخلط من المصحف ما ليس من القرآن بالقرآن كعدد الآيات والسجدات والعشرات، والوقوف واختلاف القرآن ومعاني الآيات. ومنها أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل ونصب الشموع فيه، ويزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد وتحليقها، ومنها تعظيم أهل القرآن وتوقيرهم كتعظيم العلماء بالأحكام أو أكثر وبالله التوفيق. فذلك خمسون فصلاً حضر لي ذكرها فأثبتها، ولم أنكر أن يكون في الباب عشرة. فأما تعلم القرآن فأول وجوه تعظيمه، لأن ترك التعليم إغفال له وتصنيع، والتعليم ولوع به وحرص به، وعرفان بقدره. وجاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا القرآن مأدبه. فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، وإن هذا القرآن حبل الله المتين والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، نجاة من تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يرفع ويستعيب، لا تغني عجائبه، ولا يخلق عن كثير الرد، فإن لأحدكم على تلاوة كل حرف عشرة حسنات، أما إني لا أقول بألف لام ميم، ولكن بألف عشرًا وبلام عشرًا وبميم عشرًا).

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيكم يحب أن يعدو إلى بطحان أم الحقيق فيأتي كل يوم بناقتين كرماوين، وهراوين بأحدهما في غير إثم بالله ولا قطيعة رحم قالوا: كلنا يا رسول الله، الله يحب ذلك. فقال: لا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير من ناقتين وثلاث خير من ثلاث ومن أعدادهن من الإبل). وقالت عائشة رضي الله عنها، ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، فقال: (أولم تروه يتعلم القرآن)؟ وأيضًا فإن من القرآن ما تحب قراءته في الصلاة، ومنها ما شئت قراءته فيها. وفيه أحكام بعبد بها خلقه. وفيه وعد ووعيد، ومواعظ وقصص، ولا يخلو كل واحد منهما من عوض كان في المخاطبة. فمن لم يتعلم القرآن لم يعلمه، ومن لم يعلمه، لم يعلم ما فيه، ولم يمكنه امتثال ما أمروا، ولا الإنتهاء عما نهى، ولا التصرف عما صرف ولا الاستبشار بما بشر، ولا التهيب بما هيب، ولا الاتعاظ بما وعظ، ولا القيام بفرض التلاوة أو سنتها. فصح أن التعلم أول ما يجب من حقوق القرآن وبالله التوفيق. فقال:} يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون {وأمر جل ثناؤه فقال:} ومن الليل فتهجد به نافلة لك {وسمى الله تعالى القرآن ذكرًا. وتوعد من أعرض عنه ومن تعلمه ثم نسيه، فقال عز وجل:} كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرًا، من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرًا، خالدين فيها وساء لهم يوم القيامة حملاً {. وقال بعد ذلك بآيات:} ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال: رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تنسى {. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم) وعنه صلى الله عليه وسلم. (إن من أكبر ذنب يوافي به أمتي يوم القيامة سورة من كتاب الله كانت مع أحدهم

فنسيها) وإن كان نسيان القرآن من الذنوب بهذا المحل، ومعلوم أنه لا احتراز إلا بإدمان القراءة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم. (يا أهل القرآن لا توسدوه واتلوه حق تلاوته، آناء الليل والنهار وتغنوه وتقنوه، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون). قال أبو عبيدة: تغنوه أي اجلعوه غناكم من الفقر، ولا تعدوا إلا ردك مع فقراء، وتقنوه أي اقتنوه، كما تقتنون الأموال. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حسد إلا على اثنين. رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار. ورجل أتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل والنهار). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (تعهدوا القرآن، فلو أشد تقلبًا من صدور الرجال من النعم من عقلها) وعنه صلى الله عليه وسلم (إن الذي يتعد القرآن ويستند عليه، له أجران. والذي يقرأه وهو خفيف عليه، فهو مثل السفرة الكرام البررة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة، ومن قرأ آية من كتاب الله كانت له نورًا يوم القيامة). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن القرآن ليقرئ صاحبه يوم القيامة). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب فيقول: هل تعرفني؟ هل تعرفني؟ فيقول: ما اعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي اظمأتك في الهواجر، واسهرت ليلك. وإن كان تاجر من رواء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة. قال: فيعطي الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسي والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا. فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال لهما: يأخذ ولدكما القرآن. ثم يقال

له: اقرأ واصعد في درجة الجنة وغرفها. قال: فهو في صعود ما دام يقرأ، هذا كان أو ترتيلاً). وعنه صلى الله عليه وسلم: (أن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله، فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن). وعنه صلى الله عليه وسلم: (البيت إذا قرئ فيه القرآن حضرته الملائكة، وسكتت عنه الشياطين واتسع على أهله، وكثر خيره، وقل شره. إن البيت إذا لم يقرأ فيه القرآن حضرته الشياطين وسكتت عنه الملائكة، وضاق على أهله، وقل خيره وكثر شره). وعنه صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل:} من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته ما أعطي السائلين وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه {. فصل فإن قال قائل: ما وجه التقرب إلى الله بقراءة القرآن، وإنما نزل القرآن ليعمل به: فما أن يردد الواحد بلسانه الأوامر والنواهي وغيرهما بما خوطب من الفضل! فالجواب -وبالله التوفيق- إن في القراءة عدة معاني: أحدهما أنه خطاب الله تبارك وتعالى، وكتابه الجامع وبيان ما يرضاه لعباده وما لا يرضاه لهم، وما هو جاز لهم به إن أساءوا أو أحسنوا. وفيه أنه معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكبر إعلامه. وفيه أن الخطاب به قائم لمن يأتي إلى قيام الساعة. فأما أنه خطاب خاطب الله تعالى به، فإنه يقتضي أن يقرأ الموقف عليه. فإن من أمحل المحال أن يخاطب السيد عبده في كتاب على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقروا كتابه ولا يعلموا خطابه.

فإن قيل: إذا قرأه الرسول عليهم عند التبليغ، فما يبقى منهم العمل. فما معنى قراءتهم قبل الرسول لا يقرأوه على كلهم، إنما يقرأ على من يحضره إن قرأوا منه ما يأمر بإثباته إلى أن يكون الراغب فيه يتعلمه، فيقرأوه، وعلى أنه لو قرأ كل ما تزل عليه جميع أصحابه ما كان من المعلوم أنهم لا يحفظونه بأول ما يسمعونه، ولا يتفهمونه حتى يعبدوه بعد ذلك على أنفسهم، ويتفكروا فيه ويسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يشكل عليهم من معانيه. إذا كان كذلك، صح أنهم لا يستغنون بقراءة الرسول عليهم عن قراءة أنفسهم. ثم إذا كان منه الجلي الواضح، ومنه الحفي الغامض، ومنه ما لا ينتظم بما يجاوره وإنما ينتظم لشيء بعيد منه، قد يقدمه، ومنه ما يحتاج إلى انتظار عنه فيما بعد. فإن وجدوا لا يعلم أنه مضمر محذوف، احتيج إلى تكرير القراءة مع التأمل البليغ ليوقف على حال انتظام ويوصل إلى معرفة الأغراض والمقاصد، فكانت القراءة تكريرها من هذا الوجه برواية. وأما أنه معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يقتضي قراءته ليفرغ المعروف منه السمع الذي هو ملاك الكلام، فيعلم السامع أنه منظوم لا منثور، وأن نظمه لا نظم الشعر ولا نظم الرسائل والخطب، فثبت أنه خارج من المنظوم المعهود، مباين لكلام البشر. ويقتضي براءته من وجه، وهو أن يصان بكثرة القراءة من المصاحف، وحفظًا من أن ينسى أو يرتاب بشيء منه، أو يكن ملحد على تغيير شيء منه أو زيادة حرف أو نقصانه. ويكون أحد وجوه حفظ الله تعالى الذي يضمنه بقوله:} إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون {. أمر العباد بإدمان قراءته، فلا ينسى ولا يعرض بشيء مما ذكرنا. وأما أن الخطاب به قائم إلى قيام الساعة، فإنه يقتضي إدامة قراءته، وتعليم الأباء والأبناء إياه، واستيداع الكبار والصغار ما حملوه، فإن الأذى من البعض إلى البعض، ومن المتقدم إلى المتأخر هكذا يكون لا وجه له غيره. فكانت القراءة من هذا الوجه ومن الوجهين اللذين ذكرتها قبل، برًا وقراية، ولو لم يكن فيه إلا أنه كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على النبي

الكريم صلوات الله عليه، فكان من حقه أن يقرأ ويدرس تشرفًا وتبركًا، بمشاركة الرسول من الكريمين في تلاوته وشكر النعمة لله جل ثناؤه علينا فيما خلق لنا من اللسان، وعلمنا من البيان بقراءة كلامه. فكيف وتبين المعاني المصطرة لنا إلى القراءة ما سنبين ذكرها والله أعلم. فإن قيل: احسبوا أن الذي يعرف اللسان بقراءة الأغراض التي وضعت، فالذي لا يحسن اللسان، أي فضل يبتغي بقراءته؟ قيل: أما القراءة بحفظ القرآن عن أن ينص ويدرس، وصيانته عن أن يريد فيه مخالف حرفًا أو ينقص، فالذي يعرف اللسان، والذي لا يعرفه، فيها سواء. وأما الأغراض الأخر، فإن الذي لا يعرف اللسان لا يخلو من أن يكون مخاطبًا بما في القرآن، فهو يقرأه إعظامًا بقدر ما خوطب به، وإجلالاً للمخاطب به، وفرجًا بما ترك من عند ربه، وشكر الله تعالى على إطلاق لسانه، وإيمانًا وتصديقًا بما يجري على لسانه، وقد تكون قراءة القرآن لمن يحسن اللسان، ولمن لا يحسن من وجه آخر. وهو أن الناس مجبولون على النسيان والغفلة والسهو، والقرآن خطاب لهم دائم ما دام الناس. فاقتضى ذلك أن تكدره قراءة القرآن، ويعبد كل واحد منهم كل وقت على نفسه، فيقوم ذلك مقام تخليد خطابه من الله تعالى حملا للنفس على سماعه، وعلى امتثاله، والوقوف عند حدوده، والعمل بجميعه كما أمر به والله أعلم. وأما إحضار القارئ قلبه ما يقرأه، والتفكر فيه، فلأنه خطاب الله تعالى الذي يخاطب به عباده. فمن قرأه ولم يتفكر فيه، وهو من أهل أن يدركه بالتفكير، كان كمن لم يقرأه لأنه لم يصل إلى غرض القراءة من قراءته. وأيضًا فإن القرآن يشتمل على آيات مختلفة الحقوق، فإذا ترك التفكير فيما يقرأ، استوت الآيات كلها عنده، فلم يرع لواحد منها حقه. فثبت أن التفكر من شرائط القراءة ليتوصل إلى إدراكه ومعانيه. وأيضًا فإن ترديد الآية والتخشع بالبكاء عندها سنة القارئ، فإذا لم يعرف ما يقرأ لغفلته عنه لجهله به، لم يميز موضع الترديد، ولا جادت عينه بدمع. فصح أن سنته إذا

كان عالمًا باللسان فهما مميزًا أن يقرأ متفكرًا، ويبين ما قلت ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ردد هذه الآية حتى أصبح:} إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم {. وقال محمد بن كغيلان: اقرأ إذا زلزلزت، والقارعة، أرددها وأتفكر فيهما أحب إلى من هذا القرآن. وقال سعيد بن عبيد الطائي: سمعت سعيد بن جبير رضي الله عنه، وهو يؤمهم في شهر رمضان، وهو يردد هذه الآية:} فسوف تعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون {. وقال القاسم: رأيت سعيد بن جبير أقام ليله يصلي يقرأ} واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت {فرددها بضعًا وعشرين مرة، وكان يبكي بالليل حتى عمش. وقال الحسن: يا ابن آدم: كيف يرق قلبك وإنما همك في آخر سورتك. وقال بعضهم: بعثتني أسماء إلى السوق، فافتتحت سورة "والطور، وانتهيت إلى قوله عز وجل:} ووقانا عذاب السموم {فذهبت ورجعت وهو يكرر هذه الآية. وقال رجل من قيس يكنى أبا بعد الله: بينا ذات ليلة عند الحسن، فقام من الليل يصلي فلم يزل يردد هذه الآية حتى اسحر:} وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها {. فلما أصبح قلنا: يا أبا سعيد لم تكد تجاوز هذه الآية سائر الليلة، قال: إن فيها معتبرًا ما يرفع طرفًا ولا يرده إلا وقع على نعمة، وما لا يعلم من نعم الله أكثر. وقال أبو سليمان: ما رأيت أحدًا، الخوف على وجهه والخشوع، من الحسن بن جبير قام ليلة حتى الصباح} بعم يتساءلون {يرددها ثم غشي عليه، ثم عاد، فغشي عليه، فلم يختمها حتى طلع الفجر. وأما البكاء فقد روى (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وفي

صدره أزيز كأزيز الرجل من البكاء). وعنه صلى الله عليه وسلم: (أن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا). وأن أبا بكر رضي الله عنه ابتنى بيتًا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينعصف عليه فيبكي المشركين، وابناؤهم معجبون منه وينظرون إليه، وكان رجلاً بكاء لا يملك دمعة إذا قرأ القرآن. وكان عمر رضي الله عنه يصلي بالناس فبكى في قراءته حتى انقطعت قراءته، وسمع نحيبه من وراء ثلاثة صفوف. وقرأ ابن عمر رضي الله عنه:} ويل للمطففين {فلما أتى على هذه الآية} يوم يقوم الناس لرب العالمين {بكى حتى انقطع عن قراءة ما تعمدها. وقال ابن مليكة: كان ابن عباس يقيم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفًا حرفًا، ثم جلى قراءته:} وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد {قال: ثم يبكي حتى يسمع له مسحًا. وجاء إن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاب يقرأ:} فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان {فوقف، فاقشعر وخنقته العبرة، فجعل يبكي ويقول: ويحي من يوم تنشق فيه السماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلها يا فتى مثلها يا فتى). وعن حمران بن أعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية:} إن لدينا أنكالاً وجحيمًا، وطعامًا ذا غصة {فصعق. وأما افتتاح القراءة بالاستعاذة فلأن الله عز وجل يقول:} فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم {وظاهرها وإن كان أمرًا بالاستعاذة بعد القراءة، فالمعنى إذا أردت القراءة، كما قال عز وجل:} إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}.

وهو يريد إذا أردتم القيام إلى الصلاة، ويدل على ذلك أنه تعالى أخبر في آية أخرى أن الشيطان يعارض القارئ في حال قراءته، فقال:} وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمني {ألقي الشيطان في أمنيته. وقال:} وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله أنه هو السميع العليم {. فعلمنا أنه أراد بالاستعاذة للقراءة، أن يستعيذ قبلها قياس من معارضة الشيطان إلا أن يستعيذ بعد انقضاء القراءة. وأيضًا فإن الاستعاذة قبل القراءة أرغب لا حول القراءة من الاستعاذة بعدها، وإنها تدفع كيد الشيطان في التبسط عن القراءة، ومعارضته عند القراءة، ووسوسته بعد القراءة، والاستعاذة بعد الفراغ لا تدفع كيده إلا في ذلك الوقت، فكانت أجمعها للأحوال من المقتصدة على أحديهما والله أعلم. وأما قطع القراءة بالحمد والتصديق، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والشهادة له بالتبليغ، فإنه عمل المسلمين. وقد أخبر الله عز وجل: إن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا:} الحمد لله الذي صدقنا وعده {. وهم لا يشكون، قبل أن يردوا الجنة، أن خبر الله تعالى صدق، وإنما خبره القرآن، فينبغي لمن قرأه أن يحمد الله تعالى على ما أنعم عليه منه، وعرفه من ثناء النعم الجليلة التي تقدم عليهما. إذا أصلح وأحسن لئلا يبخس نفسه حظها بإيثار الفاني على الباقي، ويشهد له عز اسمه بالصدق في أخباره، ويقرن ذلك بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ كان الوقوف على القراءة والوصول إليها من قبله، ويشهد بالتبليغ إذ كان الله تعالى أمره به ففعله، ولم يكتم شيئًا، وكانت الشهادة له بذلك من حقه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه: (ألا هل بلغت: فقالوا اللهم نعم) وكذلك فليقولوا عند كل ختم وقطع. وأما من استوفى القرآن قراءة وختمه، فقلنا أن للختم آدابًا: منها أن يرجع القارئ إلى أول القرآن، فيقرأ شيئًا منه، ثم يقطع، والمعهود من أمر الناس أن يقرأوا فاتحة

الكتاب، ومن سورة البقرة إلى قوله {وأولئك هم المفلحون {والأصل في هذا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل فقال: (الحال المرتحل) قيل لمعناه: الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، ومن آخره إلى أوله كلما حل ارتحل. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم مفسرًا، وهو أنه قيل له: أي الأعمال أفضل؟ قال: (الحال المرتحل) قال: الخاتم المفتتح. ومنها أن يجمع القارئ عند الختم أهله وولده. فإنه يروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يجمع أهله عند الختم. وعنه أنه كان استبقى على ختم القرآن من الليل بقي أربع سور أو خمس سور، فإذا أصبح جمع أهله مختتمه. ويستحب لمن علم بالختم أن يحضر. وروى أن رجلاً كان يقرأ القرآن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ابن عباس رضي الله عنه يجعل عليه رقيبا، فإذا أراد أن يختم قال لجلسائه: قوموا حتى نحضر الخاتمة. وعن ابن مجاهد كانوا يجتمعون عند ختم القرآن ويقولون: الرحمة تنزل، وقال وهب بن الورد: قال لي عطاء، بلغني أن حميدًا الأعرج أن يختم القرآن فانظر، فإذا أراد أن يختم فأخبرني حتى أحضر الختمة. ومنها استحباب الختم أول النهار وأول الليل. فإن إبراهيم التيمي قال: كانوا يقولون إذا ختم الرجل القرآن حلت عليه الملائكة بقية يومه أو بقية ليلته، وكانوا يستحبون أن يجتمعوا في قبل الليل أو قبل النهار. وقال عبد الله بن المبارك: إذا كان الشتاء فاختم القرآن في أول الليل، وإذا كان الصيف فاختمه في أول النهار. ومنها استحباب التكبير، فإن الله عز وجل يقول:} وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا {. واتبع ذلك توبيخ الكفار على تركهم الإيمان بالقرآن ومدح العلماء بالتخشع لله تعالى إذا سمعوه. ثم قال:} قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن {فكان ظاهر ذلك: ادعوا الله إذا قرأتم القرآن. وإن معنى} ولا تجهر

بصلاتك {أي بقراءتك القرآن، أو بدعائك الذي تدعو به إذا فرغت. ثم قال:} وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرًا {. وكما أمر بالحمد، وأجمعوا على أن الحمد مستحب. فوجب أن يكون التكبير مستحبًا. وأيضًا فإن قراءة القرآن عبادة تنقسم إلى أبعاض معدودة متفرقة، فكانت كصيام الشهر. وقد أمر الله عز وجل الناس إذا أكملوا العدة أن يكبروا على ما هداهم. فالقياس على ذلك أن يكبر، فإن القرآن إذا أكمل عدة السور. وقد يخرج الجواب عن التكبير على معنى آخر وهو أنه يبتدئه من سورة والضحى فيكبر عند كل سورة. فإذا قرأ القرآن وختم كبر، فيكون هذا التكبير المستحب للختم دون تحديد المعوذتين بالتكبير بعدها، وإخلاء ما قبلها من التكبير أصلا، والأصل في هذا ما حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حبيب رحمه الله تعالى قال: حدثنا أبو العباس محمد بن الكديمي، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن القسم بن أبي مرة: سمعت عكرمة بن سليمان ابن كثير بن عامر مولى بني شيبة، قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين مولى العاص بن هشام، فلما بلغت والضحى قال: كبر مع خاتمه كل سورة حتى تختم، فإني قرأت على شبل بن عباد مولى عبد الله بن عامر، وعلى عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد ابن خير، أتى الحجاج موسى عبد الله بن الشائب فأمره بذلك. وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك. وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك. وأخبره أبي بن كعب أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك. وصفة التكبير في أواخر هذه السورة، أنه كلما ختم سورة، وقف وتقدم وقال: الله أكبر. ووقف وقفة ثم ابتدأ السورة التي تليها إلى آخر القرآن ثم كبر كما كبر من قبل، ثم اتبع التكبير، الحمد والتصديق والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء. وروى عن جعفر بن محمد قال: حدثني زائر، أنه مر بأبي جعفر في داره التي بمكة

من آخر الليل وهو يدعو ويقول: "اللهم اغفر لي بالقرآن، اللهم ارحمني بالقرآن، اللهم إهدني بالقرآن، اللهم عافني بالقرآن، ويقول ليوسف بن أسباط ما تقول إذا ختمت القرآن، قال: أقول: اللهم لا تميتنا سبعين مرة. وقال المبارك بن فضالة: كان الحسن إذا ختم القرآن دعا بهذا الدعاء، وذكر دعاء ضممت إليه قبله وبعده ما يريد شرفًا، ويعيده تمامًا وهذا حكايته: الحمد لله الخالق المدبر الرازق المقتدر الرافع الخافض الباسط القابض الولي الحميد المبدئ المعيد الفعال لما يريد، أحمده حمد المخلصين، واتقيه وأتوكل عليه توكل الموقنين، وارتجيه وأعبده عبادة المجتنبين، واستشهد به واستعينه استعانة المذعنين، واستلقيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الوهاب القدير الغلاب غفار الذنوب وستار العيوب، وقابل التوب ممن يتوب، وكاشف الغموم، والمجيب دعوة المظلوم ذلك الحي القيوم ذو الجلال والإكرام، الشافي من الأدواء والأسقام، والفارج الكرب العظام، رب المشارق والمغارب، وفاطر السماء والكواكب، والمفضل بالآلاء والمواهب، وخلاق الناس من طين لازب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه سراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ونهج شرائع الملة، وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله الذي اتبعت محمدًا بالنور والضياء والرحمة والشفاء، على حين غرة من الرسل وذو حق من الملك، أمده بالآيات الدلائل البينات، ففتح بكتابه أبو الهدة وعصمنا من موارد الردى، وأخرجنا به إلى النور من الظلمات، وإلى بلج اليقين من الشبهات، وفضله في الدنيا بأشرف الرسالات، وفي الآخرة بأرفع الدرجات، فله فيها المقام المحمود، والمنهل المورود واللواء المعقود، والفخر المشهود، وله الزلفى والفضيلة والقرى والوسيلة والسبق إلى الجان والشفاعة لأهل النيران، إذا تكامل الأنبياء واجتمع الأولياء والأصفياء، ووفيت كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون، فالحمد لله الذي جعلنا من أمته ومستحبي دعوته الدائنين دينه المرتضى، السالكين سبيله الأهدى صلى الله عليه وسلم على محمد أفضل الصلوات وأزكاها وخصه بأجزل التحيات وأنماها، إليه ذو المن الكريم والفضل العظيم، والحمد لله الذي أنزل القرآن وضمنه الهدى والبيان، وعلمنا منه ما لم نكن نعلم، وإن شدنا به إلى السبيل الأقوم ومكنه في صدورنا فوعيناه، ويسره بألسنتنا فتلوناه، وخصه بالإعجاز من وثين المجاز، وبما أورده من أنباء الغيث عن

عوارض الشك والريب، وجعله من عراه التي لا تنفصم ومراتبه التي لا تنقص، وحبله المتين الذي من اعتصم به أمن الزلل، ومن تمسك به أدرك الأمل، حجة لنبيه صلى الله عليه وسلم باقية ودعوة نامية، ونورًا ساطعًا وبرهانًا قاطعًا إلى يوم الدين، يوم يقوم الناس لرب العالمين. دعاء الحسن رضي الله عنه: اللهم ربنا لك الحمد كما هديتنا للدين العظيم، وعلمتنا من القرآن الكريم، اللهم أنت علمتنا ومنك رغبتنا قبل معرفتنا بفضله، اللهم فإذا كان ذلك مثيل وجودك وكرمك لطفًا بنا ورحمة لنا من غير حولنا وقوتنا. اللهم لنا رعاية حقة وحسن تلاوته وإيمانًا بمتشابهه، وتفكرًا في أمثاله، وتثبتًا في تأويله، وهدى في تدبره وبصيرة بنوره. اللهم أنك أنزلته شفاء لأوليائك، وسقما على أعدائك، وعمى لأهل معصيتك وهدى لأهل طاعتك، فاجعله دليلنا على عبادتك، وقائدنا إلى رضوانك، واجعله لنا حصنا حصينا من أعدائك، وحرزًا منيعا من غضبك، وحاجزًا وثيقا من سخطك، ونورًا يوم لقائك يستضيء به في خلقك ونجوز به في صراطك، ونهتدي به إلى جنتك، اللهم إنا نعوذ بك من الشقاء في جمله، والعمى من علمه، والجور في حقه، والعلو في قصده، والتقصير دون واجبه. اللهم أحمل عنا ثقله، وأوجب لنا حقه، وأوزعنا شكره، واجعلنا بغيه، ونحفظه ونقيم حكمه، ونراعي حدوده، ونؤدي فرائضه ونحل حلاله ونحرم حرامه، ونحمي معالمه ونتقي محارمه، وأذل قلوبنا عند عجائبه التي لا تنقص، وأشربنا لذة في ترديده، وخشية عند ترجيعه. اللهم أنفعنا بما صرفت فيه من الآيات، وكفر عنا بتلاوته السيئات، ولقنا البشرى الحسنة عند الممات. اللهم أنك سميته مباركا عصمة فاعصمنا به من كل شبهة وبدعة. اللهم ألزم به قلوبنا السكينة والوقار، والفكرة والاعتبار والتوبة والاستغفار، حتى لا نشتري به ثمنا، ولا نبغي بالقرآن بدلاً، ولا نؤثر عليه عرضا من عرض الدنيا أبدًا، إنك سميع الدعاء، انتهى دعاء الحسن. اللهم ارعنا بترك معاصيك ما أبقيتنا، وارحمنا بترك ما لا يعنينا وارزقنا العمل بما يرضيك عنا. اللهم نور بكتابك قلوبنا، واشرح به صدورنا، وأقر به عيوننا، واستعمل به أبداننا وأجل به أحزاننا، وافتح به أسماعنا وأبصارنا، وطهر به أشعارنا وأبصارنا، اللهم اخلص به بصائرنا وأصلح به شرائرنا، واغفر به صغائرنا وكبائرنا. اللهم اجعلنا به

في حرزك وأمانك وعبادتك وجوارك عز جارك، واقنع عائدك، ولا إله غيرك. اللهم أصرف به عنا شر كل جبار وشر كل شيطان مريد، وشر كل قريب وبعيد، وشر كل ضعيف من خلقك أو شديد. اللهم انفعنا بالقرآن العظيم، وارحمنا به اللهم أكرمنا بالقرآن الكريم، وارفعنا به. اللهم أصلحنا بالقرآن المجيد وأجبرنا به، اللهم احفظنا بالقرآن واحرسنا به. اللهم سلمنا بالقرآن واعصمنا به. اللهم انصرنا بالقرآن العظيم واكلأنا به، اللهم أعذنا بالقرآن العظيم من كل سوء، واغفر لنا بالقرآن العظيم كل ذنب، واستجب لنا بالقرآن العظيم كل دعاء، واشفنا بالقرآن من كل عين وداء. اللهم فرج بالقرآن عنا كل غمة، واكشف عنا بالقرآن كل كربة، ونبهنا بالقرآن من كل رقدة، وأزح عنا بالقرآن كل غفلة، وأصرف عنا بالقرآن كل خطية. اللهم وسع علينا بالقرآن رزقك، وأنزل علينا بالقرآن فضلك الذي نرجوه، يا من يجيب داعيه ولا يجيب راجيه، اللهم أكرمنا بالقرآن في مجلسنا هذا كرامة لا تعيينا بعدها أبدًا، وارفعنا به رفعة لا يضعنا بعدها أبدًا، وأعززنا به عزًا لا تذلنا بعده أبدًا، وازرقنا رزقًا هنيئًا لا تحرمنا بعده خيرًا أبدًا، اللهم زدنا به حب الإيمان والإسلام والصلاة والزكاة والصيام وإدمان حج بيتك الحرام، وجهاد أعدائك اللئام، وإقامة الحدود والأحكام، كما حببت إلى الجائع الطعام وإلى الظمآن الشراب، وإلى السقيم الشفاء، وإلى المكروب الفرج، اللهم اجتبينا به حياة الأخيار، وتوفنا مع عبادك الأبرار وارزقنا العافية في أنفسنا وذرياتنا وأهالينا وأموالنا، اللهم استر به عوراتنا وآمن به روعاتنا، واغفر به خطياتنا واحفظنا من جميع حياتنا، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمورنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مصيرنا، اللهم إنا نسألك من خير ما سألكه محمد عبدك ورسولك، ونعوذ بك من كل شر عاذ بك منه محمد عبدك ورسولك. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم أنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم أنك حميد مجيد. اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، واحشرنا في زمرته غير حزانى ولا نادمين ولا ضالين ولا مفتونين، إنك أرحم الراحمين، اللهم لا تجعلنا بالستر مغرورين وبالناس مفتونين واجعلنا خيرًا مما يطيقون. ولا تؤاخذنا بما يقولون فإنك تعلم وهم لا يعلمون. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا،

ارحمهم كما رعونا صغارًا، أجرهم بالإحسان إحسانًا، وبالسيئات مغفرة ورضوانا. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، ومعلمينا ونقلة آثار محمد نبينا، وحافظي إعلام دينك علينا، ومؤدي أمانتك إلينا، بالرحمة والغفران والكرامة والرضوان واجعلنا لهم في الخيرات تابعين، ولما ارتضيت من سبيلهم سالكين، وعلى ما حمدت من آثارهم تائبين، يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين. اللهم اكلأ الحوزة وأصلح الراعي والرعية، واستعملنا بطاعتك ووفقنا لأن نعبدك حق عبادتك، اللهم صلي على ملائكتك المقربين وأنبيائك والمرسلين، وسلم عليهم وعلى عبادك الصالحين من أهل السموات والأرضين، واخصص نبينا محمدًا بأفضل الصلاة والتسليم، اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك فأعطنا، ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك فجنبناه، وآتنا في الدنيا حسنة وقنا عذاب النار. وأما الوقوف عند ذكر الجنة والمسألة والاستعاذة، فلما رواه حذيفة رضي الله عنه قال: صليت ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فافتتح سورة البقرة، فقرأ وأطال: وما مر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا بآية عذاب إلا تعوذ، ولا بآية تنزيه إلا سبح. وأما الإعتراف لله تعالى بما يخبر عن نفسه فلما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا قرأ:} والتين والزيتون {فبلغ} أليس الله بأحكم الحاكمين {قال: بلى. وإذا قرئ} فبأي حديث بعده يؤمنون {قال (آمنت بالله وبما أنزل). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في الصلاة:} فألهمها فجورها وتقواها {فقال: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها). وقال علقمة رضي الله عنه: صليت إلى حيث عبد الله، فاستفتح} طه {فلما أتى على هذه الآية} وقل رب زدني علما {قال: رب زدني علما. ثم ختمها وركع. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا قرأت} قل أعوذ برب الفلق {، فقل: أعوذ برب الفلق. وإذا قرأت:} قل أعوذ برب الناس {فقل أعوذ برب الناس.

وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أتى على هذه الآية:} ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله {بكى ثم قال: بلى يا رب! بلى يا رب! وأما السجود من آيات السجدة، فعمل متوارث، وشريعة ظاهرة لإخفاء بها إلا ما اختلفت فيه من السجود في المفصل، وسجود القرآن أربع عشرة سجدة: منها في الحج سجدتان، وأما سورة ص، ففيها سجدة لكنها ليست سجدة تلاوة، وإنما هو خبر عن توبة نبي، قال ابن عباس رضي الله عنه: سجدها داود توبة، وسجدها نبيكم صلى الله عليه وسلم شكرًا، ونسجدها إتباعًا لنبينا صلى الله عليه وسلم، وسجدات التلاوة لا تخلو -ولعدة منها- أن تكون عند ذكر السجود إما مدحًا أمر به أو مدحًا لمن يفعله من المكلفين وثناء عليه، وإما أخبارًا عما لا تكليف عليه بأن تكون سجودًا منه لله تعالى. وأما استبطاء لمن لا يسجد إنكارًا لترك السجود عليه، لا تخرج أحوال سجود التلاوة من هذه الوجوه الأربعة. وسورة "ص" لا ذكر فيها للسجود أصلاً، وإنما فيها ذكر الركوع، فقد يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قبل خبرا لأنه إذا ركع سجد، ثم إن الله تعالى بين لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأخيه داود المشاركة في السرور بمغفرة الله تعالى على إحسانه إليه، فكان من نبينا أن يقتدي به ويسجد كسجوده، وليس ذلك من سجود التلاوة لسبيل. ومما يتفرع عن هذا الأصل أن القارئ إذا قرأ في غير الصلاة سجد في (ص)، وإن قرأ في الصلاة لم يسجد في "ص"، لأنها سجدة شكر، ولا يصلح سجود للشكر في الصلاة، ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد هذه السجدة في الصلاة، فإن وجد ذلك في شيء من الروايات، وثبت فجازت هذه السجدة في الصلاة، كانت كل سجدة للشكر مثلها والله أعلم. وموضع السجدة في (حم)، السجدة} إن كنتم إياه تعبدون {في قول أهل المدينة وفي قول أهل الكوفة} وهم لا يسأمون {. وهو المختار قياسًا على التي في سورة النحل، وما عدا هذا من الكلام في هذه السجدات فموعظة كتب للأحكام. وأما

حظر القراءة على الجنب والحائض، فلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة، والحيض أشد منها، وهو بتحريم القراءة على الحائض. وفي كتاب عمرو بن حزام الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهر، ولا يمتنع من قراءة القرآن إلا جنب وقليل القرآن وكثيره في ذلك سواء، لأن كلاهما قرآن ولأن السجدة والصلاة الثانية في التحريم بالجنابة والحيض سواء والله أعلم. وأما حمل المصحف ومسه، فإن الله عز وجل وصف القرآن بأنه:} في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون {. وقد علمنا أنه ليس في السماء إلا مطهر، فدل ذلك على أن المراد بيان أن الملائكة إنما وصلت إلى مس ذلك الكتاب لأنهم مطهرون، والمطهر هو الميسر للعبادة والمرضي لها. فثبت أن المطهر من الناس هو الذي ينبغي له أن يمس المصحف، والمحدث ليس كذلك، لأنه ممنوع عن الصلاة والطواف، والجنب والحائض ممنوعان عنهما لقراءة القرآن فإنه جاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نظفوا أفواهكم فإنها مجاري القرآن). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) وذلك - والله أعلم لأن المستن يطهر الفم لأجل الرب، إذ كان غرضه أن لا يتلفظ بحروف القرآن، ولا تخالطه رائحة فمه الأصوات التي هي الحروف إلا وفمه نظيف ورائحته غير خبيثة. وذلك راجع إلى تعظيم كلام الرب، فلذلك كان مما يرضيه عنه والله أعلم. ومما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعظام القرآن من هذا الوجه أنه قال: (أفلا قام الرجل يتوضأ ليلاً أو نهارًا، فأحسن الوضوء واستن، ثم قام فصلى، أطاف به الملك ثم دنا منه حتى وضع فاه على فيه، ثم قرأ الآية، وإذا لم يستن أطاف به ولا يضع فاه على فيه) استن: استاك، انتقل من السنة، لأن السواك سنة. وأما على الحسن من الثياب والتطيب، فقد جاء عن تميم الدرامي رضي الله عنه أنه

إذا قام بالليل للتهجد اعتكف بالغالية. وقال مجاهد: كانوا يكرهون أكل الثوم والكرات والبصل للقيام من الليل، ويستحبون أن يمس الرجل عند قيامه من الليل طيبًا يمسح به ثيابه، وما أقبل من اللحية. وقال قتادة: ما أكلت الكرات منذ قرأت القرآن. وقال عون بن عبد الله: كان عبد الله بن مسعود تعجبه الثياب النظيفة، والريح الطيبة إذا قام إلى الليل، وعن مجاهد أنه كان يقرأ أو يصلي، فوجد ريحًا فأمسك عن القراءة حتى ذهبت. وأما الجهر بالليل والإسرار بالنهار، فإنه روى عن كريب قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة بالليل، فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو أراد حافظ أن يحفظها لفعل. وقال أم هانيء: كنت أمسع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وأنا على عرسي، وأما الإسرار بالنهار، فلأن الصلاة التي تقام بعد طلوع الشمس على إسرار القراءة فيها، ولو كان في الجهر بها في النهار فضل لكانت الصلاة به أولى، لأن السر يكل فيستريح، فيأنس بالجهر. والجاهر يكل فيستريح بالإسرار، إلا من قرأ بالليل جهرًا الأكثر، وأسر الأقل، وإذا قرأ نهارًا أسر الأكثر وجهر بالأقل. روى بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النهار قال: كان يسر بالقراءة، وربما أسمعنا الآية والآيتين أحيانًا. وقال عبد الله بن قيس: سألت عائشة رضي الله عنها: كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ أكان يجهر أو يسر؟ قالت: قد كان يفعل، وربما جهر وربما أسر، فقلت: الحمد لله الذي جعل في الدين سعة. وعن أبي هريرة أنه كان إذا قرأ رفع طورًا وخفض طورًا. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. وإذا قرأ بالنهار في بيت أو مسجد أو موضع لا لغو فيه ولا صخب، ولم يكن في صلاته، رفع صوته بالقراءة. وإن قرأ بالليل في مجمع قد رفعت فيه الأصوات، وكان يعلم أنه إن جهر لم ينصت له، فلا ينبغي له أن يقرأ إلا بإسرار والله أعلم. وأما أنه لا يقطع القراءة لمكالمة الناس فلأنه إذا انتهى في القراءة إلى أنه، وحضره كلام، وقد استقبلت الآية التي بلغها والكلام، فلا ينبغي أن يؤثر كلامه على القرآن، ولأن في إتباعه القرآن بعضه بعضًا من البهجة ما يظهر عند إتباع، ويخفى عند التقطيع،

فكان في التقطيع سلب لبعض رتبة القرآن، فاستحق أن يكون مكروهًا، المحادثة خلال القراءة استخفاف بالقرآن. ألا ترى أن الرجل إذا حدث أخاه أو مثله، فقد يقطعه بحديث غيره، وإذا حدث من فوقه ممن يهابه لم يفعل ذلك، فينبغي أن تكون هيبة القرآن في صدره أكثر من هيبة غيره. وأما تحسين الصوت بالقرآن فلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (زينوا القرآن بأصواتكم). وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا) وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أذن الله بشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن) وفسرته أم سليم وأبو هريرة يجهر به. وسئل الليث بن سعد رضي الله عنه قال: يتحزن به، والذي يظهر بدلالة الأخبار أنه أراد بالتغني أن يحسن القارئ صوته به مكان ما يحسن المغني صوته بغنائه. إلا أنه يميل به نحو التخزن دون التطرب. أي قد عوض الله تعالى من غناء الجاهلية خيرًا منه، وهو القرآن. فمن يحسن صوته بالقرآن ولم يرض به بدلاً من ذلك الغناء، فليس منا، إلا أن قراءة القرآن لا يدخلها من النغم، وفضول الألحان وترديد الصوت ما يلبس المعنى ويقطع أوصال الكلام، كما قد يدخل ذلك كله الغناء. إنما يليق حسن الصوت والتحزن دون ما عداهما. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحسن الناس قراءة؟ قال: (من إذا سمعته يقرأ، أرأيت أنه يخشى الله). وقال: (إن هذا القرآن نزل بحزن فاقرأوه بحزن). أو كما قال والله أعلم. وأما ترتيل القراءة، فلقول الله عز وجل} ورتل القرآن ترتيلا {. وجاء عن

حفصة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة ويرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لا تبتروا القرآن كبتر الدفل، ولا تهذوه كهذي الشعر، ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة. وأيضًا فإن التفكر أمكن عند الترتيل منه عند الهذي، فكان الترتيل لذلك أولى والله أعلم. وأما قراءة القرآن في أقل من ثلاث، فإن عبد الله بن عمر رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم ينفعه). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يقرأه في أربعين، ثم في شهر، ثم في عشرين ثم في خمس عشرة ثم قال في عشر، ثم قال سبع ولم ينزل من السبع. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وكان عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ القرآن من الجمعة إلى الجمعة، وفي رمضان في كل ثلاث. وكان تميم الدرامي رضي الله عنه يختم في كل سبع. وكان طلحة بن مصرف وحبيب ابن ثابت، والمسيب بن رافع يقرأون القرآن في كل ثلاث، ثم يصبحون في اليوم الذي ختموا فيه صيامًا. وأما تعلم القرآن فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) قال أبو عبد الرحمن السلمي، وذلك أقعدني هذا المقعد، وكان علم القرآن من زمن عثمان رضي الله عنه إلى زمن الحجاج. وأيضًا فإن تعلم القرآن أمانة على الدين، فهو كتلقين الكافر الشهادة ليسلم. وأيضًا فإن تعليم معاني القرآن من لا يحسنه، بر وقربة لمن يحسنه، فتعلم القرآن نفسه أولى أن يكون ذلك. وأيضًا فإن علم القرآن فضل وتعليمه من لا يحسنه إفادة من المعلم إياه الفضل الذي

عنده، فلا يجوز أن يختلف ذلك عن إعطاء الغني الفقير وإشباع الجائع، وكسوة العريان وكل ذلك مما إذا جعل لوجه الله تعالى كان برًا وقربة، ولذلك تعليم القرآن والسنن والله أعلم. وإنما استيقن الناس لمعلمين لمعنيين: أحدهما أنهم يقصرون أيامهم على معاشرة الصبيان الذين لا عقول لهم، فإذا فارقوهم خلوا بنسائهم وذراريهم، فيؤثر ذلك على تطاول الأيام في عقولهم وبصيرتها، وينقبض منها. كما أن من عاشر العلماء والحكماء والفضلاء، ولم يكن يخالط غيرهم ازداد بذلك عقله، وقويت بصيرته. ونبل رأيه. وأما أبو عبد الرحمن السلمي وأشباهه فلم يكونوا بهذه الصفة، وإنما كان الواحد يأتيهم فيلقنونه آيات فيأخذها وينصرف فلا يمنعهم ذلك من غشيان مجالس الكبر والاختلاط بهم والاستفادة منهم، ولا يتضررون بالتعليم تضرر من ذكرنا. والوجه الآخر: أن المعلمين لما أرصدوا أنفسهم لتعليم الصبيان ابتغوا عليه الاجعال، ولما كثوا صار كل واحد منهم يرضى عن العمل الكبير والشغل الطويل بالجعل اليسير، خيفة أنه لم يجب إلى التعليم بما يراود عنه من الجعل الطفيف، إنابة لصاحبة، وصاروا مع ذلك يطمعون في أطعمة الصبيان ليغالبونهم عليها، ويحملهم الشره على ضروب من التذلل، ومن رضي بمثلها لنفسه لم يوقر ولم يبجل، فإنما أوتوا من هذا الوجه، لا من تعليم القرآن. فإن نفس التعليم توجب التفضيل والتشريف وتحرم التحقير والتصغير، ومن استحقر معلمًا لأجل تعليمه خيف عليه، فقد بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، وقال:} علمه شديد القوى {وما تعلم أول من تعلم من الأمة إلا من النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يجوز لأحد أن يترفع عن تعليمه أو يستحقر من يتصدى للتعليم وقد كان الأولون الذين ذكرنا، إنهم كانوا يعلمون للقرآن بمعزل عن هذه الرذائل، كما كانوا بمعزل عما وصفنا قبل من الشمائل، فلذلك استحقوا المدح والثناء، رضي الله عنهم وغفر لهم. وأما قراءة القرآن بالقراءات المستفيضة دون الغرائب والشواذ، فلأن في الشهور المستفيضة مندوحة عن الشاذ الغريب، فكان تركها أحوط لئلا يتقرب إلى الله عز وجل بقراءة من لا يمكن القطع بأنه من عند الله من غير ضرورة. وليس ذلك كالأخبار الخاصة

تقبل من الأفراد بعد أن يكونوا عدولاً، لأنها إنما تقبل إذا لم يوجد في الثبات ما هو أقوى منها فتكون بالضرورة هي المؤدية إلى فتواها. ومثل هذه الضرورة لا تقع إلى شواذ القرآن، فلذلك كان تركها أولى والله أعلم. وأما ترك القبول إلا عن العدول المتميزين، فلأن الإخبار بالقراءة شهادة على الله عز وجل ومعلوم إن الشهادة على أناس لا تقبل إلا من العدول المتميزين، فإن لا تقبل على الله إلا منهم أولى وأحق والله أعلم. وأما القراءة من المصحف فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قراءة القرآن في غير المصحف ألف درجة، والقراءة في المصحف تضاعف على ذلك الفي درجة). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ. ودخلوا على عمر رضي الله عنه وهو يقرأ في المصحف -وكان والله قارئًا- فقال: إني أكره أن يأتي علي قوم لا أنظر في عهد الله، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا أصبح أمر غلامه فنشر المصحف فقرأه، وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله عنه إذا فتح المصحف ليقرأ، بدأ فقال: اللهم أنت هديتني لو شئت لم أهتد، لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. وقال خيثمة: دخلت على عبد الله بن عمر وهو يقرأ في المصحف فقلنا له: ما تصنع؟ فقال: أقرأ جزئي الذي أقرأه، ورأى عبد الله بن مسعود مصحفًا مزينًا بالذهب فقال: أن أحسن ما يزين به المصحف تلاوته في الحق. كان زيد بن عبد الله بن الشجير يقرأ في المصحف حتى يغشى عليه. وكان الربيع يقرأ في المصحف، فإذا طال عليه عبث بالورق. فقال يونس بن عبيد: كان خلقًا للأولين النظر في المصاحف. وقال الأوزاعي رضي الله عنه: كان يعجبهم النظر في المصحف، ولكل واحدة من القراءة في المصحف القراءة من الحفظ فائدة، ففائدة القراءة من الحفظ وثبات الذكر وهو أمكن للتفكير فيه، وفائدة القراءة من المصحف الاستباب لئلا يغلط

بإسقاط حرف، أو زيادته، أو تقديم أو تأخير. فالأولى إذًا أن يقرأ الحافظ من حفظه مرة ومن المصحف أخرى. وأيضًا، فإن القارئ في المصحف يستعمل في القراءة لسانه وعينيه، والقارئ من حفظه يقبض على استعمال اللسان دون العين. والقارئ في المصحف يقضي حق القرآن وحق المصحف، لأن المصحف لم يجد ليهمل، إنما اتخذ ليرجع إليه فيقرأ منه، وله على الانفراد حق. ألا ترى أن المحدث يقرأ القرآن يمس، فمن أقل منه فقد قضى حقه وحق ما فيه ومن قرأ من حفظه لم يكن منه إلا قضى حق القرآن وحده. فكانت القراءة من المصحف أولى وأفضل. وأما استحباب القراءة في الصلاة، فلأن الصلاة أفضل أحمال العبد، فإذا كنا نستحب للقارئ أن يقرأ، مستقبلاً القبلة، وفي حال الطهارة إذا لم يكن مصليًا. وإنما الطهارة واستقبال القبلة ركنان من أركان الصلاة، فهو إذا قرأه مصليًا كان ذلك أكثر للفضل والله أعلم. وقال محمد بن حجارة: كانوا يستحبون إذا ختموا القرآن من الليل أن يختموه في الركعتين بعد المغرب، وإذا ختموه في النهار أن يختموه في ركعتي الفجر. وأما استحبابنا للقارئ عرض القرآن في سنة على من هو أعلم منه، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن في كل عام على جبريل صلوات الله عليه. فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه مرتين. فإن قيل: إنما كان يعرض ليعلمه نسخًا إن كان وقع. قيل: لو كان نسخ مما أنزل عليه شيء لأعلمه إياه قبل قراءته عليه، ولم يكن ينتظر أن يقرأ المنسوخ عليه معرفة النسخ عند ذلك، لأنه لم يكن يعرض القرآن عليه فرضًا ولا عن تقدمه تكون إليه من جبريل عليه السلام، فيقال أنه استعرضه إياه لينقحه له فيمن الناسخ من المنسوخ وترفقه عليه فإن ذلك إن كان صحيحًا فقد يمكن عند أعلم الرجلين علم بحرف أو كلمة لا يكون عند أقلهما علمًا، فهو يستفيد بالقراءة عليه أن يعرفه إياه. ولا يؤمن أن يكون قد ألف فيما يقرأه غلطًا يرى أنه صواب فيبصره علم ذلك ليرجع إليه والله أعلم. وأما الاستكثار من القرآن في شهر رمضان، فلأنه شهر القرآن، قال الله عز وجل:

{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن {. وقال:} إنا أنزلناه في ليلة القدر {وجاء في الأخبار: أنه أنزل لأربع وعشرين من شهر رمضان، أي ليلة خمس وعشرين، وقيل في تفسير: كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في كل ليلة قدر ما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم إلى الليلة التي تليها، فينزل جبريل عليه السلام بأمر الله عز وجل فيما بين الليلتين من السنة إلى أن ينزل القرآن كله من اللوح المحفوظ في عشرين ليلة من عشرين سنة. وأيضًا فإن الصائم مأمول أن يحفظ لسانه ولا يتكلم بما لا يعنيه، فلما كان الصوم حالاً يقتضي الإمساك عن كثير من كلام الناس، دل ذلك على أنه يقتضي التقرب إلى الله تعالى بقراءة كتابه، كالصلاة التي لما وجب إجلاؤها من كلام الناس حرم إجلاؤها بين كلام الله عز وجل. وأيضًا فإن الشياطين يصفدون في شهر رمضان، فتكون القلوب فيه أصفى وأخلص وأتقى، والتفكير فيما يقرأ أمكن، والتخشع أيسر، فكانت القراءة فيه أخلق. فإن قيل: فلا تستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم إذا قرأتم القرآن في شهر رمضان، لأنكم أمنتموهم، وحيل بينكم وبينهم. قيل: قد تكون الاستعاذة منهم استعاذة من لا يؤمن أن تكون علقت بالنفوس من قبلهم، فإن لم يعصم الله تعالى القارئ عملت عملها من معارضته إذا قرأ فنزل أو انغفل عن شيء فيدعه أو يقرأ مكانه غيره أو تعرض له وسوسة في معناه لاحادثه، لكن من سابح قدمه، وقد تقدمت منه في القلب فلم يزايله. فأما أمر جديد فلا يعرض منهم في هذا الشهر، فيحتاج إلى الاستفادة لأجله والله أعلم. وأما ترك الممارأة في القرآن، فلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن المراء في القرآن كفر) وهذا -والله أعلم- أن يسمع الرجل من الآخر قراءة أو آية أو كلمة لم تكن عنده، فيعجل عليه ويخطئه وينسب ما يقرأه إلى أنه ليس بقرآن، ويجادله في ذلك

ويخاصمه فيه أو يجادله في تأويل يذهب إليه ولم يكن عنده، ويخطئه ويضلله، فإذ ينبغي له أن يفعل هذا، فإن اللحاح ربما ازاغه عن الحق فلا يقبله. فإن ظهر له وجهه فيكفر. فلهذا حرم المراء في القرآن وسمي كفرًا، لأنه يشرف بصاحبه على الكفر، فإن ذلك إن كان في نفي حرف وإتيانه، أو نفي كلمة وإثباتها، لكان الرابع من التمادي بير عن الحق بعدما تبين له كافرًا، لأنه إما أن يكون منكر شيء في القرآن، أو يكون يدعى زيادة فيه والله أعلم. فإن قيل: أو ما يجوز المباحثة والمناظرة في القرآن والمعاني. قيل: يجوز، والمراء غيرهما. وإنما المراء الإصدار على التغليط والتضليل وترك الإدعاء لما يقام من الحجة. فأما المباحثة التي لا يكاد المشكل ينصح إلا بها فليست بحرام والله أعلم. وأما التفسير بالظن فلا يجوز لأن الله تعالى يقول:} إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، وإن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون {. وقال تعالى:} ولا تقف ما ليس لك به علم {. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار). وأما ما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه من قوله: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي، فإنما هو في الرأي تغلب على القلب من غير دليل قام عليه. وقيل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل، فكذلك لا يجوز تفسير القرآن به. وأما رأى يشده برهان، فالحكم به في النوازل جائز. فكذلك تفسير القرآن به جائز والله أعلم. وأما صيانة القرآن عن ديار العدو، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، وفي بعض الأخبار مخافة أن تناله يد العدو. وليس معنى هذا إن من خرج إلى

أرض العدو أن لا يقرأ فيها القرآن، وإنما هو أن لا يسافر بالمصحف القرآن، لأنه لا يؤمن أن يقع بيد العدو، فيستخفوا منه، وينتهكوا حرمته مغالظة للمسلمين، وتشفيًا بذلك وانتقامًا، والمصحف لا دفع فيه عن نفسه، فكانت المسافرة به إليهم تعريضًا لما لا يليق بحال قدره، فلذلك نهى عنها والله أعلم. فإن قيل: فكيف يصنع الذي لا يحفظ القرآن؟ قيل: يجلس إلى حافظ يقرأه فيستمع إليه ويتأنى به القرآن حتى يجاريه في قراءته، وفيما يمكنه منها. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ بالليل في حجرته قراءة لو أراد حافظ أن يحفظها لفعل. وهذا من الجهد والتمهل معًا والله اعلم. وأما القراءة بالتفخيم والإعراب، فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ القرآن فأعرب في قراءته، كان له بكل حرف عشرين حسنة، ومن قرأ بغير إعراب، كان له بكل حرف عشر حسنات). وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعربوا القرآن فاتبعوا غرائبه وفرائضه وحدوده) وقال عبد الله بن مسعود: أعربوا القرآن فإنه عربي، ومعنى إعراب القرآن شيئان: أحدهما أن يحافظ على الحركات التي بها يتميز لسان العرب عن لسان العجم، لأن أكثر كلام العجم مبني على السكون وصلاً وقطعًا، ولا يتميز الفاعل من المفعول، والماضي من المستقبل باختلاف وحركات المقاطع. وإنما هذا اللسان للعرب خاصة، فنهى الناس عن أن يقرأوا القرآن تاركين الإعراب، فيكونوا قد شبهوه من هذا الوجه بالأعجمية. والآخر: أن يحافظ على أعيان الحركات ولا يبدل شيء منها بغيره، لأن ذلك بما أوقع في اللحن أو غير المعنى. وكان ابن عمر رضي الله عنه يضرب ولده على اللحن. وسمع عمر رضي الله عنه جماعة يقرأ بعضهم فقال: (اقرأوا ولا تلحنوا). فأما التفخيم، قال زيد بن ثابت رضي الله عنه، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(نزل القرآن بالتفخيم) ومعنى هذا والله أعلم، أن يقرأ القرآن كاملاً قراءة الرجال ولا يخضع الصوت به فيكون مثل كلام النساء. ولا يدخل في هذا كراهية الأماله، التي هي أخبار بعض القراء. وقد يجوز أن يكون القرآن أنزل بالتفخيم، ورخص مع ذلك في إمالة ما تحسن إمالته. وتكون هذه الرخصة نازلة على لسان جبريل عليه السلام أيضًا. لكن لفظه بالتنزيل كان التفخيم دون الإمالة والله أعلم. وأما أن القارئ لا يخلط سورة بسورة، فلما روي أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي بكر رضي الله عنه وهو يخافت، ومر بعمر رضي الله عنه وهو يجهر، ومر ببلال وهو يقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة، فقال لأبي بكر: (مررت بك وأنت تخافت: فقال: إني اسمع من إناجي. قال: ارفع شيئًا. وقال لعمر: مررت بك وأنت تجهر فقال: اطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فقال: اخفض شيئًا. وقال لبلال: مررت بك وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة، فقال: اخلط الطيب بالطيب. فقال: (اقرأ السورة على وجهها) وهذا أولى ما روي أنه أنكر عليه، لأن هذا الحديث أتم من ذلك الحديث، فإنه كما لم يذكر في هذا الحديث أنه أنكر على عمر لم يذكر أنه أنكر على أبي بكر وعمر. وقد نطق هذا الحديث بالإنكار عليهما وعلى بلال. والذي فعله بلال قد فعله عمر بعينه فكان ما روى من الصريح بالإنكار والتعبير أولى بالاعتماد من الرواية، التي ليس فيها أكثر من السكت عن عمر. ولعل النظر إذا أنعم وحقق منع لمن يتأت حديث عمر، لأن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر منه فعلا مقابلة عمر بالحجة فأمسك عنه، وهذا عظيم. ولئن كان شيء من الأخبار يرد لضعف أحد من نقلته، فرد هذا يخطأ منه، وهجينه أولى بالذم والله أعلم. وأما استبقاء كل حرف أثبته قارئ إمام، فيكون القارئ قد أتى على جميع ما هو قرآن ولم يبق شيئًا، فيكون ختمه أصح من ختمه إذا ترخض، فحذف إلا يضر حذفه من حرف أو كلمة. ألا ترى أن صلاة القاعد، قد تجوز، ولكن من قام واستوفى كل فعل

إذا وقع منه كان صلاة، كانت صلاته أجمع وأتم من صلاة من يرخص فحذف منها ما لا يضر حذفه، فكذلك هذا في قراءة القرآن والله أعلم. وأما التسمية في أوائل السور فإن الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها قراءة، وهي ماروت أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية،} بسم الله الرحم الرحيم، آية، الحمد لله رب العالمين، آية، الرحمن الرحيم، آية، مالك يوم الدين، آية، إياك نعبد وإياك نستعين، آية، إهدنا الصراط المستقيم، آية، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين {آمين، آية. وأما ما جاء عن النبي أنه قال: (يقول الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي) فابتدأ القسمة من قوله: "الحمد لله" لا من "بسم الله"، فإنه لا دليل فيه بقطع أن "بسم الله الرحمن الرحيم" ليست الآية الأولى، لأنه يجوز أن يكون له، فإذا انتهى العبد إلى الحمد لله رب العالمين قال: الله: "حمدني عبدي" لا أن يكون ذلك جميع الجزء الأول من هذه السورة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. (وإذا قال الإمام: "ولا الضالين" فقولوا: آمين). وإنما أراد فإذا انتهى في القراءة إلى هذا القول، لأن ذلك جميع قراءته والله أعلم. ومتى كانت "بسم الله الرحمن الرحيم" الآية الأولى منها، كان أحد النصفين أربع آيات ونصف آية، والنصف الآخر آيتين ونصف آية. وهذا أيضًا ليس بدليل يقطع بأن "بسم الله الرحمن الرحمن" ليست الأولى منها. لأن فاتحة الكتاب تنقسم إلى حروف وآيات، فلئن كانت تنصف نصفين مستويين، إذا كانت بسم الله الرحم الرحيم أولى آياتها، فإنها تنصف مع ذلك بكل واحدة من الكلم والحروف نصفين متعادلين، وتكون نهاية النصف الأول في الوجهين عند قوله: "نعبد" وليس في الحديث إلى التنصيف بالآي.

فإذا كانت تنتصف ابتداء بها بالتسمية بالكلم والحروف نصفين، فقد وقع بذلك الخروج من عهدة الخبر والله أعلم. وعلى أنه لو ثبت المراد بالحديث أن تنتصف السورة نصفين بالآي، فقد يجوز أن ينتصف بالآي، ويكون نصفه الأول أطول من نصفه الثاني، ألا ترى أن لنا في الشهر إذا لم يجاوز تسعًا وعشرين لم يحل ذلك الشهر من التنصيف غير أنه يكون نصفها خمسة عشر، ونصفها الآخر أربعة عشر، حتى لو قال رجل لامرأته في أول شهر: إذا انتصف هذا الشهر فأنت طالق، طلقت إذا انتصف من أيامه خمسة عشر يومًا، ولو نقص منه يوم لم يبن أن الطلاق كان واقعًا قبل الوقع الذي ذكرنا، وذلك محال. ولو قال لامرأته وقد مضى من الشهر خمسة عشر يومًا إذا مضى شهر فأنت طالق، فمضى من الشهر الثاني خمسة عشر يومًا، طلقت سواء نقص الشهر الأول أو الثاني، أو نقصا معًا أو كملا. فإذا جاز أن يكون الشهر نصفين، وأحدهما أطول من الآخر، جاز أن تكون السورة نصفين وأحدهما أطول من الآخر، والضرورة توجب أن تكون "بسم الله الرحمن الرحيم" من أول فاتحة الكتاب، لأن الله عز وجل سماها: "السبع المثاني" وأجمع المسلمون على أنها سبع آيات وليس شيء مما يلي قوله المستقيم يصلح أن يكون مقطعًا لأن قوله: "صراط الذين" مع قوله: "أنعمت عليهم" كلام واحد، لأن المعنى: صراط المنعم عليهم، وهذه جملة لا تحتمل التفريق. وقوله: "أنعمت عليهم" ليس فيه من أوصاف المقاطع المعهودة لهذه السورة شيء إلا أنها حروف متحركة قبلها حرف مد ولين. وقوله: "عليهم" آخره حرف ساكن قبله حرف صلة فتحرك. ولو جاز أن يكون ذلك مقطعًا، لجاز أن يكون قوله: "غير المغضوب عليهم" مقطعًا، فتكون هذه السورة من غير "بسم الله الرحمن الرحيم". ثماني آيات. والأمة مجمعة على خلاف ذلك. فثبت أن القول المؤدي إليه باطل والله أعلم. وأما ما عدا فاتحة الكتاب فلا يبين كل البيان أن "بسم الله الرحمن الرحيم" منها. ومن يعتمد في إتيانها من فاتحة الكتاب على خبر أم سلمة، وعلى ما بينا آنفًا لا يقول أنها من فواتح السور كلها. فأما من يقول: إن الاعتماد في نقل إثبات القرآن على النقل العام، وإن المسلمين توارثوا خلفًا عن سلف، أن المصحف جامع القرآن، فكل ما أثبت

فيه على صفة واحدة، فلا جائز أن يفترق أبعاضه. لكن بعضها إذا كان قرآنًا وجب أن تكون جميعها قرآنًا. ووجدنا إثبات "بسم الله الرحمن الرحيم" في المصحف، وإثبات ما بعده إلى آخر الفاتحة بصفة واحدة، وعلى هيئة واحدة، فأوجبنا أن يكون كل من ذلك قرآنًا، حيث أثبت. فإن هذا المحتج لا يجد بدًا من إثباتها في أول كل سورة، والقول بذلك وإن كان يقرب في بعض الصور من طريق أنها كلها فواتح، فإنه يتعدى في بعضها لمباينتها ما يليها من فواتحها. ولا قائل بالفرق في ذلك بين السور والله أعلم. إلا أن الأحسن قراءتها في أول كل سورة ما خلا سورة التوبة، إتباعًا لخط المصحف، ولأنه قد ثبت أنها كانت تنزل مع كل سورة. قال عبد الله بن مسعود لا يعرف فصل ما بين السورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم وكان ابن عمر رضي الله عنه يقرأها بين كل سورتين ولا شك بأن قراءتها أحفظ من حذفها. فالقراءة إذًا أولى، وبالله التوفيق. وأما فضائل السور والآيات، فإن الله عز وجل امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بآية آتاد "السبع المثاني"، والقرآن العظيم، فجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بن كعب رضي الله عنه يجب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، قلت: نعم يا رسول الله، قال: كيف تقرأ في الصلاة، فقرأت أم القرآن: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت). وعن أنس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فنزل، فمشى رجل من أصحابه إلى جنبه، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (ألا أخبرك بأفضل القرآن؟ قال: فتلا عليه الحمد لله رب العالمين). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بأم القرآن). وقال (لكل صلاة لا تقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج). ذكر سورة البقرة أبو

أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا البقرة فإن آخرها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة). قال معاوية بن سلام: البطلة: السحرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا بيوتكم مقابر صلوا فيها، فإن الشيطان ينفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة). وقال أبو ذر رضي الله عنه: قلت يا رسول الله بأبي ما أنزل عليك أعظم؟ قال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). وقرأ آية الكرسي حتى فرغ منها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل شيء سنامًا، وسنام القرآن سورة البقرة، فيها آية سيدة أي القرآن "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" لا تقرأ في بيت فيه شيطان). سورة الإنعام: قال ابن عباس رضي الله عنهما أنزلت سورة الأنعام جملة ليلاً بمكة، ومعها سبعون ألف ملك يحدونها بالتسبيح. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: لم ينزل شيء من الوحي إلا نزل مع جبريل صلى الله عليه وسلم أربعة من الملائكة يحفظونه من يديه ومن خلفه، وهو قوله ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم إلا الأنعام، فإنها نزلت معها سبعون ألف ملك. تنزيل السجدة والملك ويس عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينام حتى يقرأ: ألم تنزيل، وتبارك الذي بيده الملك. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قلب القرآن يس). وعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرأوها على موتاكم). يعني يس، أي على المحتضرين. حم: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى بحم الدخان في ليلة أصبح مغفورًا له).

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا وقعت في أي حم، وقعت في روضات دافئات وعن النبي: (من قرأ آية الكرسي وآيتين من حم المؤمن، من قرأها حين أصبح يحفظ يومه ذلك حتى يمسي، وإن قرأها حين يمسي حفظ ليلته حتى يصبح). والواقعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة أبدًا). الملك: عن النبي صلى الله عليه وسلم (سورة في القرآن ثلاثون آية، شفعت لصاحبها حتى غفر له، تبارك الذي بيده الملك). الكافرون: عن رسول الله أنه قال لرجل: اقرأ قل (يا أيها الكافرون، فإنها براءة من الشرك) وعنه صلى الله عليه وسلم: (من قرأ يا أيها الكافرون فقد قرأ ربع القرآن). سورة القدر: عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي: (من قرأ إنا أنزلناه في ليلة القدر عدلت بربع القرآن). سورة الإخلاص: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ("قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن). وعن أنس بن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله حببت إلى هذه السورة، يعني "قل هو الله أحد" قال: (حبك إياها أدخلك المعوذتين). عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "قل هو الله أحد" حتى ختمها ثم قرأ "قل "قل أعود برب الفلق حتى ختمها، ثم قرأ "قل أعوذ برب الناس حتى ختمها، ثم قال:

(ما تعوذ أحد بمثلهن). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما يقرأ شيء أبلغ عند الله من "قل أعوذ برب الفلق". فصل إن سأل سائل عن المفاضلة بين السور والآيات قيل له: قد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأنس رضي الله عنه: (إلا أبشرك بأفضل القرآن فذكر فاتحة الكتاب). ومن قبل فقد قال الله عز وجل:} ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها {. فثبت بذلك جواز كل واحد من القولين. ومعنى ذلك يرجع إلى أشياء: أحدها أن تكون اثنان اثنان في التلاوة إلا أن إحداهما منسوخة، والأخرى ناسخة. فيقال: إن الناسخة خير، أي العمل بها أولى بالناس وأعود عليهم وعلى هذا يقال آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد، خير من آيات القصص والوعود، لأن القصص إنما أريد به تأكيد الأمر والنهي والإنذار والتبشير، ولا غناء بالناس عن هذه الأمور. وقد يستغنون عن القصص فكان ما هو أعود عليهم وأنفع لهم مما يجري مجرى الأصول خيرًا لهم، مما يجعل تبعًا لما لابد منه. والآخر أن يقال: أن الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء الله تعالى وبيان صفاته، والدلالة على عظمة وقدسه أفضل أو خير، بمعنى أن يتمين أنها أسنى وأجل قدرًا. والثالث أن يقال سورة وآية خير من آية، بمعنى أن القارئ يتعجل له بقراءتها الإحتراز مما يخشى بالله جل ثناؤه، وينادى بتلاوتها منه لله تعالى لما فيها من ذكر الله تعالى بالصفات العلى على سبيل الاعتقاد لها، وسكون النفس إلى فضل ذلك الذكر ويمنه وبركته. أما آيات الحكم فلا تقع نفس تلاوتها إقامة الحكم فإنما يقع بها علم وإذكار فقط. فكان ما قدمناه قبلها أحق باسم الخير والأفضل والله أعلم.

ثم لو قيل في الجملة: إن القرآن خير من التوراة والإنجيل والزبور، بمعنى أن التعبد بالتلاوة والعمل واقع به دونها، والثواب تجب بقراءته لا بقراءتها، وإنه من حيث الإعجاز حجة النبي المبعوث به. وتلك الكتب لم تكن معجزه، ولا كانت حجج أولئك الأنبياء، بل كانت دعوتهم، والحجج غيرها، لكان ذلك أيضًا نصير ما مضى ذكره والله أعلم. وقد يقال: إن سورة أفضل من سورة، لأن الله تعالى عند قراءتها كقراءة أضعافها مما سواها، وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب بغيرها، وإن كان المعنى الذي لأجله بلغ بهما هذا المقدار لا نظير لهما، كما يقال: إن يومًا أفضل من يوم، وشهر أفضل من شهر، بمعنى أن العبادة فيه تفضل على العبادة في غيره، والذنب يكون أعظم في غيره، كما يقال: أن الحرم أفضل من الحل، لأنه يتأدى فيه من المناسك، ما لا يتأدى في غيره، والصلاة فيه تكون كصلاة متضاعفة مما يقام في غيره والله أعلم. وأما الاستشفاء بالقرآن، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن خاتمة القرآن المعوذات، وإن الخلق لم يتعودوا بمثلها. وقد ثبت في الجملة إن الكلام ما يستشفى به. فقد أخبرت عائشة رضي الله عنها أنها كانت تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فتقول: اللهم أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، اشف شفاء لا يغادر سقمًا. وأن جبريل صلوات الله عليه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشكو، فقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك والله يشفيك، بسم الله أرقيك. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مريض لم يحضر أجله تعوذ بهؤلاء الكلمات: (بسم الله العظيم أعيذ، بالله العظيم من شر ما يجد، سبع مرات إلا شفاه الله). فإذا كان هذا هكذا، فإن القرآن الذي لا كلام أشرف منه ولم ينزله الله عز وجل إلا ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ويتقدم به من النار، بعد أن كانوا على شفا حفرة منها ويهديهم به إلى الجنة، التي منها الحياة الدائمة، والراحة التامة من كل خوف وحزن،

أولى أن يشتفى به ويتبرك بقراءته، وقد سماه الله شفاء، فقال:} وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين {. وقال:} يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين {. فما كلام أولى بأن يكون فيه الشفاء من هذا الكلام. وقد روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فمررنا على حي من أحياء العرب، فاستضفناهم فلم يضيفونا، فنزلنا بالعراء فلدغ سيدهم فأتونا، فقالوا: هل منكم أحد يرقي؟ فقلت: أنا أرقي. قال: فارق صاحبنا فقلت: لا، فقد استضفناكم فلم تضيفونا. قالوا: إنا نجعل لكما جعلاً، فجعلوا اثنتين من الشياه، قال: فأتيت. وجعلت أمسحه وأقرأ فاتحة الكتاب، وأرده وأقفل حتى برأ. فأخذنا الشياه وقلنا: ما نحن بالذي نأكلها حتى نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيناه فذكرنا ذلك له. فجعل يقول: (وما أدراك أنها رقية، فقلت: يا رسول الله، ما دريت لكنه شيء ألقاه الله في نفسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوا واضربوا لي معكم بسهم). وجاء عن المتقدمين في أبواب الإحترازات من المخاوف والاستشفاء من الأمراض بآيات القرآن ما قد عرف وأثبت في الكتب وجرب فنجع، واختبر فنفع، فكان ذلك أحد الدلائل على أن القرآن من عند الله تعالى جده، ولو لم يكن كذلك لفترت قراءته ولم ينفع. وأما تقطيع القرآن آية آية، فإنه أولى عندنا من تتبع الأغراض والمقاصد والوقوف عند انتهائها، لما جاء عن أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية: "بسم الله الرحمن الرحيم" آية، "الحمد لله رب العالمين" آية "الرحمن الرحيم" آية، "مالك يوم الدين" آية، "إياك نعبد وإياك نستعين" آية، "إهدنا الصراط المستقيم" آية، "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" آية في هذا الحديث دلالات: أحدها أن أم سلمة لم تقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءة فاتحة الكتاب آية آية،

وإنما قالت: كان يقطع قراءته، فدخل في ذلك جميع ما كان يقرأه من القرآن، وإنما ذكرت فاتحة الكتاب لتبين صفة التقطيع، أو لأنها أم القرآن، يغني ذكرها عن ذكر ما بعدها، كما تغني قراءتها في الصلاة عن قراءة غيرها، لجواز الصلاة. وإلا فالتقطيع عام بجميع القراءة. هذا ظاهر الحديث وبالله التوفيق. والدلالة الثانية: أن أصحاب المعاني قالوا: معنى باسم الله، أو ابدأ باسم الله. وإذا كان كذلك، اقتضى هذا القول ما بعده، ولم يكن مبتدأ بنفسه، لأن المبتدأ به، لابد له من شيء يتلوه. فيكون الأول بدءًا لما يثنى عليه. وفي هذا ما أبان أن قول القارئ "بسم الله الرحمن الرحيم" يقتضي ما بعده وهو "الحمد لله رب العالمين". ومع هذا فقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة "بسم الله الرحمن الرحيم" لما عدها آية، عن قراءة "الحمد لله رب العالمين". فبان بذلك أنه لا ينتظر بالقطع تمام الكلام من نحو المعاني، وإنما ينتظر به انتهاء الآية، والله أعلم. والدلالة الثالثة: إن قوله عز وجل "صراط الذين أنعمت عليهم" ليس بكلام مستأنف ولكنه تفسير للصراط المستقيم. وقد ثبت بهذه السنة، أن المستقيم موضع وقف. فثبت بذلك أن الوقف يختص بانتهاء الآية، لا باستتمام العرض. فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قطع الفاتحة آية آية، لأن لكل آية منها غرض ينتهي بانتهائها، فأخبر أن الله جل ثناؤه يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: "الحمد لله رب العالمين" قال: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: "الرحمن الرحيم"، قال الله: أثنى علي عبدي. وإذا قال العبد: "مالك يوم الدين"، قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال العبد: "إياك نستعين"، قال الله: هنيئًا لي ولعبدي، وإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم إلى آخره، قال الله: هذا لعبدي ما سأل). فكان الوقف على كل آية من الفاتحة لهذا المعنى، لا لأن أواخر الآيات مقاطع حسنة بكل حال. فالجواب: إن الوقف على إعجاز هذه الآيات لو كان، لأن لكل آية من غرض ينتهي بانتهاء لوقف النبي صلى الله عليه وسلم على قوله عز وجل: "إياك نعبد" لأن النصف الذي لله تبارك

وتعالى، ينتهي إلى هذا الحد. فلما كان ما ذكرت نهاية أحد النصفين، ثم لم يقف عليه، علمنا أنه لم ينظر إلى انتهاء الغرض، وإنما ينظر إلى انتهاء الآية. وإن غرض كل آية، وإن كان ينتهي بانتهائها، فلم يكن الوقف عندها لانتهاء الغرض، لكن لانتهاء الغرض، لكن لانتهاء نفسها والله أعلم. والنظر يدل على ما دلت عليه السنة، لأنه لما لم يكن إلى سرد القراءة سبل، ولم يكن بد من مقطع، فهو أحد أمرين، إلا أن يجعل العبرة لانتهاء الغرض، أو لانتهاء الآية. فكان انتهاء الآية لقطع القراءة عنده أولى، لأن الله تعالى فصل القرآن، وأنزله فصولاً. فكان ما جعله الله تعالى فواصل بنفسه، وهي إعجاز الآيات أولى بأن يتخذ مقاطع مما يحتاج فيه إلى الاجتهاد، والمكلف وكان من وقف عند انقضاء الآية فقد قطعها الله تبارك وتعالى، وفي تجاوزها إلى بعض الآية التي تتلوها أو وقف قبل انقضائها أحدث للقرآن فصولاً سوى الفصول التي جعلها الله تعالى له، ورضيها لكلامه، وعمد إلى ما قطعه الله ووصله، وإلى ما وصله فقطعه. ومن أنصف علم أن هذا ليس بموضع الاستحباب والله أعلم. وأيضا فإن تفضيل القرآن واقع الآي والسور، لا خلاف في أن انتهاء السورة موضع وقف حسن. فالقياس على ذلك أن يكون انقضاء الآية موضع وقف حسن. وأيضًا فإنا وجدنا انقضاء السورة لا يكون إلا عند انقضاء السورة، لا تكون إلا عند انقضاء الآية. وما وجدنا سورة نقضت خلاف آية، ووجدناها تنقضي قبل استبقاء الغرض المقصود بها. وأجمعوا على أن انقضاء السورة مسوغ للوقف، فعلمنا أن المراعي في الوقف انقضاء الآية، لا انقضاء الغرض. وأيضا فإن القرآن إن لم يكن شعرًا ولا في وزن الشعر، فإنه منظوم ويقطع كما أن الشعر منظوم متقطع، وما يثبت من إثبات الشعر إلا والوقف عند انقضائه ليس مما يعاب به المنشد بل هو أحسن من الموقف على انقاء الآيات وإدراج القوافي وسردها، وكذلك ما آية من الآيات إلا والوقف عندها لا يعاب به القارئ، بل هو أحسن من الوقف خلال الآيات، أو إدراج الفواصل وظهورها والله أعلم. فإن قال قائل: ما أنكرت إن ما ذكرت حجة عليك، لأن القرآن بعد الكلام

من الشعر، والوقف على فواصل الآيات، كما لو وقف على قوافي الأشعار شبيه القرآن بالشعر. والجواب: إن هذا وإن خالف ما روته أم سلمة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي تقطيعه القراءة آية آية، فهو متروك به ومرفوض لأجله. وجواب آخر: وهو أن القرآن مباين للشعر، بعيد منه من حيث أن الشعر كلام الشاعر والقرآن كلام الله عز وجل، ومن حيث أن القرآن معجز لا يشبه نظمه نظم الشعر ولا الخطب والرسائل، والشعر ليس بمعجز لكنه معهود مألوف أخذه الناس بعضهم من بعض، فيشعر الواحد بعد أن يكون شاعرًا، كما يتأدب بعد إن لم يكن أديبًا. ومن حيث أن الشعر كلام يغلب المجاز فيه على الحقيقة، والكذب على الصدق، والهزل على الجد، والقرآن كله حق وصدق وفضل، ليس بالهزل، كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. وأما القرآن كلام مقطوع لا منثور، ومفصل غير مسرود، والشعر منظوم أيضًا، وليس بمنثور، ليس بالذي ينكر أو بعض من القرآن، لأنهما لو لم يكونا جميعًا منظومين لما أمكننا أن نقابل بينهما. فعلم أن نظم القرآن مباين لنظمه. فإن المقابلة لا تقع إلا من شيئين مشتركين في وصف، فيقابل بينهما ليعلم أنهما في استحقاق ذلك الوصف على السواء. أو الثابت فيه لأحدهما فيه رجحان، وفضل على الثابت منه للآخر كالحيين، يقابل بينهما ليعلم أن حياة أحدهما كحياة الآخر وليست مثلها، فيتوصل ذلك إلى معرفة أن حياة الحيوان ليست كحياة الأشجار الرطبة. والعاقلين يقابل بينهما ليعلم أن عقل أحدهما كعقل الآخر أو ليس مثله. فيتوصل بذلك إلى معرفة أن عقل الإنسان ليس كعقل ما يوصف بالتمييز والاختيار من الدواب والطائر. والمصوتين يقابل بينهما ليعلم أن صوت أحدهما كصوت الآخر، أو ليس مثله، فيتوصل بذلك إلى معرفة إن كلام الناس ليس كمنطق الطير، وكذلك لما وجدنا القرآن منظومًا لا منثورًا، والشعر والخطب والرسائل منظومة لا منثورة، قابلنا بينه وبينها، ليعلم لنظمه نظمها أو المباين لها. فتوصلنا بهذه المقابلة إلى معرفة أن نظمه ليس كنظم كلام الناس. وفي هذا بيان أن الوقوف على إعجاز الآيات أن أشبه الوقوف على إتيان القصائد، فذلك لا ينقص من القرآن ولا يجعله شبيهًا بالشعر والله أعلم.

ويبين ما قلنا أن القاريء وإن لم يقف على فواصل الآيات، فإن الفواصل لا تصير عدمًا. فلو كان الوقوف على الفواصل يجعل القرآن شبيهًا بالشعر، لكان وجود الفواصل للقرآن قد جعله شبيهًا بالشعر. وإذا لم يكن وجودها له مشبهًا إياه بالشعر، فكذلك الوقوف على أواخر الآيات إن كان يشبه الوقوف على قوافي القصيد. فالوقوف عندتنا هي الأغراض يشبه الوقوف إيتاء الرسالات والمحاورات، لأن العادة أن من أدى إلى آخر كلام في معاني وأغراض شيء، فإنه يلقيه إليه فصلاً فصلاً، وكلما استوفى غرضًا وقف، ثم أخذ فيما سواه. والقرآن كما لا يشبه الشعر لا يشبه رسالات الناس ومحاوراتهم، فليتق من يشبه بها ما أوجب المعترض إيفاءه ممن يشبهه بالشعر والله أعلم. وأيضا فإن الله عز وجل قال بما وصف كتابه لنبيه صلوات الله عليه:} ولقد أنزلنا إليك آيات بينات {فأخبر جل ثناؤه أن آيات القرآن بينات، ولم يفصل بين جهة وجهة، فهي بينات من كل وجه. فمنها أنها واضحات في الدلالة على ما أريد بها. ومنها أنها بينات أي بينات عن كلام البشر، ومنها أنها بينات بمعنى أن كل آية فهي بائنة عن صاحبها لا تختلط بها ولا تتحد معها، فمن وصل عند القراءة آية آية، فقد سلبها وصفها الذي وصفها الله تعالى به. ومن وقف عند أخرها فقد جلاها حليتها ووقر عليها صفتها التي أثبتها الله تعالى لها. فبان أن الوقف أولى من الوصل والله أعلم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده ما جزأوا القرآن إلا إلى الآيات والسور، وليس يحفظ عنه عليه السلام، ولا عن أحد من أصحابه بجزاء انتهاء الأغراض للوقف. ولا روى عنه ذلك ولا عنه في خبر صحيح ولا معلوم. وقد علمنا أنهم لم يكونوا بحسن من الوقف بدًا، فلما لم ينقل عنه في غيره تواصل الآيات شيء، علمنا إن الوقف إنما كان يقع منهم عند الوصل والله أعلم. وأيضًا فإن قوله عز وجل:} لإيلاف قريش {متصل بقوله تعالى} فجعلهم كعصف مأكول {، وأجمع المسلمون على أن الوقف عند قوله عز وجل "كعصف مأكول" أليس يفتتح، وكيف يقال أنه نسخ؟ وهذه السورة تقرأ في الركعة الثانية،

فيتخللها مع قطع القراءة الركوع والقيام بعده، وسجدتان بينهما جلوس، والقيام إلى الثانية وقراءته فاتحة الكتاب. وليس في العلماء أحد يكره ذلك. وما كانت العلة فيما ذكرت إلا أن قوله عز وجل} كعصف مأكول {انتهاء آية، فالقياس على ذلك أن لا يمنع الوقف عند إعجاز الآيات، سواء كان الكلام يتم والغرض ينتهي، أو لا يتم ولا ينتهي والله أعلم. وأيضًا فإن الفواصل حلية الكلام، وزينة للمنظوم، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور، ولا حقًا بأن الكلام المنظوم أحسن من المنثور، فثبت بذلك الفواصل من محاسن الكلام المنظوم، فمن قرأه فأظهر فواصله بالوقوف عليها، فقد أبدى محاسن من ترك الوقف عليها، ووصل بها ما بعدها فقد أخفى تلك المحاسن وكتمها، وشبه المنظوم بالمنثور، وذلك إخلال بحق المقرر. فإن سأل سائل عن الآية الطويلة التي ينقطع عليها قياس، وإنما الكلام فيمن يختار لقراءته مقطعًا، وأن الأولى به أن يراعي انتهاء الآية وانتهاء الغرض، فأما من لا يمكنه المضي في القراءة لانقطاع نفسه فهو بمعزل عن هذا الكلام. فإن قيل: كيف يصنع إذا ضاق النفس وانقطع؟ قيل: يقف حيث انتهى نفسه فإن خاف أن ينقطع نفسه خلال كلمة وقف قبل أن يفتتحها لأنه إن لم يقف حتى افتتح الكلمة، فانقطع نفسه خلالها احتاج إلى أن يستأنفها، إذا عاد إلى القراءة، فإن الكلمة الواحدة لا تحتمل التفريق. وأما إذا انقطع نفسه مع تمام كلمة، إلا أنها كانت من الأدوات والصلات أو اسمًا ناقصًا مثل ذو وهن ومن وما، فحسن إذا ابتدأ أن يعيدها كأنه قرأ:} أفمن يمشي مكبًا على وجهه أهدى ... {وانقطع نفسه. فإذا ابتدأ قال:} أمن يمشي سويًا على صراط مستقيم {. وإن قرأ:} إن الله عزيز ذو ... {وانقطع نفسه، فإنه إذا ابتدأ قال:} ذو انتقام {. وإن قرأ:} ولبثوا في كهفهم {فانقطع نفسه، ثم يبتدئ: (فهم) لا يكسر الهاء ولا يضمها، وإنما يبتدئ في كهفهم لأن

الهاء والميم من الأسماء الناقصة. فإذا اتصلت بما قبلها لم تميز عنه، فإذا اتصلت بما بعدها لم يميز عنها أيضًا. فلو قرأ:} يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم ... {وانقطع نفسه ابتدأ وقال:} ولا هم يذكرون {. وإن قرأ كلمة من الأسماء التامة المعودة عن الصلاة والأفعال المفردة، وانقطع نفسه، ابتدأ بما بعدها، ولا يضره أن يكون أحد الكلامين متصلاً بالآخر في المعنى بأن قرأ:} ولو شاء ربك لذهب ... {فانقطع نفسه، ابتدأ} إن الله {. ولو قرأ:} وإذ قال ربك للملائكة إني ... {فانقطع نفسه، ابتدأ فقال:} جاعل {ولا يعيد إني كما يعيد أن، لأن (إن) صلة بما انفرد عما حصلت صلة له، وإني كلام تام، لأن (إن) التي هي صلة، فقد اتصلت بالباء التي هي أسلم للمخاطب، فتمت الكلمة. ولو قرأ:} إني جاعل في ... {فانقطع نفسه، ابتدأ فقال:} في الأرض {ولو كان قرأ} في الأرض {فذهب نفسه، لابتدأ فقال:} خليفة {لأن اسم الذي وقف عليه تام مفرد عن الصلات. ولو قرأ} قالوا أتجعل فيها ... {. وانقطع نفسه لم يعد فيها، لأن في التي هي صلة تقيدت بالهاء والألف اللتين هما كناية الأرض، فتمت الكلمة. ولو كان النفس عند قوله} أتجعل فيها من {لأعاد} من {إذا ابتدأ، وعلى هذا، هذا الباب والله أعلم. فإن قال قائل: إن الوقف على فواصل الآيات يؤدي إلى الابتداء بما لا يجوز أن يتكلم به إلا موصولاً بما يخلص من عهدته، أو الوقف على ثباته، وذلك إن قول الله عز وجل:} ألا إنهم من إفكهم ليقولون {. آية تامة، فإذا وقف القارئ عليها يحتاج إلى أن يبتدئ من قوله:} ولد الله {. وذلك مما يجوز أن يتكلم به على الإنفراد. ولذلك قوله عز وجل:} وإنكم لتمرون عليهم مصبحين {فإن الوقف عليه، ولا يبدأ

من قوله عز وجل} وبالليل أفلا تعقلون {. توهم أن يكون المعنى أفلا يعقلون بالليل، وذلك غير ما أريد بالآية. فوجب أن يبقى ما يجليه ويؤدى إليه. فالجواب: إن قارئ القرآن ليس بمتكلم عن نفسه، وإنما هو يؤدي عن غيره كلامًا يقطعه أو وصله أو سرده، فإن حكمه لا يتغير بذلك. فإن رجلاً لو شهد عند حاكم فقال: أشهد إني سمعت فلانًا يقول: امرأتي فلانة طالق أو لفلان علي مائة درهم، أو يقول لعبده هذا: أنت حر فسرد شهادته أو فصلها تفصيلا لم تخل شهادته من الصحة، إذا كانت بصلة بين الكلام، والكلام لا يزيد على ما بنفس المستفسر، فكذلك من أدى عن الله عز وجل قوله:} ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله {فسرد ذلك كله سردًا، أو فصله تفصيلاً لم يخل من أن يكون مؤديًا عن الله عز وجل، فلا يقع المؤدى منه إلا على الوجه الذي أراده المؤدى عنه، ولا يكون المؤدي متكلمًا عن نفسه فيغيره الابتداء بها، لا يجوز أن يتكلم به إلا موصولاً بما لا يدخل في عهده والله أعلم. وتؤكد هذا أنه لا خلاف بين المسلمين في أن القارئ إذا وقف على قوله} ليقولون {وابتدأ} ولد الله وإنهم لكاذبون {. لم يكفر، وإن كان من يفهم المعاني لم يجعل قوله:} ولد الله {خبرًا وكلامًا لنفسه. فلو كان الوقف بغير النفي لكان العامد لذلك يكفر. وأيضًا فلا خلاف في أن رجلاً لم يحسن من القرآن شيئًا إلا هذه الآية وهي قوله} ولد الله وإنهم لكاذبون {وجب عليه قراءتها في الصلاة، فلو كانت كفرًا لم يجز اللفظ بها فضلاً من أن تجب قراءتها، فتجوز الصلاة بها ويجب للمصلي أجرها والله أعلم. وجواب آخر: وهو أن الابتداء من قوله} ولد الله {إن كان لا يصلح بالإطلاق، ولا من قوله} وبالليل {. فلذلك الابتداء بحرف التعليل لا يصلح إذا كان لا يذكر بعده ما هو علة له. فإن العرب لا تبتدئ فتقول لتكرمني حتى تقول قبله إنما جئتك أو تقول: ما جئتك أو شيئًا يشبه ذلك. وقد صلح الابتداء بالقرآن بقوله عز وجل:} لإيلاف قريش {يعني أنه ليس كلام ينشئه الهادي من نفسه، وإنما هو كلام

يؤديه عن ربه جل ثناؤه، فكذلك عامة ما أنكر السائل الابتداء منه بالقول فيه على هذا المعنى والله أعلم. فإن قيل: ما أنكرت أن الابتداء من} لإيلاف قريش {يجعل قوله عز وجل} فجعلهم كعصف مأكول {. من طريق الإضمار، فيكون كأنه قال: وإنما جعلهم كذلك لائتلاف قريش. قيل: أيتعذر أن يقال مثل هذا في الابتداء من} ولد الله {فيقال: إن قولهم} في إفكهم {يصير كالمعاد من طريق الإضمار، فيكون كأنه قال: وقولهم} في إفكهم {هو هذا، ويجعل لمن في الإضمار معاد، مثل} وبالليل {فيصير كله قبل، ويمرون بالليل بل هذا أبين، لأن الواو للعطف، فهو أن يشرك الليل مع النهار في المرور، وهذا إن كان الضمير محتاجًا إليه، ولا حاجة لأن القارئ يؤدي كلام ربه عز وجل، فلا ينقلب ذلك خير أمته عن نفسه بالا إن يرفض قراءة القرآن، ويظهر النية كما يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم" عند افتتاح عمل. (والحمد لله رب العالمين) عند الفراغ منه، لا يزيد بذلك القرآن، فلا يكون قارئًا والله أعلم. فإن قال قائل: أجمعنا على أن تقطع الكلمات لا مستحب، فما أنكرت أن تقطيع الآيات كذلك؟ الجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية، كما روت أم سلمة رضي الله عنها، ولم يكن يقطعها كلمة كلمة فبطل أن تكون الآيات كالكلمات. وجواب آخر - هو أن تقطيع الكلمات يلبس ويذهب نسجها، وتقطيع الآيات يبين نظمها ويظهر حسنها وبهجتها فافترقا. ألا ترى أن تقطيع البيت من الشعر كلمة كلمة يعمي نظم القصيدة ويذهب بهاه، وتقطيع القصيدة أبياتا يظهر نظمه ويبدي حسنه وبهاه، فلذلك ما قلنا والله أعلم. فإن قالوا: الوقف عند تناهي الأغراض يقرب معاني القرآن من إفهام السامعين فما ذكرت إن ذلك أولى من الوقف على فواصل الآيات.

الجواب: أن هذا رأي يخالف النص الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقطيعه القراءة آية آية، وما خالف النص من الآراء فمردود. وأيضًا فإن كثيرًا من معاني القرآن إنما اعتاص إدراكها، إما للألفاظ التي وقفت العادة عنها بها، وإما من قبل النظم، ثم لا يجوز لتزاحم العريض بالسهل، وتزايل النظم لتقريب المعاني إلى إفهام السامعين، بل يجب المحافظة على اللفظ والنظم المنزلين لتسلم وتتحقق قراءة القرآن، فكذلك المقاطع المنزلة لا تترك إلى غيرها لتقريب المعاني من إفهام السامعين والله أعلم. وجواب آخر: وهو أن السامع لا يخلو من أن يكون متسعًا لإدراك المعاني والأغراض بدربته في اللسان وفصل فطنته لتصاريف الكلام أو لا يكون متسعًا لذلك، وإنما يحتاج إلى تعلم أو تفهم. فإن كان بالوصف الأول: فسواء سمع القرآن مقطع الآيات أو مفصل الأغراض، فإنه يدرك المراد، ويستبصر بالمعنى، وإن كان بالوصف الآخر: فسواء أيضًا سمع القرآن بعد هذا التقطيع، أو ذلك التقطيع، فلا غنى به عمن يعرفه سوء تفهمه، فبطل أن يكون في الوقف عند انتهاء الغرض التي ادعاها السائل والله أعلم. وجواب آخر: وهو أن الوقف عند انتهاء الغرض إن كان لتقريب المعنى على من سمع، فيكره في الصلاة ولا يلتحق بمعاني التعليم ولا يصلح التعليم والتفهيم في الصلاة وبالله التوفيق. فإن قال قائل: روى عن ابن جريح أنه قرأ، إنما يعلمه بشر، ثم ابتدأ فقال:} لسان الذين يلحدون إليه أعجمبي، وهذا لسان عربي مبين {. وقرأ} وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم {يقولون: وهذا يدل على أنهم كانوا يعتبرون في الوقف المعاني لا فواصل الآيات. فالجواب: إن هذه الحكاية عن ابن جريح خاصة، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ من الصحابة والتابعين عدد لا يحصيهم إلا الله تعالى. فلو كان في هذا الباب عن أحد شيء لنقل

كما نقل عن ابن جريح قوله: ولو كان ابن جريح أخبر ما جاء عنه بخبر عنده ممن فوقه، لم يكتمه، ولا خبر به، لأن كتمان خبر من الأخبار والديانات جناية وغلول. وهو عند المسلمين من العدول. ثم إن في وقوع النص على هذه المواضع الثلاثة دليل على أنها قصدت قصدًا أو خصت بالوقوف عندها، ولو كانوا يتبعون في عامة الوقف الغرض والمعاني، لم يكن لتخصيص هذه الأحرف الثلاثة بالذكر معنى ولا فائدة. وإذا كان كذلك كان لنا أن نعارض المحتج ما جاء في هذه الآيات الثلاث عن ابن جريج، بأن ما عداها لم يكن الوقف فيها مأخوذًا من قبل المعاني والأغراض، وجب أن تكون هذه الثلاث كذلك والله أعلم. وأما التكثر بالقرآن والفرح به، فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:} وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا {. وقال لنساء النبي:} واذكرن نعمتي عليك وعلى والدتك {وقال:} وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل {. وسمى القرآن نورًا وسماه شفاء ورحمة، وسماه مباركًا وهدى فمن أنعم به عليه ويسره له ليعلمه ويقرأه، فقد أشركه مع نبيه صلى الله عليه وسلم في عمله، وإن كان لم يشركه معه في جهة الإيتاء والتعليم، فإن لم يعظم المنعم عليه هذه النعمة، ولم يكن عنده أكبر وأسنى قدرًا من الأموال والأولاد، فهو من أجهل الجاهلين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: (من قرأ ربع القرآن فقد أوتي ربع النبوة، ومن قرأ ثلث القرآن، فقد أوتي ثلث النبوة، ومن قرأ ثلثي القرآن فقد أوتي ثلثي النبوة، إلا أنه لا يوحي إليه). ويحتمل أن يكون معنى أوتي النبوة أي جمع في صدره ما أنزل على نبيه، لكن لا يوحى إليه فيجوز أن يدعي أنه نبي الله. وأما ترك المباحات بقراءة القرآن، فلما روى أن رجلاً جاء إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال: حدثني حديثًا سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم حفظه قلبك ووعاه سمعك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أول الناس يدخل النار يوم

القيامة ثلاثة: يؤتى برجل فيقول: أي رب علمتني كتابك وقراءته آناء الليل والنهار، رجاء ثوابك وجنتك فيقال كذبت، إنك كنت تقرأ وتصلي ليقال: أنه قارئ ومصلي، وقد قيل: اذهبوا به إلى النار) وأيضًا فإن قراءة القرآن عبادة، والمباهاة بها مراءاة والرياء فيها كالرياء في غيرها من العبادات والله أعلم. وأما أن لا يستأكل بالقرآن، فقد جاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (تعلموا القرآن فإذا علمتوه، فلا تأكلوا به، ولا تستكبروا به ولا تخفوا فيه ولا تعلوا فيه). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا القرآن وسلوا الله به الجنة). قيل: أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه رجل يباهي به ورجل يستأكل به، ورجل يقرأه كله. وقال الحسن رضي الله عنه: كنت امشي مع عمران بن الحصين رضي الله عنه فانتهى إلى رجل يقرأ سورة يوسف، فجلس إلى جنب حائط ونحن معه، ثم سأل الناس فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرأوا القرآن وسلوا الله به، فإن بعدك اقوامًا يقرأون القرآن يسألون به الناس). وروى أن أبي بن كعب رضي الله عنه كان يختلف إلى رجل بالمدينة يقرئه القرآن، فإذا فرغ من قراءة يومه ذلك، دعا له بطعام، فحل في نفسه منه شيء، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: (إن كان ذلك طعامه الذي يأكل ويأكل أهله فكل، وإن كان طعامًا يخصك به فلا تأكل). ومعنى هذا - والله أعلم - أنه كره أن يلزمه بالاختلاف إليه مؤونة، وحمل الأمر على ما يقدمه إليه، على أنه عسى يتذمم من أن يحضره، فيبقي عنده إلى وقت الغداء ثم ينصرف ولم يطعم عنده شيئًا. وأشفق من أن يطيب له ذلك، إذا كان الحياء هو الذي بعثه عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن كان ذلك طعامه الذي ياكله ويأكل أهله فكل) فإنه شيء أخرجه من قلبه لأن يؤكل، وإنما أنت كأحد

الأضياف. وإن كان طعامك يخصك به فلا تؤمن من أن يكون كما ظننت وقدرت فلا تأكل، وهذا تنزيه. ولو كان على وجه التحريم لاستوى الطعامان، لأن الذي يقدمه إليه، وإن كان طعامه وطعام أهله، فهو شيء من ماله يصرفه إليه ويرفقه به لما لم ينهه عن ذلك. علمنا أنه أراد بهذا التفضيل أن يبين لأبي أن الذي حل في صدره إنما يليق بأحد الطعامين دون الآخر، وليس ذلك من معاني التحريم والله أعلم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سيجيء على الناس زمان يسأل فيه بالقرآن فإذا سألوكم فلا تعطوهم. وقال ميمون بن مهران: يا أصحاب القرآن لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسوا به السف من الدنيا يعني: الريح - واطلبوا الدنيا بالدنيا والآخرة بالآخرة. وصلى عبد الله بن معقل بهم في رمضان، فلما كان بعد الفطر أرسل إليه عبيد الله بن زياد خمسمائة درهم وحلة فردها، وقال: إنا لا نأخذ على كتاب الله أجرًا. وقال زادان: من قرأ القرآن ليستأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه ليس فيه لحم. وأما أنه لا يقرأ في الحمام، فلما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: شر البيت الحمام ينزع من أهله الحياء، لا يقرأ فيه القرآن. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كره قراءة القرآن في الحمام. وعن جماعة من التابعين مثل ذلك، والقراءة في الكيف والمواضيع القذرة مكروه أشد من كراهيتها في الحمام. ألا ترى أنا بكره القراءة لمن أكل ثومًا أو بصلاً أو كراتًا، ونأمر القائم من النوم الطويل اللازم أن يستاك وينظف فاه قبل أن يقرأ القرآن، لئلا تخالط الريح الكريهة قراءته. فالقراءة في النجس أولى بالكراهية، والقراءة في حال قضاء الحاجتين كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يرد السلام على من سلم عليه وهو يبول. وقال له بعد ذلك: (إذا رأيتني على هذه فلا تسلم علي، فإنك إن سلمت علي لم أردد). فإذا كان رد السلام يحاشى في حال البول، فقراءة القرآن أولى أن تكرم وتعظم والله أعلم.

وأما ترك التعمق في القرآن، فقد جاء عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرئ بعضنا بعضًا، فقال: (اقرأوا قبل أن تجيء أقوام يقرأونه، يقيمونه كما يقام المدح لا تجاوز تراه فيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه). وقال حذيفة رضي الله عنه: اقرأ الناس للقرآن منا من يقرأه ولا ينزل منه حرفًا: واوًا ولا ألفًا. وقال الحسن: إن هذا القرآن قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قبل أوله. وقال الله عز وجل:} كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته {. وما يدبر آياته والله، أما والله ما هو يحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله وما أسقطت منه حرفًا، وقد والله لو سقط كله ما ترى في القرآن من خلق ولا عمل وحتى أن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نفسي والله ما هو لا بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء، ولا الورعة. ومتى كانت القراء تقول مثل هذا؟ لا أكثر الله مثلهم. وأما قراءة الجماعة معًا تجهرًا، فقد جاء فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج على الناس وهم يصلون قد علت أصواتهم بالقرآن، فقال: (المصلي يناجي ربه، فلينظر من يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يرفع الرجل صوته بالقرآن في الصلاة، يغلط أصحابه، ومعنى هذا أن الناس إذا اجتمعوا يقرأون القرآن في صلاة أو غير صلاة، لم يؤمر بعضهم بالإنصات إلى بعض، لأن الإنصات إذا كان للقمرآن، لم يؤمر بقطع القرآن للقرآن. فإن التعبد بالقرآن أكثر من التعبد بالأسماع إلى قراءة الغير، إذا كان القارئان متماثلي الحال، لا يلزم واحد منهما أن يلزم صاحبه، فلا يفارق حضرته. وإذا كان كذلك لم يجهر بعضهم على بعض، الجهر الذي يعدو غيره، ويخلط القراءة عليه. ألا ترى إلى ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على صلاة جهر فيها بالقراءة، وجهر خلفه

الناس. فلما فرغ قال: (مالي أنازع القرآن) وقال: (قد علمت أن بعضكم خالجها). قال الزهري رضي الله عنه: فأمسك الناس بعد ذلك عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة. هكذا كل مصل وقارئ فلا ينبغي لمصل غيره وقارئ سواه أن يخلط قراءته عليه والله أعلم. وأما أنه لا تحل قراءته سماعًا، ولا يبتدئ حيث اتفق، فلأن المسلم إذا نهي عن أن يعرضه لمن يشبهه ويهتك حرمته. كان نهيه عن أن يروى به ويشبهنه بنفسه، أولى إذا نهى عن أن يحمله أو يمسه إلا طاهرًا، كان نهيه عن أن يمده بيده، لا خطر له فيأخذه من يشاء ويمسه من يشاء. ولعل فيهم من يلونه ويناله ينبغي صيانته أو يفعل عنه، يصيبه غبار البيت إذا كنس، والدخان إذا أوقد. أو يحمل عليه حسنات تجارته أو مفتاح حانوته أولى وأشد. ولأن الله تعالى وصف الكتاب بأنه:} في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون {. فإن كان فوق السموات مكنونًا محفوظًا، والناس مختلفون: الأماكن مختلفة، والأحوال شتى، أشد وأولى والله أعلم. وأما تفخيم قدر المصحف وتفريج خطه، فقد روى فيه أن عليًا رضي الله عنه أتى على رجل يكتب مصحفًا، فقام ينظر إليه، فقال له أجد قلمك قال: فقصصت من قلمي قصة فقال: نعم هكذا نوره، كما نوره الله. وأيضًا فإن ذلك أشبه بالإجلال والتعظيم، ألا ترى أن الناس إذا أرادوا مكاتبة ذي ملك أو سلطان، تخيروا له من القراطيس أكبرها وأمتنها وأبقاها وأقومها من الخطوط، وأفخمها وأحسنها. ومن المداد أبرقه وأشد سوادًا، وفرجوا السطور ولم يقرمطوا، وما ذاك إلا ليكونوا قد ضنوا بشيء ما كانت إليه الحاجة في مكاتبته، وبخلوا به وصغروا قدره، فلذلك صغروا الكتاب إليه أو اسمه حيث أنبتوه بكتاب الله تعالى أولى أن يفرج ويحسن رقه وخطه ومداده، ولا يتصور كاتبه بصورة النجاد ما يخط فيه كتابه، أو المرزق بكلامه، والمصغرين قدر أسمائه وأسماء ملائكته ورسله، وتبيان أحكامه وحدوده وبالله التوفيق. وأيضًا فإن الكتاب كلما كان

أكبر كان من الضياع أبعد، لأن كل أحد لا يقدر حمله ولا كتمانه، فمن التيه بالمصحف أن يتخذ منه ما يحمي بنفسه، فيكون القلب عليم آمن، وإلى بقائه أسكن، ومن المساهلة فيه وترك الحفل به، فيكون عرضة للأيدي المخاطبة، وذوي الأمانات المحيلة الناقصة. ولن يغفل هذا أحد بما عنده إلا إذا قل مقداره عنده، وخف على قلبه أمره، وما ينبغي أن يكون هذا حال المصحف عند من يؤتمن بما فيه وبالله العصمة. وأما أفراد المصحف بالقرآن وتجريده عما سواه، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإثبات ما ينزل من القرآن، فلم يحفظ أنه أمر بإثبات آيات السور أو العواشر، أو الوقوف. وأمر أبو بكر بجمع القرآن من اللحافة والعشب، وقطع الادم، ونقل عنها إلى مصحف. كما كان حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترتيب الآيات والسور، ثم اتخذ عثمان رضي الله عنه من ذلك المصحف مصاحف، وبعث بها إلى الأمصار. فلم يعرف أنه أثبت في المصحف الأول، ولا فيما نسخ منه شيء سوى القرآن. وكذلك ينبغي أن يعمل في كتابة كل مصحف. ومن كتب مصحفًا، فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير ما كتبوه شيئًا. فإنهم كانوا أكثر علمًا وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي لنا أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم ولا سقطًا لهم. وأيضًا فإن من إجلال القرآن أن لا يخلط به في المصحف المنسوب إليه، المشرف باسمه غيره. ألا ترى أنه لا يجوز أن تضم صحيفة شعر إلى صحيفة قرآن في جلد واحد. فهذا من ذاك أشد، وبالمنع منه أحق، وأيضًا فإن غير القرآن، إذا كتب آيات القرآن لم يؤمن - لم تلبيس في الجاهل - فيرى أنه منه، فوجب الاحتراز من ذاك بتجريد القرآن، وإن كان عند من يترخص في هذا لأنه يعتصم من التباس ذلك بأن يكتب عدد الآيات والسجدات والعواشر بالذهب، والقرآن بالحبر. فليعلم أن من أشد الخرق وأسوأ الأدب أن يكتب كلام الله تعالى بالحبر. وعدد الآيات بماء الذهب. وإن ماء الذهب أغلى من الحبر، فلو جاز أن يضم إلى القرآن في المصحف غيره وحسن ذلك، لكان القرآن بأن يكتب بماء الذهب وعدد الآيات بالحبر أولى. فإذا كان لا يفعل فخلافه بأن يترك ولا يفعل أحق وأولى والله أعلم.

وأما النقط فليس فيها من الكراهية ما في عدد الآيات، لأن النقط ليست بمقروءة؛ فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنًا. وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها والله أعلم. وأما تنوير موضع القراءة، فلأنها مواضع تشهدها الملائكة، فمن الحق أن ينور ويطيب. ألا ترى أنه لا ينبغي للقارئ أن يكون قد أكل ثومًا أو بصلاً أو كراتًا لئلا ينادي به الملك، فكذلك لا ينبغي إذا قرأ في بيت أو مسجد أن يدعه مظلمًا فعلا، بل ينوره ويطيبه. فإن النور أحسن من الظلمة، والطيب خير من التفل، ومن أكرم كل أخ أو صديق نزل عند أحد أن لا يترك البيت على عينه مظلمًا، فالملائكة بذلك أولى وأحق والله أعلم. وأما الإنصات للقراءة، فإنه يؤمر به من ليس بقارئ، لأن الله عز وجل يقول:} وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا {. ولأن غير القرآن ليس معادلاً للقرآن فيزاحم به ألا ترى أن واحدًا من أكبر الناس لا يحب ولا يرضى أن يقرأ كتابه على قومه، ومن يحب يده فلا ينصتوا له، فكيف يرضى الله جل جلاله من عباده أن يقرأ كتابه بمشهدهم. وهو خطاب منه عز اسمه لهم فلا ينصتوا له. وأما تعظيم أهل القرآن فقد وردت فيه أخبار: روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته). وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله كريم يحب الكرم، وجواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره إسفافها. وإن من تعظيم إجلال الله أن يكرم الإمام العادل، وأن يكرم ذو السنة في الإسلام، وأن يكرم حامل القرآن إذا كان لا يخفوا عنه ولا يعلو فيه. وعنه صلى الله عليه وسلم قال في قتلى أحد: (احفروا واوسعوا واضربوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرانًا). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه أرسل سرية فاستقرأهم، وقرأ شيخ

ثم قرأ شاب فاستعمله على السرية. فقال الشيخ: يا رسول الله استعملته علي وأنا أكبر منه؟ فقال: (أنه أكثر منك قرآنًا). وروى أن عمر رضي الله عنه أراد مكة، فتلقى أمرها نافع بن علقمة، فقال له: من استخلف؟ فقال: ابن افري فقال عمر رضي الله عنه: تستخلف رجلاً من الموالي على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما حملك على ذلك؟ فقال: يا أمير المؤمنين: لم أخلف رجلاً اقرأ للقرآن وأعلم بالسنة منه. وعلمت أن الأنصار يأتونها، فأحببت أن يصدروا عن قراءة رجل وعلمه بالسنة. فقال عمر: نعم ما رأيت. قال عمر رضي الله عنه أن الله رفع بالقرآن رجالا، ووضع بالقرآن رجالا، وإن ابن اقري ممن رفعه الله بالقرآن. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: لا تستعينوا علي بشيء من أعمالي إلا أهل القرآن، فكتبوا إليه: استعملنا أهل القرآن فوجدناهم خاصة. فكتب إليهم لا تستعملوا إلا القرآن فإنه أن لم يكن عند أهل القرآن خير، فغيرهم أحرى أن لا يكون عندهم خير. وقال الحسن: ثلاثة يوسع الله عليهم في المجلس: ذو الشبيبة في الإسلام، وحامل القرآن، والإمام المقسط، وقد ذكرته مرفوعًا، وبالله التوفيق.

العشرون من شعب الإيمان وهو باب في الطهارات

العشرون من شعب الإيمان وهو باب في الطهارات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم قال: (الوضوء نصف الإيمان، والصوم نصف الصبر، وسبحان الله نصف الميزان، والحمد لله تملأ الميزان، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض). وقال يحيي بن آدم: الوضوء نصف الإيمان، لأن الله جل ثناؤه سمى الصلاة إيمانًا، فقال:} وما كان الله ليضيع إيمانكم {يعني صلاتكم إلى بيت المقدس. ولا تجوز الصلاة إلا بوضوء، فهما شيئان، كل واحد منهما نصف للآخر. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سددوا وقاربوا واعلموا أن خير خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). فثبت بهذه الأخبار أن الوضوء إحدى شعب الإيمان. وله من الفضل أن الله تعالى خص هذه الأمة به. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سألوه: كيف تعرف أمتك يعنون يوم القيامة فقال: (لو أن رجلاً كانت له خيل غر محجلة بين ظهراني خيل بهم أما كان يعرفها: قالوا: بلى. قال: فأنتم تأتوني يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء، وأنا أفرطهم على الحوض).

ومنه ما جاء من تكفير الذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا غسل وجهه حط الله عنه خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان ذلك، فإذا مسح رأسه كان ذلك، فإذا طهر قدميه كان ذلك). فصل وأصل الوضوء ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحى إليه (استعلى له جبريل صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة من قبل حراء فوضع يده على رأسه وفؤاده وبين كتفيه، فقال: لا تخف، أنا جبريل، فأجلسه معه على مجلس كريم، وبشره برسالات الله عز وجل حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام. قال: اقرأ: قال: كيف اقرأ؟ قال:} اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم {وأبدى له جبريل نفسه، له جناحان من ياقوت يخطفان البصر. ففتح عينًا من ماء فتوضأ ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه. فوضأ وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين، وسجد سجدتين مواجهة البيت. ففعل محمد صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل يفعل. وقبل رسالة ربه صلوات الله عليهما، واتبع الذي نزل به جبريل من عند رب العرش العظيم). وقد روى هذا الحديث مختصرًا ومستمعًا كما رويته. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما علمه الوضوء وأمر به لأجل السجود، فلما أمر بالصلاة التي يتكرر فيها السجود لم يخف عليه أن السجود وحده إذا كان لا يجوز بغير الوضوء، فهو مع اغبار له كثيرة، أولى أن لا يجوز بغير الوضوء. فكان هو صلى الله عليه وسلم، والمسلمون معه يتوضأون للصلاة من حيث شرعت الصلاة. فلما نزل قوله عز وجل:} يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا بروءسكم وأرجلكم إلى الكعبين {. لم يكن المراد به شرع الوضوء، وإنما كان المراد به شرع التيمم. فذكر الوضوء والغسل

معًا وهما مشروعان معلومان، ثم عطف عليهم ذكر من لم يقدر عليهما إما لمرض أو لعدم ماء فأتيح له التيمم. وقد يجوز أن يكون المراد بها فرض غسل الرجلين في قراءة من قرأ "وأرجلكم" بالنصب، وإقرار المسح على الخفين بدلاً عن الغسل، كما كان من قبل بدلاً من المسح لا ما روينا في حديث بدء الوضوء مسح الرأس والرجلين. وثبت أن المسح على الخفين كان مشروعًا قبل نزول المائدة، فصح أنه كان حينئذ بدلاً من مسح الرجلين. فلما فرض غسلهما لم يتبدل حكم المسح بل أقر على حاله والله أعلم. فصل فقد ظهر أن فرض الوضوء غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين. وهذا هو الذي استقر بالكتاب، ودل الكتاب على أن الغسل بالماء، ثم آيات الله عز وجل بقوله:} وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين {. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) أن الوضوء لا يعتقد عبادة إلا بنية. وزاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء نوافل سنها بأمر الله عز وجل: فمنها غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء. ومنها تسمية الله عز وجل عند هذا الغسل. ومنها المضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه من كف واحد. ومنها استيعاب الرأس بالمسح. ومنها مسح الأذنين وإدخال الإصبعين في الصماخين. فإما تخليل أصابع الرجلين فإنه احتياط يستيقن المتوضئ أن الماء قد وصل إلى بطون الأصابع. وإنما تكرير هذه الأعمال ثلاثًا ثلاثًا فيكره مجاوزة الثلاث. وأما غسل اليديين قبل إدخالهما الإناء، فإنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يداه). وأما التسمية فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه). وأما المضمضة والاستنشاق فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من الفطرة المضمضة

والاستنشاق). وجاء عنه أنه توضأ فأدخل يده في الإناء، فمضمض واستنشق من كف واحد. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من توضأ فمضمض واستنشق خرجت خطاياه من فيه وأنفه). وأما استيعاب الرأس بالمسح، فإنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع كفيه على مقدم رأسه ثم مر بهما إلى القفاء، ثم رجعهما إلى المكان الذي بدأ منه وأما تخليل أصابع الرجلين فإنه روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خللوا أصابعكم قبل أن يخللها الله تعالى بالنار يوم القيامة). وأما مسح الأذنين، فإنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أدخل أصبعيه في أذنيه فأخذ ماء جديدًا لهما، فلأنهما عضوان على حالهما، ولا يحال في الوضوء عضو على عضو. وأما التثليث، فإنه يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة. فقال: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. ثم توضأ مرتين مرتين، فقال: من مرتين أتاه الله أجره مرتين. ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا. فقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء خليلي إبراهيم). وإما ترك مجاوزة الثلاث، فلأنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: (هذا الوضوء، فمن زاد فقد أساء وظلم). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فمن جاوز هذا من أمتي فسموه ظالمًا، ومن أظلم ممن يرغب عن سنتي، ثم استغفر له ربه). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ستكون في آخر هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور). وأما ما ذكر الله تعالى من الفرائض الأربع، فإن فيها من التفصيل: أن من كان أمرد

أو خفيف اللحية فعليه غسل شعره وبشرة وجهه، فإن كان شعره كثيفًا أجراه على أن لا يصل الماء إلى بشرة وجهه، ويدخل مرفقيه وكفيه في الوضوء، ولا يجريه على مسح الرجلين ولا أن يتفرق وضوؤه. وأن فرقة أجراه. وذلك كله ظاهر التنزيل. فأمامسح الخفين، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، إذا تطهر فليس خفيه أن يمسح عليهما، وإذا انقضت المدة وهو طاهر، أو خلع الخفين أو أحدهما غسل قدميه وصلى والله أعلم. فصل والذي يوجب الوضوء النوم إلا قاعدًا، وخروج ما يخرج من السبيلين، والعلية على العقل بجنون أو غشي أو سكر أو ملامسة الرجل المرأة، ومسح الفرج ببطن الكف. قال الله عز وجل:} إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم {. فجاء في التفسير إنها نزلت في القائمين من المضاجع. وجاء أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينتظرون العشاء فينامون قعودًا ثم يقومون إلى الصلاة ولا يتوضأون. وقال الله عز وجل:} أو جاء أحد منكم من الغائط {والغائط مؤتي للخلاء والبول جميعًا. وقال:} أولا مستم النساء {وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مس فرجه فليتوضأ). فكان في هذه الدلائل بيان ما ذكرنا من الأحكام والله أعلم. فصل والطهارة بالماء من الحدث ضربان: أحدهما الوضوء، وقد مضى ذكره. والآخر الغسل، والذي يوجبه خروج الماء الذي يكون منه الولد من الرجال ويواري الحشفة في فرج الإنسان فوجب الغسل عليهما، وإن لم يكن معه إنزال. وتوجبه على النساء خاصة

الحيض والولادة ولا تغتسل حتى تطهر، ولا التي ولدت حتى ينقضي نفاسها، قال الله عز وجل:} وإن كنتم جنبًا فاطهروا {. أي بالماء فأبان بقوله تعالى:} لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا {. أي فرض الجنابة الغسل. وهو أن يغسل عامة ما ظهر من بدنه شعره وبشره. وقال الله عز وجل في الحيض:} ولا تقربوهن حتى يطهرن {. ثم إبان النبي صلى الله عليه وسلم إن أطهارها غسلها، كما إن إطهار الجنب غسله. فقال للمرأة: (إذا أدبرت عنك الحيضة فاغتسلي وصلي). والولاد يوجب الغسل، لأن خروج الماء الذي يكون منه الولد إذا كان الغسل بالولد التام خلقه أولى بإيجابه والله أعلم. فصل والطهارة بالماء قد تجب من التنجس كما تجب من الحدث سواء أصابت النجاسة البدن أو الثوب أو المصلى عليه منه أو حفنة من الأرض. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقبل صلاة إلا بطهور). إلا أن الاستنجاء بالأحجار ثلاثًا ثلاثًا من الخلاء والبول في مكانهما تجري للصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم فليستنج بثلاثة أحجار، ونهى أن يقتصر على أقل من ثلاث. ودم البراغيث والبسير يخرج من النتره سينقطر أو النضج فيصيب الثوب أو البدن غفو عن المصلي، قد كان ذلك يصيب المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده فما حفظ عن أحداثه نجاساة. فصل وقد تكون الطهارة لا من حدث ولا من نجاسة إلا أن ما كان منها لحدث أو نجاسة. لم يكن إلا واجبًا، وما كان لأمر حدث ولا نجاسة لم يكن إلا غير واجب، وإنما سمي طهارة توسعًا ومجازًا وحقيقتهما النظافة والنترة، ومنهما السواك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم

لقوم كانوا يدخلون عليه: (مالي أراكم تدخلون بلحاء تسوكوا، فلولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). وقال: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب). ويستحب عند كل حال يغير فيهما الفم إلا أن يكون تغيرها من النوم. ومنها المضمضة، وذلك الأسنان بالأصابع والاستنشاق وإدخال طرفي الأصبع في أذني الأنف لإخراج قاذورات، كن فيه. ومنها قلم الأظافر وغسل مواضعه بالماء. وخلق الشعور أو تنظيفها بالغسل بما ينشف عرقه، ويقطع الرائحة الكريهة عنه. ومنها حلق العانة والتنور لها الحلق. ففي حديث الفطرة هو الاستحداد وماء التنور. فقد روى أن رجلاً نور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ من أنفه كف الرجل نور رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلوا الحمامات حين قدموا الشام، وأطلوا بالنورة. ومنها ترك الاقتصار على الاستنجاء بالأحجار والتطهر بالماء، وذاك إزالة النجاسة بالحقيقة، إلا أن ابتداء النجاسة لما كان عفوًا عن المصلى، دخلت إزالته في باب التنظيف والبترة، وهو الذي أريد بالانتقاص بالماء في حديث الفطرة. ومنها الغسل للصلاة يوم الجمعة، قالت عائشة رضي الله عنها: كان الناس عمال أنفسهم وكانوا يلبسون الصوف فإذا حضروا المسجد بدت منهم روائح كريهة، فقيل لهم: لو اغتسلتم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم الجمعة واجب على كل محتلم) وقال: (من أتى يوم الجمعة فليغتسل). ومنها الوضوء قبل الطعام وبعده، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الطعام وبعده، إلا أنهما يغتسلان بعد الطعام حتى لا يبقى من الطعام أثر يؤدي إلى تغيير رائحة الفم. وقد تكون الطهارة لا من حدث ولا من نجاسة، ولا تقذرًا، ولكنه ازديادًا من بعض ذلك. فمنها

تكرير الوضوء، ومنها تجديد الوضوء لكل صلاة. ومنها الوضوء عند النوم، ومنها الوضوء عند الغضب، ومنها الوضوء من الغيبة والكذب وإنشاد الشعر. ومنها الوضوء من استغراق الضحك، ومنها الوضوء من حمل الميت وكل ذلك مستحب. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، وقيل: إذ ذلك كان واجبًا عليه ثم فسخ. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للبراء: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: (اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة منك، ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بنبيك الذي أرسلت، وبكتابك الذي أنزلت، واجعلهن آخر كلامك، فإن مت من ليلتك مت على الفطرة). وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإن الماء يطفي، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). وروى أن رجلاً جلس إلى عمر رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمثل بيتين من شعر، فقال عمر: إنك قد تكلمت بما قد سمعت، فلو قمت فتوضأت، فإن الصلاة قد حضرت، وذكر ابن سيرين إن رجلاً كان يمر بأهل مجلس فيقول: توضأوا فإن ما نحوتم من الكلام أشد من بعض الحديث. ومن هذا الباب الاغتسال من غسل الميت. والغسل لدخول مكة، والغسل للوقوف بعرفة، والغسل للإحرام. ومن قال هذا كله ينظف الحقه بغسل يوم الجمعة. وكل قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد فعله إلا الغسل من غسل الميت، فإنه أمر به عليًا لما جاءه فأخبره أنه فرغ من أمر أبي طالب غسله ووراه. قال: (من غسل ميتًا فليغتسل). ولم يخلف في غسل بأجر سنه أنه غير فرض، ولا في غسل تقدم سنه أنه فرض إلا غسل من غسل الميت.

فصل وهذه الطهارة كما أنها تنقسم إلى فرائض وسنن، فكذلك تنقسم معهما إلى آداب. فأما الوضوء فمن آدابه: أن المتوضئ إذا فرغ ذكر الله جل ثناؤه. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من توضأ فأحسن وضوءه، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإن محمدًا عبده ورسوله، صادقًا من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب الجنة يوم القيامة دخل من أيها شاء). وعنه صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يقول حين يتوضأ: بسم الله، ثم يقول لكل عضو أشهد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يقول حين يفرغ: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، إلا فتحت له ثمانية أبواب الجنة، يدخل من أيها شاء. فإن قام من ذلك فصلى ركعتين يقرأ فيهما، ويعلم ما يقول إلا انتقل من صلاته كيوم ولدته أمه) ثم قال له: استأنف العمل. ومنها أن لا يسرف في استعمال الماء: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: (ما هذا السرف يا سعد، فقال: أفي الوضوء إسراف؟ فقال: نعم، وإن كنت على نهر جار). وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من إناء على نهر، فلما فرغ من وضوئه أفرغ فضله في النهر. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع. ومنها أن لا يقدم يسري على يمنى، ولا يمسح الأذنين قبل مسح الرأس، ولا يبدأ بعد الوجه من الذقن ثم يعلو إلى الجبهة. ومنها أن لا يفرق وضوءه ولا غسله، ويجمع ذلك كله في مقام واحد. فأما التجفيف بمنديل أو ثوب ما كان. فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرض عليه فاباه. وروى أنه اغتسل، فيسد به فاطمة عليها السلام بثوبه، فلما فرغ أخذه يتجفف به، ثم قام فصلى

ثماني سجدات وذلك ضحى. وروى عنه أنه كانت له خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ، وروى مثل ذلك عن عثمان رضي الله عنه، وعلي والحسين بن علي رضي الله عنهم. وقال بعض الناس: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رد الخرقة التي عرضت عليه فلم يتمسح بها، لئلا يمسح أثر الطهور، وهو نور. وقد جاء أنه يوزن يوم القيامة، فيقال له أرأيت إذا لم يمسح أثر الوضوء كما ذكرت، أتصلى به قبل أن يجف، فيسجد على رمل أو تراب فإن قال: نعم. فيقال له: أرأيت إذا سجد فحملت جبهته رملاً أو تراب المسجد إذا أراد أن يسجد ثانيًا. فإن قال: لا. قيل: أيسجد بما حملت جبهته، وقد حال بينها وبين المسجد فلا يصح سجوده، ويكون كمن لم يسجد في قول بعض العلماء، ويصح في قول بعضهم: إلا أن فضل الاقضاء، بالجبهة إلى المسجد ليس بأدنى من فضل ترك بلل الوضوء على العضو فيكون قد ترك الأفضل لغير الأفضل. فإن قال: لا يفعل واحدًا منهما ويمسح جبهته. قيل: فإذا مسح فقد أزال أثر الوضوء والصلاة جميعًا، لأن البلل من آثار الوضوء، والتراب من آثار السجود، فإن كنت ترى أن يمسحها جميعًا، فهلا رأيت أن يمسح أحدهما وبالله التوفيق. وأما ضرب الماء على الوجه كهيئة اللطم، فقد روى عن إبراهيم: كانوا يكرهون أن يلطموا وجوههم بالماء إذا تظهروا وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه، ثم أدخل يده جميعها في الإناء، فأخذ حفنة ماء، فضرب على وجهه، ثم الثانية ثم الثالثة مثل ذلك، فقد يجوز أن يقال أن الضرب الخفيف جائز ولابد منه، والضرب الشديد مكروه وهو اللطم. ومنها أن يغسل وجهه بيديه جميعًا، هذا هو الأغلب من وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما روى عنه من أنه كان يغسل وجهه بيمينه محمول على أنه كان يفعل ذلك إذا توضأ من إناء ضيق الفم، فيفرغ منه بشماله على يمينه. وأما إذا توضأ من هذا وإناء واسع باليدين معًا والله أعلم. ومنها إذا توضأ لم يصب الماء من يده فيمرها بالماء على أعضائه، كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أن يدلك عارضيه إذا كانت لحيته كثيفة. وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أن لا يتوضأ ولا يغتسل في ثوبه وإن كان نظيفًا. وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا توضأت تدخل يدها من تحت الوقاية فتمسح رأسها كلها.

ومنها إذا خلل أصابع رجليه خلله بالخنصر، وكذلك يدخل الخنصر في ضماخي أذنيه، هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ذلك بالخنصر ما بين أصابع رجليه. ومنها أن يغسل رجليه جميعًا بيده اليسرى. وروى أن عليًا رضي الله عنه دعا بطهور، فصب بيده اليمنى الثلاث مرات على يده اليمنى فغسلها بيده اليسرى، ثم صب بيده اليمنى على يده اليسرى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات. ثم قال: هذا طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس هذا كالوجه إذا غسله بإحدى يديه غسله باليمنى لأن الرجلين موضع الأوساخ والأذى، واليسرى أولى بهما، والوجه عضو التحية والكرامة، فاليمنى له أولى والله أعلم. فصل واشتمل هذا الباب على الآيات التي ذكرتها مع الفرائض والسنن التي عددتها، فكذلك الاستنجاء وما يدخل في بابه من إزالة الأنجاس، يشتمل على سنن وآداب. فإن أول ذلك من قضاء حاجته من بول أو غائط، فينبغي أن يتحرى له مكانًا سترًا، فإن كان بيته فناحية منه لا يحسن بما يكون منه فيها. وإن كان شجرًا بحيث يبتعد عن أبصار الناس. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتى الخلاء فليستتر، وإن لم يجد إلا كثيبًا من الرمل فليجمعه وليستتر به). وفي حديث آخر قال جابر رضي الله عنه: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال لي: (يا جابر، اجعل في الإدارة ماء، ثم انطلق بنا حيث لا نرى، فإذا هو بشجرتين بينهما أذرع، فقال لي: يا جابر، انطلق إلى هاتين الشجرتين، فقل لهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركما أن تجتمعا حتى يجلس خلفكما، فجاءتا فجلس خلفهما، ثم رجعتا إلى مكانهما). وقال المغيرة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تبرز تباعد وفي حديث آخر:

إذا خرج إلى الخلاء استبعد وتوارى. وعنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى الحاجة برز حتى لا يراه أحد، وكان لا يرفع ثيابه حتى يدنو من الأرض. وإذا خرج رجلان لقضاء الحاجة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خرج رجلان فليتوار أحدهما عن أخيه). وقال: (لا يخرج الرجلان للغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت ذلك. ومنها إذا خرج أعد الطهور، فإن كان معه ماء وإلا أخذ الأحجار ومنها أن يتقي الملاعن وهي المواضع التي جرت العادة بارتفاق الناس بالجلوس فيها للصلاة، والأكل والاستراحة والأنحاء وقارعة الطريق والظلال وعند جدار المسجد، وفي الماء النافع وعند النخلة وفي المغتسل. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا الملاعن وأعدوا السبل. وقيل السبل هي الأحجار الصغار التي يستنجى بها). ومنها أن يتقي البول على مواضع صلب أو مرتفع يتراجع على يمينه شيء. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن يبول تواجد في عراء من الأرض أخذ عود فنكت به الأرض حتى ينبري التراب ثم بال فيه. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه أتى رمت حائط فبال، وقال: (إذا بال أحدكم فليرتد لبوله). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يبولن أحد في الحجر) قيل لقتادة: وما يكره من ذلك: قال: إنها مساكن الجن. وقد يحتمل غير ما قال قتادة، وهو أنه ربما كان فيه بعض الهوام الساعة، فيخرجه البول فتلسع البائل. وقال الزهري رضي الله عنه كان يكره أن يبول الرجل إلى جدار المسجد، أو يمسح أثر بوله بجداره. ويقول: أثر المسجد من ذلك. وكره الحسن رضي الله عنه أن يقضي الرجل حاجته عند النخلة الحامل، ويحتمل أن يكون كره لأنه لا يؤمن أن يأتيها من يريد ثمرتها، فيصيب النجس قدمه أو ثوبه. وإذا هزت النخلة سقطت ثمرتها على النجاسة ففسدت على صاحبها. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا الملاعن الثلاث: أن يقعد أحدكم في ظل مستقبل

به، أو في طريق أو نبع ماء). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يبال في الماء الراكد. وأنه قال: (لا يبولن أحدكم في مستحمه، فإن عامة الوساوس منه) وأنه نهى أن يبول الرجل في مغتسله. وقال عطاء وسفيان: أراد المغتسل الذي لا يتجرد للماء منه. فإن كان الماء يمر عنه فلا بأس بذلك. ومنها أنه إذا أراد دخول الخلاء وضع عنه كل شيء كتب فيه ذكر الله عز وجل، لما رواه أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه وإنما كان يفعل ذلك لأنه كان نقش خاتمه محمد رسول الله. ومنها أنه إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: (أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث الشيطان الرجيم). روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أنه قال: (أعوذ بك من الخبث والخبائث). ومنها أن لا يذكر الله تعالى وهو يتخلى أو يبول. روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يكره أن يذكر الله على خلائه، أو يذكر الله وهو يواقع امرأته، لأنه ذو الجلال والإكرام يجل عن ذلك. وقال مجاهد: كان يقال إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وجماعه. وكره ذلك جملة التابعين. وقال الحسن رضي الله عنه فيمن يعطس وهو يتخلى بذكر الله في نفسه، وهذا كما قال: وإذا فرغ من حاجته، وزايل مكانه، فحمد الله بلسانه فذلك حسن. ومنها أن يقنع رأسه إذا أراد قضاء الحاجة. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء لبس حذاءه وغطى رأسه. وقال أبو بكر وهو يخطب الناس: يا أيها الناس استحيوا من الله فإني لأظل إذا أتيت الخلاء أغطي رأسي استحياء من ربي. وقال ابن طاووس رضي الله عنه، قال لي: إني إذا دخلت الكنيف تقنع رأسك. ومنها إذا جلس لقضاء حاجته في صحراء لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لغائط ولا بول. فإن جلس في بيت فليس عليه ذلك).

قال ابن عمر رضي الله عنه اطلعت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا على لبنتين مستقبل بيت المقدس يقضي حاجته. ومنها إذا جلس استخلى سكت، ولم يكلم أحدًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجلس الرجلان على الغائط يتحدثان ينظر كل واحد منهما صاحبه، فإن الله يمقت ذلك). وقال للذي سلم عليه وهو يبول: (إذا رأيتني على هذه الحال فلا تسلم علي، فإني لا أرد عليك). ومنها إذا جلس لبول نضاح. يروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو موسى: حتى إن كنا لنأوي له أن يرحمه. ومعناه فرج ما بين رجليه لئلا ينتضح البول عليه، لأنه كان يقول: استتر هو من البول قائمًا، فإنه فقد روى أنه فعله. وروى عنه أنه نهى عنه. فقيل: أن أعجله البول أو كان بقربه ناس فبال قائمًا وولاهم ظهره، لأن ذلك أحصن لخوفه من أن يخرج منه ما لا يريد، فيسمعوه، فلا بأس فإن لم يكن عذر فليجلس فإنه أحسن. ومنها إذا جلس يتخلى يتوكأ على رجله اليسرى. قيل لسراقة بن جعثم في حي من أحياء العرب وهو يقول: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أما علمكم كيف تجرون، فقال: بلى والذي بعثه بالحق، لقد أمرنا أن نتوكأ على اليسرى وننصب اليمنى. ومنها أن لا يطيل الجلوس على الخلاء، لما جاء عن لقمان الحكيم عليه السلام أنه يورث البواسير. ومنها أن لا يمس ذكره إذا بال واستنجى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمس أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) ومنها أنه إذا أراد الاستنجاء بدا بدبره ثم ثنى بقبلة. وقال بعض الحكماء: السنة، ويحتمل ذلك لأن أغلظ النجاستين أهم، والبدأة بالأهم أولى. ويحتمل أن يكون لأنه إذا استنجى من الغائط أولاً، قدر على التمكن من الجلوس واستنجى بعد ذلك من البول متمكنًا أو ينزل بول إن كان قد بقي، فلا يحتاج إذا بدأ به إلى إعادة الاستنجاء.

ومنها أن لا يستنجي بيمينه، ولكن يأخذ الأحجار بشماله. وإذا استنجى من البول أخذ الحجر كأنه جدار، وأخذ فرجه بشماله فيمسحه عليه. نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يستطيب بيمينه، ومنها أن لا يستنجي من البول حتى ينثر ذكره ثلاثًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استبرئوا من البول، فإن غامة القبر منه) وقال: (إذا مال أحدكم فلينثر ذكره ثلاث مرات). ومنها أنه إذا فرغ من الاستنجاء فارق موضعه وقال: الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذيني وأمسك ما ينفعني. فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك: وروى عنه أنه كان (إذا أخرج من الخلاء قال: غفرانك). فأما الاستنجاء فقد ذكرت فيما مضى أنه لا يجري بأقل من ثلاثة أحجار، وإن اتقي ما دونها، وإن لم يتق الثلاث زاد حتى يبقي، ولا يستنجي بشيء نجس، ولا بعظم ولا بلحم مقدد، ولا بكسر الخبز فإن فعل لم يتق، وإن أخذ الحجر بيمينه فاستنجى اتقاه لأن المتقى هو الحجر دون اليد والله أعلم. والمستحب أن يبدأ فيتقي بأحجار ثم يتطهر بالماء. وروى أنه لما نزل في أهل قباء قول الله عز وجل:} رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين {. قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذه الطهارة التي أنزل الله عليكم من أجلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهو ذاك هو ذاك). وإذا أراد الاقتصار على أحدهما فالماء لأنه أبلغ. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد استنجى بالماء كما استنجى بالأحجار. قال، أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام إناء فيه ماء، فيستنجي به. وقالت عائشة رضي الله عنها للنساء: مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني استحيتهم منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله. وإذا استنجى بالماء غسل يده بعد الاستنجاء بتراب أو اثنان. قال أبو هريرة رضي

الله عنه: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاء فأتيته بماء فاستنجى به، ومسح يده بالأرض ثم غسلها، ثم أتيته بأخر فتوضأ. فصل فأما الاغتسال فإن المفروض منها غسل الجنابة، والغسل من الحيض ومن الولادة، وما عدا ذلك فكله سنة. والجنابة تكون بشيئين: أحدهما أن يغيب الحشفة في فرج آدمي أو آدمية فيجب الغسل على كل واحد منهما، وإن لم ينزل لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا التقى الختانان وجب الغسل). وإنزال الماء الدافق موجب للغسل. وكان الحكم في أول الإسلام: إنما الماء من الماء وإن من جامع ولم ينزل فعليه الوضوء. ثم فسخ بما ذكرت. وإذا جامع الرجل أهله، فأراد أن ينام قبل أن يغتسل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من سأله عن ذلك أن يتوضأ وضوءه للصلاة ثم لينم. وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كذلك كان يفعل، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الملائكة لا تحضر جنازة كافر ولا جنب حتى يغتسل أو يتوضأ وضوءه للصلاة). وقالت عائشة: إذا كان أحدكم جنبًا فأراد أن يرقد فليتوضأ، فإنه لا يدري لعله تصاب نفسه في منامه، ولا ينبغي للجنب أن يأكل أو يشرب ما لم يتوضأ. قال جابر رضي الله عنه: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنب، هل ينام أو يأكل؟ قال: إذا توضأ وضوءه للصلاة. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبًا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ). وإذا أراد الجنب الخروج بحاجته توضأ ثم خرج. روى ذلك عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وعن جماعة سواه. وإن أراد الجنب أن يعود، فقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد أحدكم العود فليتوضأ). ولكن معناه فليتنظف بغسل فرجه لأنه روى في حديث آخر مفسرًا: (إذا أراد أحدكم

أهله، ثم أراد أن يعود فليغسل فرجه). وفي رواية أخرى: (فلا يعودن حتى يغسل فرجه). وإذا أراد أن يطوف على نسائه أو على جواريه بغسل واحد، فذلك جائز، فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن اغتسل عند كل واحدة فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله. وقال: (هذا أزكى وأطيب). فصل وينبغي للجنب إذا أراد الغسل أن يستتر. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس أن الله يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم ليتوار من الناس بشيء). وسترت فاطمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب حين اغتسل. وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ثلاثة يغتسلون في حوض عراة، فأشار إليهم بأن يأخذوا ثيابهم فقال: (ما تستحيون الكرام الكاتبين، أما يستحي بعضكم من بعض، إذا كان أحدكم بالفلاة، فأراد أن يغتسل فليستتر ببعير أو بشجرة، فإن لم يجد فبأخيه وليوليه ظهره). وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجير في غنم الصدقة قائمًا عريانًا، فقال: كم عملت لنا؟ قال فلم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلك ما أريد أزكى لنا عملاً ما لا يستحي الله إذا خلا). وإذا أراد الجنب أو غيره دخول الماء في بحر كان أو حوض فلا يدخله إلا بمئزر. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل أحدكم الماء إلا بمئزر، فإن للماء عابرًا. وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الجار فدعا بمناديل، فقال: واغتسلوا بماء البحر فإنه مبارك، وإذا دخل الحمام فلا تدخلوه إلا بمئزر. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء عن الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوها

بالمآزر، ونهى النساء عنها إلا أن تكون نفسًا أو سقيمة. ومن دخل الحمام وقد سبقه غيره فلا ينظر إليه ولا يسلم عليه روى عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: ليس في الحمام سلام ولا تسليم، وينبغي أن يرفع اسم الله عن أن يذكر في الحمامات. كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أما بعد، فلا تدخل الحمام إلا بمئزر ولا تذكر الله فيه حتى تخرج منه، ولا يغتسل اثنان في حوض. فصل وإذا بدأ الجنب الإغتسال، فليسم الله ثم ليغسل يديه. قالت ميمونة رضي الله عنها: وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلاً فاغتسل من الجنابة، فأكفأ الإناء بشماله على يمينه، فغسل يديه ثلاثًا ثم أدخل يده في الإناء ثم يغسل فرجه بشماله ثم يغسل يده بتراب أو بشيء نظيف. قالت ميمونة رضي الله عنها: كان رسول الله، إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه ثم يضرب بيديه الأرض فيمسحها ثم يغسلهما ثم يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه وذراعيه، ثم يفيض الماء على جسده، ثم يتنجى فيغسل قدميه. هكذا وصفت ميمونة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أنس رضي الله عنه أنه تمضمض واستنشق ثلاثًا، وهذا يدل على أنه عده من وضوئه لا من غسله، لأنه ليس في الغسل عدد. وإذا كان على رأسه شعر، وكانت كث اللحية أو كانت المغتسلة امرأة أفاض الماء على شعوره ثلاثًا وغلغله في أصولها، ليعلم أن الماء قد وصل إلى ما تحت الشعر من بشرته، كما وصل إلى ظاهر شعره. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفاض الماء على رأسه ثلاثًا، وأقبل بيديه وأدبر، وخلل بيديه أصول الشعر. قالت عائشة رضي الله عنها حتى يخيل إلى أنه استبرأ البشرة. وأما إفاضة الماء على سائر الجسد فلم يرو فيها عدة فإن لم يكن على رأس المغتسل شعور كثيرة، ولا على وجهه مجرى سائر جسده، ويدخل إصبعيه في سرته إن كانت غائرة فيعلم أن الماء قد وصلت إليها. روى ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الشعبي: إذا اغتسلت فلا تنس سرتك، وما تحت خاتمك، فإنهما خصلتان أغفلهما الناس.

وإن كانت المرأة قد شدت ضفائرها، فإن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفانفضه للغسل من الجنابة؟ قال: (لا إنما يكفيك أن تحثي عليها ثلاث حثيات، وتفيضي عليك من الماء، فإذا أنت قد طهرت). وإذا اغتسلت المرأة من الحيض فإنها تفعل ما ذكرنا كله، فإذا فرغت، وقد غسلت فرجها بالماء قبل الغسل كما يفعله الجنب شيئًا من مسك، فتتبعت بها أثر الدم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها الغسل من المحيض، ثم خذي فرضة من المسك فتطهري. قالت عائشة رضي الله عنها: تتبعي بها أثر الدم. وينبغي للمغتسل والمتوضئ إذا تطهرا وهما على حد عجلة، أو متاذيان بشدة برد، أن يستبغا طهارتهما ولا ينزعا حتى يعلما أن قد أكملا ولم يبقيا شيئًا. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل أنه قال: (الإيمان ثلاثة، والأمانة ثلاثة، من آمن بالله العظيم وصدق المرسلين أولهم وآخرهم، وعلم أنه مبعوث بعد الموت فقد طعم طعم الإيمان. والأمانة ثلاث: ائتمان بالله تعالى على العبد على صلاته وصيامه وغسله، ولو شاء قال: صليت ولم يصل. ولو شاء قال: إنما أنا صائم، ولم يصم ولو شاء قال: قد اغتسلت من الجنابة ولم يغتسل. فإن الله سبحانه وتعالى قال: ومن اغتسل من الجنابة فهو عبدي حقًا، ومن لم يغتسل من الجنابة لم يكن عبدي حقًا). وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام - يعني الجنب عليه الماء - فله بكل شعره يمر بها عشر حسنات وتمحي بها عشر سيئات، ويرفع بها عشر درجات. ويباهي الله به الملائكة يقول: انظروا إلى عبدي هذا، قد قام في ليلة قرة يغتسل فيها من خشيتي، أشهدكم ملائكتي إني قد غفرت لعبدي). وهذا من كانت جنابته من حلال. فأما إذا كانت من حرام، لم يكن لغسله هذه المنزلة إلا أن يتوب قبله والله أعلم. ومما جاء في الوضوء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا،

ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدًا مأمورًا مضى لأمر الله، لم يشر إلينا شيئًا دون الناس غير أنه أمرنا أن لا نثري الحمائر على الفرس وأن لا نأكل الصدقة وأن لا نسبغ الوضوء، وفي بعض الروايات الحمر على الخيل، والمراد بالنهي العراب. فصل ولا يكون الوضوء ولا الغسل وإزالة النجس إلا بالماء المنزل من السماء والنابع من الأرض والراكد والجاري، والكدر الصافي والعذب والأجام والحار والبارد، وما انعقد ثم ذاب وما كان بحاله ذائبًا كله طهور، غير أن المسخن في القماقم والكراي المقدمة بالشمس يبقى، لأن عائشة رضي الله عنها قالت: سخنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ماء في الشمس فقال: (يا حميرة لا تعودي فإنه يورث الوضح). وأما ما انبسطت على الشمس من مياه الغدران والحياض والأودية والنجاد، فليس فيها هذا المعنى ولا كراهية. والأصل في هذا قول الله عز وجل:} إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم {وكانت عادة المخاطبين بالآية أن يغتسلوا بالماء، فانصرف الأمر إليه، ولم يسقط الفرض غيره، لأن الأمر بالشيء نهي عن تركه، وغسل الجنابة قياس على الطهارة من الحدث لأنه طهارة الصلاة مثلها، والله أعلم. وأما النجاسات فهي كثيرة، منها: الخمر، قال الله تعالى:} إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان {. والرجس أعظم الأنجاس وقال:} فاجتنبوه {وليس النجس إلا ما يجب اجتنابه، وكل شراب مسكر فهو نجس قياسًا على الخمر.

ومنها الأبوال والأرواث: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنترة من البول، وفرض الاستنجاء منه ومن الخلاء. ونهي عن البول في الماء الدائم، والخلاء في الماء النافع، وذلك في القليل من الماء، فعلم به نجاستهما، ومنها الميتة إلا استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها من الحوت والجراد ولا الآدمي الميت، فإنه طاهر، ولولا ذلك لم يغسل. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مطعون وهو ميت ودموعه تسيل على لحيته، فلو كان نجسًا لتنزه عنه. وإذا كان الآدمي لا ينجس بالموت، فكذلك ما قصه من شعره وظفره وتقشر من جلده، وندر من سنه، فهو طاهر كله. وينبغي أن يدفن ولا يطرح. ولا سعر ما يؤكل لحمه إذا أخذ منه وهو حي، لأنه أخذ منه وهو حي، لأنه أخذ منه حلال. فهو لقطع الرأس في ذكوته، قال الله عز وجل:} ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين {. فأباح الانتفاع بهذه الأشياء ولو كانت نجسة لأمر بطرحها والتنزه عنها، فأما ما عدا ما ذكرنا من الميتة فنجس. مر النبي صلى الله عليه وسلم على شاة لآل ميمونة، فقال: (هلا انتفعتم باهابها فقالوا: أنها ميتة، فقال: دباغها طهورها) فأبان أنه نجس ولولا ذلك لم يحتج إلى ما يطهره. وقال: (أيما أهاب دبغ فقد طهر) فدل ذلك على أن الدباغ يزيل النجاسة الواقعة بالموت. وإذا كان المأكول لحمه إذ ذكي نجس إذا مات لا عن ذكوة، فالذي لا يؤكل لحمه بأن نجسه الموت أولى، والله أعلم. ومنه الكلب والخنزير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب) وهذا يدل على أن نجاسته أغلظ النجاسات وقال الله عز وجل: في الخنزير أو لحم الخنزير فإنه نجس. ومعنى ذلك فإن الخنزير رجس لأنه أقرب إلى الكناية من اللحم، والرجس أعظم الأنجاس، فعلمنا أن الخنزير الحي نجس وأنه أنجس من غيره، فالحق بالكلب في الحكم والله أعلم.

وأما الألبان، فإن لبن ما لا يؤكل لحمه نجس لأنه كلحمه لا حال له بعد الموت إلا النجاسة. وأما لبن ما يؤكل لحمه فهو كلحمه المذكي، لأن اللبن مباح. قال الله تعالى:} والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين {. وقال:} فإن ارضعن لكم فاتوهن أجورهن {. فهو كاللحم المباح. ولبن الآدمية كحملتها بعد الموت وهي طاهر ميته، فكذلك لبنها إذا فارقها والله أعلم. وأما القيء فإنه نجس قياسًا على الرجيع، المذي أو لودي نجاسان. فأما المذي فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المقداد بنضح الفرج منه. وأما الوذي فإنه من توابع البول لأنه إنما يخرج على أثره فكان بمعناه والله أعلم. وكل شيء رطب أصابته إحدى هذه النجاسات نجس، إلا الماء فإنه إذا كان دون القلتين نجس، وإن كان قلتين وأكثر لم ينجس إلا أن يتغير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ولوغ الكلب ما روينا. وقيل له: إنك تتوضأ من ماء بئر قضاعة، وهي تطرح فيها المحائض ولحوم الكلاب وما ينجي الناس، فقال: (الماء ينجسه شيء). فثبت بحديث الولوغ من الماء ما ينجس أو بحديث بئر قضاعة أن منه ما لا ينجس، فاحتيج إلى فصل بينهما. ثم جاء أنه سئل عن الماء يكون في الفلاة وما تنوبه السباع والدواب، فقال: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسًا) فصارت ذلك فصلا بين ما يحمل نجاسة وما لا يحملها والله أعلم. فصل وإذا لم يقدر المحدث والجنب أو الحائض على الماء، لعوز الماء في السفر، أو مرض يخشى أن يكون منه عند مس الماء التلف، قام التيمم مقام الوضوء والغسل. قال الله عز وجل:} وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم {ويحل للمسافر أن

يباشر أهله في الموضع الذي يخشى أن لا يجد فيه الماء، لأن الله تعالى أقام له التراب مقام الماء. ولا يجوز التيمم إلا التراب لأنه الصعيد. والتيمم أن يضرب يديه على التراب طاهر، أو على شيء يثور منه غبار، فيعلق باليد ثم يمسح بهما جميعًا ثم يضربهما مرة أخرى كذلك، فيمسح ظهر الكف والذراع من يده اليمنى ببطون أصابع كفه اليسرى إلى المرفق، ثم بطن الذراع من المرفق - مفصل الكف - ببطن الكف اليسرى، ثم يمسح اليسرى باليمنى كذلك، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل الأصابع بعضها ببعض. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، ولا تيمم للمكتوبة إلا بعد دخول وقتها). وإن تطلب الماء رفقًا به وفيما وحوله ولا تجده بثمن ولا بغير ثمن، لأن الله عز وجل يقول فلم تجدوا ماء ولا يعلم أنه غير واجد إلا أن يطلبه فلا يجده لا ضرورة به قبل وجوب المكتوبة إلى أن يترخص لها بالتيمم. وأما المريض فهو المحذور، وأي قرح كان أو الجرح ومن لم يخش من مس الماء التلف أو الضرر الشديد فهو كالصحيح، وأما من وجد الماء إلا أنه يخش الضرر على نفسه إن اغتسل به ولم يجد ما يسخن به الماء فإنه يتيمم ويصلي ويعبد إذا قدر على الاغتسال لأنه لا مريض ولا مسافر. فإن كان مع المسافر من الماء ما لا يستغني عنه لشربه تيمم. فهو كمن لا يجد شيئًا وكمن وجد عند رفيقه فلم يعطه. ولا يجمع بين مكتوبتين من المكتوبات الخمس بتيمم، ويطلب لكل واحد منهما الماء في وقتها. فإن لم يجد تيمم لظاهر الآية. وللمتيمم أن يجمع بين المكتوبة الواحدة وما شاء من النوافل. فصل وإذا حاضت المرأة حرمت عليها الصلاة والصيام، ولم يكن لزوجها أن يستمتع بها دون الازار منها. فأما فوقه فهو له مباح، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وهي معه في الفراش فحاضت، أن تقوم فتأتزر ثم ترجع. فإن كانت مبتدأة تركت الصلاة إلى خمسة عشر يومًا، وإن انقطع فكله حيض. وإذا جاوز تحيضت من أول الدم يوماً

وليلة واغتسلت وأعادت صلاة أربعة عشر يومًا، فإذا رأت الدم في الشهر الثاني تحيضت من أول الدم يومًا وليلة ولم تزد على ذلك ثم اغتسلت وصلت. لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة لما سألته، وإذا كانت للمرأة عادة معروفة ثم اختلط حيضها بالاستحاضة ولم تقدر على التمييز رجعت إلى عادتها، وإذا انقطع دمها لم يكن لزوجها أن يأتيها حتى تغتسل، لقول الله عز وجل:} ولا تقربوهن حتى يطهرن. فإذا تطهرن فاتوهن {وهذا سائر ما قدمنا ذكره، وإنما يليق إشباع القول فيه بالكتب المجردة بالأحكام وبالله التوفيق. * * *

الحادي والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في الصلاة

الحادي والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في الصلاة وليس في العبادات بعد الإيمان الدافع للكفر عبادة، سماها الله عز وجل، إيمانًا، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تركها كفرًا إلا الصلاة. فإن الله عز وجل لما حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وأهم المسلمين أمر الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس، أنزل قوله عز وجل:} وما كان الله ليضيع إيمانكم {. يعني تلك الصلوات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (بيننا وبينكم الصلاة، من تركها فقد كفر). ولدت الدلائل وراء ذلك على أنها أعظم العبادات قدرًا وأعظمها حكمًا. فمنها، أنها تكرير الإيمان من وجوه: أحدها أنه لابد فيها من الشهادتين اللتين بهما ظاهر الإيمان، ولا تصلح الصلاة إلا بهما، على أنهما يتكرر أن في بعض الصلوات نقلاً مرة وتمرنًا أخرى، ولا تكرار لهما في صلب الإيمان. ومنها أن لا ينعقد الإيمان إلا بتسمية الله تعالى، وهو أن يقال: الله أكبر، كما لا ينعقد الإيمان إلا بتسمية الله توحيده، وهو أن يقال: لا إله إلا الله، وتتعلق صحتها بقراءة القرآن الذي هو حجة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزته فتقوم مقام الشهادة بنبوته ورسالته في صلب الإيمان. ومنها أن أفعالها أفعال متعينة للتعظيم في العادات كالقيام والركوع والسجود والجثو

على الركب، تدل من الفاعل على أنه يزيد بها معظمًا يقصده بقلبه ثم تتعلق صحة ذلك التوجه نحو جهة مخصوصة لا يتعلق التعظيم في العادات بهما. إلا أن الرسول المعظم المقصود هدى إليها وأمر بها، فتقوم تلك الأفعال مقام الشهادة بالله وبوحدانيته. ويقوم التوجه نحو الجهة المخصوصة بقول النبي صلى الله عليه وسلم مقام الشهادة بنبوته. فتصير الصلاة من هذه الأوجه الثلاثة كالإيمان المطلق، ويجب لها بذلك أن تكون أعظم العبادات قدرًا، وأسناها منزلة. ويؤكد ما قلنا أن اسم الصلاة في اللسان موضوع للتعظيم، لأن الصلاة شرط التطهير. فإذا قيل: صلي قائمًا، يراد حتى صلبه لفلان قائمًا، يراد تواضع له بأن حني له صلبه فسميت هذه العبادة صلاة، لأنه لا جهة من جهات التعظيم من حني الصلب وغيره، إلا وقد اجتمعت فيها. فإن الواحد من الناس إذا دخل على معظم منهم وأراد توقيره والتواضع له لم يحز من وجوده: إما أن يمثل بين يديه، وهذا موجود في الصلاة، لأن فيها قيامًا، أو يتخفى لوجهه إذا رآه، وهذا موجود في الصلاة، لأن فيها ركوعًا أو يجثو له على وجهه، وهذا في الصلاة موجود، لأن فيها سجودًا أو يجثو بين يديه وعلى ركبتيه، وهذا في الصلاة موجود، لأن فيها قعودًا. أو يثني عليه ويمدحه ويدعوه بأسمائه الشريفة الكريمة عنده ليظهر له أنه غير مستغن عنه. وهذا موجود في الصلاة، لأن فيها إذكاء وثناء، أو يتصاغر له برفع حوائجه إليه، ويظهر له أنه غير مستغن عنه، وهذا موجود في الصلاة، لأن فيها دعاء، وأفضل الدعاء ما كان في الصلاة أو يتقرب إليه بقراءة كتابة وعهده وولوعه به وصرف الهمم إلى تحفظه، وهذا في الصلاة موجود لأن فيها قراءة القرآن أو تعظيمه بأن يلزم قصده ولا يعرض عنه، ولا يلتوي ولا يلتفت. وهذا في الصلاة موجود، لأن المصلي يلزم قصد الجهة التي ولاه الله إليها ولا يلتفت أو تعظيمه بأن لا يكلم أحدًا سواه بين يديه، ولا يشتغل إلا به. وهذا في الصلاة موجود لأن كلام الناس فيها محظور ممنوع. ويتقرب إليه بأن لا يراه إلا وهو متطهر متنظف لابس، ولا يعص منه بأن يتقدم إليه على أي حال كانت مستفتحة أو مستحسنة. وهذا في الصلاة موجود لأن من شرطها الطهارة وستر العورة. فهذه جهات التعظيم، ولا تعرف في العبادات عبادة جمعت منها ما جمعت الصلاة، فاستحقت بذلك أن تسمى بهذا الاسم، وتدعى قرينة الإيمان أو ثانيته وبالله التوفيق. ومن الدلائل التي ذكرتها أن النبي صلى الله عليه وسلم جل إقامتها من أسباب حقن الدم، وإن

كان تركها لا يضر إلا تاركها، كما جعل الشهادتين حاقنتين للدم، وأن حبسهما. لا يضر إلا حابسهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إني منعت عن قتل المسلمين) وقال الذي جاءه فسافر في قتل رجل، قال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بلى ولكن لا تشاهد له قال: أليس يصلي؟ قال: بلى، ولكن لا صلاة له. فقال: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم) فدل بذلك على أن لا قام الصلاة من الحظ في العصمة ما لشهادة الحق، وليس هذا الشيء من العبادات سوى الصلاة. ومنها أن الصلاة أشغل العبادات للزمان بعد الإيمان، لأنها تتكرر في كل يوم وليلة خمس مرات، ومعها من السنن المذكورة، والنوافل المستحبة ليلاً ونهارًا ما يستغرق نحوًا من شطر الزمان. فإن صلاة الضحى إذا ضمت إلى المكتوبات المرادة على أفضل جهات التمام مع السنن المندوب إليها، ولزوم الذكر بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ولزومه بعد العصر حتى تغرب الشمس. وصلاة التهجد في نحو من ثلثي الليل لم تشكل أن زمان الصلاة يكون نحوًا من زمان التجلي عنها، فيصير ذلك دليلاً على غلظ حق الصلاة، وأنه لو أمكن العبد أن لا يخلو منها، لما كان من حقه أن لا يخلو، كما أنه أمكنه أن يستديم الإيمان فلا ينفك منه لم يجعل له أن يخلو منه، لما كان من حقه أن يخلو. كما أنه لو أمكنه أن يستديم الإيمان إلى زمن، ولكن استغراق الأزمان كلها بالصلاة لما كان غير ممكن كان شغل شطرها فيها ممكنًا أمر بذلك فرضًا وندبًا، ويبين ما وضعت أن الزمان كله محتمل الصلاة إلا الأوقات المستثناة التي تذكر بعدها إن شاء الله. وتلك أوقات يسيرة من أزمان كثيرة، فبان أن القصد وقع على أن يكون التعبد بالصلاة مستمرًا في أكثر الأوقات. وإلى هذا وفقت الإشارة بقول الله عز وجل: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها {وقوله عز وجل:} ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً {. وقوله:} قم الليل إلا قليلاً {إلى قوله {سبحًا طويلا}.

وجاء أن داود عليه السلام كان جرى على أهل بيته الصلاة، فلم تكن ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان قائم من آل داود يصلي. وليس ذلك لعبادة سواها، وكان ذلك مما يدل على غلظها وعظم قدرها. ومنها أنها لا تسقط بالأعذار ولا تنزل إلى الإبدال، ولا تجري فيها الغاية، فإنها غير مرفوعة عن مخاطب مكلف على سبيل الترفيه عنه، ولكن كل أحد مأمور أن يصليها ولا يؤخرها عن وقتها، صحيحًا كان أم مريضًا، آمنًا كان أو خائفًا، مقاتلاً كان أو غير مقاتل، حتى الذي مر بها الطلق، وحتى المربوط على خشبة، كل هؤلاء مأمورون بالصلاة على ما يمكنهم ويقدرون عليه، ويليق بأحوالهم. لا يحل بأحد منهم تأخيرها عن وقتها، ولا يقبل من أحد عنها فدية، ولا يجوز عنه من غيره نيابة. وليس هذا الشيء من العبادات بعد الإيمان، فدل ذلك على دنو منزلتها من الإيمان، وفضلها بذلك على غيرها. ومنها أنه ليس في العبادات التابعة للإيمان عبادة تشتمل على أذكار وأفعال سوى الصلاة. ومعلوم أن كل واحد منهما يصلح للتقرب به إلى الله عز وجل. فإن قيل: فالإيمان نفسه ليس إلا الذكر. فقولوا: إن الصلاة بجمعها بين الأذكار والأفعال أفضل منه. قيل: هذا غلط، لأن الإيمان جامع بين الأذكار والأفعال، وأحد أفعالها الصلاة التي نحن في ذكرها، فكيف يلزمنا أن نفضلها على الإيمان؟ فإن قيل: الدافع منه للكفر لا يحتاج إلى الصلاة: قيل: الدافع للكفر هو الذي جعلت الصلاة من شعبه وأركانه، ولكن دفع الكفر به بعجل قبل وجوب الصلاة. وذلك لا يخرج الصلاة من أن يكون من أركانها، كما أن النية والتكبير ينقلان عن لا صلاة إلى الصلاة، وذلك لا يدل على أن ما وراء التكبير ليس بصلاة والله أعلم. ومنها أن شيئًا من العبادات لا يقتضي من كثرة الشرائط ما تقتضيه الصلاة، قول ذلك على أن غلظ حكمها وعظم قدرها. فإن ألزمنا على هذا الإيمان كان الجواب عنه كالجواب عن الذي قبله. ومنها أن الصلاة من جنس عبادة الملائكة، فإنهم موصوفون بالقيام وبالركوع وبالسجود. قد جاءت الأخبار بذلك عنهم والبيان للذكر، ومعلوم أن الصيام والزكاة

ليسا لائقين بالملائكة، ولا الإحرام بالحج ولا العمرة، لأنهم ليسوا من أهل الأشياء التي تحرم على المؤمنين من بني آدم، فيليق لذلك أن يوصفوا بأنها حرمت عليهم. وإن كان شيء من عمل الحج يليق بهم فالطواف، والطواف صلاة، فصح أن الصلاة أشرف العبادات وأفضها والله أعلم. وبحسب ما ذكرت من منزلة الصلاة من سائر العبادات جرى ذكرها من الله تبارك وتعالى والدلالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن الله عز وجل اسمه ما ذكر الصلاة مع غيرها إلا قدم الصلاة عليه فقال:} الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة {. وقال:} وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة {. وقال:} والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة {. وقال:} يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر، قالوا: لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين {. إلى غير ذلك من الآيات التي تكثر على العد وقد ذكر الله عز وجل الإيمان والصلاة، ولم يذكر معهما غيرهما، دلالة بذلك على اختصاص الصلاة بالإيمان والتزامها به. فقال:} فلا صدق ولا صلى {. أي فلا هو صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن به، ولا صلى لأنه إذا لم يصدق بالرسالة كانت الصلاة إحدى الرسالات لم يصل. وقال:} وإذا قيل لهم اركعوا، لا يركعون فبأي حديث بعده يؤمنون {. فوبخهم على ترك الصلاة كما وبخهم على ترك الإيمان. وقد ذكر عز وجل الصلاة وحدها بذلك، دلالة بذلك على أنها عماد الدين، فذكر الأنبياء والمتقين ومدحهم بأنهم كانوا} إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًا {. ثم ذكر من خالف هداهم فذمهم فقال:} فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات {. فقد مدحهم حين مدحهم على الصلاة أو ما يجري مجرى الصلاة من السجود. وقصر ذنبهم على ترك الصلاة، ثم أخبر بما يؤذيهم إليه من سوء العاقبة فقال: {فسوف يلقون غيًا}.

يعني -والله أعلم- لا يرشدهم أمرهم مع إضاعة الصلاة، ولكنهم يقرون، فلا يزالون يقعون في فساد بعد فساد، كمن يضل الطريق، فلا يزال يقع في مهلكة بعد بعد مهلكة إلا أن ينقطع به فيبيد، فدل ذلك على عظم قدر الصلاة وجلال موقعها من العبادات والله أعلم. وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روي عنه أنه قال: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب يجري على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فماذا يبقى عليه من الذنوب). وقال: (الجمعة إلى الجمعة والصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر). وقال: (إذا توضأ الرجل وأحسن الوضوء ثم أتى إلى المسجد لا يريد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفع بها درجة أو حط عنه بها خطيئة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى عليه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه ما لم يحدث، ما لم يؤدي فيه أحد). فأبان صلى الله عليه وسلم بما قال عظم قدر الصلاة وارتابها على سائر العبادات ثم بين ذلك نصًا، فإنه سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: (الصلاة لوقتها). وقال: (خير أعمالكم الصلاة). وقال: (الصلاة نور المؤمن). وهذا على معنى أنه أحسن ما يظهر منه. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته). ودل صلى الله عليه وسلم عظم قدر الصلاة بقوله: (إن أول ما افترض على هذه الأمة من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقي من دينهم الصلاة، وأول ما يحاسبون به الصلاة، يقول: انظروا في صلاة عبدي، فإن كانت تامة

حسبت له تامة، وإن كانت ناقصة، فإن كان له تطوع زيد في فريضته ثم تستقر الأعمال على ذلك). وقال لمعاذ بن جبل: (سأنبثك برأس الأمر، وعموده رأس الإسلام، وعموده الصلاة) وجاء عن كعب رضي الله عنه قال: اختار الله البلاد، فأحب البلاد إلى الله البلد الحرام واختار الزمان فأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم، وأحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة وأحب ذو الحجة إلى الله العشر الأول. واختار الله الأيام، فأحب الأيام إلى الله يوم الجمعة واختار الله الليالي فأحب الليالي إلى الله ليلة القدر. واختار الله الساعات، فأحب ساعات الليل والنهار ساعات الصلوات المكتوبات. واختار الله الكلام، فأحب الكلام إلى الله، لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله. وفي بعض الحديث، إن الملائكة يأتون أهل الجنة في أوقات صلواتهم، فيسلمون عليهم، وإن كرامة الله تعالى لأهل الجنة تكون بمقادير صلواتهم وفي أوقات صلواتهم. وهذا أيضًا مما يميز الصلاة عن سائر العبادات ويبين فخامة أمرها وعظم قدرها. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا حزبه أم فزع إلى الصلاة). وعن علي كرم الله وجهه قال: لقد رأينا ليله القدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح، وكذلك روى عنه صلى الله عليه وسلم في ليلة الخندق أنه قام فصلى هونًا من الليل حتى أتاه الخبر بانصراف الناس. وروي عنه أنه كان إذا رأى بأهله ضيقًا وشدة أمرهم بالصلاة لقول الله عز وجل:} وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها {. وروي أن موسى صلوات الله عليه وسلم لما بلغ البحر ودنا فرعون من بني إسرائيل فزع لأن البحر كان أمامه، وفرعون بجنوده خلفه، فقام إلى الصلاة، وكانت الكرب العظام تكشف عن الأولين بالصلاة، فما زال يدعو ويتضرع إلى الله عز وجل حتى أوحى إليه:} أن اضرب بعصام البحر {. فضربه فانفلق. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله

حرم على النار أن تأكل من بني آدم أثر السجود) يريد بذلك أن من أهل النار من المؤمنين لم تحرق النار مواضع السجود إذا صلوا منهم. فثبت بجميع ما ذكرنا وبغيره مما لم يذكره موقع هذه العبادة من بين العبادات، وما كان الله بهذه المنزلة فواجب على العبد أن يشكر الله تعالى على هدايته له أولاً، ويسأله التوفيق للاستكثار منه ثانيًا، ويبذل المجهود من نفسه ثالثًا، والله عز اسمه يرغب في تيسير ذلك لنا. أن مفاتيح الخير بيده، وما النصر والمعونة إلا من عند الله، وهو الولي الحميد. فصل وإذا ظهر عظم قدر الصلاة، فالصلاة تنقسم إلى قرآن وسنن معلومة وتطوع موكول إلى اختيار العبد لنفسه. والفرائض كلها إلى الأعيان - إلا صلاة الجنازة، فإنها من فروض الكفاية وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. وقد ذكرهن الله تعالى مجملة ومفصلة. أما المجمل فقوله:} وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل {. وكلتاهما بني الآيتين في هذا المعنى من المعجز العظيم البين إعجازه. فأما المفصل، فما روى نافع بن الأزرق قال: سألت ابن عباس رضي الله عنه: هل تجد في كتاب الله الصلوات الخمس؟ قال: نعم،} فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون {وله الحمد في السموات والأرض وعشيًا العصر،} وحين تظهرون {الظهر. ثم قرأ:} ومن بعد صلاة العشاء {يعني العتمة. وجملتها سبع عشرة ركعة، ومعها من السنن ما قال ابن عمر رضي الله عنهما: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الفجر، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء. وذكر إن لم يكن يدعها. ويلتحق بهذه الجملة الركعات بعد الطواف والركعتان بعد دخول المسجد. وورائها صلوات مسبوقة بأنفسها وليست تابعة لغيرها كصلاة العيدين والاستسقاء والخسوف وقيام شهر رمضان، فإن صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض عليكم صيام هذا الشهر وسننت

لكم قيامه) فأبان أن قيام شهر رمضان سنة. وأما قيام غيره من ليالي السنة فإنه رغب فيه جملة، ولم يطلق عليه اسم السنة، فهو إذًا من جملة التطوع كصلاة الضحى بالنهار، وصلوات التسبيح والأربع الركعات بعد الزوال، فإنه ذكر أن أبواب السماء تفتح في ذلك الوقت وسيجاب الدعاء. وأما الوتر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زاد كم صلاة وهي الوتر فصلوها بين العشاء والفجر) ومعنى ذلك عندنا: أنها زيدت على سنة العشاء المعني وهو أن المغرب وإن كانت توتر العشاء كما توتر سائر المكتوبات، فإنها متقدمة على العشاء، وبالنية لغيرها. فزيدت هذه الوتر بعد العشاء لتؤكد ما أوجبته المغرب من إيثارها. وتضاهي العشاء بذلك سائر الصلوات لمن يصلي الفرض وحده، ثم تدركه في جماعة فيصليه معهم. وإن كان الفرض ساقطًا عنهم ليصير كأنه أدى الفرض في جماعة ولهذا المعنى تعلقت صحتها بفعل العشاء الآخرة، ولم يجز تقديمها عليها فهي من سنتها، وإن أخرت إلى الفراغ من صلاة الليل أوتر بها من بابها ونوعها، فإنها من صلاة التهجد مثلها. وهذه الصلوات كلها معلومة الهيئات، معروفة الأحكام، لا يخفي حملها على عامة المسلمين. وما وفاها من الفروع وبما يمكن أن يتحدث ويتوب. فأحكامها مفردة في الكتب المفردة لهذا الشأن. وإنما يذكر في هذا ما يتصل بآياته إن الصلاة من الإيمان. ويدل على عظم قدرها ووجوب المحافظة عليها، وغلظ الإثم على من أجل بها وقصر في حقوقها، وتعريف حكم الله في الأوقات التي وقت الصلاة بها، وفضل الاستكبار من نوافلها، وترتيبها من الآداب والهيئات فما شرع لها وترك الاقتصار منها على أقل ما يجري ويسقط به الفرض. وإظهار اليدين بها لأهل الملل بإقامتها جماعة في المساجد. والدلالة على حدود قيام رمضان والحث على قيام غيره وسائر ما جاء من وجوه التطوع والأمانة عن علم الوتر وتفضيل وجوهه، فإن هذه الأبواب تخلو منها أكثر كتب الفقهاء صنفوا في الفقه قديمًا، لأنهم أحبوا تجريده عما سواه، كما أفردوا لكل باب من أبواب الفقه كتابًا لا لمعنى سوى أنهم رأوا تجريده له أحسن من خلطه بما سواه. فأما اليوم فإن أكثر فقهاء زماننا أغفلوا

النظر في هذه الأبواب وظنوا أن علم الشريعة ليس إلا علم ما يستخرج بدقيق النظر من أحكام النوازل، وليس كذلك، بل علم العمل أهم وأفضل وأولى بالتقديم من علم اللسان، فإن الله عز وجل خلق عباده ليعبدوه لا ليستخرجوا بجهدهم الحوادث أحكامًا ويشغلوا ليلهم ونهارهم بدرسها، ويبطلوا أمر العبادات التي كانت دأب الصالحين، فلهم علمها، فذاك الذي دعاني إلى تخريج هذا الكتاب، والله ينفع به ويجعله لوجهه بمنه وقدره. فصل ونقول قبل ما اقتصصنا من هذه المعاني إن الله تعالى لما فرض الصلوات الخمس علينا وجعلها موقوتة، فقال:} إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا {. فيها من الليل والنهار، وأجل ما بين طلوع الشمس إلى زوالها من فرطها ليبسط الناس منه ويركنوا إلى التصرف في معايشهم وقضاء الحقوق التي تكون لبعضهم على بعض من الزيادة والعبادة والتهنئة والتعزية وغيرها. وأجلى منها الشطر الآخر من الليل أو ثلثهم ليستوفوا حظهم من النوم فيه، ويقضوا فيه وطرهم. وشغل بفرض الصلاة النصف الآخر من النهار، والنصف الأول من الليل، وما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وأنه وقت فارغ يعقب قضاء الناس حاجتهم من اليوم، ولا يتسع إلا للشراء والتصرف، ثم لم يفرض عليهم من الصلاة في هذه الأوقات يستغرقها بل السير منها لتجتمع لهم فيها العبادة والفراغ لما عسى يكون عليهم من إشغال المعاش، ويميلون إليه من الراحة والجمام ولله الحكمة البالغة. ووجه آخر: وهو أن الله عز وجل لما جعل النهار لينتشر الناس فيه ويبتغوا نم فضله، والليل ليسكنوا فيه. فكانت حقيقة الليل والنهار أن تكون الشمس فوق الأرض أو تحتها، علق هذه الصلوات باحوال الشمس، ثم لم يجعل لطلوعها مدخلاً في إيجاب الصلاة، لأن لطلوعها من النهار، والحسن بما يأخذ بمجامع القلب، وقد يسجد في ذلك الوقت قوم من الكفار عبادة لها من دون الله تعالى وهم الذين أبادهم الله تعالى بقوله: {لا

تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن {. فلم يأمر الله تعالى في هذا الوقت بالصلاة لئلا تدخل الشبهة على بعض الناس، ويروا أن الصلاة في ذلك الوقت تعظيم للشمس، إذ لا يتصور ذلك منهم بهذه الصورة وإن كانوا لا يريدونها ولا يقصدونها. وقدم الإيجاب فوضعه عند طلوع الفجر الذي هو أول أحوال طلوع الشمس. فإنه ليس للفجر من الزهاء والبهاء والبهجة ما لعين الشمس، ولا يسبق إلى الأوهام من الصلاة في ذلك الوقت ما يسبق منها البهاء حال طلوع الشمس. ثم لم يعد الإيجاب صلاة أخرى حتى تزول الشمس. فإذا زالت الشمس وجب الظهر، وليس لزوالها من الحال التي وصفناها لطلوعها، لأن طلوعها ارتفاعًا وزوالها انحطاطًا. والسجود في وقت الانحطاط لا يشبه التعظيم ولا يوهمه. ثم لم يوجب صلاة حتى يصير ظل كل شيء مثله، ويزيد أدنى زيادة، فأخذ الظل في ازدياد، ويحدث له عليه كما أوجب الظهر حين حدث منه ما كان. وهذا أيضًا لا يوهم أن يكون المقصود بالسجود للشمس، لأن عليه الظل يحدث عن تزايد سقوط الشمس نحو المغرب، ثم لم توجب صلاة حتى تغرب الشمس غروبها أبعد الأحوال من اتهام أن يكون السجود لها. لأنها إذا غربت فقد غابت عن الأبصار وصارت كالمعدومة، ثم لم تجب صلاة أخرى حتى يغيب الشفق الذي هو الحمرة، لأن الحمرة من بقايا الإشراق الذي هو رتبة الشمس وبهجتها. وإيجاب الصلاة عند غروبها كإيجابها عند غروب قرصها إلا إيهام فيه لتعظيمها وأن تكون هي المقصودة في السجود دون خالقها، ولم تفرض هذه الصلاة إلى أن يغيب البياض، لأن صلاة قد وجبت بطلوع البياض فلم يجز أن يكون غروبه وقتًا للصلاة الأخرى، ليكون حكم الغروب خلاف حكم الطلوع. ألا ترى أن غروب الشمس لما كان وقت الصلاة لم يكن طلوعها وقت الصلاة، فخالف حكم الطلوع حكم الغروب، فكذلك هذا. وله وجه آخر: وهو أن أوقات الصلاة إذا كانت مأخوذة من أحوال الشمس وجب أن يكون أثر من آثار الشمس موجودًا حينما تجب الصلاة وتقام. فإذا كانت صلاة الفجر تجب بظهور بياض الشمس، والظهر يجب بزوالها، والعصر باستعلاء سقوطها، والمغرب

بمغيب عينها. وكانت هذه الصلوات كلها تقام والشمس نفسها، أو أثر من آثارها قائم باد، دل ذلك على أن العشاء هذا بسببها، وأنها تجب بغروب الحمرة، فتقام والبياض الذي هو من آثار الشمس قائم باد، ولا يتأخر وحوبها إلى أن يغيب البياض، فلا يبقى من الشمس عين ولا أثر والله أعلم. وأما الركوع فإن خط ابتدائه، بلا سبب يدعو إليه في وقت الطلوع ووقت الزوال ووقت الغروب، لأن الصلاة توجبه، وقد جرت العادة بأن يجتبي الناس من يطعمونه أو يجبونه في ثلاثة أوقات، إذا بدأ أو إذا أدنى، وإذا هم بأن ينأى أي فيعيدون التحية له أبدًا تعظيمًا كالسلطان إذا ظهر حجابه ثم طلع وجهه. ويعدون التحية له إذا دنا برًا وتكريمًا. ويعدون التحية له إذا هم بأن ينأى تسليمًا وتوديعًا فالصلاة إذا وقعت في هذه الأحوال الثلاثة التي ذكرناها للشمس شبهت التحية لها وخصوصًا إذا لم يكن لها سبب متقدم يستدعيها، فيكون قيامه في نفس المصلي من تجاهره الشبهة عن فكره، ودافعًا لما يخلج في القلب منها. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا طلعت فارقها، فإذا دنت للزوال قارنها، فإذا زالت فارقها، ثم إذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها) ونهى عن الصلاة في هذه الأوقات. وقيل: إنما أراد بقرن الشيطان - الجماعة إلى سجود الشيطان عليها، وحملها على عبادة الشمس من دون الله فانقادت له. وأما إذا تم الطلوع وأخذت في الارتفاع فإن الشبهة تزول، لأنها تصير مألوفة معهودة فلا يوجد لها في القلب ما يوجد في حال الطلوع التي تشرف له الأرض وينزاح الظلام عنه بواحده وتنشرح الصدور وكذلك إذا تم الزوال وأخذت تدنو من الأرض، أو يتم الغروب فنسيت كما ينس الغائب إذا ولى ومر زمان بعد غيبته. فصلح أن يكون ما عدا هذه الأوقات أوقاتًا للصلاة فرضها وتطوعها والله أعلم.

فصل ويقول: بأن التطوع وإن كان مطلقًا فيما عدا هذه الأوقات الثلاثة، فإنه في بعض الأوقات أفضل منه في بعض ما فضل تطوع النهار ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر من قول أو فعل. وقد جاء عنه خبر في صلاة الضحى وفي صلاة التسبيح، وفي أربع ركعات إذا زالت الشمس وهي خارجة من جملة سنن الصلاة لأن سننها ركعتان قبلها وركعتان بعدها، وهذه تطوع، ولكل شيء من هذه الصلوات حد فلا ينصرف بعضها ببعض، لأن الفريضة ما لا يسع تركها وحد التطوع ما يستحب فعله، ولا يكره الترخص بتركه. وحد السنة ما يستحب فعلها، ويكره تركها وأحد الأسباب التي تدعو إلى كراهية الترك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حافظ على الفعل، ونص على تسميته سنة. وهذا إنما وجد في الركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها. فإن ابن عمر رضي الله عنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليدعها، وأما الأربع فإنما جاء خبر في فضلها. ولم يرو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليها فلا يدعها، ولا أنه سماها سنة، وإنما روى عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلاً عليه في بيته، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي أربع ركعات حين تزول الشمس يقرأ فيهن كلهن، فسأله عن ذلك فقال: (أن أبواب السماء تفتح حين تزول الشمس، فلا يرتج حتى يصلي الظهر، فأحب أن يصعد له إلى السماء) فلم يزده على ذلك أن أظهر له وجه يقربه، ولم يأمره بمثله. وهكذا روى ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستحب أن يصلي أربع ركعات حتى تزول الشمس. فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أراك تستحب الصلاة في هذه الساعة، فقال: (أنها ساعة تفتح أبواب السماء، وينظر الله تعالى فيها بالرحمة إلى عباده). ولم يأمر عائشة ولا غيرها بفعلها. وأبان أن ابن عمر رضي الله عنهما بقوله: عشر ركعات، لم يكن يدعهن أن ما عداها فقد كان يدعهن. فثبت أن هذه الأربع مما كان يدعها وقتًا، فإذا لم يكن محافظة دائمة، ولا أمر، فقد ظهر أنها تطوع. ويدل على ذلك أن استعجاله بها كما تزول الشمس دليل على أنه كان

يصليها قبل الآذان، ولو كانت من سنن الظهر لصلاها بين أذانها وإقامتها، فلما عجلها قبل الآذان علمنا أنها ليست من سنن الظهر والله أعلم. وأما صلاة الضحى: فإنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الضحى وصلاة ما بين المغرب والعشاء صلاة العابدين). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على سبحة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أتركهن إن شاء الله إيداء صلاة الضحى والوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه خرج على قوم وهم يصلون صلاة الضحى، فقال: (إن هذه الصلاة لصلاة الأوابين، وهي إذا رفعت الفصال من الضحى) وروي عنه صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: (يا بني آدم لا تعجزوا من أربع ركعات أول النهار أكفتكم آخره) وعنه صلى الله عليه وسلم (على كل سلامي من أحدكم صدقة ويجزيه منها ركعات الفجر). فثبت بهذه الأخبار أن صلاة الضحى مستحبة مندوب إليها، ولكن لا يقال أنها سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: أن الله تعالى لا يجعلها لأمته، وقال: (هي صلاة ملائكتي). ومعلوم أنه قد أجازها لأمته. فصح أن معنى لم يجعلها لأمته من السنن الأمر في مقدارها إلى المصلي كسائر التطوع. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يصليها يومًا ولا يصليها عشرًا. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الضحى يومًا ركعتين ويومًا أربعًا، ويومًا ستًا، ويومًا ثمانيًا، وترك يومًا فلم يصل. فثبت أنها لم تكن من الصلاة التي كان يحافظ عليها والله أعلم.

وأما صفة صلاة الضحى فلم يبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم خالف بينهما وبين سائر التطوع إلا ما سمعت من أنه لما افتتح صلاة الضحى قال: (الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: سبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاث مرات. قال: اللهم إني أعود بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه) وقيل: أما همزة فالموته، ونفثه الشعر، ونفخة الكبر. وأما صلاة التسبيح: فإنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: (يا عماه ألا أعطيك، ألا أمنحك، ألا أحبوك: تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة، قلت وأنت قائم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها عشرًا، ثم تسجد فتقولها عشرًا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرًا، ثم تسجد فتقولها عشرًا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرًا، فتلك خمس وسبعون مرة، تفعل ذلك في كل ركعة. فإن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة، يغفر الله ذنبك كله). فدل هذا الحديث على أن هذه الصلاة مستحبة مندوب إليها، عظيمة الفضل، كبيرة الأجر. وفي سياقة دليل على أنها ليست من السنن التي يكره تركها والله أعلم. فصل وأما قيام الليل، فإنه في شهر رمضان سنة، وفي سائر الشهور مستحبة، ولا يقال له سنة. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رمضان شهر كتب الله عليكم صيامه وسننت لكم قيامه. فمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). فنص أن القيام في هذا الشهر سنة، ثم أبان ذلك من وجه آخر، وهو أنه صلاة بهم جماعة

فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد ذات ليلة في رمضان، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من الثانية فكثر الناس. ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة والرابعة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: (رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا إني خشيت أن تفرض عليكم). ودلت صلاته بهم جماعة على أن القيام في الشهر يتأكد حتى يداني الفرائض، ولولا ذلك لم يخش وأن يواظب على الصلاة بهم أن يدخل في حد المفروض بهم فيلزم. وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يخرج في آخر ليلة من رمضان من هذا المقبول الليلة فيهنئه، ومن المحروم المردود الليلة فيعزيه، أنها المقبول هناك، وأنها المحروم المردود، جبر الله مصيبتك. وكان ابن عون رضي الله عنه إذا شهد رمضان جاء برمل فألقاه في المسجد، ثم يقول لبنيه: ما تبتغون بعد شهر رمضان، وكان لا ينام. فأما مقدار القياس فليس بموقوت في نص السنة. وقد روى أنهم كانوا يقومون في رمضان بعشرين ركعة، ويقرأون بالمائتين، ويعتمدون على العصي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولذلك يروى عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يصلي بهم وهذا هو العمل المتوارث. ولا تعيق الزيادة على هذا ولا النقصان فيه. وروى أن معاذًا - أبا حليمة - كان يصلي بالناس في رمضان بإحدى وأربعين ركعة. وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبي بن كعب وتميم الدارمي أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى في شهر رمضان ليلة ثماني ركعات ثم أوتر. ولكنهم لم يروا هذا حدًا، لأنه خبر عن ليلة واحدة، وقد صلى بهم ثلاث ليال. فقد يجوز أن يكون زاد في غيرها على ما صلى منها، وإجماع الصحابة على الزيادة دليل على أنهم غفلوا عنه صلى الله عليه وسلم أن فعله لم يكن حدًا، والله أعلم. وأما المتوارث عن عادة أهل مكة من قيام شهر رمضان، فهو أنهم يقومون بعشرين ركعة، إلا أنهم يطوفون بين كل ترويحتين سبعًا، فإذا صلوا التسليمة الأخرى لم يطوفوا ولكنهم بمضمون إلى التنغيم، فيحرمون بالعمرة، ثم يأتون البيت فيطوفون ثم يسعون

ويحلون، ثم يرجعون إلى المسجد فيوترون. وأما المتوارث كان من عادة أهل المدينة قبل أن يمنع المسلمون من الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحبس عن الكعبة كسوتها، ويسد باب شبابه العباسي، أن يقوموا بست وثلاثين ركعة، منها في العدد الذي يقيم به أهل مكة، وست عشرة مكان الأربعة الأطواف التي يخللها أهل مكة تراويحهم، فإن الطواف لما أحجبوهم بالمدينة أقاموا مقام كل طواف ترويحة، وهي أربع ترويحات وثماني تسليمات وست عشرة ركعة، فبلغت الجملة ستًا وثلاثين ركعة، ويوترون بثلاث. فتلك تسع وثلاثون، ومن أوتر بخمس بلغت صلاته إحدى وأربعين ركعة، وذلك تأويل صلاة أبي حليمة معاذ القارئ عندي، والله أعلم. فمن اقتدى بأهل مكة فقام بعشرين فذلك حسن. ومن اقتدى بأهل المدينة وتشبه بهم في ازدياد الصلاة كان ما فاتهم من طواف أهل مكة فقام بست وثلاثين، فذلك أيضًا حسن لأنهم إنما ازادوا بما صنفوا الإقتداء بهم والاستكثار من الفعل لا المنافسة كما ظن بعض الناس. ألا ترى أن يوم الفجر لما كان يوم طواف الزيارة للحجاج أقيم لغيرهم في عامة الأمصار الصلاة مقام الطواف، وجعل يوم عيد، يجتمعون فيه فرحين مستبشرين بما أذن الله تعالى فيه من زيارة نبيه وأسعد بها من وثق لقصده، فكما خلفت الصلاة الطواف يوم النحر، فكذلك تخلفه في قيام شهر رمضان. ويستوي فيه الناس كلهم كما استوى فيه يوم النحر والله أعلم. ومن اقتصر على عشرين ركعة وقرأ فيها بقراءة غيره في ست وثلاثين فذلك أفضل، لأن تطويل القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل الصلاة فقال: (طول القنوت). فصل ويحتمل القيام بعشرين ركعة أن يكون وجهه عامة سنن الليل والنهار سوى الوتر لما كانت عشر ركعات، كما ذكر ابن عمر رضي الله عنهما: ضعفت في شهر رمضان إذا

كان الوقت وقت حدث وتسميد. ويحتمل أن يكون ذلك مأخوذًا من أصل آخر، وهو أن أغلب صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير رمضان من الليل إحدى عشرة ركعة أخرى وتر. فرأوا أن يجعلوا هذا العدد أصلاً ثم يضعفونه في شهر رمضان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن قيامه فلما أراد القيام فيه غلظ بان صار سنة، بعد أن كان في غيره تطوعًا غلظ عدد الركعات فيه بالتضعيف، فصارت عشرين بعد أن كانت في غير عشرًا. فإن قال قائل: وأين كان الناس عن هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الذي جعل إلى عمر أن يشرع في الدين، ويقدم ويؤخر ويبدل ويغير؟ قيل له: قد بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن القيام في شهر رمضان وأنه خرج ثلاث ليال فصلى بهم جماعة، ثم ترك الخروج، لا لأنه لم ير الاجتماع لهذه الصلاة، ولكن رفقًا بأمته أن لا تكتب عليهم. فكان هذا بمنزلة العذر يعرض فيحول دون السنة أو دون الفرض، ولم يأمر غيره بأن يصلي بهم، لأنه لو أمر لكان ذلك المأمور بمنزلته إذا كان إما يصلي خلفه بأمره، ولم ينصب الناس بأنفسهم إمامًا فيصلوا خلفه لأن الإمامة حق النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينصب أحد إمامًا وهو حاضر. فكانوا يصلون في بيوتهم. وكان أيام أبي بكر رضي الله عنه على هذه الجملة ولم يصل. فلما كان زمن عمر رضي الله عنه رآهم أوزاعًا في المسجد يصلون، فكره ذلك لهم فدعاه علمه بأن هذه الصلاة تليق بها الجماعة، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بالناس جماعة، وإنما ترك الخروج لها لعذر، وقد زال ذلك العذر إلى أن يردها إلى حكم أصلها، فجمعهم على إمام واحد لئلا يتفرق المسلمون في مسجد واحد، فيصلون اوزاعًا بل يصلون مجتمعين كما يصلون المكتوبات مجتمعين. وليس هذا شرع في الدين، ولكنه عمل بالاجتهاد في موضع الحاجة والله أعلم. وأيضًا فقد روي أن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على أن أحدهم إذا سبق بشيء من الصلاة أشير إليه إذا حضر، فقضى ما فاته ثم تابع الإمام. فجاء معاذ رضي الله عنه يومًا وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الصلاة، فأشير به إليه فقال: لا أجده على حال تابعته عليها، فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قضى ما فاته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد سن لكم معاذ، فكذلك فافعلوا).

ولم ينكر عليه اجتهاده وأحداثه ما أحدث مما كان الناس يومئذ على خلافه. فإذا جاز له ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يجوز لعمر رضي الله عنه ما هو دونه بعد وفاته. فإن قيل: إن معاذًا نسخ أو شرع: قيل: لا نقول واحدًا منهما، ولكنا نقول: إن الذين كانوا يبدأون بما سبقوا به إنما كانوا يصلون منفردين حتى إذا شاءوا الإمام دخلوا في صلاة، وكان ذلك رأيًا رآه من غير أن أمروا به، ولم يكن في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عنهم أكثر من جواز ذلك لهم. ثم إن معاذًا رضي الله عنه رأى أنه غير ذلك أحسن منه، وهو الدخول في صلاة الإمام ومتابعته وتأخير القضاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يصلي كان الإنفراد عنه بالصلاة التي هو فيها رغبة عن إتباعه. فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم له هذا الاجتهاد وأمر بقبوله عنه، ولم يجعل اجتهاده في حياته شرعًا في الدين. فأولى أن لا يكون اجتهاد عمر رضي الله عنه مردودًا عليه بأن شرع في الدين والله أعلم. فصل وأما وقت هذه الصلوات من الليل، فقد روى عن عمر رضي الله عنه أمر بباقيه، فإنهم في شهر رمضان وكانوا ينامون ربع الليل ويقومون ربعه وينصرفون لربع يبقى منه لسحورهم وحوائجهم. وفيه وجه آخر وهو أن يؤخر العشاء الآخرة إلى ربع الليل، فإذا صلوها قاموا بعدها ربع الليل بالصلاة ثم رقدوا. يروى عن الحسن رضي الله عنه أنه قال: كان الناس يصلون العشاء في شهر رمضان زمان عمر رضي الله عنه وعثمان ربع الليل الأول، ثم يقومون الربع الثاني، يرقدون ربع الليل، ويحتمل أن يكون تمام ذلك، ثم يقومون لسحورهم وحوائجهم. وله وجه ثالث وهو أن يقام العشاء الآخرة لأول وقتها، ويرقد من شاء ويقيم من

شاء غير لاه ولا لائج إلى ربع الليل أو ثلثه، ثم يقوم النوام ويجتمع الاوزاع ويصلون، فأما إقامة العشاء لأول وقتها ووصل القيام بها فذلك من بدع الكسالى والمترفين، وليس من القيام المسنون بسبيل، إنما القيام المسنون ما كان من النوم، فهو كسائر المتطوعين ليلاً ونهارًا والله أعلم. فصل وأما مقدار القراءة فإنه ينظر فيما يريد أن يجيئه من الليل، فإذا كان يريد أن يختلف من الليل ربعًا ثم يقوم ونصفًا أو ربعًا آخر بعشرين ركعة أو بست وثلاثين، قرأ في كل ركعة ما يوافي العدد والوقت الذي في نفسه. وإن زاد في الركعات الأول، ونقص في الركعات الأخر فلا بأس، لأن الناس يكونون في الأوائل أقوى وأنشط منهم في الأواخر ولا يملهم فيخرجوا. فصل والمعهود من أمور الناس قديمًا وحديثًا أنهم إذا صلوا قيام شهر رمضان جماعة لم يخالفوا بين العشر الأواخر بين ما قبلها في مقدار القيام. فينبغي أن يكون العمل على هذا في المساجد وأما ما يستحب من فضل الجد والاجتهاد في العشر الأواخر وطلب ليلة القدر فيها في كل وتر، فذلك تطوع وندب إليه كل من اطاقه على الإنفراد ليس الاجتماع عليه سنة. وسنذكر ما في ليلة القدر في كتابة الصيام إن شاء الله عز وجل. وأما القيام في غير شهر رمضان، فإنه تطوع مرغب فيه مندوب إليه، ولا يقال له سنة لأن الترخص بتركه غير مكروه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شهر رمضان فقال: (فرض الله عليكم صيامه وسننت عليكم قيامه). فلو كان القيام في غير شهر رمضان سنة لم يفارق شهر رمضان غيره، ولم يكن لقوله "وسننت لكم قيامه" معنى، ولا وجب

له بذلك فضل على ما سواه. ولأن قيام الليل في كل وقت سنة لصلاة الناس جماعة، كما أنه لما كان في شهر رمضان سنه صلاة الناس جماعة. فلما خلوا واختيارهم علمنا أنه تطوع ندب الناس إليه من غير أن ضيق عليهم في تركه والله أعلم. روى سعيد بن هشام رضي الله عنه أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت له: ألست تقرأ هذه السورة} يا أيها المزمل {. قلت بلى قالت: فإن الله تعالى افترض القيام في أول هذه السورة فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة. فصار قيام الليل تطوعًا بعد فرضه، وقال الله عز وجل:} ومن الليل فتهجد به نافلة لك، عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا {. وقال:} ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً {. فرغبة في قيام الليل. ثم مدحه بقيامه، فقال:} الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين {. وأثنى على سائر المتهجدين فقال:} أمن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه {. وقال الحسن رضي الله عنه: يزيح رأسه بقدميه وقدميه برأسه، وقال: آناء الليل أوله، وأوسطه، وآخره. فقال عز وجل في صفة أهل الجنة الذين سماهم متقين:} كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون {وقال:} والذين يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا {وقال:} يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون {. يعني يصلون. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قيام الليل في خوف الله يكفر الخطيئة) وروى: صلاة الوجل، وتلا قوله تعالى:} تتجافى جنوبهم عن المضاجع {. وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة،

ينادي مناد ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب الناس). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى وتكفير للسيئات ومنهاة عن الآثم ومطردة للداء عن الجسد) وعنه صلى الله عليه وسلم (عليكم بصلاة الليل ولو ركعة) عنه صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل). وعنه صلى الله عليه وسلم: (زينوا طعامكم بذكر الله ولا تناموا عليه فتقسوا له قلوبكم) وعنه صلى الله عليه وسلم: (شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه مما في أيدي الناس). وعنه صلى الله عليه وسلم قال (القرآن والصيام يشفعان للعبد) يقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل ويقول الصيام: رب منعته الطعام والشهوات فشفعني فيه، فيشفعان). فصل ومن آثار الصالحين في هذا الكتاب: جاء أن عبد الله بن الزبير كان يحيي الليل دهره أجمع، وكان يحيي ليلة قائمًا حتى يصبح، ويحيي ليلة راكعًا حتى يصبح، ويحيي ليلة ساجدًا حتى يصبح، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا ينام من الليل إلا قليلاً وكان له مهراس فيه ماء فيصلي ما قدر عليه ثم يأوي إلى فراشه. فيغفو إغفاء الطير، ثم يقوم فيتوضأ، ثم يرجع إلى فراشه فيغفو إغفاء الطير، ثم يثب فيتوضأ ويصلي، ثم يفعل ذلك في ليله أربع مرات أو خمس. وقالت ابنة الربيع لأبيها: يا أبتاه، مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال يا بنتاه، أن أباك يخاف السبات.

وقالت المرأة التي نزل بها عامر بن عبد القيس لعامر: ما للناس ينامون ولا تنام؟ قال: إن جهنم تدعني أنام. وقال يزيد الرقاشي رضي الله عنه: إذا نمت فاستيقظت، ثم عدت الثانية في النوم، فلا أنام الله عيني. وكان عمر بن عقبة بن فرقة يخرج فيركب فرسه في جنح الليل فيأتي المقابر، فيقول يا أهل القبور طويت الصحف ورفعت الأقلام، ولا تستعينون من سيئة ولا تستزيدون في حسنة، ثم يبكي فينزل عن فرسه، فيصف ما بين قدميه، ثم يصلي حتى يصبح. فإذا طلع الفجر ركب فرسه حتى يأتي مسجد حبه، فيصلي مع القوم كأنه لم يكن في شيء مما كان فيه. وكان صلة بن أشم يخرج إلى الجنان فيتعبد، فكان يمر على شباب يلهون ويلعبون فيقول لهم: أخبروني عن قوم أرادوا سفرًا فحادوا النهار عن الطريق وناموا الليل متى يقطعون سفرهم أفكان كذلك يمر بهم ذات يوم، فقال لهم هذه المقالة، فانتبه شاب منهم فقال: يا قوم أنه والله ما يعني غيرنا، نحن بالنهار نلهو وبالليل ننام، ثم اتبع صلة فلم يزل يختلف إلى الجبال ويتعبد حتى مات. وعن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله قال: كانت امرأة متعبدة من أهل اليمن، فكانت إذا أمست قالت: يا نفس الليلة ليلتك لا ليلة لك غيرها. فاجتهدت، وإذا أصبحت قالت: يا نفس اليوم يومك، لا يوم غيره فاجتهدت، وقال عبد الله بن مسعود رحمه الله: فضل صلاة الليل على صلاة النهار، كفضل صدقة السر على صدقة العلانية. وكان عمرو بن العاص رحمه الله يصلي من الليل وهو يبكي ويقول: اللهم أتيت عمروًا مالاً، فإن كان أحب إليك أن تسلب عمرًا مالاً ولا تعذبه بالنار فاسلبه ماله. وإنك أتيت عمروًا ولدًا، فإن كان أحب أن تثكل عمروًا ولده فلا تعذبه بالنار فاثكله ولده. فإنك آتيت عمرًا سلطانًا، فإن كان أحب إليك أن تنزع عنه سلطانه ولا تعذبه بالنار فانزع سلطانه. وكتب معاوية رحمه الله إلى عامل البصرة: أما بعد جاءك كتابي هذا فزوج عامر بن عبد القيس أصلح نساء قومه، وأصدقها من بيت مال المسلمين، فأرسل إلى عامر فقرأ عليه الكتاب، فقال: إني لذائب الخطيئة. فلم يدعه حتى زوجه امرأة

من صلحاء قومه من مال بيت مال المسلمين. فجهزت ثم ذهب بعامر حتى أدخل عليها فقام إلى مصلاه لا يلتفت إليها، حتى إذا رأى تباشير الصبح قال: يا هذه، ضعي خمارك، فلما وضعها قال: أعيدي، ثم قال: أتدرين لم أمرتك أن تضعي خمارك، لئلا يؤخذ منك شيء أعطيت. وكان عامر رضي الله عنه يقول: ما رأيت كالجنة نام طالبها وما رأيت مثل النار نام بها ربها. فكان إذا جاء الليل قال: أذهبت النار يا قوم فما ينام حتى يصبح، وإذا جاء النهار قال: أذهبت النار يا قوم، فما ينام حتى يمسي. وإذا جاء الليل قال: من خاف أدلج ويقول عند الصباح: يحمل القوم السرى. وكانت رابعة العدوية إذا جاء الليل تقول: هذه ليلتي أمرت فيها، فما تنام حتى تصبح، وإذا جاء النهار: قالت: هذا يومي الذي أمرت فيه فما تنام حتى تمسي. وإذا جاء الشتاء لبست الرقاق ليمنعها البرد من النوم. وقال الحسن رحمه الله: حضر رجل من الصدر الأول فبكى واشتد بكاؤه، فقالوا له رحمك الله} إن الله غفور رحيم {فقال: إني والله ما تركت بعدي شيئًا أبكي عليه إلا ثلاث خصال: ظماء هاجره في يوم تعبد ما بين الطرفين، أو ليلة يبيت الرجل تراوح ما بين جبهته وقدميه، أو غدوة أو روحة في سبيل الله. وقال سفيان الثوري رحمه الله: بت عند الحجاج بن القرامضة إحدى عشرة ليلة فلا أكل ولا شرب ولا نام. وكان بمكة مملوك يقال له صهيب يكاتب مولاته، تقول له: لا تدعنا ننام، فيقول لها: إنما لك نهاري وليس لك ليلي، إني إذا ذكرت النار طار نومي وإذا ذكرت الجنة اشتد شوقي، وقال عبيدة بن هلال الثقفي: لا تشهد على يمين تأكل أبدًا ولا يشهد على ليل يقوم أبدًا، فأقسم عليه عمر رضي الله عنه في الأضحى والفطر أن يفطرهما. وقال الأوزاعي رحمه الله: بلغني أنه من أطال قيام الليل خفف الله عنه يوم القيامة. وقال طلحة بن مصرف: بلغني أن العبد إذا قام من الليل للتهجد ناداه ملكاه: طوبا لك سلكت منهاج العابدين مثلك. وقال يزيد الرقاشي رحمه الله: بطول التهجد

تقر عيون العابدين ويطول الظمأ تفرح قلوبهم عند لقاء الله. وجاء أن تميم الدارمي رحمه الله نام ليلة لم يقم فيها، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة لنفسه بتلك الليلة. وكان سليمان التيمي عامة دهره يصلي العشاء والصبح بوضوء واحد. وما من وقت صلاة إلا وهو يصلي فيه. وكان يسبح بعد العصر إلى المغرب، ويصوم الدهر. وسقط بيته فلم يبنه، وضرب خيمة وسط داره، فكان فيها حتى مات. وطوى فراشه أربعين سنة ولم يضجع جنبه بالأرض عشرين سنة وكان يطلب الحديث، فقدم على الأعمش، فخرج الأعمش في ساعة كان سليمان يصلي فيها فأقبل على الصلاة ولم يلتفت إلى الأعمش، وذكر مؤذن مسجده قال: صلى سليمان التيمي إلى جنبي بعد العشاء الآخرة، فسمعته يقرأ:} تبارك الذي بيده الملك {. فلما أتى على هذه الآية} فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا {. جعل يرددها حتى خف أهل المسجد فانصرفوا، فخرجت وتركته، وعدته لأذان الفجر فنظرت فإذا هو في مقامه، فسمعت، فإذا هو فيها لم يجزها وهو يقول:} فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا {. وكان لأبي مسلم الخولاني سوط يعلقه في مسجده، فإذا كان السحر فنعس أو مله أخذ السوط فضرب به ساقيه، ثم قال: لأنت أولى بالضرب من شرار الدواب، وكاووس يفترش فراشه ثم يضطجع فيتقلى كما تتقلى الحبة على المقلى، ثم يبيت ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: طير حر جهنم نوم العابدين. وقيل لفقرة العابدة: بلغنا أنك لا تنامين الليل فبكت ثم قالت: ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر عليه. وكيف ينام ويقدر على النوم من لا ينام عليه حافظاه ليلاً ونهارًا فأبكتني وقلت في نفسي: أراك في شيء وأراني في شيء، ويعبد رجل من بني تميم، فكان يحيي الليل بالصلاة، فقالت له أمة يا بني لو نمت الليل شيئًا فقال: ما شئت يا أماه، إن شئت أن أنام الليل وأجهد غدًا في الآخرة، وإن شئت لم أنم الليل لعلي أستريح غدًا. قالت: يا بني والله ما أردت لك إلا الراحة، فراحة الآخرة أحب إلى من راحة الدنيا،

فدونك يا بني، فخالف السهر أيام الحياة لعلك تنجو من عسر ذلك اليوم، وما أراك ناجيًا. فصرح الفتى صرخة فسقط بين يديها ميتًا. فاجتمع عندها رجال من بني تميم يعزونها وهي تقول وابنياه، قتيل يوم القيامة، وابنياه قتيل الآخرة، فكانوا يرون أنها أفضل من ابنها. وكان سفيان الثوري وسائر من مضى ذكره يصلي قائمًا حتى يعي ثم يصلي قاعدًا حتى يعي ثم يصلي مضطجعًا. فصل وأما أوقات التهجد، فإن ما بعد ربع الليل الأول إلى الصباح وقت التهجد إلا أن أفضلها لمن أراد أن يقوم بعض الليل الثلث الأوسط، سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل أسمع؟ قال: (جوف الليل الأوسط) وسئل أبو ذر أي الليل أفضل؟ قال: الليل الأوسط. قيل: ومن يطيق ذلك من خاف أدلج. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يمهل حتى يذهب ثلث الليل، يقول الله تعالى هل من سائل يعطى؟ هل من تائب؟ هل من مستغفر ذنب). وفي رواية أخرى: (إذا مضى ثلث الليل، يقول الله عز وجل: ألا سائل يعطي إلا داع يجاب: ألا سقيم يشتفي فيشفى؟ ألا مذنب يستغفر فيغفر له)؟ فصل ويستحب لمن أحيي الليل أن يؤخر الدعاء إلى السحر، ولمن قام السحر أن يمتد إليه ثم يستغفر ويدعو. قال الله عز وجل: {وبالأسحار هم يستغفرون}.

قال الحسن رضي الله عنه {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون {مدوا الصلاة إلى السحر، ثم دعوا وتضرعوا. ذكر محارب بن دينار عن عمه أنه رأى رجلاً دخل المسجد فقال: اللهم دعوتني فأجبتك، وأمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي، فإن يعقوب صلوات الله عليه حين سرف بنيه أخرهم إلى السحر. وقال سعد بن العاص رضي الله عنه: رصدت عمر رضي الله عنه فخرج إلى البقيع في السحر فاتبعته فأسرع حتى أترى البقيع فصلى ثم رفع يديه فقال: اللهم كبر سني وضعفت قوتي وخشيت الإنتشار من رغبتي، فاقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم، ولم يزل يقولها حتى أصبح. وقال أنس رضي الله عنه كنا نؤمر إذا صابنا من الليل أن نستغفر من السحر سبعين مرة. وقال نافع: أقبلنا مع هرم بن حيان من خراسان، فإذا كنا في بعض الطريق مثلت ليلة سحر ببيت من الشعر، فرفع هرم بن حيان على السوط، فجلدني جلدة التويت منها، ثم قال لي: إن هذه الساعة التي تنزل الرحمة وتستجاب الدعوة بمثل الشعر. وقال أبو الزيار كنت أخرج من السحر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أمر ببيت إلا ويه قارئ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نعد للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة، رب اغفر لي وتب إنك أنت التواب الرحيم، أو التواب الغفور، فمن استغفر سحرًا أو غيره، فليقل هذا. أو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الاستغفار، اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أسألك بالنعمة وأبر بديني، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). فصل وينبغي إذا قام أحد الزوجين للتهجد أن يوقظ الآخر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح وجهها بالماء. رحم الله امرأة

قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت وجهه بالماء). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعًا كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات). فصل ومن خشي أن يضعف عن قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استعينوا بقائلة النهار على قيام الليل وبأكلة السحر على صيام النهار). وعن مجاهد قال: بلغ عمر رضي الله عنه أن عاملاً له لا يقيل فكتب إليه: (أما بعد، قيل: فإن الشيطان لا يقيل) ومعنى هذا - والله أعلم - أنه استدل بترك العامل القيلولة على أنه ينام الليل كله، إذ لم يعلم له بالنهار، وما يمنعه من التروح بنومه، فقال: "قل بالنهار ليقوم الليل، فإن الذي لا يقيلون بالنهار من غير شغل يمنعهم عنه هم الذين لا يهمهم أمر ليلهم بهم الشياطين يعني شياطين الإنس. ومر الحسن رضي الله عنه يقوم في السوق، فرأى منهم ما رأى، فقال: أما يقيل هؤلاء؟ قالوا: لا قال: إني أرى ليلهم ليل سوء. فصل ومن قام للتهجد، فينبغي أن يكون أو كلامه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام من الليل قال سبحان الله رب العالمين، سبحان الله وبحمده. روى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه فجلس يمسح وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات خواتيم سورة آل عمران. ثم قام إلى شن معلق فتوضأ منه. والأصل في الباب

قول الله عز وجل} وسبح بحمد ربك حين تقوم {. وروى عنه أنه كان إذا قام من الليل قال: لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار. فصل وإذا افتتح القائم بالليل الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه أنه كان إذا قام من الليل كبر، ثم قال: (اللهم لك الحمد، أنت قيام السموات والأرض ولك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت حق وقولك حق ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق والنار حق، والساعة حق. اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير. رب اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما قدمت وما أخرت. أنت إلهي لا إله إلا أنت). وسئلت عائشة رضي الله عنها بم كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: كان يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلفت فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. فصل وإذا ثبت وظهر استحباب قيام الليل، فأقرب الليالي شهر رمضان ليلة العيد، وجاء فيه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا لم يمت قلبه حين تموت القلوب. عن مجاهد رضي الله عنه قال: ليلة الفطر كليلة من ليالي العشر الأواخر،

يعني في فضلها. قال أبو ذر: ثم كان عبد الرحمن بن الأسود يخرج إلينا ليلة الفطر في ملحفة حمراء كأنه عروس فيقوم بنا حتى يصبح. وقال: صلى بنا عبد الرحمن بن الأسود ليلة الفطر أربعين ركعة، وأوتر بسبع، وهذا حسن لأن في ليلة العيد معاني: أحدها: أنها مجاورة الشهر، فالشهر هو المؤدي إليها. والثاني: إنها ليلة سرور بإكمال العدد. والثالث: إنها ليلة الإباحة. والرابع: إنها ليلة التكبير. والخامس: إنها ليلة يوم فيه صلاة تخصه. والسادس: إنها أول وقت الحج. والسابع: إنها ليلة عيد. ومعنى العيد اجتماع المسلمين على الإشارة، فبأمر من أمور الدين في الصيام ليس في ظهوره من الصيام كالصلاة والحج، لكنه سر بين الله تعالى وبين العباد. وتبين شرائع الإسلام كلها على السر والإعلان. فكان إعلان الصيام إنما يقع بإقامة العيد بعد انفصال الشهر. وهذا غير المعاني التي سبق ذكرها، فاستوجبت هذه الليلة الفضل من هذه الوجوه، وناسبت ليالي الشهر إذ كانت الإشارة بما أدى في الشهر عن الصوم وإعلانه ليصير في الظهور كسائر الشرائع، إنما يقع عندها. فإن إتمام الناس فيها سنة للصلاة مجتمعين، كما يفعلون ذلك في ليالي الشهر حسنًا إن شاء الله. فصل فأما الوتر فإنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق فمن شاء فليوتر بسبع ومن شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة). وبذلك نقول: إن الإتيان بأكثر من واحدة إنما يكون بالموالاة الركعات، وتأخير الجلوس في آخرهن فإن ذلك. روى سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه كان يرقد، فإذا استيقظ تسوك ثم توضأ ثم صلى ثماني ركعات يجلس في كل ركعتين ويسلم، ثم يوتر بخمس لا يجلس إلا في الخامسة. فلما ظهر أن صفة الإتيان بالخمس، هذا علمنا إن الإتيان بالسبع والثلاث كالإتيان بالخمس. وروى عن عطاء رضي الله عنه أنه كان يوتر بثلاث ركعات لا يجلس إلا في آخرهن.

وإن أوتر بتسع أو إحدى عشرة ركعة فصلى ما وصفنا والله أعلم. وأما إذا صل ثلاث ركعات، وصلى في منتهاها وتشهد، ثم قام إلى الثلثة فصلاها، سلم من الثانية أو لم يسلم، لم يكن موترًا بها كلها، وإنما يكون موترًا بالثالثة وحدها، ويكون كأنه صلى ركعتين تطوعًا ثم اتبعها أخرى، فأوترهما بها. وذلك جائز لأن الوتر نافلة. فإن خلطت بالشفع الذي تقدمنا من النافلة فلا بأس ولا فرق من خلط الوتر بشفع قبله، وبين خلط شفع بشفع، إذ كل ذلك نفل. فليس للحد نفل حد لا يجاوز، وبأن ما وصفنا إن عائشة رضي الله عنها أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يصلي من الليل عشرًا مثنى مثنى، ثم يوتر بواحدة. وأخبرت عنه: كان يقوم فيتسوك ويتوضأ ثم ينهض ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة فيقعد، ثم يحمد ربه ويذكره، ويدعو ثم يسلم تسليمًا بسمعناه، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك إحدى عشرة ركعة، فأبانت بقولها فتلك إحدى عشرة ركعة، إن هذه هي الركعات التي كان تعود القيام بها وكان يصليها مثنى مثنى، ثم يوتر بواحدة. وظهر لنا من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما فرق هذه الركعات وربما جمعها. وكان إذا جمعها وإلى بينها إلى ثمان ولا يخالها جلوسًا ثم يجلس، ثم يقوم إلى التاسعة التي هي الوتر ليفضل بين الشفع والوتر ضربًا من الفضل، فيكون كأنه قام بثماني ركعات ثم أوتر بواحدة. وهذا لأن كلها نفل فجمعها كتفريقها، وتفريقها كجمعها. ثم كان يصلي بعد التسع ركعتين، فيبلغ الجميع إحدى عشرة ركعة. قالت عائشة رضي الله عنها: فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعف أوتر بسبع ركعات لا يقعد إلا في السادسة منهن ثم ينهض ولا يسلم، فيصلي السابعة ثم يسلم تسليمًا، ثم يصلي ركعتين وهو جالس فتلك تسع، أي أنه نقص من عدد ركعات القيام فردها أيضًا من التفريق إلى الجمع. فكان يصلي سننًا لا يجلس فيهن إلا في السادسة فيجلس فيها ثم يقوم فيصل السابعة ليكون كأنه تطوع بست ركعات ثم أوتر بواحدة. ومعنى قولنا أوتر بتسع، أي أوتر بأن صلى سبعًا آخرهن وتر، ثم صلى ركعتين فتلك تسع إلى السبع التي كان يقوم بها. وإذا ظهر فيما روته عائشة رضي الله عنها من هذين العددين اللذين

ذكرت، إن النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بها. وزاد ما جملنا عليه، وانتهى ثابتًا أنه لا يمكن أن يكون قيام النبي صلى الله عليه وسلم للوتر وحدها، إذ لو كان كذلك، لكان يصليها بالعشاء ثم ينام. وإنما الأغلبية والاستدامة قام للوتر وغير، ثم صلى تسعًا أو سبعًا لم يجلس إلا في الثامنة، وإفساد بنيته، وجب أن يعلم أنه قصد بذلك ما قلنا من خلط الوتر، لأن الوتر خلاف الشفع والاشفاع، فيماثله بفضل بين الآخرة وبين ما قلنا، ليقع حكم الإيثار على الواحدة الآخرة. ولو والي بينهما وبين ما قلنا لكان الإتيان يقع بجميع الصلاة وهو لم يكن أراد هذا، وإنما أراد أن يكون إشفاعها من قيام الليل والآخرة وعددها وترًا. فلذلك لم يوال بينها وبين التي قبلها كما والي بين المتقدمة والله أعلم. ثم وجب بأن يكون القول في الخمس والثلاث كالقول في السبع والتسع. ويدل ذلك على ما قلنا، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الوتر ثلاثًا قرأ السورة فيها كلها شهرًا. فدل ذلك على أنه إما أن يكون أراد الإتيان بالثلاث معًا، فلم يجلس إلا في آخرهن وينوي بينهن في القراءة والجهد، لأنه والي بينهن. أو يكون أراد الجمع بين ركعتين تطوع، وركعة وتر بسلام واحد، فكانت الصلاة في تقدير صلاتين، فلذلك سوى بينهن في القراءة والجهد. ولو أوتر بها كلها وجلس في الثانية لصلاها كالمغرب. ولما لم يفعل ذلك علمنا إن الإتيان بالثلاث لم يقع منه صلى الله عليه وسلم إلا على أحد الوجهين اللذين ذكرتهما والله أعلم. وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يوتر بتسع ركعات بوتر، يقرأ فيهن تسع سور: إذا زلزلت، والعصر، ثم إذا جاء نصر الله، ثم إنا أعطيناك الكوثر، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم تبت يدا أبي لهب، ثم آية الكرسي، ثم الآيتين من آخر سورة البقرة، ثم قل هو الله أحد. ثم يقنت قبل أن يركع. وظاهر ذلك أنه والى بينهما ولم يفصل. وأما معنى الركعتين بعد التسع والسبع، فهو أن الوتر لما لم ينفرد عن الإشفاع كان الحكم للاشفاع، لأنها أكثر من الوتر، فاحتملت الصلاة بعد بلا كراهية والله أعلم.

فصل وأما الكلام في تعجيل الوتر وتأخيرها، فجملة ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه: (متى توتر؟ قال: أوتر ثم أنام. قال بالحزم أخذت) وسأل عمر رضي الله عنه: (متى توتر؟ قال: أنام ثم أقوم من الليل فأوتر. ذلك فعل القوى أخذت). وروى أنه قال لأبي بكر (مؤمن حذر). وقال لعمر (مؤمن قوي). وروى أنه قال لأبي بكر (أخذت بالحزم) وقال لعمر (أخذت بالعزم) يعني الأمر بالجملة، إن من كان واثقًا عن نفسه بالقيام فليؤخر الوتر، ومن كان خائفًا أن يغلبه النوم فليوتر ثم ينم. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من خشي منكم أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله. ومن طمع منكم أن يقوم آخر الليل فليوتر آخر الليل، فإن قراءة الليل محصورة) ومن قام من آخر الليل ومد قيامه إليه فيوتر في آخر الصبح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فيوتر بركعة) وروى: (فليصل ركعة يوتر بها قد صلى). وقال علي رضي الله عنه: هما وتران: وتر حين يحل للصائم الطعام، ووتر حين يحرم على الصائم الطعام، ومعنى هذا - إن شاء الله - وتر يعقبها حرمة الطعام على الصائم، ووتر يعقبه حل الطعام للصائم.

فصل وإذا فرغ من الوتر وسلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاثًا ويرفع بها صوته. روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن وصل بذلك قوله: سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، فهو حسن. فصل وإذا أوتر ثم قام، فقد ذهب بعض السلف إلى أنه يصلي ركعة واحدة ليصير ما نفل من أول الليل وآخره شفعًا، ثم يستقبل الوتر إذا فرغ من قيامه، وذهب آخرون إلى أنه إذا فعل ذلك كان أوتر في ليلة واحدة وترين، فيصلي ما بدا له، ويكفيه الذي صلاها قبل أن ينام، وبهذا نقول بأن جميعها نوافل ليلة واحدة. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من المجتهدين، وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يوتر من أول الليل، ثم يقوم فيصلي مثنى مثنى حتى يصبح ولم يأمره بنقض الوتر ثم إعادته، ولم يزده على أن قال: (أخذت بالحزم)، وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا وتران في ليلة). وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم من فصله أنه أوتر فصلى تسعًا وصلى سبعًا ثم ركع ركعتين بعدما سلم. فصل وقد بقي من سنن الصلاة ما لم يذكر، وهو ركعة الطواف وركعتا دخول المسجد. قال النبي صلى الله عليه وسلم لسليك الغطفاني حين دخل المسجد وهو يخطب: (أركعت؟ قال: لا. قال: فاركع ركعتين، قال: لكل شيء تحية وتحية المسجد ركعتان، فإذا دخلت المسجد فلا تجلس حتى تصليها). وأما ركعة الطواف فإنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت، أتى المقام فصلى خلفه ركعتين، قرأ فيهما سورتي التوحيد: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد. ثم تلا

قول الله عز وجل:} واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى {. وهو من الأعمال الموروثة. وقد ألحق بعض الناس بهذا الباب ركعتي الإحرام، وليس كما قال: لأن سنة الإحرام أن تكون خلف صلاة. وليس من سنته أن تصلي لأجله والله أعلم. فصل ومن الصلوات المستحبة غير المسنونة: الصلاة عند الزلازل والرياح العاصفة، والظلمة الغاشية. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة). فأبان صلى الله عليه وسلم إن ظهور الآيات مقتض الفزع إلى الصلاة. والزلزلة والريح الشديدة والظلمة لا في وقتها، من الآيات. فكان من حقها الصلاة. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى بالناس في زلزلة وقعت وقال علقمة: إذا فزعتم من أفق من آفاق السماء فافزعوا إلى الصلاة. وظهرت بالكوفة ظلمة فصلى تميم ابن حزام، وأمر بالصلاة إلى أن تنجلي. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعتم الخسوف فافزعوا إلى الصلاة، وأما صفة الصلاة عند هذه الأحداث، فإن عبد الله ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما، رأيا أنها كصلاة الخسوف. ويحتمل إلى الاقتصار: إلى أن تقرير الصلاة المعهودة إلا بتوقيت، والتوقيت وجد في صلاة الخوف، ولم يوجد في غيرها. فكانت سائر الآيات قياسًا عليها في الصلاة عندها، ومردودة في صفة الصلاة إلى سائر أسباب الصلاة والله أعلم. فصل فقد بدأت هذا الباب من آياته عظم قدر الصلاة، بما وفق الله تعالى بفضله له. وأقول في جهة: إن من خصائص الصلاة، التي تزيدها فضلاً ويوجب لها فخامة وقدرًا أنه لا

عبادة أشغل للجوارح منها. فإنه ليس في الصيام إلا الكف عن الطعام والشراب والمباشرة ولا في الزكاة إلا دفع مال إلى مستحقه، ولا في الحج إلا أشياء معلومة وكف عن أشياء معلومة وأما الصلاة فإن مبناها على الخشوع لظاهر البدن وباطنه، فإن من حق الصلاة أن لا يشغل المصلي قلبه بغيرها، فيها فناؤه ينتشي عندما صلى، وباؤه يستكلم، فيدعو عنده كوامنه، أو يفارق مصلاه، ويدخل بيته، أو يستدبر القبلة أو يقوم في موضع القيام، أو يتشهد في وقت القراءة، ويقرأ في وقت التشهد. فإن كان هذا مضى، وللصلاة يخالف لها، ثبتت عليه ومن حقها أن يسكن المصلي يده فلا يعبث، ويلزم قصد وجهه، فلا يلتفت ولا يستمع إلى كلام متكلم، فربما اختلفت القراءة عليه، وربما التفت بعض ما يسمعه فقاله. ولا يحدث نفسه في الصلاة فربما ذكر أمرًا فضحك منه، وربما يذكر ما يعمله فاضطربت صلاته عليه. ولا يستكثر من الإشارات في صلاته فيقضي حوائجه بها وهو في الصلاة. ولا يفرقع أصابعه، ولا يلبس في صلاته ثوبًا ولا يضع عن نفسه ثوبًا من غير ضرورة. وإذا أراد أن ينزعه أو ينتجم، فلا يرمي به نحو القبلة، وليأخذ ذلك بطرف ثوبه إن جاء في مسجد. فإن كان في موضع يقدر على قذفه فيه برفق قذفه وكل ذلك داخل في قول الله عز وجل:} قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون {. ووردت في هذا الباب أخبار: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبزقن أمامه فإنه مستقبل ربه). وروى أنه قال: (إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه والملك عن يمينه، فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه وليبزق عن يساره) وعنه صلى الله عليه وسلم أن فصل: (إذا قام في الصلاة فالتفت، قال له الرب: ابن آدم أقبل إلي. فإن التفت الثانية قال له الرب: ابن آدم أقبل إلى فان التفت الثالثة قال: أو الرابعة قال له الرب: لا حاجة لي فيك) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن المصلي ليناجي

ربه، فلينظر أحدكم ما يناجي به ربه) وقال ابن سيرين: كانوا يرفعون أبصارهم في الصلاة ويلتفتون يمينًا وشمالاً، ولما نزل قوله عز وجل:} قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون {لم يلتفتوا يمينًا وشمالاً. وقال مجاهد في قول الله تعالى} وقوموا لله قانتين {. قال في القنوت الركوع والسجود والخشوع وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله، كان العلماء إذا قام أحدهم إلى صلاة يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء أو يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث، أو يحدث نفسه بشيء من شأن الدنيا إلا ناسيًا، ما دام في صلاته. وقال الحسن: إذا قمت إلى الصلاة فقم قانتًا كما أمرك الله، وإياك والسهو والالتفات أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره. وتسأل الله الجنة. وتعوذ بالله من النار وقلبك ساه لا يدري ما تقول بلسانك. وقال ابن جريج: قلت لعطاء بن أبي رياح: أقبض بكفي اليمنى على عضدي اليسرى، وكفى اليسرى على عضدي اليمنى، فكرهه وقال: إنما الصلاة خشوع قال الله تعالى:} الذين هم في صلاتهم خاشعون {. وقد عرفتم الركوع والسجود والتكبير ولا يعرف كثير من الناس الخشوع قلت لعطاء: أيجعل الرجل يده على أنفه أو ثوبه؟ قال لا. قلت: من أحد يناجي ربه، وأحب إلى أن يخرقاه. سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (إذا صليت فإنك تناجي ربك فلا تبزقن أمامك ولا عن يمينك. قلت لعطاء: هل يبطل الالتفات الصلاة؟ قال: لا. قلت فأنظر عن يميني وشمالي: قال: لا، إلا أن تقيم صفًا ولا تطمح ببصرك أمامك، وتطمح به هاهنا وهاهنا، إنما الصلاة تخشع لله. قلت: والالتفات أشد من النظر عن اليمين أو الشمال قال: نعم، ينهى عن الالتفات في الصلاة. وبلغنا أن الرب تبارك وتعالى يقول: إلى من تلتفت يا ابن آدم؟ إني خير لك ممن تلتفت إليه. وقال مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع. وحدث أبا

بكر كذلك. وقال ابن سرين: كانوا يقولون: لا يجاوز بصر الرجل في صلاته موضع سجوده فقال له مسلم بن بشير، ورأى حذيفة بن اليمان رجلًا يصلي ويعبث بلحيته، فقال: لو خشع قلبه لسكنت جوارحه، وقال سعيد بن جبير ينتقص الصلاة الاحتكاك وتعضضك أصابعك في الصلاة والوسوسة وتقليب الحصى. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى بصلاة يجهز فيها القرآن، فلما فرغ من صلاته قال: (يا فلان، هل أسقطت من هذه السورة من شيء؟ قال: لا أدري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل فيكم أمي؟ قال: نعم. قال: يا أمي هل أسقطت من هذه السورة من شيء؟ قال: نعم يا رسول الله، كذا كذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الأقوام يتلى عليهم كتاب الله، ولا يدري ما تلى عنه مما نزل. هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل، فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم، ولا يقبل من عبد عملًا حتى يشهد قلبه مع بدنه). وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه صلى ركعتين فخففهما ولم ينتقص من حدودهما شيئًا. وقال: أني أبادر بهما السهو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أن الرجل ليصلي الصلاة ما يكون له منها إلا عشرها تسعها ثمنها سبعها حتى انتهى إلى آخر العدد). فصل ومن معرفة المصلي بقد صلاته أن لا يجرد المكتوبات عن السنن المشروعة قبلها أو بعدها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني). وقال الله عز وجل: {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه}. ومنها أن لا يقتصر من المكتوبة على أقل ما يجري كما ذكرناه في السنن المنفصلة عنها فلأن ذلك دلالة لاستقبال العبادة والتبرم بها، كما أن المقبل في الصلاة وأدائها بفرائضها.

وسننها وهيئاتها وآدابها دليل الحرص على العبادة والحث والاغتنام لما شرع وسهل السبيل إليه منها. ولكل ساع عند الله سعيه، فمن أساء السعي فعلى نفسه جنى، ومن أحسنه فبمثله يجزى وبالله التوفيق. ومنها أن لا ينفرد بإقامة الفرائض في بيته، لكن يقيمها مع الجماعة في المساجد لما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان). قال الله عز وجل: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر}. ولأن المساجد إنما تبني لأجل الصلاة والذكر. قال الله عز وجل في بيوت الله: {أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تليهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}. وثبت لها لذلك من الحرمة ما تتميز به عن سائر البيوت، وهو أن لا يحل للجنب أن يلبث فيها، وإن الاعتكاف فيها يصح وفيما سواها لا يصح، وأن من جعل داره خرج من ملكه فلا ينفذ فيها بعد ذلك تصرفه، وإن مات لم يورث عنه. فلذلك يجب لها على المسلمين من الجواز ما لا يجوز لهم تعطيلها وتخريبها إذا تركوها ولم يصلوا فيها، لم يعثوا بخرابها ولم يعمروها. وهو سوى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد تسعًا وعشرين درجة). والصلاة جماعة أفضل وإقامتها أفضل لما ذكرت من الحديث في كل واحد من الأمرين والله أعلم. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاتك مع الرجل أزكى من صلاتك وحدك، وصلاتك مع الرجلين أزكى من صلاتك مع رجل، وما كان أكثر هو أحب إلى الله عز وجل). فإن قيل: كيف يجوز أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان) ويستدل على ذلك بقول الله عز وجل: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله

واليوم الآخر} وقد علم أن المراد بالآية عمارة ما خرب من المسجد، ورم ما استرم ألا ترى أنه قال: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة} فلو كان المراد بالعمارة والصلاة لصار كأن قال: إنما يصلي في مساجد الله من آمن بالله وأقامن أن الخبر لا يجوز أن يأتنا عن النبي الصلاة. وذلك لا وجه له. هذا وقد قال: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد كمن آمن بالله واليوم الآخر}. أي أجعلتم ولاية المسجد والقيام بعمارته كسقاية الحاج كإيمان من آمن بالله فثبت أن معنى قوله {إنما يعمر مساجد الله}. أي إنما ينبغي أن يتولى عمارة البيت من يؤمن بالله ويقيم الصلاة. في هذا ما أبان أن ذلك الخبر لا يجوز أن يأتنا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالجواب: أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ملائم لما قاله هذا القائل من معنى الآية. ووجه ذلك والله أعلم- أن الاهتمام بعمارة المسجد وحضوره لا يليق بالمشركين، وإنما هو من عمل المؤمنين. لأن الإيمان هو الذي يبعث عليه يدعو المؤمن إليه. فكما أن الله عز وجل نفي ولاية المسجد والقيام بعمارتها عن المشركين، لأن الكفر بالله يحول بينهم وبينا الاهتمام بالبيوت المضافة إليه المختصة بعبادته. فكذلك اعتياد المساجد والولوع بها والانقطاع إليها بالتعبد، لا يليق بالكفار بالله، إذ الكفر يحول بينهم وبين عبادته، وتعظيم البيوت المضافة إليه. فمن روى ذلك منه وعرف به فينبغي أن يشهد له بالإيمان، فإنما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآية، ليجعل ما جاءت به مثلا لما ذكره من اعتياد الرجل المسجد لا ليحتج بلفظها به والله أعلم. فأما إقام الصلاة جماعة فقد قيل: أنه من فروض الكفاية. فلا ينبغي لبد وإن صغر، أو لقرية أو حصن من أن تقام فيه الجماعة للمكتوبات الخمس، ومن أتى بها منهم سقط بذلك الفرض عن الباقين، وإن تركوها جميعًا فكلهم خرجون، وقيل: أنها سنة مؤكدة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تغليظ شديد على من تركها، نحو قوله: (من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له). ونحو قوله: (لقد هممت أن آمر فتياني أن يجمعوا الحطب ثم آمر بالصلاة فتقام، فإن خالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم

بيوتهم) وقد قيل، إنما قال ذلك لأنه لم يكن يتخلف عن الصلاة خلفه بالعلل الداحضة إلا المنافقون، وهم لا صلاة لهم بالحقيقة. فإن أحرقت بيوتهم كانوا لذلك أهلًا. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يبين أنها فرض وليست بفرض، وهو قوله (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة). وهذا يحتمل أن يكون، على أن فرائض اليوم والليلة سبع عشرة ركعة. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات لم يدعهن: ركعتين قبل الفجر، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء، فأما الوتر فإنه لم يذكرها لأنها من صلاة التهجد، ولعله علم أنه كان يدعو في الشهر لذلك. روى عنه نفسه أنه كان لا يوتر في السفر، يقول: لو كنت منتقلًا لأتممت، فإذا ضممت بالعشر ركعات إلى السبع عشرة كانت صلاة اليوم والليل، فرضها ونفلها سبعًا وعشرين ركعة. فإذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن كل صلاة أقيمت جماعة كصلاة يوم وليلة إذا أقيمت لا في جماعة. ويحتمل ذلك وجهًا آخر وهو أن يكون إشارة إلى الفوائد التي تعود على المصلي في الجماعة، لأجل اجتماعه مع الناس على الصلاة، فيكون منها آمنه من السهو عن بعض أركان الصلاة، والشك في أنه ركع أو لم يركع، وسجد سجدة أو سجدتين وصلى ركعة أو ركعتين. ومنها أن الصلاة في الجماعة إظهار للدين وليس إظهاره كإخفائه. ومنها أن الشغل في صلاة الجماعة أكثر منه في الانفراد، ولولا ذلك لما يجري المتخلف عن الجماعة بتخلفه عنها تخفيفًا عن نفسه، والشغل بالعبادة عبادة. ومنها أن الكاره لا تفوته الجماعة: أما أن يلزم المسجد منتظرًا الصلاة فذلك في حكم الصلاة وهو له عبادة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن أحدكم في الصلاة ما دام ينتظر الصلاة). وأما أن يتردد إلى المسجد في الظلمة مرة وفي الضياء أخرى والحر الشديد والبرد الشديد ومقاساة العناء في العبادة عبادة.

ومنها أن المسلمين إذا التقوا كل يوم وليلة خمس مرات للاجتماع على الصلاة عاد ذلك عليهم بالألفة والمودة، ولم يتقاطعوا ولم يستوحش بعضهم من بعض بأدنى بلاغ وأقل سبب. ويلتحق بهذا أن بعضهم يسأل عن بعض إذا لم يره، وأن كان وجل له حق قضاء، وإذا لم يجتمعوا ولم يتلاقوا جهل حال بعضهم حال بعض، ولم يصل إلى قضاء حق إن كان قد وجب له. ومنها أنهم إذا قصدوا أن يصلوا جماعة احتاجوا إلى مكان يضمهم، فبينوا المساجد وعمروا ما قد بني منها. وكل واحد من البناء والعمارة عبادة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بني الله له بيتًا في الجنة). ومنها أنهم إذا أرادوا ذلك احتاجوا إلى مؤذن يحافظ عليهم الأوقات، ويعلمهم بها، فإذا نصبوه فالآذان للمؤذن عبادة. ونصبهم إياه الفرض الذي وصفنا عباده. ومنها أنهم يحتاجون إلى إمام يكون لهم بمنزلة القائد والوالي، فإمامته إذا أدى الإمامة فيها له عبادة، واقتداؤه به لهم عبادة. ومنها إن أكمل الصلاة هي الجمعة، فإذا صلى الناس غيرها جماعة فقد شهرها بها وحصلوا فيها بعض معانيها وأوصافها متبرعين، فكان ذلك نظيرًا أن يصلوا في الوقت الذي لا فرض عليهم فيه متنقلين، فشبهوه بالوقت الذي فيه عليهم فرض، وتحصوا فيه معناه ووصفه. ومنها: أن الصلاة في الجماعة تقع لأوقاتها لأن كل واحد يفزع نفسه لشهورها وإقامتها، وصلاة المنفرد تقع مرة لأول الوقت ومرة لآخره، وربما تنتهي عن الوقت، وليس المحاسب نفسه كالمساهل إياه. ومنها أن التدرب على الجماعة عصمة من ترك الصلاة، لأن المنفرد قد ينام عن الصلاة وقد ينساها، وقد يغفل منها وقد يكسل عنها ويتركها. والموكل بالجماعة ما بين هذا كله.

ومنها أن في ذلك غيظًا على الكفار إن شاهدوا من المسلمين جموعهم ومساجدهم واجتماعهم بأمر دينهم ومواظبتهم على عبادتهم. ومنها: أن منها تشبهًا بالملائكة المرقبين حيث يقولون: {وما منا إلاله مقام معلوم، وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون}. ومنها: أن الصلاة من بعضهم على عين بعض أجزى وأخضع، ومن التجبر والتعظم أبعد. ومنها: أنه قد يدخل مع النوم من لا يحسن الصلاة فيصلي بصلاتهم ويأخذ عنهم فيكون أقام الصلاة بإجماعه من هذا الوجه إعانة على البر وهداية إلى الخير. ومنها: أن الإجماع على الاقتداء بالإمام الذي إليه جمعهم وإليه إمامتهم، قضى حق الطاعة له، وإنما ذلك للسلطان، وطاعة السلطان عبادة. ومنه أنها إذا مرقوا على الصلاة خلف سلطنهم أسرعوا إلى طاعته فيما يدعوهم إليه، ويحملهم عليه من جهاد وغيره. وإذا مرقوا على الإنفراد لم يؤمن أن يحدث عنهم من التباطؤ ما يدعو إلى الشقاق والفرقة. ومنها أن ذلك تشبهًا منهم بصف المقاتلين الذين يقول الله عز وجل: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص}. ومنها أن القبلة هي البيت وعنده كانت إمامة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن المسلمين إذا اجتمعوا حول البيت فصلوا، صارت جهاته مستوفاة لهم ضرورة، واستيفاؤها للمنفرد غير ممكن. ومنها: أنهم إذا صلوا جماعة سلم بعضهم على بعض. ومنها: أن الإمام يدعو لنفسه وللقوم، وكل واحد من القوم يدعو لنفسه وللجماعة، وذلك أرجى من دعاء المنفرد وحده. ومنها: أن المسلمين يصومون معًا ويحجون معًا، فلما أمكن أن يصلوا معًا كان ذلك أولى بهم من أن ينفردوا ويتباينوا بين الصلاة وقرينتها من أركان الصلاة. ومنها: إن في الجماعة تعظيمًا للمقصود بالخدمة لما يستشعره كل واحد من استضعاف نفسه، وإظهاره الحاجة إلى آخرين، فينصتون إليه فيتقوى بهم.

ومنها: أن الإمامة سبب جهر الإمام، إذ كان لولا الإمامة ما كانت منتهى الجهر والجهد زيادة في صفة الذكر، زيادة الخير خير. ومنها: أن الصلاة جماعة زينة تين بها الفرض وغيره لما يمكن من وجوه الذين أولى من التسوية بينه وبين النفل، كما يؤذنوني له ولا يؤذنون للنفل. ومنها: أن الجماعة من مناسك الحج، فإنهم أمروا أن يجتمعوا بعرفة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وإنما يفعلون ذلك جماعة، ولا يخل الانفراد في مناسك الحج. ومنها: أن الجماعة نصرة حاضرة، حتى لو حدث خوف لحرس بعضهم بعضًا ليبتلوا والانفراد خذلان ووحشة، فتلك سبع وعشرون والله أعلم، لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه التوفيق للصلوات. فصل وإذا ظهر حضور المساجد للجماعات. والصلوات متفاوتة في ذلك، وأفضل الصلوات في ذلك العشاء والفجر. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو يعلم المتخلفون عن صلاة العشاء والغداة لأتوهما ولو حبوًا). وعنه (أن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: اسمعوا وأبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين العشاء والصبح لو تعلمون ما فيهما لأتيتموها ولو حبوًا على مرافقكم وركبكم. وقال عمر رضي الله عنه: لأن أصليهما في جماعة أحب إلى من أن أحيي ما بينهما، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهود صلاة العشاء لآخرة كقيام نصف الليل، وشهود الصبح كقيام ليلة حق الصبح). ثم لذلك آداب وشروط يحتاج إلى المحافظة عليها. أحدها أنه ينبغي لكل أحد منهم أن يتنظف، ويتحرى أن يحضر المسجد على حال

لا يؤذي بها أحدًا. وقد ذكر من ذلك في الغسل للجمعة ما قد ذكر. وجاء في هذا الباب أن أنسًا رضي الله عنه سئل عن الثوم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكل من هذه الشجرة شيئًا فلا يقربنا ولا يصلين معنا). وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكل من هذه الشجرة شيًا فلا يقربنا- ويريد الثوم في مجلسنا فقلت: المسجد الحرام؟ فقال: (في المساجد كلها). وفي بعض الرواية أنه لما قال ذلك قال الناس: محرم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا فقال: (يا أيها الناس أنه ليس لي تحريم ما أحل الله، ولكنني أكره ريحها). وفي بعض الروايات أنه قال: (من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا) وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا يأكل الثوم ولا الكرات ولا البصل، من أجل أن الملائكة تأتيه. ومن أجل أنه يكلم جبريل. وفي رواية أخرى: (من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا، أو يعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته). وهذا كله فيمن أكل ثومًا أو بصلًا، فكان إذا دخل مسجدًا وحضر جمعًا من جموع المسلمين آذى الناس برائحته الخبيثة. فأما إذا كان مطقوخًا لا تبين منه رائحته ما ينأى به، فلا بأس به. فقد روى مفسرًا أن النبي قال: (من أكل البصل والثوم والكرات نيًا، فلا يقربنا مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به الناس). وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال في خطبته: "يا أيها الناس أنكم تأكلون من شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا الثوم وهذا البصل، لقد كنت أرى الرجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ منه ريحه، فيؤخذ بيده، حتى يخرج به من الجمع. إلا فمن أكلها فليمتهما طبخًا. وروى هذا مسندًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كنتم لابد من آكليهما فأميتوها طبخًا). يعني البصل والثوم. وقال علي رضي الله عنه: لا يصلح أكل الثوم إلا مطبوخًا.

فصل وينبغي لمن أراد المجد أن يمشي غليه، وإن بعدت داره، إلا أن لا يطيقه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قلوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عاج أحدكم مريضًا فليقل: اللهم اشف عبدك شكا لك عدوًا أو يمشي إلى صلاة). وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أقيمت صلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا معه يقارب في الخطى، فقال: (أتدري لأي شيء مشيت هذه المشية؟ ليكثر عدد خطاي في طلب الصلاة) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال: (يا بني سلمة، دياركم دياركم، فإنما تكتب آثاركم). فأقاموا وقالوا: ما يسرنا إن كنا تحولنا، يعني قول الله عز وجل: {ويكتب ما قدموا وآثارهم} فإن كان المشي في الظلماء فقد (روى) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بشر الماشي في ظلم الليل بالنور التام يوم القيامة). وعنه أنه قال: (من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد آتاه الله نورًا يوم القيامة). وعنه أنه قال: (بشر المشائين إلى لمساجد في الظلم، فإن أولئك الخواضون في رحمة الله). ورأى رجل الحسن البصري، وهو المسجد لصلاة العشاء في ليلة مظلمة ذات ريح، فقال: في هذه الليلة يا أبا سعيد؟ فقال: التشدد أو الهلكة. ولا ينبغي لمن أراد

الجماعة، وخشي أن يسبقه الإمام أن يسعى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأثرها وأنتم تسعون، وأتوها وانتم تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا). ومن دخل المسجد فإنه يقول ما رواه علي رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: (اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وإذا خرج قال (اللهم افتح لي أبواب فضلك). فصل وقد كانت النساء يحضرن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرجن إلا بفلاة، وغلظ عليهن في حس الطيب إذا خرجن، إلا أن عائشة رضي الله عنها قالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نرى لمنعهن المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها. وقال عبد الله؛ احبسوا النساء في البيوت، فإنما النساء عورة، فإن المرأة إذا خرجت من بيتها استسرقها الشيطان، وقال لها: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجب بك، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لفضل صلاة المرأة في بيتها على صلاتها في الجماعة خمسًا وعشرين درجة). وجاءت امرأة أبي حميد الساعدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، فقال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي) فأمرت فبني لها مسجدًا في بعض شيء من بيتها، وأظلمته. وكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل.

فإن قيل: فهلا منعنهن المساجد إذا كان الفضل لهن في الخلوة والانفراد، كما منع الرجال من التخلف عن الجماعة، إذا كان الفضل لهم في حضورها. قيل: لأنه كان لهن في الحضور عذر لم يكن مثله للرجال في التخلف. وهو الدخول في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قنت، وفي سلامه إذا سلم على القوم فيحلل. فإن كان ذلك يحصل بهن إذا حضرن ويقربهن إذا تخلفن، وكي لا يطبن نفسًا بالفوت فلم يضيق عليهن. وجاء أن يصل بحب ظنهن، وينتهي ببركة دعاه وسلامه إلى أكثر من الفضل الذي كان يكون لهن في لزوم البيوت. وهذا المعنى في جانب غيره، لا يقوى كقوته في جانب النبي صلى الله عليه وسلم كان الأولى بهن لزوم البيوت والله أعلم. فصل وإذا أراد الرجل الخروج إلى الصلاة، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا خرجت من منزلك فصل ركعتين يمنعانك مخرج السوء، وإذا دخلت منزلك فصل ركعتين يمنعانك مدخل السوء). وهذا فيمن خرج إلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة صلى في بيته، وإن رجع من الفجر أو العصر لم يصل. فصل وينبغي للجماعة أن يسووا صفوفهم، والإمام يتعهد ذلك منهم، ويأمرهم به. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسوي الصفوف كما يسوي القداح والرماح، وكان يقول: (ما يمنعكم أن تصف الملائكة الذين عند الرحمن؟ قالوا: وكيف يصفون؟ قال: يتمون الصف الأول، ويرصفون الصفوف رصفًا). وكان يقول: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ولتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم). وجاء أنه كان إذا أقيم الصلاة،

أخذ العود بيده اليمنى ثم التفت وقال: (اعدلوا صفوفكم واستووا، ثم أخذ بيده اليسرى ثم التفت فقال: اعدلوا صفوفكم). وإذا اصطف الناس صفين، وفي الأول فرجة، فينبغي لأحد من في الصف الثاني أن يتقدم فيسد الفرجة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سد فرجة في صف رفع الله بها درجة). ولا ينبغي أن يصطفوا صفوفًا ناقصة، ويفعلوا كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتموا الصف الأول ثم الذي يليه، فإن كان نقص وليكن في المؤخر). وينبغي إذا كان القوم طبقات أن يلي الإمام منهم أفاضلهم ثم الأمثل، وإن تعدل الصفوف على هذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليلين منكم ذوو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: تقدميا فلان، تقدم يا فلان). وقال قيس بن عياد رضي الله عنه: بينا أنا أصلي في مسجد المدينة في الصف المتقدم، إذ جاء رجل من خلفي فجيذني جبذة فنحاني، وقام في مقامي. فوالله ما علقت صلاتي، فلما سلم التفت إلى، فإذا هو أبي بن كعب رضي الله عنه، فقال: يا فتى لأبشرك أن هذا عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كونوا في الصف الذي يليني، وما فعلته). وما فعلته تجاهله، وأفضل الصف الأول ما كان عن يمين الإمام، ومنه ما كان أقرب إلى الإمام. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصفوف الصف الأول، وأفضل الصف الأول ميمنته، وأفضل ميمنة الصف الأول أقربهم إلى الإمام). وينبغي إذا صف الناس خلف الإمام فدخل رجل فأحسوا به، وأمكنهم يوسعوا له أن يفعلوا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خياركم أحبكم مناكب في الصلاة). وإذا كثر الناس في المسجد فليصفوا في وجوه السواري أو يخلفوا وراءهم ولا يصطفون بين السواري.

وعن عبد الله كان يرى أن يصف بين الاسطوان. وعن حذيفة وابن عباس رضي الله عنهما مثله. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: الاصطفاف بين السواري. ويجهل أن يكون ذلك، لأن سنة الصف الاتصال والسواري مقطعة، وإذا اجتمع الناس في المسجد ينتظرون الإقامة، فأقام المؤذن. فإن كان الذي أذن وأقام فهو الإمام، فينبغي للقوم إذا سمعوا قوله قد قامت الصلاة، أن يقوموا. وإن كان الإمام غيره، فلا يقوموا حتى يروا الإمام قد خرج أو يروه إن كان بينهم. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوما حتى تروني قد خرجت). فصل واختلف السلف في الإمام إذا سلم، فكان ابن عمر رضي الله عنه يسلم ويقول: لا تسبق من صلاتك بعد الإمام شيئًا، وإذا سلم الإمام، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سلم الإمام فردوا عليه). وروى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يردون على الأمام ثم يسلموا. وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يسلم أولًا عن يمينه، ثم يرد على الإمام. وتأويل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا عندما كان يتولى القوم بسلاحهم الإمام والحفظة. فإما أن يردوا عليه في صلاتهم فا أزادوه مما هو جائز. والخبر عن الصحابة أرسله كحول، ولا حجة في المرسل إذا انفرد. فصل ولا ينبغي لأحد من القوم أن يفارق مكانه بعدما قضى الإمام صلاته حتى يقوم الإمام، إلا أن يكون عليه قضاء. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالعقود ولا بالانصراف).

فصل ومن صلى وحده ثم أدرك الجماعة فليعدها معهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جثتما فصليا، وإن كنتما قد صليتما). فإن كان يصلي في جماعة، فمن علل النص بادر إلى فصل الجماعة، قال: لا يعيد، ومن علله بالاحتراز من الخلاف والشذوذ، قال: يعيد. فصل ومن فاتته الصلاة في مسجد، فيتبع المساجد رجاء أن يوافق جماعة فحسن. جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه كان يفعل ذلك وإن كان في بيته قوم فرجع إليهم فصلى معهم فجائز. فإن فات الجماعة أجرى معهم فخلوا المسجد فصلوا فيه جماعة جائز. ولا ينبغي لمن كان في مسجد فأقيمت فيه الصلاة أن يخرج قبل أن يصلي إلا أن يكون له عذر بين. فعل ذلك رجل فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * *

الثاني والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في الزكاة

الثاني والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في الزكاة وفي الزكاة التي جعلها الله جده قرينه الصلاة فقال: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة}. {وآتيتم الزكاة}. وقال {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة). وقال: (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة}. وقال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} إلى غير ذلك من الآيات التي لم يفرد فيها 1 كر الصلاة عن ذكر الزكاة، ولا أدخل بينهما، فرضا سواهما. فصارت الزكاة لذلك ثالثة الإيمان. كما صارت الصلاة ثانية الإيمان. ووجب لذلك تعظيم قدرها وتفخيم أمرها. وجرى الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكر الصلاة والزكاة على منهاج الكتاب فقال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وإن محمدًا رسول الله، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت) فقد قرن الزكاة بالصلاة. وقال لمعاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإن محمدًا رسول الله، فإن أجابوا إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم) فقرن الزكاة بالصلاة.

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل سأله عن الإسلام: (أن نسلم قلبك لله، وتوجه وجهك إلى الله، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، إخوان نصيران، لا يقبل الله من عبد أشرك بعد إسلامه). وعنه أن الجصاص بن السدوسي جاء ليبايعه على الإسلام قال: فاشترط على أن أشهد أن لا إله إلا الله. قلت: يا رسول الله، أما اثنتان فلا أطيقهما، أما الزكاة فمالي إلا عشر ذود، وهن لرسل أهلي وخمواتي. وأما الجهاد فأخاف إن حضر لي القتال كرهن الموت وحتفت نفسي. قال فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عني فقال: (لا صدقة ولا جهاد، ففيم تدخل الجنة؟ فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عني فقال: (لا صدقة ولا جهاد، ففيم تدخل الجنة؟ فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك، فقد بايعتك عليه كله). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان من عند الله وحده). سببًا لنقاء النفوس إذا كانت المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والمرافق والمعادن كلها أموالًا، وامنن على العبد بالرزق كما امنن عليه بالخلق فقد ينبغي مع هذا كله إذا فرض على العبد في ماله زكاة فتح لها طيب النفس عنها، وحم به إليها في غير أوقات الفرض من نوافل الأعطيات وكرائم الصدقات مثلها وأكثر منها، أن يكون ذلك أقرب العبادات منها بالصلوات أولها بأن يكون قربها وبانيها وأحسنها عند الله تعالى للعبد ذكرًا، وأعظمها لديه أجرًا. فقد دل الكتاب والسنة على ذلك كما وصفنا، ثم جاءت في التغليظ على مانعي الزكاة أنه قال: (ما منع قوم زكاة أموالهم إلا حبس الله عليهم مددًا من غيرهم، وأخذوا ما كان بأيديهم. ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالشين وشدة الموتة، وجور للسلطان عليهم، وإذا لم يحكم أئمتهم بكتاب الله جعل نالهم بينهم). وقال الله عز وجل: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمي عليها من نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم،

هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إي أحمي عليه في نار جهنم، فتجعل صفائح فيكوى بها جنبيه وجبينه وظهره، حتى يفضح بين الناس ثم يرى سبيله). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من كان له مالًا فلم يعط حق الله منه جعل يوم القيامة أقرع. فإذا رآه يعود فيقول: لن تعدل مني، أنا كنزه الذي كنزتني فخذتني بما بدعه حتى يأخذه، فما هو إلا أن يقبض عليه فيلزم بيده وجعل حميه ما يشاء). وفي حديث آخر: (يضع يده في فيه فلا يزال يعضها حتى يقضي بين الناس). وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم صفائح فيكوى بها جبينه وجبناه حتى يحكم الله بين عباده ثم يرى سبيله، أما إلى الجنة وأما إلى النار، وما من صاحب أبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع فرقد ما كانت تسبق عليها، كلما مضت عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده، ثم يرى سبيله أما إلى الجنة وأما إلى النار. وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع فرقد أوفر ما كانت فتطأه بإطلاقها، وتبطحه بقروها، ليس فيها غيبها ولا خلجا، كما مضى عليه أخراها ردت عليه أولى حتى يحكم الله بين عباده، ثم يرى سبيله أما إلى الجنة وأما إلى النار). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان عنده مال يبلغه الحج فلم يحج، أو عنده مال تحل فيه الزكاة فلم يزكه سأل الرجعة). فقيل: يا ابن عباس إنما كنا نرى هذا الكفار: فقال: أنا اقرأ عليكم به قرآنا: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن

يأتي أحدكم الموت فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}. وقال قتادة رحمه الله: من منع زكاة ماله سلط الله عليه العين وقال إبراهيم التيمي رحمه الله: من كان له مال فمنع حقه سلط الله عليه أن ينفقه في الماء والتراب، وأن المرء ليؤجر في نفقته كلها إلا في شيء يجعله في هذا التراب. وقال عبد الله بن مسعود رحمه الله: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له، وهذا موافق لما جاء في بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، لا يقبل الله بعض ذلك دون بعض). وعن عبد الله رحمه الله قال: ما تارك الصلاة بمسلم، ثم أن المعنى في وجوب الزكاة بين، لأن المال نعمة من نعم الله تعالى كسلامة البدن وصحته، إلى إزاحة علة المحتاجين، والإنفاق على الفقراء والمساكين حتى يتقووا بها على العبادة، ولا يستغرق جهدهم باضطرابهم لزمانه، فلا يتفرغوا معه بخدمة مولاهم. ثم يكون في ذلك ما يبين في بخل الأغنياء وقلة ما فيهم، فيلزم الأغنياء بذلك تتمة الكفران والطغيان، ويعود المال الذي أنعم الله عليهم نقمة عليهم، بعد أن كانت نعمة أنزلها الله إليهم. وأيضًا فإن من تأمل وجه الحكمة في فرض الزكاة علم أن أهل الدين إذا كانوا مختلفين، فمنهم أغنياء، ومنهم ذو الحاجة، كان في إهمال الأغنياء أمر المحتاجين والاستبداد بما أوتوه من النعمة هلاك المحتاجين. وليس من حق ما أنعم الله تعالى به على بعض عباده من المال الذي يجاوز قدر حاجته درجات كثيرة، ويربي على حد كفايته أضعافًا مضعفة، أن يرى مشاركًا في الخير والجبلة مواقعًا في الدين والملة، مغلوب الشرف، متكافئ الضرب، وهو يقدر على إصلاح حاله بأدنى شيء يعطيه من ماله، فبخل به عليه، فيكون إلى مثل نفسه، وبغض واحد من أهله عليه، وآثر البخل على الإحسان، وببذل اليسير من

المال لقرينه وشكله، وكما أنه إذا قدر على مواساة المحتاج فلم يفعل ذلك حتى هلك المحتاج، كأن قلبه حلت سر صنيعته إلى نفسه من المحامد والمحاسن بحبسه، لا يجمع بذلك حياه مثله، والزيادة في عدد أهل ملته، واختار الفضل على البخل، واعتاض عن مال يسير أخرجه من ملكه أحدًا يدعو له في وقت الدعاء، ويثنى عليه في أحوال الثناء. ولا يشكل على ذي عقل ومعرفة. أن الأمر إذا كان ما وصفنا، فالدفع خير من البيع، والإعطاء أحين من الاستبقاء. فلئن كانت الشريعة جاءت بفرض الزكاة، فإنما جاءت بأفضل الخصلتين وأجمل المعاملتين، ودعت إلى إحدى السبيلين وأزكى الأمرين. فلا يتمسك بها إلا فاطر مبصر له شده ولا يرون منها إلا غافل عن مصلحته، جاهل بصواب أمره وبالله التوفيق. وإذا ظهر عظم الزكاة بما وصفنا. والزكاة اسم لفرض مطلق، ولا سنة من جنسه، وهي في هذا مخالف الصلاة. ويشبه أن يكون وجه الفرق بينهما: أن الصلاة تقام بالبدن متشبهة لأكثر من الصلاة المفروضة، فسن عليها من الزيادة ما سن، لأنها لا تفرح ولا تسر وليس المال في هذا البدن لأن المفروض من الزكاة إنما اعتبر فيه الثاني، والإمكان. فأوجب قليلًا من كثير، أو يسيرًا من جليل خطير، لأن لا تصير المواساة بالمؤاسي ويتحول الداء للتداوي. فلو سن مع المفرض منها من النوافل مثل ما سن منها من فرائض الصلاة لشق ذلك على أرباب الموال وأجحف بهم، وأثر في أحوالهم، فلهذا لم يلق أن يسن من الزكاة كما سن من الصلاة والله أعلم. وجملة الزكاة قسمان: أحدهم حق المال، والآخر حق البدن. فأما حق للبدن فزكاته الفطر، لأنها أوجبت شكرًا للإباحة الواقعة بعد الحظر، تلك الإباحة للأبدان إذا كان الحظر عليها. فالزكاة إذا حقها. وأما التي هي حق الغناء والثروة فهي التي تدعي زكاة المال. حملة الأموال التي تحب فيها الزكاة ثمانية أصناف: الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزروع النخل والكرم. ومن هذه الأموال ما يتعجل وجوب الزكاة فيه عند الملك، كالذهب والفضة المستخرجين من المعدن إذا بلغا كمل النصاب، ثم تتكرر الزكاة عليه بالأحوال ما دام باقيًا في الملك. ومنها ما يتعجل وجوبها فيه ثم لا تتكرر عليه بتكرر الأحوال ما دام باقيًا في الملك

كتمر النخل والكرم والحب. فإن من بدأ صلاح شيء منذ لك في ملكه وجب عليه زكاته، فإن كان ملكه في ساعته. ومنها ما لا تجب الزكاة فيه حتى يحول عليه حول تان، ثم تتكرر الزكاة فيه بتكررها عليه في الملك، وهو المواشي التي ذكرناها، وما حكم من هذه الأحكام إلا وله دلائل. وما أصل من هذه الأصول إلا ويتفرع ويتشعب الكلام فيه، وعلم ذلك موجود في الكتب المفردة لهذا الفن. وإنما نذكر في هذا الكتاب محاسن الشريعة وعلم الآداب ما يجرب مجرى التكلم لما ألفه الفقهاء في تلك الأبواب. ونقول في الجملة: أن نعمة الله تعالى بالمال كانت تضم جميع أصنافه والزكاة لا تضمها ولكن تخص بالوجوب وإلا حد بعضها وفي ذلك وجهان. وأن أحدهما أن الله تعالى أوجب الزكاة في كل جنس من أجناس المال في أعلى أنواعه وعفا عما دونه، بأن الحاجة إلى الأعلى عامة شديدة. وكذلك ما كان أعلى وأشرف من غيره، فإن فضل المال ليس إلا أنه محتاج إليه. فما كانت الحاجة إليه أشد، والمحتاجون إليه أكثر، فهو أسم الفضل أولى وأحق. وإذا كان ذلك اقتصر فرض المواساة على هذا النوع لأن علة المحتاجين ينزاح بما يوفون منه، ولا يبقى لهم بعدما يستنفذونه منها ضرورة، ولا يطيقون جملتها، ولا يقدرون على الصبر معها، وإنما يبقى العجز عن تبعات الشهوات التي لو أمكنوا منه، وألزم الأغنياء أقدراهم عليه، لبطل ابتلاؤهم بالحاجة، ولم يظهر منهم وبين الممكنين بزمامه ما يحبونه ويشتهونه فرق. ثم أن أصناف الأموال معلومة: أحدهما ما يستخرج من وأعلاه الذهب والفضة، لأن الناس كلهم محتاجون إليهما ولا غنى بأحد عنهما، فإنهما مالا الثقل والتجارة، وبهما تقوم الممتلكات وتقدر رؤوس الخبايات، وما عدا ذلك من النحاس والحديد والرصاص فسلع يمكن التجهز دونها. وقد يقوم غيرها مقامها، أو مقام بعضها. ومنها الحيوانات التي تقتني فأعلاها الإنعام، فأن الدر والنسل منها يقتني، وفيها ما يؤكل لحمه، ويركب ظهره، ويحمل عليه الأثقال إلى أقاصي البلدان والأطراف. وفيها ما لا يصلح لذلك، إلا أن المنفعة تتوفر بلحومها وألبانها وأصوافها وأشعارها وجلودها. فأما ما عداها مما بعد وثبة أولًا فكمل كمال هذه الأصناف فائدة ومنفعة، وأصناف الظاهر التي تقتني رج، وأما الصيد التي تلو فليست الحاجة إليها كالحاجة إلى الأنعام التي وصفنا. ألا ترى أن الحاجة إلى البغل والحمار إنما تكون للحمل والركوب، والإبل تعمل عملها ثم تزيد عليهما بأن منهما طعامًا وشرابًا وليسا في البغال والحمير.

وأما الخيل فإنها لا تطيق من الجهد ما تطيقه الإبل ولا تفيد من الرسل ما تفيده، فهي من هذا الوجه أيضًا بمنزلة سائر التوابع لها لقصورها عن منزلتها مما يراد ويصلح له، ومنها ما كسبت من الأرض فأداة الأبدان التي لا قوام للأبدان إلا عليها، وما عدا ذلك مما يطعم يلد أو يراد للقوات طيبة له، فهو فضل جعلت الزكوات واجبة في أعالي هذه الأجناس التي تعم وتشتد الحاجات إليها، فإن في ارتقاق المحتاجين أن يصيروا على مضض الحاجة التي يقع لهم إليها إهلاكهم، ولم يكن لهم في إخراجهم أهلاكهم، وإنما كان ابتلاؤهم. وجعلت الزكاة مقصورة على هذه الأنواع ليتم الابتلاء الذي يعد فدولهم بإخراجهم والله اعلم. وأما الموضع الآخر: فهو أن هذا الذي ذكر وقع عليه الاقتصار من الزكاة المأخوذة وعلى هذه الأجناس المذكورة. وإلا فالحق الذي يجب لله تعالى في مال الغني لا يقتصر بها على نوع دون نوع، لكنه سبع في الأنواع كلها، بأن لهذه الزكاة التي أوجبها في أصناف مخصوصة، فمن لم يكن عنده سواها، فأخرج زكاتها، فقد قضى حقها. ومن ملكها وملك معها خيلًا وبغالًا وحميرًا وأثاثًا وضياعًا وجواهر حقها، فأخرج الزكاة من الأصناف المعلومة قضى لما يخرجه منها حقها، وحق عامة ما يملكه من صنوف الأموال. ومن قال هذا، قال: إن كانت الزكاة لن تجب إلا في الموال مخصوصة، والصلاة لم تجب إلا في أوقات مخصوصة، ثم لا يجوز أن يقال أنها حتى يلزم لبقاء البدن وسلامته في تلك الأوقات خاصة. لكنه حق لبقائه وسلامته في عامة الأوقات، غير أنه جعل ما يقام من الصلاة، وفي بعض الأوقات قاضيًا حقها وحق غيرها من ساعات العمر كلها، فكذلك الصيام إنما أوجب في شهر من أثنى عشر شهرًا، ثم لا يجوز أن يقال: أنه حق لبقاء البدن وسلامته في ذلك الشهر خاصة، لكنه حق لبقائه وسلامته فيه وفي غيره، إلا أنه جعل الصيام فيه خاصة قاضيًا حقه وحق السنة كلها. وكذلك الحج إنما أوجب في وقت معلوم من سنة ثم أخذه، وليس يجوز أن يقال: أنه حق البقاء والسلامة في تلك السنة، ولكنه حق العمر كله وإن طال وامتد، وأشبه من هذا أمر الزكاة، إنما تجب في ثمر وشجره. لأن الله عز وجل قال: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} والكل خارج من الأرض.

وأقرب من هذا أن من ملك قضايا من مال زكاة، لم تجب عليه الزكاة حتى يمر به حول، فإذا انتهى الحول وجبت، ثم لا يجوز أن يقال: أنها تقضي حق الملك في الحلول كله. وإن كان كله خاليًا عن الوجوب إلا ساعة الانتهاء. وأقرب من ذلك أيضًا أن من ملك قصايا من مال الزكاة إلى أربعين شاة حولًا، وجبت الزكاة عليه وهو شاة. فلو كانت هاية وعشرين لم تجب فيها أيضًا إلا شاة. فقد صارت الشاة بعد حق الأربعين، وحق لأربعين الأخريين، فلا تتكرر إن كان معها أموال من غير جنس المواشي أن يقضي حقها وحق ملك الأموال. فيكون ما مضى ذكره من الاعتبار أعالي الصفاق والأحوال عليه بتخصيصها بأخذ الزكاة منها، واعتبار الاقضية فيها، إلا أنه لا حق لله تعالى فيما عداها من الأموال والله أعلم. فصل قم أن هذه الزكاة كما أوجبت في هذه الأصناف الثمانية من أجناس المال، ولذلك لثمانية أصناف من طبقات الناس، قال الله عز وجل: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل). ولم يدخل غير هؤلاء من المحاويج معهم كالأسير الفقير في أيدي العدو ليفتدي به، فيخرج من أيديهم، ولا في المحبوس ظلمًا في ما لا طاقة له به أو يكفن ميت المعسر ودفنه. لأن الأسير لو كان واجدًا مالًا لزمه أن يفتدي نفسه، والمحبوس ظلمًا في مال يراد عنه لو وجده، فألزمه أن يعطيه. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل جون ماله فهو شهيد). ولذلك أهل الصدقات، لأن كل واحد منهم لو كان واجدًا كفايته من ماله. وأما الميت المعسر فلا سبيل إلى تمليكه. شرط الزكاة التمليك. فلهذا لم يكن لهذه الأبواب مدخل في الزكوات والله أعلم.

فصل ومن الأموال ما يظهر كالمواشي والنخل والكرم والزرع فيكون أخذ صدقاتها إلى الولاة. قال عز وجل لنبينه صلى الله عليه وسلم: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ولذلك أخذ صدقة الفطر في وجوبها لوقت معلوم، فلا تخفي كما لا تخفي زكاة ما أخرجته الأرض إذا بدأ صلاحه. ومنها ما خفي كالذهب والفضة، فيكون لرب المال تفريق زكاته بنفسه. فكل ما كان أخذ زكاته إلى الوالي، فالسمع والطاعة واجبان له على من خلت الزكاة ماله. ولا ينبغي له أن يقل، ولا أن يكتم إن كان الوالي عدلًا، على ما يجيء بيانه. وإذا أحضر المصدق المال، فإن قدر على دفع حقه إليه في الحال لينصرف لم يحبس. فإن كان ذلك مما يحتاج فيه إلى مهلة وزمان أنزل وأكرم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالضيف، ومن أكرم الاضياف فيساوى الحق من حقوق الله تعالى، وكان مؤتمنًا عليه ليؤدي كما أمر به إليه، ثم لا يبتغي لرب المال أن يتضجر من الصدقة ويتحرى بها رد له المال. فيكون كمن حبس بعضها عليه فأدى بعضه. فإن وصي رجلًا إياه مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث هضيل محلول، فلما أتاه قال النبي (لا يبارك فيه وفي إبله) فبلغ ذلك الرجل فبعث بناقة حسنة، فقال: (اللهم بارك فيه وفي إبله). وقال الله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون). وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا جاءكم المصدق فلا تصدون، إلا وهو عنكم راض). فقد يدخل في هذا أن لا يطال حبسه، ولا يكثرن عليه ولا يستهان، بل يكرم ويوقر ويعرف حقه. ويدخل فيه أن يؤدي إليه ما يطالب به مما هو حقه، ولا يبخس عنه شيئًا. فأما أن طلب أكثر من حقه فلا يعطي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين فرائض

الصدقات، ثم قال: (فمن سئلها على وجهها فليعطه، ومن سأل فوقها فلا يعطه). وإن سأله الوالي قيمة الزكاة، فإن كان الوالي من أهل الاجتهاد فأداه رأيه إلى أن ذلك جائز، فحكم به على رب المال، جاز عليه حكمه وسقط به أن وقع الحق. وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، فإنما هو ظلم يظلمه به فلا يسقط به الحق عنه والله أعلم. فصل وينبغي إذ أخذ المصدق زكاة مال رجل كما وجب عليه أن يدعو له بالخير والبركة، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن). وروى عنه أنه لما جاءه ابن أبي أوفى بصدقات قومه قال: (اللهم صلي على آل أبي أوفى). فإن أغفل المصدق أن يدعو لرب المال فحق لرب المال أن يأمر بأن يدعو له. قال النبي صلى الله عليه وسلم لشبر بن الجصاص، لما قال له: أن أصحاب الصدقة يعتدون علنا أفمكنتهم من أموالنا قدر ما يريدون علينا؟ فقال: (لا، ولكن أخرجوه لهم، فإن أخذوهم وهم فليصلوا عليكم، وتلا: {وصل عليهم أن صلاتك سكن لهم}. وكان جرير بن عبد الله يقول لنبيه: إذا جاءكم فلا تدعوا، إذا صدق الغنم الماشية أن تأمروه أن يدعو لكم عليها بالبركة، والدعاء أن يقول لرب المال: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. فأما ما قيل في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سيدًا عن كتمان ماله، فليس على معنى أنه أمره أن يعطي المصدق ما لا يلزمه، ولكن لأن لا يكون قد جاء المصدق فمنعه إحصاء ما كان به إحصاؤه، فلا ينبغي للمصدق أن يتعدى في الصدقة، فإنه إن تعدى، فقد قال

النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لم لا أمانة له) والمعتدي في الصدقة كمانعها. وقال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: (إياك وكرائم أموالهم، وإياك ودعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). وإن عدل لم يتعد به فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حق يرجع إلى بيته فليختر الآن لنفسه). وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث قيس بن سعد بن عبادة ساعيًا، فقال له أبوه: لا تخرج حق يحدث برسول الله صلى الله عليه وسلم عهدًا، فلما أراد الخروج أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا قيس ابن سعد، لا تأتين يوم القيامة على رقبتك بعير له رغاء، أو بقرة لها ثواء، أو شاة لها لها ثغاء، ولا تكن كأبي رغال فقال سعد: وما أبو رغال قال: مصدق بعثه صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد رجلا بالطائف في غنم قريبة من المائة سقاها إلا شاة واحدة ومعه بني له صغير لا أم له ويحلب له الشاة عشية، فقال له صاحب الغنم: من أنت؟ فقال: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرحب به. فقال: هذه الغنم، خذ أيها أحببت، فنظر إلى الشاة اللبون، فقال: هذه فقال الرجل: هذا الغلام كما ترى ليس له طعام ولا شراب غيرها قال: إن كنت تحب اللبن فأنا أحبه. فقال: خذ شاتين مكانها فأبى. فلم يزل يزيده ويروج له حتى بدل له خمسين شاة مكانها، فأبى عليه. فلما رأى ذلك عهد إلى قومه فرمي بسهم فقتله. قال: ما ينبغي أن يأتي رسول الله بهذا الخبر أحد قبلي. فأتى صالحًا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر. فقال صالح: اللهم العن أبا رغال. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، اعف قيسًا من السعاية). وعنه أنه دعا أبا بكر رضي الله عنه ليخرج ساعيًا ثم قال له: (احذر يا أبا بكر، لا تأتيني تحمل يوم القيامة بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثغاء، تحملها على عنقك ثم تقول: يا رسول الله، أنقذني فأقول: قد حذرتك. فقال أبو بكر: مالي بها

طاقة فأعفني). فأعفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا أبا عبيدة الجراح رضي الله عنه فأمره فخرج. فصل ثم أن الزكاة وإن كانت فريضتها عادية عن الستر كما وصفت فيما تقدم، فإن التبرع بالصدقات مستحب مندوب إليه. قال الله عز وجل: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة}. فأبان بذكر الزكاة مع الصلاة في آخر الآية. أن المراد بقوله تعالى: {وآتي المال على حبه} غير الزكاة، فليس إذا إلا صدقة التطوع. وقال: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. وقال: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له} وقال {واقرضوا الله قرضًا حسنًا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرًا}. وقال: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. إلى غير ذلك من آيات كثيرة فيها الندب إلى الصدقة والترغيب فيها. فصل ثم أن صدقة التطوع لا تختص ببعض الأموال كما اختصت الزكاة. لكن الأموال كلها محل لصدقة التطوع، وهذا كالصلاة التي يختص فرضها ببعض الأوقات ثم تشترك الأوقات

كلها في التطوع. وقد جاء في فضلها والترغيب فيها أخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم فمنها: ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مال وارثه أحب إليه من ماله. قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا مال وأرثه أحب إليه من ماله. مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أخرت). وعنه صلى الله عليه وسلم: {الهاكم التكاثر}. قال: (يقول ابن آدم: مالي وأنى لك من مال إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت). وعنه قال: (كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس). وعنه صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار بشق تمرة). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لكعب بن عجرة: (يا كعب، الصلاة قربان والصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار، ولا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به، فالناس غاديان، فمناع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها) وعنه صلى الله عليه وسلم: (الصدقة وقيام الليل يكفران الخطيئة)، وتلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطعمًا ومما رزقناهم ينفقون}. وعن سمرة أنه قال: ما خطبنا رسول صلى الله عليه وسلم إلا وحثنا على الصدقة ونبأنا عن المسألة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: الصدقة تمنع المصيبة، والصائم يمنع من قدر السوء، وعنه صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء). وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل الصدقات ولا يقبل منا إلا الطيب، ثم يربيها لأحدكم كما يربي أحد فلوه أو فصيلة

حتى تكون الثمرة مثل الجمل). وعنه صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة مالا، فتصدقوا ولا تعفوا عبد عن مظلمة، ابتغاء وجه الله إلا رفعه الله بها، غدًا يوم القيامة، ولا يفتح عبد على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر). وقوله صلى الله عليه وسلم (لا تنقص صدقة مالا فتصدقوا) يدل ساقه على أن المراد به أن ما يخرجه المؤمن ماله في وجه الصدقة لا يعرضه للفقر، وما كانت صدقة قط سببًا لفقر صاحبها، فتصدقوا ولا تخشوا أن تفتقروا إذا تصدقتم. وهذا إذا كانت الصدقة مستوفية شرائطها التي تذكر بعد هذا إن شاء الله. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أهديت لنا شاة مستوية، فقسمتها كلها إلا كتفها، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال (شاتكم كلها لكم إلا كتفها) وقال عليه السلام: (من استطاع منكم أن يبقي النار ولم يستو ثمره فليفعل). ومما جاء في قول الله عز وجل {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. روى أنها لما نزلت، قال أبو طلحة: يا رسول الله، إني أحب أموالي وإني جعلتها لله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (في قرابتك). فقسمها أبو طلحة بين قرابته أبي بن كعب وحسان بن ثابت واعتق بن عمرو جارية يقال لها أرميته وقال: إني سمعت الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} واني كنت والله لأحبك، فاذهبي فأنت لوجه الله. وقال ابن عمر لصفية: إن عبد الله بن جعفر أعطاني سبعة آلاف دينار أو عشرة آلاف دينار. قالت: فما ينتظر؟ قال: خير من ذلك هو حر لوجه الله، ثم قرأ: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ومما جاء في قوله عز وجل: {واقرضوا الله قرضًا حسنًا}. روى أنها لما نزلت قال الدحداح: إن الله يريد منا القرض، قال: نعم يا أبا الدحداح. قال: فإني

أقرضت ربي حائطي. قال وكانت فيه ستمائة نخلة. فجاء إلى الحائط وقال لأم الدحداح: اخرجي فقد أقرضته ربي. فصل أن لصدقة التطوع شرائط، فمنها: أن تكون من فضل المال، فأما من كان ماله مستغرقًا حاجته فلا ينبغي له أن يتصدق بماله ويدع عياله، ولا ينبغي لأحد أن يتصدق بجميع أمواله ويحوج نفسه إلى غيره. ومنها: إذا تصدق بدأ بذوي أرحامه ولا يميز فيها بين الواصل والقاطع بل يبدأ بذي الرحم الكاشح. ومنها: أنه إن فضل عن ذي قرابة فضل آثر به الجيران، فإن فضل منهم صدقة، إلى المتعففين من المحتاجين، وهم الذين لا يسألون الناس. ومنها: أن لا يحصي ما يتصدق به فيعرض ذلك على قلبه ويبته كما يبت حساب تجارته. ومنها: أن يخفي صدقته إذا استطاع لم يتخذ بها. ومنها: أن لا يمن على السائل لا يؤذيه بالتعيير. ومنها: أن يحبس أصل المال إذا أراد الصدقة ويسأل المنفعة. ومنها: أن يتصدق بأحب أمواله إليه. ومنها: أن تكون صدقته في سبيل الله بأن يعين عازبًا. ومنها: أن يتصدق في مرضه أو بعد موته. ومنها: أنه إذا أراد الصدقة في وقت دون وقت، تحرى بصدقته يوم الجمعة، ومن الشهور شهر رمضان. ومنها: أن يؤثر مناولة المحتاج بيده، ولا يكلها إلى غيره. ومنها: أن يكون مقلاً فيسمح بالفضل عن ضرورته. ومنها: أن يتصدق من كسب يده. فأما أن الصدقة من فضل المال، فإن الله عز وجل يقول: {يسألونك ماذا تنفقون؟

قل: العفو} وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أعطى فضل ماله فهو خير له، ومن أعطى شر ماله فهو شر له، ولا يلوم الله على الكفاف). وعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره لقول الله عز وجل: {العفو: الفضلة على العيال وماله، وكذلك الحسن ومحمد بن كعب القرطبي. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب قال: يا رسول الله هو صدقة وما تركت بعدي مالاً غيرها. ثم مضى الرجل. فأخذها فتحيفه بها ولو أصابه لا وجعه، ثم قال: (ينطلق أحدكم فيخلع من ماله أجمع ثم يصير عيالاً على الناس). واستأذن أبو لبابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتخلع من ماله صدقة إلى الله ورسوله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكفيك من ذلك الثلث). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير الصدقة ما أنفقت عن غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من بني عبده وجاءه باكيًا، قال له: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، وإن فضل شيء عن أهلك ففي ذي قرابتك، فإن فضل من ذي قرابتك شيء فهكذا، وهكذا. فيبر بذلك وعن يمينك وعن شمالك). وعنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء إليه فقال: يا رسول الله، عندي دينار، فقال: (أنفقه على نفسك فقال عندي آخر: فقال: أنفقه على ولدك. فقال: عندي آخر، فقال: أنفقه على أهلك. قال: عندي آخر، قال: أنفقه على خادمك. قال: عندي آخر. قال: أنت أعلم). وعنه صلى الله عليه وسلم: (أن أفضل دينار، دينار ينفقه الرجل على عياله، دينار ينفقه

الرجل على دابته في سبيل الله، دينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله). فبدأ بذكر العيال. وأيضًا الابتداء بذكر القرابة والرحم، فلما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن صدقة القرابة تضاعف بضعفين: ضعف للقرابة وضعف للصدقة). وعنه صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً قال له صلى الله عليه وسلم: (بما أفضلت الصدقة جناتها: للنائبة وابن السبيل. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك). ودل ذلك أيضًا حديث أبي طلحة وقد تقدمت روايته. وأما التسوية بين الواصل والقاطع، فلما روى عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع نحب المساكين والدنو منهم، وأن أصل الرحم وأن أدرى وأن أقول الحق وإن كان مرًا وأن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر من هو فوقي، وأن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأن لا أخاف في الله لومة لائم. وأن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها من كنوز الجنة. وعنه صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافيء، ولكن لمن إذا انقطعت رحمه وصلها). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) ومعنى ذلك أنه لا يتهيأ له إيتاؤة إلا بعصيان هواه، فإنه يميل به نحو الإعراض عنه. وأما صرف ما يفضل عن القرابة إلى الجيران، فلقول الله عز وجل: {والجار ذي القربى والجار الجنب}. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). يدل ذلك على أن الجوار يتبع القرابة وكان النسب. ألا ترى أن تأكيد الوصية بالجار كيف أوهم توريثه. فعلم أنه أولى الأسباب منزلة من الوراثة والله أعلم.

وأما أن لا يخفي ما يتصدق به، فلما روى عن رسول صلى الله عليه وسلم أن عائشة رضي الله عنها ذكرت عدة من مساكين أو عدة من صدقة، فقال لها (أعطي ولا تخفي فيخفي عليك). وأما إخفاء الصدقة فلقول الله عز وجل: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: شاب نشأ في عبادة الله، ورجل تصدق بصدقة فخفاها حتى لا تعلم شماله ما تعطي يمينه ...). ومعنى ذلك أنها إن لم تكن واجبة فيها الرياء عند الابتداء، فإذا أخفيت كانت عن الرياء أبعد. وإما إيثار المتعففين، فلقول الله عز وجل: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله}. إلى آخره. ولأن الغالب أن المتعفف الذي لا يسأل أشد حاجة من السائل المتردد. فكانت الصدقة عليه أحسن موقعًا منها على من ليس في الحاجة مثله. وأما أن لا يعلى بها على السائل، فلقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}. وقال: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى}. ومعنى هذا والله أعلم: أن الصدقة تسر السائل وتعطي للمعطي أجرًا، والمن والأذى بسوء السائل، ويوجب على المعطي إثمًا. فإن ذهب أحدهما بالآخر قصاصًا صار المعطي كأن لم يعط ولم يمتن عليه. وإذا انصرفت إلى وجهه ارتفع حكم التضعيف وذهب منها السرور على المعطي، أولاً بإدخال الإساءة عليه ثانيًا فصار كل واحد من العطاء والمن كأن لم يكن. وأما إيثار المحسن على غيره، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم لما قال له: إني أصبت مالاً كثيرًا لم أصب مثله قط، وإني أريد أن أتصف به إلى الله عز وجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أحبس الأصل وسبل الثمرة). ولأنه إذا أخذ من

كانت الرهبة صدقة والثمرة ما دامت ثم صدقة، وإذا ملك الأصل كانت هذه الصدقة ولم تكن الثمرة صدقة فكانت أعم الصدقتين أولى بالفضل والله أعلم. وأما التصدق في حال الصحة والقوة، فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصدقة أن تعطيها وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تؤخر، حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان ولفلان كذا أو قد صارت لفلان). وعنه صلى الله عليه وسلم: (لأن يتصدق الرجل بدرهم في حياته خير له من مائة بعد موته). وأما تحري شهر رمضان من الشهور تحرى يوم الجمعة من الأيام الضرورة، فلما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الأيام يوم الجمعة، وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وإذا كان كذلك، كان البر فيه أفضل منه في غيره). وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة، صدقة في رمضان). وجاء عن كعب أنه قال: الصدقة الصدقة يوم الجمعة، أعظم من الصدقة في سائر الأيام، وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة تضاعف في يوم الجمعة). وأما مناولة المحتاج فلما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يكن كل خصلتين إلى أحد من أهله كان يناول المسكين بيده، ويضع طهوره من الليل ويخرجوه. وكانت جارية من اليمن قد ذهبت بصرة فجعل خيطًا في مصلاه إلى باب حجرته، ويضع عنده مكتلاً فيه تمر، فإذا سلم المسكين أخذ من ذلك المكتل وأخذ بالخيط حتى ينتهي إلى باب الحجرة يناول المسكين بيده، وكان أهله يقولون: نحن نكفيك فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مناولة المسكين تقي ميتة السوء).

وأما التصدق بأحب الأموال فقد مضت الروايات فيه. وأما التصدق بأنفس الأموال فقد يدخل في الأحب لأن الأغلب هو الأحب. وجاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الزكاة أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها). فإذا كان هذا في العتق هكذا، فهو في كل صدقة مثله. وأما صدقة المقل فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصدقة أفضل؟ قال: (جهد المقل قيل: أي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهاجر لألاء ربك). وجاء أن رجلاً جاء إليه فقال: (يا رسول الله، كانت لي مائة أوقية فتصدقت منها بعشرة أواق، ثم جاء إليه فقال: يا رسول الله كانت لي مائة دينار فتصدقت منها بعشرة دنانير. ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله كانت لي عشرة فتصدقت منها بدينار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أحسن كلكم وأنتم في الأمر سواء، قد تصدق كل منكم بعشر ماله). وهذا والله أعلم نسبة أن تكون، لأنهم قد سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يحث على الصدقة فقال: (كل واحد منهم في نفسه الصدقة بعشر ما عندي). ثم جاء وافترضوه على النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون معنى: هم في الآخرة سواء. أن المتصدق بدينار، واشق على صاحب العشرة من المتصدق بعشرة على صاحب المائة، لأنه يبقى له وراء الصدقة بتسعة دنانير، فذلك تسعون، فيكون ما يقصد صاحب العشرة من عشر نفسه بالدنانير التي أخرجها أشد مما يعطيه صاحب الماية، إلا أنه احتمل ذلك لوجه الله ما لحق الأجر بصاحب المائة، لكان ما يحمله وراء إزالة الملك من صور القلة احتسابًا عند الله تعالى. وقال عثمان بن عفان: لدرهم ينفقه أحدكم من جهد خير من عشرة ينفقها غيظًا من مضر، ويستحب للمتصدق أن يتصدق بزوجين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أنفق زوجين في شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أي أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير. وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل

الصيام دعي من باب الصيام باب الريان). قال أبو بكر: ما على من يدعي من تلك الأبواب ضرورة، وهل يدعي منها كلها يا رسول، فقال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر. وأما معونة الغازي، فلما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: (خدمة عبد في سبيل الله، أو ظل فسطاط أو طروقة فحل). فصل وإذا كانت الصدقة على السائل، فلسؤاله شروط وآداب. وللإعطاء مثلها. فمن شروط السؤال أن يكون عن حاجة، فإن لم يكن عن حاجة فهو منهي عنه ولا يستحق أن يعطي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس وله غني، كانت شيئًا في وجهه يوم القيامة). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه فمن شاء القي على وجهه، ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان أو ينزل به الأمر لا يجد منه بدًا). وعنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاءه فقال: يا رسول الله أوصني وأوجز فقال: (عليك باليأس مما في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنه هو الفقر الحاضر، وصل صلاة مودع، ترى أنك لن تصلي صلاة بعدها، وإياك وما يعتذر منه، فإن أنت غنيًا عطيته من غير مسألة ولا إسراف نفس فليفعله ولا يرده، فإنه رزق ساقه الله إليك). وفي بعض الروايات: (ساقه الله إليك). وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر قال: فرده. فلما جاءه قال: (ما حملك أن ترد ما أرسلت

به إليك؟ قلت: يا رسول الله، أليس قلت: أن خيرًا أن لا تأخذ من الناس شيئًا؟ قال: إنما ذلك أن تسأل الناس بسر ما جاءك من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله) وفي بعض الروايات: (ساقه الله إليك، ومن قدر على أن يكتسب ما يكفيه فذلك أولى به من أن يسأل الناس). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لئن يحتزم أحدكم حزمة من حطب يحملها على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل رجلاً يعطيه أو يمنعه. ولئن يأخذ ترابًا يجعله في فيه خير له من أن يجعل فيه من حرم الله تعالى). ومن آداب السؤال أن لا يقوم السائل في المساجد فيسأل. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تسألوا الناس في مساجدهم فتبخسوهم، ولكن سلوهم في منازلهم، فمن أعطى أعطى، ومن منع منع، وعن الحسن يرفعه قال: ينادي مناد يوم القيامة ليقم بغيض الله، فيقوم سؤال المساجد. ومنها أن لا يسأل بالقرآن، وقد ذكرته فيما تقدم. وعنه قال: جاء عابد بن عمرو من المسجد الجامع حتى إذا بلغ أصحاب إذا رجل والناس مجتمعون عليه، فنظر فاذا رجل يقرأ ويسأل، فالتمس سوطًا فوجده. ثم أتى الناس فقال: أفرجوا، فعلا رأسه ضربًا حتى سبقه عدوًا، فقال: يا عباد الله، ما كنت أرى أني أبقى حتى أرى أحدًا يسأل كتاب الله شيئًا. ويجوز وجه الكراهية في هذا أنه ربما لم يعط، فيكون عوض كتاب الله أن لا يزد المتسول به، وفي ذلك بعض الغيظ من حرمة. أو يكون أنه إذا التمس بالقرآن مالاً كانت منزلته كمنزلة من يلتمس بالصلاة والصيام مالاً وذلك لا معنى له. ومنها أن لا يلح إذا سأل. قال الله تعالى: {لا يسألون الناس الحافًا} وقال الحسن: إذا جد السؤال جد المنع، وعن عائشة رضي الله عنها قال: أمرني رسول الله

صلى الله عليه وسلم إذا الحف السائل في المسألة أن لا أعطيه شيئًا، وأمرني إن لم يكن شيئًا أعطيه، اعرض عليه شربة ماء، فإن أباها، قلت: رزقنا الله وإياك. ونهاني أن أقول: بورك فيه، فإنه يأتينا البر والفاجر. وعن عطاء يرفعه، قال: (إذا ازددت السائل ثلاثًا فلم يذهب، فلا بأس أن تزيده) وكان الحسن رحمه يحبس السؤال يوم الجمعة عند الخطبة. وكان عكرمة لا يرى جهة. وسمع ابن مسروق رجلاً يقول: إن الزاهدين في الدنيا الراغبون في الآخرة، فقال: إني لأكره أن أعطي مثل هذا الرجل، أعطوني، تصدقوا علي. ومنها: أنه إذا أعطى شيئًا لم يسخطه. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن سائلاً سأله فأعطاه، فوخس بها. فجاءه آخر فأعطاه ثمرة فأخذها وقال: ثمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: اجلس. ثم أرسل رسولاً إلى أم سلمة: ابعثي لي بصرة الدراهم، فجيء بها فقال: أعطها إياه). قال انس حرر بها نحوًا من أربعين. ومنها: أنه إذا سأل لم يسأل بالله تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بشر الناس رجل يسأل بالله ولا يعطي به). وهذا الحديث يدل على أن السؤال بالله يختلف، فإذا كان المسؤول ممن يعلم السائل، أنه إذا سأله بالله اهتز لإعطائه واغتنمه جاز له أن يسأله. وإن كان ممن يلتوي ويضجر ولا يأمن أن يرد فحرام عليه أن يسأل بالله عز وجل، ويثيبه أن يكون ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت لابد سائلاً فسل الصالحين) موضوعًا في هذا الموضع وكان سلمة إذا سئل بوجه الله انف وقال: إذا لم يعط بوحه الله فبماذا يعطي، وكان يقول في مسألة الحاف. ومعنى أنه كان يكره له السؤال بالله ضيفة أن يضطر به من ليس به العطاء، فيكون كأنه انتزعه وهو كاره. وقام رجل في مسجد فيه عويم بن ساعدة وكان بدويًا فقال: إني أسألكم بوجه الله

الكريم، فقال عويم بن ساعدة: كذبت. فبخل الله ليس بوحه الله الكريم سألتنا، ولكن سألتنا بوجهك الرفيق اللئيم، وكره عطاء أن يسأل بوجه الله شيء إلا ما كان من أمر الآخرة. ومنها أنه إذا سأل لم يسأل مقدارًا معلومًا من مال معلوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل أحد وقية ذهب أو عدلها إلا سأل الحافًا). فصل وأما المسؤول فينبغي له إذا سئل بالله وبوجه الله أن لا يمنع. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سأل الله فأعطوه ومن دعاكم بالله فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه به، فارعوا له برًا أن قد كافأتموه). وقال عبد الله بن عمر: ومن سئل بالله فأعطى فله سبعون أجرًا. وما يؤمن به المسؤول أن لا يرد السائل ولو لطلب فحرن، وقد مضى في هذا الباب. ومنه أن يعطيه طيب النفس منشرح الصدر، وينوي عند إعطائه سائلاً وعن سائل أن يتصدق عليه، أو أنه يعطيه لوجه الله تعالى، وأن يقال له: نعطيه شكرًا لنعمة الله أنعمها الله عليه، أو أنه يعطيه استدفاعًا عن الله، لئلا قد يطلبه الله أو يخشاه، ويفرق منه فكل ذلك جائز، وإن لم يحضر المسؤول شيئًا يعطيه فليدع السائل وليسأل الله تعالى أن يرزقه ويجبره. فإن كان السائل دعا بدعاء، وإن كان لم يدع له، فذلك أجزى أن يشرح صدره إذا صرف بغير شيء. وإن كان المسؤول غنيًا، وعنده قوم، فينبغي لهم أن يعينوا السائل بالشفاعة، فعسى أن يعطي إن لم يكن في نفسه الإعطاء، ويزيد إن كان في نفسه الإعطاء. قال أبو موسى: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسأله سائل فقال: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء.

وقال جابر رضي الله عنه: قام سائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه. فقالوا: يا رسول الله ما كنت تعرض عن السائل فقال: (ما أعرضت عنه أن لا يكون من شحاحتي، ولكن أردت أن يشفع له بعضكم فيؤجر، فإن الله في حاجة المسلم ما كان في حاجة أخيه، ومن سره أن يعلم منزلته عند الله فلينظر إلى منزلة الله عنده، فإنه ينزل العبد حيث ينزل في نفسه). وإن حضر سائل مجلس عالم الناس على عطائه والإحسان إليه، فينبغي للعالم أن يفعل ذلك. جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحثه عليه فما بقي في المجلس رجل تصدق بأقل أو أكثر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استن خيرًا فاستن به كان له أجره كاملاً، ومن أجور من استن به ولا ينقص من أجورهم شيء). وسأل النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة مضر الذين جاؤوه محتاجين الثمار متقلدي السيوف، فأعطوا حتى تهلل وجهه، وذهب عنه ما كان يجده بهم. وسئل عبد الله بن مسعود عن رجل أخذ لمسكين من رجل آخر دراهم، فاستقبله مسكين آخر ليعطيه منه. قال: هي للذي أخذها له. وإذا سئل رجل فرد، فقد قلنا أن المسؤول يدعو له بالرزق. وروى في هذا الباب عن عائشة رضي الله عنها إنها قالت: لا تقولوا للسائل: بورك فيك: فإنه يسأل المسلم والكافر والبر والفاجر، ولكن قولوا: يرزقنا وإياك. وقال عون بن عبد الله رضي الله عنه: كنا عند محمد بن كعب القرطبي رضي الله عنه فتكلم ولحيته تزين بالدفوع، فكان مما أوصانا قال: يا أخواني لا تنسوا الفضل بينكم، إذا أتاكم سائل، فلم يكن عندكم شيء تعطونه فلا تدعوا أن تردوا عليه ردًا جميلاً. وإذا تصدق المسؤول على السائل وأيده حاجته تصدقه، وأولى جارًا أو غير جار معروفًا، فدعا له. فقد قيل أن المعطي يرد عليه مثلى دعائه، فيخلص له بره ومعروفه.

قال عطاء بن السائب خرج أبو عبد الرحمن من المسجد، غلامه يقوده، فلمسه، فإذا معه زاده. فقال: تصدق بهذا فإنك ترجع أهلك الآن، فأعطاه مسكينًا. فقال: بارك الله فيكم. وشغلت أنا بالقراءة. ثم أنه قال بحق الصوت. وقيل: فقلنا إنما هو مسكين. فقال: إن عائشة قسمت لحم بقرة، فلما رجع الرسول قالت: ما قالوا؟ قال: بارك الله فيكم، فقالت عائشة وفيهم. وقالت: إنما هي حسنة فيردون إلى مثلها، فأريد أن أكافئهم بما قالوا فتخلص لي هديتي. وقال عون بن عبد الله: إذا أعطيت المسكين، فقال: بارك الله فيك، فقل: أنت بارك الله فيك. فصل وإذا أخرج الرجل السائل الصدقة فوجده قد ذهب، فإن عمرو بن العاص رحمه الله كان يأمر بعزل المعطي الآخر. وبه قال الحسن وإبراهيم وبكر بن عبد الله المزني ومحمد بن سيرين، وقال ابن عمر: إذا أرسلت إلى رجل بصدقة فردها عليك فهي من مالك وإذا لم تدركه فأمضها على سبيلها، قال إبراهيم: لا ترجع في شيء جعلته لله، وهذا استحباب، فإن رده إلى مكانه أو أكله فلا بأس، لأنه في ملكه لم يقتضه المتصدق. فصل ومما يدخل في باب شكر نعمة المال أن لا يكتم الغني ماله ويوهم أنه فقير، لئلا يسأل. قال الله عز وجل: {وأما بنعمة ربك فحدث}. وقال رجل: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رث الثياب، فقال (ألك من مال؟ قلت: نعم، من كل المال: من الخيل والإبل والغنم قال: فليس عليك أثر نعمة الله).

ويلتحق بهذا أن المال إذا كان زرعًا أو كرمًا أو نخلاً، فلا ينبغي أن يحصد الزرع ليلاً، أو يجد الثمار ليلاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك لما فيه من الرغبة عن المعروف، والاحتراز من أن يحضر المساكين فيأخذوا لقط الثمار. والسابل وما انتثر من الحبوب، أو يزدحموا فتجاوز عطيتهم العشر، وذلك مباين لأخلاق أهل الدين لأن الله عز وجل بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وهذا ليس منا. فأما إن كان لكتمان المال ولحق العشر فهو كفر، وقد قال الله عز وجل: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصر منها مصبحين ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون}. إلى آخر القصة. فأبان أنهم لما عزموا على حبس حقوق المساكين عوقبوا في الدنيا باحتياج المال. وأن العذاب الذي هو لهم الآخرة أكبر منه، فلا يحل لأحد أن يفعل ذلك، وإلا ضاق الذي أوجب الله تعالى لهم الحق، ولا فرق بين أن تقع منه هذه الجباية في هذه الصدقة، وبين أن تقع في سائر الصدقات وبالله التوفيق. * * *

الثالث والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في الصيام

الثالث والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في الصيام قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت). وعنه صلى الله عليه وسلم (الصيام جنة حصينة من عذاب الله). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جنة من النار كجنة أحدكم للقتال). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جنة ما لم يجرفها). يعني والله أعلم ما لم يفسد الصائم صومه فيكون كالمحتمي إذا خرق حميه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم (على كل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصيام). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (إسباغ الوضوء شطر للإيمان، والحمد لله تملأ الميزان والتكبير والتسبيح تملأ السموات والأرض، والصلاة نور والزكاة برهان، والصيام ضياء، والقرآن حجة لك وعليك كل نفس تغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال: (صليت يا أبا ذر فقلت: لا، قال: فصليت ثم جئت. فقال: يا أبا ذر، تعوذ بالله من شيطان

الإنس والجن فقلت: يا رسول الله والإنس شياطين قال: نعم ثم قال: قل يا أبا ذر، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإنها كنز من كنوز الجنة. قلت: يا رسول الله ما أعظم ما أنزل الله عليك؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. حتى فرغ من الآية. قلت يا رسول الله، ما الصلاة؟ قال: خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر. قلت: فما الصيام؟ قال: فرض مجزي فما الصدقة. قال: ضعف مضاعف عند الله مزيد. قلت فأيه أفضل؟ قال جهد المقل أو سر إلى فقير. قلت: يا رسول الله، أي الأنبياء كان قبل؟ قال: آدم. قلت: ونبينا كان؟ قال: نعم. قلت: فكم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وخمسة عشر) وعنه صلى الله عليه وسلم: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر تذهب وغر الصدر) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (سافروا تصحوا وصوموا تصحوا وأغزوا تغنموا). وقد أبان الله عز وجل بقوله: {لعلكم تتقون} أن الصوم من أسباب التقوى الذي هو خير زاد المؤمن، من تزوده بين دنياه لآخرته. قال الله عز وجل: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}. سماه الله. ويقول الله بالأسماء الخمسة التي ذكرتها: أحدها أنه جنة، والثاني أنه زكاة الجسد، والثالث أنه ضياء، والرابع أنه فرض مجزى والخامس أنه صبر. وهذه الأسماء الخمسة إبانة لمنزلة الصيام من العبادات. ثم إبان بقوله (صوموا تصحوا) أن فيه وقاء لعبادة منفعة أخرى، وهو أنه سبب لصحة البدن. فأما أخبار الله عز وجل بأن فرض الصيام على المؤمنين ليتقوا، وهو نظير قوله عز وجل في الصلاة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}. لأن الانتهاء عن الفحشاء والمنكر هو التقوى. وحقيقة التقوى فعل المأمورية والمندوب إليه. فاجتناب المعنى فيه والمكره المنزه عنه، لأن المراد من التقوى وقاية العبد نفسه النار، وهو إنما يقي نفسه النار بما ذكرت. فبان أنه التقوى والصلاة أحد شقيها كما وصفها به الكتاب، لأن من حب الله تعالى إليه الصلاة ووفقه لها، ودلل أعضاؤه وجوارحه بها، لم يكن منتهيًا عن الفحشاء

والمنكر، وكذلك الصيام من تبعها، لأن الممتليء من الطعام والشراب رأس البواعث على الفواحش والمناكير، ولذلك قالت العرب في أمثالها التي شهدت العلماء بأنها حكم، وتلقوها عنهم ودونوها وجلدوها دبرت به البطنة، أي يملأ ويتبع. فجملة ذلك على أن يغمض ويثبت بمثل هذا لمن حسنت حاله واستجمع أمره، فصار لذلك يشغل بطلب ما لا يعنيه، ويتعرض لما لا ينبغي له. ومثلها في العادات أن الجائع أو العطشان لا يجد في نفسه من باقي الشهوات ما يجده منه المملي من الطعام والشراب، ولكن كل شهوة هاجت وتحركت في نفس واحد. فإنما يهيج ويتحرك بعد سكون ثائرة الجوع والعطش، وحقيق أن يكون كذلك، فإن الحاجة إلى الطعام والشراب ضرورة لا قوم للأبدان إلا بهما، والحاجة إلى ما ورائهما من الشهوات زيادة ولا شك إذ ألهم بالزوائد إنما يحدث بعد تقضي الهم بالأصول والأركان. وإذا كان كذلك فقد حصل من الصيام والتقوى إذا كان يجاب إلى الصيام من الجوع والعطش ما يخمد به شهواته فينقطع به ولا يأتي في فضلها ما لا يرضاه الله تعالى. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالباءة، فمن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء). فأمر بالنكاح ليكثر المؤمنون وعباد المسلمين، ثم أمر من لا يقدر عليه للفقر وسوء الحال أن يصوم. وأخبر أن صومه له وجاء. أي يقطع شهوته، فلا ينادي بها وفي ذلك صحة ما وصفت وبالله التوفيق. ولمعنى الآية وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: لعلكم تتقون الكفران والتغافل، فصدوا النعمة عن شكرها. وذلك أن الناس كانوا مملئين طول الدهر ليلاً ونهاراً من الأكل والشرب، فنسوا الجوع والعطش، وغفلوا عن شدتها، ويحسب ذلك يحملون موقع نعمة الله عليهم بالطعام والشراب، ويغفلون عن شكرها. ففرض الله عليهم مدة من المدد ليستشعروا أن المتمكن من الأكل والشرب لا يقع بمجرده وجود الطعام، لكن يحتاج مع الموجود إلى إطلاق المولى وإباحته، فيكون ذلك أطرأ لإيمانهم، ثم يكفوا

عنهما لوجه فيكون ذلك عبادة، ثم يجدوا خلاء الكف توخانا إليهما ويصبروا، فيكون ذلك أذكارًا لقدر النعمة التي كانت عليهم طول الدهر بالإطلاق والإباحة، إذا أردت اليهم شكروها وأدوا حقها. ولاشك أن هذا من أبواب الفتوى، وهو نظير ما قيل في الأمراض والأسقام، إنما ممن يمتحن الله بها عباده ليصروا عليها في أزمانها فيأخذهم بها وينسهم، ويذكروا عندها النعمة التي كانت عليهم بالصحة والقوة من قبل، حتى ان عادت عليهم شكرها، ولم يغفلوا عن حقها. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: لعلكم تتقون البخل وإهمال المحتاجين والتغافل عنهم، وذلك أن الجوع والعطش أمران حيل الناس عليهما، وأنهم أغنياء يهكففون وضعفاء محتاجون، فإذا استمر للواجدين الأكل والشرب سهوا أو غفلوا ولم يدنها بالجوع. وإذا لم يدركوه لم يذكروا أهله والمبتلين به، فقص عليهم الصوم مدة حتى إذا أحسنوا من تأخر الطعام عنهم، وفيه المعهود من الضحى وانتصاف النهار إلى الماء من الجهد يذكروا لذلك حال من يطوي يومًا بلياليه أو أكثر من ذلك لاظمأ ولا طاعمًا لشدة ضره وفقره وفاقته. فيصير ذلك قبسًا لعطفهم وإحسانهم إليهم، وشكرهم نعمة الله عندهم، وفضله له بهم. وقد جاء عن يوسف عليه السلام أنه كان يجوع، فقيل له: أتجوع وخزائن الأرض بيدك يراد خزائن مصر فقال: إني أخاف أن أشبع فأنسى الجياع، وهكذا الناس كلهم إذا استمر بهم التمكن من الطعام والشراب، نسوا الجياع، فامتحنوا بالصوم مدة ليجوعوا، فيذكرهم جوعهم جوع غيرهم. فيرحموهم ويواسوهم، ولا يستبدوا بالنعم التي أتوها ويشركوا غيرهم فيها، فيما أعطوها. ولا شك أن المواساة والعطف والإحسان من التقوى، وليس بين هذه الأوجه مناف. فقد يجوز أن تكون جميعها مرادًا بالآية والله أعلم. فأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصيام) فهو والله أعلم إخراج شيء من المال لوجه الله تعالى. وهذا والله أعلى رتب الصيام على الزكاة. فلما حد أركان الإسلام وذكره على أثرها، فإنه كان داخلاً في معناها. وإنما فرق بينهما أن الزكاة حق المال، والصيام حق البدن.

وقد يحتمل قول الله عز وجل {لعلكم تتقون} على هذا المعنى، لعلكم تتقون أنفسكم النار، بأن ينقص من أجسادكم بعضها بالجوع والعطش، وترك اللذة لوجه الله تعالى. فيصير ما ينقصونه منها بهذه الأسباب عوضًا مما كانت النار تأخذها منكم لو وافيتم القيامة وأبدانكم بترك صحة الترف وجيوبكم من السرف والله أعلم. وإنما قوله صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة). فقد يجوز أن يكون هذا معناه أيضًا. ويجوز أن يكون الصائم أدل المهجة في سبيل الله. لأن الله عز وجل جعل قوام الأبدان بالطعام والشراب، فمن تركهما بأمره فقد استسلم للهلاك، إلا أن يعصمه الله منه، ومن يفعل ذلك فقد صار في جنة من العذاب، لأنه لا شيء أعز على أحد من نفسه، فإذا سمح بها، فقد جاء بأقصى ما يقدر عليه من يطلب مرضاة الله تعالى، فقضي حق العبودية من نفسه، وكان الله تعالى أكرم من أن يعذبه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (الصوم ضياء). فيحتمل أن يكون معناه أنه ضياء للقلب. لأن الشهوات إذا انفرقت به انجلى عن القلب الظلام الغاشي إياه، باستيلاء الشهوات على النفس، فأبصر الصائم مواقع النظر له من عبادة الله تعالى بأثوابها وابتدر إليها، ومواقع الضرر الذي يلحقه من معاصي الله تعالى، فاعتزلها وكف عنها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم (الصيام فرض مجزى). فيحتمل أن يكون معناه كالزكاة، لأن الزكاة إخراج شيء من المال على التراب الموعود. والصيام بعض شيء من الجسد على التراب الموعود، فكل آخذ منها فرض مجزى. وأما قوله (شهر الصبر). فيحتمل أن يكون بمعنى تسمية الصيام صبرًا، لأن الصبر في لسان العرب الحبس، والصيام يحبس نفسه عن أشياء جعل الله قوم بدنه بها. فكان مستحقًا لاسم الصبر، وقد قيل في قوله عز وجل {استعينوا بالصبر والصلاة}. وقد يجوز أن يكون المراد جميع جهات الصبر والله أعلم.

وقد جاء وراء ما ذكرنا من تعظيم ذكر الصوم أخبار منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصوم نصف الصبر). وهذا والله أعلم -أن جميع العبادة فعل أشياء وكف عن أشياء، والصوم يقمع الشهوات، فييسر به الكف عن المحارم، وهو ينتظر الصبر، لأنه صبر عن الشهوات. ويبقى وراءه للصبر على الأشياء وهو يتكلف الأفعال المأمور بها، فلما كان الصبر أن يتحير عن الأشياء، وصبر على الأشياء والصوم يعين على أحدهما، فهو إذًا نصف الصبر والله أعلم. ومحمد صلى الله عليه وسلم قال: (أن لكل شيء بابًا، وباب العبادة الصيام) وهذا -والله أعلم -معنى راجع إلى معنى ما تقدم. وعنه صلى الله عليه وسلم: (الصائم لا ترد دعوته). وجاء عن بعض السلف في قوله عز وجل: {كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية} قال الصوم روى أن عبد الله أتى بشراب فقال: أعطه لقمة، فقال: إني صائم، فقال: أعطه مشروبًا فقال: إني صائم، فقال أنهم {يخافون يومًا تنقلب فيه القلوب والأبصار}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل حسنة يعملها ابن آدم تضاعف عشرًا إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم، فإن الله عز وجل يقول: (الصوم لي وأن أجزي به. للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). وفي بعض الروايات: (وفرحة عند لقاء ربه). وفي بعضها: (فإنه لم يترك الطعام والشراب لأجلي). وفي بعضها (بترك شهوته لأجلي). وفي بعضها (كل عمل ابن آدم كفارة، والصوم لي وأنا أجزي). أي أن كل عمل يعمله ابن آدم من الطاعات فإنما هو ينو ولا ينقص من بيته شيئًا، فإني لم أفرض عليه عبادة تعرضه للنقصان، ولا يؤمن أن تكون سببًا لهلاكه، إلا الصوم. وذلك أن الله عز وجل حيل الناس على أن تكون أبدانهم دائمة التحلل بالبخارات التي تخرج من المسام والعروق والتنفس، فهي

كذلك تحتاج في البقاء إلى أن يعوض منها الطعام والشراب، فإن حبسها عنها آذاها لتحلل إلى الضعف الذي لا تفارق مثله الجنابة، والصائم يحبسهما عن نفسه فهو إذا تأذى منه مدة طويلة وأيامًا متتابعة يعرض نفسه لضعف بهذا، أو يفرط عليه فيقتله. ولولا أن الصوم إذا اتصل خيف منه على الصائم، لم يرخص للمسافر والمريض في الفطر، فإذا رخص لهما فيه لأنه سبب لضعف البدن، المرض سبب له، والرفت سبب له. فلا يؤمن أن يكون من اجتماع شيء مكف عاجل. وليس هذا أيضًا مما يخفي، لأن صيام اليوم الواحد يضعف في العيان فإذا تواتر انهال وانحل، والنقصان بالصائم يتعجل. ثم قد يصير النهول والنحول إلى حد لا يرجع منه إلى الصلاح، ولا يزال يتزايد حتى يكون منه الهلاك فصار إلا يسأل في هذا بمنزلة هذه، وهو الأكل والشرب، فإن الواحد قد يأكل أكلة في غير وقتها فيبلط به فيموت، وقد يجد في مرض منه فلا يزال يثقل عليه حتى يهلكه، فصح أن الأمر على ما وصفنا، بدءًا من أن الصيام تعريض من الصائم نفسه للنقصان الذي قد يقف، وقد يؤدي إلى الهلاك، كالصائم إذًا بصيامه مؤثر الرجوع إلى الله تعالى، مستسلم لذلك منشرح الصدر له، وكان صومه له عز اسمه من هذا الوجه. فأما سائر الأعمال المفروضة على العبد فليس في شيء منها هذا المعنى، وإنما كلها أعمال تؤدي مع بقاء النفس وسلامتها، فصار ذلك فرقًا بينه وبينها. وأما قوله (وأنا أجزي به). فمعناه -والله أعلم -وأنا القائم بجزائه، والمالك له وليس ذلك مما أخبرتكم به من أن الحسنة بعشر أمثالها. فإن مثل النفقة في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. لكن جزاء الصوم يجل عن هذا كله وأنا أعلم به وإلي أمره. فإن ذكر ذاكر الجهاد في سبيل الله، فليعلم أن الجهاد غير مود إلى الهلاك الذي يؤدي حبس الطعام والشراب عن البدن، لأن الله عز وجل أخبر أن الأمر بخلاف هذا، ونهانا أن نقول لمن يقتل في سبيل الله أنه ميت، ووصفه بأنه حي عنده يرزقه، وأنه فرح مستبشر، ثم يرحو أن يلحقه من إخوانه. ولم يخبرنا عز وجل عمن كان الصوم سببًا لهلاكه بمثل هذه الحال. فعلمنا أنه كسائر الأموات الذي ينقطع عنهم رزق الدنيا، فلا

يصلون إلى رزق الآخرة -يعني يوم القيامة -وينقضي الحساب ويصارون إلى الجنة، فكانت المقارنة بالجهاد متناقضة من هذا الوجه. فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: أن الصوم مؤد إلى الهلاك وهو منهي عنه إذ خيف الهلاك؟ قيل: هو منهي إذا كان يريد الصوم مجهودًا بمرض أو سفر أو كبر، فيكون الهلاك إذا حدث حادث من مجموع الجهتين: الصوم وغيره. وليس إذا كان التعرض للهلاك بمجرد الصيام قرينة، وجب أن يكون التعرض له بكل شيء مثله. فإن تعريض المال للنقصان بالصدقة قرينة، ولا يجب أن يكون تعريضه بكل شيء قرينة. فإن هذا الذي ورد به الكتاب من وضع الصوم عن المريض، والمسافر والشيخ الكبير يبين ما يجري في تقريره. لأن المريض والمسافر لما رخص لههما في الفطر أمر بالقضاء، ولو لم يكن تعريض البدن للهلاك أو النقصان بالصوم من جملة حقوق الله تعالى على عباده، لأسقط الصوم لا إلى قضاء، كما أسقط الركعتين من المسافر لا إلى قضاء، وأسقط عن المريض القيام لا إلى القضاء. ولما لم يسقط علمنا أنه وضع عنه الصوم وحده لئلا ينقصهما أو يتبعهما اجتماع الصوم وغيره، فلا يكون ما يحدث عليهما من ذلك من الهلاك عن الصوم وحده وهكذا الشيخ الكبير لما وضع عنه الصوم ألزمه الفدية. فكان المسكين للحياة بطعام يؤتيه مقام ما يتركه من تعريضه نفسه للهلاك بالصوم، لأنه لو صام وهلك لم يكن يهلكه الصوم بانفراده هو القاتل له. ولو لم يكن ذلك في معنى المستحق لسقط عنه الصوم بالفدية كالصلاة إذا عجز عنها، ولما كان الصوم إذا عجز عنه سقط إلى الفدية، علمًا أن ذلك إنما كان من الوجه الذي ثبت والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم كفارة، والصوم لي). فمعناه ما ذكرت أن جميع الطاعات كفارات، والصيام أيضًا كفارة، لكنه أخص لي لأنه تعرض للجوع كما مضى بيانه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة يوم القيامة).

فمعناه -والله أعلم -فرحة عند إفطاره لما يجب له من الثواب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل في فرحة يوم القيامة بما يصل إليه منه. فإن ما وجب له من فضل الله لن يخلفه الله إياه. ويحتمل وجه آخر: وهو أن للصائم فرحتين: إحداهما عند الإفطار، وهو أن يصدق الله تعالى بنفسه عليه عند انسلاخ النهار. ولم يأذن له في وصل الليل بالنهار فيتعجل هلاكه، لكنه زال يعرض بالقيام للهلكة، فقد وعي الله تعالى منه بما دونها أو مثله ليزداد خيرًا وبرًا في أيام مهلته، فله بهذا البر الوارد عليه من الله تعالى فرحة، وما يرد عليه ويوم القيامة من الثواب فرحة. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن له فرحة عند إفطاره. وجاء في الحديث من أن للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة، وله يوم القيامة فرحة بالثواب والجزاء وأما ذكر الخلوف، فإنه أطيب عند الله من ريح المسك، فقد يجوز أن يكون معناه أنه ليس في حكم الله تعالى أذى كالخلوف الذي يحدث في غير الصوم، فيأمر بإزالته بالسواك، ولكنه في حكم الطيب الذي يستدام. فقد يدخل في هذا المعنى أن الله تعالى يأمر الصائم عليه لأنه في الطباع من باب الأذى الذي لو خلي المرء فيه واختاره، لكان بر عليه، وإذا صبر عليه ولم يزله أماته الله تعالى به والله أعلم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس في الصوم رياء) وليس معنى هذا أن المراءاة الصوم لا تمكن، لأن من صام ليقال: قد صام، ثم أخبر الناس بصيامه، فقد رأى به. وإنما معناه أن الصلاة قد لا تكون رياء. ولكن المصلي يرائي بالتخشع فيها وتطويلها وتحسينها. والصدقة قد لا تكون رياء، ولكن المتصدق يرائي بكثرتها وتحسنها ومناولتها السائل بيده ونحو ذلك. والحج قد لا يكون رياء، ولكن الحاج يرائي الإحرام قبل الميقات، والأول أشهر الحج، وإطالة الدعاء وإدمان الوقوف والاستكثار من الطواف بالبيت ونحوه. والجهاد قد لا يكون رياء. ولكن المجاهد يرائي بفضل حذر ظهره في القتال فوق ما يفعله غيره. وأما الصوم كان كله كف وإمساك معقود بالسنة، فإذا سلم أصله من المراءاة سلم عن أن يكون فيه وما بعد ذلك والله أعلم.

ومما ميز عظيم قدر الصوم أن جفنه الصوم التعرض لإتلاف النفس وإثارة الجنس أعيى النفس أن تقوم بالطعام والشراب، والحبس يبقى بالسائل وإذا وقع امتناع الأكل والشرب والمباشرة فقد وقع القصد إلى إتلاف النفس وإثارة الجنس، فلم يكن في العبادات أشد إداء لحق العبودية منه، واستوجب بذلك أن يكون من أركان الإسلام. فإن قيل صيام يوم الأحد ليس منه واحد من هذين المعنيين، قيل: الصيام معناه ما ذكرت والصائم يدخل في الصوم معتقدًا أنه كان عنده ما عنده، والله تعالى عليه، فإن كان الليل إذا حضر تصدق الله عليه بإباحة ما كان حظره عليه، فلذلك لا يخرجه من أن يكون فداء، وقد وفي من نفسه الطاقة بتسليم النفس والحبس، فطاب نفسًا عنهما كمن أحضر ما لا يؤتيه مستحقه ليتصدق به عليه، ولا يخرج بذلك من أن يكون منتهيًا إلى ما كان عليه من حقه والله أعلم. فصل ثم أن الصوم الذي ذكرت بمنزلة من العبادات إذا فرض الله عز وجل في السنة شهرًا واحدًا وهو شهر رمضان. فأما تقريره شهرًا، فلأن الصوم فيما دونه لا يبين كثيرًا في قمع الشهوات، وتقرير موقع النعمة بالطعام والشراب وفيما فوقه يتدرج ويسبق ويخرج الشهر عدل بين ذلك، لأنه ليس من المدة التي لا يجعل غرض الصوم فيها لغيره، ولا من المدد التي تجمع إلى تحصيل غرض الصوم فيها الإخراج والتسبق، فقصر الغرض على شهر لهذا المعنى إن شاء الله. ثم جعل ذلك الشهر شهر رمضان، لأنه هو الذي أنزل فيه القرآن، الجامع للأمر والنهي والوعد والوعيد، فكان أولى بأن يكون تعظيم النفس ورياضتها فيه ليكون إلى العمل بما جاء به القرآن أساسًا. وعليه أحرص، قال الله عز وجل: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أيامًا معدودات}. ثم أبان أنها

شهر رمضان، ثم أشار إلى معناه، فقال: {الذي أنزل فيه القرآن}. ومعنى أنزل القرآن فيه: بأنه ينزل في كل ليلة قدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ما ينزل إلى مثلها من الغمام. ثم كان جبريل عليه السلام ينزله تخوفًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم طول السنة، فأنزل القرآن كله من اللوح إلى بيت العزة في عشرين ليلة من عشرين سنة، بهذا جاءت الرواية والله أعلم. وشهر الصوم له أسماء: احدها شهر رمضان. وقد جرت العادة بأن لا يقال رمضان كما يقال رجب وشعبان، وإنما يقال: "شهر رمضان" والآخر: شهر الصبر، والثالث حطة، والرابع: سيد الشهور. وأما قولهم، شهر رمضان، فلأن الله عز وجل، هكذا ذكر في كتابه. وأغلب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذكره فعلى هذه الصفة. ويقال: أن من السلف من كان يكره أن يقال: جاء رمضان، وذهب رمضان، ويقول: لا يدري، لعل رمضان اسم من أسماء الله تعالى، تأويل هذا القول يلزمه أن يقول في رجب وشعبان وشوال وصفر مثل قوله في رمضان وإلا فهو متناقض واشتقاق الاسم يدل على أنه لا يجوز بأن يكون من أسماء الله تعالى، لأنه من الرمض، وهو القلق من شدة الحر. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان، وعن أصحابه لذلك مجردًا عن ذكر الشهر، لكن الأغلب أنهم لم يذكروه إلا مفردًا باسم الشهر تحريًا لموافقة الكتاب، وهو قول الله عز وجل {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}. وليس معنى قول الله عز وجل "شهر رمضان" أن في ذكره رمضان بلا شهر، معنى من معاني القبح، وإنما هو أن الله عز وجل ذكر أنه كتب علينا الصيام أيامًا معدودات، وما دون الشهر يلحقه هذا الاسم. فلما أراد أن يبين أنه شهر كامل فعرفنا أي شهر هو، قال: "شهر رمضان" ليعلم تلك الأيام المعدودات ليست بمطلقة، ولكنها من شهر مخصوص. وأن ذلك الشهر مستوفي الإقتصار على بعضه غير جائز. وليس هذا ما يمنع من أن يقال: رمضان من غير أن يذكر الشهر معًا، والله أعلم.

وأما تسميته شهر الصبر، فقد روينا فيما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر تذهب وغر الصدر). ويثبت معنى هذا الحديث ما فيه الكفاية. وأما تسميته حطة، فقد روى أن أبا هريرة رضي الله عنه سأل كعبًا رضي الله عنه كيف تجدون رمضان عندكم؟ نجد في كتاب الله حظة تحطيه الخطايا. فقد يجوز أن يكون كعب أراد بهذا: أنه وجد في التوراة مما جرى فيها من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أنه يفرض عليهم صيام شهر يدعي رمضان، ويجعل ذلك كحطة لهم. ويجوز أن يكون أراد به، وجد أيام الصوم في كتابهم شيء خطه، فلما كانت أيام صوم المسلمين شهر رمضان أي أنه مستحق لهذا الاسم. وأما تسمية سيد الشهور، فإنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الشهور شهر رمضان، وأعظمها حرمة ذو الحجة) ويحتمل تسمية هذا الشهر سيد الشهور وجهين: أحدهما أنه شهر القرآن الذي هو جامع الشريعة، لأن فيه اتزان. والآخر: أن ليلة القدر إحدى لياليها وهي كما قال الله عز وجل {فيها يفرق كل أمر حكيم}. واستحق من هذين الوجهين أن يدعى سيد الشهور. وأعظمها حرمة ذو الحجة لأنه من أشهر الحرام، وليس رمضان منها. فصل وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم قدر هذا الشهر أخبار: منها ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب. وصفدت الشياطين، ونادي منادي باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله في ليلة عتقاء من النار). فأما انفتاح أبواب الجنة، وتغليق أبواب النار،

فقد يجوز أن يكون على ظاهره. ويجوز أن يكون مثلاً. فإن أجرى على ظاهره، وجهه: أن أبواب الجنة تفتح فيقال لأصحابه من قبل الله تعالى الجنة. ولا مدخل للمؤمنين غيرها فلا تكتلوا ولا تقتروا فإنكم تصلون إلى الجنة في هذا الشهر اليسير من العمل الذي لا يصلون لمثله إليها في غيرها. وينحنون من النار ما لا ينحنون فيما سواه، فإنكم إن أخلدتم إلى تقصير في العبادة وجريتم في المعاصي على عادتكم، كنتم الممتنعين من دخول الجنة بعدما فتحت لكم. والمعرضين لفتح باب النار بعدما غلقا دونكم. فإن قيل: أن ذلك مثل، وجهه: أن الله عز وجل وعدني هذا الشهر تضعيف الحسنات، وجعل فيه ليلة خير من ألف شهر، فصارت الجنان كأن أبوابها فتحت، ونعيمها أتيحت. وصارت النيران كأن أبوابها غلقت وشدائدها أبطلت. لأن الحسنات إذا ضعفت في عامة الشهر، ثم كانت ليلة القدر كألف شهر. فالغالب أن أحدًا من المؤمنين لا يبلغ ساقه من الكثرة أن لا يعم بها هذه الحسنات المضاعفة حتى تصير كأنها لم تكن. وإذا اتفق ذلك، فلا مؤمن إلا وقد استوجب الجنة وحرم على النار. فصارت الجنات كأنها أتيحت للمؤمنين في هذا الشهر والنيران كأنها رفعت عنهم. فإن قصر مقصر فجرى في هذا الشهر على عادته في التثاقل عن الطاعات والدوام على المعاصي والسيئات، فإنما أوتي من قبل نفسه، وهو الذي أراده الرسول لقوله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم. وأما تصفيد الشياطين، فقد يجوز أن يكون أراد بذلك آياته خاصة، ويكون وجهه أن القرآن كان ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة، قدر ما يكفي لتلك السنة إلى مثلها من العام القابل. فكانت الشياطين تصفد في رأس الشهر لئلا يتمكنوا من السرقي في أسباب السماء لاستراق السمع، مبالغة في حراسة القرآن يشهد، أو شيئًا منه، أو يعلم ما يراد تنزيله منه، أو مقداره، قبل أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك غيره. وإن كانت الحراسة قد رفعت الشهر والحراس، فيكون ذلك نظير قوم يحنثون في موضع، ويوكل بهم جماعة تحرسهم تنفق وقت يراد به المبالغة في حفظهم، فيراد ما كان أمنه أن يقيدوا. فكذلك هذا والله أعلم.

وعلى هذا كان تصفيد الشياطين في شهر رمضان مقصورًا على زمان النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. ويدل عليه أنه قال في بعض ألفاظ هذا الحديث سلسلت مردة الشياطين، فخص المردة بالذكر. وقال الله تعالى عز وجل في قصة لمسترقة {وحفظًا من كل شيطان مارد}. فالأغلب إلا شبه والله أعلم، أن يكون التصفيد لمسترقة السمع الذين لهم فضل قوة، وفيهم فرط خبث، فلاجتماع الأمرين لهم يعدون صعود السماء للسماء، للوقوف على ما فيها، فيصفدون في هذا الشهر لئلا يقدروا على الرقي، فيكون ذلك أحسم لشرهم وأبلغ في حراسة الوحي من أن يحلها الصعود، حتى إذا حصلوا في مقاعدهم أو أحفظ منهم حفظه رمي ببعض الشهب والله أعلم. وقد قيل: أن تصفيد الشياطين مثل لتطهير أنفس الصيام من البواعث على المعاصي في هذا الشهر واشرابها حب الطاعات، والحرص على العبادات، وذلك لما ينقمع من شهواتهم، ويقبلون عليه من قراءة القرآن، والاجتماع مع العلماء وأشراعهم إلى الذكر، فإنهم إذا حسموا أطماعهم في هذا الشهر من الملاذ التي هي محللة في غيره، أو محللة في أمثاله كانوا لها عن الملاذ التي هي محرمة في الشهور غيره أشد حسمًا. وإذا وطنوا أنفسهم على قراءة القرآن ومجالسة العلماء لم يجمعوا إليها ما لا يليق بهما، ولم يقبلوا عليهما إلا ليكون عملهم بحسب ما يتلون في القرآن ويسمعونه من أهل العلم. وإذا قاموا النوم، واحتاجوا إلى صيام الغد ويبيت النية له من الليل، وعلموا أنهم مندوبون إلى قيام الليل، ورأى بعضهم بعضًا وهم يصلون في المساجد وفي البيوت، كان المنهمكون في الفساد قبل الشهر بين حالين: أما أن تقيدوا بالصالحين فيصلوا كما يصلون. وأما أن يرتدعوا في الشهر عما كانوا يأتونه في غير الشهر، وما منعه الله تعالى من محق السرور، وأسباب الفساد فيه يتصفيد الشياطين، لأنهم هم الذين يغرون الناس بالمعاصي ويوسوسون إليهم بها. فإذا ضعفت آثارهم وذهبت مكائدهم في هذا الشهر، صاروا كأنهم صفدوا، فصاروا لا يصلون إلى اختلاط بالإنس، وحملهم ما كانوا يحملونهم عليه من قبل والله أعلم.

ومن قال هذا، قال: ليس بأكثر مما جاء في القرآن من قوله عز وجل الكفار: {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، وجعلنا من بين أيديهم سدًا، ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون}. ومن قوله عز وجل: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم}. ومن قوله عز وجل: {صم بكم عمي}. فإذا جاز أن يكون الله قد شبه الكفار، وأعراضهم عما يسمعونه ويرونه من آيات الله وبيناته ونزولهم منزلة من لا يسمع دعاء، ولا يرى آية ولا يعقل حجة مقبولة المعلول، الممنوع بعله، يراود عنه مما يمتنع العل عن مثله. فكذلك يجوز أن يكون تصفيد الشياطين عبادة من قلة تمكنهم في هذا الشهر من هذا الناس عن الطاعات وإغوائهم بالمعاصي والسيئات والله أعلم. وقيل: إن ذلك حقيقة وليس بمثل، والمعنى أنه حال بينهم وبين السلطان الذي لهم على نفوسهم اليأس في هذا الشهر بأصفاد تليق بهم، فلا يتهيأ لهم معه الخلوص إلى النفوس، وإحضار الفساد للقلوب، وإن اجتماع المسلمين على الصلاة والصيام في الشهر مع تكاسل بعضهم على الصلوات المكتوبات في غيره، والسماحة بالصدقات مع التحل بالزكاوات فيما سواه. والإقبال على القرآن مع التغافل عنه في أكثر الأوقات، والميل إلى مجالسة أهل العلم ومساءلتهم هذا الإعراض عنه، وترك الإشتغال به من قبل، وتركهم شرب الخمور مع الحرص عليها طول السنة، ليس الإنقطاع مكائد الشيطان عنهم، ولا ذلك لم يكونوا في هذا الشهر إلا كما يتكاسلوا عن الصلوات في أوقاتها. فإن صيام يوم من أوله إلى آخره أشق من ركعتين أو أربع ركعات، فلما كان ذلك لا يقع منهم، علمنا أن الشياطين قد سمعوا عنهم، فمن ذلك ينتشروا للطاعة والعبادة والله أعلم. فإن قيل: ليسوا مع ما وصفتم لا يخلون من وجوه من المناكير، والعظائم منهم، نحو قطع الطريق، وقتل النفوس والرق، فهلا علمتم بذلك أن الشياطين غير ممنوعين عنهم إن كانت هذه المعاصي لا تقع من الناس إلا باعوا الشياطين.

فالجواب: أن الشياطين وإن صفدوا في هذا الشهر، فإن الإناء التي علقت بنفوس الصائمين من تسويل شر لهم، وتحبيب باطل إليهم لا يخلع عنها بتصفيدهم، ولا يفارقها بل يلزمها فيكون بحالها وجود ما ذكرتم لها ومن قبلها. فأما حدوث مادة جديدة لشر مستأنف لم يكن خطر بالقلب قبل الشهر ولا تتهيب النفس عليه. فهذا لا يكون في الشهر. فإن قيل: وماذا يعني تصفيدهم في الشهر إذا كانوا قد قدموا من الإناء ذي الفتحة، ما لزمت نفوس الآدميين، فصاروا يعملون بها في الشهر مثل ما يعلمون بها في غيره. قيل: أن تلك الآثار تزداد بانقطاع المواد عنها ضعفًا ورضاء، ولولا ذلك لكان الناس كلهم في الشهر، كما يكون قبله أو بعده. وليس كذلك بل تباين أحوالهم في غيره مباينة شديدة. ثم المكائد المبتدأة لا تقع أصلا، فلا يحل التصفيد من أن يقع ويفيد وبالله التوفيق. وأما قوله: (وينادي مناد يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر أقصر)، فقد يجوز أن يكون مثلا لترغيب الله تعالى الموصل في زوائد الخيرات والحسنات في هذا الشهر حتى يجازوا كأنهم ينادون كل ليلة، فيقال لهم: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. وقد يجوز أن يكون حقيقة لا مثلا، وأن يكون ملك ينادي بذلك ليزداد العباد حسدًا في الخير، وبعدًا من الشر. فإن قيل: ما معنى هذا النداء وهم لا يسمعونه؟ قيل: ليس كذلك، لأن الصادق قد أبلغهم إياه وأخبرهم، فصاروا سامعين له، وليس كل نداء يسمع من المنادي. ولكن من سمعه من صادق فبلغه عنه، فكأنما سمعه منه، فكذلك هذا والله أعلم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (تعظيم قدر هذا الشهر فلم يغفر) فقال انس: (رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما الكبر عنده، فلم يغفر له، فقال: آمين. رغم انف امريء

ذكرت عنده فلم يصل عليك. فقال: آمين). ومعنى هذا -والله أعلم -رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما الكبر عنده وأدرك هذا الشهر، وذكرت عنده فلا هو صلى عليك فعرف حقك، ولا عمل في هذا الشهر ما يتوصل به إلى المغفرة، فعرف حقه. ولا بر والديه. أو الذي أدرك مثلهما فعرف حقه، فإن الأمر إن لم يكن على هذا وجب أن يكون من ترك الثالثة وعمل بالآخرين غير مغفور له. وهذا غير جائز، لأن الله تعالى أخبر أنه لا يضيع عمل عامل من المؤمنين، فقال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}. فصح أن معنى الحديث ما ذكرت. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سلم رمضان سلمت السنة كلها). ومعي هذا ما جاء في حديثه من قوله: (الشهر إلى الشهر كفارة لما بينهما). أي أن شهر رمضان إذا سلم كان كفارة لما بعده إلى الشهر القابل، فتصير السنة سالمة بسلامة الشهر والله أعلم. ومن عظم قدر هذا الشهر اختصاصه بليلة القدر، قال الله عز وجل: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}. وقال: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}. فظهر بذلك أن ليلة القدر في شهر رمضان. معنى ليلة القدر التي نقل الله تعالى لملائكته جميع ما ينبغي أن يجري على أيديهم من تدبير بني آدم محياهم ومماتهم إلى ليلة القدر من السنة القابلة، وكان يدخل في هذه أيام حياة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدر منها ما هو منزله من القرآن إلى مثلها من العالم القابل، وإنما قيل ليلة القدر، لم يقل ليلة الكذب، وأن المعروف من قرينة القضاء وتحديده ليكون ما يلقى إلى الملائكة في السنة مقدار بمقدار يحضره عليهم. وما قال على هذا المعنى فهو كالقدر - بتسكين الدال - يقال: قدرته أقدره قدرًا، كما يقال: حذرته أحذره حذرًا. {وما قدروا الله حق قدره}. من هذا. لأنه مجاوزًا لمعنى ما عظموه حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته. وقال الله عز وجل في

وصف هذه الليلة: {إنا أنزلنا في ليلة مباركة، إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم}. فأخبر أنها مباركة. أي مبارك فيها لأولياء الله عز وجل، فإنها جعلت خير من ألف شهر أي إذا أحبوها وقدروها حق قدرها، فظلوا بالصلاة وقراءة القرآن والذكر، ولم يلهوا منها، ولم يلغوا، كانوا كأنهم فعلوا ذلك شهرًا وأكثر: {فيها يفرق كل أمر حكيم}. أي كل أمر مبني على السداد. والحكيم بمعنى يتحكم. وقد جاءت في هذه الليلة أخبار مجمعة، المعنى فيها: أنها أوتار العشر الأواخر. وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان). ثم فيها وجهان: أحدهما: ما روي عن أبي قلابة رضي الله عنه من أنها تحول في ليالي العشر، أي تكون سنة إحدى ليلة غيرها. والآخر: أنها إحدى الأوتار بعينها كلها، فإن كانت ذلك، فينبغي أن تكون ليلة خمس وعشرين، إن كان ما روى أن القرآن أنزل لأربع وعشرين من رمضان صحيحًا. فإن وهبًا ذكر أن صحف إبراهيم أنزلت أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة بعد ذلك لسبعمائة عام لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان. وأنزل الفرقان بعد ذلك بستمائة وعشرين عامًا لأربع وعشرين ليلة مضت من رمضان. وإن لم يثبت هذا فهي ليلة مشكلة. وسأل أبو ذر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم عليه ليخبرنه بها حتى أعطيه، وقال: (لو أذن الله تعالى أن أخبركم بها لأخبرتكم، إلا أمر أن يكون أحد التسعين). يعني في العشر الأواخر لسبع خلون منها، أو لسبع بقين منها، وهو ليلة ثلاث وعشرين، أو ليلة سبع وعشرين. ودلت الأخبار على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم هذه الليلة وقتًا، غير أنه لم يكن ما دون في الأخبار يردها ثم أنسيها. فأما أنه لم يؤذن له في الأخبار بها، فلئلا يتكلون على عملهم بها، صحبوها دون سائر الأوتار، بل يخفوا الأوتار كلها فعصوها في

جملها. وكان عبد الله يؤيد الناس على هذا، فيقول: من يقم الحول يصبها. فقال أبي بن كعب، والله لقد علم ابن عبد الرحمن أنها في رمضان، لكنه أراد أن يعمي على الناس لئلا يتكلون. وأما أنه انسبها قليلا يسأل عن شيء من أمر الدنيا فلا يخبرنه، أو لأنه كان محيولاً على أكرم الأخلاق وأحسنها، وعلم الله تعالى من قلبه الرأفة نبأ منه، وأنه ليس عليه أن يسأل شيئًا مما عنده، فيبخل به، فأنساه علم بهذه الليلة حتى إذا سئل عنها لم يخبر بها، لم يكن كأنما علم عنده. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى هذه الليلة ثم أنسيها. ورأى أنه يسجد في صبحتها في ماء وطين. فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كان ذلك ليلة ثلاث وعشريين، قال عبد الله بن أنيس: مطرنا ليلة إحدى وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني من صبحتها -فانصرف، وإني أرى الماء والطين على أنفه وجبهته، ثم جاء مع هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلة القدر ليلة أربع وعشرين). وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا نبي الله، أتي رجل شيخ كبير، يشق علي القيام، فمرني بليلة، لعل الله تعالى يرقبني فيها ليلة القدر، فقال: (عليك بالسابعة) بهذا يدل على أنها ليلة سبع وعشرين. ولابد من تأويل هذه الأخبار بعد أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت هذه الليلة ثم أنستها). فنقول -وبالله التوفيق -: وقد يجوز أن يكون أبو سعيد تنبأ له عن ليلة القدر وقد مضت من تلك السنة. فقال: هي ليه ثلاث وعشرين، أي كذلك لا شك، ثم لا يدري أن تكون في القابلة فيها أو في غيرها. وكذلك قوله لثلاث: فأما قوله للسائل (بالسابعة). فيحتمل أنه كان الأغلب على ظنه في تلك السنة أنه ليلة سبع وعشرين. فلذلك أمره بها. والرجل لم يسأله عنها قطعًا، وإنما سأله عن ليلة لعلمه يوافق فيها ليلة القدر. وحاصل هذه الليلة يمكن أن

يوافق فيها ليلة القدر. ولعله سأله وثلاثة أوتار قد انقطعت، ولم يكن عنها ليلة القدر، وبقي وتران أغلبهما أن تكون هذه الليلة السابعة، فحثه عليها، وليس ذلك من القطع بسبيل والله أعلم. وفي تسمية هذه الليلة -ليلة القدر وتعظيمها وجه آخر: وهو أن كل ذلك لتقدير ما ينزل من القرآن فيها إلى مثلها من السنة القابلة. ومعنى قول الله عز وجل: {يفرق كل أمر حكيم}. أي يفضل آخر القرآن، ويقصر أن يكون ذلك الفضل، وذلك الفرق أمرًا حكيمًا ويحتمل إذا ميز ما يراد تنزيله في السنة ذلك المميز أيضًا، وجعل نحو ما ينزل كل نجم منه عند وقته، فذلك فرق كل أمر حكيم، فأما سائر الأمور التي تجري على أيدي الملائكة من تدبير أهل الأرض، فإنها تبين ليلة النص من شعبان، فقد وردت فيها أخبار كثيرة، وسميت ليلة الهل، وليلة الإجلال والأرزاق، وليلة ذل العاني ونصرة المظلوم إلى غير ذلك من أسماء كثيرة، فيكون تعظيم ليلة القدر لأجل القرآن، وأن تنزيله فقد انقطع. كما يفضل يوم عاشور، بأن الله تعالى نجي موسى عليه السلام من فرعون، وذلك لأنه اختص به يوم بعينه، وقد مضى. وكما يفضل ولد المهاجرين بأن أبا لهم كان هاجر ولد الأنصاري، بأن أباه آوى ونصر. وقد اتبعت القول في عامة هذه الأبواب في كتابي المجرد لذكر خصائص شهر رمضان وأوردته في هذا الكتاب مع فصل تقرير تكلفه، ليكون أسرع إلى الإلهام إن شاء الله. ومن جملة ما عظم الله به قدر صيام شهر رمضان أن جعل أول يوم يليه عيدًا، وحرم صيامه. وأوجبت فيه صدقة الفطر، وأمر الناس بالتكبير ليلة العيد ويومه إلى وقت منه معلوم. وأما جعل اليوم الذي ذكرنا يوم عيد، فهو من الإعلام الموروثة لا يخفي شأنه على أحد، ونقلي الحديث فيه تكلف، ومعناه -والله أعلم -أن مبنى أركان الدين على الشهر والإعلال. لأن الصلاة تقام جماعة ثم يكون في كل جمعة اجتماع الجماعات، وخروج

الوالي بالخطبة. والزكوات أيضًا يأخذها الإمام أخذًا ظاهرًا يبعث السعاة عليها، وتدون الدواوين لها، ويفرقها تفريقًا ظاهرًا. والحج والجهاد يجتمع عليهما أهل البلدان المتفرقة طبقات الناس المختلفة، فلا يكاد أمر أعلى منها. والصيام يخفي لأن مبناه على العزم والكف، وهما أمران لا يعلمها من الصائم إلا الله، ثم الصائم نفسه، منشرح عند انقضائه، التكبير في العيد بما من الله تعالى من إشهاد الشهر، والتوفيق بصيامه، وقدر من استكماله غلاله، وإذا أخفه فيعيد بذلك أمر الصيام، ويلحق نظرائه من العبادات والله أعلم. وأما تحريم الصوم في يوم العيد، فلأنه يوم يلي انسلاخ شهر رمضان، فكان كالليالي المتخللة لأيام الشهر، فإن كل ليلة منها تلي التي قبلها وقت الصيام، فلما لم يكن في ليلة منها صوم، فكذلك لا يكون في يوم العيد صوم والله أعلم. وأما وجوب صدقة الفطر، فإن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر من رمضان على كل حر وعبد، ذكر وأنثى، صغيرًا وكبيرًا من المسلمين صاعًا من تمر وصاعًا من شعير. ومعنى ذلك -والله أعلم -شكر نعمة الله فيها أباح من الطعام والشراب في النهار بعد أن كان حظرهما ما وجب على الناس أن يطعموا كما يطعمون، ويتصدقوا على المحتاجين بما لا يجدون. ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدار الإطعام والجنس الذي يكون منه، وعلم ذلك موجود في كتب الأحكام. فأما الشراب فلم يأمر أن يتصدق به لأنه على الوجوه يعيش الناس في مساكنهم ومما خص به هذا الشهر ما يرجع إلى تعظيم قدرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام لياليه وقدم القول فيه في باب الصلاة ويقول هاهنا: (إن الجماعة من سنن القيام). فينبغي للذين لا يحفظون القرآن أن يقدموا إمامًا يحفظه، فيؤمهم في المسجد. وتزين المساجد التي يقام فيها الجماعات بالقناديل كما فعل أيام عمر رضي الله عنه. وقال علي رضي الله عنه: نور على عمر قبره كما نور مساجدنا، ويتحرى أن يكون الإمام حسن القراءة لا يمله القوم. ونبخر المساجد عند القراءة، وإن لم يفارقه الطبيب حتى تنقضي صلاته فهو أحسن.

وأما القراء وحملة القرآن فإنهم جمعوا بين حضور الجماعات، ثم الانفراد في بيوتهم بالصلاة فهو أحسن. فإن لم يطيقوا بالانفراد بالصلاة أولى بهم لأنه شهر القرآن، فالقراءة ممن يحسنها أفضل من الاستماع إلى قراءة غيره والله أعلم. فصل وينبغي للصائم أن يصوم بجميع جوارحه، كما لا يأكل ولا يشرب ولا يباشر أهله، فكذلك ينبغي له أن يصوم ببشرته فلا يقض بها إلى بشرة أهله بشهوة، وبعينه فلا ينظر إليها بشهوة، وبقلبه فلا يتفكر في محاسنها، لئلا تساوره الشهوة فيكون منه ما يفسد الصوم أو تبور منه الجنابة، فيكون قد قضى شهوته، ويطيل ببذل الصبر أجره، وبلسانه فلا يغتاب ولا يسب ولا يخاصم ولا يكذب، ولا يرجى زمانه بإنشاد الأشعار ورواية الأسماء والمضاحك، والثناء على من لا يستحق الثناء والمدح، والذم بغير حق وغير ذلك. وبيده لا يمدها إلى باطل، وبرجله لا يمشي بها إلى باطل، وبجميع قوى بدنه فلا يفسدها في باطل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وقال النبي صلى الله عليه وسلم. (ما صام من ظل يأكل لحوم الناس). وقال: (إذا كان أحدكم صائمًا، فلا يرفث ولا يفسق، ولا يجادل. فإن أحد جهل عليه فليقل: إني صائم). ومعنى ذلك -والله أعلم -فليقل في نفسه إني صائم، فلا ينبغي أن أساور وأخاصم. وبما يستحب في هذا الشهر الجود والإفضال، وقد مر القول فيه بعض الأبواب المتقدمة، وأفضل ذلك كفاية المحتاجين، أم فطرهم. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من فطر صائمًا فله مثل أجره، ولا ينقص من أجر الصائم شيء). ومعنى ذلك -والله أعلم -

إن الملقي شغل فطر (إنما يصوم بمعرفة الكافي، فكان صيامه واقعًا منه. فلهذا كان له مثل أجره ولا ينقص من أجر الصائم شيء، لأن صومه لنفسه وما عند الله واسع. فإذا أفطر الصائم فينبغي أن يفطر على تمر، فإن لم يجد فالماء. هكذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويستحب أن لا يفطر على شيء مسته النار، ولا بأن لا يتبع موضع الهزم أثر النار. وكما ينتهي أن يتبع الجنازة بحمر أنفا، ولا للميت بإبعاد النار عنه. وقد جاء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على ثلاث تمرات، أو على شيء لم تمسه النار. وإذا أفطر الصوام عند رجل، فحسن أن يدعو لنفسه ولأهل بيته ولجماعة المسلمين بالمغفرة، وما يهمه من كرب إن كان به، وهو يبغي الفرج عنه، أو ما يجري مجراه، لأنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن للصائم عند فطره دعوة مستجابة، وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أفطر قال: (ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله). ويستحب للصائم أن يفرق طعامه فلا يمتلئ منه قبل القيام، ثم يصيب منه حاجته عند السحر، لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فرق ما بيننا وبين أهل الكتاب أكله السحر). وكان يقول: (تسحروا فان في السحور بركة). فإن أصاب صاحبه عند الإفطار، واستغنى عن السحر لأنه لم ير في الأكل فوق السبع والله أعلم. فصل ثم أن الصيام كالزكاة من أنه لا مسنون من جنسه إلا أن منه ما قد رغب وندب إليه وجاءت في فضله أخبار، فمنها: صيام ستة أيام من شوال. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان واتبعه ستًا من شوال، فكأنما صام الدهر كله). وجاء في بعض الأخبار: اقرأوا إن شئتم، {ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}

أي صوم الشهر بصيام ثلاثمائة يوم، وصوم ستة أيام بصيام ستين يومًا. فذلك ثلاثمائة وستون يومًا. وهذا الحساب موضوع على تبين الشمس دون القمر، لأن السنة الشمسية هي التي تكون أيامها ثلاثمائة وستين. فأما القمرية فإن أيامها ثلاثمائة وأربعة وخمسون، لأن شهرًا منها يتم وشهرًا منها ينقص. وقد يجوز أن يكون المعنى: أن الله عز وجل وأن نقص من الشهر يومًا، فإنه يكمل له أجر شهر تام والله أعلم. ومنها: صيام البيض. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان صائمًا فليصم من الشهر ثلاثًا البيض، ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة). وأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر). قال أبو ذر: صدق الله ورسوله في كتابه {ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} فليس المراد به ثلاثة أيام سوى البيض، لكن ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، وإن كانت هذه الثلاثة البيض فهي أفضل. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان صائمًا من الشهر فليصم الثلاثة البيض). وقال لإعرابي دعاه إلى طعام. فقال: إني صائم فقال: (أفلا جعلتها البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة). وقال رجل: قلت لابن عباس: أصوم ثلاثة أيام من الشهر، فأي الأيام أجعلها؟ قال: الأول: صم العشر البيض ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، فمن لم يصم البيض صام من أول الشهر الاثنين والخميس الذي يليه. هكذا روت أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت عائشة رضي الله عنها ولم تفسره: صم من الشهر السبت والأحد والاثنين وصم من الشهر المقبل الأربعاء والخميس والجمعة، وفي هذا إخراج الثلاثاء من الصوم. وليس لذلك معنى يعرف.

وجاء في فضل هذا الصيام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بما يذهب وخز الصدر صيام ثلاثة أيام من كل شهر). قال علي رضي الله عنه: وخز الصدر علة دائمة. وقال مجاهد: علة وحسرة. وأما صيام الاثنين والخميس وتخصيصهما، فذلك من أيام الشهر. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم الاثنين والخميس. روى قتادة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض الأعمال يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر الله الذنوب إلا ما كان من متشاحن أو قاطع رحم، فإنهما يؤخران، فكان علي رضي الله عنه يصوم الاثنين والخميس وكان أسامة بن زيد يصومهما ويقول: إلا أحب أن يعرض عملي إلا وأنا صائم، ويحتمل عرض الأعمال أن الملائكة الموكلين بأعمال بني آدم يتناوبون، فيقيم معهم فريق من الاثنين إلى الخميس ثم يعرضون. وفريق من الخميس إلى الاثنين ثم يعرجون، فكما عرج أحد الفريقين كافوا ما كتب في الموقف الذي له من السموات، فيكون ذلك عرضًا في الصورة. ويحتسب الله تعالى عبادة للملائكة. فأما هو في نفسه عز وجل فغني عن عرضهم بسبحهم فهو أعلم بما كسبه العباد من العباد، ومنهم أن يكون العرض على كثير من الملائكة تصرفهم بأمر الله عز وجل، فرقًا بعد فرق، ليخصوا أعمال بني آدم، ويحفظوها وينسخوها ويرفعوها، أما في كل اثنين، وأما في كل خميس على ما يثبت. ثم قد يجوز أن يكون ذلك بالملك جبريل صلوات الله عليه، لأن الله عز وجل وصفه بأنه مطاع، وذلك يدل على أنه أمار في موضعه إذا طاعه لا يكون إلا لأمر، فقد يحتمل أن يكون الصرف للملائكة على هذا الشغل جبريل عليه السلام، وعليه يكون العرض. ويكون العرض أن يؤدي كل فريق إليه ما كان بلغه من العمل بسبب، فيخرج من جهده الطاعة، وإلا فالباريء عز وجل لا يتأخر علمه بأعمال عباده إلى أن يعرض عليه والله أعلم. وأما صوم الدهر فليس بمستحب، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل يصوم الدهر، قال: (لا صام ولا أفطر). وهذا القول يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون دعاء عليه لغلوه وإفراطه. والآخر بأن يكون خبرًا عنه لا مجهود بالصوم ولا مترفة بالفطر. لأن من صام دائمًا صار الصوم له عادة، فكان أكله من الليل إلى الليل، كأكل المفطر من

الظهر إلى الظهر، ومن الضحى إلى الضحى، وزالت عنه المشقة، فلم يحس بجوع ولا عطش وإذا كان كذلك، كان كأنه غير صائم، وهو مع ذلك غير مفطر. فقد يجور أن يكون أراد بقوله (لا صام ولا أفطر) هذا والله أعلم. وروى أن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون دخلت على عائشة رضي الله عنها وهي متعسفة هشة الهيئة، فقالت لها عائشة: لم تصنعين هذا؟ فقالت: إن صاحبي لا يريد النساء، يصوم النهار ويقوم الليل، وأراد أن يترهب. فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لكن أنا أصوم وأفطر وأرقد وأقوم، وليس في ديننا الرهبانية، فمن رغب عن ملتي فليس مني). وقال عبد الله بن عمر: وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله بن عمر، تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: نعم قال: فلا تفعل، فإنك إذا فعلت ذلك هجنت عيناك وتعنف نفسك، لكن صم وافطر، فإن لأهلك عليك حقًا ولجسدك حقًا. صم ثلاثة أيام من كل شهر، وذلك صوم الدهر. قلت: يا رسول الله، أني أجد قوة: قال: لا تفعل، لا صام من صام إلى الأبد، إن كنت لابد صائمًا فصم صوم داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى). وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (في صيام داود أربعة ألفاظ: أحدها الحكاية والجن، والآخر الترغيب وللأمر، والثالث: أن قال: أفضل الصيام والرابع: أنه أعدل الصيام، فأما الجن فهو ما روى أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: (ذاك صوم أخي داود، قال: فرجل يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: وددت أني أطيق ذلك. قال: أرأيت رجلاً يصوم يومين ويفطر يومين؟ قال: ومن يطيق ذلك) فأما الترغيب فهو ما روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صم صوم داود، صم يومًا وافطر يومًا). وأما أن ذلك أفضل الصيام، فقد روي

عن عبد الله بن عمر، وأيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن أفضل الصوم صوم أخي داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا) ولا يقر إذًا لأجل، وأيضًا أنه أعدل. فقد رواه أيضًا عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعدل الصيام عند الله صيام الدهر) معنى هذا -والله أعلم -أن من صام يومًا وأفطر يومًا، لم يألف الصيام قط، ويكون كل يوم -والله أعلم -أن من صام يومًا وأفطر يومًا، لم يألف الصيام قط، ويكون كل يوم يصوم له في اليوم الأول، وهذه مشقة. ثم أنه من يبق بالفطر مقدار ما يتحمل من جهة الصوم، فلذلك كان هذا أعدل الصيام وبالله التوفيق. فلا ينبغي لأحد أن يجهد نفسه فيحملها من العبادة فوق طاقتها، فإن ذلك يحول بينه وبين المداومة، ويقطعه من العبادة أصلا في بعض الأوقات، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم قال: (كلفوا من الأعمال ما يطيقونه، فإن الله لا يمل حتى يملوا، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلت). وأما إعادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيام فهو ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الشهر حتى نقول: ما يريد أن يفطر منه شيئًا. ويفطر من الشهر حتى نقول: ما نريد أن يصوم منه شيئًا، وكان يستاء أن نجده مصليًا من الليل إلا رأيته أو نائمًا إلا رأيته). أرادت أنه كان لا يصوم شهرًا كله ولا يفطر شهرًا كله، ولا يقوم ليلة كلها ولا ينام ليلة كلها. وروى عن أنس نحو ذلك. وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها كأنهم تعالوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: فأصلي الليل أبدًا. وقال الآخر:

أنا أصوم الدهر كله لا أفطر. وقال الآخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا، إما والله، أني لأخشاكم الله، واتقاكم له، لكني أصوم وافطر، وارقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). وقد يجوز أن يكون ما روى عنه من صيام الاثنين والخميس أنه كان إذا لم يرد أيامًا، وأراد أن يصوم يومًا، وجده تحرى أن يكون ذلك الاثنين والخميس. ومن جمله الصيام صيام شعبان، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم شعبان ورمضان وقالت عائشة رضي الله عنها: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شهر أكثر من صيامه في شعبان، كان يصوم شعبان إلا قليلا، ما كان يصومه كله. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا انتصف شعبان فكفوا عن الصوم). ويحتمل أنه كان يصوم ويأمر أمته أن يكفوا عند انتصافه عن الصيام، كما كان يواصل. ونهى أمته عن الوصال، فإنه ربما خشي على أمته الضعف وكان آمنًا في نفسه، لأنه قد قال في الوصال: (إني لست كأحدكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني). فقد يحتمل أنه كان يطعمه ويسقيه على الحقيقة، بأن يخلق في جوفه طعامًا وشرابًا فيشبعه ويرويه. ويحتمل أنه كان يدفع عنه الجوع ويقويه ويغنيه عن الطعام والشراب، ويصرف عنه شهوتهما، فيكون كالطاعم الشارب والله أعلم. وأما صيام رجب. فاني لم أجد لها في الأصول المعروفة ذاكرًا، سوى ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل صوم رجب قال: (فأين انتم عن شعبان). وهذا يحتمل أن معناه أن رجب قد ظهر فضله فإنه من الأشهر الحرم، وكان معظمنا في الجاهلية يدعى شهر الله الأصم. فلا يحمل فيه السلاح ولا تسمع قعقته، فلا تسألوني عنه، واسألوني عن شعبان. فإن كان هذا. فقد يجوز أن يكون صومه مستحبًا، ويحتمل أن يكون معناه أن رجب مفضل عن شهر رمضان فهو كالأشهر التي قبله، وإنما المتصل بشهر رمضان والمبشر به،

والشبه من بعض الوجوه به شعبان، فإن فيه ليلة الصكاك كما في شهر رمضان ليلة القدر، فاسألوني عنه لا عن رجب. وهذا أشبه، لأن ذا القعدة من الأشهر الحرم، وما ورد في صيامه خير. وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يصرف أكف الذين يرفعونها عن الطعام في رجب حتى يأكلوا. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: صوموا منه وافطروا. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند دخول رجب: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان) وبلغنا رمضان. فقد يحتمل أن يكون رجب بدلالة هذا الخير، قرينة شعبان، فيستحب الصيام، ويكون صرفًا لأكف الذين كانوا يكرهون من شدة تعظيمهم هذا الشهر أن يفطروا فيه، فقد روى أنه كان فيهم من إذا أفطر فيه قضاه. ونهاهم عن ذلك عبد الله بن عباس والله أعلم. ومنها صيام المحرم، يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (إن كنت صائمًا بعد شهر رمضان، فصم المحرم، فإنه شهر الله). وفي رواية أخرى أنه سئل: أي الشهور أفضل بعد رمضان؟ فقال: (شهر الله الأصم المحرم). ومنها: صيام عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن صيامه كفارة سنة، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم قال: (تكفر السنة التي قبلها). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من وسع على عياله يوم عاشوراء، أوسع الله عليه سائر سنته). وقال سفيان بن عيينة: جربناه فوجدناه كذلك، ويستحب أن يصوم التاسع قبله. قال الحكم بن أعرج:

سألت ابن عباس عن صوم يوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فأعد تسعًا ثم أصبح صائمًا، فقلت: أفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم. وقد اختلف في صيام عاشوراء فقيل: أنه كان فرضًا، قبل أن تنزل فريضة رمضان فلما نزلت نسخت ما كان قبلها من الصيام. وقيل: لم يكن فرضًا، وإنما كان صيام شكر صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخليص الله تعالى عبده موسى من فرعون فيه. فصل وقد ذهب بعض السلف إلى أن عاشوراء هو اليوم التاسع. واحتج بالحديث الذي رويته عن ابن عباس وادعى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أن سلمت لأصومن العاشر التاسع). وأن من أثبت الواو من العددين فقد غلط وأن معنى الحديث: لأصومن مكان العاشر التاسع. والأمر عندنا بخلاف هذا، لأن الواو محفوظة في هذه الرواية عندنا، والغلط في حذفها أمكن منه في إثباتها. وتأويلهم هو الغلط لأنه جاء الجمع بين التاسع والعاشر مفسرًا، وفي ذلك سقوط ما ظنوه. ومعنى ما روي عن ابن عباس في قوله، فأصبح في تاسعة صائمًا أنابه أو بهذا الصيام، وأنه لا يتقرب إلى الله عز وجل بصيام يوم فرد كما يتقرب إليه بركعة من الصلاة. فكما يستحب في الصدقات الأزواج، وجاء فيها من الأخبار ما قد عرف فكان من أداء ابن عباس الأمر بصيام التاسع لا الاقتصار عليه من العاشر والله أعلم. وكيف يظن عظم اليوم الذي كان عبدًا لموسى عليه السلام فسواء صام أو غيره أو لم يصم لذلك يومًا أصلا والله أعلم. وقال أبو رافع: من أراد أن يصوم عاشوراء فليصم التاسع والعاشر. ومنها صيام يوم عرفة. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم عرفة كفارة ستين يومًا قبلها وسنة بعدها).

فإن سأل سائل فقال: رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس كفارة كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر). وأنه قال: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما ببينهما ما اجتنب الكبائر). وأنه قال: (شهر رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما). وأنه قال: (صوم يوم عرفة يكفر سنتين: سنة قبلها وسنة بعدها). وأنه قال: (صوم عاشوراء كفارة السنة التي تقدمتها). وقال الله عز وجل قبل هذا كله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}. فأخبرونا عن هذه الأخبار كيف تلائم هذه الآية؟ وكيف يلائم بعضها بعضًا، فإن اجتناب الكبائر إذا وجب غفران الصغائر، لم يبق من الصغائر ما تكفرها الصلوات الخمس إن كفرت لم يبق وراءها ما يكفرها للجمعات ثم أن كفرت لم يبق وراءها، يكفرها صيام رمضان، ثم أن كفر لم يبق وراءها ما يكفر صوم عرفة، ثم أن كفر لم يبق وراءها ما يكفره عاشوراء. فمن أي وجه يثبت أن تكون هذه الأعمال كفارات؟ قيل له: -وبالله التوفيق -وقد يجوز أن يكون معنى هذه الأخبار أن كل واحد من الصلوات الخمس ثم الجمعات، ثم صيام رمضان ثم صيام عرفة ثم صيام عاشوراء له من القدر عند الله أن يعفي على أثر السيئات كلها بالغة ما بلغت، وكائنة ما كانت، ما لم تكن كبائر. وإذا كانت هذه المنزلة وقع بها تكفير ما يصادفه من السيئات، وما لم يصادف منها سيئات فيكفر بها انقلبت زيادة في درجات أنفسها، وهذا كما يقال: الوضوء طهارة، أو أنه رافع للحدث. أو يقال: العتق كفارة، أو الإطعام كفارة، فيكون المعنى أن هناك ما يتطهر به، أو كان ما يكفر. فإن لم يكن كان عبادة وفضلا وبرًا يوجب كصاحبة الثواب. ولولا أن هذا هكذا لما صح أن يتوضأ من لا حدث منه، فلا يعتق أو يطعم أو يكسو من لا حيث عليه، ولو حب إذا أعتق الرجل عن كفارته ولا كفارة عليه، أن لا يعتق عنده. ولما لم يكن هذا هكذا، بل كان الوضوء طهارة لم

يحتاج إليها وقربة وبرًا، فإن لم يكن هناك حدث يرفعه أو العتق، وما ذكرنا معه كفارة لم يحتاج إليها وبرًا لا كفارة إذا لم يكن هناك ما يكفر، وإن لم يكن، فإنما هي درجات يريد الله فيها من يشاء، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كذلك. وصيام عاشوراء كذلك أن صادق سيئات سنن كفرها، وإن لم يجد فإنما هو فضل يرفع الله درجات من يشاء. وصيام عرفة أن صادف سيئات سنين رفعها، فإن لم يجد فإنما هو فضل يزيد الله فيه درجاته ما يشاء. فإنما أريد بالحديث أن كل عبادة من هذه العبادات فلها هذا القدر في هذا المحل، فإن أنفق أيامًا يكفرها، وإلا فهي حسنات تزاد ودرجات ترفع والله أعلم. وينبغي للحاج أن لا يصوم يوم عرفة بمعرفة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة. ومعنى ذلك أن يتقوى بالفطر على الوقوف الذي من مناسك الحج، وإنما فضل هذا اليوم بالنسك، فما أضعف عنه لم يكن لاستجابة فيه معنى. وفي هذا الباب صيام تسعة من أوائل ذي الحجة. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صام العشر قط، ومغنى ذلك عندنا نه كان يفطر فيها ليجد في العمل. فقد روى عنه: (ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من أيام العشر). فيحتمل أنه كان يستكثر فيها من الصلوات وقراءة القرآن ليلاً ونهاراً. فلذلك نزل صيامها كما نزل صيام يوم عرفة بعرفة، لأجل الوقوف والدعاء، فمن كان غافلاً مثل ذلك فليفطر. ومن لم يفطر عليه، فالصيام فيه عمل، فهو أحب إلى الله تعالى أن يتقرب العبد إليه به، من أن يكون معطه والله أعلم. فصل وينبغي أن يعلم من أصول الصيام أن فيه الكراهية كما فيه الاستحباب، وفيه التحريم كما فيه الإيجاب، فصيام شهر رمضان واجب، وصيام العيدين وأيام التشريق حرام ولا ينعقد فيهن صيام. وجاء في إجازة صيام أيام التشريق للمتمتع بالعمرة إلى الحج خير.

وبيان ذلك في كتب الأحكام. وصيام الاثنين والخميس مستحب، وصيام الجمعة وحده، أو صيام السبت وحده مكروه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة وحده. لا ومعنى ذلك والله أعلم: أنه إذا حضر فإنما يقصد ما فيه من المعنى الذي هو مختص به، وليس ذلك إلا أنه يوم عيد. وليس حق العيد أن يصام، أو يقال: أن ذلك العيد تعطيل للجماعات كلها للرواح إلى المسجد، والاجتماع فيه لسماع الخطبة والصلاة والتكبير إلى الجمعة أفضل من التهجد. وقد جاءت الأخبار بالحث عليه والأمر بالمسارعة إليه، ومن بكر فإما أن يصلي وأما أن يقرأ، وكل ذلك يدل على طول الشغل. فينبغي أن يستعان عليه بترك الصيام كما قلنا في يوم عرفة. قال إبراهيم: إنما كرهنا صوم يوم الجمعة فلتبقوا على الصلاة، وأما صوم يوم السبت وحده، فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا ما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحاء شجرة فليمضغه). ومعنى ذلك: إن الصيام إمساك، والإمساك عن الإشغال والأعمال في هذا اليوم عادة اليهود، فلا ينبغي أن يشاكلوا في شيء من صنيعهم الذي لم يشرك بيننا وبينهم فيه. وأما إذا صام صائم الخميس والجمعة، أو الجمعة والسبت، أو السبت والأحد فلا كراهية، لأن تخصيص اليوم بقصد صيامه دون ما سواه إذا زالت الكراهية بزواله. وفي هذا الباب ما جاء عن علي رضي الله عنه: أنه كره قضاء رمضان، وأحب إلى الله عز وجل منه في غيرها. والآخر أن يكون كرهه لمن أن عليه من قضاء رمضان أكثر منها، لأن لا يتفرق القضاء عليه، فإن المتابعة أولى به، وإن كان تقديمه جائز. والثالث أن يكون كره تأخير القضاء إليها، فإن القضاء فيها منع من صيامها لنفسها. وقد جاء عن عمر رضي الله عنه في قضاء رمضان تطوعًا لما فاته منها، خلاف ما جاء عن علي رضي الله عنه. فقد يجوز أن يقال أنه إذا لم تكن أيام العمل فيه أحب الله عز وجل من هذه الأيام، وكان القضاء عملاً، فوضعه فيها أحسن منه في غيرها. ولكن ذلك لا يكون إلا بترك صيامها لقضائها وليس ذلك بما يكره، وإن كان الصوم مستحبًا. لأن صيامها لا فرض ولا سنة وإنما هو تطوع والله أعلم.

فإن صاحبها من عليه قضاء رمضان تطوعًا، فإنه روى عن عكرمة أنه قال، مثل الذي يتطوع، وعليه قضاء رمضان، كمثل الذي يسبح وهو يئن بصوته المكتومة، يعني بالتسبيح التطوع. وهذا الشبه إنما يصح إذا أخر قضاء رمضان حتى لم يبق إلى رمضان إلا قليل من الأيام بمقدار ما عليه صيامه، فلا يقضي ويتطوع. فأما إذا تطوع في العشر وآخر القضاء، فليس يخشي قضاء، ولكنه يريد الجمع بين التطوع والفرض في وقت. فهو كمن يركع سنة الفجر قبل فرضه أو سنة الظهر قبل فرضه، أو يتطوع بين الآذان والإقامة بما شاء والفرض أمامه والله أعلم. ومما يدخل في هذا الباب اعتياد صوم بعينه كالاثنين والخميس. وقد روى في هذا الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل صوم يوم الاثنين والخميس فقال: كره أن بوقت يومًا بصومه. وقال حصين بن الحر: دخلت على عمران بن حصين يوم الاثنين وهو يأكل فقال: هلم فقلت: إني صائم، فقال: لا تجعل عليك حتمة بصومه. وعن حفص بن جابر فقال: كنا نأتي أنس بن مالك، فجاء بحفنة من ثريد وجمع بينه فيجيب، فقال بإذن: يا حفص فأطعم: فقلت: إني صائم، فقال: إياك أن تكون أنيسًا أو خمينًا أو رديًا. وقال إبراهيم: كانوا يكرهون أن يفرضوا على أنفسهم شيئًا لم يفترض عليهم. وعن مجاهد أنه كان يصوم الاثنين والخميس ثم تركه، وهذا لأن في تخصيص يوم أو شهر دائمًا بالصيام، ويومين في الإفطار فيه تشبيه له برمضان، ولا ينبغي أن يشبه ما لم يشبهه الله تعالى، وهذا وجه الكراهية فيه. وأما ما تقدم من الأخبار في ذكر الاثنين والخميس، فهو على معنى: أن من أراد صيام يوم أو يومين، فهذان أولى به مما سواهما، أو على أنه يديم صومهما ما لم يدع إلى طعام أو شراب به صنف ويجب أن يؤاكله ويدخل على ذي حرمة، فيقدم إليه طعامًا، فإما أن يتوقى الفطر فلا، وبالله التوفيق.

ومما يدخل في هذا الباب صوم اليوم يشك في أنه رمضان أو ليس منه، وهو الثلاثون من شعبان. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن صيام ستة أيام عن صيام العيدين وأيام التشريق واليوم الذي يشك فيه أنه رمضان. وهذا على أن يصام غير موصول بصوم معزوز تقدمه، فيصير مقصودًا بالصوم لأجل رمضان، فإن صيام رمضان قبل رمضان محال لا معنى له. ومن يفعل ذلك فعسى أن يفطر آخر يومين من رمضان على أنه شوال، وعسى أن يراه غيره صائماً فيرى أنه لم يصم إلا بحجة فيصوم، فينبغي أن يتنزه عن هذا إلا أن يصوم مع المسلمين حجة والله أعلم. فصل وينبغي للناس أنه إذا دنا رمضان أن يفرحوا به ويستبشروا به، ويدعوا الله ويسألوه أن يبلغهم ويوفقهم لصيام أيامه، وقيام لياليه، ويجنبهم فيه الفسوق والعصيان والتمرد والطغيان، ويوطنوا نفوسهم على أن يأمروا بنواهيه، ولا يأخذوا بالهوينا في أمره، منشرحي الصدر طيبي الأنفس بذلك كله غير متحضرين منه، ولا صائبين به، وأن يراقبوا هلاله ليلة الثلاثين من شعبان، فعل من يستعمل لقدوم غائب كريم، ويقولوا إذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند رؤية الهلال: (اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله). وروى أنه كان يقول: (الله أكبر) ثم يدعو وفي بعض الروايات زيادة قوله: (والتوفيق لما تحب وترضى). وروى أن عليًا عليه السلام، كان لا يستشرق لهلال رمضان، فكان إذا نظر إليه قال: اللهم ادخله علينا بالسلامة والإسلام والإيمان والصحة من الأسقام، والفراغ من الأشغال، ورضاء فيه بالسنة من النوم، ولا ينبغي لمن رأى الهلال أن يقوم في وجهه ويدعو، بل يعرض عنه ويقول ما يقول وهو لا ينظر إليه أميط كفا عنه. قال علي رضي الله عنه: إذا رأيت الهلال فلا ترفع له رأسًا وقل: ربي وربك الله،

وقال ابن مسعود الأنصاري: لأن أقع من فوق هذا القصر أحب إلى من أن أصنع كما يصنع هؤلاء إذا رأوا الهلال كأنهم يرون ربهم. عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يكره أن ينتصب للهلال انتصابًا، ولكن يعرض ويقول: الله أكبر، الحمد لله الذي ذهب بهلاله كذا، وجاء بهلال. وعن عضبة بن عمرو: إذا رأى أحدكم الهلال فلا يرفع به رأسًا، فإنما هو آية من آيات الله، والله لأن أقع من هذا القصر أحب إلى من أن أقول فيه ما يقول رجال إذا رأوه، قال أحدهم: لا إله إلا الله، كأنما يرى ربه. ولكن ليقل الرجل -إن أحب -ربي وربك الله. قال مجاهد: إذا رأيتموه فلا تستقبلوه فتكبروا، ولكن قولوا: الحمد لله الذي أذهب شهر كذا وجاء شهر كذا. وكره مجاهد الصوت والإشارة عند رؤية الهلال. وعن إبراهيم أنه كان يكره إذا رأوا الهلال أن يستشرقوا له ويرفعوا رؤوسهم، وقال عبد العزيز بن أبي داود: كان المسلمون يقولون عند حضرة شهر رمضان: اللهم أطل شهر رمضان وقصره، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه صبرًا واحتسابًا، وارزقنا منه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، واعدنا من البترة والكسل والنعاس، ووفقنا فيه لليلة القدر، واجعلها لنا خيرًا من ألف شهر، ثم يستقبلوا العمل، فيجتهدوا في أن ينقضي عنهم، وقد أحرزوا حظوظهم من خيره وبركته، ويقدموا فيه إلى الله تعالى بموجبات رحمته ومغفرته، ولا يكونوا كمغفل فرصة، قد أمكنه انتهازها، ومضيع خطوه تيسر إجراؤها وبالله التوفيق. فصل وقد ذهب بعض السلف في الصوم إلى ما ليس بمذهب. روى عن إبراهيم أنه قال: بلغني أن من أقل الأعمال أجرًا الصوم، وعنه أنه كان يقال: الصوم أقل الأعمال تضعيفًا، وهذا خلاف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له

ما تقدم من ذنبه وما تأخر). وخلاف ما أخبر به من تضعيفه لأنه قال أثرًا عن الله عز وجل: (كل حسنة يعملها ابن آدم تضاعف له إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإني لي، وأنا أجزي به) فأبان أنه يزيد الصوم على سبعمائة ضعف، فكيف يجوز لأحد مع هذا أن يقول أنه أقل الأعمال تضعيفًا. وأيضًا فإن الصوم زكاة الجسد، وليس يجوز أن تقصر زكاة الجسد عن زكاة المال، لا في التضعيف ولا في غيره، وبالله التوفيق. * * *

الرابع والعشرون من شعب الإيمان وهو باب الاعتكاف

الرابع والعشرون من شعب الإيمان وهو باب الاعتكاف قال عز وجل: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} وقال: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، لأنه كان يزداد فيه جدًا واجتهادًا. وروى عنه أنه كان إذا دخلت العشر أحيى الليل وشد المئزر وأيقظ أهله). وقال عطاء: سألت عائشة رضي الله عنها: كيف يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان؟ فقالت: كان ينام ويصلي ويأكل ويشرب، حتى إذا كان عشر البواقي شد ازاره وشمر، فليس له هم إلا الصلاة والدعاء، وقيل في معنى قوله (وشد المئزر) أنه عبارة عن التشمير ويدل عليه أنه قيل في بعض الروايات (رفع المئزر). وقيل معناه: كف عن النساء. ويدل عليه أنه قيل في بعض الروايات (شد المئزر واجتنب النساء) فلما كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشر الأواخر اعتزل النساء، والجد والاجتهاد في العبادة، تحرى الاعتكاف فيها لوجهين: أحدهما أن الاعتكاف فيها أفضل منه فيما سواها. كما أنه في شهر رمضان -في الجملة -أفضل منه في غيره، لأن أفضل أعشار الشهر العشر الأواخر. كما أفضل الشهور شهر رمضان. والوجه الآخر أن الإمامة في المسجد عون له على ما يريده من العبادة، فإن المسجد مبني للعبادة، فكما أن من أوى إلى بيته مالت نفسه إلى ما بنيت البيوت له من الجمام

والراحة. فكذلك إذا أوى إلى المسجد مالت نفسه ما بنيت المساجد له، وليس ذلك إلا الذكر والصلاة وقراءة القرآن وكان قلبه مع ذلك عن تذكر النساء وأمرهن غافلاً. ويستحب لكل من أراد الاعتكاف أن يعتكف في شهر رمضان. وإن كان يريد اعتكاف شيء من الشهر اعتكف العشر الأخير كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن يزداد في العشر الأواخر جدًا واجتهادًا. ثم في أوتارها خاصة إذا كانت ليلة القدر فيها. فإن لم يكن الحظ فيها الدوام، وإنما للمستثمرين المجتهدين القوام، ولأن هذا الشهر يعظم غيره ويزكيه، وقوة الأمل فيه رحمة الله وبركاته، ويتحبب إلى أولياء الله، منهم مغتمون بذهابه كما يفرحون بمجيئه، وحكم كل من يغتم جواره ويكره فراقه أن يكون عام الولوع به ومعرفة حقه عند دنوها به أشد وأكثر. ولقد أوصى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم الأولاد بالوالدين إن بلغوا الكبر، وذلك إنهم إذا بلغوا الكبر، فقد قاربوا القرآن، إذ ليس بعد الكبر إلا محتوم القدر، هكذا الشهر إذا انقضى منه عشر بعد عشر، فليس بعد العشر الثالث إلا الذهاب الكارف. فينبغي لمن كان يسره جواره وبسوؤه إدباره أن يقل في هذا العشر قراره، ويكثر صلاته واستغفاره، ويزداد قرآنه وأذكاره، ويكون في المسجد اعتكافه ويقل إلى المنزل اختلافه إلا فيما لابد منه ولا غنى به والله أعلم. فصل الاعتكاف قريب المعنى من الصيام، وكأنه أحد الصائمين كما أن الطواف قريب المعنى من الصلاة، وكأنه أحد الصلاتين، لأن الصيام هجر المألوف من الطعام والشراب والنساء وكذلك الاعتكاف هجر المألوف من المسكن والبناء، فيجتمع الصيام والاعتكاف في أن شرطهما اعتزال النساء. ثم يختص الصيام بهجر الطعام والشراب، ويختص الاعتكاف بهجر المنازل والبيوت، لأنه لا يصح إلا في المساجد. ووجه القربة في الاعتكاف إلى المعتكف يزر البيت لوجه الله تعالى، فيهجر الإستراحة والتبسط في الحديث، والاشتغال عن الذكر والنوم الطويل ونحو ذلك ويقيم في موضع الصلاة منتظر الصلاة بعد الصلاة معرضًا عن اللغو، رافضًا لجميع اللهو، لا يهمه إلا التعبد كما قال الله عز وجل: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم

تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، ويزيدهم من فضله}. الآية، فهو كالصوم الذي يذر فيه العبد طعامه وشرابه ليقمع شهواته، وتخف نحو الطاعات حركاته وبالله التوفيق. ولتناسب ما بين هاتين العبادتين أخبار لعلها الجمع بينهما، فرأوا أن يكون الإعتكاف في حال الصوم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرو عنه أنه اعتكف إلا في شهر رمضان إلا عامًا ترك فيه الاعتكاف في العشر الأواخر بعده ثم قضاه في العشر الأول من شوال. وإنما أرادوا بذلك أن يكمل الإمساك عن عامة ما تميل النفس إليه، والرفض لجميع ما ينقل إليه من المطعم والمشرب والمسكن والمنكح، فلا يبقى من مواقع العبادة والقواطع عنها في العادة شيء عقل بالنفس إلى الحمام، وتحول بينهما وبين أن يقوم بخدمة الله تعالى حق القيام وبالله التوفيق. * * *

الخامس والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في المناسك

الخامس والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في المناسك قال الله عز وجل: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئًا، وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}. وقال عز وجل: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفرفان الله غني عن العالمين}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت) وقال: (من لم يمنعه من الحج مرض حابس أو سلطان جائز، أو حاجة ظاهرة، ثم مات ولم يحج، إن شاء يموت يهوديًا وإن شاء نصرانيًا). وهذا أعظم ما يكون من التغليظ، وإنما قال هذا، لأنه لم يكن لهاتين الطائفتين في الحج نصيب، ولم يكن من دينهم، كما كان فرض الصلاة والصيام والزكاة من دينهم. فجعل من ترك الحج من المسلمين كالمتشبه بمن لم يشرع له بالحج، وكانوا صنفين، فقال (فليمت إن شاء يهوديًا وإن شاء نصرانيًا) أي مثل أحدهما فليختر أيها شاء، فيضرب له المثل والله أعلم. وقوله عز وجل {ومن كفر} معناه: ومن لم يحج، إلا أنه سماه كفرًا، كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة كفرًا، ليبين أن فعل كل واحد منهما إيمان، ولولا ذلك لما كان تركه كفرًا.

وقد يجوز أن يكون ذلك منه تسمية ابتداء في هذين الأمرين، فصار الكفر إسمًا لهما شرعيًا كاسم النفاق لما يراد به، وكالإيمان والإسلام لما يراد بهما، وغير ذلك من أسماء كثيرة لم تكن سمعت ولا عرفت وإنما بلغت من الرسول صلى الله عليه وسلم ويحتمل معنى آخر، وهو أن المراد من فعل ما يفعله الكفار، فحبس ولم يحج، مما قيل في قوله تعالى في قصة يونس: {فظن أن لن نقدر عليه}. معناه: ففعل فعل من يظن أن لن نقدر عليه، وهو المتهرب من تبليغ الرسالة وركوب البحر مع ركابه وهكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة (من تركها فقد كفر). أي فعل ما يفعله الكفار والله أعلم. فصل ومعنى {حج البيت} والبيت هو الكعبة، وإنما تعرف حقيقة الحج ومقداره بين العبادات بمعرفة البيت والوقوف على السبب الداعي إلى تفضيله وتشريفه، وقد أشار الله تعالى إلى أصل ذلك في كتابة، فقال: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا}. وقال في آية أخرى: {وليطوفوا بالبيت العتيق}. وأغلب ما قيل في معناه: أن المراد به خلاف الحديث، فحصل على الاثنين، أن الكعبة بيت عتيق، وأنه أول بيت وضع في الأرض، ولم يذكر الله تعالى واضعه. فيحتمل أن يكون الله تعالى أخبر به عنه ما أخبر آدم من الجنة. ويحتمل أنه كان أحدثه قبله. ويحتمل أن يكون أمر آدم فبناه. ويحتمل أن يكون أمر الملائكة فبنته. لا يخرج وضعه في الأرض من هذه الأربعة الأوجه. وأما ما كان من هذا فينبغي أن يعلم أن وضعه فيه لم يكن أسكنه ساكن، وإنما كان ليجعل معبدًا، وذلك أن الله عز وجل قد جعل في بعض سماواته بيتًا وسماه بيت المعمور، وجعله تعالى لملائكته، وجعل فوق السموات العرش وشرفه باسم نفسه، فقال:

{ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}. وقال: {وكان عرشه على الماء}. وجعله للملائكة المقربين مطافًا وجعل لهم حوله صنافًا. فإنما خلق هذا البيت في الأرض ليكون فيها سكان البيت المعمور في مكانه من السموات، ومكان العرش حيث هو لمن في السموات. وجاء عن الحسن ومجاهد: أن الكعبة تحت البيت المعمور وبحذائه. وقال قتادة: ذكر لنا أن الحرم حرم بحياله إلى العرش. وإذا كان كذلك، فهو إذًا إنما وضع تحت البيت المعمور الذي هو يحاذي العرش، ليكون معناه في الأرض، معنى ما هو بحيالهما حيث هما. وكان العرش إنما يشرق باسم الله تعالى ليكون متعبدًا للملائكة المقربين يطوفون حوله ويصفون ويسبحون لله عز وجل. والبيت المعمور بيت حيث هي بحياله ليكون معبد الملائكة الذين هم في تلك السموات. فكذلك الكعبة إنما شرفت باسم الله تعالى، وضعت في الأرض بحيال البيت المعمور ليكون متعبدًا لسكان الأرض، فخصه الله بعبادتين: أحدهما الطواف فلا يجوز إلا حوله. والآخر: الصلاة فلا تجوز إلا إليه. وذلك على صحة ما قلنا من أن هذا البيت وضع في الأرض ليكون متعبدًا لا يسكنه ساكن أن الله عز وجل اختار له وضعه للناس. ومعلوم أنه لا يحمل الناس ولا يسمعهم، فصح أن معنى وضعه للناس إن شاء، وآتوا العبادة حوله، ويتشاركوا في الصلاة إليه. ودل عليه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض). ولو وضعه لهم ليستكفوه لما حرمه ولما حرم ما حوله، كما لم يفعل ذلك بالمساكن التي هي في مشارق الأرض ومغاربها. فقد ظهر بما وصفنا السبب الذي تعلق الصلاة والطواف بالبيت لأجله. ويؤكد ذلك أن الصلاة إذا كانت عبادة لله عز وجل، ولم يكن بدًا إذا وقف الرجل يصلي من أن يستقبل جهة من الجهات، كان أولى جهة بأن يستقبلها جهة البيت المشرف بأمامه المعظم بإضافته إليه. فصارت قبلة لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الوجه والله أعلم.

فأما الحج الذي يراد به الفضل على سبيل الزيادة، فإنما يتفرع عن تشريف الله تعالى هذا البيت بإضافته إلى نفسه وإطلاقه للناس أن يقولوا: لا يكون إلا من توقيف متوارث أو نص متناقل. وقد قال الله عز وجل: {ولا آمين البيت الحرام}. وقال: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس}. ولما أخبر أنه بيت حرام، وكانت تلك الحرمة حقه جل ثناؤه وعلمنا أنه خلق البيت ليضاف إليه لا ليضاف إلى أحد من عباده، فاقتضى ذلك أن يؤمه الناس بحجه وزيارته. فإن تعظيم الله تعالى إذا كان في الأرض بيته بحرم يشرف باسمه أن يزار ويعبد عقيدة، وتعظيمه تقربًا بذلك وتعظيمًا وتكريمًا لاسمه. وإن كان يعلم أنه لا يحتاج إلى البيوت ولا يسكنها، فإن الملائكة الذين هم حول العرش يعلمون أن الله عز وجل لا يحتاج إلى سرير ويتعظم بالجلوس عليه. وأنه لا يجوز أن يتوهم عليه بهذا، ولا أن يظن به. فإنه قد كان ولا عرش ولا بيت، لم يزل لا في مكان، ولا يزال لا في مكان، ولا يمكن أن يحويه مكان أو يحصره أو يحيط به مكان. ثم لم يمكنهم ذلك من تعظيم العرش بعد أن شرفه باسمه، والصف حوله، والتسبيح عنده، وكذلك غلب بأن الله تعالى لا يحتاج إلى البيت ولا يمنعهم من تعظيم بيت قد شرفه باسمه وحرمه وبحرمته ما حوله. ومن التعظيم أن يزوره، وأن لا يقطع وفودهم عنه. فهذا سبب الحج. وذكر وهب بن منبه في كتابه: أن آدم صلوات الله عليه لما أهبط إلى الأرض استوحش فيها، لما رأى من سعتها، ولم ير فيها أحدًا غيره، فقال: رب، أما أرضك هذه عامر يسجد فيها ويقدس لك غيري، قال الله عز وجل: {إني لأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي، واجعل فيها بيوتًا ترفع لذكري ويستحي فيها خلقي، وسيأتونك منها بيتًا اختاره لنفسي وأخصه بكرامتي واوثره على بيوت الأرض كلها باسمي وأسميه بيتي لتعظيمه بعظمتي، وأخرمه بحرمتي، وأجعله أحق البيوت وأولاها بذكري، وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي، فإني أخبرت مكانه يوم خلقت السموات والأرض، ومن قبل ذلك، فهو صفوتي من البيوت، ولست أسكنه، ولا ينبغي أن أسكن البيوت،

ولا ينبغي أن يحملني، أجعل ذلك البيت، ولمن بعدك يا آدم حرمًا وأمنًا، أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته، فمن حرمه بحرمي، فقد عظم حرمتي، ومن أحله فقد أباح حريمي، ومن آمن أهله فقد استوضئت بذلك آياتي. ومن أخانهم فقد أحقرني في ذمتي، ومن عظم شأنه عظيم في عيني، ومن صغر شأنه صغر في عيني. ولكن تلك حوزة وبطن مكة حوزتي التي حزت لنفسي دون خلقي، فأنا الله، دونكه أهلها بقربي وجيران بيتي وعمارها وزوارها وفدى واهنأني في كنفي وضماني وذمتي وجواري أجعله أول بيت وضع للناس وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجًا شعثًا غبرًا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق بالتكبير عجيجًا، ويرجون بالتلبية رجيحًا، فمن اعتمره ولا يريد غيري، فقد زارني وضافني ووفد إلى ويؤت لي، فحق لي أن ألحقه بكرامتي، وحق الكريم أن يكرم وفده، وزواره وأضيافه، وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته يعمره، يا آدم ما كنت حيًا، ثم تعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء من ولدك، أمة بعد أمة، وقرنًا بعد قرن ونبيًا بعد نبي، حتى ينتهي ذلك إلى نبي من ولدك، يقال له محمد، وهو خاتم النبيين، فاجعله من عماره وحماته وولاته وحجابه وسقائه يكون أمنيتي عليه ما دام حيًا. فإذ انقلب إلي وجدني قد دخرت من أجره وفضله ما يتمكن منه من القربة إلي والوسيلة عندي وأفضل المنازل في دار المقامة، واجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه ومكرمته لنبي من ولدك، يكون مثل هذا النبي وهو أبوه إبراهيم، ارفع له قواعده، واقضي على يديه عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه حله وحرامه ومواقفه، واعلمه مشاعره ومناسكه، واجعله قانتًا قائمًا بأمري داعيًا إلى سبيلي، أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم، أبتليه فيصبر، وأعافيه فيشكر، وآمره فيفعل، وينذر لي فيفي، فيعدني فأنجز. أستجيب دعوته في ولده وذريته من بعده، واشفعه فيهم، واجعلهم أهل ذلك البيت، وولاته وحماته وسقاته وحرمه وخزانه وحجابه حتى يبتدعوا أو يغيروا ويبدلوا، فإذا فعلوا ذلك، فأنا أقدر القادرين على أن أستبدل بمن أساء، واجعل إبراهيم إمام ذلك البيت وأهل تلك الشريعة قائم به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن يطوفون فيه آثاره، ويبتغون فيه سنة، ويقتدون فيها بهداه. فمن فعل ذلك منهم أوفي نذره واستكمل نسكه، وأصاب نعتمه، ومن لم يفعل ذلك منهم ضيع نسكه ولم يوف نذره، وأخطأ بغيته. فمن سأل عني: أين أنا؟ فأنا مع

الشعث الغبر الموفين نذورهم، المستكملين مناسكهم، المبتهلين إلى ربهم، الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون. وهذا الحديث يدل على أن البيت إن لم يكن موضوعًا حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض، هذا ظاهره. وقد يحتمل أن يكون موضوعًا، وإنما أراد الله بقوله: سيأتونك منها بيتًا لي أدلك عليه وأرشد إليه، وأن قد وضع، وكل بيت ذكرته، فإنما يوضع بعده. فصل وإذا ظهر أصل الحج، فالحج أن يتجرد من يريده عن لباس العباءة ويلبس ازازًا أو رداءًا ويلبي، معتقدًا أنه قد أحرم بحج، وذلك في وقت الحج. فإن وصل إلى البيت قبل عرفة طاف وسار ثم خرج إلى عرفة يوم عرفة، ووقف بها بعد زوال الشمس إلى غروبها، ثم أفاض إلى المشعر الحرام، وأقام به حتى يصلي الصبح، ثم يدفع إلى منى، فإذا طلعت الشمس رمي جمرة العقبة بسبع حصات، وإن كان معه هدى ذبحه أو نحره، ثم حلق رأسه ثم أفاض إلى مكة، يأتي البيت، وذلك يوم النحر، وطاف سبعًا، وصلى خلفها وخلف كل طواف إذا فرغ منه ركعتين، ويخرجه السعي الذي قدمه، فإن لم يكن سعى من قبل هذا اليوم بعد الطواف، ثم عاد الليل إلى منى ويقيم بها ثلاثة أيام. يرمي بالجمرات الثلاث كل يوم بعد زوال الشمس بإحدى وعشرين حصاة، وكل جمرة سبع. وإن شاء أن ينفر الثالث نفر. فإذا فرغ مما ذكرت، فقد فرغ من الحج. ويحرم عليه إذا أحرم ولبس المخيط وحلق الشعر، وتقليم الأظافر، وقتل الصيد والاستمتاع بالنساء والنكاح والتطيب، ويحل له منها إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر، كل شيء إلا النساء. فإذا طاف وسعى حل له كل شيء ما كان حرامًا عليه، والفرض من الأعمال التي قدمت ذكرها الإحرام، وأدنى الوقوف بعرفة في وقته والطواف يوم النحر، والسعي وما شاء منها إلا يتفرغ. وكل ذلك مذكور في كتب الأحكام، وإنما نورد في هذا الكتاب ما يعلم أنه يشذ عني غيره أو يتعدد وجوده مجتمعًا فيه، فنقول -وبالله التوفيق -: أن الحج عبادة تجمع الإيمان وعامة العبادات التي هي من أركانه، لأن نفسه إيمان، وما

فيه من الإحرام الجامع لهذه المحظورات التي سبق ذكرها، يضاهي إحرام الصلاة التي يحرم به الكلام، وكشف العورة والإعراض عن القبلة، والمشي وسائر الأعمال التي ليست بصلاة، إلى غير ذلك. ويضاهي الصلاة المحرم للطعام والشراب والمباشرة، وأما ما فيه من التلبية، وأذكار الوقوف والطواف والسعي، فهو شبيه بأذكار الصلاة في القيام والركوع والسجود والقعود، وما فيه من الطواف والسعي فيشبهان بركعات الصلاة. وما فيه من المقام بمنى والرمي، فإنه شبيه بالمرابط في سبيل الله والجهاد. وأما الوقوف بعرفة والمشعر الحرام فشبه بالاعتكاف في المساجد. وأما ما يلزم على حضور هذه المشاهدة، وتكلف هذه المناسك من مزية في المال فهو نظير الزكاة. فقد اجتمعت في الحج معاني العبادات كلها، فمن حج فكأنما صام وصلى واعتكف وزكى ورابط في سبيل الله وغزا. وقال أبو الشعيا جابر بن يزيد: الصوم والصلاة يجتهدان البدن ويجهدان المال والصدقة تجهد المال ولا تجهد البدن. وأني أعلم شيئًا أجهد المال والبدن من هذا الوجه -يعني الحج. وفي ذلك ما يبين عظم قدر الحج وجلال موقعه من العبادات. فصل ثم أن أعرض الحج أن الناس كما أنهم لما كانوا لا يتمالكون من أن يعرض فيهم في العبادة الكسل، ويتصل بكثير من طاعاتهم الخلل، فكان تعالى رحيمًا بعباده، ورفقًا بجميع خلقه، نظر لهم بأن جعل لهم أوقاتًا معلومة ضاعف ثواب أعمالهم، ودلهم عليها ليكون ذلك متعة لهم على الجد في العمل، حتى إذا فعلوا ما أمرهم به، ورغبوا فيما رغبهم فيه، غدا اليسير من عملهم كثيرًا. بها، جزاء موفورًا، فكذلك لما كانوا لا يتماسكون عن أن تبدر منهم بوادر العصيان، ويجدف منهم حوادث الإسراف والطغيان بين لهم في الدنيا معادًا يعودون إليه إذا أرادوا النزوع عما أسخط الله تعالى معتصمًا يعتصمون به، إذا هموا بالرجوع إلى ما يرضي الله عز وجل، فجعل ذلك حج بيته الحرام، ووصف لهم

مثابًا ومنابًا يقصدونه إذا ثابوا إليه، لأنهم لا يعضلون إلى عبادة، وليس يدني مكاني فيقعدني مكانه، وإذا نظروا لم يجدوا موضعًا يحققون الإنابة إليه بحضوره أولى من البيت المشرف باسمه، الحرم بحرمته، المجعول وجهه قبلة للمصلين، وما حوله للطائفين. فيقومون البيت منصورين بضم العبيد إلا ثابوا المستعصين، يريدون الرجوع إلى مولاهم حتى إذا بلغوا الميقات، وفضوا ملابسهم المعتادة، واغتسلوا ولبسوا الرباط كما يفعل بالحي إذا مات، فيغسل ويكفن في الرباط، كأنما هجروا الدنيا وزينتها، وخلفوها وراء ظهورهم، واحرموا عائدين على أنفسهم أن يدوموا على ما هم عليه، ولا يتلذذوا بطيب ولا مباشرة، ولا يلهوا باصطياد، ولا يتنعمون بأخذ شعر، ولا بتقليم ظفر، إلى أن يأذن الله تعالى لهم فيه، متصورين بصورة العبيد الذين ذكرناهم إذا أشرفوا على بلد مولاهم، فغيروا أحوالهم وتهيبوا بهيبة الخشوع والذلة، منتظرين ما يمن به عليهم مولاهم من العفو، فيكون من أقلهم تلك الحال عند ذلك لا قبله. فإذا وصلوا إلى مكة ثم يعرجون على شيء دون الطواف، كما أن العبد الراجع بعد فطافوا حول البيت متصورين بصورة عبد لاذ بسيده، وهو يقول له: أن لك وإليك، لا مذهب لي عنك، ولا منقلب إلا حولك، وذاك أن الطواف إذا كان حول البيت، كان الطائف لازمًا بالبيت لكل حال. وكلما ذهب عن وجه البيت إذا افتتح طواف أعاد إليه إذا ختمه، فكأنه يقول: أينما ذهبت فلست بذاهب عنك، وحيث ما مضيت، فإني راجع إليك، والإشارة في ذلك إلى أن بنت وأتيت، فلست المحدث ما يبعدني عنك، وأن أكون جلال ما ألابسه من الأشغال والأعمال خارجًا إلى ما يسخطك، كما أني في ذهابي عن باب بيتك طائعًا لست مهاجرًا إياه، ولا مفارق له، ولكني متمسك بجوار عابد إذا استدرت عن قيامه. وله وجه آخر: وهو أنه قد جاء يزور البيت، ولكل حرمة الحرمة التي بجميعه، فلا يكون محدثًا عهدًا بجميع آخر البيت إلا بأن يستدير حوله، فاحتاج إلى الطواف لذلك، ثم الزيادة على المرة الواحدة للولوع بما أصاب، والحرص على الإستنكار منه وإظهار السرور به، وكل ذلك ملائم للعادات ليس بخارج منها. وله وجه آخر: وهو أن يتصور الطائف بصورة من إناء البيت من أحد وجوهه، فخاف صدا فيجاوزه إلى وجه آخر، فخاف صدا فيجاوزه إلى وجه ثالث، فخاف صدا

فيجاوزه إلى الرابع، فخاف صدا فعاد إلى الأول، ثم لم يزل يستدير ويتحول من صفحة إلى صفحة حتى استكمل سبعًا موعد الآذن وبشر بالقبول، وقيل له: قد وقع فعلك موقعه فانصرف الآن إلى يوم الزيارة. ويخرجون إلى عرفة كان مباح الزوار جعل فيها لأنها من الحل فلا ينبغي لمن لم يؤذن لقاء الزيارة، وهي من همه أن يقوم مقامه في الحرم، ومنه يزور لأن الزائر في العادة من يقصد غيره وهو بمعزل عنه. فأما من كان عنده فلا زيارة تقع منه له. وإذا كان حرم البيت كالبيت فالمقيم فيه كالمقيم في البيت أو عنده، فلا تتعذر منه زيارته، فجعل مجمع الزوار قبل مجيء وقت الزيارة عرفه، فإذا جمعوا بها وبقوا طويلاً، ودعوا وتضرعوا حتى إذا طال ذلك عليهم وجن الليل، إذن لهم في تورد الحرم والدنو ليلاً، فيأتون المزدلفة ويقيمون بها ليلهم داعين ضارعين، حتى إذا أسفر النهار، قدموا منها إلى منى، وأمروا أن يرموا بها جمرة العقبة بسبع حصاة كأنهم مخاطبون الشيطان ويقولون: لا مطمع لك فينا بعد اليوم، فقد بايعناك وقطعناك. ويتصورون بصورة من يدخر عدوا ويقذفه يريد تنحيته عن نفسه وإبعاده، ويرمونه بسبع حصاة. كما يطوفون حول البيت سبعًا ليكون مكان كل طوفة بالبيت رمية وحرقة للشيطان. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون رمي الحصى تأويلاً لإسقاط الالواث والارجاس عن أنفسهم. كأنهم يقولون: قد طرحنا بذنوبنا وأحلامنا فتتبرأنا منها، كما القينا هذه الحصى من الدنيا، وأبعدناها عن أنفسنا. والرمي مثل الإبعاد. وفيه وجه آخر: وهو أن المناسك كلها موروثة عن إبراهيم عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وسلم {يا أيها الناس أقيموا على مشاعركم فإنكم على ارث من ارث أبيكم إبراهيم}. وروى أن إبليس أعرض له بمنى فزجره بحصيات رماه بها لئلا يفسد عليه نسكه، فأوجب حق الإقتداء به، أن يرمي مثل تلك الحصيات كل خارج، تبركًا لمبايعته، وإتباع سبيله. أن ترى أن الاقتداء بأمته في السعي، كيف كان واجبًا على ما يذكر في معناه فأولى أن يجب الاقتداء في الرمي به نفسه. وفيه وجه رابع: وهو ما روى أن الله عز وجل لما فدى إسماعيل بكبش، أتاه

إبراهيم بمنى، فلما هم بأخذه استعصى عليه، فلم يزل إبراهيم يرميه بالحصى حتى ألجأه إلى سفح الجبل فأخذه. فقد يجوز أن يكون رمي الحجاج للاقتداء بإبراهيم، وتفاؤلاً بأن رميه بالحصى عاد عليه بادراك بعثه. فيرمي أن ما لنا يزكيه، فيما نقتدي به منه، ويعذنا الله من النار كما أعاذ إسماعيل من الذبح والله أعلم. وفيه وجه خامس: وهو أن الطواف بالبيت لما عادل الصلاة، وهو فعل مجرد ذكر معه، فكذلك الرمي يعدل بالاستغفار، وإن كان فعلاً مجردًا لا ذكر معه. فالطواف التجاء والرمي استغفار. وكان الرامي يقول: اللهم ارم بأوزار عني كرمي هذه الحصيات. ويشبه أن تكون سبع حصيات قائمة مقام سبع استغفارات كل واحدة بعشرة فتلك سبعون. تم أمروا بتتابعها سبعون حصاة لتكون سبعين استغفارة بالحقيقة، والعدد دون التضعيف وذلك في أربعة أيام والله أعلم. ثم إذن لهم في حلق رؤوسهم ومعاودة العادات في لباسهم وتطيبهم تيسيرًا لهم بالقبول والاستعفاف، وتر فيها في العاجل بينهم. ثم قيل لهم: قد جاء وقت الزيارة، فأحضروا. فيلاحقون من منى إلى مكة، ويأتون المسجد متوجهين نحو البيت، حتى إذا دنوا من البيت بدأوا فقبلوا الحجر الأسود كأنما قصدوا متعظمًا، فيكشف لهم عن يمينه، لأن الحجر للبيت بمنزلة اليد، فإنه منصوب في وجه البيت من قبل اليمين. وقيل أن تقبيل الحجر بمنزلة تقبيل العبد باب دار سيده، إذا لم يصل إلى تقبيل يده، فكذلك لما استحال أن تكون فيه خارجة تلمس وتقبل عنه على تقبيل باب بيته، ثم مضوا على إيمانهم وتركوا البيت على يسارهم حتى تطوفوا سبعًا، فإذا عرفوا خرجوا على المسعى فسعوا بين الصفا والمروة متيمنين به متقابلين لدرك المراد والوصول إلى البغية. إذا كانت هاجر لما سعت بينهما ورجعت إلى إسماعيل وجدته، وقد كفاها الله فيه ما كانت بحذره، وأنيط له من الماء ما كانت تطلبه، فلذلك يرجو كل حاج أن يرجع من السعي إلى ما جاء يطلبه، ذلك العفو والمغفرة، ويحلون بعدما ذكرنا الحل الكامل، فكأنما قيل للضارب منهم: ما مضى فقد مضى، فاستأنف العمل. ثم يرجعون إلى منى ويقيمون بها ثلاثًا يرمون كل يوم إذا زالت الشمس بإحدى وعشرين

حصاة، كل جمرة بسبع، فمن قال: أن المقصود بالرمي الشيطان جعل المقام بمنى، في هذه الأيام -بمنزلة المرابطة في سبيل الله. والرمي كل يوم منها بعد الزوال، بمنزلة ركضة تقع من العدو، فيرموا بالسهام ليزجروا على دار الإسلام. ومن قال: إن المقصود بها الاستغفار جعل المقام بما في هذه الأيام كالاعتكاف في المسجد، والرمي كل يوم منها بعد الزوال كالصلاة والاستغفار، وكل واحد منهما محتمل والله أعلم، وفي الوجهين يراد للثبات على حكم قصد البيت، وترك الاستعجال بالصدر عنه، والتبرك بالرجوع إلى الموضع الذي فيه لحقتهم البركة، ورجوا فيه آثار الوفاق، وإمارات القبول، وليكون قصدهم البيت لطواف الوداع والصبر منه، كما كان قصدهم إياه لزيادة منه، ولم يرجعوا إلى عرفة لأن عليهم بقايا نسك ليست بعرفة موضعًا، ولأنها كانت مباحهم حين كانوا محرمين وهم الآن محلون فكان المقام بمنى الذي الإحلال أليق بهم من المقام بعرفة والله أعلم. فصل ولأجل ما وصفنا به الحج من الكمال والتمام وبينا الغرض في التعبد به، لم يشرع في العمر إلا مرة واحدة، ولم يفرض إلا على من كمل حاله. فإن الفرض الكامل كما لا يليق إلا بكامل الحال، وإن كان الغرض من الحج الإنابة والتوبة والأعذار إلى الله تعالى، لم يلق به العدد، وكان دخول العدد فيه موهنًا أمره. فإن النفس إنما مالت من إعدادها إلى خلاف الجميل تعجلاً على بلاء فيه بما يستقله منها. وإذا كان الحج واحدًا كانت النفس من مثل هذا أنزع، والقلب من الهم به أنزع وبالله التوفيق. فصل ويرجع إلى ما بدأنا به من الكلام في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس}. فنقول: قد روى في الأخبار أنه أهبط لآدم خيمة من خيام الجنة، فضربت في موضع

ليسكن إليها، يطوف حولها، ولم تزل باقية حتى قبض الله آدم، ثم رفعت. وهذا من طريق وهب. وروى أنه أهبط معه بيت، فكان يطوف حوله والمؤمنون من ولده كذلك إلى زمن الغرق ثم رفعه الله، فصار إلى السماء. وهو الذي يدعي البيت المعمور، ويسمى الصراح. وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يصلون فيه، ثم لا يعودون إليه أبدًا. والذي وقع إلي من الحديث هذا لا يتجاوز إلى قتادة إلى آخر قومه. وجاء عن ابن عباس: إن آدم عندما أهبط إلى الأرض قال: يا رب، مالي لا أسمع صوت الملائكة وجنتهم؟ قال: خطيئتك، ولكن اذهب فابن لي بيتًا تطوف حوله كما رأيت الملائكة يصنعون حول عرشي. فأقبل آدم يتخطى حتى أتى مكة، فوضع البيت. فقد يجوز أن يكون معنى ما قال قتادة مع أنه أهبط مع آدم بيت، أي أهبط معه مقدار البيت المعقور، طولاً وعرضًا وسمكًا. ثم قيل له: أين بيت تقدره. ويجوز أن يكون في الأرض تختًا له، فكان خياله موضع الكعبة فبناها فيه. وأما الخيمة، فقد يجوز أن تكون أنزلت وضربت في موضع الكعبة، فلما أمر ببنائها، فبناها كانت في جوف الكعبة طمأنينة لقلب آدم، عاش، ثم رفع، فتتفق هذه الأخبار. ثم لما كان زمان الغرق رفع البيت الذي بناه آدم، فصار البيت المعمور، ذلك الذي كان معمورًا في السماء، أي بطل أثره بالغرق، فخاض البيت المعمور ما كان في السماء. وأما الذي كان في الأرض بحياله فإنه ضرب، ولم يزل خرابًا إلى أن أمر إبراهيم عليه السلام بتحديده. فاجتمع بما وصفنا للبيت من الفضائل الموجبة لتعظيمها، أنه بدل بخيمة من خيام الجنة كانت مضروبة. ثم أن أهله بني آدم صلوات الله عليه، وأنه أمر ببنائه ليكون له في الأرض مكان العرش للملائكة فوق السموات. ثم أنه يقدر البيت المعمور وحياله، ثم أنه رفع، وبقي ما بقي، فأراد الله تعالى تجديده، أجرى ذلك على يدي إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهما، وأحيى تلك المشاعر كلها بهما، وأراهما المناسك، ولم تزل باقية من ذلك الوقت إلى الآن تشهد وتؤدي حقها من الوجه الذي أمر الله عز وجل. ثم أن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء البيت؛ دعا فقال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً

منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم}. فاستجاب الله دعاءه وبعث فيهم نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: (أنا دعوة أبي إبراهيم) وإذا كان كذلك فهو إذًا من بركات البيت وخيراته، إذ كان سببه الدعاء الذي دعا به إبراهيم ربه لحين فرغ من بنائه، واجبًا أن تكون طاعته له لي ببناء البيت وسيلة يوفى بها سؤله، وتستجاب دعوته. ثم أن الله عز وجل خلق نبينا بمكة وبناءه فيها، وابتدأ تنزيل الكتاب عليه فيها. وفتحها بعد استيلاء المشركين عليها له وعلى يده، حتى طهر البيت من أرجاس المشركين وأخرج الأصنام والتماثيل التي كانوا نصبوها فيه منه. وأعاده ركنًا نقيًا كما كان مكان البناء والعمارة جاريين على يدي إبراهيم وإسماعيل والتنزهه والطهارة واقعين على يدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جميعًا. ثم أن الله عز وجل جعله قبلة للناس، فقال {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} وأن فرض مع هذا كله قصده وزيارته، وأمر عباده أن يخفوا حوله بالطواف إظهارًا للولوع والملازمة له، كما يحف العبيد ببيوت ساداتهم، ثم يشرع لهم لذلك القصد آدابًا، وهيأ قبله أسبابًا، بها يتم منهم التعظيم، ويكمل الإجلال والتفخيم، ويتوفر التشريف والتكريم كما سبق بيانه حبًا به، وتفضيلاً لم يكن في ذلك ما ينكره إلا ضعيف عقله سفيه، وأنه كما قال الله عز وجل: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} وبالله التوفيق. فصل فأما ما دون البيت فإن المسجد فلا يعتد به، وأما خارج المسجد ففي تقدير الحرم

للمسجد إلى آخر حدود الحرم، وجملة الحرم ما أذكره وهو على طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت تقارب ثلاثة أميال، ومن طريق اليمن طرف أصله لبن في بينة لبن سبعة أمثال. ومن طريق جدة منقطع الأعشاش عشرة أميال، ومن طريق الطائف على طريق عرفة من بطن نمره أحد عشر ميلاً، ومن طريق العراق على بينة جبل بالمنقطع سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة شعب أبي عبد الله بن خالد سبعة أميال. وجاء في الآثار: أن إبراهيم أول من نصب أنصاب الحرم، وأن جبريل عليه السلام دله على مواضعها، فإن غنم إسماعيل كانت ترعى في الحرم، ولا تجاوزه ولا تخرج، فإذا بلغت منتهاه من ناحية من نواحيه رجعت حنانة فيه. وقيل أن حدود الحرم مواقف الملائكة التي كانت تحرس آدم لئلا تؤذيه الشياطين والسباع، ثم أنه قد جاء في تعظيم البيت والحرم أخبار: فمنها ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وقف على الحجون يوم الفتح فقال: (والله أنك لخير أرض وأحب أرض الله إلى الله، ولو أني أخرجت منك ما خرجت). وقال: (إن مكة حرام حرمها الله يوم خلق السموات والأرض والقمر، ووضع هذين الأحبشين لم تحل لأحد قبل، ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس، وهي في ساعتي حرام هذه لا يجلى جلاؤها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يرفع لقطتها إلا منشدها! فقال العباس: يا رسول الله، إلا الاذخر فقال: إلا الاذخر). وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمسلط بالحروب ليذل من أعز الله، أو يعز من أذل الله، والمستحل من غير في ما حرم الله، والتارك لسنتي). ومعنى قوله (وكل نبي مجاب الدعوة) أراد بقوله (ستة لعنهم الله) الدعاء لا الخبر، ثم قال: (وكل نبي مجاب الدعوة) أي قد دعوت عليهم، وأنا نبي، والنبي لا ترد دعوته. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (كان النبي إذا

هلكت أمته لحق بمكة فتعبد فيها ومن معه حتى يموت، فإن بها نوح وهود وصالح وشعيب، وقبورهم بين زمزم والحجر). وعنه صلى الله عليه وسلم: (لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا ضيعوها هلكوا). وعنه صلى الله عليه وسلم: (لا يكون بمكة سافك دم، ولا آكل ربا ولا نمام). ومعناه: لا ينبغي لساكنها أن يكون أحد الثلاثة، فإن لم يتمالك فليفارقها ولا يهتك حرمة حرمها الله بتعاطي الفواحش فيها. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (الركن اليماني والركن الأسود روضة من رياض الجنة). وروى أن إبراهيم قال لإسماعيل عليهما السلام: ائتني حجرًا أجعله للناس آية فذهب إسماعيل ثم رجع ولم يأته بشيء، ووجد الركن عنده. فلما رآه قال: من أين لك هذا؟ قال إبراهيم جاء به من لم يكلني إلى حجرك، جاء به جبريل. قال: فوضعه إبراهيم عليه السلام في موضعه هذا، وأنار شرقًا وغربًا ويمنًا وشامًا، فحرم الله ما انتهى إليه نور الركن من كل جانب، وهذا قول آخر في تحريم الحرم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات بمكة فكأنما مات في السماء الدنيا ومن مات في أحد الحرمين حاجًا أو معتمرًا بعثه الله عز وجل يوم القيامة لا حساب عليه ولا عذاب). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من نظر إلى البيت إيمانًا واحتسابًا غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وحشر يوم القيامة في الآمنين). وعنه صلى الله عليه وسلم: (صلاة في المسجد الحرام بألفي صلاة في سواه. وجاء لألف وخمسمائة) وعنه صلى الله عليه وسلم: (من جلس مستقبل الكعبة ساعة واحدة محتسبًا حبًا لله ورسوله، وتعظيمًا

للقبلة، كان له أجر الحج والمعتمر والمحافظ والمرابط الصائم القائم، وأول من ينظر الله عز وجل من عباده أهل الحرم. فمن يراه طائفًا غفر الله له، ومن رآه قائمًا عفر له، ومن رآه جالسًا مستقبل القبلة غفر له). وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل خلق لهذا البيت عشرين ومائة رحمة ينزلها كل يوم، ستين للطائفين وأربعين للمصلين وعشرين للناظرين). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من صبر على حرمة مكة ساعة من نهار تباعدت عنه النار، وتقربت منه الجنة، ومن مرض يومًا بمكة كتب الله له من العمل الصالح الذي كان يعمله عبادة ستين سنة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن الركن والمقام يأتيان يوم القيامة ولهما عينان ولسانان وشفتان، يشهدان لمن وافاهما بالتصديق). وقال: (أنه لم يبق في الأرض شيء من الجنة غير هذا الحجر، ولولا ما مسه من أنجاس المشتركين ما استشفى به ذو عاهة إلا برأ). ويجور أن تكون الجنة في هذا الحديث الجنة التي كان فيها آدم. وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن أسلافهما جعلاه للخطايا). ومن قبل هذا قصة الفيل وهي سابقة للإسلام، وما كان للحبش من قصد الكعبة بالتخريب وسوق الفيل إليها، وأخذ الله إياهم وتنكيله بهم كما اقتصه في كتابه، فلو لم يكن جلال قدر الحرم برهان سوى هذا المكان على الكفاية زائدًا. وقد ذهب بعض الناس في قوله عز وجل: {وليطوفوا بالبيت العتيق}. إلى أن المراد به إعتاق الله تعالى إياه من الجبابرة، فلا يذكر أن درأ أحد منهم امتدت إلى أهله. يروى هذا الخبر عن مجاهد، وأن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على

الكعبة حتى كسرها، قيل إنما أعتقها عن كفار الجبابرة لأنهم إذا كانوا بأنفسهم متمردين وبحرم الحرم غير معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء، فعصمها الله منهم، ولم تنلها أيديهم، كان ذلك دلالة على أن الله تعالى صرفهم عنها جرًا. فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها، فإنهم لئن كفوا عنها، لم يكن في ذلك من الضلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف الأعداء، فنصر الله تعالى هذه الطائفة على الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوز إلى الصرف بالإلجاء والاضطرار، وجعل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر. وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: إن كانت الأمة من بني إسرائيل لتتقدم مكة، فإذا بلغت ذا طوى، خلعت نعالها تعظيمًا للحرم، وكان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاتان: أحدهما في الحل، والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاين الأهل عاينهم في الحل. وإذا أراد أن يصلى صلى في الحرم. فقيل له في ذلك: إن كنا لنحدث أن أمر لحال في الحرم أن يقال: كلا والله، وبلى والله، وقال ابن عباس: استشارني الحسين بن علي رضي الله عنهم في الخروج، فقلت له: لولا أن تدري من أبوك لألبست يدي في رأسك، فقال لئن أقبل فكان كذا وكذا، أحب إلي من أن يستحل بي الحرم، فذلك الذي لوت بنفسي عنه. قال طاووس: والله ما رأيت أشد تعظيمًا للمحارم من ابن عباس. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لخطبة أصبتها بمكة أعز علي من سبعين خطبة بغيرها، وكان يقول لفريقين يا معشر قريش، الحقوا بالأقارب. فهو أعظم لأخطائكم وأقل لأوزاركم، يعني أن تتعاب الذنوب في الحرم أعظم وأثقل. وسئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن يقيم بمكة فأبى. وسئل: لم تأت فقال: مخافة الحدث، ووافق أمره شهر رمضان بمكة فخرج منها إلى الطائف وصام بها. وقال سعيد بن المسيب لرجل من أهل المدينة وأوفى مكة، وذكر أنه جاء بطلب العلم: ارجع إلى المدينة، فأنا كنا نسمع أن ساكن مكة لا يموت حتى يكون الحرم عنده بمنزلة الحل لما يستحل من حرمتها.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أهل مكة لا تحتكروا الطعام، فإن احتكار الطعام للبيع بمكة الحاد، يعني بقول الله تعالى: {ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ظلم الخادم فما فوقه في الحرم الحاد. وقال ابن عباس: حج الحواريون فما دخلوا لحرم فثبتوا تعظيمًا للحرم، وكان أهل الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويسفك بعضهم دماء بعض، فإذا رأى أحدهم قاتل ابنه وأخيه في الحرم أو في الشهر الحرام أو محرمًا أو مقلدًا هديًا لم يعرض له وذلك لما توارثوه من تعظيمه من لدن إبراهيم إلى ذلك الوقت. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه، وقال ابن عمر: لو وجدت فيه قاتل عمر ما يذهبه، وقال عبد الله بن عمر: أن الحرم محرم مقداره من الأرض في السموات السبع، وأن بين المقدس مقدس مقداره من الأرض في السموات السبع. وقيل لعكرمة ما قوله لا ينفر صيدها؟ قال: أن تحوله من الظل إلى الشمس وينزل مكانه. وقال طاووس رحمه الله: يكره السجن بمكة، ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة. وفي الحرمين زمزم، جاء في الروايات أن جبريل بسطه الله للنبي إسماعيل صلوات الله عليه من إبراهيم صلوات الله عليه خليل الخليل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا زمزم، لما شرب منه). وقال: (زمزم لا يبرح ولا ينزم، ويسقي الحجيج الأعظم) وجاء عن بعضهم: طعام من طعم وشفاء من سقم. وقال الحسن رضي الله عنه: يقال أنه يستجيب الدعاء بمكة في خمسة عشر موضعًا:

عند الماء، وتحت الميزان، وخلف المقام، وفي الطواف وبعرفة ومنى ويجمع، وعند الحجرات الثلاث، وعلى الصفا والمروة، وفي البيت، وعند زمزم، وفي المشعر. وما يبين عظم تحريمة المعظم، أنه ليس لأحد أن يدخله إلا محرمًا لحج أو لعمرة إلا من كان يتردد من أهلها من الحل إلى الحرم، ومن الحرم إلى الحل في حوائج أهلها كالحطابين والدعاة وحملة الألبان، الذين يتعذر عليهم أن يجمعوا بين النسك وبين ما هم بصدده من الشغل. واتفق العلماء على هذا حتى قال بعضهم: أن دخل الحرم بغير إحرام فعليه القضاء، فبان بجميع ما اقتضيناه جلال قدر الحرم وما يلزم من تعظيمه وتفخيم أمره والله أعلم. ثم جاء في فضل الحج والعمرة والحث على المبايعة بينهما، والتغليظ على تارك الحج، مثل ما جاء في تعظيم شأن الحرم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر، كما ينفي الكير خبث الحديد). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان عنده مال يبلغه الحج فلم يحج، أو عنده مال تحل فيه الزكاة فلم يزكه، سأل عند الموت الرجعة). فقيل يا ابن عباس: أنا كنا نرى هذا للكافر! قال: إنما اقرأ عليكم به قرآنًا: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت، فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}. قال الحسن بن صالح في تفسيره: فأزكي وأحج. وقال سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسره، ولم يحج لم أصل عليه. وقال الأسود لمولاه حقلاص: هل حججت، لئن مت ولم تحج لم أصل عليك، وقال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من جهاد في سبيل الله، أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (الحجاج والمعتمرون وفي الله بحظهم ما سألوا ويخلف عليهم نفقاتهم) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة تكفر إلى العمرة، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه، وغزو لاغلول له، وحج مبرور) وعنه صلى الله عليه وسلم: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه). وعنه صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر للحجاج ولمن استغفر له الحاج). وعنه صلى الله عليه وسلم: (النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف) وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: إن عبدًا صححت له جسمه وأوسعت عليه مني المعيشة، يمضي عليه خمسة أعوام ولا يعد إلي محروم). فصل وإذا ثبت عظم قدر المحرم وثبت فرض الحج وفضله، وظهر معناه وغرضه، فمن آدابه أن يبدأ فيحاسب نفسه ثم يبرئها مما يلزمها من المظالم والآثام ويتوب إلى الله عز وجل، ويندم مما فرط منها في الطاعات، وفارقه من السيئات، وينزع عنها، ويستغفر الله تعالى منها ويعزم على أن لا يعود إليها، وأبعد نفقته من أطيب مال وأجله. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب، وأن الله أمر المؤمنين بما أمر

المرسلين). وقال الله عز وجل: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا} وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل الشعر أشعث أغبر، حمد يديه إلى السماء، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وقد غرق في الحرام، فأني يستجاب له؟ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا يمم هذا البيت حاج فكسب حرامًا فشخص في غير طاعة، حتى إذا أقل ووضع رجله في الركاب وابتغيت به راحلته وقاله: لبيك، اللهم لبيك، نادي مناد من السماء، لا لبيك ولا سعديك، كسبك حرام وقيامك حرام، وزادك حرام، ارجع مأزورًا غير مأجور. وإذا خرج حاجًا بالمال الحلال ووضع رجله في الركاب وابتغيت به راحلته، فقال: لبيك اللهم لبيك، نادي مناد من السماء، لبيك وسعديك، راحلتك وثيابك حلال، وزادك حلال وحجك مبرور، فابشر بما يسرك، استأنف العمل ويتزود منها ما يحتاج إليه، فإن الله عز وجل إنما أمر بالحج من يستطيعه). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الاستطاعة الزاد والراحلة). وروى أن رهطًا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ففيهم أنزل الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}. فقد يحتمل أن يكون المعنى في هذا، قال: خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة أو الحاجة إلى السؤال والتكفف. وقال عبد الله بن الزبير وقد تلا هذه الآية: كان الناس يتكل بعضهم على بعض في الزاد، فأمروا أن يتزودوا. وقال عكرمة: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون يقولون نحن متوكلون، فإذا جاءوا مكة: سألوا الناس، فأنزل الله تعالى {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}. وكان النبي في مسيرة راحلة عليها زاده، وقدم عليهم ثلاثمائة رجل من مرتبه: فلما

أرادوا أن ينصرفوا قال: (يا عمر، زود القوم ولا تخاطر بالخروج وحده أو في رفقة غير قومه أو يسألونك طريق بحر هائج، فإن الخطر بالنفس ليس من البر). وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (من ركب البحر في حال ارتجاجه فقد برئت منه الذمة، فإذا أراد الخروج من بيته فليودع بيته ركعتين يصليهما لله عز وجل، ويدعو على أثرهما لنفسه بالسلامة وحسن الغربة، ولأهله ولولده وماله وسائر ما يخلفه بالسلامة والكفاية). جاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما خلف عبد خليفة على أهله وماله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرًا). وقال علي رضي الله عنه: إذا خرجت في سفر فصل ركعتين، وإذا قدمت فصل ركعتين والدعاء لأهل، ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج في سفر قال: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم أصبحنا في سفرنا واخلفنا، إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، ومن الجور وبعد الكدر، ودعوة المظلوم وسوء المنظر في الأهل والمال، اللهم اقبض لنا الأرض وهون علينا السفر) فإذا نهض من مجلسه قال: (اللهم بك انتشرت وإليك توجهت، وبك اعتصمت، وعليك توكلت، اللهم بك نفنى وأنت رجائي اللهم الفناء ما همني وما لا أهتم له، وما أنت أعلم به مني، عز جارك، وجل ثناؤك ولا إله غيرك، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي ووجهني للخير أينما توجهت). ويودع أهله وسائر من يخلف عنه من أهل داره وغيرهم إذا أراد مفارقتهم فيقول لهم: (استودع الله دينكم وأمانتكم وخواتم أعمالكم) ويقول له مودعوه أيضًا: (نستودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك) ثم يخرج. فإذا خرج، لقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خرج من بيته قال: (بسم الله،

لا حول ولا قوة إلا بالله التكلان على الله). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خرج من بيته قال (بسم الله، اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل، أو يجهل علي). فإذا أراد أن يركب راحلته فليقل: (بسم الله)، وإذا استوى عليها فليقل: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون. الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إني ظلمت نفسي فاغفر لي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وينبغي له ولكل مسافر أن يكثر ذكر الله في سفره، وتجنب الغيبة والكذب، وكل ما لا يرضاه الله. فإنه روى أن رجلاً أراد السفر فقال: يا رسول الله، أوصيني فقال: (أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف). وقال جابر: كنا إذا كنا في الأسفار، فصعدنا كبرنا، وإذا انحدرنا سبحنا، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد أكمة أو بشر قال: (اللهم لك الشرف على كل شرف، ولك الحمد على كل حمد). وإذا أشرف على بلد أو قرية يريد نزولها فليقل إذا رآها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير قرية ويريد دخولها إلا قال حين يراها: (اللهم رب السموات السبع وما أقللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أنا نسلك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها). وفي حديث آخر أنه كان يقول: (اللهم ارزقنا جناها وجنبنا وباءها، وحببنا إلى أهلها وحبب إلينا صالحيها). وإذا أصبح في سفره فليقل ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر فأسحر يقول: (سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، فانا نحمده على أنه صاحبنا فاضل علينا وأنه

عائذ به من النار). فيكون قوله: سمع بما كان من نعمة الله علينا، وبحمدنا فإنه صاحبنا فأفضل علينا، فنحن نحمده على ذلك ونستعيذ به من النار. ومن الناس من يقول: صاحبنا فأفضل علينا، يعني النداء. وإذا أقبل الليل فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سافر فأدركه الليل قال: (يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يخرج منك، وشر ما يدب عليك. وأعوذ بالله من أسد وأسود وحية وعقرب، ومن شر ساكني البلد ووالد وما ولد). وإذا نزل منزلاً، فإنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، لم يضره في ذلك المنزل شيء حتى يرتحل منه). وحسن أن يتعوذ عند إقبال كل ليلة وإقبال كل نهار بالمعوذتين، وكذلك إذا نزل منزلاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما تعوذ المتعوذون بمثلهما). وكلما ارتحل من منزل ودعه بركعتين، فإنه يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فنزل منزلاً، فأراد أن يرتحل ودع المنزل بركعتين. وإذا طال السير ومل الناس وخيف أن يغلب النعاس، فلا بأس أن يحدو الحادي وينشد المنشد من أراجيز الأعراب التي لا عناء فيها ولا فحش. ولا يسبت بمن لا يحل، يرون أن البراء كان حميد الحداء وكان حادي الحال، وكان أبخشة يحدوا بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلما حدا أعتقت الإبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أنجشة، رويدًا سوقك بالقوارير). وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير من مكة إلى المدينة في جوف الليل إذا سمع رفقة فيها حادي، فأتاهم هو وصاحب له، فسلم ثم قال: (من القوم؟ قالوا: من مضر. قال: وأنا من مضر، ونادي حادينا فسمعنا حاديكم فدنونا منه: يا رسول الله، أما أنا نقول: أنا

أول حي سن للحداء. كان منا رجلاً يسوق ابلاً له، فاشتكى يده، فجعل يقول: وايداه وايداه، فجعلت الإبل تنساق وتجتمع، فإذا سكت تفرقت. فنحن نقول: إنا أول من سن الحداء). وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير فقال لعبد الله بن رواحة: (يا عبد الله ألا تحرك بنا الركاب، فنزل فجعل يسوق بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام أن لاقينا أن الذين قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحمه). ومر عمر رضي الله عليه برجل يغني وهو محرم، فقيل لعمر: انظر إلى هذا يغني وهو محرم فقال عمر: أن الغناء زاد، وكان سعد بن مالك يتغنى بين مكة والمدينة وهو محرم فقال له: أتتغنى وأنت محرم؟ فقال: هل تسمعني أقول بأسًا، وقال عمر لحاد: أحد ولا تعرض لذكر النساء، وليعاشر رفقاه بالمعروف، وليكن لهم جانبه ويوسعهم خيره، وليكفف عنهم شره أساؤوا أو أحسنوا، وعرفوا حقدًا أو لم يعرفوا. قال الله عز وجل {وبالوالدين إحسانًا وبذي القربي واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب، والصاحب بالجنب}. وقيل في تفسير: الرفيق في السفر، وليختر لصحبته ومرافقته الأخيار وذوي الأخلاق الحسنة والشمائل المرضية. يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تصحب إلا مؤمنًا ولا تأكل طعامك إلا تقي). وعنه صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الفرس في أخيه يجول ثم يرجع إلى أخيه، وأن المؤمن يسهو ثم يرجع إلى الإيمان واطعموا طعامكم الأتقياء، وولوا معروفكم المؤمنين).

وقال شعيب السمان، قلت لطاووس: إني صحبت قومًا إلى مكة ورأيت في أخلاقهم سوءًا، فجعل الرجل يلقاني فيقول: كيف وجدت صحبة رفقاتك! أخبر عنهم، فقال: لا تخبر عنهم، وقال عمرو بن العاص لقومه: ليس الواصل من فضله من وصله، ويقطع من قطعه قالوا: وما ذاك؟ قال: ذاك المنصف. إنما الواصل من يصل من وصله ويعطف على من قطعه. وليس الحكيم الذي يحلم عن قومه ما حملوا عنه، فإذا جهلوا عليه جاهلهم، إنما ذاك المنصف. إنما الحليم من يحلم عن قومه ما حملوا عنه، فإذا جهلوا عليه حلم عليهم. وأولى من هذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: (ألا أدلكم على أفضل مكارم الأخلاق، قالوا: بلى. قال: أن تعفوا عمن ظلمك، وأن تعطي من حرمك، وأن تصل من قطعك) ومما يؤثر عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: ليس الإحسان إن تحسن إلى من أحسن إليك، إنما ذلك مكافئًا المعروف، ولكن الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. وسئل ابن عباس وسعيد بن المسيب عن المدين هل له حج أم لا؟ قال: نعم، حج حسن جميل إذا اتقى الله وأدى الأمانة وأحسن إلى أصحابه. وإذا أراد السفر أن يترافقوا فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الأصحاب الرفقة، فإن لم يريدوا عليها كان ذلك أمكن لأسلافهم، وإن وافق الرجل غير قومه ما لم يكن في ذلك قطع رحم فهو خير). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اغزو مع غير قومك يحسن خلقك، وتكرم على رفقائك). وقال الحسن رحمه الله: لا تصحبن من يكرم عليك في السفر، فإن السفر يفرق بينك وبينه، وقيل لعون بن عبد الله: مالك لا تصحب فلانًا؟ قال: لنا أخلاق نكره أن نختبرها بقضاء من بعض، وإذا بلغ السفر ثلاثًا فصاعدًا، فينبغي لهم أن يؤمروا على أنفسهم أحدهم، فيسيرون إذا سار، وينزلون إذا نزل، ويتحرى لهم موضع نزولهم. فيقبلون منه. وإذا رأى أن يسير الليل دون النهار، والنهار دون الليل لم يخالفوه، وإذا نزل للصلاة نزلوا بنزوله، وإذا رأي تقديمها للجمع أو تأخيرها اتبعوه.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم، وأكثرهم قرآنًا أحق أن يكون أميرهم). روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثًا ذوي عدد واستقر أهم القرآن فأتى من أحدثهم سنًا، قال: (ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا، حتى ذكر سورة البقرة. قال أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم. قال: اذهب فأنت أميرهم). ويستحب للمسافر إذا كان رفيقه صالحًا أن يعينه ويكفيه بعض أمره. روي أن رفقة من الأشعريين خرجوا إلى الشام، فلما رجعوا، قالوا: يا رسول الله، ما رأينا رجلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من فلان، ما نزلنا منزلاً إلا قام يصلي، ويظل النهار صائمًا: قال: (من كان يرحل له، من كان يكفيه المهنة؟ قالوا: نحن: قال: كلكم أفضل منه). وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر، فصام قوم، وأفطر قوم. فضعف الصوام عن العمل، وعمل المفطرون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون بالأجر اليوم). وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (خادم القوم أعظمهم أجرًا) وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد القوم في السفر خادمهم). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على الرجل يراه يخدم أصحابه، وقال مجاهد: صحبت ابن عمر وما أريد أن أخدمه، وكان ابن عمر يريد أن يخدمني. وكان يأخذ لي الركاب فأخذه مرة فرآني كرهت ذلك. فقال: يا مجاهد إنك لضيق الخلق. وكان عامر بن عبد القيس إذا فصل عازمًا وقف ييوسم الرفاق، فإذا رأى رفقة توافقة قال: يا هؤلاء أني أريد أن أصحبكم على أن تعطوني من أنفسكم ثلاث خلال، فيقولون: ما هن؟ فيقول: أكن لكم خادمًا لا ينازعني أحد في الخدمة، وأن أكون مؤذنًا لا ينازعني أحد في الآذان، وأنفق عليكم بقدر طاقتي. فإذا قالوا نعم، انضم إليهم وإن نازعه أحد منهم شيئًا من ذلك رحل منهم إلى غيرهم.

وقال طارق بن شهاب: ضرب على الناس بعث، فخرج مع سلمان الفارسي فقلت: أخدمه. فجعلت إذا عجنت ذهب واختبز، وإن علفت الدواب ذهب واحتطب، فجعلت لا أعمل عملاً إلا عمل مثله وأفضل منه حتى جعل لا أدري أينا أفضل على صاحبه. وقال معاوية بن قرة: إذا اصطحب الرجلان فتقدم أحدهما فقد لبى الصحبة، وينبغي أن يبسط في الاتفاق إذا كان خارجًا إلى الحج. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف). وإنما يراد بهذا الإعانة والمواساة لا الإستكثار من ألوان الطعام والشراب. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حج مبرور ليس له جزاء إلا الجنة. قالوا: يا نبي الله، وما ترى الحج؟ قال: إطعام الطعام، وطيب الكلام). وإن اجتمعت الرفقة على المناهدة وتراضوا بها فلا بأس وقد فعلها قوم من السلف إلا أن تركها الشبه بالورع. وإن كانت الرفقة تجتمع كل يوم على طعام أحدهم، فذاك أحب إلي من الشهد، لأنهم يتناهدون إلا لنصب كل واحد منهم من ماله، ثم لا يدري أحدهم يقصر عن ماله، ويأكل غيره أكثر من ماله. وإن كان يومًا عند هذا، ويومًا عند هذا فلا شرط، فإنما يكونون أصنافًا وكل ما كان أشد انبساطًا منها دعي إليه، وكان أكرم على من دعاه، وأحب إليه. وقال أيوب السجستاني: إنما كان النهد أن القوم إذا كانوا في السفريسبق أحدهم المنزل فيدلج، ويهيء الطعام، ثم يأتيهم، ثم يسبق أيضًا إلى المنزل. فيفعل مثل ذلك. فقالوا إن هذا الذي يصنع، كلنا نحب أن نصنع مثل هذا، فتعالوا نجعل شيئًا فشيئًا، لا يفضل بعضنا على بعض فوضعوا لهديتهم، وكان الصلحاء إذا تناهدوا ويحتذي أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه أصحابه وإن لم يرضوه بذلك منه إذا علموا فعله سرا منهم دونهم. قال أحد أصحاب الحسن: كان الحسن يجازينا، فكان النهد يوضع على يدي فيعطيني

كما يعطي القوم في العلانية، ثم يأتي بمثله في السر. فأقول: يا أبا سعيد، هؤلاء المتبقون قوم مناكير. فيقول خذها أيها الرجل. وروى أن ابن عون كان في سفر، فقال: إذا أنفق كل واحد منكم على حدة فلم ير ذلك، فليخرج كل واحد منكم ما استطاع، ودليل ذلك رجل وأحب أن أكون ذلك الرجل. فقالوا: نعم. فأخرجوا ودفعوا إليه فجعل ينفق عليهم في سفره حتى أنفق عليهم مالاً من مال نفسه. فجعلوا يقولون يا أبا عون، فتقول الجماعة: فيها بركة، فلما انصرفوا استوي لكل إنسان منهم هديته، فدفعها إليه. وقال قتادة: أردت الخروج في سفر، فجاءني ابن عون، ومعه حماد بن يزيد فسلم علي وقال: أحفظ عني خلتين: عليك بحسن الخلق والبدل، ولا ينبغي السفر أن يعلقوا الأجراس في أعناق دوابهم، ولا أن يصحبوا (الكلاب) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس). وينبغي لهم إذا سافروا أن يرتفقوا بدوابهم ولا يحملوها فوق الطاقة شيئًا، ويعلفوها ويسقوها. فإن كان السير في الحرب، وكان في إسراع السير عليها تخليصها والتخليص عليها، فلا بأس بالإسراع. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الظهر حقها). وفي بعض الروايات (واعطوا الركب اشتانها) أي مكنونها، من اشتهاء والاشتان جمع لبان، أي دعوها ترتع. وقيل: هو حسن اللبان، وهو مثل ضرب الشحم واللحم، فإنها بكمالها تقوى على السير، فجعلهما لها بمنزلة السنان للمقاتل. وفي حديث آخر: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خصبت الأرض فأعطوا الظهر حقه، وإذا جدبت فانجوا عليها بنقيها) وإن لم يمنعهم من السير مانع فهو أولى، وإن سمعوا فيه صوتًا لا يعرفونه فليؤذنوا، وإذا أرادوا النزول ليلاً لنومة يتحممون بها،

أو التباس الطريق عليهم، فليتنحوا عن الطريق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتفرس على الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الحيات، وإذا تغولت عليكم الغيلان فافزعوا إلى الآذان). ومعنى أن الأرض تطوى بالليل: إن السير ينشر بالليل ما لا ينشر بالنهار فإن الناس قد يهتمون للأكل والشراب، فينزلون له، وربما تأخر واحد وتقدم واحد، فيسير كل واحد منهم كما يكون أرفق له اعتمادًا على صاحبه وأنه لا يضل مع الطريق ولا يخفي على الرفيق حال الرفيق، وقد ندعوا ذلك المتقدم إلى أن يقف على المتأخر فينتظره، وإذا سافروا بالليل اجتمعوا ولم يتخلف بعضهم عن بعض خيفة أن يضل المتخلف الطريق، وأن يخفى على المتقدم حال المتأخر فلا يقف على عارض إن عرض له، فيقيم عليه، ولا يتعلق القلب فيه بمأكل أو مشرب، وإنما يكون الهم كله السير، ومن شأن الدواب إذا تزاحمت أن تتسابق وترى كل واحد منها أن تسبق ولا تسبق، فهي لذلك تسرع السير (في الليل) وتطوي الأرض بأقدامها أشد ما تطوي بالنهار والله أعلم. ولا ينبغي لراكب دابة أو حامل عليها أن يلعنها أو يضرب وجهها، أو يضربها في غير وقت الضرب، أو فوق ما تدعو الحاجة إليه، فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة من الأنصار كانت على ناقة لها في بعض المسير فضجرت، فلعنتها. فقال صلى الله علي وسلم: (خذوا متاعكم عنها ودعوها فإنها ملعونة). فكانت تجول في الناس لا يعرض لها أحد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فلعن رجل ناقته، فقال: (أين الذي يلعن ناقته؟ فقال الرجل: أنا هذا يا رسول الله، فقال: أخرها عنك فقد أخسها). فلا ينبغي لعن الراحلة لأن صاحبها لا يدري لعله يخاف منها، فلا يتضرر بذلك غيره. ولأنه إن كان يلعنها لما يشكوه منها، فهي إذا أدركها اللعن صارت شرًا، ولم تزدد خيرًا، فلا معنى إذًا للعن. وأما ضرب الوجه، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تسبوا طريق

السبكة، ولا تزيدوا في ثلاثة على دابة، وإذا ضربتم فاتقوا وجوه البهائم، فإنه ليس من شيء إلا يسبح بحمده، وإذا دعت الحاجة إلى الضرب فلا بأس، قال جابر: بينما أنا أسير على جمل، فيه تنازعني خطاياه. وإذا كان في السير ركاب ومشاة، فمن كان فوق الظهر، فينبغي له أن يرتدف من المشاة واحدًا في بعض الطريق نفسه بذلك، ومن لم يكن ظهره بذلك القوى فليقف، وأما الارتداف، فقد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سافر وغزا، أردف كل يوم رجلاً من أصحابه. وأما الأعقاب، فإن جابرًا روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يغزو، فقال: (يا معشر الأنصار، أن من أخوانكم قومًا ليس لهم مال ولا عشيرة: فليقم إليه الرجلان والثلاثة، فما لأحد، من ظهر يحمله جمله إلا عقبه كعقبة أحدهم: فضممت إلي اثنين أو ثلاثة مالي من حمل إلا عقبة واحدة كعقبة أحدهم). وينبغي لأصحاب الدواب أن ينزلوا عنها في بعض الأوقات ويريحوها، كذلك إذا كان للرجل دابة واحدة. وأما من كانت له دابتان، فإنه يريح إحداهما بالأخرى. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقود راحلته في السفر ويمشي هنيهة بعد العصر وبعد الصبح. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مشى عن دابة له عقبة كان له عتق رقبة). وقال بعضهم: رأيت الحسين بن علي رضي الله عنهما في طريق مكة بفرس، فإذا حل الصبح أمر بدابته، فعاد وخرج يمشي، فأمر عباد الله أخذ يمر به فيجوز، حتى رأيت سعد بن أبي وقاص نظر إليه فأباح، ثم جاء يمشي إلى جنبه. فإذا أكثر الناس دعا بدابته فركب، وقال الزهري: كان أبو بكر وعمر وعثمان يقتادون بعد الصبح حتى تطلع الشمس، يرون أن ذلك سنة لا يسع تركها. فهذه آداب الركاب وسنتهم. ومن الكلام في أصل الباب: إن من قدر على الحج ماشيًا، فذاك أفضل له من الحج راكبًا. ومن عجز عن المشي من بيته، فليمش من المقيات إذا أحرم. ومن عجز عن ذلك فليمشي إذا بلغ الحرم. ومن عجز عن ذلك فليمشي من الابطح إذا اغتسل وأراد

دخول مكة. قال الله تعالى: {وأذن في الحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}. فذكر الرجل قبل الراكب. وقال الله عز وجل: {فاسعوا إلى ذكر الله}. ولا خلاف في أن المشي أخضع وأخشع من الركوب. فدل ذلك أنه أفضل فقال قائل: الركوب أفضل لأنه يستعمل به بدنه وماله، وليس في المشي إلا عمل البدن. والجواب: أنه يقدر على ما يستعمله من ماله إذا ركب، بتركه من استعمال بدنه. واستعمال البدن أفضل من استعمال المال. وقال ابن عباس: أنه يحرج في نفسي أن أموت قبل أن أحج ماشيًا، وذكر مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل رضي الله عنهما حجا ماشيين، يراد بذلك خروجهما إلى عرفة، وافاضتهما منها إلى مكة. وقال حفص بن محمد عن أبيه: حج الحسين بن علي ماشيًا وبجانبه معاذ، وحج سعيد بن جبير ماشيًا. وإذا خرج الناس يريدون البيت الحرام. فسئل: ماذا أردت. فقال أنس بن مالك قال: لا تقل إني حاج حتى تهل وقل: إني مسافر. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من أراد هذا الوجه، فلا يقل إني حاج حتى تهل، إنما الحاج المحرم. وليقل إني وافد. ومن كان الطريق بينه وبين مكة بعيدًا، فليخرج في سعة من الوقت، وليمهل في السير. ولا يفر بالرواحل. ومن كان بينه وبينها قريبًا فهو بالخيارين: أن يقصدها متمهلاً، وبين أن يتعجل إليها بطن الراحل. ومعنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله (من أراد الحج فليتعجل) عندنا: ليس ما قدره من وضعه في هذا الباب، وحمله في إسراع السير. وإنما هو من أراد أن يكون له الحج فليحتط بالتعجيل. فان العوارض قد تعرض والعوائق قد تعوق. وهو كقوله (حجوا قبل أن لا تحجوا) والله أعلم. فإذا بلغ الميقات احرم، وإن احرم قبله فهو أفضل. وقال الله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله}.

وجاء عن علي رضي الله عنه: من تمام الحجج أن يحرم الرجل من دويرة أهله. وهذا إذا كان مخرجه في أشهر الحج. فأما إذا كان قبلها وأراد التعجيل فإنه يحرم من أول أشهر الحج وهو شوال، وذلك أفضل له من أن يؤخر الإحرام إلى الميقات. وإذا احرم ولبى فلا يغفلن عما هو فيه، وليعلم أن عند الله تعالى دعاءه على لسان رسولين كريمين: أولهما الخليل إبراهيم، والآخر المصطفى خاتم النبيين صلوات الله عليهما. وبترك كل ما حرم الله عليه ويستشعر من الخشوع أتمه، ومن الترهيب أقصاه وابلغه حتى يوافي البيت وقد اعد نفسه وهيأها للعبادة وخلصها ونزها من الافوات التي لا تليق بمن يدعي هذه الدعوة ويؤهل لورود تلك الحفرة. ولا يزال يلبي متمسكًا متبعًا الإجابة كما ذكر في كتب الأحكام ذاتها مقيمًا على الإحرام حتى إذا بلغ الحرم، فخشي أن يمشي فيه إلى البيت حافيًا. قال الله تعالى: {إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى}. وقال مجاهد: كانت الأنبياء عليهم السلام إذا أتوا علم الحرم نزعوا نعالهم. قال ابن الزبير: لقد كان هذا البيت يحجه سبعمائة ألف من بني إسرائيل يضعون نعالهم بالتنعيم ويدخلون حفاة تعظيمًا للبيت. وليقل إذا دخل الحرم: اللهم هذا حرمك وأمنك، فحرم لحمي ودمي على النار، الله صل على محمد عبدك ورسولك، اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم امني من غضبك وعقابك، وعدوان تؤذي فيه أحدًا، ويظلم فيه حقًا، ويخطر بقلبه أنه حرم الله الذي أوجب لأجله، ولمن دخله الأمان. ويمضي فإذا وصل إلى البيت استشعر من الهيبة له ما يحق استشعاره، وليعلم أنه لا مكان في الأرض أفضل ولا أعظم حرمة منه. فإنه أن أثاب فيه فقد فاز، وأن رد عنه فقد هلك، إلا أن يتداركه الله برحمته فليجتهد في الإخلاص والصدق واصفًا الضمير وتعديل السر لئلا يكون قلبه مكذبًا لسانه وباطنه، مخالفًا ظاهره، ويخطر بقلبه أنه بحيال العرش وعند بيت مشهور محفوف بالملائكة لا يؤتي إلا لعباده، ولا يقصد الإذعان والطاعة.

وليقل عند دخول المسجد: بسم الله، اللهم صلي على محمد النبي وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. فإذا رأى البيت تعظيمًا وتكريمًا وتشريفًا ومهابة ومجدًا، ورد من شرقه. وكرمه ممن حج أو اعتمر تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبرًا، ويرفع يديه إذا دعا كما يرفعهما الداعي .. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى البيت رفع يديه فقال: (اللهم زد هذا البيت .. الخ. وليقل: اللهم أنت السلام ومنك السلام حببنا ربنا بالسلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام). وروى ذلك عن عمر رضي الله عنه إلى قوله (تباركت). وإذا أراد الطواف قبل الحجر الأسود إن أمكنه، وأن قدر على أن يسجد عليه بعد التقبيل سجد. فأما التقبيل فإنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عمر رضي الله عنه أنه قبل الحجر وقال: إني لأعلم انك حجر لا تضر ولا تنفع، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك، وفي بعض الروايات أنه قال: ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيًا، وروى عن ابن عباس أنه قبل الحجر وسجد عليه. وعن عمر أنه قبل الحجر ثلاثًا وسجد عليه بعد كل قبلة بسجدة. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. وليقل إدا قبله: بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعًا لسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك. ثم يمضي عن يمينه ويدع البيت عن يساره، ويطوف سبعًا. فإذا انتهى إلى الركن اليماني استلمه ولم يقبله. إلا أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلمه ويضع يده عليه. وأما الركنان الآخران لا يقبلهما، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كثر الزحام على الركن الأسود ولم يقدر على تقبيله استلمه ثم قبل يده قيل لعطاء: أتقبل يدك إذا استلمته قال: فلماذا استلمه إذا كنت لا اقبل يدي، وإن لم تصل يده إليه فتسلمه، أشار إليه ببيده ثم قبل يده. وإذا أراد تقبيل الحجر واستلامه، فليستقبله بوجهه وخصوصًا إذا أراد السجود عليه ولا يوليه جنبه ثم يلوي رأسه نحوه. ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا انتهى إلى البيت، استقبل الحجر فكبر ثم استلم. وقال مجاهد: لا يستلم الحجر عن يمينه ولا عن شماله، ولكن تستقبله استقبالاً.

وعن علي رضي الله عنه أنه كان إذا رأى عليه رجاحًا كبر وقال: اللهم تصديقًا بكتابك وسنة نبيك، وكلما بلغ في طوافه إلى الحجر كبر ثم مشى ويقول فيما يقول فيه من طوافه: اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا. ويقول في الأطواف التي لا يؤمل فيها: اللهم اعف وارحم وتجاوز عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم. اللهم أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل الله عز وجل ما يجوز له أن يسأل من أمر دنياه وآخرته. وقال سفيان بن عيينة: سمعت الناس منذ أكثر من سبعين سنة وهم يقولون في الطواف اللهم صل على محمد وأبينا إبراهيم، وهذا إنما هو له ولد إبراهيم. فأما من لم يكن من ولده فليقل: اللهم صلى على محمد نبيك وإبراهيم خليلك، ومن كان من ولده فليقل: اللهم صل على نبينا محمد وأبينا إبراهيم، وهذا أحسن، لأن المناسك كلها ارث إبراهيم، والبيت من بنائه، وتلبية الناس إجابة لدعوته. قال ابن عباس: إن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه نام على أبي قبيس، فقال: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن إبراهيم رسول الله، أيها الناس، إن ربي أمرني أن أنادي في الناس بالحج يأتوا رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. أيها الناس، فأجيبوا ربكم. فأجابه من وحد الله تعالى. ثم أن الله تعالى لما فرض الحج فيمما شرعه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: (إن الله تعالى فرض عليكم الحج). وتوعد على من تركه بما تقدمت روايته. روى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أتى على الركن اليماني قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، فإذا جاء الحجر قال: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وقال رجل: فقلت له: ما سمعتك تزيد على كذا وكذا، فقال: إني شهدت بكلمة الإخلاص، وانبت على الله رسالته من الخير كله، واستعذت به من الشر كله، والمحفوظ من هذا كله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول بين بني جميع وبين الركن الأسود: (ربنا آتنا في الدنيا

حسنة وفي الآخرة حسنة) وهذا أولى الأذكار في مشاهد النسك، لقول الله عز وجل {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا. فمن الناس من يقول. رببنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق. ومنهم من يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أولئك لهم نصيب مما كسبوا}. ولا ينبغي للطائف أن يحدث غيره في طوافه، ولا أن يتكلم بأمر الدنيا، ولا أن يضخك أو يلهو، ولا أن يخطر بقلبه شيء سوى ما فيه من النسك، ويعتقد أن طوافه قربة إلى ربه، وأن يحرص على أدائه وإتيانه من جميع جهاته، لئلا يكون هجر وجهًا منه مع استواء الجهات في أنها قبلة للمسلمين في الصلوات. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما جعل الطواف والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان من الدعاء الذي يتبركه إذا مشى بين الركن اليماني إلى الحجر الأسود: اللهم متعني بما رزقني، وبارك لي فيه واخلف على كل عائبة لي بخيره، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الطواف بالبيت صلاة، فإذا طفتم فاملوا الكلام). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من نطق فلا ينطق إلا بخير). وقال عطاء: طفت خلف ابن عباس وابن عمر، فما سمعت واحدًا منهما متكلمًا حتى فرغ من طوافه، وسئل سفيان بن عيينة عن القراءة في الطواف فقال: سبح وكبر واذكر الله، فإذا فرغت من طوافك فاقرأ ما شئت، وقرأ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم. وقال إنما هي رحمة أن جعله صلاة بغير قراءة. وليس ينبغي لك أن تحمل على نفسك ما لم يحمله الله. وقال عطاء: القراءة في الطواف محببة. وقال الشافعي رحمه الله: استحب القراءة في الطواف والقراءة أفضل ما تكلم به المرء، وما قاله غيره أدل. لأنه لو كانت القراءة أفضل في ذلك المقام لما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الأفضل لغيره. ولو قرأ لنقل كما أنقل الذكر غيره.

وأيضًا فكل حال من أحوال الصلاة، لم يكن الوجه فيها إلى البيت، لم يكن حال القراءة كالركوع والسجود، وإذا أتى المسعى بدأ بالصفا فرقى عليه وقام حيث يبدو له البيت، ثم استقبله وكبر سبع تكبيرات يحمد الله تعالى بين كل تكبيرتين ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو لنفسه بما يجوز أن يدعي الله تعالى به من أمر الآخرة والأولى، ويرفع يديه ويدعو به، ويفعل على المروة مثل ذلك. روى هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته. وذكر الشافعي رحمه الله أنه استقبل البيت قال: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا وأولانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، ثم يدعو ويلبي ثم يعود فيقول مثل هذا القول ثلاثًا، ويدعو فيما بين كل تكبيرتين بما بدا له من دين ودنيا. روى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يدعو ثلاثًا ثلاثًا سبع مرات، ثم يقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، ثم يدعو فيقول: اللهم اعصمني بدينك، وطواعيتك وطوعية رسولك، اللهم حببني حدودك، اللهم اجعلني ممن يحب ملائكتك، ويحب رسلك، ويحب عبادك الصالحين، اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك ورسلك وإلى عبادك الصالحين. اللهم يسرني لليسرى، وحببني اليسرى واغفر لي في الآخرة والأولى، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واجعلني من أئمة المتقين، واغفر لي خطيئتي يوم الدين. اللهم إنك قلت {ادعوني أستجب لكم}. وأنت لا تخلف الميعاد. اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه، ولا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا على الإسلام، وكان إذا أتى على المسعى كبر، وينبغي أن يسعى طاهرًا تحل له الصلاة، فإن لم يكن طاهرًا أجراه وليس السعي في ذلك كالطواف. ويعتقد الساعي بقلبه إذا سعى، الانكماش في طاعة الله تعالى والجد والاجتهاد في طلب عفوه وغفرانه،

والإسراع نحو أمر موضوع له، وهو ينتظر له حتى إذا حضر وفر حظه منه، وتميز في ذلك ما كان هاجر عليها السلام في ذلك المكان من السعي الذي رجعت منه إلى ما ينظر وتكليف قد سقط، وذلك كان سؤلها ومأمولها. ولذلك قوبل لكل ممن اتبع في ذلك أثرها، أن يرجع منه إلى حج مبرور، وسعي مشكور وذنب مغفور، فإن ذلك سؤل الحج ومأموله. ومن العلماء من ذكر أنه كان يقول في سعيه: اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، أنك أنت تعلم ما لا تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، كما ذكرته في الطواف. ومن قدر على الطواف والسعي ماشيًا فذلك أولى به لأنه أخشع وأخضع، ألا ترى أن التنقل بالصلاة على الأرض أفضل منه على الراحلة، فكذلك الطواف. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه طاف وسعى راكبًا، إلا أن ابن عباس قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى، فطاف بالبيت على بعير ومعه معجن، كلما مر على الحجر استلمه، فلما فرغ من طوافه أناخ ثم صلى ركعتين وقال عطاء: أراد التوسعة على أمته. وفيه وجه ثالث: وهو أنه كان علما، والطواف والسعي إنما كانا يقعان منه في الجميع، فكان يقول: (خذوا عني مناسككم). فأراد أن يرى لتؤخذ عنه، ويعلم كم طاف وكم سعى، ومن أين ابتدأ وكيف افتتح وإلى أين انتهى، وكيف ختم، وفي أي موضع أحل الشعر، وفي أية لزم سحبة المشي؟ وقال هشام بن عروة: كان إذا رآهم يسعون بين الصفا والمروة وهم ركبان قال: (خابوا وخسروا). فصل وإذا أتى الموقف من عرفة فليتحر أن يقف وراء الإمام. قيل لنافع: أين كان ابن

عمر يقف في حجه؟ قال: يحاذي الإمام أو وراءه لا يخطئه أبدًا، ثم لا يخطئه أبدًا، ثم لا يبرح واقفًا حتى يدفع الإمام إلى أن يزحم زاحم من ورائه فيقدمه ويخطر بقلبه في الموقف أنه فسح فيه على البيت إلى أن يؤذن له في الزيارة، فليجتهد جهده قيامًا وذكرًا ودعاءًا بصدق يتفق فيه القلب واللسان، وإخلاص يشترك فيه الأسرار والإعلان، ولا ينبغي للواقف بعرفة أن يستظل، فإنه روى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصحون إذا أحرموا، فرأى ابن عمر رجلاً محرمًا قد استظل فقال: صح لمن أحرمت له، وكان سالم والقاسم إذا أحرما يضعان ردنيهما على ظهورهما. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قيل بعرفة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم اجعل في سمعي نورًا وفي بصري نورًا، وفي قلبي نورًا، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري، اللهم إني أعوذ بك من وساوس الصدر وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، ومن شر ما يلج في النهار، ومن شر ما تهب به الرياح، ومن شر بواتق الدهور). وروي أنه وقف بعرفات وهو رافع يديه لا يجاوزان رأسه، زاد بذلك: كرفع الداعي يديه إذا دعاه. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان فيما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (اللهم إنك تسمع كلامي وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفي عليك شيء من أمري، وأنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المغرور، المعترف بذنبه. أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، فمن خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك شقيًا، وكن بي رؤوفًا رحيمًا يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين). وذكر أبو مخلد أنه وقف مع عمر رضي الله عنه فقال: الله أكبر ولله الحمد، لا إله

إلا الله وحده لا شريك له، لهه الملك وله الحمد. أهدني للهدى، ووفقني للتقوى، واغفر لي في الآخرة والأولى، ثم سكت. ثم يقول بهذا. فقلت لسالم: ما تقول في سكوته؟ فقال: نحو ما سمعت. وزاد عن غيره: وارزقنا من فضلك رزقًا مباركًا، فيه ما أحببت من شيء فحببه إلينا، يسرنا له. وما كرهت من شيء فكرهه إلينا، وجنبنا له، اللهم لا تنزع الإسلام منا بعد إذ أعطيتنا. وقال ابن جريج: بلغني أنه كان يؤمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كان يقول في دعائه بعرفة: اللهم زد محاسن أمة محمد إحسانًا، وارجع بمسيئهم إلى التوبة برحمتك، اللهم أهلك من كان في هلاكه صالح لأمة محمد، وأصلح من كان صلاحه لأمة محمد، اللهم وأحفظهم من ورائهم برحمتك، ويقول: يا منيعة تذرها عليهم، اللهم دعوت إلى حج بيتك ووعدت المنفعة على شهود مناسكك وقد أجبناك، فاجعل ما ينفعنا به أن تؤتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وتقينا عذاب النار. اللهم بارك في الإسلام والإيمان ومتعنا بهما. قال سفيان الثوري: سمعت إعرابيًا وهو مستلق بعرفة ويقول: اللهم من أول بالزلل والتقصير مني، وقد خلقتني خلقًا ضعيفًا. ومن أولى بالعفو عني منك، وعلمك في سابق وأمرك إلي محفوظ، أطعتك بإذنك والمنة لك، وعصيتك بعلمك والحجة لك، فأسألك بفضل رحمتك وانقطاع حجتي وفقري إليك وغناك عني، أن تغفر لي وترحمني اللهم إنا أطعناك بنعمتك لنا أحب الأشياء إليك: شهادة أن لا إله إلا الله، ولم نبغضك أبغض الأشياء إليك: الشرك بك، فاغفر لنا ما بينهما، اللهم أنت أنس المؤانسين لآياتك وأقربهم بالكفاية من المتوكلين عليك، تشاهدهم في ضمائرهم وتطلع على سرائرهم، وسري اللهم إليك بمعروف، وإني إليك ملهوف. إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك، وإذا أتممت على الهموم لجأت إلى الاستجارة بك، علمًا بأن أزمة الأمور بيدك، ومصورها عن فضائلك. وعن سفيان بن عيينة رضي الله عنه قال: سمعت إعرابيًا بعرفة يقول: عجت إليك

الأصوات بصروف اللغات يسألونك الحاجات، وحاجتي أن تذكرني عند الليل إذا نسيني أهل الدنيا، وعن سفيان أنه سمع بعرفة من يقول: يا حسن الصحبة أسألك بسرك الذي لا تهيله الرياح ولا تخرقه الرماح. فصل فإذا أفاض إلى المزدلفة، فليحمد الله تعالى على ما شهد له من الابتهال من الحل إلى الحرام، والدنو من بيته المحرم وليتأكد رجاءه، بأن الله تعالى قابله ومبلغه من الخير ما يؤمله، وليكثر من ذكر الله فإن الله عز وجل يقول: {فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين}. فقد يجوز أن يكون ذكره كما هداه أن يذكره، كما قال الله عز وجل: {ولتكبروا الله على ما هداكم}. فيحسن أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر على ما هدانا، وله الحمد على ما أولانا وأبلانا، والله أكبر ولله الحمد، يكرر ذلك ويردده والله أعلم. فصل وإذا أتى من النهار منا فليأت من جمرة العقبة ضحى، فيرميها بسبع حصيات تترى متتابعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان فعل. وينبغي أن يكون طاهرًا تحل له الصلاة، فإن لم يكن أجراه، ويقطع التلبية إذا ابتدأ الرمي، ويكبر مكانها، فلا يلبي بعد ذلك. فأما قبل الوحي، فقد كان له أن يلبي وقتًا ويكبر وقتًا، لأن التلبية شعار للإحرام خاصة، وهو تحلل منه بالرمي، والتكبير شعار المحل والمحرم. ويرميها من بطن الوادي مستقبلاً القبلة، ويكبر مع كل حصاة ويقول: اللهم اجعله حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا، وينوي الرامي عند رميه، أنه يجاهد مخالفة الشيطان ويقول له: لو

ظهرت لحصيتك هكذا ورجمتك، لو كنت حاضرًا عندما اعترضت لإبراهيم صلوات الله عليه -يريد إدخال الشبهة عليه -فرماك ودحرك لرميتك مثل رميه هكذا. أو أنه رمى الموبقات عن نفسه ونيرانها فليس بعابد لها أبدًا. وروي عن أبي مخلد قال: لما فرغ إبراهيم من البيت، جاءه جبريل عليه السلام فأراد الطواف بالبيت، قال: واحسبه قال والصفا والمروة. ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فرمى وكبر، وقال لإبراهيم ارم وكبر. فرمى وكبر مع كل رمية حق أفل الشيطان. ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى فعرض لهما الشيطان. فأخذ جبريل عليه السلام سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فقال: ارم وكبر، فرمى وكبر مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات وقال: ارم وكبر، فرمى وكبر مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتى به جميعًا، فقال: هاهنا يجمع الناس الصلاة. ثم أتى عرفات، فقال: عرفت؟ فقال: نعم، من ثم سمي عرفات. وروي أنه قال له: عرفت عرفت، أي منى والجميع وهذا، فقال: نعم، فسمي ذلك المكان عرفات. ومعنى لمن يرمي أن يرمي ماشيًا ولا يركب إلا من عذر، روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يقول بأصواته على بعير فرمى الجمر، فعلاه بالدرة إنكارًا لركوبها. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يمشي إلى الجمار ويمشي ماشيًا، وابن الزبير مثله. وكان جابر يكره الركوب عل الجمار إلا عن ضرورة. فأما ركوب رسول صلى الله عليه وسلم وما روي من أنه رمى جمرة العقبة على ناقة صهيب لا ضرب ولا طرد، فإنما كان لعلة كما روينا في الطواف. وأما لتؤخذ عنه أو يقتدي به ثم يرجع إلى مباحه فينحر هديًا إن كان معه أو يذبح. وسيذكر معنى ذلك وما فيه من باب القرابين إن شاء الله. ثم يحلق رأسه ويجلس عند الحلق مستقبل القبلة، ويبدأ الحالق بشق رأسه الأيمن. فإنه يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى مني، فرمى الجمرة ثم أتى منزلة بمنى فنحر، ثم قال

للحلاق: خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس، ويكبر إذا بدأ الحلاق بحلق رأسه، ويخطر بقلبه عند الحلق، إن ذلك لوصية من الله تعالى لحقة وكرامة أكرمه بها أمام زيارة بيته. ومن الناس من قال: إنه يعتقد أنه يفارق الزينة بسفاسفها. وبهذا فإن الشعر من الزينة ويرمي بعد ذلك كل يوم بعد الزوال الجمرات الثلاث: الأولى التي تلي مسجد منى، والوسطى وجمرة العقبة، من بطن الوادي كل جمرة سبع حصيات، يكبر مع كل واحد منها، ويدعو بما ذكرت، ويقف عند الأولى وقوفًا طويلاً يثني على الله تعالى ويحمده ويستغفره ويدعو. وكان ابن عمر يرى أن يقف بقدر سورة البقرة، ويقف عند الثانية نحوًا من ذلك، ولا يقف عند جمرة العقبة بعدما يرميهم، وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه جعل رمي الجمار والطواف بالبيت لإقامة ذكر الله، ليس لغيره ومهما أراد الرجوع إلى النقر الأول أو النقر الآخر إلى البيت مودعًا وطاف سبعًا، وصلى عند المقام ركعتين، ثم أتى الملتزم من الركن الأسود وبين الباب فالتزمه. بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه قال (هذا موضع تسكب فيه العبرات). وتعلق بأستار الكعبة، فالرجل يتعلق بثوب من أذنب إليه ذنبا، فهو يتضرع إليه ليعفو عنه. وقال الشافعي رحمه الله أحب له إذا ودع البيت أن يقف في الملتزم وهو بين الركن والباب، فيقول: اللهم البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك، احملني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك، وبلغتني بنعمتك وأعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضي، وإلا فمن الآن، قبل أن تنأى عن بيتك داري، هذا أوان انصرافي، إن أديت في غير فتور بك ولا بنسكك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فامنحني العافية في بدني والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني. وعن إسماعيل بن عبد الملك عن أبي أمية قال: قل، الحمد لله رب العالمين الذي رزقني حج بيته المحرم والطواف به إيمانًا وتصديقًا فأعوذ بعظمة وجه الله، وجلال وجه الله،

وكرم وجه الله، وسعة رحمة الله. إن أصت بعد مقامي هذا خطية مخطئة، أو ذنبًا لا يغفر، هذا مقام العائذ بك من النار، قال: فإنك تصدر بأفضل ما صدر به حاج أو معتمر إلا من قال مثل ما قلت، أو زاد، هذا عند طواف الوداع. فإذا فرغ من الدعاء أتى زمزم، فشرب منها متزودًا إياه متبركًا به، قال مجاهد: وكانوا يستحبون إذا ودعوا البيت، أن يأتوا زمزم فيشربوا منها، ثم عاد إلى الحجر فقبله ومضى. فإذا أراد الخروج من المسجد، فقد قال بعض أهل العلم: يلتفت إلى البيت كالمتحزن على ما تغيب عنه، لا يكاد يسبح نفسه، برفع طرفه عنه. وكره ذلك بعض السلف، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره قيام الرجل على باب المسجد إذا أراد أن ينصرف إلى أهله متحرقًا إلى الكعبة ينظر إليها ويدعو، وقال: اليهود يفعلون ذلك، وعن مجاهد مثله، وهذا أشبه، لأنه قد ودع البيت، فإذا حدث بعد ذلك عهدًا به ولم يجبه بالطواف فقد خطأه. ولأن يكون آخر عهده بالبيت تحية أولى به من يكون آخر عهده به حفاوة والله أعلم. ومن الناس من يرى أن يقول إذا طاف طواف الوداع: اللهم لا تجعل هذا آخر عهدي بالبيت، فإن قال هذا ومضى دون أن يلتفت إليه وما يدريه لعل ذلك دعوته أجيبت له، ثم لا يراه. وينبغي أن لا يفارق الحاج البيت راغبًا عنه مستثقلاً ما عاناه في طريقه، بل يستخف كل جهده رغبًا ويصيب أصابه في حب ما رزقه الله تعالى وأهله له، من زيارة بيته وقضاء مناسكه، ويكون قوي العزم على أن يتوب إليه راغبًا إلى الله تعالى في ذلك، داعيًا إياه به. ومما جاء في التزام البيت ما روي أن عبد الله بن عمرو طاف بالبيت، فلما كان خلف الكعبة قيل له: ألا تتعوذ،: أعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، وقام بين الركن والباب، فوضع صدر وجهه وذراعيه وكفيه مبسطًا على الباب. قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل. وقال صالح جنان: قال لي أنس بن مالك وأنا أطوف معه: ارفع الأستار ثم الزم بطنك. أو قال: كبدك بالبيت، ثم تعوذ برب هذا البيت من النار، وعن سعيد بن جبير أنه كشف عن بطنه والزقه الملتزم. وعن القاسم بن محمد وعمر

ابن عبد العزيز وعمر بن ميمون أنهم كانوا يلتزمون خلف البيت، ويلزمون بطونهم به ويقولون القاسم: اللهم إني أعوذ بك من رأسك ونقمتك وسلطانك، وعن الأسود أنه كان ملتزم خلف البيت، وكان جابر بن زيد لا يتقي من البيت مشيًا أي يلتزم كله، وكان عروة يشيح جبينه وظهره وبطنه بالكعبة، وقال مجاهد: إذا أردت أن تفوز، فات البيت فطف ثم وصل ركعتين، ثم آت زمزم فاشرب منها، ثم ما بين الحجر والباب فألزم بطنك بالبيت ثم ادع اله عز وجل، وصل ما أردت. ثم آت الحجر فاستلمه، ثم انطلق ولا تعرج في سفر ما لا يعنيه، ويكون به غناء عنه، ليتعجل رجوعه إلى أهله. فإنه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السفر قطعة من العذاب، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره، فليتعجل الرجوع إلى أهل). فصل ومن ورد مكة، إن كان مقيمًا بها فليكثر من الطواف بالبيت، وليصلي كلما طاف سبعًا ركعتين خلف المقام. فإن طاف عدة أطواف متتابعة ثم انصرف عنها، فصل أجزاءه، لأن الصلاة سنة الانصراف عن الطواف. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الطواف أنه قال (من طاف بالبيت لم يرفع قدمًا ولم يضع أخرى إلا كتبت له حنة وحطت عنه بها خطيئة، ورفعت له بها درجة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (كان كعدل رقبة يعتقها). روى طاووس عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت لا ترى بأسًا أن يطوف الرجل ثلاثة أسباع أو خمسة ثم يصلي، وعن عطاء عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرن بين الأسابيع. وفعل ذلك المسور بن محزمة إذا أقرن بين الأسابيع، ثم صلى ركعتين فبناه.

لأن عطاء روى عن عائشة أنها قالت: لا بأس أن يطوف الرجل ثلاثة أسباع ثم صلى ست ركعات، وإذا عني في طوافه جلس واستراح ثم قام فبنى. روي أن عمر رضي الله عنه طاف بالبيت ثلاثة أطواف ثم قعد يستريح، ثم قام فبنى على طوافه، وفعل ذلك الحسن، وأجازه عطاء في الطواف والسعي بين الصفا والمروة. وكره مجاهد. وينبغي للطائف أن يحصي طوافه، وفي ذلك شيئان. أحدهما أنه يقدر ما يقاس بقدر الطواف، يتزحزح عما لا يليق بذلك المقام من أمور الدنيا. والآخر أنه لا ينصرف على شفع، وهو لا يدري. روي عن عبد الله بن عوف قال: كنت أطوف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (كم تعد؟ ثم قال: أن سألتك لتحفظ). وفي هذا الحديث إرشاد إلى أن معلم الفقه يحسن به أن يعافص المتعلم بالسؤال عن بعض ما يسمع. وسئل عبد الله بن عمر عن السعي بين الصفا والمروة، فقال: إن خشيت أن لا تحصي فخذ معاك أحجار أو حصيات، قالوا بالصفا واحدة، وبالمروة أخرى. وكره مجاهد أن يقال لعدد الطواف أشواط وأدوار. وهذا بفعل دور العادة واللغو، كما قد يقال للاعتكاف بيت وللصائم حمية. ولأن الله عز وجل قال: {وليطوفوا بالبيت العتيق}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من طاف سبوعًا) واختلف في الصلاة بمكة والطواف أيهما أفضل؟ فكان ابن عباس يقول: أما أهل مكة فالصلاة لهم أفضل وأما أهل الأمصار فالطواف، وتابعه على ذلك سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وهذا لأن الطواف مألوف لأهل مكة والصلاة لغيرهم، غير المألف أكثر كلفة من المألوف. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة، وينظر إليه إيمانًا واحتسابًا. فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة. وقد تقدمت في هذا رواية خير، وقاله عطاء ومجاهد. ومن تمام زيارة البيت وليس بواجب، دخوله والصلاة فيه. دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلى فيها ركعتين، متيامنًا بين العمودين المقدمين. وفي أي نواحي البيت صلى فجائز.

وينبغي إذا دخلها أن يخر ساجدًا حيال الجذع الملصق بحائط الكعبة، ثم يرفع رأسه ويقعد، فيدعو ثم يقوم فيصلي ركعتين ويقوم فيدعو ويستغفر ويسبح الله ويحمده ويهلله ويكبره، ثم يأتي والمستقبل من الكعبة، فيضع وجهه عليه، ويدعو ويستغفر ولا يرفع رأسه إلى سقف البيت ولا يطوف إلا نحو الأرض تعظيمًا لله وحياء منه. ويأتي نواحي البيت فيدعو ويستغفر، ثم يخرج. ويأتي الملتزم ويضع وجهه عليه، ويدعو ويستغفر. ومن لا يمكنه دخول البيت دخل الحجر، فإن النبي أخبر أن الحجر من البيت. ولا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة، فإنه يهدي إليها ولا ينقص منها شيئًا. روي عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستسقي به، وكان إذا رأى الخادم يأخذ منه قذفها قذفة لا يألو أن يرجعها. وقال عطاء كان أحدنا إذا أراد أن يستسقي به جاء بطيب من عنده ثم مسح به الحرام، ثم أخذه. ومن قدم مكة من حاج أو معتمر، فلا ينبغي له أن يخرج منها حين يقرأ القرآن قال: الحسن وإبراهيم كانوا يحبون ذلك ونفحهم. وقال أبو مخلد: كان يستحب لمن قدم شيئًا من هذه المساجد أن لا يخرج منه حين يقرأ القرآن: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس وقال إبراهيم: كانوا يكرهون أن يسند إنسان ظهره إلى الكعبة يستدبرها، ولهذا إذا لم يكن منه غرض صحيح. فأما إذا أراد رجل أن يروي السنن وبين يديه مستمعون، أو قوم يكتبون، أو يذكر لهم أو يفتي أو يفقه، وبين يديه قوم فاستدبروا لهم متبركًا بالاستناد إليها. وأما على المأخوذ منه العلم، كما أن الكعبة أمام، وحق الإمام أن يستقبل، فأسند ظهره إلى الكعبة ليكون الإمامان في وجهه واحد ومن نظر إليهما معًا فهذا غرض صحيح. أو قيل: لا كراهية فيه والله أعلم. ولهذا خطب النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسند ظهره إلى الكعبة وبالله التوفيق. وإذا حج الناس فليحجوا على الاقباب والقطائف، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على بغل رث وقطيفة رثة وقال: (اللهم حجة لا سمعة فيها ولا رياء). وقال طاووس رضي الله عنه: حج الأبرار على الرحال، ورأي ابن عمر رضي الله

عنهما رفقة من أهل اليمن رحالهم الادم، فقال: من أحب أن ينظر إلى أشبه رفقة بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هؤلاء، وقال محمد بن سيرين رحمه الله: كان يكره الحج على المحمل، وهذا- والله أعلم- لما فيه من الرفاهية التامة، ثم إخماد الراحلة، فلا ينبغي الحج على المحمل إلا أن يكثر الناس وتقد الرواحل، ثم لا تنقش المحامل ولا تزين، ولا تفرض فيها الفرش الوطبة، ولا تشحن بالأمتعة التي تنقل على الراحلة ويجهدها والله أعلم. ومن رأى مقام إبراهيم صلوات الله عليه فليصل عليه، ولا يلتمس المقام ولا يقبله. رأى ابن الزبير قومًا يمسحون المقام، فقال: لم تؤمروا بهذا إنما أمرتم بالصلاة عنده، وقال مجاهد: لا يقبل المقام ولا يلمس، والأفضل لمن قدم مكة حاجًا أن يخاص الحج، فإن ضم إليه تجارة لم يضره. قال الله عز وجل فيما يخاطب به الحجاج: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم}. قال ابن الزبير وعكرمة: نزلت في مواسم الحج. وسئل ابن عمر رضي الله عنه عن الرجل يحج ويجعل معه تجارة، فقال: لا بأس به، ولا يبتغون فضلًا من ربهم ورضوانًا. وقال مجاهد: كانوا لا يتحرون حتى نزلت: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم}. ويكره إخراج تراب الحرم إلى الحل وإدخال تراب الحل إلى الحرم. ومن ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعن ابن الزبير أنه لما هدم الكعبة فساقها كره أن يبنى فيها من تراب الحل. وكره عطاء ومجاهد إخراج تراب الحرم إلى الحل. فأما التراب والقطاع المتحدة من فخار مكة، والقدور المتحدة من أحجارها فلا بأس بإخراجها لأنه يستحل منها في الحل إلا ما يستحل في الحرام، والتراب يثبت، فيكون حكم ما يبينه حلاله غير ما يبينه حرامه، وإذا اختلط التبس الأمر، ولم يكن حفظ الحرمة. وكان عطاء يرخص في القصب والسواك من شجر الحرم. وهذا يبين وجهه إذا كان ما يقطع من فصول الشجر. وإما إذا قطع من أكرم أغصانه، فذلك غير جائز والله أعلم. فصل واختلف الناس في العمرة، فقيل إنها للحج كسنة الصلاة لفريضتها. وقيل: إنها فريضة مثله، وبهذا نقول لأن عماد الحج الوقوف بعرفة، وليس في العمرة وقوف. فلو

كانت كسنة الحج لوجب أن أسلوبه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها والعمرة لا وقت لها من السنة، ولكن جماعة من السلف رأوا أن عمرة المحرم من أوجب العمر، قاله القاسم وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وابن سيرين. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة). ومعناه في الأجر. واعتمر ابن عمر في رجب، وكانت عائشة رضي الله عنها تعتمر من المدينة في رجب. وعن عبد الرحمن بن حاطب أنه اعتمر مع عثمان في رجب. وسئل أبو الحسن الشيعي عن عمرة رمضان فقال: أدركت أصحاب عبد الله لا يعدلون بعمرة رجب. وكان القاسم ابن محمد يعتمر في رجب والأسود مثله. فصل وينبغي للحاج والمعتمر بعدما أحرما أن يكون صمتهما أكثر من كلامهما، ولا يتكلما فيما لا يعنيهما. قال الله عز وجل: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه: الحلال أن تماري صاحبك حتى تعصه في الفسوق والمعاصي، وقال عطاء والضحاك. ولم يختلف في أن الوقت المباشرة، ألا ترى أنه روي عن بعضهم أن التعريف من الوقت، وهو أن يقول المحرم لامرأته: لو قد أحللت لكنت أصبت منك. فلا ينبغي أن يكلمها بما يهدمنه. روى كراهية مثل ذلك عن ابن عباس وابن الزبير وبايعهما عليه طاووس وعطاء. فلا بأس بالزجر وما يشبهه، أن يقوله المحرم في معنى نسكه. كما يروى أن عمر رضي الله عنه لما بلغ وادي خيبر حرك راحلته. وكان يقول: إليك تعدو قلعا وحنينها، مخالفًا دين النصارى دينها، فقال ابن عمر كان يريد معترضًا في بطنها جنينها.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سعى في بطن الوادي وهو يقول: (لا تقطع الأبطح الأشد) فهذا وأمثاله لا بأس بها والله أعلم. فصل واختلف الناس في التعريف لغير مكة، فروي عن الحسن قال: أول من عرف بالبصرة ابن عباس: وقال موسى بن أبي عائشة: رأيت عمر بن حريث يخطب يوم عرفة، وقد استمع الناس إليه وذلك يحسن، لأن أهل الأمصار يكبرون أيام منى كما يكبر الحج، ويصلون يوم النحر بدلًا من طواف الحج، ويضحون كما يضحى الحجاج والعمار عن مكة، فينبغي لهم أن يأتوا المدينة ليزوروا المدينة تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلوا عليه وعلى صاحبيه. فماذا أشرفوا عليها ورأوها قالوا: ما ذكرنا قبل هذا أن المسافر يقول كلما أشرف على بلد وقرية يريد نزولها، فإذا دخلوا المدينة قالوا: اللهم أجعل حرم رسولك أمنًا لنا من العذاب وسوء الحساب بمنك وطولك، ثم لا يعرجوا على شيء حتى يأتوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا دخلوه بدأوا بالصلاة، فحيوا المسجد بركعتين، ثم يمضون إلى حضيرة القبر، فاستقبلوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: السلام عليك يا رسول الله، نشهد إنك بلغت رسالة ربنا وأديت إلينا كتابه، وثبت فينا أحكامه، وبينت لنا حلاله وحرامه، وعرفتنا وعده ووعيده، وجاهدت في الله حق جهاده، ونصحت أكمل النصح لعباده، وأظهرت شرائع الحق في بلاده، ولم تزل قائمًا بدينه هاديًا بأمره حتى توفاه إلى كرامته، وقبضك إلى روحه وراحته، فصلى الله عليك، وأحسن عنا جزاءك، وأتاك الوسيلة والرفعة والفضيلة، وسلم عليك تسليمًا يوازي قدرك ويقضي عنك حقك. ثم تسلم على صاحبيه فتقول: السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثانيه في الغار، وخليفته على الصلاة بالمهاجرين والأنصار، وجزاك الله عن أمتك رسوله حقًا، ولقاك يوم القيامة أمنًا وبرًا، السلام عليك يا عمر، أعز الله بك الإسلام، واستخلف فيك دعاء نبيه عليه السلام جزاك الله عن أمة نبيه أحسن الجزاء، كما كنت فيهم مثلنا خير البلاء

ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم) لوجد من محامده وما يثني عليه ما يكل الإنس عن بلوغ مداه، وتخسى الأوهام عن إدراك منتهاه. ولكن المحال أن يبتغي الفضل في خلافه، والبر في عطائه، فلنعدل عن التوسع بحضرته، وعلى عينيه ووجهه إلى ما هو أولى وألزم، وهو الدعاء له فيقال كما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إذا صليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه، وقالوا: يا أبا عبد الرحمن؟ قال: فقولوا اللهم صلواتك ورحمتك وبركاته على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير، ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقامًا محمودًا يغبط به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. وإن زاد ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه فحسن. وهو أن يقول: اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى، وارفع درجته العلى وآته سؤله في الآخرة والأولى كما أتيت إبراهيم وموسى. ولا يجوز أن يدعى له بالوسيلة وقد ذكرتها، فإنه يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلوا علي فإن بها زكاة لكم، واسألوا الله الدرجة والوسيلة من الجنة، وهي درجة في أعلى الجنة ولا يسألها لي مؤمن، إلا كنت له يوم القيامة شهيدًا أو شفيعًا). ويقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وحسن أن يقول: الله صل على محمد، كما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره العاملون. ثم يمضي إلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلتمس موضع قدميه بيده وهي نظيفة، ثم يمسح بها وجهه ويصلي عليه صلى الله عليه وسلم، ويستغفر ويدعو لنفسه، ويصلي بين المنبر والقبر في الموضع الذي وصفته بأنه روضة من رياض الجنة،

ركعتين، ويكثر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم والدعاء والاستغفار لنفسه ولوالديه وجميع من يعينه ويرفع حوائجه، وما يهمه من أمر دنياه وآخرته فيه. وذكر بعض العلماء أنه يدعو بهذا الدعاء فيقول: يا غياث المستغيثين، أنت المنفس عن المكروبين والمفرج عن المغمومين، ويا مجيب دعوة المضطرين، ويا كاشف البلاء العظيم ويا إله العالمين، اكشف عن كربتي وغمي، واكفني ما همني من أمر دنياي وآخرتي، واجعل لي من كل ذلك فرجًا ومخرجًا، واغفر لي ذنوبي، وثبت قلبي، واقطفه ممن سواك، حتى لا أرجو إلا أنت، ونهى بعض أهل العلم عن الصاق البطن والظهر بجدار القبر ومسحه باليد، وذلك من البدع. وما قاله يشبه الحق، لأنه ما كان يتقرب في حياته بمسح جدار بيته، ولا بإلصاق البطن والظهر به. وإن كان مثل ذلك بالكعبة، ويطاف بالكعبة ولا يطاف بالقبر، فلا ينكر أن يمسح الكعبة ولا يمسح جدار القبر. ويستكثر من الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه حاشا الحرام). وإن أتى مسجد قباء المؤسس على التقوى، فصلى فيه ودعا أحرز بذلك فضلًا إن شاء الله وإن خرج إلى زيارة قبور الشهداء ببقيع العرقد، وخص قبور آل الرسول بالزيارة فذلك أحسن وأفضل. ويقول إذا دخل البقيع: سلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم تقبل منهم أحسن ما عملوا، وتجاوز على سيئاتهم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون. وإذا أراد الانصراف رجع إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال مثل قوله الأول. وكان من أول ما تقدم إلى أن يرجع مستشعرًا لتعظيمه، ممتلئ القلب من هيبته كأنه شاهده ولا يزال ببصره ولا يخفى عليه شيء، وتخطر بقلبه رأفته بأمته وشفاعته لأهل دينه واهتمامه بأمرهم في أولاه وآخرته. ولا يحل ذلك من ذكر ما رفع الله من قدره وعظمته من أمره، بأن ختم به شأن بنوته وخصه بأفضل رسالته، وأنزل عليه آخر كتبه الذي لا يأتي بعده ما ينسخه، ولا يتعقبه ما برفعه، فلا يطول دعاؤه له، المنخفض غير الموقر، والمتعطف

غير المعظم، فإن أشكل عليه من ذلك شيء فليلزم الحد المحفوظ عنه، وعن صحابته في الصلوات عليه وبالله التوفيق. ثم يسلم على الإمامين رضي الله عنهما كما سبق ذكره، وليس ما قلت بحد موقت وكيفما سلم ودعا بعد أن يكون حسنًا جميلًا فهو جائز. ثم يودع المسجد بركعتين ويدعو بما شاء ويقول: اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بحرم رسولك، واجعل إلي العود إليه سبيلًا عاجلًا بمنك وفضلك. فصل وينبغي للحجاج إذا قدموا أن يتلقاهم أهل بلدهم ويلقوا أولادهم. قال عبد الله بن جعفر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفره يلتقي بضعاف أهل بلده، وأنه قدم مرة من سفر، فسبقت إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة، فأردفه خلفه، فدخلت المدينة ثلاثة على دابة وقالت عائشة: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلين من مكة حتى إذا كنا بذي الخليفة- وأسيد بن حصين بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم- فتلقانا غلامان من بني عبد الأسهل، وكانوا يتلقون أهاليهم إذا قدموا. وقال مالك بن أبي عامر: كان عمر وعثمان رضي الله عنهما إذا قدموا من الحج تلقاهما الغلمان، هم الذين يتلقون لأنهم كانوا هم المخلفين من الرجال دون غيرهم. وكان عمر يقول: تلقوا الحجاج ولا تشيعوهم، وهذا لما في الانصراف وترك مصاحبتهم مما ينبغي أن يجد المؤمن في نفسه منه. قال ابن عباس: لو يعلم المقيمون ما للحجاج عليهم لأتوهم حتى يقبلوا رواحلهم، إنهم وفد الله من جميع الناس، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تلقوا الحجاج والعمار والغزاة، فمردهم أن يستعفروا لكم. قبل أن يتدنسوا، وينبغي للناس إذا تلقوا الحجاج أن يلتزموهم، بتأويل أنهم قد التزموا البيت الحرام. فإن قبلوا ما بين أعينهم لأنهم سجدوا على الحجر وفي الكعبة مسحوا جباههم عليها. وأعينهم لأنهم نظروا بها إلى الكعبة فذاك حسن. والأصل في تلقي المسافر أن جعفر بن أبي طالب قدم يوم فتح خيبر من الحبشة فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أدري، لأنها أشد فرحًا بفتح خيبر أم بقدوم جعفر). فتلقاه فالتزمه وقبل ما بين عينيه. ويستحب للمسافر إذا رجع أن يدعو بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أقبل من سفر كبر ثلاثًا وقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون، ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده). يقول ذلك كلما علا شرفًا أو أبنية، أو هبط واديًا. وينبغي للقائل أن يقدم ضحى النهار، فإذا بلغ نزل مسجده فصلى فيه ركعتين. وإن كان ممن يزار جلس لمن يزوره. وإذا رجعوا دخل بيته. كذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. لا يقدم إلا نهارًا في الضحى، وبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين، ثم بالناس في قيامهم ومسائلهم. وإذا دخل بيته قال: بسم الله وصلى الله على رسوله، ثم سلم. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل على أهله راجعًا من سفره قال: (توبا توبا لدينا أوبا لا يغادر علينا حوبا). وقال سفيان الثوري: إذا أردت سفرًا فصل ركعتين حق تخرج من بيتك وإذا رجعت فدخلت بيتك، فصل ركعتين، وإذا دخلت فقل: السلام عليكم، اللهم أسألك خير هذا المدخل، وأسألك خير هذا المخرج بسم الله دخلنا وبسم الله خرجنا، وعلى الله توكلنا، ولا ينبغي أن يقدم ليلًا إلا أن يكون أعلمهم قادم بيوم أو بيومين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تطرق النساء ليلًا. وأرسل رسولًا فأذن للناس فأخبرهم أنه قادم بالغداة. وقدم عبد الله بن رواحة من سفر فتعجل إلى أهله ليلًا، فإذا في بيته مصباح وشيء قائم مع امرأته، فأخذ السيف فقالت امرأته: هذه فلانة مشطتني. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطرقوا النساء ليلًا). وإذا قدم المسافر فينبغي أن يبدأ بأفضل أهله إن كانوا متفرقين في بيوت، فإنه يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم

من سفر، دخل المسجد فصلى ركعتين، ثم أتى فاطمة فسلم عليها ثم أتى منزله فقدم من سفر فصلى ثم أتاها فسلم عليها فجعلت تقبله وتبكي. وكان عبد الله إذا قدم من سفر، دخل على ابنته فأخذ برأسها وقبلها. ويقال للحاج إذا قدم: بر الله حجك وغفر ذنبك. ومن لم يكثر صح فحسن أن يقول: ورزقنا مثل ما رزقك. ويروى أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: تقبل الله نسكك، وعظم أجرك، واخلف نفقتك، وكان ابن سيرين لا يزيد على أن يقول: تقبل الله منا ومنكم وغفر لنا ولكم. ويستحب للمسافر إذا دنا من منزله أن يبر زاده ويطعمه للناس. روى نافع عن ابن عمر أنه كان إذا دنا من المدينة بر زاده فأطعمه. وقيل إنما نعمل بالمتزود من عند الأهل. فأما إذا استجده في سفره، فإذا شاء أدخله منزله، والأحسن أن يكن ذا حاجة إليه أن يتصدق به شكرًا لله على رده إلى أهله وماله. ويستحب للمسافر إذا رجع واستقر في منزله أن يطعم الناس، فعله الصالحون من سلف هذه الأمة. قال نافع: كان ابن عمر لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر إلا أن يمرض، فإنه كان رجلًا كريمًا يحب أن يؤكل عنده. وقال حماد بن زيد: كان أيوب السجستاني رضي الله عنه إذا قدم من سفر أطعم الناس ثلاثة أيام، يأتيه إخوانه فيضع مائدته ويضع يده مع كل ما جاء، ثم يقول: لقد أكلت اليوم كذا وكذا مرة، قال: وقدم من مكة فجعل يدخل عليه ناس من إخوانه فيقرب إليهم فسمعته من آخر النهار، وقد قرب إلى قوم شيئًا يقول: أكلت اليوم عشرين مرة.

السادس والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في الجهاد

السادس والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في الجهاد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار}. وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم قبل فرض الجهاد منازل مع المشركين. فأول ذلك أنه كان يوحى إليه فلا يؤمر في غير نفسه بشيء، ثم أمر بالتبليغ، فقيل له: {قم فأنذر} فأشفق ذلك، فنزل: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}. فاعلم أن خوفه على نفسه إن بلغ أن لا يقع اسم الخلاف عنه إذا لم يبلغ ولا يزيل عنه حكمه، ثم بشر وراء ذلك بالعصمة من يخشاه من القتل. فلما بلغ كذبوه واستهزأوا به، فأمر بالصبر، وقيل له: {فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين}. وأخبره عن الذين لم يؤمنوا به بأنهم لا يؤمنون، فقال: {قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد}. ثم أمر باعتزالهم فنزل: {واصبر على ما يقولون، واهجرهم هجرًا جميلًا}. ونزل: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم}. يعني يخوضون في حديث غيره، {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}. ثم أذن لمن أمر به في الهجرة دونه، فنزل: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرة وسعة} فأمر رسول

الله صلى الله عليه وسلم جماعة بالهجرة إلى ديار الحبشة، وذلك قبل أن يسلم أهل المدينة فلما أسلموا أمر جماعة منهم بالهجرة إليها غير محرم على غيرها أن يقعدوا، ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة، فقال: {وقل رب أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا}. قيل: أراد أخرجني مخرج صدق وأدخلني مدخل صدق. فهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير محرم على من يخلف عنه أن يقيم بمكة، وإن كانت دار شرك. ثم إن الله تعالى أذن لهم في قتال من يقاتلهم، ولم يأذن في ابتداء المشركين بالقتال، فنزل: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}. ثم أذن لهم في الابتداء، فقال: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير}. فقد قرأ قوم يقاتلون، فرجع إلى معنى ما قبله. ثم إن الله تعالى فرض الجهاد على رسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وفرض الهجرة على المتخلفين بمكة من المسلمين إلى أن فتحت مكة، فأسقط ذلك عنه فرضها، وقال: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية). فأنزل الله في فرض الجهاد: {كتب عليكم القتال وهو كره لكن، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم}. {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة}. {وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم} {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} {وجاهدوا في الله حق جهاده} {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب}. ثم ألزم الجهاد إلزامًا لا يخرج منه، فقال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعدًا عليه في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به}.

ومعلوم أنه لا يكون هناك مانع بأن يقول يعتاد بقول الله {اشترى} وإنما أريد به أنه لما فرض الجهاد، صار قبوله والطاعة له فيه من الإيمان، حق إن لم يقتلوا كفروا. وكان فرضه بشرط أن من قتل أو قتل في سبيل الله، فله الجنة. فمن قتله على هذا كان بادلًا نفسه بالجنة، وذلك في جريرة المبايعة، فكانوا بائعين. والله عز وجل مشتريًا من هذا الوجه. وكل بائع بثمن إلى أجل، مكلف أن يسلم فتسد بذلك فرض الجهاد ولزومه والله أعلم. ثم إن الجهاد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان على منزلتين: أحدهما: أن يجهز سرية، فيكون على من بعثه أن يخرج من أن يكون له فيه خيار، قال الله عز وجل: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}. والأخرى: أن يخرج بنفسه، فكان يلزم عادة المطيعين أن يخرجوا بخروجه إلا من يتخلف لما يراه، فيكون له القعود بإذنه. قال الله عز وجل: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه}. وهذا في القوم المجاورين له القيمين معه في بلده. فأما الناؤون عنه، فكان حكمهم إذا دعاهم أن يستجيبوا وإن استنفرهم أن ينفروا، وإن أمرهم بالانضمام إلى جيش قد بعثهم أن ينضموا، وإن قعدهم عدو أن ينفر منهم من تقع به الكفاية في دفع العدو، ولقول الله عز وجل: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة}. وهذا هو الحكم بعده في عامة البلدان لا يلزم أهل بلدنا بأسرهم أن ينفروا إلا أن يحتاج إلى جميعهم، ولا يسمح لأحد يطيق القتال أن يتخلف وإن استغنى ببعضهم لم يلزم الجماعة أن يخرجوا والله أعلم. وإن لم يقع نفر منهم، فينبغي للإمام أن لا يعطل فرض الجهاد، وأن يكون له كل سنة غزو كيلا يأمن الكفار جوانب المسلمين فيبدأوهم، وهو مطلق في الأوقات كلها لا يختلف المسلمون في شيء منها إلا في الأشهر الحرم، فإن أكثر العلماء، على أن تحريم القتال

فيها منسوخ، وقول عطاء بن أبي رباح أنه نائب. ويلزم كل من يقول: إن الدية تغلظ على القاتل في الشهر خطأ، أن تثبت حرمة الأشهر الحرم، فإن أبى لم تنهض حجته، بل يلزم لمن يقول: القتال فيها مباح أن يقول: ليس في الشهور شهر حرام أن لا يثبت الأشهر الحرم، ويزعم أن تحريم القتال فيها منسوخ لأنه لا يظهر لحرمتها أثر في تحريم القتال. فإن كان ذلك زائلًا. فالأشهر كلها متفقة وليس منها شهر حرام، ولا أعلم أحدًا من المسلمين أطلق ذلك. وتحريم القتال في الأشهر الحرم إنما هو تحريم ابتداء به. فأما قتال من يقاتل فلم يكن حرامًا، وليس اليوم بحرام. وروى عطاء بن جابر رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو في الأشهر الحرم إلا أن يغزوا. ومن أنكر ما قلنا محتجًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا الطائف في ذي قعده، فليست حجته بالبينة، لأنه لما غزا هوازن غزاها لست بقين من رمضان، فكانت جمعت جموعًا كثيرة منها ثقيف. فلما فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم انهزم المشركون إلى الطائف. فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا الطائف في شوال، فكان هذا معارض لما رواه غيرنا. فإن ثبتت له روايته، فقد يجوز أن يكون غزاهم في شوال فلم ينفصل الأمر معهم حتى دخل ذو القعدة. وكان لإمامهم إن رجع أن تكون منهم عطفه على المسلمين، فلم ينصرف. أن يكون علم أن المشركين انهزموا إلى الطائف ليستظهروا بمن فيها فيكروا. فقصد الطائف يريد الذين قاتلوه، ثم انحاز إلى غيرهم وكان ذلك في معنى قتال المقابله لا في معنى الابتداء والله أعلم. لو أردت أن استوفي جميع ما في القرآن من الآيات الدالة على فرض قتال المشركين لخرج هذا الكتاب عن الحد الموضوع، وفي الآية الواحدة بما كتبت كفاية، فكيف في جميعها؟ ونقول: إن الجهاد من أعظم أركان الإسلام لأنه لا شيء أعز على أحد من الحياة، فإذا بلغ بأحد تعظيم الله تعالى حده وحبه، والغيظ من يشرك به وبغضه إن قاتله، ورضي بما يؤول أمره إليه من أن يَقْتِل أو يُقْتَل، فأبت نفسه أن يرى عدوًا لله ما شاء على وجه الأرض منعمًا بالحياة متقلبًا في نعمة الله جل جلاله، ثم هو في ذلك كله يكفر به، فأما أن يجحده وإما أن يشرك به من لا خلق له، فلا رزق منه ولا ضر ولا يقع بتوقع منه، فدعته الحمية إلى أن يجاهده. فأما أن يرده إلى الحق، وإما أن يقتله. ثم

أن قتل العدو، فلا هم من ذلك على قلبه، بأن يخرج من الدنيا فلا يحتاج إلى أن يلقى عدوًا لله بالصفة التي ذكرناها. فكان الموت أحب إليه من لقائه، وجب أن يعلم أن إيمانه أصدق الإيمان، وأن إخلاصه أكمل الإخلاص، فلذلك زود الله تعالى من ذكر فضل الجهاد بعدما كره من أحكام فرضه ما لم يفعله منها في فريضة من فرائض الإسلام. وجاء من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا ما لم يجيء في شريعة من شرائع الإسلام. وسنذكر ما تيسر من الآي والأخبار في ذلك إن شاء الله. فإن قال قائل: فما بال الجهاد لم يذكر في الحديث الذي قيل فيه (بني الإسلام على خمس). قيل: لم تذكر في بعضها الشهادة بأن محمدًا رسول الله، فلا يدل ذلك على أنها ليست من أركان الإيمان. وقد يجوز أن يكون أراد العبادات التي لا يتعجل منها ثواب في الدنيا فذكر الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج، ولم يذكر الجهاد لأنه قد يتعجل ثوابه في الدنيا وهو الغنيمة. وعلى أنه قد جاء ذكره في بعض الأخبار، لأنه روى أي العمل أفضل، فقال: (الصوم في يوم الصيف، وجهاد أعداء الله بالسيف). وقد ذكر مع الصوم في غير هذا الحديث ويجوز أن يكون ذكر خمسًا لا تسقط عن أحد بأن يفعله غيره لنفسه. والجهاد ليس كذلك، لأن النفير إذا وقع فخرج من تقع بهم الكفاية ودفعوا العدو، سقط الفرض عن الباقين. ويقال: أراد خمسًا لا يمكن أن يتوصل إليها إلا مع الإسلام، فإن الصلاة لا تصح إلا من مسلم، والزكاة لا تؤخذ إلا من مال مسلم، والصوم لا يجوز إلا من مسلم، والحج لا يتأدى إلا من مسلم، سواء حج بنفسه أو حج عنه غيره. وليس كذلك الجهاد، لأن المسلمين إذا احتاجوا إلى المشركين فلهم أن يستأجروهم على القتال معهم، فإذا قاتلوا كان ذلك جهادًا للمسلمين، ولو أن عاجزًا عن الحج استأجر كافرًا ليحج عنه ما صح ذلك ولا أجرى. فإنما عد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الأركان التي لا يمكن تحصيلها إلا

بنفس مسلمة. فإن قيل: أليس الزكاة تؤخذ من المرتد فتجري عنه قيل: لا تؤخذ زكاة وإنما يؤخذ دينًا لأهل الصدقة ينتفعون بها، ولا تعود على المأخوذ منه وهو كافر، لأنها لا تزكيه ولا تطهره. وما جاء به الكتاب من فضل الجهاد على وجوه: فمنها التحريض عليه والإشارة على فضله، وضمان الثواب عليه. ومنها الدلالة على فائدته ومنفعته والتقية على الضرر الذي في التخلف عنه. ومنها مدح المجاهدين في سبيل الله، والثناء عليهم. ومنها إعطاء من يقتل في سبيل الله اسم الشهادة. والإخبار بجنانه عنده. فأما ما جاء في الحث عليه، فقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم. وأخرى يحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}. فدلهم على ما للجهاد من عاجل الفائدة وأجلها. فأما العاجل فهو النصر على الإعداد وما يرزقونه من فتح بلادهم، ونعيم أموالهم وأهليهم وأولادهم. وأم الأجل فهو الجنة والنعيم المقيم، فقال عز وجل: {فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف يؤتيه أجرًا عظيمًا}. وأما ما جاء في الآيات عن فائدة الجهاد والضرر الذي تركه، فمنه قوله عز وجل: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} وأبان أنه لولا دفع الله المشركين بالمؤمنين، وتسليط المؤمنين على دفعهم عن بيضة المسلمين وكسر شوكتهم وتفريق جمعهم لغلب على الأرض، وارتفعت الديانة، فثبت بهذا أن سبب بقاء الدين وإتباع أهله العبادة إنما هو الجهاد، وما كان بهذه المنزلة فحقيق أن يكون من أركان الإيمان، وأن يكون المؤمنون في الحرص عليه في أقصى الحدود والنهايات والله أعلم.

وأما مدح الله تعالى المجاهدين، فقد قال الله عز وجل: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هو المؤمنون حقًا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم}. وقال: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله أموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا، درجات منه ومغفرة ورحمة، وكان الله غفورًا رحيمًا}. وأما إعطاؤه عز وجل اسم الشهادة من قتل في سبيل الله، وذلك على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد قيل معناه: أنهم ثبتوا بما بذلوا عن أنفسهم في سبيل الله إيمانهم وصدقهم وإخلاصهم، واستواء ظواهرهم وبواطنهم في طاعة الله عز وجل. وأصل الشهادة التبيين أو لهذا يصح أن يقال: شهد الله أي بين الله لعباده أنه إلههم ولا إله غيره، بما ألزم خلقه من دلائل الحدث، ووضع في عقولهم من إدراكها والاستبصار بها وقيل شهادة الشهود بينه لذلك. وقيل معنى الشهيد: أنه يكون يوم القيامة بمنزلة الرسل، فيشهد على غيره بمثل ما يشهد الرسول. وهذا أحد تأويل قول الله عز وجل: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس}. وقد قال الله عز وجل: {وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم}. والشهيد من تكون له شهادة كما للرسل. وأما حياة الشهيد، فقد نص الله تبارك وتعالى فقال: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون}. {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}. فروي في ذلك عن الحسن قال: تغوص الأرزاق على أرواح الشهداء، فتصل إليهم نعمة ذلك وسروره، بما لا يستطاع وصفه بمنزلة قوله: النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا. فالنار تعرض على هؤلاء الكفار فيصل إليهم وجمع ذلك وألمه بما لا يستطاع وصفه. ومن ذهب أن جملة الإنسان ثلاثة أجزاء. نفس وروح وبدن، فإنه يقول: إن أجزاء الحيوان جعلت متفاوتة في اللطافة والكثافة. فكانت العظام أكثف ما فيها، فجعلت

حاملة اللحم، واللحم أكثف من العروق فجعلت حاملة العروق، والعروق أكثف من الدم فجعلت حاملة للدم، والدم أكثف من الروح فكان حاملًا له، والروح جسم رقيق لطيف، إلا أن النفس ألطف منه، فكان الروح حاملًا للنفس. وكانت الحياة وعامة الإدراكات التي تحاذي الحياة من أوصاف النفس. فصارت الروح تحيي النفس ما دامت مجاورة لها، والبدين يحيي بالروح. فإذا انتزع الروح من البدن، مات البدن. وتبقى الروح حية بالنفس إلى أن تورد القبر مع البدن الميت وينقضي السؤال ثم يفرق بين الروح والنفس فتموت الروح. واختلف في النفس فقيل تبقى وقيل تبطل، وهذا في غير الشهداء. فأما الشهداء فإنه لا يفرق بين أرواحهم وأنفسهم، ولكنها تنقل إلى أجواف طير خضر، كما ورد به الحديث الذي هو أولى ما يقال به، ويستسلم له. وتعلق تلك الطير من ثمر الجنة، فتستمد روحه من غذاء بدن الطائر كما كان يستمد في بدن الشهيد من غذائه، ويصل إليه لذلك من اللذة والنعمة والبهجة أضعاف ما كان يصل إليه من أطيب شيء كان يصبه البدن في الدنيا كانت مشوبة بالمضار والمفاسد، وما في الجنة منها يزداد على الأوقات طيبًا ولذة، وتكون نفسه فرحة مغتبطة بما صارت إليه، مستبشرة بما يعلمه من أحوال الذين يلحقون بهم من بعد، وأنهم صابرون إلى مثل هذا المصير، كما قال عز وجل {يزرقون} {فرحين} {ويستبشرون}. فلا يزال ذلك حال الشهيد إلى أن ينشر فتعاد روحه ونفسه إلى بدنه من غير أن يصعق عند النفخ في الصور، لقول ابن عباس رضي الله عنه في قوله {إلا من شاء الله} قال: هم الشهداء، ويحشر مع سائر أهل الحشر وينقضي الحساب والعرض، فيرد بجميع أجزائه إلى الجنة ليشترك ما كنف منها وما لطف في التنعيم بنعيمها والتلذذ بلذاتها وبالله التوفيق).

فصل والجهاد فرض بجميع المال والبدن، ولهذا قال الله عز وجل: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} وقال: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}. وقد جاءت بالحث على بذلهما في سبيل الله عز وجل، وفضله أخبار كثيرة، وتكلم أهل العلم في ذلك، وفي وجوب أحكامه، فأكثروا لما جاء في هذا الباب حديث أبي ذر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل خير؟ قال: (إيمان بالله وجهاد في سبيل الله. قال: فأي الرقاب خير؟ قال: أرأيت إن ضعفت عن ذلك، قال: تدع الناس من شرك فإنها صدقة تصدقها على نفسك). وعنه صلى الله عليه وسلم: ما أفضل الأعمال؟ قال: جهاد لا غلو فيه، وحجة مبرورة. قيل: فأي الصلاة أفضل؟ طول القنوت. قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما حرم الله عليك). روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: (الصلاة لوقتها: قيل فما يلي إثر ذلك؟ قيل: بر الوالدين: قيل: فما يلي إثر ذلك؟ قال: الجهاد). وفي حديث آخر قال عبد الله بن مسعود: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة لوقتها: قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين). ففي هذا تقديم الجهاد على بر الوالدين. وفي الذي قبله تقديم بر الوالدين على الجهاد. فذكر إمامنا الذي هو أعلى من لقينا من علماء أئمة عصرنا صاحب الأصول والجدل، وحافظ الفروع والعلل، وناصر الدين بالسيف والقلم، والمربي بالفضل في العلم على كل علم، أبو بكر بن محمد بن علي الشاشي رحمه الله، في جملة ما خرج هذه

الاخبار عليه إن القائل يقول: خير الأشياء كذا، لا يزيد بفضله في نفسه على جميع الأشياء، ولكن أنه خيرها في حال دون حال، ولو أحد دون آخر، كما قد يتضرر واحد بكلام من غير موضعه فيقول: ما شيء أفضل من السكوت، أي لا يحتاج إلى الكلام، ثم يتضرر بالسكوت. فيقول: ما شيء أفضل للمرء من أن يتكلم بما يعرفه. فيجوز هذا للإطلاق كما جاز للأول. ويقول القائل: فلان أعقل الناس وأفضلهم، يريد أنه من أفضلهم وأعقلهم. وروى خياركم خيركم لأهله، بل يكون ذلك على معنى: أي من أحسن معاشرة أهله فهو أفضل الناس. وقيل: شراركم عزابكم أي من شراركم لأنه وإن كان صالحًا فإنه معرض نفسه للشر غير آمن من الفتنة. وإلا فالفساق شر منهم، وفي العزاب صالحون. وروي: ما من شيء أحق بطول السجن ممن أشان، وقد يكون الفاسق المفسد أحق بذلك منه. وروي: ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق، ومعلوم أن الصلاة والجهاد أعلى منه. وروي: خياركم إليكم مناكب في الصلاة. وقد يوجد لين المنكب فيمن غيره أفضل نفسًا ودينًا منه. وإنما هو كلام عربي يطلق على الحال والوقت، على إلحاق الشيء المفضل بالأعمال الفاضلة على أنه أفضل من كذا وكذا، لا من كل شيء غيره. ويقال في المثل: أزهد الناس في العالم جيرانه، وقد يكون فيمن بعد عنه من هو أزهد، وأكذب الناس القريب. فيطلق على الغائب، وعلى معنى أن أولئك من أزهد الناس، وهذا من أكذبهم. وقد يحضر المسجد سباق ومسبوق، فيقال: خيركم السابق، ولعل في المسبوقين خير منه. ولكن المعنى: بيان ما في السبق من الفضل. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم).فكان معنى ذلك أنهم في الجملة خير من غيرهم. وقد يوجد فيمن يخلف عنهم أفضل من بعضهم، إلا أن ذلك عند التفضيل. وعلى هذا ما يروى من جواب النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل الذي يدخل الجنة، روي أنه قال للسائل (لا تغضب). وروي أنه قال لبعضهم: (أعني على

نفسك بكثرة السجود)، وهذا- والله أعلم- على أن الواحد قد يكون معتدل الجانب في أكثر الخصال، ثم يغلب عليه خلاف ذلك في بعضها، فيخاف عليه منه، فينهى عنه على معنى أنه إن ترك تلك الصلاة، الخصلة لم تكن فيه وراءها ما يذم. وقد يكون أكثر ما يخاف منه الضرر على الدين في بعض الأوقات ترك الجهاد. فيقال: أفضل الأعمال الجهاد. وإذا عود الأسباب باجتماع الكلم والمعاون على حماية الجورة وصلة الرحم، أي في ذلك الوقت، ثم يقع الأمن، ويبيد العدو، فيكون الإقبال على تعلم القرآن ودرسه أفضل، فيقال: أفضل الأعمال قراءة القرآن. فأما تقديم بر الوالدين على الجهاد في خبر وتقديم الجهاد على بر الوالدين في خبر، فقد يخرج على أنه لم يزد بحرف في الترتيب. وإنما قيل: ثم أي على معنى، ثم ما الذي يحل محله فيحافظ عليه، وقد قال الله عز وجل {فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيمًا ذا مقربة، أو مسكينًا ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}. ولم يكن ذلك من تأخير الإيمان عن الإطعام، وإنما كان على أنه: أهل فك أو إطعام، وكان مع ذلك من المؤمنين الذين هم أهل الصبر وأهل المرحمة. فكذلك هذا، والله أعلم. قال: ويبين ما قلنا، أن فاطمة قالت: أتى رجل من الأنصار قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل أستقيم عليه وأعمله! قال: (عليك بالصوم، فإنه لا مثل له، الله أخبرني). قلما قال في كل واحد منهما لا مثل له، علمنا أنه أراد التسوية بنيهما في علو القدر وعظم الأجر. قال: وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الحج والجهاد، فروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان. ثم الجهاد في سبيل الله بعد ذلك عمل حسن. هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عمر: عليكم بالحج فإنه عمل صالح، أمر الله به والجهاد أفضل منه. وهذا القولان قد يتفقان، فيقال: إن الحج فرض يلزم الإنسان لعينه، والجهاد

يفرض على الكفاية. فمن لم يحج حجة الإسلام وهي عليه، فالحج أفضل له من الجهاد لعينه عليه وبيانه غيره في الجهاد عنه إذا وقعت الكفاية بهم في دفع العدو دونه، وهكذا من لم يحج ولا حج عليه، إلا أنه لا حاجة بالمسلمين إليه في الغزو، أو كان ممن لا يغني عنا، أو لا يسد مسدًا، فالحج أفضل له، لأنه في الأصل على ما ذكرت. وقد يكون عظيم الغنى كثير البلاء، فيكون الجهاد أفضل له، إذا كان قد حج حجة الإسلام، لعموم يقع جهاده نفسه وغيره، واختصاصه ينفع الحج، وليس في تقديم الصائم بالذكر على الجهاد أو الحج ما يوجب تفضيله عليهما في كل حال. فإنه مع ذلك قد أمرنا بالفطر في السفر للحج والجهاد وقال: إنكم لاقوا العدو غدًا فافطروا وتقووا لعدوكم، وافطروا يوم عرفة، وأبو بكر وعمر لما فيه من التقوى على الدعاء ذلك اليوم إذ كان لفضل الدعاء يوم عرفة، واستحب الإفطار في السفر، لمن إذا صام صار كلًا على أصحابه، وجعل عمله مع الإفطار أفضل من أن يصوم، ويحتاج غيره إلى أن يعمل له، ولا شك في أن الصلاة أفضل من الصدقة، ثم قد يحدث حال يحتاج فيها إلى مواساة مضطر وإصلاح ذات بين، فتكون الصدقة أفضل من الصلاة. ثم قد رأى البيان ما قلنا في الأخبار. روى عبد الله بن عمر، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حجة لمن لم يحج خير من عشر غزوات، وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج). روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حجة قبل غزوة أفضل من خمسين غزوة، وغزوة بعد حجة أفضل من خمسين حجة، ولو وقف في سبيل الله أفضل من خمسين حجة). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حجة لمن لم يحج أفضل من أربعين غزوة، وغزوة لمن قد حج أفضل من أربعين حجة). فاحتمل أن يكون القصد من هذه الأخبار بيان تضعيف أجر الغزو على الحج لمن قد حج، وأن أقصاه خمسون ثم قد ينقص منها إلى أربعين وإلى ما دونها حتى تبلغ عشرًا حسب موضع الجهاد في وقته، وموضع الحج في وقته، على مقدار ما يحضر يؤدي كل واحد منهما من النية والإخلاص.

ويحتمل أن يكون المعنى أن الحج أفضل من الغزو في حال كذا، بأضعاف كثيرة. ولغزوة أفضل من الحج في حال كذا بأضعاف كثيرة. ويعبر عن التضعيف مرة، وعن التكثير مرة بالعشر، ومرة بالأربعين ومرة بالخمسين ومرة بالمائة ومرة بما دونها أو فوقها. ولو ذكر بعد الثلاثين أو العشرين جاز وكثر من نحو هذا، فذكر بالسبعين كما قيل: ما ضر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة، فهذا هو الوجه في تخريج هذه الأخبار، وهو سبيل أهل العلم المتبعين للآثار والله أعلم، وهو تمام كلام الإمام القفال رحمه الله. ومما جاء من الأخبار في فضل الجهاد، ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (إن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه: قلت: بلى يا رسول الله. قال: أما رأس الأمر فالإسلام، وأما عموده فهو الصلاة، وأما ذروة سنامه فالجهاد في سبيل الله). ومعنى هذا- والله أعلم- إن الإسلام هو الذي لا يصح شيء من الأعمال إلا به، فإذا فات لم يبق معه عمل. فهو كالرأس الذي لا يسلم شيء من الأعضاء إلا ببقائه. وإذا فارق الجملة لم ينتفع بعد شيء من الأعضاء. وأما الصلاة فإنها عمود الأمر، والأمر هو الدين، لأن الإسلام لا ينفع ولا يثيب من غير الصلاة، ولا يغني قبولها عن فعلها، لأن الإسلام وحده لا يحقن الدم حق يكون معه أقام الصلاة، ولأن العرب لم تكن تمنع وتأنف كامتناعها وأنفتها من الصلاة لما فيها من الركوع والسجود وكان منهم من يشترط إذا أسلم أن لا ينحني. ولهذا قال أبو طالب: إني أكره أن تقول نساء قريش أن أبا طالب علته استه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). أي لم يحقق إيمانه فلذلك قيل الصلاة عمود الإيمان، وإنما قوله وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، فقد قيل معناه: إنه لا شيء من معالم الإسلام أشهر ولا أطهر منه، لأن الصلاة إنما يرثها المسلمون بعضهم من بعض، وكذلك الحج. فأما الجهاد فإن المسلمين يجتمعون عليه مجاهدين المشركين، وينشر خبر ما يجري بينهم من الداني والقاصي. والهجرة في هذا كالجهاد، فهي معه وفي حكمه وإذا كان كذلك فقد

صار الجهاد كذروة السنام الذي لا شيء من البعير أعلى منه، وعليه يقع بصر الناظر من البعد. وبهذا كانت العرب عند الفخر بحسب الشريف تقول: ذروت بالسنام أي أنا في ذروة الحسب وهو أعلاه، والله أعلم. ومنها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل أمة رهبانية، ورهبانية أمتى الجهاد في سبيل الله). ومعنى هذا أن النصارى كانت تترهب بالتخلي عن إشغال الدنيا، فلا تخل أكثر من بذل النفس في سبيل الله فتقتل. وأيضًا فإن أولئك المترهبة كانوا يزعمون أنهم أنما يخلون بالصوامع والأديرة لئلا يؤذوا أحدًا، ولا أذى أشد من ترك المبطل على باطله، لأن ذلك يعرضه للنار. فإن لم تكن الرهبانية دفع الأذى عن الناس، فالجهاد دافع عن المجاهدين، أعظم الأذى فهو الرهبانية إذا لا يتوهمه النصارى والله أعلم. وفيه وجه آخر وهو أن مترهبة النصارى يجري على أيديهم مما هو عندهم احتساب وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ما لا يقدر على الامتناع منه أمر ولا مأمور. فقيل: الرهبانية هي جهاد هذه الأمة، لأنه رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يحابي فيه من المشركين رئيس ولا مرؤوس والله أعلم. ومنها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل دين مأخوذ من حساب صاحبه إلا من أدان في ثلاث: رجل ضعفت قوته في سبيل الله فيقوى على قتال عدوه بدين فمات ولم يقض، ورجل خاف على نفسه الفتنة في العزوبة، واستعفف بنكاح امرأته بدين فمات ولم يقض، ورجل مات عنده رجل مسلم فلم يجد ما يكفنه إلا بدين فمات ولم يقضه، فإن دينه يقضى عنه يوم القيامة). ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من انفق في سبيل الله جعلت له ميزانه كل غداة). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من انفق في سبيل الله كتبت له سبعمائة ضعف)

وفي بعض الروايات (نفقة فاضلة). وهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن يراد بها النفقة البينة ذات الرواء والموقع الجميل. والآخر يراد بها المال الفاضل عن الحقوق المعجلة، فلا يكون المنفق بإنفاقه في سبيل الله مضارًا زوجته أو ولده أو أباه أو أمه أو عبده وأمته أو بحريمه أو نفسه. ومنها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من جهز غازيًا أو حاجًا أو معتمرًا أو خلفه في أهله، فله مثل أجره). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من أعان مجاهدًا أو مكاتبًا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله). ومنها ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو أن رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، فلا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيى ثم أقتل ثم أحيى ثم أقتل، ثم أحيى ثم أقتل). ومنها تعظيم حياته من يخون مجاهدًا في سبيل الله. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل نساء المجاهدين على القاعدين في الحرمة كأمهاتهم. فلا تخالف رجل من القاعدين إلى امرأة رجل منهم فيخونه فيها إلا وقف له يوم القيامة، فيقال له: هذا أخانك في أهلك، فخذ من حسناته ما شئت فما ظنكم يراه يدع من حسناته شيئًا). وهذا- والله أعلم- لعظم حق المجاهد علي، فإنه ناب عنه، وأسقط بجهاده فرض الخروج عنه، ووقاه مع ذلك بنفسه، وجعل نفسه حصنًا وجنة دونه، فكانت خيانته له في أهله أعظم من خيانة الجار في أهله، كما يحكون: خيانة الجار أعظم من خيانة البعيد والله أعلم. ومنها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل المجاهد مثل القائم الذي لا يفتر، ومثل الصائم الذي لا يفطر حتى يرجع المجاهد إلى أهله).

ومنها ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يضمن الله لمن خرج في سبيله لا لا يخرجه إلا إيمانًا وتصديقًا له أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر وغنيمة). ومنها ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمها الله عن النار). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من صام يومًا في سبيل الله باعده الله من النار سبعين خريفًا). وفي رواية أخرى (مسيرة مائة عام). وهذا والله أعلم. في تغليظ البعد كما يقول: الواحد كلم صديقه، فأجابه بما لا يليق بقصده، بين ما أقول وبين ما تقول عشر فراسخ، أو يقول له: أنا في واد وأنت في واد، أو يقول: أنا بالمشرق وأنت بالمغرب، لا يريد بذلك إلا شدة التنائي وبعد ما بين الكلامين أو القصدين، وهذا من هذا والله أعلم. ومنها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف امرئ مسلم) وقد روي (في منخر) وروي (في قلب). ولا يجمع الإيمان والشح في قلب عبد مسلم. ومن قال (القلب) فإنما أراد كرب العباد والدخان. ومنها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل من نبت على الجهاد حتى شاب فيه، قال: (من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورًا يوم القيامة) وهذا- والله أعلم- عند إظلام الموقف من دخان جهنم، فيعطي كل واحد من المؤمنين نورًا بقدر عمله. قال الله عز وجل: (ويجعل لكم نورًا تمشون به). ومنها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صدق رأسه في سبيل الله فاحتسب غفر الله له ما كان قبل ذلك من ذنب).

ومنها ما جاء من الأخبار في الشهادة والشهداء. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم القرصة يقرصها). وعنه صلى الله عليه وسلم (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته). وعنه (صلى الله عليه وسلم): (ما من عبد يموت له عبد، الله خير محب أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا، وما فيها إلا الشهيد). بما يروى من الشهادة، فإنه يحب أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجار: (أشعرت أن الله تعالى أحيي أباك، فقال له: بمن؟ قال: ارجع إلى الدنيا فما قتل قتل، قضيت عليهم أنهم لا يرجعون). وعنه صلى الله عليه وسلم: (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمار بها، وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم فقالوا: من يبلغ إخواننا عنا، إنا أحياء في الجنة تزرق لئلا يتكلوا عند الحرب، فلا يزهدوا في الجهاد قال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فنزل: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين). وعنه صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: (زملوهم بكلومهم ودمائهم، إنهم يبعثون يوم القيامة وجروحهم تسقط دمًا، اللون لون الدم والريح ريح المسك) وفي بعض الروايات (تسحب). وهذه الأخبار التي جاءت بفضل الجهاد والإنفاق فيه ومعونة المجاهد وفضل الشهادة وثواب الشهيد، ومن قتل: والآيات الواردة في فضل الجهاد ووعد الثواب عليه، قوله عز وجل: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطأون موطئًا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلًا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديًا إلا كتب لهم

ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون). وغير ذلك. فإن جميعها فيمن جاهد وقاتل لتكون كلمة الله العليا، ودين الله هو الظاهر. كان قبل الجهاد من المصلحين لما قيل عمل صالح قبل الغزو، فإنما يقاتلون بأعمالكم. فأما من جاهد وقاتل رياء أو سمعة وليأخذ في الديون برزق المقاتلة أو ليصيب مغنمًا، أو كان من أهل الكبائر والمفسدين، فلا هو إن قتل من الشهداء الذي يكونون عند الله يرزقون فرحون، ولا من الذين لا تجمعهم الجنة، ولا من الذين وعدوا المواعيد التي سبق إيتاؤها وغيرها ما لم تأته. ويدل على ذلك ما روي أبو موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله). وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: افتتحنا خيبر ثم انصرفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، وتبعه عبد له، يقال له ضيغم، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه سهم منحرف فأصابه فمات، فقال: هنيئًا له الشهادة هنيئًا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من الغنائم لم يصبها المقاسم تشتعل عليه نارًا). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته) وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديث بين، وهو إن إعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: الرجل يقاتل ليغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه. فمن في سبيل الله؟ قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فذلك في سبيل الله)، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (فذلك في سبيل الله) أي فذلك هو الذي أراده الله تعالى بقوله {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}. وقوله: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}، وأبين وأعظم مما روينا كتاب الله عز وجل فإنه تعالى جده لما قال {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون

ويقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن} بين أن هؤلاء البائعين المشتري منهم: من هم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، وبشر المؤمنين أي فبشر الذين آمنوا، أي وبشر الذين هذه صفاتهم بأن الله واف بعهده لهم، وهو اشتراؤه أنفسهم وأموالهم للقتال في سبيل الله بالجنة، فإنهم هم المؤمنون بالإطلاق والمعنيون بقوله {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن ...}. فصح أن المفسد الفاسق والمقاتل رياء وسمعة وطريًا ومدحًا أو ليصيب مغنمًا، خارجون من هذا الضمان والله أعلم. وإذا كانوا خارجين من أنه البيع والشراء، خرجوا من أنه الشهادة، لأنها في المقتولين في سبيل الله، وسبيل الله ما يثبت وأهله من قرأت فيهم من كتاب الله ما قرأت والله أعلم. فصل وإذا أنفذ الإمام جيشًا أو سرية، فينبغي أن يؤمر عليهم صالحًا أمينًا محتسبًا، لأن القوم إليه ينظرون، وإذا لم يكن خيرًا في نفسه كانت أعماله بحسب سريرته، وكانت أعمال القوم بحسبها مضاهية بها، وإن رأوا منه كسلًا كسلوا، وإن رأوا فشلًا فشلوا، وإن ثبت ثبتوا، وإن رجع رجعوا، وإن جنح إلى السلم جنحوا، وإن جد جدوا، وما هو إلا كإمام الصلاة الذي (إن) خفف الصلاة خففوا، وإن أطال أطالوا، وإن عجل عجلوا، وإن أخر أخروا. وأيضًا فإن العدو إنما يفرق من رئيس القوم، فإذا سمع بذي ذكر كان ذلك أهيب له من أن يسمع بخامل لا صيت له. وإذا سمع بشجاع غير فرار كان أيسر من مقاومته منه إذا سمع بفشل جبان. وإذا سمع بلين يطمع في خداع مثله كان أجرًا على استقباله منه إذا سمع بقلب في الدين شديد في الناس، ليكون ما يكون من العدو إقدامًا وإحجامًا، بحسب ما يبلغه من حال رأس المسلمين. فلهذين الشيئين وجب أن يكون الرأس مستصلحًا جامعًا لأسباب الغناء والكفاية والله أعلم.

فإن ذكر ذاكر قصة طاغوت، وإن الله عز وجل ملكه على بني إسرائيل، وهو يومئذ دباغ، لا نبأ له ولا صيت، ولم يكن من أهل بيت النبوة والملك، لأن النبوة والملك كانا في بني طالوت وبين يهودا، وهو إنما كان من نسل ابن يامين، ولم يكن فيهم نبوة ولا ملك. قيل له: إنما كان ذلك محبة من الله تعالى بهم، فقد كان عهدهم بالجهاد في سبيل الله بعيدًا منقطعًا، وعلم أن ذلك يسبق عليهم، فابتلاهم حق أطاعوا أمره، وانقادوا لطالوت فأمرهم بنصره لما سمعوا وأطلقوا بعدما رجعوا بينهم، واضطربوا واستفتوا إن تمليك طالوت ليس رأيًا من بينهم، وإنما هو أمر الله تعالى ووحيه بما أتاهم من طالوت، فسكنوا إليه، أمدهم الله تعالى بداود عليه السلام، وأجرى على يده من قبل جالوت. وجمع لهم أمرين محبوبين: أحدهما هلك العدو والاستراحة منه، والآخر جرى الأمر على مدمن كان من أهل النبوة والملك دون طالوت الذي كانوا يكرهونه، ومثل هذا لا يدري أنه يتفق اليوم إذا كان رأس الجيش غير حر ولا مستلم أو لا يتفق، فوجب الاحتياط والله أعلم. وينبغي للإمام إذا أراد الجهاد أن يستعرض من أهل القتال، فمن يراه ضعيفًا يكسب أو مرض أخرج، وإن رأى في دوابهم لا يعلم أنه لا يصلح أمر بإبداله. ويتأمل أسلحتهم فما كان منها رديئا لا يصلح العمل به أمر بتبديله. ومن كان منهم غير تام السلاح أمر بإتمامه. ومن صحب الجيش غير المقاتلة، فمن يعلم أن فيه فائدة للمقاتلة ومنفعة خلاء والخروج متهم. ومن خاف أن يكون كلا وبالًا عليهم منعه ورده. ويرد ضعاف الرجالة وذوي الآشنان منهم، لأنه لا يدري لعل هزيمة تقع فيوطأون. وإن رأى فيهم جبانًا يخشى أن يفرق ويخذل غيره رده. ويوصي الإمام إمام السرية والجند بتقوى الله، وطاعته، والاحتياط والتيقظ ويحذرهم الشتات والفرقة والإهمال والغفلة. ويأخذ على الجند أن يسمعوا ويطيعوا أميرهم ولا يختلفوا عليه، ولا يدعوا له النصيحة ولا يخذل بعضهم بعضًا، ولا جماعتهم للأمير. وإن أظفرهم الله تعالى على العدو ولم يغلوا ولم يخونوا ولم يعتدوا، ولم يقتلوا امرأة ولا تقاتلهم ولا وليدًا، ولا يعقروا من دواب المشركين التي لا تكون تحتهم دابة. وأنهم إن وصلوا إلى قرية لا يدرون حالها أمسكوا عنها وعن

أهلها، ولم ينبؤهم ولم يشنوا الغارة عليهم حتى يعلموا إلى غير ذلك من الآداب التي يحتاجون إلى معرفتها سوى ما يعلمهم، أو يخشى أن يكون فيهم من لا يعلمه ما يلزم، ويحل أو يحرم من أمر القتل والأسر والنعم، والقسم وعزل الخمس، ومن بسهم له أو لا بسهم، ومن رسخ والفرق بين الفارس والراجل ونحو ذلك كما يعلم إمام الحاج يخطبه الناس من أحكام الحاج ما يظن أنهم أو بعضهم يجهلونه، وأقام الصلاة الناس في خطبة العيد ما يليق بها من أمر زكاة الفطر، أم سنن النحر. ويأمرهم إن كان العدو الذي يقصدونهم من أهل الكتاب أن يكفوا عنهم إن ضمنوا الجزية، وأن لا يكفوا عنهم وإن ضمنوها إذا لم يكونوا من أهل الكتاب، ولا يقبلوا منهم إلا الإسلام، وإن كان العدو لا يعلمون ظاهر دين الإسلام، ولم يسمعوا أنه أمرهم أن يرسلوا إليهم ويدعوهم إلى الإسلام، فإن سألوا عنه بينوه لهم، فإن لم يجيبوا إليه قاتلوهم، ويأمرهم إذا قتلوا المشركين إن لم يمثلوا بهم، ولا يطمعوا منهم متاعًا إن كانت معهم من كلب أو فهد أو غيرهما. وينبغي أن تكون نية الإمام في بعث السرية صيانة جورة الإسلام، وإعلاء كلمة الله، وحمل عباده على دينه وطاعته، وإجابته إلى إتباع أمره وعبادته، وكذلك السرية تنوي وآمرها. وإذا مضوا باسم الله فلاقوا العدو، فليتعوذوا بالله تعالى منهم، وليقولوا: اللهم إن بلاؤك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، وإذا قاتلوا فليقولوا: اللهم بك نصول ونجول، وليقولوا: إياك نعبد وإياك نستعين، وليقولوا: اللهم منزل الكتاب وسريع الحساب هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم، وإن حصوهم فليقولوا شاهت الوجوه، وإن رموهم فليقولوا: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وليبلي المؤمنين منه بلاءًا حسنًا}. وإن بينهم العدو فليكن سفارهم {حم} لا ينصرون وليقولوا: {حم عسق} تفرق أعداء الله، وبلغت حجة الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وليقولوا إذا دخل العدو ديارهم فلقوهم: {ثم لا يجاوزونك فيها إلا قليلًا، ملعونين أينما ثقفوا، أخذوا وقتلوا تقتيلا}. وليقولوا إذا صابوهم: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم، وينصركم عليهم. ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب

غيظ قلوبهم}، وليقولوا جندنا: هنالك مهزوم من الأحزاب. وليقولوا: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} وليقولوا فكفروا به {فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم، والسلاسل يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون}. وإن صبحوا دارهم فليقولوا: الله أكبر، هزم العسكر {فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين}، وإن ثبتوهم، فليقولوا: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون}. وإن جاءوه فليقولوا: {أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون، أفأمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}. وليقولوا في عامة أحوالهم وأوقاتهم: {حسبنا الله ونعم الوكيل}. وليقولوا: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا}، {إن كيد الشيطان كان ضعيفًا}. وإن كان العدو يهودًا، فليقل المسلمون في وجههم: {وقالت اليهود يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا}. {فما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين}. وليقولوا المعوذتين غدوة وعشيًا، وإن وقعت هزيمة فتبعهم العدو فليتحصنوا منهم بقراءة قوله عز وجل: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا، وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورًا} {وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا، فأغشيناهم فهم لا يبصرون} وإن هزموا العدو، فليقولوا على آثارهم: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}. وليقولوا: {مالكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير} وإن لج العدو وثبتوا، فليقولوا: {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار}.

وليقولوا {إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار} وليقرأوا: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه}. وليقولوا: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا}. وليقولوا: {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلمًا}. وليقولوا: {ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين، ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون}. وليقولوا: {ومكروا مكرًا ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، إنا دمرناهم وقومهم أجمعين} وليقولوا إذا حملوا على العدو: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون}. {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم}. وليقولوا: {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا} وليقولوا: {اعرض عن هذا، إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم أتاهم عذاب من غير مردود وليقولوا: {وإذا تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من سوء العذاب، إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم}. وليقولوا: {فما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا} وليقولوا: {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم شر ممزق}. وإن حمل العدو عليهم فليقولوا لأنفسهم: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}. وليقولوا: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يودعون} إلى آخر السورة. وإذا دنوا منهم فليقولوا: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}.

وليقولوا: {فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها، وكان الله بما تعلمون بصيرًا}. وليقولوا: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب}. وليقولوا: {الله الذي جعل لكم الأرض قرارًا}. وإن لحق العدو مددًا فليقل المسلمون: {لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون}. وليقولوا: {والقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله}. وإن لحق المسلمون مدد فليقولوا: {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم، وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم}. وإن تحصنوا من العدو موضع، فليقولوا: {إن تصدوهم فأووا إلى الكهف، ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهيء لكم من أمركم مرفقا. وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وهم في فجوة منه، ذلك من آيات الله}. وليقولوا: {فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا}. وإن تحصن العدو منهم فليقولوا إن قصدوه: {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء، وكان وعد ربي حقًا}. وليقولوا: {اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو}. وليقولوا إذا خافوهم: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}. وليقولوا: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا، يعبدونني لا يشركون بي شيئًا}. وليقولوا: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين}. وليقولوا: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار}.

وليقولوا: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} وليقولوا: {وأنتم الأعلون والله معكم، ولن يتركم أعمالكم}. وإن حاصروا العدو أحدقوا به، فليقولوا: {إنا اعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقًا} وليقولوا: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان. يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران}. وإن حاصرهم العدو وأحاط بهم فليقولوا: {قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب}. وليقولوا: {ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهم وقومهما من الكرب العظيم، ونصرناهم فكانوا هم الغالبين}. وليقولوا: {وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه، فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم، وكذلك ننجي المؤمنين}. وإن رماهم العدو بالنار فليقولوا: {يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين}، {فأنجاه الله من النار}. وليقولوا: {الله أكبر، الله ربنا ومحمد نبينا، وأنت يا نار لغيرنا}. وليقولوا: {كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله}. وإن رموا العدو بالنار فليقولوا معها: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفًا}، وليقولوا: {إنها لظى نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى}. وليقولوا: {ويقذفون من كل جانب، دحورًا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} وإن رموا العدو بالمنجنيق فليقولوا: {جعلنا عاليها سافلها، وأمطرنا عليها حجار من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}. وإن رماهم العدو

بالمنجنيق فليقولوا: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} وليقولوا: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} وإذا دخلوا أرض العدو فليقولوا: {بسم الله، لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحًا قريبًا}. وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها، فجعل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطًا مستقيمًا}. وليقولوا إذا كانت الريح تصفق وجوه العدو: {إنا أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر}. وإن كانت الريح تهب على وجوه المسلمين، فليقولوا: {وهو الذي يرسل الريح بشرًا بين يدي رحمته}. {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته}. وليقولوا: {اللهم أجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا}. وليقولوا: {اللهم إنا نسألك من خير ما تأتي به الرياح ونعوذ بك من شر الماء والهياج. وإن بارز مسلم مشركًا فليقرأ عليهم: {فساهم فكان من المدحضين}. وليقل: {فوكزه موسى فقضى عليه}. وليقل: {فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}. وإذا التقى الصفان فليدع أمين السرية وليسأل الله الصبر والفتح ويأمر الناس. فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء) وقال: (ما يرد على داع دعوته حضر الصلاة، والصف في سبيل الله). وقد جاء في بعض ما تقدم ذكره من الآداب عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنه كان إذا بعث جيشًا أو سرية أمر عليهم أميرًا ثم دعاه فأوصاه بتقوى الله خاصة نفسه، ثم أوصاه بمن معه من المسلمين خيرًا. ثم قال: (اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، فإذا لقيت عدوًا من

المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خلال أو خصال، فإنهن ما أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن فعوا فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى المهاجرين، فاخبرهم أنهم إن فعلوا، فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما عليهم، وإن دخلوا فى الإسلام واختاروا دارهم فاخبرهم أنهم بمنزلة إعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا حق لهم في الفيء والغنيمة إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. وإن هم أبوا أن يدخلوا في الإسلام، فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكف عنهم، وإن هم أبوا فأستعن الله عليهم وقابلهم). فإن سأل سائل عن بعض ما في هذا الحديث فقال: لم قبلتم الجزية من أهل الكتاب وكففتم بها عنهم، وفي ذلك إيهامهم إنكم تقاتلونهم على المال دون الدين: وأقل ما في ذلك أن تسلكهم هذا منكم في أمركم، وتظنوا أنكم لستم على بصيرة من دينكم. فإن أرادوا الدخول في الإسلام لم يدخلوا، وإن هموا برفض الكفر توقفوا، فهلا أخذتم الكفار كلهم مجرى واحد وقابلتموهم أو تسلموا. فالجواب- وبالله التوفيق- إنا إنما نقبل الجزية من الكافر متمسك بما كان أصله دينًا لله من قبل، وكان ذلك موروثًا له من آبائه الأصليين في ذلك الدين أو الداخلين فيه، مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كان بخلاف هذه الصفة لم نقبل منه الجزية .. ووجه هذا إن الذين ذكرناهم لم يقصدوا التغليظ من الدين، وترك العبادة أصلًا، لكنهم تمسكوا بما كان أصله في وقته حقًا، فلم يجز أن نهجم عليهم بالقتل إذا كانوا لا يقاتلون، لأنا إنما نقاتلهم على شروط الذين تداخلوا أنهم ليلتزموها ويضموها إلى الأصل الذي هم مغرمون به. فلو قتلناهم قبل أن نيأس من إجابتهم، لقوينا المقدار الذي هم باذلون به من التدين، ولناقض ذلك دعاؤهم إلى ضم غيره وزيادة ما يعوله عليه. فثبت بهذا أنهم إذا كانوا غير مقاتلين، فواجب أن نكف عنهم ولا نبدأهم بالقتال حتى نقدم فيه دعوة. فإن لم يجيبونا ولم يسألونا إمامًا ولا عهدًا، فقد تعرضوا للقتال وأيسرنا من رشده، فجاز لنا قتالهم. وإن كانوا متمسكين من الديانة بشيء، لأن ذلك المقدار على الإنفراد ليس بدين

ولا هو مقبول لله عز وجل منهم، ولا نافع إياه عندهم بوجوده وعدمه سواء. وكان تطهير الأرض منهم أولى من أن يتركوا متقلبين في نعمة الله غير دائنين دينه الذي ارتضاه لهم ودعاهم إليه. فإن طلبوا منا أمانًا عقدنا لهم وأمسكنا به عنهم بقول الله عز وجل: {وإن أحد من المشركين إستجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}. ومعنى ذلك- والله أعلم- إن القرآن أخذ بمجامع القلوب وحجة باهرة للقبول، فيرجوا إنهم إذا اختلطوا بنا وشاهدوا إعلام ديننا، وسمعوا كلام ربنا، وسنن نبينا صلى الله عليه وسلم استبصروا ونزعوا عن كفرهم وأسلموا، فكان عقد الإيمان لهم رفقًا، يرجو أن يعود بما لا يعود به العنف، فقدمناه وآثرناه. وأما إن عرضوا علينا الجزية ودعوناهم إليها وأجابوا، وجب الكف عنهم لقول الله عز وجل: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}. ومعنى ذلك- والله أعلم- إنهم لو استأنفوا بلا مال، ولم يكن على المسلمين ضرر من إيمانهم وجب إيمانهم، فإذا انضم إلى ذلك ضمان بمال، كان الكف عنهم أولى، لأنهم إذا استأمنوا كان حظنا من الأمان كحظهم. فإما نأمنهم كما يأمنونا، وإذا بدلوا كانت لهم في إجابتهم زيادة رفق لا يكون لهم بإزائه مثله، بل يكون عليهم فيه صغار ذلة من وجوه: أحدها إنهم يصبرون كالعبيد المخارجين يسعون ويكسيون من يلزمهم إن ردوا إلينا ما وقع العقد عليه من غير متابعة ولا مداينة ولا استهلاك ولا خيانة، وهذا صورة العبيد الذين يستكسبهم ساداتهم، وفي ذلك متعبة لهم على رفض السبب الذي أنزلهم هذه المنزلة وهو الكفر. فإن قيل: إنهم إذا كانوا عند أنفسهم مخفين لم نبعثهم هذه المذلة التي تلحقهم لأجل دينهم على أن يرفضوه كما لو وقع مثل هذا، لكن لم يبعثكم على رفض دينكم، إن كنتم تعلمون مثل أنفسكم إنكم محقون.

قيل: ليس كذلك بل مبطلون، لأن الله- تعالى جده- أخبرنا إنهم يجدون نبينا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وإنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن الحسد هو الذي يحملهم على لزوم كفرهم. ونزل الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونحن من هذه الأخبار في ثقة ويقين، فذلك الذي يمنعنا أن دفعنا من جانبهم إلى أمر نكرهه. وسيكفينا الله تعالى ذلك بفضله. ونفيناه إلى أن نرفض ديننا. وأما هم فإن حالهم إذا كانت ما ذكره الله تعالى من إنصاف ذلك لخوف الذلة والصغار، أتاهم قرب ذلك نزوعهم عما هما فيه، فإنهم إنما يتمسكون بدينهم ما داموا يقدرون لأنفسهم في الثبات عليه حظًا من الدنيا. فإذا تفرد عندهم أن لا دنيا ولا آخره لم يثبتوا عليه. فهذا فرق ما بيننا وبينهم. فإن قيل قد ثبتوا ولم يغن استدلالكم إياهم شيئًا: قيل العقل السليم يدعو إلى ما ذكرنا فإن ذهب عنه ذاهب فذاك لا يفسد هذا الأصل. وقد يذنب بعض الناس دينًا فيخلد عليه، ثم يعود فيخلد فيتكرر ذلك منه، وعليه دفعات فلا يرتدع، ولا يدل ذلك على أن عقوبة المجرم بالضرب الشديد ليست في موضع الردع والزجر، بل هي كذلك في حكم العقل، فإن ذهب عنه ذاهب لم يقدح ذلك في الحق والحكمة شيئًا والله أعلم. وفي أخذ الجزية عنهم معنى آخر وهو أن يكون سر غناهم المكان بين أولياء الله في أرضهم ودارهم إلا ببذل يعود منهم عليهم، لتكون منزلتهم بين الأولياء بأديانهم، منزلة الأجنبي من صاحب المنزل. وفي هذا من الصغار ما لا يخفى. ثم هو في البعث على الر جوع إلى الحق، وترك التمادي في الباطل نظير الوجه الذي تقدم ذكره. وفي جملة ما كتبنا ما أبان أن قبولنا الجزية من أهل الكتاب لا يوهم أن قتالنا إياهم ليس على الدين ولكنه لأجل المال، وخصوصًا إذا كنا نشترط عليهم أن تكون أحكام الإسلام جارية عليهم، ولا يجاهدوا بكفرهم ولا أن يسمعوا المسلمين قولهم في عيسى بن مريم، ولا صوت الناقوس، ولا يفتنوا مسلمًا عن دينه، ولا يسقوا صبيًا من صبيان المسلمين ولا عبدًا من عبيدهم خمرًا يحتسونه بذلك. ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة، ولا يظهروا فيها حمل خمر، ولا ادخار خنزير. ولا يحدثون بنا، يطولون به بناء المسلمين، ويقصروا الزنانير على أوساطهم ويفرقوا بين هيئاتهم وهيئات المسلمين في الملبس والمركب. ولا يركبوا الخيل ويقتصروا على الحمير والبغال، وإن ركبوا البراذين فبالأكف دون السروج.

ولا يشبهوا على مسلم فيسقوه خمرًا أو يطعموه خنزيرًا. وإن من ذكر منهم كتاب الله أو نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ما لا نطلبه الإسلام، أو طعن في دين الإسلام، أو زنا بمسلمة أو أصابها باسم نكاح، أو غير مسلمًا عن دينه، أو تعرض لأن يفتنه، أو قطع على مسلم طريقًا، أو أعان على أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عتيًا، فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت منه ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم. فكيف يتوهم عاقل لأجل إقرارنا إياهم في دار الإسلام بالجزية مع هذه العهود الغليظة والمواثيق المحكمة، إن قتالنا إياهم على المال لا على الدين، وإن القتال لو كان لأجل المال لما رضينا بدينار من كل رأس في سنة، ولما شققنا عليهم بهذه الشروط، بل كنا نزيد في المال وننقص من الشروط. ولكنا لا نسقط المال ونضعه عنهم إذا أسلموا، فلما كنا نزيل المطالبة بالمال عنهم إذا أسلموا، وإذا لم يسلموا فوضعنا المال عليهم، قللنا المال وخففنا، وأكثرنا الشروط وغلظنا. فقد خففنا عند من يعقله، ويتصف بما لا يزيد بإيمانهم على الجزية إلا ما يزيد بنفس القتال من التسبب إلى أفعالهم في دين الحق. وصرف قلوبهم عن الباطل الذي هم فيه وبالله التوفيق. وأما الكفار غير أهل الكتاب، فإن الجزية لا تقبل منهم، لأن قبولها من أهل الكتاب إنما كان لاستثنائهم رجاء أن يضمنوا شروط دين الحق إلى القليل من أصل الدين الذين هم متمسكون به. وأن يجذفوا عن ذلك الأصل ما ضمنوه إليه مما هو غير لائق به. فمن تجرد عن الديانة أصلًا وتمسك بما لم يكن دينًا لله تعالى قط، ولم يبعث به رسولًا، ولا أنزل به كتابًا، ولا رضي من أحد به دينًا، فلا معنى أن يترك نفسه عليه وهي مخلوقة للعبادة لا لغيرها وهو حابسها عن نفسه. فأنا نعلم أن من كان له مملوك قد اشتراه، فامتنع من خدمته أصلًا من غير عدة، كان له أن يؤذيه ويضربه أن يمهله وينظره، فإذا كان جنس المملوك المشتري للخدمة، خدمته توجب عليه أن لا يخل والتنعيم بنفسه لكن يضرب ويؤدى ويؤدب. فحبس المملوك المخلوق للخدمة عن الخالق خدمته، أولى أن توجب عليه أن لا يخلى والتنعم بنفسه والله أعلم. فإن استأمن على أن يدخل دار الإسلام لحاجة يبلغها في مدة قريبة جاز، لأن ذلك انتظار، وليس بتخليه، وقد يرجى أن يستبصر في هذه المدة، وينفعه الاختلاط بالمسلمين، والسماع بينهم، فكذلك أجبت.

فأما قبول الجزية فإن تخلية، لأن ذلك يتأبد ولا يتأقت، والتخلية غير لائقة بحاله. وإن استرق عزل، لأن نفسه صارت مأخوذة عنه بالاسترقاق، وصار الحق فيها استرقاقه. فإن كان تعطله عن الدين يوجب أن لا يخل والتنعم بنفسه فهو إذا استرق، فلم تخل له نفسه، لأنه إذا أراد أن يقعد قيم، وإذا أراد أن ينام أن يلبث سير. وإذا أراد أن يسير فلم تخل له نفسه لأنه إذا أراد أن يقعد قيم، وإذا أراد أن ينام أزعج، وإذا أراد أن يلبث سير، وإذا أراد أن يسير لبث. ولا يأكل إلا إذا أطعم. وتحقيق ما قلنا أنه لا يمكنه استيفاء نفسه إلا بالمال والرق، يحول بينه وبين ملك المال، فقد حال إذا بينه وبين استبقاء نفسه، فظهر بذلك إنه زائل السلطان عن نفسه والله أعلم. وإذا عرض المسلمين ما يحول بينهم وبين الجهاد، فرأى الإمام أن يهادن المشركين، فإن كانت بالمسلمين قوة، إلا أنهم اشتغلوا ببعض أمورهم عن الجهاد لم يكن للإمام أن يهادن أحدًا من المشركين. فإن كانت بالمسلمين أكثر من أربعة سنين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان هادنهم أكثر من ذلك. فلما قوي الإسلام رد الله تلك الهدنة إلى أربعة أشهر. وإن كانت بالمسلمين قلة العدد والعتاد، وعلموا أنهم لا يطيقون ابتداء المشركين بالقتال، ولا دفعهم عن أنفسهم أن يدرأوهم، فللإمام أن يهادنهم عشر سنين. فإذا قوى المسلمون وزالت العلة نقض الصلح كما نقضه الله تعالى لما دخل الناس في دين الله أفواجًا، وقوي الإسلام وظهر الحق، ورد الأمر إلى أربعة أشهر والله أعلم. ولا يحل أن يهادنهم على ما يطيقونه إلا في حال قتال يخاف فيها الاصطدام ولن يكون ذلك أبدًا إن شاء الله تعالى.

السابع والعشرون من شعب الإيمان وهو باب المرابطة في سبيل الله

السابع والعشرون من شعب الإيمان وهو باب المرابطة في سبيل الله قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفحون}. والمرابطة في سبيل الله نزل من الجهاد، والقتال منزلة الاعتكاف في المساجد من الصلاة، لأن المرابط يقيم في وجه العدو متأهبًا مستعدًا، حتى إذا أحس من العدو تحركه أو غفله، نهض فلا يفوته بالتأهب من والإتيان من بعد فرضه، إن كانت أعرضت ولا يتعذر عليه تدارك خلل إن وقع، فيترامى ويعظم ويصير إلى أن يسبق تلاقيه. كما أن المعتكف يكون في موضع الصلاة مستعدًا، فإذا دخل الوقت وحضر الإمام قام إلى الصلاة ولم يشغله عن إتيان المسجد شاغل، ولا حال بينه وبين الصلاة مع الإمام حائل. ولا شك في أن المرابطة أشق من الاعتكاف، فإذا كان الاعتكاف مستحبًا مندوبًا إليه، فالمرابطة مثله والله أعلم. على أن صرف الهم إلى انتظار الصلاة قد سمي رباطًا. فجاء في بعض ما تقدمت روايته من الحديث فيما يكفر به من الخطايا، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط. وقد وردت في هذا الباب أخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم: فمنها أنه قال: (من رابط فواق ناقة وجبت له الجنة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من مات مرابطًا في سبيل الله أومن من شر عذاب القبر، وناله أجره إلى يوم القيامة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من

صيام شهر وقيامه. فإن مات جرى عليه أجر المرابطة ويؤمن من الفتان، ويقطع لهم برزق من الجنة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من مات مرابطًا في سبيل الله مات شهيدًا، ووفاه الله فتان القبر، وأجرى عليه أحسن عمله وعدى عليه وربح برزقه من الجنة) وعنه صلى الله عليه وسلم: (إذا استشاط العدو خير جهادكم الرباط). يعني إذا بعدتم، إن سنة المرابطة في سبيل الله إن قعد من الخيل والسلاح ما يحتاج إليه، إذا كان انتظار الوقعة من غير استعداد لها تعرضًا للهلاك، وليس ذلك من التي قال الله عز وجل: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}. وأمر الله تعالى باستكمال العدة، ونص على الخيل لأنها من أعظم المعاون إذ كانت تصلح للطلب والهرب. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الناس رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله فكلما سمع هيعة طار إليها). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة). فقيل له: يا رسول الله، بم ذاك. قال: (الأجر والمغنم إلى يوم القيامة، والإبل عز لأهلها والغنم بركة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (الغنم بركة والإبل مجد لأهلها والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، والعبد أخوك فأحسن إليه، وإن وجدته مغلوبًا فأعنه). وعنه صلى الله عليه وسلم (الخيل معقود بنواصيها الخير والنيل إلى يوم القيامة، فخذا بنواصيها، وادعوا بالبركة وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار). وقيل: أراد لا تطلبوا عليها الدخول، وقيل:

أراد الأوتار أنفسها، فهي إن تقلدوها لئلا تختنق. وعنه صلى الله عليه وسلم: (الخيل ثلاثة هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر). فأما الذي له أجر، فالذي يحبسها في سبيل الله ويعدها له، فهو لذلك أجر، وكل شيء تغيبه في بطونها، فله به أجر حتى ذكر أرواثها وأبوالها أنه له أجر. وله أنه من يموج في عرفة كان له بكل خطوة خطاها أجر، ولو أنه من نهر فشرب منه كان له بكل قطرة غيبت في بطونها أجر. وأما الذي له ستر فالرجل يتخذها محملًا، ولا ينس حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها. وأما الذي عليه وزر، فالذي يتخذها أشرًا وبطرًا ورياء الناس ومدحًا عليهم. وعنه صلى الله عليه وسلم: (من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديق موعد الله، كان شبعه وروثه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة). ومعنى (الخيل معقود بنواصيها الخير) إنها ميمونة مبارك فيها لأهلها، لأن العرب تقول: فلان ميمون الناصية، وربما قالوا: ميمون الطلعة، ويحتمل أن يكون المراد بذكر النواصي جرها إلى الركوب. لأن الناصية موضع القبض عليه، كما يقال في الدعاء: نواصينا بيدك. أي منقادون لك متحرون نحو أمرك، وإذا ارتبط الغازي فرسًا، فليتحر أن يكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أردتم أن تغيروا فاشتروا فرسًا أدهم أفرخ أرتم أغر محجلًا، طلق اليد اليمنى، فإنك تغنم وتسلم. فإن لم يكن أدهم فخمنت على هذه الشبه). أو قال: (الصفة). ومما يبين نفاسة الخيل ورفعة قدرها أقام الله عز وجل بها على (ما) تكون عليه في حال الحرب، وذلك قوله عز وجل: {والعاديات ضبحًا فالموريات قدحًا، فالمغيرات صبحًا، فأثرن به نقعًا، فوسطن به جمعًا}. فذهب ابن عباس

ومن بعده عكرمة ومجاهد وعطية، وأبو الضحى وقتادة إلى أن القسم وقع على الخيل التي يغزا عليها، ويغار بها على العدو. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه سرية فأبطأ عليه خبرها، فتخوف عليها فنزلت {والعاديات ضبحًا} إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها وبشارة له بإغارتها على القوم الذي بعثت إليهم. ومن ذهب إلى أن الله عز وجل أقسم بها، قال: أراد بالعاديات الخيل تعدو فتصبح في عدوها بما يشبه التخبط من شدة العدو. وقيل: كانت تغم لئلا تصهل فيعلم العدو، فكانت تتنفس في هذه الحال بعوده. {والموريات قدحًا} قد جاء أنها تقدح بسنابكها النار من الحجارة إذا عدت. {والمغيرات صبحًا} لأن غاراتهم كانت تكون في الصباح. {فأثرن به نقعًا} أي أثرن بالعدو الذي العاديات عليه غبارًا. {فوسطن بها جمعًا} أي دخلوا به، أي بالعدو جمعًا. وهو الجمع الذي أريد وقصد والله أعلم. وأيضًا قول الله عز وجل: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (القوة الحصن، ومن رباط الخيل الأبار- يعني الحجور). وروى عقبة بن عامر رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إلا هو الرمي). وقد يجوز أن تكون اللفظة جامعة للحصن والرمي لأن كليهما قوة. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرمي إخبار كما جاءت في الخيل: منها إنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والمسد به). وقال: (ارموا، وارموا، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وكل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا تأديبه فرسه، ورميه من قوسه، وملاعبته لامرأته،

ومن تعلم الرمي ثم تركه فهو نعمة تركها) ومما يدل على رفعة قدر الرمي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجمع لأحد بين أبويه، ولا في أمر من الأمور غلا سعد بن ملكه في رميه، فإنه قال له يوم أحد: (ارم فداك أبي وأمي). فقد يجوز أن يكون قال ذلك، ولكنهما معًا في الرمي دون غيره والله أعلم. وعنه صلى الله عليه وسلم، أنه مر عليهم فرآهم يرمون قال: (ارميا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا).

الثامن والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في الثبات للعدو وترك الفرار من الزحف

الثامن والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في الثبات للعدو وترك الفرار من الزحف قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار}. وجملة القول في هذا إن الزحفين إذا التقيا من المسلمين والمشركين، فاقتتلا وقتل الكثير فإن كان المشركون في العدد مثلهم أو مثليهم فحرام عليهم أن يفروا، ويتركوا مواقعهم مولين ظهورهم إلا أن يكون وراءهم فئة، يريدون أن يتحيزوا إليهم، فيقووا بهم، ثم يكروا على العدو، فينصرف انفراكهم بمكيدة من مكائد الخوف، نحو أن يوهموا أنهم قد انهزموا، ليتفرق العدو، فينصرف بعضهم ويقيم بعض، ويتبعهم بعضهم، فعسى أن يصيبوا من التابعين لهم ما يريدون. أو يمكنهم كرة على الواقفين في مواضعهم ونكاية فيهم. فإذا كان الرجوع لواحد من هذين فهو جائز، وإن كان على وجه الفرار فهو من الكبائر. وأما إذا كان الرجوع العدو أكثر من مثلي المسلمين إن تبينوا لهم ما أطاقوا فإذا عجزوا وخافوا الاصطدام، فلهم أن يهربوا. والأصل في هذا قول الله عز وجل: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة، فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير}. فأما معنى هذه الآية إن هذا الوعيد على من فر من مثله أو مثليه لأنه نزال اسمه، كان فرض على المسلمين أن يثبتوا لعشرة أمثالهم، فقال:

{يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا} ثم نسخ هذا برأفته لعباده فقال: {الآن خفف الله عنكم، وعلم إن فيكم ضعفًا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله}. ففرض الثبات للمثل والمثلين، ولم يزد على ذلك. فعلمنا إن الوعيد المذكور في تلك الآية على الفار من المسلمين، فأما الفار من الامتثال فلا وعيد عليه والله أعلم. وإذا كان الفار غير مملوك وهو ممن وقع منه كبيرة، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار يوم الزحف في سبيل الله، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة وتعلم السحر والربا، وأكل مال اليتيم). وعنه صلى الله عليه وسلم: (لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا وأكثروا ذكر الله. وإن جلبوا وضجوا فعليكم بالصمت). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من قال: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، ثلاثًا غفرت له الذنوب، وإن كان فارًا من الزحف). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فلقينا العدو، فخاض الناس خيفة، فانهزمنا. فقلنا: نهزم في الأرض، فلا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء مما صنعنا. ثم قلنا: لو أتينا المدينة فاشترينا منها وتجهزنا. فلما أتينا المدينة قلنا: لو عرضنا أنفسنا على النبي صلى الله عليه وسلم. فلما خرج عند صلاة الفجر، قمنا بقال من القوم، قلنا: يا رسول الله، نحن الفارون: قال: (بل أنتم الفكارون رأيًا في كل مسلم). والفكار: الكرار: فقد يخرج هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حضر القتال لم يجز لهم أن يغزوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة بعيدة. فأما أن يكون لها، مسلمين

للنبي صلى لله عليه وسلم ومخلين بينه وبين العدو تلاق، وأما إذا بعث سرية وجلس بالمدينة فصلى، كان لهم إذا خافوا على أنفسهم من مثليهم أن ينحازوا إلى المدينة على أن يستمدوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أمدهم وأمرهم بالعود عادوا، فأما أن ينجوا برؤوسهم ويقعدوا في بيوتهم فلا. فلما أعلم تلك الطائفة النبي صلى الله عليه وسلم بحالها، قبل أن تقر في بيوتها، ومن غير أن يحقن على انسحابها، أخرجها ذلك من حكم الفرار والله أعلم. وفي هذا دليل على أنها أرادت الانحياز إلى فئة، فسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة، وسواء وجدوا من يعينهم في بعض الحصون أو القرى، أو كانوا لا يجدون عونًا إلى أن يأتوا مصرًا من الأمصار ويبلغوا حضرة وإليهم والله أعلم. فإن قيل: وما المعنى في إيجاب الثبات للمثلين، منصورون مؤيدون من قبل الله تعالى، والمشركون مخذولون، فإذا تساوى الفريقان في العدد، ولم يتكافآ في القوة، فجعل الإثنان من المشركين، كالواحد من المسلمين كما جعل المرأتان في الشهادات بمنزلة الرجل، لضعف رأيها وقصور حالها عن حال الرجل والله أعلم. فإن قيل: إن كان المسلمون مؤيدين من قبل الله تعالى، فلا يلزمهم الثبات لأكثر من المثلين. قيل: لأن ذلك التأييد لا يبلغ أن يعجز المشركون عن المقاومة أصلًا، فإن ذلك حينئذ يزيل فضل الجهاد، ويرفع ما في الجهاد من معنى التعبد، وإنما يكون تأييدًا يليق بطباع البشرية حتى يصير الواحد به مثلًا كاثنين. وقد أخبر الله عز وجل بذلك فإنه قال في آية {إن تنصروا الله ينصركم}. ثم قال: {وإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين}. فأما أن النصر الموعودة هي أن الواحد حتى يصير كالاثنين منهم. وإذا كان كذلك، لم يجب الثبات لأكثر من المثلين مع ظهور أمارات العجز، والله أعلم.

التاسع والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في أداء خمس الغنم إلى الإمام أو عامله على الغانمين

التاسع والعشرون من شعب الإيمان وهو باب في أداء خمس الغنم إلى الإمام أو عامله على الغانمين قال الله عز وجل: {واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبي، إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، والله على كل شيء قدير}. فأبان عز وجل قوله {إن كنتم آمنتم بالله} إن عليه الخمس للأصناف الخمسة من الإيمان. وجاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إن وفد عبد القيس قدموا عليه فقال: (مرحبًا بالوفد غير الخذايا ولا الندامى. قالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في الأشهر الحرام، فحدثنا ما يحمل من الأمر إن علمنا بها دخلنا الجنة، وندعوا بها من ورائنا، فقال: آمركم بالإيمان بالله وحده لا شريك له. وهل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا من المغنم الخمس. وأنهاكم عما ينتبذ في الجسم: الدباء والنقير والحنتم والمزفت). ولم يختلف المسلمون في إن ما غنمه جيش المسلمين فعنه الخمس، وإنما اختلفوا في الواحد والاثنين والثلاثة يدخلون دار الحرب، فيعرض لهم فيها قتال فيغنموا، وعموم الآية التي صدرنا الباب بها لا يفصل بين ما يغنمه العدد اليسير أو يغنمه العدد الكثير، ولا يفصل أيضًا بين الجماعة الكبيرة تقاتل معًا فتغنم، وبين جماعة من المسلمين يدخلون دار الحرب فتتفرق فيها فيلقى كل واحد منها على الانفراد من حيث لا يشعر به الآخرون قتالًا، فيظفر ويغنم ثم يجتمعون. ويوجب أن يكون فيما

غنموه الخمس. وفي ذلك إيجاب الخمس فيما أصابه كل واحد منهم. وليس الواحد مجاهد الواحد، يريد بجهاده ما يريد الجيش العظيم بجهادهم، وهو إعادة كلمة الله ولا يملك ما تناله يده حتى يختار ملكه، فإن فيما نغنمه من الخمس ما يكون غنيمة الخمس والله أعلم. وقد اختلف في الفيء، قيل بخمس. وقيل: لا بخمس. وظاهر القرآن يدل على أنه مخموس، لأن الله عز وجل قال: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}. ولا خلاف في أن الفيء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كله لهؤلاء الأصناف الخمسة خاصة. فثبت أن المراد بالآية خمسة، ثم زيد ذلك بيانًا بالآية التي بعدها، قال الله عز وجل: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} أي ليس كالغنيمة، فيكون لهم منه ما يكون من الغنيمة. وشرك بينه وبين ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وفي الآية الأولى. وهؤلاء هم أهل الخمس، فصح أن المراد بالآية أن الفيء ما أفاء الله تعالى على نبيه بالرعب الذي ألقاه منه في قلوب أعدائه، فقام ذلك الرعب مقام القتال والجيش. ولو أفاء القتال على الجيش مالًا، يكال خمسه للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. والأربعة أخماس للجيش. فكذلك إذا أفاء الرعب من النبي صلى الله عليه وسلم مالًا، كان الخمس منه له ولذي قرباه واليتامى والمساكين وابن السبيل، ثم تكون أربعة أخماس خالصة له. هذا ما يقضيه الجمع بين الآيتين وبالله التوفيق. وإذا وجب أن يكون أداء الخمس من الإيمان، فكذلك إذا كان واحدًا من الجيش ما يصيبه وحده، وإحضاره المغنم وجمعه إلى ما أصابه غير من الإيمان. والغلول فسق واستئثار الواحد بشيء من المغنم دون إذن الإمام، مثل أن يأخذ ثوبًا فيلبسه حتى يبليه، أو دابة حتى يهزلها خيانة أو غلول. ولا يحل لأحد من جملة ما أصاب أو أصابه غيره إلا الطعام والعلف. فإنه إن أصاب منه شيئًا منفردًا به لم يكن ذلك غلولًا. وقد وردت في ذلك أخبار، ومن قبل ذلك فقد قال الله عز وجل: {وما كان لنبي أن يغل}. يعني أن يخان، أي ما حقه الذي له على قومه أن يخونوه. والإشارة في ذلك إلى معنيين:

أحدهما أن حقه أن يعظم ويحيل أن يحتاج. والآخر الذي يهم بخيانته ينبغي له أن يتفكر في أنه لو جاء إليه فلا يلبث الخائن إلا يسيرًا حتى يعلم أمره فيفتضح ويهتك ستره، فيردعه العلم بذلك عن أن يخونه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال لهم: (اغزوا باسم الله، وقاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا). فيكون أول ما ينهاهم عنه الغلول. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فذكر الغلول بعظمه وعظم أمره، ثم قال: (أيها الناس، لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خروا، يقول: يا رسول الله، أغثني: فأقول: لا أملك شيئًا، قد بلغتك. ولا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته صامت فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد بلغتك). وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بما قال، بيان قوله عز وجل: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} وروى أن رجلًا مات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو في النار) فذهبوا ينظرون، فوجدوا عليه عباءة قد غلها). قال زيد بن خالد الجهني إن رجلًا من المسلمين توفي بخيبر، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فقال: (صلوا على صاحبكم) فتغيرت وجوه القوم لذلك. فلما رأى الذي بهم قال: إن صاحبكم قد غل في سبيل الله، ففتشنا متاعه فوجدنا خرزًا من خرز اليهود ما يساوي درهمين. فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال والذي نفسي بيده إن شملته لتحترقن عليه في النار غلها من المسلمين يوم خيبر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله وجدت يومًا شراكين. فقال: (يقذفنك مثلهما من نار جهنم). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يركبن دابة من

فيء المسلمين، فإذا أعجفها ردها فيه. ولا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول نار وشنار). فأما الطعام والعلف، فلا بأس أن يصيب كل واحد من القائمين منها حاجته في دار الحرب ولا يجوز له أن يبيعه فيأخذ ثمنه فيتموله، وفيما يخرجه نفسه من دار الحرب إلى دار الإسلام خلاف، وأبين الوجهين فيه: إن فيه الخمس ولا يستأثر به. قال عبد الله ابن مغفل: ولي جراب من شحم يوم خيبر، وقلت: هذا لي لا أعطي منه أحدًا شيئًا، فالتفت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم فاستحييت. وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم إقرار له على ما ظهر منه. وقال الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفتحوا المدينة أو المصر أكلوا من السويق والدقيق والسمن والعسل، وقال إبراهيم- رحمه الله-: كانوا يأكلون من الطعام ويعلفون قبل أن يخمسوا، وقال عطاء في الغزاة: يكونون في السرية فيصيرون السمن والعسل والطعام: قال: يأكلون، وما بقي ردوه إلى إمائهم. عن غلام لسلمان يقال له سويد، وأثني عليه أبو الغالية خيرًا قال لما فتح الناس المدائن وخرجوا في العدو، أصبت سلة. فقال لي سلمان: هل عندك من طعام. قلت سلة أصبتها: قال: هاتها. فإن كان مالًا دفعناه إلى هؤلاء وإن كان طعامًا أكلنا. وقال ابن عمر: كنا نصيب في مغازينا الفاكهة والعسل، فنأكله ولا نرفعه، وأما الفرق بين الأكل وبين البيع، والقول فقد جاء فيه عن هانئ بن كلثوم الكناني قال: كنت صاحب الجيش الذي فتح الشام، فكتبت إلى عمر، إنا فتحنا أرضًا كثيرة الطعام والعلف، فكرهت أن نقدم إلى شيء من ذلك إلا بأمرك وإذنك، فاكتب إلى بأمرك في ذلك، فكتب عمر أن دع الناس يأكلون ويعلفون، فمن باع شيئًا بذهب أو فضة، فقد وجب فيه خمس الله وسهام المسلمين، وسئل فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

بيع الطعام والعلف في أرض الروم فقال فضالة: إن قومًا يريدون أن يسألوني عن ديني، والله إني لأرجو أن لا يكون ذلك حتى ألقى محمدًا صلى الله عليه وسلم: من باع طعامًا بذهب وفضة، فقد وجب فيه خمس الله وسهام المسلمين. وعن الحسن رحمه الله قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يأكلون من الغنائم إذا صابوها، ويعفوا دوابهم، ولا يبيعون شيئًا، فإن بيع ردوه إلى المقاسم ولا أعلم أحدًا رخص فيما عدا الطعام والعلف. إلا ما يروى عن أبي وائل قال: غزونا مع سليمان بن ربيعة فخرج علينا أن يحمل على دواب الغنيمة، ورخص لنا في الغربال والمنخل والحبل يعيق الانتفاع بها لا نملك أعيانها والله أعلم. فلا ينبغي لمن جاهد في سبيل الله، وأظفره الله وسلمه وغنمه أن يختم جهاده، ويقابل فضل الله تعالى بالغلول، وبعض ذلك أعظم من بعض. ولولا عظم الدين في الغلول لما نزل فيه القرآن بالوعيد، ولا جعله النبي صلى الله عليه وسلم أول ما ينهى عنه سراياه، ولا امتنع عن الصلاة على من عرف ذلك منه. فلا شيء أولى منه بأن يمقته المجاهد ولا يفسد به جهاده عنه والله أعلم، ومنه المنة والتوفيق والإعانة.

الثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في العتق

الثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في العتق ووجه التقرب إلى لله عز وجل: فقد أوجبه الله تعالى في الكفارات، كما أوجب الإطعام والكسرة والصيام، وأوجبه في فدية النفوس إذا قتلت بظلم. فدل ذلك على أنه مما يتبرر به، ويتقرب إليه عز اسمه به من غير ما جناية، يتقدم كما يتبرر بنظائره التي ذكرناها من غير جناية تتقدم. وقال عز وجل: {فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيمًا ذا مقربة أو مسكينًا ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}. وقوله فلا اقتحم العقبة كلام إنكار واستبطاء وهو كقوله {فلا اقتحم العقبة} يعني عقبة البار التي قال الله عز وجل فيها {سأرهقه صعودًا} أي هلا عمل ما يسهل عليه اقتحامها. ويحتمل أن يكون المراد بالعقبة جميع ما هو مستقبله من البعث والحساب والجزاء الذي لا يدري أيكون بالحسنى أو الشر، أي كما يقول القائل لغيره: بيني وبين هذا الأمر عقاب، إذا كان بعيدًا المدرك متعذرًا لظفر. ثم إن المسهل لاقتحام العقبة ما هو؟ فذكر: فك رقبة، وإطعام المحتاج فدل ذلك على أن كل واحد منهما بر وقربة. ثم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن رجلًا قال له: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة؟ فقال: (اعتق الرقبة وفك النسمة. فقال الرجل: أليسا يا رسول الله واحدًا. فقال: إعتاق الرقبة أن ينفرد لعتقها، والنسمة أن يعين في ثمنها). فلو لم ينصص النبي صلى الله عليه وسلم على أمره بالعتق، في جواب ما سأله عنه من عمل يدخله الجنة، واقتصر على أمره بفك

الرقبة، ثم فبشره بما قاله، لكان في ذلك دليل على عظم أجر العتق، فكيف إذا نصر عليه، لأن الإعانة في ثمن الرقبة التي تشترى للعتق، إذا كانت توجب الجنة، واقتصر على أمره بفك الرقبة التي وجب أن يكون العتق نفسه إنجابها أقرب والله أعلم. ثم جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أعتق نسمة عتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار). وهذا أبلغ ما يكون من الترغيب في العتق. وعنه أنه قال: (يا معاذ، ما خلق الله على وجه الأرض أحب إليه من العتاق، ولا أبغض إليه من الطلاق). ثم إن إدخال الله تعالى العتق في جملة الكفارات يدل على رفعة قدره لأن الكفارات هي التي تزيل العقوبة توجهها على المجرم، ولن يتسع لذلك إلا ما صار للجريمة وخالفها، كما أنه لا يتسع لإزالة النجس والقذر إلا ما صار وخالفه، فكان أبلغ الأشياء طهارة وأكملها نظافة. فلما كان العتق يعفي على آثار جنايات مغلظة، علمنا أنه في معاني القربة غليظ الأجر، عظيم القدر. ثم إن الله عز وجل جعله فدية للنفس إذا قتلت بغير حق، فكان ما عطل بقتلها من حق العبادة التي كان لله تعالى فيها، وكان خلقه إياه لها، وقبله تبارك وتعالى فدية لحرمة الشهر إذا انتهكها الصائم بالمباشرة فيه. فزاد ذلك بيانًا لفخامة قدره وعلو شأنه وأمره والله أعلم. ووجه القربة فيه- والله أعلم- إن العبد كسيده نفسًا وأوصافًا، إلا أن بعض أحكامه غير أحكام سيده، فقد ملكه الله تعالى إياه، وجعله تحت يده، وقصر قدره عن قدر سيده، فلم يتسع الملك المال، واعتزل لذلك عن طريق الزكاة والحج والجهاد والجمعة التي هي أركان الإسلام، وإذا أعتقه سيده يضمن ذلك معاني: فمنها: إنه يعرف له حق المجانسة والمشاكلة، وذلك كمعرفة حق القرابة والمجاورة، فيرضى له ما هو ثابت له في نفسه من الجزية وانبساط المقدرة، فيجري ذلك مجرى الصدقة على القريب والجار البصير التي مثل حاله من الوجد والسعة والغناء والشرف.

ومنها: إنه يخلصه به من ذل وقهر إذا تفكر فيهما اشتد عليه، فيكون ذلك نظير تخليص الأسير من أسره والمحبوس المستذل من حبسه. ومنها: أنه يضع عنه الخدمة الناقصة الشاغلة له عن كثير من أمر نفسه، فيكون كمن يبرئ غريمه من ذنبه أو يعفي أجيره من عمله. ومنها أنه يمكنه من منافع نفسه الذي يقوم له مقام المال، فيكون كمن يتصدق على فقير فيعينه ويموله ويكفيه. ومنها أنه يعرضه ليملك الأموال فيصير بها ممن يتقرب إلى الله تعالى بالزكوات ونوافل الصدقات، والتكرم بالعطايا والهبات، فيكون أيضًا كأنما أغنى فقيرًا أو أغنى مسكينًا. ومنها: أنه يجعله من أهل حجة الإسلام والجهاد في سبيل الله والجمعة، فيكون كالحامل والمعين في سبيل الله جهادًا وحجًا. ولا بنظام العتق بهذه المعاني صار فدية لنفس القتل. وذلك أن القاتل أعجز القتيل عن عادات كان قادرًا عليها، فأصر أن يقدمه في حق الله تعالى، بأن يقدر نفسًا على عبادات كانت عاجزة عنها. فلما انتظم العتق هذه المعاني صار برًا وقربة، ووجب لذلك من شعب الإيمان كالصيام والإطعام والصدقة والله أعلم.

الحادي والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في الكفارات الواجبة بالجنايات

الحادي والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في الكفارات الواجبة بالجنايات وهي في الكتاب والسنة أربع كفارات: كفارة القتل، وكفارة الطهارة، وكفارة اليمين، وكفارة المستبشر في صيام. فأما كفارة القتل، فقد قال الله عز وجل فيها: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ، ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة}. فأوجب الكفارة عليه. ثم اختلف في معناها. فقيل: أوجب تمحيصًا وظهور الذنب للقاتل، وذنبه ترك الاحتفاظ والتحفظ حق هلك على يده أمر محقوق الدم. وقيل: أوجب بدلًا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإن كان له في نفسه حق، وهو التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل له تصرف للأحياء، وكان الله تعالى فيه حق، وهو أنه كان عبدًا من عباده يجب من أسم العتق صغيرًا كان أو كبيرًا، أو حرًا كان أو عبدًا، أو مسلمًا أو ذميًا مما يتميز به عن البهائم والدواب، ويرجى مع ذلك أن يكون من يسأله من يعبد الله ويطيعه، فلم يخل قابله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا، أو المعنى الذي وصفنا. فلذلك ضمن الكفارة، وأي واحد من هذين المعنيين، كان يكفيه بيان: أن النص وإن وقع على القاتل خطأ، فالقاتل عبدًا مثله، بل أولى بوجوب الكفارة في ماله، وكفارة القتيل تحرير رقبة، فإن لم يجدها القاتل فصيام شهرين متتابعين كما قال الله عز وجل ولا يجزيه الإطعام.

وأما كفارة الظهار، فقد قال الله عز وجل فيها: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} فأوجب على ناقض ظهاره كفارة، والناقض من يكذبه. وهو إذا أمسك امرأته بعدما شبهها ببدن أمه فأمكنه فراقها، فقد كذب ظهاره، فوجب عليه الكفارة. ومن الناس من استدل على أن هذه الكفارة إيمان بأن الله تعالى لما ذكرها أوجبها قال: {ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله}. أي قال: ليكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا يتعدوها، فمسي التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إتمامًا. فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان. فإن قيل: معنى قوله عز وجل ذلك {لتؤمنوا بالله ورسوله} أي لئلا يعود للظهار الذي هو من القول وزور. قد يجوز أن يكون هذا مقصودًا، والأول مقصودًا. فيكون المعنى ذلك لئلا يعودوا فيقولوا المنكر والزور. تدعونها طاعة لله تعالى إذ كان قد حرمها. وليتجنبوا المظاهرة منها إلى أن يكفروا إن كان الله تعالى منع من مسببيها، ويكفروا إذا كان الله تعالى أمركم بالكفارة وألزمكم بإخراجها، فتكونون بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأنها حدود يحفظونها وطاعات يؤدونها. والطاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان، وبالله التوفيق. وأما كفارة اليمين فإن الله عز وجل قال فيها: {لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم للأيمان}. فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم. واحفظوا أيمانكم. ومعنى هذه الكفارة أن قول الحالف تصير عند الحنث كذبًا ثم يتغلظ بما يتصل به من نقض عهد الله تعالى، فتجب الكفارة فيه. وليس ينكر أن يكون الكذب بانفراده غير موجب للكفارة، إلا أنه إذا تغلظ بنقض عهد الله تعالى أوجبها. فإن رجلًا لو قال لأجنبية أنت على كظهر أمي، ثم يمسها مكانه بشهوة، لم تكن عليه كفارة وقد كذب فيما قال. لأن الأجنبية يحل نكاحها ولا يحل نكاح الأم، والجارية تحل مباشرتها ولا تحل

مباشرة الأم. حتى إذا قال ذلك لزوجته التي يجدها بأمانة الله، واستحل فرجها بكلمة الله يغلظ كذبه، فأوجب الكفارة. وإذا كان الزنا قد يخف حكمه، فلا يوجب إلا الجلد والتعزير. وقد يتغلظ حكمه بلا حصان فيوجب الرجم، وأخذ المال الحرام قد يوجب قطع جارحة واحدة مرة، ثم يلغظ بانضمام معنى إليه فيقتضي كفارة والله أعلم. وأما كفارة المستبشر في صيام رمضان، فإنها رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن إعرابيًا جاء فقال: (هلكت يا رسول الله واقعت امرأتي في رمضان. فقال له: اعتق رقبة. فقال: لا أجد، قال: صم شهرين متتابعين. قال: فهل أتيت إلا من الصوم قال: فاطعم ستنين مسكينًا. قال: لا أجد. فقال: أجلس، فجلس. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر، فقال: خذه وتصدق). فهذه الكفارة هي كفار الظهار التي نص عليها في القرآن. وهم يشبهان كفارة القتل في تحرير الرقبة، بالإيجاب أولًا والنقل عنه بالعجز إلى صيام شهرين متتابعين ثم يفارقها بها في الطعام. فإنه يجوز للقاتل إذا عجز عن صيام رمضان لمرض أن يطعم، كما يجوز ذلك للمظاهر، ولا يجوز له أن يطعم إلا أن يعجز من الكبر أو يموت فيطعم عنه. وهذا تغليظ على القاتل بإيفاء الصوم في ذمته، فتكون رقبته مرتهنة بالكفارة ولا يترخص بالانتقال إلى أخف الكفارات وهو يرجو أن يكفر بما فوقه والله أعلم. ومما يقرب من الكفارة ما يجب باسم الفدية، وإنما فصل بينهما لأن الكفارة لا تجب إلا عن ذنب تقدم. والفدية قد تجب بالذنب، وقد تجب ما ليس بذنب، ثم إن جميع ذلك فدية، وجميعه كفارة. أما إنه فدية، فلأنه ليس بشيء من ذلك يجب إلا جبرًا لما أسلم، إما من حرمة الإسلام وإما من حرمة الإحرام، وإما من حرمة الشهر والصيام وإما من جميعه كفارة، فلأنه يراد به التقرب إلى الله تعالى بشيء يعفى على أثر أمر قد وقع، ذنبًا كان وغير ذنب. فظهر بما ذكرناه أن كلا فدية وكلا كفارة، وفدية الصوم واحدة. وهي الرجل يعجز

عن الصوم بالكبر والهرم، فيفتدي أو يموت وعليه الصيام فيطعم عنه. وأما ما يجب لأجل الحج فجملته عشرون: ذم المتعة، وذم القرآن، وذم القوت، وذم الاحتضار، وذم الناحر، وذم الإفساد، وفدية الميت بالمزدلفة، وفدية الميت بمنى، وفدية الميقات، وفدية التطيب، وفدية الأضفار، وجز الصيد، وجز المكبر الحرم، وفدية الرواغ، وفدية المشي إلى بيت إلى بيت الله تعالى على من نذره ثم تركه وهو يقدر عليه. وكل ما ذكرنا يدل لأنه يقابل مقلوب من بعض الأرحام أو جميعه أو يتأخر عن مكانه أو وقته. وكل كفارة لأن الله مستحقه، وإنما أوجبه ليضع به على العبد بنفيه فعله الذي توقع منه، وكيف ما كان فأداؤها، وطاعة الله في إخراجها من الإيمان، وبالله التوفيق وشرح أحكام هذه الذماء في موضعه من كتب الأحكام.

الثاني والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في الإيفاء بالعهود

الثاني والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في الإيفاء بالعهود قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعهود}. وقال: {يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا}. وقال: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم}. ويعني: ما ألزموه أنفسهم من عقد أمر لهم. وقال: {ومنهم من عاهد الله، لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}. وقال: {واوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا، إن الله يعلم ما تفعلون}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون عند شروطهم). فكل من عقد عقدًا من العقود التي أثبتتها الشريعة، وجعلت له حكمًا من الله تعالى وبين العبد وبين العباد بعضهم من بعض، فصح ذلك منه وانعقد عليه ولزمه أن يوفي به. وليس له أن يعمل فيما وقع عقده عليه ما يخالف العقد فلا يلائمه. فأول ذلك أنه إذا تقبل الإسلام وعقده على نفسه، فليس له أن يحدث في إسلامه ما لا يليق به ولا يلائمه، بل يخالفه. لأن ذلك حبس منه لما ألزمه الله تعالى، وألزمه نفسه بإسلامه وتقبله. وإذا افتتح صلاة مكتوبة لم يكن له أن يتحلل منها قبل إتمامها، ولا أن يفعل فيها فعلًا لا يليق بالصلاة، ومن ذلك ما يفسدها. وإنما كان كذلك لأن أفعال

الصلاة متوالية، فلا انفراد لبعضها عن بعض، فإذا حللها فلا تكون صلاة لأنه قطع تواليها وإزالها عن نظامها، وخالف بذلك ما عقده على نفسه أولًا، ولأنه أحرم بالصلاة ليتبع إحرامها ما يليه شيئًا فشيئًا إلى أن تنقضي الصلاة، فمن خالف ذلك كان ناقضًا لعقده غير مؤت بواجبه. وإن عقد صومًا مفروضًا أو حجًا مفروضًا ثم أعرض عنه، ولم يأت بما يقتضيه عقده، كان مخالفًا لما أمره الله تعالى به من الإيفاء بالعقود، وكان إثمًا حرجًا. ألا ترى أن الله عز وجل كما خاطب الناس بفرض الصيام، فكذلك خاطبهم بأيمانه بعد الدخول فيه، فقال: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}. وكما أوجب عليهم الحج خاطبهم بالإتمام فقال: {وأتموا الحج والعمرة لله}. وما ذلك إلا لأن الشروع في المتقبل من الحط في الإلزام، إلا تمام ما للمتقبل منه في إيجاب الابتداء. وإذا نذر الرجل طاعة ما، كانت من صلاة أو صيام أو صدقة أو حج أو عمرة أو جهاد أو اعتكاف أو تسبيح أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو قراءة قرآن، أو سجود، لزمه ذلك كله. والنذر وجهان: أحدهما: أن يوجب شيئًا مما ذكرنا بلا شرط. والآخر: أن يوجبه معلقًا بحدوث نعمة من الله تعالى يرجوها، فإذا وصل إليها، لزمه أن يوفي بنذره. وأما إذا أوجب ذلك على نفسه، إن هو فعل كذا، أو إن لم يفعل كذا، فهذا يمين خالصة. فإن خالف قوله فعليه كفارة يمين لا تجزية غيرها، وإن أدى ما كان ألزم نفسه لم تسقط الكفارة عنه. هذا قول الصحابة في هذا الباب، وهذا يمين بالله عز وجل لأن قال: إن فعلت كذا، فعل حج أو صلاة أو صدقة أو صيام فإنما منع نفسه مما قاله إلا شيء يلزمه لله في ذمته، فهو كمن قال: والله لا أفعل كذا، وموضع تقرير ذلك والاحتجاج له كتب الأحكام. وما يبين وجوب النذر قول النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تنذروا فإن النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخر، وإنما يستخرج به من البخيل). أي يجعل ما يكون من النذر لأجله

شيئًا لاستخراج البر ممن لا تطوع له نفسه في غير حال الخوف والرجاء. فلو كان النذر لا يلزم له يقع به الاستخراج والله أعلم. ومما جاء في إخلاف الله للوعد ما يروى أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قليل تقوم بشكره خير لك من كثير لا تقوم بشكره) ثم أتاه بعد ذلك، فقال: يا رسول الله، ادعو الله أن يرزقني مالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لك في رسول الله أسوة حسنة، والذي نفسي بيده لو أردت أن تصير الجبال معي ذهبًا وفضة صارت). ثم أتاه بعد ذلك، فقال يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالًا، فو الذي بعثك بالحق لئن رزقني مالًا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزق ثعلبة مالًا، ثلاثًا). فاتخذ عنمًا فنمت كما ينمو الدود، فتحول إلى أودية المدينة، فكان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر، ويصلي في غنمه سائر الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد إلا الجمعة. ثم كثرت غنمه ونمت فتباعد أيضًا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة. فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار. فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (ما فعل ثعلبة؟ فقالوا: يا رسول الله، اتخذ غنمًا ما يسعها واد. فأنزل الله تعالى آية الصدقة). فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من بني سليم ورجلًا من جهينة وكتب لهم أسباب الصدقة كيف يأخذان وأمرهما أن يمرا بثعلبة بن حاطب وبرجل من بني سليم. فمروا، وقالا لثعلبة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نمر عليك، ونأخذ صدقة مالك. فقال: أرياني كتابكما، فنظر فيه فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أحب الجزية، فارجعوا إلي حتى أرى رأيًا. فخرجا، وسمع به السلمي فاختار خيارًا في أكلها، فتلقاهما بها فقال: يا هذا عليك. فقال: خذاه، فإن نفسي بذلك طيبة فجزاء على الناس وأخذ للصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة.

فقال: أروني كتابكما، فقرأه، ثم قال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أحب الجزية. اذهبا حتى أرى برأي. فأقبلا، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن يبلغاه قال: (يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، ثم دعا للسلمي). فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضي عليه القضاء، وأنزلت هذه الآية: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}. وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من أقارب ثعلبة، فذهبوا إليه فأخبروه بما أنزل الله فيه، فجاء بصدقة ماله، فقال: يا رسول الله، أقبلها مني، فقال: (إن الله منعني أن أقبلها منك). فجعل على رأسه التراب وجعل يقول: يا رسول الله اقبلها مني: فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها منه، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى أبا بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا بكر، يا خليفة رسول الله، قد علمت موضعي من الأنصار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عتب علي في شيء فاقبل مني صدقة مالي، فقال أبو بكر رضي الله عنه: رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قبلها منك وأنا أقبلها منك. فتوفي أبو بكر ولم يقبلها منه. فاستخلف عمر رضي الله عنه، فأتاه فقال: يا أبا حفص يا أمير المؤمنين، اقبل مني صدقة مالي، فقال: لم يقبل منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر رضي الله عنه فأنا أقبلها منك، ثم توفي عمر رضي الله عنه ولم يقبلها. واستخلف عثمان رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، اقبل مني صدقة مالي، فقال: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر، فأنا أقبلها منك، فأبى أن يقبلها، فرجع. ومات في خلافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين. فإن قال قائل: ما وجه الامتناع من قبول صدقته بعدما جاء وأظهر التوبة، وجعل على رأسه التراب. قيل: إن الكتاب قد نطق بأنه لما منع عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعقبه الله نفاقًا في قلبه. فيحتمل- والله أعلم- إنه إنما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خيفة أن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم

بالعقوبة، وينفذ إليه من يأخذ صدقة ماله قهرًا. وإنه لما رأى الامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ صدقته لم يشق عليه ذلك بل أعجبه، وكان جعله التراب على رأسه نفاقًا، وكان الذي في قلبه أراد أن يثبت النبي صلى الله عليه وسلم على الامتناع من قبول صدقته، وأعلم الله تعالى ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم بأخذ صدقة ماله بعد أن نافق، ولم يشرح صدرًا، بقبول الزكاة وسماه جزية، ويسخطها ويضجر منها. ثم جرى الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على منهاجه، إذ كان لا يمنعهم أن يخالفوه. وقد يجوز أن يكون بدء نفاقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قليل يقوم بشكره، خير من كثير لا يقوم بشكره). فخوفه أن لا يقوم بشكر الكثير أن أوتيه لم يخف من ذلك ما خوفه ولم يتق فيه، ولا يزال عليها، ولكنه أقسم عليه صلى الله عليه وسلم في وجهه بالله، لئن أتانا من فضله أتاه مالًا، ليعطين كل ذي حق حقه فكان ذلك نفاقًا فلما رزق المال وفرض الله الزكاة نسخها وضاق منها. ثم نفاقه علم به، فهنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبولها لذلك والله أعلم. وأما ما في نكث العهد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من غادر إلا وله أمرًا يعرف به، ومن نكث سعيه لقي الله يوم القيامة أجذم). قال صلى الله عليه وسلم: (من نكث صفقته فلا حجة له يوم القيامة، ومن مات وهو مفارق الجماعة فموتته موتة جاهلية). وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من احد يعطي بيعته ثم ينكثها غير مكره ولا مجبورًا إلا لقي الله وليست معه). ثم إن من المعلوم، إن من نذر وبرأ، فإنما يريد إلحاق ما لم يوجبه الله تعالى من ذلك عليه بما أوجبه وفرضه. فلما كان من حكم الله تعالى إن ذلك يبدوا منه، فليكن منه إيجابه، دل به ذلك على أن يخرج بتركه كما يخرج بترك ما أوجبه الله تعالى، إذا كان كل من ذلك ترك واجب لازم والله أعلم.

فصل فأما ما يكون من الناس فكل ما لزم وجب الإيفاء به. فإذا باع رجل ما أوجب البيع بينه وبين المشتري، كان عليه تسليم السلعة، وعلى المشتري تسليم الثمن. وذلك إذا حل في قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} لأن العقد وقع لنا قبل الإقلال. فإذا كان الملك لا ير إلا بالقبض ولا يتمكن واحد من المتبايعين من تدبير ما ملكه بجميع ما يراه إلا بزوال يد صاحبه دل ذلك على أن: من الإنهاء بالعقد أن يتناقلا المالين عن أيديهما كما يتناقلاه عن أملاكها. وهكذا كل ما يثبت البيع وإن كان بينهما شرط من خيار، أو أجل أو رهن أو كفيل، فالشرط لازم لهما، لأنهما عقدا عليه والله عز وجل يقول: {أوفوا بالعقود}. ومن أولى ما يلحق بهذا الباب حكم الأمان، فإنه إذا عقد لرجل من المشركين أو أهل البغي أمان لم يجز التعرض له بعد ذلك، لقول الله عز وجل: {ثم أبلغه مأمنه}. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل باع حرًا، فأكل ثمنه، ورجل أعطى بي ثم غدر، ورجل استأجر أجيرًا ثم لم يعطه أجره). وهذا أبلغ ما يكون من الوعيد وبالله التوفيق. وجاء في الوفد بالعهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من عبيد الله بن ربيعة مائتين وأربعين ألف درهم في بعض مغازيه. فلما قدم قال: (هاك مالك بارك الله في أهلك ومالك، فما جزاؤك إلا الوفاء والحمد). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له). وروى أن عجوزًا دخلت دار رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها وأخفى لها، ثم قال: (إنها

كانت تأتينا أزمان خديجة وإن حسن العهد من الإيمان). فجعل إتيانها ومواصلتها إياهم موجبًا حقًا كالعهد. قال (وإن حسن الظن العهد يغني) والله أعلم. وغاية العهد من الإيمان. إذ كان العهد ليرعى لا ليضيع. وعنه صلى الله عليه وسلم إنه كان يهدي إلى صدائق خديجة بعد موتها. ومن هذا الباب كراهية الطلاق إلا من تأسي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق، إن الله يتعفر كل مطلاق ذواق).

الثالث والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في تعديد نعم الله عز وجل وما يجب من شكرها

الثالث والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في تعديد نعم الله عز وجل وما يجب من شكرها قال الله عز وجل فيما عده على عباده من نعمة نبههم بذلك على ما يلزمهم من عبادته تعظيمًا وشكرًا: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم، والذين من قبلكم لعلكم تتقون. الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون}. فاحتمل قوله عز وجل {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} معنيين: أحدهما: اعبدوه ولا تخلوا بعبادته ولا تغفلوا عنها فمن حقه عليكم أن تعبدوه، إذ كان خلقكم وهو يرزقكم وينعم عليكم. والآخر: اعبدوه دون غيره، فإن خلقكم وخلق من قبلكم إنما كان منه، ولا تجعلوا له أندادًا واخلصوا العبادة له، ولا تسموا باسمه وهو الله لا إله غيره. وليس بين المعنيين تناف، فقد يجوز أن يكونا جميعًا مرادين بالآية. ثم إن الله عز وجل بين بما عدد من نعمه على الناس ما يلزمهم بها من تعظيمه أولًا، ثم شكره على ما ابتدأهم به منها، فقال: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} فكان أول ما ذكر من نعمة خلقه إياهم. وهذا- والله أعلم إشارة إلى نفس الخلق بهنائه التي أولاها الحياة، ثم العقل لأن الحي بالعقل يعلم نفسه ويعلم غيره ويعلم فاعله، ويميز بين الشيء وضده. وبعض العلم الذي ذكرناه ضرورة وبعضه اكتساب، إلا أن كل علم، وكل ذلك فضله. والعقل الذي يتوصل

به إليه فضيلة، ووجود لمن يوجد فيه فضيلة. ثم الحواس الخمس التي هي مشاعر ضرورته، وهي: السمع الذي يدرك به الأصوات، والبصر الذي يدرك به الألوان، والشم الذي يدرك به الروائح، واللمس الذي يدرك به خشونة الشيء ولينه، والطعم الذي يدرك به مرارة الشيء وحموضته وحلاوته. ووجه الفضيلة في وجود الحواس لهو في وجود العقل. فقد ذكر عز وجل بعض هذه النعم في غير هذه الآية، فقال: {هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون}. أي إنما خلق لكم هذه المنافع لتشكروه. ومعنى تشكروه تستعملونها في طاعته خاصة، ولا تستعملونها في معصيته. ثم إنه خلق الإنسان سويًا معتدلًا منتصب القامة، شاخص الرأس والوجه. وقال: {أفمن يمشي مكبًا على وجهه أهدى أمن يمشي سويًا على صراط مستقيم}. وقال: {ولقد كرمنا بني آدم} فقبل من تكريمه أن جعله يأكل بيديه ولم يحوجه إلى أن يأخذ الطعام من الأرض، ولا كالفيل الذي يأخذ الماء بخرطومه فيصبه منه في حلقه. ومن نعم الله تعالى على الإنسان أن أعطاه اللسان ففضله به على سائر الحيوان، كما فضله بالعقل. حتى إذا أراد إطلاع غيره على ما في نفسه خاطبه وأعرب عنه بلسانه، فعلم المخاطب بذلك مراده. فإذا أراد أن يعلمه شيئًا هو جاهل به خاطبه، وبين له بلسانه ما في نفسه. فإذا سمعه ذلك الغير أدرك مراده منه، فصار مكانه في العلم الواقع له فذلك قوله عز وجل: {الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان} ويتلو هذا، الخط بالقلم، لأن فيه من الإفهام ما في المنطق. قال الله عز وجل: {وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} وليس موضع المنة بالخط والقلم بأقل موضع المنة بالبيان. ولا أعجوبة فيه أقل منها في الكلام. فإن الواحد كما يكون عنده

علم مكنون من خبر السماء والأرض لا يعلمه منه إلا الله، فتكلم غيره بحروف ليس فيها إلا إنها أصوات مقطعة، فيقع له إذا سمعها من العلم مثل ما هو واقع للمتكلم، ولما لم يكن منه للآخر شركة في الجهة التي منها كان له العلم. فكذلك يكون له عنده علم وهو بأقصى المشرق، فيأخذ ورقًا فيصور فيه حروفًا وينفذها إلى أقصى المغرب، فإذا نظر فيها الناظر وقع له العلم الذي عند الكاتب المصور لتلك الحروف. فليس أحد التدبيرين والوضعين أدنى رتبة ولا أقل فائدة، ولا أنفص حكمة من الآخر، ولا المنة به من مدبره ووضعه أقل منها بالآخر. وفي إنعام الله عز وجل على الإنسان منه عز اسمه أخرى، وهو أنه يتيسر له لذكر الله عز وجل دعائه بالأسماء الحسنى، ومدحه بالصفات العلى، وقراءة كتابه المنزل وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعليم كل ذلك غيره. ومثل هذه المنة في الحواس موجودة لأنه يدرك بالجمع وحي الله عز وجل الذي أوحاه إلى أنبيائه. ويدرك بالبصر ملائكته وأنبياءه وآياتهم. ومن فاتته مشاهدتهم، فأصحابهم وأبصارهم وخلفاؤهم، وكل واحدة من هاتين المنتين ففيها زيادة على المنة الواقعة بنفس السمع والبصر، لأن تلك هي منة الإدراك فقط. وهاتان إنما يرجع المعنى فيهما إلى شرف المدرك وجلال قدره، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي يسمع الوحي أشرف وأجل قدره من الذي لا يسمعه. ونما يقف عليه نبينا مع الشيء إياه. وكان الصحابي إذا أدرك الرسول وصحبه أفضل من التابعي، والتابعي الذي لم يدركه ولم يصحبه. فهذا يدل على إن سماع الوحي، وعيان الرسول فضل. ولا شك في وجوب المنة، بما يقع التوصل إليهما به وبالله التوفيق. وبما أنعم الله تعالى على الناس في هيئة خلقهم إن جرد أبدانهم عن الشعور، فلان ذوات الشعور، خلقت شعورهم لتكون أثاثًا ومتاعًا، فلما لم يخلق فوق الناس من يمتهن الناس، سائر الحيوان، أشعر الناس بغير شعار الحيوان سواه. ولأن سائر الحيوان إذا لم يكن لها عقول لم تقدر من تدبير أمرها ما يقدر عليه الناس، فجعلت لها الشعور لتقيها الحر الشديد والبرد الشديد، وتحول بين أبدانها وبين لصلابة الأرض وبذلك وقذاها، ولم يخلق الناس الشعور لأن التجرد عنها أنعم لأبدانهم وأمكن لتنظيفها، فإن تأذوا بحر أو برًا قدروا على التخلص منها بالأكباد والملابس. وإن احتاجوا إلى ما يحول بينهم وبين خفاء الأرض وأبدانها وأقذيتها، وجدوا من الفرش والمتاع ما يتوصلون به إلى ذلك،

فيكون استعمالهم كل شيء أعد لهم من هذه الآلات بقدر الحاجة إليه لتدوم لأبدانها النعمة ولنفوسها الطيبة، ولا يحدث عنها أمر يتأذى به. وأما المخالب، فإنها لم تجعل للناس لأن ذوات المخالب لم تقبض لها من سعى عليها، فاحتاجت إلى أن تسعى على أنفسها، وسخرت مع ذلك للناس حتى إن أرادوا منها أن تصطاد لهم كما تصطاد لأنفسها، أصابوا منها حاجتهم، ولم يكن فوقهم من يسخرهم، فأشعر كل ما يليق بحاله والله أعلم. ولأن الناس إذا كانت لهم عقول، فإذا تمكنوا من الاصطياد بالآلات التي تصلح له، والسباع لا عقول لها، فكفيت أمرها أن خلق من الآلة لها والله أعلم. فإن قيل: أقل ما ذكرتم في هذا وفي الشعر، وجب أن يكون حظ غير الناس من نظر الله تعالى أكثر من حظ الناس، لأنها مكفية والناس معرضون لتكلف كثير، والكفاية أنظر من التكلف. قيل: ليس كذلك، لأن الكفاية الواقعة لغير الناس، إنما هي بإحضارها الآلات بأعبائها في الأصل عما يحتاج إليه الناس. فإذا استوى الكل في الحاجة، كان الناس معانين بالآلات بقضاء حوائجهم بها إذا عرضت، ثم يرفضونها ويعيشون دونها مترفهين وغيرهم تلزمه آلاتها في حال الحاجة وغير حال الحاجة لا يجدون محيصًا من كلها، كان ذلك أدل لها وأشق، وكان ما وصفناه من حال الإنسان وأنعم الإنسان وأوفر. فصح أن حظ الإنسان من نظر الله عز وجل أكثر من حظ غيره. وأيضًا فإن الله عز وجل إنما لم يخلق للناس الشعور لأنه أراد أن يكسوهم من الملابس الناعمة الحسنة البهية ما كساهم، فجردهم عن الشعور ليخرجهم إلى من أعد لهم، حتى إذا وصلوا إليها ومكنهم منها تنعموا بها وابتهجوا، ولم يخلق لهم مخالب لأنه أراد أن يطعمهم مما تنبت الأرض أصناف الطيبات. وأن يخلق لهم من الأسلحة أصنافًا يتقون بها أكثر من المخالب، وأمكن النيل من العدو. وكان من الجنس أو من غير الجنس، ومما تباح لحومها من الدواب والطائر وإخلاهم من المخالب ليحوجهم إليها، حتى إذا يسرها لهم ومكنهم منها أكثروا وتقووا وابتهجوا.

فأما عن الناس، فإنه لم يكن جعل لها في شيء في هذه النعم نصيبًا فبصرها على أقل الكفاية، وألزم نفسها ما تنزاح به عللها، فكان الناس لا شك أحسن حالًا وأوفر من نظر الله عز وجل حظًا وبالله التوفيق. ومما أنعم الله تعالى على عباده أن جعلهم ينامون فيستريحون بالنوم من الإعياء وفطنت به نفوسهم، فقال عز وجل: {وجعلنا نومكم سباتًا} يعني راحة لأبدانكم ثم جعلهم ينبهون من نومهم إذا قضوا منه أوطارهم من غير أن يحتاجوا في ذلك إلى قيام من بعضهم على بعض، ويتوصل إليه بترفق، أو يقال: ليرجعوا مصالحهم وإكسابهم ومعائشهم، فيتمكنوا منها. وأرى كثيرًا منهم في المنام، كثير من الكوامن المستقبلية إما بأعيانهم، وإما بأمثال ضربها لها فيها وفرحوا منها لما سروا وشعروا ما سأقبل أن يكون فكانوا من وقوعه على استعداد. فلم يخل ذلك من أن يكون نظرًا منه عز وجل ورفقًا منه تعالى بهم. فإن المستعد لما هو نازل به من المكروه أحسن حالًا فيه من الجاهل العافص به، وكان من ذلك ما يتهيأ استقباله بما يدفعه، فكان الإعلام به واقعًا لهذا المعنى، فاقترن به التوصل إلى الخلاص، والتمكن من الدفاع. وكان من ذلك ما هو تعليم وإرشاد، فكان موقعه كموقع الخبر الواقع في حال اليقظة أو أكثر. وكل هذا رفق من الله عز وجل نظره، هو محبوب مرغوب فيه، وإلى مكروه منزه عنه. فجاء في باب الاضطجاع عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلًا في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى. وروى ذلك عن عمر وعثمان وأنس، كذلك عن الحسن والشعبي، ومنع المرأة أن تنام مستقبلة على ظهرها، رأى عمر بن عبد العزيز بنية كذلك فنهاها. والرجل من أن ينام على وجهه، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا قد نام على بطنه فحركه برجله، وقال: (هذه ضجعة يبغضها الله). وعن عمرو بن سويد أن أبغض الرقدة والضجعة إلى الله عز وجل أن يضجع الإنسان

على وجهه. ويكره للرجل أن يقعد بين الظل والشمس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم (قال): (ومن نام فليضطجع على يمينه). فإنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضطجع على شقه الأيمن ويجعل يده اليمنى تحت رأسه، ويده اليسرى بين رجليه. وروى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عرس وعليه ليل اضطجع على يمينه، وإذا عرس وليس عليه ليل هكذا- ووضع أصابع كفيه تحت أذنه-. ولا ينبغي لأحد أن يبيت على سطح ليس له ما يستره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ركب الصرحين ربح، فلا ذمة له، ومن بات على ظهر بيت ليس عليه ما يستره فمات فلا ذمة له). وفرش لأبي أيوب الأنصاري على سطح ليس عليه حائط فأمر بفراشه في الليل فأنزل وقال كدت أبيت الليلة لا ذمة لي، ولا ينبغي لأحد أن ينام في موضع وحده، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينام الرجل وحده أو يسافر وحده، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس في الوحدة ما أعلم لم يسر راكب بليل وحده أبدًا). ويكره النوم أول النهار وآخره، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: النوم ثلاثة: فنوم حرق، ونوم خلق، ونوم حمق. فأما نوم خرق فنومة الضحى وقضى الناس حوائجهم وهو نائم. وأما نومة خلق فنومة القائلة نصف النهار. وأما نومة حمق، فنومة حين يحضر الصلاة. وجاء في حديث أظنه مرفوعًا: (من نام بعد العصر، فأصابه ألم فلا يلومن إلا نفسه) وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عامل: بلغني إنك لا تقيل، وإن الشياطين لا تقيل، ومعنى هذا إن من كان من شياطين الإنس فهو الذي لا يقيل لكنه يترصد. ومما أنعم الله على عباده أن علمهم الصناعات والحرف على كثرتها، ونقبها وجعلها لهم

مصالح ومكاسب مما عمله على صانع لخاصة نفسه، فهو له مصلحة. وبما عمله لغيره بعوض فهو له مكسبة، ثم تعود المكسبة إلى معنى المصلحة، لأنه لنفسه يكتسب، أما دافعًا لكسب ضرورة مواقعه، وإما مستعينًا به على ضرورة إن وقعت كيلا يعجز حينئذ عن دفعها. ومنها إنه جل وعلا فعل الأعمال كلها معاون للحياة، ثم لم يركبها على كل واحد من الناس، ولكنه فرقها بينهم، فجعل كل واحد منهم يعمل منها عملًا، حتى إذا حصلت المعاون كلها لوقوع التحايل منها، وجد المشارك في المعيشة والهناء بالحياة. ألا ترى إن كل واحد من الناس لو احتاج إلى أن يزرع لنفسه ويقوم على الزرع بالسقي وغيره إلى أن يدكه ثم يحصده ويدرسه ويذريه ويحمله إلى بيته، ويأخذ منه الشيء بعد الشيء فيطحنه ويرده ويسقي الماء ويعدنه ويخبزه، يعمل ذلك كله بيده، ثم يحتاج في ذلك إلى أن يحصل كل واحد من آلات الحرث بيده فيطحنه ويرده ويسقي الماء ويعجنه ويخبزه، يعمل ذلك كله فيقتلع الحديدة من المعدن بيده، ويدينه ويضربه على ما يصلح له بيده، ويقطع من الخشب ما يحتاج إليه. فيركب أحدهما على الآخر بيده، ويسوي آلة الحصاد كذلك بيده، وآلة الدراس وآلة التذرية، ويغزل الصوف وينسج ما يعمل منه الأوعية بيده ويملأ ماء يحملها بنفسه ويسوي آلات الطحن كلها واحدة بعد واحدة، ثم يطحن بيده، ويجمع ما يحصل فيرده إلى مكانه بيده، ويتخذ الآلة التي يحتاج إليها للعجن بيده ويسقي الماء ويعجن بيده. ويتخذ التنور فيذر أمره من أوله إلى آخره بيده، وينصبه بنفسه، ويحمل الحطب بيده، ويوقد النار بيده، ويخبز بيده ويأخذ بيده، ويحتاج مع ذلك بيتًا وصنفًا ليلًا ونهارًا في أصناف ما يلبسه إلى مثل هذا الشغل. وفيما يفرشه وفيما يكنه من البيت إلى مثله. واحتاج فيما ينعقد، وفي كل معونة في معاون الحياة إلى مثل ذلك لمات المحتاج إلى اللقمة الواحدة ولما يدركها ويبلغ حاجته منها. فمتى كان يكون التفرغ إلى عمل الآخرة واستنباط العلوم واكتساب المليئات منها. وكان من نظر الله تعالى لعباده أن فرق هذه الأعمال بين العباد، فجعل واحدًا يحرث وواحدًا يحصد وواحدًا يغزل وواحدًا ينسج، وواحدًا يتحر، وواحدًا يصوغ، حتى إذا اشتغل كل واحد منهم ليشتغل نجحت الاشتغال بما حصل من التظاهر عليها، ففرغ

كل واحد منهم بما يحمله غيره عنه لمصالح الدين والدنيا فهيأت الجماعة الحياة واستطابوا العيش، فذلك قوله عز وجل: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا}. قيل إنما أراد به ما وصفنا والله أعلم. وأما قوله عز وجل: {الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم}. فإنه امتنان بما جمله للناس في الأرض من المرافق فمنها إنها مختصة بالناس وبما يحتاج إليه الناس، ليس عليهم فيها دخيل من غيرهم يضيقها أو يكدرها ويبغضها عليهم. فهي لهم أحياء وأموات، يسكنونها ويعمرونها ويزرعونها ويغرسون فيها، ويذهبون ما يشاؤون فيها ويغيرونها من حال إلى حال كما يريدون. فربما طيبوا ودايًا، وربما سقوا أوانها، وربما خفضوا ربوة وربما رفعوا وهدة. وربما عمروا خرابًا، وربما خربوا عامرًا، لا يمنعون من ذلك عما يشتهون ولا يدفعون. وجعل لهم أن يقيموا في منازلهم المعتادة وأن يضربوا في الأرض فيمشوا في مناكبها، ويبتغون من فضل الله، والزيادة من خيراته ونعمه، وسخر لهم البحار على صعوبها وشدة أهوالها، فهم يركبونها ولا يدعون في مائها حوتًا إلا أخذوه فأكلوه ولا في قعورها لؤلؤًا وزبرجدًا إلا استخرجوه، فحلوا ذوات الحل منهم به أو باعوه. فأصابوا منه الأموال، ودحروا هالة الدجالين، وجعل بعض تباع الأرض بمنزلة الخزائن لهم. فمنها من يخزن لهم المياه التي فيها حياة النفوس والبلاد. قال الله عز وجل: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}. وقال: {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا لنحيي به بلدة ميتًا ونسقيه مما خلقنا أنعامًا وأناسي كثيرًا}. وقال: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون}. وقال: {فسلكه ينابيع في الأرض}. ومكن العباد من استنباطه والانتفاع به، وأكرم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في ولده الصغير لما أسكنه الحرم بأمره. فأرسل جبريل حتى فتح له عين زمزم وأنبط منه الماء فجيء به الوالد وأمه

وصار بعد ذلك ميراث لعقبه، طعامًا لمن طعم، وشفاء لمن سقم. وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (زمزم لا تنزح ولا تزم وتسقي الحجيج الأعظم). وكان في أمر عبد المطلب قبل المبعث في شأنه ما كان، ونكتف من كتاب محمد بن إسحق إن احتيج إليه. ومنها ما يحزن لهم الملح والنفط والكبريت والنورة والزرنيج والعصر، وما شيء من هذه إلا ولهم فيه منافع ومرافق. ومنها ما يخزن لهم الذهب والفضة اللذان لا غنى لأحد عنهما، وبهما يتوصل إلى الحاجات والمآرب التي جعل طريق الوصول إليها بالمال. ووجودها وعدمها، وقلتهما وكثرتهما يتميز الغني من الفقير، والمتوسط من المتوسع والمقتر ونصب في أماكن من الأرض جبالًا جعلها كلها رواسي لئلا تميل بالرياح العواصف والزلازل العظيمة الأرض، فيهلك من عليها من الناس والدواب. وجعلها بعضها معادن للجواهر النفيسة، وفي بعضها القناص، وأصنافًا من النبات والشجر، يختص كل منها بفائدة ومنفعة وتجمع كلها في أنها وقود للناس وعصمة من أذى البرد الذي إذا اشتد لم تقم له الأبدان ولم تحمله. وجعل فيها اكنافًا كالبيوت ينحصر بها من تدعوه الحاجة إليها. فأما ما سهل من الأرض وفصل عن المياه، فلم يكن لها قرارًا وعر المسالك والمساكن ومعادن الوحوش والسباع، فقد مكن للناس أكثر ما يحتاجون إليه منها حتى يزرعوا ويحرثوا ويغرسوا، فيكون لهم منها المعايش والمنتزهات، ويتوفر عليهم من قبلها الأقوات والبركات. فهذا حالهم فيما جعله الله تعالى لهم من الأرض التي أسكنهم إياها. فكانت لهم بساطًا وفراشًا، ومهادًا وكفافًا وقرارًا، كما سماها الله عز وجل وقال: {والأرض وضعها للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان}. وأما السماء فإنه رفعها فوقهم رفعًا عاليًا حسد، لأنه لو أدناها من الأرض ومراحهم

هذه المراح وهي محيطة بالأرض إحاطة قشر البيض لحرقة لم يتناهوا ولهلكوا إما بركود الهواء وانكباشه فإن ذلك مما يخنق ويقتل، وأما بشدة حر النار التي فوق الهواء، فإنها إذا دنت من الأرض أهلكت إما بالحرق وإما بالدغ والفم، فرفعها بلطفه رفعًا بعيدًا عاليًا شديدًا وزانها بما ترى من الكواكب، ورتب منها الشمس والقمر، فجعل الشمس ضياء والقمر نورًا وقدره منازل، لتعلموا عدد السنين والحساب. وفرق بين الليل والنهار فسير الشمس وهداكم بالنجوم في ظلمة البر والبحر، فقال عز وجل في ذلك: {وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا}. أي كالسقف فيما نرى. وقال: {والسماء بناء}. أي كما مرفوع علي. وقال: {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}. وقال: {جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر}. وقال: {وجعل الشمس سراجًا}. وقال تبارك وتعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجًا، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا}. {وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب}. وقال: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}. وقال في الجبال: {والقى في الأرض رواس أن تميد بكم}. وقال: {والجبال أوتادًا}. وقال في البحر: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًا، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها. وترى الفلك مواخر فيه لبتبتغوا من فضله}. وأما الماء فقد قال فيه سوى ما كتبنا: {أولم يروا إنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعًا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم، أفلا يبصرون}. وقال: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء، فأخرجنا منه خضرًا تخرج منه حبًا متراكبًا. ومن النخل من طلعها قنوان دانية، وجنات من أعناب،

والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}. وقال: {ومن آياته إنك ترى الأرض خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج} ثم إن الله عز وجل جعل مما ينبت من الأرض أصنافًا، فمنها: الأقوات التي جعلها مادة لنفوس الحيوانات، وجعلها على أن لا يتنافى إلا بها. وجعل الأقوات أصنافًا وفاوت بينها في المنافع والطعوم، لأن ذلك الدر أنعم من أن كانوا يقتصدون على صنف واحد. ومنها الثمار هي أصناف، لكل صنف منها لذة وطعم ومنفعة على الانفراد. ومنها ما يقتصر منها على الأذهان المختلفة المنافع، الكثيرة الفوائد. ومنها التوابل والأباريز والنقول: (وهي) أصناف، ولكل صنف منها فائدة ومنفعة. وكل شيء مما ذكرنا قوتًا كان أو فاكهة أو دواء أو إزار، فهو زائد على قدر الحاجة ومحاق في الكثرة على ما تقع به الكفاية. فإن قيل: أليس منها السموم؟ قيل: ليس منها السموم. قيل ليست بخالية على الفائدة لأنها تعدل باعبادها، فينتفع بها في دفع ضرر ذوات السموم، ولا ينتبذ بها على قدر النعمة في الأقوات والثمار وسائر البركات، وذلك من أعظم الفوائد. ومنها أوراق الشجر التي جعلت لدود القز، فيكون منها القز الذي ننسج منه أصناف الملابس والحرير وأوراق الشجر التي يقع عليها النحل فيخرج من بطونها العسل الذي فيه شراب ودواء وطعام وغذاء. ومنها القطن الذي تكون منه عامة الملابس على كثرتها ونفعها والإغناء بالرجال والنساء في الصيف والشتاء عنه. ومنها الكتان الذي يتخذ منه لطائف اللباس. ومنها الكلأ الذي جعله الله على كثرة أصنافها أقوات للدواب والأنعام حتى إذا رعته أدته إلى الناس شحمًا ولبنًا على ما قد عرف من تفصيل ذلك وترتيبه. وقد جمع الله هذا كله في قوله عز وجل: {فلينظر الإنسان إلى طعامه، إنا صببنا الماء صبًا، ثم شققنا الأرض شقًا فأنبتنا فيها حبًا وعنبًا وقضبًا، وزيتونًا ونخلًا، وحدائق غلبًا، وفاكهة وأبًا، متاعًا لكم ولأنعامكم}.

ثم جعل فيها نبته الأرض وراء ما ذكرنا فوائد، لأن منه الأشجار غير المثمرة وما غير من الثمرات التي يقل لذلك ثمرها، فإنها وقود. ومنها ما يصلح لأن تبني بها البيوت وتتخذ منها السفن التي لا يتهيأ ركوب البحار والأودية العظيمة الأنهار. ومنها ما يتخذ أصناف المتاع يحتاج إليها في الحضر والسفر. ومنها ما يبنيه جرائر البحر الشجرة التي تنبت لعن وهي قابله، لا تأكل منها دابة إلا قتات إلا أن الغير فرس المذة لا تخفى عظم فوائده ومنافعه على من له بصر بهذه الأمور ومن الحشائش ما يعمل منها البسط للبقاء ويقمنا كالعباد إنبات ويغرها مما يتصل بحسنها، وما يراد منها كثيرًا من البسط الناضرة، المتمنه سواها. ومنها ما يفرش غير منسوج النبتة فتقوم مقام الدولي وغيرها. ومنها ما يتخذون منه عرائس كرومهم. ومنها ما يتخذ الكواغد، فيكتب فيها كتاب الله عز وجل والسنن والأحكام وغيرها من العلوم والآداب. ومن الشجر النخل الذي لا يضيع شيء منه، يتخذ من خصومه المراوح والرمائل، ومن لحاه القراطيس، ومن ليفه الرسن. فيكون ثمره للناس قوتًا وفاكهة، ونواه للأنعام علفًا، وكل ذلك غير مستغن عنه في موضعه. ومما تنبته الأرض ما يكون صبغًا يروق به في تلوين ما ينسج من الفرش والكنائس لا من قبل الحسن وإنما من قبل المنفعة. ومما على الأرض البهائم والدواب والطير، وهي أصناف، وكل صنف منها يختلف ويتفاوت، وفي كل منها فائدة ومنفعة، لأن لحومها غذاء، وأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاث ومتاع. وهذا الأرنب الذي هو من أوضع دواب الأرض يتخذ من صوفه الحرور، الذي ليس في الملابس أرفع قدرًا ولا أعلى ولا أكثر ثمنًا منها. وجلودها بعضها لباس وهي الفراء والحقاق والمكاعب والنعال، وبعضها أسقية ومزاود وسطائح وزنابيل، ووكز وسفر وسروج وبسط وجرب. وكثير من الآلات في كل شيء من ذلك منفعة، وفائدة تخصه حالة يحتاج بعضها إليه، وأعظم ذلك الرق الذي يكتب فيه كتاب الله عز وجل، وما يستجاب من الدعوات. وقد ذكر الله عز وجل بعض هذه المنافع فقال: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا تستخفونها يوم طعنكم ويوم إقامتكم، ومن أصوافها وأوبارها

وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين}. ومما أفاد الناس من البهائم ألبانها التي هي كاللحم في الفائدة والمنفعة، وقد ذكر الله عز وجل فقال: {وإن لكم في الأنعام لعبرة، نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين}. يعني- والله أعلم- من الجوف الذي هو معدن الفرث والدم، لأن في الأمعاء الفرث، وفي الرحم الدم، ولا شك في اتصال الإخلاف بالأرحام. اللبن هو ما يحله الله من الدم ونضره، ولذلك صارت المراضع لا تحضن كما لا تحضن الحوامل. فاللبن إذا كان خارجًا من الجوف، فهو خارج من معدن الفرث ومعدن الدم، فصح أن يقال من بينهما والله أعلم. وقد جعل الله تعالى اللبن أول أقوات المولودين، فركب في الأم الحنو والشفقة على المولود، وأهمها العلوف عليه إلى أن يسعى عنها، فقال: {ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه كرهًا، ووضعته كرهًا. وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا}. والفصال لا يكون إلا من الرضاع، فصار مذكورًا بذكره. وقال: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ولا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده} وإنما نهى عن ذلك لما حل كل واحد من الوالدين عليه الرأفة والرحمة بالوالد. فجعل منع الرجل المولود من الأم ليلًا ترضعه ضرارًا لها. وامتناع الأم من الرضاعة ليضطر إلى استرضاع غيرها ضرارًا له، ولم يجعل لواحد منهما الفصال قبل الحولين، لأن ذلك ضرًا، والولد حكمًا لا يكون لواحد من الاثنين مضارة للآخر. كذلك لا يكون له مضارة الولد أن يجتمعا عليه بعد الارتياء والنظر والتشاور، فيعلم أن المولود لا يتضرر بالفصال، فيكون اتفاقهما ماضيًا بينهما لعدم الضرار فيه والله أعلم. وهذا كله نظر من الله عز وجل للوالدين لئلا يكون من واحد منهما سببًا لهلاك الولد، فيفجعهما فقده، وللولد انبراح علته، وتتوفر عليه مصالحه، فبلغ المبلغ الذي يرجوه الوالدان لأنفسهما وله.

ومن الدواب ما خلق للركوب وحمل الأثقال، وفيها ما جمع بين المنفعتين أكل اللحم والركوب. قال الله عز وجل: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة}. وقال: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا، فهم لها مالكون، وذللناها لهم، فمنها ركوبهم، ومنها تأكلون. ولهم فيا منافع ومشارب أفلا يشكرون}. وأما السباع فمنها ما سخرتها للناس بأن جعلها قابلة لتعلمهم كالفهود والكلاب وسباع الطائر، كالبازي والعقاب والصقر والشاهين، فإذا تعلمت وارتضات كان فيها من المنفعة أن تكتسب لأربابها إذا حملتها عليه وقد ذكر الله عز وجل فقال: {يسألونك ماذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكليين تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه}. وإما ما لم يسخرها من هذه الوجوه، فلم يحل الناس من تسليطهم عليها، وتقويتهم على قهرها. ولهم في جلودها المنافع، فإنها قد تكون تشبه الدواب في وقت القتال. وقد تكون فرشًا وبسطًا إذا دبغت. فإن فضل عما ذكرنا شيء لا ينتفع به كالخنزير وغيره مما لم يبح أكل لحمه، فذلك لا يعارض غرضنا فيما نسوقه من هذا الباب، لأن الأغراض في الانتفاع موجود في ذلك كله. فإن كان الله عز وجل لم ينعم بالإباحة، فقد أنعم بما كان في الامتحان ما حصر من الحكمة، لأن العبد إذا حافظ على حق الله تعالى، واستباح ما أباح له شاكرًا، واتقى ما حرم الله عليه صابرًا، أثابه الله تعالى بشكره المباح خيرًا منه، وبصيرة على المحظور خيرًا منه، فلم يحل خلق المحظور من أن يكون للبائن كخلق المباح وبالله التوفيق. ذكر النار: وفي الأرض التي تؤذي، فيكون منها السرج المهتدى بها في الليل بدلًا من ضياء الشمس في النهار، وما يشبه السرج من المشاعل والشموع والقناديل، ويكون منها ما يحتاج إليه للخبر والطبخ والشي وتسخن الماء الذي يغسل به الثياب، أو يحتاج

إليه كثير من الأوقات. وما يحتاج إليه لإلانة الحديد وإذابته وإذابة سائر الجواهر التي لا يحتمل ما يصنع منها إلا بلينه مذابه من الذهب والفضة والنحاس وما يشبهها وما يحتاج إليه منه الوقود والاصطلاء به أيام البرد. ذكر الهواء فوق الأرض، الهواء الذي إن منع نفوس الأحياء اختنقوا، وحاجة الأبدان كحاجتهم إلى الماء وأشد، لأن كل مخنوق يحل خناقه، فأول ما يفزع إليه هو الهواء فإذا تنشقه ورجعت منه إليه نفسه كالماء، وقد لا يحتاج في ذلك الوقت إلى الماء، ولكنه لا يستغني عن الهواء. إن الله تبارك وتعالى وضع الزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغير أحوال الهواء، وهو يولج من بعضها من بعض ما يولج من الليل في النهار، ومن النهار في الليل، لأنه جعل الربيع الذي هو أول الفصول حارًا رطبًا، ورنت فيه النشوء والنمو، فتنزل فيه المياه، وتخرج الأرض وهرتها، ويظهر نباتها، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزروع، وتتوالد فيه الحيوانات، وتكثر الألبان. فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعته وهي الحرارة، ومباين له في الأخرى، وهي الرطوبة، لأن الهواء في الصيف حار يابس فتنضج فيه الثمار والحبوب البادية في الربيع، ويدرك من الرطاب والخضراوات. فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعته وهي اليبس، ومباين له في الأخرى وهي الحر. لأن الهواء في الخريف بارد يابس، فيتناهي فيه صلاح الثمار وتمكين وتجف، فتصير إلى حال الادخار فتقطف الثمار، وتحصد الأعناب، وتفرع من جميعها الأشجار فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء، وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعته وهي البرد، ومباين له في الأخرى وهي اليبس، لأن الهواء في الشتاء بارد ورطب، فتكثر الأمطار والثلوج وتمهد الأرض كالبدن المستريح فلا يتحرك إلى أن يعيد الله إليها حرارة الربيع، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشوء والنمو بإذن الله تعالى. وهو نظير إيلاجه الليل في النهار بأن ينقض من ساعات الليل، ويزيد ساعات في النهار. فإذا اعتدلا واستويا نقص من ساعات النهار وزاد في ساعات الليل إلى أن يعتدلا. ولا يزال يولج كل واحد منهما في الآخر ما بقيت الدنيا، إلى أن يأذن الله في زوالها. ولما كان من وضعه عليه أمر هذا العالم، إنه ربما قصر الليل وأطال النهار، وربما

أقصر النهار وأطال الليل، جعل أيام الشتاء هي القصيرة وأيام الصيف هي الطويلة. لأن ليل الشتاء يمنع الناس من التصرف والانتشار، فجعل زمانه أقصر ليأووا قريبًا إلى منازلهم ويتحصنوا بأكسائهم، ويساموا فيها بالنبات الدفية والاصطلاء بالنار من غوائل البرد. ثم عوضهم منها طول أيام الصيف حتى يتسعوا في الانتشار، ويتمكنوا من التصرف والتكسب، ويتوصلوا إلى حاجاتهم، ويقضوا ما في النفوس من أوطارهم. فيرجعوا إلى منازلهم وقلوبهم فارغة، ثم لا يطول مكثهم فيها، لكن إنما هو أن تستريحوا بالنوم وقد أصبحوا، فعادوا من كثير من الاضطراب والتصرف. وهذا في إطالة ما يطيله وتصيره ما يقصره. فأما أصل الليل والنهار، فيكون النهار المنصرف في أمور معائشهم والتوسل فيه إلى مكاسبهم. والليل لراحتهم وجمام أبدانهم. وكل هذا من الله عز وجل إرفاق وأنعام وفضل وامتنان. وقد ذكره الله تعالى فقال: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه، أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيها ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}. أي لتكونوا عند توفر هذه النعم عليكم من الشاكرين لله عز وجل. ذكر الرياح: ثم إن الله تعالى كما فاوت بين أحوال الهواء فجعله مرة حارًا ومرة باردًا، وفي وقت رطبًا وفي وقت يابسًا، فكذلك فاوت بين حالته، فجعله مرة ساكنًا ومرة متحركًا. فالريح يحرك الهواء وقد يشتد وقد يضعف، فإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى اتجاه القبلة، قيل لتلك الريح الدبور، وهي التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن عادًا هلكت بها. وهي التي أرادها الله عز وجل بقوله: {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية} إلى قوله {خاوية}. وقال: {إنا أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في يوم نحس مستمر تتنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر}. وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها، قيل له ريح الجنوب. وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل له ريح الشمال. ولكل واحدة من

الرياح طبع. فتكون منفعتها بحسب طبعها. فالصبا خاوية يابسة. والدبور باردة طيبة. والجنوب حارة رطبة. والشمال باردة يابسة. واختلاف طباعها كاختلاف طباع فصول السنة. وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرنا إلا أن الأصول هذه الأربع، فكل ريح هب بين ريحين مما ذكرنا فحكمها حكم الريح التي تكون فيه هبوبها أقرب إلى مكانها. وهذا هو الكلام فيما يرجع من منافعاها إلى الأبدان. ثم إن لها منافع سواها: فمنها الرياح الشجر، قال الله عز وجل: {وأرسلنا الرياح لواقح}. ومنها حمل السحاب، قال الله عز وجل: {وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحابًا ثقالًا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون}. وهذا ما سخره الله تعالى لمصالح الناس ليكفيهم به مؤونة استنباط المياه من العيون ولعل الحاجة تقع إلى الماء حيث لا عين، أو لا سبيل إلى الوصول، فأزاح الله بعلمه بما يحمله السحاب من الماء ويرسله من الريح ليحمله في الجو، ويمسكه على ظهرها بقدرته ومشيئته حتى إذا أراد إنزال شيء من الماء ببلد أنزل منه المقدار الذي يريد لطفًا منه وفضلًا تبارك اسمه وعزت قدرته. ومنها سوق الفلك في البحر، قال الله عز وجل: {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره}. وهذا لأن ماء البحر دائم. فإذا لم تكن ريح فلا حركة للسفن، حتى إذا هاجت الريح كانت هي التي تحرك الفلك وتزيحها، ولن يكون هبوبها إلا بإذن الله، فهو الذي يسير الناس في البر والبحر، كما قال عز وجل. ومن فوائد الرياح إن الله عز وجل كما جعلها كرامة لنبينا صلى الله عليه وسلم أحوج ما كان إليها، فقال عز وجل في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم

جنود فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها}. إلى آخر هذه الآية. فكذلك جعلها من معجزات سليمان عليه السلام لأنه سخر له الريح، فكانت تغدو شهرًا، وتروح شهرًا. ولم يذكر الله عز وجل في كتابه إنها تغدو وتروح. فذكر في الإخبار أن الشياطين كانت أعدت له مدينة من قوارير، وأنه كان يدخلها بنسائه ومن يريد من قومه، ثم يأمر الريح أن تحملها، فتحملها حمل الرياح السحاب، فتغدو بها مسيرة شهر، وقيل إنه يحمل قومًا على ألواح وأمر الريح فحملتها وجاوزت بها البحر، ثم أنزلتها حيث أمرها به، فقاتلت قومًا من العدو وظفرت، ثم ركبت الألواح فرفعتها الريح وحملتها إلى أن عادت بها معهم إليه مظفرة منصورة. وهذا الذي سبق اقتصاصه من جملة ما أنعم الله تعالى به على عباده في هيأت خلقهم، والمرافق التي جعلها لهم في أرضه وسمائه وما بينهما، ووراء هذا إنعامه عليهم بأن خاطبهم وأمرهم ونهاهم، وجعل صلاحهم لذلك ثمرة للعقل والبيان الذي أعطاهم وميزهم بالتيسير لعاد به عن البهائم، وألحقهم في ذلك بالملائكة، فعوضهم ذلك، يعلموا ما شرعه، فيستوصوا به ثناءه ومدحه وثناء الملائكة المقربين ومدحهم، ويستفيدوا به النعيم المقيم الذي لا ينتقص ولا ينفي ولا يبيد. وقد يكون في هذا، إنه لما خلق لهم من الخيرات والبركات في الدنيا ما خلق يعيدهم ليقضوا بالعبادة حق هذه النعمة، فيعوضهم من شكر النعمة المنقضية الدائمة خلافًا لحال البهائم التي تصيب ما تصيب من رزقه بلا عبادة تحصل من جهتها، فينقضي أمرها بانقضاء أكلها، ولا يكون لها في نعيم الآخرة نصيب. ومن ذلك إنعامه عز وجل بفتح باب في الدعاء والمسألة على العباد، واعتداده جل اسمه ذلك، عبادة منهم له، فقال: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. وجعل سببًا بكلامهم من أهوال عظيمة وشداد حادثة، نحو إحاطة السبع الواحد والإشراف على المغرق في البحر من هبوب العواصف وتلاطم الأمواج وحدوث أمراض لم تجر للعادة في البر.

ومنها وغير ذلك من عوارض كثيرة جرت العادة بانكشاف البلية فيها بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، حتى إن كثيرًا من الدهرية الذين لم يدعو الله لأجل التي سمعوها من المسلمين، ولم يعترفوا لأجلها بالصانع عز وجل، آمنوا بالله تعالى وأقروا به لما رأوه من نجاة الذين أحاطت بهم الأمواج في لجج البحار، وصاروا إلى حال لا يتوهم معها لهم خلاص، ولا يعلم لسلامتهم سبب ولا احتيال إلا بدعائهم وابتهالهم وتضرعهم حتى لم يمسهم سوء، أو سلموا عن عامة كانوا رصدوه من المكروه، وكانت السلامة لركاب البحر من هذا الوجه وبهذا السبب أغلب من التلف. قالوا: فلولا إن الذي يعبدونه بدعائهم موجود كما يقولونه، وله الخلق والأمر كما يعتقدونه، لكان الذي لا يمكن ولا يجوز غيره أن يعطبوا ولا يتخلصوا، فصار ذلك سببًا لإيمانهم واعترافهم بما لم تلجئهم الدلائل العقلية المعتبرة، غير أن الجدل المهذبة من الشوائب كلها ساقت النظر إلى قبوله والاعتراف بصحته، ولهذا قال الله عز وجل: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}. وقال: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله، إنه كان بكم رحيمًا وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورًا، أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبًا ثم لا تجدوا لكم وكيلًا، أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى، فيرسل عليكم عاصفًا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا}. وقال: {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق}. فامتن الله جل ثناؤه على العباد بما نجاهم من دعواتهم في لج البحار خائفين مضطرين مشرفين على أعظم ما يكرهون، وينسبوه لهم من الخلاص والنجاة، ثم عاتبهم على ما

يفعلونه بعد الخروج إلى البر من شكر تلك النعمة، ويقابلونه بها من عاجل النسيان والرجوع إلى ما كانوا عليه من قبل، من التهافت في الطغيان والتسارع إلى العصيان كأنهم أمنوا وأيقنوا أن لا سبيل بعد ذلك لله تعالى عليهم، فلا وصول- عزت قدرته- إليهم. فقال {أمنتم} يعرفهم أنهم لا أمانة لهم من عذابه، إن أراد تعذيبهم، فلو شاء لأهلكهم في البر بحاصب يرسله عليهم فيه، فليس الإهلاك كله في الماء أو بالماء. ولو شاء لألجأهم إلى ركوب البحر ثانية، حتى إذا ركبوا أرسل عليهم ريحًا يقصف الفلك ويكسره، وأغرقهم جزاء لهم بكفرانهم النعمة في التخليص السابق. أي فإذا كنتم تعلمون أن لا أمان لكم من هذا المؤاخذات، فلم تكفرون النعمة وتريدون المعصية وتمنعون الطاعة. أي فلا تفعلوا ذلك، واشكروا النعمة وآثروا الطاعة والعبادة، فإن ذلك خيرًا لكم وأعود عليكم وبالله التوفيق. ومن نعم الله عز وجل على عباده أنه لما أراد منهم العبادة، وكانوا لا يصلون إلى ما يريده منهم إلا بتوقف، أرسل إليهم رسلًا من جنسهم وجعلهم قائمين عليهم، يعلمونهم ما يجهلون ويأمرون وينهون وينشرون ويقدرون ويعدون على الطاعة ما يرغب فيها، ويتوعدون على المعصية بما يروع عنها، ولم يقتصروا على أن يعرفهم ذلك مرة واحدة، فيعودوا إلى ما كانوا عليه ويصيروا كأن لم يسمعوا ما قيل لهم، ولكنه عز وجل أقام الرسول بينهم ليدربهم على العبادات ويأخذهم بالواجبات إلى أن يموتوا عليها ويألفوها ويتعظموا عن العبادات الجاهلية وينسوها، وربما قيض رسولًا واتبعه غيره إلى أن ختم النبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. فأقام ما أقام ستر الأمة جادًا مجتهدًا إلى أن دخل الناس في دين الله أفواجًا، واستعلى الحق وزهق الباطل، وظهر أمر الله. فلما توفاه الله إلى كرامته خلف القرآن وهو أعظم دلائله وأشرف آياته وبيناته بين ظهراء أمته، مهما يكن من الستر فكان تبعًا للقرآن الجامع لها به ما شرع له في أمته من بعده كالحي القائم بينهم، لا تفوتهم إلا رؤيته، ولا تنقصهم إلا مشاهدته، فكان نعمته على الرسل أن فضلهم وشرفهم واصطفاهم على غيرهم بأن ائتمنهم على وحيه، فأحبهم بشفاء ربه، وجعل منزلتهم من غيرهم كمنزلة ملائكته منهم، ونعمته على المرسل إليهم إن لم يخلهم وأهواءهم، ولكنه أعانهم بمن يسددهم ويرشدهم إلى ما هو الأصلح لهم لئلا يخلدوا في حقوقه إلى التقصير،

فيستوجبوا به العذاب بالتكبر، وجعل الرسول من الجنس لتوفر السكون إليه، ويسهل الأخذ عنه، فلو كان الرسول من غير الجنس لاشتد النفور وصار ذلك سببًا للتباعد عنه وله الحمد بها على كل نعمة كما يستحقه. ومما خص هذه الأمة به من نعمه أن جعلهم أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس، فقال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}. وذلك لأنه جعلهم أمة خير الأنبياء وأفضل الرسل صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. وجعل شريعته آخر الشرائع تنسخ كثيرًا مما تقدمها ولا يأتي بعدها ما ينسخها، ووضع عنه الامار والأغلال التي كانت على المتقدمين، وبناها على السهولة والسماحة، ووعدهم على لسان نبيه صلوات الله عليه أن يكونوا أكثر أهل الجنة، هذا مع حقه بحملهم وقصور أمدهم، فإن قال: (بعث والساعة كهاتين، وضم أصبعيه السبابة والوسطى). إن كادت الساعة لتتيقن، وذلك مثل ضربة لقربها، ودلالة على أن مبعثه من أشراطها إذا كان نبي آخر الزمان كما تقدم به من الله البيان. لكن الله تعالى ضاعف لهم أجور أعمالهم كرامة لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال فيما يروى عنه: (إنما مثلكم فيمن مضى قبلكم كرجل استأجر أجيرًا فعمل له من أول النهار إلى الظهر بقيراط، فأولئك اليهود. ثم استأجر أجيرًا فعمل من الظهر إلى العصر بقيراط، فأولئك النصارى. ثم استأجر أجيرًا فعمل له من العصر إلى آخر النهار بقيراطين فأولئك المسلمون. فغضب الأولان وقالا: نحن أكثر عملًا وأقل أجرًا. فقال: هل منعتكم من أجوركم شيئًا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء). ثم إنه عز وجل ضمن لهذه الأمة حفظ القرآن، فقال: {إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون}. ولم يضمن مثل ذلك للأولين في الكتب التي أنزلها عليهم لأنه قال: {بما استحفظوا من كتاب الله}. فأخبر أنهم استحفظوه ولم يخبر بأنه ضمن لهم حفظه

فأداهم الأمر إلى أن صنعوا كتبهم. وأخبر الله تعالى ما وعده، فحفظ فينا كتابه وهو حافظه بفضله إلى أن تقوم الساعة، وسعة رحمته. ثم إنه عز وجل خص هذه الأمة باجتهاد الرأي في التوارث والأحكام، ووضع عنهم الخطأ فيه ما لم يكن منهم نقص في الاجتهاد، ومسامحة أنفسهم فيه، وميل بالهوى إلى وجه من الوجوه المحتملة دون غيره وقصد إلى أن يظهر الرجحان دون ما سواه، فانبسط لسعيهم من علم الدين ما كان منطويًا، وظهر منه ما كان كامنًا مختفيًا وقام بتخليص الأصول وتفريع الفروع قوم يقوم خبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم والبشارة بهم، حيث قال فيما روي عنه: (إن في أمتي قومًا كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء). فانتهوا فيها إلى أقصى حدود الإمكان، وظهرت لهم فيما تكلفوه من الله آثار الكرامة وخلد المدح والثناء عليهم إلى يوم القيامة. وبلغ قوم سواهم في نصرة الدين والرد على الملحدين مبلغًا لما يبلغه ذو ملة ممن خلا في نصرة دينه، فما بقوا للمخالفين شبهة إلا حلوها، ولا حجة فيما عندهم إلا دفعوها، ولا نبأ لهم إلا هدموه، ولا أصلًا إلا كسروه، فخلص الدين بحمد الله محروسًا بالسيف والقلم، ظاهرًا من الله تعالى على سائر الأديان ظهور العلم. وكل ذلك مما أنعم الله تعالى به على هذه الأمة من الإمداد الذي أمدهم بها، والمعادن التي أجزل حظوظهم بينها، وإن عددنا نعمه لم نحصها فله الحمد دائمًا والشكر واجبًا كما يستحقه. فصل فإن قال قائل: أليس كما أنعم الله تعالى على عباده بهذه النعم وبغيرها مما لم يذكروها، فقد ابتلاهم ببلايا، وختم عليهم بالمنايا، وحل بينهم وبين الخطايا، وعرضهم بها لأسوأ القضايا فما الوجه في هذا عندكم. فالجواب:- وبالله التوفيق- إن البلايا ضربان: ضرب جعله الله تعالى عقوبة لمن أصيبه. فإذا صبر المبتلى عليه وتاب إلى الله من ذنبه، جعله تمحيصًا له وكفارة، وضرب يعوض به من يناله، لما هو خير له مما يبتليه إياه ببلية. وهذان جمعًا للمؤمن.

وأما الكفار فليس أمرهم بخارج من أن يكون عقوبة لهم، لا تتضمن معنى التمحيص لأنه لا تمحيص مع الكفر، ولو أسلموا في تلك الحال لصار لهم تمحيصًا. وكذلك التعويض للثواب إنما يقع لهم بشرط الإيمان فيفسدونه على أنفسهم بترك الإيمان. كما أن جعل من ذلك للمؤمنين تعويضًا للثواب، إنما يكون ذلك بشرط الصبر والاحتساب. فإن جزعوا وقالوا لا ينبغي لهم أن يقولوه، أفسدوه على أنفسهم، وليس إقبال العبد النعمة على نفسه بدافع أن يكون الله تعالى قد أنعم عليه، كما أن الواحد منا قد ينعم ببعض ما عنده على آخر فيعيده على نفسه ببعض ما يفسد به مثله، فلا يدفع ذلك وجود الأنعام من الآخر عليه، والله أعلم. وأما الميتة فليس بخارج من وجوه الأنعام لأنها تخلص المؤمن من دار المحنة، وتريحه من الجهد، وتؤمنه من الخوف، وتصيره إلى ما أعد الله من حسن المآب وجزيل الثواب. وأما الكافر فإنها تقطعه عن ازدياد المآثم والأوزار والاستكثار من الجرائم والاصار. فهي إذًا لكل واحدة منهما نعمة والله أعلم. فإن قيل: لو كانت نعمة للكافر لأنها تقطعه الآثام، لوجب أن لا تكون نعمة للمؤمن لأنها تقطعه عن الحسنات. قيل: إن المؤمن إذا انقطع عن الحسنات فقدم قدم منها بالحجارة عن النار، ونورده من النعيم على ما له في أيسر اليسير منه كفاية، والكافر لم يقدم إلا السيئات فإذا انقطع عن ازديادها، استفاد بذلك أن لا يزاد العذاب عليه. فالميتة إذًا خير له وليست بشر للمؤمن وأما التخلية من العناد والخطايا، فكلا أن تكون واقعة من الله تعالى، لأنه قد نهى وتوعد العذاب ووصفه بما يحذر ويرهب منه، فأنى يكون مع ذلك تخليه؟ فإن قيل: فهلا أعجز عن الخطيئة؟ قيل: لو أعجز عنها لم يكن العبد ممتنعًا عنها، ولم يكن ذلك العجز له عبادة، ولم يقض عنه من حقوق الله تعالى حقًا. فإن قيل: فلماذا يعقد وهو غني عن أن يعبد قيل: لأنه عرض العبد لما يعبده للثواب. فإن قيل: وماذا كان لو أحسن إليه واجتباه من الخير ما أراد من غير أن يتعبده قيل هذا المتكلمي: الإسلام طريقان: أحدهما لا سؤال في مثل هذا الموضع، لأنه إنما يرجع

إلى الله عز وجل، وقد قال في كتابه: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}. وقال: {ألا له الخلق والأمر}. وقال: {إن الله يفعل ما يشاء} وقال: {إن ربك فعال لما يريد}. وقال: {إن الله يحكم ما يريد}. فلو أراد أن يتعبد أحدًا بأمر ولا نهي، ويدخلهم الجنة ويبيحهم نعيمها من غير طاعة تكون منهم، كان له ذلك. وإن تعبد ولم يدخل أحدًا الجنة إلا أن يكون الإيمان قد سلم له، فذلك أيضًا له وهو حقه. فلا سؤال بمثل هذا الوضع لأحد وإلا يعبد، إنه ولم يتعبد العبد، فيجعل له طريقًا إلى العبادة، ولم يستوجب العبد عليه إحسانًا وتخلا عن الوسيلة إلى ربه لأنه لما خلقه بدأه بالإحسان، بأن خلقه حيًأ وأعطاه بيانًا وعقلًا، أزاح علله، وأناله من الخيرات أكثر مما كان يحتاج إليه فوجبت له بذلك عليه حقوق، لو أراد أن يقضيها حتى يخرج من عهدتها ما قدر عليه، فإذا خلا بعد هذا عن العبادة كان الحق كله لله عز وجل عليه، ولم يكن قبل الله تعالى وسيلة إذا تعبده بالأمر والنهي، يعيد الطاعة له في أمره ونهيه، صار التزام العبودة واستشعار الذلة وإظهار الرغبة والرهبة، وسيلة له عند الله تعالى يستحق بها أن يحسن الله تعالى. فإذا تعبده لتكون له هذه الوسيلة فيحسن إليه لأجلها. فإن قيل: أليس لو أحسن إليه بلا استحقاق لكان ذلك الفضل والكرام سنة فيه إذا أحسن إليه عن استحقاق، وهلا أحسن إليه متبديًا إن لم يريد، ما فعل إلا الإحسان. قيل: هكذا كان يكون، ولكنه لما كان عدلًا أراد أن يظهر عدله، بأن يوجب للعبد الحق، ثم يجزيه بحسنة عشرًا أو أكثر، فيكون أظهر عدله وفضله معًا، كما أنه تعالى خلق ليظهر قدرته، وأعطى ما خلق العقل ليعرف نفسه إليه. وكذلك أوجب الحق للعبد ثم قصه، ليعرف بذلك عدله وفضله. فإن قال: ولم كان هذا؟ وماذا لو لم يخلق أحد، فلم يعرف أصلًا: قيل: لا شك إن العقل يدل على أن القديم إذا كان له من المدائح ما قد عرف. فإن يكون له من يعرفه

ويعرف مدائحه ويدعوه بها أحسن من أن لا يعرفه ولا يعرف تلك المدائح له إلا نفسه، فإنما خلق ويعبد، لأن ذلك أحسن، واختيار الأحسن أحسن من اختيار ما ليس بأحسن، وهذا موضع قطع السؤال. فصل وإن سأل سائل: عن التعريض للثواب بالإيلام والأموال لم جاز أرأيتم لو أحد منا، هل يكون له أن يضرب عبده ليعطيه مالًا، فإذا كان ذلك قبيحًا فيما بيننا، فلم جاز وجود ذلك من القديم إن كان هو الفاعل له كما يقولون؟ قيل: في هذا طريقان كما ذكرنا في السؤال الأول: أحدهما أن لا سؤال عليه لأن ليس لأحد عليه أمر ولا نهي ولا فوق سلطانه سلطان، وإنما قبح ما قبح من العباد لمخالفتهم فيه أمر الله عز وجل، فإذا لم يكن على الله تعالى أمر ولا نهي لم يقبح منه شيء يفعله. والسؤال عن أفعاله ساقط لأنه عز وجل كما وصف نفسه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. والطريق الآخر إن الله عز وجل يعلم أن الثواب الذي يعطيه العبد، وأسر له إذا لقيه من العافية التي يسلبه إياها في الحال، ويعلم أنه واصل إليه غير متخلف عنه، ولا فائت إياه، لأنه في يده وفي سلطانه، لا يخش أن ينس ولا أن يحول حائل بينه وبين إيصاله إلى العبد، فحسن منه أن يمنعه، وإحدى الحسنيين وهو العافية لما هو أحسن منا. وأما الواحد منا فإنه لا يدري إن ما أعده لعبده خير من العافية الحاضرة، ولا يدري أن يصل إلى ما في نفسه من الإحسان أو لا يصل إن وصل. فهل يستمع العبد به أو لا يستمع؟ ولعله يصير وبالًا عليه وسببًا لهلاكه. ولعله يذهب منه قبل أن يستكمل رؤيته. وإذا لم يكن من هذا شيء، فليست العافية من عطيته. فيكون له أن يمنعها إياه، ليعرضها منه عطية أخرى. وإنما هي عطية الله عز وجل، إذا أعطاه إياها أعطاه نظرًا له، فهو أعلم بالخير له، والعبد لا يعلم من ذلك إلا ما يعلمه الله تعالى فكيف يكون له أن يتعرض لتكديره وتعييره، وإنما حسن مثل هذا من الله تعالى لأنه امتنان بالعافية. فإذا أراد أن يأخذها ليبدل مكانها خيرًا منها، فإنما يبدل عطية بعطية. فكان ذلك من معاملة

الواحد منا عبده، نظير أن يكون قد من عليه وقتًا بشيء وسكنت نفسه إليه، فينزعه من كرهًا، ويعوضه خيرًا منه، فيكون ذلك حبسًا منه، فكذلك إيلام الله تعالى العبد للثواب حسن منه، لأنه في هذا المعنى وبالله التوفيق. ذكر الدلائل على وجوب الشكر: قد بدأنا في أول الباب بقول الله عز وجل: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} وبينا أن الأذكار عند الأمر بالعبادة بأنه خلق الناس، وجعل لهم الأرض فراشًا والسماء بناء وأنزل من السماء، فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم وجعلها رزقًا للناس، ونصًا من الله عز وجل الشكر من عباده، وشكره إنما يكون بعبادته. وذكرنا بعد هذه الآيات آيات في معناها، ومما يلتحق بها قوله عز وجل: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}. وفي عدة مواضع من سورة البقرة. وقوله عز وجل للمسلمين: {ولا تتخذوا آيات الله هزوًا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا}. وذكرنا هذه الآية في باب حب النبي صلى الله عليه وسلم، وبينا ما فيها من مواقع نعم الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عندنا، وقال فيما خاطب به بني إسرائيل: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا}. وقال في المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها}. وقال: {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم، هل من خالق غير الله يرزقكم}. وقال: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه}. وحكي عن موسى بن عمران عليه السلام إنه قال لقومه: {فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون}. وعنه عليه السلام أنه قال لقومه: {يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم}. وقال في عدة مواضع في سورة الرحمن: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. إلا قالوا:

ولا شيء من آلائك ربنا نكذب. فهذه آيات وقع فيه الإذكار بالنعم، والإذكار بها لا يكون إلا لاستدعاء الشكر واستقصار النعم عليه فيه. وقال لموسى عليه السلام: {وذكرهم بأيام الله} أي ذكر قومك بنعم الله، وما ذاك إلا ليشكروا {أما ترى ..} إلى قوله {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} وقص على الأمر بالشكر في عدة آيات، منها قوله تعالى في سورة البقرة {واشكروا لي ولا تكفرون} وقوله {اعملوا آلا داود شكرًا وقليل من عبادي الشكور}. وقال: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًا، فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب، وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون} وقال فيما وصفه من الحكمة التي أعطاها لقمان: {إن اشكر لي ولوالديك، إلي المصير}. وقال فيما حكي عن سليمان عليه السلام عند رؤيته عرش بلقيس: {فلما رآه مستقرًا عنده، قال: هذا من فضر ربي ليبلوني، أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم}. وقال: {إن الإنسان لكفور}. وذمه إياه بالكفران إن اقتضاء للشكر. وفي آية أخرى {لعلكم تشكرون} فأحدهما اقتضاء والآخر استقصاء واستنباطًا. وقد ثبت بجميع ما كتبنها، وما عسى سهونا عنه، فلم نكتبه وجوب شكر الله تعالى على العباد لنعمه الكثيرة العظيمة السابغة لديهم، ولا شك إنها إذا كثرت وفاتها الإحصاء لم يتوصل إلى شكرها إلا بذكرها ودراستها وعرضها على القلوب عند رين الغفلة. فإذا حصلت مذكورة فالشكر لها يختلف: فمنها اعتقاد إن الله عز وجل قد أنعم فأكثر وأجزل. وكل ما بها من نعمه فمنه، لا من الكواكب، كما قول بعض المبطلين. وإن كلها فضل منه وامتنان، وإنا إن اجتهدنا لم نرد شكرها ولم نقدرها حق قدرها.

ومنها الثناء على الله عز وجل وحمده، وإظهار ما في القلوب من حقوق هذه النعم باللسان، والجمع فيما بين الاعتقاد والاعتراف الذي يقتضيه تعظيمه، ولا تعظيم كالطاعة. ومنها أن يكون العبد مشفقًا في عامة أحواله من زوال نعم الله تعالى عنه، وجلا من مفارقتها إياه، مستعيذًا بالله تعالى من ذلك، سائلًا إياه متضرعًا إليه أن يديمها له ولا يزيلها عنه. ومنها أن ينفق مما أتاه في سبيل الله ويواسي منه أهل الحاجة، ويعمر المساجد والقناطير ولا يدع بابًا من أبواب الخير إلا أتاه، وأظهر له من نفسه أثرًا جميلًا فيه. ومنها أن لا يفخر بما أتاه الله على غيره، ولا يتبذخ ولا يتصلف ولا يزهو ولا يتكبر، قال الله تعالى: {إن الله لا يحب كل مختال فخور}. وقد كتبنا ما يتصل بهذا المعنى في قصة قارون وقوله، في باب القدر. ومنها أن لا يكتم نعمة الله تعالى عليه، ما لم يعلم في ذلك احتياطًا لنفسه ويجتهد في أن يرى آثارها عليه، ويتحدث بها، مستندًا بنعمة الله مبينًا عليه، وبفضله قاصدًا أن يشركه إخوانه من المسلمين في السرور بما يسره، ويعينوه على حمد الله تعالى وشكره، ويسألوه من إدامتها له ما سأله منها لنفسه بنفسه. فأما على وجه الزهو والاعتلاء بها على من ليس في مثل حاله فلا. وليس من إظهار أثر نعمة الله أن يستكثر من المآكل والمشارب والرباع والضياع والعبيد والإماء والخدم والدواب. ولكن أن يرحم أهل الحاجة ولا يغفل عنهم، ولا يبيت شبعانًا وجاره جائع فلا يطعمه. وكذلك من يعرفه بالحاجة، وإن لم يكن له جارًا. ولا يلبس الفضل من الثياب وغيره من فراشه، وأهل دينه في بلده أو جواره ومحلته مار يحرقه الحر، أو يقطعه البرد فلا يكسوه، ولا يتبضع بالبضائع بالألوف، أو يركم البذر ويتصدى لضرير في جواره أو محلته أو من جملة قرائبه من يحتاج إلى درهم يصرفه في حاجته فلا يجده ولا يعطيه. فإن كان يفعل هذا كله فلا عليه أن ينفق على نفسه أكثر مما يحتاج إليه، وكل من كان

عنده فضل، فأنفق فضلًا فأكل لونين أو لبس ثوبين، واستخدم عبدين وافترش فراشي جاريتين ويبني دارين، وركب دابتين، أو زاد، فهذا على وجهين: أحدهما: أن يكون غرضه إظهار فضل الله تعالى عليه ليخرج به من حكم الكافر المتنبه بالمنكر والجاهد، وهذا أحسن. إلا أن إظهار ذلك بالمواساة أولًا أحسن. والآخر: أن يكون غرضه المباهاة والمكاثرة والبغي والمفاخرة، فهذا حرام عليه. ويخشى أن يكون أدنى ما يعاقبه الله تعالى أن يعطيه ما أتاه، ويقطع عنه ما أعطاه فينبغي لمن أشفق من ذلك أن لا يغفله. ومن أعظم فوائد نعم الله تعالى الاستدلال بها على المنعم، فإن فيها الدليل عليه وعلى قدرته وعلمه وحكمته ووحدانيته. وقد نبه الله تعالى على ذلك في غير موضع في كتابه، فالله تبارك وتعالى امن علينا بأن جعل لنا السمع والأبصار والأفئدة بعد أن أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا. وقال في آية أخرى: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم، وختم على قلوبكم، من إله غير الله يأيتكم به}. فالأول إسيان والآخر تنبيه واحتجاج. فيحتمل أن يكون احتجاجًا على مشركي العرب الذين كانوا يعترفون بالله عز وجل ويصفون خلق أنفسهم إليه، ثم يتبنون مع ذلك له شريكًا، فأخبر عنهم إنهم {إذا قيل لهم من يبدأ الخلق ثم يعيده، أم من يرزقكم من السماء والأرض، أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الامر}، قالوا: الله وأنهم إذا قيل لهم: من خلقكم؟ قال الله، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {هذا خلق الله} باتفاق مني ومنكم {فأروني ماذا خلق الذين من دونه}. وأن يقول لهم: {أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم بعد أن خلقها لكم، من إله غير الله يأتيكم به}. أي إذا كان هو الخالق لهذه الأشياء، فأخذ منها ما خلق، فمن ذا الذي يتوهم أن يعارضه، فينزع منه ما أخذه منكم، ويرده عليكم. أي فإذا كان ذلك مما لا سبيل لكم في امتنانه، فاعلموا أنكم لا تحصلون من الشرك إلا على قول مجرد لا حاصل تحته، وإن الكف عنه أولى.

وقال في آية أخرى منها، ومحتجًا: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}. فكان معنى ذلك، وفي أنفسكم دلالات الحدث، وفي الأحوال المتقلبة بهم من حيث لم يتفكروا فيها. فإن تلك الأحوال إذا كانت أحداثًا، ولم يكونوا نقلوا منها قط، فواجب أن يعلموا أنهم أحداث، والحدث لا يخلو من يحدثه. فقيل معنى ذلك: أنكم تعلمون من أنفسكم، أنكم لم تكونوا ثم كنتم، فلا يخلوا أحدكم من أن يكون هو الذي خلق نفسه، أو أبواه خلقاه، أو غيره وغيرهما، ولا يمكن أن يكون خلق نفسه لأنه لو شاء بعد (أن) تمت قواه وكمل عقله أن يتم من نفسه عضوًا ناقصا لم يقدر عليه، فوجب أن يعلم أنه كان إذا كان نطفة مواتًا من أن يقلب نفسه كمالًا محالًا أبعد، وعنه أعجز. ثم يعلم أنه إذا كان موجودًا غير إنه ضعيف أموات لا يقدر على شيء من أمره، فهو إذا كان عدمًا من ذلك أبعد، ولا يمكن أن يكون أبواه فعلاه، لأن الأبوين في العجز الذي ذكرنا مثله. فإذا استحال أن يكون فعلًا لنفسه، استحال أن يكون فعلًا لأبويه، فحق إنه إذا فعل فاعل غيره وغير أبويه، وإنما يراد بالله ذلك الفاعل، أفلا تبصرون، أفلا تدركون بعقولكم ما فيها من هذه الهداية، فتهتدوا بها ولا تكفروا. فإن قال قائل: الفاعل هو الطبع: قيل له: وما الطبع فإن هذا الاسم نفسه يدل على أن المسمى به فاعلًا، لأن الطبع لا يكون إلا فعل الطابع، كما لا يكون الضرب إلا فعل الضارب. وهكذا، إن قالوا: الطبيعة، لأن الطبيعة اسم للمفعول، فإن الطبيعة هي المطبوعة، كما أن القتيلة هي المقتولة، والذبيحة هي المذبوحة، والصنيعة هي المصنوعة، والمفعول في اقتضاء الفاعل كالفعل. فإن قالوا: الطبيعة قوة مخصومة، فذكروها ونعتوها. قيل لهم: القوة عرض لإبقاء له، فيستحيل أن تؤلف الأجسام، كما يستحيل على اللون أن يفعل ذلك، وعلى الصوت والطعم. ولأن خلق الإنسان فعل شديد متقن، فلا يمكن أن يكون قد صدر إلا عن عالم حكيم. القوة لا تليق بها الحياة ولا القدرة ولا العلم ولا الحكمة، فأنى يمكن أن يكون الخلق وقع منها؟ فإن وصفوا الطبيعة بهذه الصفات، كانوا مشيرين لمن هي له إلى

الباديء، إلا أنهم يلحدون في اسمه فيسمون به غيره، وينسونه، وعندهم أنه معونة، وهذا نهاية الجهل. فيقال لهم ما قال الله عز وجل: {أفلا تبصرون} أي لا عقول لكم تدركون بها خطأ هذا القول وفساده، فترجعوا عنه إلى ما يصح ويسلم على النظر، وبالله التوفيق. وقال في آية أخرى: {وسخر لكم الله والنهار} فامتن بها على العباد حتى قال محتجًا: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون}. وهذا يحتمل وجوهًا: أحدها ما ذكرت في قوله: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به}. وذاك أن الله عز وجل قد أخبر في غير هذا الموضع، إنهم إن سئلوا: من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فلما كانوا معترفين بذلك، وصاروا مع ذلك يشركون أموات. فقال لهم: أرأيتم إن حبس الله النور والظلمة، من كان يأتيكم بما حبس عنكم؟ أي فإذا كان خلقها لهم ولا يمكن أن يردها عليكم أحد منهما ما ينزعه منكم، فمن هذا الإله الآخر إذًا. وما الذي يملكه، وأمر الذي بيده، وهو معنى قوله عز وجل في غير هذا الموضع {هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه}. والوجه الآخر: أن يكون احتجاجًا على عبدة الأوثان كأنه قال لهم: من إله غير الله يأتي بما حبسه الله تعالى عنكم من النور أو الظلمة، الذي لا يبصرون عجز الأوثان وجودها، فيعلموا أنها لا تقدر على شيء ألا تسمعون ما يقال لكم عودًا على بدء، ويضرب لكم الأمثال، فتعلموا أن عبادة الوثن جهل وضلال. والوجه الثالث: أن يكون احتجاجًا على التنويه الذي يقولون بأن خالق النور من

خالق الظلمة. كأنه قيل لهم: إن كان هذا هكذا فأضيفوا إلى الله عز وجل إحدى هذين من النور أو الظلمة. ثم إنه أراد إبقاء ما خلق من إله غيره، كأن يأتي بضده، وذلك إذا أتى بضده لم يخلو من أن يتعد له إظهارًا ما أتى به، وإبطال ما كان قبله أولًا بنفسه. فإن تعد، فكيف يكون الأول مقهورًا وهو إله؟ وإن لم يتعد، فكيف يكون الثاني مقهورًا وهو إله؟ وإذا كان ذلك فيستحيل وقد أقررتم بأن خالق النور هو الله عز وجل. فاعلموا أن خالق الظلمة ليس غيره. وإنها جميعًا خلقه، فلا هو أن يحبس النور قدر على الإتيان به غيره، ولا إن حبس الظلمة قدر على الإتيان بها غيره. أفلا تسمعون ما نكرر عليكم من الاحتجاج ونضرب لكم من الأمثال فتنتهوا أو تذروا ما أنتم فيه من التعسف والجهالة أفلا تبصرون بعقولكم ما فطرت عليه من الهداية والدلالة، فلا تعتقدوا المتناقض، فالنص في هذا التأويل، وفي الأول نص القلب، وفي الذي بينهما نص العين، وبالله التوفيق. وقال في آية أخرى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا لنحيي به بلدة ميتًا ونسقيه مما خلقنا أنعامًا وأناسي كثيرًا}. فهذا امتنان. وفي آية أخرى {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماء معين}. فهذا احتجاج على المعنى الذي بينته فيما مضى، لأن الله عز وجل قال: {ولئن سألتهم نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، ليقولن الله}. فإذا كان هذا قولهم، ثم أثبتوا لهم شريكًا يوجبه عليهم أن يقال لهم: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا، فمن يأتيكم بماء معين} أي إذا لم يكن أحد مهيأ لكم أن تشيروا إليه، فيقولوا: إن هذا الإله إن حبس الماء فذلك الإله يأتينا به. فما معنى إثبات شريك لا يحصل منه إلا على اسم فارغ لا معنى تحته ولا حاصل له. وقد حكي عن بعض جهال الملحدين، إنه مر بقوم يصلون وإمامهم يقرأ: {أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا فيمن يأتيكم بماء معني} فقال الرجل: والمعاول ولم يعلم إن الاحتجاج إنما وقع بالماء الذي هو غار، فصار الرجال لا يصلون بمعاولهم إليه فإن ذلك ما لم يمتحن لا يدري إن الماء قد خار لأن يخوره مفارقته المعدن المعهود له ولا يظهر

ذلك إلا بعد أن يعمل الرجال معاولهم حتى يصلوا إلى معدنه وينابيعه. فإذا وصلوا إليها وجدوها فارغة منه، ونزلوا عنها، ولم يحسبوا لها أثرًا، علموا أنه غار وإن ظهر ذلك لهم لم يغن الرجال والمعاول، وانصرفوا كما حضروا، فقد ضل سعيهم وهدر أمرهم، كما ضل سعي هذا الملحد في معارضته، وهذا أمره وبالله التوفيق. وكل ما لم نكتبه مما يدخل في هذين المعنيين الامتنان والاحتجاج من الآيات، فهو مثل كتبنا، والعقلاء يعرفون ذلك ويدركونه إذا نظروا وتأملوا وبالله التوفيق. فصل وفي هذا الذي انتقصناه، دليل على أن من تأمل الآيات الموجودة في أصناف هذه الخلائق من أولي الأمور، لأن العبد كلما ازداد تأملًا لها زادته هداية ودلالة تقربت بصيرته، وخلصت من الخواطر والهواجس عقيدته. وهذا هو المعنى الذي وقعت الإشارة إليه لقوله عز وجل: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا}. وإن هذا التأويل من أعظم ما يؤدي به حق الله تبارك الله وتعالى، فهو إذًا مضمون إلى سائر الوجوه التي كتبناها أو مبدي عليها، والله أعلم. ومما جاء في شكر النعمة، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى صاحب بلاء، فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا إلا أعيذ من ذلك البلاء). وليس هذا على أن يخاطب بهذا القول المبتلي ويسمعه إياه، فإن هذا يخشى أن يكون تعبيرًا له بالبلاء، ويحبط فائدة الحمد، ولكن على أن يقول ذلك من حيث لا يسمعه المبتلي. وإذا تأكد هذا الحمد بأن دعا المبتلي إما العافية وإما بالاحتساب والصبر، فذلك أولى، وإلى القبول أدنى. ومما جاء في شكر النعمة المنضدة إذا حضرت أو كانت خافية، ظهرت السجود لله عز وجل، والأصل فيه قول الله عز وجل: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب

إذ دخلوا على داود ففزع منهم، قالوا: لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط، وأهدنا إلى سواء الصراط. إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال: اكفلنيها وعزني في الخطاب. قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم، وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب فغفرنا له ذلك، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}. أخبر الله عز وجل في داود أنه سمع قول المتظلم من الخصمين، ولم يخبر أنه سأل الآخر إنما حكى إنه ظلمه. فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم تحايل الضعف في العظمة، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقال، ودعاه ذلك إلى أن لا يسأل الخصم، فقال مستعجلًا: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول: كانت له مائة نعجة، ولا شيء لهذا، فسرق مني هذه النعجة. فلما وجدتها عنده، قلت له: أرددها، وما قلت له: اكفلنيها، وعلم إني مرافعه إليك فخزي قبل أن أجره، وجاءك متظلمًا مني قبل أن أحضره لتنظر إنه هو الحق، وإني أنا الظالم. وكما تكلم داود بما حملته العجلة عليه علم إن الله عز وجل خلاه فعتبه في ذلك الوقت، وهو الفتنة التي ذكرها، إن ذلك لم يكن إلا عن تقصير عرفه فيه، فاستغفر ربه وسجد لله شكرًا على أن عصمه. فاقتصر على تظليم الشكو، ولم يزده على ذلك شيئًا من انتهار أو ضرب أو غيرهما مما يليق بمن تصور في القلب إنه ظالم، فغفر الله له، ثم أقبل عليه يعاتبه فقال: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}. فبان بما أخصه الله تعالى من هذه الموعظة التي توخاه بها بعد المغفرة، إن خطيئته إنما كانت التقصير في الحكم والمبادرة إلى تظليم من لم تثبت عنده مظلمة، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه قال: سجدها داود شكرًا، فسجدها النبي صلى الله عليه وسلم إتباعًا، وسجدها لذلك، فثبت إن السجود للشكر سنة متوارثة عن الأنبياء عليهم السلام. فإن قيل: ليس في الآية ذكر السجود: قيل: بلى، فيها ذلك قال عرف عن الحسن

خر ساجدًا، وإن سجد خر حتى ركع. وإنما أراد بذلك أنه لما قيل {خر} وكان الراكع لا يخر. إنما يخر الساجد، علم إنه ركع ثم خر كأنه كان قائمًا فانحنى. ثم لم يقتصر على ذلك حتى خر فسجد، وقد تظاهرت الأخبار إنه سجد وأطال عندما استشعر بالخطيئة فدل ذلك على أن المعنى بالآية هو السجود والله أعلم. وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء عنه أنه رأى نقاشًا يقال له رتيم، فقرأ فخر النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، وقال: (الحمد الذي لم يجعلني مثل رتيم) هذا على أنه لم يكن رأى خلقًا في نقصان خلق رتيم، فلما رآه حمد الله تعالى على ما أكمل من خلقه، فكان كمال خلقه حتى لا يكون كرتيم نعمة خافية عليه، فلما ظهرت له سجد. وقال أبو بكر: كان النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاه فبشره خر ساجدًا). وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لقيت جبريل عليه السلام، فبشرني، وقال: إن الله عز وجل يقول: (من صلى عليك صلاة صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله شكرًا). وعن حذيفة رضي الله عنه قال: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن ربي قال لي: لمن أجرتك في أمتك، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا من كل سبعون ألف، ليس عليهم حساب. ثم أرسل إلي ربي ادع نجب جبل يقظه. وإنه أعطاني إني أول الأنبياء دخولًا الجنة، ولم يجعل علينا من حرج، فلم أجد شكرًا غيرهما). وجاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي، ثم سجد سجدة ظننت إن نفسه قبضت فيها. فقلت: يا رسول الله، سجدت سجدة ظننت أن نفسك قبضت فيها قال: (إني صليت ما كتب لي ربي عز وجل، فقال: يا محمد ما أفعل بأمتك. فقلت يا رب، أنت أعلم قال لي: إني لن أحرمك في أمتك، فسجدت لربي عز وجل بها شاكرًا).

وجاء عن أبي بكر رضي الله عنه إنه قال لما بلغه فتح اليمامة وقتل مسيلمة: لعنه الله، وخر ساجدًا شكرًا لله عز وجل). وعن علي رضي الله عنه إنه لما وجد ذا الندبة مقتولًا خر ساجدًا. وعن كعب بن مالك رضي الله عنه إنه سجد حين أتاه البشر بالتوبة، ورمى بردائه إلى الذي جاءه. وأيضًا فإن حدوث النعمة تقتضي الشكر، والشكر يقرب إلى الله عز وجل. وجاء في الحديث (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدًا) فاستحب أن يتقرب بالسجود إذا كانت النعمة الحادثة من غير جنس النعم الدائمة المألوفة، ليكون قد قابلها بشكر من غير جنس الشكر الدائم المألوف، والله أعلم. والمسألة في موضعها من كتب الأحكام. فصل وإذا ظهر أن النعمة تقتضي الشكر، وظهرت وجوه الشكر، فمعلوم أن النعم متفاوتة في مراتبها فأولاها بالشكر نعمة الله تعالى على العبد بالإيمان، والإرشاد إلى الحق، والتوفيق لقوله، لأنه هو الغرض الذي ليس بتابع لما سواه، وكل فرض سواه، فهو تابع له، فهو ممن جاء به، وثبت عليه شكره لفقره من النعم، والتيسير له نعمة عظيمة يقتضي الشكر لها بالإنهاء على المعاصي، وإتباع الإيمان حقوقه، لأن الإيمان بالله عهد بينه وبين العبد ولكل عهد وفاء. فالوفاء بالإيمان إتباعه ما بعده. فإن قيل: إلا قلتم إن أولي النعم أولاها بالشكر، هو الحياة ثم العقل والبيان. قيل: لأن هذه النعم كلها لتكون من المنعم عليه بها الإيمان، فصح إن أفضل النعم الإيمان، فمن شكر لله تعالى تيسيره للإيمان، فقد شكر عامة ما كان الإيمان به، فصارت هذه النعم التي ذكرتها ذا صلة في الشكر والله أعلم. ثم إن على هذا، كل عبادة تتلو الإيمان من فعل شيء أو كف عن شيء فهو شكر لنعم

الله تعالى. ثم التيسير لها نعمة يجب شكرها بالقلب واللسان، فمن جملة شكرها الاغتباط بها، وسيأتي ذكرها في باب مفرد إن شاء الله. فصل ومن جملة الدلائل على ما مضى من وجوب الشكر، قول الله عز وجل في ذكر يوم الجمعة: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}. ومعلوم إن المسألة عن النعيم هي المسألة عن شكرها، لأن الله عز وجل جعل هذه الأموات وغيرها من كفايات الأبدان، وما يزيد على الكفاية مما يزاد به النعم، والتلذذ أسبابًا لقوام الأبدان، وبهجة النفوس وانبساط القلوب حتى تتأتى عبادة الله تعالى بباطن البدن وظاهره على التمام، فلا يقع من خارجة بها نجس، ولا يلحقها بسبب من الأسباب وكسر. فصارت إذا أعواضًا إلا إنها أعواض معجلة. ومعلوم أنه ليس في تعجيل العوض ما يسقط الحساب عن كاهله لسببين: إنه خرج من عهده ما كان يلزمه في معاملة المقبوض، أو لم يخرج. فصح إن كان من أنعم الله عز وجل عليه نعمة مما ذكرنا، فجعله بها متهيأ لنوع من العبادة التي خلقه لها، وأمره بها. فإنه يسأله عما قابل تلك النعمة من تلك العبادة. وإن السؤال عن ذلك حقه، إلا أن يعفو عنه وبالله التوفيق. وقد ذهب بعض السلف إلى أن الله عز وجل لا يسأل العبد عما لا تقوم الأبدان بأقل منه. وتجل ذلك عن سفيان بن عيينة زعم أن الله تعالى أسكن آدم الجنة، فقال له: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحي، فكانت هذه الأشياء الأربعة ما يسد به الجوع، وما يدفع به العطش، وما يسكن له الحر والبرد، ويستر به عورته لآدم صلوات الله عليه بالإطلاق، بأن لا حساب عليه فيها، لأنه لا بد له منها. وقد يحتمل تأييد ما قال، بأن الله عز وجل أباح آدم ما زاد على هذه الكفارات، فصح إنه لم يخفض أدنى الكفاية بالذكر، إلا ليؤمنه من حسناتها. وليس هذا بالدين لما سبق

ذكره، ولأن الآية يحتمل أن يكون أريد بها الامتنان على آدم بما جعل دافعًا لضروب الأذى التي لا تقوم عليها الأبدان، لأن موضع النعمة أعظم منه بما لا يكون وقاية للأبدان وإنما هو لذة ونعمة. فذكرت هذه الأشياء لهذا لأنه لا حساب عليه بها. ويحتمل وجهًا آخر بين هذا، وهو أن يكون المعنى: إن ذلك أن لا تتأذى بالجوع والعطش لما تحتاج من المصابرة عليها إلى أن تجد ما تدفعها عنك. ولا مصابرة الهواء أو الحر إلى أن تجد ثوبًا تلبسه، أو كنًا تأوي إليه، لكن عليك في عامة هذه الأبدان مزاجة، فلا عليك منها أذى من جوع ولا عطش، ولا من عري ولا ضحي قط، ولا طرقه، فإنما ذكرت هذه الأشياء على هذا المعنى لا نيل ما ذهب إليه سفيان. فصل قد ذكرنا من حكم نعم الله تعالى، وما يجب على العباد من شكرها ما يسره الله بفضله لنا. ونقول: إن شكر المنعم أمر لم يختلف العقلاء من المبتدئين وغيرهم في استحسانه، فكل منعم فله من أنعم عليه أن يشكر نعمته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أولت إليه نعمة فليشكرها فإن لم يقدر فليظهر ثناء حسنًا). وهذا يدل على أن الشكر المذكور في هذا الحديث أريد الفعل. ولولا ذلك لم يقل (إن لم يجد) أو (فإن لم يقدر فليظهر ثناء حسنًا). فقد يجوز أن يكون شكر النعمة إذا كانت النعمة فعلًا، إحسانًا مكان إحسان حتى إذا لم يتيسر قام الذكر والثناء والبشر مقامه. وإذا كان الذكر والثناء جزاء فالدعاء الصالح إلى ذلك أقرب وبه أحق. روى أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، إن الأنصار فضلونا، فإنهم آوونا وفعلوا كذا، وفعلوا كذا ... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرفون ذلك لهم، قالوا: بلى: قال: فإن ذلك شكر، لأن التحدث بالنعمة شكر لمسديها ومصطنعها).

ويروى أن رجلًا سمع الديك يصرخ فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الديك، فإنه يدعو إلى الصلاة) ومعنى هذا إن العياذة جرت بأنه يصرخ صرخات متتابعة عند طلوع الفجر، وكذلك عند الزوال، فطرة فطره الله عليها، فيذكر الناس بصراخه، إلا أن بالحقيقة يقول الناس بصراخه قد جاءت الصلاة، أو يجوز لهم أن يصلوا بصراخه من غير دلالة سواها، إلا من امتحن منه ما لا يخلف، فصار ذلك إمارة. وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الديك ما في صراخه من هذه الفائدة، دليل على أن كل مستفاد منه خير، فلا ينبغي أن يسب ويستهان، بل حقه أن يكرم ويتلقى بالإحسان والله أعلم. نجز الجزء الثاني بحمد الله ومنه وخفي لطفه وكرمه. ويتلوه في الجز الثالث- إن شاء الله تعالى- الرابع والثلاثون من شعب الإيمان- وهو باب في حفظ اللسان عما لا يحتاج إليه. وكان الفراغ من نسخه في العشر الأول من شهر جمادي الآخر سنة ست وأربعين وسبعماية. أحسن الله نفعها في خير وعافية. نفع الله به من أمر بنسخه، ومن نسخه، ومن نظر فيه، وقرأه، وغفر له، ولهم ولجميع المسلمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. الحمد لله رب العالمين.

الرابع والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في حفظ اللسان عما لا يحتاج إليه

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر بخير الرابع والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في حفظ اللسان عما لا يحتاج إليه فأول ما دخل في هذا لزوم الصدق وبجانبه الكذب. وللكذب مراتب، فأعلاها في القبح والتحريم الكذب على الله عز وجل ثم عن نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم كذب المرء على عينيه ولسانه وسائر جوارحه، وكذبه على والديه، ثم كذبه على الأقرب، فالأقرب من المسلمين، وأغلظ ذلك ما يضر به أحدا في نفسه أو ماله أو أهله أو ولده. ثم الكذب الموثق باليمين أغلظ من الكذب المتجرد عن اليمين. ويتلو الكذب في الكراهة الملق والإفراط في مدح الرجل، وأقبح ذلك ما كان في وجهه. ويتلوه الخوض فيها لا معنى له ولا يرجع إلى الخصائص فيه منه نفع، ولا يعود عليه من الشكر ضرر. ويتلو هذا كثرة الكلام وإطالته مع الاكتفاء ببعضه وترديده، وتكريره مع الاستغناء بالمرة الواحدة. قال الله عز وجل:} إن المسلمين ... {إلى قوله} والصادقين والصادقات {فإن الصدق يجري مجرى الإسلام والإيمان والخشوع وسائر ما ذكر معه وقال جل ثناؤه:} من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه {فدل بهذا أن الصدق من شعب الإيمان. لأن ذكر المؤمنين ثم الثناء عليهم بفعل كان منهم يقتضي أن يكون استحقاق المدح بمعناها فعلهم وإيمانهم.

وقال عز وجل:} يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين {. ينادي المؤمنين باسم الإيمان يحركهم بذلك على أن يكونوا مع الصادقين. فإذا كان الكون مع الصادقين من الإيمان بهذه الدلالة فالأولى أن يكون الصدق نفسه من الإيمان. وجاء في الأخبار: الكذب بجانب الإيمان، وفي هذا تحقيق ما دلت هذه الآية عليه. وما بينته: أن الكفر كله كذب. فثبت أنه بجانب الإيمان. وعنه صلى الله عليه وسلم: (تمام إيمان العبد أن يصدق في كل حديث). وعنه صلى الله عليه وسلم. (إذا كذب العبد تباعد عنه الإيمان). وقال صلى الله عليه وسلم (علامات المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). وهذه الثلاث إذا تؤملت كان مرجعها جميعا إلى الكذب، وإنما يقع الفرق بينهما في أوصاف الكذب، فإن الكذب في الحديث أن يخبر الواحد عن شيء خلاف ما كان عليه. وإخلاف الوعد أن يقول: أفعل كذا فلا يفعله، أو يقول: لا أفعل كذا فيفعله. فيغلب قوله الأول عند مخالفته إياه بفعله كذبا. والخيانة فيما أؤتمن عليه أن يلتزم الأمانة ثم لا يؤديها، فيصير عند الخيانة التزامه كذبا، والكذب في قول يلزم به نفسا شيئا أغلظ منه في وعد لا يلزم به نفسا شيئا. فجعل بهذا أن علامة المنافق ظهور الكذب وغلبته على كلامه. وإذا كان الكذب من النفاق، فقد وجب أن يكون الصدق من الإيمان. وقد قال الله تعالى فيما وصى به نبيه صلى الله عليه وسلم:} ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا {. وذلك أن يقول الرجل: سمعت أو رأيت أو علمت، فأبان الشرع أن إطلاق شيء من ذلك دون حقيقة بتأيدها الخبر، حرام ممنوع. وقال تعالى:} يا أيها الذين ءامنوا، لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون {. فأبان أن خلاف الوعد خلاف ما يوجبه الإيمان، وإن كان نصير قول قد مضى كذبا غير لائق بالإيمان، فابتداء الكذب أولى أن يكون غير لائق به.

وقال في ذم المنافقين:} ويحلفون على الكذب وهم يعلمون {أي أنهم يكذبون ومع ذلك يحلفون على كذبهم، فيكونون جامعين بين شيئين، ثم توعدهم فقال:} أعد الله لهم عذابا شديدا، إنهم ساء ما كانوا يعملون {. فيؤيد هذا ما حكاه عز وجل عنهم في سورة براءة، فقال:} يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر {إلى قوله} بما أخلفوا الله ما وعدوه ربما كانوا يكذبون {. فجعل الكذب من أوصافهم إذا كانوا منافقين، وأخبر أنهم أعقبهم النفاق في قلوبهم بما كانوا يترخصون فيه من الكذب، فذلك على غليظ من الكذب ومجانيته الإيمان. وقال عز وجل في الكذب:} فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه {. يحتمل أن يكون المراد بالكذب على الله أن يقول لكلامه ووحيه أنه ليس من عنده، أو يدعي شريك أو يجحده أصلا، وبالتكذيب بالصدق تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به مما هو صادق في أن الله تعالى أرسله به، وأنزله عليه، ثم قال عز وجل:} والذي جاء بالصدق، وصدق به أولئك هم المتقون {. فمدح الصادق عليه، والمصدق بما جاء من عنده، وذم الكاذب عليه والمكذب بما جاء من عنده، فكان كل محق في خبره، وكل مبطل في خبره في استحقاق المدح أو الذم كما مدحه الله تعالى أو ذمه، قال:} ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب، هذا حلال وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع قليل ولهم عذاب أليم {. وقال:} قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل الله أذن لكم أم على الله تفترون، وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة {. أي ما الذي يظنون أن يكون لهم يوم القيامة، أي يظنون إن هم لا يسألون عنه ولا يؤاخذون به، أي ليس الأمر كما يظنون، عن كان هذا ظنهم. وقال:} ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين {. أي لأهلكناه واستأصلناه.

وهذا من الله تعظيم الكذب العبد، وافترائه عليه. ثم إن الكذب جرى مجرى الظلم والجهل والسفه، ألا ترى أن من كذب الله في أخباره، كما أن من ظلمه في أحكامه، وجهله بمواقع الضرب والنظر، أو سفهه في تدبير خلقه كفر، وإذا كان كذلك كان الكاذب فيما يستحقه من الذم البليغ والعقاب الأليم كالظالم والجاهل والسفيه، ووجب إذا كان الكذب في مجانبة الإيمان كهذه القرائن أن يكون الصدق من الإيمان، كما أن الظلم لما كان مجانبا للإيمان، كان العدل من الإيمان والله أعلم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ينزل منزلة الكذب على الله، لأن تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم كتكذيب الله تعالى في أنها جميعا كفر، فكذلك الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كالكذب على الله تعالى في أنه أغلظ من سائر الكذب، وإن كان الكذب كله حراما قبيحا. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من كذب على عينيه ...) وسنذكر هذا في موضعه. وقال أبو بكر رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته على المنبر، فقال: (إن ابن ءادم لم يعط شيئا أفضل من العافية، فسلوا الله العافية، وعليكم بالصدق والبر، فإنهما في الجنة، وإياكم والكذب والفجور فإنهما في النار). وعن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب، وسمعته يقول: (يكون في آخر الأزمان أقوام أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا تجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية). وجاء: (من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين) وليس معنى هذا- والله أعلم- أن ذلك عذابه وجزاؤه، ولكن يكون لهم شعار يعلم به من يراه أنه كان يزور الأحلام في الدنيا، وذلك العقد بين

شعيرتين ليس ما يكون ويتأنى، في اليقظة. لكن النائم قد يرى في منامه أنه كان منه، فيجعل اشتغاله في اليقظة بما لا يليق إلا بالنوام مما لا إمكان ولا حقيقة له، دلالة على أنه كان يتصنع بالأحلام الكاذبة، ويخبر عما لا حقيقة له منها، والله أعلم. وأما تأكيد الكذب باليمين فقد جاء فيه سواء، ما ذكرنا من قول الله عز وجل، أو يحلفون على الكذب وهم يعلمون قول الله عز وجل} إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم {. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع يمينا فأجره حقا لمسلم لقي الله تعالى وهو عليه غضبان) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الحلف الكاذب ينفق السلغة ويسحق البركة). ويدل على عظم الإثم فيه إن إيمان الزوجين إذا قذفها بالزنا لما كانت على أمر ماض، وكان أحدهما كاذبا بيقين لم يقبل منهما الأمر بإيجاب اللعن من أحدهما والغضب من الآخر. ليعلم أن اليمين الفاجرة لا تخلو من أحدهما ولا تجرد عنه. وجاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (اليمين الغموس تدع الديار بلاقع) وإنما سماها غموسا لأنها تغمس الحالف في المآثم، وذلك أنها تقع بنفسها كما يعقد كذبا، فتكون في أغلظ من أن يعقد اللبن ثم يعرض منها الكذب بعدد وبسبب حادث والله أعلم. وأما الكذب الذي يضربه للكاذب غيره، فيجوز أن بشتمه بالباطل، ويضيف إليه ما يشبه به، ومنه القذف بالزنا وقد شرع في الحد، أو يشهد عليه زورا بمال أو طلاق أو عتاق، أو قتل، فيجمع ذلك ذنوبا منها الكذب، ومنها الإضرار بالمشهود عليه، ومنها أنه نصب نفسه منصب الإمقاء، ونصبه كذلك الحاكم ثم خان. ومنها الجرأة على الله تعالى، فإنه إنما يشهد عند الحاكم المبعد عن الله تعالى في مجلس

يمضي فيه أحكامه، ولم يوضع إلا للعدل من الناس، فإذا ظهر تزويره لحاكم فينبغي أن يجلد ظهره ويحمم وجهه، ويأمر أن يطاف به في الناس، وينادى عليه: هذا شاهد زور فاعرفوه, وإذا صار إلى الآخرة فله من العذاب الأليم ما يستحقه إلا أن يعفو الله عنه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عدلت شهادة زورا، بالإشراك بالله ثم بلا فاجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور) وقال: (من شهد شهادة استباح بها مال مسلم، وسفك دمه، فقد أوجب النار). وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: من تكلم في خصومه بما لا علم له فهو في سخط الله حتى يفزع. وأما الملق فهو مذموم إلا في طلب العلم، لأنه جاء أنه لا حسد ولا ملق إلا في العلم، وقد تقدمت رواية بهذا الحديث، وهو من أفعال أهل الضعة والذلة، ومما يروي بفاعله ويدل على سقاطته وقلة مقدار نفسه عنده، وليس لأحد أن يهين نفسه، كما ليس لغيره أن يهينه. ألا ترى أنه ليس لأحد أن يعير نفسه وبسببها لا صادقا ولا كاذبا، كما ليس لغيره أن يسبه ويعيره ويشتمه وتناول عرضه كذلك، هذا مما يشبهه. وجاء إذا رأيتم المداحين فاحشوا في وجوههم التراب، وذلك لأن الأغلب أنهم يكذبون فيعزرون اللمدوح فإذا حثا التراب في وجهه- وجه المادح- فقد أمن أن يغبره، أنس المادح من أن يعبره. وأما الخفض فيما لا يعني، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وقد يجمع القول والفعل ومنه ما يدخل في قوله عز وجل} وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه {. وقوله عز وجل} وإذا مروا باللغو مروا كراما {، وقد ذكر في بابه. وأما كثرة الكلام وإطالته، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبغكم إلى الثرثارون

المتفيهقون). وعنه صلى الله عليه وسلم: (أنه لعن الذين يسغفون الخطب) يدل أن المعتق في الكلام محظور. وخطب رجل عند عمر رضي الله عنه فأكثر، فقال عمر: إن كثيرا من الخطب من سفاسف الشيكان. والسفسفة التي تخرج من فم العجل إذا هدر شبها بالزبد. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال الذي يتحلل بلسانه كما يحلل النافرة). وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، كثير معطوه، قليل سؤاله، الصلاة فيه طويلة، والخطبة فيه قصيرة، وأن بعدكم زمانا كثير خطباؤه قليل علماؤه، كثير سؤاله، قليل معطوه، الصلاة فيه قصيرة، والخطبة فيه طويلة، فاقصروا الخطب وأطيلوا الصلاة. إن من البيان سحرا، من يرد الآخرة قصر بالدنيا، ومن يرد الدنيا أضر بالآخرة. يا قوم، فاقصروا بالفاني للباقي. وجاء عنه أنه قال (الغنى من الإيمان) وهذا -والله أعلم- أن يكون غناء عن الباطل، وعما يخشى سوء عاقبته، وعن الفضل الذي لا يحتاج إليه، وهو كقوله عز وجل:} الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات {إنما أراد الغافلات عن السوء، لا الغفلة المذمومة، وكما يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر أهل الجنة البلد) إنما أراد الذي لا يفطن من أمور الدنيا لما يلهيه عن طاعة الله تعالى وعبادته، لا ضعف العقل الذي لا يعلم الخير كما لا يعلم الشر، ولا يميز بينهما والله أعلم. وما يجب حفظ اللسان عنه أن يتكلم مما يضحك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها من حوله). ومما ينبغي حفظ اللسان عنه الشعر، إلا ما كان محقا، لأن الله عز وجل يقول في

الشعراء:} والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون { ثم استثنى فقال:} إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا {. وقال:} ولمن انتصر بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم من سبيل {. ولكن الانتصار حداء. وليس منه إذا شتم رجل أباه أو أمه، أن يشتم أبا الشاتم أو أمه، ولا إذا قال: يا زاني أن يقول: "بل أنت الزاني" إذا لم يكن كما يقول: وإنما الانتصار إذا كذب وزور عليه، أن يرميه بالكذب والبهت، ويفسقه بذلك، ويهجر مذهبه، ويعجب منه، وينسبه إلى الجهل وضعف الرأي وسوء الاختيار والضعة، وقلة المروءة فيما تسوغه نفسه من الكذب، وإغفال حق الدين وما وصاه الله تعالى منه من المؤاخاة المواصلة، ويقول فيه من الشعر ما يروي. وليس شيء من هذا لمن لا يتصور بكذب الكاذب بل ينبغي له أن يسكت عنه. فهذا وما يشبهه هو الابمتصار دون مقابلة الشتم بالشتم والفرية بالفرية. فكل شعر قيل في باطل فلا يروي ولا ينشد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا). ولا يشتغل به إلا نادبا، ومن لم يحتج إليه لك فتركه أولى به والله أعلم. ومما جاء في حفظ اللسان حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أكل ما يتكلم به في الدنيا يؤاخذ في الآخرة. فقال: (ثكلتك أمك، يا ابن أم معاذ، وهل بكت الناس على ما أخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم). وجاء أنه قال لعقبة بن عامر (أملك لسانك وأبل على خطبتك وتشغل بيتك) ومما جاء في ترك التحفظ في المقال: أن رجلا تكلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكثر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم دون لسانك من ناب؟ قال: أسناني وشفتاي! قال: أما كان في ذلك ما يرد من كلامك؟). وقال

لعمر بن عبد العزيز رجل من أهله: إن بنتا لي خرج في بطنها دمل، قال: فهلا قلت: تحت يدها. وكان من أعف الناس لسانا. ومما يجب حفظ اللسان عنه الفخر بالآباء، حصوصا بآباء الجاهلية، والتعظيم بهم. وذلك لا يحل لقول الله عز وجل:} يا آيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم {فأخبران أصل الجميع واحد، وأنهم إنما يتفضلون بالتقوى ليعلم أن لا فخر لبعضهم على بعض باب واحد. ومثل ذلك جاء بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلكم بنو آدم) ثم تلاه: (ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى). فإن قيل: قد جاء عنه أنه قال: (إن الله اصطفى كنانة من العرب، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من هاشم). قيل: لم يرد بذلك الفخر، إنما أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم، كرجل يقول: كان أبي فقيها لا يريد الفخر، وإنما يريد به تعريف حاله دون ما عداه، وقد يكون أراد به الإشارة بنعمة الله تعالى عليا في نفسه، وفي آبائه، على وجه الشكر بها، وليس ذلك من الاستطالة والفخر في شيء. ومن ذلك أن يحلف الرجل بأبيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأسمائكم ولا بشيء دون الله) ومما ينبغي أن يعرف حكمه مما يدخل في هذا الباب التعريض، ومنه ما يجوز، ومنه ما لا يجوز، وجملته أن ما كان التصريح به حراما لعينه، فالتعريض به حرام. غير أن حرمته بمكان قصد المعرض دون ما سواه. وما كان التصريح به حلالا أو حراما لعينه، لكن لا يحل بحال والوقت، فالتعريض جائز، والتصريح بالقذف باطل حرام، كذلك التعريض به حرام، والتصريح بالكفر والتصريح بالطعن في نسب الرجل، والافتخار عليه حرام، فالتعريض به مثله.

وأما التصريح بالخطبة فإنه حلال في غير العدة، فكان التعريض جائز، قال الله عز وجل:} ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء، أو كنتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدونهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا {. جاء في تفسيره أنه قول الرجل للمرأة في عدتها والله إنك لجميلة، وإنك لشابة، وإن النساء لمن حاجتي، ولعل الله أن يسوق إليك خيرا ونحو ذلك، وهذا لأنه قول مأمور في بعض السلف أنه تصريح. وأن التعريض أن يقول: ما أطول عدتك، ولو قد انقضت وما يشبه هذا، والله أعلم. وقد جاء في بعض السلف أن الكذب في الحرب حلال، وأن الكذب في الإصلاح بين الزوجين حلال. وليس ذلك على صريح الكذب فإنه لا يحل بحال. وإنما المباح من ذلك ما كان على سبيل التورية. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد سفرا وري بغيره لا أنه كان يقول: إني اريد وجه كذا، ثم يأخذ في وجه غيره، حاشا له صلى الله عليه ووسلم من ذلك، ولكن كما يقول القائل: إذا اراد أن يلبس الوجه الذي يقصده على غيره، فيسأل عن حال الطريق: أسهل هو أم وعر؟ خصب هو أم جدب! وعن عدد منازله. ليظن من يسمع أنه يريده. وهكذا الإصلاح بين الزوجين لم ينجح فيه صريح الكذب، لكن التعريض وما يظن بقائله أنه يكذب فيه، ولا يكون كذبا، كالمرأة تشكو إلى زوجها يبغضها ولا يحسن إليها، فيقول الرجل لها: لا تقولي ذلك، فمن له غيرك. وإذا لم يحبك فمن يحب! وإذا لم يحسن إليك، فلم يحسن إحسانه يعود لك، فما يوهمها أن زوجها لها بخلاف ما يعلمه. وإن كانت صادقة في ظنها ليصلح بذلك ما بينهما. وعن الزهري أنه قال: ليس بكذاب من درأ عن نفسه، أي بالكذب المذموم. أي أن الكذب في حال الضرورة مباح. وقال: ليس بالكذاب الذي يتمنى خيرا، ويقول خيرا، ليقول خيرا، ليصلح بين الناس. وقال سفيان: لو أن رجلا اعتذر إلى رجل فحرف الكلام وحسنه ليرضيه لم يكن بذلك كذبا. ومما روي عن إبراهيم عليه السلام من أنه كذب ثلاث كذباات، فهي من هذا

النوع. إحداها أنه قال: إني سقيم وهو أنه إنما أراد ما بسقيم، كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:} إنك ميت وإنهم ميتون {. أي ستموت وسيموتون، يغر أن السامع ظن أنه يقول: إن بي سقما. والثانية. قوله:} بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون {أي فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون، فاسألوهم وهو على هذا لا يكون كذبا. والثالثة. قوله لسارة: هي أختي إنما أراد بذلك في الدين لا في النسب. وإذا قيل: هذه الألفاظ كذبات، لأنها أوهمت الكذب، وإن كانت بأنفسها غير كذب. وقد يسمى الإيهام كذبا، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلا جاءه فأخبره: أن أخاه يشكو بطنه. فأمره أن يسقيه عسلا فسقاه، ثم رجع، فأخبر أنه لم ينفعه، فقال: (صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا، فسقاه، فبرأ). لم يرد بقوله كذب بظن أخيك، الكذب المعروف الذي هو نقيض الصدق، لأن الصدق والكذب يكون في الأخبار، والبطن لا خبر له. وإنما اراد أن يقال لوجع أو وهن. أن العسل لا ينفعه. وليس هذا الوهم بصحيح، فأعد عليه العسل فلما عاد، صدق الله نبيه، وعافاه عنده، والحمد لله. والكذب في الجملة مذموم، وهو جملة الشتائم القبيحة التي يقذف منها من عرف منه. فيقال: يا كذاب، وي كاذب. وقد حكى الله تعالى عن الأمم الماضين، أنها كانت تقذف به أنبياءها. ثم توعدهم على ذلك، فقال حكاية عن ثمود أنهم قالوا لنبيهم:} أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر {. ثم توعدهم فقال:} سيعلمون غدا من هو الكذاب الأشر {. وحكى عن شعيب أنه قال لقومه:} سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ومن هو كاذب {. وهذا يدل على أن قومه كانوا رموا بالكذب فقال لهم: ستعلمون من هو كاذب! وقذف عز وجل من أراد بقبحه، فقال:} إن الله

لا يهدي من هو مسرف كذاب {. وقال:} إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأولئك هم الكاذبون {. وقال:} إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون {. إلى غير ذلك من الآيات التي دل بها على قبح الكذب وسقاطة أصله. فثبت بذلك أنه ليس من أخلاق المؤمنين، وأنه من أول ما ينبذه المسلم عنه، ويحمي عرضه أن يثلم به والله أعلم. ومما يناسب هذا البااب ويلتحق بجملته شغل الزمان بقراءة كتاب الأعاجم، والركون إليها، والتكثر بحفظها، والتحدث بما فيها، والمذاكرة عند الاجتماع بها، قال الله تعالى:} ومن الناس من يشتري لهو الحديث، ليضل عن سبيل الله بغير علم {فقيل: نزلت في النصر بن الحارث كان اشترى كتبا فيها أخبار الأعاجم، فكان يقول للعرب: محمد يحدثكم عن عاد وثمود، وأنا أحدثكم عن فارس والروم. فالتحدث بأخبار الأعاجم ومدحهم والاحتجاج بسيرهم، وشغل الزمان بحفظها، وإنفاق المال في نسخها مكروه مذموم، لأنهم قوم رفع ككتابهم فلما بقوا بلا كتاب، وكان الملك فيهم، واحتاجوا إلى ما يسوسون له الناس، أحدثوا أشياء سموها أنسابا ورسوما. وكانت الرعايا لهم بها خوفا من سطواتهم، فصارت منزلة مضاهاتهم بها كتاب لله عز وجل منزلة مضاهاة المؤمنين بشركهم، وتوحيد الموحدين، وعبادة المؤمنين. فلا ينبغي لشيء منها أن ينزل منزلة ما يقرأ أو يسمع أو يعتد به، أو يستنسخ أو يشترى، وذلك من أشد ما يكره في الدين. وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى خلافهم فقد روي أنه قال:) لا تقوموا على رأسي كما تقوم الأعاجم على رؤوس أكاسرتها (فبان أن الشبه بهم خلاف الإسلام. ورأى في بعض المغازي في يد رجل قوما فارسية، فقال: (ألقها، وعليكم بهذه وأشباهها وأشار إلى قوس عربية كانت في يده- ورمح القنا، فإن الله بها يؤيدكم في الدين ويمكن لكم في البلاد). وقيل أنه نهى عن الأكل والشرب في آنية الذهب

والفضة، لأن ذلك كان من فعل الأعاجم. فبان أن الأصل في الباب خلافهم لأشياء نص على مثل ما كانوا عليه. فإن قال قائل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولدت في قصر الملك العادل- يعني أن شروان- فقد وصفه بالعدل). قيل: حاشا لله ولرسوله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك. فإن هذا ليس ما يعتمد من الحديث، ولو كان قاله لكان إطلاقه ذلك لتعريفه بالاسم الذي كان يدعى به لا لوصفه بالعدل والشهادة له به، فإن الفرس كانوا يسمون أنو شروان الملك العادل، أي في زمان ما كان عندهم ملكا، وقد قال الله عز وجل:} فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون {. أي كانوا يسمونها آلهة، أي آلهتهم فيما عندهم. وقال: (وقال الملك) أي قال: من كان عندهم الملك. ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولدت في زمن الملك العادل) فعل هذا المعنى، إذ لا يجوز أن يسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير حكم الله تعالى عدلا، ولم تكن الفرس تدعي أن سيرة ملوكها وحي من الله تعالى، من المشهور الذي لا تخفى تسميتهم إياها أبنية ورسوما وأوضاعا. وذلك يدل على أنهم لم يكونوا يصفونها إلى الله عز وجل. وكيف يجوز أن يسميها رسول الله صلى الله عليه وسلم عدلا؟ هذا وما حفظت لهم أحكام ولا عرفت ولا إدعاها أحدهم، وإنما كانوا ينظرون في ظلامات الناس بحسب ما يقع لهم أنه أرفق وأحسم وألسن، ولم يكن يقع لهم في الظلامات في الأمور الشرعية، بأن العقود المباحة كلها شرعية، فإذا لم يعرفوها لم يتعاملوا بها، وإذا لم يتعاملوا به لم يتظالموا فيها. وكذلك الأفعال فما فيها محظور، وإنما يقع التظالم فيها من الذين يعتقدون حدودها التي هي لها في الشريعة، فإذا جاء الذهاب عنه فلا تظالم فيها، فإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يكون من ملكهم ما يكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدلا فيصفه به ويبني عليه لأجله إلا أن يقول: كان يظالمهم بحسب الأوضاع التي كانت لهم كما أن تظالم المسلمين بحسب الأوضاع الشرعية التي لهم، فيكون هذا نفس ما قلنا من أن تظالمهم لم يكن

يقع على المحدودات الشرعية، فيكون الفضل بينهم عدلا مجال قط، إنما العدل في الحكم، ولا الحكم إلا لله جل ثناؤه، فكيف يجوز وجود العدل ممن لا يكون قوله حكما، وبالله التوفيق. وأما الغناء فإن منه ما يحرم ومنه ما يحل. فأما ما يحرم فهو أن يكون بشعر قيل هي جنس غير حلال وفي غير محرمه من جنس حلال، وإنما حرم ذلك لما فيه من الإغراء بالحرام فدخل في قوله عز وجل:} ولا تعاونوا على الإثم والعدوان {. فإن كان الشعر ممن لا يحل للمغني، ولكنه يحل للمغني، فالمتغني به حرام على المغني والسمع، حلال للمغني، وإن كان الشعر ممن يحل للمغني ويحرم على التغني، فالقول والسماع جميعا محرمان. ولو كان الشعر ممن يحل للمغني فيغني به لنفسه من حيث لا سمعه من يفهم أو تتحرك نفسه فلا بأس. وإن كان الغناء يشعر قبل الجنس المحلل لا في غير خاصة فلا بأس به، إلا أنه لا ينبغي أن يكون بالأوتار. فإن ضربها لا يجوز لما جاء فيه من الأخبار. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في أمتي خسف ومسخ وقذن، قال: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف، والقيان، واستحلت الخمور) وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (إذا عملت أمتي خمس عشرة حل بها الملاء. قالوا: يا رسول الله، وم هي؟ قل: إذ كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وعتق أمه، وبر صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وإكرام الرجل مخافة شره، ولبست الحرير، وشربت الخمور، واتخذوا الفتيات والمعارف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقوا عند ذلك ريحا حمرا وخسفا ومسخا). وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تبين طائفة من أمتي على لهو وأكل وشرب

فتصحوا قردة وخنازير، ويكون فيهم خسف وقذف، وبعث الله على حي من الأحياء ريحا فينسفهم كما نسف من كان قبلهم باستحلالهم الخمر، ولبسهم الحرير، وضربهم بالدفوف واتخاذهم القيان). وعن عمر رضي الله عنه قال: الدف حرام والمعازف حرام، والكدية حرام، والمزمار حرام. قال عبد لوهاب: الكدية الطبل. وكان زيد اليماني إذا رأى بيد غلام زمارة من قصب أخذها وشقها. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه. أن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل، ويبطل له اللعب والدفف والمزمرات والمزاهر والكبارات. وروي أنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر والكربة والعشراء وكل منكر، وذكر فيه. الكبارات، والعشراء. شراب يعمل من الذرة، والكبارات يقال: العيدان، ويقال الدفوف. وفي حديث آخر أن الله عز وجل يغفر لكل مذنب أو لصاحب عرطبة أو كوبة. والعرطبة: العود، ويحتمل أن يكون المعنى في تحريم الدف في غير النكاح. والطبل والمزهر والمزمار أنها آلات لا يراد بها إلا إشراب اللهو في القلب. واللهو إذا غمز القلب فسد على صاحبه، وفارقه الخشوع، ولم يمل بعد ذلك إلى لصلاح إلا قليلا. ومن كنت فيه هذه المفسدة العظيمة لم يلق بها إلا التحريم. فأما الدف في النكاح، فإنه نافع لما يراد بالنكاح، والذي يراد بالنكاح عن عظم اللهو إلا أنه ملحق بالحق لما سبق بيانه. فكذلك ضرب الدف عليه، فأما الغناء فباطل مطلق، فكذلك ضرب الدف عليها باطل والله أعلم. وأما التصفيق فمكروه للرجال لأنه ما خص به النساء، وقد منع الرجال من التشبه بالنساء، كما منعوا من لبس الحرير والمزعفر كذلك. وأما الرقص فإنه لم يكن فيه تكسر وتحبب، فلا بأس به. فإنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزيد: (أنت مولانا فحجل) قال: هو أن ترفع رجلا وتقفز على الأخرى

من الفرح. وقال علي رضي الله عنه: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وجعفر وزيد، فقال لزيد: (أنت أخونا ومولانا فحجل، ثم قال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي فحجل، ثم قال لي: أنت مني وأنا منك فحجلت). وأما ضرب القصب فإنه إشارة إلى وزن الشعر وتقطيع اللحن فقط وليس للتطريب ولا له والإسماع يستلذه، وإن لم يكن معه قول، فكان الضرب بالقصب على وسادة، والضرب بالمطرق على الطشت سواء والله أعلم. وصارت منزلة تحريم الدن والمزهر والطبل على الغناء منزلة تحريم النياحة على الميت. فإنما لما كانت تقوي الغم وتعظم الحسرة كانت لتشفع فعل الله وقضائه عند المصائب وأشبهت النائحة من يوجد منه شيء فيقوم بوضعه ومدحه وذكر مرافقه وفوائده مبالغة في تشنيع فعل الأخذ وتهجين أمره، فحرمت النياحة لما فيه من إفساد قلب المصاب والحيلولة بينها وبين الصبر، واتهمه أن الإساءة من الله عز وجل إليه عظيمة وأديانه من أن يظن أنه فيهم مظلوم فيضطهد. فكذلك الملاهي تسعد لناس وتزعجهم، وتحول قلوبهم نحو الفساد وتلهيها عن الصلاح، فكان حكم ما يفسد القلب بم يملؤه من اللهو والطرب حكم ما يفسده بها يملأه من الحزن والأسف لذا كان القلب إذا امتلأ من اللهو لم يطق معه صاحبه صبرا عن المفاسد. كما أنه إذا امتلأ من الحزن لم يطق معه صاحبه صبرا على المصيبة والله أعلم. وقد قرب النبي صلى الله عليه وسلم حيث قل فيها روي عنه. (صوتان ملعون في الدنيا والآخرة). صوت مزمر عند نعمة إن حدث، وصوت رنة عند مصيبة إن نزلت) وذلك والله أعلم إشارة إلى ما يثيب من مشاكل الأمرين، وبالله التوفيق. ويروي في هذا الباب أن عمر بن قرة رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن الله كتب علي لشقوة، فلا أرني أرزق إلا من كفي وفمي، فإذن (لي) بالغناء من غير فاحشة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت علي والله، لقد رزقك الله حلالا طيبا، فاخترت ما حرم الله عليه من رزقه مكان ما أحل

لك من حلاله، لو كنت تقدمت إليك لعقبتك، دعني وتب إلى الله، أما إنك لو عدت بعد التقدمة إليك ضربتك ضرب وجيعا، وحلقت رأسك مثله، ونفيتك من بلدك، وجعلت سكنك نهبة لفتيان أهل المدينة فقام عمر وبه من الشر والحزن ما لا يعلمه إلا الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما ولي. (أن هذه العصابة، من مات منهم من غير توبة حشره الله يوم القيمة عريانا لا يستقر من الله بهديه كلما قام صرع). ثم إن الدف كما فارق ضربه للغناء ضربه للنكاح، فكذلك الطبل يفارق ضربه للغناء ضربه لركوب الغزاة ولحمل الحجيج أو نزولهم، أو لأجل العيد، لأن ذلك ليس للهو، وما خلص للهو فذاك هو الممنوع والله أعلم. إلا أن ضرب الطبل إذا حل للرجال، وضرب الدف لا يحل إلا للنساء، لأنه في الأصل من أعمالهن. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء. فصل وكل غناء ذكرت أنه حرام فقليله وكثيره سواء، وكله مسقد للعدالة وهو الذي وردت الآثار عن السلف بالنهي عنه. وأما ما يحل من الغناء، فإنه إذا قل من صاحبه وكان في وقت دون وقت، ولم يتشاغل به عن الصلاة، وغيرها من الطاعات لم تسقط عدالته. وإن أدمنه وتجرد له فصار المغنون يغنونه ويجتمعون عنده ويتشاغلون به عن الصلوات سقطت بذلك عدالتهم، ووجب على الإمام أن يردعهم عنه وكل عاجل أو حرم حرم فهو باطل، لأن الباطل ما لا قربة إلى الله تعالى فيه ولا يصلح التوصل به إلى قربه، هذا صفة الغناء إلا أنه ليس كل ما يسمى بالباطل يحرم. فإن اللعب بالصولجان باطل ولا يكره وكذلك المصارعة، فقد تصارع الحسن والحسين رضي الله عنهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إيه يا حسن، وجبريل عليه السلام يقول: يا حسين.

وجلوس الرجل المستطيع للجهد والعبادة فارغا متورعا إلا من الفرائض باطل، لأن كل ساعة تمر بالعبد وهو فيها غير متعبد لله تعالى بما يقربه إليه بلا عذر وعلة فهي ضائعة لا حظ له فيها ولا فائدة له في إدراكها، ولكن ليس ذلك مما يحرم. فلذلك الغناء الذي سبق تحديده باطل ولكنه لا يحرم. سئل القاسم بن محمد- رضي الله عنه- عن الغناء أحرام هو؟ فسكت. ثم سئل، فقال: الحرم ما حرم الله تعالى في كتابه. ولكنه أخبرني: إذا كان يوم القيامة فأتى إلى الله بالحق والباطل، أين الغناء؟ قال السائل: في الباطل فقال فأنت إذا خالفت نفسك فإن أفضل الغناء المباح لغرض صحيح، مثل أن يكون برجل وحشة وعلة عارضة لفكره فأشار عدد من الأطباء بأن رسول الله الساكن بالنزهة، ويعني ليتفرج لذلك وينشرح صدره ارتفع اسم الباطل، وكان اسم الحق أولى به. ألا ترى أن ضرب من الغناء، ولكنه لما كانت له فائدة معقولة، وهو تنشيط الإبل للسير زال عنه اسم الباطل. وما يراد به استصلاح نفس الإنسان وفكره أولى أن يزول عنه اسم الباطل، والله أعلم. وجملة ما يتميز به الغناء المباح عن الغناء المحظور، أن كل غناء من الشعر المنظوم فمعتبر به لو كان كلاما نثرا غير منظوم، فإن كان مما يحل أن يتكلم به منثورا أحل أن يتكلم به منظوما. وإن كان مما لا يحل أن يستعمل منثورا لم يحل أن يستعمل منظوما، وبالله التوفيق. ثم قد جاءت في تغليظ أمر الغناء أخبار، وكلها عندنا محمولة على ثلاثة أوجه. أحدها: الغناء المحرم الذي سبق ذكره. والآخر: الغناء الحلال غنيه إذا طال ودام وشغل عن الصلاة. والثالث: الغناء الحلال غنيه إذا اتصل به المزاهر والصنوج، وما يجري مجراها. وما خلا عن هذه الأوجه الثلاثة فهو خارج مما جاء التغليظ فيه. من تلك الأخبار ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قول الله عز وجل} ومن الناس من يشتري لهو

الحديث ليضل عن سبيل الله {قال: الغناء، والذي لا إله غيره يقولها ثلاث مرات. ويحتمل إن كان المراد به الغناء أن يكون المشتري لهذا الحديث، وهو الذي يوضح للمغني لنفسه، ويحتمل أن يكون الذي يوضح لمن يعلمه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: هو الغناء وأشباهه. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: المغني وشري المغنية، فإن كان الشري داخلا في الآية، فشري اللهو إذا مختار. والمغني من الناس من يشتري لهو الحديث، فجعله مشتري للهو لما كان قصده فيمن يشتريه اللهو الذي عنده. وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية} ومن الناس من يشتري لهو الحديث {قال: (اللعب بالباطل كسب النفعة فيمسح فيه ولا تطيب نفسه بدرهم يتصدق به). وقال مجاهد في هذه الآية: الغناء والشعر. وجاء أن أبا وائل كان في ملال فجاء المغنون، فقام. فقيل: يا أبا وائل، إن هذا يكون في الملال. فقال: لا، أن ابن مسعود حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الغناء يثبت في القلب النفاق كما يثبت الماء البقل). وفي حديث آخر عن ابن مسعود، موقوفا عليه- أنه قال: (إن الغناء يثبت النفاق في القلب كما يثبت الماء الزرع). وعن مجاهد رضي الله عنه في قوله عز وجل:} واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك {. ومن استخف منهم يكون الخيل لحق بالمعاصي، ورجلك من استخف منهم مكب على رجليه نحو المعاصي، وشاركهم في الأموال والأولاد الأولاد أولاد الزنا.

وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما تبينت ولا تعنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن محمد بن المنكدر رضي الله عنه قال: فقال: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين عبادي الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو وعن أمر الشياطين، احلوهم رياض المسك، وأخبروهم إني قد حللت لهم رضواني. فإن قال قائل: ألا قلتم أن الغناء بالإطلاق مباح، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت عندنا جاريتان يغنيان في يوم عيد، وعندهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاهما. فدخل علينا أبو بكر رضي الله عنه فانتهرهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعهما، فإن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا). فقيل لهم: إن الغناء إذا كان أصنافا، ولم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم قول أن الغناء حلال: وإنما كان الذي يروي حكاية حال لا تليق بها العموم، لم يكن يعرف منه، إن ذلك الغناء ما كان يستدل بالحديث على جوازه، وعلى أنه قد روى في حديث آخر، أن ذلك الغناء كان ما قيل في يوم قتل صناديد الأوس والخزرج. ولسنا نذكر أن يكون المعنى بمثل هذا الشعر جائزا. وإنما الكلام فيما سبق وصفه، وذلك ما لم يثبت جوازه. وقد روى أن جواري كن يلعبن في شكل المدينة، وهن يقلن عن جواري من بني النجار يا حبذا محمد من جار. والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر ويبتسم. فما كان من نحو هذا فلا بأس به، وما فوقه أيضا لم يكن بالحد الذي سبق ذكره. ثم جاء في شر المغنيات ما فيه الشقاء والبيان بحكم الغناء، فمنه ما رواه عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم المغنية سحت، وغناؤها حرام، والنظر حرام، وثمنها مثل ثمن الكلب، وثمن الكلب سحت، ومن ينبت لحمه من النار قال النار) فيحتمل أن يكون الحديث في المغنية بالأوتار، فقال غناؤها حرام، إشارة إلى غنائها المعروف وهو الذي سوت إليه إحدى الآلات التي سبق ذكرها من الملاهي، ونظر إليها في تلك الحال.

لأن النظر إليها في تلك الحال لا يكون إلا للتلهي بجميع ما يشاهد منها، فذاك هو حرام وأما تحريم ثمنها فمعناه أن يوصل البائع إلى فضل على ثمنها للغناء حرام، ودفع المشتري فضلا عن الثمن الذي هو لها لأجل الغناء حرام. فكل واحد من الأمرين حرام، لكن العقد مع ذلك ماض، والملك به واقع، وهو كمن يشتري عنبا ليعصرها خمرا، اشترى العنب بهذا الغرض حرام، ودفعه الثمن حرام. والبائع إن علم ذلك منه كان تمكينه منه حراما، وأخذه الثمن حراما. ولكن العقد يكون ماضيا، والملك من الجانبين واقعا. وهكذا لو باع سيفا من قاطع طريق، أو سكينا من رجل قد أعلمه أنه يشتريه منه ليقتل به مسلما بغير الحق، كان البيع عليه حرام وأخذه الثمن حرام، وكان الشري علي المشتري حرام، وإعطاؤه الثمن حرام، ولكن العقد يكون ماضيا والملك من الجانبين واقعا. فكذلك بيع القينة وشراؤها. واما تشبيهه صلى الله عليه وسلم ثمن القينة بثمن الكلب، فهو في تحريم الأخذ والإعطاء لا في منافاة الملك. وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل اشتراء المغنيات ولا بيعهن ولا تجارة فيهن وثمنهن حرام) ثم تلا هذه الآية.} ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم {. وما ذكره من المعنى قيل هذا، ففي سياق هذا الحديث دلالة عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الاشتراء أو البيع لا يحلان، وليس في ذلك ما يمنع من اعتقاد العقد، ولا ما يوجب تحريم عين الثمن، وإنما يوجب تحريم أخذ عين الفضل الذي فيه لأجل الغناء. وعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن ولا شراؤهن، ولا الجلوس إليهن، ولا الاستمتاع بهن) وعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن بيع المغنيات وعن شراؤهن وعن كسبهن، وعن أكل أثمانهن، والنهي عن أكل أثمتنهن تنزيه لأن الملك إذا وجب حل الأكل. فأما التعليم

فإنه كان بالأوتار حتى لا يحسبن أن يغني إلا بمزهر فحرام. وإنما ينبغي أن يعرف حكم التعليم من الغناء، فأي غناء كان حلالا كان تعليمه حلالا، وأي عتاد كان حراما فتعليمه حراما. وقال سفيان بن حسين رضي الله عنه. كتب عبد الحسن إذ جاءه رجل فقال: جارية لي، أعملها الغناء، أريد بها البيع، لست أريد غير ذلك، فقال:} واذكر في الكتاب إسماعيل أنه كان صادق الوعد، وكان رسولا نبيا، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان عند ربه مرضيا {. فكان قتناه له هذا وبالله التوفيق.

الخامس والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في الأمانات وما يجب أدائها إلى أهلها

الخامس والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في الأمانات وما يجب أدائها إلى أهلها قال الله عز وجل:} إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها {. وقال:} فإذا أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته {. وقال عز وجل:} إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا {. ومعنى ذلك- والله أعلم- الدلالة على فضل العقل والحياة وشرفهما، وأمانة الإنسان إنما صار صالحا للتكليف بسببهما، وأن السموات والأرض والجبال، وإن كانت أعظم جثة وأشد قوة منه، لما كانت خالية عن الحياة والعقل لم تصلح للتكليف والتعبد. فقال عز وجل} إنا عرضنا الأمانة {يعني تعريض العمل على شرط الثواب والعقاب. أي قابلنا باب التعبد أمره ونهيه بحال السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها. أي فلم يجد فيها محملا له.} وأشفقن منها {أي وكن أضعف من ذلك وأبعد من الصلاح، لأجل أنه لا حياة لهن، ولا عقل فيهن، وما خلا عن الحياة والعقل خلا عن الاختيار، ولم يمكن وجود الفعل منه إلا يسيرا، والسحر لا يليق به الثواب، ولا يمكن وجود الخلاف فيه، فيستحق العقاب، فكان قوله تعالى:} فأبين وأشفقن {كقوله إلى الجدار يريد أن ينفض فأقامه، أي كان دنا من الانقضاض وأشرف عليه. وكقوله عز وجل:} ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض اثنيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين}.

ومعلوم أن المجيء لا قول ولا طواعية له بعد أن يكون تمام الخلق مستكمل الوجود. فكيف في حال الإيجاد؟ فكان المعنى أنه قال: ائتيا طوعا أو كرها أي كونا كما أريد. ولا يمكن أن لا يكونا، فكانتا كما أراد، فوقعت العبارة عن ذكرهما كما أراد الله تعالى منهما بأنهما قالتا:} أتينا طائعين {فكذلك غير عن خلق السموات والأرض والجبال عن أن يكون فيهما محمل لذلك لأنه ركب فيه الحياة والعقل وعلم البيان. أي فليس الأمر بعظيم الخلق والجثة وشدة القوة، وإنما عهده التكليف ما ذكرنا. ثم قال:} أنه كان ظلوما جهولا {ولو أنه كان بهذا النقصان لم يحملها، وذلك أن الإنسان لم يخبر في جملة الأمانة كما دعي إليها، فتكون إجابته إلى حملها والإحاطة به محمولتين في جهله وظلمه. ولكن ألزمها إلزاما. فقيل لأولهم:} يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فتكونا من الظالمين {. وهذا الأخبار فييه. فيثبت أن هذا كلام مستأنف. وأن المعنى قد حملها الإنسان. ثم أنه بعد الحمل يجهل موضع حظه، ويظلم نفسه، فيخالف الأمر، ويرتكب النهي ويعرض نفسه للعقاب، ويحرمها الثواب. وهذا تعجيب من حامل الأمانة. لا عبث منه، ولا طعن فيه، وبالله التوفيق. وقال عز وجل:} لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون {. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك). وقال: (من علامات المنافق أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا ائتمن). وقال: (ألا إن الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسول ولأئمة المسلمين وعامتهم). وقال: (من غشنا فليس منا) فثبت أن أداء الأمانة ما كانت لمن كانت واجبة، وأنه أفضل شعب الإيمان.

فأول ذلك أن الله عز وجل لما تعبد عباده فأمرهم ونهاهم ووعدهم وأوعدهم فوض ما تعدهم به إلى إجبارهم، ولم يجبرهم على الطاهرة، جبرا، وهذا بالحقيقة ائتمان. ثم انه بين ذلك بأحكامه، فحكم بأن من دخل عليه وقت الصوم ولم يعلم ذلك صوم أو نسيان، ومات على ذلك، أو قام إلى الوضوء فلم يستتمه أو فرغ منه، ولم يبلغ المسجد أو مصلاه في بيته، حتى مات، صلاته عليه. وأن المريض إذا أفطر في شهر رمضان ولم يدرك ما بعد الشهر فلا شيء عليه. وأن من حال الحول على ماله ولم يتمكن من أداء الزكاة حتى هلك ماله فلا شيء عليه. وأن من وجد المال إلا أنه مات قبل وقت الوقوف فلا حج عليه. ومن لم يقدر على شيء من العبادات ما كان فليس عليه وهذا كله حكم الأمانة. فأما حكم الضمان فغير هذا، لأن من استقرض من آخر مالا وقبضه ثم هلك مكانه ولم يكن له مال سواه، فعليه ضمانه. وكذلك لو غضب من الآخر مالا فعجز عن رده، ولم تسقط عنه تبعته. والعبادات أيضا إذا صارت مضمونة بالتفريط، ثم تعتبر فيما بعد ذلك بالإمكان والعجز، فعلمنا أن حكمها في أوائلها إنما كان ما ذكرنا، ليكون سبيلها سبيل الأمانات والله أعلم. فينبغي لكل من وجبت عليه عبادة بدخول وقتها أو حلول شرطها أن يسارع إليها فيردها أمانة لأهلها، على نفسه مضمونة. فإن استيفاء الأمانة بين الله تعالى وبين نفسه أحسن وأجمل من التقريظ الذي يزيل عنه حسن هذه السمة، ويبدله عنه خلافها، ولم يكن حرجا ولا إثما، ثم على هذا كل أمانة وجبت لله تعالى أو لمسلم، فينبغي أن يجتهد في أدائها واستيفاء هذه التتمة وحسنها. فإذا حمل علما من علم الدين فسئل عنه لم يكتمه، وإذا كان حاكما فيثبت عنده لرجل أو امرأة حق، لم يحبس الحكم به ولم يؤخره. وإن ولي أمور المسلمين سببا لم يضيعهم ولم يغشيهم فيقعد بهم حين الجهاد، ويجاهدهم حين العقود ويؤخر الصلاة لهم عن وقتها، ويستعمل عليهم شرار العمال ويحتجب عنهم ويشد وطأته عليهم، ويبسط يده بأنواع الظلم إليهم. فإن فعل ذلك، فلم ينصح لهم، ولم يؤد أمانة الله وأوليائه ورسله إليهم والقوم إن قبلوا ولايته وألزموا طاعته ثم يخشوه، وقعدوا عما أمرهم به مع تيسير آثار الصلاح فيه بالعلل والمعاذير، فاختلت ولايته ووهن سلطانه، وأشاروا عليه بما يعلمون أن فيه انتشار الأمر، وتفرق الكلام، وقوة العدو، وليسوا

عليه، فقبل منهم، فقد خانوا الله وخانوا رسوله، وخانوا أماناتهم، وبدلوا فكان الصلح الذي كان فرضهم الغش الذي لم يكن يسعهم، وكل مسلم فينبغي أن ينصح لأخيه المسلم ولا يغشه. وخصوصا أن يكون إن استشاره. فقد جاء (أن المستشار مؤتمن) وأن علمه مقبلا على ما يستوهم عاقبته، وهو في غفلة منه، فينبغي له أن ينبهه من رقدته، ويدله على ما يعلمه من مصلحته، فيكون قدم له وأدى أمانة الإخوة في الدين إليه. وإذا استودع مسلم مسلما سرا فقبل منه أن يحفظه، فلا يحل له أن يخونه فيفشيه، وخصوصا إذا كان يتضرر بإفشائه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما المفلسون المتخالسون بأمانة الله، لا يحل لأحدهم أن يفشي على صاحبه ما يكره، فإن استودعه مالا فقبله، فينبغي له أن يحفظه، ثم حفظه وأكمله فإن تغيرت حال بينه، أو فارقه من كان يثق به من أهله، فينبغي له أن يعلم أن المستودع حال وديعته ليرى فيه رأيه، وهكذا إذا اراد سفر). ولا يحل له أن ينتفع بما يضره ولا يضره، لأنه قد أمنه فيها. ولا يحل له أن يخونه وإذا استودعه فعليه أن يحل بينه وبينها، ولا يحل له أن يدفعه عنها بعدما طلبها إلا بعذر ين. وهكذا ولي المرأة، يلزمه إذا طلبت التزويج، ودعت إلى القران تزوجها، ولا يحل له أن يعضلها. فإن التزويج أمانة له عنده، فعليه أن يؤديها إذا أراد بها. وهكذا الشهادة أمانة عند الشاهد، فإذا طلبها صاحب الحق فعليه أن يؤديها لأنه تحملها للأداء لا لغيره، والعرض عنها إحياء حق المستحق، فإذا كتم الشهادة فقد خان أمانته، وأمات حق من يحمل الشهادة له، وقال الله عز وجل:} ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه {، وإنما قال- والله أعلم- آثم قلبه، ولم يقل آثم لسانه، وإن كان السكوت من عمل اللسان. وأداء الشهادة باللسان ترجمان القلب يؤدي عنه ما سمح به، واهتز لإظهاره. فإذا لم يكن من القلب إلا الضبط لما فيه حتى الهم يقذفه، ولم ينطق اللسان بالترجمة عنه بالقلب إذا هو الآثم دونه والله أعلم.

وهكذا ولي اليتيم، ينبغي أن يلزم حد الأمانة في مال اليتيم كما وصاه الله عز وجل. فقال:} ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتلي هي أحسن {فلا يمسك ماله غير مبتغ فيه فضلا فتأكله النفقة، بل يتحر فيه لينفق عليه من فضله دون أصله. وإذا تحر لم يركب به لجج البحار، ولم يسلك به مسالك الأخطار، ولم يشتر به مالا فائدة فيه، وتكون عليه مؤؤونة له. ويجتهد في أن لا ينصرف في ماله إلا بما ينفعه، فإنه لم يول أمره إلا لينفعه. ولا يحل له أن يأكل من مال اليتيم إلا شيئا قد قدر له، إذا عمل ما يقبله وأدى الأمانة فيه، ولم يغشش ولم يخن، فإن خلط ماله بمال اليتيم، حتى إذا اشترى له طعاما حل له أن يأكل معه فذلك جائز، وإذا لم يزد على قدر ماله. قال الله عز وجل:} ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم الفسد من الصلح {. أي التوسع من المحتاط لليتيم على نفسه. وقد أجمل الله تبارك وتعالى التوصية من هذا الباب، فقال:} وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم، فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا {. فينبغي لولي اليتيم ألا يعمل باليتيم ولا ما في ماله شيئا كان، لا يجب أن يعمل يتيم أو يخلف عنه وفي ماله ويتقي الله ويجعل هذه الموعظة أصلا لنفسه ومالا يجدبه، ويثني عليه أمره، وليس من جنس الولاية أن يحبس عنه من ماله ما يحتاج إليه، بل ينبغي أن يريح في المطعم والمشرب والملبس والمسكن عليه، ولا يسرف ولا يقتر ولكن يقتصد، وذلك عدل بين الغلو والتقصير والله أعلم. وقد مضى ما يدخل في هذا الباب، في باب التعفف من الأموال المحرمة، وإنما أردنا بإفراد هذا الباب الدلالة على حكم الأمانة ومنزلتها خاصة لما كان فيها من الآيات والأخبار التي تختصها، فقد حصل من ذلك ما أردنا والحمد لله. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان، اتخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله). فيحتمل أن يكون قوله (اتخذتموهن

بأمانة الله) أي اتخذتموهن على شرط الله عز وجل، وهو قوله} فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان {. فاتقوا الله فيهن وعاشروهن بالمعروف وأدوا إليهن حقوقهن، ولا تؤذوهن ولا تضاروهن، فإن شرط الله لازم وحكمه نافذ والله أعلم. وعلى هذا فمال الرجل أمانات الله تعالى عنده، وأباح له منافعهم وألزمه مؤنهم ووصاه بالإحسان إليهم، فلم يأذن له في قتلهم ولا جرحهم ولا ضربهم (من) غير ذنب، ولا تجويعهم ولا تعطيشهم ولا إجهادهم فبي العمل بما لا يطيقونه. فحرام عليه هذه الوجوه كلها منهم. وكذلك كل مال عند متمول فإنما له من جهة الانتفاع به وأداء حق الله تعالى فيه. فأما الإفساد فليس مما يملكه فيه، فلا يحل لأحد أن يغرق ماله في البحر إلا أن يتقي به نفسه، ولا أن يحرقه بيان، ولا أن يمزق ثوبه ويكسر آنيته. ولذلك كان حجر من لا يحسن تدبير ماله، أو كان فاسقا مبذرا من ماله حكما واجبا لم يزل من أول الإسلام يعملون به، ويرفق فيه الاحتياط. وليس لأحد في نفسه أيضا ما لا يكون صلاحا. فأما الفساد فلا يملكه في نفسه كما لا يملكه في غيره، فليس له أن يقتل نفسه، ولا أن يجرحها، ولا أن يحب نفسه أو يختصي، فيقطع بذلك نسله ويبطل الفائدة التي لأجلها خلق الله تعالى على صورة الذكورة. فإن كان ذلك خيانة منه للرجل وعز في نفسه وفي جنسه، وخصوصا لأهل دينه، ولا أن يغني ننفسه بمقال أو فعال. فينبغي له أن يؤدي الأمانة في نفسه وأهله ومماليكه. وكل ما يكون ومن يكون تحت يده لغيره من مودع أو نحوه، وليس شيء من الخيانة غير حرام. وبالله التوفيق.

السادس والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في تحريم النفوس والخيانات عليها

السادس والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في تحريم النفوس والخيانات عليها قال الله تعالى:} ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما {. وقال:} ولا تقتلوا أنفسكم {. يعني ولا يقتل بعضكم بعضا، ثم قال:} إن الله كان بكم رحيما {أي. أن منعكم عن أن يقتل بعضكم بعضا رحمة منه لكم، إذا كان إنما أراد بذلك استبقاكم، واستحياكم لتنعموا بالحياة، وتكسبوا فيها من الخير ما يؤديكم إلى النعيم المقيم، ثم قال:} ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا، وكان ذلك على الله يسيرا {. وقرن قتل النفس المحرمة بالشرك فقال:} والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق {.} ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا، فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا {. فحرم القتل وسماه ظلما، والظلم قبيح حرام، ويمثل ما دل الكتاب عليه من غلظ شأن القتل بغير حق، جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم. فروى عنه أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق). وعنه صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الفتح قال الناس

(أي شهر هذا؟ قالوا: الشهر الحرام. فقال: أي بلد هذا؟ فقالوا: البلد الحرام. فقال: إلا أن أعراضكم ودماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ثم قال: هل بلغت). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من سفك دم امرئ مسلم). وعنه صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله، إني قصدت مشركا لأقتله، فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقتلته، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وإني محمد رسول الله) فلم يزل يردد هذا حتى وددت إني كنت أسلمت في ذلك الوقت. وإذا ظهرت حرمة النفس، وأنه لا يحل قتلها إلا بالحق، فالقتل بالحق أن يقتل للكفر والزنا بعد الإحصان أو لقتل نفس غير مستحقة للقتل. وفي قتلها للكفر وجهان: أحدهما: أن يقتل بكفر أصلا وذلك أن يكون ممتنعا أبدا والشرك مبانا للمسلمين. والآخر: أن يرتد بعد إسلامه. فإما القتل للكفر الأصل، فقد مر ذكره في باب الجهاد وأما القتل للردة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وارتدت طائفة بعد رسول الله فقاتلهم أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- وقتل من طالت يده منهم. وأما الزاني في المحصن، فقد ذكر مع المرتد في حديث واحد- وقد رويناه- وهو الذي أجمع المسلمون على أن عليه الرجم. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لولا أن يقول الناس زاد ابن الخطاب في كتاب الله لألحقت بحاشية المصحف الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله، والله عزيز حكيم. وأما قتل النفس بغير نفس، فقد قال الله عز وجل:} يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتل، الحر بالحر والعبد بالعبد {فأوجب القصاص ثم أبان عن حكمته فقال:} ولكم في القصاص حياة {. فقيل في تأويله: إن من هم بقتل أحد،

فذكر أنه لو قتل لقتل ردعه ذلك عن القتل، فكانت فيه حياة الناس جميعا. وقد ذكر القصاص مع زنا المحصن والردة في حديث واحد. وقد تقدمت روايته. وليس المعقص إذا قتل أن يسرف على القاتل فيعذبه بما لم يعذب به صاحبه أو نسبه أولا بأن يمثل به ويغضبه أو يطول عليه الأمر، فيقطع كل يوم منه طرفا ثم يقتله. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن حمزة مثل به قال: (لئن أظفرني الله عليهم- أو كما قال- لأمثلن بثلاثين مثله). فينزل قوله عز وجل:} وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين {فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وكان لا يخطب خطبة إلا ونهى عن المثلة ويحث على الصدقة. اختلف العلماء في وجوب القتل به ترك الصلاة متعمدا حتى يخرج وقتها، والامتناع بغير ذلك من فضالها. وقد روى أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم وساره بساره في قتل رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس شهد أن لا إله إلا الله؟ فقال: بلى/ ولكن لا صلاة له. قال: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم). وعنه صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت عن قتل المصلين). فأبان صلى الله عليه وسلم أن لإقامة الصلاة من الأثر في إيجاب العصمة وحقن الدم ما للشهادتين فمن نزع عنه بعدما يقتله، كان كمن نزع عن الشهادتين أو إحداهما. ومنهم من يوجد مع قطاع الطريق، ردفا لهم لم يقتل أحدا، ولم يأخذ ماله والدلائل التي سبق ذكرها تدل على تحريم قتله، وقتل القاطع الذي أخذ المال ولم يقتل، فلم يجز بأن يقتل واحد منهما والله أعلم. وكما لا يحل قتل نفس بغير نفس، فكذلك لا يحل طرف من أطرافها أن يقطع بغير حق ولا خدش جلد، ولا نتف شعر ولا كسر عظم ولا لطم ولا ضرب بيد ولا بسوط

ولا درة، ولا إدخال إيلام على نفس محرمة بغير حق، لأن ما كان كله ممنوعا بمعنى، كان بعضه ممنوعا بذلك المعنى، إلا أن يفرق بين الكل والبعض دليل. ألا ترى أنه إذا لم يجز لأحد أن يتقدم دار رجل وينقضها ويحرقها، لم يجز له أن يأخذ منها حجرا أو مدرا أو خشبا، أو ما قل أو كثر، وإذا لم يجز له أن يدخل حائطه فيقطع أشجاره أو يقلمها من أصولها، لم يكن له أن يأخذ منها غصنا صغيرا أو كبيرا أو ورقا أو ثمرا. هذا ومعلوم أن نفس كل أحد أقرب إليه من نفس غيره، فإذا لم يكن لأحد أن يقطع من نفسه طرفا، أو يدخل على نفسه ألما من غير حق، فأولى أن يكون ذلك في غيره. والحق في القتل هو القصاص، وفي الأيدي والرجل سوى القصاص لا شيء فيه. وأما الضرب فلا يستحق قصاصا، ولكن للمالك أن يؤدب به مملوكا وللزوج ذلك في زوجته وللوالد في ولده، وكل ذلك بقدر لا تحل مجاورته فيه إلى ما يسبق، أو يذر دما أو يرجع وجعا مبلغا، وللسلطان ذلك فيمن أتى منكرا لأحد فيه، ولا يبلغ بضرب في غير حد ضرب الحد، لأنه يروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله من بلغ حدا في غير حد) -والله أعلم. وكما لا يحل الضرب بغير حق لما فيه من الإيلام، وكذلك الحبس بغير حق حرام، لا يحل لما فيه من غم النفس وإكرابها وإدخال الأذى والضيق عليها. وذلك نظير الضرب. والتعزيز وحبس الساعي في الأرض بالفساد إلى أن يظهر توبته، وكما لا يحل الحبس بغير حق، فكذلك النفي والإجلاء عن الوطن بغير حق لا يحل، لأنه أخو القتل وقرينه، قال الله عز وجل:} ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم {. فقرن الإجلاء عن الوطن بقتل المرء نفسه. وقال في بعض:} ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار {. فأخبر أنه أسقط عنهم عذابا عجلا كانوا يستحقونه بما كتبه عليهم من الجلاء، فثبت أن

الجلاء نفسه عقوبة وعذاب، وألحق فيه الزنا بغير إحصان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأنا أبا بكر رضي الله عنخ- ضرب وغرب، وأن عمر رضي الله عنه ضرب وغرب. والإمام بعد أن ينفي من يرى من المفسدين الذين يعلم أنهم يجرون غيرهم إلى الفساد، ويغرونهم به، ويحملونهم عليه ويدعونهم إليه من مبتغي الفواحش كلها والتحريض به، والمنهمكين فيها، والأمر في ذلك يرد به اجتهاده إليه من حبس أو تعذيب، وبالله التوفيق. وجاء أنه كان بالمدينة مخنثان يقال لأحدهما هبت، والآخر مانع، فنفاهما النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فكان هذا أصلا في هذا الباب.

السابع والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في تحريم الفروج وما يجب من التعفف منها

السابع والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في تحريم الفروج وما يجب من التعفف منها قال الله عز وجل:} قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن {، وهذا أمر. ثم إنه عز وجل أثنى على من يفعل ذلك، فقال:} والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون {. وقال:} ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا {. وقال:} الذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، إل من تاب {. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن). فثبت (من) هذا كله أن التفف عما لا يحل الاستمتاع والتلذذ به إيمان، وأن التهتك خلاف له. ولولا ذلك لم يتلف على الزاني نفسه إذا كان محصنا، ويسلب مطيته التي كانت لعبادته عقوبة له على خطيئته، ولما عوقب بذلك، علمنا أن وفاءه كبيرة كالقتل، وأن التحرز منه من شعب الإيمان، كالتحرز من القتل. ثم إن بعض ذلك أغلظ من بعض، فالزنا بالمحارم أغلظ لأنه لا طريق فيهن إلى الحل من نكاح ولا غيره. فالتحريم ألزم لهن منه بغيرهن. والزنا بامرأة الأب أغلظ، لأن الله عز وجل يقول فيمن نكح امرأة أبيه:

{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا {. ثم الزنا بحليلة الجار، فيها ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أكبر الكبائر، الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وقتل المحصنة، والزنا بحليلة الجار). وهذا مما عظمه الله تعالى من حق الجار، كما عظم من حق الوالد. وقد تقدم ذكر كل واحد من الحقين في بابه. وكما لا يحل الزنا ويكون ارتكابه من الكبائر، فكذلك إتيان الذكور حرام، لم يختلف المسلمون في تحريمه، وإنما اختلفوا في وجوب الحد على مرتكبه، والذين رأوا عليه الحد، اختلفوا في حده، فقال بعضهم: هو كالزنا. وهذا وجه من غيره. وقال آخرون: حده القتل بكل حال، سواء كان الزاني بكرا أو محصنا، ولعل من حجتهم أن هذا الصنع لا مدخل لعينه في شروط الإحصان، ولو بطل اشتراط الإحصان لقتل فاعله، لأنه لا مدخل لعينه في شروط الإحصان، لبطل القتل به أصلا، لأنه إنما يقتل به قياسا على القتل بالزنا. فإن كان ذلك يصح مع ما فيه من إلغاء شرط الإحصان، فليقل أن هذا الصنع ليس من نوع صنع الزاني، فلا يقاس عليه في إيجاب القتل به. وأيضا فإنه إذا كان إنما يقتل قياسا على الزاني، فليس كل زان مقتولا، فكذلك كل من فعل هذه الفاحشة ينبغي أن يكون مقتولا والله أعلم. ويجوز أن يحمل على شرط الإحصان بالقياس. ومن رأى هذا الرأي فإنما يذهب إلى أنه ليس يتعاطى هذه الفاحشة شبيه قوم لوط، أولئك لم يلحقهم من العذاب الغليظ ما لحقهم لتعاطي هذه الفاحشة أو مثلها فقط. ولكن الأصل في تعذيبهم كان الكفر بالله عز وجل، وتكذيب نبيهم لوط صلوات الله عليه، وهجمتهم على بيته ليلة جاءته الملائكة، وإنذارهم إياه، وإشاعتهم الفواحش، واجتراؤهم عليها ومجاهدتهم. فتغلظ بهذه اكتساب كفرهم، وتغلظت بذلك عقوبتهم.

وإذا كان هذا هكذا، لم يكن أن يقاس عليهم من ارتكب فاحشة من جملة ما كانوا يرتكبونه ولم يكفر بالله تعالى ولا كذب أحدا من رسله، ألا ترى أن الله عز وجل قد أخبر عنهم أنهم كانوا يأتون في ناديهم المنكر. وقد جاء في تفسيره ما قد جاء. ثم لا يجوز أن يعاقب من فعل ذلك مقتصرا عليه بأن يطرح من بنيان عال، وتقطع أوصاله ويموت، فكذلك هذا والله أعلم. وإذا كان إتيان الذكور حراما، فإتيان البهائم أفحش منه وبالتحريم أحق. فقد اختلف في ذلك فقيل: إنه زنا، وقيل: ليس بزنا. ومن قال هو زنا جعله كالزنا بالنساء في الحد. ومن قال. ليس بزنا، رأى فيه التعزير. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من نكح بهيمة فاقتلوه) وقد يجوز أن يكون ذلك منسوخا بقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق) والناس لا يعرفون وطئ البهيمة زنا، ألا ترى أنهم لا يسمون البهيمة زانية، وإن كانت طاوعت رأينا فكذلك الفاعل بها لا يكون زانيا ولا يقتل. وهذا الحديث والله أعلم. وإذا كان جميع ما وصفنا حراما، فإن نكح الرجل يده حرام. ألا ترى أنه إذا حرم عليه أن ينكح ذكرا كان التلذذ بجميع أعضائه في التحريم كالمباشرة الكبرى فأولى أن يكون نكاح يد نفسه حراما عليه. فإن نفسه أولى النفوس بأن يحافظ على حرمتها ويحميها بما نقص منها. قال الله عز وجل:} قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون {. وقال:} والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين {. وهذا ليس بواحد منها.

وكذلك المرأة تباشر المرأة وتلذذ بها حرام ذلك عليها. وقد جاء في الحديث: (من أشراط الساعة أن يستغني الرجال بالرجال والنساء بالنساء). فجعلا بمنزلة واحدة. وفيما يقال: إن في زبور داود عليه السلام: ليس الفسق كله بفسق، وإن كان صاحبه عندي ملعونا. ولكن من أمكن من نفسه الرجال من الرجال، والنساء من النساء، فإن ذلك ما يهتز به عرشي، ويثقل علي حملته، فأقول: اصبر، فإني أنا الحليم الذي لا أعجل). وقد خلق الله الزوجين الذكر والأنثى، يجعل كل واحد منهما موضع مستمتع للآخر على الشرائط التي شرطها في كتابه، وعلى لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم. وما خرج عن ذلك مما يؤدي إلى إضاعة الماء الذي يكون منه الولد فهو حرام لخروجه عن الحد الذي وضعه الله تعالى لقضاء الشهوة، ومخالفته الغرض الذي لأجله يركب الله الشهوة في الرجال والنساء. فإنه إنما ركبها ليكون قضاؤها سببا لدوام النسل. فمن قضاها من الرجال بالرجال، ومن النساء بالنساء، فقد خالف بها سبيلها، وأضاع الماء الذي يكون منه فهو منه حرام، وضع موضع لا يمكن أن يكون منه نسل. وذلك فيه إسقاط الجنين، والحيلولة بينه وبين أن ينشأ وينمو فيخرج، وكذلك لمن ابتغى ولدا من حرام فلا ولد له، لأنه لا يثبت بينه وبينه شيء من أحكام الولاية، وهو مضيع لما به، مستوجب بوضعه فيمن لا تحل له العقوبة، وإذا كان ابتغاؤه من حلال محتسبا كان مأجورا، ووجه الاحتساب فيه أن يريد مباشرة أهله أو جاريته طلب ولد، فعل الله تعالى إذا رزقه بلغه ووفقه وعلمه، فكان من عباده وموحديه، ومقدسيه في أرضه، والداعين إلى دينه، والمجاهدين في سبيله والمكثرين من أمة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة). وأنه قال: (سوداء ولود خير من حسناء عقيم). وأن رجلا استشاره فيها مرتين أو ثلاثا كان ذلك يقول: لا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لامرأة سوداء تلد أحب إلي من امرأة حسناء لا تلد. أما علمتم أني مكاثر بكم الأمم حتى بالسقط إنه ليؤتي به يوم

القيامة فيظل ممتنعا على باب الجنة. فيقال له: ادخل فيقول: لا، حتى يلحقني أبواي). وجاء في الحديث أن في المودة الصغرى. فإذا كان ذلك كذلك، فوضع الرجل ماءه في ذكر، أو امرأة ماءها في المرأة، أقرب إلى الوأد، فينبغي أن يكون بالتحريم أحق. وإذا كان إضاعة المال حراما، فإضاعة المال الذي يرجى أن يكون منه نسمة تعبد الله وتوحده أولى أن يكون حراما والله أعلم. وإذا كان الزنا وسائر ما ذكرت حراما، فالخلوة بالمرأة المحرمة حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخلو رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان). ومعنى هذا أن الشيطان يحضرهما، فيحرص كل واحد منهما على المعصية والخلوة. ثم لا يؤمن أن يكون سببا لشيء يجري عنهما كالخلوة بالمرأة في التحريم، والله أعلم. ولا ينبغي لأحد أن ينظر ما لا تحل له الشهوة، وإذا حرم النظر، فاللمس بالشهوة أولى أن يحرم. والقول الذي يبعث على الشهوة، ويكون مثله طريقا إلى الفساد أولى أن يحرم. يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنينان، واليدان تزنينان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك ويكذبه). ولا ينبغي لأحد أن يمشي إلى امرأة لا تحل له ليحدثها، ويراها لشهوة، ولا أن يناولها طعاما أو شرابا متلذذا بذلك. فإن فعل أو جلس مجلسا قد أشجنته ببدنها أو شرب سؤرها، أو تبع موضع فمها من الإناء، وأكل ما أفضلته من طعام، أو يتبع مواضع أناملها، أو لبس ثوبا قد نزعته متلذذا بذلك. كان ذلك كله منه زنا وفعلا محظورا، غير أنه لا يبلغ مرتبة المباشرة الكبرى فيجب فيه الحد، والأصل فيه الحديث الذي رويته ألا ترى أن أبا أيوب الأنصاري أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة داره، وكان ينفذ إليه الطعام، فإذا رد من عنده جلس وأهله يتتبعون مواضع أنامله يبغيان به البركة.

فكان ذلك منهما برا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقربة إلى الله عز وجل، فمن فعل ذلك مريدا للشر والفتنة كان منه معصية لله عز وجل، وهتكا للحرمة، وبالله التوفيق. وفي ظهور ما قلنا بيان أنه لا يحل لأحد أن يتصدى إلى امرأة لا تحل له، أو يلاطفها بالكلام الطيب ليحببها فتواطئه على الحرام، أو ليفسدها على زوجها إن كان لها أو على سيدها إن كانت مملوكة، لأن التذرع إلى الحرام حرام. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من جنب) فكتب الحديث على وجهه في موضعه إن شاء الله. وإذا كان جميع ما وصفنا حراما، فقد ظهر أن تودد المرأة إلى الرجل الذي لا تحل له وإدخاله عليها/ والجمع بينهما على الحرام حرام، جميع ذلك من باب الإعانة على الإثم والعدوان، والله عز وجل يقول:} وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب {. وقد تقدم ذكر هذه الآية في باب مفرد، وبالله التوفيق.

الثامن والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في قبض اليد على الأموال المحرمة ويدخل فيه تحريم السرقة وقطع الطريق

الثامن والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في قبض اليد على الأموال المحرمة ويدخل فيه تحريم السرقة وقطع الطريق قال الله عز وجل:} ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون {. فحرم دفع المال إلى الحاكم ليأخذه بحكمه ما لا يستحقه إثما يأخذه، عالما بالإبطال من نفسه. وقال في الأخذ باليمين الفاجرة:} إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم {. وقال في ذم اليهود وأخذهم الربا، وقد نهوا عنه:} وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما {. فذمهم بأكل أموال الناس بالباطل، كما ذمهم بنقض المواثيق، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير الحق، وعظم أمر التطفيف} الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، فإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون {. وقال:} وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم {. وقال:} ولا تنقصوا المكيال والميزان {إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى. وقال في القمار:} وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق {. وقال:} إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه {وقال في السرقة:

} والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، نكالا من الله {. وقال في المحاربة:} إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض {. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه). وقال: (ألا إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا). وقال: (ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) وقال: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قطعت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له من النار). وقال: (من غضب شبرا من أرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين) وقال: (من حلف على يمين فاجرة ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان). وقد حكم الله بالقطع على السارق، على أن السرقة من الكبائر كالقتل، وإن كان التورع عنها من الإيمان، إذ كان بعض جوارح المؤمن مستقص من أهلها، فتفوته إقامة حقوق الله تعالى بها، كما كان استقصاص نفس المؤمن بالقتل دليلا على ان التجرد من القتل ظلما من شعب الإيمان، وعلى أن الإدمان اخو القتل. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (من قتل قتيلا فله سلبه، كان من قطع يدي مشرك ورجليه وهو مقبل كمن قتله). ووجدنا اليدين والرجلين تستحق من الواحد متابع السرقات منه، كان ذلك كقتله. ودل ذلك على قرب منزلة السرقة من القتل. ودل خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها من الكبائر، فإنها ذكرت مع ما ذكر منها في حديث واحد.

فأما المحارب فقد تلوت في الآية. ومعناها: أنهم إن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، فإن عادوا بعد ذلك قطعت منهم الأيدي والأرجل الباقية فيعرضوا. وكان الحكم الأول من السارق الجلد. قال النبي صلى الله عليه وسلم في حرمته: (الجلد غرامة مثلها وجلدات نكال). ثم نسخ الجلد وشرع القتل مكانه، ونسخ تضعيف الغرامة، وأقرت غرامة المثل. كما أقر به المسروق إذا كان قائما بعينه. فأما الغصب والاختلاس والنهب فمحاربة ولكنه لا قطع فيها، إنما القطع من إخراج المال المحرز من خرزه عن جميع الدار إلى الطريق أو عن دار المسروق منه إلى غير داره وغير بيته. فأما ما لم يكن محرزا أو لم يوجد محاربة فلا قطع فيه. وإذا كانت المحاربة فالبدو والحضر فيها سواء لعموم الآية. وأن أخذ المال محاربة إن كان أغلظ من أخذه سرقه لما فيه من المجاهدة، فهي إذا كانت في الأمصار مجاهدة. فوجب أن يكون مما يجاب الحد أولى منها إذا وقعت خارج المصر، ولا تكون كالغصب والاحتلاس، كما لا تكون المحاربة في المفازة بمنزلة الغصب والاختلاس. وإنما سموا محاربين لأنهم يأخذون السلاح لدفع المانعين والله هو المانع، فكأنهم قصدوا محاربته. وليس في الغصب والاختلاس هذا المعنى، فكذلك لما يكن فيها حد والله أعلم. وأيضا فإن قطع الطريق ليس فيه أخذ المال فقط، ولكن هذا قد سد سبيل الكسب على الناس، لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وعمادها وتركيبها الضرب في الأرض كما قال الله عز وجل:} وآخرون يضربون في الأرض ويبتغون من فضل الله {. فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، وانسد باب التجارة عليهم. وانقطعت أكسابهم. فشرع الله تعالى على قطاع الطريق الحدود المغلظة ردعا لهم عن سوء أفعالهم، وفتحا لباب التجارة لمن أرادها منهم. فأما السرقة فليس فيها أيضا أخذ المال فقط، ولكن إشاعة الحزن على صاحبه، وإذا

لم يردع السراق، بطلت فائدة البيوت، والأكناف على الناس، وضاعت الأموال فصارت كلها تعرض للأخذ، فشرع الله تعالى عليهم الحد ودعا لهم على فعلهم، وأبقى على الملاك في أموالهم. والغصب ليس فيه إلا أخذ المال، والأغلب أنه يمكن استرجاعه بالسلطان، أو الحاكم أو بعين المغصوب عليه، ففارق ذلك المأخوذ سرقة أو محاربة. لأن الأغلب أن السارق والمحارب لا يلحقان ولا يمكن استرجاع المال منهما بسلطان ولا حاكم، فسلك به مسلك الخيانة ودرئ القطع عن فاعله، والله أعلم. فصل وإذا غصب الرجل من رجل مالا، فعليه رده. فإن مات، فقيمته أكثر مما كانت قيمته من يوم غصب إلى أن مات، وسواء خاصمه المغصوب أو لم يخاصمه إلى أن يبرئه، فتسقط تبعته عنه. وإن غصبه ماشية فأنجبت أو جارية فولدت، فعليه رد الأصل وما تفرع عنه، وأيهما هلك في يده ضمن له قيمته، سواء طالب به مالكه أو لم يطالبه وهو ضامن المنع لأن مال المغصوب، وحق إمساك المال لمالكه ما لم يطلب نفسا عنه. كما أن حق التصرف فيه له، ما لم يأذن لغيره. وليس السكوت عن المطالبة إذنا له في الإمساك، كما ليس السكوت عن المتصرف في ماله بغير إذنه رضى منه بتصرفه. وإن وقع مال رجل في يد آخر لا بإرادته فاجترئ عليه وذلك أن تدخل دابة رجل اصطبل رجل، أو عند رجل دار رجل أواه، خرج من سطح رجل عن شيء، عن ماله، فهوى في دار رجل أو تهب ريح فيلقي ثوب رجل في حجر رجل، فيحتوي من صار إليه المال من بعض الوجوه التي ذكرتها على المال. فإن كان يعلم صاحبه ففرض عليه أن يعلمه حال ماله، فيرى فيه رأيه من إقرار أو نقل، فإن لم يعلم صاحبه كان عنده على حكم الأمانة إلى أن يعلم. وإذا وجد لقيطة فأراد أخذها فلا يحل له أن يأخذها لنفسه ولا يسعه أن يأخذها إلا لربها، ولكن يحفظها ويعرفها، فإذا ظهر صاحبها ردها. وينبغي له إذا أخذها أن يشهد عليها، ثم يقوم على تعريفها هو، لا حيث وجدها، وفي السوق والمسجد وحيث يرجو أن يكون

طالبها فيه. وليقل: من الذي ضاع له مال، أو أسقط مالا، أو ضل له مال؟ أو ما يشبه ذلك. فإن جاءه من يعرف اللقيطة، وذكرها ووصفها، فوقع في قلبه أنه لها، دفعها إليه. وإن رأى أن يحتاط لنفسه أو يسأل البينة، فذلك له. وإذا ستعار من رجل مالا، فلا يسرف في الانتفاع وليشفق على مال غيره كماله، فإذا استغنى عنه أو طالبه به مالكه، فليردده. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ستعار من صفوان دروعه، قال: أغصبا يا محمد؟ قال: (لا بل عارية مضمونة مؤداه). فإن هلكت عنده من العمل المأذون فيه، فلا شيء عليه. وإن هلكت لسبب ضمنها لربها إذا باع الرجل ماله وقبض ثمنه، وكان الثمن مؤجلا، فليس له منعه على المشتري، وعليه تسليمه إليه، وليس للمشتري حبس ثمن البائع، إذ كانت السلعة حاضرة يتهيأ قبضها، وكل بيع فسد وجب رفضه، ولم يجز العمل به. فإن قبض المشتري ما اشتراه لم يملكه، وعليه رده إلى البائع، طالبه ولم يطالبه. وإذا رهن الرجل مالا بدين عليه وسلمه إلى المرتهن، فالمرتهن أمير فيه. وإذا قبض حقه وجب عليه رده، طالبه الراهن به أو لم يطالبه، لأنه إنما رضي بيده ما دام مرتهنا وقد أقيل الرهن، وإن هلك الرهن لم يكن للراهن أن يمنعه دينه، وكان عليه أن يقضيه. إن ادعى رجل على رجل ما لا بباطل، وأقام عليه شهود زور، ولم يعرف الحاكم أمرهم، فقبلهم وحكم للمدعي بالمال، فلا يأخذ به، فإنه حرام. وسواء كان ادعى عليه بيعا أو هبة أو ميراثا، كل ذلك سواء، والله أعلم. وإن وجبت لرجل على رجل شفعة فيها اشترى، وأحسن طلبها، كان عليه تسليمها إذا أعطاه الثمن الذي اشتراه، ولم يجز له حبسها، ولا يحل لمن أعطى زكاة وليس من أهلها أن يقبلها.

فإن قبلها وتملكها، وكان عليه ردها إلا أن يكون المعطي علم أن الزكاة لا تحل له فتكون صدقة تطوع، ويحل له قبولها، ولا يحل لأحد أن يأخذ من أحد مالا على دفع ظلم عنه، أو على رد مال في يده عليه. فلو أن الملتقط زاه من صاحب المال شيئا ليرد عليه ماله، أو أراد المودع أو الغاصب أو السارق أو المرتهن، لم يحق لواحد أن يأخذ. فأما صاحب المال إذا اضطر وعم أنه لا يصل إلى ماله إلا بشيء يرضخه لمن هو في يده فله أن يعطى، ولا يحل لمن هو عنده أن يأخذ. وهكذا المدعي عليه البرئ إذا أراد أن لا يحلف، فله أن يفتدي لنفسه بشيء يعطيه المدعي ولا يحل للمدعي أخذه. ومن أعظم المحرمات الربا، قال الله عز وجل:} الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس {. وذلك- والله أعلم- شعار لهم يعرفون به يوم القيامة، والعذاب من وراء ذلك. وقد جاءت الأخبار في بيان الربا، وعلم ذلك موجود في كتب الأحكام. ومن المحرمات القمار: وصنف منه الميسر، وقد مضى ذكره، وجاء في السبق من أدخل فرسا بين فرسين، هو لا يؤمن أن يسبق فلا بأس له وإن كان مؤمنا أن يسبق فذلك القمار، فإذا تسابق رجلان بفرسيهما والمال من إحداهما على أنه إن سبق فله ماله، ولا شيء له غيره. وإن سبقه صاحبه أخذ ماله، وهذا جائز. وإن أخرج كل واحد منهما مالا على أن أحدهما إن سبق كان له ماله ومال صاحبه، فهذا قمار. وإن أراد أن يحرز ويزول معنى القمار عنه، أدخلا بينهما محللا، ولا يخرج المحل شيئا، ويستفتون على أن أحدهما إن سبق أحرز ماله، وأخذ مال صاحبه الذي أخرجه، ولم يكن على المحلل شيء. وإن سبق المحلل أحرز المالين جميع. وإن جاءا مستويين أحرز كل واحد منهما ماله. ولم يكن لواحد منهما غيره.

وإن كان الفرس المحلل ضعيفا يؤمن أن يسبق له يقع به التحليل، وكان وجوده وعدمه سواء، والله أعلم. ولا يجوز اللعب بالشطرنج والنرد بشرط المال، ولا اللعب بالجمار على شرط المال، وذلك قمار. وأخذ الأجر على إطراق الفجر حرام. وكذلك مهر البغي وصلوات الكاهن، وثمن الكذب، ويكل ذلك جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحل أن يتراهن رجلان على تخيرانهما من أنفسهما على عمل فيقول أحدهما: إن قدرت على رقي هذا الجبل فلك كذا، وإن قفزت من جانب هذا النهر إلى ذلك الجانب فلك كذا، وإن أقللت هذه الصخرة فلك كذا، وإن أكلت كذا وكذا من شيء يذكره فلك كذا، فإن هذا كله من أكل المال بالباطل، وكله حرام. وبالله التوفيق.

التاسع والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في المطاعم والمشارب وما يجب التورع عنه فيها

التاسع والثلاثون من شعب الإيمان وهو باب في المطاعم والمشارب وما يجب التورع عنه فيها قال الله عز وجل:} حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق {. وقال:} قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير، فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به {. وقال:} إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه {. وقال:} يسألونك علن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما {فأثبت منهما الإثم ثم قال في آية أخرى:} قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق {. فحرم الإثم نصا. ويقال: إن الإثم اسم من أسماء الخمر وينشد: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول وهو المراد بهذه الآية. فإن ثبت ذلك، وإلا فالآية عامة لكل إثم، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن) وعنه صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام). وجاء: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام). وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن

الله خلق الفردوس بيده، وحظرها على مدمن خمر سكير). وجاء: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وجاء: لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه. وبائعها ومشتريها، آكل ثمنها) وجاء: (من شرب الخمر لن يقبل الله منه أربعين صباحا فإن مات فيها مات ميتة جاهلية، وإن تاب تاب الله عليه. فإن عاد فشربها لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن مات مات ميتة جاهلية، وإن تاب تاب الله عليه. وإن عاد فشربها لم تقبل له صلاة ارعين صباحا، فإن مات مات ميتة جاهلية، قال: في الثالثة أو الرابعة لم يتب الله عليه، وكان حقا على الله أن يسقيه من طينة الجبال. قيل: وما طينة الجبال؟ قال: عصارة أهل النار). وعنه صلى الله عليه وسلم: (أتيت ليلة أسري بي باناءين: احدهما خمر والآخر لبن، فأخذت اللبن، فقال لي جبريل عليه السلام: أهديتك أمتك على الفطرة، لو أخذت الخمر لغوت أمتك). وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير). وعنه صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الحدأة وأنه حرم لحوم الحمر الأهلية). فأما قوله} حرمت عليكم الميتة {فإن الميتة ما مات حتف أنفه. وكان المشركون يأكلونها ويجادلون المسلمين، فيقولون تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون بما قتله الله، فأنزل الله عز وجل:} ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه {. يعني مات حتف أنفه، ولم يذكه مسلم، فيكون اسم الله مذكورا عليه. ثم قال عز وجل:} وإنه لفسق {يعني أو ما مات لا عن ذكوة فسق. كما قال عز وجل في آية أخرى:} أو فسقا أهل لغير الله به {فسمى ما ذبح لغير الله فسقا، كذلك سمي ما مات لا عن ذكوة

فسقا. ثم قال: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم {يعني قولهم تأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون مما قتله الله، ثم حذرهم أن يقبلوا منهم. فقال:} وإن أطعتموهم إنكم لمشركون {أي إن استسلمت لما تقولون ورأيتموه حجة فأنتم مشركون. لأن الله تعالى حرم عليكم الميتة نصا، فإذا قبلتم تخليها من غيره فقد أشركتم، ثم إن الله عز وجل استثنى من الذي حرم عليه الميتة المضطر، فقال:} فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم، فإن الله غفور رحيم {وقال في آية أخرى:} فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه {وقال في آية ثالثة:} إلا ما اضطررتم إليه {. فكل من اضطر في مخمصة في تأدية لم يقع عليها البغي على الإمام العادل، وعدوان على الناس بسيفه، وهو أن يقطع عليه الطريق، ويأخذ أموالهم. ومن أتى عليهم منهم ثلاثة فله أن يأكل من الميتة قدر ما يسد رمقه، ويمسك عليه حياته، ولا يزيد عليه. سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا إنها نفلاء فشأنكم بها). فأبان إنهم لم يأكلوها أكل الطعام المباح فلا إثم عليه فيها. ولكن الطعام المباح ألا ينحر له حال الضرورة يخاف منها على النفس، لكن الواحد يصطبح بشيء، فيستغني به عما سواه إلى الليل، يريد به أن يكون أبلغ إلى حوائجه. فإذا أمسى تناول منه ما تركه بالنهار، وإن لم تكن ضرورة شديدة. وقد يضم إليه النقل وغيره، أما مزدادا من الطعام، وأما مستطيبا له. وليس هذا سبيل الميتة، إنما اذن منها بما يمسك به الرمق، والضرورة الداعية لها، لا تتفق في وقت بعينه من صباح أو مساء، ولا تؤكل استطابة، فيضم إليها نفل أو نحوه. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إذا لم يأكلوها كما يأكلون الطعام ولا يأثم عليهم فيها، والله أعلم. وأما الدم، فقد كان أهل الجاهلية لا يتحاسونه، وكانوا يطبخونه فيأكلونه، يرون أنه لا فرق بينه وبين اللحم، وربما طرق المقل منهم ضيف، فينزع له عرقاً من جزور،

فيأخذ دمه، ويطبخه ويقدمه إليه. وكانوا يقولون: ما حرم من قصد له. فأما شرع الله الشريعة الحق الدم بالأنجاس، وحرمه وجعله مماثلا للميتة، ليس أنه كان للحم فإنما هو كميتة اللحم لا كذكية. ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم، استثنى من الميتة والدم، فقال: (أحلت لي ميتتان: الحوت والجراد). وأما الدمان: الكبد والطحال، فأباح الكبد والطحال، لأنهما دمان جامدان مع قيام الحياة في نفس الحيوان، فهما لذلك بمنزلة اللحم. وأباح الحوت والجراد لأنه ليس في واحد منهما دم مهدر بالريح، فكان الميت من كل واحد منهما بمنزلة البهيمة بعدما ذبحت، فسال دمها، وبقي منها جوفها والله أعلم. وأما الخنزير فقد حرمه نصا وسماه عز وجل رجسا، والرجس أعظم النجس، فدل بذلك على غلظ تحريمه ووكادته. وأما ما ذبح لغير الله، فهو ذبحة الوثني المجوسي المعطل. لأن الوثني يذبح للوثن والمجوسي للنار، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه. وأما المسلم فإنما يذبح لله تعالى لأنه يعتقد أنه يستحله بما أحل الله له من ذبح أو نحر أو رمي أو طعن أو ضرب على حسب حال الحيوان في نفسه من أن يكون مقدورا عليه أو خارجا من اليد غير مقدور عليه، ويقتصر على الأصناف التي عنده. أن الله تعالى أحلها له، كما يقتصر على الفعل الذي نرى أن الله به أحله، فيكون ذبحه أو نحره واقعا لله تعالى. وكذلك اليهود والنصارى يذبحان لله لأن معبودهما في أصل دينهما ليس إلا الله تعالى وإن ينحران بذبحهما. ولو أن نصرانيا قال: باسم المسيح أو باسم عيسى، فلا يخلو بأن يكون ذابحا لله تعالى لأنه لا يقول هذا القول من النصارى إلا من زعم أن الله حال على المسيح ومتخذ به، وليس عيسى سواه، ولا متميزا عنه- تعالى الله عن الحلول والاتحاد- إلا أنه يقول: لا شيء سوى عيسى فإذا كان كذلك، فهو إذا قال باسم المسيح، فإنما يخص المسيح بالتسمية لما هو مختص به عنده، واختصاصه عنده بأن الإله متحد به، فقد صار قصده إذا من ذكر المسيح ذكر الإله، فجعل ذابحا لله، فكذلك حلت ذبيحته، والله أعلم.

وأما المنخنقة: فهي التي تختنق بحبل قد ربطت به، حرمها الله تعالى لأنه لا فرق بينها وبين الميتة حتف أنفها وكانت الذكوة فائتة منها جميعا. فأما الموقوذة: فهي المكسرة بالعصا حتى ماتت. أعلم الله تعالى أن الوقذ بالعصا لا يكون ذكاة لها، إذ كان ذلك لا يخرج منها إلا روحها الذي ليس بقذر ولا أذى وإنما الذكاة ما يخرج فيه الأذى والقذر وهو الدم، وما يجري مجراهما إذ بقي فيه بعد زوال الحياة، أداة إلى التخفيف والعصر، فحرم ما لم يكن مذكى. وأما المتردية فهي التي تتردى، أي تسقط من مكان عال جبل أو سطح. أو ما كان فيقع على الأرض فيكسر من صدمتها، فأخبر عز وجل أنها والموقوذة بمنزلة واحدة. ولا فرق بين أن يقبذها أو ما تقع هي عليه. وأما النطيحة، فهي التي نطحها ذو قرن فأماتها، أو فرق حشوها. لأنه إذا كان ذبح آدمي لا يهل به لوجه الله تعالى لا يحلها فإن خرق البهيمة حشوها، أولى أن لا يحلها. وأما ما أكل السبع، فهو الذي يقتله السبع، فإن أدرك وهو حي فذكى حل، وإن لم يدرك حتى هلك ظل نجسا حراما، لأنه لم يذكر اسم الله عليه. فكان كذبيحة الوثني والمجوسي. وإنما يحل ما أدرك حيا فذكى إذا كان يعلم أنه يعلم أنه يعيش وقتا إن خلاه السبع. فأما إن كان خرج السبع من المتلف الوحي، وأكله، كان يضطرب اضطراب المذبوح فذكيته لا تحل والله أعلم. وأما ما ذبح على النصب، فهو ما ذبح على وجوه الأنصااب، وهي الأوثان المنصوبة ليسجد لها، يراد به الذبح لها، كما يريد المسلم بقربانه الذبح لله تعالى. وأما الاستقسام بالأزلام، فليس من باب الذبح في شيء، وإنما هو أن يطلب الواحد لنفسه قسمة من جذور قد يخر ولم يضربه، فتخرج له علبة، وهو الميسر الذي كانت العرب تستعمله في الجاهلية، ولا حاجة بنا إلى وصفه، والإشارة إلى جملته تكفي. ثم قال عز وجل:} ذلكم فسق {أي الاستقسام بالأزلام فسق.

ثم إن كثيرا من الحيوانات قد حرمت على الناس، حتى إن ذبحوها وسموا الله عز وجل عليهم لم تحلل. منها: الحمر الأهلية، وقد رويت فيها الحديث. ومنها الكلب، فإنه نجس الغير في حياته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب) والخنزير أيضا نجس الغير في حياته، ولهذا يقتل ولا يقتنى بحال، من غير أن يخشى فيه ضرر. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عيسى عليه السلام إذا خرج قتل الخنزير وكسر الصليب سريه) أن النصارى في أكلهم الخنزير وتعظيمهم الصليب كانوا على باطل. وإذا كان الكلب والخنزير معا نجس الغير لم يكن لهما ذكوة. لأن معنى الذكوة حفظ طهارة الحياة على الذي يذبحه، فما لم يكن طاهرا في حال الحياة، فلا معنى للذكوة فيه. ومنها الأسد والفهد والنمر والذئب. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل ذي ناب من السبع. فأما الضبع، فقد روى جابر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم تحليله، وإيجاب الجزاء فيه على المحرم إذاا قتله. وعن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما مثل ذلك. وليس بسبع على الإطلاق، لأنه ينجس ما يصيب من الميتة مرة، ومما تنبته الأرض أخرى. فقل ما يعدو على إنسان حي ويقال أنه يخرج الأموات ويصيب منهم. وأما حمار الوحش فصباح. قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة، وقد أصاب رجل من المجلس وحشا: (هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ قالوا: لا. قال: فكلوه). والهرة الوحشية مباحة، لأنها تنزل من الأهلية منزلة الحمار الوحشي من الأهلي والثعلب حلال والأرنب مثله، فإنما يتعشى بنبات الأرض. وأما الثعلب فيه وربما تفضله السباع من فريسة إن أصابه فهو كالضبع، وأضعف. وقد قال بعض الناس: إن إناث الأرانب تحيض فنوعه كنوع الناس، فيقال له: الناس لم تحرم لحومهم لأصل الحيض، حتى إذا كان من الأرانب حيض وجب أن تكون لحومها

محرمة. وإن كان هذا الاعتبار صحيح فلا ينتج له شيء من الدواب، لأنها تلد كما تلد النساء. وأقصر الإباحة على ما تبيض ولا تلد. وقال أنس بن مالك (اصطدت أرنبا فشويتها، فبعث أبو طلحة معي بفخذها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بها فقبلها). وأما الطائر منها: حرم منه الغراب والحدأة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: خمس لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم، فذكر فيها الغراب والحدأة والفأرة، والحية والعقرب والكلب العقور). وجاء في أكل الدجاج رجل من تيم يقل له رهدم، قال: كنا عند أبي موسى، فقرب إليه دجاج، فتنحى رجل من القوم، فقال له: أدنه، فقال: إني رأيتهن يأكلن قذرا، فحلفت أن لا آكلهن. فقال أبو موسى: أدنه، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكلهن. وكل ما كان من الطائر سبعا يصطاد كالبازي والصقر والشاهين والعقاب والنسر فهو حرام. نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي مخلب من الطير، فإن ذكره أيضا من السباع دل على أنه أراد سباع الطيور، كما أراد سباع الدواب. ومنها الحشرات كلها بلا استثناء. وقد ورد في أكثرها الحديث الذي سبقت روايته، وما وراء هذا من الدواب والطائر فكل شيء كانت العب تستحسنه فلا تأكله، لم يرد في تحليله نص خبر فهو حرام، لقوله عز وجل:} يحرم عليهم الخبائث {. وكل شيء كانت العرب تستطيبه فتأكله، ولم يرد في تحريمه خبر فهو حلال، لقول الله عز وجل:} يسلونك ماذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات {فما كانت العرب لا تأكله من الدواب: لدب وابن آوي، وأم حنين. ومن الطائر: الرخيمة، والبغاث، وما كانت تأكله: اليربوع والقنفذ والوتر. وجعل بعد هذه المحرمات من الأصناف التي تستحل بالذكاة: الإبل، والبقر والغنم والخيل وحمار الوحش والظباء والوعول والإيائل والثعالب والضبع والهر الوحشي والنعام والدحج وحسيبها وأهلها والفتاح والحباري.

وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر. والحمام بأصنافه والعصافير والجراد. وأما الخطاف فيحتمل أن يكون لصغر الغربان والخفاش تنزل من الفأر بمنزلة النعام من الإبل. وجاء في النهي عن قتل الهدهد والقرد والزنبور خبر. وجاء في الضب أن النبي صلى الله عليه وسلم عافه، وقال: (لم يكن بأرض قومي) وأذن للناس في أكله. وروى أنه قال: (لا آكله ولا أحرمه) وجاء في القنفذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خبيثة من الخبائث. فيحتمل أن يكون كالفأر أو كاليربوع. والسلحفاة كاليربوع. وأما الحدأة وهي التي تأكل العذرة من الدواب، والدحج من المخلاة، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحومها وقال العماء: كل ما ظهر منها ريح العذر في لحمه وطعمه فهو حرام، وما لم يظهر فهو حلال. ومن ذلك أن تلقى في الأرض العذرة. وروى عن بعضهم قال: كنا نكري أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط على من يكتريها أن لا يلقي فيها العذرة. وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يكري أرضه، ويشترط أن لا تزبل بالعذرة. وروى أن رجلا كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر: أنت الذي تطعم الناس ما يخرج منهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كره أن تزبل الأرض بالعذرة. وعن أبي جعفر رضي الله عنه كذلك. وكل ولد بين حلال وحرام فهو حرام. وكذلك ذبح المولود بين كافرين أحدهما من أهل الذكاة والآخر ليس من أهلها لا تكون ذكاة، ولا تحل له الذبيحة. وأما حيوانات البحر: فالحوت منها حلال، وكل ما كان مضرا بالناس من بري أو بحري فهو حرام. وأما حيات الماء فهي حرام لأنها من الخبائث. وأما الكلب فقد اختلف فيه، فقيل ما كان عيشه أو أكثر عيشه في الماء فهو حلال. وقيل في دواب الماء: كل ما كان له مثل في دواب البر حلال فهو في الماء حلال. وقيل في دواب الماء: كل ما كان له مثل في دواب البر حرام فهو في الماء حرام. وقيل: لا يحل من حيوان الماء إلا الحيتان، والسرطان حلال، والضفادع حرام. وقد جاء في النهي عن قتلهن خبر عن

النبي صلى الله عليه وسلم. وما قلنا فيه من دواب البحر أنه حلال فذكيه وميته سواء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الحل ميتتان). والله أعلم وبالله التوفيق. وكل طعام حلال، فلا ينبغي لأحد أن يأكل منه ما يثقل بدنه فيخرجه إلى النوم وغيبه من العبادة. وليأكل قدر ما يسكن جوعه، وليكن غرضه بالأكل أن يستقل بالعبادة ويقوى عليها. في ذم كثرة الأكل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل من معي واحد، والكافر يأكل من سبعة أمعاء). قال أبو عبيد: (لا أعلم للحديث وجها إلا ما روي أن رجلا كان كثير الأكل قبل أن يسلم، فلما أسلم نقص من ذلك. فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا القول. وإن كثيرا من الكفار من يقل أكله، ومن المسلمين من يكثر أكله). وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأكل الصاع من التمر، فأي المؤمنين كان له إيما كإيمان عمر. وهذا من أبي عبيد ليس بنظر شاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا القول لرجل واحد، وإن كان، إنما قال حين وصف له رجل بعينه. فمعناه. أن الذي يليق بالكافر يكثر أكله، وبالمؤمن أن يبرر أكله، لأن الكافر لا يقصد إلا تسكين لمجاعة وقضاء الشهوة، والمؤمن يدع البعض لأنه حرام، ويدع البعض إيثارا به على نفسه، ويدع التملي لئلا يثقل فيقطع من العبادة ويدع البعض لفرط ما فيه من النعمة، خيفة أن لا يستطيع القيام بشكره. ويدع البعض رياضة كنفسه وقمعا لشهوته حتى لا يستغني عليه، ويدع البعض لئلا يعتاده، فإن لم يجده في وقت اشتد عليه ذلك، أو وجد من ذلك في نفسه، والكافر ليس به إلا ملء بطنه. لأن هذه الوجوه كلها مما تبعث على النظر من قبلها للإيمان والتقوى، فهو لا يترك لأجلها شيئا، وإنما إقامة شهوته دون ما عداها. ومعنى قوله: (يأكل في سبعة أمعاء) يأكل أكل من له سبعة أمعاء، والمؤمن

يحق له أكله، يأكل أكل من ليس له إلاا معي واحد، فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكل الكافر، ويزيد الكافر عليه بستة أمثاله، والمعنى في هذا الحديث هو المعدة والله أعلم. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل سبعا فوق سبع، فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله. وسأل سمرة بن جندب رضي الله عنه- عن أبيه: ما فعل؟ قالوا: بشم البارحة. قال: تبشم؟ قالوا: نعم قال: أما أنه لو مات ما صليت عليه، ولا بد من أكل اللحم، فإن عمر رضي الله عنه كان يقول، إياكم واللحم، فإن لها ضراوة الخمر. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن اللحم سرف كسرف الخمر، فلا يؤمن أن يتعدى النزوع عنه، وفي إدمانه من الضرر وقسوة القلب وغلظ الطبع والصخب والخصومة وغلبة الشهور. لأن الشجاعة والسلطنة من طباع الآدميين. فإذا اعتذوا اللحم قويت هممهم، فصاروا كالسباع وأخلاق السباع ما وصفته. وكذلك ضربت السباع العادية دوابها وطائرها، وذلك لئلا يتغير طباع العباد لحومها، فتصير كطباع السباع. فإن من الموجود فيما بين الناس أن الولد كما يشبه أمه، فكذلك يشبه في الأخلاق مرضعته وذلك لما بد يغتذيه بدنه وروحه من لبنها، فيمتزج بلحمه وبدنه، ثم إن ما يحدث من هذا من اغتذاء لحوم السباع أقوى أو أغلب فحرمت، وما يحرم من اغتذاء سائر اللحوم، فإنه يكون أضعف. فلم يحرم لحاجة الأبدان إليها في أن تبقى قوته. وصلابة أعضائها. ولكن الإدمان يخشى منه ما وصفت، فكان توفيه أولى وأحسن، والله أعلم. وأما إذا كان الرجل قد أتى أمرا وعملا يلحقه منه كد وجهد، فإن أدمن اللحم ليتقوى به لم يكره ذلك. وروى أن ابن عمر رضي الله عنهما، كان إذا سافر أدام اللحم وإذا جاء رمضان أدام اللحم، ثم يأتي عليه لا يأكله. وجاء أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من أصحابه اجتنبوا اللحم والنساء، وأوعد في ذلك وعيدا شديدا، وقال: (إني لم أبعث بالرهبانية، إن خير دين الله الحنفية أن أهل الكتاب شددوا فشدد الله عليهم، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم).

وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوما خبزا بزيت، ويوما لحما، ويوما بعدس، والعدس بالزيت طعام الصالحين، ولو لم يكن فيه فضيلة، إلا أن صيانة إبراهيم عليه السلام في قريته لا يخلو منه، لكان في ذلك كفاية. وهو مما يخفف البدن فتخف به العبادة، ولا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم، ومن الحنطة من جملة الحبوب، والشعير قريب منه، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشبع أهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل. وأما أعضاء الحيوان، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطيب اللحم لحم الظهر) وهذا مما لا خلاف فيه. وروي أنه كان يحب الكتف. وروى أن شاة ذبحت في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أطعمن من شاتكم. فقالت: ما بقيت عندنا إلا الرقبة. وإني لأستحي أن أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرقبة. فرجع الرسول، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ارجع إليها، فقل: ارسلي بها، فإنها هادية الشاة وأقربها إلى الخير، وأبعدها من الأذى). وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره من الشاة سبعا: الدم والذكر والانثيين والحشاء والمرارة والمثانة والمعدة. وروى في حديث آخر أنه كان يكره الكلية، وهي والمثانة متقاربان، لأن كل واحدة منهم يجري مجرى البول، إلا أن له من اللبث في المثانة ما لا يكون له في الكلية. فقد يحتمل أن يقال أن المثانة إن كانت تشربت على الأيام من البول ما أفسد طعمها وريحها لم تؤكل، كالجلالة إذا كان ما تأكله من القذر قد غير طعم لحمها أو ريحها لا تؤكل. والمرارة، الأغلب أن ما فيها قد خبث طعمها ولعلها أن تكون ضارة فلا تؤكل. والذكر والانثييان والحشاء والمعدة مستقذرات. وأما الدم فإن الله عز وجل لما ذمه قال:} أو دما مسفوحا {فقيل: أن كل دم ينصب بالذبح ويسيل فهو حرام. وأما ما يبقى من الدم اليسير في بعض العروق الدقيقة خلال اللحم فلا يخرج، فهو عفو. وفيه

خبر عن عائشة رضي الله عنه فيما أرى يطلب في تفسير قوله:} قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما {من كتاب الشيخ رخمن، ولا ينبغي لأحد أن يعيب طعاما يصنع له ويقوم غليه. فقد روى ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط، وكان إذا اشتهى شيئا أكله، وإذا كره شيئا كرهه. وهذا -والله أعلم- إذا عاب الرجل الطعام نفسه. فأما إذا أعاب صنعة الصانع له ليعلمه مواضع التقصير فيحفظ منها في المستأنف، ولم يعنف عليه، ولم يسمعه ما يكره، فلا حرج في ذلك والله أعلم. ولا أن يجعل ترقيق الطعام عادة له، فإن بدنه إذا نعم، نعم نفسه، وثبت على العناء والنصب، وأبت عليه إلا الخفض والدعة. ولأن ما يلزمه من الشكر لذيذ العيش يغلظ ويكثر، وعسى أن لا يروي شكره. ويروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كلما قرب طعامه اعتزل رجل من أصحابه فلم يأكل معه. فقال عمر رضي الله عنه: ما يحملك على هذا؟ قال: إن طعامكم طعام حسن، وإني إذا انقلبت إلى أهلي وجدت طعاما، ماء اللبن منه. فقال: أترونني أعجز أن آمر بصاع من دقيق فينخل في ثوب، حتى إذا خرج لبابه، خبز لنا منه خبز رقاق، ثم آمر بشاة فتشوى ثم آمر بصاع من زبيب فيجعل في سقاء، حتى إذا صار كأنه دم الغزلان، أكلنا من ذلك الخبز وذلك الشواء وشربنا ذلك النبيذ. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، وما أراك إلا عالما بلذيذ العيش. فقال عمر رضي الله عنه: أما- والله- لولا اذكر من شدة الحساب لشاركتكم في لين عيشكم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (سيكون بشر من أمتي يولودون في النعيم، ويعدون به همهم ألوان الطعام، وألوان الثياب، يتشدقون بالقول، أولئك شرار أمتي) فالذي يعقل من هذا أنه لا يجعلهم شرار الأمة، لأنهم ولدوا في النعيم وغذوا به، ولكن كانوا مترفين لا يطيقون احتمال نصب العبادة من لين عيشهم، فصارت نفسه مرفهة بشكر النعيم. ولولا أن واحدا من الناس ترك شكر نعمة نزلها إليه مثله، لكان مذموما ملوما. فما الظن فيمن يدع شكر نعم الله عليه، ويكسل عما يلزمه من أدائها إليه والله أعلم.

ولا يجمع في الأكلة الواحدة بين الألوان الكثيرة بذخا ويسرا، فإن أراد بذلك استصلاح بدنه فلا بأس. وكل ما كان من فعل أهل النعيم وأهل الترف في باب الطعام فهو مذموم، وذلك مثل المبالغة في نخل الدقيق حتى لا يبقى إلا لبابه فإنه روي أنه لم يكن لهم في بيت النبي منخل، إنما كانوا يطحنون الشعير ثم ينقحونه فيطير قشره عنه، أو كما قيل: وكذلك الجمع في القدر الواحد من لحم النعم ولحم الطير، والجمع في العصيدة بين التمر والعسل. هذا كله سرف غير محمود، قال الله عز وجل:} وكلوا واشربوا ولا تسرفوا {. إلا أن يجمع جامع بين شيئين أو أشياء ليعدل بعض ذلك ببعض، فيوافق طبعه بذلك الغائلة التي كان يخشاها من أحدها لو أفرده. يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لو شئت دعوت فضلا وفتات وصلائق وقراقيز واشتمه، وأملا دفعه ما ذكرنا من أطايب الطعام" وذكر أنه لا يدعو بها ولا يقصد قصدها لئلا يكون من المتنعمين. ويروي أنه قال: لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن ذكر أقواما يقول الله عز وجل لهم:} أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا {. وهذا من عمر رضي الله عنه: من الحسن الذي كان يبعثه عليه يمكن حسنه الله تعالى من قلبه، فكان إذا هم بشيء غلبت الزواجر عنه الدواعي إليه على قلبه. وهذا الوعيد من الله وإن كان للكفار والذين يقدمون على الطيبات المحظورة، ولذلك قال:} فاليوم تجزون عذاب الهون {فقد يخشى مثله على المنهمكين في الطيبات المباحة لأن من تعودها مالت نفسه إلى الدنيا، فلم يؤمن أن يرتبك في الشهوات والملاذ، كلما أجاب إلى واحدة منها دعته إلى غيرها. فيصير إلى أن لا يمكنه عصيان نفسه في هوى قط. وينسد باب العبادة دونه إذا آل به الأمر إلى هذا، لم يبعد أن يقال:} أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها، فاليوم تجزون عذاب الهون {فلا ينبغي أن تعود

النفس بما يميل بها إلى الشر، ثم يصعب تداركها. وليرض من أول الأمر على السداد، فإن ذلك أهوت من أن يذوب على الفساد ثم يجتهد في إعادتها إلى الصلاح والله أعلم. وينبغي لمن أراد الأكل إذا بدأ أن يسمي الله تعالى ويقول/ بسم الله وإن زاد فقال: بسم الله الرزاق، وبسم الله الكريم، وبسم الله المنان الكريم، وبسم الله الرزاق الكريم، فذلك أحسن. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا وضعت يدك في الطعام، ونسيت أن تقول: بسم الله فقل حين تذكر: باسم الله، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاما في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما أنه لو ذكر اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله. فإن نسي أن يذكر باسم الله، فليقل: بسم الله في آخره) وقال عمر بن أبي سلمة: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يأكل فقال: (اجلس يا بني، وسم الله، وكل مما يليك، وإلا تفرغ تقول: الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم، من علينا، فهداما وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مودع، ولا مكفور ولا مستغني عنه، الحمد لله رب العالمين، والحمد لله الذي أطعم من الطعام وسقى من الشرااب وبصر من العمى، وهدى من الضلال، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا). فإن ذلك يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينبغي لمن أكل من غير، أن يأكل مما يليه، ولا يأكل من ذروة الطعام، فإن النبي قال لأعرابي: (سم الله وكل مما يليك) وهذا لأنه إذا أكل مما يلي صاحبه بخس بحقه، ولعل صاحبه يتقذر أثر أصابع غيره، فيكون قد أفسد الطعام عليه. والأكل من ذروة الطعام فعل أهل السرف والبذخ، فإنهم يعمدون إليه لأنه أفضل الطعام فيصيبون منه ويذرون غيره. ومنهم من يأكل وجه الخبز ويدع ما تحته. وهذا كله سرف منهي عنه. وجاء النهي عن الأكل من ذروة الطعام، فقال صلى الله عليه وسلم: (أن البركة تنزل من ذروة الطعام فكلوا من حافيته، ولا تأكلوا من وسطه) , وقد نهى عن

تخصيص ذروة الطعان لأن ما يبقى يفسد على غير الأكل، لأنه ليس كل واحد تسمح نفسه بأكل ما أصابته الأيدي، وجالت عليه. فأما إذا حضرت الجماعة طبقا فيه ألوان شتى من الثمار، ـ وغيرها، فلا بأس أن يأخذ الرجل ما لا يليه لأنه وضع للجماعة. وكل شيء بما فيه فهو أيضا لهم في اشتهاء، بما ليس بين يديه، لم يمكنه أن يقضي حاجته بما بين يديه. وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل (سم الله وكل مما يليك) ثم جئ بطبق فيه رطب فقال له (أجل يدك، فإنه ألوان) فكان في هذا معنيان: أحدهما أنه يشتهي من اللون الذي بين يديه، فإذا لم يمدد إليه يده سار محجورا عليه، فتبطل فائدة تقديم الطلب إليه. والآخر: أنه لا يتقذر من وقوع يده على الرطب ما يتقذر من وقوع يده على الثريد والشيء الرطب والدسم. فلذلك أن خص له أن يحيل يده والله أعلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالطعام فوضع بين يديه لم يمد يده ما بين يديه. فإذا أتى بالتمر جال يده فيه. وأما إذا كان الرجل وحده، فإن لم يأكل مما يليه جاز، ولا ينبغي له أن يأكل من ذروة الطعام لما مضى ذكره. وإذا أكل مع غيره ثمرا فلا يفرق بين ثمرتين، إذا كان صاحب الثمر غيرهما. فإن كان أحدهما صاحب الثمر فله أن يفرق بين ثمرتين، والآخر إن علم حسن قلب صاحبه، فإن ذلك يعجب فلا يشق عليه، يفرق، وإن لم يكن له على ذلك ولاية فلا يفرق. وينبغي لكل طاعم ألا يستعمل من أصابعه إلا ثلاثا: السبابة والوسطى والإبهام. كذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله. قال كعب بن عجزة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث. قال هشام بن عروة: بالإبهام والتي تليها والوسطى. وروي عنه أنه قال: أما أنا فلا آكل إلا متكئا وهذا- والله- لأنه من فعل

المتعظمين، وأصله مأخوذ من الأعاجم. فإن كانت برجل علة في يديه من شيء فكان لا يتمكن مما بين يديه إلا متكئا فلا بأس عليه من ذلك. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يأكل الرجل بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بالشمال). فيحتمل أن يكون معناه: أن التي هي له بمنزلة الطعام والشراب للناس. إنما تتلقاه بشماله. ويحتمل أن يكون معناه: فإن شياطين الإنس هم الذين يفعلون هذاا لأنهم كما يؤثرون: الأرذل الأحسن من كل معاملة، فكذلك يقدمون الشمال على اليمين في الأكل والشراب. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل أكل عنده بشماله: (كل بيمينك! فقال: لا أستطيع! فقل: لا استطعت، فما وصلت إلى فيه بعد) قال وجد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الإنسان على شماله إذا كان يأكل فقال: (آكل كم يأكل العبد. وأجلس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد). وكان النبي صلى الله عليه وسلم مختصرا، وفسر ذلك عثمان بن أبي زائدة عن عمارة بن القعقاع فرفع ركبتيه إلى بطنه، وإن أكل لحما نضجا فلينهشه نهشا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انهشوا اللحم فإنه أهنأ وأشهى وأمرأ) ونهى عن أكل الطعام السخن جدا، وذلك- والله أعلم- لأنه من فعل المتعظمين الذين يروعون أنفسهم عن أن يكربوا. أصبعهم بالطعام، حتى إن منهم من يرفع اللقمة إلى فيه بطرف سكينه، ولا خصلة أقبح ولا أسوأ ولا أخوف من أن يوجب لصاحبها زوال نعم الله تعالى، وحلول سخطه عليه من أن يترفع عن مس رزقه الذي جعله الله قوام بدنه ومادة روحه. وهو لو أمكنه السجود عليه، لكان ذلك أهل، وليس يبعد أن يكون ذلك من سوء جواز النعم الذي حذره النبي صلى الله عليه وسلم، على ما بلغنا من عائشة، وقال لها: (يا عائشة احسني جوار نعم الله تعالى، فإنها قل ما ذهبت عن قوم فعادت إليهم).

وأما إذا كان اللحم لم يتكامل نضجه، وكان صلبا، فلا بأس أن يقطع بالسكين. وهكذا إن أكل الرجل مع غيره، فكان كل واحد منهما لا بأس أن يكره صاحبه آثار أصبعه التي يأكل بها أن يغوص بها في اللحم، فأمر بتقطيعه. فهذا عين ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقطع الخبز بالسكين لنهي النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون هذا لأنه من فعل الأعاجم والمترفين. ويحتمل أن يكون النهي عن أن يقطع شيء به، لأن الهشم يكون أنعم وأشد تشربا للمرق من المقطوع، ويحتمل أن يكون لأنه تكليف غير محتاج إليه. لأن الكسر يغني عنه. وإنما يحتاج إلى السكين حيث لا يقوم غيره مقامه. ألا ترى أن إلقاء الحوت إلى البر لما كان كافيا لركوبه لم يحتج معه إلى استعمال الحديد، فهكذا هاهنا. وينبغي إذا فرغ من الطعام وفي أطراف أصابعه بقايا من الطعام أن يلعقها، أو يلعقها صبيا أو صبية، أو من يعلم أنه لا يتقذرها من زوجته أو أمته. فإن الذي بقي على أنامله من الطعام لا يجوز تضييعه. فإن غسله أو مسح به منديلا فقد ضيعه. ويروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسحن يده بالمنديل ولا بالثوب حتى يلعقه، فإنه لا يدري في أي طعام. يبارك له). فأما ما يؤكل عليه، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى بطعام فقال: (ضعه بالحضيض، فإنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد). وعنه: (الأكل على السفرة، ولا بأس بالأكل عليها وعلى الموائد). فإن الحواريين لم يقولوا لعيسى عليه السلام: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء إلا وعاد بهم الأكل على الموائد، ولم يزل ذلك عادة جارية، لا يعلم أن أحدا أنكرها. وروى عن أصحابه الأكل على الموائد، ودل على إباحته. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذ أكل أحدكم طعاما فسقطت لقمة فليمط رابه منها، ثم ليطعمها فلا يدعها للشيطان). ومعنى هذا، لا يدعها فيفرح الشيطان بما نقص من طعامه، فإنه عدو له، يسره ما يسوءه.

فصل في الاحتياط للطعام حتى لا يدخل الجوف إل طيبه. قال نزل الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرض ثمود، فأسقط من آبار به، وعجنوا به العجين، فأمرهم أن يهريقوا ما أسقط من البئر التي كانت تردها الناقة. يحتمل أن يكون توفي ذلك الماء لأن ثمود دفعت الناقة عن شربها ظلما، فإنهم قتلوها حين أقبلت تريد الورد، وكان الماء قسمة بينهم، لها شرب ولهم شرب وأصابهم في عقوبة ذلك من البلاء والاصطلام ما قد عرف. ولم يزل ما يحدث بعد الماء الذي قتلت دونه يخلط به، وكلما حدث آخر اختلط الذي تقدم فلئن لم يكن الماء المسقي منه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عين الماء الذي دفعت الناقة، فقد كان مختلطا بماء اختلط، هكذا مد إلى أن يبلغ عين ذلك الماء، ولم يخل من أن يكون له به اتصال بعيد، وإن لم يكن به اتصال قريب، فلذلك توفاه من أن يكون بقي من غضب الله الذي غضب به لناقته ما ألقاه على ذلك الماء، فيظهر أثره فيمن طعم منه لا عن حاجة وضرورة. ويحتمل أن يكون أراد بذلك مؤاخاة يصلح عليه السلم، ومقاربته، ولا يطعم بأمر غلب على شرب ما فيه منها وصار ذلك سببا لبوار قومه، ولا أن يأذن لأصحابه في الاستقاء منها لئلا يستأثروا بما قد كان وقع عنه، والله أعلم. في التنظيف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام وفي يده غمر فأصابع شيء فلا يلومن إلا نفسه) يحتمل أن يكون معنى ذلك أن دواب الأرض ربما تتبع روائح الطعام، فإذا وفقت غمرا من نائم لم يؤمن أن يصيب منه وهو لا يشعر. ولعل منها دواب مسموم وآفات فيحدث بما يميز أصابع النائم، بها بعض ما يكره. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من رجل ريح لحم، فقال: (اغسل ريح هذا الغمر عنك) وروى أنه قال: (إن الشيطان خشاش نجاس فاحذروه على أنفسكم، ومن مات وفي يده غمر فأصابه فلا يلومن إلا نفسه).

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (الوضوء قبل الطعام ينفي الغمر وبعده ينفي اللحم) ومعناه -والله أعلم- ما ذكرت من إلمام بعض الحيوانات المضرة باليد الغمرة، والوضوء قبل الطعام بالماء وحده إن لم يكن باليد علق من الأذى، وبعد الطعام أيضا يختلف. فإن كان الطعام شئ يختلف لا يعلق باليد منه ما لا يزيله الماء وحده، والماء كاف. وإن كان دسما فالماء والأسنان أو الصابون. قال محمد بن بشر الأسلمي: حدثني أبي عن جدي، وكانت له صحبة، أنه أتى بوضوء بعد طعام طعمه، فغسل يديه فأخذ الأسنان بيمينه، فجعل الأعاجم ينظر بعضهم إلى بعض يتعجبون منه، وإذا علق بالأسنان لحم أو غيره من الطعام، فينبغي أن يخرج منها بخلاله ويرمي به. وليس كالذي يبقى على الأصابع فيعلق، لأن الذي يكون على الأصابع لا يتغير والذي يعلق بالأسنان يتغير. وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا بفيه أكل، فقال ما كان يدبر هذا؟ قال: تخللت بقصبه، فهاج بي فكتب بذلك إلى الآفاق، فنهاهم أن يتخللوا بالقصب. وفي هذا دليل على أنهم كانوا يتخللون بغيره فلم ينههم عنه. وبالله التوفيق. وأما الأشربة. فقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أحب الشراب إليه الحلو البارد. وأنه كان ينبذ له التمر بالغدة فيشربه عشيا، وينبذ له بالعشي فيشربه بالغداة ونهى عن الخليطين. أن ينبذ الزبيب والتمر معا، أو البسر والتمر معا. وروى أنه قال: (طعامان في شرب واحد) فكأنه عد من ذلك إسرافا، وهو كذلك لأن أحدهما يطلب الماء وبلغ به، أن يستلذ به، والآخر فضل وإسراف وتعطيل لمنفعته. ولكن هذه العلة لا تكمل للتحريم، ومن قال أن الخليطين حرام، قال: التخليط يشرع به الشراب إلى التغير فهو كالشروع في الإفساد. فلذلك نهى عنه وحرم. وليس ذلك كخلط أذرية وعلها بهما، وأخذا نقعا أو طبخا، لأن ذلك أمر لا بد منه في تعديل طباع بعضها ببعض. وهذا منه بذرا يأكل ما أسكر فهو حرام، قليله وكثيره، خمر كان أو غير خمر. وقد تقدمت رواية الأخبار في ذلك، وفيه الحد. لأن ما اختلف العلماء في تحريمه فلا يفسق شاربه ما لم يسكر. وإن كان محده كافيه حاكم والله أعلم.

من أكل أو شرب فليفعل ذلك بيمينه إن كانت سليمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد بيده اليمنى لطعامه وطهوره، لأن الناس يتبالغون في تنظيف الطعام والشراب، فليشرب الماء مصا. فإنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مصوا الماء مصا ولا تعبوه عبا، فإنه تكون منه الكبار) وقد يخشى ذلك منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتنفس إذا شرب ثلاثا، ويقول (هو أوى وأمرأ وأهنأ). وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب بثلاثة أنفاس. فيسمي ويشرب ثم يتنفس ثم يحمد الله. ويسمي ويشرب ثم يتنفس. ذكر ثلاث مرات، ويحمد الله ثم يقول: هو أهنأ وأمرأ. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا واحدا كشرب البعير، ولكن إذا شربتم، اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا شربتم واحمدوا إذا رفعتم) وروى أنه كان (إذا شرب تنفس مرتين، ولا يتنفس في الإناء) لأن البخار الذي يرتفع من المعدة أو ينزل من الرأس، وكذلك رائحة الجوف قد يكون بات كريها. فأما أن يعلقا بالماء فيضران. وأما أن يفسد السؤر على غير الشارب، لأنه يتقذر إذا علم به فلا يشربه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفخ في الشراب ولا يتنفس فيه. ونهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال له رجل يا رسول الله إني لا أروي من نفس واحد. قال: (فأبن القدح عن فيك ثم تنفس قال: إني أرى الغلاة فيه. قال: احرقها). وروى أنه نهى عن النفخ في اللحم للبيع. وذكر كليب الجرمي أنه شهد عليا رضي الله عنه نهى القصابين عن النفخ في اللحم، هو نظير النفخ في الطعام والشراب الذي جاء النهي عنه، لأن النكهة ربما كانت كرهة، فكرهت اللحم وغيرت ريحه. وقد عرف ذلك في التجاريب. ومما جاء في النفخ في الغناء قالت عائشة: استسقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بإناء فيه قذأة، فنفحته. فقال: (أهرقيه يا حميراء) فإن الشراب إذا نفخ فيه وقعت في الماء

فيفسده بذلك عليه. ويحتمل أن يكون المراد بالشيطان لرقة نفسها أي أنها قد تقع في الماء من النفخ فيفسد على مريد الماء لأنه يتقذره ويكرهه كما يكره الشيطان، ولا بأس بالشرب قائما. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم وهو قائم. وروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وابن عمر قال ابن عمر رضي الله عنهما كنا نشرب ونحن قيام، ونأكل ونحن نسعى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كره الشرب قائما لأنه داء، وقد كره ذلك علماء الطب ولم يأذنو فيه، وخصوصا لمن كانت في أسافله علة يشكوها من برد أو رطوبة، ولا يضع فاه إذا شرب عند قبض الإناء وعلى ثلمه إن كانت فيه. لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب في ثلمة الإناء، وقال: (فإن عليها شيطانا). وإنما أراد بالشيطان الأذى والوسخ الذي يعلق بالثلم في العادات. كما أمر إذا تثاءب الإنسان أن يضع يده على فيه لئلا يدخل الشيطان، وإنما أرد به ما عسى أن يمده النفس عن غبارة أو ذبابة إن كانت بالقرب، أو صوفة أو شعرة إن كانت في الهواء، فيما إذا علق بالفم، اضطرب منه النفس وغثيث، إلى أن يقذفه ويتخلص منه، ويشبه أن يكون سماه شيطانا لأنه مؤذي، مضر فشبهه به. كما يقال: للرجل الشجاع أسد، والبليد حمار. وقد يكون النهي عن الشرب من الثلمة لأن الماء لا ينزل منه كما ينزل من فم الإناء، لكنه يتفرق فيصب من حوافها ويبتل ثوب الشارب فيتأذى به، فكأن شيطانا هناك يكيده ويؤذيه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن اجتناب الأسقية. وقد قيل إنما نهى عن ذلك لأنه لا يطيب نفس كل أحد لشرب ماء اسأره غيره أو المتوضئ به، فلا يؤمن أن يفسد جميع ما في السقاء إذا شرب الشارب منه، وإنما نهى عن الاجتناب، لأنه كذلك يفعل ليسهل الشرب في الأسقية. وينظر في هذا الحديث من كتب غريب الحديث ومن ورد على نهر فليفرق بينه بكفه ولا يكرع فيه. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشربوا الكرع- ولكن يشرب أحدكم في كفيه) وقد يكون النهي عن هذا ليعلم الشارب كم شرب ولا يتعدى ولا يسرف لئلا يضره الماء. ولأن الماء ربما كانت فيه قذاة يجري بها الماء عند مد النفس إلى فمه وحلقه فيتأذى به وإذا أبصر بها في كفه أراقه وأخذ غيره وإن كان الماء في حوض صغير أو مستنقع فيتكاثر الناس عليها كريهاً، أرسلوا

فيه أنفاسهم فربما صار ذلك سببا لامتناع غيرهم من الشرب فيكونوا كمن يشرب من الإناء فيتنفس فيه فيمنعه بذلك من غيره. وأما إذا كان ذلك من نهر جار فهذه العلة زائلة والله أعلم. وإذا كان عند الرجل أصحاب عن يمينه وشماله، وشرب من لبن أو عسل أو ما كان من الأشربة المباحة، وأراد أن يشرك الحاضرين فيه. فليعطه للأيمن فالأيمن حتى إذا لم يبق منهم أحدا أعطى الأياسر. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا، وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه، وعن يمينه إعرابي، فأعطى للإعرابي فضله، ثم قال: (الأيمن فالأيمن). وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بقدح فشرب، وعن يمينه غلام أصغر القوم والأشياخ عن يساره، فقال: (ما كنت لأوثر فضل فيك أحدا يا رسول الله، فأعطاه إياه). ويحتمل أن يكون جلوس أصغر القوم عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان جلس عند طرف المجلس على يسار الطريق، ورفع الأشياخ حتى أجلسهم في الصدر وأجلس الأعرابي دونه مما يلي الطريق. فصار عن يمينه وصاروا عن يساره. ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم جلس في صدر المجلس ما كان يجلس أصغر القوم عن يمينه والله أعلم. فإذا كان الرجل ناحية يمين الذين يسقيهم فليكن آخرهم. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فذكر أن في الماء قلة، فقحموا عليه فجعل يسقيهم أو أمر بسقيهم، فجعلوا يشربون ويقولون. يا رسول الله اشرب، فقال: (ساقي القوم آخرهم). وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب علي وأسقي الناس، حتى بقيت أنا وهو، فقال لي: (اشرب. فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي، اشرب ثم اشرب، فقال: يا أبا قتادة، ساقي القوم آخرهم). ولا ينبغي أن تترك أواني

الطعام والشراب غير مغطاة وخصوصا بالليل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أغلقوا الباب وأطفئوا السراج، وأوكوا الأسقية بالليل وخمروا الطعام والشراب ولو أن تعرضوا عليه بعود). وفي حديث آخر. (إذا أخذتم مضاجعكم فغلقوا الأبواب وخمروا الطعام والشراب، فإنكم إذا نمتم جاء الشيطان، فإذا وجد الباب مفتوحا دخل، وإن وجد الطعام والشراب غير مخمر أكل وشرب) ومعنى هذا- والله أعلم- إن الشيطان وهو الفاجر الذي يبغي الغوائل ويترصد الفرص يأتي، فإذا وجد الباب مفتوحا دخل لينال ما يريد وإن وجد الباب مغلقا رجع ولم يصل إلى ما يريد. وقد يدخل في جملة الشياطين الهوام الساعية، فإن فيها أعداء للناس. وقد تطوف بالليل فإذا وجدت بابا مفتوحا دخلت، وإن وجدت بابا مغلقا تجاوزت وهي التي ينبغي إحراز الطعام والشراب منها، لأنها تنبع الروائح. فإذا جاءت فوجدت إناء مكشوف الرأس أصابت منه. وإن كانت من ذوات السموم فقد تنفث منها من السم، وخصوصا إذا كان ما أصابت منه لبنا أو شيئا فيه لبن. وإن لم تكن من ذوات السموم فقد يفسد الطعام أو الشراب روائح أفواهها حتى يصير مضرا، وإن لم تكن كالسموم وأكثر ما يمات الناس بمثل هذا السبب. وإن جماعة أكلوا من رائب فماتوا كلهم. وكان سببه أنه كان في إناء لم يخمر، فجاءت حية فأصابت منه وألقت فيه سمها، والأمر في الباب أبين من أن يحتاج إلى إطالة القول فيه والله أعلم. وأما أمره بإطفاء السراج فلأنه يشتعل من ناره. وقد قال أيضا: (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون). وقال: (فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت). ويحتمل أن معنى هذا أنه ربما يقلب القطعة من النار إلى جحرها. ولعل ذلك عند باب أو سرير أو حطب منضود. فربما اتقد منه واحترق البيت. ولم يكن البرد يشتد في تلك البلاد فتقع الحاجة إلى إمساك النار فلذلك نهى عنه. وأما حيث تمس الحاجة إليه فلا بأس به، وينبغي لمن يحفظ من شر الفويسقة بما يتهيأ

ويمكن والله أعلم. وقيل: إنما أراد بها أن يأخذ الفتيلة لدهنها، فيذهب بها إلى جحرها لتأكله. ومما يلحق بهذا الباب ذكر الطعام الذي يدعي إليه الناس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الوليمة أول يوم حق، والذي يليه معروف، وما يلي ذلك رياء وسمعة). وقال قتادة: دعي سعيد بن المسيب رضي الله عنه أول يوم فأجاب، واليوم الثاني فأجاب، ودعي اليوم الثالث فحصبهم وقال: اذهبوا أهل رياء وسمعة. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الرحمن بن عوف أثر صفوة فقال: (بم. قال: تزوجت. فقال: علي كم؟ قال: على وزن نواة من ذهب، أو نواة من ذهب. قال: أو لم ولو بشاة). وأو لم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء طعم، وإن شاء ترك). وهذا -والله أعلم- إذا ترك الطعام لفرد عهده بالطعام أو لشيء يشكوه. فأما إذا تركه ازدراء لأهله أو له نفسه، فهذا شر من التخلف والله أعلم. وكان ابن عمر رضي الله عنه، لا يدعي إلى وليمة إلا أجابها، وإن كان صائما وأجاب عثمان رضي الله عنه داعيا وهو صائم، فقال: إني صوم ولكني اختار، أحب الداعي وأدعو بالبركة. وروى أن رجلا أقل، فدعا الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم معه منهم إلا قليل. فقال أبو هريرة رضي الله عنه: يا أهل المسجد، والله لقد أصبحتم عصاة لله ولرسوله، وإذا دعي رجل إلى طعام فلا يأخذن معه من لم يدع له، فإنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فلا يستدعي أحدا) ومعنى هذا. لا يستعن أحدا بمن إذا حضر استحى صاحب الطعام أن لا يجلسه على طعامه وأما أن يستتبع من يحتاج إليه لخدمته، ولم يعرض الداعي لحمل مؤونته، فلا بأس بذلك. ولا ينبغي لمن دعي إلى طعام أن يطعم من ذلك لطعام من لم يدع إليه، ولم يجلس معه عليه. فإنه يروي أن سلمان رضي الله عنه دعا رجلا إلى طعام فجاء سائل فناوله كسرة، فقال: ضعها من حيث أخذتها، ما دعيتك في أن يكون الأجر لغيرك، والوزر عليك، إنما دعوتك لتأكل. وهذا يحتمل أن يكون من سلمان لأن المدعو كان لا يأكل. فلما حضر

السائل ولم يرهم يعطونه أعطى. يعني أني أوثر السائل عن نفسي ما كنت آكله، فلا يشقن عليكم. فكان ذلك محلا لسلمان فيشقى عليه تجهيله. فكان ما تقدم منه من يتخيله. وإذا أكل الناس عند رجل، فينبغي لهم أن يدعوا له بالحمد. وروى أن أبا الهيثم بن النبهان، صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه طعاما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلوا: ثم قال: أثيبوا أخاكم. قالوا وكيف نثيبه يا رسول الله؟ قال: إن الرجل إذا أكل طعامه وشرب شرابه ودعى له بالبركة وذلك ثوابه). وروى عن عبد الله بن بشر رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي على بغلة له بيضاء، فأخذ أبي بلجامها. فقال: انزل علي. فنزل عليه. فأتى بتمر وسويق، فجعل يأكل منه ويلقي نواه بإصبعيه -يعني السبابة والوسطى ثم قرب إليه الطعام، فأكل منه ثم أتاه بقدح فيه شراب، فشرب منه ثم أعطاه الذي عن يمينه. فلما أراد الرحيل، قالوا: يا رسول الله، ادع لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم). ومن دعي إلى طعام فقدم إليه طيب فلا يرده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تردوا الطيب، فإنه طيب الريح، خفيف الحمل). وقال أنس رضي الله عنه: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليه الطيب قط فرده.

الأربعون من شعب الإيمان وهو باب في الزين والملابس والأواني وما يكره منها

الأربعون من شعب الإيمان وهو باب في الزين والملابس والأواني وما يكره منها وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشار إلى الذهب والحرير، فقال: (هذا حرامان على ذكور أمتي حل لأنائها). وكان الرجال والنساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسون القطن والكتان والصوف والفراء والبرود وعين رسه، ولم يبلغنا أن أحدا منهم منع عن شيء من ذلك. فثبت أن ماعدا الابريسم وما يكون يستحبه منه، ولما يصاغ من الذهب فهو مباح، فلا ينبغي للرجل أن يلبس ديباجا ولا ثوبا من الفرو الابريسم، لأن كلا كالحرير. ولا أن يلبس قلادة فيها ذهب ولا سوار ولا تاجا ولا قرصا من ذهب كما يروي عن بعض ملوك العرب أنه كان يتحلى بقرص. وعن الأكاسرة أنهم كانوا يلبسون الأساورة والتيجان وكانت العرب تلبس العمائم. وتقول: العمائم تيجان العرب. قال: وأهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سترا مضلع بقن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا من لباس النساء فشقه بأربع شقق، ثم قسمها بين نسائه) وقال علي رضي الله عنه: أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة سبداء فبعث بها إلي، فخرجت فيها، فعرفت الغضب في وجهه، فأمرني، فأطردتها بين نسائي. ودخل على عبد الله بن مسعود صبيان له عليهما قميصان من حرير، فشقه عليهما، ثم قال: هذا للنساء وليس للرجال. فأما الثوب ينسج من إبريسم وخز، أو ابريسم وقطن، فقد روى عن الحسن قال: دخلنا على ابن عمر رضي الله عنهما، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، أن ثيابا هذه قد خلطها الحرير وهو قليل. قال: دعوا قليله وكثيره.

وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون ما سداه خز، ولحمته إبريسم، أو سداه إبريسم ولحمته خز. فهذا صحيح، لأن الثوب لا يكون لباسا بالسدى واللحمة معا. فلا معنى لفرق من فرق بينهما، فأجاز اللبس إن كانت اللحمة غير الابريسم، والسدى ابريسما. ولم يجز إذا كانت اللحمة إبريسما والسدى غير إبريسم، وهما معا وكان الثوب، لا يكون الثوب قويا ولا اللباس لباسا إلا بهما. ويدل على صحة هذا ما روي عن علي رضي الله عنه قال: أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة سداها حرير ولحمتها مسبرة، فأرسل بها إلي، قلت: يا رسول الله ما أصنع بها، أألبسها؟ قال: لا، إني لا أرضى لك ما لا أرضى لنفسي إجعلها خمرا بين فاطمة أمك، وفاطمة ابنتي مسبرة) وهي السبراء برود اليمن. وإنما العفو في هذا العلم في الثوب، يروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت لنا كطيفه كنا نقول: إن علمها حرير، فما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبسها قط. وعن عمر رضي الله عنه قال: السوا من الحرير قدر اصبعين، فيكون جماعهما قدر أربعة أصابع، وذلك هو المراد بما يروي عنه أنه قال: أو مثل الكف، لأن الكف فيها أربعة أصابع. والمعنى أن يكون على الكمين ما إذ أجمع لم يجاوز الكف. ولذلك إن كان الثوب من كنان فخيط بابريسم لم يحرم. وأما الخز ينسج من وبر وابريسم، فقد يحتمل أن يفارق ذلك الحلة ينسج من قطن وابريسم. لأن الابريسم يستعمل في الحلة للزينة فيصير الثوب مقصودا للابريسم الذي فيه. ويستعمل في الخز أحكام للنسج ولا يظهر في وجه الثوب، ولا يصير الثوب مقصودا لأجله، وإنما يقصد للوبر، فكان الفرق بينهما كالفرق بين الإناء الذي يصيب بالفضة للزينة، ولذي يصيب للإصلاح ولم الشعب والله أعلم. وأما منع الرجال من لبسه من الديباج والحرير، فجلوسهم عليه وإفراشهم إياه وتوسدهم له كلبسه. وروي أن عليا رضي الله عنه أتى بسرج عليه ديباج فأبى أن يركبه. وقال ابن سيرين: قلت لعبيدة: افتراس الديباج كلبسه؟ قال: نعم، ولا ينبغي لأحد أن يوسع لباسه أكثر مما يحتاج إليه وذلك أن يحترز فيه من البحر، وإذا انقلب فيه أو ركب به. ولا أن يطيل كمه أو يرسل ذيله فوق ما أذن له فيه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن

يجر الرجل ثوبه خيلاء. قال: بينما رجل يمشي فأعجبته نفسه فخسف به، فهو يتمامل فيها إلى يوم القيامة. وظاهر ذلك أنه أعجب بثيابه التي كان لابسها لأن الرجل لا يمشي عاريا، فيعجب نفسه. ويروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) وفي ذلك أنه إفساد الثوب وإضاعة له، وإسراف في استعماله مع ما يتوصل به من البذخ والخيلاء وارية الضعفاء أنه يجد من الفضل عن حاجته ما لا يجدونه من قدر حاجتهم وكل ذلك حرام قبيح. وقال حذيفة رضي الله عنه أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضلة ساقي أو ساقه. فقال: (هذا موضع الإزار، فإن أبيت فأسفل، وإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فلاحق للإزار في الكعبين). وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إزرة المؤمن من أنصاف ساقيه، لا حرج عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما أسفل من ذلك ففي النار. حر إزاره نظرا لم ينظر الله إليه يوم القيامة). وقال ابن شهاب: رأيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قميصه وإزاره إلى أنصاف ساقيه وأسفل فليلا. وقال طاوس: كان من أدركت يسرون الإزار ثم يجعلون القميص فوق الإزار، ويجعلون الرداء فوق القميص. رأى عمر بن الخطاب رجلا طويل الكمين، فقال: مد يديك، فأخذ الشفرة فقطعه حيث يثبت يده. واشترى علي رضي الله عنه قميصا فقطع من كميه، فاتصل عن يديه ثم قال لرجل خصه: أي حط مواضع القطع منه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا لبس أحدكم ثوبا جديد فليقل: الحمد لله الذي كساني ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استجد ثوبا اسماه بااسمه عمامة أو قميصا أو رداء، ثم يقول: (اللهم

لك الحمد، أنت أكسوتنيه، اسلك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له). وروى قال: كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى أحدهم على أخيه ثوبا قال: سل، ويخلف بالله، ولا ينبغي لأحد أن يلبس شهرة من الثياب. قال زيد الشامي: كان يكره الشهر بين الملبوسين. المرتفع والمنخفض. وقال عطاء بن أبي رباح: أن الله يحب العبد فيلبس الثوب المشهور فلا ينظر إليه حتى يضعه. وعن عائشة رضي الله عنها أنها لبست درعا جديدا فجعلت تنظر إليه، فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: أما تظنين أن الله تعالى يراك. ووجه الكراهية في هذاا- والله أعلم- أنه يلبس الرجل المشهور ليأتي غيره مشابه إذا نظر الناس إليه لم يروا أحدا يشبهه في كسوته، وامتدت الأبصار كلها إليه، وعرفه لذلك من لم يكن يعرفه قبله، فإذا لقيه نظر إليه من نفسه فاستشعر من ذلك خيلاء وفخرا على من ليس في مثل حاله. فأما من وسع الله عليه ووفقه لأن يوسع مما عنده من المحاريج، فلبس المشهور ليرى أثر نعمة الله عليه، لأن الغرض سوى ذلك وسعي فيه إلى طاعة الله، وجوب أن لا يكون في ذلك بأس والله أعلم. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا سيء الهيئة فقال: (لك مال؟ قال: نعم من أنواع المال، قال: فلير عليك فإن الله تعالى يجب أن يرى أثر نعمته على عبده حسنا، ولا يحب الوسواس والوساوس) وفي الجملة فإن الصحابة كانوا متفاوتين، فمنهم من يلبس فيحسن، ومنهم من لا يلبس وقال بكر بن عبد الله المزني. كان الذين يلبسون لا يطعنون في الذين لا يلبسون. والذين لا يلبسون لا يطعنون على الذين يلبسون. وأما الوسخ في الثياب ليس مما يتقرب به إلى الله تعالى. وقال جابر رضي الله عنه: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرا، فرأى رجلا شعثا قد تفرق شعره، فقال: (ما كان هذا يحد ما يسكن به رأسه) ورأى رجلا عليه ثوب وسخ، فقال: (أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه).

فأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (البذاذة من الإيمان) فإنما هو-والله أعلم- أن لا تقعده البذاذة من الطاعات، فلا يمتنع إذا ساءت حاله عن الجماعات والجمعة، ولا عن مجالس العلم لأجل رثاثة كسوته وسوء هيئة لباسه. ولكنه يصير على ما هو فيه، ويحمد الله عليه، ولا يستشعر منه خجلا وحياء، فذلك إن شاء الله هو الإيمان دون الرثاثة نفسها، واالله أعلم. ولا ينتعل أحد وهو قائم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. وقال يحيى ابن أبي كثير: إنما كره ذلك من أجل العنث والعنث الضرر، فيحتمل أن يكون المرا أن لا تزل قدمه خلال اللبس فيسقط. وهو عبارة عن اشتمال الضفاء في اللباس، فقد وري نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الضفاء عند العرب. أن يشتمل الرجل بثوبه، يخلل به جسده كله، ولا يرفع منه جانبا، فيخرج منه يده وإنما ينهي عن هذه الهيئة قال: قد يصيبه شيء فيحتاج فيه إلى يديه فلا يقدر عليه لإدخاله إياهما في ثيابه. وقال الفقهاء: هو أن يشتمل بثوب ليس على غيره، ثم يرفع أحدهما بينه، فيضعه على منكبيه فتبدو منه فرجة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسدل عمامته بين كتفيه. وفي حديث آخر. كان يعتم ويزجي العمامة من خلفه، فلا يلبس رجل شيئا من ثياب النساء، ولا تلبس المرأة ثياب الرجال يتبذخ بذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنسا، والمتشبهات من النساء بالرجال). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لبس حدكم نعليه فليبدأ باليمنى، وإذا خلعهما فليبدأ بالشمال وليخلعهما جميعا أو لينتعلهما). ووجه الابتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة، لأنه للبدن وقاية. فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدئ بها في اللبس، وأخرت في الخلع، لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر. وأما نهيه صلى الله عليه وسلم أن يمشي الرجل في نعل واحدة، وقوله: (لينتعلهما جميعا أو ليحفظهما جميعا). فقد يحتمل أن يكون وجهه إن ذلك معنى المسألة، كما لو لبس خفا أحمر، وخفا أسود، ونعلا عربية، ونعلا أعجمية. أو خضبت نصف لحيته وترك نصفها، أو حلق بعض رأسه وخرج كذلك على الناس حاسرا. لكان هذا كله من باب يلعب الرجل بنفسه

وهو قريب من الذي يفعل أو يقول، ليضحك به الناس، فلا ينبغي تعاطي شيء من ذلك والله أعلم. وقد روي أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها بصبي صغير، وفي إحدى رجليه خلخال من ورق، وفي الأخرى خلخال من حديد، فعمدت إلى الحديد فكسرته، وقالت: ألا من شيء واحد. وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره أن لا يطلع من نعليه شيء من قدميه. وأن نعليه كانتا مخصوفتين له قبالان وقال عمر بن الخطاب رضي اللهعنه ائتزروا وانتعلوا وقاتلوا من المغالب وذروا التنعم وذي العجم، وعليكم بعيش مغذ، ورأى على رجل خفا ساذجا غير مبطن، فولى رجله حتى كاد يكسرها .. ونهى الناس عن لبس الخفاف الرقاق. ثم قيل أنها أثبت في الركب، فأذن فيها. لا ينبغي للرجل أن يمشي في إحدى نعليه أو إحدى خفيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. وقال: (لينتعلهما جميعا أو ليخفهما جميعا). وهذا -والله أعلم- لما فيه من القبح ولشهرة. وكل لباس صار صاحبه به شهرة في القبح فحكمه أن ينفي ويتجنب، لأنه في معنى المسألة، والله أعلم. ولهذا لا يحل لأحد أن يحلق لحيته أو حاجبيه، وإن كان له أن يحلق شيئا له، لأن يحلق الشارب تأويلا، وهو أن لا يعلق به من دسم الطعم ورائحة ما يكره. وأما حلق اللحية فهجنة وشهرة وتشبه بالنساء فهو كحب الذكر ما عرفنا، لفرق المعنى بينهما، كذلك ما ذكرنا والله أعلم. ولا ينبغي أن يلبس من الثياب ما صور منها ذوات الأرواح، ولا أن يتخذ منها ستور فتعلق على الأبواب. وإن كان في موضع صلاة شيء منها أمام المصلى، فينبغي أن تنحى أو يعزل المصلى عن جهته فليستقبله بصلاته. وكذلك ازر البيت لا ينبغي أن يكون من صور ذوات الأرواح. فأما ما يداس بالأقدم فلا بأس بها منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صور تماثيل) وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي مسترة بقرام فيه صور

وتماثيل، فتلون وجهه، ثم أهوى إلى القرام فهتكه بيده، ثم قال: (من أشد الناس عذبا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. أتاني جبريل فقال (إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه في باب البيت تمثل رجل، وكان في البيت قراك ستر فيه تمثال، وكان في البيت كلب. فمر برأس التماثيل التي بباب البيت فلتقطع فتصير كهيئة الشجرة. ومر بالستر فليقطع وتجعل منه وسادتان منبوذتان، ومر بالكلب فليخرج. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) وكان الكلب جرو للحسن والحسين رضي الله عنهما يحب مصلاهم فأمر به فأخرج. وجاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: إني إنسان معيشتي من صنع يدي، وإني إصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: (من صور صورة فإن الله يعمل يوم القيامة حتى ينفخ فيه الروح، وليس بنافخ فيها أبدا).فرب الرجل ربوة شديدة واصفر وجهه فقال: ويحك، أن أبيت إل أن تصنع، فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه الروح. فقالت عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله تعالى) يعني المصورين. وقال عطاء في التماثيل في البيان: أما ما كان من صور فلا، وأما ما كان من مبسوط يوطأ أو يتكأ عليه فلا أرى به بأسا. ويروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها تماثيل الرجال والطير. وأما تماثيل صورة الأشجار فلا بأس بها، لأن صور الحيوان إذ قضيت شبهت للأصنام التي يبقيها عبادها للسجود لها. فلا ينبغي للمسلم أن يقبل بالكفار. والشجر مباين منها في ذلك لأنه لا يشبه الأصنام، فإن نصب، فإنه ليس في الأصنام صنم يعمل على صورة الشجر، وإنما تعمل كلها على صورة ذي الروح والله أعلم.

وأما ألوان الثياب، فإنه يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الخضرة ويكره الحمرة وقال: (الحمرة من زينة الشياطين، فإن الشياطين يحبون الحمرة) وقال: (لا أركب الإرجوان ولا القسي ولا ألبس ثوبا مكفوفا بحرير). وقيل في قول الله عز وجل في قصة قارون. فخرج على قومه في زينته. قال خرج في ثياب حمر على بغلة شهباء عليه سرج الأرجوان. ومعه أربعة آلاف مقاتل وثلاثمائة جارية كلهم في ثياب حمر على بغال شهب بروح الأرجوان. وقال البراء رضي الله عنه: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنابر الحمر والقسي. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أنه كان يلبس اليمنية والقطن والكتان، وقال: (خير ثيابكم البيض فألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم). وكان ابن مسعود رضي الله عنه يلبس الثياب البيضاء، وأما الثياب المصنوعة فكل ما كان صنعه ورسا أو زعفرانا أو عصفرا فهو للنساء، ولا ينبغي للرجال أن يلبسوه. نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل: وقال عمروا بن العاص رضي الله عنه هبطت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر، وعلى ريطة مضرجة بعصفر، فقال: ما هذا عليك؟ فعرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كرهه، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم، فألقيتها فيه، ثم أتيته من الغد، فقال: (ما فعلت الريطة؟ فقلت: سمعتك يا رسول الله تقول (كذا) فظننت أنك كرهتها، فوجدت أهلي يسجرون تنورهم فأحرقتها، فقال: (هلا كسوتها بعض أهلك). فقال بان شهاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تناموا في الملاحف المعصفرة فإنها محتضرة). وروى أن غر بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذ إنقاض ورق فاتين عليه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنقا من ذهب. وقال حماد: رأيت المعرة بن عبد الله أمير الكوفة قد شد أسننه بذهب، فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: لا بأس به

وكان موسى بن طلحة يذهب أسنانه بذهب، ولا يحل لرجل أن يتخذ خاتما من ذهب. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده) فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم. خذ خاتمك انتفع به. فقال: والله لا آخذه أبدا. فأما على الورق فإنه روى أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنهم لا يقرأون كتابا إلا مختوما- أي العظماء الذين كان يكتب إليهم بالدعوة- فاتخذ خاتما من فضة نقشه "محمد رسول الله". وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل فص خاتمه في بطن كفه. ونهى صلى الله عليه وسلم عن الخاتم في السبابة والوسطى، ولا بأس بتختم الرجل بيمينه أو بشماله. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتختم بيمينه وذلك أحسن، لأن اليمين أحق بالتحلية والتكرمة من الشمال، إلا أن الناس مالوا إلى التختم بالشمال، لأنه يحتاج في التختم إلى إلباس الإصبع الخاتم. ثم تدعو الحاجة إلى نزعه، والإلباس والنزع واحد منهما فعل يعلم أن تعاطيه باليمين أخف وأيسر منه بالشمال، فجعلوا اللبس والنزع (باليمين) والشمال للإمساك. ولولا هذا لم يكن لتخصيص الشمال بالخاتم معنى والله أعلم. وروى أبو ريحانة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عشرا (الوشر والوشم ومكاعمة الرجل للرجل بينهما ثوب، ومكاعمة المرأة للمرأة ليس بينهما ثوب، وخط من حرير على العاتقين، وخط من حرير على أسفل الثوب، والنمر- يعني جلد النمر- والميتة، والخاتم لا لذي سلطان). وعنه صلى الله عليه وسلم. (لعن الله الواشمة والمستوشمة، والواصلة والموصولة). وقد يجوز أن يكون أراد بهذه الخطوط بشقف الحرير يحاط على وجه الكسوة، ولعل النهي عن ذلك إذا كان الثوب معلما بالحرير، فإذا انضم إلى العلمين خطان على العاتقين، وخطان على أسفل الثوب كثر الحرير، وصار المقصود من ذلك الثوب ما فيه من الحرير

دون نفسه. وأما جلد النمر فإنه حرمه لشعره، فإن شعر الميتة نجس، والدبااغ إنما يكون للجلد فلا يظهر غيره. وأما الخاتم لغير ذي سلطان، فيحتمل أن يكون المراد به ذو السلطان، ومن في معناه، لأن السلطان يحتاج إلى الخاتم ليختم به كتبه، ويختم به على أموال العامة، فكل من كانت بينه وبين الناس معاملات يحتاج لأجلها إلى المكاتبة، وعنده من ماله أو من مال غيره، وما يحتاج إلى الخاتم إلى الختم عليه للمبالغة في تحفظه، فهو في معنى السلطان، وله إمساك الخاتم. وأما من لا يمسك الخاتم إلا للتحلي به دون غرض آخر يكون له، فهذا الحديث أوجب أن يكون ذلك من الفعل الذي يدخل الخلااء منهي عنه والله أعلم. والتحريم هو المنع، فقد يجوز أن تكون هذه العشرة ممنوعة ثم يكون المنع عن بعضها تنزيها، وعن بعضها تحريما، ويكون النهي عن التحلي بالخاتم بعد أن لا يكون من ذهب إلا لذي سلطان تنزيها والله أعلم. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان له خاتم من حديد. وعن الحسن وابن سيرين وقتادة وإبراهيم والشعبي وعبد الله بن أبي الهذيل أن خواتمهم كانت في أيديهم اليسرى، ولم يحفظ عن أحد يحمد التختم لغير ذي سلطان فيشبه أن يكون المراد بالحديث ما ذكرنا والله أعلم. ومعنى الفرق بين الرجال والنساء في الذهب والحرير أنهن خلقن مستمتعا للرجال، فجعل لهن أن يتزين على أعين أزواجهن بما يقدرون عليه، ليكون ذلك أوفر بحظوظ الأزواج منهن، وحظوظهن منهم. كما جعل لهن أن ينقشن أكفهن وأقدامهن ولم يجعل ذلك للرجال. ولا ينبغي لأحد أن يحلي لجام فرسه بذهب ولا فضة، وذلك مخالف لأن يتختم بالفضة، أو يحلي سيفه ومنطقته بفضة. فيجوز لأنه جعل له من حلية الفضة في سيفه ومنطقته ما قل، ولم يدخل في حد السرف، ويمكن مجاوزة ذلك أن حلية الدابة سرف، لأن الدابة حاملته، فلا تكون حليتها حلية له كالخاتم وهو بجراب مصحفه، وسيفه ومنطقته. ولا يحل لرجل ولا امرأة أن تشرب أو تأكل في إناء من ذهب أو فضة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يخرجه من جوفه نار)

جهنم). ولقوله: (لا تشربوا في الذهب والفضة، ولا تلبسوا الحرير والديباج) وقال: (هما لهم في الدنيا، وهما لكم في الآخرة). وقال عمرو بن العاص: من دخل في بلاد العجم، فصنع مثل دورهم وتنقد خاتمهم وقبلته بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة. ونهت عائشة من نصب الأقداح وتحليتها بذهب أو فضة. وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سقى بقدح مفضض كسره. وكان أنس بن مالك رضي الله عنه على سابور. فأتاه دهقان بخاتم من ذهب أو فضة عليه خبيص، فأبى أن يأكله، فقالوا: هذا شديد عليهم. قالوا فحلوه على رغيف فأتى به فأكله. ولا يتخذوا أواني الطسوت والأباريق والقصاع والأطباق والموائد من ذهب أو فضة لأن ذلك من فعل الأعاجم وأهل الخيلاء والبذخ. وليس من أخلاق أهل الدين، ولأن فيه احتكار النقود وتضييعها على الناس، فلا يجوز. كما لا يجوز احتكار الطعام إذا اختفت منه الطبقة، فأراد تثبيت الإناء النفيس بالفضة فيجوز، فإن كان التفضض على فم الإناء، أو كان على جميعه، حتى لا يستطيع الشارب إلا عليه، فلا ينبغي أن يشرب منه. وإن كان على بعضه شرب من حيث لا فضة. وهذا إذا كان التفضض للام صدع أصاب الإناء. فأما إن كان للزينة فهو حرام، وأما أواني البلور والزجاج الثمين والخزع اليماني والمرصع والجواهر فلا بأس بها، وتركها أولى. ولا ينبغي لأحد أن ينتف المشيب أو نحوه, روى أن حجاما كان يأخذ من شارب النبي صلى الله عليه وسلم فرأى شيبة فأراد أخذها فنهاه. وقال: (الشيب نور المسلم) وقال لسعيد بن المسيب رأى أبي إبراهيم عليه السلام. (الشيب فقال: أي رب، ما هذا قال: وقار. فقال: أي رب، زدني وقارا). وعن سليمان بن إبراهيم صلوات الله عليه لما شاب بعض رأسه كره البياض، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه أنه عبرة له في الدنيا ونور في الأخرة,.

وعن أنس رضي الله عنه أنه كره أن ينزع الرجل البياض من لحيته أو رأسه. وأما إبراهيم عليه السلام فإنه كره النتف، ولم ير بأسا بالجز، ولعله ذهب في ذلك إلى أن قليل الشعر ككثيره، والكثير كشعر الرأس يحلق ولا ينتف، فكذلك البياض إذا كره خلال السواد كان كالأذى فيقطع ولا ينتف مثل شعر الرأس، وقد يفترقان. لأن نتف الشعر من جميع الرأس يؤلم ألما دائما متصلا فيكون الصبر على أذى الشعر أمكن من احتمال ذلك الأذى والشعرة والشعرتان والثلاث ليس فيها لم يسبق أحدا له، إنما هو آمن حصن، فكان نتفها وقطعها سواء والله أعلم. وأما الخضاب، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (غيروا ولا تشبهوا باليهود). وعنه صلى الله عليه وسلم: (أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوهم). وأما ما يخضب به، فإن أبا ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحسن ما غيرتم هذا الشيب بالحناء والكتم). وقال محمد بن سيرين سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لم يبلغ الخضاب. قلت: فيم خضب أبو بكر؟ قال: بالحناء والكتم. وكان عمر وأنس بن مالك وابن سيرين رضي الله عنهم يخضبون بالحناء. وقال عبد الرحمن بن الأسود: أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها تعزم علي أن أصبغ، فإن أبا بكر رضي الله عنه كان يصبغ. وفي بعض الروايات يعزم على أن أكتم بحناء وأختمهما ففعلت، وكنت قبل ذلك لا أفعل. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يطبخ له الورس والزعفران فيخضب بهما. وعن أنس رضي الله عنه كان أبو بكر رضي الله عنه يختضب بالحناء والكتم. وكان عمر رضي الله عنه يختضب بالحناء والكتم. وكان عمر رضي الله عنه يختضب بالحناء بحناء، قالوا: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما كان في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيب ما يخضبه، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في لحيته إلا سبع عشرة بيض. فأما الخضاب بالسواد فإنه يروى أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والسواد) وأنه أتى بأبي قحافة وكان رأسه ولحيته غمامة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (غيروا وجنبوا السواد). وسئل عطاء بن أبي رياح عن الوسمه، فقال: هو ما أحدث الناس. ورأيت نفرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما رأيت منهم من يصبغ بالوسمة، كانوا يخضبون بالحناء والكتم. فإن سئل سائل فقال: إذا كان نور المؤمن، فلم استحب تغيير، ولم لا كان الخضاب مكروها كما يروي عن سعيد ين جبير أنه قال: يعمد أحدهم إلى نور جعله الله في وجهه فيطفئه- يعني بالخضاب. فالجواب: أن ما جاء في تغيير الشيب، فليس يظهر أن يكون فيه غرض أكثر من الإظهار لليهود والنصارى في ديننا قبيحة، وأنه ليس علينا من الأغلال والإظهار ما كانت عليهم. وأنه إن كان في الناس من يكره الشيب، وإن لم يكن في وسعه دفعه، فقد جعل له تغييره. لئلا يرى في وجهه ما يكرهه. فأما السواد فيشبه أن يكون مطلقا للنساء أن يخضبن به لأجل أزواجهن. فأما الرجال فلا، لأن غرض المرأة أن تتصنع لبعلها وتريه رأسها إن لم يشب، وإنما هو كما كان، والرجال لا يخضبون لهذا وإنما يخضبون لئلا تقع أبصارهم من البياض على ما لا يحبونه، ولهم في غير السواد مندوحة عن السواد، الذي هو من حاجة النساء. وكان الأولى أنهم أن لا يتشبهوا بهن فيه والله أعلم. وقد روى أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن تسويد الشعر، فقالت: لوددت لو أن عندي شيئا أسود به شعري. وهذا لأنها كانت محبوسة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن تحل لأحد بعده وكانت لعامة المؤمنين أما، فلم يكن يقع ذلك منه موقع الشرف إلى أحد والله أعلم. وأما الأخذ من اللحية، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (حفوا الشوارب واعفوا اللحى) وهو ما جاء عن الصحابة في ذلك، فروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه يقبض على لحيته، فما فضل عن كفه أمر بأخذه. وكان الذي يحلق رأسه يفعل ذلك

بأمره ويأخذ عن عارضيه ويسوي أطراف لحيته. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يأخذ بلحيته ثم يأخذ ما جاء وراء العنفقة. وعن الحسن رضي الله عنه قال: لا بأس أن يأخذ عن طولها، وعن نواحيها، وعن طاوس رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ من باطن لحيته، وعن إبراهيم أنه كان ينتظر لحيته ويأخذ من نواحيها. وأما حلق الشارب فليس بمحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه. وقال أبو الضحى رأيت عروة بن الزبير وأبا سلمة بن عبد الله، والقاسم بن محمد، فلم أر أحدا منهم يزيدون على ما يصنع الناس. فأما الأخذ من الشارب فليس كالأخذ من اللحية، ولكنه سنة مؤكدة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يأخذ من شاربه فليس هنا). وسئل عمر ابن عبد العزيز عن السنة في قص الشارب فقال: أن بعضه حين يبدو الإطار يعني الخط الشاخص المحيط بالشفة بين بعض الشارب وبين ما ظهر من الشفة. ومن أمكنه إذا لم يحلق رأسه وأرسل شعره أن يكرمه ويتعهده بالدهن والمشط فليمسك منه مثل ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان يمسكه، فقد جاء عنه أنه كانت له جمة تغطي شحمة أذنيه. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم (من كان له شعر فليكرمه) وروى أن عمر رضي الله عنه نظر إلى رجل قد حلق قفاه وليس جزه، فقال: من تشبه بقوم فهو منهم وهذا لأنهم كانوا يكرهون فعل الأعاجم، وهذا منه. ويروى أن رجل دخل على محمد بن سيرين وله شعر طويل، فقال: هذا يكره، ثم دخل رجل عليه من الغرر وقد استأصله، فقال: وهذا يكره. وأما ترجل الشعر فإنه يرضي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يرجلن أحدكم إلا غبا). ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأرفاة، فقيل: لأن يزيده. وهو الذي يروي الحديث. أما الأرفاة قال الرجل: كل يوم. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا نابز الرأس

فقال: (إما أن تحسن إلى رأسك وإما أن تحلقه). وقال أبو قدأة رضي الله عنه: كانت لي جمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكرمها وأحسن إليها) فكان يرجلها يوما فيوما. وأما الفرق، فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد المشركين يفرقون. ووجد أهل الكتاب يسدلون، وكان إذا شذ في أمرين ولم يؤمر فيه بشيء صنع بما يصنع أهل الكتاب، وترك مل يصنع المشركون، ثم أنه ترك السدل، وفرق بعد ذلك، فكان الفرق آخر الأمرين. ووجه هذا الحديث أنه كان إذا علم جواز أمرين، ووجد أهل الكتاب على أحدهما، والمشركين على الآخر، اسستحب ما وجد عليه أهل الكتاب، وكان ذلك مرجحا عنده كما هم عليه على الذي يكون المشركون عليه، ولو شك في حرمة شيء وحله ما كان تابع أهل الكتاب عليه، لأن الله عز وجل لم يرسله إليهم ليكون تابعا لهم بل ليكون متبوعا. فبان بهذا أن وجه الحديث ما قلناه، وبالله التوفيق. وأما حلق بعض الرأس وترك بعضه، فقد روى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع. وفسره عبد الله بن عمر فقال: أن يترك الشعر في ناحيته وجوانب رأسه. وقال عبد الله بن عمر: فأما العضة والقفا للغلام فلا بأس بهما. والقزع المنهي عنه يشبه أن يكون لأنه من فعل الأعاجم. ومما يعدونه جمالا وهبة، وذلك باق فيهم عامة ولا يزال خاصة. وأما الذؤابة فقد اختلف فيها، يروى أن ابنا لعلي بن أبي طالب رضي اللهعنه كانت له ذؤابة. ويروى أن امرأة أدخلت ابنا لها له ذؤابة على عائشة رضي الله عنها وسألتها أن تدعو له، فقالت: حتى تحلقي يهوديته، وفي حديث آخر إن عائشة رضي الله عنها دخل عليها صبي أو صبية لها ذؤابة، فقاالت: خرجوا عنا هذه اليهودية.

والقول في هذا أنه كان معروفا من فعل اليهود، فلا ينبغي التشبه بهم، وكان تركه أولى من تغيير الشيب مخالفة لهم والله أعلم. وإذا حلق شعر الرجل أو قصره أو قلم أظفاره أو احتجم، فينبغي أن يدفن كلما تبين منه. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى يدفن الشعر والصفر والدم من الحيض والحجامة. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم ثم قال لرجل (ادفنه لا يبحث عنه كلب). وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم ثم قال لشقيته (اذهب به فشربه، ثم رجع فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم أجد موضعا أحرز من بطني فشربته. فقال: أما النار لا تصيبك ولكن لا تعيد).

الحادي والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في تحريم الملاعب والملاهي

الحادي والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في تحريم الملاعب والملاهي قال الله تعالى:} قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة {.نزلت في الذين انفضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتركوه قائما يخطب لأجل قدوم دحية الكلبي لتجارته من الشام، فكان خروجهم إليه ونظرهم إلى الغير لهوا، لأنه لا فائدة فيه، إلا أنه كان مالا مأتم فيه لو وقع على غير ذلك، لكنه لما اتصل به الأعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر ونزل فيه من القرآن وتسميته باسم اللهو ما نزل. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته لإمرأته فإنه من الحق). ومعنى هذا- والله أعلم- أن كل ما يلهو به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدة، فهو باطل والإعراض عنه أولى إلا أن هذه الأمور الثلاثة، فإنه وإن كان يفعلها على أنه يلهي بها ويستأنس ويبسط، فإنه حق لاتصالهما بما قد يفيد. فإن الرمي بالقوس، وتأديب الفرس جميعا من معاون القتال. وملاهيه للأهل قد تؤدي إلى ما يكون عنه ولد، يوحد الله ويعبده. فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق. ومنها اللعب بالنرد والشطرنج، وقد وردت فيها أخبار آثار. وجملة القول فيهما أن اللعب فيهما على شرط المال حرام بإيقاف، واللعب بهما على شرط المال يختلف فيه، وتحريمه عندي أشبه والله أعلم. جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النرد، فقال: (عصى الله ورسوله، عصى الله ورسوله، عصى الله ورسوله، من ضرب بكعابها يلعب بها).

وفي رواية ثالثة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يلعب بالكعاب فقد عصى الله ورسوله) وفي رواية رابعة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكعبين. وفي رواية خاامسة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لعب بالنرد فهو كمن غمس يده في لحم خنزير ودمه) ومعنى هذا عند أهل العلم، أي هو ككمن غمس سده في لحم الخنزير نهيته لأن يأكله. والجملة أن اللعب بالنرد كأكل لحم الخنزير. وفي رواية سادسة، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يلعبون بالنرد فقال: (قلوب لاهية والسنة لاعبة وأيد عاطلة). فإن قيل: ليس في هذاا أنه نهي عنه. قيل: قد يقدم من النهي ما يكفي به. وإنما هذا إنكار وتقريع وراء النهي. وقد يصلح بنفسه لأن يكون نهيا، لأن الله عز وجل إنما وصف الكفار بمثل هذا فقال:} لاهية قلوبهم {. ومعلوم أنه لم يذمهم بأن قلوبهم لاهية إلا وإلهاؤها بما ألهوها به محرم عليهم. فكذلك ذم النبي صلى الله عليه وسلم اللاعبين بالنرد، بأن قلوبهم لاهية، هذا سبيله. وكذلك للألسنة اللاعنة، لأن اللسان لم يخلق للغو، وإنما خلق للذكر، وقول الحق. فإذا اشتغل باللغو فقد عمل بما لا ينبغي أعماله به والله أعلم. وأما الصحابة، فإنه روي عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا وجد أحد يلعب بالنرد ضربه وكسرها، وأمر بها فأحرقت بالنار. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: اجتنبوا هذه الكعاب، يعني الموسومة التي تزخر زخرا فإنها من الميسر. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: مثل الذي يلعب بالكعبين ويقامر، مثل الذي يأكل لحم الخنزير. ومثل الذي يلعب بالكعبين ولا يقامر كمثل المدهن بشحمه ولا يأكل لحمه. وعن علي رضي الله عنه. لأن أقلب جمرتين أحب إلي من أن ألعب بكعبين، وأنه كان إذا مر بهم وهم يلعبون بالنرد ستر عقلهم نصف النهار. وقال قتادة رضي الله عنه: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اللعب بالكعبين فقال: (انها ميسر الأعاجم) وقال

طاوس: كل قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وقال مجاهد ومحمد بن سيرين، ويروي عن ابن الزبير أنه خطب بمكة فقال: يا أهل مكة، بلغني عن رجال من فشول قريش ظننت بهم رجالا من فشول العجم يلعبون لعبة يقال لها النردتين، وأن الله عز وجل يقول في كتابه} يا آيها الذين ءاامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه {حتى ختم الآية التي تليها، ثم قال: إني لأقسم بالله لا أوتي برجل لعب به إلا عاقبته في شعره وبشره وأعطيت ساقيه ممن أتاني به، وقد انتظمت هذه الأخبار الدالة على تحريم اللعب بالنرد قمارا، ودل بعضها على تحريمه بلا قمار. ومما جاء في الشطرنح حديث يروي فيه كا يروي في النرد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله). وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمجالس بني تميم وهم يلعبون بالشطرنح فوقف عليهم فقال: أما والله لغير هذا خلقتم، أما والله، لولا أن تكون سبة لضربت به وجوهكم. وعن علي رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير من أن يمسها وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال: هي شر من النرد. وقال أبو موسى الأشعري: لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ. وسئل أبو جعفر عن الشطرنج قال: دعونا من هذه المجوسية. وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج: هي من الباطل ولا أحبها. وقال علي رضي الله عنه: ستة لا يسلم عليهم. اليهود، والنصارى، والمجوس، والمتفكهون بسبب الأمهات، والشاعر الذي يقذف المحصنات، قوم قعود على مائدة يشرب عليها الخمر. وقال ابن عمر: إذا مررتم على أصحاب الشطرنج فلا تسلموا عليهم وكان إذا مر عليهم لم يسلم، وقال صالح الأودي قلت لإبراهيم: ما تقول في الشطرنج، فإني أحب اللعب بها؟ فقال إبراهيم: إنها معلونة فلا تلعب لها. قال: قلت إني أصير عنها، قال: فاحلف أن لا تلعب بها سنة. قال: فحلفت، فصرت عنها. وفي حديث طويل. قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم. أخبرنا بالأعمال التي يمقت الله عليها حتى ندعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي

بعثني بالحق أن من نام بالنهار ومن غير أن يكون مصليا بالليل مقته الله) وذكر الحديث إلى أن قال: (وأن من لعب بالشطرنج ولنرد والجوز والكعاب مقته الله. ومن جلس إلى أن يلعب بالشطرنج والنرد فينظر إليهم محيت عنه حسناته كلها وصار ممن مقته الله) وذكر الحديث إلى أن قال: (ومن جلس مع اللعانين والضرابين بالطنابير ويغنون عليها، وأعطاهم على ذلك من ماله مقته الله) وذكر الحديث إلى أن قال: (من أعطاه الله مالا وبسط له في الرزق وأكل وشرب بالضرب والزمر من اللهو واللعب مقته الله) والنظر يدل على تجنب اللعب بالنرد والشطرنج قمارا، او غير قمار. لأن الله عز وجل لما حرم الخمر، أخبر بالمعنى منها، فقال:} إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة {فهو كشرب الخمر، فأوجب أن يكون حراما مثله. فإن قيل: إن شرب الخمر يورث السكر، فلا يقدر معه على الصلاة، وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى. قيل: قد جمع الله تبارك وتعالى بين الخمر والميسر في التحريم ووضعهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس، ويصدن عن ذكر الله وعن الصلاة. ومعلوم أن الخمر إن اسكر فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله أن اقترافهما في ذلك يمنع عن التسوية بينهما في التحريم لأجل ما اشتركا فيه من المعاني. فكذلك افتراق اللعب بالنرد والشطرنج بشرب الخمر في أن شرب الخمر يسكر، واللعب لا يسكر، لا يمنع من الجمع بينهما في التحريم لاتفاقهما بما فيه من المعاني التي ذكرناها والله أعلم. وأيضا: فإن قليل الخمر لا يسكر، كما أن اللعب بالشطرنج لا يسكر، ثم كان حراما مثل الكثير. فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراما مثل الخمر، وإن كان لا يسكر. وأيضا: فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان

السكر فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر، فتصد بالإسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لأنه يغفل ويلهي، فيصد بذلك عن الصلاة. فإن قيل: والتجارة قد تلهي والنوم أيضا يحول عن الصلاة، ثم لا يجوز تحريمها. قيل: قد قلنا في ابتداء الاعتلال. أن اللعب لهو، وذكرنا أنه يوقع العداوة والبغضاء بين أهله، وليست التجارة ولا النوم بلهو، ولا بموقع عداوة بين الناس، فكيف ينتقض معنا بأنهما أو بأحدهما. فإن قال قائل عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال: وما الشطرنج؟ فقيل أن امرأة كان لها ابن وكان ملكا، فأصيب في حرب دون أصحابه، فقالت: كيف يكون هذا؟ أرأيته عيانا فعمل لها الشطرنج، فلما رأته تسلت بذلك. ووصفوا الشطرنج لعمر رضي الله عنه فقال: لا بأس بما كان من إله الحرب. وروى عن بعضهم قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمر بنا ونحن نلعب بالشطرنج فلا ينهانا. وعن أبي البسر كعب بن عمرو وكان شهد بدرا، أنه كان يراهم يلعبون بالشطرنج فلا ينهاهم فما أنكرتم أن يجوز اللعب بالشطرنج من غير قمار، لهذه الأخبار، ومعنى ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، التي كانوا يلعبون بها صورا ممثلة، فلهذا المنكر العكوف عليها، وفي هذا جمع من الأخبار فهي أولى من حملها على الاختلاف. فالجواب: أن الملاعب التي تسمى شطرنج يلحقها اسم التماثيل صورا كانت أم غير صور لأنها ممثلة ببني آدم وغيرهم من الحيوانات من أسمائها وشبهة بالمقابلة في مناحيها، فلم يكن لتأويل خبر علي على أن الذي لها صور مصورة وجه أدهى. وإن لم تكن مصورة فاسم التماثيل واقع عليها. وأما خبر عمر فلا حجة فيه، لأنه لم يقل لا بأس بالشطرنج، وإنما قال: لا بأس بما كان آلة الحرب. وإنما قال هذا لأنه شبه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب. فلما قيل له ذلك، ولم يحط به علمه ولا بخلافه. قال: لا بأس ما كان آلة الحرب،

أي إن كان كما يقولون فلا بأس به. وكذلك ما روى عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه، فإن ذلك محمول منه على أنه ظن أن ذلك ليس ينهي به، وإنما يراد به النسب إلى علم القتال والمهارة فيه، أو على أن الخبر المسند لم يبلغهم، وإذا صح الخبر فلا حجة لأحد معه. وإنما الحجة فيه على الكافة. فإن قال قائل: إذا كانت المسابقة بالخيل والبغال جائزة، وإن كان فيها ضرب من الخطر لأنه يستعان بها على القتال، ويستعد بهما للقاء العدو، فهلا قلتم أن اللعب بالشطرنج مباح لأنه يعلم به تدبير الحرب ويوقف به على كيفية استقبال العدو والاحتيال عليه والتخلص به. فالجواب: إن هذا المعنى غير صحيح، لأن من تدرب في الركض والرمي نفعه ذلك عند لقاء العدو ولا محالة فإنه يقوى بالركض على الطلب في وقته، والهرب في حينه، والتقبل على النكاية في عدوه، والدفع به عن نفسه وغيره، وليس اللعب بالشطرنج مثلهما، لأنه قد يجوز أن يحذق فيه التلاعب ويتهمر، حتى إذا وقع إلى لقاء العدو كان أحذق الناس بتدبيره وأجهلهم بوجه أمره، فصح أنه ليس فيه ماا ذكروا من الفائدة. وجواب آخر: وهو أن اللعب بالشطرنج لو كان يهدي إلى القتال، وصار ذلك من معاونه، لوجب أن يستحب ويندب إليه. فإن الله عز وجل يقول:} وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة {ولما أجمعت الأمة على أن تركه أولى من فعله ثبت أنه ليس في معنى السباق والنضال بالمال. وأيضا فلو كان في معناهما لجاز أخذ المال عليه، كما يجوز السباق والنضال بالمال، ولما اجتمع العلماء على أن أخذ المال عليه حرام، وأن اللعب بشطر المال، فما يصح أنه ليس كالسباق والنضال. وأيضا فإن الفائدة التي تدعى لها إن كانت فيه فهي معمورة بالمكان التي عمدناها فكانت كالخمر التي حرمها الله تعالى مع إثباته المنافع لها، لأن إثمها أكثر من نفعها، والميسر كذلك والله أعلم. وإذا ثبت أن اللعب بالنرد والشطرنج حرام، فحرام باللعب بالأربع عشرة، وكل لعب شاركهم في معناهما مثله. وروى عن عمر رضي الله عنه، أنه دخل على بعض أهله

وهم يلعبون بهذه الجهاردة فكسرها. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أحرقها. وعنه أنه مر على قوم يلعبون بها فكسرها على رأس أحدهم. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لأن أعبد صنما كان يعبد في الجاهلية أحب إلي من أن ألعب بذي العشرة. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يلعب بأربع عشرة فقال: ما هذا؟ قال الرجل. هي من الباطل. فقال ابن عمر رضي الله عنهما:} ويوم تقوم الساعة يومئذ نحشر المبطلون {. فصل وأما اللعب بالحمام فليس مما مضى، لأن الحمام يلعب بنفسه، لا أن صاحبه يلعب به ولا ينكره إلاا من حيث أن ذلك إن كان على سطح بيت لم يؤمن أن يكون من صاحب الحمام بإسراف على بيوت الجيران وحرمهم فينهي عنه لهذا. فإن لم يكن فيه من الفساد ولم يدمنه صاحبه ولم يشتغل به عن ذكر الله والصلاة، فليس يقع منه إلا إطارة الحمام حتى إذا كارت في الجو رآها واستأنس بها فليس هذا مما يحرم والله أعلم. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان لي من هذا الحمام المسرولة النعال فكنت ألهو بهن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل علي وأنا ألهو بهن، فلا يعيب علي. فصل وأما الرقص فما كان فيه شيء فقليل، حتى سائر أخلاق الذكور فهو حرام على الرجال وهو شر من التصفيق. وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء، فلا ينبغي للرجال أن يصفقوا، فأولى (أن) لا يكون لهم الرقص الذي ما فيه من التخنث أعظم مما في التصفيق منه.

وفيه- والله أعلم- علة أخرى تعم الرجال والنساء، وهو أن ذلك تلهى وعنت من المرء بجوارحه، وليس ذلك بمملوك لأحد من نفسه لأنه باطل، فالتلذذ بالباطل كالتألم بالباطل، والله أعلم. فصل وأما لعب الصبايا باللعب التي نسميها بالبنات، فإنهن لا يمنعهن منه ما لم تكن تلك اللعب أشباه الأوثان، فإن عمل منه من خشب أو حجر أو صفر أو نحاس شبه آدمي تام الأطراف، كالوثن كبيره، ولم يجز إطلاق إمساكه لهن. وأما إذا كانت الواحدة منهن بأحد طرفه فبلغها ثم يشكلها بشكل من أشكال الصبايا أو يسميها بنتا أو أما، ويلعب بها، فلا يمنع منه، ولهن في ذلك فائدتان: إحداهما عاجلة والأخرى آجلة. فأما العاجلة فالاستئناس الذي هو في الصبيان من معادن النشوء والنمو، فإن كان صبي كان أنعم بالا أصيب نفسا وأشرح صدرا، كان أقوى وأحسن نموا، وذلك لأن السرور يبسط القلب، وفي انبساطه انبساط الروح وانتشاره في البدن، وقوة أثره في الأعضاء والجوارح. وأما الآجلة فإنهن سيعلمه بها ما يؤمن من ذلك معالجة الصبيان وحبهم وحصانهم والشفقة عليهم، ويلزم ذلك طبائعهن حتى إذا كبرن وعاين لأنفسهن ما كن تسرين به الإمساك من الأولاد كن لهن بالحق، كما كن لتلك الأشباه بالباطل. وجاء في ذلك من الأمور عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلعب بالباب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكانت صواحبي يأتيني وكن يتمنعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر بهن إلي. فدل هذا الحديث على أن لأولياء الصبيان أن يطلقوا لهن اللعب بما يسميها البنات، ولا حرج عليهم في ذلك والله أعلم. والفرق بين اللعب وبين تصاوير ذوات الأرواح، أن تلك تجتهد في استتمام شبه ذي الروح فيها، فصارت كالأوثان، واللعب بخلافها. وأما الصبيان فكل لعب اشتغلوا به مما لا يخشى عليهم ضرر في العاجل

والآجل، ويظن أن فيه لهم انشراح صدر وتفرج قلب، فإنهم لا يمنعون عنه بالإطلاق. ولكن يحال بينهم وبين إدمانه ولا يمكنون منه على قوارع الطريق، وحيث ما يحدث من تعود اللعب فيه الوقاحة والهجنة والسقاطة ولا يطلق للصبي أن يخالطه إلا أقرانه، ولا يترك واللعب مع المهملين الذين لا أدب لهم ولا قوام عليهم. وروى أن رجلا سأل الحسن فقال: ادع صبيتي أو ابني أن يلعب؟ فقال: دعه وربيعه؛ والحسن وإن كان أطلق القول فيما سئل عنه والتقييد أولى به والله أعلم. ومن وجوه اللعب التحريش من الكلب والديوك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التحريش، أن يفعل ذلك بيده، فأحل له ولا يوسعه. وكذلك لا يجوز أن يفعله بهما إذ كل ذلك غير حق، والله أعلم.

الثاني والأربعون من شعب الإيمان وهو باب الاقتصاد في النفقة وتحريم أكل المال بالباطل

الثاني والأربعون من شعب الإيمان وهو باب الاقتصاد في النفقة وتحريم أكل المال بالباطل قال الله عز وجل:} ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا {. وقال:} وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا {. وقال في صفة الذين سماهم عباد الرحمن:} والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما {. فاشتملت هذه الآيات كلها على الأمر بالاقتصاد والنهي عن الإسراف، وكان موافقا للنهي عن الإسراف في الأكل والشرب. لأن الله عز وجل يقول:} وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين {. فإذا كان الإسراف في الأمل والشرب ممنوعا وجب أن يكون الإسراف في الإنفاق ممنوعا، لأن ذلك إنما يكون بصرف المال في أكثر ما يحتاج إليه من المأكول والمشروب، وذلك للأكثر ممنوع من أكله، فينبغي أن يكون صرف المال في الممنوع ممنوعا، وجد السرف في الأكل أن يجاوز الشبع ويثقل البدن حتى لا يمكن معه أداء واجب ولا قضاء حق إلا بتحمل على البدن. وليس السرف في الإنفاق كله ما ذكرنا، ولكن في المسكن والملبس والمركب والخدام من السرف مثل ما في الطعام والشراب. فإنما الإنفااق فيما يبقى وينمو، فليس بسرف كشري الضياع والمواشي للنسل، لأن هذا يغل وينمو فيزداد بما يصرف فيها أضعافه. ومما يدخل في جملة الإسراف والتبذير أن لا يبالي الواحد فيما يشتري ويبيع بأربعين أربعين فيبيع بوكس ويشتري

بفضل، لأن الإسراف ليس يقع في الثمن قط، ولكنه إذا أعطي من السلعة ما لا يبلغه الثمن فقد أسرف في البيع وبذر، كما أخذ منها ما لا يبلغ الثمن وينقص عن مقداره، فقد أسرف في الثمن وبذر. قال ابن عباس في قول الله عز وجل:} ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل {قال: الرجل يشتري المتاع فيرده، ويرد معه دراهم، وكل هذا ممنوع. وهذا الوجه هو الموجب للحجر. وكذلك الإنفاق في الملاهي والشهوات المحرمة من التبذير الموجب للحجر والوقف. وأما الوجه الذي قبل هذا، وهو أن يشتري الرجل طعاما أكثر من حاجته أو لباسا أو خادما أكثر من حاجته، فليس هذا من السرف الموجب للحجر والوقف، لأنه يستبدل بالملك ملكا يوارثه. وإنما يقع الإسراف منه في الانتفاع بما ملكه. فأما التملك فإنه قصد بغي فيه ولا سرف. وجاء في الاقتصاد في الإنفاق: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتري الخدر). وقد يحتمل أن يكون الإسراف فإن وجه الأرض إنما يشتري لأن الأقدام قد تنقل إليه ما يحتاج إلى التحرز منه. وقد يصر فيتعلق غباره بالثوب فينسج منه. وليس ذلك في الجدار، لأن الأقدام لا تبلغه، ولا يكون في الغالب عليه من الغبار اللاصق بالثوب ما يكون على وجه الأرض. فكان يتميزه داخلا في الإسراف إن كان لا يزاد إلا بالتنعم دون الحاجة. ويحتمل الحديث وجه آخر، أرى أنه أولى من هذا، وهو أن يكون النهي عن ستر ظواهر الحدود دون البواطن التي تلي موضع الشكر. ويكون وجه النهي إن هذا شيء خصت به الكعبة تعظيما لها لأنها بيت الله فلا تشبه غيرها بها. ولا يسرك غيره فيما هو حقها فيذهب بذلك تكريمها وتعظيمها. وعن الحسن قال: بينما مجاشع في المسجد إذ جاءه رسول من عمر رضي الله عنه: أما بعد فإنه قد بلغني أن الحصير قد سترت، فإذا جاءك كتابي هذا، فلا تضعه من يدك حتى تهتك ستورها. فقال لمن حوله: قوموا فانطلقوا، فتلقته امرأته. فقال لها: إليك عني إمضينني أمضك الله، ثم قال لمن معه: هتك رجل ما يليه. قال: فهتكت ستورها حتى وضعها إلى الأرض.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم فراشين، فأبي أن يضطجع إلا على واحدة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فراش للرجل وفراش لامرأته، وفراش للضيفة والرابع للشيطان). وعن الحسن رضي الله عنه، أن عمر رضي الله عنه دخل على عاصم وهو يأكل لحمًا فقال: ما هذا يا عاصم؟ قال: قرمت إلى اللحم، فاشتريت! قال: كلما قرمت إلى اللحم اشتريته، كفى بذلك سرفًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنفقتم على أهليكم من غير إسراف ولا إقتار فهو في سبيل الله). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: للخرق في العيشة أخوف عندي عليكم من العوز، لا يبقى مع الفساد شيء ولا يقل مع الإصلاح شيء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيلوا طعامكم يبارك لكم). وارتقى رجل إلى أبي الدرداء وهو في غرفة له، فذهب يدخل فإذا هو به يلقط الحب، فاستحى منه فرجع. فإن قيل: ما معنى قول الله عز وجل: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا، إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر}. والذي سبق إلى القلوب أن العلم بأن الرب مالك الأرزاق وهو الباسط المقدر يتعب العبد على التوسع في الإنفاق على الاقتصاد، بأن الاقتصاد خوف على المال. فإذا لم يكن تدبير الرزق على العبد، بل كان إلى ربه لم يعنه الاقتصاد. فكان التوسع الذي هو أطيب لقلبه وأنعم لعيشه أولى به. فالجواب: أن معنى ذلك أن ربك ليس يبسط الرزق لكل أحد، ولا يقدره على كل أحد. ولكنه قد يبسط وقد يقدر، فلا تجعل يدل مغلولة إلى عنقك، ولا تنفق شيئًا خيفة الأعسار. فإن ربك قد يبسط الرزق ما نفق، وأمسك أن يبسط رزقك، ثم قال: {ولا تبسطها كل البسط}. فتنفق ما تحتاج إليه فيما لا يحتاج إليه، فإن ربك قد يقدر

الرزق فلا تأمن إن استهلكت المال أن تكون ممن يقدر عليك. وفي هذا ما يبعث على الاقتصاد، ومنع من التقتير الذي دونه الإسراف الذي فوقه والله أعلم. فإن قيل: ولم كان الاقتصاد في النفقات من الإيمان؟ وهذا من باب تدبير المال! قيل: لأن الإسراف إذا كان ممنوعً كان نزله مما يتقرب به إلى الله عز وجل: والقرب كله إيمان. ولأن الاقتصاد يؤدي إلى معرفة حق المال الذي هو من أصل نعم الله تعالى. والإسراف جهل بقدر نعمة. ولأن المقتصد يجمع بين قضاء حاجته ومن حفظ ماله حتى إذا احتاج إلى مواساة غيره، قدر على مواساته. وإن وقع نفير قدر على الجهاد والإعانة عليه، وأي شيء عرض مما يكون الإنفاق فيه برًا كان منه بما عنده متمكنًا، كان ذلك من باب الاستعداد للبر والتقوى، فذلك في نفسه بره، فلهذا كان من الإيمان والله أعلم. والاقتصاد في كل أمر أفضل وأجمل من البغي فيه حتى في الحب والبغض، فإنه يروى عن علي رضي الله عنه، وقد رفعه الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أحبب حبيبك هونًا ما ... عسى أن يكون بغيضك يومًا ما وابغض بغيضك هونًا ما ... عسى أن يكون حبيبك يومًا ما

الثالث والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في الحث على ترك الغل والحسد

الثالث والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في الحث على ترك الغل والحسد والحسد الاغتمام بالنعمة يراها لأخيه المسلم والتمني بزوالها عنه، وقد يكون ذلك لا عن سبب كان من المحسود بمكان للحاسد فحمله على إساءة الرأي فيه. والغل إضمار السوء وإرادة الشر لمن كان بينه وبين المريد سبب يوقع مثله العداوة والبغضاء. لأن المراد به الشر إذا لم يكن بما يعدم طالعًا للمريد، كان ما يضمنه المريد له من الشر غلًا مذمومًا، فيقرن ذلك بالحسد، أو يزيد عليه. وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعوذ به من شر الحاسد إذا حسد. وذم اليهود على حسدهم المسلمين، فقال: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق}. وقال: {أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله}. فالحسد مذموم، والحاسد غير الغائظ، لأن الحاسد من لا يحب الخير لغيره، ويتمنى زواله عنه. والغائظ من يتمنى أن يكون له من الخير مثل ما لغيره. ولهذا جاز أن يقال في الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم ابعثه مقامًا محمودًا يغبطه به الأولون والآخرون). فإن المعنى: ابعثه مقامًا يتمنى كل واحد من الأولين والآخرين إن كان له مثله. ولو كان ذلك كالحسد ما جاز بهذا القول ولا حسن، وإنما كان الحسد مذمومًا، لأن الحسد يعد إحسان الله تعالى إلى أخيه المسلم إساءة إليه، وهذا جهل منه. لأن الإحسان الواقع

لمكان أخيه لا يضره شيئًا. فإنما عند الله تعالى ليس بنقص من ذلك فيخشى أن لا يناله منه بعد ما نال غيره نصيب، لكن ما عند الله واسع. وذا كان ذلك كذلك، فالأولى به أن يفرح بما يراه من آثار نعمة الله عند أخيه المسلم، ويشكره ويحمد عليه ويسأله أن يؤتيه مثله. فأما الاعتماد بما أكرم أخاه فليس له في المعتقد وجه. وأيضًا فإن إحسان الله تعالى إلى أحد الرجلين خير للآخر من أن يجمعهما جميعًا، لأن المحسن إليه منهما قد يشرك المحروم فيما عنده ولو اشتركا في الحرمان لزمهما الضرر والبؤس. فالحاسد إذا تمنى البؤس ونعيم بالنعمة وهذا جهل وسوء تمييز. وأيضًا فإن الحاسد لا يتضرر بالنعمة التي عند المحسود، فليس إلا متسخط لقضاء الله تعالى، وذلك يدنيه من الكفر، ولولا تأويله لرفع فيه، فإنه عند نفسه يكره الغم الذي له فيما أتاه الله، وليس يكره القضاء نفسه. ويصدق هذا ما جاء في الحديث أن إحدى الكلمات العشر التي كانت في ألواح موسى عليه السلام ولا يحسد الناس على ما أتاهم، فإن الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضاء الله. وقال صلى الله عليه وسلم حين سئل: أي الناس أفضل؟ (الصادق اللسان المخموم القلب. قالوا: هذا الصادق قد عرفناه، فما المخموم القلب؟ قال: هو التقي الذي لا غل فيه ولا حسد). وفي بخاسة الغل، قال عبد الله بن عمر: كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة). فدخل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه). فأتيت منزله فبت عنده لأرى عمله. فلم أره يصلي من الليل شيئًا، ولكنه كلما أتيته ذكر الله تعالى جده. فلما كانت الليلة الثانية بت عنده، فصنع كذلك. ثم الثالثة كذلك. فذكرت له الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم وبشرته بذلك، وقت له: إنما بت عندك لأرى عملك

فأقتدي بك! قال: يا ابن أخي، إني أبيت وما بنفسي غل لأحد من المسلمين. فقلت: بهذا أدركت الفضل. وجاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى: (من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي، فليطلب ربًا سواي)، فدل هذا كله على غلظ أمر الحسد مما يكره منه ويذم. وأما الغل فإن الله عز وجل فيما ينعم به على أهل الجنة ينزع الغل من صدورهم، فقال: {ونزعنا ما في صدورهم من غل، إخوانًا على سرر متقابلين} فلما كان ذلك مباينًا أخلاق الجنة، ولم يكن في الجنة إلا ما يرضي ويحمد، علمنا أنه مكروه مذموم وللحسد منزلتان. أخفها أن يكره النعمة بمكان أخيه ويغتم منها ويتمنى زوالها عنه. وأغلظها أن يتمنى ذلك الذي يراه عند أخيه لنفسه، وهما جميعًا مذمومان، وقد نص الله تعالى على هذا الوجه الآخر، فقال: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}. فنهى عن هذا. كما ذم الأول ولا نهي عما فيه خبر. فصح أنهما جميعًا مذمومان. فأما إذا تمنى مثل ما لأخيه فهو غائظ وليس بحاسد. وقد تقدم ذكره. فإن سأل سائل عن مسلم كان في قلبه غل على كافر من وجه سوى الكفر، فأسلم الكافر فحزن المسلم لذلك ونسي أن كان لمسلم، وود لو عاد فكفر، أيكفر المسلم بذلك أم لا؟ قيل له: لا يكفر بذلك لأن استقباحه الكفر هو الذي يحمله على أن يتمنى له. واستحسانه للإسلام هو الذي يحمله على أن يكرهه له، وإنما يكون تمنى الكفر كفرًا إذا كان على وجه الاستحسان له. ألا ترى أن موسى نبي الله صلوات الله عليه دعا على فرعون فقال: ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}.

فتمنى أن لا يؤمن فرعون وآله حتى يروا العذاب الأليم. وزاد على التمني إن دعا الله تعالى جده بذلك فلم يضره ذلك شيئًا ولا عاتبه الله تعالى فلا زجره عنه. فدل ذلك على صحة ما أميلناه في هذا الباب. وإن سأل عمن تمنى أن لو كان نبيًا ما كان حكمه؟ قيل له، أما إن تمنى أنه لو كان في ذلك الوقت نبيًا لكان هو ذلك النبي فإن هذا لا يضره. وهكذا لو تمنى إن كان الله تعالى قدر أن يكون من جملة أنبيائه، ولو تمنى رجل في زمن نبي من الأنبياء أن لو كان هو النبي دون الذي هو نبي بالحقيقة، كفر. وهذا سوء رأي منه في ذلك النبي. وإن تمنى في زمان نبينا صلى الله عليه وسلم وبعده إن لو كان نبيًا كما ذكرت. ووجه آخر وهو أنه يتمنى إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرف ختم النبوة وهذا كفر. فإن قال قائل: قد كتبتم بابًا في أن من الإيمان أن يحب المرء لأخيه المسلم ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، فانتظم هذا أن لا يحسده، ولا ينطوي على غل له. فما معنى إفراد باب آخر لترك الحسد والغل؟ فالجواب: إن ذلك الباب إنما هو في أن يحب المرء لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير فيسعى له فيه ليحصله لمن أراد ذلك منه، واستسعاه فيه، ولا يسعى في خلافة عليه ويكره له ما يكره فيه لنفسه من الشر، فيسعى له في دفعه عنه لمن أراد ذلك منه، وأظهر له الرغبة فيه، ولا يسعى في خلافه عليه. وهذا الباب مقصود على التمني دون الفعل، وهذا فرق ما بين الناس. وأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله علمًا وهو يعلمه الناس، ورجل أتاه الله مالًا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار). فيحتمل أن يكون المراد به الغيظة، فسماه حسدًا لأنه يقرب منه، وإن لم يكن به. وذاك أن الحاسد يتمنى أن يكون له ما هو للمحسود، والغائظ يتمنى أن يكون له مثله فسمى أحدهما باسم الآخر تشبهًا وتوسعًا. ولا ينبغي أن يتهاجر مسلمان. فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أنه قال: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، يصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام). وقال صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر فيهما لمن لا يشرك بالله شيئًا إلا المهتجرين يقال: ردا هذين حتى يصطلحا). معنى هذا أن من لا يكن مشركًا فقدمنا له المغفرة ما لم يكن متهاجرًا لأخيه المسلم، فإنه إذا كان كذلك لم تنله المغفرة، وإن لم يكن مشركًا، وليس المعنى أنه لا يبقى أحد دون المشركين ويغفر له كل اثنين وخميس. أما وجه الحديث ما يثبت به، والله أعلم.

الرابع والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في تحريم أعراض الناس وما يلزم من تحريم الرتع منها

الرابع والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في تحريم أعراض الناس وما يلزم من تحريم الرتع منها قال الله عز وجل: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}. وقال: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا، وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}. وقال: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأوا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين}. فتوعد الوعيد الغليظ على قذف المحصنات وحكم على القاذف برد شهادته على التأييد إلا أن يتوب، والجلد وشبه بالفسق تشديدًا عليه وتهجينًا لما كان منه. ولم يجعل للزوج مخرجًا من عذاب القذف إلا بإيجاب اللعن على نفسه، إن كان كاذبًا في قوله: كما لم يجعل للمرأة مخرجًا من عذاب الزنا إلا بإيجاب الغضب على نفسها إن كان صادقًا في قوله. فدل ذلك على غلظ الذنب في قذف المحصنات، ووجوب التورع عنه والاحتراز من تبعاته والله أعلم. والفرق الرابع من الزوجين في اللعن والغضب، وإنما هو التغليظ على المرأة فإن كانت توجب الغضب على نفسها بأن يكون الزوج صادقًا عليها، وذلك أن تكون زنت. والرجل يوجب اللعن على نفسه بأن يكون كاذبًا في قذفه، وذلك أن تكون المرأة لم تزن. ولا شك

أن الزنا أغلظ من القذف. فالزنا يدل ذلك على أن الغضب أعلى رتبة من اللعن، فلذلك وضع في موضع التبرؤ من الزنا، واللعن في موضع التبرؤ من القذف. والمعنى في ذلك أن الله تعالى إنما يراد به تمام مؤاخذته وعقوبته، حتى لا يبقى شيء مما يستحق المذنب إلا وينزله به، وليس يراد به ما يراد بغضب المخلوق ولو أراد أن يغيظه ويغيره عما كان عليه إلى حال قلق وضجر، وشيء من هذا غير جائز على الله تعالى، ولا لائق به بغضبه، وإذا كان كذلك وجب أن يكون أغلظ من اللعن، لأن اللعن الطرد، والطرد لا يتحقق مع الإيمان، وإنما يكون من وجه دون وجه، وفي شيء دون شيء فلم يكن القطع بأنه أغلظ من الغضب. فإن قيل: بل اللعن أشد من الغضب، لأن الله تعالى هو القائل: {وغضب الله عليه ولعنه}. فلما ثنى باللعنة عليه، علمنا أنه لا منزلة وراء الغضب. قيل: فقد قال في الشهود {من لعنه الله وغضب عليه}. ما يدل ذلك على أن الغضب منزل وراء اللعن، وإلا فليعلم أن المراد بالاثنين اجتماع الأمرين لا ترتيب أحدهما على الآخر والله أعلم. وكما لا يحل أن نقذف المحصنة البريئة، ولذلك لا ينبغي له أن يقذف غير البريئة قال ذلك يؤذيها ويهتك سترها ويعرضه أيضًا لخصومتها ومطالبتها بالحد، ولعله لا يمكنه تثبيت الزنا عليها فيجلد. وإن كان الزنا قد ثبت عليها فحدث عزر الأذى، فلا ينبغي أن يعرض نفسه للتعزيز، كما لا ينبغي أن يعرض نفسه للجلد، والله أعلم. ولا يجوز لمسلم أن يقول لمسلم يا كافر. فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال لمسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما). ويحتمل أن يكون معنى ذلك أنه إن وصف ما عليه بأخوه المسلم بأنه كفر؟ فقد كفر نفسه، ولم يكن على أخيه منه شيء. وإن كان المقول له ذلك يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فقد صدق عليه وليس على القائل شيء. وبين الحالتين حالة ثالثة وهو أن يقول له: يا كافر أي يا من تبطن الكفر ولا تظهر به، ولا يكون كذلك.

وهذه غير مراده بالحديث، لأن واحدًا منهما لا ينوء بالكفر في هذه الحال. ويعذر الرامي ولا يحد، وهذا إن قال له: يا لص! يا شارب الخمر، ويا كذاب، فإنه يعذر في هذا كله ولا يجد، لأن الملامسة يخفى حلالها وحرامها. فيعرض في قلب السامعين عند القذف أنه علم من المقذوف ما لم يعلمه غيره، فذاك والذي حمله على قذفه، ويتغير لأجله حال المقذوف في قلوب السامعين، فكأن القاذف أخذ شيئًا من عرض المقذوف، فلذلك اقتص منه بجلد ظهره. وأما سائر الفواحش فلا يخفها أهلها حياء منها، وإنما يخفى ما يخفى منها احترازًا وتوقيًا من تبعاتها. فمن رمى بشيء منها ولم يكن متعاطيًا له أمكن الوقوف على براءته منه باستبراء حاله، ولا يؤثر رمي من رماه به فيه ولا ينال عرضه منه بشيء، فلذلك سقط الحد عن الرامي والله أعلم. فإن قيل: إذا كانت الأعراض في التحريم كالدماء والأموال، ثم كان القصاص من الدم بالدم، ومن المال بالمال، فلم لا كان القصاص من العرض بالعرض؟ فالجواب: إن القصاص لا يتحقق في هذا الباب، فلذلك لم يشرع. وتفسيره أن الرجل إذا قال لآخر: يا زاني، فقد نال بهذا القول من عرضه شيئًا، لأن السامعين يرون أنه علم منه ما قال، فلذلك رماه به، فينحط من رتبة المقذوف وتتغير من صورته عندهم بقدر ما رفع في قلوبهم من صدق القاذف عليه. فإذا قال له المقذوف: بل أنت الزاني، لم يقع قوله هنا ذلك الموقع، لأنه يخرج الكلام مخرج المجاراة فيقع للسامعين: أن ابتداء الأول بقذفه هو الذي حملة على ما قال، لا علم كان عنده بشيء بدر من قاذفه. فلا يتغير من صورة القاذف عندهم بمجاراة المقذوف إياه ما يغير من صورة المقذوف بابتداء القاذف. فلا يكون قذفه قائلًا عن عرضه ما ناله هو بالابتداء من عرضه. ويكون كما جاء إلى قاتل أبيه وهو ميت فجز رقبته، فهو وإن فعل من جز الرقبة به فعل ما فعله هو بأبيه، فلم ينل منه ما نال هو من عرضه أولًا، فلم يكن ذلك قصاصًا والله أعلم. ولا يحصل أحد أن يعير أحدًا بذنب كان منه، وقد كان التعبير بالزنا عقوبة للزاني

قبل أن ينزل الحد، فلما نزل الحد رفع، وأما التعبير بعد التوبة فلم يكن مباحًا قط. قال الله عز وجل: {واللذان بأتيانها منكم فأذوهما، فإن تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما إن الله كان توابًا رحيمًا}. ولا أن يعيره بحسب مذموم ولا بحرفة دنية ولا بشيء يثقل عليه إذا سمعه، فإن إيذاء المؤمن في الجملة حرام. قال الله عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا}. والحسب المذموم ليس من اكتساب المعير به والحرمة، وإن كانت لنسبه فليس بمكسب محرم. فالتعير بكل واحد منهما بل لإيذاء المحظور المحرم. ويحتمل أن يكون معنى قوله {بغير ما اكتسبوا} أي من غير أن يكتسبوا، سواء بمكان المؤذي ولا الحرفة الدنية إساءة من المعير بهما، إذ المعير بمكان ذلك من الإيذاء الذي وصفه الله عز وجل بأنه بهتان وإثم. وأيضًا فإن التثويب وإبداء ما يثقل على القلب من أحوال البغضاء والتقاطع، والمؤمنون يتوصون في أنفسهم بالتآلف والتعاطف وأن يكونوا إخوة في أعدائهم يدًا واحدة، ويصلوا الصلوات جماعة، فما دعا إلى التقاطع والتباين فهو مخالف للدين فلا يحل ولا يتبع بحال وبالله التوفيق. ومر بهذا الباب قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه}. فاشتملت هذه الآيات على تحريم الاستهزاء والسخرية وتحريم اللمز وهو الغيب والرفعة، ومعنى {ولا تلمزوا أنفسكم}: لا يلمز بعضكم بعضًا كما قال: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي لا يقتل بعضكم بعضًا وتحريم التنابز بالألقاب هو أن يدع الواحد أن يدعو صاحبه

باسمه الذي سماه به أبوه ويضع له لقبًا يريد أن يسبه به ويستذله، فيدعوه به. ثم قال: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} فأبان أن فعل هذه المحظورات فسوق بعد الإيمان. والإيمان يوجب مواصلة أنداده على اعتراض على الموجود منه بما لا يليق به. ثم قال: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}. أي الظالمون أنفسهم يسوقها إلى النار والعذاب الأليم، ثم قال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن، إن بعض الظن إثم}. فأبان أن ظن القبيح بالمسلم كهمزه ولمزه ونهره والسخر به والهزؤ به، ونهى عنه وأخبر أنه إثم. ونهى عن التجسس وهو تتبع أحواله في خلواته وجوف داره والتعرف له. فإن ذلك إذا بلغه شيئًا وشق عليه، فكان التعرض له من باب الأذى الذي لا موجب له، ولا مرخص فيه، ولأن تتبع هذه الأمور كالاطلاع على ما وراء الباب والستر، وإذا كان ذلك حرامًا كان التتبع من غير الاطلاع مثله. ولأن البيوت أكناف الناس وحصونهم فمن يتبع عوراتهم ويجس أحوالهم في خلواتهم كان كمن أتاهم من مأمنهم وأفسد عليهم إحرازهم، وكل ذلك حرام ممنوع. ثم نهى عن الغيبة، فقال: {ولا يغتب بعضكم بعضًا} أي لا يذكره هو غائب عنه فلو كان حاضرًا فسمعه لسب عليه. وشبه الاغتياب بأكل لحم الميت لأن الميت لا يشعر بأن يؤكل لحمه، كما لا يشعر الغائب بأن يثلب عرضه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما صام من صلى يأكل لحوم الناس) فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم. فمن ينقص مسلمًا ويثلب عرضه فهو يأكل لحمه حيًا. ومن اغتابه فهو يأكل لحمه ميتًا. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقيل: (يا رسول الله، أرأيت إن كدته بما فيه، قال: إنك إن ذكرته بما ليس فيه فقد بهته) فأبان إن الغيبة المحترمة هو أن

يذكره بما يكون فيه، فأما ذكره بما ليس فيه فهو من الزور والبهتان وليس من الغيبة في شيء والله أعلم. ولا ينبغي لمسلم أن يصاخب مسلمًا ولا أن يغلظ له قولًا، ولا أن يتعرض لمسًا، أنه وقد مضى ما يتصل بهذه المعاني في أبواب متفرقة من هذا الكتاب. وفي ذلك عناية وكفاية إن شاء الله. ولا ينبغي لمسلم أن يبهت مسلمًا. قال ابن عمر رضي الله عنه: من بهت مؤمنًا أو مؤمنة بما لا يعلم حبسه الله في ردهة الجبال يوم القيامة حتى يجد مخرجًا مما قال، وعن ابن المسيب رضي الله عنه قال: إن من أولى الرياء الاستطالة في عرض المسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله من كف لسانه عن أعراض المسلمين إلا بأحسن ما يقدر عليه، فإنه لا تحل شفاعتي لطعان ولا لعان).

الخامس والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في إخلاص العمل

الخامس والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في إخلاص العمل قال الله عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} وقال: {من يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها، وماله في الآخرة من نصيب} وقال: {وما أتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس، فلا يربوا عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}. وقال: {وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي يقول إنما أردت أن يقال: فلان كذا فعل، قيل: ذلك اذهبوا به إلى النار). وقد ثبت بالقرآن والسنة أن كل عمل أمكن أن يراد به وجه الله، فإنه إذا لم يعمل بمجرد التقرب به إليه، وابتغاء رضوانه حبط ولم يستوجب ثوابًا، إلا إن لذلك تفصيلًا، وهو أن العمل إن كان من جملة الفرائض اللازمة، فمن أداه وأراد به الفرض غير أنه أداه بنية الفرض ليقول للناس: أنه يقول لكذا لا تطلبًا لرضوان الله واتقاء لسخطه، سقط عنه الفرض ولم يؤاخذ في الآخرة، ولم يعاقب به مما يعاقب به التارك، ولكنه يستوجب ثوابًا. إنما ثوابه ثواب الناس عليه في الدنيا ومدحهم إياه بما فعل. وإن كان العمل من باب التطوع ففضله يريد به وجوه الناس دون وجه الله تعالى، فإن أمره يحبط ولا يحصل من عمله شيء يكون له كما حصل الأول على سقوط الغرض

عنه، ثم يعاقبهما على أنهما عملا لا لوجه الله تعالى، وباعا ثواب الله تعالى بمحمدة الناس، يحتمل وجهين. أحدهما أن يقال أن الذي جاء به الحديث من قول الله تعالى، فقد قيل ذلك اذهبوا به إلى النار، أخبار بأن المرائي يعاقب على عدوله عن قصد وجه الله تعالى إلى وجه الناس ومعنى هذا أنه استخف حق الله تعالى واستهان نعمته، فلم يجز أن يقصر ذلك من مقدار ذنب غيره، والذنوب كلها موجبة العقاب، وكذلك هذا، أو الوجه الآخر أنه لا يعاقب، ولا يثاب. ومعنى الحديث أن هذه الأعمال التي يتراءى بما لا يعمل فينتقل بها في ميزانية وترجح بها كفة الطاعات كفة المعاصي، لا أنه يعاقب على الرياء بالنار، وإنما عقوبة الرياء إحباط العمل فقط، ووجه هذا أنه عمل ما عمل عبادة لله عز وجل، إلا أنه زاد بعمله حمد الناس فإذا أحيل عليه، فقد جوزي بصنيعه، وليس له وراء ذلك ذنب يستوجب عقابًا، لأن جميع عمله شيئان: أحدهما: فعل لم يخل من أن يكون فعله عبادة لله تعالى لأنه لو أراد عبادة غيره به لكفر. والآخر: فصده أن يمدحه الناس بفعله لا أن يثاب عليه. فأما الأول فليس بذنب. وأما الثاني فهو الذنب. فإذا لم يتب ويصر على قول الناس فقد جوزي فثبت أن ذلك يصادق أمره والله أعلم. فإن قيل: أرأيت أن رأى وأراد أن يمدحه الناس فلم يشتغل به الناس ولم يمدحوه ولم يثنوا عليه ولم يعلموا أخيرًا عمل أم شرًا؟ قيل: لا يؤجر لأنه لم يرد بما عمل وجه الله تعالى. فإن كان الناس لم يقولوا فيه ما أراد، فإنما هو رجل خسر الدنيا والآخرة فشبه أن يكون من عذاب الآخرة أبعد، لأن حزب الله تعالى هم النابين عنه حتى لم ينل منهم ما أراد من جملة العقوبة. فإذا جاز أن يكون ثناؤهم عليه لو أثنوا على جميع جزائه، جاز أن يكون قول ثنائهم ومدحهم إياه جميع عقوبته والله أعلم. ومما جاء في ذم المراءاة بالخير، وشيطان الشر قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كالبيت

الخرب في الظاهر، فإذا دخلته وجدته مزينًا، ومثل الفاجر كالقبر المشرف المفضض يعجب من رآه، وجوفه ممتلئ نتنًا). ومما جاء في فضل الإخلاص العمل لله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من زار أخاه لله لا لغيره والتمس وجه الله وما عند الله، وكل الله به سبعين ملكًا ينادونه من خلفه حتى يرجع إلى بيته إلا طلبت وطابت له الجنة). ومما جاء في ذم الرياء والشهرة واستحباب الجمول، إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى المسجد، فإذا هو بمعاذ بن جبل رضي الله عنه يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ما يبكيك يا معاذ؟ قال شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب هذا القبر. قال: وما هو؟ قال: سمعته يقول: (إن يسير الرياء شرك، وإن من عادي أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله لا يحب الأبرار الأخفياء الأتقياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة).

السادس الأربعون من شعب الإيمان وهو باب في السرور بالحسنة والاغتمام بالسيئة

السادس الأربعون من شعب الإيمان وهو باب في السرور بالحسنة والاغتمام بالسيئة وهو ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سرته حسنة وساءته سيئة فهو مؤمن). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساءوا استغفروا) ومعنى هذا- والله أعلم- إن من عمل حسنة فسر أن وفقه الله تعالى لها ويسرها له حتى حصلت في ميزانه، فجلس كما يجلس الهناء فرحًا مسرورًا بما يرجوه من رحمة الله وفضله. أو عمل سيئة فساءه أن خلاه الله تعالى ونفسه حتى عمل بما سوأه له الشيطان، وجلس كما يجلس المصاب مهمومًا كئيبًا حياء من الله تعالى وخوفًا من مؤاخذته، فذاك دليل على صدق إيمانه وخلوص اعتقاده، فإن الثقة بالوعد والوعيد لا تكون إلا من قوة التصديق بالله ورسوله. وقد جاء هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ موجز (إن المؤمن إذا عمل حسنة رجا ثوابها، وإذا عمل سيئة خاف عقابها). فأما من سرته حسنة من حيث يثني عليه وتذكر عنه، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا قال له: يا رسول الله، إني أعمل العمل أسر به فإذا اطلعت عليه سرني، فقال: (لك أجران. أجر السر وأجر العلانية). وجاء في حديث آخر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدنا يعمل العمل، فإذا اطلع عليه سره. فقال: (ذلك عاجل بشرى المؤمن). وروى عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: معناه. فإذا اطلع عليه سرني ليقتدي بي ويعمل مثل عملي. ليس أنه سره أن يذكره ويثني عليه، وإنما هو كقوله صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل

بها). وكما روي أن رجلًا قام من الليل، رآه جار له، فقام يصلي فغفر للأول. يعني أن الثاني لما أخذ عنه وتابعه. وهذا محتمل ويحتمل غيره، وهو أنه إذا عمل خيرًا سره أن يذكر به فيكون محمودًا في الناس لا مذمومًا. ولا حمدًا أبلغ من أن يقال: أنه قوام بحمد ربه، وليس هذا من المراءاة في شيء. إنما المراءاة أن يعمل الخير لا يريد به وجه الله تعالى ولا يبتغي به مرضاته ولا ثوابه، إنما يريد أن يقول الناس هذا رجل خير. فأما أن يعمل لله تعالى على الحقيقة ويسره أن يعلم الناس منه من عمل الله تعالى، فإن مدحوه مدحوه، وصلاحه لعبادة الله لا بغير ذلك، مما يمدح به الناس. ويثني عليه به بعضهم على بعض من أمور الدنيا، فليس هذا من الرياء في شيء. ألا ترى أن الله عز وجل ذم قومًا فقال: {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}. فدل على أن من أحب أن يمدح بما فعل فلا ذم عليه. فكيف يذم من أراد أن تكون إضافته أن الله تعالى لا إلى غيره كما جعل همه مقصورًا على عبادته دون غيرها. إنما المذموم من يعمل ما أمر أن يبتغي به وجهه مريدًا به وجه غيره. والفرق بينهما ظاهر لمن أنصف. واحتج ذلك القائل بأن الحديث جاء بكراهية أن يذكر الرجل في وجهه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يثني على آخر فقال: (قطعت ظهره، لوسعها ما أفلح). فيقال له هذا أن يثني عليه في وجهه فيمتلئ منه عجبًا ومدحًا يقول في نفسح أنا الممدوح بكذا وكذا ويستثني لذلك غيره، وما قلناه غير هذا، وهو أن يسمع الرجل يضاف إلى مولاه بالطاعة وحسن العبادة، فيسره إن شاء الله تعالى أنزله منزلة الكرامة من نفسه، وجمع له بين الحسنيين أحدهما أن وفقه لعبادته. والآخر أن جعله إذا مدح مدح باسمه، وأضيف إلى ما يكون مرجعه إليه من عبادته، ولم يجعله يمدح ما يمدح به أبناء الدنيا وأهلها ولولا أن هذا هكذا، لما كان ذلك (عاجل بشرى المؤمن). كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

السابع والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في معالجة كل ذنب بالتوبة منه

السابع والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في معالجة كل ذنب بالتوبة منه قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا على ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم} وقال {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون}. وقال بعد كبائر ذكرها: {ومن يفعل ذلك يلق أثامًا، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا، إلا من تاب وعمل صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا}. وقال: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون}. وقال: {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}. وقال: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات} إلى قوله {أليمًا}. وقال: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك} إلى قوله {منتظرون}. وكما أنزل الله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وانذر عشيرتك الأقربين}. قال: (يا معشر قريش استروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم شيئًا. يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا. يا فاطمة بنت محمد، شئت لا أغني عنك من الله شيئًا. يا صفية عمة محمد رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا. يا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت، لا أغني

عنك من الله شيئًا) وقال: (إني أستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم أكتر من سبعين مرة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة) وقال: (كفارة الذنب الندامة). وقال: (إن الله يحب المفتتن التواب) ومعنى هذا أنه يحب الذي كلما وقع في فتنة عاجلها بالتوبة. وقال: (إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) وقال خبيب: قلت يا رسول الله إني رجل مقراف للذنوب، فقال: (تب كلما أذنبت) قلت: (أعود إلى الذنب قال: وعد إلى التوبة. قلت: أعود. قال أوعد إلى التوبة. قلت: إذا تكثر يا رسول الله. قال: (عفو الله أكثر من ذنوبك يا خبيب). وقال ابن المسيب في قول الله عز وجل {فإنه كان للأوابين غفورًا}. قال الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في حديث الإفك (إن كنت ألممت بذنب فتوبي، فإن العبد إذا أذنب ثم تاب تاب الله عليه). وقال عمر رضي الله عنه في قوله {توبة نصوحًا}. أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه. ومعناه. يعزم على أن لا يعود إليه لأن التوبة لو كان ترك العود لكان استقرارها بالموت. وذلك لا معنى له. فثبت بالكتاب والسنة وجوب التوبة إلى الله تعالى على كل مذنب، وإسراع التوبة والإنابة إليه، وأن الله يقبل التوبة عن عبده ولا يردها عليه. وظهر وقت التوبة الذي هو لكل

واحد من الناس في خاصته والوقت الذي هو للجمهور. وسنتكلم على جميع ذلك بالشرح والإيضاح إن شاء الله. وأما التوبة فهي الرجعة. ومعنى تاب إلى الله أي رجع إلى الله، كأن المذنب ذاهب أو ابق من الله تعالى لمفارقته طاعته ومخالفته أمره، فإذا نزع مما هو فيه وعاد إلى الطاعة كان كالعبد يرجع إلى سيده، فنزل نزوعه وعودته إلى الطاعة رجعة، وعبر عنها بالتوبة وحد التوبة القطع للمعصية في الحال إن كانت دائمة، والندم على ما سلف منها والعزم على ترك العود إليها تعبدًا لله تعالى وتقربًا بذلك إليه، وإن لم تكن المعصية دائمة فالندم على ما مضى والعزم على ترك العود، وهاتان الخصلتان متفق عليهما. ثم ينظر في الذنب الذي تكون التوبة منه، فإن كان ذلك ترك صلاة. فإن التوبة لا تصح منها تنضم إلى التوبة والندم قضاء ما فات منها. وهكذا إن كان ترك الصوم أو تفريط في الزكاة إن كان ذلك قتل نفس بغير حق، فإن تمكن من القصاص إن كان عليه وكان مطلوبًا به. فإن عفى عنه بمال وكان واجدًا له فإن يؤدي ما عليه. قال الله عز وجل {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}. وإن كان قذفًا يوجب الحد فبدل ظهر الحد إن كان مطلوبًا به فإن عفا عنه كفاه الندم والعزم على ترك العود بإخلاص، وإن كان ذلك حدًا من حدود الله تعالى، فإنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح سقط عنه. وقد نص الله تعالى على سقوط الحدود من المحاربين إذا ماتوا قبل القدرة عليهم. وفي ذلك دليل على أنها لا تسقط عنهم إذا ماتوا بعد القدرة عليهم. ولعل وجه ذلك أنهم متهمون بالكذب والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام. أو أنهم إنما يندمون في مثل تلك الحال على ما فعلوا إلا لسوء الصنع، ولكن لأنه قدر عليهم فصاروا الغرض أن يثكل بهم، وإذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم فلا تهمة. والظاهر أن استبصارهم بسوء صنعهم هو الذي يدينهم. وأما الشراب والسراق والزناء إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ثم وقعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم وإن وقعوا إليه، فقالوا: أثبنا، لم ينزلوا، وهم في هذه

الحالة كالمحاربين إذا علقوا وإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا بأداء الواجب عينًا كان أو دينًا، ما دام مقدورًا، فإن لم يكن مقدورًا عليه، فالعزم على أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وإن كان أضر بواحد من المسلمين، وذلك الواحد لا يشعر به، أو لا يدري من أين أتى، وإن يزيد ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له. فإذا عفا فقد سقط الذنب عنه استجدى له وسأله ذلك بلسانه فهو آثم لتوبته، وإن قيض من يسأله ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه، عرف بعينه أو لم يعرفه فذلك صحيح، وإنما قلنا يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له لأن أخوة يوسف صلى الله عليه وسلم كانوا أضروا بأبيهم إسرائيل عليه السلام، فلما جاءوه بآيتين. {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} فدل ذلك على أن الاحتياط في الجمع بين عفو المظلوم واستغفاره والله أعلم. وقد كان لأمرهم وجه آخر. وهو أن أباهم كان نبي الله فيهم، ومن حق النبي إذا كان بين ظهران قوم أن تكون توبتهم عنده، وأن يستغفر لهم مع ذلك، فيتأكد استغفارهم لأنفسهم باستغفاره لهم وتكون مسألتهم إياه ذلك من تمام استغفاره، لأن فرعهم إليه إيمان بالله تعالى، وتعظيمهم له تعظيم لله عز وجل، والتأييد به فضل خوف ورهبة من الله تعالى. فإذا انضمت هذه الأسباب كانت الإجابة أرجأ وأقرب. وقد قال الله عز وجل: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله توابًا رحيمًا}. واستقصى من ظلم نفسه، وهو يمكنه لقاء النبي صلى الله عليه وسلم، والاستظهار بدعوته فلا يحبه، فيتوب عنده ويسأله الاستغفار له وذلك من الوجوه التي ذكرنا وهو أن في الفرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضل الرهبة من الله، والإشفاق من الذنب وكلما كان المستغفر أخوف من الله تعالى كان أخلق أن يغفر ذنبه وتجاب دعوته والله أعلم. وإن أساء رجل إلى رجل بأن نزعه بغير حق، أو غمة أو لطمة أو صفعة بغير حق أو ضربه بسوطه فآلمه ثم جاءه مستعفيًا نادمًا على ما كان منه عازمًا على أن لا يعود، فلم

يزل يتذلل له حتى طابت نفسه، فعفا عنه سقط الذنب عنه. وهكذا إن كان شأنه بشتم لا حد فيه. وإذا صارت إلى الرجل أموال الناس بظلم وهو لا يعرف أصحابها، فإن لم يخلطها بماله فلا يحل له أن ينتفع بها، وإن كان يرجو أن يعرف أصحابها فيردها عليهم فله أن يمسكها لأجلهم، وعليه أن يسأل عنهم، ويأتي في ذلك ما يقدر عليه. وإن كان لا يرجو أن يعرف أصحابها سأل الإمام أن يأذن له في الانتفاع بها. وإن دفعها إلى الإمام جاز وقبل تصرفها في وجوه البر، فيكون ثوابها لأهلها. وأما إذا خلطها بماله فإنه إن كان مثل ماله ولم يتهيأ تمييزه عنه فله ماله ولأصحاب الأموال أموالهم وهم شركاؤه فيه وهو شريكهم، ولا يحل له أن يتصرف في جميعه. وتصرفه في قدر ماله من الجميع جاز. وإن سأل الإمام أن يقاسمه عنهم فيأخذ نصيبه ثم يتصرف فيه، فذلك أولى وأحوط والله أعلم. ثم يعمل بأموال غيره ما ذكرت في الفصل الذي قبل هذا، والكلام بعد هذا في أعيان مسائل الجنايات والغصوب. وأنواع التعدي فصل في هذا الباب، لأن الغرض بيان حكم التوبة لإتيان الجناية. وعلم الجنايات موجود في كتب الأحكام فكل ما يثبت له حكم الخيانة بالتوبة منه، لا يصح إلا بالتعقبة على أثره إن كانت ممكنة، وما لم يمكن فسخه واتباعه بصده فمجرد الندم عليه والعزم على ترك العود عليه توبة منه. هذا جملة القول في الباب. وإن كانت على واحد ذنوب كثيرة من أجناس مختلفة، وتاب من أحدها صحت توبته منه، ولا يمنع إصداره على غيره من الاعتداد بتوبته منه والله أعلم. وإذا تاب العبد فليس بواجب على الله عز وجل أن يقبل توبته ولكنه لما أخبر عن نفسه أن يقبل التوبة عن عباده ولم يجز أن يخلف وعده، علمنا أنه لا يرد التوبة الصحيحة على صاحبها ولو لم يكن أخبر عن نفسه بما قلنا لم يستحل أن يرد التوبة فلا يقبلها. فقبوله إذًا لها فضل وليس شيء من الأشياء بواجب عليه، وبالله التوفيق. ذكر الخلاف في ما ذكرنا. زعم زاعم أن من غصب مالًا من مسلم ثم بدا له أن يتوب، والمال قائم في يده، عليه أن يرد المال المغصوب إلى ماله، ولكن نفس الرد ليس بتوبة، إنما التوبة الندم والعزم على

ترك العود، غير أنه إذا كان متمسكًا بالمال دل به، على أنه ليس بنادم، فاحتاج إلى الرد ليصح ندمه وعزمه على ترك العود، لأن نفس الرد من التوبة، فيقال له. ما الفضل بينك وبين من قال لك. أن التوبة هي رد المغصوب إلى مالكه؟ ولكنه يحتاج مع ذلك إلى الندم والعزم على ترك العود لتصير سببًا لرد المال إلى صاحبه، فإن الندم إذا لم يقع، والعزم على ترك العود في المستقبل صار سببًا للرد، فالرد هو التوبة. والحاجة إلى هذين لتيسير الرد لا أنهما توبة. وإذا كان القولان يقعان موقعًا واحدًا ولم يكن إلى طرحهما والخروج منها سبيل، وكان الجمع بينهما ممكنًا. وجب الجمع، وأن يقال كل ذلك توبة. يقال له: زعمت أن الندم هو التوبة، وأن رد المال إذا لم يقع لم تصدق التوبة ولم تتحقق، فاحتيج إلى رد المال لتحقيق الندم لأن الرد نفسه من التوبة، وليس هذا كما قلت. لأنه قد يندم على غصب المال، ويصر مع ذلك على حبسه لئلا يستضعف، أو لئلا يطمع واحدًا آخر في استرجاع ماله منه. ومن الموجود في العادات أن يقول القائل: ما كان ينبغي لي مفارقة بلدي وإتيان هذا البلد، وإذ قد أتيت فليس إلا الصبر. ويقول: ما كان فلان أهلًا لما أعطيته، وما كان ينبغي لي أن أعطيه. وإذا قد كان من ذلك فليس إلا الاحتمال والتجاوز. وقد يقول: الجيش إذا لاقى العدو، وما كان ينبغي لنا أن نخاطر ونلقى العدو في هذه العدة اليسيرة. وإذ قد فعلنا فلا وجه للفرار وليس إلا الثبات. وقد يقول الآبق. ما كان ينبغي لي أن أفارق سيدي وإذ قد فعلت فلا وجه للرجوع إليه وليس إلا البعد منه. فإذا كان هذا وأمثاله من عاقبة الناس وقولهم. فلم قلت: إن الرد ما لم يقع من الغاصب والندم غير حادث. وما أنكرت من الإصرار قد يجامع الندم كما جامعه فيما ذكرناه وعارضنا كبه. وما أنكرت أن الندم إنما يقع على ابتداء الجناية ولا سبيل إلى تدارك الابتداء، وإنما يقطع قطع دوامها، وصار الذي يرفع بالندم غير ما وقع إليه الندم. وإذا كان غيره أمكن أن يقاربه فبطل، فذلك إن رد المغصوب يحتاج إليه لتحقيق الندم وليس بنفسه توبة وثبت أن الندم قد يتحقق من غير رد المغصوب.

ويقال له: ما أنكرت أن يرد المغصوب إنما يحتاج إليه لفسخ الجناية القائمة في الحال وفي الحيلولة بين المالك ولملكه بغيًا وعدوا فهو من المغاصب بمنزل الإسلام من المرتد. ومعلوم أن المرتد إنما يكون تائبًا إذا ندم على ردته فأسلم وعزم على أن لا يعود، وإن إسلامه توبته. ولا يصح أن يقال أن ندمه هو التوبة. والإسلام يحتاج إليه ليصير سببًا لإسلامه. كذلك رد المغصوب هو التوبة والندم يحتاج إليه ليصير سببًا لرد المال إلى مالكه والله أعلم. واحتج هذا الزاعم لقوله. بأن التوبة قد تصح عن كثير من الذنوب التي ليس يحتاج فيها إلى رد شيء، فعلمنا أن التوبة هي الندم والعزم على ترك العود. فيقال: قد أنبأنا الله عز وجل أن التوبة من الشرك هو الإسلام فإنه عز وجل قال: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} فمعلوم أن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا تكون إلا بعد الإسلام. فصح أن معنى قوله {فإن تابوا} أي فإن أسلموا. وقال {قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}. والانتهاء عن الكفر لا يقع بالندم عليه وإنما يقع بالإسلام. فصح أن توبة الكافر إسلامه ثم لم يجز أن يقال أن إسلامه ليس من صلب توبته، لأن كثيرًا من الذنوب يتاب منها من غير أن يحتاج في التوبة منها إلى عقد الإسلام، فما أنكرت أن كثيرًا من الذنوب وإن كان يتاب منها من غير أن يحتاج فيها إلى دفع مال فذلك لا يدل على أن التوبة إذا كانت من الغصب لم يكن رد المال من أصل التوبة والله أعلم. ويقال له: أرأيت الواحد إذا هم بغصب مال رجل فغصبه، أهو مذنب بهمه أو لغصبه أو بهما؟ فإن قال: بهما. قيل: فما أنكرت أنه إذا ندم وهم بالرد، فرد كان بإتيانهما كما كان في الابتداء مذنبًا بهما، ولو وجب أن يكون تائبًا بالندم، فالرد جميعًا، لأن من الناس من تصح توبته من غير أن يكون معها رد مال، لوجب أن لا يكون الابتداء مذنبًا بما لهم والأخذ جميعًا. لأن من المذنبين من يكون منه الذنب، ويكتب عليه من غير

أن يكون منه أخذ مال، وإذا لم يحدث عن هذا أن لا يكون الأخذ من صلب ذنبه إذا وقع منه الأخذ بغير حق لم يجب عما ذكرت أن لا يكون الأخذ من صلب ذنبه إذا وقع منه الأخذ بغير حق لم يجب عما ذكرت أن لا يكون الرد من صلبه توبته إذا رد على المالك مالهم الذي أخذه منه. فإن قال: لو كان الرد من التوبة لوجب إذا عجز عن الرد أن لا تصح توبته. قيل: ما الفصل بينك وبين من قال. لو كان الرد محتاجًا إليه لتحقيق الندم لوجب أن لا يصح ندم العاجز عن الرد، لأنه لا يمكنه تحقيق ندمه للرد. فإن قال: إن الندم يتحقق من غير رد إذا كان هناك عجز عنه، وإنما لا يتحقق إذا كان الرد متمكنًا. فأما إذا لم يكن وصار معجوزًا عنه، فالندم وحده توبة. ويقال له: ما أنكرت أن الندم إذا قارن سقوط فرض الرد عنه. كان توبة. فإن كان المال في يد الغاصب فندمه مع الرد توبة لأنه إذا رد سقط الفرض. وإن كان المال واهيًا والغاصب معدمًا فندمه مع الرد توبة، لأنه إذا رد يقارن سقوط فرض الرد عنه فلذلك صحت توبته لا كما ظننت. مسألة: وزعم أن التائب ينبغي أن يكون ممكنًا من فعل ما يتوب منه، وإن كان عاجزًا عنه فليس ذلك توبة. فيقال له: قال النبي صلى الله عليه وسلم. (الندم توبة). والندم يصح من العاجز عما أحدثه في حال القدرة، فلم لا قلت: أن توبته صحيحة. ويقال له: إن هذا المذهب يناقض مذهبك في المسألة الأولى لأنك إن عممت أن الندم هو التوبة، ورد المال محتاج إليه لتحقيق الندم لا لأنه بنفسه من التوبة، والذي يليق بها إن من عجز عن الغضب فأمكن أن يتحقق منه الندم على ما مضى، فإنه إذا ندم كان ندمه توبة. فإن قال: أن العاجز لا يصح منه العزم على ترك العود.

قيل: إن كان لا يصح منه العزم على ترك العود فهو غير محتاج إلى هذا العزم لأن هذا العزم محتاج إليه لئلا يكون منه الفعل، فإذا وقع العجز عن الفعل فقد استغنى عن العزم، وكان الندم وحده التوبة. فإن قال: ينبغي أن يكون عنده الفعل منه لتركه إياه مختارًا فيكون بذلك معتدًا. قيل له: أرأيت إن كان قادرًا على الفعل فندم على ما سلف منه وعزم على أن يعود، إلا أنه حدث له العجز متمكنًا، أيكون عدم الفعل منه طاعة، أو يتبين بحدوث العجز في الحال إن عزمه على ترك العود كان باطلًا. فإن قال: يكون طاعة لأنه عزم على ترك العود وهو قادر، فصح العزم وكان ما حدث من العجز بعده غير معتد به. قيل له: فما أنكرت أنه إذا ندم على ما مضى، فصح الندم منه أن يتقلب بذلك المعجوز عنه من الفعل مقدورًا عليه في الحكم، فيصير عدم الفعل منه كأنما وجد منه تعبدًا، كما انقلب المعجوز عنه مقدورًا عليه في الحجم فإذا عزم على ترك العود وهو قادر فتبعه العجز بلا فضل واستمد به فإنه ليس من الأمرين فرقان يعقل. ويقال له: أرأيت العاجز عن المعصية إذا كان يضمر أنه لو وجد سبيلًا إليها لعصى إما أن يكون مذمومًا على ذلك. فإذا قال: بلى. قيل له: فلم لا قلت أنه إذا أضمر أنه لو كان قادرًا على المعصية ولم يعص كان محمودًا، وإذا كان كذلك فالعاجز عن الفعل إذا ندم على ما مضى وأضمر أن عجزه لو زال، أو لم يكن له بعد إلى ما كان منه، كان ذلك توبة، وإن كان عاجزًا عن الفعل. ويقال له: أليس الإيمان لا يصح إلا بالاعتقاد وإقرار اللسان، فإن عجز عن الإقرار باللسان لم يكن ذلك عجز عن الإيمان، وكان الاعتقاد كافيًا. فما أنكرت أن التوبة وإن كانت صحتها بالندم، والعزم على ترك العود، فإن العزم على ترك العود وإن ارتفع بحدوث العجز عن الفعل لم تصر التوبة معجوزًا عنها، ولكن الندم يكتفي به عن غيره ويقال له: ألست تزعم أن رد المظلمة ليست تبق به، ولكنه يحتاج إليها لتحقيق

الندم. ولو أن المالك وجد ماله فأخذه لم يغن ذلك الغاصب من التوبة لأن فسقه لا يرتفع بأخذ المالك مال نفسه، فقد صارت التوبة واجبة، ولا يقدر الغاصب منها إلا على الندم والعزم على ترك العود ثم الندم يصح، وإن كان الغاصب عاجزًا عن تقريره وتحقيقه يرد المال إذا المالك قد وصل إلى ماله ما لا يفعل كان منه فما أنكرت أن العاجز عن الفعل تصح توبته وعزمه على ترك العود، وإن لم يمكنه تحقيق هذا العزم لما حدث من العجز عن الفعل. ولم لا سويت بين العجز عن مقدر الندم، وبين العجز عن مقرر العزم على ترك العود. إن التوبة فرض من فرائض الله تعالى على عباده، وما من عبادة تنقسم إلى أركان إلا والعجز عن أحدها لا يسقط المقدور عليه منها وذلك المقدور إذا أثابه أجرًا وقامت تلك العبادة ألا ترى أن الصلاة أعمال وأنها إذا وقع العجز عنه قامت الصلاة قائمًا وراءها فلم لا قلت إن التوبة إن كانت تنقسم إلى ندم وعزم على ترك العود، فإن العزم على ترك العود إن بطل العجز عن العود، فذلك لا يمنع من أن تفهم التوبة بالندم وحده وبالله التوفيق. مسألة: وزعم أن من كانت له ذنوب فتاب من أحدها لم تصح توبته حتى يتوب منها كلها، واعتل بأن التوبة من الذنب إنما تصح إذا كانت، لأنه ذنب أو لأنه معصية. فأما التوبة منه، لا لأنه معصية لا تصح وإن كانت التوبة إنما تصح إذا كانت، لأن ما يتوب منه معصية فهو إذا كان مقيمًا على معصية أخرى لم تكن بينهما وبين الذي يتوب منها فرق فيكون كمن تاب عن معصية هو مقيم عليها فلا تصح توبته. ألا ترى أنه لو تاب من غصب المال وهو متمسك به لا يرده لم يكن تائبًا. فكذلك إذا تاب عن الغصب وهو مقيم عن القتل أو القذف أو الشرك خمرًا أو عقوق الوالدين لم يكن تائبًا لأن الغرض من التوبة الردع عن المعصية وهذه كلها معاصي. فيقال له: ما تقول في رجل زنى وشرب الخمر فجلد حد الزنا. أيكون ذلك حدًا مع بقاء حد الشرب عليه، فلا بد من نعم فيقال له: أليس إذا جلد على حد الزنا لأنه وقع منه معصية، لا لأنه هتك حرمة زوج المرأة أو ابنها أو عمها أو بناتها وغيرها فلا بد من بلى فيقال له: أرأيت لو قل قائل: أنه إذا كان يجلد على الزنا لأجل أنه معصية، فإن ذلك لا يقع موقع الحد ما دام عليه حد معصية أخرى. وتكون إقامة أحد الحدين عليه

وترك الآخر كإقامة بعض الحد الواحد عليه وترك البعض، فإذا كنت قائلًا له: فإن قال: أقول له: إن الحد لم يجب على الزاني لأنه عصى فقط، ولكنه لوجود معصية مخصوصة منه قبل وكذلك الغاصب ليس ذنبه أنه أعصى فقط، إذ لو كان هذا هكذا لكانت الذنوب كلها راجعة إلى حد واحد. وإنما ذنبه أنه إذا عصى معصية مخصوصة وسقط حد الآخرين فما أنكرت أن التوبة تصح من إحدى كبيرين مع الأضرار على الآخرين، لأن كل واحد منهما معصية مخصوصة، فجاز أن يبقى حد بهما، ويسقط الآخر بالتوبة منها. فإن قال: أرأيت إن كانت عليه كبيرتان من جنس واحد. قيل: أما إذا اعتدلنا فقد يجوز أن يقال: لا يمكن التمييز بينهما من التوبة ليس من الوجه الذي قلت، ولكن لأن التوبة إنما تكون بالارتداع عن الخطية في الحال والندم على ما سلف منها، وترك العزم على العود إليها. فإذا كانت على الرجل خطيئتان من جنس واحد لم يصح منه أن يعزم على ترك العود إلى إحداهما، لأنه إنما ينبغي أن يترك العود إلى مثلها فأما ما مضى منه فلا يتركه العود إليه أبدًا. وإذا كان كذلك فهو إذا لم يتب من الأخرى وهي مثلها صار بالإصدار عليها، كالعائد إلى مثل الذي يريد التوبة منها. فصح أن التوبة من إحداهما لا تتحقق ولا تبالي حتى تكون منهما جميعًا. وليس الجنسان هكذا، لأن الارتداع عن إحداهما على الدوام مع إصابة الآخر ممكن، فكذلك تصح التوبة من إحداهما مع الإصرار على الأخرى. ومما يبين هذا أن الراشين أو الشاربين يدخل حد أحدهما في حد الأخرى، فلا يمكن أن يحد على إحداهما من حيث لا يصير محدودًا على الأخرى. فكذلك لا يكون تائبًا من إحداهما غير تائب من الأخرى وأما الخطيئتان إذا اختلف جنسهما، فإنه قد يكون محدودًا على إحداهما من حيث لا يكون محدودًا على الأخرى. فكذلك قد يكون تائبًا من إحداهما غير تائب من الأخرى. والله أعلم. مسألة: وزعم أن المطبوع على قلبه قد يتوب، وتكون توبته صحيحة، واعتل بأنه لم يمكن وجود التوبة منه لم يؤمر بها. فيقال له: ما أنكرت أن المطبوع على قلبه لا يتوب من الذنب الذي طبع على قلبه لأجله. فأما من الذنب الذي لم يكن الطبع على القلب لأجله فقد يجوز أن يتوب، وقد

يجوز أن يكون مطبوعًا على قلبه من ذنب غير مطبوع من ذنب، وهذا من المسلمين. فأما الكافر يطبع على قلبه فلم يسلم أبدًا. وأما المسلم فقد يختلف الطبع على قلبه كما وصفت، فقد يقع ذلك في الصلاة بتركها، فلا يعود ذلك إلى فعل أبدًا، ولكنه إن كان مع ذلك شاربًا أو سارقًا يتوب منهما، وإن كان في السرقة أو الشرب لم يتركهما أبدًا. وإن كان مع ذلك تاركًا للصلاة تاب منه فصلى، لأن الطبع على القلب عقوبة. وقد يجوز أن يعاقب الله تعالى العبد على ذنب، ويعفو له عن ذنب. والدليل على من طبع على قلبه في شيء لم ينزع عنه، هو أن الطبع على القلب ليس إلا الحيلولة بينه وبين أنصار الصواب والميل إليه، وهو إذا لم ينصر الصواب ولم ينتبه لدواعيه، ولم يمل إليه لم يقبله ولم يوجد منه. قال الله عز وجل: {إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} فما يئس نبيه صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، ثم أشار إلى سبب ذلك وعلته فقال: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة}. فأخبر أنه حال بينهم وبين الدواعي إلى الإيمان أن يخلص إلى قلوبهم وحال بين قلوبهم وبين أبصارهم ما في الإيمان من الصواب. فدل ذلك على أن الكافر المطبوع على قلبه يستحيل وجود الإيمان منه، فقال: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون}. فأجيبوا أن المطبوع عليه غافل، ووجود الفعل الذي شرطه الاختيار عن الغافل غير ممكن. وقال: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله والله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله} فأبان أنه لا هداية له بعد وجود الختم من الله عز وجل على حواسه، ومكان غفله، فكل ذلك يدل على أنه لا يمكن وجود التوبة منه عما هو مطبوع على قلبه فيه. وقال: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} فأخبر أن المطبوع على قلبه لا يؤمن. فإن قال: فقد قال الله عز وجل: {بل طبع الله عليها بكفرهم، فلا يؤمنون إلا قليلا} فدل ذلك على أن من الكفار المطبوع على قلوبهم من قد يؤمن.

قال: ليس للاستثناء من المطبوع على قلوبهم، إنما هو من جماعة اليهود الذين ابتدأت القصة بذكرهم. فقال: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء} فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، ثم حكى عنهم بعض المواثيق وقتل الأنبياء عليهم السلام ثم قالوا: {قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}. أي إلا قليلا منهم فإنه لم يطبع على قلوبهم، فالاستثناء من هنالك لا من نفي للإيمان، وإن كان من نفي للإيمان، فقد خالفه هذا المنهج لأنه يخبر أن يؤمنوا جميعًا، وإن كانوا مطبوعًا على قلوبهم، وقد أخبر الله تعالى بزعمه أنه لا يؤمن منهم إلا قليل ينفك من مخالفة الله تعالى في خبرهم. فأما قول: هذا الزاعم أن التوبة لو لم يجز وجودها من المطبوع على قلبه لما جاز أن يؤمر بها. فالجواب: أن الكفار الذين أخبر عنهم الله تعالى قطعًا بأنهم لا يؤمنون أكان الأمر بالإيمان زائلًا عنهم فلا يستطيع أن يقول: نعم، فيقال له: فإن جاز أن يكون من بين الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على أنه لا يؤمن مأمورًا بالإيمان، لم لا جاز أن يكون كل مطبوع على قلبه مأمورًا بالإيمان أو بالتوبة؟ وإن كان لا يمكن وجود واحد منهما. وقد أخبر عز وجل أنه أوحى إلى نوح النبي صلى الله عليه وسلم. {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} ولذلك عرفهم. ولا يجوز أن يقال: إن الأمر بالإيمان زال عنهم. فما أنكرت أن كل مطبوع على قلبه فالأمر بالتوبة قائم عليه، وأن كلًا لا تؤخذ منه التوبة أبدًا وبالله التوفيق. مسألة: وزعم أن العبد إذا تاب، واجب على الله عز وجل أن يقبل توبته واعتذر بأن رجلًا لو أساء على آخر ثم اعتذر إليه لم يذمه بعد ذلك كما كان يذمه من قبل. فلما نتج الذم مع الاعتذار علمنا أن التوبة من الله عز وجل مسقطه لعقاب الذنب الذي كانت التوبة منه. فيقال له: أن الله تعالى ليس يحب أمر آمر ولا نهي ناه فليلزمه شيء أو يجب عليه

شيء فكان صواب العبارة إذًا أن يقول: أن العبد إذا تاب قبل الله توبته ولم يردها عليه لأنه عز وجل أخبر عن نفسه بأنه يقبل التوبة عن عباده. وأخبر عنه بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم. (من تاب تاب الله عليه). ولا يجوز أن يقع في خبره عن نفسه، ولا في خبر نبيه صلى الله عليه وسلم عنه خلف. فإن احتج بقول الله عز وجل {كتب على نفسه الرحمة}. أو بقوله: {كان على ربك حتمًا مقضيًا}. قيل له: معنى ذلك أنه لما قضى ذلك وأخبر به فهو يفعله ولا يخلف وعده لأن الكذب غير جائز عليه، فهذا معنى الاثنين لا سواه. فأما قوله: إن من أساء إلى آخر ثم اعتذر إليه لم يذمه بعد ذلك، فهو إحالة منه على العادة، والعادة في ذلك مختلفة، لأن من الناس من يلين قلبه للمعتذر فيقبل عذره في أول وهلة، ومنهم من يزداد غيظًا به، فلا يقدر على قبول عذره. وقد يخف الذنب فيمكن قبول العذر عن الذنب أول ما يعتذر. وقد يغلظ الذنب فلا يمكن الإصغاء إلى المعتذر فضلًا عن قبول عذر. ألا ترى أن رجلًا لو قتل ابن رجل أو أباه، أو أحرق داره، أو أخرب ببنائه، ثم جاء يعتذر إليه لم يلزمه أن يقبل عذره، فلا هو إن لم يصغ إليه، ولم يقبل عذره، يكون عند الناس مذمومًا. وإذا كان كذلك، فمعلوم أن حق الله تعالى ألزم من كل حق، وانتهاك حرمته أعظم من كل ذنب. فكيف يجوز أن يقال: ليس على الله عز وجل أن يقبل توبته إلا أن أخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك، فهو إحسان منه وفضل ليس بفعل واحد والله أعلم. ويقال له: المسيء إذا اعتذر إلى من أساء إليه أيكون عذره غير ما يقصد بإساءته إليه أو مثله. فلا بد من أن يقول: لا هو عين ولا مثل، ولكنه إحسان في الجملة يريد أن يجعله عوضًا من الإساءة المتقدمة، فيقال له: أرأيت رجلًا أتلف لرجل عشرة دراهم ثم جاءه بعوض يساوي عشرة أو لا بسواها، وسأله أن يقبل منه ويرضى به. أيلزمه ذلك؟ فإذا قال: لا قيل: فما أنكرت أنه إذا لطمه أو صفعه أو سبه أو شتمه أو سعى

به إلى سلطان فحبس وضرب وأخذ منه مال، ثم جاءه يعتذر إليه لم يلزمه أن تقع منه المعذرة فيقبلها ويرضى عنه بها، وإن كان الاعتذار منه أمرًا مستحبًا يستحق أن يمدح لأجله. وإذا كان هذا هكذا، وقد جعلت قبول الرب عز وجل توبة العبد، وإذا تاب فليس قبول الثناء إليه مغفرة السيء وحمده إياه عليها، فما أنكرت أنه ليس بواجب على الرب أن يقبل توبة العبد إذا لم يكن لديه غير الحق الذي آجل به أن جنى ما جنى ولا قبله. وإذا كان كذلك صح أن قبول التوبة بفضل وامتنان وليس بواجب والله أعلم. مسألة: وزعم أن الجنايات التي أخبر الله تعالى إنصاف المظلوم فيها إلى الآخرة إن عفا عنها أهلها المصابون بها، لم يسقط عن الجناية، لأنه ليس للمظلومين عنها حق واجب في الحال. إنما يجب بعد النظر إلى الآخرة، ولا يصح العفو عما لم يجب. قال: وليس كالدين المؤجل لأنه واجب فإنما أخر قبضه بالشرط. ويقال له: ما أنكرت أن المجني عليه ثبت له حق بوقوع الحماية عليه، أما عاجلا وأما آجلًا. فإن كان آجلًا فموصول إليه هو المتأخر، وإلا فالوجوب حاصل وحكم الله عز وجل يوم القيامة إنما يحتاج لتعيين الواجب وإثابته فأما نفس الموجوب فهو حاصل لأن الموجوب حكم وعبادة ومحل العبادات الدار الدنيا. فلو خلا الفعل من اعتقاد وواجب لم يتوهم أن يحدث له يوم القيامة تبعة قد خلا منها عند وقوعها في الدنيا. فصح أن حقًا قد وجب للمجني عليه. فإن عفا فقد عفا عن وجب لا كما قدر به والله أعلم. مسألة: وزعم أن من وقعت بيده أموال حرام، ولم يعرف أربابها، أنه يمسكها حولًا. فإن ظهرت فيه أربابها دفعها إليهم، وإلا تصدق بها كما يقول في اللقطة. وهذا الحال، لأن العرف في اللقطة أنها تطلب وتنشد فكذلك كلف الملتقط أن يعرف حتى إذا عرف هذا أنشد ذلك، ظهر بها صاحب اللقطة، فعاد ماله إليه. وأما الأموال المأخوذة من الناس ظلمًا، فإنها إذا صارت إلى يدي رجل وأنها لا تنشد، فكذلك من وقعت ييده لا يعرفها. ألا ترى أن من غصب من رجل مالًا ثم نسي صاحبه لم يعرفه، لأن صاحبه لا ينشده، فكذلك هذا. وإذا بطل التعريف بطل انتظار الحول، لأن

الحول مدة التعريف، فإذا بطل التعريف لم يثبت حكم الحول، وكان الحكم أنه ما دام بأصل ظهور ملاكها أمسكها، فإن أيس من ذلك صرفها في بعض أبواب البر، وإن دفعها إلى الإمام وأعلمه حالها ليقبضها الإمام عن أهلها. وإن سأل الإمام أن يأذن له في الانتفاع بها دينًا عليه لأهلها جاز على النظر لهم. والله أعلم. فصل ثم أن وقعت التوبة لكل واحد من أحد المذنبين ما لم يظهر له أمر من أمور الآخرة، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر). أي تبلغ روحه رأس حلقه، وذلك وقت المصادفة الذي يرى فيه مقعده من الجنة أو مقعده من النار. وعسى أن يعاين فيه الملك. ولعل من بلغ أمره أن يغرغر بروحه لم يفعل تلك الحال يومه. أو لم يتمكن منها، فكان هذا القول إشارة إلى أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما دام يتوب، وهو ما لم يغرغر بروحه يمكنك أن يتوب، وإن تاب قبل توبه. وقد يجوز أن يجد وقت التوبة بما هو ليس من هذا واشتبه بقول الله عز وجل: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال: إني تبت الآن}. وهو أن يقول: أن التوبة تقبل ما لم تبطل الدواعي التي تكون للأحياء إلى ضروب المعاصي. فإذا بطلت تلك الدواعي بسقوط القوى وبطلان الشهوات والاستسلام للمات، فقد انقضى وقت التوبة، وليس في هذا ما ينهض للزاعم المتفوض مقالاته دلالة على قوله أن يشرط التوبة، أن يكون التائب متمسكًا من الفعل لأن توبة من حضره الموت لا ترد، لأنه قد عجز عن الفعل. ولكن لأن الدواعي إلى الفعل قد انقطعت فلم يحتج إلى أن تسكن لك الدواعي بالبقاء على التوبة. وأما الحي الذي عجز المعاصي بما يحول دونها، فلا يخلو من أن يعرض لد الدواعي إليه إلا أنه يعجز عن إجابتها فإذا قابل تلك الدواعي بأن الله تعالى قد حذر ما يدعو إليه فلا سبيل إليه، ولو كان ممكنًا ولم يتضجر منها ولم يقلق ولم يقل في نفسه، لولا العجز لكنت تأمرني كان ذلك مستدعيًا للتوبة. وأما من انقطعت

الدواعي عنه وانحبست آثارها فلا يبين لتوبته أثر قط إلا بالعزم، ولا بالفعل. ولذلك لم تصح ولم تقبل منه والله أعلم. وأما قوله عز وجل: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} فليس المراد به أن التوبة إنما تقبل إذا دنا وقتها من وقت المعصية، حتى كانتا مثلًا في يوم واحد أو ليلة واحدة. وأما المعنى: ما دامت الحياة ثابتة والدواعي إلى الجنايات قائمة. وقد قال الله عز وجل في القيامة: {قل عسى أن يكون قريبًا} فإذا كان أجل الجميع قريبًا، فكذلك أجل كل واحد قريب، وأبانه قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر). وأما الأجل المضروب للجمهور، فقد وردت فيه أنه مهمة، قال الله عز وجل: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك، يوم تأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا} وجاءه عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله باسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وباسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها) وعنه صلى الله عليه وسلم (أن الله فتح للتوبة بابًا لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) فعلم بهذا أن الآية إذا أتت لم ينفع نفسًا إيمانها حتى طلوع الشمس من مغربها. وهذا يحتمل معنيين. أحدهما أن الناس إذا أتت وجدوا الشمس طالعة من مغربها خاض إلى قلوبهم من الفزع ما يحمل معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لا ينهاهم بدنو القيامة في حال من حضرة الموت من انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم. فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته، كما لا تقبل توبة من حضره الموت. والآخر: أن طلوع الشمس من مغربها لا يعلم إلا بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وما زال غير المسلمين

مكذبين لهذا الخبر اعتمادًا على أنه مباين لصنعة الكواكب والأملاك والأفلاك غير لائق بوضعها ونظامها. فإذا شوهد ذلك عيانًا دل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة، تتوفى بوقوع العلم بتوبته ضرورة، ووقوع العلم بالله تعالى ضرورة. وإذا ارتفع الامتحان ورفعت الضرورة ولم يقع الإيمان ولا التوبة موقع العبادة كما لا يقعان في عرصات القيامة موقع العبادة لهذا المعنى- والله أعلم. ثم قد روى أن الدنيا تبقى بعد طلوع الشمس من مغربها طويلًا حتى يلتقي الشيخان الكبيران، فيقول أحدهما للآخر: متى ولدت؟ فيقل: أخبرني أهلي أني ولدت ليالي طلعت الشمس من مغربها، فيحتمل- والله أعلم- أن يكون رد التوبة والإيمان على من آمن أو تاب، حتى يظهر هذا الأمر العظيم. فيحدث عنده من تغيير القلوب بما يحدث. فأما إذا عادت إلى ما كانت عليه من قبل وطلعت من المشرق وغربت من المغرب، وعادت الدواعي إلى النفس، وصار النفس وصار الناس كما كانوا فمن أسلم من الكفار، أو تاب من العصاة قلبت رجعته. وأما على الوجه الآخر فينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد، له مردود ما عاش لأن علمه بالله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم وبوعده وقد صار ضرورة. فإن الموت أيام الدنيا إلى أن ينشأ الناس من هذا الأمر العظيم ما كان. ولا يتحدثوا عنه إلا قليلا. فيصير الخبر عنه حاجًا، وينقطع التواتر عنه، فمن أسلم من ذلك الوقت أو تاب قبل عنه والله أعلم. فصل وأما ما جاء في الآية التي سبق ذكرها من قوله عز وجل: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب}. فلا دليل فيه على أن قبول التوبة من العبد على الله كما قال الزاعم الذي أدحض الله حججه، لأن ذلك محال والمعنى أن التوبة الذي وعد الله قبولها، وليس بالذي يخلف وعده، فالقبول واقع منه لا محالة كما يقع

الفعل الواجب من لزمه ووجب عليه. وهكذا قوله {وكان حقًا علينا نصر المؤمنين} أي وكان وعدًا لا يجوز أن يخلفه، أنا نجعل حسن العاقبة لأوليائنا كما قال في معنى إعادة الخلق {وعدًا علينا} لا لأن ذلك واجب عليه في قول أخذ. ولكن لأن إخلاف الوعد غير جائز عليه بما وعد فعله فهو فاعله لا محالة، كمن يكون عليه فعل مستحق فهو فاعله بكل حال. وهكذا من تتبعه في كلام العرب أن يتحرز فيه مثل هذا، وبالله التوفيق. ومن الناس من ذهب إلى أن الاستغفار من أركان التوبة، وإن أركانها الندم والعزم على ترك العود والاستغفار، وهذا فيمن ليس فيه رد مظلمة وتمكين من حق. ومنهم من زاد الغم بالذنب الذي منه تكون التوبة بعد الفرح به، كأن رجلًا يعادي رجلًا ويريد قتله سنين، ثم ظفر به، فقتله، وتاب مكانه. فندم على ما كان منه، قتل مؤمنًا، بغير حق في الجملة، وعزم على أن لا يعود، إلا أن قلبه فرح بأن لم يعلنه عدوه وظفر منه بمراده. قال بهذا ليس بتوبة، إنما التوبة (أن يكون مهمومًا بما جرى على يده، وهذا كما قال: إلا أن يستغنى بشرط الندم عنه، فإن الفرح بما قد كان مناقض للندم، ولا يجتمعان في قلب لوقت واحد أبدًا إلا أن يكون فرحه ينقصان خصمه عن وجه الأرض، وانقطاع عداوته عنه، لا بأن جرى على يده قتله ويشتفي بذلك منه، فإن كان إنما يفرح بانقطاع عداوته فقط، فهذا غير متناقض للتوبة، وإن كان يفرح بفعله الذي فعله مكانه، فهذا مناقض للندم، وإذا خلص الندم لم يمكن أن يكون معه هذا الفرح فذكره إذا تكلف. وأما الاستغفار فإن الله عز وجل يحكي عن هود النبي عليه السلام أنه قال لقومه: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}. وهذا يوهم أن يكون الجمع بين الأمرين محتاجًا إليه، وقد يوهم غيره، لأنه ميز الاستغفار عن التوبة، وقدمه في الذكر عليه. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم. (من أصاب ذنبًا فندم عليه، غفر له ذلك من قبل أن يستغفر) فهذا يدل على أن الاستغفار

ليس من أركان التوبة، على المعنى، أنه يحتاج إليه مع الندم لتتم التوبة، وأما قول الله عز وجل في قصة أبينا آدم صلوات الله عليه، {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} وأثابه هذا بكلمات في آية أخرى، وهو قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} فليس فيه إلا حكاية ما كان من آدم عليه السلام حين تاب عليه. لا يدل على أنه لو ندم ولم يستغفر بلسانه لم يكن تائبًا، لأنه قد قال: {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}. ولا خلاف في أن من لم يقل ذلك واقتصر على أن يقول: رب اغفر لي كان كافيًا. فكذلك لو ندم ولم يستغفر بلسانه لكان كافيًا. وأيضًا فإن التوبة لما كانت من الفرائض أشبهت الصلاة والصيام ومعلوم أن من صام وصلى لم تتعلق صحتها منه وتمامها بأن يقول: اللهم تقبل مني. فكذلك صحة التوبة وتمامها لا تتعلق بأن يقول: اللهم اغفر لي. وأما إذا استغفر ولم يثبت فقد يجوز أن يغفر الله له ويسقط الذنب عنه في حكم الآخرة، ولكنه لا يدري أن الله تعالى جده أجاب دعاءه أو لم يجب، فلا يزال أحكام ذلك الذنب عنه بل يفسق ويرد بها ربه. وإن كان فيه حدًا أقيم عليه، والله أعلم. وأما إذا تاب ولم يستغفر بلسانه أسقط حكم الذنب عنه، لأن الله تعالى فرض التوبة ولا يفرضها ثم لايقبلها، وأخبر مع ذلك بأنه يقبل التوبة عن عباده، ولا يجوز عليه أن يخلف وعده. فصح أن قبول التوبة من التائب أمر تقع كناية العلم به. فيجوز بذلك أن تتبعه أحكام، ولم يخبرنا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إن كل من دعاه وسأله المغفرة، أجاب دعاءه. ولكن شرطه في الدعاء أنه يجيبه إن شاء الله، فقال: {بل إياه تدعون} فكثف ما تدعون إليه إن شاء. وأبان رسوله صلى الله عليه وسلم. إن إجابة الدعاء ليست أن يعطي الداعي غير ما سأل، لكن ذلك يكون، ويكون ليدفع عنه مكان ما سأل بلا مماطلة، ويكون أن يعوض منه الآخرة خيرًا منه. وإذا كان كذلك، لم يعلم بنفس الاستغفار أن الذنب قد سقط عن المستغفر كما يعلم بنفس التوبة أن الذنب قد سقط عن التائب، والله أعلم.

الثامن والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في القرابين والإبانة عن معناها وغرضها وجملة الهدي والأضحية والعقيقة

الثامن والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في القرابين والإبانة عن معناها وغرضها وجملة الهدي والأضحية والعقيقة فأما العقيقة فإنها تذكر في باب حقوق الأولاد على الوالدين. وأما الكلام في الهدي والأضحية فهو ما نذكره: قال الله عز وجل: {فصل لربك وانحر}. وقال: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله، لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها واطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون. لن ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، كذلك سخرها لكم، لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين}. وقال في آية أخرى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. وقال: {ولكل أمة جعلنا منسكًا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فإلهكم إله واحد فله أسلموا}. وقال: {لا تخلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام} وقال: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس، والشهر الحرام والهدي والقلائد}. وأهدي النبي صلى الله عليه وسلمعام حج سبعين بدنه، وتولى نحر عدد منها بيده، وقال: (أفضل الحج العج والثج يضحى من أمة محمد) وأمر الله عز وجل خليله إبراهيم صلوات الله

عليه أن يذبح ابنه، فلما هم بذلك فداه بذبح عظيم. فثبت أن التقرب بإراقة الدماء لوجه الله تعالى سنة للأنبياء صلوات الله عليهم، وأنها من جملة ما أمرنا بالاقتداء بهم فيه. ومعنى ذلك- والله أعلم- أن من حج واعتقد في حجة ما قدمنا ذكره في بابه من أنه قد انسلخ من رتبة الدنيا وشهواتها وخلفها وراء ظهره وتاب من الذنوب وطهر منها قلبه، وجاء مقتدرًا متنصلًا متثيبًا إلى ربه، أمر أن يقرن بذلك قربانًا يقربه له من بعض ما أحل له من بهيمة الأنعام، حتى إذا رمى اتبعه نحره أو ذبحه، وكان كأنه يقول: اللهم إني قد أثبت مبين التقصير بك في حقوقك، وكسب من السيئات ما كان لي إلى نحر نفسي سبيل لنحرتها عقوبة لها بما أسلفت من المعاصي، ولكنك حرمت ذلك علي وأحللت لي بهيمة الأنعام، وإني متقرب إليك بهديي هذا، فاقبله، واجعله فداء لي بمنك وطولك، كما فديت ابن خليلك إبراهيم عليهم السلام بالذبح العظيم، برحمتك وفضلك، واقبله مني كما قبلت من إبراهيم خليلك صلوات الله عليه، ومحمد نبيك ورسولك صلى الله عليه وسلم. ويخطر هنا بقلبه ويعتقده، ويعلم أن هذا معنى قربانه وغرضه، وإن قال بلسانه فلا بأس، وما قتله من هذا فهو من الأضحية مثله، ليس بينهما فرق سوى أن ذلك هدي إلى البيت الحرام، وهذا ليس بهدي، وهما جميعًا سنة، وليس واحد منهما بفرض، لأن الإخلاء من التوبة يجزي عن الفدية كما يجزي عن الاستغفار، لكن الاستغفار معها من أعظم السنن. كذلك القربة والزيارة على الزائر الواحد من القربان تجري عنهما التوبة كذلك يجري عن الدم أصلا والله أعلم. ثم قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع لا تجري من الضحايا: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تنقى). وأجمع العلماء على أن العمياء لا تجري والجرباء لا تجري، والأصل إنما يقص منها شيئًا هو مأكول في نفسه، أو يؤثر في لحمه وشحمه، فينقص منها نقصانًا بينًا لم يجر معه هدي ولا أضحية. فأما نقصان المأكول فكنقص الأذن، وأما نقصان ما يؤثر في اللحم والشحم فنقص العين، وقيل إن نقس اللسان يجمع الأمرين، لأن الإنسان مأكول في نفسه، ونقصانه أو عدمه يعجز عن إحالة العلف في الفم ويضعف عن الطعم فيضر بالشحم واللحم، فلا يجوز ما لا لسان له، كما لا يجوز ما لا أذن له، ولا ما قطع من

لسانه وأذنه شيء وإن كان ما نقص غير مأكول جاز معه، كالقرن والسن والواحد وما لا يضر سقوطها ولا يمنعها من استبقاء العلف والكلأ ما كان، والاليتين فإنهما إذا كانت منزوعتين جاز مع ذلك، وينبغي إذا أراد الرجل الضحية أن يستقبل بأضحيته القبلة ويكبر ويقول: بسم الله، اللهم منك وإليك، اللهم تقبل، ثم يذبح. وإن صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك حسن، وحاش له من أن تنكره الصلاة عند طاعة أو قربة. فأما استقبال القبلة فإنه عمل متواتر عمل المسلمين، لأن كل عمل أمر بالتكبير عند افتتاحه، أمر باستقبال القبلة فيه قياسًا على الصلاة وتقبيل الحجر الأسود واستلامه، والرمي والأذان، هذا وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وجه ذبيحته إلى القبلة. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يوجه ذبيحته للقبلة ويقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وقال جابر رضي الله عنه ذبح النبي صلى الله عليه وسلم كبشين، فلما وجههما قال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (ضحوا وطيبوا بها نفوسكم فإنه ليس من مسلم يوجه ذبيحته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة). فأما التكبير فإنه نص القرآن، قال الله عز وجل: {لتكبروا الله على ما هداكم}. والتسمية وإن كانت وراءها عند كل ذبح ونحر، فقد قال الله عز وجل في القرابين خاصة: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير، فاذكروا اسم الله عليها صواف} وقرأ بعض السلف "صوافن" يعني قائمات. واحتج بقوله: {فإذا وجبت جنوبها}. يعني سقطت، فلا يكون السقوط إلا عن قيام. وقرأ بعضهم "صوافي" يعني خالصات لوجه الله تعالى. والقراءة المتفق عليها "صواف" كما في المصحف. والمعنى صافات، وهي أيضًا قائمات، وقد يجوز أن يعقل وهي قائمة لئلا تنفر إذا نحرت فتلوث أنفسها أو تسقط على أحد فتهلكه، وهذا أولى.

وأما أنه يقول: اللهم منك وإليك، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بكبشين فلما وجههما قال: (إني وجهت وجهي ...) إلى آخره كما ذكرنا. ثم قال: (اللهم منك ولك عن محمد وأمته بسم الله والله وأكبر). وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبشين فأتى بهما فضحى بهما. فقال (يا عائشة، هلمي المدية، ثم قال: أشحذيها بحجر، ففعلت. فأخذها وأخذ الكبش فأضجعه وذبحه وقال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد صم ضحى به). وعن جابر رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين موجرين فاضحع أحدهما، فقال: (بسم الله منك ولك عن محمد وآل محمد. ثم أضجع الآخر فقال: (اللهم عن محمد وأمة محمد، من شهد لي بالبلاغ ولك بالتوحيد). وإذا ذبح المضحي والمهدي بنفسه فذلك أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بيده، فلما كان من حجة الوداع تولى نحو ست أو سبع بدنات بيده، فطفقن يزدلفن إليه بأيهن يبدأ، ثم ولى عليًا رضي الله عنه ما بقي منها، قبض إبراهيم إسماعيل صلوات الله عليهما بيده وأن ولي ذلك عنده جاز. ويكره ولا ينبغي لصاحب الهدي والأضحية أن يغيب عن مسكنه، وأن ولاها غيره، فإنه يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة عليها السلام: (يا فاطمة قومي، فاشهدي أضحيتك، فإنه يغفر لك بأول قطر من دمها كل ذنب عملته، وقولي: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) قيل: يا رسول الله، هذا لك ولأهل بيتك خاصة، فأهل ذلك أنتم وللمسلمين عامة. قال: بلى، للمسلمين عامة. وفي رواية أخرى أنه قال لها: (يا فاطمة بنت محمد، قومي فاشهدي ضحيتك، فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب). أما إنها

نجاها بدمها ولحمها سبعين ضعفًا حتى توضع في ميزانك، وينبغي لكل ذابح أن يحد الشفرة ويذبح الذبيحة، ولا ينبغي للمقرب أن يقرب إلا النفيس السوي، قال الله عز وجل: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. فقيل في تفسير التعظيم أنه استسمان الهدي واستحسانه. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الرقاب. فقال: (أغلاهما ثمنًا وأنفسها عند أهلها). فإذا كان هذا في العتق، هكذا هو في الهدي، والأضحية مثله. وجاء عن بعض الصحابة قال: كنت سابع سبع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرنا أن يجمع كل واحد منا درهمًا، فاشترينا أضحية بسبعة دراهم، فقلنا: يا رسول الله! لقد أغلينا فيها. فقال: (بلى، أحب الضحايا إلى الله أغلاها وأسمنها). قال وأمرنا فأخذ رجل منا يدًا والآخر يدًا، والآخر رجلا والآخر رجلا، والآخر قرنًا، والآخر قرنًا وذبح الطابع وكبرنا عليه جميعًا. واختلف في الأنعام أنها أفضل أن يضحى عليها. والثابت عندنا أن الأفضل البدن، ثم البقر والغنم أدون الضحايا، لأن الله عز وجل كما قال: {فما استيسر من الهدي} كان أيسر ذلك شاة، فعلمنا أن ما عداها أرفع منها. ولأن الله عز وجل ذكر بهيمة الأنعام في كتابه وخص البدن بالذكر فامتن بأنه حلها لنا لنتقرب بها إليه. فدل ذلك على أنها أغلى ما يتقرب به إليه عز اسمه، ودل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم من راح في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقره، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فلما كان الرواح في الساعة الأولى أفضل من الرواح في الساعة الثانية والثالثة، علمًا أن ما جعله مثلا له من تقريب بدنه أفضل من الذي جعله مثلًا لما بعده، ودل عليه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأن البدنة تجري عن سبعة، والشاة لا تجري إلا عن واحد، فكان المقرب ببدنه كالمقرب

بسبع من الغنم، ومعلوم أن التقرب بسبع من الغنم أفضل من التقرب بشاة. فوجب أن يكون التقرب ببدنه أفضل من التقرب بشاة. وكذلك البقرة أفضل من الشاة لأنها تجري عن سبعة. وجاءت الأخبار بأن البدنة تجري عن عشرة والبقرة عن سبعة، ولكن الأخبار في سبعة أثبت. والناس على هذا دون القول الآخر. ويشبه أن يكون إلحاق البقرة في هذا بالبدنة، وإن كانت أصغر جثة منها لأنها تحمي نفسها. وهي مع ذلك كبيرة الجثة، وإن لم تكن كالبدنة، فنزلت من البدنة منزلة البدنة الصغيرة من البدنة الكبيرة، ولهذا كان حكم البقر أيضًا له حكم الإبل، فلم يكن لأحد وجد بقرة ضالة بفلاة أن يأخذها كما لا يكون له أن يأخذ بعيرًا ضالًا، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من أخذ الإبل أن قال: (ملك ولها معها سقاؤه وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر وترد السباع بقرونها، والحركة عن نفسها كما تذود الإبل بعظمها وقوتها) فلما تقاربا من هذا الوجه أجزى كل واحد منهما من سبعة. وكانت أفضل من باب التقرب إلى الله عز وجل بهما من الشاة الضعيفة، التي لا فرق في حكم الضلال بينها وبين قطعة لحم تصاب والله أعلم. واحتج من ذهب إلى تقديم الشاة أن الله عز وجل فدى ولد خليله عليه السلام بكبش. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتاني جبريل عليه السلام، فقلت له: كيف رأيت سنتنا في أمر أضحانا هذا، فقال: قد عجب أهل السماء! واعلم يا محمد أن الجذع من الضأن خير من المسن من المعز، لو علم الله ذبحًا أفضل من ذبح إبراهيم لأعطاه. قلت: ما كان ذبح إبراهيم؟ قال: الذي قرب ابن آدم). فالجواب: إن هذا الحديث ليس بثابت: ولو ثبت لكانت الحجة فيه، ولم يخالف. وقد يحتمل منع ذلك التأويل، وهو أن المقابلة وقعت بين الخدعة من الضأن والمسن من المعز، فكان معني لو علم الله ذبحًا أفضل من ذبح إبراهيم لأعطاه أي في الإتيان من صنف الغنم لا في أصناف النعم، كأنه أراد الخدع من الضأن أفضل مما دون الخدع من الضأن،

وأفضل من الثني من المعز وأفضل من المسن من المعز، وهو أيضًا أفضل من المسن الهرم من الغنم. فأما البدنة والبقرة فإنهن بأفضل منهما لما سبق من الدلائل. وأما احتجاج من احتج بقصة إبراهيم غير مسند إياه إلى جبريل عليه السلام. فجوابه: إنا فضلنا البقرة والبدنة على الشاة لعظمها وقوتهما. وقد وصف الله تعالى الكبش الذي فداه بإسماعيل عليه السلام بالعظم، فقال: {وفديناه بذبح عظيم}. ووردت الأخبار بأنه كان كبشًا يرعى في الجنة أربعين خريفًا. وقيل: كان اختراعًا اخترعه الله تعالى هناك في ذلك الوقت، فقد يحتمل أنه كان كبشًا بوادي البدنة أو البقرة، ولو كانت الغنم اليوم مثله لم ينكر أن يكون أفضل من الإبل والبقر، ولكنها ليست مثلها في الوصف. فكذلك لا يكون مثلهما في الفضل وأيضًا فإن الله عز وجل فدى إسماعيل بكبش، والكبشان خير، ولا ينكر أن يكون فداء بكبش والبدنة خير. وقد يجوز أن يكون فداه بأدنى الضحايا تخفيفًا على من يستن منه من بعده ويستن بفضله والله أعلم. وإذا ضحى الرجل بالغنم، فالمستحب أن لا يقتصر على اثنين قياسًا على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يضحي بكبشين، وهو قياس ما جاء عنه من قوله: (من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة من كل باب) وإن ضحى من الإبل إنما البقر استحب ذلك له أيضًا إن أطاق. والكبش أفضل من النعاج لأنها أطيب لحمًا، وهو الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الإبل والبقر فالإناث منهما أفضل لأنها أطيب لحمًا. وإذا ضحى بكبشين فالمستحب أن يكونا أقرنين، كبيرين، مسنين، موجرين، لأن لحم الموجر أطيب من لحم الفحل، والصفراء أفضل من السوداء. ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، والأملح الأبيض، وقال: (دم صفراء أحب إلى الله من دم سوداوين) وينبغي لمن دخل عليه العشي وهو يريد أن يضحي أن لا يميز من

شعره، وليكثر به شيئًا، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أوجب هذا ما بساقه. فإن كان من الإبل والبقر فليقلده ويشعره وهو أن ينزع صفحة سنامها الأيمن فيسيل دمها على جنبها ويقلدها قطع الجلود ويسوقها كذلك. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر بدنه وساقها وهي مشعرة. وإن كان من الغنم فليقلده ولا يشعره، وإذا أشعر أو قلد فليفعل ذلك وهو مستقبل القبلة، لأن القبلة وما حرم بحرمها هي المقصودة بالهدي وإليها تساق. وله أن يأكل من كل هدي وضحية لم يلزمه في ذمته، وما أن بهتت به ذمته فلا يأكل منه، وما يأكل منه فله أن يطعم من الأغنياء وأهل الذمة، وما لم يأكل منه فلا يطعم إلا مساكين المسلمين. وإذا حل له الأجل من هديه أو أضحيته فقد اختلف في مقداره ما يستحب له من التصدق به. فقيل يتصدق بنصفه ويأكل ويدخر من النصف لقول الله عز وجل: {فكلوا منها وأطعموا} الإبل يأكل الثلث إن شاء ويتصدق بالثلث لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلث، فكلوا واطعموا وادخروا) فصارت الضحية منقسمة بين هذه الأوجه الثلاثة لكل وجه ثلث. واختلف في أكل الجميع فقيل: يحل كما يحل أكل بعضه وإذا جاز أن يؤجر على جميعه وإن أكل بعضه جاز أن يؤجر على جميعه وإن أكل جميعه. وقيل: لا يجوز له أن يأكل كله، وإن قول الله عز وجل في البسيلة: {فكلوا منها وأطعموا} كقوله تعالى في الثمر: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} فإنما يحل أكل البعض لا أكل الجميع، وكذلك الضحية ومواضع استقصاء هذه المسائل وما يشبهها في الكتب المجردة للأحكام.

فصل وقد كان أهل الجاهلية يذبحون ذبيحتين لألهتم: إحداهما الفرعة: والفرع وهو أول ولد تلده الناقة. والآخر العتيرة وهي الرجيبة. وجاء الإسلام بإقرار العتيرة وصرفها إلى وجه الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة) كقوله: (عسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) أو هو دونه، إنما أراد به استحسانه واستحبابه، لا واجب التزامه والتحرج عن تركه والله أعلم.

التاسع والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في طاعة أولى الأمر

التاسع والأربعون من شعب الإيمان وهو باب في طاعة أولى الأمر بفصولها قال الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} واختلف في أولي الأمر. فقيل: هم أمراء السرايا. وقيل: هم العلماء، ويحتمل أن يكون عامًا لهما وإن كان خاصًا فأمر السرايا أشبه بأن يكون المراد لأن ذا الأمر هو الأمير، كما أن ذا المجد هو المجيد، وذا القرب هو القريب. فلما كان العالم فيما بين الناس لا يسمى أميرًا، ويسمى ولي أمر الجيش أميرًا، كان بما جرى في الآية من ذكر أولي الأمر بأن يصرف إلى آمر السرايا، أولى منه بأن يصرف إلى العلماء، والله أعلم. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني). وجاء: (اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة). وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا نهى الناس عن أمر دعا أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنما ينظر الناس إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن هبتم هاب الناس، وإن رفعتم رفع الناس، والله لا يقع أحد منكم كما في أمر نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العقوبة لمكانة مني. والأصل في هذا الباب أن طاعة الله تعالى لما كانت واجبة كانت طاعة ملكهم شيئًا من أمور عباده واجبة وهم الرسل صلوات الله عليهم. وإذا وجبت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

بهذا المعنى وجبت طاعة من تملكه الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا مما ملكه الله تعالى بأي اسم دعي، فقيل له: خليفة وأميرًا وقاضيًا أو مصدقًا، أو من كان وأي واحد من هؤلاء وجب طاعته كان عامله ومن تملكه شيئًا مما يملكه مثله لقيام كل واحد من هؤلاء فيما صار إليه من الأمر منزلة الذي فوقه إلى أن ينتهي الأمر إلى من له الخلق والأمر، وليس فوقه أحد، وهو الله رب العالمين. وفي هذه حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. فأما إذا توفاه الله تعالى إلى كرامته من غير نص على إقامة أحد من بعده فوجب على أهل النظر من أمته أن ينتخبون إمامًا يقوم فيهم مقامه، وبمعنى فيهم إحكامه لأن منزلتهم جميعًا إذا مات عن غير خليفة له فيهم كمنزلة من ناب داره عنه في حياته، فلما كانت سنة في أهل البلاد القاضية أيام حياته أن يؤمر عليهم أميرًا وينفذ إليهم قاضيًا، دل على أن خلق الجماعة بعد وفاته لا عن أحد استخلفه عليهم، أن يكون لهم فيما بينهم من يقوم مقامه، وينفذ أحكامه. فإن قيل: أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمر للأمر في حياته، فإذا مات من غير تأمير، فمن الذي يؤمر؟ ولو كان لأحد أن يؤمر بعد موته لكان ذلك التؤمر بنفسه أميرًا، ويستغني عن تأمير غيره، فإذا لم يكن بعده واحدًا منهم مالك أمر، فكيف يكون له أن يؤمر غيره. والجواب: أن على جماعة المسلمين أن يكونوا يدًا واحدة، وكلمتهم متفقة وأن تكون أحكام الله جارية بينهم، وحدوده مقامة فيهم، وجهاد أعدائه موجودًا منهم، وهم من ذلك مجبولون على اختلاف الآراء والهمم. فإن تخلوا عن إمام يضمهم ويقوم عليهم لم يكد يصف بعضهم بعضًا، ولم يؤمن أن يكسلوا عن إقامة الصلوات في الجماعات ويستحبوا بالزكوات ويقعدوا عن الجهاد، ويعطلوا الحدود، فيكثر الفساد وتشيع الفواحش، وإذا كان فيما بينهم إمام قد يقبلوا طاعته قام عليهم وساسهم ودبر أمرهم واستوفى منهم حقوق الله تعالى، وأقام عليهم حدوده، ونفذ فيهم أحكامه وأمرهم فأطاعوه ودعاهم إلى ما فيه صلاحهم فأجابوه. فصح أن بهم الإمام أشد الحاجة، إذ كان لا يتهيأ لهم أن يحفظوا دين الله فلا تصنيع شريعته ولا تدرس إلا به. وإذا صار الإمام لما وصفناه من حقهم لم يجز أن يكون يدبر حقوقهم، خارجًا من بينهم، لأنه إذا خرج من بينهم فليس وراءهم إلا أضدادهم، ولا يجوز أن يكون تدبر حقهم إلى أضدادهم فثبت بذلك أن اختيار الإمام ونصبه إليهم، إذا لم يكن فيهم رسول من الله تعالى يتولى أمرهم يعلم فوق علمهم بنظر

أشد وأقوم من نظرهم. وكان إخراج الله تعالى إياهم إلى الإمام ثم تركه النص به على واحد منهم لعينه إذنًا من الله تعالى لهم في أن يعملوا في اختياره ونصبه بما لا يقدرون على غيره ولا على أكثر منه. فإن ذلك إذا لم يكن لزمت الحاجة واشتدت الضرورة ولم يؤخذ على ما يرفعها إلا أن تدرس المسألة وتذهب الشريعة لا يجوز أن يفرض الله تعالى على عباده فرضًا، ولا يحل لهم سبيلًا إلا بإمام. دل ذلك على أن لهم أن ينتهوا فيه إلى أقصى ما يطيقونه من التحري والاختيار، ثم لينصبوه، ولا يمنعهم من ذلك إذا اجتمعوا أن كل واحد منهم لا يملك بأميره غيره، إذ لو ملك بأميره غيره لكان أميرًا بنفسه، لأن الاجتماع قد يغير حكم الانفراد. وكذلك صلاة الجمعة يجتمع أهل المصر عليها فينادي ويصيح منهم، ولو زاد كل واحد منهم الإفراد بهما لم يجز. فلا ينكر أن تكون الجماعة إذا اعتقدت الإمامة لواحد يعتقد، وصار إمامهم وإن كل واحد منهم لا يملك من الأمر على الانفراد شيئًا وبالله التوفيق. وصارت منزلة ما قلنا من أن الحاجة إذا وقعت إلى الإمام وعدم النص وجب العلم فيه بما يمكن منزلة، ما أجمع المسلمون عليه من الله عز وجل لما فرض على الناس من البيت استقباله إذا صلوا، ولم ينص لهم على مثال يجدونه ليفهم أن ينتهوا في معرفة القبلة إلى أقصى ما يقدرون عليه، فصاروا إلى الاستدلال بمهب الرياح وبالجبال وبالشمس والنجوم. لأنهم لم يستطيعوا أكثر منه. فكذلك إذا خلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم واحتاجوا إلى الإمام، ولم يكن عندهم إلى أحد نص، لزمهم أن يصروا في تعيين من يتولى أمرهم إلى أقصى ما يقدرون عليه من التحري ثم يعملوا عليه، والله أعلم. فإن قيل: إن الذي أشكلت عليه القبلة بمثل حال غيبته، بحال حضرته لجميع بعض الإدارات بين حاليه, والمستدلون على الإمام لا يمثلون الذين يختارونه بغيره بجمع وصف أو أوصاف بينهما. قيل: قد بان أن يقال أنهم يفعلون ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش فهو الإمام، فإذا صار إلى ما أعد الله له من كرامته كان أولى الناس بأن يقوم مقامه، من يكون أشبه من معاني الصلاح والاستصلاح به. وذلك يعرف بالاجتهاد. على أنه بهذه الصفة كان بأن يؤمروه على أنفسهم أحق.

فإن قيل: كيف يجوز أن يصح هذا؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم إن كان فيهم وليهم بالنبوة، والنبوة لا توجد فيمن تقام مقامه من بعده، ولا يمثل شيء بشيء ليحكم له بحكمه، إلا بعد أن يكون معنى الأصل موجودًا فيه. قيل: والكعبة إنما تستقبل عند الحضرة بالعيان والعيان نابت مع الثاني، ثم لم يمنع ذلك من تمثيل حال الغيبة بحال الحضرة، إذا أجمعت بعض الإمارات التي لا تختلف دلالتها بين الحالين. فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فإن كان يطاع ويتبع للنبوة، فإن النبوة إن لم توجد فيمن يجتمع عليه من بعده، فلذلك لا يمنع من يمثله في وجوب الطاعة به إذا قدر من معاني الصلاح والاستصلاح فيه ما كان مستيقنًا منهما في النبي صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق. فإن قيل: لو جاز أن يقام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أحد مقامه بالاجتهاد لم يقدر فيه من معاني الصلاح والاستصلاح، جاز أن يتخذ أحد في حياته إمامًا إذ 1 قدر فيه من معاني الصلاح والاستصلاح. قيل: أيفعلوا؟ فمن قال؟ ولو جاز أن يصلي عند النأي عن البيت إلى جهة من الجهات، أتقدر ببعض الأمارات من أن القبلة فيها، لجاز أن يصلي عند الحضرة بمثل هذا الاجتهاد، لا يتكلف العيان، وإن كان ممكنًا فيتطرق بهذا إلى المنع من الصلاة في حال تعذر العيان. فالاجتهاد، فإن كان هذا لا يلزم ولا يدل المنع من التحري عند إمكان العيان على المنع منه عند العجز عنه، فكذلك ما قلتموه لا يلزم، ولا يدل المنع من نصب الإمام الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم على المنع منه بعده وبالله التوفيق. فصل وإذا أراد الاجتهاد نصب إمام حين لا إمام لهم، فأول شرائط الإمام أن يكون من قريش، والثاني أن يكون عالمًا بأحكام الدين، يصلي بالناس فلا يؤثر في عوارض صلواته من جهل مما يحتاج إليه في إتمام صلاته، ويأخذ الصدقات فلا يؤثر فيها من جمل بأوقاتها وأقدارها ومعارفها، والأموال التي فيها ويقضي بينهم فلا يؤثر فيما ينظر فيه بين الخصمين ويفضل به بينهما من جهل ما يحتاج إليه. ويجاهد بالمسلمين في سبيل الله عز وجل، فلا

يؤثر في استعداده وخروجه وملاقاته وما يغنمه الله تعالى من مال المشركين أو يفيء عليهم أو يعلقه بخيل من رقابهم، ولا جبن ولا جور ولا جهل بما يلزمه أن يعمل ويشتهر به فيه، وينطر في حدود الله تعالى إذا رفعت إليه فلا يؤثر فيها من جهل بما يدرأ منها، أو يقيم ويتولى الصغار والمجانين والغائبين وحقوقهم، فلا يؤثر فيها من جهل فيه النظر والغبطة لهم. والثالثة أن يكون عدلًا قيمًا في دينه وتعاطيه ومعاملاته. فأما اشتراط النسب، فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الأئمة من قريش) وأنه قال: (قدموا قريشًا ولا تقدموها ولولا أن تبطر قريش لاخترتها بما لها عند الله تعالى). فإن قيل: هل اشترطتم أن يكون الإمام من بني هاشم لما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله اصطفى كنانة من العرب، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى هاشمًا من قريش، واصطفاني من بني هاشم). فإذا كان الإمام هاشميًا كان أقرب شبهًا برسول الله صلى الله عليه وسلم منه إذا لم يكن هاشميًا. وإن كان من قريش. قيل: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر، وقد يجوز أن يكون تركه اشتراط بني هاشم للتوسعة، فإنه لا يؤمن أن يضيق اختيار واحد عن أن يوجد فيهم عند الحاجة من أهل الشرط من تنزاح به العلة وتنشد به الخلة، فيجتمع الناس في إمامهم أن يكون من رهط النبي صلى الله عليه وسلم كما يكون في الفضائل المكتسبة وأشبه منه، والله أعلم. وأما اشتراط العلم بأحكام الصلاة والزكاة والجهاد والقضاء والحدود والأموال التي يتولاها للأئمة، فإنه لا يمكنه أن يقوم بحقها، والواجب إلا بعد العلم. وإنما يحتاج إلى الإمام لتكون معالم الدين حية، وأحكام الله تعالى بين عباده جارية. فإذا لم يكن عنده من العلم ما يتوصل به إلى ما يحتاج إلى الإمام لأجله، فوجوده وعدمه بمنزلة واحدة. وينبغي له أن يكون شجاعًا شهمًا، لأن رأس أمور المسلمين الجهاد، فإذا كان من يتولى

أمرهم جبانًا، لا يمنعه ذلك عن مجاهدة المشركين، وحمله على أن ينزل عليهم كثيرًا من حقوق المسلمين مكان ما يبصرون به أكثر مما ينتفعون. وقد علم أن الجبان، لقتل الذي لا يؤمن بجدل المسلمين في الحرب لا يستعان به. ويميز عن حرب المسلمين إذا اختلط بهم. فكيف يجوز أن يكون رأسهم وقائدهم، ما هذا شرطنا الشجاعة والصرامة والله أعلم. وأما اشتراط العدالة، فلأن الإمام إذا كان يتولى حقوق الله تعالى وحقوق المسلمين فإن قبضه منصب الإمامة ائتمان له على هذه الحقوق، ولا يجوز أن يؤتمن على حقوق الله تعالى من ظهرت خيانته له. ألا ترى أن له أن يحاكم إذا أراد أن يستودع أحدًا مال يتيم لم يجز له أن يستودع من قد ظهرت خيانته في أمثاله، فكيف يجوز للأمة أن تأتمن على حقوق الله تعالى وحقوق عباده من ظهرت خيانته لأن الفاسق ناقص للإيمان، فلا يجوز أن يشرف بالتولية على المسلمين، الذين فيهم من هو كامل للإيمان، أو أقرب إلى كماله منه كما لا يجوز أن يولي شيئًا من أمور المسلمين كافر أو لأن الفاسق لا يرضى للشهادة، فكان بأن لا يرضى للحكم الذي هو أرفع منزلة من الشهادة أولى. وإذا لم يرض للحكم كان بأن لا يرضى بالإمامة التي هي أجمع من الحكم أولى والله أعلم. ولأنه إذا لم يصلح نفسه إما بصنيعها له أو عجز عن إصلاحها فيما طرأ أن يكون لمن يحوي في الإفساد مجراه أكثر تصنعًا، ولا عن صلاحه أشد عجزًا. ومن كان مميزًا بهذه المنزلة فهو أبعد الناس من موقف الأئمة وبالله التوفيق. فقد جاء في الإمام المقسط والجائز أخبار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسًا إمام عادل. وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابًا إمام جائر). إن المراد بقوله وأشدهم عذابًا أي: أشد الأبغض أشدهم عذابًا، وإن المراد بقوله: (أقربهم مجلسًا)، أي الأحب أكثرهم كرامة وأحسنهم ثوابًا.

فصل وإذا استجمع الواحد الشرائط التي سبق ذكرها نظر: فإن كان الذي يقدمه فلانه في حياته ما يتولاه، إما استخلافًا إياه عند عجزه عن القيام بما عليه فيه. وإما انخلافًا إليه منه على النظر للمسلمين، فذلك نص ماض منه، ولا اعتراض عليه فيه. وإن كان أوصى له بالولاية بعد موته، مالا ظهر إن ذلك جائز، وقد يحتمل غيره. وإن استخلف إمام على جميع ما إليه من أمور الأمة رجلًا مثله قيضه منصب نصبه من عجزته عن مناشر ما إليه فالأشبه أن ذلك غير جائز، لأن ذلك لو جاز لكان للناس إمامان ويلك كل واحد منهما عزل الآخر على النظر للمسلمين، ولا يجوز أن يكون لهم إمامان، لأن ذلك يؤدي إلى التخرب والتفرق. وإنما احتيج للإمام للجمع ورفع التفرق. فإذا كان نصب إمامين يؤدي إلى التفرق، كان ذلك أضرب من أن يكون للناس إمام. فصح أنه لا يجوز أن يكون لهم إلا إمام واحد. وأما إذا عجز فاستخلف فجائز، لأن ترك الاستخلاف في هذه الحالة مضيعة، وللاستخلاف نظر وقيام بحق الإمامة، فإن استقل بذلك ورجع إلى حاله الأولى كان هو الإمام وانتهت خلافة خليفته. وإن استمر به العجز حتى مات استقرت خلافة خليفته، لأن نكبة الخلافة إذا كانت عجزه عما إليه، فكلما ازدادت الخلافة استقرارًا فلا عجز أشد من الموت، فوجب أن يتأكد أمر الخليفة بوقوعه. وإما أن انخلع إليه من غير عجز فذلك جائز على النظر للمسلمين، وإن لم يكن هناك عجز بين، وهكذا إن لم يكن فيه ضرر بين ولا نظر بين. فأما إذا كان يعلم في الجملة أن دوام الأمر المستخلف خير وأصلح من انتقاله إلى من استخلفه، واستخلافه غير جائز، وإن لم يكن هناك ضرر بين يشار إليه. أما إذا كان للمسلمين في الاستخلافة من استخلف أدنى نظر، فإنما ذلك إنما جاز لدخوله في جملة ما تولاه. فإن الذي تولاه، أن ينظر للمسلمين ويختار لهم إلا عود عليهم والأنفع لهم. فلما كان ما صنع بهذه الصفة وجب أن يكون ذلك ماضيًا منه، وإن لم يكن للمسلمين فيه نظر بين ولا عليهم منه ضرر بين، فذلك جائز، لأنه لو دام على الإمامة لكان ذلك جائزًا، فكذاك إذا فعل ما يشبه

دوامه عليها بأن انخلع منها إلى مثله، وجب أن يكون ذلك جائزًا، وأما إذا علم في الجملة أنه خير وأصلح من الذي انخلع إليه فذلك غير جائز، وأما إذا أوصى بالأمانة بعده لغيره، فقد يحتمل أن لا يجوز لأن إقامته كانت عن عقد، وتعرض عينًا هي بموته، ويرجع حق الاختيار ونصب الإمام إلى جماعة المسلمين. فإذا أوصى كان بالتوصية داخلًا عليهم في حقوقهم، فلم يجز، وإلا ظهر أن ذلك يجوز، لأن المسلمين محتاجون إلى الإمام ما داموا ودامت الدنيا. فإذا أوصى إلى رجل بالإمامة من بعده فقد كفاهم من بعده شغلًا، لو يم يكفهم لاحتاجوا إلى تكلف القيام به إلى جهد كبير. فوجب أن يكون ذلك منه ماضيًا. وإنما انقطع إمامته بموته أنه لا يقدر بعد الموت على التصرف فإذا قدر على أن تعرض بعد الموت فأزاحها كان ذلك إخلالًا في حق إمامته، وفي جملة ما أسنده المسلمون إليه لما ذكرنا من أن حاجة المسلمين إلى الإمام دائمة في عامة الأوقات والأحوال. فبأي شيء يشغل في أي حال كان؟ فإنه إذا قدر على أن يكفيهم فكفاهم ولم يخل ذلك من أن يكون واقعًا منه بحكم ولايته، فوجب أن يكون ذلك ماضيًا منه والله أعلم. وقد يحتج لهذا بأن عمر رضي الله عنه أوجب الأمر من بعده لما طعن لأحد ستة نفر: عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعد والزبير، فبايعته الصحابة على ذلك، ولم يخرجوا الأمر من بينهم إلى سابع، فعلمنا أنه لو كان أوجبه لواحد منهم بعينه لكانوا إلى مبايعته أبدر، فأما استخلاف أبي بكر عمر رضي الله عنهما في مرضه، فقد يحتمل أنه كان استخلافًا بعد الموت، فكان وصية له بالإمامة، ويحتمل أنه استخلفه في الحال لعجزه عن القيام بما كان إليه، على أنه إذا مات استقر له الأمر، والله أعلم. فصل فإن لم يكن لمن جمع شرائط الأمانة عهد من إمام قبله، واحتيج إلى نصب المسلمين إياه فأشبه ما يقال في هذا الباب عندي وأملاه بالحق، أنه إذا اجتمع أربعون عدلًا من المسلمين أحدهم عالم يصلح للقضاء بين الناس فعقد، والرجل جمع الشرائط التي تقدم ذكرها للإمامة بعد إنعام النظر، والمبالغة في الاجتهاد، تثبت له الإمامة، ووجبت له عليها الطاعة، وينبغي أن يبدأ العالم الذي بينهم بالعقد ثم العدول الذي ليسوا في العلم

والرأي مثله، وأصل هذا أن الصحابة لما اختلفوا في الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اجتمعوا على أبي بكر رضي الله عنه، كان سبب اجتماعهم اشتقوا له الإمامة المطلقة العامة من إمامة الصلاة فقالوا: قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذل يؤخره؟ وقالوا: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا! فكما وجبت مبايعتهم على تقديم أبي بكر، فالاعتراف له بالإمامة كذلك تجب مبايعتهم. في هذا الاستدلال واستباق حكم الإمامة المطلقة في الإمامة الخاصة، وهي إمامة الصلاة فيما تدعو الحاجة إليه. ثم إن وجدنا الصلاة تختلف، فمنها ما لا يجوز إلا بالاجتماع عليها، ومنها ما يجوز في حال الانفراد، فلم يصح اشتقاق حكم الإمامة التي لا يثبت إلا بالاجتماع عليها من الإمامة الصلاة التي تصبح من غير اجتماع وعليها وجب الاشتقاق حكمها من إمامة الصلاة التي لا يجوز الاجتماع عليها وهي صلاة الجمعة. وقد قام الدليل على أن صلاة الجمعة لا تنعقد للأربعين رجلًا، ثم إن الأربعون الذين تنعقد بهم الجماعة من شرطها أن يكون أحدهم إمامًا يتولى بهم الصلاة، والآخرون يتبعونه. فأوجبنا أن يكون أحد الأربعين يعقدون للإمامة المطلقة عالمًا يصلح مثله للقضاء، فيكون هو الذي يتولى الاجتهاد والنظر ويبدي رأيه للآخرين فيبايعونه. فإن قيل: إن الصلاة التي اشتقت الصحابة إمامة أبي بكر رضي الله عنه من إمامته فيها كانت غير الجمعة، وكانت من الصلوات التي يجوز الانفراد بها، وخبر كل صلاة جماعة باجتماع اثنين عليها، فيقولون أن الإمامة تثبت باجتماع عدلين على العقد. فالجواب: أنهم إنا اشتقوا استحقاقه للإمامة المطلقة العامة من تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه للإمامة الخاصة. وليس إذا كان مستحقًا لها صار إمامًا، ولكنه إنما يصير إمامًا بأن يعقد له: فإن الإمام من يؤمر به لأمر يستحق أن يؤثم به فقط. فلم يجز إذا استدل باستحقاقه للإمامة في الصلاة المحتلمة للانفراد على استحقاقه للإمامة المطلقة أن يستدل بقيام إقامته فيها بواحد ينضم إليها على قيام الإمامة المطلقة بواحد أو اثنين، لأن العقد غير الاستحقاق، وهو منزلة بعده. والذين عقدوا له لم يقيضوا حكمًا من عقد الصلاة المحتملة للانفراد لأنهم لم يروا أن واحدًا إذا تابعه فقد وجبت الإمامة له، وعندنا أنهم إنما اعتدوا إمامته إمامة بعد أن

بلغ عدد المتابعين له أربعين، غير أن ذلك لم يظهر لأن الحاضرين كانوا أكثر من هذا العدد والذي بدله عمر رضي الله عنه بالتبعة تابعه الآخرون من غير توقف، كما أنهم كانوا إذا صلوا الجمعة اجتمع عليها أكثر من أربعين أضعافًا كثيرة، إلا أن ذلك لم يكن يمنع من أن تكون صحة العقد متعلقة باجتماع أربعين دون من زاد عليها. فكذلك صحة تلك البيعة كانت متعلقة باجتماع أربعين دون من زاد عليها، ولأن صحة تلك الصلاة لم تكن تتعلق بالاجتماع وإنما كان يحتاج إلى الاجتماع عليها للفضل لا للصحة. فلم يكن الاستدلال في هذا الموضع لما قلنا، وجب الفرع إلى العدد الذي يحتاج إليهم بصحة الصلاة، وإنما توجد هذه العدة في صلاة الجمعة، فأوجب اشتقاق عدد الذين تنعقد بهم الإمامة من عدد الذين تنعقد بهم الجمعة ما تقدم بنا به والله أعلم. فصل وإنما قلنا ينبغي أن يكون الأربعون عدولًا لأنهم يعقدون على أنفسهم وعلى غيرهم من المسلمين، فلو جاز أن يكونوا فساقًا لجاز أن يكون من يعقدون له فاسقًا، وقد بينا أن ذلك لا يجوز فمما بدا لم يجز أن يكون الإمام فاسقًا لأنه يتولى أمور المسلمين ويعقد عليهم ما يحتاج إلى عقده، فكذلك الذين يعقدون له الإمامة ينبغي أن يكونوا عدولا ولا يجوز أن يكونوا فساقًا، وبالله التوفيق. ذكر القهر وما قيل فيه. قال قائل: أن أحدًا لا يكون إمامًا يجب طاعته وتصح توليته، وعزله، حتى يكون قويًا قاهرًا، إن لم يطع طوعًا أطيع كرهًا. واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم الحدود حين كان بمكة، ولا يبعث الولاة والقضاء، لأنه لم يكن ظاهرًا على أهل مكة وإنما فعل ذلك كله لما هاجر وحصل بالمدينة، وقوى أمره. فثبت أن تصرف الإمام لا يصح إلا بعد أن يكون قاهرًا قويًا. فالجواب: أن العقد الذي ذكرنا إذا وقع لمن وصفنا ثبتت له الإمامة قاهرًا كان أو غير قاهر. وكذلك إن كان جهد إليه إمام وصح تقليده وعزله. وأصل هذا أن

الإمامة فرع للنبوة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان قبل الهجرة نبيًا وإن لم يكن قاهرًا لأهل مكة ولا ظاهرًا عليهم. ويقال لمن قال هذا القول- إن ثبت- إن كان للمسلمين إمام عادل فخالفته جماعة وناصبته وبايعت رجلًا سواه، وتعرضت لمحاربته، فوهبت بذلك بالإمام، فلم يردد يده على الإمامة إلا ضعفًا، وجمعه إلا قلة، وأمر الخوارج البغاة بالصد من ذلك. أتقول: إن الإمام العادل قد انخلع بخروج من خرج عليه وزالت عن الناس طاعته. فإن ولي رجلا لم تصح توليته، فإن عزله لم يصح عزله. فإن قال: لا أقول ذلك، فقد نقض قوله وترك أصله. وإن قال كذلك أقول! قيل له: أرأيت إمامة البغاة إن ولي وعزل. أيصح ذلك منه. فإن قال: لا. قيل: فهو سلطان قاهر، فهلا أخرت صنيعه، وشرطك فيه موجودًا. وإن قال: نعم قيل: فقد صار الحق ينقلب باطلا بأن ينبذ. فلا يتبع. والباطل ينقلب حقًا بأن يقبل فيتبع. إن كان هذا هكذا، فقل: إن إمام أهل العدل قد انعزل بقوة الأهل البغي عليه، وصار إمام البغاة إمام حق تجب طاعته، وتحرك مخالفته. وإن كنت لا تقول ذلك، فلا معنى لأن يكون الإمام الحق إمام أ÷ل العدل، ثم لا تصح توليته ولا عزله لكونه غير قاهر والله أعلم. ويقال له: أرأيت الإمام إذا بايعه عدد تنعقد إمامته بهم، أتلزم طاعة أمرائه وقواده وأجناده فلا بد من نعم. فيقال له: لماذا ألزمتهم طاعته وهو قاهر لهم غيرهم؟ وليس قاهرًا لهم بغيرهم؟ وإن جاز أن يلزمهم طاعته وليس بقاهر لهم. فلم لا جاز أن يلزم الناس كلهم طاعته، وإن لم يكن قاهرًا لهم بجند ولا غيرهم؟ فإن قال: إنه قاهر لبعض جنده ببعض، وقاهر لكل واحد منهم بغيره. قيل له: أرأيت لو عزل منهم واحدًا، فقال الآخرون: لا نرضى بعزله أو ولي أحدًا منهم أمرًا، فقال الآخرون: لا نرضى بولايته، أيبعد ذلك منه؟ فإن قالوا: لا. قيل: فإن الطاعة التي لزمتهم أولًا وكأنهم إنما وقعت على شرط خيار تثبت لهم فيها، وإن قالوا: نعم. قيل: فقد جاز عزله وتقليده على من ليس قاهرًا لهم.

ويقال له: أنه إنما يكون قاهرًا لبعضهم ببعض إذا سمعوا له وأطاعوه وليس السؤال عن هذا ولكنه عن غيره. وهو أن إمامته إن كانت ثبتت بالقهر، وقهره إنما يقع بجنده وأعوانه فالجند إذ لو كانوا استعصوا عليه لم يجد من يقهرهم به، فلماذا ألزمتهم طاعته التي يصير بها قاهرًا؟ وحرمت مخالفته؟ ولم لا يقال: أنهم إن لم يسمعوا له ولم يطيعوا لم يخرجوا ولم يكونوا بغاة، لأنه بطاعتهم يصير إمامًا، أو بطاعتهم يصير له قاهرًا، فإذا لم يطيعوه لم يكن قاهرًا، وإذا لم يكن قاهرًا لم يكن إمامًا. فهم إذًا يمنعون الإمامة أن تثبت له، لأنهم يدفعونه عن إمامة بائنة. فلم لا كانت منزلته منزلة قوم من أهل الرأي اجتمعوا فاختار بعضهم إمامًا وأبى الآخرون، دون أن تكون منزلة من يخرج على الإمام العادل القاهر. وفي إجماع الأمة على أن أهل العقد إذا عقدوا للأمة لرجل له أعوان وأنصار، لزمت الأعوان والأنصار طاعته حتى إن نبذوها كانوا خارجين على الإمام، ما دل على أن العقد هو المثبت للإمامة دون القهر والله أعلم. ويقال له: أرأيت الإمام المجتمع عليه إذا كان بالمغرب مثلًا، وله جند وأعوان وأنصار يسمعون له ويطيعونه ويضطرون كل مناولة إلى طاعته في القرب، إلا أنه إن ظهر له مخالف بالمشرق ولم يكن له أن يجهز الجيش إليه، لأن بينه وبينه بحار وبراري خالية خاوية. أيقول: إن طاعته تلزم أهل المشرق؟ فإن قال: لا. قيل: فلأهل المشرق أن ينصبوا إمامًا سواه. فإن قال: لا. قيل: فيكونون منهمكين لا إمام لهم. فإن جاز هذا، لم لا جاز أن يحلوا الناس كلهم من الإمام، وإن قال نعم. فقد أجاز أن يكون للناس إمامان وفي هذا تعطيل فائدة الإمامة، لأن فائدتها أن تجمع كلمة الأمة، وفي توزع الناس بين إمامين، تفرق الكلم وتشتت الآراء، وتخرب الأحزاب، فصح إذًا أن طاعة الذي اجتمع عليه بالمغرب يلزم أهل المشرق وإن لم يكن قاهرًا لهم. ويقال له: ما أنكرت أن الإمام العادل ظل الله في الأرض والله تعالى قاهر قادر لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، فسواء وهنت يد الإمام أو لم تهن. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يتكلم عن الله عز وجل، كانت النبوة له ثابتة والطاعة له واجبة، وهنت بد

الإمام أو لم تهن. فلأن الإمام القاهر إذا استعمل على بلد عاملًا ضعيفًا، ولا يخشى ولا يتقي، تثبت له الولاية، ووجبت له الطاعة. وإن لم يكن بنفسه قاهرًا حتى لو أراد جلد زان وشارب أو قاذف فامتنع منه قدر على قهره وإقامة الحد عليه وهو كاره. لأنه إن كان ضعيفًا فصاحب أمره قوي ظاهر، وكذلك صاحب أمر الإمام أو النبي، وهو الله عز وجل قادر قاهر إن شاء ينتقم ممن يعصيه ويخالف أمره ولم يعجزه، فوجب أن لا يمتنع ثبوت الإمامة له لأجل ضعف يده، حتى لا تصح توليته ولا عزله والله أعلم. ويقال له: أخبرنا عن الإمام المبايع له إذا لم يكن له جند ولا مال ولكن كثير الأطراف مطيعون أمره، فإن سلموا إليه وسألوه أن يوليهم، فولاهم. أيصح توليته؟ فإن قال نعم. نقض قوله وفارق أصله. وإن قال: لا. قيل: ولم ذاك، وهو بهم قاهر للعامة فإن قال لأنه لو بدا لهم فناصبوه لم يقدر على قهرهم، وبالله التوفيق. فصل ويقال لهم في قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يول أحد إلا بعد أن هاجر إلى المدينة وقوي أمره، بل كان الأمر بخلاف ذلك، لأنه لم يفتح له وهو بمكة إلا المدينة فولاها مصعب ابن عميرة وأنفذه إليها، فصلى بالناس الجمعة لما قدمها. والحديث في ذلك معروف. ويقال لهم في الحدود: أخبرونا أي حد نزل النبي صلى الله عليه وسلم عند إقامته بمكة؟ فإن ذكر أنه لم يقتل المرتدين الذين ارتدوا عن الإسلام بتكذيبهم إياه في الإسراء. قيل: أوقد رويتم أن قتل المرتدين كان مشروعًا ولن يستطيعوا أن يقولوا ذلك، كل حد ذكروه فإنهم لا يستطيعون أن يدعوا أن حدًا أشرع بمكة، وإنما شرعت الحدود عن آخرها بالمدينة لأن جماعها سبعة. أو لها حد الكفر، وهو القتال والقتل والأسر والاسترقاق وبغنم الأموال. ومعلوم أن الجهاد شرع بالمدينة، وأن هذه الأحكام كلها من توابع فرض الجهاد. وثانيها حد القتل: ومعلوم أن آيات القصاص وأحكام القتل المقرونة بها في سورة البقرة وهي كلها مدنية.

وثالثها حد الزنا: فأول ذلك الإمساك في الثبوت والتغيير، وهما مذكوران في سورة النساء المذكورة فيها أحكام القتال وهي مدنية، وآخرها الجلد المذكورة في سورة النور التي ذكر فيها الإفك وذلك بالمدينة. ورابعها حد السرقة. وخامسها حد المحاربة وقطع الطريق وهما جميعًا مذكوران في سورة المائدة وهي مدنية. وسادسها: حد الخمر وتحريمها في سورة المائدة وهي مدنية. وسابعها- حد القذف وهي في سورة النور، وهي مدنية كما بيناه. فكيف يجوز أن يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحدود بمكة ولا حد إذ الحد ما شرع ولم يكن في ذلك الوقت شرع حد أصلأ. فصل فإن قال: رأينا المفتي والقاضي مسنين: ثم أن فتوى المفتي لا تلزم، وقضي القاضي يلزم. وما أمرنا إلا أن القاضي قادر على القهر والإلزام بسلطنته. والمفتي غير قادر على ذلك. فالجواب: إن هذا الجواب هو الحجة عليه، لأن قضاء القاضي يلزم أهل عمله وإن لم يكن قاهرًا لهم، بل لا يعلم في الدنيا قاض قاهر لأهل عمله، ورأس افمامة القضاء، ولأجله يحتاج إلى الإمامة. فإذا كان قضاء القاضي يلزم وليس بقاهر. فما أنكرت أن تولية الإمام وعزله يصحان؟ وإن لم يكن قاهرًا! فإن قال: القاضي ما هو بمن ولاه واستقصاه. قيل: والإمام قاهر بالله عز وجل وهو أقوى ولاة، لأن الناس إنما عقدوا له، لأن من حكم الله تعالى أن يكون لهم إمام، وأن الإمام من كان بصفة كيت وكيت. فلما رأوا فيه إمارات الإمامة التي يصفها الله تعالى لهم ليعرفوا الإمامة بها، ولوه وأمروه، فالله تعالى هو الذي ولاه، لذلك يقول عز وجل: {قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء} فلئن كان الإمام غير قاهر، والله الذي ولاه قوي قادر قاهر، وبالله التوفيق.

ويقال له: إذا كان القاضي قاهرً لأنه يتولى الأمر عمن هو ظل الله في الأرض، فلم لا كان الإمام الذي هو ظل الله في الأرض قاهرًا بنفس الاسم، وهذه المكانة، لأن الله تعالى هذا ظله قادر قاهر والله أعلم. فإن قال: إن المجتمعين على نصب الإمام إنما يسلطونه على التصرف في أمور المسلمين فإذا لم يكن المسلمون في يده فيكون يتصرف لهم وعليهم! قيل: ولم قلتم أن المسلمين ليسوا في يده؟ فإن قال: لأنهم إذا لم يطيعوه لم يمكنهم أن رجهم إلى طاعته بالقهر والقوة. قيل: أرأيت لو كان له جند كان الجند يوصفون بأنهم في يده وسلطانه. فإذا قالوا: نعم. قيل: فإنهم إذا استعصوا عليه لم يقدر على أن يجرهم إلى طاعته بالقهر والقوة، ولم يمنع ذلك أن يكونوا في يده. فما أنكرت أن ذلك حكم الجماعة وإن لم يكن جند؟ فإن قال: الجند في يده لما ألزمهم من طاعته. قيل: وجماعة المسلمين في يده لما ألزمهم من طاعته. ويقال له: أن النبوة تعرى عن الإمامة، فما أنكرت أن الإمامة العارية عن النبوة تثبت، وإن لم يكن القوم في يد الإمام وبالله التوفيق. فصل إن سأل سائل عن الناس إذا لم يجدوا من قريش من يوجد فيه شيء من شرائط الإمامة كيف يصنعون؟ قيل له وبالله التوفيق: إن ذلك إن اتفق واتفاقه بعد كان الإمام من أقرب القبائل من قريش، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى كنانة من العرب واصطفى قريشً من كنانة) فإن كان الإمام قرشيًا وإلا فمن بني كنانة فإن لم يوجد فيهم فمن أقرب العرب من كنانة، ثم هكذا يرتقي من كل أقرب إلى الذي يليه في درجة العرب، حتى إذا استوفى بنو إسماعيل، ولم يعدل إلى بني إسحق، وإن كانوا أقرب به، لأنهما ابنا

إبراهيم عليه السلام أن ينقل إسماعيل إلى مكة، فلما نقله إليها ففطن جرهم لمجاورته، وعرفه بهم. ويقال: أنساه لسان أبيه وميزه عن سائر ولد إبراهيم، فكان ولد إسماعيل عربًا وولد إسحق غير عرب، وإن كانا جميعًا أبناء إبراهيم. فكان الذي يعرب بهم إسماعيل أقرب إليه وأولى به من ولد إسحق فأشرطه في الجملة أن يكون من العرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضعها في قريش، إلا أنهم علية العرب، فلا تزال في الأعلى ثم من يليه، ولا تخرج من العرب إلى غيرهم ما دام فيهم من يصلح لها، فإن لم يكن في جميع العرب من يصلح إليها انتقل حينئذ إلى ولد إبراهيم أقربهم من إسماعيل صلوات الله عليهم، ولن يعدم من يصلح لها من قريش أبدًا، إن شاء الله. فصل وإن سأله منهم: إذا وجدوا قرشيًا عالمًا عدلًا، كيف يصنعون؟ قيل: الأشبه عندي- وبالله التوفيق- إنه يقدم القرشي العادل، فيتولى الناس الصلاة، فإن أشكل عليه أمر، وجاء بشيء عمل فيه برأي أهل العلم ويسعه ذلك لأنه يصلي لنفسه. وإن أتيتم به غيره، ويجاهد بهم المشركين في الوقت الذي يراه أوعز وأصلح، وذلك من باب التدين والسياسة، فلا يمنعه من ذلك أ، لا يكون فقيهًا. فإذا لقوا المشركين أو أحرزت الغنائم ولي أمرها رجلا من أهل العلم ليتولى منه ما أراه الله عز وجل، ويولي الحدود رجلا من أهل العلم، والقضاء كذلك، وأخذ الصدقات وتفريقها كذلك، وكذلك كل عمل من أعمال المسلمين لا يقوم بتنفيذه إلا أهل العلم لذلك، وإن جمع الأعمال كلها لواحد فولاها إياه، جاز بعد أن يكمل لها، فيكون حاصل هذا المعقود له الإمامة، إنه إمام في الصلاة، وإمام في كل عمل يتهيأ امضاؤه بالعلم الظاهر الذي يشترك فيه العامة والخاصة. فأما كل عمل لا يتهيأ امضاؤه إلا بالعلم الذي ينفرد به الخاصة، وليس بموجود عنده فإنه إمام فيه، في حق التولية دون التنفيذ والمباشرة، وليكون مصدرًا للولاة والعمال من تحت يده بعد أن يرجع إلى أهل العلم، فإذا وقع اختيارهم على من يصلح ولاه إياه فتكون منزلته في عامة الأعمال كمنزلة الإمام المطلق في الأيامى اللاتي لا أولياء لهن، فإنه لا يزوجهن إذا كان محرمًا، ولكن يولي تزويجهن حلالًا، فيجوز تزويجه، كمنزلة الإمام

الكامل في البلدان التي لا يبلغها، فإن إمامته إنما تظهر فيها بالتولية دون مباشرة الأمور وتنفيذها بنفسه. وكمنزلة في حال شدة مرضه، فإنه إذا عجز عن النظر في أمور المسلمين ولي غيره، فجاز أمره، وقد تولى، فيموت فيعجز بالموت عن العمل، وتدوم الولاية لمن ولاه. وكذلك إذا عقد له وليس بكامل صار إمامًا في حق التولية، وإن لم يكن إمامًا في حق التنفيذ والمباشرة وبالله التوفيق. فإن قيل: قلما يحتاج إليه إذا كان لا يكمل للأمر، ويحتاج إلى أ، يولي كل شغل رجلا، ولم لا يقال: إن الذين يعقدون له الأمر يتولون النظر في هذه الأعمال فيولون كل رجل يصلح له! قيل له: قد قلنا أنه لا بد من إمام وبينا وجهه. وذكرنا أن الإمامة لا تليق إلا بعلية الناس وهم قريش، فلا يصلح مع هذا أن يقوم العامة بتقليد الأعمال، ولكنهم يجتمعون على واحد، فيكلون الأمر في الجملة إليه. فإن استقل بعامة الأعمال، وإلا استعان بغيره على ما وصفت والله أعلم. فإن قيل: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمر الآمر، ولا يتحرى فيهم الفقه والنظر، فلم لا أجزت مثل ذلك في كل وقت؟ قيل: لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أشكل عليه، حكم حد أو غيره، رجع إلى ما لم يختلف ولم يضطرب عليه، وهو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يضره أن يكون غير مستبصر بعامة ما يحتاج إليه. وأما اليوم، فإن الإمام إذا عرض له إشكال، فإنه إن أخبر فيه بأمر يجتمع عليه فجائز له أن يأخذ به فينفذه، وإن اختلف عليه- وهو لا رأي له- لم يمكنه أن يرجع قولًا على قول، ولا يسعه التقليد فيما يعمل به في غيره لأنه ضرورة به إليه، فصح أنه لا يسعه إلا أن يولي الأمر من يكمل له بعلمه ونظره. وأما القضاء فلم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ولاه أحدًا من غير أهل العلم الذين يجمعون إلى معرفة الكتاب والسنة اجتهاد الرأي فإنه لما أوفد عليًا رضي الله عنه دعاله ومسح صدره. قال علي رضي الله عنه: فما أشكل على قضاء قط. وقد كان قال له: (أقضاكم علي).

وقال لمعاذ رضي الله عنه (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيًا. قال: الحمد لله الذي وفق رسول الله). ولعله صلى الله عليه وسلم فرق بين الحدود- والقضاء، لأن الحدود إذا أشكلت احتملت التأخير إلى أ، يسأل عنها. وتأخير القضاء إذا أشكل إلى أن يأتي الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرجع جوابه بما يبصر به الخصمان. فما وجب النظر أن لا يستقضي إلا من يكمل للقضاء. فأما من بعده من الأئمة فلا فرق في حاجتهم بين الحد والقضاء لما ذكرته في الحدود قبل هذا، وبالله التوفيق. فصل فإن سأل سائل. عند تقديم العدل غير العالم، على العالم غير العدل، ما وجهه؟ قيل له: وجه ذلك أن بعض العلم يتهيأ خبره بأن يستعان بعالم سوى الإمام على ما قصر عنه رأي الإمام. وبعض العدالة لا يتمكن خبره، لأن ذلك نقصان الدين فلا بدل له. فصل وإن سأل عن وجه تقديم المنفرد بأحد هذين الشرطين- أعني العلم والعدالة- بعد أن يكون من قريش على من جمعهما من غير قريش. قيل له: وجه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم. (الأئمة من قريش) وقوله: (قدموا قريشًا ولا تقدموها) فلما أمكن أن يكون القرشي إمامًا فيكتفي به من النوازل من الوجه الذي وصفنا، كان تقديمه أقرب إلى هذه النصوص من تقديم غيره، وإن جمع الشرائط المحتاج إليها بنفسه، لكنه لم يكن من قريش وبالله التوفيق. فصل وإن سأل سائل عن إمام نصب وهو غير عدل ما حكمه؟

قيل له: -وبالله التوفيق- أجمع الناس على الفرق بين العدل والفاسق في الشهادة ثم اختلفوا في المعنى. فقيل: هو آثم، وذلك نقصان دينه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف النساء بنقصان الدين لأجل أنهن لا يصلين بعض أيامهن. ومعلوم أنهن غير عاصيات بما يتركنه من الصلاة أيام عذرهن. فأولى أن يكون الفاسق ناقص الدين إذا كان يترك الصلاة لا في عذره. أيضًا فإن الفاسق لو شهد لقائل ابن أو ابنة على ابن له آخر لكان ذلك وسائر شهاداته بمنزلة واحدة. ومعلوم أن لا نقمة تلحقه في هذه الشهادة. فعلم أن الذي يؤخره عن مرتبة العدل نقصان دينه. فمن ذهب إلى الأول قال: أن خلع الإمام نفسه عن الإمامة إلى رجل غير عدل أو مات، قيضه الناس مكانه بعد الاجتهاد والنظر واستقصاء الرأي. فذلك ماض لا ينقص لأنهم أحسنوا الظن به لما نصبوه، فلا ينقص ذلك بالتهمة التي ليست تحتها إلا إساءة الظن، فإن إساءته رأي، كما أن إحسانه رأي. فلا ينقص الرأي برأي مثله. وكذلك يقول في الفاسق. إذا شهد عند حاكم فقبله أن ذلك إذا وقع إلى حاكم آخر لم ينقضه، فإن كل الذين نصبوه أو الإمام الذي خلع نفسه لم ينظر واحد يجتهد أو القوم لم يرتابوا ولم ينظروا فيكون اجتهادهم أداهم إلى أن إحسان الظن أولى من إساءته. وأن التهمة لا معنى لها في حط المسلمين عن أقدارهم الثابتة لهم بديانتهم. فذلك غير ماض ولا نافذ، وهو كحكم الحاكم لما لم تظهر له صحته ولا أداه إليه نظره، فلا يجوز ذلك منهم. ومن ذهب إلى المعنى الآخر قال: لا يجوز تولية غير العدل بحال. لأنه ناقص الدين، ولا يكون إمام أهل الدين إلا كامل الدين، لأن الغرض من نصب الإمام حفظ الدين، ودفع جوانب الخلل عنه وعن أهله. فإذا كان الإمام بنفسه ناقص الدين لما تحصل منه هذه الفائدة، وأقل ما في فريضته أن يقتدي الناس به فيما هو فيه لأنه إمامهم. فيصير أمره سببًا لظهور الفساد وغلبة أهله، ويعود ذلك بالشين على الملة إذا نظر أهل سائر البلد إليه وإلى الذين نصبوه ورضوا بإمامته ولعل الأمر يترقى إلى أيامهم، أن المسلمين يعلمون أنفسهم أنهم يتظلمون فيما يظهرونهم من دنياهم، غير أنهم ينسبون بها

إلى نيل الشهوات وإصابة الأموال، وما بلغ من الفساد، وهذا انجد والتحرز منه في ابتداء الأمر واجب وبالله التوفيق. ومن قال بهذا قال في الحكم إذا مضى شهادة الفاسق أنه ينقص. فصل وكل ما قلته في تولية غير العدل، فهو في العدل إذا أولى بغيره، وصار غير العدل مثله لا يختلفان والله أعلم. وإن قال قائل: أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ستدركون أمراء يؤخرون الصلاة إلى غير وقتها، فإذا كذلك، فصلوا في بيوتكم واجعلوا صلاتكم معهم سبحة). فهلا علمتم بذلك أن الفسق بجامع السلطنة، لأن إخراج الصلاة عن وقتها فسق، ولم يبطل النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة. فالجواب: أن هذا لم يجز في الإمامة، وإنما جاء في الإمارة، فيحتمل أن يكون هذا في مؤخر الصلاة والحرب دون القضاء وإقامة الحدود التي يحتاج منها إلى الرأي والنظر ولسنا ننكر أن يكون مثل هذا الأمير إن لم يكن عدلًا، كان أمره محتملا. وقد جاء أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي، كأن رأسه عبد قد أعتق كما يسمى مطلقة الرجل امرأته، بمعنى أنها كانت امرأته. وفي الحالين كان مقصورًا على ما لا يحتاج فيه إلى الاجتهاد والنظر وتنفيذ الحكم أو إقامة حد، أو أخذ صدقة أو قسمها، فكذلك هذا الحديث والله أعلم. فصل وإذا كان للناس إمام متفق عليه فجار وأسرف على الرعية واشتط في معاملاتهم،

فإن الجور فسق. فمن قال: أن الفسق لا يناقض الإمامة، قال: على الناس أن يطيعوه فيما يجب عليهم فإن قدروا أن لا يجور فمن قال: الفسق لا على الامتناع ولا يخرجون. ومن احتج لهذا، قال: قد جاء في فريضة الصدقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فمن سألها على وجهها فليعطها، ومن سؤل فوقها فلا يعطه) فإنما أذن في منع الزيادة، وفي ذلك إيجاب رفع الأصل. وإن لم يقدروا على منع الزيادة وخافوا سطوته كلهم أن يعطوه ما يريد كي يسلموا. وإن كان إذا ناصبوه وحاربوه قدروا على أن يمنعوه ما لا يلزمهم، إن لم يخش من ذلك ثوران فتنة أضر من جوره، فلهم ذلك. وإن خافوا من ذلك لم يحل لهم قتاله. وكان السمع والطاعة أولى لهم. ومن قال: إن الفسق يناقض الإمامة قال: قد يعزل بالجور، فإن اعتزل فذلك، وإن ثبت مكانه ولم يخرج يده من أمور المسلمين بعد ما يدعى إليه صارت منزلته بعدما فسق من نفسه قبل أن يفسق منزلة باغ تجرأ على الإمام العادل. وقد قلنا أن الباغي إن كانت له شوكة يقدر بها على الامتناع ثبت تأويله، وتعدت تصرفاته، فكذلك الإمام بعدما فسق، وإن كانت له منعه ثبت ما فعله وتعدت تصرفاته، وإن لم يكن له صنعة وأمكن خلعه خلع. والاحتياط أن يدعي إلى خلع نفسه وتولية غيره، فإذا فعل ذلك، ما أمر أهل العقد، فقد تم الأمر وبالله التوفيق. فصل وإذا أغفل الإمام بلدًا، فلم يستعمل عليهم أحدًا لاشتغاله بغيرهم عنهم، فأمر أهل البلد على أنفسهم أميرًا، فالجواب فيه كالجواب فيهم إذا أمروا على أنفسهم في حال الفترة أميرًا، وقد تقدم ذكره. فصل فإن أمر الإمام أميرًا في طرف، فغلب ذلك المولى على ذلك الطرف غالب. فإن كان يصلح لما ولاه الإمام، فالمتغلب باغ خارجي إن كان لا يصلح بأمر بين لا يخفي على مسلم أنه لا يحل بأمير مثله على المسلمين. فهذا أيضًا يختلف إن كان الإمام عرفه بهذه الصفة لما

ولاه، إلا أنه كان وعظه، ونصح له وظن أن موعظته تنجع فيه وتصلحه، فالمتغلب ليس بخارجي وكان ينبغي للإمام أن لا يوليه حتى يبين له نزوعه ورجعته، فإن كان منه على الإمام فلم يعرف حاله، فالمتغلب خارجي لأن مثل هذا إذا عرض وجب إعلام الإمام ما خفي عليه فيكون هذا المتدارك لما فرط منه، فإذا تولى ذلك غيره فقد أصاب عليه في حقه والله أعلم. فصل إن سأل سائل عن الأطراف المتقاذفة التي تفرق بينهما التجارة، وأيضًا في الخاوية ولا تصل يد الوالي التي تكون حدها إلى ما عداه. هل يجوز أن يكون لأهل كل طرف منها إمام؟ قيل له: لا يكون الإمام إلا واحدًا لأنه يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان مرسلا إلى هذه الأطراف المتقاذفة ومنصوبًا لإمامة أهلها كلهم مع تفرقها، وقطع البحار والبراري بعضها عن بعض، فكذلك الإمام المتفق عليه. فأحدها يكون إمامًا للسكان كلهم. فإن كانوا من الفرق بالصفة التي ذكرت، والله أعلم. فصل وإذا خلع الإمام نفسه ولم يول أحدًا مكانه. فإن كان الإمام صالحًا للإمامة بإطلاق، فذلك منه غير نافذ، لأنه نصب ناظرًا للمسلمين وخلفه نفسه في هذه الحال ضرر عليهم، لأنه يدعهم بلا إمام، ويعرضهم للاجتهاد في نصب غيره وقد يصيبون في ذلك الاجتهاد إذا تكلفوه وقد يخطئون، وإن كان الإمام عدلًا غير عالم وله ولاة عمال مرضيون. فالجواب: كذلك وإن كان غير عدل فخلفه نفسه إراحة وتخليص، وينبغي للمسلمين أن يجتهدوا في نصب غيره، ويسألوا الله تعالى أن يعوضهم عنه خيرًا منه. فصل وإذا بلغ الإمام أن أحد ولاته جن أو عمي أو ارتد أو مات، فولي غيره عمله، ثم

تبين له أن الأول سليم لم تحدث فيه آفة ولا منة خيانة، فولاته الثانية ماضية لأنه لو صرف الأول من غير بأس لنفذ تصرفه ألا ترى أن رجلا لو قيل له: إن امرأتك تريد أن تطلقها فقال: هي طالق. ولم تكن المرأة أرادت الطلاق، أطلقت لأنه لو ابتدأها بالطلاق وهي غير مريدة لطلقت، ولو بلغ أن فلانًا صالح للولاية فولاه. وذلك الفلان غير صالح للولاية فتوليته لا تنفذ لأنه ليس له أن يولي الأمر من يصلح، وليس هذا كالذي قبله. فصل وإذا أمر الإمام أمراء، واستقضى قضاه ثم مات، كان أمراؤه وقضاته على أعمالهم كما كانوا في حياته ولا ينعزلون. وليسوا كالوكيل ينعزل بموت الموكل، لأن الوكالة نيابة، والولاية شركة. ألا ترى أن الوالي يخدم ولا يرى الإمام الذي ولاه الحد فيجوز ذلك له ويسعه. والقاضي يقضي بخلاف رأي الإمام الذي استقضاه، فيجوز ذلك منه. والوكيل لا يعمل إلا ما يوافق رأي الوكيل، فإن خالفه رد فعله. فصل فإذا أوصى الإمام بالأمر من بعده إلى احد مثله، فذلك جائز لأن اختيار من يلي الأمر من بعده أحد مصالح المسلمين وهو منصوب لها كلها، فهذا منها. فصل فأما ولي الصرف، وقاضي البلد إذا عهد إلى غيره بما يليه من بعده، كان ذلك منه لأن المفوض إليه ليس بحق له لازم، ألا ترى أن للإمام عزلة أيضًا. فهو في هذا الوجه كالوكيل، فالإمام المتفق عليه إمامته حق لازم لأنه ليس لأحد أن يعزله. فلذلك نفذ تصرفه في حياته وبعد موته والله أعلم وبالله التوفيق. ذكر حقوق الولاة قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) فأول الطاعة للإمام أن يعظم ويؤمر من الدخول عليه والجلوس عنده ومخاطبته ومعاملته، ويتحاشى إيذاؤه وإغلاله والغض من حرمته. وإذا أقيمت الصلاة خلفه في وقتها، وكان هو الذي بالناس، أو خليفته لم يتخلف أحد عن الصلاة خلفه، إلا أن يكون له عذر بين. وسواء كان في الناس من لا يرى رأيه فيها يجب في الصلاة أو لا يجب، وينقض الوضوء أو لا ينقض، ويفسد الصلاة أو لا يفسد، أو كانوا كلهم يرون رأيه. فعليهم أن لا يقعدوا عن الجمعة خلفه بل يصلوها وراءه معتقدين وجوب اتباعه وتحرى عنهم. وقد كتبت في هذه المسألة مفردة استمعت القول فيها، وليس لهم إذا حضروا المسجد أن يبادروا الإمام الجمعة، بل ينتظرون خروجه يفتهما فيهم صلوها قبل وهو مترسخ لها لم تجر عنهم. فصل وإذا سأل الوالي زكاة وجبت في مال ظاهر لرجل فعليه أن يدفعها إليه منشرحًا بها صدره. فصل وإذا خرج الإمام للجهاد فإن كان بغير قد وقع ولا يدري أن الكفاية بأي مقدار تقع من الغزاة، فعلى كل من قدر على الجهاد أن يخرج بخروجه وإن كان متطوعًا مبتدئًا فعل من يأمره بالخروج معه من المقاتلة الذين يروقهم أن يخرجوا وليس لأحد منهم أ، يتخلف عنه بلا عذر، وإن لم يخرج بنفسه، وأنفذ سرية، فعلى من سماهم واختارهم من الجملة التي ذكرناها أن يسمع ويطيع وليس لأحد من المجاهدين إذا أغنموا أن يستأثر بشيء من الغنيمة، ولا يأخذ إلا ما يعطيه الإمام عند القسمة، ولا يتولى عزل الخمس وتفريقه غيره، ولا قسم الأربعة الأخماس إلا هو، وليس لأحد أن يهادن العدو ويعاقدهم الصلح على أموال يعطونها المسلمين إلا الإمام.

فصل ولا يقضي أحد بين اثنين وإن حكماه ورضيا بحكمه فليس القضاء إلا للإمام ولمن ولاه، ولا يحد حدًا خالصًا لله عز وجل إلا بإذن الإمام، فإن حده بغير إذنه، فإن كان ذلك قتلا أو قطع جارحة، فقد فات. فإن كان جلدًا أعاده الإمام عليه. وهذه أبواب تتفرع، والجملة إن ما لم يلق به تسليط العامة عليه ولا تفويضه إلا ما يجب عليه من الإفراد فهو إلى السلطان، فما كان إليه فليس لأحد أن يغتاب عليه فيه والله أعلم. ولا ينبغي لرعية السلطان أ، يتحسسوا أخباره ويبتغوا عوراته، ويتطلبوا عثراته، ويستشعروا خلافه، ويبغوا الخروج عليه للأسباب والغرض به. ولا ينبغي إذا رأى أحد من سلطانه شيئا يكرهه أن يشتمه أو يذكره بسوء، وإن ضاق به صدرًا أن يلعنه، لأنه ظل الله في الأرض، والتهيب والإجلال أليق بمحله، وزينته من الاحتقار والإذلال، ومما جاء فيه عن السلف قال: كان عبد الله بن عامر يخرج، ويخطب الناس عليه ثياب رقاق، مرجل شعره، وأبو بكرة إلى جنب المبر، فقال أبو بلال: من ذا يراد به ألا تنظرون إلى أمير الناس وسيدهم يتشبه بالفساق ويلبس الرقاق، فسمعه أبو بكرة. فلما صلى الأمير ودخل، قال أبو بكرة لابنه: ادع لي أبا بلال. فدعاه، فقال له أبو بكرة: قد سمعت قولك في الأمير آنفًا، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أهان سلطان الله أهانه الله، ومن أكرم سلطان الله أكرمه الله) وجاء في اللعن ما معناه. النهي. لأنه إذا لعن لم يؤمن أن يجاب فيزداد شرًا. وفيما جرى معنى آخر، وهو أنه ربما وقع إليه الخبر فيكون منه إلى من بلغه القبيح عنه بعض ما يكره. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قيل: يا رسول الله، وكيف يذل نفسه؟ قال يتعرض من البلاء لما لا يطيق).

فصل وإذا كان للناس سلطان ولأن جانبه لهم، فربما يدعو قومًا إلى طعامه، وربما يصل بعضهم بشيء من المال الذي في يده، فإن كره من يرغب في تأنيسه أو إفادته ذلك منه، فليعتذر، ولا ينقبض عنه إلا الإيثار من هو أحوج منه بما يعرض عليه. فأما رد يده عليه تكرها لمخاطبته، أو تورعًا عن طعامه وغير ذلك مما في يده، فلا يجوز لأن نزاهته إن كانت بادية، فليس لأحد أن يلوثه، وإن كانت سرًا بابها فليس له أن يجاهد بتظليمه أو بتحزيبه. فصل وإن عرض بعض أعماله على رجل وسأله أن يعينه بتقلده، فإن كان الرجل يعلم من نفسه الصلاح له ويبق منها بالأمانة والنزاهة، ولم يكن ذلك قاطعًا له على فرض، فقد يعين عليه. فينبغي له أن يجيبه. فإن لم يكن معه من صلح له ويخشى من امتناعه ضياع ذلك الأمر، فعليه أن يجيبه، فكذلك إن كان الأمر يتردد بينه وبين من يخش جانبه، ولا يوثق الثقة التامة، فينبغي أن يجيبه، وإن كان لا يثق من نفسه بالتماسك، فلا ينبغي له أن يتقلد عملا بل يعتذر ويستعفي. فصل وإذا دعا الإمام رجلًا من أهل العلم أن يصحبه ليستعين برأيه في النوازل التي تنزل عليه أن يجيبه، إلا أن يكون له عذر بين يقعده عنه، وإن كان الإمام غير عدل فإنه يحضره ليكفه عن الظلم ولا يفسد على حكم يمضيه ولا صدقة يأخذها لأن ذلك ليس له من قول. ويرى أن الفسق يناقض الإمامة، فإن كان الرجل يرى أنه على ما هو عليه من الفسق، أجابه في ذلك بما سأله عنه، وإن صح له من مال بيت المال شيئًا أو من مال نفسه وسعه أن يقبل فيه إذا كان عدلًا ولا يقبل منه مال بيت المال إذا لم يكن عدلًا لأنه ليس بوليه. فإن كان يرى أنه وليه، ونافذ الأمر فيه فقبله، وهو من أهل الرأي والنظر لم يمنع وإن كان الرجل الذي يرغب الإمام في صحبته صاحب أوراد من العبادات ودرس العلم

فكان ينقطع بالاختلاف إليه عن كثير من أوراده. فإن كان في البيد من يصل الناس إلى حاجاتهم من العلم به، وكان هذا إذا حضر الإمام، قبل الإمام قوله وتشفعه فيمن يتشفع له، وانتهى عما ينهاه عنه أو يوجب ذلك له في الأكثر، فليغشه وليلزم مجالسته للغوث والرحمة، إلا أن يخش أن ينس ما حفظ من القرآن أو دعاه من العلم. فيسأل الإمام أن يخليه وقد يقرأ فيه ما شاء من القرآن، ولدرس ما بدا له من العلم، فإن أبي لم تكن عليه طاعته والله أعلم. ذكر كفاية الإمام: وإذا كان للناس إمام فكفايته في بيت مال المسلمين من خمس الخمس أسهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن التركات التي لا يعلم لها مستحق ولد ولا زوجه، وكفايته ما شد له حلة، وإفادة في الناس مرده في صدور رعاياه هشة، وسدد له على الأعداء قوة، وأما شد الحلة فهو الذي يحتاج إليه كل أحد من المطعم والملبس، سلطانًا كان له أو غير سلطان. وأما المردة، فهي أن لا تكون ثيابه رثة به وقيع عن مثلها أكبر رعاياه، ولا من نوع مسترذل، ولا يكون طعامه نزرًا قليلًا مضطرًا لأجله إلى الإنفراد به عن خاصته وبطانته ولا يفصل عنه. وإذا أراد أن يكرم به أحدًا أو يتصدق به على من يحتاج لم يقدر عليه، ولا يكون من يسبب من يؤثره إلى حقارة النفس ودناءة الطبع، ولا يكون مسكنه ضيقًا حقيرًا ولا وضيع البناء، وفير البسط والفرش، ولا يبتذل بخدمة نفسه أو استخدام زوجته أو ولده دون مملوك واحد أو أكثر يمسكه لخدمته، وخدمة من يؤويه من الزوار وغيرهم، ولا أن يتخذ السير في الأسواق وأطراف البلد لنفسه عادة، أو يركب حمارًا أو دابة مستحقرة أو سرجًا خسيسًا. فإن هذا كله يزري ويسقطه عن أعين الناس ويعرضه لأن يهذي به ويتحدث عنه بما يحقر منه. وإذا طال ذلك نزعت هيبته عن الصدور. فينبغي أن يتوقى ذلك ويتكلف من الطعام واللباس والمسكن والخدم ما ترفعه عن حد الضمة، ويبلغه بعض منازل الرفعة، ولا ينتهي إلى حد الإفراط والسرف، فيتخذ له من الطعام مما يجتمع عليه إما كل يوم، وإما كل يومين أو ثلاثة أيام مع خاصته وأهل كرامته، ويفضل عنهم لعياله وخدمه من يراد مواساته من الجيران وغيرهم، ويتخذ له من اللباس ما يرتضى من ملابس الرجال بقدر ما يكفيه لإدامة التجميل حتى لا يحتاج إلى أن يلبس ثوبًا دنسًا أو خلقًا قد ذهب رواؤه، أو يتمرأ ما يرى من خلاله

بشرته، ويكون له من الجماعات والأعياد غير دخول الوفد عليه غير ما يلبسه في سائر الأيام، وعند دخول العامة عليه غير ما يلبسه مع الخاصة، وعند خلوته غير ما يلبسه مع الناس، وبالليل غير ما يلبسه بالنهار. إلا أنه يتحرى في كل ذلك يكون قصدًا لا طغيان فيه ولا اختيال. ويقتني من الخدم من تقع له الكفاية ويعد لنفسه ولهم الأسلحة والدواب، ويحلي مراكبه بأدنى ما يعرف به تجملًا، وكذلك سفيه ومنطقته، ويقيم لخدمه معايشهم، ويزيح فيما يحتاجون إليه عللهم وإن اقتنى أحرارًا يعملون له بالأجرة فذلك جائز، وإذا كان هذا هكذا، فينبغي له أن يتخذ دار تسعة وخدامه وخزائنه التي يخزن فيها وأسلحته، وحارسًا، إن كان له، وأن يرتب بالباب من لا يدخل عليه في غير وقت البروز للناس إلا بإذنه وهذا كله من بيت المال، وإذا قام بحفظ المسلمين وقصر أيدي العدوان بعضهم عن بعض وتعهد السبل ونقصها عن الدعاء والجواب، ووفى المسلمين كل حق يلزمه لهم لأنه العامل لهم، وما يأخذه فمنزلة الأجر، وإنما يستحق العامل الأجر إذا وفى العمل. فإن قيل: إن الذي كتبتموه من وظائف الإمام يخالف المعهود من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين لأنهم لم يبسطوا في مال المسلمين هذا التبسط، فهلا قلتم إن سئل الأئمة أن يقتصروا على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه أنهم اقتصروا عليه؟ فالجواب: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساس الناس بسلطان النبوة وكان الله عز وجل أخبره أنه يعصمه من الناس وألهمه الرأفة والرحمة بأمته، فكان يحب السكينة تواضعًا لله عز وجل وتسلية للمساكين، حتى إذا نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكابد مثل ما يكابدون خف عنهم ما يجدون، وطابوا نفسًا بما يقلون، وكانت هيبته ممكنة في صدور الناس متسلطة على نفوسهم بمجرد ما كان مقدر من مكانه ومنزلته عند الله تعالى، ويخشوه من وجوب النار عليهم إن عصوه وازدروا أو ضيعوا حقًا من حقوقه فلم يؤدوه. فلم يحتج مع ذلك كله أن يحمل على أعينهم بشيء مما سبق ذكره. ولا أن يكثر بمتاع الدنيا مع علمهم بتوفر حظه من نعيم الآخرة. وأما ولاة الأمر بعده فلم يحتاجوا إلى التكليف الذي وصفناه لقرب عهد الناس بزمان النبوة ولأن تلك الرعية لم تكن شاهدت قبل ذلك سلطانًا مباينًا

للعامة في نفسه وحاله وطعامه ولباسه وفرشه وآلاته، فيحتاج ولاة أمورهم لذلك إلى أن يتكلفوا في هذه الأبواب، ما يضاهي حال من شاهدوا خيلًا توازي لهم رعاياهم، فلا يصير ذلك سببًا لفروغهم من طاعته واتباع أمره وإنما كان أمرًا مستأنفًا والحال غيره، ويستوجبه إلى الزيادة على ما كانوا عليه، فلما تبدلت العادات، وصار الإمام محتاجًا إلى سياسة الرعية بأكثر مما كان أولئك يسوسونهم كما ساسهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهيبة، ثم أبو بكر رضي الله عنه بالكلام، ثم عمر رضي الله عنه بالدرة، ثم عثمان رضي الله عنه بالسوط، ثم علي رضي الله عنه بالسيف، فكذلك لما تفاقم الأمر بعد وأثناء أداء الشغل، فاحتيج إلى أن يسوس الإمام الناس بالانقباض عنهم وترك التواضع والتطاعن لهم، وكان ذلك لا يكون إلا بالارتفاع في المطعم والملبس والمسكن والمركب عن حد ما يسمونه، فله أردناه أو صنعه كان له من ذلك مالا يجحف بمال بيت المال، ولا يلتحق بحدود السيف والطغيان. وأما ولاة الإمام بقدر كفاياتهم من بيت المال كما يراه ويؤديه إليه اجتهاده والله أعلم. ذكر أحكام المتغلبين: وإذا غفل الناس عن نصب الإمام فتغلب رجل بقوة كانت له على بلد، رضي أهل ذلك البلد بإمارته، وإن كان في ذلك البلد ممن يتم بهم نصب إمام بينهم أو خارجًا منهم، وأمكنهم ذلك فلم يفعلوه، واحتفظوا على أمير يخصهم فحكمهم وحكم أميرهم حكم البغاة، وإن لم يكونوا بهذه المنزلة فحكم أميرهم في عامة الأشياء حكم التخمين، فإن كان بنفسه عدلًا تولى وولي، وإن كان عدلًا ولم يكن عالمًا ولي بالمشورة ولم يتول وهذا، لأنه لو كان للناس إمام لكان أخطأ لهم به، أن يبعث عليهم أميرًا ينوب عنه في رعايتهم. فإذا لم يكن إمام، قاموا بإيصال هذه الحطة إلى القيام بأنفسهم مقام الإمام، أو كان كما أنه إذا مات ميت ببلد ولم يخلف وارثًا، لم يجز لأحد أن يتصرف في ماله فيجهزه ويقوم بكفايته إلى (أن) يدفن إلا إذن الحاكم. ولو مات في بادية حاكم بها يتولى ذلك من يحضره من المسلمين، ولم يكن عليه عزم، لأن الحاكم لو حضر لكان عليه أن يطلق ذلك له من ماله، فإذا لم يقدر عليه لم يسع إهماله وتضييعه، فكان من يحضره قائمًا فيه مقام الحاكم. وهكذا الرجل يكون له على آخر دين، فإن نكره وكانت عليه بينة واستحلفه فحلف ووجد له مالًا لكان له أن يأخذ من جنس

حقه بقدره، فيقتضيه بدينه، وأن يأخذ من غير جنسه فيبيعه بمثل ماله عليه ثم يقتضيه بدينه، لأن حقه لو ثبت عند الحاكم لكان على الحاكم أن يوصله إلى حقه من أحد هذين الوجهين، وإذا لم يقدر على أخذ حقه، فالحاكم لم يبطل بذلك حقه، فيتولى ذلك بنفسه ما يقدر عليه فكذلك أهل كل بلد، فإنما حقهم أن يكون عليهم عامل للإمام يرعاهم، ويقوم بمصالحهم، فإذا لم يصلوا إلى حقوقهم من الرعاية والولاية من قبل إمام يكون لهم، لم يمهلوا أنفسهم، ولكنهم يتولون نصب من يرعاهم ما كان الإمام يتولاه لو كان موجودًا والله أعلم. فصل وإذا نصب أهل البلد في الحال الذي ذكرنا أن لهم النصب أميرًا، ثم قام بأمر المسلمين قائم، وتثبت إمامته كان على هذا الأمير أن يسمع له ويطيع، لأن طاعة الإمام تعم ولا تخص فإن لم يفعل كان باغيًا عليه، ولم يسمع أهل البلد طاعته بعدما استعمل الإمام عليهم غيره، وهو على عمله إلى نبذ للإمام عزله عنه فعزله، لأنه في أول أمره كمن ولاه الإمام فكذلك يكون في آخره والله أعلم. فصل فإن لم يرض أهل البلد بإمارة من ذكرنا، ولكنه قهرهم وحملهم على طاعته فلم يستطيعوا مخالفته، فإن كانت كراهتهم له لأجل أنه لا يصلح للإمارة ولا يقوم بشروطها، فهم معذورون وحكمه بينهم كحكم الباغي. فإن يصلح لها وإنما يكرهونه مثلًا إلى التشبيب والخلاعة فقهرهم ليكف بعضهم عن بعض، ويأخذ من بعض ويقوم بحدود الله تعالى وحقوقه بينهم، كان حكمه حكم من ينفق أهل البلد عليه ويرضون إعادته، والله أعلم. فصل وإذا كان للناس إمام، فتغلب رجل على بلد وقهر أهله على طاعته، فأخذ من مسلميهم الصدقات، ومن ذميهم الجزية، وزوج الأيامى الإناث لا بأمر أوليائهن، ونصب القوام

على الأيتام، وقضى بين المختصمين، فألزم وأسقط وبرأ وحرم، فما فعل ذلك فهو رد وليس شيء منه بنافذ والله أعلم. وإن كان المتغلبون لما كثروا طعنوا في الإمام العادل بأمر كان منه، نصبوا بآرائه إمامًا آخر مختلفًا، فإن لم يكن لهم مع هذا قوة بالإمام العادل وأنصاره، فلا حكم لتأويلهم. فإن تساوت قوتهم قوة الإمام العادل أو قارب، فقد ثبت لهم التأويل، فلا يرد من تصرفات إمامهم وعماله إلا ما يرد من تصرفات الإمام العادل وعماله. فإن قيل: فهذا يدل على أن الإمام لا يكون إمامًا، وأن تكون له قوة، وفيه منعه ولولا ذلك لاستوى أن يكون الإمام العادل قويًا على دفع الباغي، أو ضعيفًا عنه. قيل: لا يدل! لأنا لا نقول: أن الإمام العادل يعدل بقوة الباغي، لكنا نقول: إنه إمام. فإن كان ضعيفًا وليس الباغي إمامًا، فإن كان قويًا. وهذا قول الجميع. وفيه الحجة إذًا لنا لا علينا. وإنما اعتبرت قوة الإمام وضعفه في إجازة التصرفات للباغي وردها، لا في إثبات الإمامة له بغلبته أو دفعها. فإذا أجزناها منه في حال ضعف الإمام وعجزه عن مقاومة. وإنما تلك الإجازة عن أن شبهتهم بترك حجته كما يترك النكاح الفاسد منه منزلة النكاح الصحيح، والشراء الفاسد منزلة الشراء الصحيح، لا على أن لهم حجة بقوتهم تعادل حجة الإمام العادل. وفي هذا سقوط هذا الإلزام، وبالله التوفيق. فإن قيل: فهلا كانت شبهتهم كحجة غيرهم، فإن لم يكن لهم شوكة: قيل: إنما شبهتهم إمامهم لأنهم وإن كثروا ولم يكن لهم إمام لم يكن قولهم شبهة، غير أنه يحتاج إلى أن يكون إمامهم متبعًا حتى يكون له تأويل. وذلك أنه إذا لم يكن له رهط وأشياع، ولم يتصور بصورة الإمام، إذ الإمام من يؤتم به. وذا صار له رهط وأشياع، تصور بصورة الأئمة، فصار ذلك له شبهة. إلا أن الضرورة إن ثبتت، فإن الحقيقة لا تثبت. فإن إمام أهل العدل لم يكن إمامًا، لأن له أشياعًا، وإنما كل الصحة للعقد الواقع له، وسلامته في وقته. ألا ترى من وجد في ظلمة الليل في فراشه امرأة فأصابها درئ الحد عنه للشبهة، وهي تصور الأجنبية له صورة امرأته، وذلك لا يوجب أن يقال: أن حقيقة الزوجية مضاجعة

الزوج في فراشه. ولو اشترى رجل جارية، فوطئها ثم استخفت، لم يكن عليه حد لتصورها عنده بأمته، وذلك لا يوجب أن يقال: إن حقيقة الملك الشراء فقط، حق يكون الوكيل بالشرى مالكًا ما اشترى لغيره، بل حقيقة الملك بنقل حقوق البائع إلى المشتري، فحقيقة الزوجية تبطل حق المرأة في تصنعها إلى الزوج. وكذلك ينوب التأويل للباغي عند كثرة جمعه يتصور في تلك الحال تصوره للأمة، ولا يوجب أن تكون حقيقة الإمامة كثرة الأتباع والأشياع، لكن الحقيقة صحة العقد بعد استحقاقه إياه وسلامته. وهذا مما وجد الإمام العادل، ولم يوجد للذي يناصبه، لأن العقد له وقع لهما رضاء بما تقدمه من العقد للإمام العادل، فلم تثبت له حقيقة الإمامة، وأن تثبت صورة الأئمة من طريق كثيرة الاتباع والله أعلم.

الخمسون من شعب الإيمان وهو باب في التمسك بما عليه الجماعة

الخمسون من شعب الإيمان وهو باب في التمسك بما عليه الجماعة قال الله عز وجل: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام). وأنه قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية حمية أو يدعو إلى عصبية فقتل، فقتلته جاهلية, ومن خرج على أمتي بضرب برها وفاجرها لا يتحاشى مؤمنها، ولا يفي لذي عهد بعهده فليس مني ولست منه). وقال سماك بن الوليد: قلت لابن عباس ما تقول في سلطان علينا يظلمنا ويشتمنا ويتعدى علينا: ويأخذ صدقاتنا فلا يؤدون منها حقها بمنعهم، قال: لا، أعطوهم. قلت: إنهم يظلموننا ويحرموننا ويشتموننا، أنقاتلهم؟ قال: لا يا حنفي، إن أتاك أهدل الشقين متنفس المنخرين، فأعطه صفقتك، فلنعم القلوص قلوص يأمن المرء من عرسه ووطئه. ثم أخذ بذراعي فغمزها، ثم قال: يا حنفي، الجماعة الجماعة، إنما هلكت الأمم الخالية بتعدمها. أما سمعت قول الله عز وجل: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا}. وجاء عن عمر بن العاص رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة من أهل السنة: الصلاة مع كل إمارة، والجهاد مع كل خلافة لك جهاده وعليه شره، والصلاة على من مات من أهل القبلة).

وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة أن تجامعوا عليهم أمراءكم فهي الهلكة: الجمعة تجمعون معهم، وهذا النسك ينسكون معهم، وهذا العدو تجاهدون معهم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات مفارقًا للجماعة مات ميتة جاهلية). وعنه صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية). وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب عليكم الجمعة فريضة واجبة إلى يوم القيامة، فمن تركها جحودًا أو استخفافًا بها (في) حياتي أو موتي، وله إمام عادل أو جائر فلا جمع الله شمله ولا أتم له أمره). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أطيعوا أمراءكم ما كان، فإن أمروكم بما حدثتكم به فإنهم يؤجرون عليه ويؤجرون بطاعتكم، وإن أمروكم بشيء مما لم آتكم به فهو عليهم، وأنتم منه براء، ذلك بأنكم إذا لقيتم الله جل وعلا، قلتم: ربنا لا ظلم فيقول: لا ظلم. فتقولون: ربنا أرسلت إلينا رسلًا فأطعناهم بإذنك، واستخلفت علينا خلفًا فأطعناهم بإذنك، وأمرت علينا أمراء فأطعناهم بإذنك. فيقول: صدقتم هو عليهم وأنتم منه براء). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أبا ذر كيف تصنع إن أدركت أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال فقلت له: كيف تأمرني أن أصنع؟ قال: صل الصلاة لوقتها واجعل صلواتك معهم نافلة). فبان بهذه الأخبار وجوب التمسك بالجماعة وترك الشذوذ والمحالفة. فهذا باب يتسع ويتشعب، وتلحق شعبة منه بالباب الذي قبله، لأنا كتبنا فيه، وجوب طاعة الإمام، وفصلنا من جميع العلماء على إمامته. ومن يختلفون في إمامته، وكان المقصود منه إثبات الإمامة والأمارة ووجوب الطاعة لأولي الأمر في الجملة.

فأما هذا الباب، فإنه يذكر فيه الحكم في ولاة الجور والمجاهرين بالفسق والحال التي ينبغي أن يصاروا فيها. والحال التي ينبغي أن يجاهدوا فيها، ثم سائر ما يشتمل عليه معنى هذا الباب مما لا يتصل بأحكام الولاة ولا يرجع إليهم، فيقول: أما الإمام العادل الثابت إمامته من بعض الوجوه التي تقدم ذكرها فطاعته واجبة ومخالفته حرام، والثبات على عهده وعقده فرض. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن نكث صفقته فلا حجة له يوم القيامة، ومن مات وهو مفارق الجماعة فموتته موتة جاهلية). وهذا لا يختص به من عقد الإمام، فأعطى بها صفقته بيمينه، لأن الذين لم يعقدوا لما لزمهم عقد الذين عقدوا صاروا في الحكم عاقدين، فمن خالف منهم الإمام ورفض إمامته واعتزل طاعته، فقد نكث صفقته، فالجائز ذكرنا الاختلاف فيه، وفي كل فاسق، سواء كان فسقه بالجور أو بغيره، فمن قال: إن الفسق لا يناقض الإمامة احتج بظواهر هذه الأخبار، وقال: إنها نطقت بإيجاب الطاعة للعادل والجائر وتسميتها جميعًا إمامًا، ويصلي الصلاة لوقتها ومخرجها عن وقتها وإخراجها عن وقتها بلا ضرورة فيق. فصح أن الفاسق إمام، كما أن العادل إمام، وإذا كان إمامًا وجب من طاعته ما يجب من طاعة الإمام العادل. ومن قال أن الفسق يناقض الإمامة، قال: إن ذكر الإمام الجائر منفردًا عن الإمام العادل، ليس إلا لأن الجائر إمام في صورة أمره وظاهر حاله ومن إثبات أن يكون إمامًا بالإطلاق كالعادل، وخرجوا عن طاعته، ونبذ طاعته إذا كانت لا تكون إلا لنقض الجماعة، وجبت الطاعة. وفي ذلك دليل على أن مفارقته إذا أمكنت بغير نقض الجماعة وجبت مفارقته. ومعنى مفارق الجماعة: أن الجمهور إذا كانوا يريدون أن فسقه لا يناقض إمامته، وكان نفر يرون أن يناقضها، فهؤلاء النفر ليس لهم أن يتوخوا بما في نفوسهم لأن الجمهور يخالفونهم، ويردونهم عن رأيهم. فأما أن ينفع الفرقة، وأما أن تصيبهم من الإمامة المعرة استظهارًا فيه بالجمهور، فيكونون قد تعرضوا من البلاء ما لا يطيقونه، وذلك ما قد نهو عنه. وهكذا إن كان أهل الرأي اضطربوا وماجوا، وثارت الفتنة، واضطرب الحبل فسألهم أن يسكنوا ويلزموا الجماعة. ومعنى لزوم الجماعة في هذه الحال الثبات على

الأمر الجامع، وهو احتساب صاحبهم إمامًا، والتزام طاعته وترك الخوض فيما يفرقه فواجب السكوت عنه، فأقام الصلوات وجب إثباتها وإقامتها. فإذا سأله الصدقات، فاعتدى فيها وأراد فوق الواجب ولم يكن رده أعطى، ويكون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومن سئل فوقها فلا يعطه) خارجًا عن ما يمكنه أن يمتنع من الزيادة، أو دلالة على أن الإمام وإن طالت بها، فليست الزيادة بصدقة تلزم لزوم الأصل. وهكذا إن علم منه أنه يأخذ الصدقات فلا يضعها مواضعها أعطي، إذا المصدق إن لم يكن أن يعطي ويكتم وتسقط الصدقة بذلك عن طالب المال كما يسقط حد الإمام الباغي إذا ثبت تأويله، وهكذا إن نصب قاضيًا وجب الترافع إليه إذا وقعت الضرورة ووجبت طاعته. فأما إن استقروا واستبصروا فإن ذلك يختلف. فإن كان في جهاد وجبت طاعته، وإن كان في دفع واحد مثله عن نفسه، أو قصد جائر قتله ليقمعه أو يلحقه بجملته أعين، وليكن بينه من يعينه يوهن المدفوع والمقصود، وكسر شوكته وإبطال أمره عليه لفسقه وفساده، لا أعلمه من هو خارج معه لتقوى يده وتشتد شوكته. وإن كان في دفع جنده وقصدوه بالحق، ليزيلوه عن مكانه ويجلسوا فيه من هو أهدى سبيلًا وأقوم طريقًا منه، فإن أبصر الناس فيه قوة، وكانت غلبتهم له أظهر، وألهم في رأيهم من خلافها، لم يكن لهم أن يعينوا صاحبهم، فكان عليهم أن يواصلوا الجند القاصرين له، ويسألوا الله تعالى أن يكفيهم جميعًا أمره، وإن كان بهم ضعف ووهن فيما يريدون ويخشون أن لا يثبتوا ولا يطيعوا صاحبهم، وإن أجابوهم ابتلوا معهم، كان على من يعذر في القعود أن يتعدوا إن رادوا صاحبهم عن الخروج معه، ولم يقبل له عذرًا خرج معه، وينكث للرمي والضرب والطعن ما أطاق. فإن حمل على كل شيء من ذلك رمى رميًا ضعيفًا لا يبلغهم بمثله سهمه، أو قويًا يتجاوزهم، ولا يسكن بينه وبينهم حموه، وإشارة بالرمح ولم يطعن، وبالسيف ولم يضرب، وأكل مما يرميهم به لو يشير به نحوهم نعتًا له. وإن قدر على تحذير الناس من حيث لا توقف على أمره فعلت، فإن هموا بالانصراف كان أول منصرف وبالله التوفيق. فإن قيل: ليس شيء من هذا بطاعة قلنا: ولا قلنا إن طاعته واجبة بالإطلاق. وإنما

قلنا: إنها تجب تقية له، ووجوب التقية في الظاهر لا تمنع من الاحتياط الذي في الباطن والله أعلم. وأيضًا فقد قلنا: إن أمكن عزله بلا فتنة وجب، وإذا أمكن ترهين أمره سرًا بلا شر يحدث، فكيف لا يجب أو لا يجوز؟ والله أعلم. فصل وأما ما لا يتصل بأمر السلطان من هذا الباب، فهو أن أهل البلد إذا أخرجوا للجهاد، فينبغي لهم أن يخرجوا معًا ولا ينقصوا، فيتبدد عقبة ويخرج عصبه. ولا ينبغي إذا أقيمت الصلاة أن يأتيها فريق ويشذ عنها فريق بشيء في نفوسهم، إما من الصلاة، وإما من طريق آخر، ولا ينبغي لهم إذا تفرقت بهم مذاهب الاجتهاد في أحكام الدين أن يتهاجروا ويتباينوا ويتعادوا ويتباغضوا، لاختلاف مقالاتهم، بل يعذر بعضهم بعضًا، ويعلموا أن الاجتهاد لا يؤدي المجتهد إلى ما يحبه ويهواه، ولكن إلى ما جعل طريقًا إليه، ود ألا يأذن الله عليه، فلا يحسبوا اختلاف الرأي خلافًا ولا إفراقًا، ويقتدوا في بالصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يختلفون ثم لا يتباغضون ولا يتهاجرون. معنى لزوم الجماعة في هذا لزوم الأمر الجامع، وترك الخوض فيما يفرقه، إتيان أبدى كل واحدة من الفرق وإعجازهم عن القيام بنصرة الدين وأطماع الأعداء أو المخالفين. وكفر أن نعمة الله تعالى التي أنعمها على النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول وقوله الحق: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانًا}. وقال: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعً ما ألفت بينهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم}. وأنهم إذا ساروا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما كانوا عليه قبلت قلوبهم منعه من التخريب والتفريق واستحبوا العادة الجاهلية على العادة الشرعية، فلا يؤمن إذا أسكنت نفوسهم ذلك وضربوا

عليه أن يبتغوا أشكالها من الأمور القديمة المكروهة شيئًا فشيئًا، حتى ينسلخوا من الدين، ولعل ذلك هو الذي أشفق النبي صلى الله عليه وسلم منه عليهم حين قال: (ألا لا تعودون ضلالًا) أو قال: (كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض). وما نزل هذه المنزلة فينبغي أن يحسم الشيء المؤدي إليه في أوله. هذا وقد قال الله عز وجل: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}. وقال: {إنما المؤمنون إخوة}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا). فهكذا ينبغي أن يكونوا وليس التفرق من ذلك. وبالله التوفيق.

الحادي والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في الحكم بين الناس وما يتشعب فيه من الكلام

الحادي والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في الحكم بين الناس وما يتشعب فيه من الكلام قال الله عز وجل: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعًا بصيرًا}. وقال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيمًا} وقال: {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تبتع أهواءهم عما جاءك من الحق}. وقال في صفة نفسه جل ثناؤه {قائمًا بالقسط}. وقال: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} وقال: {واقسطوا إن الله يحب المقسطين}. وقال: {وإذا قلتم فاعدلوا، ولو كان ذا قربى}. وقال: {يحكم به ذوا عدل منكم} وقال: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان}. يعني آلة العدل. ثم قال عز وجل: {ولا تنقصوا المكيال والميزان}. وقال: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}. وقال: {وزنوا بالقسطاس المستقيم}. وقال: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}. وقال: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله}. وقال: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام. وقال: {على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى}.

فوصف جل ثناؤه نفسه بالقسط وهو العدل، وأمر عباده به، ووصاهم فيما يتعاملون به بملازمته وبالانتهاء إلى ما يوجبه العدل الموضوعة بينهم من المكيال والميزان فثبت بهذا كله أن العدل بين الناس في الأحكام وعامة المعاملات من فرائض الدين. فأما ما اتصل منه بغير الحكم، والناس كلهم مأمورون بأن يتصف بعضهم بعضًا من نفسه، فلا الطالب بطلب ما ليس له، ولا المطلوب تبع بما عليه بعد أن يكون قادرًا على أن يعفوه. وأما ما اتصل منه بالحاكم، فجملته أن الحاكم ينبغي أن لا يتبع هواه ولا يتعدى الحق إلى ما سواه، كما قال عز وجل لداود عليه السلام: {يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}. فإن الحاكم ليس رجلًا خص من بين الناس، فقيل له احكم بما شئت، فإن هذا لم يكن لملك مقرب ولا نبي مرسل. فإنما اؤتمن على حكم الله تعالى ليفصل بين عباده به، ويحمل المختلفين عليه، فكل ما قاله بين الخصمين بما ليس بحكم الله فهو مردود عليه، وهو فيه أسوأ حالًا ممن قاله وهو غير حاكم. لأنه اؤتمن فخان، وكذب على الله جل ثناؤه واختيان الأمانة نفاق والكذب على الله شقاق، والله عز وجل يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم}. ويقول يوم القيامة: {ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة، أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}. وينبغي للإمام أن لا يولي الحكم بين الناس إلا من جمع العلم السكينة والتثبت، وإلى الفهم الصبر والحلم، وكان عدلًا أمينًا نزهًا عن المطاعم الدنية، وربما عن المطاعم الردية، شديدًا قويًا في ذات الله، متيقظًا متحققًا من سخط الله، أمينًا بالتمكين، الجوار ما لا يهاب، ولا المتعظم الجبار فلا ينتاب، لكن وسطًا خيارًا، ولا يدع الأمام مع ذلك أن يديم الفحص عن سيرته، والتصرف بحاله وطريقته. ويقابل منه بحب تغييره بعاجل التغيير، وما يجب تقريره بأحسن التقرير، ويرزقه من بيت المال إن لم يجد من يعمل بغير رزق ما يعلم أنه يكفيه ولا تقصير به عن كفايته، فيتطلع إلى أموال الناس، ويشتغل عن أمورهم بطرف من الاكتساب يجبر به ما نقصه الإمام. ويحتل بذلك منه، بما إليه القيام،

ويقوى فيما ولاه يده، ويشد أزره، ويكف مجاورته من العمال وغيرهم عن معارضته ومزاحمته، ويأمرهم جميعًا بطاعته، ولا يرخص لأحد في الامتناع عليه إن دعاه، والخروج عن مقاله إن أمره أو نهاه، فيما يتصل بالانقياد للحكم وحسن التسليم، أو يعود عليه بالتفخيم والتعظيم. ويتوقى أن يقال في ولايته: هذا حكم الله، هذا حكم الديوان فإن هذا من قائله إشراك بالله، إذ لا حكم إلا الله. قال الله جل ثناؤه في كتابه: {ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}. وكما قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} فمن أثبت بالحكم لغيره، فهو ومن ثبت الحق، وإلا هو كغيره سواء. وقال: {ولا يشرك في حكمه أحدًا}. وقال: {لا معقب لحكمه}. وقال: {لا مبدل لكلماته}. فمن قال: هذا حكم الله، وهذا حكم الديوان، فقد أشرك، فإن سمع بذلك وإليه، فأقره عليه واعتبر طاعته وتعظيمًا له، كان مثله. قال الله عز وجل: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله، يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم}. فإذا كان هذا في القعود هكذا، فما الظن بالإقرار والاستحسان؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أنجع الأسماء عند الله أن يسمى الرجل باسم ملك الأملاك). فإذا كان التسمي باسم الله ناجعًا، أفلا يكون التعرض في الشرك في حكمه دامغًا باختيان. فإذا كان هذا هكذا فينبغي للإمام وكل وال أن يعز أمر الله ليعزه الله، ويعلم أن الأجياد وثبوت المال والمعادن كلها والسلطان نفسه إنما يحتاج إليها وإليه، ليكون حكم الله تعالى بين عباده جاريًا وأمره غالبًا ودينه ظاهرًا، والمصلح للمفسد فاقرًا، فإنه إذا علم هذا، وقر في قلبه، كان نعمة على أمر الحاكم معًا فعدله، وينظم إساءته مقصورًا، ونصره لمن يوليه ويعطيه حسنًا موفورًا، ويحسب ما يجعل من محل الحكم وقدره بأخذ

ماله نبا في أمره، فيصير ذلك سببًا لانحلال عقده وانفصام عزله، حتى لا يرى بعد اسمه شيء سواه. وما أخلق بذلك من لا يراقب ربه، ولا يعرف حقيقة مجلسه الذي أجلسه، والاسم الذي سمى بنفسه، {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور}. فصل فإذا دعا الإمام رجلًا إلى القضاء، فينبغي له أن ينظر في حال نفسه، وحال الناس الذين يدعى إلى النظر في مظالمهم. فإن وثق من نفسه بالاستقلال والكفاية والاقتدار على أداء الأمانة، وعلم أنه لم يقبل صار الأمر إلى من لا يكون من المسلمين مثله، فأولى به أن يجيب إلى ما يدعى إليه ويقبله، ويحسن إليه في مثوله، ليكون ما يعمله من تعبد لوجه الله تعالى بأجره به في الأخرى، وإن كان يرزق عليه في الدنيا وإن كان إذا امتنع وجد من يقوم مقامه ويسد مسده، فهو بالخيار والتمسك أفضل. فأما إن لم يعلم من نفسه الاستغلال، أو لم يأمن أن يكون منه سوى التمسك وقلة التمالك، فلا ينبغي له أن يجيب. وهكذا إن كان هناك خير منه علما وعقلًا وخلقًا، وإن عرض الأمر عليه، فلا ينبغي له أن يتسارع إلى ما يدعى إليه لينظر ما الذي يكون من الآخر، فإن المستصلح للحكم فقيرًا لا يهتدي إلى كسب ولا يجب أن يقبض من العلم الذي عنده بعمل دنيء يعمله، فيعرض للحكم ليرزق من بيت المال كفايته فيستغني به ثم لا يجزى ولا يعمل ولا يرشي، فلا بأس عليه من ذلك. وينبغي للإمام أن ينظر في أمره، فإن كان محتاجًا إلى مثله ولاه. ويجوز له أن يصرف عناء عن العمل لأجله. وإن اقتناه وأنفق عليه من بيت المال إلى أن يحتاج إليه، فذلك أحسن. فأما أن يصرف محتاجًا مثله وأحوج منه، فلا ينبغي أن يفعله، وإذا ظهر له من حاكم العدل والأمانة، ووقفت لأهل عمله إليه الإساءة، وبدت في أمورهم مكانة الاستقامة، فلا ينبغي له أن يصرفه عن عمله إلا بظاهر فضله من كل باب عليه، فأما بمثله أو بمن يقارنه، فإن ذلك غض منه وسوء نظر للرعية. وإزالة الأمر عن نظامه الذي لا يدري أنه يعود بالتالي إليه أو لا يعود، وإن كان التعرض للحكم والخاطب له غير محتاج

إليه، وكان الحاكم بالبلد الذي يطلب هذا عمله. قد أظهر ما يوجب عزله، فأراد هذا: يعرض نفسه الاحتساب في صرفه، فذلك عذر يجوز أن يجاب إلى مراده لأجله. وهكذا إن كان أمر القضاء ضائعًا، فيتعرض له ليحيه أو ليتشرف به مدينًا، وكان من أهله استحق أن يجاب. فقد خطب إبراهيم صلوات الله عليه لأمانة لذريته شرفًا بها. وخطب يوسف عليه السلام الخزائن نظرًا للمسلمين واحتياطًا لهم. فلم ينكر الله تعالى ذلك عليهما، وإن كان المتعرض إنما يطلب الحكم شرفًا وطمعًا، واستطالة على الناس وبذخًا، فلا ينبغي للإمام أن يوليه، وكل ما ظهر للإمام قصوره في العلم عما يحتاج إليه أو فيه أو تهوره فحرام عليه أن يستقصيه. فصل وقد وردت في تقلد القضاء آثار تزهد فيه، بل توجب التحرز والفرار منه. من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين). وعنه صلى الله عليه وسلم (ما من أحد يحكم بين الناس إلا جيء به يوم القيامة وملك أخذ بقفاه حتى يقف به على شفير جهنم. فإن أمر به هوى به في النار سبعين خريفًا). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سنة أيام، أعقل أبا ذر، ما أقول لك! ثم كان اليوم السابع، قال: أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسأل أحدًا شيئًا، وإن سقط سوطك فلا تؤمن أمانة، ولا تولين يتامى، ولا تقض بين اثنين). وقال عثمان لابن عمر رضي الله عنهما: اذهب فكن قاضيًا! قال: أو تعفينني يا أمير المؤمنين! قال: فإني أعزم عليك. قال: لا تعجل علي، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(من عاذ بالله فقد عاذ معاذًا). قال: نعم. قال: فما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي؟ قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان قاضيًا يقضي بجور كان من أهل النار، ومن كان قاضيًا يقضي بجهل كان من أهل النار ومن كان قاضيًا عالمًا يقضي بالعدل فبالحري أن يتفلت كفافًا، فما أصنع بهذا؟). وقال بعضهم ذكرنا أمر القضاء عند عائشة رضي الله عنها فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يجيء بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في غرم قط). وقال صعصعة بن صولان: خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذي قار وعليه عمامة سوداء قال: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليس من قائل ولا قاضي إلا يؤتى به يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله تعالى على صراط، ثم ينشر الملك سيرته، فيقرأها على رؤوس الخلائق. فإن كان عدلًا نجاه الله بعدله. وإن كان غير ذلك انتفض به الصراط انتفاضة صار بين كل عضوين من أعضائه مسيرة مائة سنة، ثم ينخرق به الصراط، فما يتلقى قعر جهنم إلا بوجهه وحر جبينه). وجاء مثل ما دلت عليه هذه الأخبار عن الصحابة والتابعين. روى عبد الرحمن ابن الأزرق- رحمه الله- قال: كنت جالسًا عند ابن مسعود الأنصاري، فدخل رجلان المسجد، فقالا: من يتناقد بيننا رحمه الله؟ فقال رجل من خلفه: إلي جئني أنا. فأخذ أبو مسعود قبضة من حصى فرماه، وقال: لا تسارع إلى الحكم. وقال أبو بردة رضي الله عنه: لقينا ابن عمر، فقال: لقي أبي أبا بكر في بعض ما كانا يلتقيان، فقال له: أني أبشرك، إن عملك علي عشرة تكون كفافًا ولا أجر، ولا وزر، ويخلص لك عملك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو موسى: والله لقد دخلت البصرة ولحقني بها ناس فعلمتهم القرآن والسنة، وغزوت بهم في سبيل الله فإني لأحتسب فضل ذلك عند الله. فقال له عمر: ثكلتك أمك يا أبا موسى، لكني- والله- لوددت أن أنجو

منها كما دخلت فيها لا أجر ولا وزر، ويخلص لي عمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقلت له: إن أباك كان خيرًا من أبي. وقال ابن عباس: دخلت أنا والمسور بن محرمة على عمر رضي الله عنه حين طعن، فقلت: أبشر يا أمير المؤمنين، قد مصر الله بك الأمصار، ودفع بك النفاق، وأفشى بك الرزق. فقال عمر رضي الله عنه: أفي الإمارة شيء علي يا ابن عباس؟ فوالله لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا علي ولا لي. وقال محمد بن سيرين: كنا عند أبي عبيدة بن حذيفة في فئة له، وبين يديه كانون فيه نار. فجاء رجل، فجلس معه على فراشه، فساره بشيء ما ندري ما هو. فقال له أبو عبيدة: أتبخل علي بإصبع من أصابعك في نار الدنيا، وتسلني أن أضع جسدي كله في نار جهنم! قال: فظننا أنه دعاه إلى القضاء. وقال أبو السائب: قال مكحول: ما أحرص ابن أبي مليكة على القضاء؟ لو خيرت بين القضاء وبين ضرب رقبتي، لاخترت ضرب رقبتي. قال: فلما قدم علينا الأوزاعي، وقد بعث إليه ليتولى القضاء، وذكرت له قول مكحول، ثم لقيته بعد ذلك- رزق العافية- فقال لي: إن كنت أن سددت لي رأيي، وقال عمرو بن دينار كتب الحكم بن أيوب في نفر يستعملهم على القضاء، فقال لي: أبو الشعثاء جابر بن زيد: أن الحكم كتب يذكرني في هؤلاء وما أملك من الدنيا إلا حماري، هذا ولو أرسل إلي لركبت ثم هربت في الأرض، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: دعا أمير البصرة أبا بكر بن عبد الله بن هرمز ليوليه القضاء فتصام عليه، فتركه فسماه الأصم، وما كان به صمم، فهرب من القضاء. وقال أبو أيوب السجستاني: ذكر أبو قلابة للقضاء فهرب حتى أتى التهامة، فلقيته بعد ذلك فقال: ما وجدت مثل القاضي العالم الأمثل، رجل شاخ، وقع في بحركم أن يسبح حتى يغرق. قال مكحول: لأن أقدم فليضرب عنقي أحب إلي من أن أولى القضاء. ولآتي إلى القضاء أحب إلى من آتي إلى بيت المال. ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص: لتجعل كعب ابن حنبة على القضاء. فأرسل إليه عمرًا فأقرأه كتاب أمير المؤمنين فقال: لعبد الله،

لا ينجي الله في الجاهلية وما كان فيها من الهلكة أحدًا ثم يعود فيها بعد إذ نجاه الله منها، فأبى أن يقبل القضاء فتركه. فصل ورويت في العدل ومن يقوم به أخبار وآثار، منها: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظل يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه متعلق بالمسجد، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال إلى نفسها فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وتفرقا على ذلك، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل تصدق فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). وعنه صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم). وعنه صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة ثلاثة: عفيف يتصدق، وذو سلطان مقسط، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم). وعنه صلى الله عليه وسلم: (أرفع الناس درجة يوم القيامة إمام عادل، وأوضعهم درجة إمام غير عادل). وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيب المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الخافي فيه ولا الخافي عنه وذي سلطان مقسط). وعنه صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد أفضل منزلة من إمام إذا قال صدق، وإذا حكم عدل، وإذا استرحم رحم). وعنه صلى الله عليه وسلم: (ستة مجالس المرء فيها ضامن على الله عز وجل حتى يفارقها: إذا كان في سبيل الله، أو في مسجد جماعة، أو عند مريض، أو في جنازة، أو في بيته، أو عند إمام مقسط، تعززه

وتوقره لله عز وجل). وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (الله مع القاضي ما يم يجر، فإذا جار تخل عنه ولزمه الشيطان). وأما الآثار فمنها ما روي عن قيس بن عباد لقوم: إمام عادل أفضل في نفسي من عبادة رجل في ست وستين سنة. وقال ابن مسروق: لأن أقضي يومًا واحدًا بعدل أحب إلي من أن أغزو سنة في سبيل الله. وقال الحسن: نعم أمة تدخل في عدل في ذلك على كل أهل بيت من المسلمين خيرًا. وقال ابن عباس: بلغني أن حاكمًا يعدل في بلد فأفرج بذلك، وما نال به أهل ولا مال. ثم من المعلوم إن شاء بينه لله تعالى عباده في أرضه، إنما هي أحكامه وحدوده، وإن ظلت علمها في الوجوب كعلم العبادات، وإن العلم إنما يحتاج إليه للعمل، فلولا وجوب العمل لم يجب العلم، وإذا كان كذلك لم يجز إذا كانت الأحكام من الله تعالى واقعة، والحدود على أهلها واجب، وطلب العلم الذي به يهتدي إلى ما شرع الله تعالى منها فرضًا لازمًا أن يكون القائم بهما مذمومًا أو متوعدًا، والقيام بهما مكروهًا أو مقبحًا. فصح أن كل ما جاء بخلاف ما رويناه في هذا الباب فمحمول على تعظيم أمر القضاء، والدلالة على حظره ورفعة قدره، لا على الكراهية أن فيه قبحًا أو متاعًا، أو سقاطة، وأن من نفر منه فلا سفاقة من أن لا يقوم بحقه، ولذلك ينفر من نفر عنه، هو على معنى الإشارة للأحواض إذا كان من الحظر بحيث لا ينبغي أن يأمن كل أحد نفسه عليه. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولاه بنفسه، وبذلك بعثه الله تعالى، وبعث عليًا ومعاذًا وغيرهما قضاة، فلا كان القضاء مكروهًا، والقاضي ملومًا لما شرع الله تعالى القضاء، ولا أمر به أنبياءه ورسله صلوات الله عليهم، ولا يولي رسله صلى الله عليه وسلم القضاء أحدًا، ولا كان القضاء ولاية بل كان سفهًا وسفاهة، وفي القول بهذا هدم للإسلام ودفع للأحكام، وما دعا إلى ذلك فهو من أعظم الفساد، وقد قيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العامل على الصدقة كالغازي في سبيل الله حتى

يرجع) فإذا كان العامل على الصدقة كالغازي إذا لم يجر ولم يعتد. والقاضي أشرف منه عملًا، فهو بأن يكون كالمعاهد في سبيل الله إذا عدل أولًا. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يسمع). فماذا كان لطالب العلم هذا الفضل، فمن ضم إلى طلبه العمل به فهو للفضل أولى، والعمل يصلح الأحكام ويفسدها، وحمل الناس عليها وأخذهم بها. فلذلك شبهه السلف بالعبادة، وفضله بعضهم عليها والله أعلم. فصل وإذا دعا الإمام رجلا إلى عمل من أعماله، قضاء أو غيره، والرجل ممن يصلح له فأبى فإن وجد الإمام من ينوب في ذلك أعفاه، وإن لم يجد أحدًا يقوم مقامه فيه أجبره عليه دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعيد بن عامر الجمحي، فقال: إني مبعثك على ارض كذا وكذا، فقال: لا تعيني، قال: والله لا أدعكم، قلدتموها عنقي ثم تتر كونني. وقد يحتمل هذا تفصيلا هو أن الإمام إذا كان ولى أعماله القريبة منه رجلا ونفى عليه عمل بعيد، فلم يجد إلا رجلا واحدًا يصلح له وأراده عليه فامتنع منه. فإن كان الرجل يصلح لبعض الأعمال الدانية، والتي يتولى ذلك العمل يصلح للعمل البعيد، وكان أن أمره أجاب، فلا كراهية، والكاره له إن ولي العمل القريب كان ذلك أخف على قلبه فينبغي للإمام أن يترقى بالأدنى فيعد إلى البعيد غيره، ويولي هذا مكانه لئلا يكون قد أجلاه بلا ذنب أحدثه. وإن كان يكره القريب كما يكره البعيد، ولا يكره البعيد لأجل النأي والغربة، نظر الإمام في أمره بما يريه الله عز وجل. فصل وإذا كان عند الرجل أنه يصلح للقضاء، فأراد أن يطلبه أو دعاه الإمام إليه، فأراد أن يجيبه، فلا ينبغي له أن يستحي بما في نفسه من طلب أو إجابة حتى يسأل أهل العلم

والفضل والأمانة، فمن خبره وينظر حاله وأمر على نفسه، ويقول إني أريد القضاء فما ترون في أمري؟ وهل تعرفوني صالحًا أو لا؟ فإن هذا من المشورة التي وصى الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله}. ومدح الذين يتشاورون، فقال: {وأمرهم شورى بينهم} وإن لم يسأل الجماعة سأل عنه واحدًا يثق به، فإن عرفه بعض ما فيه، ما كان غافلا عنه، فقدر أن زكي، مضى لما هم به، وهذا أيضًا بين الوجه والمعنى، لأن المرتجية نفسه، قد لا ينظر من أحواله وأوصافه إلى ما يحسن ويحمل، فإن منزلته من ولده إذا كانت بهذه المنزلة، فلذلك قيل: زين في عين والد ولده، فلأن تكون منزلة نفسه منه، هكذا أقرب. وإذا كان ذلك معقولًا وجب على كل أحد زكته نفسه له أن يتشكك فيها ويسبب ذلك من غيره، فيعلم أن نفسه صدقته أو ليست عليه. وإذا سأل ما يسأل بعيدًا لا يعلم منه إلا ظاهره، وإنما يسأل عنه الغريب الذي يخبره، ويتحقق من أمره، فإن الله عز وجل يقول: {ولا ينبئك مثل خبير} وإذا سأل عن نفسه غيره، فينبغي المسئول أن ينصح له ويصدقه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله! قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ولأن المستشار مؤتمن). ولا ينبغي للمؤمن أن يخان، قال الله عز وجل: {فليؤد الذي اؤتمن أمانته، وليتق الله ربه}. وقال: {لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} وقال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا). وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: ما أفتيت حتى سألت من هو أعلم مني، هل تراني موضعًا لذلك! سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك، فقيل له: فلو نهوك قال: كيف أنتهي، لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء، يعني يسأل من هو أعلى

منه، وإذا أراد التولية فليبرأ، فليستخر الله عز وجل وليسأله التوفيق والتسديد، وليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب. اللهم إن كان هذا الأمر خيرًا لي في آخرتي ودنياي فيسره لي، ووفقني له، وإن كان شرًا لي في دنياي وآخرتي فاصرفه عني وباعد بيني وبينه. فإنه يروى هذا أو معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا تقلد فينبغي أن يوكل المتميزين، التميز الثقات الأمناء من إخوانه، وأهل العناية بنفسه، ويسلهم أن يتفقدوا أحواله وأموره. فإن رأوا منه غيره نهوه عليها ليتداركها يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: وليتكم ولست بخيركم، فإن الشيطان يعتريني. وقد كان بعض الناس يحمل قوله: ولست بخيركم على أنه أراد خيرهم نسبًا، وهذا السياق يدل على غيره، وهو أنه أراد: وليس بخيركم كالنبي صلى الله عليه وسلم فلا أزيغ ولا أزل، ولست بمعصوم إنما كانت العصمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن زغت أي اجتهدت فأخطأت فراجعوني ودلوني على خطأي. فإن الخطأ جائز علي لأرجع إلى الحق ولا أتمادى في الباطل، وإن عصيت فراعوني أي إن أمرت في حال الغضب بشيء فانظروا في أمري، فإن الشيطان علي من السلطان ماله منه على أمثالي فلا آمن أن يسعدني الغضب فيفسد علي رأيي، ويقرب علي البعيد ويحسن إلى القبيح. فإن ظهر شيء من ذلك لكم فأعلموني ولا تمنعني مكاني من مطالعتي فيما تنكرونه من قولي وفعلي. وهذا كله إشارة إلى السوي من العصمة إذا كان الناس إذا شاهدوا قبله نبيًا معصومًا مات كيلا يظن ظان أنه إذا كان إمامًا من بعده كان معصومًا مثله والله أعلم. فصل وكما ينبغي في الراغب في الحكم ما ذكرنا، فكذلك الإمام الذي يريد أن يولي غيره من الحكم ما ولاه الله عز وجل، ينبغي له أن لا يقتصر على تعرض الخاطب لما تعرض له لكي يسأل عنه أهل العلم والدراية والفطنة. والثقة والأمانة، فإن زكوه له ولاه وإن لم يزكوه تركه. وإن كان الإمام من أهل العلم والفهم، فينبغي له أن يمتحنه بمسائل بلغتها عليه

من المظالم الخاصة، فينظر كيف يكون جوابه عنها، وقيام هبها. وإن أمر بذلك غيره فيتولاه بمشهد فلا بأس. فصل وإنما حاكم نصب بين ظهراني قوم فينبغي لهم أن يسمعوا ويطيعوا ويترافعوا إليه إذا اختلفوا وتنازعوا ليفصل بينهم، وإذا فصل انقادوا لفصله، واستسلموا لحكمه، قال الله عز وجل: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما}. وقال فيما ذم به قومًا امتنعوا من الحكم: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، بل أولئك هم الظالمون}. وقال على أثر هذا فيما مدح به المحبين إلى الحكم إذا دعوا إليه: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه، فأولئك هم الفائزون}. وقال: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}. وقال: {ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ووما أنزل من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا}. فينبغي للمشارعين أن لا يرتفعوا للفصل بينهم إلا إلى حكام المسلمين، وإذا ترافعوا أن يسمعوا ويطيعوا أمره ويقبلوا حكمهم. وإذا ارتفع أحد المشارعين إلى حاكم وسأل إحضار خصمه، فدعاه أن يجيبه ولا يتمرد عليه. وإذا حضره سمع الحاكم كلامه أن لا يخرج ولا صاحبه من أمره، فإنهما عصاة، فإنما يعصي ربه عز وجل. وللحاكم أن يؤديه بما يؤديه اجتهاده وإنما حاكم أو والي، دعا رجلا من رعيته ولم يعلم لما يدعوه، فعليه

إجابته. وإن علم أنه يدعوه لدعوى وقعت عليه من مدع، فإن كان ذلك المدعي حضر مع رسول القاضي فأرضاه، سقط الذهاب إلى الحاكم عنه، وإن كان لم يحضر ولا وكيل أو نائب في قبض الحق عنه فليذهب وليجب ولا يسعه التخلف مع ترك الدفع إلا في حالة واحدة، وهو أن يكون المدعي كاذبًا وقد أعد شهودًا زورًا، ولا يتأتى له أن يجاهر بحرجهم ولا يجد من يبوح بذلك، ويصرح به في وجوههم، ولا يقدر على دفع لشهادتهم ولا مخرج منها. فيخشى إذا حضروا أقيمت الشهادة عليه أن يحبس ويؤخذ منه المال قهرًا ويفرق بينه وبين امرأته، وبينه وبين جاريته، فينتزع منه. فله في هذه الحال أن يهرب أو يتوارى أو يخفى ماله وما يدعى قبله، فلا يقدر عليه، وهذا موضع عذر وضرورة، فلا يقاس عليه والله أعلم. فصل وإذا أقبح القاضي عمله واحتاج إلى أعوان يعملون له من كاتب، وأصحاب مسائل، ولا يتخذن إلا كاتبًا مسلمً عدلًا أمينًا فطنًا متيقظًا لا يطابيه ولا يغيب عنه من أمره وأمر المترافعين إليه شيء، وأمينه وأمين المتخاصمين على ما يثبته ويحطه. ولا يجوز أن يكون من غير أهل الدين، قال الله عز وجل: {لا تتخذوا بطانته من دونكم، لا يألونكم خيالًا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر}. وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قيل له: أن هاهنا رجلا نصرانيًا من أهل الحيرة لم نر غلامًا أكتب منه، فلو اتخذته كاتبًا فقال: وقد اتخذا إذًا ربًا دون المؤمنين. وقدم أبو موسى الأشعري على عمر ومعه كاتب له فرفع حسابه فأعجز عمر. وجاء عمر بكتاب، فقال لأبي موسى: أين كاتبك؟ يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال له: أنه لا يدخل المسجد، فقال: أجنب هو؟ قال: إنه نصراني قال: فانتهره فقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشاء. وعنه أنه قال لأبي موسى الأشعري: استعن على الأمين، فلا أمين إلا من خشي ربه.

وعنه أنه كتب إلى عماله: أن استعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله. وعنه أنه قال لأبي موسى: أيتني برجل ينظر في حسابنا. فأتاه بنصراني، فقال: لو كنت تقدمت إليك لفعلت وفعلت، سألتك رجلا أشركه في أمانتي فجئتني بمن خالف دينه وديني، وهكذا القاسم ينبغي أن يكون أمينًا بصيرًا بالفرائض والحساب، لأن القاسم شعبة من شعب الحكم، فينبغي أن يكون من يتولاه في العدالة والأمانة والعلم الذي يحتاج إليه، كمن يتولى جميع شعبه. وهكذا أصحاب المسائل هم أمناء القاضي على الشهادات التي تتعلق بها حقوق المسلمين، فلا ينبغي له أن يأمن عليها إلا المستحق لأن يؤتمن، ولا يثق فيها إلا بمن يستوجب بحسن أحواله والثقة به. وينبغي أن ينزه القاضي نفسه ومن حوله ويشدد عليهم ولا يرخص لهم في أمر ينقم منه، أو يخشى أن يتطرقوا به إلى غيره، ويرتقوا إلى ما فوقه. قال سالم بن عبد الله: كان عمر إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء، جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم النئ، وأقسم بالله، لا أجد أحدًا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة. وروى أبو الحصين أن عمر قال: إني كنت لما وليت هذا لأمر لم يكن يحضرني أخوف عندي أن يشركني فيه، من امرأة كانت لها عندي منزلة فطلقتها، فلما وليت وعصمني الله، منعتها نفسي، فكتبت فيها فوجدتها قد ماتت. فقلت: ما قضى الله خير. وكانت المرأة بالشام. وذكر لعمر وقت الاستخلاف عثمان رضي الله عنهما، فقال: كلف بأقاربه ومن ذلك أتى فقتل. فلا ينبغي للإمام أن يقدم أقاربه على عامة المسلمين ولا يستوفهم ما لا يسوغ غيرهم، ولا ينظر لهم بما لا ينظر به لغيرهم ولا يستعملهم ويوليهم، ويدع الناس سواهم والله أعلم. فصل وإذا أراد حاكم الجلوس للحكم فليجلس وهو فارغ القلب لا يهمه إلا النظر في أمور المتظلمين، وإن تغيرت حاله بغضب أو غم أو سرور مفرط أو وجع أو ملالة، أو إغراء يوم أو جو غم، فليقم إلى أن يزول ما به، ويتمكن من رأيه وعقله، ثم يجلس.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان). وعنه صلى الله عليه وسلم: (لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان) وروى أن شريحًا كان إذا غضب قام وترك القضاء. وقال عمر بن عبد العزيز لما استعمل ميمون بن مهران على الجزيرة: لا تقضين بين الناس على سآمة ولا غضب ولا حاجة إلى مطعم. وكان ابن أبي ليلى والشعبي يطعمان ثم يخرجان إلى مجلس الحكم ويقول الشعبي: آخذ حكمي. ومن الأصل في هذا الباب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نعس أحدكم في صلاته فلينصرف، فلينصرف فليقم، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيثيب نفسه) فعلى هذا إذا نعس الحاكم في مجلس حكمه لم يأمن أن يسمع من أحد الخصمين أو الشهود شيئًا فيراه غيره أو يرد الحكم بشيء، فيقول غيره. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليصلين أحدكم وهو ريان، ولا يصلين أحدكم وهو يدافع الأجنبين) وما ذلك إلا لأن رأيه لا يكل في مثل هذه الحال، فلا يمكنه أن يوفي الصلاة حقها من الخشوع، كذلك رأي القاضي لا يكل في مثلها ولا يتسع للاجتهاد، ولا يسلم نظره سلامة تسكن القلب الدهاء وتقع الثقة بها. فلا ينبغي له أن يقضي عندها. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غزا نبي من الأنبياء صلى الله عليه وسلم بأصحابه فقال: لا يتبعني رجل بنى دارًا لم يسكنها أو تزوج امرأة لم يبن بها، أو له حاجة في رجوعه). فتأول العلماء ذلك على أنه أراد أن يكون لقاؤه العدو بأصحابه، لا يشغل في قلوبهم بعطفهم عن قتال أعدائهم. وينبغي للحاكم أن لا يطيل الجلوس إذا كان ذلك يمله، ويجلس للخصوم ساعات من

النهار ومن ثم يقوم أو يجلس لهم طرفي النهار أو يكون معه في مجلس من أهل العلم من يخلفهم ويذاكرهم وقتًا، فيستأنس بذلك، ثم يشتغل بالنظر في المظالم وقتًا، وكل ذلك قد فعله الناس، وقال رحمه الله- سألني صاحب السوق في شغله بأمور الناس وقضائه بينهم، فقال: إن ما أكاد أفرغ. فقلت له: ما ذلك عليك، ليعقد للناس ساعات من النهار، فإني أخاف عليك أن تكثر فتخطئ. وقال مالك: كان أبو خالد الأنصاري قاضيًا، وكان يجلس مع ربيعة في أناس من أهل العلم فيأتيه الخصوم، فيختصمون إليه، فيقولون له: أدنيتنا خصماءك هؤلاء فيقول: دعوني أتحدث معكم، فإذا جاءني الخصوم حولت وجهي إليهم. قال: فكان إذا جاءه الخصم وهو في المجلس حول وجهه عنهم حتى يفرغ. قال مالك: ومن كان في المجلس يومئذ من حوله كان يرفع لمن يجلس فيه. قال مالك: وكان الناس يومئذ أيسر شأنًا. وقال الضحاك بن عثمان، إن أبا بكر بن محمد كلمه والي المدينة في شيء فأغضبه فلم يقعد للناس شهرًا. فأرسل إليه والي المدينة: ما يمنعك من الجلوس للناس؟ فأرسل إليه: أردت أن يذهب ما بي من الغضب. وذكر عبيد الله بن عائشة، قال: كان شبيب ابن شيبة رجلًا متربعًا وكان يفرغ أهل البصرة إليه في حوائجهم، فكان يغدو عن كل يوم فإذا أراد الكوب، دعا من الطعام بشيء عرفه، فنال منه. ثم يركن في حوائج الناس. فقيل له: إنك لتباكر الغداء. قال: أجل، أطفئ فورة جوعي، وأقطع به خلوف فمي، وأبلغ قضاء حوائجي، فإني وجدت خلاء الجوف وشهوة الطعام تقطع الحكم عن بلوغ حاجته. فصل والقاضي في جلوسه بالخيار إن شاء أن يخرج بالغداة إذا طلعت الشمس، فيجلس. فإن كان جاء من له حاجة عنده تقدم، ثم كذلك كلما جاء صاحب تقدم، فلا يزدحم الناس على بابه، فعل. وإن شاء أقام في بيته يتأهب ويستعد بمطالعة بعض الكتب أو بالاجتهاد والتأمل إلى أن يجمع الخصوم ثم يخرج، فعل. وإذا خرج، فإن كان هناك

قوم سلم على جميعهم. وإن كان مجلسه في مسجد فدخله سلم ثم لم يجلس حتى يصلي ركعتين فإذا سلم سأل الله التسديد والتوفيق والعصمة، واستعاذ به من الميل والحيف وسوء الفهم والجهل والنسيان والكسل، وحرم على العدل والرفق وتحسين الخلق والصبر ثم جلس مجلسه، وليبدأ عمله. وينبغي للحاكم أن يكون عنده من يحفظ نوب الناس، فيقدم الأول فالأول ويجلسهم مجالسهم، وإذا اشتد على خصم إحضار خصم أنفذ من يحضره، ويكون الحاكم قد أطلق له ذلك كله، وأن تحضره جماعة أن احتاج إلى إنقاذ وأخذ في حاجة أو شغل أنفذ أحدهم، ويكونون تقاة مرضيين، روى أنه صلى الله عليه وسلم كان معه عشرون شابًا من الأنصار يلزمونه بحوائجه وإذا أراد أمرًا بعثهم فيه. وإن كان الحاكم مع علمه متلبدًا يحتاج على من يعينه، فينبغي أن يحضر مجلسه جماعة من أهل العلم واحد أو أكثر حتى يعيناه بالأمر، أمده جليسه، وإن كان نافذًا في الأمر فحسن أن يحضر مجلسه جماعة من أهل العلم يشاورهم فيما يحتمل وجهين فأكثر. وإذا كان لا يفتي بالحكم فليفرد ولا يحضر أحدًا، ثم ليدع في غير مجلس الحكم من يشاوره ويستعين برأيه. وإذا شاور في مجلس الحكم، فلا يشاور في مظلمة الخصمين بمشهدهما لئلا يقفا على ما يجري فلا يجد واحد منهما في بعض ما يسمع عليه فيلجأ إليها في مدافعة خصمه. قال عبد الرحمن بن سعيد: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه جالسًا في المسجد فإذا جاءه خصمان، قال لهذا: ادع عليًا، وقال للآخر ادع طلحة والزبير ونفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا جاءوا وجلسوا، قال لهما: تكلما، فإذا تكلما أقبل عليهم فيقول: ماذا تقولون؟ فإذا قالوا ما يوافق قوله أمضاه. وإلا نظروا بعد، فيقومان وقد سلما. ومعنى هذا أنه إذا كان لم تظهر له صحة قول من يشاوره في المجلس لم يحبس الخصمين على المناظرة والمقابلة بين الأقوال. أما أن الرأي في أول أمره غير موثوق به، فلو ناظرهم فبدا له في أحد الاكراء رجحان، فعجل وقضى به لم يأمن أن يرى إذا أنعم النظر غيره أرجح منه بدلالة أقوى من التي عاد بها رجحان الأول. فإذا كان كذلك فالأشبه أن يصرفهم إلى أن ينعم النظر ثم يعود إليه في وقت آخر، فيقضي بينهما به، وأما أنهما غير مختصمين بالخصومة، ووراءهم أناس غيرهما، فلو حبسهما عن المناظرة في أمرها لتضرر بذلك غيرهما، ولعل النظر لا يتناها في الأمد ارتفاع النهار وانتصافه، وذلك وقت القيام، ويفرق الناس فيكون الإثنان قد استأثرا بالقاضي ومجلسه يومهما ذلك، وهذا غير جائز.

وقال بعض العلماء: أن عثمان إنما كان يستشير على أعين الخصوم، لأن الناس لم يكونوا فسدوا، ولم يعلموا وجوه المرافعات والمغالبات، وكان الصلاح والإنصاف غلب عليهم، فأما اليوم مع فساد الناس وسوء الدجل والنيات، فلا ينبغي أن تكون مشاورة القاضي غير الأسرار من الخصوم والله أعلم. وقال إسماعيل بن أبي خالد: رأيت شريكًا جالسًا في المسجد على القضاء، معتمًا بعمامة بيضاء، قد ألقى طرفيها من كتفيه، عليه مطرف خز، ورأيت ناسًا من العلماء يجالسونه على القضاء، منهم أبو عمر الشيباني، والشعبي. وقال إدريس الأودي: رأيت مخلوق بن دينار يقضي وحماد والحكم أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ينظر إلى حماد مرة والحكم مرة، والخصوم بين يديه. وكان أياس بن معاوية لما ولي القضاء يحضر مجلسه زياد بن محرق وهشام بن حسان وغيرهما من شيوخ البصرة. وقال أيوب: كان الحسن يحضر منصور إذا كان مجلسه، إذا جلس للقضاء، وحميد بن عبد الرحمن الحميدي، وكان حماد بن أبي سليمان يحضر مجلس الشعبي للقضاء. وقال ربيعة: ما أدركت قضاة هذا البلد إلا وهم يحضرون مجالسهم إذا جلسوا للقضاء خيار المسلمين. وفعل ذلك عبيد الله بن عمر. وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال لرجل: قاضي ما أنت؟ قال: قاضي دمشق. قال: فإذا جلست، فقل: اللهم أني أفتي بعلم، وأني أقضي بحكم، وأسلك العدل في الغضب والرضا. وقال الحسن بن عبد الله الغبي، لما ولي محارب بن دينار القضاء أتيته وقد دخل المسجد، فصلى قبل أن يجلس أربع ركعات، ثم رفع يده يدعو فقال: اللهم إن هذا مجلس لم أحبه قط ولم أسلكه، اللهم ابتليتني به، فسلمني منه وأعني عليه، بكى حتى بل بدموعه خرقة كانت في يده، ثم قال لي: أمسلم أنت أم معز؟ قلت: بل جئت مسلمًا، قال: ثم ولي ابن سيرين فأتيته، فلما دخل المسجد صلى أربع ركعات قبل أن يجلس فلما سلم قال: اللهم إن هنا مجلس كنت أشتهيه وأتمناه عليك، اللهم فكما ابتليتني

به فسلمني منه وأعني عليه، ثم بكى حتى بل بدموعه خرقة كانت في يده، فجئت مسلمًا عليه فقال: أمهنئًا جئت أم مسلمًا؟ قلت: بل مسلم. وروى أن زرارة بن أوفى وأياس بن معاوية كانوا إذا دخلوا المسجد للقضاء صلوا ركعتين قبل أن يجلسوا مجالسهم ويرفعون أيديهم يدعون. فصل إن رأى الحاكم أن تحضر مجلسه درة تطرح على أيمن الناس لينصتوا بها، فإن استوجب أحد من الخصوم تعزيزًا ليهم بها عليه فعل. روى عن عمر رضي الله عنه أن درته كانت تكون معه. وقد روى عن جماعة من قضاة السلف أكثر من هذا. وروى عن شريح، أنه كان على رأسه شرطي بيده سوط. وقال مالك بن ربيعة: رأيت أبا بكر بن حزم وهو يقضي في المسجد وعن يمينه حرس وعن شماله حرس، وسياط موضوعة، ما عنده أحد من الناس. فقلت: يا مالك، ما شأن السياط؟ قال: يؤدبون بها الناس. وقد كان من الحكام من يصفح في موضع التعزيز، وليس بمروري عن أحد من السلف. واللطم مثله. وهما جميعًا بمنزلة الشتم وثلب العرض وليسا بمنزلة الضرب. ألا ترى أن الصفعة الواحدة واللطمة الواحدة بافتراء ونسيان، فيكون وراءهما فضل وزيادة، والضربة الواحدة لا تؤلم إيلام العشر والعشرين، ولا يعمل في الردع عملهما. فكما لم يكن للحاكم أن يسب ويتناول عرض الخصم وإن عصاه وأساء أدبه، لم يكن أن يصفع ولا أن يلطم والله أعلم. فصل وينبغي للقاضي أن يعدل بين الخصمين من حين يتقدمان إليه إلى أن يقضي خصومتهما في مدخل عليه وجلوسهما عنده، وقيامهما بين يديه، سواء كانا فاضلين في أنفسهما أو ناقصين. أو أحدهما فاضلًا والآخر ناقصًا. قال الله عز وجل: {كونوا قوامين

بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًا أو فقيرًا، فالله أولى بهما} أي هو خالقهما ورازقهما، وأعلم بما هو خير لهما، فاحكموا أنتم بينهما. فإن نال المحكوم عليه من ذلك شيء فإنما ناله بأمر الله وهو أولى به لأنه خالقه ورازقه ومالكه. قال ابن عباس في هذه الآية: هما الرجلان يقعدان عند القاضي فيكون لي القاضي لأحد الرجلين على الآخر. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بالقضاء بالمسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه وإشارته ومقعده، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر) وفي رواية أخرى: (من ولي قضاء المسلمين فليعدل بينهم في مجلسه وكلامه ولحظه) ورواه بعضهم: (إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو سهم في المجلس والإشارة والنظر لا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر). وقال علي رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصف الخصم إلا خصمه معه. وقال الحسن: يصف عليًا رجل فأولى بخصومه، فقال: تحول فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن نصف الخصم إلا وخصمه معه. وفي رسالة عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى: لا تبن بين الناس بوجهك ومجلسك حق لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. وقال الشعبي: كان بين عمر وأبي خصومة، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت، فلما دخل عليه، أشار لعمر إلى وسادة. فقال عمر: هذا أول جورك، أجلسني وإياه مجلسًا واحدًا، فجلسا بين يديه. وقال ابن عباس: إنما ابتلي سليمان بن داود عليهما السلام لأنه تقدم خصمان، فهوى أن يكون الحق لأحدهما. وجاء عن عمر رضي الله عنه: أنه تقدم إليه خصمان فأقامهما ثم عاد، فأقامهما ثم

عاد، فأقامهما ثم عاد فقضى بينهما. فقيل له! فقال: إني وجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه فعادا، وقد ذهب بعض ذلك، ولم يذهب كله، ثم عاد وقد ذهب ذلك، ففصلت بينهما. وعن إبراهيم قال: جاء ابن عصفير، فخاصم رجلًا إلى شريح، فجاء حتى جلس معه على الطنفسة. فقال له شريح: قم فاجلس مع خصمك، إني لا أدع النظرة وأنا عليها قادر. وقال شريح: ما شددت على غصة خصم ولاقيت خصمًا عجه. وذكر الشعبي: أنه كان بين عبد الله بن شريح وبين رجل خصومة، فقال لأبيه: إن بيني وبين فلان خصومة، فإن كان الحق لي فاعلمني- يعني أخاصمه إليك- وإن كان علي لم أخصمه. قال له: خاصمه، فخاصمه فقضى عليه. فلقيه بعدما انصرف، فقال: ما رأيت مثلك، ولولا أني تقدمت إليك لعذرتك. قال: يا بني، لما عرضت علي أمرك كان القضاء عليك، فكرهت أن أخبرك به، فتذهب إلى خصمك فتصالحه، فيقطع من ماله شيئًا لا يحل لك، فلذلك لم أخبرك. وإنما حاكم ثبت عزمه على العدل، فلا يقبلن من خصم هدية. وليعتبر بما يروى أن رجلًا أهدى إلى عمر رحل جزور، ثم جاء يخاصم إليه، فجعل يقول: أمير المؤمنين، أفصل بيننا كما تفصل رحل جزور. وعمر لا يفهم، ثم فهم. فذكر ذلك للناس، فقال: ما زال يكررها على حتى كدت أقضي له، وإنما أراد بذلك أن الشيطان كان يوسوس إليه أن اقضي له، وإلا فقد كان أصلب دينًا وأقوى عزمًا من أن يهم بالجور، وبالله التوفيق. وينبغي أن يكون جلوس الخصمين بين يدي القاضي، ليمكنه أن ينظر إليهما نظرًا واحدًا، ولو أجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، ولم يمكنه إلا أن يلتوي نحو كل واحد منهما إذا أراد أن يكلمه، وجلوسهما بين يديه، أقدم وأعدل، وإلى تعظيم حكم الله أقوى. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر). وروى أنه كان بين عبد الله بن الزبير وعمرو بن الزبير خصومة،

فدخل عبد الله على سعيد بن العاص وعمرو معه على السرير. فقال له سعيد: ها هنا. فقال عبد الله: لا. قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم. فصل وإذا اختصم اثنان إلى القاضي، فينبغي أن يأمرهما بالاصطلاح، فإن لم يتفقا على من يصلح بينهما، اختار لهما أحد الثقات وأمرهما أن يأتياه فينظر في أمرهما ويصلح بينهما. كتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما: ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهما الضغائن، فإن لم يقبلا وألحا على الحاكم فطلبا حكمه حكم بينهما بما يثبت عنده. وأعلى ما يثبت به قول المدعي عند القاضي: إقرار الخصم، أو على وقوع القاضي بعيان أو سماع ثم إشهاده الشهود، ثم الشهادة واليمين في الأموال، ثم النكوث ورد اليمين في كل ما يستخلف المنكر عليه جهات بثبوت قول المدعي عند القاضي. فإن كان ادعى على الخصم عقدًا أو فعلًا يلتمس منه حقًا، نظر الحاكم فيه، فإن كان يجب له بذلك العقد أو ذلك الفعل ما يطلبه أعطاه ذلك منه إذا ثبت العقد أو الفعل وإنما يثبت ذلك بما تقدم ذكره. فأما وجب الحق الذي يطلبه بذلك العقد وبذلك الفعل، فإنما يثبت عند الحاكم بكتاب الله، أو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع الأمة أو القياس على أحد هذه الأصول. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما بعث معاذًا- رضي الله عنه- إلى اليمن قال: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيًا. قال: الحمد لله الذي وفق رسول الله). والقياس قياسان: أحدهما أن يكون الفرع يشبه أصلًا واحدًا، أو لا يشبه أصلًا آخر مخالفًا في حكمه من وجه، فيرد إلى ما أشبه. والآخر: أن يشبه أحد الأصلين من وجه آخر إلا أنه أخطأ. فإن كان أخطأ نصًا

جليًا لا يحتمل إلا معنى واحدًا، أو قياسًا لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا نقض الحكم على نفسه، ونقضه عليه غيره. وإن كان أخطأ نصًا محتملًا وقياسًا محتملًا لم ينقضه، ويستأنف الحكم بالقياس الذي رآه ثانيًا إن كان أرجح عنده فيما رأى به أولًا، فلا يستأنف الحكم بالنص المحتمل الذي خالفه بحكمه الأول، لأن القياس بين منزلته، ودل على أن المراد به ما خرج عن دلالته. وإذا رأى الحاكم رأيًا، ورأى غيره من العلماء رأيًا، ولم يظهر له رجحان رأي غيره، فلا يحل له أن يقبل منه ويحكم به. وهكذا إن استمر بالحاكم الإشكال فأشار عليه غيره من العلماء برأي ولم يبن له وجهه، ولا ظهرت لديه صحته، فليس له أن يقلده ويحكم به. فإن حكم به أو ترك رأيه الذي استبان صحته لرأي غيره الذي لم يستبن صحته، وصرح بذلك عندما ينفذ الحكم، لم يجز حكمه. وإن قال ذلك بعدما نفذ الحكم، فإن كان عرف أنه من الحكام الذين يرون هذا جائزًا صدق. وإن كان لم يعرف منه هذا، وإنما عرف خلافه، إلا أنه ادعى أن رأيه يغير بحكم هذا الحكم بقول غيره، لم يقم عند الدليل عليه تقليدًا، لم يصدق على المحكوم له، ولم يرد حكمه والله أعلم. ولا يجوز حكم الحاكم لنفسه ولا لولده ولا لوالده. وإذا خوصم القاضي ارتفع إلى من ولاه، فأما قضي بينهما، وأما ولى نائبًا فقضى بينهما. ولا يجوز حكم من يصطلحان على حكمه بغير أمر من وال يوليه الحاكم والنظر في أمور المسلمين. ولا يجوز للحاكم أن يستخلف لمرض ولا لغيبة ولا لكثرة شغل في المصر ولا في أطرافه، إلا أن يكون الذي ولاه جعل ذلك له. وإذا مات الإمام أو الوالي الذي يعمل القاضي من يده، لم ينعزل القاضي وليس في ذلك كالوكيل ينعزل بموت موكله، لأن الوكيل يعمل برأي الموكل ورأيه يقطع ويفوت بموته. وإذا عزل القاضي عن عمله فقضى قبل أن يبلغه خبر عزله كان قضاؤه جائزًا، وأقل البلاغ أن يخبره به عدل واحد. ألا ترى أن أهل قباء لما بلغهم في الصلاة أن القبلة حولت استداروا وبنوا، ولم يستأنفوا، وما صلوا قبل البلاغ كان مجزيًا عنهم. وإذا عزل القاضي فقال: كنت قضيت لفلان على فلان بكذا، لم يقبل عزله، ولو ادعى رجل أنه جائر عليه فأخذ منه، وإلا فدفعه إلى فلان، وقال القاضي أحدثه ببينة قامت لخصمه

عندي، أو لأنه أقر بذلك عند، وقال المدعي: ما قامت علي بينة ولا أقررت، لم يقبل قول القاضي، وكان عليه العزم إلا أن يقيم بينة على ما يدعيه من العدل قياسًا على المسألة قبلها. وإن قضى القاضي بشهادة من لا تجوز شهادته خطأ ثم ظهر له ذلك، رد حكمه وضمن عين الدم في حاله، وضمنت الدية لعائلته نفسًا كان أو جرحًا. فصل ويستحب للقاضي إذا أراد نصب قيم في تركة، أو حبس أو بعث قسامًا أن لا يستعمل قرابته لما يلحقه في ذلك من التهمة، ويبسط في عرضه من الألسن. وقال أهل العلم: إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يول أحد منهما من قومه أحدًا، ولا استعمله على عمل قط. وقال عمر لعثمان وعلي رضي الله عنهم: وإن كان قومكما لم يؤمروا غيركما، فاتق الله يا عثمان إن وليت شيئًا من أمور المسلمين، فلا تحل من بني أمية على رقاب الناس. وقال لعلي مثل ذلك. قال ابن عمر رضي الله عنهما: لما دخل الرهط على عمر قبل أن تنزل به قال: اتق الله يا عثمان إن وليت شيئًا من أمور المسلمين، فلا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس، واتق الله يا علي، إن وليت شيئًا من أمور الناس، فلا تحملن بني هاشم على رقاب الناس. إلا أن عثمان وعليًا رضي الله عنهما خالفا رأي عمر في ذلك. فروى عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: إن عمر كان يحترم قرابته لله، وأنا أعطي قرابتي لله. وولى علي ابن عباس، وهو ابن عمه، ولم يرو عنه أنه أنكر قول عمر لأنه كان يحرم قرابته الولاية لله. وذلك رأي سديد لأنه لا يؤمن أن يدل بأنه قرابة أمير المؤمنين فيكون ذلك منه ما يذم ما لا يكون من غيره، ولم يكن يحرمهم الفيء، ولا ما يخرج حرمانه إياهم إلى قطعه الرحم. وأما قوله: أنا أعطي قرابتي لله، فجوابه أنه إذا أعطى قرابته لله، وجب أن يعطيهم ما وصاه الله تعالى به فيهم بقوله: {فآت ذا القربى حقه}. فأما تسليطهم

على أموال المسلمين وعملهم على رقابهم، فليس مما وصاه الله تعالى به فيهم. ويحمله ذلك أن فعله إن كان محمودًا وعلى صلة الرحم محمولًا، فينبغي أن يكون فعل عمر مذمومًا وعلى قطع الرحم محمولًا، وفي إجماع المسلمين على أن عمر بما رأى وما فعل كان ناظرًا للرعية محتاطًا لنفسه ما دل على سقوط معارضة عثمان عنه، وبالله التوفيق. فصل وذا رزق الإمام القضاة، فينبغي أن يرزقهم من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يفضل من أربعة أخماس الفيء من المقابلة والكراع والسلاح وسبل الله، ومن بركات المسلمين التي مرجعها إلى جماعتهم. وإن عمل القاضي متطوعًا إذا لم يكن محتاجًا إلى معونة الإمام، فذلك أولى به وأحسن. والأصل في هذا الباب أن الله عز وجل قطع لرسوله صلى الله عليه وسلم أربعة أخماس الفيء وخمس خمس الغنيمة، فكان يأخذ منها قوته وكفايته وكفاية عياله في كل سنة. ويصرف ما يفضل عن ذلك في سبيل الله. ثم الإمامان من بعده أبو كبر وعمر رضي الله عنهما، فإنهما قد افترقا شيئًا، وإن كان ما أخذه أحدهما أولى مما يأخذه الآخر. وروى سليمان بن غلانة قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: يا سليمان، ادخل علي قومًا من الفقهاء اسألهم عن سيدة هذين الرجلين: أبي بكر وعمر، اسألهم ما استحلا لأنفسهما من الفيء حين، وإنما قال فأتاه من نحو عشرين رجلًا، فقال عمر بن عبد العزيز: مرحبًا بكم، فأنتم ورثة الأنبياء، أن الأنبياء لا يورثوا ذهبًا ولا فضة، إنما يورثوا العلم. أخبروني عن هذين الرجلين اللذين عوقبا. قالوا: أما أبو بكر فإن المسلمين رأوا بأجمعهم أن يستخلفوه. وقالوا: أن نبي الله قد استخلفه علينا وهو حي، ما أصابته سكرات الموت إلا أمره أن يصلي بنا، ودنيانا تابعة لديننا، فاستخلفوه وإنه لكاره. فأصبح الغد قائمًا في السوق يشتري ويبيع، وعلى منكبيه أثواب مطوية، ففزع المسلمون من ذلك وقالوا: أصبح خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيع ويشتري لن يبلغ ذلك أحدًا من عظماء الفرس، ولا ملوك العجم إلا أخبروا عليكم، واحتقروا آمركم وأمر خليفتكم. فقاموا إليه بأجمعهم فكلموه كلامًا سديدًا، فقال:

إنما أنا كاسب أهلي فإن ضيعتهم فأنا لما وراءهم أضيع. قالوا: فخذ لهم من مال الله أو من أموالنا أكثر ما ينالون من كسبك. قال: اعهد عهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم؟ قالوا: لا. قال: أفتأمرونني أن أحد بدعة، وقد كان يأتيه الفيء العظيم فيسمى ما ينويه أصفر. ما أدخلها حلوًا ولا مرًا. فلما الحوا عليه، قال: فأني فارض لنفسي إذا اشتغلت نفسي، فإنما هم كأهل بيت منكم، ينوبهم ما نابكم. ففرض لنفسه مدًا بمد النبي صلى الله عليه وسلم أو مدين وإدامة، وبناء وسخلتين، أو ربما تيس أو هجرتين وإزار لطيف، وإن دخل الشتاء فجبة من فراء، أو طاق تكريتي، وكان هذا الذي أخذ حتى مضى لسبيله، وظهر بعير إن حج وبعير آخر لفقير من فقراء المسلمين، ضرورة تمسكه أحدهما للآخر إن طافا أو سعيا. وأخذ بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى افتتح الأمصار، وفاض على الناس المال، حتى هم أن يجعل نفسه أدناهم. وكان ربما كتب إلى بعض عمال الأمصار أني وجهت إليك فلانًا وهو فقير عربي، فأوص به التجار الذين يشترون الغلات، يدخلونه معهم في الأرباح بطيب من أنفسهم عسى أن يجيره الله بهم فيؤجروا، واستوصوا بهم خيرًا، وادخل عليهم ما استطعت من سعة، فربما رجع الرجل وقد أصاب خمسة عشر ألفًا ونحو ذلك فكان رجال من أهل بيته يقولون: اكتب لنا ما كتبت لفلان فيقول: إذًا يقول من بعدكم، قد كان عمر يكتب لأهل بيته، فيتخذوا بذلك حدرة فيتخذوا بها عدوة، فيرتقوا بها إلى غير ذلك. ولا أحب أن نكون أنا وأنتم حجة لمن سلك شتات الطريق. فلما أدوه كلمه المسلمون وقالوا: اخلطهم بإخوانهم. قال: فعملوا في عماله أنفعهم بها، قالوا: نعم نعملك أربعين ألفًا في السنة. فقال عمر: يا رسول الله، يا أبا بكر أن عمر ابن الخطاب يعمل أربعين ألفًا، فكيف من بعده؟ قال: لا ولكن هما ألفان في رأس السنة. فكان يأخذهما ثم يقول: مال عندي، هذا ما يملك عمر! فإن أحببتم استنكم به، وإن أحببتم فاستأثروا به ما طلبتم مني مما وراء ذلك فرؤوسكم الحجارة. قال: فبكر عمر بن عبد العزيز حين أخبر بهذا الخبر حتى ألصق بطنه بالأرض ثم قال: اللهم لولا أني أعلم أنك تعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، لظننت أنك تغضب علي غضبًا لا يرتد عني أبدًا، لسؤالي عن عمل أبي بكر وعمر، فأني لأرجو أن أشبههما، ولكني أسأل عن أهل الخير أحاشي بهم. فقال عمر: إني جاعل نفسي من هذا المال ككافل اليتيم

من كان غنيًا فليستعفف، ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف، ولا أكل حلوًا ولا مرًا، ما كان من شيء، فلم يأكل منه شيئًا حتى سلك لسبيله. وبعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمار بن ياسر على الصلاة والحرب وابن مسعود على القضاء وبيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، وجعل بينهم شاة كل يوم، شعرها وبطنها لعمار، وربعها لابن مسعود، وربعها لعثمان بن حنيف. ووالله ما أرى أرضًا تؤخذ منها كل يوم شاة سيسارع ذلك في خرابها. وقال نافع: استعمل عمر رضي الله عنه زيدًا على القضاء، ورزقه على ذلك، فعرض له ألفًا، وكتب عمر إلى أبي عبيدة ومعاذ بن جبل حين بعثها إلى الشام: انظروا رجالًا صالحين من قبلكم فاستعملوهم على القضاء، وارزقوهم واسبغوا عليهم واعفوهم من مال الله. وقال عامر بن شريح رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يرزق في كل شهر ماية درهم. وقال ابن أبي ليلى: بلغني أن عليًا رزق شريحًا خمسماية درهم. فصل وإذا ارتزق القاضي لم يسعه أن يصيب وراء ذلك من رعيته شيئًا. يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استعملناه على عمل من أعمالنا ورزقناه عليه شيئًا، فما أصاب بعد ذلك أو فما سوى ذلك فهو سحت). وإن أهدى إليه شيء لم يكن له قبوله، فإن كان المهدي من قبل خصومه فأهدى ليحكم له، أو لئلا يحكم عليه، فهذا هو الرشوة، وهي سحت. لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي. فالراشي وهو الذي يمشي بينهما. وإن أهدى إليه المحكوم بعد الحكم شكرًا لم يقبل، لأن ما فعل كان واجبًا عليه. فصل وإذا تحاكم إلى حاكم المسلمين موادعون، كان بالخيار بين أن يحكم بينهم وبين أن

يدعهم. وإن جاءه أحد الخصمين يستعدي على الآخر لم يعده كما يعدي المسلم. وقال: إن جئتما متراضين بحكمي، حكمت بينكما. وإن كان المستعدي مسلمًا أعداه، فإن رضيا بحكمه، فلم يحكم حتى يرجعا، تركهما. وإن حكم بينهما ثم أتى المطلوب أجرته، وإن احتاج إلى قتاله فأمكنه، وإن تحاكم إليه ذميان، فقولان: أحدهما أنهما كالموادعين. والآخر أنهما كالمسلمين. وإذا حكم بين ذميين أو بين موادعين لم يحكم إلا بحكم الإسلام، لم يسعه غير ذلك. فصل ولا ينبغي للقاضي المرتزق من بيت المال أن يشغل نفسه عن أهل المظالم بالتجارات ونحوها، ولا لقاض مرتزق أو غير مرتزق أن يتولى البيع والشراء لنفسه، لئلا يتقرب إليه بالشراء بأكثر من الثمن إذا باع، والبيع بأقل من الثمن إذا اشترى. ولا يتخلف عن الوليمة إذا دعاه إليها من لا خصومة له عنده، ولا يجيب بعضًا ويدع بعضًا، بل يعم ولا يخص، أجاب أو رد بعينه. ويسأل أن يحلل ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويأتي الغائب عند قدومه، ومن يريد السفر عند مخرجه. وإن دعاه ذو رحمة وقرابة فليجب، وليس منزلته في ذلك كمنزلة الأجانب من أهل العلم، والله أعلم. * * *

الثاني والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الثاني والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الله عز وجل: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون}. فأمر في هذه الآية، حضًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}. وقال في الآية التي وصف بها المؤمنين الذين اشترى الله أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} الآية. فجعل من أوصافهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ووصف قومًا لعنهم من بني إسرائيل، فذكر أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. أي لم يكن ينهى بعضهم بعضًا. فروى في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما ظهر النقص في بني إسرائيل جعل الرجل يلقى أخاه على الذنب. فلا يمنعه ذلك من أن يصبح جليسه وأكيله وشريبه ومدعيه، فضرب بقلوب بعضهم على بعض ونزل فيهم القرآن: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ثم قال صلى الله عليه وسلم: (كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يد الظالم، فتأطروه على الحق أطرًا). وقوله صلى الله عليه وسلم (كلا) يحتمل أن يكون معناه: كاد لا يكونوا مؤمنين مستوجبين، كتب الله تعالى ومدحهم حتى يفعلوا كذا.

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم). أي أنهم إذا خافوا على أنفسهم من هذا القول فتركوه، كانوا مما هو أشد منه وأعظم من القول. والعمل أخوف، وكانوا أن يدعوا جهاد المشركين خوفًا على أنفسهم وأموالهم أقرب. وإذا صاروا كذلك، فقد ودع منهم واستوى وجودهم وعدمهم. وجاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس أنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها بأنها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. وأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أن القول إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا، أوشك أن يعمهم الله بقضائه). فثبت بالكتاب والسنة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم أن الله تعالى جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما بين المؤمنين والمنافقين، لأنه جل ثناؤه قال: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف}. فثبت بذلك أن أخص أوصاف المؤمن وأقواها دلالة على صحة عقدهم وسلامة سريرتهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورأسهما الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه. وإنما أفرد هذا الباب عن أبواب الجهاد، لأن الجهاد فرض حدود معلومة وأحكام مخصوصة، وقد جاءت فيه بانفراده آيات وأخبار معروفة، وأما ما عداه فليس بموجب، وإنما هو على ما يكفي ويقتضيه الحال، ويؤدي إليه الاجتهاد، فذلك الذي دعي إلى إفراد بهذا الباب. ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس يليق بكل أحد ولا يجب أيضًا على كل أحد، وإنما هو من المفروض التي ينبغي أن يقوم سلطان المسلمين (بها)، إذ كانت إقامة الحدود إليه، والتعزيز موكل إلى رأيه، والحبس والإطلاق له دون غيره، والنفي والتعذيب مطلقًا إن رآه في سياسته، فينصب في كل بلد، وفي كل قرية رجلًا صالحًا قويًا عالمًا أمينًا، ويأمره بمراعاة الأحوال التي تجري. فلا يرى ولا يسمع منكرًا إلا غيره، ولا يبقى

معروفًا محتاجًا إلى الأمر به إلا أمر به. وكل ما أوجب على فاسق حدًا أقامه ولم يعطله، فإنه لا شيء أردع للمعطلين من إقامة حدود الله عليهم. وكما لا ينبغي تعطيل حد بعدما وجب، فكذلك لا ينبغي أن يجلد أحد أو يقطع أو يقتل من غير وجوب، فإن السرف في ذلك تنقلب حياته ولا يحصل فيها غرض الحد. وليس يمكن أن يكون أحد أعلم بعباد الله وطريق سياستهم منه، فلو علم أن الحدود التي شرعها لا تكفي لزاد فيها حتى تكفي هذا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من يبلغ حدًا في غير حد، ومن بلغ حدًا في غير حد فهو من المعتدين). وكل من كل من علماء المسلمين الذين يجمعون من فضل العلم وصلاح العمل فعليه أن يدعو إلى المعروف، ويؤخر عن المنكر بمقدار طاعته. فإن كان يطبق إبطال المنكر ودفعه، وردع المتعاطي له عنه فعله. فإن كان يطيق بنفسه، ويطيقه بمن يستعينه عليه فعله، إلا ما كان طريقه الحد والعقوبة. فإن ذلك ليس إلا للسلطان دون غيره. وإن كان لا يطيق إلا القول قال. فإن لم يطق إلا الإنكار بالقلب أنكر. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكرًا فاستطاع أن يغيره بيه فليفعل، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان). والأمر بالمعروف في مثل هذا النهي عن المنكر إن امتنع العالم المصلح أن يدعو إليه ويأمر به، فيكون منه ما يأمر به فعل. وإن احتاج إلى الاستعانة بغيره استعان، وإن لم يقدر إلا على القول قال. وإن لم يقدر إلا على الإرادة بقلبه أراده، ويشاؤه على الله عز وجل فلعله يسعفه به. ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يتعجل به، ومنه ما لا يحتمل التعجيل لأن من رأى أحدًا قد غصب من آخر مالًا أو حال بينه وبين أهله أو ولده، فلم يعاجله بالنصح لمن يأمن أن يعرف الأمر ويتعذر ملاقيه. فأما لمن رأى شرب الخمر وقد بلغ به حد السكر، فإن قدر على أن يأخذ ما عنده منها فيريقه فعل. أو كان عنده جماعة من أهل اللهو والباطل فقدر على أن يصرفهم عنه فعل. ولكنه لا ينبغي له أن يكلمه حتى يفيق فيعلم

ما يقال له. فإنه إن كلمه وهو زائل عن العقل لم يأمن أن يفرط عليه، فيكون قد جمع بين تضييع النصيحة وبين التعرض للشر. وينبغي أن يكون الأمر بالمعروف مميزًا يرفق في موضع الرفق، ويعنف في موضع العنف، ويكلم كل طبقة من الناس بما يعلم، أنه أليق بهم وأنجع فيهم. ولا يخاطب أحدًا لفضل من الكلام لا يحتاج إليه فينفره بذلك عن قبول موعظته، ولا يدخل عليه مدخلًا يصير سببًا لرد نصيحته، أن لا يكون سلطانًا فله الأمر والنهي، ولا حاجة إلى استجلاب الطاعة من رعيته بالتآلف، إلا أن يكون السلطان ضعيفًا يعلم أنه يطاع رغبة ولا تدعى له رهبة. فإن كان كذلك على سبيله فيما ذكرنا سبيل أحد العلماء المصلحين، وبالله التوفيق. وكما لا ينبغي لمن يقوم بهذا الأمر أن يعنف في موضع الرفق، فكذلك ينبغي له أن يرفق في موضع التعنيف، لئلا يستخف قدره ويقضي أمره. وينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، غير محابي ولا مداهن يتعرض لواحد ويعفى غير واحد. فإنه بذلك يجعل على نفسه سبيلًا، كما إذا قام بذلك من ليس يصلح. لأنه كما يقال: أدرك نفسه وغير حالك، فكذلك يقال للآخر: ابدأ بجارك وقريبك، وأصلح من حاشيتك. فينبغي أن يكون القائم بهذا الأمر ممن لا يتوجه عليه لأحد حجة. قال الله عز وجل: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}. فدل ذلك على أن سبيل المرء أن يصلح نفسه أولًا ويقومها، ثم يقبل على إصلاح غيره وتقويمه. قيل لبعضهم: ألا تذكر؟ فقال: ما أنا عن نفسي براض ما يفرغ من ذمتها إلى ذم الناس، أن الناس خافوا الله في ذنوب الناس وأمنوه على أنفسهم. وأيضًا فإن كل واحد من الذي يحابي ويداهن، والذي يتعاطى المنكر بنفسه، مستحق لأن يؤمر بغيره ما هو عليه، ونهى عما هو عليه. فكيف يجوز أن يأمر غيره بشيء أو ينهى عن شيء؟ ذكر أنس رضي الله عنه: أن جبريل عليه السلام عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمر بقوم تقرض شفاههم بالمقاريض، فقال: (من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمتك الذين

يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون). وقال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتنذلق النار بطنه، فيدور بها (كما يدور) الحمار بالرحى. فيقال: مالك؟ فيقول: كنت آمر بالمعروف ولا أنتهي، وأنهى عن المنكر وآتيه). فإن قيل: فالسلطان أن يكون ممن يتعاطى الفواحش أيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قيل: نعم لأن السلطنة هي هذا. فلو انقطعت يده عنه لم يكن سلطانًا وليس من دونه في هذا مثله، لأن القيام بهذا الأمر إنما يصير له عند إمساك السلطان لعلمه وصلاحه، فإذا أخل صلاحه، فقد صار مستحقًا للتغاضي عليه، ولا يكون مع ذلك معتزًا على غيره، وإنما ينبغي للآمر المعروف والنهي عن المنكر، إذا ظهر المنكر إلا يصار للأسماع، ورفع المتعاطي قناع الحشمة. فأما إذا كان يستره ويجتهد في أن لا يوقف عليه، فإنه لا يهتك ستره. وإن أجرى ذكر ذلك المنكر بمشهده، ووصف ما فيه من عظيم الإثم من غير أن يخاطب فيه بشيء فيسمعه، فعسى أن يتيقظ فذلك حسن. وإن أرسل إليه على لسان من يرى أنه لا يخفى أمره عنه ووعظ سرًا، فذلك أيضًا حسن. ومما جاء في النهي عن المنكر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحقرن أحدكم نفسه إن يرى أمر الله فيه مقال، فلا يقول فيه، فيقال له: ما منعك أن تقوم في كذا وكذا. فيقول مخافة الناس. قال: فإياي كنت أحق أن تخاف). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويعقدون بأمره، ثم يخلف من بعدهم خلف يقولون ما لا يفعلون، فلا يؤمرون فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). وهذا شبيه بما يروى عنه صلى الله عليه وسلم في قوله (من رأى منكرًا أو استطاع أن يقصر بيده

فليفعل، وإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). فإن قيل: جعل هذا آخر درجات الإيمان في هذين الحديثين، وقال في الحديث المشهور: (الإيمان بضع وسبعون بابًا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فما وجه اجتماع الحديثين؟ قيل له: الأدنى غير الأضعف، فإن الأدنى: اسم لما يتباعد عن معاني القرب، وإن كان مرجعه في العقبى إليها، والأضعف: اسم لما يظهر وجه القربة فيه ويخلص له، ولكن يكون من نوعه ما هو أقوى وأبلغ منه. ألا ترى أن إنكار المنكر بالقلب هو الذي جعل أضعف الإيمان. وذلك لأن إنكاره قد يكون باللسان من طريق الزجر عنه، وقد يكون باليد من طريق إبطال المنكر، ومعاقبة المتعاطى عنه. فلما كان كل واحد من هذين أقوى من الإنكار بالقلب، كان القلب أضعف للإيمان الذي هو إنكار المنكر لا أضعف الإيمان الذي يتشعب سبعًا وسبعين شعبة. وأما إماطة الأذى عن طريق فأمر يبتعد من معاني القرب، لأن وجه القربى فيه لأن لا يضر مسلمًا أو يؤذيه، فيكون هذا من باب الاشتقاق على أهل الدين. ومعلوم أنه لو تركه لأمكن أن تكون لعامة المسلمين منه السلامة. (وأن إماطة الأذى)، فليس يكون الأمر فيه للمسلمين خاصة، لكن لهم ولكل من مر بذلك الطريق، مسلمًا كان أو كافرًا. فلا يمكن أن يقطع بأن ما حصل منه وقع موقع النفع لإخوانه المسلمين. أو إن كان لهم دون أعدائهم وهو في نفسه أمر خفيف الكلفة لا يتوهم أن يكون في القرآن أخف كلفة منه. فلهذا كان أدنى شعب الإيمان أقل من أضعف الإيمان الذي هو إنكار المنكر بالقلب. لأن ذلك إنما يرجع إلى تعظيم أمر الله والتهيب له، وهو فرض مكتوب عليه، لا يسعه الإخلال به. فكيف يتوهم أن تكون إماطة الأذى مثله والله أعلم. وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يومًا فأثنى على طوائف المسلمين خيرًا ثم قال: (ما بال أقوام لا يعلمونهم ولا يفقهونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم! ما بال أقوام لا يتعلمون من

جيرانهم ولا يتفقهون، والذي نفسي بيده، ليعلمن قومًا جيرانهم وليفقهنهم وليأمرنهم ولينهينهم، وليعلمن مؤمن من جيرانهم وليفقهن أو لتعاجلنهم العقوبة في دار الدنيا) ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس: من يعني بهذا؟ فقالوا: أما ترى إلى هؤلاء الأشعريين، قوم فقهاء لهم جيران حفاة من الأعراب وأهل الشاة. فلما سمع ذلك الأشعريون، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ذكرت طوائف من المسلمين يخبرون لدسائس قال: لتعلمن جيرانكم ولتفقهنهم ولتأمرنهم ولتنهينهم، وإلا عاجلتكم بالعقوبة في الدنيا. قالوا: يا رسول الله، فأمهلنا إلى سنة نعلمهم، فأمهلهم إلى سنة تمر، قرئ لعثمان: {الذين كفروا} إلى قوله {لبئس ما كانوا يفعلون}. وفي النهي عن المنكر قال عبد الله بن مسعود: من رأى منكم منكرًا فلم يستطيع فليقل: اللهم أني أكره هذا. في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قيل لعلي رضي الله عنه: لما قاتلت أهل القبلة؟ قال: لم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، إن الله لم يرض للمؤمنين أن يعص في الأرض، لا يأمر بالمعروف ولا ينهوا عن المنكر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول الحق إذا رآه أو سمعه). في مداهنة الأمراء: قال عروة بن الزبير لابن عمر: إنا لندخل على الوالي ليقضي بالقضاء، نعرف أنه حق، فنقول: وفقك الله، وعسى بعضنا يخرج فيثني عليه. فقال: يا معشر أصحاب رسول الله، كنا نعد ذلك نفاقًا. قال مالك بن دينار- رحمه الله- اصطلحنا على حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضًا، ولا ينهى بعضنا بعضًا ولا يدان بالله على هذا، فليت شعري أي عذاب يترك. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلام بني آدم عليه، لا له، إلا أمر

بمعروف أو نهي عن منكر، أو ذكر الله عز وجل). وفي الأمر بالمعروف قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تهلك هذه الأمة إلا ثلاث نفر: رجل أنكره بيده ولسانه وبقلبه، فإن جبن بيده فبلسانه وبقلبه، وإن جبن بلسانه وبيده فبقلبه). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهين عن المنكر، أو ليوشك أن الله يسلط عليكم شراركم، فتدعوا خياركم فلا يستجاب لهم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله أو المداهن فيها، كمثل قوم أستهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء، فيصبون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها: لا ندعم تصعدون فتؤذينا. فقال الذين في أسفلها: فإنا نثقبها من أسفلها، فنسقي منه. فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعًا، وإن تركوهم غرقوا جميعًا). وإن لم يكن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر من العلماء المبرزين، إلا أنه كان من صلحاء المسلمين، ينهى عن المنكر، لا يخفي على العامة حاله، فحكمه في حكم العالم المفتي، والقول فيهما ما ذكرت والله أعلم. ومتى ظهر الفساد في الحد، وعجز القوام بالدين عن استصلاح المفسدين أو ردعهم بالخروج من بينهم إن أمكن أولى، قال الله عز وجل: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون}. قال سعد بن جبير: يقول: إذا عمل بالمعاصي فاخرجوا. ووقعت زلزلة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: لئن عادت لأخرجن

من بين أظهركم. وإنما قال ذلك لأنه حمل الأمر على أنهم يحدثون في السر أحداثًا، أي كانوا لا يجاهدون بها خيفة له. فلذلك يخوفهم الله تعالى بآياته. فكذلك إذا ظهر الفساد وشاع حق لم يستطع تغييره، فليس إلا الخروج من بين المفسدين والله أعلم. وينبغي للمصلحين في عامة الأوقات أن يكونوا مجانبين للمفسدين لا يخالطونهم ولا يضيفونهم ولا يشاورونهم في أمورهم ولا أمور العامة، فإن ذلك نوع من الاستدلال يرجى أن يردهم عن الباطل الذي هم فيه، إلى الحق الذي هو أولى بهم. وفي حربهم على خلاف هذا، يحشرهم وتجريبهم في السكوت عنهم إن أظهروا المنكر أعزاء وهم به، ويستقبل سبيلهم إليه، فلا ينبغي أن يصار إلى واحد منهما والله أعلم. * * *

الثالث والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في التعاون على البر والتقوى

الثالث والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في التعاون على البر والتقوى قال الله عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ومعنى هذا الباب في المعاونة على البر والتقوى، إذا عدمت مع وجود الحاجة إليه يوجد البر، وإذا وجدت البر. فبان أنها في نفسها بر ثم إنها من المنزلة ما ليس البر الذي ينفرد به الواجد، لأن الواحد إذا نزل أن يفعل برًا فإنما من همته بر واجد، والبر الذي يحتاج في إقامته إلى عشرة أو مائة إذا لم يتعاونوا عليه، فقد عدم من جهة كل واحد منهم بر كثير، لأنه يترك المعاونة ويترك حظه من البر، ويحول بين أصحابه وحظوظهم، لأنهم إذا كانوا لا يستطيعون الانفراد عنه فيه، فهو إذا لم يوافقهم عليه، ولم يغثهم. كان هو السبب لتعطيل الأمر عليهم، فبان المعدوم منهم معدوم من كل واحد منهم فكان التخلف عن المعاونة على البر إذا أغلط من يخلف الواحد عن بر لو فعله، ليأتي ووجد به وحده والله أعلم. وأيضًا فإن في المعاونة على البر شيئين: أحدهما موافقة أهل الدين وأن يترك كل واحد منهم صاحبه فينهاهم به من الخير منزلة نفسه. والآخر: الحرص على البر والإسراع إلى الخير، وكل واحد من هذين محمود مأمور به أو مندوب إليه. وأيضًا فإن الطاعات أكثرها مبنية على الاشتراك، لأن الإيمان فرض على الجماعة والصلاة لم توقت إلا لتيقن الناس على إقامتها، ولا يتباهوا فيها، ثم قصر بهم على الأمر بالجماعة فيها. والصيام إنما جعل وقته للجميع واحدًا، والحج كذلك. فلما كان مبنى كل طاعة

يمكن فيها الاشتراك، إن يقع الاشتراك من الناس فيها، فما بر يعوض، وخير يبدوا، فيحتاج فيه على التعاون والاشتراك إلا وذلك مندوب إليه، مأمور به لتكون العوارض معتبرة بالأصول الثابتة المبينة، وبالله التوفيق. وكل ما قلته في التعاون على البر والتقوى، فهو في ترك التعاون على الإثم والعدوان مثله، لأن كل الناس إذا تركوا التعاون على الإثم والعدوان، فلم يوجد ذلك الإثم، صار كل واحد منهم كأنه ترك إمامًا، لأنه لم يأثم بنفسه، وقال بترك المعاونة بين أصحابه وبين الإثم، ولأنه وافق غيره من أهل الدين على ما رواه من جسم مادة الإثم من وخامة العاقبة فقعد عنه، ولم يشرع فيه. ولأنهم إذا لم يتعاونوا على الإثم والعدوان، فقد خالفوا بين الإثم والبر، بأن صانوا الدين عن أن يشيع في أهله ما يخالفه، كما إذا تعاونوا على البر والتقوى، فقد ظاهروا الدين حتى وجد من أهلها ما يليق به ويوافقه، فلم يرضوا الإثم بأن يظهر كما لم يرضوا اللين بأن بتكتم والله أعلم. والتي تلي الآية التي صدرنا بها الباب، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. فقيل: يا رسول الله، هكذا ينصره مظلومًا فكيف ينصره ظالمًا؟ فقال: يكفه عن الظلم). ومعنى هذا أن نفس الظالم مظلوم له من جهته، كما قال عز وجل: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه} فكما ينبغي أن ينصر المظلوم إذا كان غير نفس الظالم ليدفع الظلم عنه. لذلك ينبغي أن ينصر إذا كان نفس الظالم ليدفع ظلمه عن نفسه. وإذا أمر كل واحد بنصر أخيه المسلم إذا رآه يظلم وقد علا نصرة لأن الإسلام إذا جمعهما صارا كالبدن الواحد. كما أن أخوة السبب لو جمعتهما لكانا كالبدن الواحد، إذ الدين أقوى من القرابة، وأولى بالمحافظة عليه منها. وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله عز وجل: {إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المسلمين في تراحمهم وتواصلهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره

بالسهر والحمى). وكما يجتهد المظلوم من دفع الظلم عن نفسه، فكذلك ينبغي لأخيه المسلم أن ينصره ويعينه على دفع الظلم عنه والله أعلم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب إعانة اللهفان). ومعلوم أنه أراد: اللهفان مما مسه من الظلم وإعانته، إذًا يكون بنصره، ورجع الحديث إلى معنى واحد والله أعلم. فصل وإذا رأى رجل رجلًا غصب ماله أحد واختلسه وانتهبه، فقدر على استرجاعه منه، أو رآه حين يفعل ذلك، فقدر على منعه، أو رآه يهم بقتل رجل أو بأخذه أو بحبسه، وعلم أنه ظالم من فعله، وقدر على تخليصه فعليه أن يبلغ في كل واحد منهما أقصى ما يقدر عليه. وإذا أسر المشركون أسيرًا من المؤمنين فعليهم إذا قدروا على تخليصه أن يخلصوه، وكذلك إن أخذوا من المسلم مالا. وإن كان الكف عن الظلم في هذه المسائل لا يتم إلا ببذل مال، فالأولى بذله إلا ذلك لا يلزم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبان بقوله من قبل (دون ماله) فأولى أن لا يلزمه أن يفدى بعشر غيره، أو ماله بماله. ولكن لو لقى رجل مسلمًا قد أشرف على الهلاك من جوع أو عطش أو عري تداركه، وذلك لا يكون إلا بالمال وهو يجده، فعليه أن يتداركه به. فإن سمحت نفسه بالبر فيه فذلك أزكى له. فإن قصد العوض، فقد قيل له: أن يرجع به عليه. والفرق بينهما أن الذي هم ظالم بقتله، له أن لا يفتدي، فإن قدر على الافتداء، لأن القتل له شهادة، وكذلك لغيره أن لا يفديه وأما الجائع، فلو وجد طعامًا لنفسه يأكله لم يجز له أن لا يأكل حتى يموت. وكذلك غيره، إذا رأوه مشرفًا على الهلاك من الجوع وعنده فضل طعام، لم يكن له أن يحبسه عنه حتى يموت. ولو رأى رجل عدوًا أخذ ماله، كان له أن يفتديه بشيء دونه فيسترده، فكذلك لا يلزم غيره هذا في ماله والله أعلم.

وفيما ينبغي من التعاون على البر والتقوى، وقال ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد صار الله في أمره ومن أعان على خصومة فقد باء بغضب من الله حتى ينزع). وفي إعانة المسلم قال أبو ذر: يا رسول الله، أخبرني عن عمر أدخل به الجنة؟ قال: (إيمان بالله قلت: إن مع هذا لغيره؟ قال: ترجح، فما أجرى الله عليك. قلت: فإني فقير، ليس عندي ما أرجح. قال: تعين مغلوبًا. قلت: فإن كنت ضعيفًا، قال: تصنع لأخرق، قلت: فإن كنت أخرق منه قال: يا أبا ذر، ما تريد أن تكون فيك من خصال الخير شيء من هذه الخصال إلا جاءتك يوم القيامة بأحسن صورة فتأخذ بيدك ولا تفارقه حتى يدخلك الجنة). وفي النصرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رد عن عرض أخيه رد الله وجهه عن النار يوم القيامة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضهم بعضًا، وسبل بين أصابعه) وعن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه سائل أو طالب حاجة أقبل إلينا بوجهه، فقال: (اشفعوا فلتؤجروا، أو ليقضي الله بلسان نبيه ما شاء). ودخل في هذا الباب إن إعانة اللهفان ونصرة المظلوم والسؤال للمحتاج ما فرعنا منهما وما شكينا عنه، وكل ما نجز ذاكره فيما يتلو هذا الباب من أبواب البر. فإن ما عجز الواحد عن القيام به، فاستعان بإخوانه من المسلمين، فحقهم في ذلك أن لا يتواتر ويعيبوه ولا يكلوه إلى نفسه فيخذلوه، فيجمعوا بذلك عنده أشياء: أحدها مفارقة الأخ المسلم وخذلانه. والآخر: إعانة الشر حتى عاد بقعودهم عن إماطته. والثالث: وهو هم في البر والخير يخلفهم عن إقامته، وكل ذلك مخالف لمقتضى الإيمان إن شاء الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أغاث ملهوفًا

كتبت له ثلاثة وسبعون مغفرة، واحدة منها صلاح أمره كله، وثنتان وسبعون درجات يوم القيامة). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فرج عن أخيه المسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن ستر على أخيه المسلم في الدنيا ستر الله عليه يوم القيامة. فقال رجل يا رسول الله، من أهل الجنة؟ قال: هين لئن قربت سهل). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من موجبات المغفرة إدخال السرور على أخيك المسلم بإشباع جوعته، بتيسير كربته). قال علي رضي الله عنه: سبحان الله ما أعجز كثير من الناس عن الخير، أعجب للرجل يأتيه أخوه المسلم في الحاجة، فلو كان لا يرجو ثوابًا ولا يخشى عقابًا، لقد كان يحب أن يسارع إلى مكارم الأخلاق، فإنها مما تدل على سبيل النجاة. قيل له: يا أمير المؤمنين، أهذا شيء قلته من نفسك، أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو أحسن منه، لما رأيت سبايا طيء، وقفت جارية فتبعتها فقالت: يا محمد، رأيت أن تمن علي ولا تفضحني في قومي. فإني بنت سيدهم. إن أبي كان يطعم الطعام ويحفظ الجوار، ويرعى الذمام، ويفك العاني، ويكسو العريان، ولم يرد طالب حاجة أنا ابنة حاتم طيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذه مكارم الأخلاق حقًا، وإن مات أبوك مسلمًا لترحمت عليه، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وإن الله تعالى يحب مكارم الأخلاق). فقام أبو بردة فقال: الله عليك يا رسول الله، إن الله يحب مكارم الأخلاق، ولا دخل الجنة سيء خلق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) قال

النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقدس أمة لا يقضي فيها بالحق ولا يؤخذ لضعيفها من قويها وهو غير مضطهد). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما أنعم الله على عبد نعمة إلا جعل حوائج الناس إليه. فاقضوا حوائجهم، ولا تعرضوا نعمة الله للزوال. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة). ومعناه في هذا الموضع- إن شاء الله- أن الصدقة قد تكون من المال، وقد تكون من العرض. فإذا بدل الرجل جاهه في حاجة أخيه المسلم كان ذلك صدقة عرضه، كما إذا أعانه بماله كان ذلك صدقة ماله. وفي كتاب إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه: أيها الملك المسيء المغرور، إني لم أبعثك لجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولا لرفع البنيان بعض على بعض، إنما بعثتك لترد عن دعوة المظلوم، فإني لم أردها وإن كانت من كافر.

الرابع والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في الحياء

الرابع والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في الحياء بفصوله قال النبي صلى الله عليه وسلم (الحياء من الإيمان). وقال: (لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء). وقال: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء من النار). وقال: (ما كان الفحش في شيء إلا شأنه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه). وعنه صلى الله عليه وسلم: (لو كان الحياء رجلًا لكان رجلًا صالحًا، وإن الفحش إن كان رجلًا لكان رجل سوء). وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد رجلًا من الأنصار يعظ أغشاه في الحياء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء من الإيمان). ويشبه أن يكون الحياء خوف الذم والتوقي من الاستكبار، وقالة السوء، لأن من استحى، فإنما ترك لأجل استحيائه ما يوجب فعله ذمًا. أو ما ترى أنه يجلب إليه ذمًا سواء كان الذم لقبح الفعل في نفسه أو لمخالفته عادة الناس في مثله. أو لأن المتوقع من فاعله كان خلافه، فأما خوف العقوبة، فإسلام البدن دون ثلب العرض، فلا يسمى حياء، وإنما يسمى خضوعًا واستسلامًا ونحو ذلك.

والحياء اسم جامع يدخل فيه الاستحياء من الله عز وجل، لأن ذمة فوق كل ذم، ومدحه فوق كل مدح. والمذموم بالحقيقة من ذمه ربه، والمحمود من حمده ربه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء واحفظوا الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، واذكروا المقابر والبلى، من فعل ذلك، فله جنة المأوى). وجاء في الحديث: (استحى الله استحياء من رجلين من صالحي قومك وعشيرتك). والحياء من الله تعالى طريق إلى إقامة كل طاعة واجتناب كل معصية لأنه إذا خاف الذم من الله عز وجل إياه، وإنكاره ما يبدو منه من القبيح لم يرفض له طاعة ولم يقرب له معصية لعلمه كان ذلك منكم، فيقوم عنده فإذا هو فاز باستكمال الإيمان لحيائه. فصح بذلك قوله النبي صلى الله عليه وسلم (الحياء من الإيمان) وخلق هذا الدين الحياء. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قلة الحياء كفر). وقد يجوز أن يكون معناه: أنه ربما يؤدي إلى الكفر، لأنه إذا لم ير أنه عليه في نفي الخالق وجحده ذمًا لم يعبأ به، فصرح به، ودعا إليه وجادل عليه، وإذا لم ير أن عليه من إنكار أن الله عز وجل مبدع كل شيء سواه ومدبره ما لم يحفل به، فأطلقه وسماه مرة علة ومرة شيئًا، وما يشبه ذلك تحصنًا من الاختراع أن يعرف به. وإذا لم ير أن عليه من إنكار أن يكون رزقه بيد الله إن شاء بسطه وإن شاء قدره لم ينل به، وأضاف ما نال عنه من ذلك إلى الكواكب وتدبرها. وأما من علم أنه على الإطلاق هذه الأقوال مذموم، وهي منه منكرة ومستقبحة، فإنه يتوقاها ويتجنبها، فصح إذًا أن عدم الحياء هو الذي سل السبيل إلى الكفر. وإن وجوب الحياء ووقوره هو الذي دعا إلى لزوم الإيمان، فصح بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحياء من الإيمان)، (وقلة الحياء كفر). ويدخل في جملة الحياء استحياء الناس بعضهم من بعض، وقد يجوز ذلك مما يتصل

بحقوق الله عز وجل، وفيما يتصل بما بين الناس خاصة. فأما الأول فكمحافظة الواحد على الجماعات حياء من الناس وهي على وجهين: أحدهما أن يخاف ذم الجيران إياه، وإن تقبح صورته عندهم، فلا يفارق المسجد ليحمدوه ويثنوا عليه خيرًا، فيكون ذكره فيما بينهم جاريًا بالخير لا بالشر، فهذا رياء، إذا لم يتجاوز قصده أمر الناس، وليس بمحمود وسنذكره في بابه. والآخر أن يكون حياء من الله تعالى بالحقيقة، يخشى أنه إن فارق الجماعة كان من عاجل مؤاخذة الله تعالى إياه، أن يبسط المسلمون فيه ألسنتهم بالذم. وإن كان معها كان من عاجل ما يثنيه الله تعالى أن يطلق المسلمون ألسنتهم فيه بالمدح، فيكون خوفه ذم الناس، وحبه مدحهم متعلقًا بالله عز وجل لا بغيره، فهذا محمود. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت). وفي معنى هذا قولان: أحدهما أن المراد به الدلالة على أن عدم الحياة يدل على أن الشد بأن الذي لا يؤمن أن الاستحياء فتنة، وأن أعظم الموانع من القبائح عند العقلاء الذم وهو فوق عقوبة البدن، فمن طاب نفسًا بالذم ولم يخشه، لم يردعه عن قبيح ما هو رادع فلا نال شيئًا حتى ترك نفسه مهتوك الستر، مثلوب العرض، ذاهب ماء الوجه لا وزر له ولا قدر، قد ألحقه الناس بالبهائم وأدخلوه في عدادها، بل صار عندهم أسوأ حالًا بهذا القول، على ما في ترك الاستحياء من الضرر ولينتهي عيبه، ويستشعر من الحياء ما يردع عن إتيان القبيح فهو من يعينه. والآخر: أن معناه إذا لم يفعل ما يستحي من مثله فلا حرج بعد ذلك فاصنع ما شئت. وكلاهما حسن وحق، والله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما الحياء فيما يتصل بحقوق الناس، فكحياء الولد من والده، والمرأة من زوجها والجاهل من العالم والصغير من الكبير، والواحد من الجماعة وإنما يكون ذلك إذا أراد الأدون أن يعمل على عين الأكمل عملًا يحق مثله للأكمل، فيخاف أن يقع منه عنده على وجه يذمه فيدعه. فذاك استحياؤه. وهذا أيضًا محمود. لأن فيه مراعاة الناقص حق الكامل، وإدمانه له لأجل الفضل

الذي يعمل له على نفسه. وقد يدخل في هذا الباب حياء الناس بعضهم من بعض، حياء البكر من الإفصاح بالرغبة في النكاح، وليس هذا خوفًا لذم يلحقها على إرادة النكاح وإنما هو خوف ذم على ما يخشى أن يستبدل بإظهارها الرغبة في النكاح عليه. وهو حب الرجل وقلة الصبر. فإنها إذا تصورت في القلوب في هذه الصورة لم يؤمن أن يظن بها غير الجميل. فالذم على ذلك هو الخوف لا على النكاح نفسه. والحياء من هذا، ليس أنه الحقيقة وإنما هو مما يخاف أن يكون وراءه وبالله التوفيق. ويدخل في جملة الحياء من الله عز وجل ثم من الناس، ستر العورة لأن الشريعة كما جاءت بالأمر بستر العورة، فكذلك الناس بحكم طبائعهم يعد من كشفها شقاء عليه، وسفاهة خلاعة. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استر عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك) يعني الإماء. قيل له: أرأيت إذا كان أحدنا خاليًا بنفسه، قال: (الله أحق أن يستحى منه). فدل ذلك على أن ستر العورة تجمع العبادة والمروءة. فإن قال قائل: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (أحق أن يستحي منه) اللبس لا يحجب عن الله لأنه يرى المستور كما يرى المكشوف. قيل: هو هذا، ولكنه يرى المكشوف مكشوفًا قد ترك أدبه من الستر فيه. ويرى المستور مستورًا أقيم أدبه من الستر فيه، فصح الاستحياء منه باللبس والستر فيه، وبالله التوفيق. فإن قيل: أولًا يحل كشف العورة في البيت الخالي؟ قيل: يحل، وليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم (أحق أن يستحي منه) أن التكشف مع الخلوة لا يحل وإنما هو معنى أن المتكشف يرى نفسه كما كان غيره يراه لو كان حاضرًا والأحسن أن لا ينظر إلى عورته من غير أدب، وأن يستر عن نفسه ما يستره عن غيره. ألا ترى أنه لا يحترم عليه أن ينظر إلى فرج امرأته وجاريته، ولكن الأحسن والأشبه بالمروءة أن لا ينظر. فكذلك هذا في نفسه. فمعنى قوله (الله أحق أن يستحى منه) أن يتحمل على عيبته بالستر، لئلا يرى العبد

ناظرًا إلى عورة نفسه لا يرى عورة عبده، فإن الاحتجاب عن الله غيره ممكن، وبالله التوفيق. والأصل في هذا قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات: من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم، ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن} فأمر المؤمنين أن لا يتكشفوا للمماليك ولا للصغار المراهقين، فينظروا إليهم وهم غير متسترين، لئلا تقع أبصارهم على عوراتهم. وأمرهم أن يحتجبوا عنهم، فلا يدخلوا عليهم في هذه الأوقات، إلا بعد الاستئذان، فيستترون إذا سمعوا الاستئذان، ثم ينادون ولو جاز الإذن لهم على ما هم عليه من التكشف لم يكن لغرض الاستئذان، ففي هذا ما أبان أن ترك الاستحياء بالتكشف مذموم، وإن النظر إلى التكشف الذي رفض الحياء جانبًا مذموم مثله، والله أعلم. قال أنس بن مالك رضي الله عنه، كنت خادمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أدخل عليه بغير استئذان، فجئت يومًا فقال: (كما أتيتني يا بني، فإنه قد حدث بعدك أمرًا، لا تدخلن إلا بإذن). وهذا على أنه جاءه في بعض هذه الساعات الثلاث، فلذلك منعه من أن يدخل إلا بإذن. ولو جاءه في غيرها لم يمنع من الدخول بعد استئذان، لأنه كان خادمًا، وخادم الرجل قريب المعنى من مملوكه ومن الذي لم يبلغ الحلم. فإذا كان لهؤلاء أن يدخلوا في غير الساعات الثلاث من غير استئذان إن كان ذلك للخير الكبير إذا كان خادمًا لم ينه والله أعلم. وأما الدخول على النساء، فإن النساء في عامة الأوقات بمنزلة الرجال في هذه الساعات الثلاث، لأن المرأة في بيتها خالية بنفسها أو بزوجها أو بقرابتها، وصغير ببابها فكان عنقها وبعض صدرها وقدماها متكشفة، ولعل شعرها أو بعضه لذلك يكون، فلا يجوز إلا لمن لا يحل له النظر إلى هذه الأشياء منها، فله أن يدخل من غير هذه الأوقات الثلاثة بغير إذن. ولا يدخل في هذه الأوقات الثلاثة إلا بإذن، لأنه قد تكون وضعت جميع

ثيابها، ولا يجوز أن يطلع على ما دون الإزار منها إلا الزوج. وأما غير هذه الأوقات فليس أوقاتها للتجرد في العادة، وإن كان قائمًا وضع الخمار ونحوه. وللخادم النظر إلى الصدر والشعر بالاتفاق. ولهم النظر عندما إلا ما لا يكون مثله عورة من الرجل من شعرها وبشرها، فلذلك لم يمنعوا من الدخول بغير إذن. وجاء أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله، أأستأذن على أمي؟ فقال: نعم. فقال الرجل: أني معها في البيت، فقال رسول الله صلى الله: استأذن عليها. فقال الرجل: إني خادمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا. قال: فاستأذن عليها) وهذا- والله أعلم- على الساعات الثلاث التي هي أوقات التجرد دون ما عداها، الذي ليس في العادة وقتًا للتجرد الكامل والله أعلم. وقال عز وجل: {والقواعد من الناس اللاتي لا يرجون نكاحًا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة}. وذلك يحتمل معنيين: أحدهما: ليس عليهن أن يضع ما يعلو ثيابهن من الأردية أو الأكسية، ويدعن ما تحتها من الدروع والخمر. والآخر: أن تكون التجرد. فإن كان التجرد هو المراد، والعجوز إذًا كالرجل فيما جعل لها من التجرد في هذه الساعات الثلاث، فمن لا يجوز له أن يدخل على الرجل ويراه متكشفًا، لم يجز له أن يدخل على العجوز فيراها منكشفة. وإن كان المراد بنزع الرداء أو اللحاف والكساء. فقد بان بأن العجوز لا يحل لها أن تنكشف لأعين الرجال. واجتمع الوجهان في أن نظرة الأجنبي، أن العجوز هي منكشفة غير جائزة. وعن مجاهد قال: لا ينبغي للمرأة أن تجلس عند الرجل من الناس ليس بمجرد في أقل من أربعة أثواب: جلباب وردع وخمار وإزار. فأما العجوز التي صارت من القواعد، فلا بأس أن تضع جلبابها وتقتصر الدرع والخمار والإزار.

وروي عن عبد الله في قوله {أن يضعن ثيابهن} قال: الجلباب. وعن الحسن رضي الله عنه قال: تمشي وتصلي في خمار ودرع. وأما نظر المحرم إلى الشعر، ولمس البنفقة أو التعظيم، فقد جاء عنه: أن الحسن والحسين رحمة الله عليهما دخلا على أم كلثوم أختهما وهي تمشط. وأن عبد الله بن الزبير دخل على عائشة رضي الله عنها تزين عذرها. قبل أبو بكر رضي الله عنه رأسها فقالت: يا أبت ألا عذرتني، فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني، إذا قلت ما لا أعلم. ولا ينبغي للمرأة المسلم أن تبدي للمرأة الكافرة، ما جعل لها إبداؤه من رتيبها لأهل دينها، أن الله عز وجل قال: {أو نسائهن}. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل دينها. وسئل عبادة بن أنس عن اليهودية والنصرانية تقبل ولد المسلمة فكره ذلك. وقال سليمان بن موسى: هذا مكروه. وقال أبو بكر رضي الله عنه لابنه له إذا أحضر شارب الغلام، فلا تجلسي عنده ولا تضعي جلبابك، ولا تسوكي عنده، ولا تضعي سواكك إليه، ولا تكتحلي عنده، ولا تضعي كحلك، ولا تتحمي عنده، ولا تضعي خاتمك عنده، ولا تضحكي إليه، ولا يضحل إليك، وامري نساءك بهذا. يحتمل معنى ولا سواكك ولا كحلك ولا خاتمك أي عند الغلام بعدما بلغ لئلا يلبس جلبابها ولا يتختم بخاتمها ولا يتسوك بسواكها، ولا يكتحل بمرودها من كحلها. والنظر إلى الوجه والكفين من الأجنبية وإن كان مباحًا لا لشهوة، فإن لمس السبابة والتعظيم ليس إلا لمحرم دون الأجنبي. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عنه أنه كان لا يصافح النساء في البيعة. وروى أنه أجابه: كانت توضع وقتها ماء فيدخل النبي صلى الله عليه وسلم في يده، فإذا أخرجها أدخلت المرأة يدها مكان ذلك منه لهن، كالمصافحة للرجال. رأيت امرأة جلس إليها من لا يحل له النظر إلى شعرها ولا إليها غير مختمرة، فلا ينبغي أن تجلس عنده في خمار رقيق وجلباب رقيق ما تحتاجه، فإنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة

فقال: (سبحان الله، فإذا أنزل الله الليلة من الفتنة، ماذا أنزل من الخير، أين من يوقظ صواحب الحجرات، يا رب كاسيه في الدنيا عارية في الآخرة). وروى أن دحية الكلبي لما رجع من عندهن قد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية، فقال: (اجعل خديعًا لك قميصًا، واعط صاحبك صديعًا يختمر به- والصديع النصف وهو كالشقيق والشق- ثم قال له: مرها تجعل تحتها شيئًا لئلا تصف). وذكر أبو هريرة رضي الله عنه ربة ثياب النساء، فقال: الكاسيات العاريات الناعمات السنيات. ورحل نسوة من بني تيم ابن مرة على عائشة رضي الله عنها، عليهن ثياب رقيقة. فقال عائشة: إن كنتن مؤمنات فليس هذا لباس المؤمنات. وإن لم تكن مؤمنات فتمنعنه. وأدخلت امرأة عروس على عائشة رضي الله عنها، وعليها خمار قبطي معصفر، فلما رأتها قالت: لم يوص بسورة البقرة أمراء لبسوا هذا؟ وإنما أنكرت عائشة أفراد الرقيق الذي تصف ما تحته باللبس، ولو كان تحته غيره لم يكره، لأنه ليس في زنة الثوب ما يحرمه. ولا ينبغي للمرأة أن يطيل ذيلها أكثر ما يحتاج إليه ليستر قدميها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لذيل المرأة شبرًا، فقالت أم سلمة: لا يكفيهن، فقال: (ذراع). وليس هذا إن شاء الله بوقتنا لازمًا، وإنما المراد ما تقع به الكفاية. ولا تخرج بالنهار إلا عن ضرورة، فإن عمر رضي الله عنه كان لا يدع امرأة تخرج نهارًا. وقال الحسن: إن كانت المرأة لتنخرق خصرها ومجلسها منه أخصر، وإن كانت المرأة لتخرج من الحاجة فترى الرجل فيخر فيقع. وعن الحسن قال: إن كان الرجل ليخرج من منزله أول النهار فما يرجع حتى يرتفع النهار،- وذكر: وسط النهار-، فما يرى امرأة في الطريق. وقالت امرأة عبد الله بن مسعود لابن مسعود: اكسي جلباب الله الذي جلبك،- يعني بيتك-. ولا ينبغي للمرأة أن تخرج إن خرجت من بيتها متطيبة ولا لابسة شهرة من الثياب، لا إلى مسجد ولا إلى سوق، ولا إلى بيت جارة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: (إذا خرجتن إلى مساجد الله فأخرجن بغلات وألصقن بالخدرات ولا تمسسن طيبًا).

وقال عمر رضي الله عنه: ما يمنع المرأة المسلمة إذا كان لها حاجة أن تخرج في اطمارها أو اطمار جارتها مستخفية لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها. وقال ابن مسعود: أن المرأة تلبس ثيابها، فقال لها: أين تذهبين، فتقول: أعود مريضًا، أشهد جنازة، آتي المسجد فأصلي فيه. فقال لها: ما تريدين إلى ذلك؟ فتقول: أريد وجه الله، ولا والذي لا إله غيره ما طلبت وجه الله بمثل ذلك إلا أن تتقي الله وتقعد في بيتها. ولا يحل لامرأة أن تصل شعرها بشعر إنسان، ولا شعر ما لا يؤكل لحمه، فإن وصلته بشعر ما يؤكل لحمه لزوجها فلا بأس وكذلك الوشم. لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة. ولا ينبغي لها أن تدع الخضاب فإنه يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة لا تختضب فقال: (تدع إحداكن يدها حتى كأنها يد رجل، فما زالت تختضب وقد جاوزت التسعين حتى ماتت). ودخلت امرأة على عائشة رضي الله عنها وهي مبيضة أظفارها فقالت: مال هذه التجارة، غيري أظفارك. وأرسلت أم الفضل بين يزيد بن المهلب إلى أنس بن مالك رضي الله عنه تسأله عن الخضاب، فنهانا عن النقط وأمرها بالعشر. ويروى عن عمر رضي الله عنه قال: يا معشر النساء، إياكم والنقش والتظاريف، وإذا اختضبت إحداكن فلتخضب إلى هذه- وأشار إلى الكوع-. ويتسحب للمرأة أن لا تتعطل، وتكون في عنقها قلادة من سير في خرز. فإن ذلك يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: لا ينبغي للمرأة أن تكون بغير قلادة أما بخيط أو بسير. وقال أنس رضي الله عنه: يستحب للمرأة أن تعلق في عنقها في الصلاة ولو سير. وقيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، كيف ترين في حق المرأة عن حبيبها، فقالت: أميطي عنك للأخرى وتتصنع المرأة لبعلها بما شاءت. وقيل لها: يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والصباغ والتماغر، والقرطين، والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرمًا. وسألت امرأة عائشة

رضي الله عنها عن كلف بوجهها: هل تداويه؟ فقالت: إن كنت ولدت وهي بلك فلا تحركيه وإن كان شيء حدث فداويه. وعندها ابن أخت لها وبوجهه أثر الجدري، فقالت: وددت أني وجدت من يذهب عنه هذا عن وجهه. ولا ينبغي للرجل إذا أقرب أهله أن يكشفها، فإنه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جامع الرجل أهله فليلقين عليها ثوبًا، ولا يتعريا فعل الحمارين، فإنه إذا فعلا كذلك خرجت الملائكة من بيوتهما). وفي رواية أخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله فليستر، ولا يتجرد تجرد البعيرين). وسئل الحسن عن الرجل يكون له جاريتان في بيت فيطأ إحداهما، فكره ذلك. أو قال: كرهوا ذلك. فقيل له: ما يكره من ذلك؟ قال: الفحشى. وجاء في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن دخول الحمامات، ثم أذن للرجل أن يدخلوها بالمئزر، ونهى النساء عن دخولها بالإطلاق. وذلك لما بنى عليه أمرهن من المبالغة في الستر، ألا ترى أن الواحدة منهن لا تخرج عطرة من بيتها كما يخرج الرجل. وأن النساء إذا اجتمعن على الصلاة تقوم أمامهن وسطهن ولا تتقدمهن كما يتقدم أمام الرجال. وأن المرأة إذا صلت لا ترفع صوتها بالقراءة في صلاة قط، وإنها لا تؤذن كما يؤذن الرجال. فكذلك لا تدخل الحمام متغطية، وإن دخل الرجل بعد أن تستر. وروى أن نساء دخلن على عائشة رضي الله عنها من أهل الشام قالت لهن: أتين من اللائي يدخلن الحمامات، ما من واحدة تضع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت الستر فيما بينها وبين الله. فإن قيل: قد وصف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستحياء، فقال: {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم} الآية. فلو كان حد الحياء خوف الذم لما استحى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن يخاف من أحد ذمًا، وقد جاء في صفته: إنه كان أشد حياء من العاتق في

خدرها. وهذا يدل على معنى الحياء غير ما ذكرتم. وقد يرى أن الصبيان الذين لا يدرون الحمد والذم يستحيون، فلو كان معنى الحياء ما ذكرتم لم يوجد الحياء إلا من عارف بالذم. فالجواب أن استحياء النبي صلى الله عليه وسلم هو أن لا يفعل ما يمنع خوف الذم غيره من فعله، ولا شك أن غير النبي صلى الله عليه وسلم لو يبرم بضيف، قد فرغ من الطعام والرياء، لكان الذي يمنعه من أن يخرجه من المنزل أو يقول: أبرمت لكم خوف الذم، وأن يقال: كان أول هذا الذم دعاء وآخره جفاء. فإذا وقع هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو من البشر، كان من هذا في قلبه ما يدور في قلب غيره فذلك حياؤه. وأما الصبيان فإن وجود الحياء فهم لا يبطل أن يكون حقيقة الحياء ما قلنا، لأن الحياء ما جبل الناس عليه في كثير من الأشياء فهم يستحون، وإن كانوا لا يدرون ما الحياء، كما يجوعون ولا يدرون ما حقيقة الجوع ويعطشون ولا يدرون ما أحقية العطش، وينامون ولا يدرون ما حقيقة النوم، فكذلك يستحون وإن لم يدروا ما حقيقة الحياء. على معنى يمنعون من فعل ما لا يمنع من مثله إلا خوف الاستنكار والذم، وإن كانوا لا يخشون بذلك من نفوسهم، لكنهم لا يخلون من نفور يجدونه في قلوبهم، وذلك النفور حيلة، كما أن كراهية الذم حيلة، وحب المدح حيلة فما الصبي بنفور قلبه ولم يدر علة النفور حتى إذا عقل أدرك، سيكون الفعل من جنس ما يذم فاعله، أو ما يخشى أن يكون كذلك. وفي هذا بيان أن وجود الحياء من الصبيان لا يبطل ما حددنا به والله أعلم.

الخامس الخمسون من شعب الإيمان وهو باب في بر الوالدين

الخامس الخمسون من شعب الإيمان وهو باب في بر الوالدين قال الله عز وجل: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولًا كريمًا، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا}. وقال: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا، وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما}. وقال: {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانًا، حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا، وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا، حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة، قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحًا ترضاه وأصلح لي في ذريتي، أني تبت إليك وأني من المسلمين}. وقال: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنًا على وهن، وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالدي إلي المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم، فأنبئكم بما كنتم تعملون}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لئن يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه). وإنه قال: (رضاء الله مع رضاء الوالدين، وسخط الله مع سخط الوالدين). ولن تختلف الأخبار في أن عقوق الوالدين من الكبائر. وفي حديث

شهر رمضان: أن جبريل صلوات الله عليه قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمين). وبالجنين أن يكون لحق الوالدين هذا التغليظ، فإنهما سبب لكون الولد ووجوده، والفضائل كلها تعقب الوجود. فما صار سببًا له فهو سبب لها، وكفى بهذا حقًا عظيمًا وذمًا أكيدًا. ثم الأم أعظمها حقًا وأوجبها حرمة لأن شغلها للولد أكثر، فإنه من الرحم يحدث، ثم يكون فيه إلى أن يتم خلقه، وينفخ فيه الروح. وتقاسي الأم في ولادته وتربيته ما لا خفاء به. والوالد خلي هذا كله. فوجب إذًا (أن يكون حق الأم أعظم وحرمتها أكد. فأما نسبة الولد، فإنما كانت إلى الأذن دون الأم لأن المراد منها الشهر والتعريف، وأمر النساء مبني على الستر فلم تقع الإضافة إلى الأم ما هو المراد من الشهر، والتعريف إذا كانت العادة أن الأم بنفسها غير معروفة ولا مشهورة، ويستحيل أن يقع تعريف المجهول بإضافته إلى مجهول مثله، أو أشد جهالة منه، فلذلك أنهي بذكر الأب وصف ذكر الأم عند الدعوة، ومما يبين حق الأم أنها أخص بالولد من الأب، لأن الولد لابد له من الأم. فأما الأب فله منه يد، لأن الله عز وجل قد خلق عيسى عليه السلام من أب منخلق، وكونه فتكون. فلما كان الذي طرق وجوده الولادة تقتضي الأم وتنبغي بها، ولا تقتضي الأب. علمنا أن الأم أخص بالولد من الأب. فإذا كان للأبوين من الحق ما لا يكون لغيرهما، كان للأم من الحق ما لا يكون للأب. وبين ذلك أيضًا أن الأبوين يشتركان في الولد ثم يكون من الأم الرضاع الذي لو وقع من أجنبي لأوجب قربًا وألزم حقًا، فصار للأم في الولد سببان ولأبيه سبب واحد. فعلمنا أن حق الأم أوجب وأعظم. وجاء في بعض الأخبار أن امرأة أبي الأسود الدؤلي خاصمته إلى بعض القضاة في ابن لها منه أراد أن يأخذه منها، فقالت المرأة: أيها القاضي، إن هذا الصبي كان بدني له غذاء، وحجري له وقاء، وجوفي له وعاء، فالآن لما كبر، قد عزم أن يفجعني به، فقال أبو الأسود: إن كان كذاك فقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه، فقالت المرأة: حملته خفًا وحملته ثقلًا، ووضعته حياء ووضعته كرهًا. فقال القاضي: قد خصمتك، خذي ولدك.

فصل وقد اختلفت الدلائل في كون الجنين، فذهب بعضهم إلى أن يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم، ويستمد في الدم الذي يكون فيه. وذهب غيرهم إلى أنه يكون من ماء الرجل والمرأة معًا. ومن قال بالقول الأول، قال: إنما نسب إلى الأب ولم ينسب إلى الأم لأنه خلق من ماء الأب ولم يخلق من ماء الأم. وذهب إلى أن حق الأب ألزم وأعظم لأنه جزء منه منسول من بدنه وليس بسلالة من الأم، واحتج بقول الله عز وجل {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}. وقوله: {ألم يك نطفة من مني يمنى} فدل ذلك على أن الخلق كان من ماء واحد. ومن قال بالقول الثاني: قال: إنما ينسب إلى الأب دون الأم لما سبق بيانه ولأن القيام بصالحه كلها من النفقة وغيرها عليه. أما الخلق فإنه منهما. وذهب إلى أن حق الأم أعظم وأوجب، واحتج بقول الله عز وجل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} وقوله: {خلق من ماء دافق يخرج بين الصلب والترائب}. وقال: أراد به أصلاب الرجال وترائب النساء. ولأن المرأة تمني كما يمني الرجل، ولو لم يكن منها خلق لم يكن لها شيء. وبأن النبي صلى الله عليه وسلم سألته امرأة عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، هل عليها الغسل. فقالت لها أم سلمة: فضحت النساء وهل ترى المرأة ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، يكون شبه الخؤول والعموم، إذا علا ماء الرجل أشبه الولد الرجل، وإذا علا ماء المرأة شبه الولد المرأة) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأت إحداكن الماء الدافق فلتغتسل). ومن ذهب إلى هذا، قال: ذكر الله عز وجل أنه خلق الإنسان من السلالة والنطفة ولكنه لم يصفه إلى أحد الأبوين دون الآخر كالسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة قوله عز وجل: {خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب}. وقد

قال عز وجل في قصة الطوفان: {فالتقى الماء على أمر قد قدر}. وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض، لأن الالتقاء لا يكون إلا من اثنين، فلا ينكر أن يقول: {خلقنا الإنسان من سلالة من طين} ويريد ماءين والله أعلم. فصل ثم أن الله تبارك وتعالى كما وصى بالوالدين الإحسان وكرر من حقوقهما ما عسى يعقل الأولاد عنه، كذلك للأحكام بين الوالدين والمولودين على ما يقتضيه الأصل الذي سبق وصفه، فمن ذلك أنه نهى عن انتهار الوالدين وأمر بالتواضع والذلة لهما من الرحمة وقيل في الرحمة: أنها صفة مركبة من الحب والجزع، وهذا من الآدميين، فلا يجوز مثل هذا على الله، فأمر الولد أن يحب والديه، وأن يكون قلبه لهما بحيث لا يحتمل أن يصيبهما أذى أو يمسهما سوء بألم من أدنى مكروه يصل إليهما. فإذا كان من الحب لهما بهذه المنزلة، فذلك هو الرحمة، وهو إذا وجدها في قلبه لهما، لم يكن منه انتهار لهما ولا مفارقة لطاعتهما إلا أن يكونا كافرين، ويأمر الوالد بالكفر، أو يكونا فاسقين، فيدعو الولد إلى الفسق فيحرم عليه أن يطيعهما، لأن الله عز وجل أولى به منهما، وحقه أولى وأعظم من حقهما، وهو يأمره بخلاف ما يأمرانه به، فطاعته أولى من طاعتهما، ومن ذلك أنه أبطل القصاص عن الأبوين إذا قتلا أو أحدهما الولد. ومعنى ذلك أنهما كانا سبب وجود الولد، فإنهما قبلة قضى الله تعالى عن الوالد حقه، لأن القتل لأجله، فيكون بقاؤه بعدما قتل ولده حرًا لكونه سببًا لوجود الولد في الابتداء. وكذلك إذا قتل ولد والده لم يقتله ولده قصاصًا لهذا المعنى بعينه. ومن ذلك أنه إذا قذف ولده لم يجلد، لأنه كان سببًا لكل فضيلة من فضائل الأحياء نالها الولد، فجعل ترك الجلد عليه لئلا ينادي به، ولا يألم منه قضاء بحق الولد عنه، فيما كان للولد سببًا لوصوله إليه من نعمة الحياء وغيرهما. ومن ذلك أن الولد إذا ملك أبويه عتقًا عليه لأنهما كانا سببًا لوجوده، وكل ما تبع الوجود من الفضائل فلم يسلط عليهما

بالاسترقاق، لأن حقهما عليه يقتضي أن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة. والاسترقاق استصغار واستذلال، فاستحال يستذل من أمر بالذلة لهما، ومن ذلك وجوب النفقة لهما عليه عند الحاجة ليكون سببًا لبقائهما عند حاجتهما إلى معونته، كما كانا سببًا لوجوده. ومن ذلك أن على الابن أن يعف أباه إذا عاد وبصق. وقدر الإبن على إعفائه ليصونه عن الرجم والجلد فلا يناله واحد منهما من قبله، قياسًا على أنه لو قتله لم يضل لأجله، ولو قذفه لم يجلد لأجله. فكذلك لا ينبغي أن يناله في بدنه رجم ولا جلد من قبله، ولو لم يعفه وهو قادر على إعفائه، حتى أوقعه السبق في أحد الحدين لكان ذلك قد أصابه من قبله، لأنه قادر على دفعه عنه بالاعقاف ولم يفعل. فثبت بذلك أن عليه إعقافه. وذكر بعض العلماء أن الأب لا يحبس في دين الابن، ولم يختلفوا في أنه لا تقطع إذا سرق مال الولد. ومعناه ما مضى، أن ابن الأب سبب لوجود الولد على ما هو عليه من كمال خلقه وتمام إعطائه، فجري عنه بأن لا ينقص شيء منه لأجله، ومن ذلك أن أحد الأبوين إذا وهب لولده شيئًا وسلمه إليه، كان له أن يراجعه إن بدا له. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لأحد أن يرجع فيما وهب إلا الوالد فيما وهب لولده). ومعنى ذلك أن الوالد لا يعطي ولده ماله إلا استزاده به من بره. ولا يرجع عطيته في الغالب إلا لعقوق يظهر منه. فإذا كانت العطية لاستزاده إليه فكانت فيهما عقوق، كانت كما لو وقعت شرط ثواب، فلم يوصل إلى الثواب. وإذا كانت أحكام الله تعالى موضوعة على ما وضعت، فواجب على الولد أن ينهج في تعظيم الأبوين وطاعتهما المنهج الذي يليق بهذا الموضوع. فإذا أصبح تقدم إلى الأبوين تقدم العبد إلى سيده وسلم عليهما، أو حياهما بأحسن ما تكون التحية، وانتظر ما يأمرانه به ويمثلانه به، فيبلغ فيه ما يسرهما ويرضيهما عنه إن قدر ولم يحل دونه حائل. فإن كان له عذر أخبرهما به غير متضجر من أمرهما ولا مستقل إياه على أرفق وجه وأقربه إلى أن يستوحشا عنه ولا يظنا به خلاف ما عنده، وكان في عامة الأوقات لهما كما يحبان ويرضيان. فإن احتاجا إلى ماله لم يبخل به عليهما. وإن لم يكن له مال، وكان له كسب واحتاجا

إليه كسب عليهما كما يكسب على نفسه، ووفاهما كل ما يفيه نفسه. وإن أراد الجهاد متطوعًا ولم يكن فقيرًا، فمعناه قعد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي يريد الجهاد: (هل لك أبوان؟ قال: نعم. قال: ففيهما الجهاد). وإذا كان هذا مما يؤمر به إذا كان له أبوان يحتاجان إلى قيامه عليهما، فهما إذا صرحا بالنهي كان ذلك ألزم له وأوجب عليه. وإن خرج إلى الجهاد وهما لا يعلمان، أو علما ولم يتهيآ، أو أذنا ثم بدا لهما فأرادا رده، فواجب عليه أن يرجع ما لم يلتق الزحفان، فإذا التقيا لم يجز له أن يرجع. وهكذا إذا منعاه من حجة التطوع، وإن خرج بإذنهما أو بغير إذنهما، فأراد رده، وجب عليه أن يرجع ما لم يحرم، فإذا أحرم لم يرجع حتى يكمل نسكه. وإذا كان للولد سوق يتجر فيها، فأراد أبواه أن يقيم عندهما ولا يفارقهما، فينبغي له، إن لم يكن له إلى التجارة حاجة، أن ينصب في السوق من ينوب عنه، أو يقارض ماله رجلا ويقعد عند أبويه. وإن كانت له إلى الكسب حاجة، فإن قدر على كسب لا يحتاج إلى مفارقتهما إلا آثر ذلك الكسب على غيره، وأقام عندهما. وإن احتاج إلى الكسب ولم يجد بدًا من الخروج، خرج أقل ما يكفيه ولم يشقق عليهما، عيفا وقته، ثم عاد إليهما واعتذر، وسأل أن يعفوا عنه ويستغفر له والله أعلم. وإذا احتاج الأبوان إلى خدمة يصلح الولد لها، فينبغي له أن يفيهما ولا يكلهما إلى غيره، وإن لم يصلح لها بنفسه، وقدر على ما يصلح لها بملك وأجاره وتحمل من دين ما يقضي به الحاجة، وتنزاح العلة. وينبغي له أن تكون عامة ما يؤديه من حقوق والديه ويتقلد مكانهما من إحسان مقرونًا باليسر والطلاقة والسلاسة، لا يريان منه تكرهًا وضجرًا ببغضه عليهما. ويجتهد في أن لا يمر به زمان وإن قل وهما عنه غير راضين فيه. وكلما ازداد لهما برًا وإكرامًا، فإن الله تعالى حقق هذه الحال بالذكر فقال: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف}. إنما فعل ذلك- والله أعلم- لأن قلوبهما عند ذلك تكون أرق وأخلاقهما أضيق فكان استرضاؤهما على الولد أشق. فكذلك زاده الله تعالى وصية بهما في هذه الحالة فوق ما وصاه بهما في عامة الأحوال.

وفيه وجه آخر وهو أن الأبوين إذا كبرا فقد أشرفا على المفارقة، فينبغي أن يكون الولد في ذلك الوقت أرأف بهما وأشد ولوعًا وكلفًا بهما، وأن يزودهما من بره وشفقته وحسن طاعته ما يقدر عليه. ويتزود من رضاهما عنه ودعائهما له ما يرجى أن يكون سببًا لنجاته في الآخرة، أو لزيادة درجات الثواب في الجنة والله أعلم. فأما الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أدرك أبويه الكبر أو أحدهما، فلم يغفر له، فإنما أراد به أن من وسع الله تعالى له المهلة من مجاورة أبويه، فكانا معه إلى أن كبرا، ثم لم يكن منه في جميع الأيام ما يقضى عنه حقهما، ووجب له رضاهما، ويحملهما على أن يدعو له بخير فلا غفر الله له. وهذا على الحقيقة عظيم. ومما ينبغي للولد أن يشكر به والديه أن يديم الدعاء لهما بالاستغفار، وسؤال كل خير يسأله الله تعالى لنفسه من عاقبته وصحته وغيرهما. فإن الله عز وجل قد قال: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغير}. وحكي عن إبراهيم صلوات الله عليه أنه قال لأبيه: سأستغفر لك ربي، وأنه لما يبين له أنه عدو لله، كان يستغفر له ويقول: لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء تصديقًا منه بوعده الذي كان وعده بربه بذلك، إن هذا القضاء ما يقدر عليه له، وللإجابة بيد الله تعالى. فإن لم تكن في حكمته أن يجيب، فليس علي من ذلك شيء. فثبت بهذا أن الاستغفار للوالدين من أعظم ما يقضي به حقوقهما، وكل دعاء يدعو به المرء لنفسه ما يريد به صلاح دين أو دنيا، فهو نظر للاستغفار والله أعلم. ومن جملة حقوق الوالدان لا يرغب الولد عنه وينتسب إلى غيره. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن كفرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم) وفي رواية أخرى: (من رغب عن أبيه فقد كفر). ومعنى هذا أنه فعل ما كان أهل الجاهلية يترجعوا فيه لكفرهم. فإذا قد جاء الإسلام ووقع الحكم بأن لا ينقل النسب ولا يحول، فليس لأحد أن يرغب عن أبيه الذي ولده، فإنه وإن انتسب إلى غيره لم يضر ذلك

الأجنبي أبًا بانتسابه إليه. ولا ينفك الذي ولده أن يكون أباه وإن لم ينتسب إليه، ولا تحصل من ذلك إلا على جفاء الأب وبخسه حقه وإبخاسه من نفسه، وذلك من أعظم الحقوق، والعقوق من الكبائر. ومن حق الوالد، قيل. إن رجلًا قام إلى ابن عمر رضي الله عنهما فسأله، فألقى إليه عمامته، فقال: بعض القوم لو أعطيته درهمًا لأجزاه، فقال ابن عمر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه). وإن هذا كان من أهل ود عمر. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آذى محدثًا، ولعن الله من غير منار الأرض). وفي حديث (لعن الله من عتق والديه، ولعن الله من تولى غير مواليه). وعنه صلى الله عليه وسلم: (إياكم وعقوق الوالدين، فإنه ما تنسم ريح الجنة عاق ولا قاطع رحم). وفي بر الوالدين قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبر؟ قال: (أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك ثم الأقرب فالأقرب) وقال ابن مسعود رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: (الصلاة لميقاتها. قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضى الرب في رضى الوالد وسخط الرب في سخط الوالد). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أحدثكم بأكبر الكبائر: قال: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين). وروى أن رجلا أتى

النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني أصبت ذنبًا عظيمًا، فهل لي من توبة؟ فقال: (هل لك من أم؟ قال: لا. قال: هل من خالة؟ قال: نعم! قال: فبرها). وقال النبي: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده). ومن بر الوالدين قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر). معنى لا يرد القضاء إلا الدعاء أي القضاء الذي صدر من الله تعالى عامًا لقوم. فإذا استعصم أحدهم بالدعاء دفعه الله عنه، فيصير مخصومًا من بينهم، ويكون ذلك ردًا للقضاء العام عند الله، كان إلا شمله في الظاهر، ثم يكون ذلك دعاء الواحد لنفسه، وقد يكون دعاء غيره له. وذلك مثل أن يأمر الملائكة بتغريق قوم أو بهدم بيت على قوم أو إرسال نار على قوم ونحو ذلك. وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل يقربني إلى الله. قال: (هل لك والدة ووالد؟ قال: نعم. قال: فإنما يكفي مع البر بالوالدين العمل اليسير). وجاء في حق الوالدين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من البر أن تصر صديق أبيك). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبغض والديك، وإنما أمراك أن تخرج من الدنيا كلها فاخرج). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يمد له في عمره ويزداد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه). وعنه صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق ولا منان). وفي رواية

أخرى (أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاق، ومنان، ومدمن خمر، ومكذب بالقدر). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أكبر الذنب أن يسب الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله، كيف يسب الرجل والديه قال: يساب الرجل فيسب أهله ويسب أباه، فيسب أمه وأباه). وقال فرقد السبحي: قرأت في بعض الكتب النظر إلى الوالدين عبادة. ولا ينبغي للولد أن يمشي بين يدي والديه، ولا يتكلم إذا أشهدهما، ولا يمشي عن يمينهما ولا عن يسارهما إلا أن يدعوا له فيجيبهما، أو يأمراه فيطيعهما، ولكن يمشي خلفهما كما يمشي العبد الذليل خلف مولاه. وعنه صلى الله عليه وسلم أوصى امرءًا بأمه: أوصه بأمه، أوصه بأمه، أوصه بأمه، أوصه بأبيه، أوصه بمولاه الذي يليه، وإن كان عليه فيه أذى فيؤذيه). * * *

السادس والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في صلة الأرحام

السادس والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في صلة الأرحام قال الله عز وجل: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض، وتقطعوا أرحامكم}. فجعل قطع الرحم من الإفساد في الأرض، ثم ذلك الأخبار، بأن ذلك من حيث عليه لعنة، الانتفاع بسمعه وبصره، فهو سمع دعوة الله وتبصر آياته وبياناته. فلا يجب الدعوة ولا ينقاد للحق كأنه لم يسمع ولم يقع من الله البيان، وجعله كالبهيمة أو أسوأ حالًا منها، فقال: {أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. وقال في الواصل والقاطع: {إنما يتذكر أولوا الألباب، الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، والذين يصلوا ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية، ويدرأون بالحسنة السيئة، أولئك لهم عقبى الدار} إلى آخرها: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}. فقرن وصل الرحم وإيتاء الزكاة لوجهه، وجعل ذلك كله من فعل أولي الألباب، ثم وعد به الجنة وزيارة الملائكة إياهم فيها وتسليمهم عليهم وحدهم لهم. وقرن قطيعة الرحم بنقض عهد الله والإفساد في الأرض ثم أخبرنا بأن لهم عند الله اللعنة وسواء المنقلب. فثبت بالآيتين ما في صلة الرحم من الفضل، وفي قطعها من الوزر والإثم. وقال عز وجل: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى}. وقيل في تفسير ذلك وجهان:

أحدهما: أنه أراد لا أسألك على ما أعاقبه في استصلاحكم أجرًا إلا ما يلزمكم في حق قرائبي منكم، فإنها تقتضي أن تصلوني وتودوني وتدنو مني، ولا تنقضي أن تعاملوني وتؤذوني وتقطعوني. والوجه الآخر: أنه أراد بذلك أن لا تؤذوا قرائبي، أن تعرفوا حقهم وتكرموهم وتوقروهم وتميزوهم عن غيرهم. وأي واحد من هذين كان المراد ففيه البيان لحق الرحم. لأن بين لهم في التأويل الأول أن حق القرابة هو الوصل لا القطع والنصر لا القهر. وبين في التأويل الآخر أن قرابة الرجل تجري مجرى نفسه، ألا ترى أنه احتسب ودهم لقرابته ودًا لهم، وقضاء لحقه. فمن قطع قرابته فكأنما يقطع نفسه ويمنعه من النظر لها حطة. وقال الله عز وجل: {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كان آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}. فلما حرم عليهم موادة الكفار أخبرهم أنها لا تحل بحال، وإن كان الكافر ذا قربى ورحم. فلولا أن حق الرحم أن يوصل وحكم القرب أن يرعى ما دلهم على عظم الذنب في مؤاخاة الكفار، فإنها لا تحل وإن كانت بمكان قريب أو ذي رحم. وإذا بين ذلك لهم بان أن القربة لهم والرحم لا يطلقانه ولا يسوغانه، دل ذلك على أنهما مقتضيان للبر والصلة، لولا أن الكفر إذا عرض أبطل على الكافر كل حق وأفسد عليه من الخير كل حظ والله أعلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته). واحتمل قوله (أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها من اسمي) إن الرحمن والرحيم اسمان مشتقان من الرحمة. فأنا الرحمن لما وسع كل شيء من رحمتي وهي الرحم، لأن الجواز في الرحم موجب للرحمة، فمن عرف هذا الحق جزيته به خيرًا، ومن أغفله حرمته ذلك الخير. يدل عليه ما روي أن عمرًا

رضي الله عنه قال على المنبر: تعلموا من أنسابكم، ثم صلوا أرحامكم، فوالله أنه ليكون بين الرجل وأخيه تنازع ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخله الرحم لردعه ذلك عن انتهاكه. وقال صلى الله عليه سلم: (لا يدخل الجنة قاطع رحم). قال أبو ذر رضي الله عنه: أوصاني خليل صلوات الله عليه أن أصل رحمي وإن أدبرت. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرجل ليصل رحمه وقد بقى من أجله ثلاثة أيام، فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة. وأن الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطعه إلى ثلاثة أيام). وهذا تفسير ما جاء في حديث آخر (من سره أن ينشأ في أجله ويزاد في رزقه فليصل رحمه). ومعنى الحديثين جميعًا: أن من الناس من قضى الله له بأنه أن يوصل رحمه عاشر عددًا من السنين مبينًا، وإن قطع رحمه عاش عددًا دون ذلك، فإذا أظهر أمره لملائكته أمر ملك الموت أن تقبض روحه عهد انتهاء أول العددين، فإذا دنا ذلك يتفق له أن يبر رحمه ويصلها، فيأمر الله تعالى أن يؤخره إلى آخر الأجلين. فنهى ملك الموت إلى أن يقبض روحه، فيقال قد زاد في عمره أو يكون عبد ملك الموت أن عمر واحد لا ينتهي إلى سنين فيتفق منه أن يقطع رزقه، فيأمر الله تعالى الملك أن يقبض روحه، فيقال: قد نقص من عمره. والمعنى أنه زاد على ما كان عند الملك ونقص ما كان عند الملك. فأما ما كان عند الله من أنه عمر بعمره وينفيه في الدنيا وفي أي وقت يقله عنها فلم يختلف، وهو وإن كان قضي عليه بأنه وإن وصل رحمه عاش كذا، وإن قطع رحمه عاش كذا، فلم يخفى عليه أن يصل أو يقطع فكذلك لا يخفى عليه أنه أي العددين يعيش، وبالله التوفيق. ولما بين عظم حق القرابة والرحم، إن الله عز وجل ورث القرابات بعضهم من بعض فجعل مال الواحد إذا مات فاستغنى عنه للأمس والأمس، وللأخص فالأخص بذي قرابته، فجمع ذلك أيضًا أحق كل واحد منهما بالآخر. أما الميت فمن حيث أن ماله لم

ينقل إلى الأجانب، فيزداد عما إذا تفكر عند دنو أجله، أنه يفارق ماله إلى من لا يرعى حقه فيه. ولا يذكره إذا انتفع به، وتقلب فيه بدعاء ولا غيره، وسيد الأمر عليه في مفارقته. وأما الحي فمن حيث أنه يسكن عنه غير حميمه الذي فقد، بأن استخلف في ماله وأوثر به على الأجانب الذين ليس لهم مثل حقه، ولولا ذلك عه بموت قريبه أكثر، ومصيبته به أشد. ويشتمل التوريث على النظر لهما جميعًا، وأبان أن أحدهما إذا كان أولى من الآخر بعد الموت فهما بأن يكونا كذلك في حال الحياة أولى ليتعاشرا كمتواليين لا تعاشر الأصلين، وبالله التوفيق. ولأجل دلالة التوريث على عظم الحق المراعى فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت- أو قال خشيت- أنه سيورثه). فدل هذا القول منه على أنه يورث القرابات بعضهم من بعض إنما كان لعظم الحقوق التي لبعضهم على بعض. إذا كان لما سمع جبريل يعظم في قلبه حق الجار، خشي أنه يبلغ به حق القرابة فيورث به وبالله التوفيق. وقد كان الناس من قبل يتوارثون بالموالاة والمعاقدة، فلما نسخ الله تعالى ذلك وأبطله قال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}. فنهاهم على أن المال إذا خرج من ملك الميت، فقد تخلف عنه من هو كالشقيق، أو من أبيه، أو من أمه فهو أولى بأن ينزل من ماله ميراثه من الخليف. والولي الذي لم يكن ببنه وبينه إلا الحقد قد ماتت مقاصده لموته، ولم يكن لازمًا له في حياته. ولما أدخل في حكم الميراث من ليس بقريب وهو المعتق نسبه النبي صلى الله عليه وسلم ألحق الواجب من قبل العتاقة بالنسب، فقال: لولا لحمه كلحمة النسب، وسماه ما لا يدل به على أن المعتق أولى الناس بالمعتق، كما أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض. فثبت بما ذكرنا أن سبيل أولي الأرحام أن يكونوا آمنوا لينين متناصرين ليعزهم الله تعالى بإعزاز بعضهم بعضًا، وذلك عاجل ثوابهم فلا يتخاذلون فيخذلهم بخذلان بعضهم بعضًا وذلك عاجل عقابهم. ألا ترون أن نبي الرحمة مع لينه وسماحته ورأفته بالقريب والبعيد من أمته كيف اشتد عليه فراق بني أمية وبني نوفل إياه أيام الشغب، وانحيازهم إلى أعدائه من قريش حتى أخرجهم

بالأجانب، وأحوجهم من عداد الأقارب، وخص بالخمس بني هاشم وبني المطلب. وقال: (أنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام). ولا شك أنه لم يفعل ذلك إلا بأمر الله عز وجل وأن الله عز وجل لم يأمره بذلك إلا ابتغاء ماله منهم، ولا أمره بضم بني المطلب إلى بني هاشم إلا قوامًا لهم وقضى عنهم حقهم. فعلم بهذا أن سنة أولي الأرحام أن يتواصلوا ويجري كل واحد منهم قريبة وحميمه منزلة نفسه والله أعلم. وليس يحتاج إلى الإكثار في هذا الباب مع ما كتبناه في إكرام الجار، لأن قرب ذي الرحم أمس وأخص وألزم من الجوار. فإذا وجب للجار على الجار من الحقوق ما سبق ذكرها، فأولى أن تكون تلك وغيرها لازمة للقرب القريب. فينبغي إذا كان في أهل بيت شيخ أو عالم أو المشار إليه بالعقل والدين، أن يعرف الجماعة حقه بالتوقير والزيارة والرجوع إلى رأيه، والقبول لخطابه ونصائحه، وابتدائه بالسلام إذا لقوه، لأنه يروى في الحديث مرفوعًا (الشيخ في قريبه كالنبي في أمته)، وأن يواسوه بالمال إن كان أرق حالًا منهم، ويصوبوا قدره في المبذل، وإتيان ما يزوى به. وإن كان في أهل البيت محاويج وأغنياء، فلا ينبغي للأغنياء أن يضيعوا المحاويج. وينبغي أن يعولوهم كما كان العباس يعول جماعة بني المطلب لغناه وحاجتهم، وإن لم يعولوهم آثروا بصدقاتهم ومعروفهم. ومن كان منهم مرضى بعده يعطيه، فليقدم بها قرابته. وإن رأى أحدًا منهم أظهر قطيعة لم يزل وراءه يزيده برًا وصلة حتى يرجع إلى الوصل الذي آثره الله به. وإن تقاطع منهم اثنان، فلا ينبغي لأحدهما أن ينتظر فيه للآخر، وليحرص كل واحد منهما على أن يكون ابتداء البر والوصل منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل المسلم أن يهجر أخاه فوق الثلاث، وخيرهما الذي بدأ بالسلام أو بالكلام). وجاء في قوله تبارك وتعالى {خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين} قال: (صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك). والأشبه أن يكون

المراد بقوله صل من قطعك من ذوي الأرحام، أو يكون عامًا لهم، وأخبرهم: وأيهما يتهيأ صلة القاطع أن يستعفى إن كان مظلومًا، ويعفى عنه إن كان ظالمًا. فأما الصدفة، فقد جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن أفضل الصدقة قال: (الصدقة على ذي الرحم الكاشح). وإنما قال ذلك- والله أعلم- لأنها صدقة وعقوق صلة رحم فهي ثلاث قرب. وأما السلام فقد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بادروا أرحامكم ولو بالسلام) والمعنى صلوا أرحامكم. كأنه جعل وصلوا الرحم كسكين الحدادة بالماء. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قال: (يا فاطمة، اشتري نفسك من الله، فإني لا أغني عنك من الله شيئًا، غير أن لك رحمًا فصلاها صلاها). فيحتمل أن يكون معنى ذلك تحصينها بفضل الدعاء لها. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استوصوا بالقبط خيرًا فإن لي فيهم رحمًا) وإنما أراد بذلك أن جاريته أم ابنه إبراهيم، وهي (مارية) كانت قبطية، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الرحم الذي كان له بهذا الأمر. وأبان أن حق الرحم لا يضيع، قويًا كان أو ضعيفًا. لأن إدلاء عامة القبط بأن مارية كانت ذات رحم بابن النبي صلى الله عليه وسلم إدلاء يحق بعبد، وليس في القوة كالأرحام المعروفة. فإذا وجبت المحافظة عليه كانت المحافظة على الحقوق الظاهرة القوية، والقرابات الدانية الأكيدة أوجب وألزم، وبالله التوفيق.

السابع والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في حسن الخلق

السابع والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في حسن الخلق ودخل في هذا كظم الغيظ ولين الجانب والتواضع. ومعنى حسن الخلق: سلامة النفس نحو الأرضي الأحمدي من الفعال. وقد يكون ذلك في ذات الله تعالى، وقد يكون فيما بين الله وهو في ذات الله عز وجل أن يكون العبد منشرح الصدر بأوامر الله ونواهيه يفعل ما فرض الله طيب النفس سلسًا نحوه. وينتهي عما حرم عليه واسعًا به غير متضجر منه ويرغب في نوافل الخير، ويترك كثيرًا من المباح لوجه الله تعالى إذا رأى أن تركه إلى العبودة من فعله متبشرًا لذلك غير ضجر منه ولا متعسر. وهو في المعاملات بين الناس أن يكون سمحًا بحقوقه لا يطالب غيره بها ويوفي ما يجب لغيره عليه منها. فإن مرض فلم يعد، أو قدم من سفر فلم يزر، أو سلم فلم يرد عليه، أو ضاف فلم يكرم، أو يشفع فلم يجب، أو أحسن فلم يشكر، أو دخل على قوم فلم يمكن له، أو يتكلم فلم ينصت له، أو استأذن على صديق فلم يؤذن له، أو خطب فلم يزوج، أو استمهل الدين فلم يمهل، أو استنقض منه فلم ينقض، وما أشبه ذلك. فلم يغضب، ولم يعاقب ولم يتنكر من حاله حال، ولم يستشعر في نفسه أنه قد جفى وأوحش، وأنه يقابل كل ذلك إذا وجد السبيل إليه بمثله، بل يضمر أنه لا يعتد بشيء من ذلك. ويقابل كلامه بما هو أحسن وأفضل وأقرب إلى البر والتقوى، وأشبه بما يحمد ويرضى. ثم يكون في اتقاء ما يكون عليه كهو في حظه ما يكون له. فإذا مرض أخوه المسلم عاده، وإن جاءه في شفاعة شفعه، وإن استمهله لقضاء دين أمهله، وإن احتاج منه إلى معاونة أعانه، وإن استسمحه في بيع سمح له، ولا ينظر إلى الذي يعامله كيف كانت معاملته إياه فيما خلا، أو كيف يقابل الناس، إما يتخذ الأحسن إمامًا لنفسه فينحو نحوه ولا يخالفه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(أكمل الناس إيمانًا أحسنهم خلقًا). وقال: (رحم الله عبدًا سمحًا، إذا باع سمحًا، وإذا اشترى سمحًا وإذا اقتضى سمحًا). وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما أحد أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أهل بيته، ولا أحد من أصحابه إلا قال له: لبيك ولذلك أنزل الله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم}. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أفضل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الخلق الحسن). وعنه صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا). وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا وكان يقول: (إن خياركم أحاسنكم أخلاقًا). وعنه صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما! قال: بلى يا رسول الله. قال: عليك بحسن الخلق وطول الصمت فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق مثلهما). وسأل النواس بن سمعان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حل في نفسك وكرهت أن تطلع عليه الناس). وروى في حديث آخر: (الإثم ما حاك في صدرك وإن قال الناس عنه وافتروا). وفي حديث عبد الله: (الإثم حوار القلوب) أي ما حل في الصدور. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عرف نفاق ابن أبي سلول، ولقي فيه من الخلاف له والتخذيل عنه يوم (أحد) ما لقي. فلما مات جاءه ابنه، فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه. فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فأعضاه إياه. إنما توخيا لمسرة ابنه إذ كان مسلمًا وتأسيًا لحق أبيه.

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما مشي يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق فإن صاحب حسن الخلق بلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة) وقال عبد الله بن المبارك حسن الخلق بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى. وقال رجل: يا رسول الله، الرجل أمر به فلا يقربني ولا يضيفني، فيمر بي فأجزيه قال: (لا أقره). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا إمعة تقولن، إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا نفوسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فمن المتفيقهون، قال: المتكبرون). ومن هذا الباب أن يكون طلق الوجه بش اللقاء يدرك البشر لمن يلقاه، ولا يعرض وجهه عمن جفاه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق). وإذا استوقفه صاحب حاجة وقف. وإذا رأى أخًا له حرص على أن يكون هو البادئ بالسلام، وإن صافحه لم ينزع يده حتى يكون الاخر هو الذي ينزعها منه إذا علم أنه متكبر أو متنزل فصافحته. وروى عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ما رأيت أحدًا التقم إذن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينحى رأسه حتى يكون هو الذي ينحى رأسه- يعني الرجل- وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يد رجل فنزل يده، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده. وإذا استأذن أخ له عليه، لم يحجبه من غير عذر ولا أطال الباب حبسه. وإذا دخل عليه في غير وقت، ثم تطير الكراهة له. وإن طال الجلوس لم يظهر التضجر منه. وإذا دعي إلى الطعام وإن خف أجاب، وإن أهدى إليه شيء وإن نزر قبل إذا علم أن المهدي يسره أن يقبل

ويسره أن يرده. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدى إلي كراع لقبلت). وإن جهل عليه جاهل تجافى عنه لم يقابله. قيل في قول الله عز وجل: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا}. معناه: قالوا قولاً سالمًا من العيب ولم يقابلوا الجهل بالجهل. وقال عز وجل: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}. وقد ذكرنا أنه جاء في تفسيره: صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك. وهذه مكارم الأخلاق. والخلق الكريم هو الحسن الذي ينفع صاحبه بأن يعود عليه بالحمد وينفع غيره منه بأن يزهق به. والخلق الحسن قد يكون غريزة وقد يكون مكتسبًا، وإنما يصح اكتسابه لمن كان في غريزته أصل منه فهو يضم باكتسابه إليه ما يضمه. ومعلوم في العادات أن ذا الرأي يزداد بمجالسه الصلحاء صلاحًا، والعامل يزداد بجالسة العقلاء عقلًا. فلا يمكن أن يكون ذو الخلق الجميل يزداد حسن الخلق بمجالسة أولي الأخلاق الحسنة. ثم ينظر في أمره، فإن كان ما اكتسبه قد علق بنفسه ورسخ في قلبه جرى ذلك مجرى الغريزي، وإن كلما عرض له أمرًا يحتاج إليه حسن المحلق لم يتأت ذلك منه إلا بالشكر أو نفسه، قيل له: متخلق. وكان معناه مرضيًا ونفسه غير محمودة حمد النفس التي تطوع بالبر والإحسان وبالله التوفيق. ومن فروع هذا الباب لين الجانب والتواضع وترك الزهو والصلف والخيلاء والفخر والتمدح. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جاء أهل اليمن هم أرق إفادة، وألين قلوبًا، والإيمان يمان والحكمة يمانية، والسكينة في أهل الغنم، الفخر والخيلاء في القراد من أهل الوبر قبل مطلع الشمس). وعنه أنه قال: (ليس الشديد الصرعة: قالوا: وما الشديد يا رسول الله، قال: الذي يملك نفسه عند الغضب). وعنه أنه قال: (المسلمون هينون لينون كالجمل الأنف، إن قيد انقاد وأن أنيخ على هجرة استناخ).

للأنف الذي عقره الخطام، فهو لا يمتنع من قائد اللوح الذي بيده. قال: خير بن مطعم يقول: آن في النية، وقد ركبت الحمار واعتدلت الشاة، ولبست الشملة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فعل هذا فليس فيه شيء من الكبر). واصل التواضع ما كان في العبد لله عز وجل وهو الخضوع والخشوع والانقياد لأوامره ونواهيه بالقبول أولًا، وتقبل الطاعة له فيها كلها عالمًا بوجوب تلك الطاعة، وقصدًا فيها إلى القيام بالواجب ثم الفعل لما امر به والكف عما نهى عنه، وكل من أطاع الله عز وجل، وهو غير مستشعر في نفسه إبداء ما يطيعه، لأن طاعته واجبة عليه ولازمة له، وكان عنده أنه ليس يطيعه إلا لنيله فليس بمطيع. إنما المطيع من تكون الرغبة في الثواب من زوائد قصده في الطاعة، لا من يكون ذلك علمه طاعة وسببًا، ومهما أخلص الطاعة لعلمه بوجوبها، فقد خضع وخشع وقد مضى ذكر الخشوع في باب الرجاء والخوف وذكرنا ما يتصل منه بأمر إبليس على وجه سوى ما عليه العامة. لأن المستبق بين الناس إن كفر إبليس إنما كان من قبل استكباره على الله عز وجل بأن لم يطعه في السجود لآدم، ويحتجون بقول الله عز وجل {إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} وقوله عز وجل: {فما يكون لك أن تتكبر فيها، فأخرج إنك من الصاغرين}. ونقول: إبليس إنما استكبر على آدم صلى الله عليه وسلم، لم يكن يمتنع من السجود لله عز وجل بترك السجود لآدم، والتكبر على الأنبياء عليهم السلام. فإن كان كفر. فليس عند هذا المحتج بيان أن آدم في ذلك الوقت كان قد أكرم بالنبوة فيهم بذلك احتجاجه، فلم يكن استكبار إبليس على الله أن لا يسجد لآدم إنما كان استكباره على الله عز وجل بأن ظلم الله تعالى وسفهه وأضاف إليه أنه يضع الأمر غير موضعه، فيقول له: اسجد لآدم، وهو خير منه، لأن يسجد آدم له أولى من أن يسجد لآدم. فكان هنا علة كفره، والله أعلم. فأما ما يدل على أن الخضوع لله من أركان الإيمان فهو أن الخضوع إنما يقتضي عن العلم بالحاجة إليه، وإن عنده ما به الحاجة، وإنه مالكه، والآمر فيه إليه إن شاء أعطى وإن شاء منع. فلما كان اعتقاده هذه المعاني كلها إيمانًا، كان ما ينشأ عنها من الذلة لله عز وجل

إيمانًا، لأنه لا ينشأ عن الإيمان ما ليس بإيمان. فقد يجوز أن يقال إنما كان الخضوع لله عز وجل إيمانًا، لأن ضده وهو الاستكبار عليه كفر، فإن هذا أصل ثابت، وإن لم يعتقد أصله نقضه إبليس. وما كان كفرًا كان خلافه إيمانًا. فإن قيل: إن قتل النبي كفر، أتقولون أن تركه حيًا إيمان قيل: ولا حيا من طريق الجري على العادة في ترك الناس أحياء لا يتعرض لهم ليس بعادة. ولكن لو خطر بالقلب أنه لو فعله لكان له عند أعدائه جاه أو من أموالهم حظ، فلم يكن ذلك الحاصل من نفسه وترك أن يقتله لله عز وجل، ومحافظة على حق النبي صلى الله عليه وسلم، وما يلزمه من حبه وتعظيمه كان ذلك منه إيمانًا. ومعلوم أن القتل لا يقع من القليل عادة، وإنما يقع عن قصد يدعوه إليه، فكما أن إمضاء القصد الدافع إلى القتل لأجل سنة الداعي إليه كان كفرًا عندنا، فقد قلنا أن تركه ردًا للسبب الداعي إليه، وتقديمًا لما كان أولى منه عليه إيمان. وأما الخشوع فإنما ينشأ عن العلم بالقهر والسلطان، وأنه إن أراد بالعبد سوءًا لم يمنعه عنه مانع، فهو أيضًا إيمان، لأن العلم بما ذكرنا إيمان، والقرآن بين الخضوع والخشوع، وأن الخضوع من معاني الرغبة، والخشوع من معاني الرهبة وبالله التوفيق. ومن التواضع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجيب العبد يعود المريض، ويركب الحمار. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان الأنبياء صلوات الله عليهم يركبون الحمر، ويلبسون الصوف ويحلبون الغنم، وفي باب التكبر التفاخر بلا حساب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم بنو آدم خلق الصاع ثم ملأه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، ولا تسابوا، إنما السبة أن يكون الرجل فاحشًا بذيئًا جبانًا). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حسب المرء نبته ومرونة خلقه وأصل عقله. ومن الكبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أنجع الأسماء عند الله أن يتسمى الرجل باسم ملك الأملاك) أي الأمثل والأكثر النجاع. ومنه ما جاء في النهي عن التنجع وهو

أن يجوز بالذبح إلى النجاع، وفي التواضع وذم الكبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فارق منه الروح الجسد وهو براء من ثلاث دخل الجنة: الكبر والغلول والدين) ومن هذا الباب قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة أو غيره من أصحابه بغرفة، فما تجوز له عن فراشة لأن السنة أن الرجل أحق بظهر دابته وصدر فراشه. فأما التواضع عن الناس بعضهم لبعض، فإنه أعظم المقصود من هذا الباب. قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك}. وقال الله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحًا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولًا}. وقال فيما حكاه من حكمة لقمان أنه قال لابنه وهو يعظه: {ولا تصغر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا، إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد في مشيك واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}. وقال في غير هذه السورة: {إن الله لا يحب من كان مختالًا فخورًا}. وقال: {أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من تواضع لله رفعه الله). وجاء (بينما رجل يمشي إذ أعجبته نفسه خيلاء فأخذته الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة). وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (البذاذة من الإيمان) يعني رثاثة الكسوة. وأنه قال:

(إن الله لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء). وقال عز وجل: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه، فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير}. وقال {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرش لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا}. وقال {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به، سامرًا تهجرون}. وقال: {وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين}. وقال: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا} وقال: الملأ الذين استكبروا من قومه، وهو يريد الذين لم يؤمنوا. وقال الملأ من قومه الذين استضعفوا، وهو يريد الذين آمنوا بجميع ما ذكرنا. إن العظيم والتجبر والاستطالة على الناس. والترفع عليهم والمباينة لهم في المجلس والمأكل والمشرب استصغارًا لهم، وإمالة الوجوه عليهم حطًا بهم، والإمساك عن جوابهم استقلالا لهم، ورفع الصوت عليهم، والتزين على أعينهم اشرًا وبطرًا، والتقدم عليهم مرحًا واشرًا، وترك الإصغاء إلى ما يقال، أو التدبر لما وقع منه في السمع من حجة تقام أو وعظ يراد أو نصح يؤثر، أو عذر يقرر أو الإمساك عن الجواب، والترفع عن السلام أو رده، وعن تشمت العاطس، وتعزية المصاب، وإجابة الدعوة، وحضور مجلس العالم، والإزراء بمن قل حظه من الدنيا أو أخذ الكبر والهرم والاستهزاء بأصحاب القلوب السليمة والغافلين عن الشرور واستحقارًا لهم. والمرافعة بالدين استضعافًا لصاحبه، والمزاحمة في العين استخفافًا لمالكه، فكل ذلك حرام قبيح مذموم، وجزاؤه على الله تعالى، إذ لو عرف أن ذلك من الله لم يتبرح بأمر ليس إليه منه شيء.

وإنما بتدبير غيره. ولو شاء أن يقلب القضاء فيحول الحسن إلى صاحبه والسوء إليه لفعل ولم يمنعه عنه مانع. قال الله عز وجل: {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب، وحففناهما بنخل، وجعلنا بينهما زرعًا} إلى آخر القصة. فأبان عز وجل في هذه القصة بهذا المثل الذي ضربه أنه لا يرضى من عبده بالبدع والاحتيال والتعظيم بما أتاه على لم يؤته مثله، فإن من عقوبة من فعل ذلك عنده أن يسلبه النعمة، ورده إلى الحال السيئة وإن سيئته كانت في الذين استضعفوا أنبياءه عليهم السلام لقلة أموالهم وأتباعهم وأروه من خلاف ذلك لأنفسهم، وتكبروا عن الإصغاء إلى آيات الله عز وجل، وأعرضوا عنهم، ولم يتأملوا ما جاء برأيه، ولم يتدبروه، إن جزاءهم بذلك التكبر الطبع على قلوبهم وإحلال العقوبة بهم على ما كان يليق بأحوالهم. كما قال عز وجل: {فكلا أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا}. فدل ذلك على أن إحدى الخصال بأن يكون مذمومًا وصاحبه عليه ملومًا، هو العجب والكبر والزهو والصلف. كان إذا غلب على القلب وتسلط على النفس وبلغ بصاحبه، فعرض عن آيات الله فلا يسمعها، وعن أوامره ونواهيه فلا يقبلها. وما كان مؤديًا إلى هذا الفساد، فالكف عنه وردع النفس بما يدعوه إليه منه من أوجب الأمر وألزم الفروض، وبالله التوفيق. هذا وقد علم أن الناس لابد لبعضهم من بعض، من فظ وزهاء وتكبر، وغناء، لم يستطع كل واحد أن يقاربه أو يكلمه، لأن تعاطيه وغلطته تنفر عنه، ويبقى ما يكون في النفس من حاجة إليه غير معصية، وفي ذلك على صاحبه ضرر، واللين بالرفق به وآمنه كل أحد ويطمع في خيره من قرب أو بعيد تقضي به الحاجات، وتزاح به العلل، وتكفي المهمات وفي ذلك خير ونفع. والفظ مانع إخوانه حظوظهم منه. والسمح أذلها لها وموفرها عليهم. وسيان ما يمانع الخير وما ذله والآتي للخير والعافي به، وبالله التوفيق.

الثامن والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في الإحسان إلى المماليك

الثامن والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في الإحسان إلى المماليك قال الله عز وجل: {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم}. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان آخر ما يتكلم به الصلاة وما ملكت أيمانكم، فجعل يتكلم وما يفيض به لسانه. وروى أنه كان يقول: (الصلاة، الصلاة، اقتوا الله وما ملكت أيمانكم) فأوصى الله تعالى عباده، ثم الرسول صلى الله عليه وسلم آمنه. فالمماليك كالأوصياء بالوالدين والجيران وكالأوصياء بالصلاة. فدل ذلك على وجوب الإحسان إليهم، وتحريم التحامل بالجور عليهم، فأول ذلك أن لا يقول أحد لذكر منهم عبدي، بل يقول: فتاي. ولا يقول للأنثى: أمتي بل يقول: فتاتي. بهذا جاء الخبر أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يجمع معنيين: أحدهما أن العبودة بالحقيقة لله عز وجل، ففي قول الواحد من الناس لمملوكه عبدي وأمتي تعظيمًا عليه، وإضافة له إلى نفسه بما أضافه الله تعالى به إليه، وذلك غير جائز. والآخر أن المملوك ربما دخله من أن يقول له مثله، هذا عبدي فيستذله ويستصغره بما يجد بدًا عنه، ولا يجدي على قائله شيئا. ولعل ذلك ما ينفره عنه. فيحمله على أباق وسوء طاعة أو غير ذلك، مما قد ابتلى الناس به من مماليكهم إذا كرهوهم، فكان الأولى بالسادة أن يتجنبوا ذلك إلى ما هو أحسن، ومن معاني التعبير أبعد وإلى التآنس والتسكين أقرب، والله أعلم.

والذي يتلو هذا، أن لا يكلفه ما لا يطيق ولا يجوعه، ولا يعذبه، ثم أن لا يعذبه من غليظ القول بما يشق عليه ولا من الضرب بما ينهكه إلا أن يصيب حدًا فيقيمه عليه، وهذه كلها عزائم. ثم أن الأولى به أن يتحمل عنه بعض العمل ولا يقله جميعًا عليه. وأن يطعمه مما يطعم، ويكسوه مما يلبس، ولا يكلفه من الكسب ما يشبه وينبوا طباع الناس عنه، ولا يضر به أصلا، ويدافع بما أمكن، ونهيًا. فإن ضربه حيث يكون له ضربه ولم يصفعه، ولا يترفع عن مواكلته، بل يجلسه معه إلى جنبه، ولا يكلفه القيام بين يديه وعنده. فأما أن أجهده بذلك فهو حرام عليه، وينبغي له إذا لم يرض خلقه أن يتبعه، وفرض ذلك عليه، إذا لم يتق عن نفسه بالامتناع عن ظلمه. وإذا ارتضى خدمته زاد في الإحسان عليه، فإذا تطاولت الأيام عليه، ورأى منه أنه ينصح له ويؤدي الأمانة عليه زوجه إن علم به حاجة إلى التزوج، فإن علم لنفسه عنه غنية أعتقه، وأن يعتقه متبرعًا أحسن وأجمل أن يلزمه بدلا، وإذا اشترى رجل به عاهة مستقدرة عبدًا ليخدمه، فإن كره العبد صحته، فليبيعه. وإن اشترى جارية فكرهت أن يسمها أو يضاجعها، فلا يمسها ولا يضاجعها ولا يطأها إلا بإذنها، وبيعها إن أرادت ذلك والإحسان إلى المملوك يجمع الشكر لله تعالى على الفكاك والسلامة من ذل الرق، والعدل والإنصاف فيمن يضمه الملك، واستطباة نفس الملوك، واستجلاب طاعته ومناصحته، ففيه نظر للمالك دنيا ودينًا، ونظر للملوك. وبذلك جاءت الأخبار مجملة ومفصلة. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وقال صلى الله عليه وسلم: (من لا حكم من مملوكيكم فاطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، ومن لا يلائمكم فبيعوه ولا تقدموا عباد الله) وقال صلى الله عليه وسلم: (جعلهم الله فتنة تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه

ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه). وقال صلى الله عليه وسلم: (من ابتاع شيئًا من الخدم فلم يوافق شيمته شيمته فليبع. وليشر من توافق شيمته، فإن للناس شيمًا، ولا تعذبوا عباد الله). وقال صلى الله عليه وسلم: للمملوك طعامه وكسوته، اكسوهم مما تلبسون واطعموهم مما تأكلون، لا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون). وقال: (وإذا جاء أحدكم خادمه بطعام قد كفاه حرية وعبادة فليدعه، فليأكل معه. فإن لم يفعل فليأخذ أكله فليجعلها في يده). وقال عبادة بن الوليد: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فأول من لقينا أبا البشر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه غلام له وعلي أبي البشر بردة ومعاء قزي، وعلى غلامة بردة ومعاء قزي فقلت له في ذلك، فمسح رأسي وقال: اللهم بارك فيه يا ابن أخي، أبصرت عيناي هاتان، وسمعت أذناي هاتان، ووعاء قلبي وأشار إلى أنياط قلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون) فكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون علي أن يأخذ حسناتي يوم القيامة. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاء رجل فقال: غلامي يذنب، أفأضربه! فقال: (رموني بضربك وذنبه، فإن كان ضربك أكثر أخذ منك. قال يا رسول الله، بذنب غلامي أنا سبه، قال: يسبك وذنبه، فإن كان سبك أكثر أخذ منك. قال: يا رسول الله مالنا فيهم إذًا خيرًا). قال: أما سمعت الله يقول: {ونضع الموازين بالقسط ليوم القيامة}. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم، أن رجلًا من أصحابه جلس بين يديه فقال: يا رسول

الله، إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، فأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك عاقبك إياهم. فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتضي لهم الفضل الذي لهم. فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما له؟ أما يقرأ كتاب الله {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئًا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين}. فقال الرجل: يا رسول الله، ما أجد شيئًا خيرًا إلي من فراق هؤلاء، أشهدك أنهم أحرار كلهم). قال: مر أبو ذر رضي الله عنه برجل يضرب غلامًا له فقال: إني لا أعلم ما أنت قائل لربك غدًا، وما يقول لك. تقول: اللهم اغفر، فيقول: أكنت تغفر. فيقول: اللهم ارحمني فيقول: أكنت ترحم؟ وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلًا جاءه فقال: كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام، فصمت. فلما كان في الثالثة، قال: (اعف عنه سبعين مرة في كل يوم). وفي رواية أخرى، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم نعفو لمماليكنا؟ قال: (سبعين مرة). قلت: المعنى اعف عنهم بقدر ما يستغفرون الله في كل يوم. وقد قال لهم فيما أخبر عن نفسه ليفتدوا به: (أني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة). وروى (مائة مرة). فأمرهم أن يعفو عن خادمهم بقدر ما يستعفون الله عن أنفسهم. وفي بعض الأخبار، اعف عنه مائة مرة. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة سيء الملكة، فأكرموهم ككرامة أولادكم، وأطعموهم مما تأكلون. قالوا: فما ينفعنا في الدنيا يا رسول الله، قال: فرس تربطه تقاتل عليه في سبيل الله، ومملوك يكفيك، فإذا صلى فهو أخوك،

فإذا صلى فهو أخوك). وفي حديث أن فاطمة رضي الله عنها محلت يدها من الرحى، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا، فلما جاءه سبي أعطاها خادمًا، وقال لها: (أني رأيتها تصلي فلا تضربيها فإني نهيت عن قتل المصلين) فقالت فاطمة رضي الله عنها: إذا كانت هكذا فإنها تعمل يومًا وأعمل يومًا. وفي حديث أن رجلًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أمري وأمرهما يؤتى! قال: (أخوك فأحسن إليه، فإن غلب فكن معه أو تجد معه) أي فإن كثر العمل فلم يستطعه فاعمل معه. قال أبو مسعود أني لأضرب غلامًا لي إذ سمعت صوتًا من خلفي: اعلم أبا مسعود: فجعلت لا التفت إليه من الغضب حتى غشيني، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته وقع السوط من يدي من هيبته، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله لله أقدر عليك منك على هذا) فقلت: يا رسول الله، والله لا أضرب غلامًا لي أبدًا. وقال معاوية بن الحكم- رحمه الله- كانت لي جارية ترعى غنيمة لي فذهب الذئب بشاة منها، وأنا من بني آدم أسف كما يسفون، فصككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها قال: (ادع بها. فقال لها: أين؟ فقالت: في السماء. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ضرب عبده حدًا لم يأته، أو لطمه. فكفارته أن يعتقه). ومعنى هذا أن يضربه قدرًا بحد، ولم يكن عليه الحد. وعنه صلى الله عليه وسلم: (لا تضربوا الرقيق فإنكم لا تدرون ما توافقون من ذلك). وفي

رواية أخرى (فإنكم لا تدرون ما تهجمون عليه). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سوء الخلق شؤم وسوء الملكة بها، وصلة العمر يزيد في العمر، والصدقة تدفع مسة السوء) وجاء عن نفر بن الصحابة رضي الله عنهم أنهم اقضوا الخادم من الولد في الضرب، واعتقوا الخادم لما لم يرد القصاص. وقال حبيب بن أبي ثابت رضي الله عنه: كان يقال لا تجمعوا علي الخدم الليل والنهار. يعني: نجوهم بالليل إذا عملوا بالنهار. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه ركب بغلة ذات يوم، فأردف غلامه خلفه. فقال قائل: لو تركته يسعى خلف دابتك. فقال أبو هريرة رضي الله عنه: لأن يسعى معنى صنمان من نار يحرقان ما أحرق، أحب إلي من أن يسعى غلامي خلف دابتي. وجاء أنه كان لديباغ بن سلامة غلام فغضب عليه، فخصاه وجدعه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأغلظ لديباغ القول وأعتقه منه، فقال: أتوصي لي يا رسول الله فقال: (أوصي بك كل مسلم). ومعنى هذا أنه أمره أن يعتقه كفارة لإساءته إليه، لا أنه جعل الجدع والخصى اعتاقًا كما ظنه بعض العلماء ثم قاس عليه كل مثله، والله أعلم. فصل وينبغي لمن أراد أن يشتري مملوكًا أن يسحن النية في شرائه، ويعزم على التخفيف عنه والإحسان إليه، ولا يشتريه إلا وهو في رأيه صالح له، دون أن يرضاه غيره له، وهو لا يرضاه لنفسه، ويقدم استخارة الله فيه. فإذا اشتراه أخذ بناصيته فقال: اللهم أني أسألك من خيره وخير ما جبل عليه، وأعوذ بك من شره وشر ما جبل عليه، فإن ذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والأخبار والآثار في هذا الباب كثيرة، وقد كتبنا منها ما

تقع به الكفاية إن شاء الله. فإذا أصاب العبد حدًا قريبًا أو شرب خمرًا، أو سرق، أو قذف. أقام سيده عليه الحد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الحد على ما ملكت أيمانكم). وقال: (إذا زنت خادم أحدكم ليجلدها الحد ولا يثرب). وإن كان العبد والأمة لامرأة فأصاب حدًا لم يكن لها أن تقيم الحد عليه، وكذلك المكانة. وإن كان لرجل من أهل الاجتهاد وهو عدل أقام عليه الحد. وإن كان من العامة فله أن يحده بعلم نفسه، وإذا كان ذلك من الأمر الظاهر، وإن كان مما ينفرد الخاصة بعلمه، فله أن يحده نفسًا من نفسه من الفقهاء. وسمعت من أصحابنا من يقول: لا تحد نفسًا غيره، وبيان هذا في كتاب الأحكام وبالله التوفيق. * * *

التاسع والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في حق السادة على المماليك

التاسع والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في حق السادة على المماليك وهو لزوم العبد سيده في إقامته حيث يراه له ويأمره به، وطاعته له فيما يطلب. ولك أن الله عز وجل قطع من الحقوق التي تكون من الحر في نفسه كثيرًا من العبد لأجل سيده، وجعل سيده أحق به منه بنفسه في أمور كثيرة. فإذا استعصى العبد على سيده، فإنما استعصى على الله عز وجل لأنه هو الحاكم عليه بالملك لسيده، والسالب إياه ما كانت من الحقوق في نفسه، فلا فرق بين العصيان من هذا الوجه، والعصيان بإنكار سائر المحظورات. ولا بين الامتناع من هذا الحكم وبسخطه، وبين الامتناع بين سائر الأحكام وبسخطها، وقد قال الله عز وجل: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}. وقال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا}. فأما عبد أبق من سيده واستعصى عليه ونزع نفسه من طاعته فلم يسلم لأمر الله عز وجل وحكمه وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك منه إخلالًا بشعب الإيمان وتركا له. ومن الحقوق التي ذكرنا أن الله عز وجل قطعها من العبد من جنس ما يثبت للأحرار في نفوسهم الملك، فإنه لا يملك أصلا، ولا يتزوج أربعًا، ولا ينكح بغيره إذن سيده، ولا يأتي الجمعة إلا بإذن سيده ولأنه كفل لأحد من أحد إلا بإذن سيده. ولا يجاهد إلا بإذن سيده، ولا يحج إلا بإذن سيده، ولا يقبل منه إلا بإذن سيده، ولا وصية توصى له إلا بإذن سيده، وإن جنيت عليه جناية عمد وجب مثلها القصاص، فالأمر في ذلك إلى سيده

دونه. وإن زوجه وهو صغير لزمه النكاح، وإن يزوجه كبيرًا بغير إذنه، فقد اختلف فيه، وجعل له أن يستخدمه ويخدمه غيره وهو كاره. وأن يتبع خدمته وأن يصرف عليه خراجًا وهو كاره، ويسافر به وهو لا يعرف قصد سيده، فيصير مسافرًا بسفر، يقصر بقصره، ويفطر بفطره. وهذه أحكام ثابتة وجبت وجوب سائر أحكام الشريعة لا تضيع من سيده، ولو أراد السيد أن يغفر له عن شيء منها، ما يعيد عفوه، ولا يغير الحكم لإرادته. فإذا استعصى العبد على سيده والحق الإضرار بنفسه، فإنما يستعصى على الله عز وجل وكان حكمه ما ذكرنا والله أعلم. وأيضًا فإن الله عز وجل جعل كل مالك ظاهرًا بالحقوق التي ذكرنا على مملوكه، فكذلك جعله ولي نفسه، والقيم عليه يعوله ويمونه ويعلمه بالدين ويروضه وينفعه، كما يفعل ذلك لولده. فلم يكن له أن يعصيه فيما هو من حقه، كما لا يكون للولد أن يعق الوالد ويعصيه فيما هو من حقه. وأيضًا فإن العبيد والإماء أمناء ساداتهم على أنفسهم وما تحت أيديهم. فأي شيء خانوا ساداتهم فهم فيه كسائر الأمناء إذا خانوا، غير أن خيانتهم في نفوسهم الأباق أو في منافع أبدانهم بمنع الخدمة وإظهار العصيان أقطع. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). فالعبد راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، وإذا خان كان مسؤولًا عما في يده من مال سيده، فهو بأن يكون مسؤولًا عن نفسه، وهو مال سيده أولى وأحق والله أعلم. ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كما وصلى المالكين بالمملوكين، فكذلك قد عرف المملوكين حقوق المالكين، وبين لهم ما يستحقونه من الأجر، إنما حقوق المالكين إليهم دلالة على أنهم إن حبسوها عنهم كان ما يستحقونه من الإثم بقدره.

فروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ويل للمالك من المملوك، وويل للملوك من المالك، وويل للغني من الفقير، وويل للفقير من الغني، وويل للجاهل من العالم، وويل للعالم من الجاهل، وويل للشديد من الضعيف، وويل للضعيف من الشديد). وقال: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم والرجل على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (للمملوك الذي يحسن عبادة ربه، ويؤدي إلى سيده الذي له من الحق والنصيحة والطاعة، أجران: أجر ما أحسن من عبادة ربه، وأجر إلى ما أدى إلى مليكه الذي له عليه من الحق). وأيضًا فإن الزوجية شبهت بالرق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان، واتخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله). ومعلوم أن الزوج كما أنه مخاطب في امرأته بالإحسان إليها والعطف عليها والمرأة مخاطبة بالطاعة لزوجها، وتغلظ عليها حقه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد غير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، فوالذي نفسي بيده، لا تقضي امرأة حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهو على قتب لم تمنعه). فدل ذلك على السيد إذا خوطب بالإحسان إلى إلى مملوكه كان المملوك كذلك مخاطبًا بأن لا يعامل سيده بالغيظ والضجر، ولا يرى أنه باسترقاقه ظالم له مسرف عليه ويؤدي إليه ماله عنده من الحقوق، لا بخباثة فيها، ولا يبخسه شيئًا منها. ويعلم أن تقصيره فيما أوجب الله تعالى لسيده ليس بأدنى من يجامل سيده عليه واحدة بما لم يوجب الله عليه، وبالله التوفيق.

الستون من شعب الإيمان وهو باب في حقوق الأولاد والأهلين

الستون من شعب الإيمان وهو باب في حقوق الأولاد والأهلين وهو قيام الرجل على ولده وأهله، وتعليمه إياهم من أمور دينهم ما يحتاجون إليه. فأما الولد فالأصل فيه أنه نعمة من الله وموهبة وكرامة، قال الله عز وجل: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة}. وقال: يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور}. فامتن علينا بأن أخرج من أصلابنا أمثالنا، وأخبر أن الأنثى من الأولاد هبة وعطية كالذكر منهم، وذكر قومًا تسؤهم البنات، فينابزون من القوم لئلا يذكروهن لهن، فقال تعالى جده: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به}. فكل من ولد له من المسلمين ولد ذكر أو أنثى، فعليه أن يحمد الله عز وجل على أن أخرج من صلبه نسمة مثله تدعى به وتنسب إليه، فيعبد الله كعبادته، ويكثر به في الأرض أهل طاعته، ثم يؤمر به حد بأن مولده بعدة أشياء: أولاها أن يؤذن في أذنيه حين يولد، وذلك أن يؤذن في أذنه اليمنى ويقيم في أذنه اليسرى. والثانية أن يحنكه بتمر، فإن لم يحضر فيحلوا بشبهه، وينبغي أن يتولى ذلك بيمينه، ثم يرجى خيره وبركته. والثالثة أن يعق عنه. والرابعة أن يحلق بخفيفته وهي شعور رأسه الذي ولدته. والخامسة أن يسميه.

والسادسة أن يختنه. وكل واحدة من هذه الخصال تجمع سننًا. فأما الذبح فإن من سنة أن يكون السابع من الولادة، فإن تأخر فالرابع عشر، فإن تأخر فالحادي والعشرين. فإن لم يعق عنه حتى بلغ مشايخنا رحمهم الله من قال: أن عتق نفسه بعد الإدراك فسحن. وقيل: لا يعتق عن كبير. ومن سنن الذبح أن يكون من صدر النهار. ومنها أن يذبح عن الغلام شاتان متكافئات، وعن الجارية. وذهب بعض السلف إلى أنه لا يعني عن الجارية. روى ذلك عن أبي وائل والحسن البصري. وروى عن بعض أنه يسوي بين الغلام والجارية لا يفاوت بينهما يروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم وغيره. ومنها أن الشاة تذبح ولا تتصدق به حية. ومنها أن الذابح يستقبل بذبحه القبلة ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم منك وإليك ولك. فإن قال: اللهم عقيقة عن فلان دمه بدمه ولحمه بلحمه، وعظامه بعظامه فلا بأس. ومنها أن الشاة إذا ذبحت وسلخ عنها جلدها طبخت كما هي أو فصلت أعضاؤها ولا تكسر عظامها. ومنها أن تطبخ بحلو ولا تطبخ بحامض. ومنها أن الطبيخ يعد إلى من يراد طعامه ولا يدعى الناس عليه. وفيما يذبح عن المولود أحكام: أحدها أنه يجوز أن يؤكل منه، ويطعم الأغنياء. ومنها أن يبقى فيه ما يبقى في الأضاحي من النقائص. ومنها أن لايباع شيء منه. واختلفوا في حكم الذبح نفسه فروى عن مجاهد والحسن ما يدل على أنهما كان يريانه واجبًا. ويقال أن ذلك قول أهل الظاهر، وذهب قوم إلى أنه سنة مستحبة. وذهب قوم إلى أن الأمر فيه إلى اختيار المولود له وليس بسنة، فيندب إليها ويحث عليها. وأما الحلق فإنه يجمع أشياء: أحدهما أن يكون اليوم السابع. والثانية أن يكون بعد الذبح. والثالثة أن يستوفي الرأس لا يترك شيء منه. والرابعة أن يتصدق بوزنه فضة. والخامسة أن رأسه لا يلطخ بدم الذبيح، فإن ذلك مكروه. والسادسة أنه إن كان يطبخ زعفران أو ملق فلا بأس.

وأما التسمية فإنه أيضًا تجمع أشياء: أحدها أن يكون اليوم السابع، فإن سماه يوم مولده فلا بأس. ومنها أن ينفي الأسماء الكاذبة والقبيحة. ومنها أن لا يجمع له من اسم النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته. وأما التكنية فلإخبار أن لا يكنى إلا بعد أن يولد ولده، فيكنى بالاسم الذي سمي به الولد، فإن كني بعد ذلك فلا بأس. وأما الختان فقد اختلف في حكمه، فقيل إنه سنة. وقيل أنه فريضة. وفيه من السنة أنه يستحب اليوم السابع. فالذبح والحلو والتسمية إن احتمله الصبي، فإن لم يحتمله أخر إلى أن يحتمله، وكره تركه إلى الأنصار. واستحب خفص الجارية قبل الغلام. وأما التعليم والتأديب فوقها أن يبلغ المولود من السن والعقل مبلغًا يحتملها، وذلك يتفرع منه أن يشبه على أخلاق صلحاء المسلمين، ويصونه من مخالطة المفسدين. ومنها أن يعلمه القرآن ولسان العرب، ويسمعه السنن وأقاويل السلف، ويعلمه من أحكام الدين ما لا غناء به عنه. ومنها أن يرشده إلى المكاسب إلى ما يحمده، ويرجى أن يرد عليه كفايته. فأم التأذين فقد خولنا به، والسنة فيه ما رواه عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة بالصلاة. ومعنى هذا عندنا أنه أذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى. وقد تسمى أذانًا، كما جاء في الحديث (بين كل أذانين صلاة لمن يشاء). وإنما أراد الأذان والإقامة. وجاء عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ما يدل عليه. وهر أنه كان إذا ولد له مولود أذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى. وروى عن بعض السلف خلاف ذلك. فإن عبد الله بن الحسين كان يقول: من أراد أن لا يقرب والده تابعة أبدًا، فإذا ولد فليؤذن في أذنه اليسرى وليقم في أذنه اليمنى. ووجه هذا في النظر أن يكون أول ما يسمعه الصبي من كلام الناس كلام الإيمان، والذكر الذي يدعى به الناس إلى الصلاة التي هي ثانية الإيمان. ألا ترى أن التكبير يستحب كلما أصبح أن يذكر الله عز وجل ويمجده، فيكون افتتاحه نهاره بالذكر، وكلام البر

والخير، ويستحب له مثل ذلك عند رؤية الهلال ليكون افتتاح الشهر بكلام الخير. فأولى إذا ولد المولود وكان بنفسه عاجزًا عن الذكر أن يتولى ذلك عليه، وأن يكون افتتاحه ورد الدنيا، واستقباله عره بكلام التقوى والبر. روى عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: (أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين). وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: (أصبحنا وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والخلق والأمر والليل والنهار وما يسكن فيهما من شيء لله وحده لا شريك له. اللهم اجعل أول النهار لي صلاحًا، وأوسطه فلاحًا وآخره نجاحًا. اسلك خير الدنيا والآخرة، يا أرحم الراحمين). وأما التحنيك فالخبر المروي فيه أن حميدًا عن أنس قال: ولدت أم سليم عبد الله، فأبت أن تحنكه حتى يحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحملته، ومعها ثمرات عجوة، فأتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضمه وأوجره. وعن عائشة رضي الله عنها قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيحنكهم. فأتى بصبي فبال عليه، فأتبعه الماء ولم يغسله. ووجه التحنيك أن اللحي والحنك آلة المضغ، فإذا ترك التحنك بعد أن يخرج من بطن أمه مدة طويلة لم يؤمن إذا ضربه الهوى واشتد بأعضائه. وأعضاؤه أن يبقى حنكه ومحياه منشدة. فإن احتاج بعد ذلك إلى المضغ اشتد عليه فيعاجل بالتحنيك لتتفتح تلك المجاري ويصير تحريك اللحي عادة له فيؤمن به الآفة التي ذكرتها. وأما استحباب أن يكون ذلك بتمر، فالحديث الذي تقدمت روايته، وبعد فإنه أنفس الأطعمة إذا كان يجمع إلى حلاوته أنه قوت يغتذى، وفاكهة تشتهى، وكان طعام النبي صلى الله عليه وسلم، وشبه الله عز وجل شجرته بكلمة الإخلاص. وأن في شجرته، فشأنه من

الإنسان. فقيل لذلك أكرموا عمتكم النخلة، وأن الصائم مندوب إلى الإفطار بالتمر، فكان أولى ما يبدأ بإيصاله إلى الجوف. روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بصاع بسر، فقال: {ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها}. فقال: (هي النخلة). {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}. وقال: (هي الحنظل). قال شعيب فأخبرت بذلك الغالية، فقال: كذلك كنا نسمع. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مثل المؤمن كمثل النخلة إن كالسته يفعل. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر على التمر، ويحب أن يفطر عليه. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من جد فليفطر عليه، ومن لم يجد تمرًا فليفطر على ماء، فإن الماء طهور) فإن لم يحضره تمر، فشيء حلو يشبهه، لأن الطبع إلى الشيء الحلو أميل والنفس إليه أبرع. فإذا وقع التحنك منه بقيت نفس الصبي متعلقة به، فيحرك لحيته وحنكه كل وقت نزوعًا منه إلى ما عهده وتوفرت عليه فائدة التحريك التي كانت المقصود من التحنيك والله أعلم. وأما استحباب أن يولى من يرجى خيره وبركته، فلأن أم سليم أخرت تحنيك ولدها ليكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحنك ولدها، وقد علم أنها لم تقصد بذلك إلا أن ينال ولدها خيره وبركته، فيستجيب إذا فاتت مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحرى للتحنيك من يرجى للمولود فضل خير وبركة من جانبه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أم سليم تأخيرها التحنيك ليكون هو الذي يتولاه، واعلم غرضها. وإنما أراد به من التبرك من اجتماع ريقه وريق ولدها ووصلوه مع التمر الذي يحنكه به إلى جوف صبيها، فأقرها على الأمرين والله أعلم.

وأما الذبح فإن من سنته أن يكون اليوم السابع، فإن يولد المولو بعد طلوع الفجر لم يحسب ذلك اليوم. وإن ولد قبله حسب. وللأذان فيه ما روى بريدة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العقيقة تذبح لسبع أو أربع عشرة أو إحدى وعشرين). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضي الله عنهما اليوم السابع، ومعنى ذلك- والله أعلم- أن عدد الأيام سبعة، ومنها تتركب الشهور والسنون، فأمروا به أن يتقرب إلى الله عز وجل بالذبح عنه، رجاء أن يفديه، فأذبح لأجله، ويتحقق المرجو من إيمانه. ومن قبل، فإن هذا للرجال ضعف فلا يتأذن إلى الذبح عنه كما لا يذبح عنه وهو في بطن أمه. وإذا تكررت الأيام السبعة ثلاث مرات فقد تطاولت ودخل تكريرها في حد الكثرة، ففات وقت الاختيار. وذهب بعض الناس إلى أن ما روى: أن العقيقة تذبح لسبع، وأن المولود يعق عنه منذ أن يولد إلى سبعة أيام، أو أربعة عشر يومًا. فإن تأخر عن ذلك فات ولم تكن سنة. وعندنا أن الوقت المنصوص عليه الفعل لا للفوت ويدل على ذلك أنه قال العقيقة تذبح لسبع. ولو أراد ما قاله هذا القائل، لا شبه أن يقول: إلى سبع. وأيضًا فإنه لما ذكر بعد السبع وقتين آخرين: أحدهما أربع عشرة، والآخر الحادي والعشرين. علمنا أنه لم يرد أن الذبح ينتهي في حكم السنة من يوم الولادة إلى هذا الوقت، لأنه إذا أراد هذا، تطلب فائدة الذكر لأقل العددين، ولم يتعلق به حكم. فإذا كان الوقت للفعل كما قلنا، كانت الأيام المنصوصة أوقات للاستحباب وما وراءها وقت الإمكان فقط. فأما ذكرها- والله أعلم. فإن مات الصبي قبل السبع لم يعق عنه لأنه مات قبل توجب الأمر على المولود له بالذبح عنه. فصار كأن لم يكن أو كالسقط. وإن مات بعد السبع وإمكان الذبح عنه عق عنه، لما روى عبد الله بن عبيد بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود مرتهن في قبره بعقيقته، حق يكون أبواه هما يمسكانه أو يسلمانه). وقيل لعطاء لحن لساني: ما تفسير مرتهن؟ قال: تحرم شفاعة ولده.

وعن محمد بن مطرف أنه قال: لم يعق عن ولده حرم شفاعته. وهذه الشفاعة إنما جاءت الأخبار بها للصغار الذين لم يواقعوا الذنوب، لم يتدنسوا بالمعاصي والقروف فالذبح إنما يكون عنهم أحياء كانوا أو موتى لا عن الكبار، والله أعلم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما وإياهم الجنة بفضل رحمته. يجاء بهم يوم القيامة، فيقال لهم: ادخلوا أنتم وآباؤكم بفضل الله ورحمته الجنة). فإذا قيل: إذا أمرتموه أن يعق عن المولود إذا مات بعد السبع لئلا تحرم شفاعته، فلم لا أمرتموه أن يعق عنه إذا مات قبل السبع لأن لا تحرم شفاعته. قيل: إنما تحرم شفاعته إذا حرمه الذبح عنه وهو ما صور به. فأما إذا حرمه ذلك، والأمل لم يتوجه عليه به فلا. ألا ترى أن السقط قد يرجى أيضًا ثم لا يدل ذلك على أنه يعق عنه، فكذلك الحي إذا مات قبل السبع وذكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أن السقط يظل محتبطًا على باب الجنة) وفسره بالمغضب المهم لاستبطاء الشيء. أي أنه ينتظر أبويه ويستبطئ إيابهما. وأما من لم يعق عنه حتى كبر فإنه لا يعق عنه بعد الكبر. لأن الصغار إنما يسن الذبح عنهم رجاء أن يكون المذبوح عقًا لهم فليبلغوا الكريم العمر بعد ذلك لا حد له. فمن كبر فقد وصل إلى مقصود الذبح فيه، فلم يكن الذبح عنه بعده معنى. كما لا معنى لصلاة الخسوف بعد تجلي الخاسف، ولا لصلاة الاستسقاء بعد السقيا. وهذا لم يعق عندنا عن الميت الكبير، وكذلك لا يعق عن الحي الكبير وقد قيل: إن عق نفسه بعد الإدراك فسحن. ويروي ذلك عن الحسن وعطاء عن مجاهد، قال: عققت عن نفسي بعدما صرت رجلًا مخافة أن يؤخذ بهما والدي. وفي رواية أخرى عن قتادة رضي الله عنه قال: من لم يعق عنه وضحى اللهم عن عقيقتي وأضحيتي أجراه، وعن الحسن في رجل لم يعق عنه قال: إن كان ضحى أو ضحي

عنه أجريت عنه من العقيقة. وكان أحب إلى الحسن رضي الله عنه أن تمضي الأضحية لوجهها ويعق عن نفسه. فإن احتج محتج بما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد ما بعثه الله نبيًا. قيل: وجه ذلك عندنا أنه لما استقبل في رتبة النبوة التي لم تكن له من قبل عمر أحد أبدًا، وكانت النبوة سببًا لحياة القلوب وسلامة الأبدان، قرب الله عز وجل في ذلك الوقت قربانًا كما يقرب عن المولود إذا استقبل في الصبي، والفسحة للذين لم يكونا له من قبل عمر أحد أبدًا، إلا أنه قضى بالعقيقة التي يتركها أبوه إذا لم تكن في ذلك الوقت مشروعة لهم تعتد بفعلهم إياها أو تركهم لها. وهذا لم يأمره كل من أسلم أن يعق عن نفسه مع علمه بأنه لم يعق عنه في صغره. وذلك أنهم لما خرجوا من الظلمات إلى النور بالنبي صلى الله عليه وسلم كان خلاصهم خلاصة، والنور الذي يستضيئون به نوره، ولم يكن كل واحد فيهم أكرم به مثله ولو كان ذبح عن نفسه، فطالما ترك ذبحه عنه، أمر به كل من أسلم من الرجال والنساء والله أعلم. وقد يخرج هذا الحديث على معنى آخر سأذكره بعد هذا إن شاء الله. وأما استحباب الذبح في صدر النهار، فلأن الوقت إذا خل فالمسارعة إلى القربة المشروعة فيه أولى من المدافعة بها، لأن الله عز وجل مدح المسارعين إلى الخيرات وأثنى عليهم، فقال: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}. وأمر بالمسارعة، فقال: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم}. وأيضًا فإن أول النهار أعظم بركة من آخره. ألا ترى أن البكور أعظم بركة من الغدو، فكذلك الغدو أفضل مما يليه، وما دنا منه أفضل مما نأى عنه والله أعلم. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها). وعن صخر الغامدي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها). وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم في أول النهار. وكان صخر رجلًا تاجرًا، كان يبعث غلمانه أول النهار فأثرى ماله. وأما أن يذبح عن الغلام

شاتان وعن الجارية شاة، لا يضركم ذكرانًا كن أو إناثا. وعن عطاء بن أبي رباح أن أم كرز سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: (عن الغلام شاتان متكافأتان وعن الجارية شاة). وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة. وهذه الأخبار تجمع دلالتين: أحدهما أن الذبح عن الإناث سنة كما هو عن الذكور سنة. والأخرى استحباب العدد فيما يذبح عن الذكورة، والنظر يدل على أن الذبح عن الإناث سنة. وهو أن هذه السنة في تقدير فدية النفس، فكانت كالأضحية. والرجال والنساء يسوون في سنة الأضاحي. كذلك الغلمان والجواري مستوون في سنة العقيقة. وأما المقارنة بين الصنفين في العدد، فلأن الغرض من هذه القربة استيفاء النفس فأشبهت الدية وأشباهها إياها بجمع دلالتين: إحداهما أن للإناث فيها مدخلًا كما لهن في الديات مدخل. والأخرى أن الأنثى منها على النصف من الذكر، كما أنها في الدية على النصف منه. وأما استحباب العدد فلأنه شبيه بالأضحية. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يضحي بكبشين، فكان القياس على ذلك أن لا يجلى هذا الدم للآخر من العدد، على أن المستحب في الصدقات كلها الازدواج. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أنفق زوجين في سبيل الله- يقول دينارين، درهمين يعنون بحد هذا- دعته خزنة الجنة إلى الجنة، هلم بأول. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ذاك الذي لا يؤتى عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن يكون منهم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أنفق زوجين في سبيل الله دعي: يا عبد الله هذا خير. وللجنة أبواب: فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان. فقال أبو بكر رضي الله عنه- ما على الذي يدعى من تلك

الأبواب من ضرورة، فهل يدعى من كلها أحد؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم). فأما ما قيل في هذا الحديث (لا يضركم ذكرانًا كن أو أناثًا) فلان هذا النسك شبه بالأضحية، والتضحية بالذكران والأناث جائزة، فكذلك العقيقة والله أعلم. فإن قيل: فلو قلتم أن يعق عن الغلام شاة واحدة، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشًا. قلت: ليس يأتي جواز ذلك كما لا يأتي جواز التضحية بكبش. ولكن لما روى أنه ضحى بكبشين، قلنا أن ذلك أفضل كذلك لما قال الغلام شاتان قلنا أن ذلك أفضل. ومنه جواب آخر نذكره في غير هذا الموعد إن شاء الله. فإن سأل سائل عن هذا النسك، هل يستحب فيه البدن من الغنم كما يستحب في الأضاحي؟ قيل: لا، لما قد قيل لعائشة رضي الله عنها وولد لابن أختها غلام: عقي عن ابن أخيك بجزورين. فقالت: معاذ الله، ولكن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (شاتان متكافأتان). وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولود مرتهن بعقيقته حتى يعق عنه والده من الإبل أو البقر أو الغنم) فإنه حديث مرسل لا تقوم الحجة بمثله. ومع ذلك فليس فيه استحباب البدن بل الغنم. وإنما فيه إنها تجري، ولسنا ننكر ذلك. والمعنى في أن الإبل لا تستحب من هذا النسك على الغنم، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم خالف بين الغلمان والجواري فيه، فقال (عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة). فلو استحببنا البدن على الغنم، ثم قلنا: يذبح عن الغلام بدنه، لم يكن أن يذبح عن الجارية نصف بدنه. وإن قلنا يذبح عنها بدنه. أدى ذلك إلى التسوية بينهما، والتسوية ليست بمستحبة. وإن قلنا نذبح عن الغلام بدنتين، وعن الجارية بدنة. فقد يكون للواحد ابن وابنة فيرى أن يعق بثلاث بدنات ولا يقدر أن يعق عن البنت بنصف ما يعق عن الابن. والسنة أن تكون الأنثى في العقيقة على النصف من الذكر فكان الأولى بهذا المعنى أن يلزم ما ورد به نص السنة.

وعلى هذا المعنى لا يستحب له أن يزيد على شاتين، لأن الزيادة لو استحبت له، فكان له ابن وابنة، وأراد أن يعق عن ابنه بثلاث شياه أو بخمس، لم يمكنه أن يعق عن البنت بنصفها. والسنة أن الذبح إذا جاوز أقل النسك تورث بين الغلام والجارية، فوجب أن يكون المقدار والجنس اللذان ورد نص السنة بهما ملتزمين، فنهينا استعمال ما شرع من المقاوتة بين الصنفين، ولا يترقى عنها إلى عدد قد يمكن استعمال ذلك، وقد لا يمكن والله أعلم. وأيضًا فإن الشاتين حق الغلام نصًا، فلا معنى لاستحباب أن يفوت بهما عن الجارية فيما فوق النص بين الصنفين. ومعلوم أنه إذا استحب ذبح أربع من الغنم عن الغلام، وجب استحباب ذبح اثنتين عن الجارية. فتصير عقيقة الغلام المنصوصة، عقيقة للجارية وخلاف النص بالكراهية أولى منه بالاستحباب والله أعلم. ويبين ما قلنا أن الله عز وجل لما ورث الأولاد، للذكر مثل حظ الأنثيين فجعل للابن مع البنت ثلثي المال، لم يكن الثلثان نصيب بنت واحدة أبدًا. فكذلك لما جعلت السنة عقيقة الغلام شاتين، لم يجز في الاستحباب وحكم السنة أن تكون الشاتان عقيقة للجارية والله أعلم. وأيضًا فإن دم العقيقة قربة شرعية لاستشفاء النفس، كما أن الدية وضعت مكان نفس القاتل. وهي في الخطأ نظير القصاص في العمد. وقد وقع النص في هذه الفدية على الغنم، وفي تيك على الإبل. ثم لم يكن للغنم في تلك الفدية مدخل، ووجب أن لا يكن للإبل في هذه الفدية مدخل والله أعلم. فإن قيل: فكيف يجوز أن يكون الجنس الذي يتقرب به إلى الله عز وجل أعلى وأنفس من الجنس الذي تختر به حقوق الآمنين؟ قيل: لما جاز أن يقع النص في فدية القربة على شاتين، وفي فدية الختر على مائة من الإبل. ويجوز التمسك بشاة واحدة ولا تكون دية النفس أقل من مائة من الإبل فكانت

فدية الختر على مائة من الإبل، ونحو النسك بشاة واحدة. ولا تكون دية القربة أقل من مقدار قربة الختر والله أعلم. وأما الهدي والأضحية، فإنهما سالمان من هذا المعنى إذا فضل فيهما بين الرجال والنساء. والأصل أن الاستكثار من النسك خير من الاستقلال، فلما كانت المائة أفضل من الواحد كانت البدنة أفضل من الشاة والله أعلم. وأما استحباب قولنا أن شاة العقيقة لا يتصدق بها حية، فالخبر الذي جاء في ذلك وهو ما رواه سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على الغلام عقيقة فأهرقوا عنه دماء، وأميطوا عنه الأذى) ولأن سنة الهدي والأضحية الذبح، فكذلك العقيقة والله أعلم. وأما إن كان الذابح يستقبل بذبحه القبلة ويقول: بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك فلأنه نسك ابتدأته الشريعة بالندب إليه، فهو كالأضحية. وإن قال: اللهم هذه أضحيتي فتقبلها مني أو هذا نسكي فاقبله مني لم يكن بذلك بأس. وقد أخبر الله عز وجل عن إبراهيم صلوات الله عليه وعن إسماعيل صلوات الله عليه أنهما كانا يقولان عن بناء البيت: ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم. فدل ذلك على أن المقرب يستحب له الدعاء بالقبول لنفسه والله أعلم. وفي هذا المعنى حديث جامع سأرويه بعد هذا إن شاء الله. وأما قولنا أن الذبيح يفصل ويطبخ ولا تكسر عظامه، فلما روي عن عائشة رضي الله عنها في ذلك قالت: السنة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، تطبخ جدولا، ولا يكسر لها عظم، فتأكل وتطعم ويتصدق. وعن جابر رضي الله عنه أنه قال في العقيقة: تذبح وتقطع أعضاؤها ثم تطبخ بماء وملح، ثم تجعل في القصاع، ويبعث به إلى الجيران. فيقال: هذه عقيقة فلان. والمعنى في أن لا تكسر عظامها، والتفاؤل للمولود بسلامة عظام فديته، لسلام عظام بدنه. إذ كانت العظام أعمدة البدن، ولا جناية أشد مما يجنى به عليها. ولذلك أفردها الله

عز وجل بحال الشهد بالذكر، فقال: {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه}. وضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل عنها فقال: (كسر عظم المؤمن ميتًا ككسره حيًا). فلما كانت كذلك وكان يخبر بتفصيل الأعضاء عن كسر العظام، ويكون ما لا يستحب من كسر العظام، هذا النسك نظير ما لا يستحب من إتباع الجنازة مجمرًا فيها نار. ونظير ما لا يستحب من أن يسمي الرجل عبده يسارًا وبركة وخيرًا، وأفلح جهة أن يقول: ها هنا فلان، فيذكره باسمه. فيقال: ألا وبكل هذا وردت الأخبار. روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يصلي على جنازة رجل فجاءت امرأة معها مجمر، فما زال يصيح بها حتى توارت بآجام المدينة. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب الكلام إلى الله عز وجل لا إله إلا الله والله أكبر، والحمد لله، لا يضرك بأيهن بدأت، ولا تسمين غلامك يسارًا ولا رباح ولا أفلح، ولا تحتج، فإنك تقول: إثم هو؟ فيقال: لا). وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم الميت ككسره وهو حي). وأما الطبخ بالحلو، فتفاؤل للصبي بالحلاوة ليحلى في قلوب المسلمين، ويحيى حياة طيبة، كما يسمع أول ما يسمع ذكر الله عز وجل. وجاء أن يكون ذلك إذا كبر أحب الأذكار إليه. وكما يحنك بالتمر تفاؤلًا له بالحلاوة في رزقه وعيشه والله أعلم. وأما أن الطبخ ينفر الذين يراد أحكامهم ولا يدعون إليه، فلما رويته عن جابر، وقد تقدمت حكايته. والفرق بين العقيقة والأضحية في الطبخ، يستحب في العقيقة ولا يستحب في التضحية سنة لكل قادر عليها من المسلمين، وإذا اتفقت منهم في وقت واحد لم يتسع المتصدق عليهم بلحوم الضحايا، لأن يأكلوها عاجلًا ولكنهم يحتاجون إلى ادخار أكثرها، فأمر بإعطائهم إياها على وجه يمكن معه الادخار.

وأما العقيقة فلا تنكر كثرة الأضاحي، لكنها تنفق مرة بعد واحدة في أوقات متراخية، ولا تكثر كثرة يحتاج الذين يعطونها إلى ادخار بعضها، لكن يمكنهم أن يتعجلوا أكلها. فكان أولى والأحسن أن يكفوا مؤونة الإصلاح والطبخ ليقضوا حاجتهم منها عاجلًا، والله أعلم. ووجه آخر، وهو أن الطبخ كفاية شغل، وإن أخذ علة فاستحب تفاؤلا للمولود بوقوع الكفاية له في رزقه ويرتاح عليه في معيشه والله أعلم. وأما أن الناس لا يدعون إليها، فقد حولقنا فيه. فروي عن أبي جعفر أن أباه علي بن الحسين رضي الله عنهم، كان إذا ولد (له ولد) جعل طعامًا ثم دعا عليه ما شاء فأكلوه. فيحتمل أن هذا كان شيئًا يفعله وراء العقيقة. فكان يعق عن الأولاد ثم يولم سرورًا بالولد، كما يولم إذا تزوج. ومعنى أن الناس لا يدعون إليه، لأن ذلك ليس مما يفعله المولود له سرورًا بالولد، فيكون كالوليمة، وإنما هو فدية، وهو أن يقام مقام ولده كالأضحية، التي هي فدية، يرجو المضحي أن تقام مقام نفسه. والأضاحي لا يدعى إليها الناس، فكذلك هذا والله أعلم. وأيضًا فإن الطعام الذي يتخذ للعرس بلحق بأصله وهو الولادة. والولادة لا يدعى إليه الناس. فكذلك الطعام المتخذ لأجله والله أعلم. وأما أن المولود له يجوز أن يأكل منه ويطعم الأغنياء، فلأنه ليس بأكثر من هدي التطوع وأما أنه يبقى فيها ما يبقى في الأضاحي فلا يباع منها شيء، فلأنها دم يتقرب به إلى الله عز وجل ابتداء، فكان كالأضحية والله أعلم. وأما حكم هذه النسكة عندنا فهو أنها سنة مستحبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها. فأما أمره بها فقد رويناه. وأما فعله فقد رويناه أنه عن نفسه بعدما بعثه الله نبيًا، ولا يخلو ذلك من أحد وجهين: إما أن يكون قضى ذلك الذبح الذي قصد فيه وألقاه عند ولادة. وأما أن يكون اعتبر حاله حين بعثه الله نبيًا بحال الخارج من بطن أمه، فذبح عن نفسه كما يذبح عن المولود. وأي واحد من هذين كان، فهو دليل على أن العقيقة سنة مستحبة مؤكدة، لأن غير المولود لا يقضي، وغير السنة الثابتة لا يقاس عليها، فلا يحق بها غيرها.

وأما ذبحه عن غيره فقد رويناه، ومن الطبخة على أنها غير واجبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال: (لا أحب العقوق) كأنه كره الاسم. وقال: (من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل) فلما علق رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرادة المولود له ومحبته دل على أنها غير واجبة، ولهذا قلنا الأضحية غير واجبة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئًا) فعل ذلك إرادة المضحي واختياره. فإن قيل: فمن أين لكم أنها سنة مستحبة: قيل له: من أنه سماه نسكًا، وأدنى أحوال النسك أن يكون مستحبًا. فإن احتج محتج لا يجاب هذا النسك بها. روى أن عمر بن شعيب رضي الله عنه كان يحدث عن أبيه عن جده، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: (لا أحب العقوق) كأنه كره الاسم. قالوا: يا رسول الله أنا نسألك عن أحدنا بولده. قال: (من أحب أن ينسك من ولده فليفعل على الغلام شاتان متكافأتان وعن الجارية شاة) وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الغلام مرتهن بعقيقته، فأهريقوا عنه الدم، وأميطوا عنه الأذى). قيل له: قد روينا من الحديث ما أبان أن هذا النسك سنة ورواية من روي (على الغلام شاتان وعلى الجارية شاة) غلط منه. وإنما المشهور عن الغلام وعن الجارية. والعلماء على خلاف تلك الرواية مجتمعون بأن ظاهرها دم العقيقة على المولود، وليس أحد من العلماء يقول كذلك وإنما يرى من يقول بالوجوب أنه على المولود، وليس ذلك في الحديث. وإن ارتكب مرتكب وزعم أنه على المولود ولزم أباه أن يتحمل عنه من يقبل ذلك منه، لأن الأغلب الذي لا يكاد يوجد غيره، أن كل مولود فإنما يولد عازبًا عن الملك، لا يجوز أن يكون تخلصه من بطن أمه سببًا لوجوب مال عليه، وهو لا مال له.

وأما قوله (كل غلام مرتهن بعقيقته) فلا دليل فيه على أن الوجوب كان. معنى ذلك، أنه لا ينبغي أن يخلق ما لم يذبح عنه. والخلق ليس بقرض. حتى إذا كان وقته بعد الذبح لزم أن يذبح عنه لأجله وأما أنه مرتهن في قبره، فقد خسرنا معناه أنه محبوس عن أبيه أن لا يمكن من الشفاعة له. وهذا أيضًا لا يدل على الوجوب، لأن أباه إذا كان لا يخشى من ترك الذبح عنه أكثر من أن تفوته شفاعة نبيه صلوات الله عليه. وإن فاتته شفاعة ولده، فثبت بذلك أن لا دلالة في هذا الحديث على الوجوب. وأما من ذهب إلى أن العقيقة جائزة وليست بسنة يندب الناس إليها، فهي الحجة عليهم سوى الأخبار التي تقدمت روايتها. وهو أن الذبح عن المولود فطر له قربة إلى الله عز وجل، فهو كالتضحية التي تكون من المضحي نظرًا لنفسه وقربه إلى الله عز وجل. وكلام جمعت إراقته نظرًا للمراق عنه وقربه إلى الله عز وجل، فإن إراقته سنة كالهدي والأضحية والله أعلم. واحتج محتج بما زعم أنه يروى عن فاطمة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعق عن الحسن والحسين. فقال: لا، ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره). وما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تستحب الزكاة كل صدقة في القرآن. ونسخ صوم رمضان كل صيام. ونسخ غسل الجنابة كل غسل. ونسخ الأضحى كل ذبح). قال: فدل هذا الحديث على أن النسك بدم العقيقة منسوخ. فالجواب: أنا قد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن الحسن والحسين، فقد يحتمل أن فاطمة رضي الله عنها ظنت أن ذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدها كان زيادة فضل لا تسقط بها سنة العقيقة التي تخاطب الوالدين بها، فقالت: أأعقق؟ فقال: لا. لأن ذبحه قد ناب مناب ذبحها وزاد. وقد يجوز أن تكون سأل عن ذلك قبل أن يعق النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا. لأنه كان في نفسه أن يعق عنه من عنده. ويكون معنى قوله (احلقي رأسه،

وتصدقي) إن الذبح مني، والحلق والصدقة منك. وإذا احتمل الحديث ذلك لم يجز ترك سنة مستفيضة بمثله. وفيه جواب آخر يذكر بعد هذا إن شاء الله. وأما نهاية من روى أن الأضحية تستحب كل ذبح، فإن معناه- إن ثبت- إنها تستحب كل ذبح كان في مثل معناها. وليس دم العقيقة بمنزلتها، لأن الأضحية قربة يفديها المضحي عن نفسه، ولها وقت معلوم لا يجوز في غيره. وأما دم العقيقة، فإن المولود له، يريقه عن الولد لا عن نفسه موفيه السابع من الولادة مما بعده. وإذا لم تكن الأضحية بقصدها، وما يراد بها آيبة على دم العقيقة بعد أن نسخته، فالسنة أن تكون ما نسخته الأضحية هو الفرع والغيرة. فقد كان الأمر بهما واقعًا في أول الإسلام ثم نسخًا. والعقيقة بتا من الأضحية في قصدها، فهي من النسخ بمعزل. روى عن جحيف بن سليم رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (على أهل كل بيت من المسلمين أضحية وعتيرة. تدرون ما العتيرة التي تقولون: الرجبية). ثم نسخ هذا الحديث بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا فرعة ولا عتيرة). فلئن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نسخت الأضحية كل ذبح) فإنما أراد هذين، دون العقيقة. وقال بعض العلماء: إنما ينسخ الشيء بما يتأخر عنه لا ما يتقدمه. والتضحية أمر متقادم كان في أول عهد إبراهيم صلوات الله عليه، وجرى المسلمون عليه في أول الإسلام، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين لا ينزل إلا ضحى. فأما العقيقة فإنما أمر بها بعد تقدمه المدينة بسنين. وعق عن الحسن والحسين أيضًا بعد تقدمه المدينة بسنين، ثم عمل كبار الصحابة، وتوارثه علماء المدينة بسنين. وقال سعيد بن

المسيب: كانت العقيقة في سلف هذه الأمة، كانوا يعقون عن المنفوس يوم سابعه. وأفتى بذلك القاسم بن محمد، وعرفة، وعطاء بن أبي رباح، وأبو الزناد، والزهري. فكيف يجوز أن يقال: أن المتقدم ينسخ المتأخر. وهذا كما قال، وفيه بيان أن الدم الذي نسخ للأضحى ليس إلا الفرع والعنيزة، لأنهما كانا جاهلين متقادمين. وكان الناس يجرون بعد الاسم فيهما على عادتهم. فلا يبعد أن ينسخا بالأضحية. والعقيقة إنما سنت بعد موت حكم الأضحية، فلا يمكن أن تكون الأضحية نسختها والله أعلم. فإن سأل سائل عن الغرض في دم العقيقة، ما هو؟ قيل له: قال مالك: أنه أنفع في قلبي من العقيقة، أن النصارى واليهود يعملون بصبيانهم شيئًا يجعلونه فيه، ويقولون: قد جعلناه في الدين. فإن من شأن المسلمين الذبح في ضحاياهم. وعق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين، فيقع في قلبي من الذبح عنهم أنها شريعة الإسلام، وقد سمعت غيري بذلك. وهذا قاله مالك رحمة الله عليه. فيحتمل وتقديره أن النصارى تغمس أولادها في ما يسمونه المعمود به، فيقولون: صنعنا أولادنا أي نصرناهم. ومعناه: أظهرنا شعارها عليهم. واليهود تفعل ذلك بختان أولادها. وكان المسلمون مخصوصين بالهدايا والضحايا، فشرع لهم أن يظهروا شعار الإسلام على حديثي العهد من صبيانهم بالأولاد، بأن يذبحوا عنهم. لأن الختان، وإن كان مشروعًا للمسلمين، فاليهود مشاركة لهم فيه. فعدل عنه إلى ما لا تقع فيه مشاركة. وهذا بنظير أن اليهود لما كانت تعظم السبت والنصارى تعظم الأحد وتتخذه عبدًا، شرع للمسلمين أن يعظموا يومًا غيرهما ويتخذوه عيدًا والله أعلم. وفيه قول آخر عن سفيان بن عيينة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، كان من ولد الذي قرب القربان، فتقبل منه، فصار سنة في العقيقة. وكان من ولد إسماعيل الذي فدى بذبح عظيم فصار سنة في الأضحية. وكان من ولد عبد الله بن عبد المطلب الذي فدى بمائة من الإبل فصار سنة في الدية. وهذا الذي قاله سفيان من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من ولد الذي قرب القربان فتقبل منه مشكل. لأنه إن كان أراد به أنه من ولد ابن آدم الذي قرب القربان فيقبل منه كما ذكره الله عز وجل في كتابه. فالرواة ينطقون على أن ذلك هابيل بن آدم. وأجمع النسابون على أن نبينا صلى الله عليه وسلم من ولد شيث بن

آدم صلى الله عليهما وسلم، ولم يكن لهابيل ابن يعرف، وإن كان أراد غيرهما فليس لي بين وجه من كل أمر. وقد يحتمل عندي أن سنن الأضحية والعقيقة جميعًا من قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فيقال: إن إبراهيم عليه السلام إنما أمر بذبح ابنه عن نفسه، فلو حل وإتمام ما بدأه، لكانت منزلته في التقرب بابنه كمنزلة غيره في التقرب ببدنته أو بقرته أو شاته. ولما فدى بالكبش، صار الكبش مذبوحًا عن إسماعيل، ثم صار عن إسماعيل بذبح فدايته كان أباه قد أمضى لنفسه القربة التي قصدها منه. ففرع عن هذا أن النصيحة قربة، وأن الذبح عن الولد أيضًا بر وقربة. فإن كان سفيان أراد هذا فقد وفق وإن كان لم يرده والإشكال لازم كلامه. وفيه قول آخر: وهو أن غرض المولود له في الذبح عن ولده الرغبة إلى الله عز وجل في أن يفدي المولود ما ذبح عنه فيبقيه ويبارك فيه، ويدفع عنه البلاء والآفات والمكاره ولهذا يقال عقيقة عن فلان دمه بدمه ولحمه بلحمه، وعظامه بعظامه وهذا يقرب من غرض التضحية. فإن معناها أن يتصور الضحى بصورة من يدعو ربه، فيقول: إني قدر ارتكبت من الذنوب والمآثم ما لو كان قتل نفسي مطلقًا لأوجبت قتلها عقوبة لها على ما سلف من المعاصي والآثام. فلأن ذلك محظور على ما قد حرمت على أن أقتل نفسي، وأحللت لي بهيمة الأنعام، فهذه منها قربي ونسكي، فاقبلها مني، واجعل لحمها بلحمي ودمها بدمي وعظامها بعظامي، وشعرها وبشرها بشعري وبشري، فاغفر لي. فهذان نسكان متقاربان، وهما يفترقان في أن أحدهما من الذابح عن نفسه والآخر عن ولده. وفي أن أحدهما يراد أن تكون فدية للنفس في العاجلة بلا حرام. والآخر يراد به في أن تكون فدية لها من تبعات المعاصي والآثام. ثم هما فيما وراء ذلك سيان والله أعلم. وأما توجب الحلق باليوم السابع وضمه إلى الذبح والتصدق بوزن شعره فضة وتجنيب الدم وتلطيخه بالحلوق، مع ما استخشاه من الذكر الذي يقال عند الذبح. فإن كل ذلك مما جمعه حديث واحد، وتفرقت بجميع ذلك عدة أخبار. روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يعق عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية

شاة). قالت عائشة رضي الله عنها: فعق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضي الله عنهما بشاتين اليوم السابع. وأمر أن يماط في رأسهما الأذى. وقال: (اذبحوا على اسم الله، وقولوا: بسم الله والله أكبر، اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان). وكان في الجاهلية، تؤخذ قطفة فتجعل في دم العقيقة، ثم توضع على رأسه، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكان الدم خلوفًا. وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهين بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه ويدمي). قال قتادة رضي الله عنه: يؤخذ بصوفه فتضرب بدم العقيقة ثم توضع على رأسه. وهذا يحتمل أنه كان في أول الإسلام، ثم نهي عنه لما رويته من الحديث قبله. ولما روى عبد الله بن ترمذة عن أبيه قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لنا مولود، وذبحنا عنه شاتين، ولطخنا رأسه بدمه. ثم كنا في الإسلام إذا ولد لنا مولود ذبحنا له شاة ولطخنا رأسه بالزعفران. وعنه صلى الله عليه وسلم: (يعق عن الغلام فلا يمس رأسه بالدم). وقد قيل في معنى ذلك أن إمساس رأس المذبوح عند دم الذبيحة نسبة ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من صب دماء ذبائحهم على أصنامهم، فلذلك نهى عنه. وعن فاطمة أنها عقت عن الحسن والحسين رضي الله عنهما يوم سابعهما، وحلقت رؤوسهما، وتصدقت بوزنه فضة. وهذا يدفع رواية من روى أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعق قال: لا. لأنه لو نهاها لم تخالفه. وقد يحتمل الجمع بين الخبرين وجهًا سوى ما تقدم ذكره، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين شاة، لأنه نص على ذلك في الأكثر من الروايات، وعقت فاطمة رضي الله عنها شاة شاة، فكملت العقيقة عن كل واحد منهما بشاتين ولئن كانت سألت: أعق فقال: لا. فالمعنى أنها قالت: أعق عقيقة كاملة وهي شاتان. فقال: لا أي واحدة يكفيك لأنني عققت بشاة.

وعنه صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة أن تحلق شعر رأس الحسن وتتصدق بوزنه من الورق في سبيل الله، ثم ولدت الحسين، فصنعت مثل ذلك. فأما المعنى في تأخير الحلق عن الذبح، فهو أن تتكامل الفدية في الشعر والبشر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعر وبشره شيئًا، أو فلا يأخذن). وإن أراد بذلك أن يتكامل معنى الفدية في الشعر والبشر، فكذلك هذا. وإذا كان معنى تقديم الذبح على الحلق، هذا وكان الشعر الذي طال تقلبه على الناس أذى، فبالحري أن يتعجل الذبح ليتوصل به إلى الحلق، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم (كل غلام مرتهن بعقيقته فأهريقوا عنه دمًا وأميطوا عنه الأذى) أي الحلق منظر به الذبح، فأريحوا عنه لتريحوه. وعلى هذا يجري أمر المحرمين، لأن يستحب لمن لا دم عليه أن ينسك يوم الإحلال. وإذا أراد ذلك ذبح أو نحر ثم حلق. فهكذا كل ذبح وحلق اجتمعا. فسنة الحلق أن يؤخر عن الذبح والله أعلم. وأما كراهية الاقتصار على حلق بعض الرأس، فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع- والقزع أن يحلق الصبي ويترك بعض رأسه وأنه رأى صبيًا حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهى عن ذلك، وقال: (احلقوه كله، أو اتركوه كله). وهذا شبيه بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتعل الرجل بإحدى رجليه. وقال: (ينتعلهما جميعًا أو ليخلعهما جميعًا). وروي عن أبي إبراهيم رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع فليبدأ باليسرى، أو ليخلعهما جميعًا أو لينتعلهما جميعًا). وأما أن التقصير لا يقوم مقام الحلق، فلأنه صلى الله عليه وسلم قال: (وأميطوا عنه الأذى). وفي حديث آخر (يحلق). فدل على أن السنة هي الحلق، وليس في التقصير إماطة الأذى

فلم يقم مقام الحلق. ولأن السنة إذا كانت تصدق بوزنه الشعر ورقًا، احتج إلى حلق الجميع ليتهيأ وزنه، فأما مع إنهاء بعضه على الرأس فلا، والله أعلم. وأما التسمية لليوم السابع، فلما رواه سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهين بعقيقته يذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه ويسمى) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه أمره بتسمية المولودة يوم سابعه. ومعنى ذلك- والله أعلم- أن الأيام سبعة، فإذا أدارت على المولود قوى الرجاء بأنه مخلوق للبقاء والحاجة إلى الاسم للتعريف والبقاء، فإذا ظهرت مخايل العيش فيه كانت تسميته عند ذلك أحسن وأولى. وأما من قبل ذلك فلا حاجة إليها قبل أن تضعه أمه. وقد يجوز أن يقال: أن التسمية إنما تؤخر إلى السابع إذا عاش المولود، فأما إذا مات قبل ذلك أو خرج منها أو كان سقطًا، فقد روى فيه خبر، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سموا السقط. قالوا: يا رسول الله إنا لا ندري أذكر هو أم أنثى؟ فقال: سموه حمزة خارجة باسم غلام أو جارية). ووجه هذا- والله أعلم- أن التسمية إنما توجد بحال يرجى بلوغ المولود إياها. فإذا مات فقد أيسر من بلوغه، فكان الأولى أن يسمى لأنه ولد ثابت النسب. فلا ينبغي أن يدرك مقطوع الدعوة كولد الزنى والله أعلم. وأما تسميته بالأسماء الصادقة دون الكاذبة، والحسنة دون القبيحة، فلما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء عبد الله وعبد الرحمن). وروى ابن عبد الله بن أبي سلول، كان يسمى بالحباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحباب شيطان فسموه عبد الله). وعن ابن وهب وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام). وعن علي رضي الله عنه قال: ثم ولد لي غلام فسميته حربًا، فقال: (هو محسن). وأما إجازة

تسميته يوم الولادة، فلما روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ولد لي غلام البارحة، وأني سميته باسم أبي إبراهيم). وأما كراهية الجمع بين اسم النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته، فلما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يسمي باسمي، فلا يكني بكنيتي، ومن يكني بكنيتي فلا يتسمين باسمي). فإن احتج محتج بما روى ابن الحنفية على علي رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، إني ولد لي مولود بعدك أسميه باسمك، وأكنيه بكنيتك قال: نعم). وبأن صفية بنت شيبة قالت: ولد لي غلام فسميته محمدًا، وكنيته بأبي القاسم، وإن الناس أنكروا علي ذلك، وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره ذلك، فهل عندك شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولدت امرأة من الأنصار ولدًا فسمته محمدًا، وكنته بأبي القاسم، فأنكر الناس ذلك عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أحل اسمي وحرم كنيتي، وما حرم كنيتي وأحل اسمي). قيل له: أما محنفة محمد بن الحنفية فلا حجة فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون اسمه وكنيته تشريفًا له بذلك، لما روى عن ابن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا علي أنه سيولد لك غلام يحليه اسمي وكنيتي) وهذا يدل على أن الجمع بينهما لم يكن مطلقًا لمن شاء، إذ لو كان كذلك لما سمى النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقه لمحمد بن الحنفية تحلية ولا كذلك إكرامه. وأما الحديث الآخر فيحتمل أن يكون المراد به إباحة كل واحدة من الاسم والكنية على الانفراد، لأن لا يظن ظان أن أحدهما يحرم بكل حال. فأبان النبي صلى الله عليه وسلم أنهما حلالان. ولكن ليس كل حلالين يجمع بينهما. فإن الأختين حلالان ولا يجمع بينهما، فليكن هذا من هذا الباب، والله أعلم.

وأما تأخير التكنية إلى أن يكبر المولود، فيولد له. فلأن تكنيته من ذلك الوقت إنما تقع باسم ولده، فيكون صدقًا، فاستحب ذلك كما استحب أن يسمي المولود بالأسماء الصادقة نحو عبد الله وعبد الرحمن. فإن كن قبيل ذلك فلا بأس، لما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف صبيًا فإذا انصرف من صلاة الفجر دخل عليه فمازحه ساعة حتى يضحك ثم يخرج. فدخل عليه يومًا وهو يبكي، فقال: (ما لصبيكم يبكي، فقد بعيرًا له. قال يا أبا عمر، ما فعل البعير، فجعل يرددها عليه حتى ضحك. ثم قال: يا أبا ذر كنوا أولادكم قبل أن يغلب عليهم النفاق السوء. ثم قال: إني لأمزح ولا أقول إلا حقًا). وأيضًا فإن الرخصة لما وردت في تسمية المولود حارثًا وهمامًا، فجاز أن يسمى بهما ولم يحرث ولم يهم تفاؤلًا له بهذين الاسمين، إذ كان كل واحد منهما لا يكون إلا مع البقاء، جاز على قياس ذلك أن يعجل بكنيته، فيقال: أبو فلان، تفاؤلًا له بذلك إذا كان لا يولد له إلا أن يبقى قبل ذلك والله أعلم. فإن سأل سائل عن غرض التسمية والكنية قيل: أما التسمية فلمجرد الشهرة والتعريف ليدعى إذ دعي به، ويتميز به عمن لا يشاركه في اسمه فإن شاركه في اسمه غيره ضم إلى الاسم والنسب، أو بعض الأوصاف والحلي لا يستوي فيها اثنان، قد جاء بها التمييز بمجموع الأمرين عن غيره. وأما التكنية فتكون للمبالغة في التعريف. وقد تكون للمتوفين، لأن الكبير هو الذي يولد له، ومن يولد له، فقد صار راعيًا على ولده، وثبتت له الولاية عليه. فمني كنى واصف إلى ولده، فقد وقر وأنزل منزلة الولاة والدعاء والعاملين للغير، والقائمين عليه. وهذا هو الغرض والله أعلم. وأما الختان في اليوم السابع، ففيه أخبار، منها ما روى عن مكحول أو غيره أن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه، ختن ابنه إسحق صلى الله عليه وسلم لسبعة أيام، وإن فاطمة رضي الله عنها كانت تختن ولدها السابع. وعن محمد بن المنكدر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن لسبعة أيام. وقد روى عن الحسن أنه كره ختان الغلام يوم سبوعه، خلافًا على

اليهود. والسنة أولى أن تتبع، ولو ترك الختان اليوم السابع، لأنه من فعل اليهود لترك الختان أصلًا لأنه من فعلهم. فإن قيل: وما في فعل فاطمة من الدليل، أو فيما رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن اليوم السابع. وإنما تولى ذلك منه إن صح الخبر- أتراه وهما مشركان؟ قل: أما فاطمة رضي الله عنها، فالأغلب أنها لن تكن تختن ولدها دون مؤامرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فعلته بغير أمره، ثم لم ينكره عليها فذاك بمنزلة الأمر. ألا ترى أن عليًا رضي الله عنه، لما سمى ابنه حربًا، ولم يرض ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أنكره وغيره. فكذلك لو أنكر صنيع فاطمة رضي الله عنها، لأعلمها ذلك، ولنهاها عن مثله. فلما لم يفعل، والظاهر أن ذلك لم يكن يخفى عليه، ولا ينكتم عنه، صح أنه أقرها على ذلك والله أعلم. وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن اليوم السابع، فإن وجه الحجة فيه أن الختان من الأمور الشرعية، فلأن كانت معرب تختتن في الجاهلية فلأنها توارثته خلفًا عن سلف عن إبراهيم صلوات الله عليه. فلما روى أنهم ختنوا النبي صلى الله عليه وسلم اليوم السابع وكان من أوسطهم نسبًا، على أنهم لم يختاروا تعجيل ختانه إلا لكرامته عليهم. فكان ظاهر ذلك أنهم ورثوا أصل الختان، ورثوا أفضل تعجيله والله أعلم. وأيضًا فإن ما يجب قطعه فهو من جملة الأذى، فدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (أميطوا عنه الأذى). وأيضًا فإن الصبي كلما كان أصغر كان من الأوجاع والآلام أغفل وجرحه إلى الإلتئام والإلتحام أسرع. فإن عوجل بالختان فإن ذلك في حال الصغر أخف عليه منه في حال الكبر، لم يكن في ذلك ما ينكر. فإن خيف أن الدم الذي يقطر منه الجرح إذا ختن يضعفه، أو أن أذى الألم الذي يختن به ينهكه، أخر إلى أن يصير محتملًا له والله أعلم. والأصل في وجوب الختان قول الله عز وجل: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات

فأتمهن) فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد. في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء. وظاهر اسم الابتلاء يدل على الغرض، لأن المندوب إلى الشيء لا يضيق عليه ترك ما ندب إليه، فلا يكاد يتحقق بالندب ما لم يكن معه إلزام. هذا وفيما يذكر أنه في التوراة إن الله تعالى أمر إبراهيم صلوات الله عليه وقومه بالختان، وأشار لهم إلى معناه وغرضه، فقال: متسمًا لي في أجسادكم إلى آخر الأبد. وأنه حكم على من لم يختن بالقتل. فبان بهذا أن الختان كان فرضًا عليه وعليهم. وإذا ثبت هذا الدليل، إن الختان كان فرضًا على إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وجاء عنه أنه قام على نفسه في كبر سنه. وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختتن إبراهيم صلوات الله عليه وهو ابن مائة وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة). فقد صح أن الختان من ملة إبراهيم. وقد قال الله عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا}. فما كان من ملة إبراهيم أصلها وفروعها، فإتباعها واجب بهذه الآية. فإن قيل: لما كانت قرائن الختان في هذا الخبر غير فرض، فما أنكرت أن يكون الختان غير فرص. قيل: المضمضة والاستنشاق لأصل الجناية فرض عندك، والاستنجاء بالماء فرض عندك، غير أن الأحجار تقوم مقامه. كما أن غسل الرجلين فرض، لكن المسح على الخفين يجري عنه. فليست قرائن الختان كلها إذًا غير فرض. وعلى أنا لا ندري أكانت قرائن الختان في شريعة إبراهيم عليه السلام فرضًا أو لم تكن فرضًا. فليس في جمع الأمر

بينهما وبين الختان ما يمنع من أن يكون الختان من بينهما فرضًا، كما قد يجمع على المصلي والحاج بين عدة أشياء يؤمر بها، ثم يكون بعضها فرضًا وبعضها غير فرض. وإن كانت في شريعتها فرضًا فالختان ثم نسخ فرضها، فليس في نسخها ما يوجب نسخ الختان كما لم يكن في نسخ منها ما يوجب عندك زوال فرض المضمضة والاستنشاق في التطهر من الجنابة والله أعلم. وقد يحتج لإيجاب الختان بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس من الفطرة) فذكر منها الختان، والفطرة هي الملة. قال الله عز وجل: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} يعني الدين القيم. وقد يجوز أن يكون معنى خمس من الفطرة أي من الملة التي أمرتم بإتباعها، وهي ملة إبراهيم. فرجع المعنى إلى أنها فطرة أبيكم، لا إلى أنها فطرة الناس كلهم. ابتلاء إبراهيم واقعًا بضم خمس إلى هذه الخمس، حتى بلغت الكلمات عشر. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الفطرة خمس: الاستحداد وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الإظفار، والختان). ووجه الاستدلال بالختن، أن الفطرة ما كانت الدين والملة، فكان ما قيل أنه منها، فالظاهر أنه من أركانها لا من روائدها إلا أن يقوم والدليل على خلافة. والدليل على ذلك أن كل نبي بعث وشرعت له شرعة، فإنما يبعث على أن يكون على قومه أتباعه، لا على أن يكون متحرين في طاعته. وأوجب هذا أن يكون الأصل في كل ما شرع له الوجوب، حتى يكون الدليل على غيره. وأيضًا فإن إتباع الملة في الجملة إذا كان واجبًا، فما ثبت أنه منها، فإنما هو جزء من جملة قد ثبت لها حكم الوجوب. فالظاهر أن حكمة الوجوب ما لم يصيره عن سائر الأجزاء دليل، وبالله التوفيق.

فإن احتج محتج بما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الختان للرجال سنة وللنساء مكرمة). قيل له: أن واحدًا من هذين اللفظين لانقياد الوجوب. لأن السنة هي الشريعة والطريقة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد بين لكم معان سنة فاتبعوها) فأوجب إتباعه فيما سماه سنة. وعن أبي ليلى رضي الله عنه قال: حدثنا أصحابنا أنهم كانوا إذا صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الرجل أشاروا إليه فقضى ما سبق به حتى جاء معاذ، فقال: لا أراه على حال إلا كنت عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن معاذ قد بين لكم سنة فكذلك فافعلوا). والمكرمة اسم جامع لكل أدب حسن. ألا ترى إلى ما روى أن بعض العرب لما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيما أنزل عليه أن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي قال: إني أراه يدعو إلى مكارم الأخلاق. يا قوم كونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابًا. فإذا كان العدل مكرمة وهو فرض، والإحسان مكرمة وهو مع ذلك فرض. وقد يحتمل معنى الحديث في الفرق بين الرجال والنساء، إن الرجال لم يحسن منهم الختان إلا لأجل الأمر به. فأما المرأة فإن الختان يحسن منها الأمر وغيره. وهو أن لا يقف الزوج على ما يكره. وينفر طبعه عنها فيكون كذلك قد تركا إحسان القيام على نفسها، أم تركه القيم عليها فيها، وخالفا ما هو من الأدب إلى غيره والله أعلم. فإن قيل: الختان استقصاص، فما أنكرت أنه كقص الشارب وتقليم الأظفار، قيل له: أنه ليس مثلهما، لأن الختان إبانة عضوًا لا يؤمن أن يكون سببًا للتلف، وما كان من الإعطاء فهذه الصفة. فأما أن يكون مستحق القطع كيد السارق، ويد القاطع. وما أن يكون محرم القطع، فأما أن يجوز قطعه لا عن حق واجب فلا. ولما كان الختان بالصفة التي ذكرت وكان مأمورًا به، دل ذلك على أنه فرض لا خيار

بين فعله وتركه. وأما تقليم الظفر وقص الشارب فإنه زينة لا يخشى فيها التلف بحال فكان كإزالة الدرن عن البدن والله أعلم. وأيضا فإن الأمر بانتقاص ما لا يستخف من البدن شرعًا وتقييدًا، لا يكون إلا عرضًا كقطع السرة. وما يقرر هذا الاعتدال أن المستقصات أربعة مستخلفان: كالظفر والشعر وغير مستخلفين كالذي يقطع من السرة، وبان من الفلقة، ثم استوى حكم المستخلفين. فكذلك ينبغي أن يستوي حكم غير المستخلفين، والله أعلم. وأيضًا فإن بقيت الحشفة في الرج قد تعلقت به أحكام كثيرة نحو إيجاب الغسل، وإفساد الصوم، وإفساد الإحرام، ونفور المهر المسمى، وإيجاب غير مسمى، وتحريم الزينة، ورفع حرمة الطلاق، وإيجاب الحد في الحرام. فدل ذلك على أن الحشفة ليست عضوًا باطنًا، ولكنها عضوًا ظاهر في الحكم، فإن كل فعل يعلق من أحكام الشريعة لم يكن ما وقع به بعد ذلك الفعل باطنًا، ولكنه يكون ظاهرًا. وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الحشفة مع كونها عورة، حقها أن يستوفى غلاف يحجبها. فلو لم يكن إظهار ما يقطع، ما يواريها عنها واجبًا، للزمها حكم البطون وذلك غير جائز. فصح أنها كانت محلًا للأحكام المعلقة لأنها كالظاهرة بلزوم قطع التواري عنها، كما أن المفلس في حكم المعدوم باستحقاق الغرماء ماله. والنوم في حكم الحدث ما رجا به الإعطاء حتى يتبشر الحدث من النائم، والله أعلم. فإن قل: أليس اللسان باطنًا، وما الذي هو آلته، والحشفة عند وقوع الفعل الذي هو آلته يزداد استثمارًا، فلو لم يكن لها حال ظهور مثل ذلك، ألزمها حكم التطوع، وذلك غير جائز، ففارق بذلك حكمها حكم اللسان والله أعلم. فإن قيل: لو كان الختان واجبًا، لوجب إذًا ختن أجنبي صبيًا بغير إذن أبيه، فمات. أن لا يضمن كما لو قتل مرتدًا بغير إذن الإمام، أو قطع سارقًا بغير أمره فمات لم يضمنه. وقد قال الشافعي رضي الله عنه في الإمام: إذا أمر رجلًا أن يختن رجلًا في حر شديد أو برد شديد، فإن على عالميه الدية. وقال فيمن حد رجلًا في شدة حر أو برد فمات، لا شيء عليه. فلو كان ذلك قطعًا مستحقًا لما ضمن كما لم يضمن من مات في الحد.

فالجواب: أن الضمان لم يجب في هاتين المسألتين، لأن الختان غير فرض لا زال الضمان في باب الحد، لأنه فرض. ولكن لمعنى آخر: وهو أن من ارتد أو سرق أو حتى خيانة، فوجب حدًا، فهو الجالب للعقوبة إلى نفسه بصنعه. فإذا أقيمت عليه في أي وقت كان مكانه تولي ذلك بنفسه، فكذلك سقطت البيعة عمن أقامها عليه. والختان وإن كان فرضًا فلا صنع للصبي في وجوبه عليه وإنما هو عبادة مبتدأة، خوطب فيها وليه فيه ما دام صغيرًا وهو في نفسه إذا كبر، فلم يجز إذا تولى ذلك عليه من لا ولاية له، أن يجعل كالمباشر ذلك من نفسه، بأن كان الأشبه أن تكون العهدة على المباشر الذي كان المخاطب بالفرض غيره، فلم يجعل الأمر فيه إلى رأيه وتدبيره، لكن تولى منه ما ظهر خطأه فيه من قبل الحال، والوقت والفعل وإن قصرت نفسه عن إيجاب الضمان، فقد يصير سببًا له من قبل الوقت. ألا ترى إن وطئ الزوجة في جنبه لا يتسع لإيجاب فدية ولا كفارة، ولكن إذا وقع في إحرام أو صيام مخصوص عرضي للضمان، كما قد يعرض عدم الملك للضمان، وما ذلك إلا من قبل الوقت، فلذلك هاهنا والله أعلم. وأما كراهة تأخير الختان إلى الإيعاز، فإن التلفة تعرض الإبانة كما أن الزوال ما يحدث بعرض البينونة وليست واحة منهما الدوام، فكره أن يؤخر إبانة ما هو بغرض أن بيان بعد توخيه الأمر به إلى أن بين ما هو بعرض البينونة نفسها، وألحق ذلك بالتفريط والله أعلم. وأما أن حفظ الجواري ينبغي أن يكون أسرع، وذلك إذا أخر عن السابع بعذر من الأعذار، وعن الحادي والعشرين، فلأن الصبية كلما كانت أصغر كانت حرمة شعرها وبشرها أخف، والأمر في تكثيفها عنها أهون، وإن كان شغلًا تتولاه فيها امرأة. فإنه إذا أمكنت صبابة واحدة أن تنظر أخرى إلى فرجها بعدما كبرت، بأن تعالج منها ما تحتاج إلى مصالحة في حال الصغر، فذلك أولى من أن يؤخذ أمرها إلى أن تترعرع وتكبر ويدخل في حد من يغار ويستر. وهذا المعنى بعينه يوجب تعجيل ختان العلماء، قبل أن يترعرعوا أو يدخلوا في حد من يغار، ويؤخذ بستر نفسه إلا أن عرعرة المرأة لما كانت

أغلظ حرمة من عورة الرجل استحب تعجيل ختان الصبية أشد ما يستحب من تعجيل ختان الصبي احتياطًا بها ومبالغة في حفظها وضربها عن الكشف والله أعلم. وقد يجوز أن يكون استحباب خفض الجارية قبل الغلام، لأن الجارية أسرع كائنًا للزوج من الغلام للزوجة. فإن العادة أن بلوغها يتقدم بلوغه، والخفض فيما يقال أحد أسباب النشوء والنمو، فكان تعجيله في الجارية عن باب إعدادها للزوج، فلذلك استحب أكثر ما يستحب من تعجيل خفض الغلام والله أعلم. وأما حد الختان في الصبيان فإظهار الحشفة كلها، فإن قصر الخاتن عن ذلك عاد فقطع ما ترك، لأن الأحكام المعلقة بالحشفة متعلقة بجميعها، وإظهار ما يقطع ما يواريها أحد الأحكام المتعلقة بها. فاقتضى ذلك منها جميعًا. فأما الصبية ففيها حديث، روى عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أم عطية، إذا خفضت فاسمي ولا تهتكي، فإنه أسرى للوجه وأحظى للزوج) وإذا أفرد الختان عن الذبح، وحلق الرأس، وأخر إلى يوم آخر، استحب عنده الإطعام لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يطعم على ختان الصبيان. وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أنه ختن ابنته، فأرسلت إليه عائشة بمائة درهم فقالت: أطعم بهذا. وعن سالم بن عبد الله رضي الله عنه قال: ختنني أبي ونعيمًا، فذبح علينا كبشًا. ولقد رأيتنا وأنا لنجدل به على الغلمان إن ذبح علينا كبشًا. فإن قال قائل: ما أنكرتم أن طعام الختان مكروه، واحتج بأن عثمان بن أبي العاص دعا إلى ختان، فأبى أن يجيب، وقال: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نأتي الختان ولا ندعى له. قيل: في هذا الحديث أنه دعي إلى الختان، وليس فيه أنه دعي إلى الوليمة، فكأن القوم أرادوا أن يشهدوا الختان أن يدعوا إليه أمام الناس، فقال: لم يكن هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: روي من وجه آخر أنه دعي إلى وليمة، فقيل له: أتدري ما هذا؟ هذا ختان. فأبى أن يأكل قبل الحديث الذي ذكرت فيه الولية: قيل فيه: أنهم قالوا هذا ختان جارية، فقال: أن هذا ليس ما رأيناه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيحتمل أنه كره خفض الجارية بالإيلام عليه ولزوجه. وأما ما يكون بعد انقضاء الظفر له من التعليم والدراسة والتأديب، فإن الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا} فدخل الأولاد في قوله {أنفسكم} لأن ولد الرجل بعض منه، كما دخلوا في قوله عز وجل: {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا وأشتاتًا}. فلم يفردوا بالذكر أفراد سائر القرابات. ومن وقاية الوالد ولده النار، أن يعلمه الحلال والحرام ويجنبه المعاصي والآثام، ويقوم عليه أحسن القيام ولا يكله إلى نفسه. روى أنه قيل: يا رسول الله، كيف نقي أهلينا؟ قال: (مروهم بطاعة الله وانهوهم عن معصية الله). وهذا كلام جامع ينتظم عامة ما يحتاج إليه من هذا الباب. فأما تأديب الرحل ولده وتعليمه إياه، فقد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما تحل والد ولده أفضل من أدب حسن). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من حق الولد على الوالد: أن يحسن اسمه، ويعلمه الكتابة، ويزوجه إذا بلغ). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، يسأل الراجل منكم عن زوجته وعن ولده وعن خادمه وعمن استرعى) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه، وليكن بثلاثة أحجار). ونهى عن الروث والروثة. فلولا أن من

حق الوالد أن يعلم ولده من أمر دينه ما يجهله، لما ضرب لنفسه المثل بالوالد عندما أراده ومن التعليم. وعنه صلى الله عليه وسلم (مروهم بالصلاة ابن سبع، واضربوهم عليها ابن عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع). وإنما أراد بذلك أن لا يفتن بعضهم ببعض. فترسخ تلك الفتنة في قلوبهم فتصير ذريعة إلى أمثالها وأخوتها. وأيضًا فإن على الوالد أن يمون وله ما كان محتاجًا إلى مؤونته، لأنه لا يحيى إلا بها، فأولى أن يحمل كلفة تعليمه برثاء ذنبه، إذ كان لا ينتفع بجفائه إلا أن يكون سالمًا متأدبًا، وما يخشى من ضرر إهماله أعظم مما يخشى من ضرر حبس النفقة عنه، لأن أكثر ما في حبس النفقة عليه أن يموت، وضرر الإهمال أفظع منه، لأنه يخشى عليه أن يوره الجهل غمرات لا يخرج منها إلا إلى النار. فإذا ألزمه دفع أقل الضررين عنه، كان دفع أعظمها له ألزم. وأيضًا فإن الوالد اكتسب والولد بإجباره وهو نسمة مثله. فما لزمه من فرض في نفسه لزمه مثله في ولده. ولهذا إلزامه أن ينفق عليه كما ينفق على نفسه. وكذلك تعليمه ما لزمه أن يتعلم، ومنعه ما لزمه أن يمنع عنه نفسه ويروضه بما ينبغي أن يروض به نفسه ويرشده إلى الكسب. وتدبير المعاش، كما سيرشد غيره من ذلك إلى ما يجهله ليتوصل به إلى السعي على نفسه إذا بلغ، وإن رزقه الله تعالى جده إلا علمه وجه الأمر في إصلاحه، والقيام عليه ولم يفسده. ألا ترى أن الله عز وجل: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم}. ولو لم يكن على ولي اليتيم أن يعلمه قبل البلوغ تدبير المال بلسانه، وإحضاره المعاملات واطلاعه عليها لما قدر على ابتلائه إذا بلغ. وروى عن ابن رافع رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، للولد على الوالد حق كحقنا عليهم. قال: (نعم، حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتاب والسياحة والرمي

وأن يؤدبه صبيًا). وقال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله والدًا أعان ولده على بره) يحتمل أن يكون المعنى أن يعلمه ويهديه. فأول ذلك أن يحفظه إذا صار ممن يطعم ويشرب حتى لا يتناول إلا ما يعطى من الحلال ويجنبه الحرام أصلًا. فلا يصيبه ولا يتعهد إذا قدر على الكلام، ولا يتعلم الحياء والبذاء والفحش ولا يعودها لسانه. ويعلم الصبية الهرب من الرجال الأجانب، ويمنعها عن الدنو منهم ومكالمتهم، ويحجرها عن الاختلاط بالكوافر ومحادثتهن، وإظهار زينتها لهن. ويمنع الذكر والأنثى من ولده من مخالطة أهل الفساد من الرجال والنساء ومن يتحدث عندهم بأحاديث أهل اللهو والباطل، ويشدهم الغزل والخمريات والأشعار المحدثة التي ما يقصدها إلا التطريب وإفساد القلوب، ومن يرفقهم على الملاعب والملاهي، ويجعل بينهم وبين هذه الطبقات ردمًا، فلا يحدثون لهم بشيء من هذه الخطيئات علمًا. ومن بلغ منهم حد التعلم علمه القرآن ومن السنن والأحكام ولسان العرب ما لا يستغنى عنه. وإذا تأدب ودرى ما يسمع، سمعه النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين له. ويأمره بالصلاة ابن سبع بعد أن يعلمه إياها، والوضوء وكل ما لا تتم الصلاة إلا به. ويضربه على تركها في عشر. وإذا ارتقيا عن الظفر له لم يبرزا إلا مستوري العورة، لبسا أعلى ذلك ولا يعرفا غيره. وإذا قدر على الصيام من حيث لا يجهد فيها، ولا يضر بهما، عودهما الصيام في شهر رمضان. فيأمرهما أول مرة بصيام نحو عشرة أيام منه متفرقة، وفي السنة الثانية نحوًا من عشرين، كما يتم من متابعة أو تفريق، وفي السنة الثالثة بصيام الثلثين كله ولا يرد سائلًا عن أعينهم ليدربوا على الاتصال، ولا يردوا سائلًا إلا بنوال، ويكثر ذكر الله بمشهدهم، ويصف لهم عظمته وقدسه وملائكته ورسله، ويخص نبينا صلى الله عليه وسلم باكبار الصلاة عليه، والتعظيم له والتحدث بأخلاقه وشمائله، وكل ما يجيئه إلى من يسمعه، والبشر لآياته وبيناته بحضرتهم ليرسخ ذلك في قلوبهم، ويديم وصف ما في الجنة من ألوان النعيم. وفي النار من العذاب الأليم. ويشوقهم إلى الجنة ويحذرهم النار ليفقوا الوعد والوعيد بذلك في صدورهم.

فإذا بلغ أحدهم حد العقد عرف الباري جل جلاله إليه الدلائل التي توصل إلى معرفته من غير أن يسمعه من مقالات الملحدين شيئًا. ويذكرهم له في الجملة أحيانًا ويحذرهم آباءهم، وينفر عنهم، ويفهم إليه ما استطاع. ويبدأ بالدلائل الأقرب للأجل، ثم بما يليه، ولا يعمد أن يفاتحه بالغوامض فيعمر منها قلبه، وينفر في بدء الأمر طبعه. وكذلك يفعل بالدلائل على نبينا صلى الله عليه وسلم بهدية فيها إلى الأقرب والأوضح، ثم الذي يليه. وإن لم ينصره إلا دليل واحد على التوحيد والرسالة جاز إذا كان ذلك مقنعًا، وإذا بلغ عليه الخطاب لغته الشهادة، يكون مسلمًا بإسلام نفسه، وأعلمه أن عليه أن يولها، فإن عيله أن يتعلم أحكام الله، وينتصر بشريعته الإسلام، ويميز الحلال من الحرام، ويختار له أوفق من في البلد وأعلمهم وأنضجهم وأعلمهم بما يعلم، فيأمره أن يأخذ عنه ويتعلم منه. ومن بدأ بتعليمه القرآن من الصبيان، فإنه إذا صار ممن يميز أخذه بتعظيم مصحف القرآن، ولم يرض منه بأن يحمل فوقه كتابًا أو ثوبًا أو شيئًا ما كان، ولا أن يمسح اللوح الذي فيه برجله، أو يطرحه عليه من تراب الطريق ويأمره بأن يغسله بالماء، ويدربه على أن يرفع المصحف فوق كل شيء، ولا يرفع فوقه شيئًا، ولا يضعه حيث تسفي عليه الريح ترابًا. فإن رأى عليه غبارًا أماطه عنه. وعلمه على تعظيم المسجد وجهة القبلة، وتوقير شيوخ المسلمين وعلمائهم وصلحائهم، ويلزمه الصمت وقلة الكلام إلا ما لابد منه، وبعودة السكينة والوقار والسلام والاستئذان. ويفرق بين الصبيان إذا بلغوا عشر سنين في مضاجعهم، لئلا يفتن بعضهم ببعض، وتستحكم تلك الفتنة في قلوبهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة ابن سبع، واضربوهم عليها ابن عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) وذلك والله أعلم لما قلنا، والله أعلم. فصل ويعلم أهله ما عسى لا تعلمه من أحكام العشرة، وإن رأها مقصرة في العبادة حملها فيها على ما يخرج به عن حد التقصير وبصرها منها ما تجهله، أو أذن لها في إتيان من يبصرها

ذلك، أو أدخل عليها من ثقات الناس من يعلمها بما تحتاج إليه، أو من أمناء الرجال ولا يؤاخذها، إنما يفرط فيها من حقه، وهي لا تعلم وحرمه عليها ولتبدأ بلا تسفيف فإن لم تعمل بما تعلمت كان له عليها السبيل، ولا يضر بها إلا بعد الإعداد إليها. وإن استاء منها على ماله عرفها ما يرضيه عنها في حفظ ماله. وإن أطلق لها الإنفاق حد لها حدودًا يعملها ولا يتجاوز. وينبغي له إذا خرج من منزله أن يعهد إلى أهله أن لا يردوا سائلًا، فإن ذلك كان من آداب صالحي السلف، ويطلق لها من ذلك وهو حاضر ما يرى إطلاقه، لئلا تحتاج إلى سوء امرأته في كل وقت. وحسن أن يعلمها شيئًا من القرآن وإن كانت تجهله. ويعلمها من الدين ما أغفل أبواها أن يعلماها، ويدربها من الآداب والمروءات على ما لا يدربها عليه أبوها. ويتخوفها بالموعظة والنصيحة ويعرفها من الوعد والوعيد ونعيم الجنة وعذاب النار ما يرجو أن ينجع فيها، فإن كانت رديئة أصلحها، وإن كانت خيرة زادها خيرًا بإذن الله، وإذا كانت زوجة كتابية أخبرها عن الغسل من المحيض إن أراد الاستمتاع بها، ولا يخبرها عن الغسل من الجنابة إن لم يكن ذلك في دينها، وإن اشتهت عليه خمرًا أو خنزيرًا فلا يجبها إليه. فإن أرادت أن يدخلها داره فليجعل بينها وبين ذلك من قبل أنه لا يراهما حلالًا، ولكن من قبل أن الخمر يسلب غيرها فلا يؤمن منه الأمة. وقليلها يدعو إلى الكثير. والخنزير نجس فلا يأمن من أن يعدو نجاسة إلى كثير من الآلات ومتاع البيت، ويقصر في إماطتها، لأنها ظاهرة عندها، أو يتعمد تركها. فإن علم أنها شربت خمرًا أو أكلت لحم خنزير، أمرها أن تتطهر منها بما جعلت طهارة لهما، وأخبرها على ذلك. وجاء في الإحسان إلى الأهل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفقة الرجل على أهله صدقة) يحتمل أن يكون أراد بذلك ما يوسعه على أهله، وراء الواجب لهن عليه. ويحتمل أن يكون الواجب أيضًا صدقة لأنه ينفق على الأهل للتعفف بهن، ويمسكها رجاء أن يكون له ولدي يعبد الله في الأرض، وهذا بر وقربة. وقال عليه السلام: (أفضل الدينار، دينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله). فبدأ بالعيال والله أعلم.

فصل وإذا ملك عبدًا أو جارية، فليسأله عن دينه. فإن كان أعجميًا اقتصر منه على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل الأعجمية: أين الله؟ فأشارت إلى السماء. فسألها: من أنا؟ فأشارت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقضى بإيمانها. لأن الله عز وجل وصف نفسه بأنه في السماء، فقال: {أم أمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض، فإذا هي تمور. أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا}. وعادة المسلمين إذا دعوا أن يرفعوا رؤوسهم وأيديهم إلى السماء من غير أن يعتقدوا أنه شاغل لها أو لشيء منها، أو محصور بها. كما أن عادتهم إذا صلوا أن يستقبلوا الكعبة من غير أن يعتقدوا أنه فيها أو في جهتها، كما يكون الجسم من مكان أو جهة. فإذا كان المملوك أعجميًا اكتفى في الاستدلال على إيمانه بوجود الأمارات منه، ولم يطلب منه ما يطلب من أصل الكلام والجدل. فإن سأله فصرح بالكفر نظر فإن كان وثنيًا أجبره على الإسلام، وإن كان كتابيًا دعاه إليه بلا إجبار. وإنما ذكرت هذه المسألة رواية في الأمة الوثنية. فقد يجوز أن يكون فيها خاصة دون العبد. لأنه لا يمكن سيدها الاستمتاع بها مع وثنيتها، فيجبر بها على الإسلام، ليتمكن من الاستمتاع، كما يجبر الرجل امرأته الذمية على الغسل من الحيض لتهيأ له مباشرتها. والعبد مفارق ذلك للامة، أن توثنه لا يمنع سيده من الاستمتاع به في شيء. والخبر في هذا لا يعدو الضرب إلى عقوبة فوقه. فإن سئل الأعجمي: أين الله وهو تركي، فأشار إلى السماء، لم يدلك على إيمانه. لأن أكثر الأتراك يرون آلهتهم السماء نفسها. وإنما تقبل هذه الإشارة مكان العبارة عن بعض أسماء الله عز وجل، ممن لا يرى أن السماء آلهة. فإن كانت المشيرة إلى السماء تركية لم يجز لسيدها أن يقربها حتى تسلم، ويجبرها عليه بما دون القتل حتى تقر بالحق. فإن أسلم الأعجمي أو غير الأعجمي فليعلمه من القرآن وما يحتاج إليه لوضوئه وصلاته وصيامه من العلم ما لابد له منه. وليحمله على آداب الدين وسبل المسلمين، ويجنبه قرناء السوء، خصوصًا من أهل دينه الذي أنزل عنه.

ومن رفقائه الذين كانوا له قبل أن يستحكم في الإسلام بينهم. ويعرف ذلك بالأمارات الموثوق بها منهم، ويعرفه من الحلال والحرام ما لا غناء به عن معرفته. ثم لا يقتصر على ما علمه حق يجنبه الحرام، كما يحمي المريض ما يضره ويطلق له من الحلال ما يرى إطلاقه له. ويعلمه ما لم يعلمه، ولم يكن في العادات أن يحسن مثله بلا إرشاد ولا تعليم. ولا يكلف العبد النفسي العمل الخسيس الذي يستنكف من مثله، فيحمله ذلك على الاستعصاء. فلا العبد الذي لو صنع العمل الرفيع فيحمله ذلك على التفحم والاستعلاء فإن ذلك من باب الضرر والفساد. وإذا علم من مملوكه رداءة الطبع، وضعه نفس. ثم أبى ما يوجب التأدب ما يؤدبه غير مسرف عليه. وإن كان في رداءة طبعه عظم النفس أو مبهورًا فليتجاف عنه ما أمكنه. فإن طال ذلك وكثر، وكان يكرهه، فليبيعه. ومن علم منهم أن السوء ينتج والملامة تكفيانه فلا يتجاوزهما إلى غيرهما والله أعلم. * * *

الحادي والستون من شعب الإيمان وهو باب في مقاربة أهل الدين وموادتهم وإفشاء السلام

الحادي والستون من شعب الإيمان وهو باب في مقاربة أهل الدين وموادتهم وإفشاء السلام جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام). وقوله صلى الله عليه وسلم (أفشوا السلام) يحتمل معنيين: أحدهما أظهروه ولا تسره لأنه من آداب الدين وتمائم أدبه الإكرام والتحية، فإذا لم يكن في أسراره عرض صحيح فالجهد والإعلان أولى به وأشبه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما حسدتنا اليهود على شيء كما حسدتنا على السلام والتأمين). وفي هذا دليل على أن السلام كان يغش في ذلك الوقت، ولذلك حسدت اليهود عليه لما سمعته ولشدة غيظهم، كادت نفوسهم لا تسمح للنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا عله فكانوا يعدلون عنه إلى ما توهمه ولا يكون به. فينبغي للمسلمين أن يخالفوهم بالثبات عليه، وإعلانه وإفشائه، ليكتوا بحسدهم ويموتوا بغيظهم إن شاء الله تعالى. والمعنى الآخر أن لا يخص المسلم بسلامه واحدًا من جماعة يمر بهم، أو يدخل عليهم لمعرفة أو قرابة أو جوار، أو سببًا ما كان. ولكنه يسلم على الجميع وهذا من قولهم للحديث السابع المستفيض، هذا فاشي في الناس مكانه، قال: (أفشوا السلام وذروا فيه الخصوص إلى العموم. وهذا- والله أعلم- لأن الواحد من الجماعة إن كان بينه وبين المسلم سبب خاص فإن بينهم وبين من السبب العام ما هو أعظم وأرفع قدرًا وألزم حقًا من ذلك السبب الخاص، وهو اتفاق الدين. فإذا سلم على الواحد لما بينه وبينه من السبب، وجب أن يسلم على الجميع لما بينه وبينهم مما هو أعظم من ذلك السبب والله أعلم.

ومما يدخل في هذا الباب تسليم الناس بعضهم على بعض عند الدخول عليهم، وقد ورد بذلك القرآن، ورويت فيه وفي آدابه وأحواله أخبار. قال الله تعالى: {لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}. فيحتمل معنى تستأنسوا: تستبصروا التي يكون دخولكم على بصيرة، فلا يوافق دخولكم الدار حالًا يكره صاحبها أن تطلعوا عليها. وهذا كقوله عز وجل في خبر الفاسق: {فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة}. أي لا تعتمدوا خبر الفاسق، واطلبوا البيان من وجه آخر، لئلا تصيبوا قومًا بجهالة فتندموا. ثم جاء عن قتادة وعكرمة في قوله عز وجل {تستأنسوا} بأن تسلموا على أهلها. وبهذا جاء الخبر. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار سعد بن عبادة، فقال: السلام عليكم، فرد سعد السلام، خافضًا به صوته. فقال قيس بن سعد أيأذن له رسول الله فقال: (دعه يكثر علينا من السلام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم، فرد سعد خافضًا صوته، ولكني أحببت أن يكثر علينا من السلام فرجع معه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل فاغتسل، ثم أتى بملحفة مصبوغة بورس وزعفران، فاشتمل بها، ورفع يديه فقال: (اللهم اجعل صلواتك وبركاتك على آل سعد بن عبادة). وذكر الحديث، وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم كان سلم ثلاثًا ثم انصرف. ويروى أن أعرابيًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأذن أهل البيت مرة فليسلم. فسمعه الأعرابي فسلم، فأذن له). وروى أن امرأة يقال لها ريحانة قالت: قمت على باب عمر رضي الله عنه، فقلت: ادخل. فأذن لها بعض أهل البيت. فلما رآني عمر رضي الله عنه قال: ارجعي، فقولي: السلام عليكم، وإذا قالوا: وعليكم، فقولي: ادخل. فهذا على أن صاحب الدار إن رد السلام وقال: ادخل، استغنى عن استئذان آخر وإن اقتصر على الرد احتيج إلى استئذان بعده. ومن أتى باب

قوم فليسلم، فإن أذن له فليدخل، وإن صرف فلينصرف، وإن لم يجب فليسلم ثلاثًا، فإن لم يؤذن له فلينصرف، فلا يرد على ثلاث، هذا هو السنة. روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وأبو موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استأذن ثلاثًا ولم يؤذن له فليرجع). وعن أبي موسى الشعري رضي الله عنه قال: استأذنت على عمر رضي الله عنه ثلاثًا، فلم يأذن لي فرجعت. فلما رجعت بعث في أثري، فقال: ما الذي ردك؟ فقلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع). وعن يزيد بن أسلم رضي الله عنه قال: جئت ابن عمر رضي الله عنهما، فقتل: ادخل وأنا حينئذ غلام أعرابي، فنشأت مع أبي بالبادية في ماشية، فكأنه عرف صوتي، فنال: ادخل: فقال: يا ابن أخي، إذا جئت فوقفت على الباب فقل: السلام عليكم. فإذا ردوا: عليك السلام. فقل: أدخل. فإن أذنوا لك فادخل وإلا فارجع. فإن كان الذي يريد الدخول ضريرًا، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد جعل الاستئذان من أجل البصر) وهذا يدل على أن لم يكن له بصر يبقى، فلا حاجة به إلى الاستئذان. وهذا إذا كان دخوله على رجل فإن أراد الدخول على امرأة، فهو والبصير سواء. دخل ابن أبي مكتوم رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بعدما وضع الحجاب، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفعميا بأن أنتما ألستما تبصرانه). وإذا دعا رجل رجلين يا رسول الله، فجاء فله أن يدخل من غير استئذان. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رسول الرجل أذنه) وعن عبد الله قال: إذا دعوت الرجل فقد أذنت له. والاستئذان مع هذا أحسن، لأن الأحوال قد تتغير. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحق أهل الصفة، فادعهم إلي. فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم فدخلوا) وإن حضر على الباب جماعة، فإنه

يروى عن الحسن رضي الله عنه أنه قال: إذا جاء قوم فاستأذن رجل منهم، فقد أذن لهم. وهذا على أن المستأذن قال: يدخل. فقال: نعم، إذا قال ادخلوا. فأما إذا قال: ادخل. فقال: أدخل لم يكن ذلك إذنًا للآخر والله أعلم. وإذا حضر المسلم باب ذي عهد، فقد روى عن الحسن أنه يقول: أأدخل. وأما بعد الدخول، فقد روي عن قتادة رضي الله عنه أنه يقال: السلام على من اتبع الهدى. وقال ابن عوف: قلت لمحمد يعني ابن سيرين-: كيف تقول إذا دخلت على أهل الكتاب؟ فسكت، ثم قال: إن شئت قلت: السلام على من اتبع الهدى. والأصل في أن المسلم لا يدخل دار المعاهد إلا بإذن، ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت المعاهدين إلا بإذن). وإذا استأذن الرجل على قوم فقيل: من هذا؟ فيذكر ما يعرف به، ولا يقل: أنا فإن قولة أنا لا تعرفه. وروى عن جابر رضي الله عنه قال: استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فقال: (من هذا؟ فقلت: أنا فقال: أنا أنا) فكأنه كره ذلك. وروى عن بعض السلف أنه قال: إن قال: أنا أنا والدق واحد. وأما من يدخل بيته فإن الزهري وقتادة قالا في قول الله عز وجل {فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم} قال: إذا دخلت على أهلك فسلك، فقل: السلام عليكم تحية من عند الله مباركة طيبة. فإن لم يكن في البيت أحد: فقل: السلام علينا من ربنا. وقال إبراهيم في قوله عز وجل: {فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم} قال: إذا دخلتم بيتًا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان يقول ذلك إذا دخل بيتًا ليس فيه أحد. وقال جابر بن عبد الله رضي الله: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة. ومن دخل المسجد فإنه يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم} قال: هو المسجد إذا دخلته، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وعن إبراهيم قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله.

ومما جاء في إفشاء السلام وفضله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام). وقال مجاهد في قوله عز وجل {ادفع بالتي هي أحسن} قال: يقول: السلام عليكم. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: السلام أمان من الله في الأرض. وقال معاذ رحمه الله: ما من مسلمين يلتقيان، يسلم كل واحد مهما على صاحبه ويأخذه بيده، إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن السلام اسم من أسماء الله فأفشوه بينكم، فإن الرجل إذا سلم على الرجل كتبت له عشر حسنات، فإن رد عليه كتبت له مثلها. وكان للبادئ درجة. فإن سلم على قوم جميعًا فردوا عليه، كتبت لكل رجل منهم عشر حسنات، فإن ردوا عليه، وإلا رد من هو خير منهم. قال أبو هريرة رضي الله عنه: إذا سلم الرجل على قوم فلم يردوا عليه ردته الملائكة. وقال الحسن: السلام تطوع والرد فرض. وفي من أحق بالسلام: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث متفرقة، يسلم الفارس على الماشي، والماشي على القائم، والأقل على الأكثر. وصاحب البعير على صاحب الحمار، فمن أجاب السلام كان له، ومن لم يجب فلا شيء له. وفي فضل من يبدأ بالسلام: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدأ بالسلام فهو أولى بالله ورسوله). وروى أن ابن عمر رضي الله عنهما، كان قل ما يسبقه أحد بالسلام، وكان إذا رد قال مثل ما قال الرجل: السلام عليكم. وفي تخصيص الواحد من الجماعة السلام: قال خرج ابن مسعود رضي الله عنه في رجال، فلقي رجلًا فسلم على ابن مسعود. فقال ابن مسعود: أن من أشراط الساعة أن يجني على المعرفة، وهو الرجل في المسجد لا يركع لله فيه ركعة، ويتطاول العراة الحفاة دعاء الشاة في بيوت، ويسبوا الشيخ وتداس الخافقين للغلام.

وفي الراكب والماشي إذا التقيا: فلا ينبغي الماشي أن يبدأ الراكب بالسلام، ولا القاعد على المار، لما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر على عثمان وهو جالس، فبدأه عثمان بالسلام، فقال له عمر: يا أبا عمر، ولم تنكس السنة، أنا كنت أحق أن أسلم عليك، إنما يسلم المار على الممرور عليه. فإن بخل الراكب فالماشي بالخفاء. فقد روي عن الحسن رضي الله عنه أن رجلًا سأله فقال: يمر بي الراكب فلا يسلم علي، أأسلم عليه؟ قال: نعم، إن بخل بالسلام فسلم عليه، وعن الشعبي رضي الله عنه أنه لقي راكبًا فسلم عليه. وقال: إن شريحًا كان يفعل ذلك في السلام على قرب العهد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون، فتحول بينهم الشجرة، فإذا التقيا سلم أحدهما على صاحبه. في الأسماع قال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا سلمت فأسمع فإنها تحية من عند الله مباركة طيبة. في التخصيص: كان ابن سيرين رضي الله عنه يكره أن يقول: السلام عليك حتى يقول: السلام عليكم. ورأى عبد المؤمن العبدي رجلًا مع مسلم بن يسار، فقال: السلام عليك. فنهاه مسلم عن ذلك. فقال: إني عرفته. فقال مسلم: ليس في نفسي أن معه حفظة ولكن قل: السلام عليكم. وقال إبراهيم: إذا سلمت فلا تخص، وإذا رددت فلا تخص، وإذا سمعت فلا تخص. في كيفية السلام وكيفية الرد: روى أبو تميمة العجيمي عن رجل من قومه قال: طلبت النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يصلح بين قوم، فلما قام معه بعضهم فقال: يا رسول الله، فلما رأيت ذلك، قلت: عليك السلام يا رسول الله ثلاثًا. فقال: (إن عليك السلام تحية الميت، إن عليك السلام تحية الميت، إن عليك السلام تحية الميت. ثم أقبل علي فقال: وعليك ورحمة الله، وعليك ورحمة الله). وقال عطاء: قام علينا ابن عباس، فسلم علينا، فقلت: وعليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته. فقال: من هذا؟ فقال: عطاء بن أبي رباح. قال فأتاه إلى مكانه، ثم تلا: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، إنه حميد مجيد}.

في الجماعة إذا سلم أحدهم أو رد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير. وإذا مر بقوم فسلم منهم واحد أجزى عنهم، وإذا رد من الآخرين واحد منهم أجزى عنهم). في موقف المسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن عبادة- رضي الله عنه وقد استأذن مستقبل الباب: (لا تستأذن وأنت مستقبل الباب) وأمره أن يستأذن وهو غير مستقبل الباب. في السلام عند الخروج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلتم بيتًا فسلموا على أهله، وإذا خرجتم فادعوا أهله السلام). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس. وإن قام عنهم فليسلم الأولى بأوجب من الآخرة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (من قصد فليسلم، من قام فليسلم. ثم قام رجل ولم يسلم، فقال له رسول الله: ما أسرع ما نسي هذا). في التسليم على المشرك والرد عليهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إني راكب غدًا إلى يهود، فلا تبدأوهم بالسلام، فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم). روى الحديث أبو نصرة العفاري. وقال أنس رضي الله عنه: نهينا، أو أمرنا أن لا نزيد أهل الكتاب على عليكم في مقابلة أهل الكتاب. قال عمر رضي الله عنه: سموهم ولا تكنوهم، وأذلوهم ولا تظلموهم- يعني أهل العهد-. في رد السلام على المشرك إذا عرف إسلامه: قال أبو بردة: كتب رجل من المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب في أسفل كتابه: سلام عليك فأمر النبي الكاتب أن يرد عليه السلام في الكتاب.

كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر: (السلام على من اتبع الهدى) وبذلك جاء القرآن في استرجاع السلام. قال: سلم ابن عمر رضي الله عنهما على رجل فقالوا: إنه كافر. فقال: رد لي ما سلمت عليك: قال: فرد عليه فقال: أكثر الله مالك. والتفت إلى أصحابه فقال: هو أكثر المحرمة مع استرجاع السلام إن أسلم عليه فإذا قال: رددت إسلامك، لم يستجب فيه سلام المسلم. فإن رجلًا لو قال لآخر: غفر الله لك فقال: لا أريد دعاءك. أو قال: لا غفر الله لي بدعائك، أو لا أجاب الله دعاءك. لم ينتفع بدعاء من دعا له كما لو دعا لنفسه بخير ثم كرهه، فقال: اللهم لا تفعل ذلك بي. أو اللهم اردد دعائي. أو قال: رجعت في دعائي. لم ينتفع بما قدم من الدعاء، فيصير المسلم كأن لم يسلم حين يطلب على من سلم عليه فائدة دعائه. وإن استرجع المسلم سلامه فلم يرجعه المسلم عليه وضربه فله ذلك. لأنه يرجو خيره وبركته. وفي الرد جزاؤه على الله. فلا يجبر أحد عليها. وإن رجع المسلم من سلامه من غير أن يسترجعه من المسلم عليه، وقد تعمد السلام عليه لم يبطل بذلك سلامة وإن كان سلم عليه غلطًا فرجع في سلامه بطل سلامه. وإنما قال ابن عمر رضي الله عنهما للكافر الذي سلم عليه ولم يعرفه أردد سلامي. ليصغره بذلك كما أكرمه وأعزه بالسلام أولًا. لأن سلامه عليه كن لا يبطل باعتذاره إلى الله تعالى من ابتدائه بالسلام، وسؤاله أن لا يسلم عليه ولا يجيبه، والله أعلم. وفي التسليم على النساء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يومًا وعصبة من النساء قعود، فأومأ يده إليهن بالسلام. ومعنى هذا- والله أعلم- أنه سلم عليهن إشارة ولم يتكلم. ولعل ذلك ليرددن إشارة، ولا يتكلمن في المسجد، فتسمع أصواتهن. ورأى عطاء وقتادة: التسليم على القواعد دون الشواب. وسئل الحسن رضي الله عنه عن ذلك فقال: طأطئ برأسك وامضه. فأما المحارم فإنهم يسلمون، وليس التسليم عليهن بأكثر من الخلوة بهن. فقد يحتمل أن يقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى الفتنة، فلذلك سلم عليهن كما قيل وهو صائم، فقالت عائشة رضي الله عنها كان أملككم لأدائه، فمن وثق من

نفسه بالتماسك فليسلم، ومن لم يأمن نفسه فلا يسلم، فإن الحديث ربما جر بعضه بعضًا والصمت أسلم. وفي التسليم على الصبيان: قال أنس رضي الله عنه: مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن صبيان نلعب فسلم علينا، فدعاني فأرسلني لحاجة. وعن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم. وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبيان فسلم عليهم وهو معه. وكان ابن عمر يخرج إلى السوق فلا يمر بصغير ولا كبير إلا سلم عليه: السلام عليكم السلام عليكم. متى يسلم صاحب المجلس إذا دخل، قال: كان أبو قتادة رضي الله عنه لا يسلم حتى يدنو مجلسه الذي يجلس فيه ويقول: ذكر لي أن الرجل إذا سلم ثم جلس استغفرت له الملائكة أو قال: صلت عليه الملائكة، ثم يقول أو يحدث. وإذا أرسل رجل إلى رجل سلامه فعليه أن يرده كما يرد عليه إذا ساقه. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (هذا جبريل يقرأ عليك السلام، فقالت: عليك وعليه السلام ورحمة الله وبركاته) وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي يقرئك السلام، فقال: (عليك وعلى أبيك السلام). والسلام على الأمير، أن يقال له: السلام عليك أيها الأمير وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا رسول الله. وإذا سقط التعميم، ها هنا الحاجة إلى الاعتراف للمسلم عليه بحاله ومكانته، وهي للنبي صلى الله عليه وسلم الرسالة. ولولاة الأمر من بعده الإمارة. وإذا قال الرجل لأخيه: حياك الله، فإن قاله في غير موضع السلام فلا بأس، فكأنه قال له: عمرك الله، وأبقاك الله. وإن قاله في موضع السلام فليقل حياك الله بالسلام. فإن الله عز وجل قال فيما ذم به الكفار: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله}. أي أن الله حياك بالسلام وهم يقولون غيره. وجاء عن الشعبي رضي الله عنه أنه كثير ما كان يقول للذين يأتونه: حياك الله بالسلام. وإذا دخل على رجل فلا يريدن منه القيام له من مقامه حتى إن لم يفعل خبر عليه أو شكاه أو عاتبه. فإنه يروى عن عبادة بن

الصامت قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق- يعني ابن أبي سلول- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يقام لي إنما يقام لله) يحتمل أن يكون أراد قول الله عز وجل {يوم يقوم الناس لرب العالمين} وقيام المسلمين لله عز وجل في الصلاة. ويحتمل أن يكون لم ينكر القيام، وإنما أنكر غرضهم، أي إذا قمتم إلى تريدون حكم الله، فلا تستشعرون أن قيامكم إلي، واعلموا أن قيامكم إلى الله تعالى إذ كان حكمه هو الذي تبغون وأنه لأجله تقومون. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم على رؤوس أكاسرتها). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يقوم له الرجال صفوفًا فليتبوأ مقعده من النار). وجاء عن أصحابه قال: لم يكن وجه أكرم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا يقومون إذا رأوا إلى ما يعرفونه من كراهته. في أهل الخيام والحوانيت: قال ابن عون: كنا مع مجاهد بالكوفة، فإذا خيام متقابلة، فقال: كان ابن عمر رضي الله عنهما يستأذن في مثل هذه يقول: السلام عليكم، ألج، ثم يلج. كما هو قبل أن يؤذن له. ويحتمل أنه كان يستأذن استطابة لنفس صاحب الخيمة التاجر، ولو رأى أن عليه استئذانًا لمريض حتى يؤذن له. وقال الشعبي رحمه الله، إذا فتح بابه وأخرج بره فقد أذن لك. وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يلج طلال أهل السوق حتى يستأذن وهذا جعل السوق بمنزلة البيت لأهله، إذا لم يكن فيها ممر. فإن كان فيها ممر فهي كسائر الطرق. ولا معنى فيها للاستئذان والله أعلم. ومن وجوه المقاربة والمواصلة: إطعام الطعام، وهو مذكور في الحديث الذي رويناه، وذلك يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المراد به الضيافة، كان الموسعون

يدنون إلى أن لا ينفردوا بالطعام، بل يجتمعون عليه في أكثر الأوقات، لأن ذلك في جميعها لعلة لا يعرف ويتعذر، فإنهم إذا فعلوا ذلك تحابوا وتآلفوا وفعلت قلوبهم من الأمن وكانوا لنفس واحدة. فإن جرت الدعوة بهم لم يتفرقوا ولم يخذل بعضهم بعضًا، وكانوا يدًا واحدة على استقبال الأمر فيه بواحدة. وهذا أعظم الفوائد، فما دعا إليه وحرك عليه حرض أن يكون مستحبًا، والنوب إليه واقعًا، والله أعلم. والوجه الآخر أن يكون المراد به إطعام المجاويع من أهل الملة، والبدأة فيه بذي القربى. قال الله عز وجل: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسبغة، يتيمًا ذا مقربة أو مسكينًا ذا متربة}. وأثنى جل ثناؤه على أقوام آثروا على أنفسهم غيرهم بطعامهم، وهم محتاجون إليه. فقال: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. إنما نطعمه لوجه الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا. إنا نخاف من ربنا يومًا عبوسًا قمطريرًا}. ثم أخبر عز وجل أنه قبل منهم ما تقربوا به إليه. وأمنهم بما خافوه، فقال: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرًا} الآيات إلى آخرها. فدل ذلك على فضل الإطعام لوجه الله تعالى. ويدل عليه أيضًا أن الله تعالى جعله كفارة وفدية للنفوس وعدله بتحرير الرقبة التي جاء الخبر فيه، بأن من أعتق النسمة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه (من) النار. فقال في كفار اليمين: فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة. وإقامة في سائر الكفارات مقام الصيام الذي هو بدل العتق، وشرع في زكاة الفطر الإطعام. وأقام الإطعام لمن لا يستطيع صيام شهر رمضان مقام الصيام، فدل ذلك على أنه من أعلى ما يتقرب به إلى الله عز وجل. وفي الباب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان) وبالله التوفيق. ويدخل في هذا الباب ما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: إذا قرب إليك المسلم طعامًا فكله ولا تسأله عنه. وإذا قرب إليك شرابًا فاشربه ولا تسأله عنه.

وفي مقاربة أهل الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطعموا الطعام وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله). ومما جاء في تواصل المسلمين قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتبارهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء تداعى له الجسد بالسهر والحمى). ومما جاء في مقاربة أهل الدين قول ابن عمر رضي الله عنهما: ليست المعرفة أن تعرف وجه أخيك، ولكن المعرفة أن تعرفه واسمه واسم أبيه ومنزله، فإن مرض عدته، وإن غاب سلمت عليه، وإن مات مشيت مع جنازته. وفي مقاربة أهل الدين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: (تطعم الطعام وتقرأ السلام من عرفت ومن لم تعرف). وقيل في مقاربة أهل الملة، عن محمد بن علي قال: ألقيت لعلي رضي الله عنه وسادة فجلس عليها وقال: لا تأتي الكرامة إلا الخمار. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم القوم، فأوسع له أخوه فليقعد، فإنها كرامة أكرمه الله بها). ولا ينبغي لأحد أن يجلس وسط الحلقة، فإن أبا مخلد روى أن رجلًا قد وسط الحلقة، فقال حذيفة رضي الله عنه: ملعون على لسان محمد، أو لعن الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم من قعد وسط الحلقة. * * *

الثاني والستون من شعب الإيمان وهو باب في رد السلام

الثاني والستون من شعب الإيمان وهو باب في رد السلام قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون. فإن لم تجدوا فيها أحدًا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا، فارجعوا هو أزكى لكم} فأبان عز وجل أنه أمر به لأنه أفضل. وقال: {فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة}. يعني يسلم بعضكم على بعض، فمن سلم فإنما يتأدب بأدب الله تعالى، وحبى إخوانه المسلمين بما أمره الله تعالى أن يحثهم به. ثم أنه عز وجل قال في الود: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}. فأمر أن يقال التحيي بأحسن من تحية. وليس معنى ردوها، إسقاطها عن نفسه، وإعادتها إليه كمن يهدى إليه شيء فلا يقبله ويرده. وإنما معناه أن يدعوا له مثل ما دعا، فيقول: وعليكم السلام. وهذا في الرد على المؤمنين. فأما الكافر يسلم على المسلم. فإنه يقول له: عليكم ولا يزيد لأنه لا يأمن، لعل سلامه كان مدلسًا. فقد كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: عليكم، فوهم إنها تقول: السلام فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فلا زيد أن يقول: عليكم. والمعنى: عليكم ما تقولون. فأما المؤمن يقال له: وعليكم فالمعنى: علينا سلامكم وعليكم سلامنا.

وأما للزيادة في رد السلام: فهي أن المسلم إذا قال: السلام عليكم. قيل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وهذا حد السلام ورده في الشريعة. قال علي رضي الله عنه: دخلت المسجد: فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عصبة من أصحابه فقلت: السلام عليكم. قال: (وعليك السلام ورحمة الله عشرون لي، وعشر لك. قال: فدخلت الثانية، فقلت: السلام عليكم ورحمة الله. فقال: وعليك ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وعشرون لك. فدخلت الثالثة، فقتل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثلاثون لي وثلاثون لك، أنا وأنت في السلام سواء. ثم قال: من مر على مجلس فسلم عليهم كتب الله له عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات). فأبان أن الابتداء بالسلام فضيلة، فأما الرد ففرض، فما ذكرت، ولقول الله عز وجل: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}. فإذا كان السلام إحسانًا كان جزاؤه الرد كما ثبت. وجاء في السلام، عن اليهود أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دخلوا عليه: السأم عليك، فسمعت ذلك عائشة رضي الله عنها فقال: عليكم السامة واللعنة يا إخوان القردة والخنازير. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مهلا يا عائشة، متى رأيتني فحاشًا فقالت: ألم تسمع هذا، إنهم إذا دخلوا عليك، فقال. ألم تسمعي قلت: عليكم). فهذا رفق النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه واحتماله الأذى في ذات الله عز وجل بتوفيقه. فإن سلم يهودي على مسلم فقال له: عليكم السلام أو عليكما أو عليك، فلا شيء عليه إن عرف منه أنه أحسن السلام عليه، وإن لم يكن تحقق سلامه، فقد أساء إلى نفسه من وجهين: أحدهما مخالفة نبيه صلى الله عليه وسلم ومفارقته أذنه، والأخذ بتركه، للاحتياط والنظر إلى نفسه، فإنه لا يدري أن الذي خاطبه كيف دعا، وبماذا دعا له. وإنما أمرنا أن نقول لليهودي، إذا تحقق سلامه: عليكم السلام. لأن لذلك وجهًا وهو أن يجزيه بأن يدعو له بالسلامة في ماله وصغار ولده، إن كان حربيًا، أو بالسلامة له في نفسه من آفات الدنيا

إن كان ذميًا. وله أن يدعوا له بالسلامة على معنى أن يؤمن فيسلم كما كتب الله تعالى للمؤمنين السلامة منه، ويكون قوله عليكم السلام، كقوله له هداك الله. ولا ينبغي للمؤمن أن يبدأ كافرًا بالتسليم عليه، لأن التسليم تحية، والتحية تعظيم. ولا ينبغي للمسلم أن يعظم كافرًا، فإنه بقدر ما يرفعه تعظيمه إياه يضع من نفسه إذ ليس من يعظمه مستحقًا للتعظيم. وإذا دخل رجل على قوم، فكلمهم ولم يسلم عليهم، فإن وجدوا من إجابته بدًا فينبغي لهم أن لا يجيبوه لأنه استخف بهم بأن منعهم حقهم من السلام الذي سن لهم أن يبدأهم به، فأقل ما يستحقه أن يستخفوا به بأن يمنعوه جواب كلامه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) وهذا يحتمل وجهين: لا تجيبوه عن كلامه الذي بدأ به. والآخر لا تجيبوه عن سلامه الذي قدم الكلام عليه. فيكون هذا إسقاطًا لفرض الرد إذا قدم على السلام كلام من غير جنسه. فإن كان هذا هو المعنى، فوجهه أن السلام تحية اللقاء، فإذا كان اللقاء وتبعه خطاب بكلام سوى السلام، فقد انقضى وقت السلام. فإذا وجد بعد، فإنما وجد في غيره وقته، فلا يقع موقع التحية، ولا يجب الرد والله أعلم. فإن عرض له ما يعجله ويدعوه إلى القيام، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان في مجلس يرجو فيه- يعني خيرًا- فأعجلته حاجة فقام إليها، فليسلم على القوم، فإنهم شريكه فيما أصابوا من خير بعده، فقام رجل فلم يسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، ما أسرع ما نسي هذا). والسلام في هذا الحال ليس بتحية، إنما هو دعاء لهم بالسلامة بعده. فإن كانت لهم السلامة، فقد أصابوا خيرًا، وكان لأجل دعائه الذي دعا لهم في ذلك الخير. فأما السلام لأجل التحية وإكرام الوجه عند اللقاء عن أن يسكت ولا يحيا، فلا يكون إلا عند الدخول. ولا ينكر أن يكون السلام كلامًا واحدًا لم يختلف حكمه لأجل اختلاف الحال، ألا ترى أن السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند لقائه كان يكون تحية لوجهه إذا رأوه، وتكريمًا له، وفي الصلاة دعاء له لا تحية لأنهم يسلموا عليه، وهو لا يسمع سلامهم. ومثل

هذا لا يكون تحية، فكذلك السلام عند الدخول على القوم تحية، وعند القيام إذا أعجلت الحاجة إليه دعاء غير تحية، والله أعلم. فإن كان التسليم على جماعة كان الرد عليهم واجبًا، إلا أن أحدهم إن رد سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يرد عليه أحد منهم، فالكل حرجون. ولا ينبغي إذا بدأ رجل رجلًا بالسلام أن يقول له: عليك السلام، لكن يقول: السلام عليكم، فيبدأ بذكر السلام. فقد جاء في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له في شعر أنشده: عليك السلام أبا القاسم. فقال له: (عليك السلام تحية الموتى). فاجتمع في هذا شيئان: أحدهما أن الأحياء لا يسلم عليهم هكذا، بل يقال لهم: السلام عليكم. والآخر: أن من حضر أجودهم يجود بنفسه فله إذا قاظ أن يقول له: عليك السلام على سبيل التوديع له ليفارق، سلام الوداع سلام التحية. وينبغي للمسلم إذا سلم أن يجمع ولا يفرد، وإن كان المسلم عليه واحدًا فيقول: السلام عليك، لأن مع السلام عليه ملكين فلا يخصه دونهما بالسلام. ويقول الراد: وعليكم السلام، لأنه يريده، وملكيه. فإن قال المبتدئ: السلام عليك بحصر، فقال الراد وعليكم السلام، لأنه يريد وملكيه، يمنعه أفراد المبتدئ من الجمع. وإن قال المبتدئ: السلام عليكم بجمع، فقال الراد: وعليك السلام. فهذا له وجه، لنه يحمل المسلم في جواب الملكين عليهما. وهذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه، وقد قال له: السلام عليكم، وعليك السلام، وكذلك في الثانية والثالثة والله أعلم. فإن قال قائل: لم يكن رد السلام فرضًا، وإن كان تحية وبرًا. فقد أجمع المسلمون على أن من أهدى إلى مسلم هدية فقبلها لم يكن فرضًا عليه أن يجزيه بها خيرًا منها ولا مثلها. وإن كان يستحب له أن يجزى، فلم لا كان رد السلام كذلك. قيل: لأن الأصل في السلام أنه كان إيمان، فإذا دعا الآخر بالسلامة، فقد أعلمه من نفسه أنه لا يريد به شرًا، والأمان لا يتفرق حكمه بين اثنين. فإن كل اثنين كان أحدهما آمنًا من الآخر. فواجب أن

يكون الآخر آمناً منه. فلا يجوز إذا سلم واحد على الآخر أن يسكت عنه فيكون قد أخافه وأوهبه الشر من نفسه. ولذلك وجب عليه الرد، وليس هذا في الهدية هكذا، لأنها للألفة واستجلاب المودة. وفي تعجيل المثوبة، دليل على التضجر والميل إلى إبطال ما عسى أن يتوهم وجوبه من النية. فكان ذلك بالكراهية أولى منه بالوجوب والله أعلم. فأما رد مثلها أو خير منها في وقت آخر مستحب، ولكنه لا تجب الآن الأولى كانت لاستجلاب المودة، وقد حصل ذلك حكم العادة، مضار الهادي أحب إلى المهدى إليه مما كان من قبل زمان المهدي أيضًا لكان ما أخرجه من ماله إلى من أهداه إليه، أسعف به مما كان من قبل. فحصل الحب بين الجانبين واستغنى بذلك من المجازاة، فإن لم تكن لم تضر والله أعلم. وأيضًا أن رد السلام فرض من فروض الكفاية، فلأن السلام من البادئ به واحد. فإذا رد أحد القوم عليه، فقد وصل إليه سلام مثل سلامه جزاءا للسلام الذي كان منه. فقضى ذلك حقه، ولا زيادة له عليه. فإن قيل: فإنه إذا سلم عليهم كان له سلام على كل واحد منه، وإذا رد عليه أحدهم فكان كل واحد منهم رده عليه. لأنه إنما يريد بقوله فيه: عليكم السلام، أي وعليك مثل سلامك. فإذا كان سلامه على عشرة كان عليه السلام يوازي سلامه والله أعلم. فصل وأما معنى قول القائل: السلام عليكم فهو قضى الله علكم بالسلامة مما تكرهون، والسلام والسلامة كالمقام والمقامة، والملام والملامة. وأما قيل عليكم ولم يقل (لكم) لأن المراد القضاء. والقضاء للعبد بالخير قضاء من الله عز وجل عليه. لأنه يناله، أراده أو لم يرده. وقد يناله وهو لا يشعر به. وقد قيل معناه: اسم السلام عليكم، أي اسم الله عليكم (أي كانت فيكم البركة ولكم اليمن والسعادة: كما يكون فيما ذكر اسم الله عليه، والله أعلم.

فصل وينبغي للمسلم أن يقول لمن يسلم عليه: السلام عليكم، لأنه سنة السلام المحلل من الصلاة. هذا فدل على أن سنة السلام خارج الصلاة مثلها. فأما وجوب الصلاة، فإنما قال: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى على عباد الله الصالحين. لأن ذلك السلام في موضع الذكر والثناء لله عز وجل، في حال بقاء عقد الصلاة المحرم لكلام الناس. فصار لوقوعه بأمر الله عز وجل كأنه سلام من الله تعالى جده على المذكورين وتسليم الله تعالى على عباده سلام، سلام بلا ألف ولام. فكان حق هذا التسليم أن يكون كذلك. فأما السلام في آخر الصلاة، فإن عقد الصلاة لا يبقى معه، وهو واقع لا في وقت الذكر لأن الحال بحال القطع، فلم يكن كالواقع من الله عز وجل. فمن هذا الوجه، فأرى السلام الواقع في جوف الصلاة والله أعلم. وإذا سلم الإمام في الصلاة توقى لكل واحدة من التسليمتين الملائكة والناس الذين في تلك الجهة. وإذ سلم القوم، نووا بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحفظة، والناس والإمام. وبالثانية من عن يساره من الحفظة والناس. وإن لم يكن من أحد جانبيه أحد لم ينو إلا الحفظة دون الناس. ومن قال يسلم المصلي تسليمة واحدة قال يسلم بلقاء وجهه، لأن السلام صلاة فيستقبل به القبلة كما يستقبل الناس الأركان. ومن قال يسلم تسليمتين عن اليمني وعن الشمال، فلأنه محلل. وقد كان من قبل ممنوعًا محرمًا، فهو يشعره من الالتفات إلى من يسلم عليهم بما لم يكن لائقًا منه بالصلاة. كما يستحله نفسه في هذا الوقت، ولم يكن من قبل حلالا في الصلاة، وبالله التوفيق. ولا ينبغي إذا سلم رجل على آخر أن يشير إليه بيده، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تشبه بغيرنا فليس منا). وقال: (لا تسلموا تسليم اليهود بالأكف، وتسلم النصارى بالإشارة). فلا ينبغي لأحد إذا سلم على أحد أن ينحني له، ولا أن يقبل

مع السلام يده، لأن الانحناء على معنى التواضع، لا ينبغي إلا لله عز وجل. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يلقى الرجل، أينحى له؟ قال: لا. قال: فيعانقه، قال: لا. قيل: فيصافحه؟ قال: نعم. وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم فلا يبتغون على أفعالهم التي أحدثوها تعظيما منهم لكبريائهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم عند رؤوس أكاسرتها) فهذا مثله. والله أعلم. وإذا مر رجل بمصلي، فلا ينبغي له أن يسلم عليه حتى يفرغ، فإن سلم فهو بالخيار. فإن شاء رد إليه إشارة بإصبعيه، وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد عليه السلام، وهذا أولى. وإذا ورد على الإمام وهو يخطب فلا يسلم، وإن سلم لم يرد عليه إلا إشارة. وإن رد لم يفسد ذلك خطبته. ولا ينبغي لمن مر برجل وهو يقضي حاجته أن يسلم عليه، فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه. سلم رجل على النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحال فقال له: (إذا وجدتني أو رأيتني على هذه الحال، فلا تسلم علي، فإنك إن سلمت لم أردد عليك). ومن ورد على رجل وهو يقرأ القرآن فلا يقطعه عنه بالسلام عليه حتى يفرغ، ثم يسلم عليه. فإن سلم عليه وهو يقرأ، فهو بالخيار، إن شاء رد، وإن شاء أمسك حتى يفرغ، ثم يرده. وإن رد عليه وهو يناجي أخاه فلا يسلم عليه حتى يفرغ من نجواه، ثم يسلم عليه، فإن سلم عليه وهو معرض له فله، إن يرد، وإن سلم عليه وهو مقبل نحوه، فينبغي له أن يرد عليه لأنه حياه. وإذا دخل المسلم مقبرة من مقابر المسلمين، أو انتهى إلى قبر مسلم، فينبغي أن يسلم فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين. كما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتى بقيع العرق، فقال ذلك. ومن دخل على قوم الحمام أو نزل حوضًا، فوجد فيه رجلا قد نزله قبله، أو خاض واديًا، فانتهى فيه إلى قوم، فمن كان منهم كاشفًا عما يلزمه ستره من بدنه لم يسلم عليه. ومن كان مشغولًا عنه بالأمر الذي نزل المسلم يسلم عليه أيضًا ومن كان يخالف ذلك سلم عليه.

الثالث والستون من شعب الإيمان وهو باب في عيادة المريض

الثالث والستون من شعب الإيمان وهو باب في عيادة المريض وقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره من حق المسلم على المسلمين لأنه روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (للمسلم على المسلم ست خصال واجبة، فمن ترك منها خصلة ترك حقًا واجبًا عليه: أن يجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويشتمه إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشيع جنازته إذا مات، وينصحه إذا استنصحه). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عائد المريض يمشي على مخارف الجنة) حتى يرجع إذا أراد، والله أعلم أنه يثاب بما يهتم به من أمر أخيه المسلم أن ينعم غدًا بحل منار الجنة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المرء يعجكم حاله، فاسأل عن اسمه واسم أبيه وقبيلته، فإن مرض عدتموه، وإن مات شهدتموه). وقال صلى الله عليه وسلم: (من أصبح صائمًا وعاد مريضًا وشيع جنازة وأطعم سائلًا وجبت له الجنة). وقال صلى الله عليه وسلم: (ضامن على الله: في سبيل الله، وفي المسجد الجامع، وعند مريض في بيته، وعند إمام يعذره ويوقره لله عز وجل). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل إذا عاد أخاه المسلم لم يرفع قدمًا إلا كتب له بها حسنة وحطت عنه بها سيئة، ورفع له

بها درجة. وخاض في الرحمة حتى إذا جلس إليه غمرته الرحمة، وجرت فيما بينه وبين المريض، وكان المريض والعائد في ظل العرش). وأول ما في عيادة المريض إظهار الاكتراث بما مسه، وإطلاله عنه على ما هو من مركز في القلب من محبته، والتوجع بوجعه، ويسأل الشمتة إن كان في صدره، وبعث له على أن يكون غذاء إن مسه شفاء. كما وجده اليوم عليه لنفسه، ثم إن ترك العيادة لطول بمرض الأخ المسلم، ولا ينبغي للمسلم أن يأتي منه ذلك. لأن المريض إن كان مرض الموت، والموت ناقص من العدد وقاطع للعدد، فإن لم يكن مرض الموت فهو حائل دون الاجتماع على الصلاة والجهاد. وذلك وهو عاجل. وإن كانت السلامة تبيعه في الأجل واهنًا، فإن المريض قد يحب له أصدقاؤه ببعض ما في نفسه، ويشاورهم في مر وصيته، ويستوصيهم بولده وأهله عنايته. فإذا انقضوا عنه وهو جفاء منه بمكانة، فلا ينبغي لهم أن يفعلون. ومن العيادة أن لا يكرر العيادة كل يوم، لأن ذلك إذا كان لا يستحب في الزيارة لما يخشى فيه من الإملال. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: زرغبًا تردد حبًا). فأولى أن لا يستحب في العيادة، فإن أنس المريض أقل حملًا للأثقال من نفس الصحيح. وفي أدب العيادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعود أصحابه إلا بعد ثلاثة أيام وقال: (اغبوا في عيادة المريض، فأربعوا أن لا يكون المريض مغلوبًا). وينبغي للعائد إذا دخل أن يتأمل حال المريض، فإن رآه قلقًا أو ضعيفًا، لا يتفرغ لمكالمته، لم يلح عليه بمسألة، ولم يملله بكلام ويدعو له وينصرف. وإن رآه منشرح الصدر فلا بأس أن يسأله عن حاله ويعرفه ما يجده في نفسه من الاهتمام بعلته، ويدعو إليه وينصرف عنه قبل أن يمله. فقد جاء في دعاء المريض والدعاء له قال علي رضي الله عنه: وجعت وجعًا كان يقتلني

فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني فقال: (اللهم إني أسألك تعجيل العافية، أو صبرًا على البلية، وخروجًا من الدنيا إلى رحمتك) فقال لي: (نم يا علي وقام يصلي ثم انصرف من صلاته. وقال لي: ابن أبي طالب، لا بأس عليك، قد برأت إن شاء الله. ما سألت الله عز وجل (من) الأشياء إلا سألت لك مثله. وما سألت مثله، وما سألت الله شيئًا إلا أعطانيه، إلا أنه أوحى إلي إنه لا نبي بعدي). وقال عليه السلام: سلوا الله العافية فإنه ما أوتي عبد أفضل من العافية). وعاد رسول الله صلى الله علي وسلم امرأة من الأنصار وهي مريضة فقال: (كيف تجدينك يا أم فلانة؟ قالت: بخير يا رسول الله، وقد برحت عن أم ملدم- تريد الحمى- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصبري فإنها تذهب من خبث الناس كما يذهب الكير خبث الحديد) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يعود مريضًا لم يحضر أجله يقول سبع مرات: أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عوفي). قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضًا وضع يدعه على المكان الذي يشتكي منه ثم يقول: (بسم الله، اذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي فإنه لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا). قالت: عائشة رضي الله عنها لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وضعت يدي عليه لأقول هؤلاء الكلمات، فنزع يدي عنه فقال: (اللهم الرفيق الأعلى). وإن علم به حاجة فعرض عليه ما عند وسأله الانبساط به فحسن، فإن كان ذلك منه إليه بلا مسألة فهو أحسن، وكذلك إن كان معه حين يدخل عليه بخفة تليق بحاله. ولا ينبغي إذا رأى به ضعفًا أن يخوفه، ويخبره بما يخبر به، ولا أن يظهر على عينه أنه

شاهد منه ما غصه، بل يكلمه بما يبسط عليه ويقوي أمله. فإن ذلك من معادن الثبات، فهو كالمداومة والمعالجة، ولا بأس مع ذلك أن يعرض له بالتوصية إن علم أنه أغفلها. وإن دخل عليه وهو محتضر، قرأ عنده سورة (يس) لما جاء في الحديث فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا يس على موتاكم). ولقنه الشهادة من غير أن يلح عليه، ولكنه يستعملها عندها من حيث أن يسمعها، فعسى أن يتلقنها. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله). ويروى عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله مخلصًا بها من قبله، دخل الجنة). * * *

الرابع والستون من شعب الإيمان وهو باب في الصلة على من مات من أهل القبلة

الرابع والستون من شعب الإيمان وهو باب في الصلة على من مات من أهل القبلة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله) وكان يصلي على من مات من أصحابه، ومن لم يعلم به حتى قبر، صلى على قبره. قوال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمًا حتى أصلي عليها). وقال: (حق المسلم على المسلم خمس فذكر منها، أن يشيع جنازته إذا مات). وليس في التشييع غرض إلا الصلاة. ومعناها التوجع لفراق الميت وإظهار الشح به، والتصور بصورة من كان لا يخليه بل يرده وجعه لو كان له إلى ذلك سبيلًا، ثم الفرع إلى الدعاء له عند وقوع التسليم الذي لابد منه. وتأييد ذلك الدعاء بتقديم القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبله، رجاء أن ذلك إذا تقبل لم يجز الدعاء له عنه بل يجاب. وهذا نهاية الشفقة والرأفة والغاية، وهو الأمر الذي لا يمكن في تلك الحال غيره. وكل ذلك مما يقتضيه التشارك في الدين، والاجتماع في حال الحياة، على التناصر والتظاهر فيه، وبالله التوفيق. وينبغي لمن ولي أمر المسلمين في بلد، أن لا يتخلف عن جنازتهم ولا عن عيادة مرضاهم، إلا أنه إذا حضر كان ولي الميت من طريق النسب أولى بالصلاة عليه منه. فلا يتقدم إلا أن يقدمه الولي، لأن الصلاة على الميت من حقوقه الخاصة فهو كفيله، وتكفينه وإدخاله القبر ولا مدخل للولاة في ذلك، فكذلك الإمامة في الصلاة عليه. فإن قيل: وأي حق للميت في إمامة من فضل عليه قيل: حقه في ذلك أن الإمام كلما كان أحنى عليه وأشد تحرقًا وتائبًا، وما نزل به، كان دعاؤه له أخلص وأجمع. فيسري ذلك الكمال من صلاته إلى صلاة من خلفه لينبئهم الاقتداء به والله أعلم.

والصلاة على الميت أربع تكبيرات، أولها تكبيرة تتلوها قراءة الفاتحة، ثم تكبيرة تتلوها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تكبيرة يتلوها الدعاء للميت، ثم تكبيرة التسليم. وكل شيء من ذلك يتفرع وكتابة في حكم الأحكام. وقد قيل: إن آدم صلوات الله عليه لما حضرته الوفاة أمر جبريل نبينا عليهما السلام أن يتقدم فيصلي عليه، وإنه كبر عليه ثلاثين تكبيرة، وقيل كبر عليه ألفًا، ومن الناس من ذهب إلى أن التكبيرات خمس، فاعتد بأن هذه التكبيرات كلها أركان، فهي في تقدير فواتح الصلاة، والصلوات المكتوبات كلها خمس. فوجب أن تكون التكبيرات خمس ليكون تقديرها أن الميت لما عجز عن الصلاة بنفسه أقيمت عليه الصلاة يوم وليلة، إذ كانت هذه المدة تستفرغ الصلوات كلها. ولم يكن إلى مجاوزتها سبيل. وقد يجاب عن هذا، أن هذا المعنى يحصل، وإن كانت التكبيرات أربعًا، ويكون ذلك أولى، لأن أربع تكبيرات تكون في تقدير أربع صلوات، والتسليم الذي هو ركن الخاتمة مكان الصلاة الخامسة، فتصير الصلوات الخمس مستوفاة من هذا الوجه. وسنة من شهد الجنازة أن يتقدمها، وهي المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وهو الأشبه بحال الشفعاء وعادتهم بأنهم أبدًا يتقدمون من يشفعون له، ولا يتأخرون عنه، ولأنهم إذا تقدموا ثم حمل، عجلوا الصلاة عليه ودفنوه. وقد جاء في الحديث من كرامة الميت تعجيل دفنه. فكان ذلك أولى من أن يتأخروا عنه، فيحتاج في الصلاة عليه إلى انتظاره، والله أعلم. وأما ما عدا هذا من صفة الصلاة عليه وما يتعلق بها من المسائل موضعها كتب الأحكام، وهي مبينة فيها، فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليها. وحسن إذا صلى عليه وانصرف منه، أن لا ينس، ويزار قبره أحيانًا، ويذكر بالدعاء الصالح، فإن النهي عن زيارة القبور منسوخ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كنت نهيت عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجدًا). وقال: (زوروا إخوانكم وسلموا عليهم وصلوا فإن لكم فيهم عبرة).

الخامس والستون من شعب الإيمان وهو باب في تشميت العاطس

الخامس والستون من شعب الإيمان وهو باب في تشميت العاطس روي ذلك في الحديث الذي قيل له (حق المسلم خمس) فذكر منها أن تشميته إذا عطس ونص بالتشميت بالآخر. فسئل عن ذلك فقال: إن هذا حمد الله، وهذا لم يحمد الله. ويقال: أن الأصل في ذلك ما ذكره وهب في كتابه في بدء الخلق: إن أبانا آدم صلوات الله عليه كان مصورًا من فخار، فلما نفخ الله تعالى فيه الروح وجعله بشرًا عطس. فقال له: قل الحمد لله. فقالها. فقال له: يرحمك الله، أو يرحمك ربك. ومعنى حمد الله عند العطاس، أن العطاس دفع للأذى من الدماغ الذي فيه قوة الذكر والفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس والحركة وسلامتها تكون سلامة الأعضاء، والتواصل بكل شيء منها إلا ما خلق له. فإن تيسر ذلك فإنما هو نعمة جليلة، وفائدة عظيمة. فلا تقل من أن نعرف قدرها بالحمد لله عز وجل. وفيه مع ذلك اعتراف له بالخلق والتدبير وإضافة ما يقدر منه إليه، لا إلى الطباع كما يقوله الملحدون. فكان مما تحق المحافظة عليه هذا المعنى. وإذا عطس فحمد الله عز وجل، فإن اتبع ذلك، الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم فحسن. لأنه لو يعلم سنة الحمد عند العطاس إلا من جهته وعلى لسانه. فإن قضى حقه في ذلك الموضع بالصلاة عليه كان ذلك أحسن، وأولى به من أن يغفل عنه. وإذا حمد العاطس ربه عز وجل كان تشميته أن يقال: يرحمك الله. فإذا قيل له ذلك، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان إذا عطس، فقيل له: يرحمك الله قال: يهديكم الله. وجاء: يهديكم الله

ويصلح بالكم. وجاء أنه أمر العاطس والمشمت بما قلنا. وقيل: إنما قال ذلك ليهودي فأسلم، فما قيل بعد ذلك. وجاء عن ابن مسعود- رضي الله عنه-: يغفر الله لك أو لكم. وتقدير العاطس، إذا شمت كتقدير من دخل مجلس رجل فسلم عليه. فكما أنه يؤمن لا السلام عليه فكذلك المشمت يؤمن بأن يجيب عن التشميت بمثله. فإن قيل: فإن رد السلام سلام، فلم لا كان جواب التشميت كالتشميت؟ قيل: لأن السلام كلام الإيمان وجواب الإيمان إيمان. وتشميت العاطس دعاء له، ومن دعاء له بدعاء فأجاب، لم يؤخذ عليه أن يدعو بنفس ما دعي له به. وإنما كان دعاء التشميت ما ذكروا، كان أنواع البلاء والآفات كلها مؤخذات يؤاخذ الله تعالى بها عباده. وإنما تكون المؤاخذة بالذنوب. فإذا حطت مغفورة، وأدركت العبد رحمة الله تعالى، لم تقع المؤاخذة، فلهذا قيل للعاطس: يرحمك الله، أو يغفر الله لك. أي جعل ذلك لك لقدوم السلامة والصحة لك. وقد يحتمل أن يكون التشميت وجوابه كالسلام ورده. ويحتمل أن يكونا جميعًا سنتين، لأن التشميت دعاء، فهو كالدعاء للمريض، ودعاء التهنئة بالولد. وليس جواب ذلك بفرض. والسلام كلام إيمان فاقتضى ردًا، لأن ترك الجواب عنه يوهم المخالفة. وإذا عطس رجل في الصلاة فقال: الحمد لله جاز. فإن سمعه من ليس في صلاة قال: اللهم ارحمه، ولا يقول: يرحمك الله. لأن هذا خطاب، ولا يخاطب من لا يخاطب. فأي واحد من هذين قال له. فإذا فرغ أجابه. وإذا سمع من هو في صلاة سكت عنه حتى يفرغ ثم يشمته. وإن قال وهو في الصلاة: اللهم ارحمه، أو اللهم اغفر له، جاز. وإن قال: يرحمك الله وعلم أن ذلك لا يصلح في الصلاة فسدت صلاته. وإن ظن أنه يصلح فيها لم يفسد، ويشمت العاطس إذا حمد الله تعالى ثلاث. فإذا جاوزها لم يشمت وذلك من الزكام. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لرجل شمت عاطسًا عنده ثلاث مرات فلما أراد أن يشمته في الرابعة قال له: دعه، فإنه مصوك.

فإن قيل: فلم لا كان المزكوم بالدعاء له أولى؟ قيل له: هو بالدعاء أولى، إلا أن دعاء المرضى شفاك الله وعافاك الله. وأما تشميت العاطس فهو دعاء لدوام الصحة، لا دعاء لدفع المرض. فلذلك لم يكن المزكوم فيه نصيب والله أعلم. ولا ينبغي للعاطس إذا عطس بحضرة قوم أن يخفي حمد الله عز وجل، لأن نعمة الله تعالى عليه ظهرت لهم، فلا يحس أن يخفي عنهم شكره، ولأنه يحرم بذلك نفسه دعاءهم له. فإن كان إنما يخفي الحمد لئلا يشمت، فذلك أسوأ وهو نظير من يدخل على قوم فلم يسلم عليهم أو يخفي السلام لئلا يسمع فيرد عليه. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحب الله العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم فقال: الحمد لله، فحق على من سمعه أن يقول: يرحمك الله). فأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع. فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان. ومعنى هذا أن الشيطان يعجبه التثاؤب لأنه أمارة الكسل وثقل الأعضاء. فإذا رأى الشيطان ذلك من أحد طمع في أن يكون منه النوم أو ترك العبادة، فذلك ضحكه والله أعلم. وروى أن رجلًا عطس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر وعطس آخر فقال: الحمد لله على كل حال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله. قال يحيى بن أبي كثير يدل أن شمت ذلك له، لأنه لم يوافق السنة، وشمت هذا لأنه وافق السنة. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين وليقل له: يرحمنا الله وإياك، وليقل هو: يغفر الله لنا ولكم. وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا شمت يقول: يرحمنا الله وإياك وإياكم. وهذا إذ قيل له: يرحمك الله، فيقول: يرحمنا الله وإياك. وقال سالم: لا تدع لإنسان بدعوة إلا بدأت بنفسك، فإذا حمد الله عند العطاس، قيل: يرحمنا وإياك.

وقال إبراهيم: إذا عطس أحدكم فليسمعنا الحمد حتى نشمته. وقال: إذا شمت أخاك فقل: يرحمك الله تعالى. فإن معه الحفظة كما أنك لو سلمت على رجل لقلت: السلام عليكم، كان أحسن من أن تقل: السلام عليك، وقد يفترقان لأن التشميت للعاطس، ولاحظ للملك فيه، والتسليم للصلاة، والملك من أهل الصلاة، وتستحب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العطاس. عطس رجل عند ابن عمر رضي الله عنه، فقال: الحمد لله رب العالمين فقال ابن عمر: لو أتممتها، فقلت: والسلام على رسول الله. ولا يشمت المزكوم، لن رجلًا عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: رحمك الله. ثم عطس الثانية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا رجل مذكوم). وإذا لم يشمت المزكوم فالمنعكس كذلك، بل أولى، وإنما تشميت من عطس، لأن عله، ومن غير اختلاف لأن الأخبار في ذلك جاءت. وفي أدب العطاس: روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عطس حمر وجهه. وروى خفض صوته. وقال أبو موسى كان اليهود يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيتعاطسون عند رجاء أن يقول: يرحمكم الله، فيقول: يهنيكم الله ويصلح بالكم. فإن قيل: قد شمتهم وهم يتعاطسون، قل: قد يخفى عليه أنهم تعاطسوا، وقد يعلم ذلك، فلا يحب إظهاره لهم بترك التشميت تألفًا لهم. ولأن يقولوا: إنما لم يشمتنا لأنا لم نكن من أهل دينه. وعن الزهري رضي الله عنه يكره شدة عطاس الرجل ورفع صوته في تثاؤبه في المسجد. ونهى مجاهد رضي الله عنه عن الإعلان بالتثاؤب والعطاس. وقال عبد الكريم بن أبي مالك يكره أن يرفع الصوت عند العطسا، والتثاؤب والتنخم ومطه بقوله يا غلام، وهو الذي جاء في العطاس من خفض الصوت، يحتمل أنه كان شمته، ولم يكن عمدًا، والناس في ذلك متفاوتون. وقد يجوز أن يفضل الباب،

فيقال: من كان في رأسه ثقل وشدة، فعطس، فشدد عطاسه، ورفع صوته ليعين بذلك عن انتفاخ شدقه لم يكن في ذلك ما يكره. وإن أراد برفع الصوت التلعب، وإرعاب بعض السامعين كره ذلك. في العاطس إذا حمد الله: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا عطس الرجل فقال: الحمد لله، قالت الملائكة: رب العالمين. وإذا قال: رب العالمين. قالت الملائكة: يرحمك الله. في التثاؤب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، فإن الشيطان يدخل). ومعي هذا أنه أعلم أنه إذا مد النفس فقد فغر فاه لم يؤمن أن يمتد معه شيء يكون في الهواء، فيدخل فيه فيتأذى بذلك. فسمي ما كان من ذلك شيطانًا، لأنه مؤذي، يدخل على الإنسان منه ما يكره كالشيطان، كما يقال للرجل الحسن الكريم ملك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (يطلع من هذا الفج رجل بوجهه مسحة ملك) فأطلع جرير. وإنما قال بوجهه مسحة، ذلك لأنه كان حسنًا صبيحًا، إلا أنه كان هناك مسح بالحقيقة والله أعلم. وينبغي إذا عطس العاطس أن يتأنى حتى يسكن بما به ثم يشمتوه، ولا يعاجلوه بالتشميت. وإذا عطس الخاطب وقال: الحمد لله ومر في خطبته لم يشمت، وإن وقف شمتوه. وإذا عطس أحد القوم فحمد الله تعالى جده، شمت إشارة. وقيل يشمت بكلام. وإذا علم من رجل يكره أن يشمت، ويرفع نفسه أن يتأسف، بذلك لم يشمت لا إجلالًا له بل إجلالًا للتشميت عن أن يرهل له من يكرهه، قال الله عز وجل فيما حكاه عن نوح النبي صلوات الله عليه أنه قال لقومه: {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده، فعميت عليكم، أفلزمكموها وأنتم لها كارهون}. فإن قيل: إذا كان التشميت سنة، فلم تترك السنة بكراهية من يكرهها؟

قيل: هي سنة لمن أحبها، وليس بسنة لمن كرهها. لأن من يرغب عن الخير رغب الخير عنه. وإن كره رجل أن يسلم عليه عند اللقاء لم يسلم عليه لما وصفنا. كما أنه إذا مرض فكره أن يعاد لم يعد. وإن أوصى محتضر بأن لا يصلي عليه إذا مات صلى عليه، لأن الصلاة عليه شفاعة له. وهو إذا أسرف على أنفسه بأن أوصى أن لا يصلي عليه أحوج إلى الشفاعة له منه إذا لم يوص به. وأما السلام فتحية، والتشميت مثله. ومن كره التحية لم يحيى، كما أن من كره الزيارة لم يزر والله أعلم. ولأن الصلاة عليه ودفنه واجبان بإيجاب الله تعالى وفرضه، فلا يعمل بوصيته في إبطالها والله أعلم. * * *

السادس والستون من شعب الإيمان وهو باب في مباعدة الكفار والمفسدين والغلظة عليهم

السادس والستون من شعب الإيمان وهو باب في مباعدة الكفار والمفسدين والغلظة عليهم قال الله عز وجل: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} إلى قوله: {تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل}. وقال: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم، فأولئك هم الظالمون}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان}. وقال: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}. وقال: {المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}. وقال: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض}. إشارة أن لا ولاية بين المؤمن والمنافق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تراءى ناراهما- يعني المسلم والمشرك) أي لا ينبغي أن

يكون المسلم بقرب الكافر فيرى هذا نار ذاك نار هذا. وقال عمر بن الخطاب رضي لله عنه: اجتنبوا أعداء الله اليهود والنصارى في عيدهم يوم جمعهم. فإن السخط ينزل عليهم فأخشى أن يصيبكم، ولا تعلموا رطانتهم فتخلقوا بخلقهم. وقال الله عز وجل: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك، فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويحذركم الله نفسه، وإلى الله المصير}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالًا ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} وقال: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثله}. وقال: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}. وقال: {ولا تكن للخائنين خصيمًا} وقال: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيمًا} وقال: {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلًا}. وقال: {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} إلى آخر السورة. فدلت هذه الآيات وما في معناها، على أن المسلم لا ينبغي له أن يواد كافرًا ولو كان أباه أو ابنه أو أخاه. ولا يقاربه ولا يجزيه في الخلطة والصحبة مجرى مسلم منه وإن بعد. ويجتهد في أن لا يكون من قلبه ولحظة ولفظة بالميل إليه نصيب، ويكون عليه أشد منه على قاتل أبيه أو وليه. فإنه إن كان ممن يؤمن بالله ورسوله فبالحري أنه إذا فكر في أنه متكلم في الله عز وجل بما لا يرضاه الله تعالى، ويكذب رسوله ويتكلم فيه بما أجل الله قدره عنه أن يكون ذلك أشد عليه من أن يناله في نفسه أو في والده، أو في ولده بما

يكره، فالله تعالى أولى به من نفسه، ومن أبيه وأمه وولده، والتي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ولهذا قال عز اسمه: {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كان آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}. فينبغي له إذا كان الأمر على ما وصفت أن لا يزور الكافر إلا أن يألفه بذلك على الإسلام. وذلك بعد أن ظهرت له أمارات مثله إليه، ولا يعوده إذا مرض إلا أن يرجو تآلفه على الإسلام. كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاد يهوديًا فوجده يماته، فدعاه إلى الإسلام فقال له أبواه أبلغ أبا القاسم فأسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) أو يكون له جار فيكون بينه في عيادته مراعاة حق الجار الذي عظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يشغل القلب به والتوجع له فيما حل به. وإذا دخل عليه لم يدع له بالعافية إلا أن يقر به بالهدى فيقول: شفاك الله وهداك وأقامك مهديًا في عافية. وما أشبه ذلك. ولم يشر عليه بما يرى أنه ينفع إلا أن سأله عنه. فإن سأله عنه لم يغشه. وأخبره بما عنده لا على أن يتخير عليه، ولكن على أنه ائتمنه، فلا يجوز له أن يخونه، لأن الله عز وجل يقول: {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (علامات المنافق ثلاث: فذكر منها إذا اؤتمن خان) وحرام عليه أن يشهد جنازته أو يقوم على قبره إذا لم يكن ذا قرابة منه. قال الله عز وجل في المنافق: {ولا تصل على أحد منهم أبدًا، ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله}. ولا ينبغي له إن مت وهو ضعيف الحال أن يعين في جهازه إلا أن تكون له صنيعة بمكانه قدمها في حياته أو لوراثة فيعنه بما يعلم أنه محتاج إليه، لإسقاط المسنة فيما مضى عن نفسه، فأما على الوجه البر والصلة فكلا. وإذا أعلا فلا ينبغي له أن يعطيه من لباسه وكسوته. فإن فعل فلا ينزع له ثوبه الذي هو لابسه.

فأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عبد الله بن سلول رداءه ليكفن فيه أباه، فغير هذا. لأن ابن عبد الله كان مسلمًا. فلما مات أبوه حضر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أعطني رداءك أكفن فيه أبي. فأعطاه رعاية لحقه أو استطابة لقلبه، وتأكيدًا في الإسلام لنبيه. وقيل فعل ذلك لحق كان لأبيه قبل، فأراد أن يجزيه بعد موته وإن كان من ذكرنا المريض أو الميت ذا قرابة منه. فجائز له أن يشهده على أن تعظيم من حق الرحم ما عظمه الله تعالى جده لجل وجه سؤاله ويغسله ويكفنه ويواريه. وينجي عن قلبه. وجد إن أحسن به عليه، ويذكر أنه كان عدوًا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد نقصه الله وأجازه إلى ما يستحقه. أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في غسل أبي طالب لما مات، ومواراته. ولا يقعد عليه ما شاء. وأما إذا افتقر في حياته، فاحتاج إلى أن يعوضه غيره، فعلى ولده المسلم أن ينفق عليه إن كان قادرًا على ذلك. وكذلك على الوالد المسلم هذا في ولده الكافر. وأيهما ملك الآخر عتق عليه. وإن قتل الكافر ولده المسلم لم يقتل به. وإن قذفه لم يجلد له. وهذه حكام وفرائض وحدود شرعها الله تعالى تعظيمًا لحق الولاد والرحم، فهي مقام طاعة لا شفقة على من يرجع نفعها إليه. فأما ما نهى عنه، أو لم يفرضه، فاجتنابه أولى، لأنه إذا أوقع لم يقع إلا وداد أو شفقة. وقد بينا أنه ليس لمسلم أن يواد كافرًا. ولا ينبغي لمسلم إذا لقي كافرًا في طريقه أن يتنحى عن الطريق بل يضيق الطريق عليه وينحيه إلى أرذله وأشده. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدأوهم بالسلام، واضطروهم إلى ضيقه). ولا بتدأوه بالسلام ولا تصافحنه. فإن مد الذي يده إليك، أعطاه يده في كمه. فإن مدها عارية لم يطل حبسها في يده. ولم ينتظر من أن يكون هو الشارع ليده ما ينتظره في مثل ذلك من المسلم.

وإن رأى على وجه كافر كافر أو ثوبه قذاة لم يمطها ولا يقدمه على نفسه في طريق ولا مدخل ولا مخرج، ولا يرفع مجلسه، ولا يلقي له وسادة بيده، ولا يرفع له مسعرًا، ولا يعينه على الركوب ولا يقوم له في مجلسه إذا رآه تهيئًا له، ولا يخاطبه إلا بما يخاطب به من لا يهاب، إلا أن يكون أتاه في هذا كله. ولا يشمته إذا عطس، وإن حمد الله، إلا أن يقول له هداك الله وأصلح الله حالك، أو أصلحك الله. ولا يهدى إلى الكافر ما إلا جزاء أو تآلفًا، ولا يضيفه فيطعمه من طعامه، ولاسيما إذا كان جائعًا، وليس ذلك كالتصدق عليه من النسك، لأن ذلك شيء أخرج من الملك لوجه الله. والإضافة يراد بها وجه الضيف، فإن قدم إليه شيئًا وهو شبعان لا يحتاج إليه فذلك أخف، وإن قدمه إليه وهو جائع من صومه، ففطره عليه وأكله ليصوم عليه، فذلك يغلظ، وبالكراهية حق لأنه إعانة على الباطل. ولا يعيره ثوبًا ليشهد الكنيسة منه أو البيعة، أو موقد النار، أو يقرأ فيه المحرف من كتاب الله، أو المفترى عليه. ويعمل ما عنده أنه صلاة، ولا قلمًا ولا مدادًا ليكتب به الباطل. وإن استضافه الكافر فلم يحسن منه مكانه، فهو بالخيار. وإن أجابه ليأكل من طعامه فيقتص بذلك من ماله فجائز. وإن رده لئلا يكون باسطه، فذلك جائز. وإن دعاه الكافر إلى وليمة، فإن كان جارًا نظر. فإن كان النكاح نكاحًا يقر عليه إذا أسلم، فله أن يحضر وليمته. وإن كان نكاحًا لا يقر عليه إذا أسلم فلا يحضر وليمته، وإن كان تعبدًا فلا بأس إن لم يحضره بحال. ولا ينبغي للمسلم أن يزور الكافر إذا قدم من سفره إلا أن يكون جاره ولا أن يهنئه بفصحه بحال، ولا بالنيروز والمهرجان، ولا أن يتابعهم على تعظيم ما يعظمونه من هذه الأوقات. ولا ينبغي للإمام أن يسامح أهل الذمة في الزنانير، ولا يعقدوها على أوساطهم. ولا في الخيل فيركبوها أعرابها وعجمها سواء. ولا في الرقيق المسلمين فيفتنوهم وينهاهم عن أن يتزيوا بزية المسلمين في ملابسهم، ولا يجعل لهم إلى إفشاء كفرهم، وإسماعهم المسلمين مقالاتهم سبيلًا، وينهى المسلمين عن الإصغاء إليهم والاستماع إلى ذلك مهم، إلا أن يحتاج مسلم مشركًا، ويجادله رغبة في إسلامه، ولا يمنع من ذلك. ولا ينبغي لمسلم أن يتبع من مشرك خمرًا ولا خنزيرًا، ولا كتابًا فيه كفرًا أو يتحرف وكتابًا محرف من كتب الله عز وجل. والبيع في ذلك باطل مفسوخ، إلا الوبر فإنه إن

كان فيه على ما هو عليه أو مكسورًا منعه من جنس المنافع المطلقة، ولم يكن غنيًا يجيبه، فالبيع فيه ماض إلا أنه من المشرك مكروه، ولا يبتع المسلم من الكافر عصيرًا يرى أنه يجده خمرًا ولا من الكافر سلاحًا، فإن فعل فالبيع مفسوخ. ولا ينبغي لمسلم أن يقود أباه الأعمى إلى الكنيسة أو البيعة أو موقد النار. فإن كان أبوه في بعض هذه الأماكن، وأراد الرجوع فله أن يقوده إلى بيته ومنزله. وهذا إذا قاده إلى هذه المواضع، فيعمل ما يرون أنه صلاة وعبادة. فإن كان له فيها شغل يحل الذهاب إليه، فله أن يقوده ليبيع فيه حاجته. ولا ينبغي للمسلم أن يؤاجر نفسه أو دابته كافرًا في حمل خمر أو خنزير أو عنب يعصر خمرًا فإن أجره نفسه فيما يحل، وهو محتاج إلى ذلك فلا بأس وإن كان له مندوحة عنه فليجتنبه، وبعض ذلك شر من بعض. فإنه إن أجره نفسه مشاهدة أو مشابهة، فذلك أحق بالكراهية من أن يؤجره نفسه في عمل يعمل له يومًا أو يومين أو أقل، ثم يتركه. وإن أجره نفسه في سياسة دوابه، فهو خير من أن يؤاجره نفسه في خدمة بدنه، لأن دابة الكافر خير من الكافر. ومن هذا الباب مجانبة الظلمة. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بعث الله تبارك وتعالى من نبي إلا كان بعده خلفًا، يقولون ما يفعلون، ويفعلون ما يؤمون، وسيكون بعدي أمراء يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. قالوا. كيف نصنع يا رسول الله؟ قال: من اعتزلهم سلم منهم ونجا، ومن كان معهم هلك). وعن صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا، فقال: (ألا أني أوشك أن أدعى فأجيب، وليأتكم بعدي عمال يقولون ما يفعلون، ويعملون ما يعرفون، فطاعة أولئك طاعة، فيلبثون بذلك دهرًا، ثم يليكم عمال من بعدهم يقولون: ما لا يعلمون، ويعملون ما لا يعرفون، فمن ناصحهم ووازرهم، وشد على أعضادهم، فأولئك الذين هلكوا وأهلكوا. قالوا: فصف

لنا ما نصنع إن أدركنا ذلك؟ قال: خالطوهم بأجسادكم، وقاتلوهم بأعمالكم، واشهدوا على المحسن منهم أنه محسن، وعلى المسيء منهم إنه سيء والله أعلم). ولا ينبغي للمسلم أن يقبل هدية مشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد هدية مشرك، وقال: (أنا لا نقبل زبد المشركين). ويحتمل أن يكون ذلك، لأن الهدية تعلق بالقلب فتميله نحو المهدى، ولأنها في الثروة تقتضي المكافأة. فإذا وقع التهادي بين المسلم والكافر صار ذلك من جوالب الردة، ولا ينبغي للمسلم أن يواد كافرًا. ويحتمل أن يكون الزبد اسمًا للعطية أن يصدر من المعطى عن ظاهر لا حقيقة له، فيكون كالزبد على ظاهر الماء لا أصل له. وإنما هو طاف فوقه. وسمعت من يسمي الكلام الذي لا حاصل له زيدًا، ويذهب به إلى قول الله عز وجل: {فأما الزبد فيذهب جفاء} أي أنه لا فائدة فيه ولا معنى له. ولا ينبغي للمسلم أن يفشي إلى كافر سرًا لأنه عدو الله تعالى، وأنه خائن لله ورسوله ولنفسه، فلا ينبغي له أن يأمنه. فإن كان ذلك من أمر دار الإسلام أو جيش المسلمين، أو إمامهم، أو عامتهم، فهو أدهى وأمر. ولا ينبغي للمسلمة أن تنكشف للكافرة، فترى منها ما لا يحل للرجل الأجنبي أن يراه، لأن الله عز وجل يقول: {ولا تكن للخائنين خصيمًا} ولا أن يضمن عن ذمي جزية، ليخفف عنه بضمانه، أو يدفع به صغارًا عنه، ولا أن يكفل نفسه لئلا يحتسب. فأما إن دفع عنه ظلمًا يراد به، فذلك من حقوق العهد، وليس من الود والإشفاق بسبيل. وإذا أراد المسلم نزول سكة أو حانوت، فليعلم جيرانه، ويتحرى أن لا يكون جاره كافرًا، وينأى عنه ما أمكنه. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تراءى ناراهما). فإن حدث له جار كافر فلا بأس عليه أن أقام موضعه. ولا ينبغي لفعله المسلمين وصناعهم أن يعملوا للمشركين كنيسة أو بيعة، أو صليبًا أو منبرًا. فأما غزل الزنار ونسجه فلا بأس به، لأن ذلك صغار لهم.

ولا ينبغي للإمام أن يأذن لذمي في إحياء شيء من موات دار الإسلام، ولا أن يقطعه معدنًا من معادنها. فإذا اتخذ الإمام سيافًا أو جلادًا، فلا يجعلنه من المشركين، ثم يسلطه على المسلمين، فإنه يتشفى منهم بما ينالهم به، وذلك صغار بالمسلمين. فينبغي لإمامهم أن يصرفهم عنه، ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريقًا منهم فريقًا عنهم ليحموهم، ويدافعوا عنهم، فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ففيهم نزل قول {ولا تكن للخائنين خصيمًا، واستغفر الله، إن الله كان غفورًا رحيمًا}. وقوله تعالى {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيما. يستخفون من الناس، ولا يستخفون من الله وهو معهم، إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا}. معنى قوله عز وجل {ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول} والنهي عن المجادلة والمخاصمة في هذه الآية، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم لفظًا، فالمراد به: الذين كانوا يفعلونها من المسلمين دونه، لوجهين: أحدهما أنه عز وجل إبان ذلك بما ذكره بعد، بقوله {هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة}. والآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتيمًا بينهم حكمًا فكان من يعتد، يعتذر إليه، وهو لا يعتذر لحد إلى غيره. فصح أن الذمي وإن كان له لفظًا فليس له قصدًا، لكن لغيره والله أعلم. ولا ينبغي للمسلم أن ينظر في كتب المشركين، وما الفوه من آرائهم، وأبدوا به من مقالاتهم، وهجنوا به مذاهب غيرهم، قبل أن تحكم قواعد دين الله تعالى، ويرسخ في علمه، ويستبصر بأصوله وحججه. فيكون نظره في أعدائه، وأعداء رسله صلوات الله عليهم، بعد ذلك مقرونًا بما يريه الله تعالى عند الهجم عليها من فضائحه وعوراتها وقبائحها، فيميز المناقضات، ويبين الشبهات، ولا يترك دعاويهم وشرحهم أقوالهم منازل الحجج، فيعتمدها اعتماد ما قد يرى وضح الحق فيه، وقام دليله. ولا يقبل تشيعهم على من يخالفهم قبول من يرى أنهم هم المحقون وغيرهم المبطلون. فإن أكثر من اغتر بقول الفلاسفة وهلك بكتبهم، إنما أتي من قبل أنه افتتح بها، فسمع ما يسمع من آرائهم قبل أن يكون

له بدين الله تعالى علم قليل، أن كثير، أو بآياته وبيناته وحججه الباهرة القاهرة. وبغير يسيره وخطيرة، فلا تسموا بالحكمة وسماهم الناس بها، وظهرت لهم في علم الأبدان وغيرها آثارها كثيرة، يأتون فيها بالفضل والبراعة، فظن أن منازلهم في علم النبأ العظيم الذي هم عنه معرضون. وللأمر الكاتف الجسيم الذي هم فيه متحيرون كمنازلهم فيما أدركوه ووفقوا له فأصابوه، فقبلوا قولهم تقليدًا بلا استبصار، وتعظيمًا لهم من غير نظر واعتبار، فضلوا عن الصواب، وأخطأوا سبل الرشاد. وهو عليهم قول الله تعالى {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد}. وأيما مسلم جلس إلى بعض من حقت عليه الضلالة، فسمعه يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله، فحرام عليه أن يقضي عنه ويسامحه بترك الإنكار عليه، بأن كان لذلك أهلًا. فإن كان يقصر عن ذلك، فإن يرفعه إلى الأمام. أما الوالي والقاضي وأكبر علماء المسلمين في بلده ليزجره، يعمل به ما يستحقه. وإن لم يقدر على شيء من ذلك فليفارقه، ولا يقم عنده، وهو غمه في طغيانه، وتأبيط بالباطل لسانه، قال الله عز وجل: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفره بها} الآية إلى آخرها. وقال:} وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره}. وهذه الآية مكية. وكان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لا يطيق مدافعة المشركين، فلهذا- والله أعلم- قصر فرضه عن الإعراض دون ما زاد عليه، ومن لم يفعل شيئًا مما ذكرنا، ولا هو أنكر ولا رفع الأمر إلى من يغيره، ولا قام فاعتزل، بل لزم مكانه يسمع ما يجري فيه من الباطل فلا يعتني به، لا يجد في قلبه منه ما يهزه ويزعجه، كان ممن قال الله عز وجل {إنكم إذًا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا}. ونعوذ بالله من هذه الحال، وبالله التوفيق. فصل والفساق في كثير من المعاني التي سبق شرحها كالكفار، فلا ينبغي لعدل أن يلاين فاسقًا، لأن ملاينة العدل الفاسق، تجسر الفاسق وتخذل العدل. فلا ينبغي له أن يذل

نفسه ويعز فاسقًا، كما لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه ويعز كافرًا، ولأن العدل إذا لاين فاسقًا لا لغرض صحيح، فإنما يغض في حق العدالة لا في حق نفسه، وليس له هذا كما أن المسلم إذا لاين كافرًا، لا عن عذر أو ضرورة إلا لغرض صحيح، فإنما يغض في حق الإسلام لا في حق نفسه، ولم يجز ذلك له ولا وسعه. ومن ملينة العدل الفاسق أن يراه مجاهرًا بفسقه وهو يقدر على ردعه فلا يردعه لحرمة عنده، أنه يرعاها له. وهذا كثير، لأنه يبع بالدنيا ورفض الأمانة، ودخول في جملة أهل الخيانة، والله عز وجل يقول: {لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}، وما بقي من القول في هذا فسيأتي في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فصل فأما ما جاء عن بعض المتقدمين أن المسلم يعزي المسلم إذا مات أبوه النصراني، فيقول له: أعظم الله أجرك وخلف عليك. ويقول للنصراني إذا مات ابنه: اخلف الله عليك ولا نقص عددك. فإن وجه قوله في تعزية المسلم بالأب النصراني بين، لأنه إن لم يحزن عليه حزن له، وحزنه له إيمان بالله عز وجل. فيجوز أن يقال له: أعظم الله أجرك لهذا. ويقال: خلف الله عليك. فمعناه: رزقك الله ولدًا مكان الذي سلبك، ولا نقص لك عددًا. أي فعل بك ما سألت فلا ينقص عددك بالذي أخذه. وهذا ليس دعاء أن يكثر الكفار، لأن وفور عدده ليس يكون بأن يكون ولده على دينه. ومعنى هذا القول أن يكون الدعاء له، على رتبة الدنيا. فإن أصل التعزية إنها دعاء. فإذا لم يكن أن يدعي للكافر بحسن المآب دعي له بشيء من متاع الدنيا، فيكون حق جواره، أو حق آخر، إن كان له قد قضى بذلك، والله أعلم.

السابع والستون من شعب الإيمان وهو باب في إكرام الجار

السابع والستون من شعب الإيمان وهو باب في إكرام الجار قال الله عز وجل: {وبالوالدين إحسانًا، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل}. فقيل في التفسير: الجار ذا القربى، الجار الملاصق. والجار الجنب البعيد عن الملاصق. والصاحب بالجنب الرفيق في السفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى خشيت أنه يورثه). وروى (حتى ظننت أنه سيورثه). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه). والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق. وإذا عملت مرقة فأكثر ماءها واغرف لجيرانك). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يشبع الرجل دون جاره). وقال: (يا نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) ومن هذا الباب إكرام الجليس، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إكرام الناس على جليسي. وقال عمر بن العاص: من إكرام الناس على من جليسي الذي يتخطى الناس إلى سيجبرني وكان لا يرفع ركبتيه عن جليسه، ولا يخص

بوجهه أحد يعطي كل رجل منهم وجهًا. وقال ابن شهاب: كنت مع سعيد بن جبير، فأتاه ناس حتى عظمت الحلقة، فبدا له أن يقوم. فقال: أنكم جلستم إلي، وبدت لي حاجة، أفتأذنون لي أن أقوم إليها؟ قالوا: نعم. قال: ولو كنت أنا الذي جلست إليكم لم أستأذنكم. وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أغلب بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس بمؤمن. وليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه. أتدرون ما حق الجار؟ إذا استعانك أعنه، وإذا استقرضك أقرضه، وإذا افتقر تحدث إليه. وإن مرض عدته، وإن مات اتبعت جنازته. وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطيل عليه بالبناء ولا تحجب عنه الريح إلا بإذنه. وإذا اشتريت فاكهة فاهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرًا ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده. ولا تؤذه بقتار قدرك، إلا أن تعرف له منها. أتدرون ما حق الجار والذي نفسي بيده، لا يبلغ حق الجار إلا قليل ممن رحمه الله، فما زال يوصيهم بالجار حتى ظنوا أنه سيورثه). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجيران ثلاثة: منهم من له ثلاثة حقوق ومنهم من له حقان، ومنهم من له حق واحد. فأما الذي له ثلاثة حقوق، فالجار المسلم القريب، حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة. وأما الذي له حقان، فالجار المسلم له حق الجوار وحق الإسلام. وأما الذي له حق واحد، فالجار الكافر له حق الجوار. قالوا: يا رسول الله، أتطعمهم من لحوم النسك؟ قال: لا تطعموا المشركين من نسك المسلمين). فهذا الحديث قد أتى على إنابة أكثر حقوق الجار، وما ذكر فيه من النهي من طعام المشركين من نسك المسلمين. قد يحتمل أن يكون أريد به النسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه، ولا أن يطعمه الأغنياء. فأما ما لم يكن واجبًا في الذمة، فجاز أن يأكل منه بنفسه ويطعم منه الأغنياء، فجائز له أن يطعمه أهل الذمة. وجاء في ذلك عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها عند تفريق لحم الأضحية: (ابدئي بجارنا اليهودي) فدل ذلك على أن معنى الحديث ما ذكرته.

وروي أن شاة ذبحت في أهل عبد الله بن عمرو فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي، ثلاث مرات. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره). ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب قوله: (الجار أحق بسقبه) وقيل معناه: أنه أحق بشرًا ما يباع من جيرته من الرجل الأجنبي. وجاء أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- عرض داره للبيع وطلب منه ثمانمائة درهم، فما زادها أبو رافع بأربع مائة فقال له: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الجار أحق بسقبه) لما بعتكما بأربعمائة. فلقد طلب مني ثمانمائة درهم، فحمله الصحابي السامع له من رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا المعنى، وإياه فهم منه. وقيل معناه: أنه أحق شفعة بإتباع، إذ كانت الشفعة لا تنيب إلا فيما يمكن. قلت: الشركة فيه جوار بالقسم، فلما أخصت بما يكون فيه الجوار أشبه أن يستحق بالجوار والله أعلم. وقيل: أراد بالجار الشريك لأن الأغلب أن الشريكين في الدار يشتركان في سكناها فيكون متجاورين بأبدانهما. ولذلك قيل لامرأة الرجل جارته. لأن الأغلب أن الزوجين يتعاشران فيتجاوران بأبدانهما والله أعلم. ويحتمل أن يكون المعنى الذي عظم الجوار، هو أن كل واحد من المتجاورين لائذ بصاحبه، آمن بأمانه، لأن أحدًا لا يمكنه أن يسكن أرضًا وحده، فإنه لا يأمن أن يسلب ويجرب فتقتله المجاعة والعري، أو تفترسه السباع، وإذا كثر الناس واجتمعوا على سكنى ببلد اعتقد بعضهم ببعض، فأحرز بكل واحد منهم ماله وأهله وولده، بجيرانه ورفقائه دفع بعضهم عن بعض. وكل من كان ألصق بآخر، كانت هذه الفائدة له من منه أوفر. وكان به من قبلها أخص. فلما فات أن يصل إلى القيام بهذا الحق على جميع أهل

البلد. أمر بأن يقوم على الأحضين به منهم وهم الجيران. ولهذا كانت الزكاة موضوعة في جيران المال، ولم يجز أن يعدل بها عنهم ما دام يوجد فيهم من يكن وضعها فيه منهم، والله أعلم. وحد الجوار من كل وجه من البيت إلى أربعين بيتًا. وروى أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نزلت محلة قرم، وإن أقربهم إلي جوار أشدهم لي أبدًا. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليًا يصيحون على أبواب المساجد: إلا أن أربعين دارًا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس بمؤمن من لا يأمن بوائقه لأن الجوار سبب الأمن كما يثبت، فإذا أخاف الجار الجار، كان كمن أمنه رجل فعدا عليه فقتله، فيكون قد جازى الحسنة بالسيئة، ولذلك ملوم في الطبائع ومذموم في الشرائع. فصل وأما الرفيق في السفر، فإنه جار لأنه والرفيق يتجاوران بدنًا ومكانًا، ولكل واحد منهما في صاحبه من الفائدة والمنفعة مثل ما ذكرنا منها في المتجاورين، في المتجر أو القرية، ولذلك وقعت من الله عز وجل التوصية به، والله أعلم. * * *

الثامن والستون من شعب الإيمان وهو باب في إكرام الضيف

الثامن والستون من شعب الإيمان وهو باب في إكرام الضيف جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه). وروى أنه ضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف كافر، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشربه، حتى شرب حلاب سبع شباه. ثم أصبح الغد فأسلم. فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت، فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يشرب من معاء واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء). وينبغي لمن نزل به ضيف أن يعجل له ما يقدر عليه، فيقدمه في الوقت إليه، لأن الأغلب توقان نفسه إلى الطعام. قال الأحنف بن قيس: ثلاث ليس عندي فيهن أناة، الضيف إذا نزل بي أعجل له ما كان، والجنازة أن لا أحبسها، والأيم إذا عرضت لي رغبة أن أزوجها. وجاء أن رجلًا دخل على سلمان فدعا له بخبز وملح فأكل. قال سلمان: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أولًا، أنا نهينا أن يتكلف أحدنا لصاحبه لتكلفت لك. ومعنى هذا فيما نرى أنه نهاهم أن يرفضوا الضيف إلى أن يدرك ما يتكلف به. ولم ينههم عن التكلف أصلًا، لأنه قد قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه). وليس من الإكراه أن يكون الذي في المنزل مما لا يكرم أحد فيه، فقد يمد إليه فيقتصر الضيف عليه ولا يتكلف له غيره. فثبت أن معنى الحديث ما قلت. وفيه من المعنى أن الضيف ألصق جوارًا من الجار المطلق، لأن ذلك جار بالبدن، فأي إحسان أوجب لأبعد الجارين، فهو لأقربهما أوجب. وفيه أن من نزل به ضيف ثقة، وإحسان

ظن به فقبله، أو كان استضافه، فإن استضافه أمانة، ويدخل في عهده، لأن قبول الضيف لا يكون إلا للقرى، وإذا لم يقره ولم يكرمه كان كمن قبل أمانة ثم ضيعها. ألا ترى أن لوطًا النبي عليه السلام كيف شرح صدرًا بأن يقري الذين قدرهم لضيافة ببناته، فقال: {هؤلاء بناتي هن أطهر لكم، فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي}. وقال: {إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون}. لو رأى أن الأضياف أمانات لما التزم في بناته ما لا شيء أشد على قلوب الرجال منه. وفيه أن التقصير في حق الضيف لوم وخشية، والله عز وجل بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وقال: أن يحب معالي الأخلاق وينقص بسفسافها. فدل ذلك على أن معاملة الضيف بغير الإكرام ليست من أخلاق هذا الدين والله أعلم. ثم قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الضيافة ثلاثة أيام فإن جاوزها فهو صدقة) وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه، فهو دين عليه إن شاء اقتضاه). وقال صلى الله عليه وسلم: (الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة وما أنفق عليه بعد ذلك فهو صدقة له ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يخرجه). فبان أن الضيف إذا لم يوجد بعد ثلاث لم يكن له الإخلال بحقه في الكراهية له، لو وقع في الثلاث، لأن الصدقة تكون بحسب رأي المتصدق، وكما يمكن ويتسر. وإكرام الضيف أن يلقاه صاحب البيت بالطلاقة والبشر، ويحضر ما يحتاج إليه قبل الوقت الذي يتوقعه فيه، وأحسن وأوفر بما جرت به عادته مع أهله وولده. ويثويه أوسع ما عنده من الأماكن وأنزهها وأشرحها لصدره، وأسنحها في الشتاء، وأدوجها في الصيف، ويفرش مجلسه ومرقده أحسن وأنعم مما يفرشه لنفسه. ويحتمل عنه من مؤن من يصحبه من خدامه ودوابه ما يحمل من مؤونة نفسه. وإذا خرج زوده ما يكفيه يومه، وشيعه ميلًا إن كان عليه خوفًا، فقدر على أن يمده بمن يأمن بمرافقتهم إلى المنازل، وفعل ذلك حسن والله أعلم.

التاسع والستون من شعب الإيمان وهو باب في الستر على أصحاب القروف

التاسع والستون من شعب الإيمان وهو باب في الستر على أصحاب القروف قال الله عز وجل: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}. وقال صلى الله عليه وسلم لهزال: (هلا سترت عليه ولو بثيابك!). وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتاه على مسلم عورة ليشينه بها بغير حق شانه بها في النار يوم القيامة). وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض إلى الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رجله). وهذا قدر يلتحق بالباب الذي قبل هذا، لأن أحدًا لا يحب أن تهتك ستره، فينبغي أن لا يهتك ستر أخيه. وقد يزيد عليه بأن في إشاعة الفاحشة على واحد من المسلمين خيفة أن يفتدى به فيها من أهل الملة من يسمع مواقعته لها. وفيها أيضًا إشمات أعداء الملة بأهلها، ويمكنهم من القدح فيهم والثلب لهم، ونسبهم إلى أنهم غير معتقدين ما يظهرون. فمن هذين الوجهين ينبغي الستر على أصحاب المعاصي والقروف، كما ينبغي من الوجه الذي سبق في الباب الذي قبل هذا شرحه. ومنها تخفيف أمر الفاحشة على قلب من يشاع فيه، لأنه ربما كان يخشى أن يعرف أمره ولا يرجع إلى ما قارفه أو يستغل منه. فإذا هتك ستره اجترأ وأقدم، واتخذ ما وقع منه

عادة، فيعسر بعدها عليه النزوع عنها، وهذا إضرار به. فينبغي أن يتقي من هذا الوجه الرابع، كما وجب أن يتقي من الوجوه المتقدمة. ومنها إسقاط جاهة وحرمته بين الناس، لأنه لا ينظر إليه بعدما عرف منه كما كان ينظر إليه من قبل بتطليق الألسنة بالسب والشتم، وهذا أيضًا نوع من الإضرار به. فينبغي أن يصان عنه. فإن قيل: فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أترغبون عن ذكر الفاجر أو الفاسق، اذكروه بما فيه كي يحذره الناس). قيل: هذا في الفاسق المجاهر المعلق بذكر ما فيه، لأنه لا يبالي بذلك، ليحذره من لم يبلغه حديثه، فلا يعقد نكاحًا بشهادته، ولا يقتصر على إشهاده في الحقوق التي يجب توثيقها بالشهود. فأما من بدرت منه زلة في خفية، وظاهره عند الناس جميل، فهو خارج عن حكم هذا الحديث، وملتحق بالجملة الأولى، وبما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (أقبلوا ذوي الهنات عثراتهم أو زلاتهم). فالإمساك عنه وعن كل مستر أولى، والله أعلم. ومنها معنى سادين، وهو أنه إذا لم يكن للمتحدث بالفاحشة عن غيره غرض صحيح بالتحدث، فلا ضرورة إليه، فإنما ينعته عليه الدغل، ورداءة الطبع وسوء النية، وكل ذلك مذموم. فكان ما يدعو إليه من الإساءة مذموم. قال علي رضي الله عنه، وذكر آخر الزمان والفتن، قال: خير أهل ذلك الزمان كل الفوقه أولئك مصابيح الهدى ليسوا بالمسابيح ولا المذابيع البذر والفوقة الحامل والمذياع المسمع بالفواحش عمن يراها فيه، والتشيع لها، والساح الذي يسح في الأرض بالشهر والنميمة، والإفساد بين الناس والبذر جمع الباذر، وهو الذي يبذر الكلام بين الناس. كما لا ينبغي لأحد أن يهتك ستر غيره من إخوانه المسلمين فأولى به وألزم أن لا يهتك

ستر نفسه. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى منكم من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من تبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله). فأمر كل واحد بالستر على نفسه. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وهو أن قال: (إياكم والمجاهرة! قيل: وما المجاهرة؟ قال: يبيت أحدكم يذنب ذنبًا قد ستر الله عليه، ثم يصبح فيحدث به الناس، فيخرج سترًا ستره الله عليه). وعلة هذا أن من فعل فاحشة ثم تحدث بها، فقد جمع إلى مواقعة الذنب الجرأة عليه، وقلة المبالاة، وذلك أغلظ من أسراره، وإخفائه. لأن الأسرار لا تكون إلا من الخوف والوجل. ألا ترى أن جرم المحارب إذا قتل وأخذ المال، أغلظ من جرم القتال السارق وسمى الله عز وجل ذلك محاربة الله ورسوله. فما جرى مجراه فهو في الغلظ والقبح مثله. وإذا رأى رجلًا فلا يرى، ولم ير معه غيره، وفيه إذا هتك ستره معنى سابع وهو أنه يعرض نفسه للحد مع معرفته بصدقه. وهذا القرار منه بنفسه، فلا ينبغي له أن يفعله. وكذلك إذا رأيت أربعة من الفساق الأخلاط رجلًا له امرأة على الزنا الكامل، أو فاسقًا رجلًا يشرب أو يسرق، فيسألهم سئل الواحد، فأما إذا رأيت أربعة من العدول رجلًا وامرأة على زنا كامل. أو رأى هذان رجلًا يشرب الخمر أو يسرق. فليس هذا موضع الأمر بالستر لما فيه من تفصيل حدود الله تعالى. وينبغي لهم أن يشهدوا القيام الحد الذي وجب، فيكون فيه طهارة للحدود، وردع له ولغيره عن مثل فعله، لأن الله عز وجل يقول: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم}. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرأوا الحدود ما استطعتم) والشهود يستطيعون درأه لئلا يشهدوا! قيل: بل لا يستطيعون ذلك، لأن على الشهود إذا خافوا أن يتأول حق ويضيع، بتركهم إقامة الشهادة، أن يشهدوا ويحيوا الحق. فصح أنهم لا يستطيعون

الدواء بعد ما عاينوا أو عرفوا. وإنما هذا خطاب للآية في الحد إذا تردد من وجه إقامة، ووجه دفع، ليغلبوا وجه الدفع على وجه الإقامة. فأما غيرهم فهم من هذا بمعزل، وبالله التوفيق. وكل ما سبق ذكره فهو في الفواحش التي لا تخرج عن الملة. فأما إذا سمع رجل رجلًا أظهر الإسلام وقال: إني مسلم، يتكلم بكلام الكفر فعرف به أنه من المنافقين فلا ينبغي له أن يستر عليه. فإن الله عز وجل لم يستر على المنافقين، لكنه أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم سورة ينبئهم بما في قلوبهم، ويقرر عنده كذبهم، فكانت تلك السورة وهي التوبة، تسمى في الصحابة الفاضحة والتأدب بأدب الله تعالى في من ظهر بفاقة أن يفضح ولا يستر عليه، لمعلم المسلمون أنه خارج من جملتهم، ولا يغيروا بما يظهروه لهم، فينكحوه، أو يأكلوا ذبيحته، إن كان كفره كفرًا. فحرم ذباح أهله، ولا تقدموا للصلاة، فيصلوا خلفه، أو يرضى أحد منهم بأطفاله ولاية ماله. وإن كان كذلك واقعًا منه على سبيل الارتداد عن دين الحق بعدما كان يعتقده، دعي إلى الرجعة، فإن أجاب، وإلا قتل والله أعلم. وهذا لأن من أظهر للكفر، فقد زالت حرمته، فإن الحرمة فيما أوجبنا فيما تقدم ستره، إنما كان لدين المتعاطي له فإذا لم يكن دين فقد زالت العلة، والله أعلم، وبالله التوفيق. * * *

السبعون من شعب الإيمان وهو باب في الصبر على المصائب، وعما تنزع النفس إليه من لذة وشهوة

السبعون من شعب الإيمان وهو باب في الصبر على المصائب، وعما تنزع النفس إليه من لذة وشهوة قال الله عز وجل: {واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}. فقيل: أراد بالصبر والصوم. لأن فيه صبرًا عن الطعام والشراب المعتادين بالنهار مع تحرك الطبع نحوهما، ونزوع النفس إليها. ولهذا قيل لشهر رمضان شهر الصبر. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صوم شهر الصبر رمضان، وثلاثة أيام في كل شهر يذهبن كثيرًا من وحي الصدر). وقيل: أريد بالصبر على ما يعرض من المسلمين من قبل أعدائهم المشركين ثم قال جل اسمه {وإنها لكبيرة} فقيل رجعت الكناية إلى الصلاة وحده، وقيل رجعت إلى كل واحد منهما بمعنى الخصلة أو بمعنى الطاعة، أو بمعنى القربة، أو بمعنى العبادة، أو بمعنى الفعلة. كأنه قال: وأن كل واحدة من الخصلتين أو الطاعتين أو القربتين أو العبادتين أو الفعلتين لكبيرة، أي لشاقة. إلا على الخاشعين الذي يكثرن في كل وقت، أنهم ملاقوا ربهم في ذلك الوقت. فهم يحبون أنهم يردون على الله صائمين مصلين، ولا يدعون طول الأمد إلى المدافعة بالعبادات واستقبالها في حيث ما هو أحب إليهم وآثر عليهم من إتباع الشهوات وغيرها والله أعلم. وقال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين}.

والأشبه بالصبر في هذه الآية، الصبر على الشدائد، لأنه عز وجل اتبع مدح الصابرين بقوله: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}. فضرب الأمر بالصبر بالنهي عن أن يقال للشهداء أنهم أموات. وليس المراد القول وحده لأنهم لو كانوا أمواتًا بالحقيقة لم ينهوا عن أن يسموا بأسمائهم ويوصفوا بأوصافهم ولكن المراد، لا تعلموهم أمواتًا. أي لا تعتقدوا فيهم أنهم أموات وأنهم أحياء حيث أصارهم الله إليه وأعده لهم. والمعنى أنهم ليسوا بموتى فلا تجزعوا عليهم كما يجزع على الموتى. على أن الجزع على الموت ليس مما ينبغي بل الصبر على المصيبة لهم ألزم وأولى، فإن الله مع الصابرين، أن يوفقهم للصبر لينبئهم به خيرًا، من المعاني التي سلبوها بقبض من قبضه من بينهم. وقد يتموها ما كانت من نفقة كانوا ينفقونها عليهم. أو معونة في النوائب كانوا يبذلونها، أو أنس وبهجة كانا فهم في لقائهم، أو قوة وكثر كانتا لهم بمكانهم. أو علم وتبصرة كانوا يستفيدونها منهم، وانقطعت مادتها عنهم بموتهم، فالله تعالى ينسيهم بما أخذه منهم إذا صبروا ما يجبر كثيرهم ويزيدهم درجات فيما أعد لهم من الكرامة في الجنة، ثم قال عز وجل {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} أي من قبل الأعداء، والجوع أي نبتليكم بالقحط ونقص من الأموال أي الآفات التي تجتاح الأموال وهي كثيرة. وتحتمل الأنفس الأمراض والأحزان، وما يعرض للناس في إعطائهم وجوارحهم من العمي والصم والتأمل وذهاب الأطراف والثمرات. قيل: أراد بها الثمرات التي هي دون الأقوات، وقيل: أولاد الأولاد. وأولاد الأولاد بمنزلة الثمرات من وجهين: أحدهما أن الثمرة من زوائد الأصل، فكذلك الولد من زوائد الوالدين. والآخر أن الثمرة تستأنس بها وتقر العين برؤيته إلى أن يبلغ فتكون منه العوائد المقصودة بابتغائه والله أعلم.

ثم قال عز وجل: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون}. وأكثر الإشارة في ذلك إلى أن يقولوا في نفوسهم أو يخطروا بقلوبهم. وإذا كانوا له، كان ما ينسبونه إلى أنفسهم من المال والولد أيضًا لله. فإن أخذ عنهم شيئًا فإنما أخذ ما كان له، فليس لهم أن يصبوا بذلك درعًا. فإن المعير إذا استرجع عاريته لم يكن للمستعير أن يتأسف ويحزن {وأنهم إليه راجعون} أي أنه نازل بهم في أنفسهم ما نزل ممن يهتمون له، فأولى بهم أن يهتموا لأنفسهم، ويقدموا قبلهم ما يفرحون به إذا وردوا عليه. فإن رجلين لو خرج أحدهما إلى بلد متنقلًا إليه، وأراد الآخر الخروج بعده للانتقال إليه، وهو يعلم أن ذلك نازل، لا يجد القادم فيه إلا ما قم، فكان اهتمامه لنفسه، وتقديمه إلى ذلك البلد ما يكون معدًا فيه حتى إذا قدم وجده فيه، أولى به عنده العقلاء من أن يصرف جميع همه إلى التفكر في مفارقة الآخر إياه. ثم قال عز وجل: {أولئك} يعني: القائلين بما حكينا، والمعتقدين لما بينا، عليهم صلوات من ربهم للانبيه الحسنة والمدائح الفخمة التي يعظمون لأجلها في عباد الله {ورحمته} يعني: كشف الكربة وقضاء الحاجة {وأولئك هم المهتدون} هم المستبصرون بالأحق والألزم المجتنبون للأطغى والأظلم. جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا: نعم العدلان، ونعمت العلاوة. يعني بالعدلين: الصلاة والرحمة والعلاوة {أولئك هم المهتدون}. وقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، ولا تستعجل لهم} وقال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين، واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق مما يمكرون}. فأمره أن يصبر على أذى قومه، كما صبر إخوانه من النبيين الذين تقدموه، وكانوا أولي حد في أمر الله ويوهن القلب على احتمال ما يستقبلهم من قومهم. وأن يستعجل بما لهم عنده الله من الجزاء بكفرهم وشقاقهم وأبدانهم أتاهم، وزادهم توصية في الآية الأخرى على الأمرة بالتصبر أن اذكره أنه لا يستطيع الصبر إلا بإعانة الله تعالى إياه عليه، وتوفيقه له، ليرجع إليه عز وجل، فيسلمه إياه أن يصبره وينبئه.

ثم قال: {ولا تحزن عليهم} أي فلا تحسر على ما يفوتك كثرة، ووفور عدة بهم لو كثروا بل فإن الله تعالى ناصرك ومكثرك بغيرهم، ومبدل أترابك فيهم خيرًا منهم وهذا على أن المراد بالآية، الذين كانوا يؤذونه من قريش، {ولا تك في ضيق مما يمكرون} أي لا تستشعر من الحزن ما يضيق به صدرك لأجل ما تسمعه، أو تظن أنهم يمكرونه بمكانك، فإن الله تعالى {مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}. وأنت رأسهم والذين اتبعوك كلهم بهذه الصفة {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}. ومكرهم بشيء فهو عائد عليهم وغير متجاوزهم إلى غيرهم. وأما قوله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}. فقد قيل نزل في قتل حمزة رضي الله عنه. قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد مثل به قال: (لئن أظهرني الله عليهم لأضعن بثلاثين منهم مثل الذي صنعوا بحمزة). فأنزل الله عز وجل: {فإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} ثم قال: {ولئن صبرتم} عن المجازاة والمماثلة {لهو خير للصابرين} ولم يقل: فهو خير لكم. لأن الصبر ليس بمستحب لهم، ولكن لكل مصاب بظلم، فالصبر على الانتقام والتشفي من ظالمه في الدنيا، فذلك أشفى لصدر المظلوم، من أن يفعل في الدنيا به مثل ما فعل. لأن أدنى ما يمسه من وهج النار أعظم وأكثر من كل ما يمكن أن يفعل بالظالم، ويأتيه بمكافئه في الدنيا. وأما أن يكون الظالم وقد صار إلى ما يوجب له مغفرة الله تعالى في الآخرة فالله تعالى يعوض المظلوم ما أصابه من الظلم الذي لحقه، ما هو أعلى قدرًا وأجل خطرًا وأعظم نفعًا منه. فإذا كان كذلك بان بأن الصبر خير للمظلوم من التشفي والانتقام، وقال عز وجل: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}. وقال: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم}. فأخبر عز وجل أن ما

يصيب الناس من زوال نعمة عنهم، فإنما سببه حادث وقع منهم. أما ترك الشكر، وأما ارتكاب معصية بعد إحسان الله تعالى بالخوف. وقد يجوز أن يكون هذا الكلام خارجًا عن الأغلب الأكثر، أي فإذا كان هذا هكذا، فلا تحزنوا من المصيبة إذا وقعت، وارجعوا باللوم على أنفسهم، ويحفظوا من الأسباب المؤدية إلى المصائب قبل أن تقع لئلا تقع. وهذا فإن المصيبة بما يمكن بحكم العادة أن تدوم كالصحة والثروة والذكر الحسن والعلم والحكمة ونحوها والله أعلم. وأما قول الله عز وجل: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب} يحتمل- والله أعلم- ما أصاب من مصيبة عامة ولا خاصة إلا وقد كتبها الله في اللوح المحفوظ من قبل أن يرفعها وينزلها، فقد أعلمكم ذلك، وبينه لكم لكيلا تأسوا على ما فاتكم، وتعلموا أن الغبطة كانت مقدرة بالوقت الذي جاوزتكم فيه. ومن أعطى شيئًا إلى وقت لم يمنع إذا استرجع منه بعد ذلك أن يحزن. ولا تفرحوا بما أتاكم، أي لا تسروا به وتنظروا به وتتكبروا به، على من لم يؤت مثله ما أتيتم، لأنه عارية عندكم وليست بملك. فإن حقيقة الملك لله عز وجل، وليس للمستعير أن يتبذخ بالعارية، لأنه لا يأمن في كل لحظة أن يسترجعها منه صاحبها، فنعم الدنيا هكذا والله أعلم. وقال عز وجل: {إنما يتذكر أولوا الألباب، الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} إلى قوله: {والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة}. وقال: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}. وقال: {نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}. والصبر في هذه الآيات ينتظم معاني: أحداهما: الصبر على كلف العبادات، وما يلحق النفس في إقامتها من المشقة. والآخر: الصبر على المصائب المؤلمة الكارثة. والثالث: الصبر على أذى المخالفين وما يفرغ للأسماع من قولهم السوء، واستهزائهم وسبهم وما يتصل بذلك من أمرهم. والرابع: الصبر على الشهوات ومجاهدة النفس في وقعها عما يهم به منها حلالها وحرامها. وجملة ذلك الصبر عما لا ضرورة

إليه ونزل عليه. وقد يجوز أن تكون هذه الوجوه كلها مرادة بهذه الآيات، لأنه لا ينافي بينها حتى إذا كان أحدها من إذا امتنع أن يكون للآخر مرادًا. وقد قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا، اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}. فقيل معنى قوله عز وجل {اصبروا} أي على ما كلفتم، ولا تخلوا بشيء منه ولا تقصروا فيه. ومعنى قوله {وصابرون} أي صابروا العدو واثبتوا لهم كما يثبتون لكم. وقال قبل هذا {لتبلون في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا. وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} فأخبرهم عز وجل أن نسخ الشرائع المتقدمة وانبعاث نبي فله جريده، والأمر مع ذلك بقتال من خالف. فعرضهم لأن يبتلوا في أموالهم وأنفسهم. أما في أموالهم بأن ينفقوها في نصرة دين الله، وبأن يذهب منهم أن ظهر أمر العدو عليهم، والأنفس بأن يمتهن ويبتذل ويجوع ويعطش وينصب ويجهد في نصرة دين الله. وأن يعرض للقتل، فيطاب نفسًا عنها ويعوضها أن لا يسمعوا من أهل الملل المرفوعة، ومن المشركين أدى كثيرًا. فإن هم ضاقوا صدرًا بكل مكروه يلحقهم فليعلموا أن لا قوام لدينهم في التضجر بما يصيب فيه ولأجله. وإن وطنوا قلوبهم على الصبر واتقوا عذاب الله تبارك وتعالى فلم يعرضوا دينهم للذهاب، باستشعار القلق والضجر {فإن ذلك من عزم الأمور}. أي من فعل الحازم العازم، وهو الثابت في الأمر الجاد فيه. وهكذا حكمه عز وجل عن لقمان بعدما وصفه بالحكمة أنه قال فيما وعظ به ابنه: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}. وبالله التوفيق. وأما الصبر على المصائب، فقد تقدم القول فيه، وقد قال عز وجل فيما يتصل منه بالصبر عن محازاة الظالم: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}. فكان معنى قوله عز وجل {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}

أي ينتصرون جميعًا أي يتناصرون، لا يخذل بعضهم بعضًا. وهذا مدح لهم بالتناصر إذا قصد المبغي عليه أن ينتصر. ثم بين بعده إن كان الانتصار مملوكًا، فالعفو خير له لأنه يستحق به إذا أراد وجه الله تعالى أجرًا هو خير له، وأعود عليه من الانتصار. ثم زاد نعتًا على العفو وندبًا إليه، فقال: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}. أي من فعل العازم وهو الثابت الجاد في الأمور. وفي الصبر على البلاء: روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الخصي: (من ابتلى بمثل ما ابتلي هذا فصبر، فله الجنة). وهذا- والله أعل- إذا صبر فلم يجزع، ولم يقل بلسانه ما يقول المصاب مما يشتد عليه، ولم يضق ذرعًا بما يحس في نفسه من شهوة لا يستطيع قضاءها. ورغب فيما عند الله من ثوابه، فهون المصيبة على قبله واستخفها في حب ما يرجوه من فضل ربه عز وجل. فأما الصبر لا على هذا الوجه فصبر ومره وليس هذا المراد بالحديث والله أعلم. وفي الصبر على المصيب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد حزن أحدكم على هالكه فليذكرني، وليعلم إني قد هلكته). وفي الصبر على البلاء عن الأصبع بن ببامه قال: خلنا مع علي رضي الله عنه على الحسن بن علي رضي الله عنهما نعوده، فقال له علي: كيف أصبحت يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبحت بحمد الله بارئًا. فقال علي رضي الله عنه: كذلك إن شاء الله. ثم قال: اسندوني. فأسنده علي إلى صدره، فقال: سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بالقنوع تكن أغنى الناس، وأداء الفرائض تكن من أعبد الناس، يا بني، إن في الجنة شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصب عليهم الأجر صبًا). وقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}. ومن ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله (سلبته كريمته فوضعه بينهما الجنة).

وفي الصبر على ما يشق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصبر على لأواها وجهدها أحد إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة). وقد ينبغي الصبر من وجه آخر، وهو ما روى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، كيف الفلاح بعد هذه الآية من يعمل شرًا سخزيه؟ قال (يرحمك ربك يا أبا بكر، ألست بمرضي؟ ألست تحزن حينما يصيبك اللأو أو الجهد، فهذا ما يجاوز به). وإن المصائب إذا كانت قد تكون جزاء، ولا وجه لترك الصبر عليها، فينقلب الجزاء ذنبًا، بل الإيمان هو الصبر، وإن كان ما أصاب خيرًا عفى عن الذنب الذي هو جزاؤه، وكان احتمالك ذلك أهون من النار. وفي الصبر على المصيبة قال النبي صلى الله عليه وسلم لإبراهيم ابنه عليه السلام، وهو لما به تدمع العين ويحزن القلب، ولا يقول بما يسخط الرب تعالى، ولو أنه مقضي وسبيل يأتي فإن الآخر لا حق بالأول، لكان وجدنا عليه أشد من وجدنا، (وإنا بك يا إبراهيم لمحزنون) ومن هذا الباب ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يموت لمؤمن ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا يخله القاسم). وهذا على ما أصيب بهم فصبر واحتسب. وفي الصبر على العوارض والمصائب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أراد بعبد خيرًا عجل له العقوبة، وإذا أراد بعبد شرًا أمسك عليه حتى توفاه يوم القيامة). وفي الصبر على الأمراض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما وصب العبد المسلم من وصب ولا سقم ولا حزن ولا أذى حتى الهم، إلا الله يكفر به عنه خطاياه). وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أشد الناس بلاء؟ قال: (الأنبياء، ثم المثل فالأمثل، فيبتلى العبد على حسب ذنبه، فما برح البلاء بالعبد حتى يدعه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة). وقال عائشة رضي الله عنها: هذا مثابة الله للعبد بما يصيبه من الحمى

والنكبة والشوكة حتى البضاعة أبضعوا في لمه ففقدها، فيفزع منه، ويشد عليه، فيجدها في صبره، حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير. وفي الصبر على الشدة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أسلم وكان رزقه كفافًا وقنع ثم صبر عليه). وفي الصبر على سوء الحال قال: كانت لرجل امرأة تقول كلما دخل عليها: مرحبًا يا سيدي، وسيد أهل بيتي، إن همك لآخرتك فزادك الله همًا، وإن كان همك لدنياك فإن الله سيرزقك، ويحسن إليك. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بقول المرأة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لها نصف أجر المجاهد في سبيل الله، وهي عامل من عمال الله في الصبر على الأمراض). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن يصح ولا سقم؟ قالوا: كلنا يا رسول الله. قال: أتحبون أن تكونوا كالحمير الضالة ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات! والذي بعثني بالحق، أن العبد لتكون له الدرجة في الجنة ما يبلغنا بشيء من عمله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وولده، حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا كان طريقة حسنة من العبادة، ثم مرض، قيل للملك الموكل به: اكتب له عمله إذا كان طليقًا حتى أطلقه وألقيه إلي). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {والصابرين في البأساء والضراء} قال: البأساء الحاجة، والصبر المرض. وفي الصبر على البلاء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليتعهد العبد المؤمن بالبلاء من المرض والمصائب في الدنيا، كما يتعاهد الوالد ولده. وإن الله ليحمي المؤمن من الدنيا، كما يحمي أهل المريض مريضهم من الطعام).

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من سقم ولا وجع يصيب المؤمن إلا كان كفارة لذنبه حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الحمى كير من جهنم، فما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كنوز البر كتمان الأمراض والمصائب) ويشبه أن يكون المراد بالحديث أن الله عز وجل جعل الصبر في البأساء والضراء في كتابه من البر. ومن ذلك ما روى عنه صلى الله عيله وسلم أنه قال: (يقول الله: إن عبدًا من عبيدي ابتليته ببلاء على فراشه، فلم يشك إلى عواده، أبدلته لحمًا خير من لحمه، ودماء خير من دمه، فإن قبضته قال: رحمتي، وإن عاقبته وليس له ذنب. قيل: يا رسول الله، لحم خير من لحمه! قال: لحم لم يذنب. قيل: ودم خير من دمه! قال: دم يدمي). وأما الصبر على الشهوات حلالها وحرامها، وعن كل ما لا ضرورة به إليه، فإن من أطاقه كان سيدًا، كما وصف الله تعالى به يحيى بن زكريا صلوات الله عليه، فقال: {وسيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين} لأن اسم الحصور كاسم الصبور، فإن الصبر والحصر جميعًا هما الحبس، فصار حابسًا نفسه عن الشهوات حلالها وحرامها، وإنه ما لم يخطأ ولا هم يخطئه. وقد أباح الله عز وجل نكاح الأمة لمن خشي العنت، ثم قال: {وإن تصبروا خير لكم} وندب إلى الصبر عما أباح. وأباح في الأول الأمر لمن شهد الشهر وهو صحيح مقيم أن يفطر في الشهر ثم يقضي ويفتدى، فقال مع ذلك {ون تصوموا خير لكم} فندب إلى الصيام الذي هو صبر عن الطعام والشراب، وإن كان قد أباح الفطر، ثم نسخ بقوله عز وجل: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه فثبت فرض الصوم على الصحيح المقيم، ولم يجعل الإفطار إلا للمريض والمسافر.

فأما الصبر على المحارم فهو من فروض الدين، وقد ذكرنا المحارم تامة في مواضعها والله أعلم. ومما وجدنا في فضل الصبر على كلف العبادات، إن الله عز وجل أرى إبراهيم صلوات الله عليه في منامه أن يعالج ذبح ابنه تقريبًا إلى الله عز وجل. فلما استيقظ وقع له من تأويل ذلك أنه أمر بالذبح فأخبر ابنه بذلك. فقال الابن له: {افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}. فاستسلم كل واحد منهما لأمر الله تعالى جده، وصبر على شدته، وتجرع من مرارته، فما أوجبه عزمه وقوة دينه ويقينه، والله عز وجل يقول: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه}. فينبغي لكل مؤمن في الصبر على كلف العبادات مثله، ومثل ولده صلى الله عليه وسلم. فصل ومما يدخل في الصبر على الشهوات، ومما لا ضرورة بالعبد إليه، إن الله عز وجل، وإن كان قد أباح لعباده الطيبات، فإنه ذم الذين استمتعوا بالطيبات في هذه الدنيا ولم يروا شيئًا منها لوجهه، رجاء أن يعوضهم منه، ما هو خير منه من طيبات الآخرة. فقال: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها}. واحتج عمر رضي الله عنه بهذه الآية مع علمه بأنها نزلت في الكفار، فقال لو شئت أن يذهبن لي لفعلت ولكني وجدت الله تعالى ذم قومًا، فقال: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، واستمتعتم بها}. فقد يحتمل أنه فهم عن الله عز وجل أنه أنكر عليهم توسعهم في لذات الدنيا، كما أنكر عليهم كفرهم، ثم جزاهم النار ببعضها لا بجميعها ومما حرم منها على المؤمنين كما حرمه على الكافرين، فقال عز وجل: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًا، إلا من تاب} وهذه كالصلاة قبلها، والشهوات اسم للمشهيات وهي قسمان: حلال وحرام. فالصبر على الحرام واجب، والصبر عن الحلال التي لا ضرورة إليه مستحب، إذا كان إنما يقع عنه لئلا يصبر النزوع إلى الطيبات الدنيا ولذاتها عادة، فيعمى القلب ويميل بالعبد عن طريقة التعبد،

وتذليل النفس وقمعها إلى خلاف ذلك. فتعسر عند ذلك العبادة، وتستعصي عليه النفس فيكون الصبر عن الحلال لوجه الله تعالى جده، فيرجى أن يعوضه الله تعالى عما صبر عنه ما هو أطيب وألذ وأنعم وأكثر مما ترك. مع أن المتروك من جنس المنقطع الفاني والموعود من جنس الدار الباقي، وبالله التوفيق. قال الله عز وجل: {ما عندكم ينفذ، وما عند الله باق، ولتجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}. فيدخل في هذا الصبر عن الحرام، والصبر عن الحلال على الوجه الذي يثبت. وقال عز وجل في صفة أهل الجنة: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار}. وهذا أيضًا يصلح لانتظام الصبر عن الحرام والصبر عن الحلال. وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه، ورزق ربك خير وأبقى}. فبشره بأنه إذا لم يتطلع إلى زهرة الحياة الدنيا لئلا يشغله عن عبادة الله تعالى عوضه الله منها، ما هو خير وأدوم منها. وقال عز وجل: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، أتصبرون وكان ربك بصيرًا}. فيحتمل أن يكون أعطينا بعضًا وحرمنا بعضًا ليمتحن المحروم بالمعطى. {أتصبرون} أي تظنون أيها المحرومون نفسًا بما حرمتم وتعلمون أن ذلك عدل من الله جل جلاله، وليس يجوز، وتصبرون عن التطلع إلى من أعطى غيركم راضين، بأن تعرضوا عنه في دار الجزاء خيرًا منه. أي إن صبرتم فهو خير لكم، وإن يكن فإنه ثناء من الله على الصابرين الذين ذكرناهم آنفًا، وهم الصابرون على شدة الفقر والفاقة، لأن البأساء هي الشدة. فمدح الله عز وجل وأخبر أن صبرهم بر وألحقه بسائر الخصال المقرونة بالإيمان. فقال عز وجل: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} إلى قوله {المتقون}. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انتظار الفرج بالصبر عبادة). فدخل في ذلك الصبر في البأساء وفي كل حال يكره ويرجى زوالها. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما مثل

المؤمن كمثل الزرع لا يزال الريح يفنيه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء. ومثل المنافق مثل شجرة أرز لا تهتز حتى تستحصد). وأما قوله عز وجل {وحين البأس} فمعناه عند القتال. أي من صبر في موطن القتال فلم يهرب من العدو. ومن هذا الصبر ما يجب ويحرم تركه. ومنه ما لا يجب ويجوز تركه. ونذكر ذلك في باب الجهاد إن شاء الله. ومما يلتحق بالصبر عند المصائب أن لا يشق المصائب ثوبه ولا يلطم وجهه ولا تنخدش بشرته. ولا المصابة تفعل شيئًا من ذلك، ولا تقطع شعرها ولا ترفع صوتها بالبكاء ولا تنوح ولا تقيم النوح. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من حلق وسلق وشق) وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية). وفي ذم النياحة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نائحة تموت قبل أن تتوب إلا ألبسها الله سروالًا من نار ودرعًا من جرب). وفي البكاء على الميت: قيل لعمر رضي الله عنه: إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد، فقال: وما على نساء بن المغيرة أن يسفكن دموعهن على أبي سفيان ما لم يكن يقع لأوليائه. قيل: هما جميعًا الصوت السديد. وقيل: النقع صنعة الطعام الذي هو البقيعة. روى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما توفي أقامت عائشة النوح، فأقبل عمر حتى قام ببابها، فنهاهن عن البكاء على أبي بكر، فأبين أن ينهين، فقال عمر رضي الله عنه لهشام بن الحارث أو علي فاخرج إلى بيت أبي قحافة، فقالت عائشة لهشام: اخرج عليك يا بني. قال عمر لهشام: ادخل فقد أذنت لك. فدخل فأخرج أم فروة بنت أبي قحافة، فعلاها بالدرة ضربات فتخرس النوائح حين سمعت ذلك. فقال عمر رضي الله عنه: أردتن

أن يقذف أبو بكر ببكائكن عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه). وقال: (ثلاث من الجاهلية: النياحة، والطعن في الأنساب، وشق الجيب). ولأن النياحة فيها مشابهة من الشناعة التي يستعملها الآدميون فيما بينهم، كأن النياحة تقول فيما تذكره من مدائح المفقود والفوائد التي كانت لأهله فيه: أيها الناس إن هذا المستجمع لهذه الصفات أحفاد إياه سلبنا، أي أن الإساءة، فمن عمل هذا بمكاننا شديدة، وإضراره بناء عظيم. وفي دون هذا ما يحيط الآخر، ويعظم الوزر. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما توفي إبراهيم صلوات الله عليه قال: (القلب يحزن والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزنون) فبان بذلك أن التسليم لأمر الله تعالى إذا وقع هو الواجب، وما خالف ذلك فحرام. * * *

الحادي والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الزهد وقصر الأمل

الحادي والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الزهد وقصر الأمل قال الله عز وجل: {فهل ينظرون إلى الساعة أن تأتيهم بغتة، فقد جاء أشراطها} وقال النبي صلى الله عليه وسلم. (بعثت والساعة كهاتين). فعلمنا بخبر الله عز وجل، ثم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أجل الدنيا قريب، وإذا كان أجل الجماعة قريبًا، قبح من الواحد أن يطيل أمله، ثم لقد جاء الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من شبابك لهرمك ومن صحتك ليوم سقمك، ومن غناك ليوم فقرك) وفي رواية أخرى: (اغتنم خمسًا: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما حق امرئ مسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه). فاستقصر من دافع بالوصية يومين واستكثرهما له. وكل ذلك يدل على أن الاحتياط قصر الأجل، وإن إطالته عشرون، وخداع من المرء لنفسه، وسوء نظر لأمره وأهله وولده وسائر من يعينه شأنه، لأنه لا ساعة إلا ويمكن أن يكون فيها انقضاء أجله، ويدعى فيها ولا يجده بدًا من أن يجيبه. وإذا كان كذلك، فلا معنى لأن من متاع

الدنيا من يرى أنه مخلد غير منقول أبدًا عنها. فإن في ذلك إذا تمكن من قبله لها، استغل عن عبادة الله وطغى، وكأنه بجديته آخرته بقدر عمارته دنياه. فإن الله عز وجل يقول: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى} وإذا نجى بما يمثل طبعه إليه وقصر أمله صار همه للاستعداد للآخر والانقطاع عن الدنيا وذلك أحوط. لأنه إن احتضر قريبًا كما يظن كان ساهيًا عن ربه مقدمًا (ما) يحتاج إليه منقلبه، وإن أمهل فكلما ازداد مهلة ازداد طاعة وبرًا وقربة، فكان ذلك أنظر له من أن ينهمك في الدنيا مطيلًا أمله، فإن احتضر قريبًا من حيث لم يظنه، فكان كمن عافصه سفر لا يجد منه بدًا، وهو لا زاد عنه، ولا راحله له، فيلزمه المشي على قديمه، وأسوأ حال وأقبحها. وإن أمهل لم يزدد على الأيام للدنيا إلا حبًا وعلى عمارتها والاستكناف منها إلا حرصًا. فإن مثله مثل الخمر يدعو قليلها إلى كثيرها، ويسرق القصير منها إلى ما فوقها، فمن علم هذا ثم كان منه في عامة أحواله على ما ذكر كما جاءت الوصية به. فقبل أكثروا ذكرها ذم اللذات لم يدع النظر لنفسه بترك الاحتياط إلى الخطأ إن شاء الله. وقد جاء في هذا الباب من الأخبار والآثار ما لا يمكن انتقاؤها لكثرتها، وقد أوردنا منها ما لابد للكاتب من ذكره. فمنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعًا من خبر بر حتى مضى لسبيله. وروى الحسن رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: يركب الحمار ويلبس الصوف ويأكل على الأرض ويلعق أصابعه ويقول: (إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد). وعن أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحي إلي أن أسبح بحمد ربك، وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) وعن زياد بن جبير رضي الله عنه قال: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم اجعل رزق آل محمد كفافًا، وخير الرزق الكفاف)

وعن الحسن رضي الله عنه قال: دخل عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير موصول، فبكى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما يبكيك؟ فقال: ذكرت كسرى وقيصر، واعلم أنك أكرم على الله منهما، أو تريد الشيء لتنفقه في سبيل الله فما تقدر عليه. فقال: يا ابن الخطاب، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال: بلى. قال: فإنه كذلك). وعن عطاء رضي الله عنه قال: بلغنا أن عمر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فرآه مضطجعًا على ضجاع من أدم، محشو من النثار في البيت إهاب لم تدبغ ملقاة بعضها على بعض، فبكى عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا عمر قال: أبكي لأن كسرى عدو الله في الخز والبز والديباج، وقيصر مثل ذلك. وأنت يا رسول الله، أمين الله، وخيرته على هذه الأمة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسكت يا عمر، فلو شاء أن يسير الجبال الراسيات معي ذهبًا لسارت). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا ولا شاة ولا بعيًرا ولا أوصى شيئًا). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كيف أنعم، وصاحب الصور التقم القرن وحتى صيحته تسمع متى تؤمر أن أنفخ فينفخ. قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا). وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (ما فعلت الذهب؟ قال: قلت هذه هي عندي يا رسول الله، وهي بين التسعة والخمسة فأخذها فجعلها في كفه، ثم قال: ما ظن محمد بالله، لو لقى الله وهذه عنده، أنفقيها). وعن عائشة رضي الله عنها أنها صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم فراشين فأبى أن يضطجع إلى على أحدهما: وعن عبيد بن عمير قال: كان عيسى بن مريم عليهما السلام يأكل من الشجر، ويبيت حيث أمسى، لم يكن له ولد فيموت ولا بنت فتجرب ولا يجبي لغد شيئًا. وعن عروة رضي الله عنه قال: كان دادود النبي صلوات الله عليه يصنع القفف من الخوص وهو

على المنبر ويرسل فيبيعها ويأكل ثمنها. وقال سليمان بن داود صلوات الله عليهما: كان العيش قد جربناه بلينه وشديده، وجدناه يكفي منه أدناه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف وكساء صوف وسراويل صوف وكمه صوف، ونعليه من جلد حمار غير ذكي). وعن عطاء رضي الله عنه قال: بلغنا أن موسى النبي صلى الله عليه وسلم صلوات الله عليه طاف بين الصفا والمروة وعليه جبة قطوانية وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، يجيبه ربه لبيك يا موسى وها أنا معك. وعن مجاهد رضي الله عنه قال: حج البيت سبعون نبيًا، فمنهم موسى صلوات الله عليه، عليه عمامتان قطوانيتان وهو يهل. ومنهم يونس صلوات الله عليه، وهو يقول: لبيك كاشف الضر لبيك. وعن عبد الله رضي الله عنه قال: كانت للأنبياء قبلكم لا يستخبون، يلبسون الصوف ويركبون الحمر ويحلبون الغنم. وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًا- رضي الله عنهم أجمعين- لما دخل بفاطمة- رضي الله عنها- كان فراشها إهاب كبش إذا أرادا أن يناما قلباه على صوفه ووسادتها من أدم حشوها ليف. وفي قصر الأمل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثرون من ذكر هادم اللذات، وما ذكره عبد قط وهو في سعة إلا ضيق عليه، ولا ذكره وهو في ضيق إلا وسع عليه). أم الدرداء رضي الله عنها قالت لأبي الدرداء رضي الله عنه: مالك لا تطلب كما يطلب فلا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أمامكم عقبه كؤود لا يجوزها المثقلون، فأنا أحب أن أتخفف لتلك العقبة). وقال حذيفة رضي الله عنه: إن أقر أيامي، يوم أرجع فيه إلى أهلي فيشكون لي

الحاجة، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل ليتعهد عبده بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده، وإن الله عز وجل ليحمي عبده الدنيا، كما يحمي المريض الطعام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، أفسد لهما من حرص المرء على المال والسرف لدينه). قال الحسن رضي الله عنه: أدركت أقوامًا وشهدت طوائف منهم ما طوى لأحد منهم ثوب قط، ولا أمر في بيتهم صنعة الطعام قط، إن كان أحدهم ليخرج فيعزم على أهله أن لا يردوا سائلًا. وأدركت أقوامًا وشهدت طوائف منهم إن كان أحدهم ليدعى إلى الميراث، هي لك لا حاجة لي به. وأدركت أقوامًا وشهدت طوائف منهم إن كان أحدهم لدينه أبصر منكم لدنياكم بقلوبكم وأبصاركم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد غني أو فقير يوم القيامة إلا ود أن أوتي في الدنيا إلا قوتًا). وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من أصبح أكبر همه غير الله فليس من الله). ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبقر في الأهل والمال إلى التوسع، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاهم. قالت عائشة رضي الله عنها: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمة ولا شاة ولا بعيرًا. وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن درعه لمرهونة عند رجل من اليهود بأصوع من تمر. قال: دخل علي على أبي هاشم بن عيينة بن ربيعة وهو مريض يبكي. قال: ما يبكيك؟ أوجع بشرك أو حرص على الدنيا؟ قال: كلا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدًا لم آخذ به. فقال: يا أبا هاشم سترى أموالًا يرميها أقوام، وإنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله وأراني اليوم قد جمعت. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أن أغبط أوليائي عندي مؤمن ذو حظ من صلاة،

غامض في الناس لا يشار إليه بالأصابع، أطاع الله وأحسن عبادته في السر، وكان عيشه كفافًا، فأعجلت منيته، وقلت بواكيه وقل تراثه). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هل تدرون ما يقيم وجوهكم عند ربكم؟ قالوا: ما؟ قال: بالورع عما نهاكم الله عنه في كتابه وبحسن نياتكم فيما عند الله. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لولا ثلاث ما باليت أو لا أبقى في الأرض ساعة، لولا أني أعفر جنبي ساجدًا وأن أصوم يومًا طويل ما بين الطرفين وأن يغير وجهي في سبيل الله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنتم إذا أشبعتم من ألوان الطعام؟ قالوا: ويكون ذلك يا رسول الله، قال: نعم، فإنكم أدركتموه، ومن أدركه منكم؟ فكبر القوم. ثم قال: كيف أنتم إذا سيرتم كما تسير الكعبة، فرق القوم وقالوا: رغبة يا نبي الله عن الكعبة. قال: لا ولكن من فضل تجدونه. قالوا: نحن يا نبي الله يومئذ خير أم نحن اليوم؟ قال: أنتم اليوم أفضل). وروى أن بعض الصحابة أهدى له هدية فالتمس الرسول في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعها فيه، فلما وجد، قال: (ضعها بالجصص، فلو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما يبقى كافر منها شربة من ماء). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} فقال: (إن النور إذا دخل القلب انشرح وانفتح. قالوا: وهل لذلك من علم يا نبي الله؟ قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: انطلقنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررنا بزقاق من أزقة المدينة، فإذا فيه عناق ميتة، فقال: والله الدنيا أهون على الله من هذه العناق على أهلها حين ألقوها).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن شراب أمتي الذين غدوا بالنعيم ونبت منهم أجسادهم). وقال صلى الله عليه وسلم: (يدخل فقراء المسلمين قبل أغنيائهم الجنة بأربعين سنة). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكلوا فوق شبعكم، وأطعموا فقراءكم، فوالذي نفس محمد بيده ما شبعت ثلاثة أيام متواليات منذ بعثني الله نبيًا من الحبة السمراء). وعن عيسى بن مريم صلوات الله عليه قال: يا معشر الحواريين اعبروا الدنيا ولا تعمروها، إني لم أجد لكم فيها مسكنًا، واتخذ مساجد الله بيوتًا، واتخذوا بيوتكم مساجد ذلك مأوى. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر الحواريين، كلوا خبز الشعير بالملح الجريش، ولا تأكلوا الإبل شهوة وألبسوا مسرح الشعر، وأخرجوا من الدنيا سالمين آمنين، حق أقول لكم: أن حلاوة الدنيا مرارة في الآخرة. وإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين. فإن قال قائل: ما وجه التقرب إلى الله عز وجل بالامتناع مما أباحه الله وأحله، ولم يخلقه إلا لمنقعة عباده من المطاعم الشهية، والملابس الناعمة البهية، والمساكن النزهة، والفرش اللينة؟ فإن قلتم: تتركها في الدنيا لئلا تنقص لأجلها حظوظنا من نعم الآخرة. قيل لكم: النقص من نعيم الآخرة حرمان، والحرمان عقوبة، ولا عقاب على من استحل حلالًا واستباح مباحًا. فلم قلتم أن التنعم بنعيم الدنيا ينقص من نعيم الآخرة أن يفوته؟ فالجواب- وبالله التوفيق-: أن الذي يظهر من وجه التقرب إلى الله عز وجل بترك التنعيم من نعيم الدنيا أمران: أحدهما إن المقيم في الدنيا غير عالم بما هو صائر إليه، وهو يتمثل بين أن يكون من أهل الجنة أو من أهل النار. وإذا كان كذلك لم يكن في حاله محمل للتلذذ والتنعم، لأن النعمة لا تكون نعمة حتى يهيئ صاحبها، ولا تهيؤ للنعمة مع الخوف، ولا خوف أشد من خوف النار. ومعلوم فيما بينا أن من كان من سلطانه على رجل من وعيد وقع له منه فلا يتهيأ معه بنعمة، ولم تمل نفسه إلى شيء من الشهوات ما لم يأمن

جانبه، ويفرغ من ذلك الوعيد قلبه. فالوعيد الواقع من الله عز وجل أحق أن يشغل عن اللذات ويلهي عن الطيبات، إذ وعيده واقع بما لا طاقة لأحد به، ولا صبر لبدن عليه والله أعلم. والآخر: أن النعم المباحة مقتضية ممن ينعم بها شكرًا يقضي حقها، ولا شك في قوى العباد عن مقابلتها عن الشكر بما يكون لها توًا، فكان الاستمتاع بها مع قلة الحمل بحقها استهانة لها، وإعفاء عن حق موليها المنعم بها وذلك خيانة. فإنما روى أهل البصائر والإعراض عنها لئلا ينقلب النعمة عليهم نقمة، ولا تتبدل المنحة محنة. وذلك رأي لاحق لا يلام من وقع له فعمل به والله أعلم. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سلوا الله أن يرزقكم يومًا بيوم ولا عليكم أن يكثر لكم. ومما جاء في قصر الأمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آدم عليه السلام قبل أن يصيب الخطيئة كان أجله بين عينية وأمله خلف ظهره، فلما أصاب الخطيئة جعل أمله بين عينيه، وأجله خلف ظهره). وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، ما يكفيني من الدنيا قال: (ما سد جوعك، ووارى عورتك، ومنزل يظلك وإن كانت لك دابة تركبها) وفي رواية أخرى (وإن كان لك خادم يخدمك فذلك). سئل الزهري رضي الله عنه عن الزهد في الدنيا فقال: أن لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره. أي لا يقصر في شكر الحلال إذا أصابه ويصير عن الحرام إذا أشبهناه ولا نواقعه. وقال أبو عبيدة الباهي دخلنا على الحسن نعوذه في مرضه قال: مرحبًا بكم وأهلًا، حباكم الله بالسلامة، وحبتنا وإياكم دار السلام، هذه علانية إن صبرتم وصدقتم واتقيتم، لا يكونن حظكم من هذا الخير، رحمكم الله أن تسمعوه بهذا الأذى. ويخرج من هذا الأذن، فإنه من رأى محمد صلى الله عليه وسلم فقد رآه غاديًا رائحًا لا يضع لبنة على لبنة ولا فضة على فضة، ولكن رفع له علم فشمر إليه الوجاء الوجاء، ثم النجاء النجاء على ما

تعرجون، أنتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معًا. وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام تلقاه الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء، فقالوا: يا أمير المؤمنين، يلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالتك هذه فقال: إنا أعزنا الله بالإسلام، فلن يلتمس العز بغيره. وعن شفيق بن سلمة رضي الله عنه قال: خرجنا في ليلة مخوفة، فمررنا برجل نائم في أجمة، قد مد حرسه وهي ترعى عند رأسه، فأيقظناه وقلنا له: أتنام في هذا المكان؟ فرفع رأسه وقال: إني لأستحيي من ذي العرش أن يعلم إني أخاف شيئًا دونه، ثم ضرب برأسه فنام. وعن وكيع رضي الله عنه قال: كان عامر بن عبد قيس يربي السباع فيقول: إني لأستحي أن أخاف شيئًا غير الله. وعن إبراهيم اليتمي رضي الله عنه أن أباه كان يلبس الرداء يباع إليه من خلفه ويديه من بين يديه فقلت: يا أبت لو اتخذت رداء أو تبع من رداءك هذا قال: يا بني، لم تقول هذا، فوالله ما على الأرض لقمة لقمتها إلا وددت أنها في أبغض الناس إلي. قال عمر بن ذر ما رأيت على عطاء قميصًا قط، ولا رأيت عليه ثوبًا يساوي خمسة دراهم. وعن علي رضي الله عنه، قال: اشتكت فاطمة رضي الله عنها محل يديها من الطحن، فأمرتها أن تأتي النبي صلى الله عليه وسلم وتسأله خادمًا، فأتته فقال: هل لكل حاجة قالت: لا، فرجعت. قلت: ما صنعت؟ قالت: أتيته فقال: هل لك حاجة قلت: لا. فاستحيت. قال: قلت ارجعي إليه. فأتيته، فوجدته قد رقد فرجعت. فلما استيقظ أتانا وعليه قطيفة إن لبسناها طولًا خرجت جنوبنا، وإن لبسناها عرضًا خرجت أقدامنا ورؤوسنا. فقالوا: لم أتيتنا أنك جئت، فهل لك من حاجة؟ قالت: لا. قلت: بلى، اشتكت محل يديها، فأمرتها أن تسألك خادمًا. فقال: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من الخادم فأمر بأربع وثلاثين وثلاث وثلاثين مرتين تكبر وتحمد وتسبح. وعن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على سخلة ميتة ملقاة على ظهر الطريق، فقال: ترون هذه هينة على أهلها، الدنيا على الله أهون من هذه على أهلها. وعن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح

ذبابة ما أعطى الكافر منها شيئًا). وعن قتادة رضي الله عنه قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أن الدنيا حلوة خضرة، وأن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعلمون. ألا فاتقوا الدنيا واتقوا فتنة النساء). وعن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر). وعن سفيان رضي الله عنه قال: قال لقمان لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق يغرقها فيها ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها، وحشوها إيمان بالله، وشراعها التوكل على الله، فلعلك أن تنجو، وما أدراك بناج. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها بجمع من لا علم له. وعن أبي حازم رضي الله عنه قال: وجدت الدنيا تشير بشيء منها هو لي، فلن أتعجله قبل أجله، ولو طلبت بقوة السموات والأرض، وشيء منها هو لغيري فذاك ما لم أنله فيما مضى، ولن أرجوه. فيما بقى، منع الذي لي من غيري، كما منع الذي لغيري مني، ففي أثني هذين أدى غيري، ووجدت ما أعطيت من الدنيا يشير بشيء يأتي أجله قبل أجلي، فأغلب عليه، وشيء منها يأتي أجلي قبل أجله فأموت أتركه لغيري، ففي اثني هذين أعصي ربي. وعن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا والدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها). قال: ودخل سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه على سلمان يعوده فبكى سلمان. فقال له سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، وتلقى أصحابك وترد عليه الخوص، فقال سلمان: إني لا أبكي جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فقال: (ليكون بلاغ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب وحولي هذه الأساود). فقال سعد: يا أبا عبد الله، أعهد إلينا عهدًا نأخذ به بعدك. فقال: يا سعد، اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند برك إذا قسمت.

وعن الحسن رضي الله عنه قال: إن الذي كانوا من قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلاغًا ويتسارعون بالفضل أنفسهم من الله رحمة، رحم الله عبدًا جعل العيش عيشًا واحدة، فأكل كسرة، ولبس خلقًا، ولزق بالأرض واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة وهرب من العقوبة، وأبقى الرحمة حتى يأتي أجله، وهو كذلك. وعن الحسن رضي الله عنه قال: المؤمن في الدنيا كالغريبة من دلها ألا تنجزع، ولا تنافس أهلها، في عزها لأهلها حال. وله حال أخرى فداهمته نفسه، والناس منه في راحة، ونفسه منه في شغل. وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يوم القيامة غني ولا فقير، إلا ود أن ما كان له من الدنيا قوتًا) وعن محمد بن كعب القرطبي رضي الله عنه قال: إذا أراد الله بعبد خيرًا أزهده في الدنيا، وفقهه في الدين، وبصره عيوبه. ومن أوتيهن، فقد أوتي خيرًا كثيرًا في الدنيا والآخرة. قال وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: إنك لن تنال عمل الآخرة بشيء أفضل من الزهد في الدنيا. وعن جعفر بن ثوبان رضي الله عنه قال: بلغني أن وهب ابن منبه قال: أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا، وأوشك ردعًا إتباع الهوى. ومن إتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة في الدنيا حب المال، ومن حب المال والصرف استحلال المحارم، ومن استحلال المحارم غضب الله، الداء لا دواء له، إلا رضوان الله، ورضوان الله الدواء الذي لا يضر معه داء، فمن يرد أن يرضي ربه يسخط نفسه ومن لا يسخط نفسه يرضي الله. وقال رجل للحسن رضي الله عنه: أن فقهاءنا يقولون: وقال الحسن: وهل رأيت فقيهًا؟ الفقيه الزاهد في دنياه، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه. وعن سفيان رضي الله عنه قال: كان بعض أهل العلم يقول: إذا رأيتم الرجل يزهد في الدنيا، فأدنوا منه، فإنه يلقي الحكمة. وعن بكر بن عبد الله المزني قال: كانت امرأة متعبدة باليمن، فإذا أمست قالت: يا نفس الليلة ليلتك، لا ليلة لك غيرها. فاجتهدت، وإذا أصبحت قالت: يا نفس، اليوم يومك، لا يولك لك غيره، فاجتهدت.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فأثروا ما يبقى على ما يفنى). وعن الحسن رضي الله عنه قال: قال عامر بن عبد قيس: صرفت عن الدنيا، فانصرفت إلا عن أمرين: النوم والطعام، وأيم الله لأصبرن بهما جهدي. وعن طاووس رضي الله عنه قال: من كانت الدنيا أكبر همه جعل فقره بين عينيه وأقسى عليه صنعته. ومن كانت الآخرة أكبر همه جعل الغنى في قلبه، وأمسك عليه صنعته. وعن الحسن رضي الله عنه. يا ابن آدم، بع دنياك بآخرتك ونجهما جميعًا. ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا. وعن الحسن رضي الله عنه قال: يا ابن آدم، لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، فعليك بنصيبك من الآخرة، فإنه سيأتي على نفسك من الدنيا فينتظم انتظامًا فيزول معك حيثما زلت. وعن الحسن رضي الله عنه قال: يا ابن آدم، إذا رأيت الناس في خير فناصبهم فيه، وإذا رأيتهم في هلكة فذرهم وما اختاروا لأنفسهم. فقد رأيت أقوامًا آثروا عاجلتهم على عاقبتهم، فذلوا وهلكوا وافتضحوا. وعن خيثمة رضي الله عنه قال: تقول الملائكة: يا رب، عبدك الكافر تبسط له في الدنيا وتزوي عنه البلاء، فتقول الملائكة: اكشفوا عن ثوابه، فإذا رأوا ثوابه قالوا: يا رب، ما يضره ما أصابه في الدنيا. وعن سعد بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للفقراء زين على المؤمن من العذار الحسن على حد القرنين). قال: وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يؤم الناس في شهر رمضان بدمشق ففرغ من بعض القيام، ثم أقبل على الناس بوجه فقال: يا أهل دمشق ألا تتجيرون فيما تصنعون؟ فقال القوم: ما بلغ أبا الدرداء عنا. فوجد القوم في أنفسهم فقال: إنكم- والله- لأخواني في الدين، وجيراني في الدار، وأعواني على العدو، فلا تستحيون مما تصنعون تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون كالذين من قبلكم، بنوا شديدًا وجمعوا وأملوا بعيدًا، فأصبحت بيوتهم قبورًا وجمعهم بورًا وآمالهم غرورًا. وعن مسروق رضي الله عنه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أماه ما أكثر ما

كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا دخل البيت: (لو أن لابن آدم واديان من ذهب لتمنى إليهما ثالثًا، لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، إنما جعل الله هذا المال، لتقام به الصلاة، وتؤتى به الزكاة. ويتوب الله على من تاب). وعن أبي الدرداء- رضي الله عنه- قال: من أكثر ذكر الموت، قل فرحه وقل حسده. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وحاسبوها قبل أن تحاسبوا فإنه أهون عليكم غدًا، وتزينوا للعرض الأكبر، وذلك يوم القيامة يومئذ تعرضون، لا تخفى منكم خافية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيت رجلًا أشد محاسبة لنفسه من عمر، كان يجلس فيقول: ما صنعت اليوم كذا، وصنعت كذا، ثم يضرب هره بالدرة. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: اعبدوا الله كأنكم تروه، وعدوا أنفسكم من الموتى، واعلموا أن قليلًا يغنيكم خير من كثير يلهيكم. واعلموا أن البر لا يبلى وأن الإثم لا ينس. وعن وهب بن منبه رضي الله عنه قال: مكتوب في حكمة آل داود، حق العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات من النهار: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يقضي فيها إليها إخوانه من المسلمين الذين ينصحونه في نفسه ويصدونه عن عيوبه وساعة تخلى بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويجمل. فإن هذه الساعة تكون له عون على هذه الساعات واستجمام للقلوب وفضل بلغه. وعلى الغافل أن يكون مالكًا للسانه، مقبلًا على شأنه. وعن الحسن رضي الله عنه قال: لقي رجل أخاه فقال: يا ابن أخي، أجاءك عن الله أنك وارد النار؟ قال: يا بني، والله لقد جاء في عن الله {وإن منكم إلا واردها، كان على ربك حتمًا مقضيًا}. قال ابن أخي: أجاءك أنك صادر عنها؟ قال: لا، والله لقد جاءني في الورود ولم نخش الصدور. قال يا ابن أخي، فقيم الضحك وقيم اللعب وقيم التناقل.

قال بكى عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه- فبكت امرأته، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك بكيت فبكيت قال: إني أنبئت أني وارد النار، ولم أنبأ أني صادر ههنا. قيل: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: (أين الراضون بالمقدور والساعون للمشكور عجبت لمن أيقن بدار الخلود كيف يسعى لدار الغرور). وعن الحسن رضي الله عنه قال: المؤمن- والله- يمسي حزينًا ويصبح حزينًا. وكان الحسن رضي الله عنه قل ما إلا رأيته كالرجل تصيبه مصيبة محدثه. وعن الحسن رضي الله عنه قال: ما عبد الله بمثل الحزن. وقال عامر بن قيس: أكثر الناس فرحًا في الجنة أطولهم حزنًا في الدنيا. وأكثر الناس ضحكًا في الجنة، أكثرهم بكاء في الدنيا. وأخلص الناس إيمانًا يوم القيامة، أكثرهم تفكيرًا في الدنيا. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا سكينًا لبيبًا. ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا ولا غافلًا ولا صخابًا ولا صياحًا ولا جديدًا. وعن أبي موسى الجهني رضي الله عنه قال: سمعت عون بن عبد الله بن عتبة وهو يقول: ويحيى، كيف أغفل ولا يغفل عني، أم كيف تهويني معيشتي واليوم الثقيل ورائي، أم كيف لا يطول حزني ولا أدري ما فعل في ذنبي. وعن مجاهد رضي الله عنه قال: من بيت مذر ولا وبر وألا يطيف به ملك الموت كل يوم مرتين. وعن صالح أبي الخليل رحمه الله قال: ما رأى النبي ضاحكًا ولا متبسمًا منذ نزلت {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون} وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم

قليلًا). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبكي رجل من خشية الله فيدخل النار أبدًا حتى يلج اللبن في الضرع). وعن حمران بن أعين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {إن لدينا أنكالًا وجحيمًا وطعامًا ذا غصة} قال: فصعق. وعن أبي الزارع رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أحبك. فقال: (إن كنت تحبني، فأعد للفقر تجفافًا، فإن الفقر إلى من يحبني أسرع من السيل إلى منتهاه). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأكثرين هم الأسفلون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا أربع مرات، وقليل ماهم). وعن الزهري أن عمر رضي الله عنه أتى بغنائم فجعل يقلبها ويبكي، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: يا مير المؤمنين هذا يوم فرح، فقال: والله ما أوتيه قوم إلا وقع بينهم العداوة والبغضاء. وعن محمد بن خير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمال من البحرين، فلما سمع به المهاجرون والأنصار حضروا فخرج النبي، فلما رآهم تبسم وقال: (أسمعتم بهذا المال الذي جاءني؟ قالوا: نعم. قال: أبشروا وأقبلوا الذي بشركم، فوالذي نفسي بيده ما أخف عليكم الفقر، ولكني أخاف عليكم الدنيا أن تفتح عليكم من ها هنا وها هنا، فيعجبكم كما أعجب الذين من قبلكم، ويهلككم كما أهلكت الذين من قبلكم). وعن حباب بن الإرث رضي الله عنه قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي به وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه، إلا نمرة كنا إذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، وإذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه. فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم:

(ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه شيء من الأرض). ومنا من أينعت ثمرته فهو يهديها. وعن ثوبان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر كان آخر ما يكون عهده به فاطمة، وإذا قدم كان أول ما يأتيها، فجاء من سفره وقد علقت سترًا، وسورت الحسن والحسين سوارين من فضة، فلم يدخل عليها. فظنت إنما منعه الستر والسواران، فهتكت الستر ونزعت السوارين، وقالت: انطلقوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب به إليه فقال: (هؤلاء أهل بيتي أكره أن تأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان اذهب بهما إلى فلان واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج). وعن الحسن رضي الله عنه قال: أكل ابن سمرة بن جندب حتى بشم، فتقيأ، فقال له سمرة: لو مت ما صليت عليك. وعن مطرف بن الشجير عن أبيه رضي الله عنهما أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {ألهاكم التكاثر} فقال: (يقول ابن آدم: مالي مالي وهل لك من مال إلا ما تصدقت فأمضيت، أو لبست فأبليت أو أكلت فأفنيت). وعن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الميت قالت الملائكة: ما قدم؟ ويقول بنو آدم: ما ترك). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (إن أردت اللحوق بي، فليكفك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك مجالسة الأغنياء، ولا تستخلفي ثوبًا حتى ترقيعه). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هم فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم. وعن عون ابن عبد الله بن عتبة رضي الله عنه قال: كم من مستقبل يوم لا يستكمله، وكم من منتظر غدًا لا يبلغه. لو نظرتم في الأجل ومسيرة لأبغضتم الأمل وعدوله.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. وإذا أمسيت فلا تحث نفسك بالضياع، وخذ من حياتك قبل موتك، ومن صحتك قبل سقمك، فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا). وعن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (كلكم يجب أن يدخل الجنة. قالوا: نعم يا رسول الله، فدانا الله فداك. قال: فاقصروا من الأمل واستحيوا من الله حق الحياء. قالوا: يا رسول الله، لكنا نستحي من الله. قال: أليس ذاك الحياء، ولكن الحياء من الله: أن تذكروا المقابر والبلى والجوف وما وعى، والرأس وما احتوى. ومن يشتهي كرامة الآخرة يدع زينة الدنيا هنالك استحياء العبد من الله، وأصاب ولاية الله) وعن علي رضي الله عنه قال: أخوف ما أخوف عليكم انتياب طول الأمل واتباع الهوى أما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما إتباع الهوى فيصد عن الحق أن الدنيا قد أديت مدبرة، والآخرة مقبلة، ولكل واحد منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة. فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل. وعن قتادة رضي الله عنه قال: قال لقمان لابنه: يا بني اعتزل الشر كما يغتر لك، فإن الشر للشر حاق. وعن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم ومجالس الطرق، فإن كنتم جالسين لا محالة، فإن عليكم أن تغضوا البصر وأن تعينوا الضعيف وأن تهدوا الطريق وأن تردوا السلام). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال لابنه وهو يوصيه: ليسعك بيتك، وابل من خطيئتك، واملك عليك إساءة. وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: وددت أن لي سدادًا من عيش، وأن بيني وبين الناس باب مغلق. وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعجب الناس إلى منزله، رجل يؤمن بالله ورسوله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعمر ماله ويحفظ دينه). وعن مجاهد رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا خير عيشنا في الصبر. وعن علي رضي الله عنه: لا يرجون العبد إلا ربه، لا يخافن إلا دينه، ولا يستحي العالم إذا سئل عن شيء لا يعلمه أن يقول: لا أعلم. ولا

يستحي الذي لا يعلم أن يتعلم. وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، إذا قطع الرأس بان سائر الجسد. إلا أنه لا إيمان لمن لا صبر له. قال: مكتوب في الحكمة، يا بني إياك وشدة الغضب، فإن شدة الغضب منحقة لفؤاد الحكيم. وعن حارثة بن حكيم أنه قال: حدثني عمر أن أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني شيئًا ينفعني الله به؟ أو قال لعلي أعلى ما بقول. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغضب) فأعاد عليه مرارًا، يقول النبي: (لا تغضب). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرعه الرجال. قال: لا، ولكن الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب). وفي قصر الأمل قال: سأل عبد الملك بن مروان زر بن حفيش كتابًا يعظه فيه، فكان في آخر كتابه: لا يطعمنك في طول الحياة ما يظهر من صحة بدنك، فأنت أعلم بنفسك واذكر ما تكلم به الأولون: إذا الرجل ولدت أولادها وبليت من كبر أجسادها وجعلت أسقامها يعتادها تلك زروع قد دنا حصادها فلما قرأ عبد الملك الكتاب حتى بل طرف ثوبه. صدق زر، صدق زر، وبالله التوفيق.

الثاني والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الغيرة والمذاء

الثاني والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الغيرة والمذاء جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغيرة من الإيمان والمذاء من النفاق) والمذاء أن يجمع بين الرجال والنساء ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضًا، وأخذه من المذي. وقيل: هو إرسال الرجال مع النساء من قولهم: مذيت فرسي إذا أورتها ترعى. وقال: عز وجل {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} يعني الكحل والخاتم {وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} إلى قوله عز وجل {أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء}. فلم يأذن لامرأة أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له. ولمن هي محرمة عليه في التأييد، فيؤمن أن يتحرك طبعه إليها لوقوع الناس له منها، أو إن كان له إلى نكاحها سيبل كان غير ذي اربة من النساء، أو غير ذي علم بهن. وهذه هو الغيرة التي وصى الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها المؤمنات. وقال في نساء النبي خاصة: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا، وقرن في بيوتكن، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} فحماهن لأجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن ينسب إليهن، فينسب بما يوحش رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسؤوه. وقال: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا} فدخل في جملة ذلك أن يحمي الرجل امرأته وبنته مخالطة الرجال ومحادثتهم والخلوة بهم. وقال أحد المخنثين في غزوة ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم: (لئن فتح لنا الطائف غدًا دللتك على أم غيلان، فإنها تقبل بأربع

وتدبر بثمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت لا أراك تعرف هذا؟) وأمر نساءه أن يحتجبن عنه. وقال الله عز وجل: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} أي فلا يؤذيهن المنافقون، أن يتعرضوا لهن إذا علموهن مؤمنات قصدًا إلى إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، أو أولئك المؤمنين الذين ينسبن إليهم. وهذا الذي ورد به الشرع من الحث على الغيرة، وبإلحاقها بشعب الإيمان، وإدخالها في جملة العري والأركان، فهو موافق لما جبل الناس عليه من الكراهية الشديدة لأن يصيب أجنبي من امرأة أحد منهم أو ابنته أو أخته، ما لا يحل له، وإن كان ذلك خطأ بعد أن يكون منسوبًا بما لو أظهره لشق احتماله والإغضاء عنه. فإن هذا باب تسفك فيه الدماء، وتنشأ منه إحن وبوائر، لا تعمل الحيل واللطائف في إطفائها. فإذا انضم الشرع إلى الطبع فقد تأكد الأمر ولم يكن لأحد مع ذلك أن يأخذ ما هو ينافيه مقدرًا، إن ذلك من باب الصفح الجميل، وبالدفع بالتي هي أحسن والعفو المستحب. بل ينبغي أن يعلم أنه هو باب التقصير القادح من الإنسانية المباين للديانة، الجالب للضرر العظيم، فإنه إذا تفحش ولم يحسم من أوله لم يؤمن أن يكون منه التباس النسب، والعار الذي يجلبه تلوث الفراش وسوء الأحدوثة ولو كان هذا كله محتملًا، ولو كان الأمر فيه عند الله يسيرًا، لما تناهر الزوج إذا قذف امرأته، ولما جعل إيمانه حجة له، ولما عذره بما لا يقدر الأجنبي القاذف به. ولما حكم بأن اللعان قاطع للفراش والنسب، فحرم عليه أبدًا. وإنما فعل ذلك كله على عظم لهذا الأمر عند الله. وما كان بهذه المنزلة، لم يكن الصبر عليه يستحسن، إنما يحمد الصبر على ما رضى الله تعالى الصبر عليه، وما ظهر أن الصبر عليه ليس بصائر. فأما ما نزل هذه المنزلة فالصبر عليه من أقبح الأمور وبالله التوفيق. ثم إن الغيرة إذا كانت بالمحل الذي ذكرنا، فإنما تكون إذا وقعت في موضع الريبة. فأما إذا وقعت لا في موضع الريبة، فلم تطب نفس الرجل بأن يخلي أخته تخلو بأخيه، أو ابنته بابنه، او بأن تخلو امرأته وأخوها، أو امرأته وأبوها، فليس ذلك بمحمود.

روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من الغيرة ما يجب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله في غير الريبة). وكان إبراهيم يكره أن يبعث الخادم ليلًا في حاجة ويقول: أكره أن أعرضها للريبة. وذهب بعض أهل العلم، إلى أن معنى (أن الغيرة من الإيمان) الغيرة على الدين حتى إذا سمع ما يقع مخالفًا في الدين، يطعن في دين الإسلام أو يذكر الله عز وجل بما لا يجوز أن ويذكر به، أو يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يحل. أو يذكر القرآن بمثل ذلك لم يسكت ولم يعص ولم يظن أن ذلك من باب الغيرة المستحب، فإن هو أعصى وسكت كان منافقًا، لأن الله عز وجل قال في الجالسين مع الذين يستهزئون بآيات الله إنكم إذًا مثلهم، إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا، وهذا قاله هذا القائل، إن كان مرادًا فذلك لا يمنع من أن يكون ما قلنا مرادًا. وقد يجوز أن يكون الحديث عامًا لهم، وإن كان خاصًا فالغيرة المعروفة إذا طلع ذكرها هي ما قلنا، فقصره عليها أولى من قصره على غيرها والله أعلم. ومن صرف الحديث إلى الغيرة على الدين، إن جملة ذلك أن لا يخاصم المسلم اليهودي في المفاضلة بين نبينا وموسى صلوات الله عليهما. ولا النصراني في المفاضلة بين نبينا وعيسى صلوات الله عليهما. فإنه إذا فعل ذلك لم يؤمن أن يحملها المراد وما يقصدانه في المبالغة في تفضيل موسى وعيسى على أن بعضًا من النبي صلى الله عليه وسلم، بعضًا من أمره. فيكون المسلم مخاصمته إياهما هو الجالب لذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. وإذا أمكن أن يقع ذلك في الغيرة على الدين يقتضي مجانبته والتحرز منه. وقد قال الله عز وجل: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فسبوا الله عدوًا بغير علم} فصار هذا أصلًا في هذا الباب. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع مسلمًا ويهوديًا يخاصمان، فيقول المسلم: لا والذي اصطفى محمدًا على البشر، ويقول اليهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر. فقال: (لا تفضلوني على موسى) وإنما أراد عنه بأن لا تفضلوني عند اليهود. وإذا كلمتم اليهود

على موسى لئلا يعصوا لذلك منه أو يسبوه. فيكون المسلمون هم الجالبين لذلك إليه، ونعوذ بالله منه. ويدخل في هذا الباب المحافظة على الجهاد في سبيل الله دفعًا للمشركين عن جوزة المسلمين، وإشفاقًا من أن يظهروا على شيء من الدار فيسبوا النساء والذراي، ويسترقوا الأحرار. لأن الغيرة المذكورة في الحديث، إن كانت الغيرة على النساء فهي تقتضي الجهاد ودفع الأعداء. وإن كانت الغيرة على الدين، فكذلك إن تمكين الكفار من إصابة المسلمات مخالف للدين. فالجهاد في الوجهين من الغيرة التي جاء في الحديث أنها من الإيمان وبالله التوفيق. فأول ما يدخل في هذه الجملة، الغيرة من كل مسلم على دينه حتى لا يتسم بركوب المعاصي، ولا ينظر اليهود والنصارى إلى المسلمين وهم يتعاطون ما يزعمون أنه حرام عليهم، ويعلمون من أنفسهم كيف تحاشيهم محظورات أديانهم، حتى أن كبيرهم يحرم عليهم الشيء فلا يأتونه سرًا ولا جهرًا، ويحرم على الرجل أن يكلم امرأته فلا يكلمها ولا تكلمه وهما في بيت واحد ولا ثالث معهما. فيروا أن المسلمين ليسوا على ثقة من دينهم، وأنهم لو كانوا عالمين أن دينهم حق ليردعوا عما يحرمه دينهم. أو صدقوا إنما يقولون أنهم متحزبون بعد الموت، لا يشكوا عما يقدمون عليه. فهذا من أولى ما يغار به على الدين والله أعلم. * * *

الثالث والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الإعراض عن اللغو

الثالث والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الإعراض عن اللغو قال الله عز وجل: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون}. وقال: {والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كرامًا}. وقال: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه}. واللغو الباطل الذي لا يتصل بفعل صحيح. ولا يكون لقائله فيه فائدة، وربما كان وبالًا عليه، ثم ينقسم فيكون منه أن يتكلم الرجل بما لا يعنيه من أمور الناس فيفشي أسرارهم، ويهتك أستارهم، ويذكر أموالهم وأحوالهم ومعاملاتهم من غير حاجة على شيء من ذلك عادة. سواء ألفها فلا يريد النزوع عنها، ويكون من الخوض فيما لا يحل من ذكر الفجار والفجور والفساق والفسوق، والملاهي ونحو ذلك. ويكون منه الافتخار بلأي الجاهلي والتمدح بها، والذكر للمعاملات المبينة على الاستطالة والعسف، بتقدير أن منها مفتخرًا وأن لها محتجًا، ويكون منه خوض المبطلين في القصائد والنحل فيما عندهم، وبفضلهم إياه على ما عندهم بالدعاوى والتوسع في المقال من غير حجة ولا برهان. ويكون منه إنشاد الأشعار المنقولة في ضروب الأحاديث، وتكون منه دراسة الحساب وفصول المسائل التي وضعوها في المثلثات والمربعات والمخمسات، مما لا يجدي على أهلها نفعًا في العاجل ولا في الآجل، والاشتغال بها تضييع للزمان، فكل ما كان لغوًا فينبغي أن لا يشتغل به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). قيل مر زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع فسمع لهوًا فأسرع المشي، وقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نزهوا أسماعكم عن الباطل)

ويعرض عنه فلا يكلم الملاهي ولا يشارك في حديثه، ولا يجلس عنده فيصغي إليه. وإن دعت الضرورة إلى الجلوس عند سكت عنه ولم يتلق حديثه منه، كما يتلقى عن اللغو ممن يقوله، ويظهر كراهيته لوجه، وإن أمكن وعظه وردعه عما هو عليه، وصرفه إلى ما هو أولى وألزم، فعل. فأما الإعراض عن أهل النحل الفاسدة فلا ينبغي لمن كان من أهله، ومن كان من أهله فليسكت عنهم إذا لم يكن كلامهم كلام من يحاج ويجادل، وإنما يريدون التشيع والشغب، إلا أن يخشى من ضعضعة المسلمين اعتزازً بهم وجنوحًا إليهم. فلا ينبغي عند ذلك أن يسكت عنهم، وبالله التوفيق. هذا كله وراء الآيات التي كتبناها والسنة التي رويناها لوجهين: أحدهما إن ترك الإعراض من اللغو إنما يكون بالإقبال عليه والكلام نحو الكلام، والسمع مستنطق اللسان، فلا يؤمن أن يكون من المقبل على اللاغي، والمخالط له مشاركة له، ومجاراة إياه، وفي الإعراض أمان منه. فلذلك كان أولى. والوجه الآخر: إن مجالسة اللاغي والإصغاء إليه تضييع للزمان، والعمر مر، والزمان مستعاد فاغتنامه بإنفاذه في الحق والجد أولى من تضييعه وشغله بما لا فائدة منه، والله أعلم. * * *

الرابع والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الجود والسخاء

الرابع والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الجود والسخاء جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السخاء قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة). وأنه قال: (خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق) وأنه قال: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبدًا أبدًا). ومن قبل ذلك فقد قال الله عز وجل فيما يثني به على الذين يسمحون بأموالهم لأجل الحاجة إليها، فقال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء}. وقال: {هدى للمتقين الذي يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}. وقال: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. وقال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}. وهذا السياق يدل على أن هذه النفقة غير الزكاة وذم المحالفي، غير أنه قال: {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما أتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا}. وقال: {فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه}. وقال:

{والله لا يحب كل مختال فخور، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد} وقال: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. وقال: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذا أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، فأصبحت كالصريم}. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى} يقول: من أعطى من ماله واتقى وصدق بالخلف من الله فسنيسره للخير. وأما من بخل واستغنى عن ربه وكذب بالخلف فسنيسره للعسرى، يقول: للشر. فثبت بجمع ما ذكرت أن الجلود من مكارم الأخلاق والبخل من أرذلها. وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء، والبخل الذي لا يمنع لا في موضع العطاء. لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء. فكل من استفاد مما يعطى أجرًا أو حمدًا، فهو جواد، ومن استحق بالمنع ذمًا أو عقابًا فهو البخيل ومن لم يستفد بالعطاء أجرًا ولا حمدًا، أو استوجب به ذمًا فليس بجواد، وإنما هو مسرف مذموم، وهو من المبذرين الذين جعلهم الله إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم. ومن لم يستوجب بالمنع عقابًا ولا ذمًا، أو استوجب به حمدًا فهو من أهل الرشد الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم بحسن تدبيرهم وسد اذرائهم، ولا يقال لهذا بخيل. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على الجود وذم البخيل وقيل: (لا تنهمكوا على غير ما بكم) أي لا تسقصوا عليهم فتستوفوا جميع الحق ولا تدعوا منه شيئًا. وجاء عنه في البخل، قال صلى الله عليه وسلم: (من شر ما أعطي العبد شح هالع وجبن خالع) الهالع المحزن. والخالع المخيف، الذي يخلع القلب من شدته يقال: أقبل الفصل لبن أمه إذا استنفذه، فلم يبق الثدي شيئًا. قلت: يحتمل أن يكون نهى عن ذلك إذا كان في الاستيفاء إبعاد الغريم. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض البخيل في حياته، الشحيح عند

موته) وإذا قد ظهر الجود والبخل فليتكلم على علة مدح الجواد وذم البخيل، فيقول إن الجواد متأدب بأدب الله، فإن الله تعالى عامل عباده بالخوف، فمن عليهم بالنعم التي سبق ذكرها. كذلك لما جعل لهم سبيلًا إلى أن ينعموا على غيرهم، كان الإنعام منهم محمودًا. ألا ترى أن الله تعالى لما وصف نفسه بأن يغفر الذنوب ويعفوا عن السيئات، ثم جعل لعباده سبيلًا إلى أن يعفوا عن من أساء إليهم، ويغفروا لهم، كان العفو والتجاوز عنهم محمودًا. ولما علم عباده ما لم يكن يعلمونه، ومن عليهم بذلك. جعل لهم السبل إلى أن يعلموا غيرهم ما علمهموه، كان التعليم منهم محمودًا. فكذلك الجواد بالمال هذا سبيله. وأيضًا فإن الجود مما يبعث عليه أهل الرأي والتمييز، لأن العاقل إذا ذكر في أنه إن لم يؤخذ ماله عنه بعوارض الآفات، أخذ عن ماله مما كتب عليه من الممات. ثم لا يدري أن الذي يخالفه في ماله، ماذا يصنع به، وفيم ينفقه. علم أن ما يجعله منه ما يوجب له حمدًا في العاجل، وأجرًا في الآجل، أولى به وأعود عليه، وانظر له من أن يمسكه حتى يأتيه المنية، فينتقل من ملكه وهو كاره إلى من إن أحسن فيه فلنفسه، ولا يرجع إليه من إحسانه شيئًا، ولا يجب له به أجر. هذا والعوارض مخوفة والآفات غير مأمونة. وما يدريه لعله إذا أمسك ماله فقد بان له في الاحتياط، انقلب المال وبالًا عليه، فكانت منيته. ولعله يسرق أو يغضب أو تأكله النار أو الماء. وإذا كان كل ذلك ممكن لا يعصمه منه إمساكه والشح به، فإن ينظر لنفسه، ويجوز لها حظًا من حمد أو أجر، أولى به من أن يعرضه ويتعرض به للخطر وبالله التوفيق. هذا وليس فائدة المال إمساكه، إنما فائدته صرفه فيما ينفع مالكه. ولا يقع أعظم من اكتساب الذكر الجميل والاسم الحسن الحميد، واستحباب الأجر العظيم. والثواب الكريم. فمن كان لا يستحقها بالإنفاق فيما يوجب له في العاجل المحمدة، وفي الآجل الجنة وبالله التوفيق. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. قالت: قلت يا رسول الله، إنه ليس في بيتي إلا ما أدخل على الزبير، أفأعطي؟ قال: (نعم ولا توكي فيو كأعليك).

وقال صلى الله عليه وسلم: (السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار. والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار. والجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا منان). فأما البخيل فإنه بخل لمخالفته بما رضى الله تعالى به لنفسه من المعاملة، ويمدح بها، وأوجب على عباده شكره عليها. وفيه أن الناس كلهم ليسوا بأغنياء ولكن منهم فقراء وأوساطًا. فإذا شح الغني بماله ضاق الأمر على من ليس له في مثل حاله، وذلك لؤم بالغني وقسوة، ويسوء دخله أن يرى بأخيه المسلم حاجة وهو قادر أن يقضيها له ويبلغ فيها مراده من غير ضرر يرجع عليه، فيتركه مرتبكًا في حاجته، مهتمًا بأمر نفسه لا لغرض يكون له في ذلك، أكثر من الإشفاق على ماله أن ينقص ذلك النقص إذا دفع، لم يبن عليه منه أثر، ولا لحقه لأجله ضرر. فلما كان هذا في العادات المعقولة كما ذكرنا، وفي الشريعة مخالفًا لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) استحق أن يكون مذمومًا. وأيضًا فإن البخيل مغرور بماله وهو عند نفسه محتاط. لأنا قد ذكرنا في الوجه الذي قيل، هذا ما في الجدد من الاحتياط والنظر في الجواد، وحبًا في الإمساك من التغرير. وكل ما قلنا فيه، فهو من البخيل بخلافه. وأيضًا فإن المنفق ماله في الشهوات أنفق ولا لوجه الله تصدق فهو المحروم الذي خسر الدنيا والآخرة، ولو عدم المال فقال ذلة العدم لكان خيرًا له من أن يجد فيحرم فائدة الوجد، فيكون المال وبالًا عليه، والنكر حاصلًا له وواصلًا إليه. ولولا أن ذلك كذلك، لا شبه أن لا يقول الله عز وجل {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. فصل وقد تتفق أحوال وداد الجود والسماحة فيها فضلًا، نحو إن شكر قوم يجوز وعد غيرهم من فضول المال ما يقدرون به على تخليصهم، أو نفع حاجة إلى عمارة مسجد

الجماعة، أو حفر نهرهم وليس عند الجميع ما يقدرون به على تحمل المؤونة، وعند بعضهم من المال ما يتسع المؤاساه، والجمالة عن الآخرين، أو يقع بين قوم ثأر ولزم أن يؤاخيهم أو غير ذلك، ويمكن إصلاح ذات بينهم بشيء من المال. فإن الأحسن في هذا كله البذل والإنفاق والسماحة، وفيه الذكر والثوبة. فأما إذا قحط الناس وأعوز بعضهم الطعام، وكان عند الآخرين من فضول أقواتهم ما يقدرون به على المواساة، فحرام عليهم أن يحرموهم ولا يطعموهم، إما متصدقين وإما معارضين، وليس الإطعام في هذه الحال بجود، إنما الجود أن لا يرغب في العوض، فإن تصدق على المحتاج ولم يبعه الطعام فقد جاد، والله أعلم. ومن الأوقات التي يستحب فيها الجود شهر رمضان، لأن الناس كلهم يكونون مشاغيل بالصيام والصلاة وقراءة القرآن. فإذا قام المكفيون الموسعون، بأمر الأوساط والمحتاجين يفرغوا للعبادة وإذا خلوهم وأنفسهم اشتغلوا بالسعي على أنفسهم على العبادة. فكان حمل الكلفة عنهم إرفاقًا لنفوسهم حتى لا يجتمع عليها جهد الصوم ونصب الاضطراب والتصرف وأعانهم لهم على العبادة. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان أجود الناس بالخير، فكان أجود ما يكون في شهر رمضان. وكان يلقاه جبريل صلوات الله عليه، فيقرأ عليه القرآن. فكان إذا رآه أجود بالخير من الريح المرسلة صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الريح المرسلة هي واحدة الرياح التي وصفها الله تعالى بأنه يرسلها بشرى بين يدي رحمته، وأنه يرسلها فتسير السحاب. وقال تعالى: {والمرسلات عرفا} وإنما أراد بذلك أنه لا يتمالك في تلك الحال، بل كان يسمح بما عنده كما أن الشيء الريح لا يملك حبس رائحته لكنها تفوح فيحبسها من يدنو منها والله أعلم. فصل ومن وجوه البخل أن يرد الواحد الصدقة، فيعمد إلى أرذل الأموال فيتصدق بها، وهذا بخل منه يجوده المال، كما أنه لو حبس الصدقة أصلًا لكان ذلك بخلًا منه بنفس

المال، والله عز وجل يقول في مثل هذا: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} ومن وجوه البخل أن يعطى ثم يحدث بالذي أعطى، أو يمن به على من أعطى، وهما جميعًا مذمومان. قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}. فالمن المتحدث به، والأذى التغير. وإنما ألحقنا الأمرين بالبخل لأن كل واحد منهما يوحش المعطى ويزيل عن قلبه السرور الذي كان له بالعطية، ويصفها عليه، فيصير المعطي كالمسترجع لها منه، أو كالراجع عليه بعوض، لأنه لا يسلم له منفعة ما أخذ إلا بما أخذ من عوضه بإزائه، ويكون ذلك شرًا من البيع في الابتداء والله أعلم. فإن قال قائل: فإن البخلاء قد وصفوا لأنفسهم أصلًا فقالوا: المال لله، والعبد لله، فإنما عبد حرمه الله مالًا، فالأولى بالذي أعطاه أن يمنع من منعه الله، فإنه إن أعطاه فقد خالف ربه، وأراد أن يكون له الفضل عليه، إذ كان الرب قد منع وهذا يعطي. فالجواب: إن هذا جهل عن قائله، وهو الذي حكاه الله تعالى عن الكفار فقال: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين آمنوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}. وهذا ظن فاسد، لأنه لو كان صحيحًا، لوجب أن يكون تعليم الجاهل ومداواة المريض وتخليص المحبوس، وكل عمل يعمله من يحسنه لمن لا يحسنه، ومن يقدر عليه، قبيحًا مستكبرًا لمثل العلة التي اعتل بها لتحسين البخل ومنع المحتاج. وإذا لم تكن هذه الأمور التي عددناها قبيحة بل كانت في نهاية الحسن، فكذلك الجود وإعطاء المحتاج مثلها والله أعلم.

الخامس والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في رحم الصغير وتوقير الكبير

الخامس والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في رحم الصغير وتوقير الكبير وإنما ذكرتهما في باب واحد، لأن المعنى معاملة كل واحد بحسب سعة وقدر قوته، وما يليق بمنزلته. فالذي يقتضيه حال الكبير أن يوقر. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لم يرحم صغيرًا ولم يوقر كبيرًا). وأما توقير الكبير، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لقوم تقدموا إليه في حديث فتكلم أصغرهم فقال له: (الكبر كبر) أي قدم من هو اكبر منك ليتقدم. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه). وأنه ألقى بحرير كساه لما دخل عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين- وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى). وروى أنه قبل الحسن بن علي، والأقرع بن حانس جالس، فقال الأقرع: أن لي لعشرة من الولد، ما قبلت أحد منهم قط. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنه لا يرحم من لا يرحم). وفي الرحمة أبو سعيد قال: صلى الفجر بأقصر سورتين في القرآن. فقلنا: يا رسول الله، صليت لنا اليوم صلاة ما كنت تصليها: فقال: (إني سمعت صوت صفي في صف النساء). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار،

فإذا جاء دور الأنصار جاء صبيان الأنصار فيدورون حوله، فيدعوا لهم ويمسح رؤوسهم ويسلم عليهم. وفي الرحمة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحديد الشعار، وأمر بها أن تواري عن البهائم. وعنه صلى الله عليه وسلم: (تضار والدة عن ولدها). أي لا يفرق بينهما فيهتم لذلك أو تحزن. وفي قلة الرحمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قيض يتيمًا بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه، أدخله الله الجنة، إلا أن يعمل ذنبًا لا يغفر). وقال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويصلي الليل). وفي نعوت الصغار وإكرامهم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه فطاف بالبيت، فرأى خلقًا من قريش جلوسًا، فقال: مالي أراكم صرفتم هذه الأغيلمة عن خلقتكم لا تفعلوا، أدبوهم في المجلس، فاسمعوهم الحديث وافهموه إياهم، فإنهم اليوم صغار قوم يوشكون أن يكونوا كبار قوم وأنكم كنتم صغار قوم، فأصبحتم اليوم كبار قوم. وفي ترحم الصغير أخذ رجل بيد ابنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يضمه إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا فلان، أترحمه؟ قال: أي والله لأرحمه. قال: فالله تعالى أرحم به منك وهو ارحم الراحمين). وكما أن رحم الصغير محمود، فكذلك رحم كل ضعيف محتاج من غريب وصانع ومكروب محمول، والآخر فيه مأمول.

فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقطعه، وكان غريبًا لم يكن له أهل بالمدينة في شدة البرد، فقام رجل يقال له قاتل، فضرب عليه خيمة وأوقد له نويرة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الليل فأبصر النار، فقال: (ما هذه النار؟ قيل: يا رسول الله، المصاب الذي قطعته. كان رجلًا غريبًا لم يكن له بالمدينة أحد أواه قاتل، فضرب له خيمة وأوقد له نويرة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لقاتل كما آوى عبدك هذا، المصاب). وفي الرحمة قالت عائشة رضي الله عنها: دخلت علي سائلة فأمرت لها بثلاث تمرات، ومعها صبيان. فأعطيت كل واحد منها تمرة، وصدعت الأخرى بنصفين فأعطيت كل واحد منهما نصفها. ودخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: (وما أعجبك من ذلك، لقد دخلت بذلك الجنة). وقال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب (إذا دخل الحسين ابن علي فوطئ في ثوبه فسقط، فبكى. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر، فلما رآه الناس صفوا إلى الحسين يتعاطونه، يعطيه بعضهم بعضًا حتى وقع في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه إليه ثم قال: (قاتل الله الشيطان، إن الولد لفتنة، والذي نفسي بيده ما دريت إني نزلت عن منبري). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينزع الرحمة غلا من شقي، وإن من لا يرحم لا يرحم). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في وجع إبراهيم عليه السلام، إن عينيه كانتا تدمعان وقال: (إنما هي رحمة، وإن من لا يرحم لا يرحم). وينبغي أن يدخل في هذه الجملة رحم كل مولى عليه من ولد أو مملوك أو زوجة أو رعية سلطان. وقد قال الله عز وجل في الزوجات {وجعل بينكم مودة ورحمة}. فأما رحم الصغير فهو تعريفه لما فيه صلاحه، وتجنيبه لما يضره، والولوع بحفظه وحراسته، فعل من يجزع أن يسمه سوء، ويتخلف عنه نفع. فإن الرحمة كما ذكرنا وصف مركب من حب وجزع، فمن لم يقدر على شيء من ذلك، كأن يتمنى له ما هو محبوب عنده، ويجزع من أن يصيبه ما هو مكروه عنده.

وأما توقير الكبير، فهو أن يسلك بالشيخ الكبير مسلك الوالد في التهيب والتقدير، وترك ما يوحشه من القول والعمل والطاعة له، فيما يأمر به، بعدما يحسن ويحمد. وترك المخالفة له فيما لا يدع إلى خلافة فيه ضرورة. فإذا أراد الناس أن يمضوا في شغل، قدموا إذا ضاق المكان بهم أسنهم، إن لم يكن فيهم نقص قدره في النقائض، فرق قدر السنن في الفضائل. وإن اجتمعوا في مجلس رفعوا أسنهم على ما وصفت. وإن جاء وقت الكلام قدموه. وإن حضرت الصلاة وهم في شرائط الإقامة سواء أو متفاوتون في نحو ذلك والله أعلم. والأصل في توقير الكبير شيئان: أحدهما أن أكبر الناس شبيه لكل واحد منهم لأبيه لأنه أسبقهم في الزمان. والسبق في الزمان ضرورة لإمكان الأبوة. لأنه لا يمكن إلا أن يكون الأب سابقًا في الوجود للولد. فمن كان أسبق القوم زمانًا فهو الذي كان يمكن أن يكون أبًا للجماعة. فصار ذلك رجحان فيه، مقتدى به على غيره، فاستحق عليه التقديم. والآخر: أن أول ما يفضل الله تعالى به على عباده، هو أن أوجدهم، فمن كان منهم أسن فهو الذي بدأ به فيما أفضل به عليه من الإيجاد، فإذا دعت الحاجة إلى أن يبدأ من قوم في أمر من الأمور بأحدهم، وكانوا في عامة الإسلام سواء، إلا أن أحدهم أسن تقديمه والتبدية به أولى، إذ كان الله عز وجل عند استوائهم في العدم لما أراد إيجاد أحدهم بدأبه فأوجده قبل غيره هذا ولو شاهدنا ملكًا عليها، أو رئيسًا حكيمًا يفرق مالا بين قوم فيكرمهم به، لاستدللنا بتقديمه الذي قدمه منهم على أنه أقربهم وسيلة. وكذلك الظاهر ممن بدأ الله تعالى في المن مالا يجاد عليه أن ذلك وسيلة قد جعلها الله له. فكانت التبدية به على من ليس له مثل سنه أولى، والله أعلم.

السادس والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الإصلاح بين الناس

السادس والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في الإصلاح بين الناس إذا مرجوا وفسدت ذات بينهم، أما لدم أريق وإما لمال خطير أصيب لبعضهم، وإما لتنافس وقع بينهم أو غير ذلك من الأسباب التي تفسد الأخوة وتقطع المودة. قال الله عز وجل: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}. وقال: {إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم} أي بين كل اثنين منهم، ومن قرابين أخويكم، فالمعنى بين جماعتهم إذا فسد ما بينهم. وقال: {وأن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير}. وقال {وأن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله، وحكمًا من أهلها، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما}. وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يحمل حالة في صلاح ذات البين أن يأخذ من الصدقات ما يستعين به على قضاء دينه، فإن لم يكن فقيرًا، وذلك راجع إلى الترغيب في الإصلاح، وتخفيف الأمر على القائمين به، ليكون تخفيفه عليهم مبعثه لهم في الدخول فيه. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: ردد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فضل القضاء يورث بينهم الضغائن. فدل جميع ما ذكرنا على استحباب الصلح بين المسلمين إذا تشاجروا. ومعنى ذلك ظاهر، وهو أن المسلمين مأمورون بالتظاهر والتعاون والاجتماع على الصلوات وفي الأعياد والجهاد في سبيل الله، فإذا بعد ذات بينهم تقاطعوا، ولم يجتمعوا على الصلوات، ويحزنوا عن الجهاد، ولم يضع بعضهم زكاة ماله في بغض وفي

هذا زوال الأمر عن نظامه، وذهاب الدين عن قوامه، ولا يؤمن أن يترامى إلى تجريد السيوف من بعضهم على بعض، ومفارقة الإمام، وتعطيل الحدود والأحكام. وما كان مآله إلى هذا الفساد، فحسم مادته في الابتداء من أوجب الأمور وألزم الفروض، وبالله التوفيق. فصل وإذا كان إصلاح ذات البين مهمًا، فسد واجبًا، فمن البين أن ترك الإفساد بين الناس باحتساب القائم واتقاء التضارب، والتحريش بينهم أوجب وألزم. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاء إلى أمر أمتي وهو جميع، ففرقه، فعليه لعنة الله ولعنة الملائكة والناس أجمعين). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قتات) وهو النمام. وذم الله عز وجل السحرة بقوله: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}. وهذا لأن الزوجين عقدا بينهما بكلمة الله تعالى عقدًا يراد به التآلف والتعاشر على التأييد. فمن فرق بينهما فقد خالف بهما عن قصدهما مع ما كان فيه من الصلاح، أو بقاء العالم بالتناسل. وتناسل الناس لا يكون إلا في الزوجة أو ملك اليمين. فإذا حصلت الزوجية التي هي أمانة الله تعالى، ومعقودة بكلمة الله تعالى سالمة عما يكدرها من الشوائب فأفسدها على الزوجين فسد بكيده ومكره، فإنما يثلم من أركان الصلاح ركنًا، ويفتح من أبواب الفساد بابًا، فاستحق لذلك أن يكون مذمومًا. وإذا كان هذا مذمومًان فمن سعى بالإفساد بين طائفة من المسلمين أولى بالذم، وبالله التوفيق.

السابع والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في أن يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه ويكره لأخيه ما يكره لنفسه

السابع والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في أن يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه ويكره لأخيه ما يكره لنفسه ويدخل فيه إماطة الأذى عن الطريق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). وقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). فلا ينبغي لمسلم أن يتمنى بقلبه لأخيه المسلم من الشر ما يكرهه لنفسه أو يكره له من الخير ما يتمناه ويحبه لنفسه. وإذا عرضت لجماعة من المسلمين بلية، فلا ينبغي لأحدهم أن يتشبث إلى الخلاص لنفسه بإسلام الآخرين والإغراء بهم بل ينظر لهم لما ينظر لنفسه. فإن عجز نظر لنفسه من حيث لا يضر بهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المسلمين في تراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى). فكذلك ينبغي أن يكونوا، فلم لا يجب أحد لإحدى يديه إلا ما يجب للأخرى. ولا لإحدى عينيه أو رجليه أو أذنيه أو شفتيه إلا ما يحب للأخرى. فكذلك ينبغي له أن لا يحب لأخيه المسلم إلا ما يحب لنفسه. فإن كان في البلد قتال، وجور أو نهب، وأي بلاء كان، فسلم منه سالم، فذكر له: إن أخًا من إخوانه من المسلمين بلي به، فقال: الحمد لله. فهذا على وجهين: إن أراد حمد الله تعالى على أن أصاب أخاه البلاء فقط، أخطأ وجهل. وإن حمد الله تعالى على أن يصيبهما معًا إن كان مصيبًا، وسلمت له نفسه، أو سلم له ماله، فهذا صلح. كرجل يصيب إحدى عينيه أو يديه بلاء، فيحمد الله على إن لم يصبهما معًا، لكن سلمت له إحدى يديه. وإن حمد الله على سلامة نفسه على هذا التجريد، فهذا

جفاء، لأنه لم يخلط أخاه المسلم في هذا الحد أصلًا وليس الوجه الذي قيل هذا مثله لأنه إذا حمد الله تعالى على أن لا يعمهما بالبلاء، فقد حمد الله على إحسانه إلى المثل بأن لم يعممه به بنفسه، إن عمد بأخيه المبتلى، فأما هذا الوجه الآخر فإنه إغفال من الحامد أو غيره أصلًا، فلهذا قلنا أنه جفاء وبالله التوفيق- فصار الوجه المرتضى من الحمد. كما روى عن عروة بن الزبير- رضي الله عنه- أنه لما قطعت رجله قال: ليهنك لئن كنت ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أعطيته. وروى أنه تمثل النبات ثم قال: اللهم إن كنت أخذت عضوًا فلقد أبقيت عضوًا، فلك الحمد. فصل وكل ما كتب في الباب الذي قبل هذا من وجوب مباعدة الكفار والغلظة عليهم، والقول في مساعدة المسلم أهل دينه بخلافه، وينبغي للمسلم أن يقارب إخوانه من أهل دينه، ويؤالفهم ويوادهم ويتحبب غليهم بكل ما يمكنه، ويبرهم ويصلهم، ولا يؤذي أحدًا منهم ولا يخرجه ولا يعتبه، ولا يخاطبه بما يكرهه، مبتدئًا إياه غاصًا به، ولا يلمزه ولا يهمزه، ولا يسخر منه، يضحك، ولا يضحك غيره منه، ولا يغتابه ولا يرضى من أحد أن يغتابه عنده، ولا يفشي له سرًا يكره أن يوقف عليه، ولا يتبع له عورة، ولا ينبزه بلقب، ولا يجانب له عبدًا ولا جارية ولا امرأة، ولا يفسد عليه حالًا صالحًا قد رضيها لنفسه، وسكن إليها قلبه، ولا يغير عليه قلب سلطن، ولا قلب من يضره بغير قلبه له. قال الله عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم} يعني لا يلمز بعضكم بعضًا، ولا تنابزوا بالألقاب. وقال: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا} ثم ضرب للغيبة مثلًا ينكرها به إلى قلوب المؤمنين، فقال: {أيحب

أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه} أي فكذلك فاكرهوا الغيبة. ودلت السنة على مثل ذلك. فجاء ما صام من أكل لحوم الناس، يعني الغيبة. ولا ينبغي أن يدخل بيته إلا بإذنه، لأنه لا يؤمن أن يكون فيه على حال لا يحب أن يلقاه عليها أحد. قال الله جل ثناؤه: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}. وقوله تعالى: {فإن لم تجدوا فيها أحدًا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى} وهذا كله لأن كل واحد إذا كان يكره أن يدخل عليه بيته بغير إذنه، وأن يغتاب أو يتبع عوراته، أو يصاب منه شيء مما تقدم ذكره، وكانت طلوع الناس في هذه الأمور متفقة، وجب أن يعلم أن غيره يكره لنفسه، فلا ينبغي أن يقصده بشيء منها فيكون قد ساءه، وفرق بينه وبين نفسه، وإنما شرط الدين الذي يجمعهما بأن ينزله منزلة نفسه. وينبغي للمسلم إذا دعا لنفسه بالمغفرة أو العافية، أو بسعة الرزق أو بدوام النعمة أن يدخل معه إخوانه المؤمنين في دعائه، ولا خص نفسه بالدعاء. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله عز وجل الملائكة أنهم يدعون لمن في الأرض فقال: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم، ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات. ومن تق السيئات يومئذ فق رحمته، وذلك هو الفوز العظيم}. فإذا كانت الملائكة وليسوا من جنس البشر يرعون للبشر حق الإيمان الذي يجمعهم وإياهم فيستغفرون للمؤمنين، ويسألون الله تعالى لهم الخير. فالبشر لأن يرعى بعضهم لبعض حق الإيمان الجامع لهم دعاء ومسالة واستغفار أولى وأحق والله أعلم. ولا ينبغي إذا خلف المسافر طريقًا فيه لصوص واستقبله قوم يريدون ذلك الطريق

أن لا يسكت عنهم ويخبرهم ما عنده ليحترز أو يرجعوا أو يجوزوا. وهكذا من عرف في طعام أو شراب غائلة، فلا ينبغي أن يسكت عن مسلم يريده ويعلمه ما عنده ليدعه. وإن علم في بيت أو منزل من منازل السفر، هو أما قاتله أو مضره، ورأى مسلمًا يريد نزوله فلا ينبغي له أن لا يخليه بماله ليتوقى، أو يعدل عنه إلى حيث لا يخش فيه على نفسه. ويدخل في هذا، ولا يلتحق من كل وجه به أن من رأى مسلمًا ينام وقد دخل عليه وقت الصلاة وهو لا يشعر به، فينبغي له أن يعلمه بالوقت لم يخرج، لأن الصلاة لا تفوته بالنوم، ويمكنه قضاؤها إذا تنبه. ولكن لو رآه يتوضأ بما نجس وهو لا يعلم نجاسته، فينبغي له أن يعلمه، لأن صلاته لا تجوز مع النجاسة، ولا يرتفع حدثه بالماء النجس، فإن لم يعلمه فلقد خانه، ولم ينزله منزلة نفسه. وإن رآه يقتدي بإمام غير طاهر فيعلمه، لأن الاحتياط له في ذلك، فإن الصلاة خلفة مختلف فيها، فإن لم يفعل فلم يخنه في قول من غير صلاته إذا لم يعلم حدث أمامه. وقد خانه في قول من لا يخبر صلاته والله أعلم. فصل ومما يدخل في هذا الباب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله (لا يبع أحدك على بيع أخيه. ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا يشؤمن أحدكم على شؤم أخيه). وهذا لأن الرجل إذا تقدم واشترى شيئًا ثم جاء غيره فاشتراه من بائعه وقت الخيار آذى بذلك المشتري الأولى وأوحشه. فكما لا يحب أن يعامله أحد بذلك، فكذلك لا ينبغي له أن يعامله به غيره بعد أن يكونا في الحرمة سواء. وهكذا إذا ساوم فاستقر الأمر بينه وبين البائع على شيء، فجاء آخر فزاد عليه ليكون هو المشتري دون الذي قد تقمه. وهكذا إذا خطب امرأة فأذنت فيه، فأجاب وليها. فجاء آخر خطبها على نفسه فأفسد أمرها على الأول كل ذلك إيذاء وإيحاء شر ومعاملة من الثاني أخاه المسلم بما لا يجب أن يعامله بمثله غيره، وذلك مخالف لشرط الإيمان.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النخس وهو خديعة، لأن الإشاعة فيمن لا يراد دفعه أو الشراء به، لا يكون إلا للتلبيس على من يريد الشراء، فهو خداع وليس من أخلاق المؤمنين. وفي ذلك رضى للأخ المسلم بما لا يرضاه أحد لنفسه من الوقوع في الغبن والزيادة على ما يساوي السلعة. فكان داخلًا في الجملة التي سبق ذكرها. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحتلبن أحدكم ماشية رجل إلا بإذنه، أو يحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينتقل ما فيها، فإنما تخزن ضروع مواشيهم أموالهم). فأعلمهم أن ضرع الماشية إذا كان خزانة للبن الذي فيه، وهو مال لصاحبه، ثم كان أحد لا يحب أن يؤتى خزانته فيكسره ويجهل ما فيها. فكذلك لا ينبغي أن يأتي خزانة أخيه فيأخذ ما فيها ويحمله بغير إذنه وطيبة نفسه. فكيف قد يرضى وحق لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه. وكل هذا يؤكد ما أسس عليه الباب ويدل على صحته: وجملة ما ينبغي أن يحب المرء لأخيه كما يحب لنفسه. ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة، وتبصرك الرجل الرديء البصر صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق صدقة، وإفراغك متاعك من دارك في دار أخيك لك صدقة). وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي في طريق إذ وجد غصن شوك فأخره فشكر الله له فغفر له). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم مرآة أخيه فإن رأى به أي فليمط عنه). ومما يدخل هذا الباب ترك الاحتكار، فإن المحتكر يحب لنفسه ما لا يحب لغيره ويكره لنفسه ما لا يكره لغيره. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) وعن علي

رضي الله عنه قال: لا يحتكرن فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من جلب طعامًا فلا يبتاعه موسر يحبسه على معسر. ومن جلب فإن شاء باع وإن شاء أمسك). وقال عمر رضي الله عنه: من جلب طعامًا فأنا له جار وأنا له ضامن، ويبيع كيف يشاء ولا يبيع سوقيًا محتكرًا. وهذا نحو ما يروى عن الحسن رضي الله عنه أن كان يكره يشتري الرجل الطعام من المصر فيحتكره، ولم يكن يرى بأسًا أن يجلبه من أرض أخرى فيحبسه، وهذا له وجه والله أعلم. وروى أن المسور بن مخرمة رضي الله عنه، احتكر طعامًا كثيرًا فخرج فرأى سحاب الخريف خرج إلى السوق يوزع الطعام فمر الزجاجي رضي الله عنه فقيل له: هذاك المسور احتكر طعامًا وهو يوليه الناس، فقال: أجن؟ فنفذ حتى جاءه فقال: أجننت؟ قال: لا ولكن احتكرت طعامًا فرأيت سحاب الخريف طالعًا، فرأيت أبي فذكرت ما ينفع المسلمين، فأرت أن لا أربح فيه. فقال: جزاك الله خيرًا، أو نحو هذا. وروى عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه كان يشتري الزيت والنوى والعجم والحنطة. وهذا يدل على أنه لم يكن يرى الاحتكار حرامًا إلا في الأقوات العامة. ويدل على صحة هذا الباب ما روي أن نفرًا من تيم خرجوا في بعض الأرضين فعطشوا فسمعوا مناديًا ينادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا (إن المسلم أخو المسلم وغير المسلم، وإن غديرًا في مكان كذا وكذا. فعدلوا إليه فشربوا واستقوا). ومن هذا الباب أيضًا أنه لا يفرق من الوالدة وولدها، فإنه لا يجب أن يفرق بينه وبين والده. والأصل في هذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فرق بين الوالدة وولدها في البيع، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة). هذا حديث ينذر بعذاب شديد، لأنه لا يليق أن يكون المراد بالتفريق بينه وبين أحبته، إنه يفرق بينهم في مساكن الجنة. لأن التفريق إذا كان عذابًا، فأهل الجنة لا يكونوا معذبين. ولا يليق أن يكون

المراد به التفريق في الموقف والحساب، فإنه ذلك ليس بموضع لاستيئاس الأحبة بعضهم ببعض، وإنما هو تفرقة المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}. فلم يبق أن يكون هذا التفريق إلا أن أحبته يصارون إلى الجنة، وهو إلى النار. ولولا تفريقه بين الوالدة وولدها لكان معهم. فإن قيل: فأولئك الأحبة لا ينالون بالتفريق بينه وبينهم. قيل: لا، لأن التألم عذاب، ولا عذاب عليهم. ومن هذا الباب أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أحل لي الزنا، فقال: (أتحب أن يفعل ذلك بابنتك وأختك؟ قال: لا. قال: فإن الأقوام يكرهون ذلك كما تكره. قال: فادع الله أن يذهب عن شهوة النساء، فدعا له)، فلم يكن يلتفت إلى النساء. ومن هذا الباب إماطة الأذى عن الطريق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير إلا غصن شوكة كان على الطريق يؤذي الناس فرفعه، فغفر له). وعنه صلى الله عليه وسلم أن رجلًا قطع شجرة كانت على الطريق تؤذي الناس قال: (فلقد رأيته في طلعها في الجنة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، ولكن اقتلوا منها كل أسود بهيم). ومما يدخل في هذا الباب أن واحدًا إذا أبصر من نفس أحد وولده أو ماله ما يعجبه لم يعجب منه مادحًا له. ولكن بسم الله تعالى عليه ويترك، لئلا يمسه من عينه أذى، لأن العين حق. جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العين لتدخل الرجل القبر، والحمل القدر).

وروي أن عامر بن ربيعة رأى سهل بن حنيف يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم، فلبط به حتى ما يعقل من شدة الوقع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تتهمون أحدًا؟ قالوا: نعم، عامر بن ربيعة، وأخبروه بقوله، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغسل له، ففعل، فراح مع الركب)، قال الزهري رضي الله عنه: يؤتى الرجل الغابن بقدح، فيدخل كفه فيه، فيمضض ثم يمجه في القدح، ثم يغسل وجهه في القدح ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على مرفقه الأيمن ثمن يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه اليسرى. ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخله إزاره، ولا يوضع القدح بالأرض، ثم يصب على رأس الذي أصيب بالعين من خلفه صبة واحدة. قال أبو عبيدة رضي الله عنه: معنى داخلة إزاره أي طرف إزاره الذي يلي جسده، وهو يلي جانب الأيمن، لأن المؤتزر يبدأ بجانبه الأيمن إذا أتزر. فكذلك الطرف يباشر جسده فهو الذي يغسل. وروى في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، أنكر قول عامر، وقال: (علام يقبل أحدكم أخاه إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليتبرك عليه). وروى أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ركب يومًا فنظرت إليه امرأة فقالت: إن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين، فرجع إلى منزله فسقط، فبلغه ما قالت المرأة، فأرسل إليها فغسلت له. وقالت أسماء بنت عميس: يا رسول الله: إن بني جعفر تسرع إليهم العين، فاستوقي لهم. قال: (نعم، لو كان شيء يسبق القدر، لسبقت العين). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعود ابنه الحسن والحسين رضي الله عنهما: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، وكل عين لامة).

ويذكر أن إبراهيم صلوات الله عليه كان يعوذ بهما ابنيه إسماعيل وإسحق عليهما السلام وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت رقى تسترقيها، ودواء تتداوى به، وتقى تتقيه، هل ترد من قدر الله شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه من قدر الله). ومما يدخل في هذا الباب، إحسان قضاء الدين. فينبغي لمن كان عليه دين أن يحسن قضاءه، لأنه يجب أن يسحن قضاء دينه. قال سويد بن قيس- رضي الله عنه-: جلبت أنا ومخرمة بن العبدي برًا من هجر، فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فساومنا سراويل، وعندنا وزان يزن بالأجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان: (زن وارجح). وعن جابر رضي الله عنه قال: كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دينًا فقضاني وزادني. وقال إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه: كان لي على الحسن بن علي رضي الله عنه دينًا فأتيته أتقاضاه، فوجدته قد خرج من الحمام، وقد أثر الحناء في أظفاره، وجارية له تحت الخباء، فدعا بقعب فيه دراهم، فقال: خذ هذا. فقلت: هذا أكثر من حق. فقال: خذه، فوجدته يزيد على حقي ستين أو سبعين. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يستقرض فإذا خرج عطاؤه أعطاه خيرًا منها. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه استقرض من رجل شعيرًا فقضاه، ثم زاده فقال الرجل: زدتني على حقي. فقال: (الزيادة هبة منا لك). واستلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل بكذا. فجاءته ابل من ابل الصدقة قال أبو رافع: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقضي الرجل بكرة. فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملًا واحدًا رباعيًا خيارًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطه إياه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءا). ومن هذا الباب انظار المعسر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسرًا أو رضخ له، أظله الله في ظل عرشه). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم

يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان رجلًا خالط الناس، يقول العلماء به: تجاوزوا عن المعسر، فيقول الله تعالى لملائكته: {ونحن أحق بالملك منه} فتجاوزوا عنه). ومن هذا الباب أيضًا أن لا يلح على المدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له على أخيه دين، فإنه يجري له صدقة ما لم يأخذه). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلًا سمح البيع، سمح القضاء، سمح التقاضي) ومن ذلك سهولة البيع. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بأعرابي يبيع شيئًا، فقال: (عليك بأول السومة، أو بأول السوم، فإن الرباح بيع السماح). والحمد لله وحده، وصلواته على خير خلقه. آخر الكتاب والحمد لله وحده، والحمد لله على ما أعطى وتصدق ووهب ومنح، وله الشكر على نعمه السابغة، وأياديه بأفضاله المتتابعة، ورحمته الهامعة. وكان الفراغ من نسخه في العشر الأخير من شهر شعبان سنة ست وأربعين وسبعمائة نفع الله ببركته مؤلفه، ومن أمر بكتابته ونسخه، ومن قرأه وطالعه ومن سمعه ومن نسخه، واجتهد في كتابته، وطول روحه عليه، وغفر لهم الذنوب السالفة أجمعين. والحمد لله رب العالمين، وصلواته وتحياته وبركاته على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. آمين، آمين، آمين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

الكشافات توطئة: حتى يسهل الرجوع إلى الكتاب وحتى نكشف عن خباياه، كان لابد من تنظيم عدة كشافات متنوعة. فكان الأول منها كشاف الموضوعات، وهو عبارة عن معجم للمصطلحات التي وردت في كتاب "المنهاج" وقد حرصت أن أدون رؤوس الموضوعات الرئيسية مع الإشارة إلى الصفحة التي بدأ الحليمي يناقش فيها هذا المصطلح. وهذا يعني أن رقم الصفحة لا يدل على أن الموضوع ورد فيها فقط وإنما يدل على بداية نقاش هذا الموضوع. أما الكشاف الثاني فكان كشافًا لأسماء الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في الكتاب، آخذًا بعين الاعتبار عدم ذكر الأسماء التي ذكرت في رواية الأحاديث الشريفة، ويشير رقم الصفحة إزاء الاسم، إلى أن ذاك الشخص قد قال قولًا ما في تلك الصفحة. والكشاف الثالث خصص لذكر أسماء الله تعالى حتى يسهل الرجوع إلى معانيها، وإن رقم الصفحة يشير إلى الصفحة التي ورد فيها اسم الله تعالى. والكشاف الرابع هو كشاف لآيات القرآن الكريم وهو حصر شامل لجميع الآيات التي وردت في كتاب المنهاج، وقد ذكرت الكلمات الثلاث الأولى من كل آية، ورتبت هجائيًا حسب أوائل الحروف من الكلمة الأولى من الآية الواحدة. والكشاف الأخير كان للأحاديث النبوية الشريفة، وهو يشير إلى مكان وجود كل حديث، وإن رقم الصفحة يدل على مكان وروده. وقد رتب كسابقه ترتيبًا هجائيًا حسب حروف الكلمة الأولى من الحديث.

وقد راعيت عند ترتيب هذه الكشافات القواعد التالية: 1 - رتبت جميع الكشافات ترتيبًا هجائيًا حسب أسبقية الحروف الهجائية: أ، ب، ت، ث .... الخ. 2 - أهملت جميع حروف العطف إذا وقعت في أول الكلام ما عدا كلمة (ثم) فقد اعتبرت كأي كلمة أخرى، مع اعتبار حروف العطف التي تقع في وسط الجملة. 3 - أهملت أل التعريف إذا وقعت في أول الكلام واعتبرت إذا وقعت في وسط الجملة. 4 - الكلمات: أب، ابن، ذو، اعتبرت أينما وجدت كما هي. 5 - اعتبرت الهمزة دائمًا وأبدًا أنه أول حرف في الحروف الهجائية. ولكن الهمزة التي تأتي على ياء أو واو فقد اعتبرت مع حرف الياء أو الواو. 6 - التاء المربوطة هي حرف تاء أينما وجدت إلا إذا كانت هاء سكت، فإنها تعتبر حرف (هـ). 7 - استخدم في تنظيم الكشافات نظام الترتيب المعروف بكلمة "كلمة" Word by Word وليس حرفًا حرفًا، وهو نظام يراعى فيه عند التنظيم الهجائي الكلمات التي تتشابه في الحروف الواحدة. أي أن الكلمات التي تنتهي بحرفين أو ثلاثة حروف متشابهة تأتي وراء بعضها بعضًا بغض النظر عن الأحرف التي تليها.

§1/1