المنهاج الواضح للبلاغة

حامد عونى

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أبلغ بني العروبة منطقًا، وأفصحهم لسانًا، وأدراهم بمداخل القول، ومناحي الكلام، وعلى آله وصحبه اللسن المقاويل، أولي الحجة الدامغة، والحكمة البالغة. أما بعد, فقد شاء الله أن أدرس هذا الفن للسنة الأولى من القسم الثاني؛ فرأيت الكتاب المقرر -على ما فيه مما يشهد لصاحبه بالفضل- مضغوطًا ضغطًا دعا إليه ما احتواه من المباحث العديدة في الفنون الثلاثة -وهو أمر يتعارض مع ما تتطلبه حاجة الناشئين في هذه الفنون من بسط وإيضاح فيما قرر عليهم منها؛ لتنكشف لهم أوجه المعاني، وينبسط ما تعقد منها، فيسهل عليهم تحصيلها- رأيت ذلك إلى ما شهدته من تشتيت وتشريد فيما تعين لهم من موضوعاته، مما أدى إلى تبرم الطلاب، ورفع عقيرتهم بالشكاية في كل مناسبة. لهذا رأيتني -وقد لمست حاجة الطلاب الملحة، وهم حديثو العهد بالفن- مضطرًّا إلى وضع كتاب يجمع شمل هذه المباحث، ويضم شتاتها في عبارة مكشوفة المعنى، واضحة المراد، مصوغة في القالب الحبيب إلى نفوسهم، القريب من أفهامهم، متوخيًا جهد المستطيع تذليل العاصي، وإدناء القاصي حتى لا يتوعر الطريق، ولا يتعثروا في المسير. هذا, وقد وضعت "كعادتي" بعد كل مرحلة تمرينين توليت الإجابة على أحدهما؛ تدعيمًا لقواعد العلم في نفوس النشء، وتركت الآخر لأفهامهم؛ مرانًا لهم على الاستقلال في التفكير.

وقد ذيلنا هذه النسخة بمجموعة من الأسئلة التي وضعتها الإدارة العامة للنقل من الأولى للثانية في سنين مختلفة؛ لتكون كنماذج يسير الطالب في تحصيله على هداها. والله الكريم أسأل أن يجيء هذا الغرس شهي الثمر، داني القطوف, وأن يجزيني به قبولًا من عنده ورضوانًا. المؤلف

منهج البلاغة للسنة الأولى الثانوية: تشمل الدراسة في هذه السنة ما يأتي: 1- معنى الفصاحة والبلاغة. 2- علم البيان, تعريفه, الدلالة, التشبيه وأقسامه, الحقيقة والمجاز. 3- الكناية, تعريفها, أقسامها. 4- البديع, أنواع منه.

كلمة موجزة في تاريخ علوم البلاغة

كلمة موجزة في تاريخ علوم البلاغة: لم يصنف العلماء في هذه الفنون الثلاثة -المعاني، والبيان, والبديع- إلا بعد الفراغ من تدوين علوم اللسان: النحو، والصرف، واللغة. ويمكن القول بأن أول كتاب دون في هذه العلوم كان في علم البيان، وهو كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة المتوفى سنة 206هـ وضعه على إثر سؤال وجه إليه في مجلس الفضل بن الربيع1 عن معنى قوله تعالى في شجرة الزقوم: {طَلْعُهَا 2 كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} وكيف شبه الطلع برءوس الشياطين وهي لم تعرف بعد؟ أي: وينبغي التشبيه بشيء معروف حتى يتبين المشبه ويتضح، فأجاب أبو عبيدة بأنه على حد قول الشاعر: أيقتلني والمشرفي3 مضاجعي ... ومسنونة زرق4 كأنياب أغوال؟ يريد: أن المشبه به هنا غير معروف كذلك، وأن الغرض من التشبيه عرض المشبه في صورة مستفظعة مخوفة، والعرب تشبه قبيح الصورة بالشيطان أو الغول, فيقولون: كأنه وجه الشيطان، أو كأنه رأس الغول، وإن لم يروهما لاعتقادهم أنهما شر محض، لا يخالطهما خير، فيرتسم في خيالهم بأقبح صورة. ثم قام أبو عبيدة من فوره، وتقصى ما ورد في القرآن من الألفاظ التي أريد بها غير معناها الأول في اللغة, وجمعها في هذا الكتاب، وسماه "مجاز القرآن". وأبو عبيدة هذا هو معمر بن المثنى اللغوي البصري، تلميذ يونس بن حبيب

_ 1 أحد وزراء المأمون. 2 الطلع هنا يراد به الحمل, وأصله: طلع النخل, سمي به حمل هذه الشجرة. 3 وصف للسيف منسوب إلى مشارف الشام, وهي قرى كانت تجيد صناعة السيوف. 4 المراد بها أسنة الرماح.

شيخ سيبويه، إمام النحاة، وأستاذ أمير المؤمنين هارون الرشيد. ثم تبعه العلماء من بعده، فوضعوا رسائل في الاستعارة والكناية لم تميز علم البيان تميزًا خاصًّا، وبقيت الحال كذلك مدة العصر العباسي الأول. أما علم المعاني: فلم يعلم بالضبط أول من تكلم فيه، وإنما أثر عن بعض فحول الكتاب والخطباء كجعفر بن يحيى1 وسهل بن هارون2 وغيرهما كلام في هذا النوع من البلاغة، ولكنه لم يطبع هذا العلم بطابع خاص يتميز به عن سواه. وأول من أسهم لهذا العلم من عنايته، وخصَّه بمستفيض بحثه، ودوّن فيه ونظم عمرو بن بحر الجاحظ3 في كتابيه: البيان والتبيين، وإعجاز القرآن, وغيرهما، وتقفاه العلماء من بعده كأبي عباس المبرد4 صاحب الكامل وقدامة بن جعفر الكاتب5, ووقف الأمر عند هذا الحد مدة هذا العصر. أما علم البديع: فإن أول من كتب فيه كتابًا خاصًّا -على ما قيل- عبد الله بن المعتز الخليفة العباسي المتوفى سنة 296هـ. وكان الشعراء من قبله يأتون في أشعارهم بضروب من البديع؛ كبشار بن برد6 ومسلم بن الوليد7 وأبي تمام8 وغيرهم، فجاء ابن المعتز وجمع من أنواعه سبعة عشر نوعًا، وكان ممن يعاصره

_ 1 أحد وزراء هارون الرشيد. 2 فارسي الأصل اتصل بالمأمون فولاه خزانة الحكمة, وكان أديبًا شاعرًا حكيمًا, يتعصب للعجم على العرب. 3 هو إمام الأدب أبو عثمان عمرو بن بحر البصري, صاحب التصانيف الممتعة والرسائل المبدعة. 4 هو أبو العباس محمد بن يزيد النحوي. 5 كان نصرانيًّا, أسلم واشتهر في زمانه بالبلاغة ونقد الشعر, ألف في ذلك كتبًا. 6 هو أبو معاذ أشعر مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية، كان مع هذا كفيفًا. 7 هو صريع الغواني أبو الوليد, أحد الشعراء المسلمين في الدولة العباسية. 8 هو حبيب بن أوس الطائي, عربي الأصل, أحد الشعراء الأعلام.

قدامة بن جعفر سالف الذكر، فجمع منه عشرين نوعًا اتفق مع ابن المعتز على سبعة منها، وسلم له ثلاثة عشر تضاف إلى السبعة عشر التي جمعها ابن المعتز, فيكون جملة ما جمعاه ثلاثين نوعًا، هي أقصى ما جمع في ذلك العصر. وجاء العصر التالي, فزاد كل من أبي هلال العسكري1 صاحب الصناعتين وابن رشيق2 صاحب العمدة أنواعًا كثيرة، لم تخرج في جملتها عما جمعه ابن المعتز وقدامة. ولم تميز هذه العلوم، وتبوب وتفصل إلا في العصر التالي. وأول من نزع عن قوسه، ورمى إلى هذا الهدف شيخ البلاغة الإمام عبد القاهر3 صاحب دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة. وبقيت الحال كذلك, حتى جاء فارس الحلبة أبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626هـ, فبسط هذه العلوم في كتابه "المفتاح" وهذب مسائلها ورتب أبوابها، فكان كل من جاء بعده عيالًا عليه. وجه الحاجة إلى دراستها: إن لهذه العلوم الفضل الأول في بيان أسرار اللغة, والكشف عن كنوزها، والبحث عن نفائسها, وفي معرفة ما لها من ميزة السبق على سائر اللغات حتى نزل بها القرآن الكريم، فوسعته معنى وأسلوبًا -على ما فيه من روعة وجلال- فكان ذلك شهادة لها بإحرازها قصب السبق، واستوائها على عرش السيادة. كذلك لها الفضل الأول في الكشف عن سر إعجاز القرآن بما حواه من بارع اللفط، ورائع الأسلوب، وما تضمنه من بيان ساحر هو فوق متناول الإدراك، حتى وقف بنو العروبة وحاملو لوائها أمامه واجمين، وخر له عباقرة البيان ساجدين. من أجل هذا, كانت حاجتنا إلى دراسة هذه العلوم فوق حاجتنا إلى شأن آخر من شئون الحياة، وما ظنك بما يكشف لك عن سر ما للغة آبائك من قوة واعتزاز، وما احتواه كتاب ربك رمز العظمة وآية الإعجاز!

_ 1 هو الحسن بن عبد الله بن سهل, المتوفى سنة 295هـ. 2 هو أبو علي الحسن بن رشيق, المتوفى سنة 409هـ. 3 هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني, المتوفى عام 471هـ.

معنى الفصاحة والبلاغة: الفصاحة معناها في اللغة: البيان والظهور. يقال: أفصح الصبي في منطقه، وفصح فيه: إذا بان وظهر كلامه، كما يقال: أفصح الأعجمي، وفصح: إذا انطلق لسانه بالعربية لا تشوبه لكنة. ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى, عليه السلام: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} أي: أبين مني قولًا. ويقال: أفصح الصبح: إذا بدا ضوءه ولمع، ومنه المثل المشهور: أفصح الصبح لذي عينين1 كما يقال: هذا يوم مفصح أي: جلي لا غيم فيه. ويقال: أفصح اللبن: إذا نزعت رغوته فظهر، ومنه المثل المعروف: وتحت الرغوة اللبن الفصيح2، فظهر لك مما تقدم من الأمثلة أن الفصاحة في اللغة لم تخرج عن معنى الظهور والبيان. أما معناها في اصطلاح البلغاء فيختلف باختلاف موصوفها، وهو أحد أمور ثلاثة: الكلمة، والكلام، والمتكلم. يقال: هذه كلمة فصيحة؛ إشارة إلى كلمة معينة كلفظ "الأجل" ويقال: هذا كلام فصيح؛ إشارة إلى مركب معين كقولنا: الله الأجل، ويقال: هذا فصيح؛ إشارة إلى متكلم خاص كأبي بكر، أو عمر، أو علي أو غيرهم من فصحاء العرب، وإليك بيان كل على الترتيب. فصاحة الكلمة: فصاحتها: أن تسلم من العيوب الثلاثة الآتية: 1- تنافر الحروف. 2- مخالفة الوضع. 3- الغرابة. وبسلامتها من هذه العيوب تسلم مادتها، وصيغتها، ومعناها من الخلل. وهاك العيوب الثلاثة على هذا النسق:

_ 1 يضرب للشيء يظهر بعد استتاره. 2 يضرب للأمر ظاهره غير باطنه. 3 إنما آثرنا هذا التعبير على قولهم: مخالفة القياس؛ لأنه أدل على المعنى المراد منه على ما يأتي.

تنافر الحروف: هو وصف في الكلمة التي ينشأ عنه ثقلها على اللسان، وتعسر النطق بها، وهو نوعان: تنافر شديد، وتنافر خفيف. فالشديد كلفظ "الظش" للموضع الخشن و"كالهعخع" لنبات ترعاه الإبل, في قول أعرابي سئل عن ناقته: تركتها ترعى الهعخع. فهاتان الكلمتان غير فصيحتين؛ لما فيهما من تنافر الحروف تنافرًا شديدًا، يشعر به كل ناطق، وهو خلل واقع في مادتهما. الخفيف كلفظ "النقاخ" بضم النون للماء العذب الصافي، و"كمستشزرات" في قول امرئ القيس1: غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص في مثنى ومرسل2 يصف الشاعر حبيبته بكثرة الشعر وغزارته، وأنه لكثافته مقسم إلى أقسام؛ فبعضه مرتفع، وبعضه مرسل, وبعضه مثنى، وبعضه معقوص ملوي, وأن المعقوص منه يتيه ويختفي فيما ثني وأرسل منه. فهاتان الكلمتان غير فصيحتين؛ لما فيهما من تنافر الحروف، وهو خلل واقع في مادتهما كذلك. تنبيه: قيل: إن الضابط المعول عليه في ضبط التنافر: قرب مخارج الحروف أو بعدها, بمعنى: أن تكون الحروف متقاربة في المخرج أو متباعدة فيه؛ فلفظ "الهعخع" مثلًا متنافر ثقيل لتقارب حروفه في المخرج, ذلك: أن الهاء والعين والخاء خارجة كلها من مخرج واحد هو الحلق, إلا أن بعضها خارج من أقصاه، وبعضها من قريب منه.

_ 1 هو أسبق شعراء الجاهلية إلى ابتداع المعاني وحسن التعبير عنها، وأول من وقف على الديار واستبكى الأطلال. 2 الغدائر: جمع غديرة, وهي المسماة في عرفنا بالضفيرة، والضمير راجع إلى "فرع" في الشطر الأول من البيت قبله, وهو "وفرع يزين المتن أسود فاحم" أي: فرع محبوبته و"مستشزرات" بكسر الزاي أو فتحها بمعنى: مرتفعات أو مرفوعات, و"العقاص" جمع عقيصة وهي خصلة ضده.

ولفظ "مستشزرات" متنافر ثقيل أيضًا؛ لتقارب حروفه في المخرج كذلك, إذ إن حروفه -ما عدا الميم- خارجة من مخرج واحد هو اللسان, غير أن بعضها خارج من طرفه، وبعضها من وسطه. ولفظ "ملع" بمعنى: أسرع متنافر ثقيل؛ لتباعد حروفه في المخرج, إذ إن الميم خارجة من الشفتين، والعين من أقصى الحلق, وهكذا. ورد هذا القول بأن الضابط المذكور غير مطرد؛ لأننا لا نجد تنافرًا في لفظتي "الجيش والشجي" مع تقارب الشين والجيم في المخرج, ولا نجد تنافرًا في {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} مع تقارب الهمزة والعين والهاء في المخرج, كذلك كما لا نجد تنافرًا في مثل "علم وملح" مع تباعد المخرجين في العين والميم في الأول, والميم والحاء في الثاني. وإذن فقرب المخارج أو بعدها لا يصلح ضابطًا يعول عليه في ضبط التنافر لعدم اطراده كما عرفت, بل الحكم في ذلك للذوق السليم؛ فما عده الذوق السليم ثقيلًا متعثر النطق فهو متنافر, سواء أكان متقارب الحروف أو متباعدها ا. هـ. مخالفة الوضع: هي أن تكون الكلمة مخالفة لما ثبت عن الواضع, سواء أكانت مخالفة للقياس الصرفي أيضًا أم لا، فمدار المخالفة على ما ثبت عند الواضع كما ستراه بعده. فمثال ما خالف الأمرين معًا لفظ: "بوقات" جمع مؤنث مفرده "بوق" بمعنى المزمار, في قول المتنبي يمدح سيف الدولة: فإن يك بعض الناس سيفًا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول يقول: إذا كنت سيفًا لدولتك له خطره وأثره، فغيرك من الملوك بمثابة البوق والطبل لا أثر له, ولا غناء فيه. فلفظ "بوقات" في البيت غير فصيح؛ لمخالفته ما ثبت عن الواضع والقياس الصرفي؛ إذ الثابت عن الواضع جمعه جمع تكسير، والقياس الصرفي يقتضي جمعه مكسرًا أيضًا فيقال: "أبواق"؛ لأن جمع المؤنث السالم له مواضع خاصة، ليس هذا الاسم منها، وذلك خلل واقع في الصيغة. ومثله لفظ "ضننوا" بمعنى: بخلوا, من قول الشاعر:

مهلًا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا يقول الشاعر لمن لامته على إحسانه لمن بخلوا عليه: اقصدي من لومك, فقد عرفت أن من خلقي مجازاة من يسيء إليَّ بالإحسان إليه؛ لأني إنما أصنع المعروف للمعروف، لا لشيء وراءه. فلفظ "ضننوا" غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ورد عن الواضع, وللقياس الصرفي، إذ الوارد عن الواضع: "وإن ضنوا" بالإدغام لا بالفك، والقياس الصرفي أيضًا يقتضي إدغام المثلين. ومنه لفط "الأجلل" في قول الشاعر: الحمد لله العلي الأجلل ... أنت مليك الناس ربا فاقبل فلفظ "الأجلل" غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ثبت على الواضع, وللقياس الصرفي كما في المثالين قبله. ومثال ما خالف الثابت عن الواضع, ووافق القياس قولك: "يأبي" بكسر الباء مضارع "أبى" فهو غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ثبت عن الواضع, إذ الثابت عنه "يأبى" بفتح الباء لا بكسرها، في حين أنه موافق للقياس الصرفي؛ لأن "فعَل" بفتح العين لا يأتي مضارعه على "يفعَل" بالفتح إلا إذا كان عين ماضيه أو لامه حرف حلق "كسأل يسأل" و"منع يمنع"، وليس "أبى يأبى" من هذا القبيل. كذلك لا يأتي مضارعه على "يفعُل" بالضم إلا إذا كان مضعف العين متعديًا "كمده ويمده"، أو أجوف واويًّا "كقال يقول", أو ناقصًا واويًّا "كسما يسمو" وليس "أبى يأبى" أحد هذه الأنواع، فكسر عين مضارعه حينئذ موافق للقياس الصرفي، ولكنه مع ذلك غير فصيح لمخالفته ما ثبت عن الواضع. فالشرط إذًا في مخالفته الوضع: أن تخالف الكلمة ما ثبت عن الواضع, سواء خالفت القياس الصرفي أيضًا أو لا "كما عرفت". تنبيه: علم مما تقدم: أن ما ثبت عن الواضع, سواء وافق القياس الصرفي أو خالفه فصيح؛ فنحو "آل وماء" من قولك: "هؤلاء آلك فاعطف عليهم, وهذا ماؤك

فاشربه" مخالف للقياس الصرفي؛ لأن الأصل فيهما: "أهل وموه" أبدلت الهاء فيهما همزة, وهذا الإبدال لا يقره القياس, ولكنه فصيح لموافقته ما ورد عن الواضع. ومثله "أبى يأبى" بفتح الباء في المضارع، والقياس كسرها لما تقدم بيانه، ولكنه فصيح لوروده هكذا عن الواضع. كذلك قولهم: عورت عين فلان، و {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} , فالقياس فيهما أن يقال: عارت عينه, واستحاذ عليهم بقلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فتصحيح الواو حينئذ مخالف للقياس لكنه فصيح؛ لأنه ثبت هكذا عنالواضع. الغرابة: هي أن تكون الكلمة وحشية أي: غير ظاهرة الدلالة على المعنى، ويكون ذلك لسببين: الأول: عدم تداول الكلمة في لغة العرب الخلص، فيحتاج في معرفتها إلى بحث وتنقيب في معاجم اللغة. فتارة يعثر على معناها بعد البحث, كلفظتي "تكأكأتم وافرنقعوا" من قول عيسى بن عمر النحوي، وقد سقط عن دابته، فاجتمع الناس حوله: ما لكم تكأكأتم عليَّ كتكأكئكم على ذي جنة, افرنقعوا، فمعنى "تكأكأتم": اجتمعتم، ومعنى "افرنقعوا": انصرفوا. يقول متعجبًا: ما لكم اجتمعتم علي كاجتماعكم على ذي جنون, تنحوا عني. ومنه لفط "رخاخ" بفتح الراء قي قولهم: نحن في رخاخ من العيش، أي: في سعة ورغد. وتارة لا يعثر عليه بعد البحث كلفظ "جحلنجع" من قول أعرابي يسمى أبا الهميسع1: من طمحة2 صبيرها3 جحلنجع4 بجيم مفتوحة، فمهملة ساكنة، فلام مفتوحة، فنون ساكنة، فجيم مفتوحة، فعين مهملة. فهذه الكلمات الثلاث غير فصيحة؛ لأنها غريبة غير ظاهرة المعنى لعدم تداولها، وذلك خلل واقع في المعنى.

_ 1 بفتح الهاء والسين. 2 الطمحة: النظر. 3 الصبير: السحاب. 4 لم يعثر على معناها بعد.

الثاني: عدم استعمال الكلمة عند العرب الخلص بالمعنى الذي أريد منها، فيحتاج في معرفتها إلى تخريج على وجه بعيد, كلفظ "مسرجا" في قول العجاج أحد الرجازين المشهورين: أيام أبدت واضحًا مفلجًا ... أغر براقًا وطرفًا أدعجا ومقلة وحاجبًا مزججًا ... وفاحمًا ومرسنًا مسرجا1 يصف الشاعر من محبوبته عدة أشياء؛ منها الأنف في قوله: "ومرسنا مسرجا" فقد أراد بالمرسن أنفها، وهو في الأصل أنف البعير؛ إذ هو موضع الرسن2 منه. ثم أريد به: مطلق أنف, مجازًا مرسلًا كما سيأتي بيانه في محله فقوله: "مسرجا" غير فصيح؛ لأنه غريب غير ظاهر المعنى لعدم استعماله بالمعنى الذي أريد منه على ما يظهر. بيان ذلك: أنه لم يعلم ما أراده الشاعر بقوله: "مسرجا"؛ ولذلك اختلف فيه فقيل: هو من قولهم: "سيوف سريجية" أي: منسوبة إلى حداد يقال له: سريج3 كان يجيد صنعها، فهو يريد أن يشبه أنفها في الدقة والاستواء بالسيف السريجي. وقيل: هو من السراج أي: المصباح، يريد أن يشبه أنفها في البريق واللمعان بالسراج. وهذا التأويل قريب من قولهم: سرج الله وجهه أي: بهجه وحسنه. وعلى كلا القولين هو غير ظاهر الدلالة على ما ذكر؛ لأن مادة "فعَّل" بالتشديد إنما تدل فقط على مجرد نسبة شيء إلى شيء, فيقال: كفّر فلان فلانًا نسبه إلى الكفر, وفسَّقه نسبه إلى الفسق، فهو مكفر أو مفسق أي: منسوب إلى الكفر والفسق. أما النسبة التشبيهية، وهي أن يكون المنسوب شبيها بالمنسوب إليه، فلا تدل عليه

_ 1 ضمير "أبدت" عائد على محبوبته في البيت قبله "وواضحًا" صفة لموصوف محذوف أي: سنًّا واضحًا متميزًا، والفلج بالتحريك: تباعد ما بين الأسنان، والأغر: الأبيض، والدعج بالتحريك: اتساع العين وحسنها, والتزجيج: التدقيق مع تقويس, و"فاحما" صفة لمحذوف أي: شعرًا أسود كالفحم, فهو نسبة تشبيهية من نسبة المشبه إلى المشبه به. 2 هو مقود البعير. 3 بضم السين, وفتح الراء.

المادة المذكورة، فأخذ ذلك منها بعيد؛ لهذا كان هذا اللفظ غريبًا، غير ظاهر الدلالة لعدم استعماله عند العرب بهذا المعنى. تنبيهات: الأول: اعلم أن عدم ظهور المعنى المتقدم ذكره في مفهوم الغرابة منظور فيه إلى الخلص من الأعراب سكان البادية، فهم قد يخفى عليهم معنى اللفظ إذا قلَّ تداوله بينهم، أو أهمل استعماله بالمعنى المراد كما ذكرنا. أما غير العرب من المولدين فغير منظور إليهم في ذلك, وإلا خرج كثير من قصائد العرب، بل جلها عن الفصاحة؛ لغلبة الجهل باللغة على غير أربابها. الثاني: زاد بعضهم عيبًا رابعًا على العيوب المخلّة بفصاحة الكلمة، وهو أن تكون الكلمة مستكرهة، يمجّها السمع، ويأنفها الطبع, كلفظ "النقاخ" بضم النون بمعنى الماء العذب, في قول الشاعر: وأحمق ممن يكرع الماء قال لي ... دع الخمر واشرب من نقاخ مبرد و"كالجرشى" بمعنى النفس, في قول أبي الطيب يمدح سيف الدولة: مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشى شريف النسب1 والحق: أن في ذكر الغرابة غنية عن ذكر هذا العيب؛ لأن استكراه السمع للفظ إنما جاء من ناحية وحشيته وغرابته ا. هـ. إذا علمت هذا, علمت أن كل كلمة برئت من العيوب المتقدم ذكرها, عدت في عرف علماء البلاغة فصيحة. تمرين: 1- تكلم بإيجاز عن تاريخ نشأة العلوم البلاغية، وبين وجه الحاجة إلى دراستها. 2- عرف معنى الفصاحة في اللغة، ومثل لها بمثالين.

_ 1 إنما كان مبارك الاسم لإشعاره بالعلو، ولموافقته لاسم علي بن أبي طالب فهو سميه، وأغر اللقب مشهوره لاشتهاره بسيف الدولة، والملوك يشار إليهم بألقابهم, وشريف النسب لأنه "على ما قيل" من سلالة بني العباس.

3- بين معنى الفصاحة في الكلمة، ثم بين معنى التنافر فيها مع التمثيل. 4- اختلف الرأي في ضابط التنافر، فوضح هذا الخلاف، ثم أبطل المرجوح منه بالدليل. 5- بين معنى المخالفة في الكلمة، وهل المعول عليه فيها القانون الصرفي أو السماع؟ وضح ذلك بالأمثلة. 6- بين معنى الغرابة في الكلمة, ومرجع الغرابة فيها، ثم وجه غرابة "مسرجا" في قول الشاعر: "وفاحما ومرسنا مسرجا". 7- بين العيوب التي أخلّت بفصاحة الكلمة فيما يأتي: 1- نقنق الضفدع في المثعنجر1. 2- أكلت العرين وشربت الصمادح2. 3- إن بني للئام زهده ما لي في صدورهم من موددة3 4- وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم خضع الرقاب نواكس الأبصار 5- مر بي رجل مسعوى به عند الأمير. 6- ارتخش4 المهمل فزعًا عند الامتحان. 7- اطلخم5 الأمر. 8- تصفحت الكتاب, فإذا هو مصوون عن الحشو. 9- نحن قوم فواهم ما تقول. 10- صون يديك عن الأذى. 11- ملأ البعاق الجردحل6. 12- أسمع جعجعة, وأنا أشرب السمالج7 13- يوم عصبصب وهلوف ملأ السجسج طلا8.

_ 1 نقيق الضفدع: صوته، والمثعنجر: البحر. 2 العرين: اللحم، والصمادح بضم الضاد: الماء الخالص. 3 معنى البيت: إن أولاده عاقون لا يأخذهم به حنو ولا رحمة، وإنهم لئام يقابلون إحسانه بالإساءة. 4 اضطراب. 5 اشتد. 6 البعاق بكسر الباء, والجردحل بكسر فسكون ففتح فسكون: الوادي. 7 الجعجعة: صوت الرحى وصوت الجِمَال إذا اجتمعت، والسمالج بضم السين وكسر اللام: اللين. 8 "العصبصب": الشديد الحر، والهلوف بكسر الهاء وتشديد اللام المفتوحة: هو الذي يستر غمامة شمسه، والسجسج: الأرض ليست سهلة ولا صلبة، والطل: المطر الخفيف.

14- أمنا أن تصرع عن سماح وللآمال في يدك اصطراع1 15- يظل بموماة ويمسي بغيرها جحيشًا ويعرورى ظهور المسالك2 الجواب على السؤال الأخير: 1- في "نقنق والمثعنجر" تنافر حروف، وفي الثاني منهما وحشية وغرابة يحتاج في الكشف عنهما إلى بحث. 2- في "العرين والصمادح" غرابة في المعنى، تحتاج إلى بحث وتنقيب. 3- في "موددة" مخالفة لما ثبت عن الواضع, وللقانون الصرفي إذ الثابت عن الواضع "مودة" بالإدغام، والقاعدة الصرفية توجب إدغام المثلين المتحركين. 4- في "نواكس" مخالفة؛ إذ لا يصح نقلًا عن الواضع، ولا في القانون الصرفي جمع فاعل وصفا لمذكر عاقل على "فواعل". 5- في "مسعوى" مخالفة، والصواب فيه أن يقال: مسعى بقلب الواو ياء, وإدغام الياء في الياء. 6- في "ارتخش" تنافر الحروف، وغرابه في المعنى. 7- "اطلخم" لفظ غريب وغليظ في السمع، يمجه الذوق, ويأنفه الطبع. 8- في "مصوون" مخالفة, والصواب "مصون" بحذف الواو الثانية لالتقاء الساكنين, بعد نقل حركة الواو إلى الساكن قبلها. 9- في "فواهم" مخالفة؛ إذ لا يجمع فاعل لمذكر عاقل على "فواعل". 10- في "صون" مخالفة، وصوابه: "صن" بحذف الواو لالتقاء الساكنين.

_ 1 تصرع بتشديد الراء مع البناء للمجهول, وتمنع بشدة, يريد: أنهم أمنوا أن يغلبه غالب يمنعه من السماح، واصطراع الآمال في يده: ازدحامها وتدافعها. 2 الموماة: الفلاة الواسعة، والجحيش بفتح فكسر أو بضم ففتح: المستبد برأيه, واعرورى: ركبها عريانة.

11- "البعاق والجردحل" كلاهما غريب المعنى, يحتاج إلى بحث. 12- في "جعجعة" تنافر الحروف، وفي "السمالج" غرابة في المعنى. 13- في الكلمات الثلاث غرابة، وفي الثالثة منها تنافر. 14- في لفظ "اصطراع" بمعنى كثرة النوال والكرم غرابة, يحتاج بسببها إلى تأويل بعيد. 15- في لفظتي "جحيش ويعرورى" غرابة يمجها الطبع, ويأباها السمع. تمرين على هذا السؤال مطلوب جوابه: كتب بعض أمراء بغداد, حين مرضت أمه, رقاعًا وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام، قال فيها: صين امرؤ ورعي دعا لامرأة إنقحلة1 مقسئنة2 قد منيت3 بأكل الطرموق4, فأصابها من أجله الاستمصال5 أن يمن الله عليها بالاطرغشاش6؛ فكان كل من يقرأ كلامه يسلقه بحاد لسانه. وقال أبو الطيب المتنبي: فلا يبرم الامر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم وقال امرؤ القيس: رب جفنة مثعنجرة7 وطعنة مسحنفرة8 وخطبة مستحضرة، وقصيدة محبرة9 تبقى غدا بأنقرة10.

_ 1 بكسر الهمزة وسكون النون وفتح القاف وسكون الحاء وفتح اللام, ومعناه يابسة. 3 أصيبت. 4 الخفاش. 5 الإسهال. 6 البرء. 7 الجفنة: القصعة, والمثعنجرة: المتسعة. 8 متسعة. 9 أي: محسنة. 10 عاصمة تركيا الآن, قال امرؤ القيس ذلك حين أدركه الموت, وكان قد ذهب إلى ملك الروم يستنجده على قتلة أبيه, فهويته "على ما قيل" بنت الملك, وبلغ ذلك قيصر فأسرها وفي نفسه ووعده بإجابة ما طلب، ولما كان بأنقرة بعث إليه بثياب مسموعة فلبسها فتساقط لحمه، وحين علم ذلك قال ما قال.

وقال أبو تمام: نعم متاع الدنيا حباك به ... أروع لا جيدر ولا جبس1 فصاحة الكلام 2: هي أن يبرأ من العيوب الثلاثة الآتية: 1- تنافر الكلمات. 2- ضعف التأليف. 3- التعقيد بنوعيه. غير أن سلامة الكلام من هذه العيوب مشروطة بسلامة أجزائه من العيوب السابقة. وإليك بيان العيوب الثلاثة على الترتيب: تنافر الكلمات: هو وصف في الكلمات مجتمعة، يوجب ثقلها على اللسان, وعسر النطق بها، وإن كان كل كلمة منها على حدة لا ثقل فيها. والتنافر فيها نوعان كذلك: تنافر شديد، وتنافر خفيف. فالشديد البالغ الغاية, كقول الشاعر: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر3 "قفر" بالرفع نعت "لمكان" على القطع للضرورة، وقيل: هو نعت "لقبر" ومعنى كونه قفرًا -على هذا القول- قيامه وحده في هذا المكان. والشاهد فيه المصراع الثاني، فإن كلماته متعادية، ينفر بعضها من بعض أشد النفور حتى لا يكاد اللسان ينطق بها مجتمعة. ومثله قول الشاعر: "في رفع عرش الشرع مثلك يشرع" فإن اللسان ليتعثر عند النطق به أيما تعثر. والخفيف كقول أبي تمام يعتذر لممدوحه، ويتبرأ مما نسب إليه:

_ 1 "حباك" أعطاك، و"الأروع" هو الذي يعجبك حسنه, و"الجيدر" بفتح الجيم والدال: القصير، والجبس بكسر فسكون: الجامد الثقيل الروح. 2 يراد بالكلام هنا ما يشمل التام والناقص. 3 زعموا أن هذا البيت لأحد الجان, صاح على حرب بن أمية جد معاوية أمير المؤمنين فمات لوقته، فأنشد الجني هذا البيت، والواقع أنه لم يعرف قائله.

كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي يقول: إذا ما جرى لساني بمدحه رأيت الناس عامة ألسنة مدح وثناء معي لفيض إنعامه، وعموم أياديه، وإذا ما هممت بلومه لم يتبعني فيها أحد لعدم وجود ما يقتضيه. والشاهد في قوله: "أمدحه أمدحه" فإن في اجتماع هاتين الكلمتين ثقلا عند النطق بهما، يشعر به صاحب الذوق السليم1. ضعف التأليف: هو أن يكون الكلام في تركيبه مخالفًا للمشهور من قوانين النحو التي اعتمدها جمهور النحاة، كالإتيان بالضمير متصلًا بعد "إلا" وكالإضمار قبل ذكر المرجع لفظًا, أو معنى، أو حكمًا. فمثال الأول قول الشاعر: وما علينا إذا ما كنت جارتنا ... ألا يجاورنا إلاك ديار2 والأصل أن يقال: إلا إياك. ومثال الإضمار قبل الذكر قول حسان بن ثابت يرثي مطعم بن عدي: ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدًا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما يقول: لا بقاء لأحد في الدار الدنيا, سواء في ذلك الرفيع والرضيع، ولو أن المجد يخلد صاحبه لبقي مطعم على مدى الدهر، يريد: أنه كان ماجدًا نبيلًا. والشاهد في المصراع الثاني حيث أضمر قبل ذكر المرجع لفظًا، ومعنى، وحكمًا, ذلك أن الضمير في "مجده" راجع إلى "مطعم" وهو لم يذكر قبل الضمير لفظًا، وهو ظاهر، ولا معنى لأنه مفعول به، فمرتبته التأخير، ولا حكمًا لأنه محكوم عليه بالتأخر لمفعوليته.

_ 1 ذكر الصاحب بن عباد أنه أنشد هذه القصيدة بحضرة ابن العميد, فلما بلغ هذا البيت قال له ابن العميد: هل تعرف فيه شيئًا من الهجنة؟ قال: نعم مقابلة المدح باللوم، وإنما يقابل بالذم أو الهجاء، فقال ابن العميد: غير هذا أريد، فقال الصاحب: لا أدري غير ذلك، فقال ابن العميد: هذا التكرار في "أمدحه" مع الجمع بين الحاء والهاء خارج عن حد الاعتدال، نافر كل التنافر, فأثنى عليه الصاحب. 2 ومنه قول الشاعر: ليس إلاك يا علي همام ... سيفه دون عرضه مسلول

فكل من الإتيان بالضمير متصلًا بعد "إلا" والإضمار قبل الذكر غير جائز عند جمهور النحاة؛ لهذا كان المصراع الثاني من البيتين الأول، والثاني غير فصيح؛ لضعف التأليف فيه. أما نحو: هزم خالد عدوه, ورفع قبيلته عنترة، ونحو: نعم فارسًا علي1 وربه رجلًا2، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 3 فكل ذلك فصيح؛ لأنه جاز على قانون النحو المشهور لتقدم المرجع لفظًا في الأول، ومعنى في الثاني؛ لأنه فاعل ومرتبته التقدم على المفعول، ولتقدمه حكمًا في الأمثلة الباقية؛ لأن وضع الضمير على أن يعود على متقدم، وإنما أخر فيها لنكتة بلاغية كما سيأتي في محله. التعقيد: هو أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل واقع فيه4، وهو نوعان: لفظي ومعنوي. التعقيد اللفظي: أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل واقع في نظمه وتركيبه, بحيث لا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني بسبب تقديم، أو تأخير، أو فصل، أو حذف، أو نحو ذلك مما ينشأ عنه صعوبة فهم المعنى المراد، وهو على ضربين: شديد وخفيف. فالشديد, كقول الفرزدق5 يمدح إبراهيم المخزومي خال هشام بن عبد الملك: وما مثله في الناس إلا مملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه يريد: وما مثل هذا الممدوح في الناس حي يقاربه في الفضائل إلا مملكًا، أبو أم ذلك المملك أبو الممدوح، أي: لا يحاكيه أحد إلا ابن اخته.

_ 1 على رأي من يعرب مخصوص "نعم وبئس" مبتدأ لخبر محذوف أو العكس. 2 المراد: ضمير رب. 3 المراد: ضمير الشأن. 4 احترز به عما خفي المراد منه لا لخلل فيه, بل لإرادة المتكلم إخفاء المراد منه لحكمة, كالذي ورد في القرآن من المتشابه والمشكل والمجمل, فلا مقيد فيه. 5 أحد الشعراء المعروفين في الدولة الأموية.

ففيه فاصل كبير بين البدل وهو "حي" والمبدل منه وهو "مثله" وفيه تقديم المستثنى وهو "مملكًا" على المستثنى منه وهو "حي" وفيه فصل بين المبتدأ والخبر وهما "أبو أمه أبوه" بأجنبي هو "حي" وبين الصفة والموصوف وهما "حي يقاربه" بأجنبي هو "أبوه", فانظر إلى أحد وصل تعقيد اللفظ حتى عمي المعنى, وكاد يستعصي على الفهم. ومثل هذا النوع في شدة تعقده قول الآخر: فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرًا رسومها قلما1 يصف الشاعر دارًا بالية، وأصل الكلام: فأصبحت بعد بهجتها قفرًا كأن قلما خط رسومها، ففيه من الفصل والتقديم والتأخير ما جعل التعقيد اللفظي في أقبح صورة وأشنعها. والخفيف, كقول أبي الطيب المتنبي: جفخت2 وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل وأصل التركيب هكذا: جفخت بهم شيم دلائل على الحسب الأغر, وهم لا يجفخون بها أي: افتخرت بهم طبائع دالة على ما كان لآبائهم من مناقب ومفاخر، وهم لا يفتخرون بها؛ لأنهم حاصلون على ما هو خير وأوفى, فقد فصل بين الفعل والفاعل وهما "جفخت شيم" بأجنبي هو جملة "وهم لا يجفخون بها" الواقعة حالًا، وفصل بين الصفة والموصوف وهما "شيم دلائل" بالجار والمجرور وهما قوله: "على الحسب الأغر". ومثله قول الفرزدق من قصيدة يصف فيها ذئبًا: تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان يريد: نكن يا ذئب مثل من يصطحبان, ففصل بين الموصول وصلته وهما "من يصطحبان" بأجنبي هو قوله: "يا ذئب" فتعقد اللفظ نوع تعقيد. التعقيد المعنوي: هو أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل واقع في انتقال الذهن من المعنى الأول المفهوم من اللفظ لغة إلى المعنى الثاني المقصود

_ 1 "خط" فعل ماضٍ، وبهجتها بكسر التاء على الإضافة، "ورسومها" بفتح الميم على المفعولية. 2 افتخرت.

بحيث يكون إدراك المعنى الثاني من الأول بعيدًا عن الفهم, يحتاج إلى تكليف وتمحل بسبب استعمال اللفظ في معنى خفي لزومه للمعنى الأول, كقول العباس بن الأحنف1: سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا2 يطلب الشاعر البعد عن أحبته, غير مبالٍ بما يعانيه في ذلك من غصص الفرقة وآلام النوى, كما يطلب اكتواءه بنار الأسى على فراقهم، وبلوغه الشوق إليهم عساه فيما بعد يحظى بوصل مقيم، وفرح لا يزول، وكأنه بهذا الطلب يخادع الزمان، ويغالطه ليوافيه بضد ما يطلب، على عادة الدهر من محاربته الناس في مطالبهم ووقوفه حائلًا دون ما يأملون، وبذلك يتم للشاعر في غفلة الدهر ما أراد من لقاء الأحبة، والابتهاج والأنس بهم، على حد قول الشاعر: ولطالما اخترت الفراق مغالطًا ... واحتلت في استثمال غرس ودادي ورغبت عن ذكر الوصال لأنها ... تبني الأمور على خلاف مرادي والشاهد في قوله: "لتجمدا" فإن ابن الأحنف لم يوفق في أداء المعنى الذي أراده من هذا اللفظ على وجه صحيح؛ ذلك أنه أراد أن يكني عما قصده بكنايتين أصاب في إحداهما، وأخطأه الصواب في الأخرى. بيان ذلك: أنه دل أولًا بسكب الدمع على ما يوجبه فراق الأحبة من الحزن والكمد، فأحسن وأصاب المحزن في هذه الكناية، فإن البكاء عادة يكون أمارة الحزن وعنوانه، كما يكون الضحك دليلًا على الابتهاج والسرور, فيقال: أبكاني وأضحكني على معنى: ساءني وسرني. ومنه قول الشاعر: أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخ عالٍ إلى خفض3 أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضي

_ 1 من ندماء هارون الرشيد, وكان لطيف المجلس فكه الحديث. 2 تسكب بالرفع عطف على "أطلب" وبالنصب عطف على "بعد" من عطف الفعل على اسم خالص من التأويل، والمراد طلب استمرار السكب لا أصله؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل. 3 هو لحصان المعلمي من شعراء الحماسة, وقد كنى في البيت التالي بإبكاء الدهر له عن إساءته, وبإضحاكه له عن سروره.

ثم دل ثانيًا بجمود العين على سرورها بقرب أحبته، واجتماع شمله بهم، فأخطأه التوفيق في هذه الكناية، ولم يكن النجاح حليفه فيها؛ ذلك أن جمود العين جفافها من الدمع عند الدافع إليه, وهو الحزن على فراق الأحبة، فالجمود حينئذ كناية عن بخلها بالدموع وقت الحاجة إليه، لا عما أراده من السرور, يؤيد ذلك قول أبي عطاء يرثي ابن هبيرة: ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود أي: لبخيلة بالدمع, ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا: أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى؟! أي: أفيضا بالدموع, ولا تبخلا به. كما يرشد إلى ذلك أيضًا قولهم: سنة جماد أي: بخيلة بالقطر, وناقة جماد أي: لا تجود بالدر؛ ولهذا لا يصح عندهم أن يقال في مقام الدعاء للمخاطب بالسرور: لا زالت عينك جامدة، على معنى: لا أبكى الله عينك؛ لأنه دعاء عليه بالحزن لا بالسرور. إذا علمت هذا, علمت أن المعنى الذي أراده الشاعر وهو السرور لا يفهم من الجمود إلا يدل عليه اللفظ لا لغة ولا عرفًا, اللهم إلا مع ارتكاب شيء من التعسف1, ومن هنا كان التعقيد في المعنى. تنبيهان: الأول: زاد بعضهم عيبًا رابعًا على العيوب المخلة بفصاحة الكلام، وهو أن يكثر2 فيه التكرار، أو تتوالى فيه الإضافات. فمثال التكرار قول أبي الطيب يصف فرسًا له بالنجابة، وحسن الجري: وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد "سبوح" فعول بمعنى فاعل من السبح وهو العوم في الماء، شبه به عدو الفرس،

_ 1 هو أن يستعمل الجمود الذي هو خلو العين من الدمع حالة الحزن في خلو العين من الدمع مطلبًا إلى هنا صح أن يكنى به عن السرور؛ لأن المسرور تخلو عينه من الدمع عادة، غير أن استعمال الجمود في الخلو من الدمع مطلبًا لينتقل منه إلى السرور مخالف لاستعمالاتهم؛ لهذا كان الكلام بعيد المعنى. 2 المراد بالكثرة ما فوق الواحد, وهو أن يذكر اللفظ مرة بعد مرة.

يريد: أن في جريها سلامة وسهولة كأنما تسبح في الماء, وقوله: "لها" متعلق بمحذوف هو خبر مقدم، و"منها" حال من "شواهد"، و"عليها" متعلق به، وشواهد مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لسبوح. يصف الشاعر فرسه بحسن الجري، وأنها منجاة له من الشدائد بخفة حركتها وشدة عدوها، وأن أمارات النجابة بادية عليها. والشاهد في المصراع الثاني، فإن تكرار الضمير فيه أخل بفصاحته. ومثال تتابع الإضافات قول ابن بابك يخاطب حمامة: حمامة جرعاء حومة الجندل اسجعي ... فأنت بمرأى من سعاد ومسمع1 يأمر الشاعر حمامة هذا المكان بالسجع والتطريب إعجابًا بمحبوبته, واحتفاء بها. والشاهد في المصراع الأول فإن فيه إضافات متتابعة؛ إذ قد أضيف "حمامة" إلى "جرعاء" المضافة إلى "حومة" المضافة إلى "جندل", وهذا مخل بفصاحة الكلام. هكذا زعم القائل وفيه نظر؛ لأن كثرة التكرار، أو تتابع الإضافات إن ثقل اللفظ به على اللسان فقد دخل في باب التنافر وإلا فلا يخل بالفصاحة, كيف وقد وردا في القرآن الكريم؛ قال تعالى: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} وقال: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} وقال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} إلى غير ذلك مما تراه في غير موضع من كتاب مقدس هو في أعلى طبقات البلاغة، لا ينكر عليه ذلك أحد. وقد اجتمع الأمران في الحديث الشريف؛ قال صلى الله عليه وسلم: " الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم". الثاني: إنما شرطنا في فصاحة الكلام أن تسلم كل كلمة فيه من العيوب المخلة بفصاحتها؛ لتعلم أن نحو قولهم: "محمد أصدق موددة من أخيه" ونحو: "شعر هند مستشزر",

_ 1 جرعاء: مؤنث أجرع, وهي الأرض الجرداء لا تنبت شيئًا, وقصرها للضرورة, و"الحومة" معظم الشيء و"الجندل" الأرض ذات الحجارة و"السجع" تغريد الحمام و"مرأى ومسمع" اسما مكان أي: بمكان تراك منه سعاد وتسمعك.

"أنفها مسرج" غير فصيح، مع أنه كلام سليم من العيوب المخلة بفصاحته, فلا تنافر كلمات فيه، ولا ضعف تأليف، ولا تعقيد, ولكنه لما لم يسلم من العيوب المخلة بفصاحة بعض أجزائه لم يكن فصيحًا؛ إذ الشرط في فصاحة الكلام "كما قلنا" سلامته من عيوبه وعيوب أجزائه, كما تقول في الأمثلة السابقة: محمد أصدق مودة من أخيه، وشعر هند مرتفع, وأنفها مستقيم، دقيق, أو ناضر بهيج ا. هـ. إذا علمت هذا, علمت أن كل كلام سلم من عيوبه, وعيوب أجزائه عُدَّ في عرف البلغاء فصيحًا، وإن لم يسلم فقد عطل جيده من حلية الفصاحة. فصاحة المتكلم: هي ملكة أي: صفة قائمة بنفس المتكلم راسخة فيه، يستطيع بها أن يعبر تعبيرًا صحيحًا عما يجول بخاطره، ويجيش في صدره من الأغراض والمقاصد، فالمدار في فصاحته على أن تكون فيه هذه الصفة كامنة راسخة, يستطيع أن يستخدمها متى شاء في أي ضرب من ضروب الكلام، وفي أي فن من فنونه؛ كالمدح، والذم، والرثاء، والفخر، والتشبيب، وغير ذلك فهو فصيح وإن لم ينطق متى وجد فيه الاستعداد، والقدرة على صوغ اللفظ الفصيح، ولا يكون فصيحًا إذا فقد هذا الاستعداد، وهذه القدرة. كما لا يكون فصيحًا إذا استطاع أن يعبر بلفظ فصيح في مقصد دون آخر؛ إذ لم يكن ذلك منه وليد ملكة فيه. وتكوين هذه الملكة إنما يكون بممارسة أساليب العرب الفصحاء، والوقوف على أسرارها، وحفظ الكثير من عيوب كلامهم, نثرًا وشعرًا. تمرين: 1- بين معنى الفصاحة في الكلام، مع بيان الفرق بين المتنافر وفي الكلمة، وبين المخالفتين فيها، ومثِّل لكل ما تقول. 2- وضح معنى التعقيد في الكلام، واذكر نوعيه، وبين وجه التعقيد في قول ابن الأحنف: وتسكب عيناي الدموع لتجمدا.

3- عرف فصاحة المتكلم، وهل إذا أجاد القول الفصيح في معنى الرثاء يكون فصيحًا؟ علل لما تقول. 4- بين العيوب التي أخلت بفصاحة الكلام فيما يأتي: 1- وازور من كان له زائرًا وعاف عافي العرف عرفانه1 2- جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما جوزي سنمار2 3- إلى ملك ما أمه من محارب أبوه ولا كانت كليب تصاهره 4- وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا قلاقل عيس كلهن قلاقل3 5- لما رأى طالبوه مصعبا ذعروا وكاد -لو ساعد المقدور- ينتصر4 6- أنى يكون أبا البرايا آدم وأبوك والثقلان أنت محمد؟ 5 7- قرب منا فرأيناه أسدًا, أي: أبخر. 8- "وسلوت كل مليحة إلاك". 9- نشر الملك ألسنته بالمدينة, يريد جواسيسه

_ 1 "ازورّ" انحرف، و"عاف" كره، و"عافي العرف": طالب معروف, و"العرفان" المعرفة. والمعنى: انحرف عنه من كان يزوره, وكمده طالب الإحسان معرفته. 2 "سنمار" اسم رجل بنى للنعمان بن امرئ القيس قصرًا فخمًا بالكوفة سماه "الخورنق" وقد أتقن بحذقه وبراعته صنعه, ولما أتم بناءه وزخرفه ألقاه النعمان من أعلاه لئلا يبني قصرًا مثله لغيره، فمات سنمار لساعته, وضرب به المثل لكل من يجازى على الخير بالشر. ومعنى البيت: أن الشاعر دعا على أبي الغيلان أن يجازيه أولاده مع كبر سنه, وحسن صنيعه معهم شر جزاء, كما وقع لسنمار المذكور. 3 قلقل: حرك و"قلاقل" الأولى جمع قلقلة, وهي الناقة السريعة "وقلاقل" الثانية جمع قلقلة بمعنى الحركة، وضمير كلهن "للعيس" وهي النوق. والمعنى: حركت بسبب الهم الذي حرك نفسي نوقًا خفافًا في السير, والمراد أنه سافر ولم يعرج بالمكان الذي يلحقه فيه ضيم. 4 "مصعب" هو ابن الزبير بن العوام, ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم. 5 البرايا: جمع برية, وهي الناس جميعًا، والثقلان: الإنس والجن. والمعنى: كيف تعقل أبو آدم لجميع الناس في حين أن هذا العالم إنسه وجنه هو أنت وأبوك محمد, وفيه من المبالغة ما ترى.

الجواب على السؤال الأخير: 1- "في البيت" في مصراعه الثاني تنافر كلمات. 2- "في البيت" ضعف تأليف؛ لأن فيه عود الضمير في "بنوه" على متأخر في اللفظ والرتبة, وهو "أبا الغيلان" لأنه مفعول, و"بنوه" فاعل, ومن المعلوم أن رتبة الفاعل قبل رتبة المفعول. 3- "في البيت" تعقيد لفظي, يريد: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب أي: ليست أمه منهم، ولا كان صهرًا لقبيلة "كليب" أي: إنه رفيع النسب أبا وأما. 4- "في البيت" تنافر كلمات وهو ظاهر. 5- "في البيت" ضعف تأليف؛ لما فيه من عود الضمير في "طالبوه" على "مصعبا" وهو متأخر لفظًا ورتبة؛ لأنه مفعول. 6- "في البيت" تعقيد لفظي، والأصل: أنى يكون آدم أبا البرايا، وأنت وأبوك محمد الثقلان؟ 7- فيه تعقيد معنوي؛ لخفاء لزوم البخر للأسد عرفًا, فانتقال الذهن فيه إنما يكون من الأسد إلى معنى الشجاع، لا إلى معنى الأبخر. 8- فيه ضعف تأليف؛ لمجيء الضمير بعد "إلا" متصلًا، والصواب أن يؤتى به منفصلًا، فيقال: إلا إياك. 9- فيه تعقيد معنوي؛ لأن في لزوم الجاسوسية للألسنة خفاء وبعدًا، والصواب أن يقال: نشر عيونه؛ لوضوح اللزوم بين العين والنجس. تمرين على هذا السؤال يطلب جوابه: ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجل علمي أنه بي جاهل

كسا حلمه ذا الحلم أثواب سؤدد ... ورقى نداه ذا الندى في ذرا المجد1 بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصبح أرض لها شرف سواها مثلها ... لو كان مثلك في سواها يوجد لو كنت كنت كتمت السر كنت كما ... كنا وكنت ولكن ذاك لم يكن والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا2 ما أحببنا إلاك يا محمد البلاغة: معناها في اللغة: بلوغ الرجل بعبارته كنه مراده، أي: غايته. يقال: بلغ3 محمد بلاغة, إذا كان يبلغ بعبارته الغاية التي يريدها. أما معناها في الاصطلاح, فيختلف باختلاف موصوفها وهو أحد اثنين: الكلام والمتكلم. يقال: هذا كلام بليغ, وهذا متكلم بليغ ولا توصف بها الكلمة، فلا يقال: هذه كلمة بليغة؛ لعدم ورود السماع بذلك. بلاغة الكلام: هي مطابقته لمقتضى حال الخطاب, مع سلامته من العيوب المخلة بفصاحته, وفصاحة أجزائه. وحال الخطاب أي: المقام الذي ورد فيه الخطاب, وهو الأمر الحامل للمتكلم على أن يورد كلامه في صورة خاصة. و"مقتضى الحال" هو تلك الصورة الخاصة التي ورد عليها كلام المتكلم. و"مطابقة الكلام للمقتضى" هي اشتماله على هذه الصورة الخاصة,

_ 1 "السؤدد" بسكون الهمزة وضم الدال السيادية، و"الندى" الكرم, و"الذرا" جمع ذروة وهي أعلى الشيء كالقمة. 2 نجوم الليل والقمرا منصوبان على المفعولية لكاسفة. 3 على زنة شرف.

فإنكار المخاطب مثلًا "حال" لأنه أمر يحمل المتكلم على أن يورد كلامه على صورة التأكيد محوًا لهذا الإنكار, وصورة التأكيد التي ورد عليها الكلام هي مقتضى الحال، واشتمال الكلام على هذه الصورة هو معنى مطابقته للمقتضى. مثال ذلك أن تقول لمنكر إمارة شوقي للشعر: "إن شوقيا لأمير الشعر" فإنكار المخاطب هو الحال؛ لأنه أمر دعاك لأن تورد كلامك مصورًا بصورة التأكيد, وصورة التأكيد هي مقتضى الحال، واشتمال هذا الكلام على هذه الصورة هو المطابقة للمقتضى, فهذا القول حينئذ كلام بليغ؛ لأنه مطابق لمقتضى الحال. ومثل الإنكار "المدح" فهو حال تدعو المتكلم لأن يورد كلامه على صورة الإطناب؛ لأن مقام المدح يقتضي الإطالة في القول، والبسط فيه. وكذلك ذكاء المخاطب حال تدعو المتكلم لأن يورد كلامه على صورة الإيجاز؛ لأن مقام الذكاء يقتضي الاختصار في الكلام، وكل من صورتي الإطناب والإيجاز مقتضى الحال، واشتمال الكلام على صورة الإطناب أو الإيجاز مطابقة للمقتضى، وهكذا يقال في كل حال من أحوال الخطاب1. ومما ذكرنا نعلم أن: مقتضيات الأحوال تختلف باختلاف تلك الأحوال, فإن كانت الحال إنكارًا من المخاطب مثلًا كان المقتضى توكيدًا؛ لأنه هو المناسب لحال المنكر

_ 1 هناك قول آخر هو أن مقتضى الحال الكلام الكلي المشتمل على التأكيد مثلًا أو الإطناب أو الإيجاز، وليس هو التأكيد نفسه أو الإطناب أو الإيجاز كما هو الرأي الأول, فالإنكار مثلًا إنما يقتضي مطلق كلام مؤكد بأي نوع من أنواع التأكيد لا كلامًا خاصًّا مؤكدًا بتأكيد خاص، وقولنا لمنكر: إن محمدًا لكاتب، فرد من أفراد هذا المطلق المؤكد. ومعنى مطابقة هذا الكلام حينئذ أنه مندرج تحت هذا المطلق, وفرد من أفراده والفرق بين الرأيين واضح.

وإن كانت الحال ذكاء في المخاطب كان المقتضى هو الإيجاز في الكلام، والإتيان بالاعتبارات اللطيفة، والمعاني الدقيقة, اعتمادًا على هذا الذكاء, وإن كانت الحال عبارة فيه كان المقتضى هو الإطناب في القول, والإتيان بالمعاني الصريحة الواضحة لأن ذلك هو الموافق لحال الغبي ... وهكذا: لكل مقام مقال, فللسوقة كلام لا يصح لسراة القوم وأمرائهم, وللذكي خطاب لا يناسب الغبي، وفي مواقف الحروب أو الوعيد والتهديد كلام يخالف ما يقال في مواطن توديع الأحبة, وبث الأشواق، وذكر أيام الفراق، وما قارب ذلك من معاني الاستعطاف والمعاذير, ففي الأول يستعمل اللفظ الضخم، والمعنى الفخم، وفي الثاني يستعمل اللفظ الرقيق الحاشية، الناعم الملمس، اللطيف الموقع, وإن لنا في القرآن والحديث لخير قدوة في استعمال ما يناسب المقام من فنون الكلام. تنبيهان: الأول: مما تقدم تعلم أن مراتب البلاغة تتفاوت في العلو والانحطاط بتفاوت مراعاة تلك المقتضيات، والاعتبارات المناسبة للمقام. فكلما كانت رعاية تلك المقتضيات أوفى بالغرض, وأليق بالمقام كان الكلام أبلغ وأسمى, وكلما كانت تلك الرعاية أقل وفاء, وأبعد لياقة كان الكلام أحط مرتبة وأقل بلاغة, فإذا كنت مثلا تخاطب ذكيا منكرا لحكم من الأحكام وجب أن تراعي في خطابك ذكاءه وإنكاره معًا، فتعطي له من الكلام ما يناسب ذكاءه من الإيجاز، وما يلائم إنكاره من التأكيد، فإذا راعيت ذلك كان كلامك أبلغ وأسمى مكانة؛ لأنه أكمل مطابقة لمقتضى حال الخطاب. وإن راعيت في الخطاب معه أحد الأمرين بأن أوجزت ولم تؤكد، أو أكدت ولم توجز كان كلامك أقل بلاغة وأدنى مكانة، فإن لم تراع الأمرين جميعًا كان كلامك عاطل الجيد من حلية البلاغة, وكاد يلتحق بأصوات الحيوان.

ولهذا كان القرآن الكريم في أعلى طبقات البلاغة؛ لصدوره عمن هو أعلم بكافة الأحوال: ظاهرها وخفيها، وأدرى بمقتضياتها واعتباراتها {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . الثاني: إنما شرطنا في بلاغة الكلام أن يسلم من العيوب المخلة بفصاحته وفصاحة أجزائه؛ لتعلم أن البلاغة أخص من الفصاحة، وأن كل كلام بليغ لا بد أن يكون فصيحًا ولا عكس. فإذا قلت لمنكر: إن أنف هذا لمسرج، أو قلت: والله ليس بقرب قبر حرب قبر, لم يكن كلامك بليغًا مع أنه مطابق لمقتضى حال المخاطب، ذلك لفقدان شرط الفصاحة فيه, أما في المثال الأول فلكون بعض أجزائه وحشيًّا غريبًا, وأما في الثاني فلكونه متنافر الكلمات مجتمعة. وإذا قلت لمن ينكر كرم علي ونبله: "علي كريم الخلق نبيل الطبع" من غير تأكيد, كان كلامك فصيحًا لسلامته من العيوب المخلة بالفصاحة، ولكنه ليس بليغًا لعدم مطابقته لمقتضى حال المنكر؛ إذ إن حاله يقتضي التأكيد محوًا لإنكاره. فعلم من هذا أن الكلام لا يكون بليغًا إلا إذا كان فصيحا لأخذ شرط الفصاحة فيه، أما الفصاحة في الكلام فتتحقق بدون البلاغة لعدم أخذ شرط البلاغة فيها، كما يتبين لك ذلك من الأمثلة السابقة ا. هـ. بلاغة المتكلم: هي ملكة أو صفة قائمة بالمتكلم راسخة فيه, يتمكن بها متى شاء من تأليف كلام بليغ في أي معنى يريده. فالمدار "كلما قلنا في فصاحة المتكلم" على أن تكون فيه هذه الصفة ثابتة راسخة, يستخدمها -متى أراد- في أي فن من فنون الكلام، فهو بليغ وإن لم ينطق متى وجدت فيه هذه القدرة على صوغ الكلام البليغ، فإذا فقد هذه القدرة لم يكن

بليغًا، كما لا يكون كذلك إذا استطاع صوغ الكلام البليغ في معنى دون آخر. وقياسًا على ما سبق من أن البلاغة أخص من الفصاحة, يكون المتكلم البليغ أخص من الفصيح؛ لأن المتكلم البليغ هو "كما قلنا" من به ملكة الإتيان بكلام بليغ, والكلام البليغ "كما تقدم" مشروط فيه الفصاحة؛ وحينئذ لا يكون المتكلم بليغًا حتى يكون فصيحًا، أما المتكلم الفصيح فقد يفقد صفة البلاغة بأن يصوغ كلامًا خاليًا من العيوب المخلة بالفصاحة، غير مطابق لمقتضى الحال كما إذا قلت لمنكر نجاح أخيه: "نجح أخوك" من غير تأكيد. ومما تقدم تعلم أن: البلاغة يتوقف تحققها على أمرين: الأول: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وهو معنى مطابقة الكلام لمقتضى حال الخطاب, على ما تقدم بيانه. الثاني: سلامته من العيوب المخلة بفصاحته, على ما فصلناه لك سابقًا. تتمة: علمت مما تقدم في بيان تعريف الفصاحة والبلاغة ما يعرض للفظ من عيوب, وما ينتابه من خلل، فيجمل بنا إذًا أن نعرف: بم نتقي هذه العيوب ونتجنب هذا الخلل في كلامنا حتى يخرج اللفظ سليمًا معافى في جوهره، وصيغته، ومعناه، لا يشكو عيبًا، ولا يحس نقصًا؟ فنقول: أ- الغرابة: يمكن اجتنابها بالاطلاع على علم متن اللغة, فمن تتبع كتب اللغة، ووقف على معاني المفردات المستعملة علم أن ما عداها مما يفتقر إلى تنقيب, أو تخريج غير سالم من الغرابة. ب- المخالفة: يمكن الاحتراز عنها بالوقوف على ما نقل عن الواضع في معاجم اللغة, أو بالاطلاع على قواعد علم الصرف فهو الباحث في صيغ

المفردات ونهج استعمالها, فمن ألم بقواعده عرف أن نحو "الأجلل" مثلًا مخالف دون "الأجل" إذ من قواعدهم أن المثلين إذا اجتمعا في كلمة واحدة, وكان ثانيهما متحركًا، ولم يكن زائدًا لغرض وجب إدغامها. ج- ضعف التأليف والتعقيد اللفظي: يمكن توقيهما بمعرفة قواعد النحو، إذ هو الباحث في طرق استعمال المركبات على الوجه الحق, فمن مارس هذا العلم، ووقف على أصوله ومسائله استطاع أن يصوغ الكلام على نهج قويم سليم من شوائب الضعف والتعقيد. د- التنافر: ملاك معرفته الذوق السليم, فلا حاكم فيه سواه, فهو الذي يدرك أن نحو "مستشزر" متنافر دون مرتفع, وهو الذي يدرك ما بين الكلمات من تنافر أو تضافر, وقد تقدم في ذلك خلاف. هـ- التعقيد المعنوي: يعرف من دراسة علم البيان, فمن زاول هذا العلم وأحصى مسائلة عرف كيف يتوقى التعقيد في معاني الكلام، وكيف يبرزه لك فاتحًا صدره، كاشفًا لك عن ضميره. والاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى يعرف من دراسة علم المعاني, فمن مارس هذا العلم، وكشف عن أمره، ووقف على سره عرف كيف يتوقى الخطأ في تأدية المعنى المراد، وكيف يطبق الكلام على مقتضيات الأحوال. أما الوجوه التي تخلع على اللفظ خلعة البهجة والبهاء فتعرف من علم البديع؛ إذ به نعرف كيف نحلي من اللفظ جيده العاطل، بما يبهج القلب, ويطرب السمع، ويشرح الخاطر. والثلاثة الأخيرة هي المسماة بعلوم البلاغة، وبعض الأئمة يسمي الكل "علم البيان" لأن البيان هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير، قال الجاحظ: البيان: اسم جامع لكل ما كشف لك عن المعنى, وبعضهم يسمي الجميع "علم البديع" لما في مباحثه من الإبداع والابتداع.

تمرين: 1- اذكر معنى البلاغة في اللغة, ومعناها في اصطلاح علماء البلاغة. 2- بين معنى بلاغة الكلام، مع بيان معنى الألفاظ الآتية: الحال, مقتضى الحال, المطابقة، ثم ائت بمثال من عندك موضحًا فيه ذلك. 3- إذا استطاع متكلم أن يؤلف كلامًا في الطبقة العليا من البلاغة في أحد الأغراض؛ كالمدح أو الرثاء, فهل يعد في عرف البلغاء بليغًا؟ 4- بين وجه خروج الجمل الآتية عن حد البلاغة: 1- قال رجل لمنكر قدوم الأمير: الأمير قادم. 2- نزلت بالعدو داهية خنفقيق1. 3- قال الفرزدق يمدح خالدًا، ويذم أسدًا أمير خراسان بعد خالد: وليست خراسان التي كان خالد ... بها أسد إذ كان سيفًا أميرها2 4- قتل أخوه اللص. 5- قال ابن نباتة في خطبة له, يذكر فيها أهوال يوم القيامة: اقمطر3 وبالها، واشمخر4 نكالها، فما ساغت، ولا طابت. 6- إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... بنشر وتكثير الوشاة قمين5 الجواب على السؤال الأخير: 1- لم يكن القول المذكور بليغًا؛ لعدم مطابقته لمقتضى الحال, إذ إن حال المخاطب يقتضي التأكيد.

_ 1 أي: شديدة. 2 أصل الكلام: وليست خراسان بالبلد التي كان خالد بها سيفا, إذ كان الأسد أميرها, وفي "كان" الثانية ضمير الشأن, والجملة بعدها خبر عنها. 3 اشتد. 4 طال. 5 أي: جدير، يقول الشاعر: إذا جاوز وتعدى السر شخصين, لم يعد سرًّا خافيًا, فإذا شاع وذاع لم يكن بدعًا؛ لأنه خليق بذلك.

2- غير بليغ؛ لأن في بعض أجزائه غرابة في المعنى, وتنافرًا في الحروف, وهذا مخلّ بفصاحة الكلام التي هي شرط في بلاغته. 3- ليس من البلاغة في شيء؛ لما فيه من تعقيد في اللفظ، خفي المعنى بسببه. وهذا مخل بفصاحة الكلام المأخوذة شرطًا في بلاغته. 4- غير بليغ؛ لعدم فصاحته لما فيه من الإضمار قبل الذكر، وهو ضعف في تأليف الكلام. 5- خرج عن حد البلاغة؛ لأن في بعض أجزائه غرابة في المعنى وتنافرًا في الحروف، وهما مخلان بالفصاحة. 6- ليس بليغًا؛ لمخالفته في لفظ "الاثنين" ما سمع عن العرب الفصحاء, ولمخالفته للقياس الصرفي، إذ إن هذه الكلمة من مواضع همزة الوصل, لا همزة القطع كما عرف في محله. تمرين على هذا السؤال يطلب جوابه: قال رجل لآخر لا ينكر عليه شيئًا: والله إن محمدًا لكريم الخلق. قال بعض الوعاظ في كلام له: حتى جنأت1 وجنات جنات الحبيب. مر رجل بخياط وقد خرج الرجل يبحث عن فرسه ومهر لها، فقال له: يا ذا النصاح2 وذات السم3 الطاعن بها في غيره وغى4 لغير عدا5, هل رأيت الخيفقانة6 القثاء7 يتبعها الحاسن8 المسرهف9 كأن غرته القمر الأزهر ينير في حضره10

_ 1 أي: جنيت. 2 النصاح بكسر النون: الخيط. 3 ذات السم بفتح السين: الإبرة. 4 الوغى: الحرب. 5 جماع: عدو. 6 الفرس الطويلة الظهر. 7 بالثاء المشددة هي: الدقيقة الخصر, الضامرة البطن. 8 من حسن يحسن. 9 بفتح الهاء: المنعم المرهف. 10 بضم فسكون: الارتفاع عند الجري.

كالخلب1 ... إلخ. قال الشاعر: جزى ربه عنه عدي2 بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل قال يحيى بن يعمر لرجل حاكمته امرأته إليه: أئن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها3. وما من فتى كنا من الناس واحدًا ... به نبتغي منهم عديلًا نبادله4 ألا ليت شعري هل يلومن قومه ... زهيرًا على ما جر من كل جانب؟ 5

_ 1 بضم الخاء وتشديد اللام المفتوحة: البرق. 2 هو عدي بن حاتم الطائي, المشهور بكرمه. 3 الشكر بفتح الشين أو كسرها وسكون الكاف: الفرج, والشبر بفتح فسكون: حق النكاح، وطل كنصر: ماطل، وضهل حقه: نقصه, وبابه منع. 4 أصل البيت: وما من فتى من الناس كنا نبتغي واحدًا منهم عدلًا نبادله به. 5 قومه بالرفع على الفاعلية.

علم البيان

علم البيان مدخل ... علم البيان: واضعه: إن أول من دون فيه كتابًا "كما قدمنا" في أول الكلام هو أبو عبيدة معمر بن المثنى، أحد رواة اللغة، المتوفى سنة 206هـ، وهو الكتاب المسمى "مجاز القرآن"، ثم كتب فيه بعض الأئمة المبرزين إلى آخر ما تقدم. وأول من رتب مباحثه, وجعل له أصولًا وقواعد مهذبة الإمام عبد القاهر, فهو من هذه الناحية يعتبر واضع هذا الفن. وفيه خمسة مباحث: 1- مبحث التعريف. 2- مبحث الدلالة. 3- مبحث التشبيه. 4- مبحث الحقيقة والمجاز. 5- مبحث الكناية.

المبحث الأول: في تعريف علم البيان

المبحث الأول: في تعريف علم البيان معناه في اللغة: الكشف والإيضاح، أما معناه في الاصطلاح فهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد، في تراكيب متفاوتة في وضوح الدلالة عليه, بمعنى أن يكون تركيب أوضح في الدلالة من تركيب آخر. وموضع هذا الفن: هو هذا الإيراد للمعنى الواحد في التراكيب المختلفة, في وضوح الدلالة. فالمعنى الواحد "كالجود" مثلًا, يمكنك إذا كنت ملمًّا بمسائل هذا الفن, عالمًا بأصوله وقواعده أن تؤديه من طرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه. فتارة من طريق التشبيه, فتقول: "محمد كالبحر في الإفاضة" فتشبه بالبحر محمدًا وتلحقه به في هذا المعنى. وتارة عن طريق الاستعارة، فتقول: "رأيت بحرًا على فرس يداعب أقرانه" فتشبه محمدًا بالبحر في الإفاضة، ثم تستعير لفظ البحر له كما ستعرفه بعد. وتارة عن طريق الكناية، فنقول: "محمد كثير الرماد" فإن كثرة الرماد تدل على كثرة إحراق الحطب الدالة على كثرة الطبخ، وهذه تدل على كثرة الأكلة، وهذا دليل الجود، فكثرة الرماد حينئذ كناية عن الجود. فهذه التراكيب الثلاثة تؤدي معنى واحدا هو الجود "كما رأيت" وأول هذه التراكيب أوضح من الثاني في تأدية هذا المعنى، والثاني أوضح من الثالث, وكل ذلك سيأتي لك مفصلًا في محاله، ومثل الجود "الشجاعة". فتارة يعبر عنها من طريق التشبيه, فيقال: "محمد كالأسد في الشجاعة". وتارة عن طريق الاستعارة، فيقال: "رأيت أسدًا يخطب القوم على المنبر". وتارة عن طريق الكناية، فيقال: "زارنا أبو الحرب" فإن أبوته لها كناية عن ملازمته إياها كما يلزم الأب ابنه، وهذا كناية عن شجاعته. وأوضح التراكيب دلالة على هذا المعنى هو الأول، ويليه الثاني, ثم الثالث، وهكذا دواليك.

تنبيهان: الأول: إن "ال" في لفظ "المعنى" الوارد في التعريف المذكور للاستغراق العرفي, أي: كل معنى واحد يدخل تحت قصد المتكلم. فلو استطاع إنسان أن يورد معنى "الجود" في تراكيب مختلفة في الوضوح دون غيره من المعاني, لم يكن بمجرد ذلك عالمًا بعلم البيان، بل لا بد أن يستطيع ذلك في كل معنى يدخل تحت قصده وإرادته ا. هـ. الثاني: إن في التعريف تقييدين؛ تقييد المعنى "بالواحد", وتقييد التفاوت "بوضوح الدلالة على المعنى". أما الأول: فالغرض منه الاحتراز عن المعاني المتعددة المؤداة بطرق متفاوتة في وضوح الدلالة عليها, بأن يكون هذا الطريق مثلًا في معناه أوضح دلالة من الآخر في معناه؛ كأن تعبر عن معنى الجود مثلًا بقولك: "محمد كالسحاب" في الفيض، ثم تعبر عن معنى الشجاعة بقولك: "مر أسد فحياني" فمن الواضح أن التركيب الأول في معناه أوضح دلالة من الثاني في معناه, ومثل هذا ليس من علم البيان في شيء؛ لأن المعنى في العبارتين مختلف، والشرط: أن يكون المعنى في العبارتين واحدًا "كما عرفت". وأما الثاني: فالقصد منه الاحتراز عن التفاوت في مجرد اللفظ، لا في وضوح الدلالة, كما إذا أوردت معنى واحدًا في تركيبين مترادفين، وأنت عالم بمدلولات الألفاظ فيهما, كأن تقول مثلًا: نكهة1 فم محمد كالطيب، ثم تقول: رائحة ثغر محمد كالند2, فمثل هذا ليس من مباحث علم البيان؛ لأن التركيبين متماثلان في وضوح الدلالة على المعنى, والاختلاف إنما هو في اللفظ والعبارة فقط. والشرط: أن يكون الاختلاف في وضوح الدلالة "كما علمت".

_ 1 رائحة الفم. 2 نوع من الطيب.

المبحث الثاني: في الدلالة

المبحث الثاني: في الدلالة مدخل ... المبحث الثاني: في الدلالة تعريفها: هي فهم أمر من أمر, فالأمر الأول هو المدلول، والثاني هو الدال كدلالة لفظ "محمد" على معناه الذي هو "الذات" فاللفظ هو الدال، والذات هي المدلول, وفهم الذات من اللفظ هو معنى الدلالة. ولما لم تكن كل دلالة تقبل الاختلاف في الوضوح الذي هو موضوع هذا الفن, وجب أن تقسم الدلالة، ثم يعين المقصود منها. تقسيمها: الدلالة باعتبار الدال قسمان: لفظية، وغير لفظية. فاللفظية: ما كان الدال فيها لفظا؛ كدلالة لفظ "إنسان" على الحيوان الناطق، وكدلالة لفظ "أسد" على الحيوان المفترس. وغير اللفظية: ما كان الدال فيها غير لفظ؛ كدلالة الدخان على النار, وكدلالة حمرة الخد على الخجل, ودلالة صفرته على الوجل. والثانية لا علاقة لها بمباحث علم البيان. والأولى أقسام ثلاثة: وضعية، طبيعية، عقلية. فالوضعية: ما كان للوضع فيها مدخل؛ كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق, فالرابط بين الدال والمدلول وضع الواضع أي: تعيينه هذا اللفظ لهذا المعنى، ومثله دلالة الفرس على الحيوان الصاهل. والطبيعية: ما كان قوامها الطبع؛ كدلالة التأوه على الوجع، فالربط بين الدال والمدلول في هذه الدلالة هو الطبع, إذ إن طبع المريض أن يتأوه عند استشعاره الألم. والعقلية: ما كان قوامها العقل؛ كدلالة الصوت على حياة صاحبه, كما إذا سمعت صوت إنسان من وراء جدار, فإن صوته دليل على حياته، فالرابط بين الدال والمدلول في هذه الدلالة هو العقل لا غير.

والدلالتان الأخريان لا علاقة لهما أيضًا بعلم البيان، فهما خارجتان. والأولى وهي اللفظية الوضعية ثلاثة أقسام كذلك: مطابقية، تضمنية، التزامية. فالمطابقية: دلالة اللفظ على كامل معناه؛ كدلالة الإنسان على الحيوان والناطق، ودلالة الفرس على الحيوان والصاهل. وسميت مطابقية لتطابق اللفظ والمعنى، أي: تساويهما؛ لأن الواضع إنما وضع لفظ "إنسان" ليدل على مجموع الحيوان والناطق, كما وضع لفظ "فرس" ليدل على مجموع الحيوان والصاهل. والتضمنية: دلالة اللفظ على جزء معناه الموضوع له؛ كدلالة "الإنسان" على الحيوان فقط, أو الناطق فقط، وكدلالة "البيت" على السقف, أو الجدار. وسميت تضمنية؛ لأن الحيوان أو الناطق جزء من معنى الإنسان، وداخل في ضمنه؛ لأن الواضع إنما وضع لفظ "إنسان" ليدل على الحيوانية والناطقية معًا، كما وضع لفظ "بيت" ليدل على جميع أجزائه, فدلالة "الإنسان" على الحيوانية فقط، أو الناطقية فقط دلالة تضمنية؛ لأن الكل متضمن لأحد أجزائه، وكذلك دلالة "البيت" على السقف، أو الجدار. والالتزامية: دلالة اللفظ على لازم معناه الموضوع له؛ كدلالة "الإنسان" على الضحك، وكدلالة "حاتم" على الجود، والأسد على الشجاعة, ودلالة كثرة الرماد على الكرم1.

_ 1 صورة الدلالة التضمنية أن يسألك سائل, مشيرًا إلى شبح: أناطق هذا أم صاهل؟ فتقول مجيبًا: هو إنسان, تريد هو ناطق, فقد دللت "بإنسان" على الناطق دلالة تضمنية؛ لأن الناطق جزء معنى الإنسان، وصورة الدلالة الالتزامية أن يسألك سائل, مشيرًا إلى شبح: أضاحك هذا أم غير ضاحك؟ فتقول مجيبًا: هو إنسان تريد هو ضاحك, فقد دللت "بإنسان" على الضاحك دلالة التزامية؛ لأن الضحك وصف لازم للإنسان.

وسميت التزامية؛ لأن الضحك ليس معنى الإنسان, ولا جزء معناه، وإنما هو خارج عن معناه، لكنه لازم له. وكذلك الجود لحاتم، والشجاعة للأسد، والكرم لكثرة الرماد, فكل ذلك لازم للمعنى الموضوع له. تنبيهان: الأول: يكفي في دلالة الالتزام أن يكون التلازم بين الشيئين في الذهن, كالتلازم الذي بين الإنسان والضحك، إذ يلزم من حضور معنى الإنسان "وهو الحيوان الناطق" في الذهن حضور معنى الضحك فيه. وكالتلازم الذي بين الأسد والشجاعة, إذ يلزم من تصور معنى الأسد، وهو الحيوان المفترس، تصور معنى الشجاعة. أما التلازم في الخارج فليس بشرط, فإن وجد مع التلازم الذهني كان حسنًا كالتلازم بين الزوجية والأربعة, فإن الزوجية "كما يبدو بداهة" لازمة للأربعة ذهنًا وخارجًا, وإن لم يوجد التلازم الخارجي فلا ضير؛ كالتلازم الذي بين العمى والبصر؛ فإن البصر لازم للعمى ذهنًا فقط, إذ يلزم من تصور معنى العمى تصور معنى البصر؛ لأن العمى فقد البصر عما من شأنه الإبصار, أما في الخارج فبينهما التعاند. كذلك يكفي في دلالة الالتزام أن يكون التلازم بين الشيئين عرفيًّا, بأن يتعارف الناس فيما بينهم على التلازم بينهما كالتلازم الذي بين "الأسد" و"الجرأة"، والذي بين "كثرة الرماد" و"الكرم"، والذي بين "الفاعل النحوي" و"حركة الرفع" فقد تعارف الناس على أن الجرأة لازمة للأسد، وتعارف علماء البيان على أن الكرم لازم لكثرة الرماد، وتعارف علماء النحو على أن حركة الرفع لازمة للفاعل, في حين أن لا تلازم عقلًا بين هذه الأشياء؛ إذ يتصور العقل أسدًا جبانًا كما يتصور كثرة رماد بدون كرم كما يتصور فاعلًا منصوبًا أو مجرورًا. أما التلازم العقلي, وهو ما لا يتصور العقل انفكاكه, فليس بشرط في دلالة الالتزام كالتلازم الذي بين الزوجية والأربعة, أو بين الفردية والثلاثة

إذ لا يتصور العقل أربعة بدون زوجية, أو ثلاثة بدون فردية, فالمدار في دلالة الالتزام على وجود مطلق تلازم, ولو بسبب تعارف عام أو خاص كما مثلنا. الثاني: اصطلح البيانيون على تسمية المطابقة "وضعية" لأن الواضع إنما وضع اللفظ لتمام معناه، لا لجزئه ولا للازمه, فلفظ "الإنسان" مثلًا وضعه الواضع لمجموع الحيوان والناطق ولم يضعه لواحد منهما ولا لوصف لازم "كالضحك". فقوام هذه الدلالة هو العلم بالوضع، بدون حاجة إلى شيء آخر وراءه, واصطلحوا على تسمية كل من التضمنية، والالتزامية عقلية؛ لأن دلالة اللفظ على جزء معناه، أو على لازم هذا المعنى متوقفة على أمر عقلي زائد على العلم بالوضع, وهو أن وجود الكل أو الملزوم يستلزم وجود الجزء أو اللازم. "فالإنسان" مثلًا موضوع لمجموع الحيوان والناطق, فمجرد العلم بهذا الوضع ليس كافيًا في جعل لفظ "إنسان" دالًّا على جزء معناه "كالناطقية" مثلًا، أو على لازمه "كالضاحكية" بل لا بد مع العلم بهذا الوضع من انتقال العقل من المعنى الموضوع له "إنسان" إلى جزئه ضرورة أن الكل يتضمن الجزء، أو إلى لازمه ضرورة أن الملزوم يستلزم اللازم. وإنما اقتصر على العقل في تسمية هاتين الدلالتين، مع أن كلا من العقل والوضع سبب فيهما؛ لأن سببية العقل أقرب من سببية الوضع, ذلك أن انتقال العقل من الكل إلى جزئه، أو من الملزوم إلى لازمه إنما جاء بعد العلم بوضع اللفظ لهذا الكل أو لهذا الملزوم, فهو لذلك سبب قريب، والذهن إلى القريب أكثر التفاتًا منه إلى البعيد1 ا. هـ. والمقصود بالبحث في هذا الفن هو الدلالة العقلية بنوعيها, إذ هي التي يتأتى فيها الاختلاف في الوضوح الذي هو موضوع هذا الفن. بيان ذلك في التضمنية: هو أنه يجوز أن يكون المعنى الواحد جزءًا من شيء

_ 1 أما المناطقة فيسمون الدلالات الثلاث وضعية؛ لأن للوضع مدخلًا, وهم يعتبرون في تسميتها "وضعية" السبب البعيد.

"كالجسم" فإنه جزء من الحيوان، وأن يكون جزءًا لجزء من شيء آخر "كالجسم" أيضًا, فإنه جزء من الحيوان الذي هو جزء من الإنسان. وإذًا تكون دلالة الحيوان على الجسم الذي هو جزؤه المباشر أوضح من دلالة الإنسان على الجسم الذي هو جزء جزئه. ومثل الجسم "فيما قلنا" التراب؛ فإنه جزء من الجدار الذي هو جزء من البيت, فدلالة الجدار على التراب الذي هو جزؤه المباشر أوضح من دلالة البيت على التراب الذي هو جزء جزئه، وهكذا. وبيان ذلك في الالتزامية هو أنه يجوز أن يكون للازم الواحد عدة ملزومات, لزومه لبعضها أوضح منه لبعضها الآخر "كالكرم" مثلًا؛ فإنه لازم وله جملة ملزومات تستلزمه وتدل عليه، هي: كثرة الضيفان، وكثرة الطبخ، وكثرة إحراق الحطب، وكثرة الرماد، فهذه الأمور الأربعة تستلزم الكرم، وتدل عليه؛ إذ يلزم من وجودها وجوده, غير أن دلالة بعضها على معنى "الكرم" أوضح من دلالة بعضها الآخر عليه, فدلالة كثرة الأضياف على كرم "محمد" مثلًا أوضح من دلالة كثرة الطبخ عليه؛ لأن كثرة الأضياف أقرب إلى معنى الكرم من كثرة الطبخ، فقولك: محمد "كثير الأضياف" أدل على كرمه من قولك: "محمد كثير الطبخ"؛ إذ لا واسطة بين كثرة الضيفان والكرم، ودلالة كثرة الطبخ على الكرم أوضح من دلالة كثرة إحراق الحطب عليه؛ لأن كثرة الطبخ أقرب إلى معنى الكرم من كثرة الإحراق, فقولك: "محمد كثير الطبخ" أدل على كرمه من قولك: "محمد كثير إحراق الحطب" لقلة الوسائط بين كثرة الطبخ والكرم, ودلالة كثرة الإحراق على معنى الكرم أوضح من دلالة كثرة الرماد عليه؛ لأن كثرة الإحراق أقرب إلى معنى الكرم من كثرة الرماد, فقولك: "محمد كثير الإحراق" أدل على كرمه من قولك: "محمد كثير الرماد" لقلة الوسائط في الأول, وكثرتها في الثاني. وهكذا كلما كان الملزوم أقرب إلى لازمه كانت دلالته عليه أوضح، وأوضح هذه الدلالات على الكرم دلالة كثرة الضيفان عند محمد، وأقلها وضوحًا كثرة الرماد عنده كما رأيت.

ومثل الكرم فيما فصلنا "الحرارة" فهي لازمة لعدة ملزومات هي: "النار" و" الشمس" و"الحركة الشديدة" فدلالة النار على الحرارة أوضح من دلالة الشمس عليها, ودلالة الشمس عليها أوضح من دلالة الحركة الشديدة عليها. فقولك: محمد في جسمه نار, أدل على حرارته من قولك: في جسمه شمس, أو في جسمه حركة شديدة، وهكذا. إلى هنا وضح لك اختلاف الوضوح في الدلالتين العقليتين: التضمنية والالتزامية, مما لا يقبل المزيد. أما الدلالة الوضعية المطابقية التي هي دلالة اللفظ على تمام معناه, فليست من مباحث هذا الفن؛ إذ لا يتأتى فيها الاختلاف في وضوح الدلالة. بيان ذلك: أن السامع لا يخلو حاله من أمرين: 1- أن يكون عالمًا بوضع الألفاظ لمعانيها. 2- ألا يكون عالمًا بهذا الوضع, فإن كان الأول فلا تفاوت في الدلالة على المعنى؛ لأن كل لفظ معلوم وضعه لمعناه، وإن كان الثاني فقد انعدم فهم المعنى من اللفظ؛ لتوقف الفهم على العلم بالوضع، وفهم المعنى من اللفظ "كما سبق" هو "الدلالة" عينها؛ إذ "هي كما قلنا" فهم أمر من أمر, وإذا انتفى الفهم المذكور الذي هو "الدلالة" فلا اختلاف في الوضوح؛ إذ لا يتصور اختلاف وضوح فيما لا دلالة له. فإذا قلت مثلًا: "محمد يشبه السحاب في العطاء" وكان السامع يعلم بوضع هذه الألفاظ لمعانيها، ثم أتيت بتركيب آخر دال على هذا المعنى بألفاظ مرادفة لألفاظ التركيب الأول، فقلت: "محمد يحاكي الغمام في النوال" وكان السامع يعلم أيضًا بوضع هذه الألفاظ لمعانيها, امتنع حينئذ أن يكون التركيب الثاني أوضح دلالة من الأول بل هما في الدلالة سواء. فإذا لم يعلم السامع وضع الألفاظ لمعانيها في التركيبين، أو في أحدهما لم يفهم شيئًَا أصلًا؛ لتوقف الفهم على العلم بالوضع "كما قلنا", وإذا انتفى الفهم فلا دلالة للفظ، فلا اختلاف في الوضوح. فأنت ترى أن الاختلاف في الوضوح منتفٍ على كلا التقريرين في الدلالة الوضعية المطابقية، فهي إذًا خارجة عن موضع هذا الفن.

تمرين: 1- عرف علم البيان في الاصطلاح، ثم ائت بمثال توضح فيها ما تقول. 2- بين لماذا قيد المعنى "بالواحد" وقيد الاختلاف "بالوضوح" في الدلالة؟ 3- عرف الدلالة وقسمها, وعرف كل قسم, مع التمثيل لكل ما تذكر. 4- اذكر أية الدلالات هي موضوع علم البيان، مع التوجيه لما تقول. 5- بين لماذا لم تكن الدلالة الوضعية المطابقية من مباحث علم البيان؟

تقسيم اللفظ: إلى حقيقة، ومجاز، وكناية

تقسيم اللفظ إلى: حقيقة، ومجاز، وكناية اللفظ المستعمل نوعان: نوع لا يتصرف فيه عند الاستعمال أي تصرف, بل يبقى على أصل وضعه, ونوع يتصرف فيه عند الاستعمال. فالأول يسمى "حقيقة" وهي إما أن تكون في إسناد اللفظ إلى غيره, وإما أن تكون في ذت اللفظ. فإن كانت في الإسناد سميت "حقيقة عقلية", وإن كانت في ذات اللفظ سميت بأسماء تختلف باختلاف الواضع. فإن كان الواضع من أرباب اللغة سميت حقيقة لغوية, وإن كان من أهل الشرع سميت حقيقة شرعية, وإن كان الواضع طائفة معينة كالنحاة مثلًا سميت حقيقة اصطلاحية أو عرفية خاصة, وإن كان الواضع طائفة غير معينة سميت حقيقة عرفية عامة. والثاني, وهو ما يتصرف فيه عند الاستعمال، يسمى "مجازًا". وهذا التصرف: إما أن يكون في إسناد اللفظ إلى غيره، وإما أن يكون في ذات اللفظ.

فإن كان التصرف في الإسناد بأن أسند اللفظ إلى غير ما حقه أن يسند إليه, سمي "مجازًا عقليًّا" وإن كان التصرف في اللفظ ذاته, مفردًا كان أو مركبًا, بأن نقل من معناه الموضوع له إلى معنى آخر, فإن كانت العلاقة بين المعنيين المشابهة سمي اللفظ المفرد "استعارة" فحسب، وسمي المركب "استعارة تمثيلية" بشرط وجود القرينة المانعة فيهما كما سيأتي بيانه بعد. وإن كانت العلاقة غير المشابهة سمي اللفظ "مجازًا مرسلًا" مفردًا كان أو مركبًا, وإن كانت القرينة غير مانعة من إرادة المعنى الأصل سمي اللفظ "كناية" وسيأتي كل ذلك مفصلًا في أبوابه. وإلى هنا وضح لك وجه تقسيم اللفظ إلى: حقيقة ومجاز وكناية. وإذ قد علمت: أن العلاقة بين المعنيين في الاستعارة هي المشابهة، وجب التعرض أولًا لبحث التشبيه؛ إذ هو منها بمثابة الأساس من البناء، أو بمنزلة الأصل من الفرع.

المبحث الثالث: في التشبيه

المبحث الثالث: في التشبيه مدخل ... المبحث الثالث: في التشبيه تعريفه: هو عند علماء "البيان" إلحاق أمر بأمر في معنى مشترك بينهما بإحدى أدوات التشبيه لفظًا، أو تقديرًا لغرض. ويسمى الأمر الأول "مشبهًا" والثاني "مشبهًا به" والمعنى المشترك "وجه شبه" كالتشبيه في قولك: "العلم كالنور في الهداية" فهو إلحاق أمر "كالعلم" بأمر "كالنور" في معنى "كالهداية" بأداة تشبيه "كالكاف". ومثله قولك: "علي مثل الأسد في الإقدام" وهند شبه البدر في الإشراق, وكأن محمدًا بحر في الإمداد, وهكذا. ويصح حذف الأداة ووجه الشبه، فيقال في الأمثلة السابقة: العلم نور, وعلي أسد، وهند بدر، ومحمد بحر. أركان التشبيه: أركانه أربعة: 1- المشبه. 2- المشبه به. 3- وجه الشبه. 4- أداة التشبيه. "فالعلم" في المثال المتقدم هو المشبه، و"النور" هو المشبه به، و"الهداية" وجه الشبه، و" الكاف" أداة التشبيه.

وفيه أربعة مباحث: أ- مبحث الطرفين. ب- مبحث وجه الشبه. جـ- مبحث الأداة. د- مبحث الأغراض. وإليك بيانها على هذا الترتيب: مبحث الطرفين: الطرفان هما -كما قلنا- المشبه والمشبه به كما في قولك: "محمد كسحبان", فالطرفان هما "محمد وسحبان" والأول مشبه، والثاني مشبه به. وللتشبيه باعتبار الطرفين تقسيمات ثلاثة:

التقسيم الأول

التقسيم الأول: ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى أربعة أقسام: 1- أن يكون طرفاه حسيين أي: مدركين بإحدى الحواس الخمس. مثال ذلك فيما يدرك بحاسة البصر قولك: "وجه هند كالبدر، وشعرها كالليل". ومثاله فيما يدرك بحاسة السمع قولك: "أسمع صوتًا كتغريد الحمام، ودويًّا كدوي الرعد". ومثاله فيما يدرك بحاسة الشم قولك: "عرف هند كأريج المسك". ومثاله فيما يدرك بحاسة اللمس قولك: "جسمه كالعجين", ومنه قول ذي الرمة في تشبيه الجسم بالحرير: لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر1 ومثاله فيما يدرك بحاسة الذوق قولك: لعابه كالعسل، وشرابه كالحنظل؛ فالطرفان في هذه المثل جميعا حسيان "كما رأيت". 2- أن يكون طرفاه عقليين أي: مدركين بالعقل، كما تقول في تشبيه العلم والجهل: "العلم كالحياة" و"الجهل كالموت" فالطرفان في المثالين عقليان.

_ 1 رخيم الحواشي: في أطرافه لين ونعومة، والهراء بالضم: الكلام الكثير الفاسد, والنزر: الكلام القليل أي: لا تكثر في الكلام إلى حد الهذيان, ولا تقل منه إلى درجة العي.

3- أن يكون المشبه عقليًّا والمشبه به حسيًّا كما تقول في تشبيه الخلق الكريم: "خلق كالعطر" وكقولك في تشبيه الرأي الواضح، والحظ العاثر: "رأي كفلق الصبح", و"حظ كالليل". 4- أن يكون المشبه حسيًّا والمشبه به عقليًّا, كتشبيه العطر بالخلق الكريم "عكس المثال السابق" وأشباهه بتقدير المعقول محسوسًا مبالغة. إذ ينبغي أن يكون المشبه به أقوى حالًا من المشبه ولو تقديرًا؛ لأنه الأصل. تنبيه: من الحسي: ما لا تدركه الحواس بذاته، ولكن تدرك مادته كقول الشاعر: كأن الحباب1 المستدير برأسه ... كواكب در في سماء عقيق يشبه الفقاقيع الطافية على وجه الماء بكواكب من در، منثورة في سماء من عقيق، وليس من شك أن صورة الكواكب المصوغة من الدر المنثور في سماء مصوغة من عقيق شيء لا يدرك بالحس لعدم وجوده خارج الأعيان, وإنما المدرك مادتها وهي: "الدر، والعقيق، والكواكب، والسماء" وهذا كافٍ في جعل مثل هذا التشبيه حسيًّا. فالحسي حينئذ هو ما يدرك بذاته، أو بمادته بإحدى الحواس الخمس؛ ليدخل فيه مثل هذا التشبيه الخيالي, وهو الشيء المتخيل المركب من أمور مدركة بإحدى الحواس. ومن العقلي: ما يخترعه الوهم من عند نفسه، من غير أن يكون له، ولا لمادته وجود خارج الأعيان, كقول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟ 2 وكقوله تعالى في شجرة الزقوم: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} . فإن أنياب الأغوال، ورءوس الشياطين لم توجد هي ولا مادتها, وإنما هي من اختراعات الوهم. فالعقلى حينئذ ما لا يدرك هو، ولا مادته بإحدى الحواس الخمس ليدخل فيه مثل هذا التشبيه الوهمى أهـ.

_ 1 هو الفقاقيع التي تُرَى طافية على وجه الماء. 2 الأغوال: جمع غول, يزعمون أنه وحش بشع المنظر, لا أصل له.

التقسيم الثاني

التقسيم الثاني: ينقسم التشبيه باعتبار الطرفين أيضًا أربعة أقسام: 1- أن يكون طرفاه مفردين، وهما إما أن يكونا مطلقين عند التقييد بنحو وصف، أو إضافة، أو حال، أو ظرف، أو نحو ذلك، أو يكونا مقيدين بشيء مما ذكر، أو يكون أحدهما مقيدًا, والآخر مطلقًا. فالمفردان المطلقان كما في قولك: لها لحظ كالسهم، وثغر كالدر، والمقيدان كما في تشبيه من لم يحصل من سعيه على نتيجة بالناقش على الماء, فالمشبه هو الساعي المقيد بأن سعيه لم يأت بنتيجة, والمشبه به هو الناقش المقيد بأن نقشه على صفحة الماء. ومثال ما فيه المشبه مطلق، والمشبه به مقيد قول ابن المعتز يصف الشمس: والشمس كالمرآة في كف الأشل ... لما رأيتها بدت فوق الجبل يريد أن يشبه الشمس في حركتها السريعة المتصلة، وإشراقها المتموج بالمرآة في يد المرتعش، فالمشبه وهو "الشمس" مفرد غير مقيد بشيء, والمشبه به وهو "المرآة" مفرد مقيد بكونه في يد المرتعش. ومثال ما فيه المشبه مقيد، والمشبه به مطلق عن القيد عكس هذا المثال, أي: تشبيه المرآة في كف الأشل بالشمس, وكما تقول: "اللؤلؤ المنظوم كالثغر" ففيه تشبيه "اللؤلؤ" وهو مقيد "بالثغر" وهو مطلق. 2- أن يكون طرفاه مركبين, كما في قول الشاعر: كأن سهيلًا والنجوم وراءه ... صفوف صلاة قام فيها إمامها يريد: تشبيه هيئة سهيل، والنجوم مصطفة وراءه بهيئة إمام قائم يصلي

والناس خلفه صفوف متراصة. فالمشبه مركب من سهيل ومن النجوم وراءه، والمشبه به مركب كذلك من إمام قائم في محرابه ومن صفوف المصلين خلفه1. ومثله قول بشار بن برد: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه2 يصف الشاعر ملحمة بين جيشين يقتتلان بالسيوف، وقد انعقد عليهما غبار كثيف. فالمشبه مركب من النقع مثارًا فوق الرءوس، ومن السيوف المتلاحمة اللامعة في أثنائه, والمشبه به مركب من الليل، ومن الكواكب المتهاوية وهو تشبيه "كما ترى" فيه من الدقة والإبداع ما جعل بشارًا -وهو ضرير- يسمو به إلى درجة يقف دونها العباقرة المبصرون, ولو أنه أفرد التشبيه فشبه النقع وحده بالليل، والسيوف بالكواكب لصح ذلك، ولكن لا تحس تلك الروعة التي أحسستها من قبل، وما كان لبشار بهذا التشبيه أن يستوي على عرش السيادة بين أقرانه. 2- أن يكون المشبه فردًا، والمشبه به مركبًا؛ كقول الصنوبري يصف زهرًا يتحرك من أسفل إلى أعلى، وبالعكس حسب اتجاه الريح: وكأن محمر الشقيق ... إذا تصوب أو تصعد أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد3 يريد أن يشبه الزهر حال تصوبه وتصعده بأعلام الياقوت المنشورة على رءوس رماح من زبرجد. فالمشبه مفرد وهو "الشقيق", والمشبه به مركب من أعلام ياقوت, ورماح من زبرجد.

_ 1 التشبيه بهذا الوضع أملك لقلب السامع مما لو أفردت أجزاؤه, فقيل مثلًا: كأن سهيلًا إمام وكأن النجوم صفوف صلاة, يدرك ذلك الذوق السليم. 2 النقع: الغبار, وتهاوى أي: تتهاوى بحذف إحدى التاءين, بمعنى يتساقط بعضها إثر بعض. 3 محمر الشقيق من إضافة الصفة للموصوف أي: الشقيق المحمر, وهو ورد أحمر في وسطه سواد ينبت في الجبال, ويقال له أيضًا: شقائق النعمان، وتصوب: مال إلى أسفل, وتصعد: مال إلى أعلى.

4- أن يكون المشبه مركبًا، والمشبه به مفردًا؛ كقول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي يصف الربيع: يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور تريا نهارًا مشمسًا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر1 يلفت الشاعر نظري صاحبيه إلى صنيع المبدع القادر فيما أخرج من نبات بهيج ناضر، وكيف أن النبات لشدة اخضراره وكثافته صار لونه يضرب إلى السواد، حتى نقص من ضوء النهار المشرق، وكأنه ليل سرى فيه ضوء القمر. يريد الشاعر أن يشبه هيئة النهار المشرق، وقد خالطت ضوءه خضرة الزهر القائمة، فتضاءل ضوءه بليل بزغ قمره. فالمشبه مركب من نهار تألقت شمسه ومن زهر نابت في الربا, والمشبه به مفرد وهو "الليل المقمر" وتقييده بالوصف المذكور لا ينافي إفراده. تنبيهان: الأول: اعلم أن المراد بالقيد في التشبيه الذي كلا طرفيه أو أحدهما مقيد: هو ما يكون له مدخل في وجه الشبه بحيث لا يتم التشبيه بدونه. ففي المثال المتقدم في تشبيه الساعي المقيد بأن سعيه لم يكلل بالنجاح بالنقاش المقيد بأن نقشه على الماء لا بد فيه من اعتبار هذين القيدين؛ لأن وجه الشبه بين الطرفين هو "تساوي الفعل وعدمه" وهذا المعنى لا يتم إلا باعتبار القيدين المذكورين. وكذلك الحال في تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل, إذ لا بد من اعتبار كون المرآة في يد مرتعش؛ لأن وجه الشبه بين الطرفين هو الهيئة الحاصلة من الحركة السريعة المتصلة، مع الإشراق المتموج, وهذا المعنى لا يستقيم ولا يكمل بدون ملاحظة هذا القيد، كذلك لا بد في تشبيه اللؤلؤ المنظوم بالثغر من اعتبار قيد "المنظوم"

_ 1 يقال: تقصى الشيء: بلغ أقصاه أي: غايته, يريد: أمعنا في النظر وفكرا و"تصور" بحذف إحدى التاءين أي: تتصور و"شابه" أي: خالطه و"الربا" جمع ربوة وهي ما ارتفع من الأرض، وخص زهر الربا بالذكر؛ لأنه أنضر وأشد خضرة.

لأن وجه الشبه الهيئة الحاصلة من البريق وحسن التنسيق, وهذا لا يتم إلا بمراعاة القيد المذكور. فليس المراد إذًا مطلق قيد, بل المراد قيد يكون له تعلق بوجه الشبه "كما علمت", فإن لم يكن كذلك فلا اعتبار له ا. هـ. الثاني: الفرق بين المقيد من الطرفين والمركب منهما: أن المقصود بالذات في المركب هو الأجزاء مجتمعة وليس فيها جزء قصد وحده بالتشبيه, وإن صح أن يشبه بجزء من الطرف الآخر نحو ما في بيت بشار السابق. فإن المشبه مجموع النقع المثار, والأسياف المسلولة المتحركة إلى جهات مختلفة, والمشبه به مجموع الليل والكواكب المتهاوية ولم يتعلق الغرض بتشبيه النقع وحده بالليل, ولا بتشبيه السيوف وحدها بالكواكب, وإن صح ذلك على ما سبق. وأما المقيد فإن المقصود بالذات فيه هو أحد أجزاء الطرف، مع مراعاة قيد فيه، فالقيد إذًا ليس مقصودًا لذاته، بل لذلك الجزء كما في تشبيه الساعي المقيد بأن سعيه لم ينتج بالنقاش المقيد بأن نقشه على الماء, فإن المقصود بالذات هو كل من "الساعي والناقش" مراعى في كل منهما قيده المذكور، فوضح الفرق بين الأمرين.

التقسيم الثالث

التقسيم الثالث: ينقسم التشبيه باعتبار الطرفين أيضًا أربعة أقسام: ملفوف، ومفروق, وتسوية, وجمع. فالملفوف: أن يتعدد طرفاه، وبجمع كل طرف مع مثله بأن يؤتى بالمشبهات أولًا، ثم بالمشبهات بها ثانيًا, كقول امرئ القيس يصف عقابًا بكثرة اصطياد الطيور: كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي1 شبه الرطب الطري من قلوب الطير بالعناب في الشكل والمقدار واللون, وشبه اليابس العتيق منها بالحشف البالي في هذه الثلاثة، وجمع بين المشبهين في المصراع الأول، وبين المشبهين بهما في المصراع الثاني "كما ترى". وكما تقول: كالقمرين هند وسعاد، أو هما كالشمس والقمر, فقد جمع فيهما كل صنف على حدة, وسمي "ملفوفًا" لأنه من اللف وهو الضم، وقد لف المشبهان "فيما مثلنا" أي: ضم بعضهما إلى بعض, كما لف المشبهان بهما كذلك. والمفروق: أن يتعدد طرفاه، ويجمع كل طرف منهما مع صاحبه بأن يجمع كل مشبه مع مشبه به, كقول الشاعر: الخد ورد والصدغ غالية ... والريق خمر والثغر كالدرر1 جمع الشاعر في هذا البيت كل مشبه مع مشبه به كما ترى. وكقول المتنبي: بدت قمرًا ومالت غصن بان ... وفاحت عنبرًا ورنت غزالا2 فقد شبه وجهها بالقمر, وقدها بالغصن، وريحها بالعنبر، وطرفها بالغزال، وسمى مفروقًا؛ لأنه لم يجمع فيه بين المشبهات على حدة، ولا بين المشبهات بها كذلك كما في القسم الأول بل فرق بينهما، فوضع كل مشبه به بجوار مشبهه على ما رأيت في البيتين. والتسوية: أن يتعدد المشبه دون المشبه به, كما في قول الشاعر: صدغ الحبيب وحالي ... كلاهما كالليالي وثغره في صفاء ... وأدمعي كاللآلي

_ 1 أراد بالطير الجنس الصادق بالكثير والقليل و"رطبًا ويابسًا" حالان من القلوب، والعامل فيهما "كأن" لتضمنها معنى التشبيه أي: أشبه قلوب الطير حال كون بعضها رطبًا وبعضها يابسًا، والوكر: العش، والعناب: حب أحمر مائل إلى الكدرة في حجم قلوب الطير، والحشف: أردأ التمر. 1 المراد بالصدغ: الشعر المتدلي على الخد، والغالية: نوع من الطيب، والثغر: أراد به الأسنان. 2 البان: نوع من الشجر, وقوله "رنت" من الرنو كسمو, وهو إدامة النظر.

شبه الشاعر في البيت الأول حاله، وصدغ حبيبه بالليالي في السواد، وشبه في البيت الثاني أدمعه، وثغر حبيبه باللآلئ في الصفاء والتألق, فالمشبه فيهما متعدد دون المشبه به, وسمي تشبيه التسوية؛ لأنه سوَّى فيه بين شيئين في إلحاقهما بشيء واحد. والجمع: أن يتعدد المشبه به دون المشبه, عكس تشبيه التسوية؛ كما في قول الشاعر: ذات حسن لو استزادت من الـ ... ـحسن لما أصابت مزيدا فهي الشمس بهجة والقضيب الـ ... ـلدن قدا والريم طرفًا وجيدا1 شبه الشاعر في البيت الثاني هذه المرأة بثلاثة أشياء: "الشمس" وهي الكوكب المعروف، و"القضيب" وهو "الغصن", و"الرئم" وهو الغزال, فالمشبه شيء واحد هو "ذات الحسن" والمشبه به متعدد كما ترى, وسمي تشبيه الجمع لاجتماع شيئين أو أشياء في مشابهة شيء واحد. "ملاحظة": إن التفريق بين تشبيهي التسوية والجمع اصطلاح لهم, وإلا فيجوز أن يعتبر في كل منهما ما اعتبر في الآخر, ويسمى أحدهما باسم الآخر. تمرين: 1- عرف التشبيه لغة واصطلاحًا، وبين أركانه في مثال من عندك. 2- ائت بتشبيهات خمسة من إنشائك: أولها: يدرك طرفاه بحاسة البصر, ووجهه بحاسة الشم. ثانيها: " " " " أيضًا، ووجهه بحاسة اللمس.

_ 1 اللدن: الطري الغضّ، والقد: القامة، والطرف: العين، والجيد: العنق.

ثالثها: يدرك طرفاه، ووجهه بحاسة الذوق. رابعها: يدرك طرفاه، ووجهه بحاسة السمع. خامسها: فيها المشبه حسي، والمشبه به عقلي. 3- بين فيما يأتي طرفي التشبيه، والحاسة التي يدرك بها كل منهما: صوت كتغريد البلابل، ونكهة كريح الند1, دواء كالعلقم، ولسع كلسع الأرقم2, رضاب3 كلعاب النحل، وجبين كالفرقد4, شعر كالحرير، وقد كغصن البان. عبير كأنفاس الأزهار، ونغم كسجع الأطيار. كإنما الماء في صفاء ... وقد جرى ذائب اللجين5 4- بين فيما يأتي طرفي التشبيه وحاليهما ونوع التشبيه باعتبارهما: 1- علم لا ينفع كدواء لا ينجع. 2- الصديق المنافق، والأخ الجاهل كجمر الغضا6. 3- الحق سيف على أهل الباطل. 4- إنما الدنيا كبيت ... نسجه من عنكبوت 5- فكم معنى بديع تحت خط ... هناك تزاوج كل ازدواج كراح في زجاج أو كروح ... سرت في جسم معتدل المزاج 6- خود كأن بنانها ... في خضرة النقش المزرد سمك من البلور في ... شبك تكون من زبرجد7 7- ليل وبدر وغصن ... شعر ووجه وقد

_ 1 نوع من الطيب. 2 نوع خبيث من الحيات. 3 الرضاب: اللعاب. 4 نجم. 5 اللجين: الفضة. 6 شجر مر, مفرده غضاة. 7 البلور: معدن شفاف، والزبرجد: جوهر نفيس.

خمر ودر وورد ... ريق وثغر وخد 8- الخد ورد والصدغ غالية ... والريق خمر والثغر من برد1 9- بات نديما لى حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح2 كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو برد أو أقاح 10- له خال على صفحات خد ... كنقطة عنبر في صحن مرمر3 جواب السؤال الثالث

_ 1 الغالية: نوع من الطيب: والبرد: حب الغمام. 2 الأغيد: الناعم البدن. الرشاح: جلد عريض يرصع بالجواهر ويشد في الوسط للزينة، ومعنى مجدول مكان الوشاح: أنه ضامر والخاصرتين، والمنضد: المنظم، والأقاح: جمع أفحوان الهمزة والحاء وهو نور كالورد أوراقه أشبه شيء بالأسنان. 3 المرمر: الرخام.

تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق: بين فيما يأتي طرفي التشبيه وحاليهما، ونوع التشبيه باعتبارهما: النشر مسك والوجوه دنانير وأطراف الأكف عنم1 يكاد يحكيك صوت الغيث منسكبًا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا2 والبدر لو لم يغب والشمس لو نطقت ... والأسد لو لم تصد والبحر لو عذبا في رأس مشرقة حصاها لؤلؤ ... وترابها مسك يشاب بعنبر لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجني اشتارته أيد عواسل3 كالقمرين محمد وعلي. {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} . لها لفظ كالسهم، ولفظ كالسحر. إني وتزييني بمدحي معشرًا ... كمعلق درًّا على خنزير تمرين آخر يطلب جوابه: 1- مثل لما يأتي: تشبيه مقيد الطرفين. تشبيه أحد طرفيه حسي والآخر عقلي. تشبيه أحد طرفيه مقيد، والآخر مركب. تشبيه مفروق, وآخر ملفوف. تشبيه طرفاه مركبان حسيان. تشبيه تسوية. 2- اجعل كلا من الأشياء الآتية مشبها به، ثم بين نوع التشبيه فيه: الدر، الغصن، الورد، ثم بين من أي أنواع التشبيه قولهم: هو بدر حسنًا، وشمس علوًّا. 3- اجعل ما يأتي من الكلمات وجه شبه في عبارة من محض إنشائك: الطيب، الرعد، السماحة، العدالة، الصلابة، البهجة، القوة، الجمال.

_ 1 النشر: الطيب الرائحة، والعنم: شجر لين الأغصان, يشبه أصابع اليد المخضبة. 2 صوب الغيث: انصبابه, والمحيا: الوجه. 3 الأري: عسل النحل, وشار العسل واشتاره: استخرجه.

مبحث وجه الشبه

مبحث وجه الشبه مدخل ... مبحث وجه الشبه: الوجه هو المعنى الذي اشترك الطرفان فيه كما تقول: محمد كأخيه في الكرم, فوجه الشبه هو "الكرم"؛ لأنه المعنى الذي اشترك فيه محمد وأخوه. غير أنه يشترط فيه: أن يكون مقصودًا للمتكلم، فليس كل معنى يشترك الطرفان فيه "وجه شبه" ما لم يقصد جعله موضع اشتراك, وإلا فإن الطرفين قد يشتركان في كثير من المعاني كالحيوانية، والجسدية، والوجود, وغير ذلك كما في المثال المذكور, ومع ذلك لا يعد واحد منها وجه شبه إلا إذا قصد إليه المتكلم، واعتبره وجهًا للشبه بين الطرفين، كما تقول لإنسان يقسو على آخر بالضرب المبرح: "أرفق به فهو مثلك" أي: في الحيوانية أو في الجسدية. وللتشبيه باعتبار هذا الوجه تقسيمات عدة:

التقسيم الأول

التقسيم الأول: ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى قسمين: تحقيقي، وتخييلي. فالتحقيقي: أن يكون وجه الشبه فيه قائمًا بالطرفين حقيقة, كما تقول: وجه هند كالبدر وشعرها كالليل، فوجه الشبه بين الطرفين هو "الإشراق" في الأول "والسواد" في الثاني, وكلا المعنيين قائم بالطرفين على وجه الحقيقة. والتخيلي: ألا يكون الوجه قائمًا بالطرفين, أو بأحدهما إلا تخيلًا, وهو أن يثبته الخيال بجعل غير المحقق محققًا, كقول الشاعر: يا من له شعر كحظي أسود ... جسمي نحيل من فراقك أصفر فوجه الشبه بين الشعر والحظ هو "السواد" وليس موجودًا في المشبه به حقيقة بل تخيلًا؛ لأن الحظ ليس من ذوات الألوان, فإذا قيل: يا من له حظ كحظي أسود, كان مثالًا لما يكون فيه وجه الشبه في الطرفين متخيلًا.

التقسيم الثاني

التقسيم الثاني: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضًا إلى ثلاثة أقسام: واحد، ومنزل منزلة الواحد، ومتعدد. فالواحد: ما لا تركيب فيه ولا تعدد "كالحمرة" في قولك: خده كالورد و"كالكرم" في قولك: محمد كحاتم و"كالهداية" في قولك: العلم كالنور, فوجه الشبه في هذه المثل شيء واحد "كما ترى". والمنزل منزلة الواحد: ما كان الوجه فيه هيئة مركبة، انتزعها العقل من عدة أمور، بحيث لا يصلح واحد منها على انفراده وجه شبه كقول الشاعر: والبدر في كبد السماء كدرهم ... ملقى على ديباجة زرقاء فوجه الشبه "كما ترى" مجموع الهيئة المركبة من عدة أشياء هي ظهور صورة بيضاء، مشرقة مستديرة، في رقعة مبسوطة زرقاء، ولا يصح "بلاغة" جعل واحد من هذه الأشياء وجه شبه على حدة؛ لأن القصد تشبيه الطرفين في هذه الهيئة المجتمعة. وإنما نزل القسم منزلة الواحد؛ لأن الوجه فيه مركب من أشياء تضامّت وتلاصقت حتى صارت كالشيء الواحد، لا يقبل التجزئة. وإنما لم يكن واحدًا حقيقة لتركيب الوجه من هذه الأشياء، ولا تركيب في الواحد. والمتعدد: ما كان وجه الشبه فيه عدة أمور, جعل كل منها وجه شبه على حدة كما في قولك: هذه الفاكهة كالتي أكلناها أمس في الطعم، واللون، والرائحة. وكما في قولك: عباس كأخيه في الطول والضخامة والوسامة, ومثله في الحلم، والكرم، والذكاء. فوجه الشبه في هذه المثل أمور متعددة, كل منها يصلح أن يكون وجه شبه على انفراده؛ إذ ليس القصد تشبيه الطرفين في هيئة مركبة من هذه الأمور، بل في كل واحد منها على حدة. تنبيهان: الأول: إن الفرق بين الوجه المركب من عدة أشياء, وبين المتعدد هو أن المركب منظور فيه إلى مجموع الأشياء، والهيئة المركبة منها باعتبارها وحدة لا تتجزأ، إذا حذف أحدها اختل التشبيه، كما في قول الشاعر المتقدم:

والبدر في كبد السماء كدرهم ... ملقى على ديباجة زرقاء فإن وجه الشبه فيه مجموعة الأمور المتقدم ذكرها, وهي ظهور صورة بيضاء, مشرقة, مستديرة، في رقعة زرقاء، مبسوطة، فلو حذف من هذه المجموعة واحد "كالاستدارة أو الإشراق" مثلًا لم يتم التشبيه بين الطرفين. أما الوجه المتعدد, فإن المنظور فيه إلى أمور متعددة، يقصد جعل كل واحد منها على استقلاله وجه شبه بحيث لو حذف أحدها لم يختل التشبيه كما في المثال السابق في تشبيه الفاكهة بأخرى في الطعم، والرائحة، واللون؛ فإنك لو حذفت اللون مثلًا، أو الطعم، أو الرائحة لم يختل التشبيه إذ ليس الغرض جعل وجه الشبه الهيئة الحاصلة من مجموع هذه الأمور, بل المراد جعل كل واحد وجه شبه، من غير أن يتقيد أحدها بالآخر ا. هـ. الثاني: إذا كان وجه الشبه مركبًا وجب أن يكون الطرفان مركبين أو مقيدين، أو أحدهما مركبًا، والآخر مقيدًا ولو تقديرًا؛ وذلك أن وجه الشبه قائم بالطرفين، منتزع منهما, وليس معقولا أن تقوم هيئة مركبة من عدة أمور بشيء واحد, أو أن تنتزع من شيء واحد. فوجه الشبه "في البيت السابق" هو الهيئة المركبة من الأشياء المذكورة، وتلك الهيئة لا يمكن أن تقوم بشيء واحد، ولا أن تنتزع منه. كذلك وجه الشبه في تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل هو الهيئة الحاصلة من جملة أشياء هي: الاستدارة، والإشراق، وتموجه الناشئ من الحركة السريعة المتصلة, وأحد الطرفين فيه وهو "الشمس" وإن أفرد لفظًا هو مقيد معنى بجملة قيود هي: الإشراق المتموج، والحركة السريعة المتصلة، والاستدارة, وبهذا صح أن يكون منتزعًا للهيئة المذكورة.

التقسيم الثالث

التقسيم الثالث: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضًا إلى ثلاثة أقسام: أن يكون وجه الشبه فيه حسيًّا أي: مدركًا بالحس, مفردًا كان, أو مركبًا، أو متعددًا. فالمفرد الحسي "كالإشراق" في قولك: له وجه كالبدر، و"كالنعومة" في قولك: له جسد مثل الحرير, و"كالطيب" في قولك: عرفه كشذا المسك, إلى آخر ما تقدم من الأمثلة في الأمور الحسية. والمركب الحسي: ما تقدم في تشبيه "البدر في كبد السماء" بدرهم ملقى على ديباجة زرقاء، فإن وجه الشبه "كما بينا غير مرة" هو الهيئة الحاصلة من ظهور صورة بيضاء مشرقة مستديرة، في رقعة مبسوطة زرقاء, وهذه الهيئة حسية تدرك بحاسة البصر. والمتعدد الحسي: ما تقدم في تشبيه فاكهة بأخرى في الطعم، واللون، والرائحة. فوجه الشبه كل واحد من هذه الأمور الثلاثة, وجميعها حسي يدرك الأول منها بحاسة الذوق، والثاني بحاسة البصر، والثالث بحاسة الشم. 2- أن يكون وجه الشبه فيه عقليًّا أي: مدركًا بالعقل, مفردًا كان أو مركبًا أو متعددًا. فالمفرد العقلي "كالهداية" في قوله صلى الله عليه وسلم: $"أصحابي كالنجوم, بأيهم اقتديتم اهتديتم" و"كالجرأة" في قولك: عمر كالأسد, فوجه الشبه في هذين المثالين لا يدرك بشيء من الحواس، وإنما يدرك بالعقل. والمركب العقلي كقول الشاعر: والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار فوجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من الالتجاء من الضار إلى ما هو أضر؛ طمعًا في الانتفاع به, وهذه الهيئة مما يدرك بالعقل. والمتعدد العقلي كقولك: محمد كأبيه في شجاعته، وحلمه، وإيمانه. فوجه الشبه كل واحد من هذه الأمور الثلاثة, والجميع مما لا يدرك بغير العقل. 3- أن يكون الوجه مختلفًا -بعضه حسي وبعضه عقلي- كما في وجه الشبه المتعدد, كأن تشبه رجلًا بآخر في طوله وجسامته، وكرمه وشهامته. فوجه الشبه كل واحد من هؤلاء الأربعة, غير أن الأولين منها حسيان، والآخرين عقليان، كما ترى.

تنبيهان: الأول: اعلم أن الوجه المختلف كما يكون في المتعدد "كما مثلنا" يكون أيضًا في المركب المنزل منزلة الواحد، باعتبار الأجزاء التي تركب منها كما في تشبيه المرأة الحسناء الوضيعة الأصل بخضراء الدمن1 في حسن المنظر، مع سوء المخبر، فإن وجه الشبه مجموع الأمرين المذكورين, وأولهما حسي والآخر عقلي, غير أن علماء البيان يعتبرون المركب من حسي وعقلي من قبيل العقلي, فالمركب حينئذ -إما حسي فقط، أو عقلي فقط كما هو الشأن في الوجه المفرد- بخلاف الوجه المتعدد؛ فإن فيه الأنواع الثلاثة. الثاني: اعلم أنه إذا كان الوجه حسيًّا كله أو بعضه, فلا بد أن يكون الطرفان حسيين أيضًا، وذلك لأحد سببين: أحدهما: أنه لا بد من قيام وجه الشبه بالطرفين؛ تحقيقًا للتشارك بينهما, والحسي لا يقوم بغير الحسي, فالبياض مثلًا مما يدرك بحاسة البصر فلو جعل مشتركًا بين شيئين وجب أن يكون من المبصرات حتى يتأتى قيام البياض بهما, وهكذا يقال في باقي المحسات. ثانيهما: أنه لا بد من إدراك الوجه في الطرفين ليتحقق لنا التشارك فيه, والحواس لا تدرك غير المحسات, فحاسة البصر مثلًا لا تدرك إلا ما كان مبصرًا، وحاسة اللمس لا تدرك إلا ما كان ملموسًا, وهكذا. ومحال أن تدرك هذه الحواس شيئًا من المعقولات فلا تبصر العين معنى "الكرم" ولا تلمس اليد معنى "الشجاعة" ولا تشم الأنف معنى "الحلم". أما الوجه العقلي فيصح أن يكون طرفاه عقليين, أو حسيين, أو مختلفين. فالعقليان كأن تشبه وجود الجاهل بعدمه في الخلو من الفائدة, فالطرفان وهما "الوجود والعدم" عقليان. والحسيان كأن تشبه قوي البأس بالجبل في الصمود, والطرفان وهما "قوي البأس والجبل" حسيان. والمختلفان كأن تشبه السيرة الحميدة بأريج المسك, أو العكس في ارتياح النفس إلى كل, فالطرفان في المثالين مختلفان، أحدهما حسي والآخر عقلي, ووجه الشبه في الجميع عقلي "كما رأيت". وإنما صح هذا التعميم في الوجه العقلي؛ لجواز قيام المعقول بالمحسوس كقيام معنى الفصاحة "بسحبان" وقيام معنى الشاعرية "بزهير"، ولجواز أن يدرك العقل أمرًا معقولًا في شيء محسوس كإدراك معنى الشجاعة في "خالد بن الوليد" وإدراك معنى الجود في "حاتم".

_ 1 هي شجرة تنبت في معاطن الدواب، تكون ناضرة بهجة، ولكن لا ثمر فيها, وهي بمثابة مثل يضرب لكل وضيع يبهرك منظره, ويسوءك مخبره.

التقسيم الرابع

التقسيم الرابع: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه إلى قسمين: تمثيل, وغير تمثيل. فالتمثيل: ما كان وجه الشبه فيه هيئة مركبة من عدة أمور, حسيًّا كان هذا الوجه أو عقليًّا. فمثال الحسي ما سبق في قول الشاعر: والبدر في كبد السماء كدرهم ... ملقى على ديباجة زرقاء فإن وجه الشبه "كما عرفت من قريب" هو الهيئة المركبة من عدة أمور, كلها مدرك بالحس. ومثله قول الشاعر: وكأن أجرام النجوم لوامعًا ... درر نثرن على بساط أزرق فوجه الشبه أيضًا هو الهيئة المركبة من صور بيض مشرقة، منثورة في رقعة مبسوطة زرقاء, وكلها أشياء حسية كما ترى. ومثال الوجه العقلي ما تقدم لك في قول الشاعر: والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار فإن وجه الشبه "كما عرفت" هيئة مركبة من أمور عقلية في الالتجاء من الضار إلى ما هو أضر, مع الطمع في الانتفاع به. ومثله قوله تعالى في تشبيه حال اليهود بحال الحمار: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} فإن وجه الشبه هيئة مركبة من أمور عقلية هي حرمان الانتفاع، بأبلغ نافع،

مع معاناة الكد في تحمله1. وغير التمثيل: ما لم يكن الوجه فيه هيئة منتزعة من متعدد, بأن كان أمرًا واحدًا أو متعددًا. "فالأول كحسن النغم" في تشبيه صوت حسن بتغريد البلابل، و"كالمضاء" في تشبيه العزيمة بالسيف، و"كالإشراق" في تشبيه الحجة الواضحة بالشمس، ونحو ذلك مما يكون وجه الشبه فيه شيئًا واحدًا، لا تركيب فيه. والثاني كما في تشبيه فاكهة بأخرى في الطعم، والرائحة، واللون، فإن وجه الشبه كل واحد من هذه الثلاثة, لا الهيئة المركبة منها على ما سبق بيانه. تنبيه: ما تقدم في تشبيه التمثيل هو مذهب جمهور البيانيين, فهم "كما عرفت" لا يفرقون فيه بين الحسي والعقلي, فالمدار فيه عندهم على أن يكون هيئة مركبة من عدة أمور، حسية كانت أو عقلية. وللسكاكي فيه مذهب, وهو أن تشبيه التمثيل عنده خاص بالمركب العقلي كما في تشبيه "المستجير بعمرو عند كربته" في البيت السابق, وكما في تشبيه حال اليهود بحال الحمار في الآية الكريمة؛ وحينئذ يكون تشبيه التمثيل عنده أخص منه عند الجمهور, فمثل قول الشاعر المتقدم: "وكأن أجرام النجوم لوامعًا" إلخ, وقول الآخر: "والبدر في كبد السماء كدرهم" إلخ، وغيرهما من كل تشبيه، فيه الوجه هيئة منتزعة من أمور محسوسة. كل ذلك من قبيل تشبيه التمثيل عند الجمهور؛ لأن وجه الشبه هيئة مركبة من عدة أمور كما سبق بيانه, وليس من تشبيه التمثيل عند السكاكي؛ لأن وجه الشبه فيها ليس عقليًّا أي: ليس مركبًا من أمور عقلية, كما هو الشرط عنده في تشبيه التمثيل. أما نحو التشبيه في قول الشاعر: والمستجير بعمرو عند كربته "البيت" وفي آية اليهود السابقة فمن تشبيه التمثيل عند الطرفين، أما عند الجمهور فلأن الوجه فيهما هيئة مركبة من عدة أمور وأما عند السكاكى فلأن وجه الشبه فيهما مركب عقلى أهـ.

_ 1 فقد روعي في الحمار فعل خاص هو الحمل, وأن يكون المحمول أوعية العلوم ومستودع ثمار العقول، وكون الحمار جاهلًا بما فيها مع تكبده مشاق الحمل؛ وروعي مثل ذلك في جانب اليهود وكل هذه الأشياء أمور عقلية.

التقسيم الخامس

التقسيم الخامس: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضًا إلى قسمين: مفصل، ومجمل. فالمفصل: ما صرح فيه بذكر وجه الشبه على طريقته1 كما تقول: طبع فؤاد كالنسيم رقة أو في رقته، ويده كالبحر سخاء أو في سخائه، وكلامه كالدر حسنًا أو في حسنه، وقوامه كالسيف استقامة أو في استقامته، فكل هذه المثل من قبيل التشبيه المفصل للتصريح فيها بذكر الوجه كما رأيت. ومن قبيل المفصل قولهم في تشبيه الكلام السهل، الخفيف على السمع: "ألفاظه كالعسل في الحلاوة" وفي تشبيه الحجة الواضحة: "حجة كالشمس في الظهور" فوجه الشبه في المثالين مذكور "كما ترى" وهو قائم بالطرفين، غير أنه في المشبه تخييلي، وفي المشبه به تحقيقي, وقد سبق الكلام فيه2. والمجمل: ما لم يصرح فيه بذكر وجه الشبه على طريقته, وهو نوعان: 1- ظاهر يستوي في إدراكه العامة والخاصة, كتشبيه الشعر بالفحم والقد بالغصن والوجه بالبدر, فأوجه الشبه في هذه المثل من الوضوح، بحيث لا تحتاج إلى إعمال فكر.

_ 1 هي أن يذكر الوجه مجرورًا "بفي" أو منصوبًا على التمييز على معنى "في" كالأمثلة المذكورة. ومن هنا يعلم أن وجه الشبه كما يكون مجرورًا "بفي" يكون منصوبًا على التمييز على معنى "في" واحترز به عن نحو قولهم: يد فؤاد كالنهر تفيض، ووجه هند كالبدر يضيء, فليس ذلك من قبيل المفصل لعدم ذكر الوجه على طريقته المذكورة. 2 أما ما قيل من أن في مثل هذين المثالين تسامحًا من حيث إن الوجه لم يذكر, وإنما ذكر ملزومه وهو "الحلاوة" في الأول "والظهور" في الثاني، فغير سديد؛ لأن ذكر "الحلاوة والظهور" إن كان من قبيل التعبير بالملزوم عن اللازم الذي هو "ميل النفس" في الأول و"زوال الحجاب" في الثاني كان من قبيل المجاز ولا تسامح فيه؛ لأن الوجه مذكور غاية الأمر أنه عبر عنه بملزومه, وإن لم يكن من المجاز فخطأ إذ لا واسطة بين الحقيقة والمجاز غير الخطأ, ولا ينبغي حمل الكلام الفصيح على الخطأ.

ب- خفي يحتاج في فهمه إلى تأمل ونظر. مثاله ما روي: أن فاطمة بنت الخرشب1 الأنمارية سئلت عن بنيها الأربعة: أيهم أفضل؟ فقالت: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها, تريد أن تقول: هم في تناسبهم في الشرف والشجاعة وعدم تفاوتهم فيهما، بحيث يمتنع تفضيل أحدهم على الآخر, كالحلقة المتصلة الجوانب فإن أجزاءها متناسبة في الصورة، يمتنع تعيين بعضها طرفًا وبعضها وسطًا, فوجه الشبه إذًا هو "التناسب الكلي الخالي عن التفاوت" وقد أشعر به قولها: "لا يدرى أين طرفاها" إلا أنه في المشبه تناسب في الشرف، وفي المشبه به تناسب في صورة الأجزاء وهو "كما ترى" خفي دقيق، فوق متناول مدارك العامة, ولا يدركه إلا من ارتفع منهم إلى طبقة الخاصة. تنبيه: من هذا المثال السابق يتضح: أن التشبيه المجمل لا يخرجه عن إجماله أن يذكر لأحد الطرفين, أو لكليهما وصف مشعر بوجه الشبه. فمثال ما ذكر فيه وصف المشبه به دون المشبه قول فاطمة المتقدم، فإن قولها: "لا يدرى أين طرفاها" وصف للمشبه به، مشعر بوجه الشبه الذي هو "التناسب الكلي" إذ يفهم من عدم دراية الطرفين معنى التناسب في الأجزاء. ومثله قول زياد الأعجم: فإنا وما تلقي لنا أن هجوتنا ... لكالبحر مهما تلق في البحر يغرق2

_ 1 بضم الخاء والشين, وسبب هذا القول أنها سئلت عن بنيها الأربعة الذين رُزِقتهم من زوجها وهم: ربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظ. وأنس الفوارس, سئلت: أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة, ثم بدا لها غير هذا فقالت: لا بل فلان, ثم بدا لها غير ذلك فقالت: لا، ثم قالت: ثكلتهم إن علمت أيهم أفضل، هم كالحلقة ... إلخ. وقيل: إنه من قول كعب الأشعري في وصف بني المهلب للحجاج, حين قال له: كيف تركت الناس؟ فقال كعب: تركتهم بخير، أدركوا ما أملوا, وأمنوا مما خافوا, فقال الحجاج: فكيف بنو المهلب فيهم؟ فقال: هم حماة السرح نهارًا, فإذا أليلوا ففرسان البيات؛ فقال الحجاج: فأيهم كان أنجد, أي أشجع؟ فقال: هم كالحلقة المفرغة, لا يدري أين طرفاها. 2 أن هجوتنا بفتح همزة "أن" وهو مصدر مؤول من أن والفعل مجرور بحرف جر مقدر, والتقدير: يهجائك.

يشبه زياد حال قومه إذ يرميهم المخاطب بالنقيصة فلا تضرهم، ولا يظهر لها فيهم أثر لخطورة شأنهم بحال البحر العظيم, لا يتأثر بما يلقى فيه. ووجه الشبه أن كلا الطرفين من العظمة والخطر بحيث لا ينال منهما, وقوله: "مهما تلق في البحر يغرق" وصف للمشبه به مشعر بهذا الوجه. ومثال ما ذكر فيه وصف المشبه دون المشبه به قوله عليه الصلاة والسلام: $"أصحابي كالنجوم, بأيهم اقتديتم اهتديتم" فوجه الشبه في الحديث "الهداية" وقد أشعر به قوله: $"بأيهم اقتديتم اهتديتم" وهو وصف خاص بالمشبه. ومثال ما ذكر فيه وصفهما معًا قول أبي تمام يمدح الحسن بن رجاء: صدفت عنه ولم تصدف مواهبه ... عني وعاوده ظني فلم يخب كالغيث إن جئته وافاك ريقه أفضل ... وإن ترحلت عنه لج في الطلب1 وصف الشاعر الممدوح الذي هو "المشبه" بأن عطاياه مغدقة سابغة عليه, أعرض عنه أو أقبل عليه. ثم وصف الغيث الذي هو المشبه به بأنه يصيبك أقبلت عليه أو تجنبته, ووجه الشبه "مطلق الإفاضة في الحالين" والوصفان المذكوران مشعران بهذا الوجه. وصفوة القول: أن التشبيه المجمل هو ما لم يذكر فيه وجه الشبه على طريقته السابقة, طاهرًا ذلك الوجه أو خفيًّا "كما بينا", وأن وصف أحد الطرفين أو كليهما بما يشعر بالوجه "كما رأيت" لا يتنافى مع الإجمال؛ لأن المدار في كون التشبيه مجملًا على ألا يذكر وجه للشبه ذاته لا وصف مشعر به ا. هـ.

_ 1 صدف من باب ضرب: أعرض، والريق من كل شيء: أفضله؛ ولج في الطلب: ألح فيه.

التقسيم السادس

التقسيم السادس: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضًا إلى قسمين: قريب مبتذل، وبعيد غريب، وإليك بيانهما: فالقريب المبتذل: ما ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به من غير تأمل, ونظر بسبب وضوح وجه الشبه فيهما كتشبيه حسناء الوجه بالقمر في الإشراق وحسن الصوت بالبلبل في حسن النغم, فكلا التشبيهين قريب, في متناول العامة, مبتذل، يكثر تداوله بين الناس لظهور وجه الشبه بين الطرفين "كما ترى". وأسباب وضوح وجه الشبه ثلاثة: أ- أن يكون الوجه شيئًا واحدًا لا تعدد فيه, ولا تفضيل كالمثالين السابقين, فإن وجه الشبه في الأول "الإشراق" وفي الثاني "حسن النغم" وكلاهما شيء واحد، ولا شك أن إدراك الشيء الواحد لا يحتاج سوى ملاحظة واحدة، بخلاف غيره فإنه يحتاج إلى عدة ملاحظات. ب- أن يكون في الوجه نوع تفصيل يحتاج إلى تعدد الملاحظة, غير أنه يسرع حضور صورة المشبه به في الذهن عند حضور صورة المشبه؛ لشدة التناسب بين الصورتين, كأن تشبه العنب بالبرقوق في حجمه ولونه، ففي وجه الشبه بين الطرفين تفصيل ما إذ لوحظ فيه أمران: الحجم واللون, وهذا يقتضي شيئًا من غرابة التشبيه وبعده, ولكن عارض ذلك ما يقتضي قربه وابتذاله وهو سرعة حضور المشبه به في الذهن عند حضور صورة المشبه؛ لما بينهما من شدة الانسجام، وقوة المناسبة إذ إن العنب والبرقوق من فصيلة واحدة ويجمعهما زمن واحد وسوق واحدة، فلا أثر للتفصيل في وجه الشبه مع قوة هذه المناسبة. ومثله تشبيه الجرة الصغيرة بالكوز في "المقدار والشكل" فإن سرعة حضور صورة الكوز في الذهن عند حضور صورة الجرة فيه لشدة المناسبة بين الصورتين عارضت التفصيل في الوجه على نحو ما ذكرناه في المثال الأول؛ لهذا كان التشبيه قريبًا مبتذلًا. حـ- أن يكون في الوجه شيء من التفصيل "كسابقه" يحتاج إلى تعدد الملاحظة, غير أنه يكثر حضور صورة المشبه به في الذهن مطلقًا أي: لا بقيد حضور صورة المشبه؛ وذلك لكثرة مشاهدة صورة المشبه به وتكررها على الحس, فإن المشاهد كثيرًا يكثر خطوره بالبال عادة كتشبيه إنسان بالقمر في الرفعة والهداية، وكتشبيه المرآة المجلوة بالشمس في الاستدارة والاستنارة, ففي وجه الشبه بين الطرفين في "المثالين" شيء من التفصيل إذ لوحظ فيه أمران: الرفعة والهداية "في الأول"

والاستدارة والاستنارة في الثاني، وهذا يقتضي غرابة التشبيه وبعده ولكن عارض ذلك ما جعله قريبًا مبتذلًا وهو كثرة حضور صورة المشبه به في الذهن لكثرة مشاهدتها, إذ ليس من شك أن صورة "القمر" في المثال الأول، وصورة "الشمس" في المثال الثاني مما يشاهد كثيرًا. والغريب البعيد: هو ما لا ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به بعد إعمال فكر, ودقة نظر بسبب خفاء وجه الشبه فيهما. وأسباب خفاء الوجه ثلاثة أيضًا: 1- أن يكون الوجه كثير التفصيل، يحتاج إلى كثرة الملاحظات والاعتبارات, كما في تشبيه الخد بالشقيق في قول الشاعر: لا تعجبوا من خاله في خده ... كل الشقيق بنقطة سوداء فوجه الشبه بين الطرفين هو الهيئة الحاصلة من وجود نقطة مستديرة سوداء في وسط رقعة مبسوطة حمراء, وفيه من كثرة التفصيل والاعتبارات ما لا يقع في نفس مريد التشبيه إلا بعد تأمل وروية. وكما في تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل, فإن الهيئة المشتركة في كليهما -على ما تقدم بيانه- لا تقوم بنفس مريد التشبيه إلا بعد أن يتأمل ويتعمل. ب- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن عند حضور صورة المشبه؛ لبعد التناسب بين الصورتين، وعدم التجانس بينهما كما في تشبيه القمر بالعرجون في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 1 فصورة "العرجون" في ذاتها غير نادرة الحضور في الذهن, ولكنها تندر عند استحضار صورة "القمر" للبون الشاسع بين الصورتين؛ فإن القمر مسكنه في السماء، والعرجون في الأرض، والقمر من فصيلة الكواكب، والعرجون من قبيل النباتات, والقمر مثال العلو والهداية, والعرجون شيء تافه حقير لا تكاد تظهر له فائدة, فشتان ما بين الصورتين، وناءٍ ما بين الطرفين. وكقول الشاعر:

_ 1 هو عذق النخل, إذا يبس.

ولازوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت1 كان المناسب للشاعر أن يشبه صورة أزهار البنفسج وهي على سيقانها بما يناسبها من الأزهار, إذ هو الذي يتبادر إلى الذهن عند استحضار صورة البنفسج، ولكنه شبهها بصورة النار في أطراف الكبريت أول شبوبها. ووجه الشبه: الهيئة الحاصلة من تعلق أجرام صغيرة لطيفة ذات لون خاص بجرم دقيق يخالفها لونًا, فصورة النار في أطراف الكبريت غير نادر الحضور في الذهن لأنها في متناول الناس، واقعة بين أيديهم وأرجلهم، لكنها تندر عند حضور صورة البنفسج وهو على سيقانه لما بينهما من عدم التجانس وبعد الموطن. فذاك زهر ندي لطيف، وهذا لهب حار عنيف، وذاك يسكن الخمائل, وهذا يستوطن المنازل, فبعد ما بين الطرفين. جـ- أن يندر حضور المشبه به في الذهن مطلقًا أي: سواء حضرت صورة المشبه في الذهن أو لا؛ وذلك لأمور منها: 1- أن يكون المشبه به وهميًّا أي: من اختراع الوهم, كما في تشبيه النصال المسنونة الزرق بأنياب الأغوال في قول الشاعر السابق, فإن أنياب الأغوال مما لا وجود له إلا في الوهم. 2- أن يكون المشبه به خياليًّا أي: من نسيج الخيال, كصورة أعلام من ياقوت, منشورة على رماح من زبرجد في قول الشاعر المتقدم. إن هذه الصورة وما شاكلها من الهيئات المركبة لا وجود لها في غير الخيال. 3- أن يندر تكرر صورة المشبه به على الحس, كصورة المرآة في كف الأشل, فقد ينقضي عمر الإنسان ولا يرى مرآة في كف إنسان أشل.

_ 1 لازوردية بكسر الزاي وفتح الواو وسكون الراء صفة محذوف أي: ورب أزهار من البنفسج لازوردية, نسبة إلى الحجر المسمى باللازورد؛ لكونها على لونها فهي نسبة تشبيهية, وتزهو من الزهو وهو الكبر، ونسبة التكبر إلى البنفسج تجوز، وحمر اليواقيت من إضافة الصفة للموصوف أي: رب أزهار من البنفسج لازوردية نسبة إلى الحجر المسمى باللازورد استعارة أراد بها الأزهار الحمر؛ لمشابهة الأزهار لها وهو المناسب للبنفسج بدليل قوله: "بين الرياض".

تنبيه: إنما كانت كثرة حضور صورة المشبه به في الذهن سببًا في ظهور وجه الشبه، وندرة حضور صورته سببًا في خفاء الوجه؛ لأن وجه الشبه "كما علمت" مشترك بين الطرفين، قائم بهما، فتصوره فيهما موقوف على تصورهما, فإذا كان المشبه به كثير الحضور في الذهن، أو نادر الحضور فيه لزم أن يكون وجه الشبه أيضًا كثير الحضور أو نادرًا تبعًا له، ومن هنا كان وضوحه أو خفاؤه. تمرين: 1- عرف وجه الشبه, ثم ائت بمثال يكون أحد الطرفين فيه حسيًّا والوجه عقليًّا, وبآخر يكون الوجه في أحد الطرفين تخيليًّا. 2- بين وجه الشبه, ونوع التشبيه باعتبار هذا الوجه فيما يأتي: 1- لفظ كالسحر وخلق كالعطر. 2- له صوت كرنين الأوتار. 3- التقي كالمصباح يضيء في الظلام. 4- وما المرء إلا كالشهاب وصوته ... يوافي تمام الشهر ثم يغيب 5- محمد كأبيه شجاعة وإيمانًا وكرمًا. 6- له قول يخترق القلوب كالسهم. مهفهف وجنتاه ... كالخمر لونًا وطعما 7- 8- طلق شديد البأس راحته ... كالبحر فيه النفع والضرر 9- هذا أبو الهيجاء في الهيجاء ... كالسيف في الرونق والمضاء 10- وقد لاح في الصبح للثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا1

_ 1 الثريا: طائفة من النجوم متقاربة, على شكل خاص "وملاحية" بضم الميم, وتشديد اللام: عنب أبيض في حبه طول, وتخفيف اللام فيه أكثر والإضافة بيانية، و"نور" ظهر نوره، أي: تفتح زهره.

11- كأنك شمس والنجوم كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب 12- يا شبيه البدر في الحسـ ... ـن وبعد المنال 13- السفرجل كالبرتقال في لونه، وشكله، وحجمه. 14- أنت كالمصباح في ضوئه وهدايته. 15- النساء حبائل الشيطان. 16- كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء در على أرض من الذهب1 جواب التمرين الثاني:

_ 1 "الفقاقيع" هي ما يطفو على وجه الماء كالبرد, ومفرده: فقاعة على زنة رمانة, و"الحصباء": الحصا.

تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق: كلام ذي الفهامة كسكوته، وإشارة الفصيح كعبارته؛ قال الشاعر: الشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر. قد بدت هند قمرًا، وتضوعت مسكًا، وخطرت غزالًا. فلان كالبحر لا يعكره ولوغ الكلاب. إنك كالبحر في مده وجزره، وكالدهر في إقباله وإدباره. الأماني حلم اليقظان. حجة كفلق الصبح. مرآة الغريبة كالشمس استدارة, وصفاء النار في أطراف الكبريت كالبنفسج. قال الشاعر: تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها وأرض كأخلاق الكريم قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا

مبحث الأداة

مبحث الأداة مدخل ... مبحث الأداة: الأداة: لفظ يدل على معنى التشبيه كالكاف, تقول: محمد كالبدر فالكاف في قولك: "كالبدر" أداة تشبيه لأنها دالة عليه. ومثل الكاف كل ما يفيد معنى المشابهة والمماثلة كلفظ "مثل وشبه", وكأسماء الفاعل المشتقة مما يفيد معنى التشبيه كمماثل، ومشابه, ومحاك، ومضاهٍ، تقول: هند مثل الغزال, ومحمد شبه الغمام. وتقول: هي مماثلة الغزال، وهو مشابه الغمام، ومحاكي الغيث، ومضاهي النجم, بالإضافة في جميعها. والأصل في "الكاف" وما شاكلها من الأسماء المضافة لما بعدها "كما رأيت" أن يليها المشبه به لفظا "كما مثلنا" أو تقديرًا كقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} بعد قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} الآية. فالمشبه به في الآية قد ولي الكاف تقديرًا والأصل: أو كمثل ذوي صيب, أما تقدير "ذوي" فلأن الضمائر الثلاثة في {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} للمنافقين وهم ليسوا مذكورين في الآية، فبقيت الضمائر بلا مرجع، ولا بد لها منه كما هو الشأن فيها. وأما تقدير "مثل" فلأجل أن يشاكل المعطوف عليه وهو قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . وقد يليها غير المشبه به إذا كان المشبه به مركبًا أي: هيئة منتزعة من أمور لم يعبر عنها بمفرد دال عليها1, لكن بشرط أن يذكر بعد الكاف ونحوها بعض هذه الأمور التي انتزعت منها تلك الهيئة, كما في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} فليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء حتى يكون هذا المثال مما ولي فيه المشبه به كاف التشبيه, بل المراد تشبيه حال الدنيا في إقبالها على الإنسان واغتراره بابتسامتها الخادعة, وطلائها الكاذب، وما يعقب ذلك من زوال نعيمها، وامّحاء بهجتها ونضارتها بحال النبات، يغذيه الماء فتنضر خضرته، وتبتسم زهرته ثم لا يلبث أن تنطفئ هذه النضرة، وتذبل هذه الزهرة، ويتحول النبات النضر البهيج إلى هشيم تذروه

_ 1 احترز به عما عبر فيه عن الهيئة بمفرد كما في آية اليهود, فقد عبر فيها عن المشبه به المركب بلفظ "مثل" قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ ... } إلخ.

عواصف الرياح كأن لم يكن, ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من حسن وبهجة وهناء، يعقبه تلف وشقاء وفناء, فأنت ترى أن المشبه به لم يَلِ الكاف؛ لأنه "الهيئة الحاصلة" لكن وليها شيء يتعلق به وهو "الماء" إذ هو أحد أجزاء الهيئة المذكورة. والأصل في "كأن" الدالة على التشبيه أن يليها المشبه "عكس الكاف وأخواتها" تقول: "كأن عنترة أسد" فعنترة هو المشبه. وقد ولي "كأن" ويقول الله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فضمير النسوة هو المشبه, وما بعده هو المشبه به. ومثل "كأن" في هذا لحكم كل ما له معمولان من الأفعال, أو الأصناف المفيدة لمعنى التشبيه تقول: ماثل أو يماثل خالد أسدا، وشابه أو يشابه علي حاتمًا, وحاكى أو يحاكي شوقي أبا الطيب, فالذي ولي الأفعال في هذه المثل هو "المشبه". وتقول: خالد ماثل أو يماثل الأسد, وعلي شابه أو يشابه حاتمًا, وشوقي حاكى أو يحاكي أبا الطيب. وتقول: خالد مماثل أسدًا، وعلي مشابه أو مشبه حاتمًا، وشوقي محاك أو مضاهٍ أبا الطيب، فالضمائر المستكنة في هذه الأفعال أو الأوصاف هي "المشبهات" وقد وليتها؛ لأنها فواعل والفاعل مرتبته بعد الفعل، كما عرفته في محله.

تقسيم التشبيه باعتبار الأداة

تقسيم التشبيه باعتبار الأداة: ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى قسمين: مرسل، ومؤكد. فالمرسل: ما ذكرت فيه الأداة لفظًا، أو تقديرًا. فمثال ما ذكرت فيه الأداة لفظًا قولك: سجعه كسجع الحمام، ووشيه كوشي الطاووس. ومثال ما قدرت فيه الأداة قولك: "سجعه سجع الحمام" "ووشيه وشي الطاووس" إذا قدرت في نفسك أنه على معنى الكاف، وأن المشبه مثل المشبه به لا عينه. والمؤكد: ما تركت فيه الأداة لفظًا وتقديرًا أي: ترك التصريح بها، وتُنُوسِي تقديرها في نظم الكلام أيضا؛ إشعارًا بأن المشبه عين المشبه به مبالغة, كما تقول في المثالين السابقين: سجعه سجع الحمام، ووشيه وشي الطاووس, فتترك

ذكر الكاف، ولا تقدرها في نفسك ادعاء منك أن المشبه هو المشبه به نفسه، لا شيء سواء مبالغة. ومثله قوله تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يريد -وهو أعلم بمراده- أن الجبال يوم القيامة بعد النفخة الأولى تسير في الهواء كالسحاب تسوقه الرياح, فهو تشبيه مؤكد تنوسي فيه تقدير الكاف ليكون المعنى: أن مرور الجبال يوم القيامة هو مرور السحاب بعينه, وهذا المعنى هو ما ينبغي أن يفهم تصويرًا للحالة التي ستكون، ولو فرض تقدير الكاف في الكلام لكان تشبيهًا مرسلًا. إذا علمت هذا, علمت أن كل مثال تركت فيه الأداة يحتمل أن يكون من قبيل المؤكد إن لم تقدر فيه الأداة, وأن يكون من قبيل المرسل إن قدرت الأداة, ما لم تقم قرينة على المراد. ومن التشبيه المؤكد: ما أضيف فيه المشبه به إلى المشبه, كما في قول الشريف الرضي يستمطر الرحمة على قبور الموتى: أرسى النسيم بواديكم ولا برحت ... حوامل المزن في أجداثكم تضع1 يقول: أقام النسيم بواديكم، تهب عليه نفحاته، ولا فتئت غوادي الحسب ترطب ثرى قبوركم, والشاهد في قوله: "حوامل المزن" يريد: أن المزن الممتلئة بالماء كالحوامل من الحيوان, فقد شبه المزن بالحوامل بجامع المنفعة في كل، ثم تركت أداة التشبيه وتنوسيت، ثم أضيف المشبه به إلى المشبه "كما ترى " وفي التعبير بقوله "تضع" مع قوله: "حوامل المزن" براعة بارعة في مراعاة التناسب. ومثله قول الشاعر يصف اعتدال الريح وقت الأصيل، أي: وقت اصفرار أشعة الشمس حينما تميل إلى الغروب: والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء2 شبه الشاعر الماء بالفضة في النقاء والصفاء, ثم أضاف المشبه به إلى المشبه بعد حذف الأداة, وتناسيها في نظم الكلام. وسمي التشبيه "مؤكدًا" لأنه أكد وقرر بدعوى اتحاد الطرفين, وأن المشبه هو المشبه به, لا يتميز أحدهما عن الآخر في شيء.

_ 1 "المزن" أراد بها السحاب، والأجداث جمع: جدث بفتح الجيم والدال, وهو "القبر". 2 الأصيل هو: الوقت بين العصر والغروب, ويعد من أطيب الأوقات, و"ذهبه" صفرته بسبب شعاع الشمس فيه, وإطلاق الذهب عليه "استعارة" و"اللجين": الفضة، وهو مضاف إلى الماء من إضافة المشبه به إلى المشبه.

مبحث أغراض التشبيه

مبحث أغراض التشبيه: أغراض التشبيه: هي البواعث التي تحمل المتكلم على أن يعقد شبها بين شيئين, وهي على ضربين: 1- ما يعود على المشبه, وهو الأكثر. 2- ما يعود على المشبه به. الأغراض التي تعود على المشبه, وهي سبعة: الاول: بيان حال المشبه, إذا كان المخاطب يجهل حال ذلك المشبه, ويريد أن يعرف حاله أي: وصفه الذي هو عليه، فيلحق بمشبه به معروف لدى المخاطب بيانًا لهذه الحال؛ كقول امرئ القيس السابق: كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي شبه الرطب من قلوب الطير، واليابس منها بالعناب، والحشف البالي بيانًا لما فيها من الأوصاف كالشكل، والمقدار، واللون. وكما في تشبيه ثوب بآخر في بياضه أو سواده, أو نحو ذلك. وينبغي لتحقيق هذا الغرض أن يكون المشبه به معروفا عند المخاطب بوجه الشبه؛ لأن الغرض تعريف حال المشبه المجهول للمخاطب, فلو لم يكن المشبه به معروفًا لدى المخاطب من قبل للزم تعريف المجهول بالمجهول. وليس بلازم هنا أن يكون المشبه به أتم وأقوى في وجه الشبه من المشبه وإن كان الشأن فيه ذلك؛ لأن المخاطب إنما يجهل حال المشبه، ويريد مجرد تصورها, وهذا يكفي فيه أن يكون المشبه به معروفًا بوجه الشبه عند المخاطب. فإذا قيل: ما لون ثوبك الذي اشتريته؟ فقلت: كهذا الثوب في سواده مثلًا, فقد تم الغرض؛ ولا يتوقف على كون هذا الثوب أتم من الثوب المشترى في سواده؛ لأن ذلك زائد على المطلوب. الثاني: بيان مقدار حال المشبه من القوة والضعف, وذلك إذا كان المخاطب يعلم

حال المشبه ويجهل مقدار الحال, ويريد الوقوف على مقدارها، فيلحق حينئذ بشيء يعلم المخاطب مقدار حاله, كقول الشاعر: فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودًا كخافية الغراب الأسحم1 شبه النياق السود بخافية الغراب في شدة السواد, وبهذا التشبيه اتضحت حال المشبه واستقر في الذهن مقدار سواده، وأنه بين الحلكة شديدها. وكتشبيه صوت ضعيف بالهمس، أو قوي بالرعد؛ بيانًا لمقدار ضعف هذا الصوت أو قوته. ولتحقيق هذا الغرض ينبغي أن يكون المشبه به أعرف, وأشهر بوجه الشبه من المشبه لدى المخاطب, كما في الأمثلة المذكورة. غير أنه يجب هنا أن يكون المشبه به مساويًا للمشبه في وجه الشبه لا أكثر ولا أقل؛ إذ لو كان المشبه به أتم في وجه الشبه، أو أنقص منه لم يتعين المقدار، فلم يتم الغرض من التشبيه كما في تشبيه شراب بالثلج في شدة البرودة أو بالنار في شدة الحرارة, اللهم إلا إذا قصدت المبالغة. الثالث: بيان إمكان المشبه أي: بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود, وذلك إذا كان أمرًا غريبًا من شأنه أن ينازع فيه؛ ويدعى امتناعه، فيمثل حينئذ بشيء مسلم الوقوع ليكون دليلًا على إمكان وجوده, كما في قول أبي الطيب من قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال ادعى الشاعر أن الممدوح من السمو والرفعة بحيث فاق الجنس البشري الذي هو أحد أفراده، وصار كأنه جنس آخر. ولما كان هذا المعنى "في بادي الرأي" غريبًا في بابه, لا تقبله العقول لاستبعاد أن يخرج الشيء عن جنسه, أراد أن يؤيده بما لا نزاع فيه ليتبين إمكانه، فشبهه بشيء أقرته العقول, وآمنت به، وهو "المسك" فإنه خرج عن أصله، وتحول إلى جنس آخر لما فيه من معنى ليس في سائر الدماء

_ 1 "الحلوبة": الناقة ذات اللبن الغزير, والخافية: ريش في الطائر يختفي إذا ضم جناحيه، و"الأسحم": شديد السواد.

أي: وإذا جاز أن يفوق الشيء أصله لميزة فيه, فليس ببعيد أن يفوق الممدوح جنسه لما فيه من جليل الصفات. ومن هذا البيان يتبين أمران: أحدهما: أن قوله: "فإن المسك ... إلخ" لم يؤت به جوابًا للشرط في المصراع الأول, وإنما سيق مساق الدليل على هذا الجواب, وكأنه يقول: فإن تفق الأنام وأنت منهم فلا بدع ولا غرابة؛ لأن لك نظيرًا هو "المسك" فقد حذف الجواب, وهو قوله: "فلا بدع ولا غرابة" واستغنى عنه بهذا الدليل. ثانيهما: أن التشبيه في "البيت" ليس صريحًا، بل دل عليه الكلام ضمنًا، ذلك أن المعنى لهذا الكلام هو أنه لا بدع ولا عجب أن يخرج الممدوح عن بني جنسه لمعنى فيه ليس فيهم؛ لأن المسك بعض دم الغزال, وهو "مع ذلك" لا يعد من الدماء لما اختص به من معنى كريم ليس فيها. ومفهوم هذا أن حال الممدوح شببهة بحال المسك وبهذا التشبيه الضمني تبين أن المشبه أمر ممكن الوجود. ولتحقيق هذا الغرض ينبغي أن يكون المشبه به أعرف وأشهر بوجه الشبه من المشبه كالذي قبله. وليس بلازم هنا أن يكون المشبه به أتم من المشبه في وجه الشبه؛ لأن المطلوب فيه إثبات نظير المشبه ليفيد عدم استحالته. وهذا يكفي فيه مجرد وجود وجه الشبه به خارجًا, ولا يتوقف الغرض على أن يكون الوجه فيه أتم منه في المشبه. فإذا قلت لإنسان: إنك في خروجك عن جنسك كالمسك تم الغرض بمجرد العلم بخروج المسك عن جنسه وإن لم يكن المسك أتم منه في هذا الخروج, وإن كان الواقع أن المسك أتم خروجًا عن جنسه من الممدوح. الرابع: تقرير حال المشبه، وتمكينها في نفس السامع بإبرازها في صورة هي فيها أوضح وأقوى, وذلك فيما إذا كان المشبه به مما يدرك بالحس, إذ التمثيل

بالمحسوس يفيد زيادة قوة وتمكين, كما في قول الشاعر: إن القلوب إذا تنافر ودها ... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر شبه الشاعر القلوب المتنافرة بالزجاجة المتصدعة بجامع تعذر العودة إلى الحالة الأولى. ولما كان تنافر القلوب، وتعذر عودتها إلى التواصل كما كانت من الأمور المعقولة التي لا تطمئن إليها النفس أيما اطمئنان أراد أن يبرز هذا المعنى في شيء يرى بالعين لتسكن إليه النفس, وتؤمن به إيمانًا قويًّا. فشبه بالزجاجة إذا تصدعت, ومثل هذا التشبيه تجد فيه من تقرير الغرض، وتمكينه في الذهن ما لا تجده في غيره؛ لأن الجزم بالأمور الحسية أتم منه بالأمور العقلية وليس من شك في أن التئام الزجاجة بعد صدعها من الأمور المقطوع بتعذرها لتقررها في عالم الحس, ألا ترى لو وصفت يومًا بالطول فقلت: يوم كأطول ما يتوهم, أو كأنه لا آخر له أكنت تحس من الأنس والأريحية بمثل ما تجده في قول الشاعر: ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطكاك المزاهر1 وهل تراك لو وصفته بالقصر فقلت: هو كأقصر ما يتصور، أو كلمح البصر أكنت ترى فيه من تجسيم المعنى وتشخيصه ما تراه في قولهم: أيام كأباهيم القطا2, أو في قول الشاعر: ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب3 ذلك أن اطمئنان القلب إلى المحسوس أقوى وأتم "كما عرفت" لهذا يقول الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . وإن شئت المثل الأعلى لهذا النوع فعليك "بكتاب الله" في غير موضع

_ 1 المراد بدم الزق الخمر, وهو على تقدير مضاف أي: شرب دم الزق, والزق: وعاء الخمر, و"عنا" حال من دم الزق أي: حالة كونه صادرا عنا, والمزاهر جمع: مزهر بكسر الميم, وهو العود الموسيقي، واصطكاكها: ضرب بعضها ببعض. 2 الأباهيم: جمع إبهام بكسر الهمزة, وهو أكبر أصابع اليد والرجل, والقطا جمع: قطاة, وهي طائر سريع الحركة. 3 سالفة الذباب: مقدم أعناقه.

منه؛ قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} . إلى غير ذلك من إبراز المعاني المحجوبة عن العيان في معارض الحس والمشاهدة؛ ليكون ذلك أمكن في النفس؛ فيقوى إيمانها بالمعنى, واطمئنانها إليه. وهذا الغرض لا يتحقق إلا بالأمرين جميعًا: أن يكون المشبه به أعرف بوجه الشبه لدى المخاطب كما سبق, وأن يكون أتم وأقوى في وجه الشبه من المشبه؛ لأن النفس "كما قلنا" إلى الأتم الأقوى أميل منها إلى غيره. فإذا قلت مثلًا: إن القلوب المتنافرة يتعذر عودتها إلى التواصل, صح أن يتوهم إمكان عودتها إليه, فإذا مثلت هذا المعنى بالزجاجة المتصدعة التي لا يتوهم فيها مطلقًا أن تعود إلى الالتئام ثانيًا تمكن المعنى في النفس, وآمنت به إيمانها بالمعنى الممثل به. الخامس: تزيين المشبه للسامع أي: تصويره له بصورة جميلة بأن يلحق بمشبه به قد استقر في النفس حسنه وحبه؛ ليتخيله السامع كذلك فيرغب فيه, كما في قول الشاعر: سوداء واضحة الجبين ... كمقلة الظبي الغرير1 شبه الوجه الأسود بمقلة الظبي في حسن سوادها, واستدارته تزيينا له عند السامع, وكما في تشبيه صوت حسن بصوت داود, أو جلد ناعم بالحرير, أو نكهة فم بالعطر, أو نحو ذلك. السادس: تقبيح المشبه للسامع أي: تصويره بصورة قبيحة بأن يلحق بمشبه به تتقزز منه النفس؛ ليتخيله السامع كذلك فينفر منه, كما في قول الشاعر: وإذا أشار محدثًا فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم شبه الشاعر إنسانًا يشير في حديثه بقرد يضحك, أو عجوز تلطم خديها في بشاعة المنظر وقبحه؛ تشويها له في نظر السامع.

_ 1 "الغرير": الحسن الشكل.

وإذا كان المقصود تزيين المشبه أو تقبيحه بإلحاقه بمشبه به حسن أو قبيح, وجب لتحقيق هذين الغرضين أن يكون المشبه به أتم من المشبه في وجه الشبه. ولا شك أن في سواد مقلة الظبي من الحسن ما ليس في وجه أسود, وأن فيما نراه من قباحة القرد والعجوز المذكورين ما لا تجده في إنسان يشير محدثًا، مهما قبح منظره, وشاه خلقه. السابع: استطراف المشبه أي: جعله طريفًا بديعًا في خيال السامع, وذلك يكون بأمرين: الأول: أن يبرز في صورة ممتنعة الوجود عادة كما في تشبيه فحم سرت فيه النار ببحر من المسك, موجه الذهب. فإن صورة البحر المذكور عزيزة الوجود "كما ترى" فإذا أبرز المشبه المبتذل الذي لا يؤبه له لتفاهته "كالفحم المذكور" في صورة شيء نفيس ممتنع "كالصورة المذكورة للبحر" تخيله السامع طريفًا بديعًا. الثاني: أن يشبه بشيء يندر حضوره في الذهن عند حضور المشبه؛ لما بينهما من بعد المناسبة, كقول عدي بن الرقاع يصف قرن الغزال: تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها1 فصورة القلم عليه أثر المداد قلما تخطر بالبال عند تصور قرن الغزال, فقد أراد الشاعر عناقًا بين متباعدين، وتآلفًا بين مختلفين, ومن هنا جاء الاستطراف. ومثله ما تقدم لك في تشبيه أزهار البنفسج فوق سيقانها بالنار في أطراف الكبريت، حيث أراك شبها لنبات غض وأوراق رطبة بلهب نار في جسم استولى عليه اليبس, ومبنى للطباع على أن الشيء إذا ظهر في مكان لم يعهد ظهوره فيه كانت صبابة النفس به أكثر، وكان الشغف به والميل إليه أجدر. ولا يشترط لتحقيق هذا الغرض ما اشترط في غيره، من كون المشبه به أشهر وأتم في وجه الشبه من المشبه, بل كلما كان المشبه به أندر, وأخفى كان التشبيه لتأدية هذا الغرض أتم وأوفى.

_ 1 "تزجي": تسوق, و"الأغن": غزال في صوته غنة، و"روقه": قرنه, و"إبرة": طرف القرن, و"المداد": الحبر, و"الدواة": المحبرة.

الأغراض التي تعود على المشبه, وهي اثنان: الأول: إيهام المتكلم المخاطب أن المشبه أتم وأقوى في وجه الشبه من المشبه به، وذلك كما في التشبيه المقلوب أو المعكوس، وهو أن يجعل فيه الناقص مشبهًا به قصدًا إلى ادعاء أنه أكمل من المشبه به الأصلي مبالغة, كقول محمد بن وهيب يمدح المأمون الخليفة العباسي: وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح1 يريد الشاعر أن يشبه وجه الخليفة بغرة الصباح في الضياء والإشراق, جاعلًا وجه الخليفة مشبهًا به، وغرة الصباح مشبهًا, قاصدًا إيهام أن وجه الخليفة أتم وأكمل في الإشراق من غرة الصبح مبالغة. وإنما قيد الشاعر إشراق وجه الخليفة بوقت الامتداح؛ ليدل على أمرين: أحدهما: اتصاف الممدوح بحسن قبوله للمدح الدال على تقديره للمادح وتعظيمه له, ولو كان غير قابل للمدح لعبس في وجهه، وتجهم له. ثانيهما: اتصافه بالكرم, إذ الكريم هو الذي يتهلل وجهه، وتنبسط أساريره للمدح, ولو كان لئيمًا ضنينًا لقطب جبينه وأشاح بوجهه. ونظيره قول البحتري يصف بركة المتوكل: كأنها حين لجت في تدفقها ... يد الخليفة لما سال واديها فقد أراد البحتري أن يوهم أن يد الخليفة أقوى تدفقًا بالعطاء من البركة بالماء, فعكس التشبيه كما ترى. الثاني: بيان اهتمام المتكلم بالمشبه به، كأن يشبه الجائع وجه حبيبته بالرغيف في الاستدارة, والاستلذاذ به؛ ليدل بهذا التشبيه على اهتمامه بالرغيف، وأنه لشدة سغبه لا يغيب عن خاطره ويسمى هذا التشبيه "إظهار المطلوب" ولا بد في مثل هذا من قرينة تدل قصد المتكلم, والقرينة هنا عدوله عن تشبيه الوجه بما يناسبه إلى التشبيه بغير المناسب, كما في المثال المذكور.

_ 1 المراد بالغرة هنا الصباح, فالإضافة بيانية, وأصل الغرة بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم, وقد استعير للإشراق.

تقسيم التشبيه باعتبار الغرض

تقسيم التشبيه باعتبار الغرض: ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى قسمين: مقبول، ومردود، وهاكهما: فالمقبول: ما كان وافيًا بالغرض الذي سيق لأجله التشبيه. فإن كان الغرض بيان حال المشبه وجب أن يكون المشبه به معروفًا بوجه الشبه عند المخاطب من قبل؛ لئلا يؤدي إلى التشبيه بالمجهول. وإن كان الغرض بيان مقداره وجب أن يكون المشبه به على حد المشبه في وجه الشبه لا أقل ولا أكثر. وإن كان الغرض بيان إمكانه وجب أن يكون وجه الشبه مسلم الوقوع في المشبه به. وإن كان الغرض تقريره وجب أن يكون المشبه به أتم في وجه الشبه من المشبه. وإن كان الغرض تزيينه أو تقبيحه، وجب أن يكون المشبه به أتم في وجه الشبه من المشبه أيضًا. وإن كان الغرض استطرافه وجب أن يكون المشبه به غريبًا في بابه، أو بعيد التصور, وقد تقدمت أمثلة كل هذا، فلا داعي لإعادتها. والمردود: ما لم يكن وافيًا بالغرض المسوق له التشبيه. ففي بيان الحال: أن يكون المشبه به مجهول الصفة للمخاطب، كأن تشبه له ثوبًا في لونه بآخر لا يعرف لونه أصلًا. وفي بيان المقدار: أن يكون المشبه به أقل أو أكثر من المشبه في وجه الشبه, كأن تشبه له ثوبًا أبيض بآخر أقل أو أكثر منه بياضًا. وفي بيان الإمكان: أن يكون وجه الشبه غير مسلم الوجود في المشبه, كأن أشبه رجلًا فاق جنسه لميزة فيه بآخر جنسه كلك. وفي التقرير: ألا يكون المشبه به أتم في وجه الشبه من المشبه, كأن تشبه من لم يحصل من سعيه على فائدة بمن ينقش على حجر، أو بساعٍ آخر لم يحصل من سعيه على نتيجة.

وفي تزيينه أو تقبيحه: ألا يكون المشبه به أتم في وجه الشبه من المشبه, كأن تشبه وجهًا أسود بالفحم مريدًا تحسينه، أو أن تشبه إنسانًا يتكلم بحسناء تبتسم مريدًا تقبيحه. وفي الاستطراف: ألا يكون المشبه به غريبًا في بابه, أو بعيد التصور في الذهن, كأن تشبه فحما تتخلله نار بقطع من حديد في أثنائها لهب، أو أن تشبه أزهار البنفسج بما يماثلها من الأزهار, فليس المشبه به غريبًا في الأول ولا بعيد التصور في الثاني. تمرين: 1- ما هي أداة التشبيه؟ مثل لنوعين منها في جملتين من عندك, مبينًا أركان التشبيه فيهما. 2- اذكر الفرق بين "الكاف وكأن" ومثل لما تقول من إنشائك. 3- هل قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} الآية من قبيل ما ولي فيه الكاف المشبه فيه؟ ومن أي قبيل قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ} الآية, ونحو قولهم: محمد يماثل الأسد؟ وضح ما تقول وضوحًا تامًّا. 4- عرف كلا من التشبيه المرسل والمؤكد، مع بيان نوع التشبيه في قولهم: صوته مزمار داود، مع بيان علة التسمية في كليهما. 5- متى يكون التشبيه لبيان الإمكان؟ وبم يتحقق؟ مثل لما تقول. 6- بم يكون التشبيه مردودًا غير مقبول؟ بين ذلك في مثال من عندك. 7- بين أركان التشبيه في الأبيات الآتية: 1- والشمس بين الأرائك قد حكت ... سيفًا صقيلًا في يد رعشاء 2- كأن على قلبي قطاة تذكرت ... على ظمأ وردًا فهزت جناحها1 3- يجود بالوعد ولكنه ... يدهن من قارورة فارغة 4- من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام

_ 1 القطاة: طائر خفيف الحركة، والورد بكسر الواو: الإشراف على الماء.

5- وكأن الجو ميدان وغى ... رفعت فيه المذاكي رهجا1 6- ليس الحجاب بمقص عنك لي أملًا ... إن السماء ترجى حين تحتجب 7- جمال الوجه مع قبح النفوس ... كقنديل على قبر المجوسي 8- وإنما الحقد كمثل النار ... كامنة في باطن الأحجار 9- وما كمد الحساد شيئًا قصدته ... ولكنه من يزحم البحر يغرق 10- هو السيف إن لاينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان 8- بين طرفي التشبيه ووجهه ونوعه باعتبار الأداة، والغرض منه فيما يأتي: 1- الخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر 2- وصبغ شقائق النعمان يحكي ... يواقيتا نظمن على اقتران2 3- كأن سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويختفي أسود يتبسم 4- أنا الذهب الإبريز ما لي آفة ... سوى نقص تمييز المعاند في نقدي3 5- والنفس كالطفل إن تهمله شَبَّ على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم 6- بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي 7- كريشة في مهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق 8- وكأنما المريخ بين نجومه ... ياقوتة في لؤلؤ متبدد4 9- وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب

_ 1 "المذاكي": الخيل, و"الرهج" بفتح الراء والهاء: الغبار. 2 "الصبغ": اللون، و"شقائق النعمان": زهر أحمر يشوبه نقط سود, و"اليواقيت" جمع ياقوت: جوهر نفيس صلب شفاف مختلف الألوان مفرده ياقوتة، و"نظمن" بمعنى اجتمعن في سلك واحد، و"الاقتران" بمعنى المقارنة والمماثلة. 3 "الإبريز": الخالص, و"الآقة": العاهة. 4 المريخ: نجم، والمتبدد: المتفرق.

الجواب على السؤال السابع: تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق: بين أركان التشبيه فيما يأتي: وكأن دجلة إذ تلاطم موجه ... ملك يعظم خيفة ويبجل1 رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء لا يعيه طبيب كأنك من كل النفوس مركب ... فأنت إلى كل النفوس حبيب إذا الثريا اعترضت ... عند طلوع الفجر حسبتها لامعة ... سبيكة من ذهب2 وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرًا يكون كصالح الأعمال

_ 1 "دجلة" بفتح الدال وكسرها: نهر ببغداد. 2 "السبيكة": قطعة من الذهب المذاب.

والنقع ليل سماء لا نجوم له ... إلا الأسنة والهندية البتر1 ركبوا على سنن الوفا ودموعهم ... بحر وشدة شوقهم ملاح2 وإني جواد لم يحل لجامه ... ونصل يمان أغفلته الصياقل3

_ 1 "النقع": الغبار, و"الأسنة" جمع: سنان, وهو نصل الرمح, و"الهندية": السيوف, و"البتر" جمع: أبتر, وهو القاطع. 2 سنن الوفا: طريقه, وهو مقصور "وفاء", و"الملاح": متعهد النهر. 3 الجواد: الفرس تجود في سيرها أي: تسرع, و"يحل" من التحلية وهي الزخرفة, و"النصل": حد السيف, و"يمان": نسبة إلى اليمن أي: من صنع أهلها, و"الصياقل": هم الذين يجلون السيوف ويزيلون ما عليها من الصدأ.

تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق: بين أركان التشبيه ونوعه والغرض منه فيما يأتي: وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} ، {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} . هو كالفراشة. العلماء في الأرض كالكواكب في السماء. النحو في الكلام كالملح في الطعام. الحياة كسحابة الصيف. سكبت عيناي غيث الدموع. تزدحم الناس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزحام كأن المعلم بين التلاميذ ملك بين الرعية. المشتغل بما لا طائل تحته كالراقم على الهواء. نزل بساحتنا كأنه مطر الربيع. {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} . لئن أَكُ أسود, فالمسك لوني. ظهور العدل يمحو كل شر ... إذا جاء الصباح مضى الظلام كأنك قائم فيهم خطيبًا ... وكلهم قيام للصلاة عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... والجمر يوضع في الرماد فيخمد والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار والورد في أعلى الغصون كأنه ... ملك تحف به سراة جنوده وانظر لنرجسه الجني كأنه ... طرف تنبه بعد طول هجوده كأنما النهر صفحة كتبت ... أسطرها والنسيم منشئها هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله وحديقة غناء تنتظم الندى ... بفروعها كالدر في الأسلاك

فصل في بيان مراتب التشبيه

فصل في بيان مراتب التشبيه: التشبيه مراتب ثلاث، تتفاوت بحسبها قوة وضعفا، وهاك بيانها: فالأولى وهي عليا المراتب: ما ترك فيها ذكر الوجه والأداة جميعًا, كما نقول: محمد أسد, فهذا التشبيه يفيد من قوة المبالغة ما لا يفيد غيره. وجه ذلك: أنه مشتمل على معنى الاتحاد بين الطرفين من وجهين: 1- أن ترك الوجه يفيد بحسب الظاهر1 عموم جهة الإلحاق, أي: إن المشبه وهو "محمد" في المثال المذكور يماثل المشبه به وهو "الأسد" في جميع صفاته من القوة، والجرأة, والمهابة، والضخامة، وما إلى ذلك من أوصاف هذا الحيوان, إذ لا ترجيح لبعض الأوصاف على بعض عند ترك الوجه وهذا يقوي دعوى الاتحاد بين الطرفين، بخلاف ما لو ذكر الوجه لفظًا أو تقديرًا، فقيل: محمد أسد في الجرأة, أو محمد أسد على تقدير "في الجرأة", فإنه يفيد أن "محمدًا" يماثل الأسد في وصف الجرأة فقط، لا في سائر صفاته؛ فتضعف بذلك دعوى الاتحاد. 2- أن ترك الأداة يفيد بحسب الظاهر2 أيضًا: أن المشبه به في المثال المذكور محمول على المشبه، والحمل يقتضي اتحادهما معنى, أي: أن يكون المشبه هو بعينه المشبه به، وليس شيئًا سواه وإلا ما صح الحمل فيهما لامتناع حمل أحد المتباينين على الآخر, بخلاف ما لو ذكرت الأداة لفظًا أو تقديرًا فقيل: محمد كالأسد، أو محمد أسد, على تقدير الكاف, فإنه يفيد أن المشبه غير المشبه به، وهذا يضعف دعوى الاتحاد بينهما. فترك الوجه والأداة إذًا يفيد معنى اتحاد الطرفين من جهتين، كما بينا؛ لهذا كان التشبيه عند تركهما3 في المرتبة الأولى. والثانية وهي الوسطى: ما ترك فيها ذكر أحدهما -الوجه أو الأداة- كما تقول: محمد كالأسد، أو محمد أسد في الجرأة, وإنما كان التشبيه في هاتين الصورتين في المرتبة الوسطى لاشتماله على معنى اتحاد الطرفين من جهة واحدة أي: من جهة عموم الإلحاق كما في صورة ترك الوجه، أو من جهة

_ 1 إنما كانت إفادته العموم بحسب الظاهر؛ لأن الوجه في الحقيقة وصف خاص قصد اشتراك الطرفين فيه "كالجرأة" مثلًا كما سبق بيانه. 2 إنما كان الحمل ظاهرًا أيضًا؛ لأنه لا حمل في الحقيقة, وإنما هو تشبيه أحدهما بالآخر. 3 إنما عبرنا بالترك في جانب حذف الوجه والأداة؛ لأن معناه عدم الذكر لفظًا وتقديرًا, وهذا هو المراد؛ لأن مدار المبالغة على دعوى الاتحاد, وهي لا تجامع التقدير في نظم الكلام.

حمل أحد الطرفين على الآخر, كما في صورة ترك الأداة. والثالثة وهي المرتبة الأخيرة: ما ذكر فيها الوجه والأداة جميعًا "عكس الأولى" كما تقول: محمد كالأسد في الجرأة, وإنما كانت هذه المرتبة دنيا المراتب الثلاث؛ لخلو التشبيه فيها عن دعوى الاتحاد التي هي مدار المبالغة فيه. تنبيهان: الأول: أن وصف التشبيه بالعلو، والتوسط، والانحطاط فرع من تحققه, وهو إنما يتحقق بالطرفين: المشبه والمشبه به، فلا بد إذًا من ذكرهما. أما المشبه به؛ فلأنه الأصل المقيس عليه, وأما المشبه فلأنه المقيس, غير أنه يجوز حذف المشبه لفظًا فقط إذا دلت عليه قرينة, كأن يكون بينك وبين مخاطبك مذاكرة في شأن "محمد" مثلًا، فتقول له: ما حال محمد؟ فيقول لك: "أسد" على تقدير "محمد أسد", فتحذف المشبه لدلالة الكلام السابق عليه, لكن لا بد من تقديره في نظم الكلام، وإلا كان استعارة لا تشبيهًا. الثاني: إن إطلاق وصف البليغ على التشبيه الذي حذفت منه الأداة طريقة لبعضهم، وذهب آخرون إلى أن التشبيه البليغ هو ما كان بعيدًا غريبًا, ذكرت الأداة فيه أو لم تذكر كما سبق في تشبيه الهيئات المنتزعة من أمور متعددة لما هو مركوز في الطباع من أن الشيء الذي ينال بعد مشقة, وعناء يكون وقعه في النفس أحلى وألطف، والنفس به أضن وأشغف, حتى قال بعض الأدباء: ما أشبه هذا الضرب من التشبيه بالجوهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، أو بالحبيب المتحجب لا يريك وجهه حتى تستأذن، وقديمًا قال الشاعر العربي: وزاده كلفًا في الحب أن منعت ... وحب شيء إلى الإنسان ما منعا

خاتمة

خاتمة: تقدم: أن المشبه به ينبغي أن يكون أعرف بوجه الشبه من المشبه، أو أتم وأقوى منه فيه حقيقة, إذا عاد الغرض على المشبه، أو ادعاء إذا عاد على المشبه به كما سبق تفصيله. ومتى كان الأمر كذلك جيء بصيغة التشبيه المعروفة؛ إشعارًا بهذا التفاوت, ودلالة على أن أحدهما ناقص. والآخر كامل كما تقول: هذا الشيء كهذا الشيء، أو مثله، أو شبهه، أو يحاكيه، أو يماثله، أو كأنه هو، أو غير ذلك من أنواع صيغة التشبيه الدالة وضعًا على أن بين الشيئين تفاوتًا. فإذا أريد مجرد الجمع بين الشيئين في أمر من غير قصد إلى تمييز أحدهما -سواء وجد تفاوت بينهما أو لا- فالأفضل العدول عن صيغ التشبيه المذكورة إلى التعبير بصيغة التشابه أو ما يماثلها؛ احترازًا عن ترجيح أحد المتساويين الذي هو غير مقصود, كما تقول: تشابه محمد والأسد, وتماثل وجهه والبدر، وتحاكى نواله والغيث, ونحو ذلك من كل فعل لا مفعول له؛ للإشعار بأن ليس بين الطرفين تفاوت. ومنه قول إسحاق الصابي1: تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب فوالله ما أدري: أبالخمر أسبلت ... دموعي أم من عبرتي كنت أشرب2 خيل للشاعر من شدة ما يعانيه من ألم الجوى، أنه يبكي بدل الدمع دمًا، فشبه دمعه الهاطل على خده بما في كأسه من خمر في الحمرة, غير أنه بالغ في التشبيه فزعم: أن الدمع والخمر تساويا في وجه الشبه، بحيث لا يفضل أحدهما الآخر فيه، حتى أشكل عليه الأمر, فلم يعرف أكان يشرب من دمعه، أو من خمره؛ لهذا عدل عن التعبير بصيغة التشبيه الدالة على التفاوت إلى صيغة التشابه المفيدة لمعنى التساوي الذي أراده. ونظير قول الصابي قول الصاحب: رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر3 ويجوز في هذه الحالة أيضًا الإتيان بصيغة التشبيه رغم ادعاء التساوي بين الطرفين لغرض ما, كأن يكون أحدهما موضع حديث المتكلم، أو محل اهتمامه،

_ 1 هو إبراهيم الصابي اليهودي, كان يحفظ القرآن جيدًا, ولم يشرح الله صدره بالإسلام كما هداه لمحاسن الكلام. 2 المدامة: الخمر، وأسبلت العين: هطلت وسالت، والعبرة بفتح العين: الدمع وهو المراد، وبالكسر بمعنى الاعتبار. 3 "كأن" هنا للشك لا للتشبيه, وذلك أمارة التساوي، والقدح: الكأس.

فيجريه على لسانه أولًا، ويجعله حينئذ مشبهًا, فإذا كان يتحدث مثلًا عن الليل يتألق فيه بياض الصبح، صح أن يشبه ذلك بجواد أدهم ذي غرة, كما في قول الشاعر العربي: والصبح في طرة ليل مسفر ... كأنه غرة مهر أشقر1 وإذا شغف بحب فرسه الدهماء، ذات الغرة البيضاء, جاز أن يشبه ذلك بظلمة الليل ينشق عن وجه الصباح, كقول الشاعر: وجهه صبح ولكن ... سائر الجسم ظلام فالشاعر في كلا الحالين إنما يرمي إلى ما في الطرفين من مجرد ظهور بياض في سواد أكثر منه، من غير قصد إلى قوة أو ضعف. غير أن الأفضل "كما قلنا" هو التعبير بصيغة التشابه؛ لأنها أدل على المراد وأصرح في معنى التساوي بين الطرفين.

_ 1 طرة كل شيء: طرفه, يريد آخر الليل، والأشقر من الخيل: الأحمر المشوب بسواد.

الاختلاف في صيغة التشبيه

الاختلاف في صيغة التشبيه: اختلف الرأي في صيغة التشبيه: أهي من قبيل الحقيقة، أم من قبيل المجاز؟ فالرأي الأول -وهو الراجح- أنها من قبيل الحقيقة؛ ذلك أن كلا من المشبه والمشبه به مستعمل في معناه الذي وضع له, "فمحمد" في نحو: "محمد كالبدر" مستعمل في الذات المعروفة, كما أن "البدر" مستعمل في الجرم المعروف. وقيل: هي من قبيل المجاز؛ لأن المعنى المراد من قولنا: محمد كالبدر, أنه تناهى في الحسن حتى بلغ مستوى البدر فيه، وهذا المعنى غير ما وضع له التركيب؛ إذ إن معناه المفهوم منه وضعًا: أن "محمدًا" قريب في الحسن من البدر، ولم يبلغ فيه مبلغه.

مبحث الحقيقة والمجاز

مبحث الحقيقة والمجاز مدخل ... المبحث الرابع: في الحقيقة والمجاز تقدم أن قلنا: إن اللفظ المستعمل نوعان: 1- نوع لا يتصرف فيه عند الاستعمال أي تصرف، بل يبقى على أصل وضعه, ويسمى عندهم حقيقة 2- نوع يتصرف فيه عند الاستعمال، ويسمى عندهم "مجازا". والحقيقة إما أن تكون في إسناد اللفظ إلى غيره، وإما أن تكون في ذات؛ فإن كانت الحقيقة في الإسناد بأن أسند اللفظ إلى ما حقه أن يسند إليه سميت "حقيقة عقلية"1 كإسناد الإنضاج إلى الله في قولك: "أنضج الله الثمر" أو إلى ضميره في نحو: "إن الله منضج الثمر" فلفظ "أنضج" أو "منضج" لم يتصرف فيه بشيء, بل أسند إلى ما حقه أن يسند إليه، وهو الله تعالى في الأول، وضميره في الثاني. وإذًا تكون: الحقيقة العقلية: هي إسناد الفعل, أو ما يدل على معنى الفعل إلى شيء بني الفعل, أو ما يدل على معناه له2 في اعتقاد المتكلم فيما يفهم من ظاهر حاله. والمراد بالشيء: خصوص الفاعل أو نائب الفاعل, ظاهرًا كان أو ضميرًا. فمثال إسناد الفعل إلى الفاعل ما تقدم من قولك: أنضج الله الثمر, فقد أسند الفعل وهو "أنضج" مبنيا للمعلوم إلى شيء هو "الله تعالى" والفعل على هذه الصورة مبني وموضوع لأن يسند إلى الله تعالى في اعتقاد المتكلم في ظاهر حاله, إذ ظاهر من حاله أنه مؤمن، يسند الأشياء إلى الله سبحانه لأنه لم ينصب قرينه على أنه غير مؤمن، يضيف الأشياء إلى غير الله. ومثال إسناد الفعل إلى نائب الفاعل قولك: "أنضج الثمر" بالبناء للمجهول, فقد أسند الفعل وهو "أنضج" مبنيًّا للمجهول إلى شيء هو "الثمر" والفعل على هذه الصورة مبني لأن يسند إلى "الثمر"؛ لأنه المفعول الواقع عليه الإنضاج. ومثال إسناد ما يدل على معنى الفعل قولك: جاء النابه ذكره، المحمود طبعه، الجميل صنعه "فالنابه" اسم فاعل مسند إلى "ذكره" و"المحمود" اسم مفعول مسند إلى "طبعه" و"الجميل" صفة مشبهة مسندة إلى "صنعه" وكلها دالة على معنى للفعل، ومسندة إلى ما حقها أن تسند إليه.

_ 1 إنما سميت كذلك؛ لأن إسناد الشيء إلى غيره حكم عقلي. 2 المراد بالفعل: ما اصطلح عليه النحاة, وهو ما دل على حدث مقرون بأحد الأزمنة الثلاثة، والمراد بما يدل على معناه: المصدر وسائر المشتقات كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وأفعل التفضيل، وغير ذلك.

أقسام الحقيقة العقلية

أقسام الحقيقة العقلية: تنقسم الحقيقة العقلية إلى أربعة أقسام: الأول: ما طابق الواقع والاعتقاد, كقول المؤمن: "أنبت الله الزرع" إذا كان المخاطب يعلم أن المتكلم مؤمن، ينسب الآثار كلها لله، أو كان يجهل حاله, إذ المفهوم من ظاهر حال المتكلم أنه مؤمن، وأن الإسناد إلى ما بني الفعل له في يقينه واعتقاده. الثاني: ما طابق في الواقع فقط, كقول الكافر وهو يخفي حاله عن المخاطب: "شفى الله المريض" فالظاهر من حال المتكلم أنه مؤمن يعتقد ما يقوله, إذ إنه لم ينصب قرينة على أنه كافر، بل ستر حاله وأخفاها. الثالث: ما طابق الاعتقاد فقط, كقول الكافر: "أنبت الغيث الشجر" إذا كان المخاطب يعلم أن المتكلم كافر، يضيف الإنبات إلى الغيث، أو كان يجهل حاله, إذ المفهوم من ظاهر حاله حينئذ أنه كافر يعتقد ما يقول، وأن الإسناد إلى ما بني الفعل له في اعتقاده. الرابع: ما لم يطابق الواقع، ولا الاعتقاد, كقولك كذبًا: "زارني محمد" وأنت وحدك، دون المخاطب تعلم أنه لم يزرك, فالمفهوم من ظاهر حالك حينئذ أنك صادق فيما تقول، وأن الإسناد إلى ما بني الفعل له في اعتقادك. فكل هذه الأقسام الأربعة من قبيل الحقيقة العقلية؛ لأن الفعل أسند في جميعها إلى ما حقه أن يسند إليه عند المتكلم في ظاهر حاله. وإن كانت الحقيقة في ذات اللفظ سميت "حقيقة لغوية" نسبة إلى اللغة, كلفظ "أسد" المستعمل في الحيوان المفترس في قولك: "رأيت أسدًا في غابة" فلفظ "أسد" لم يتصرف فيه بشيء, بل استعمل في معناه الأصلي. وإذًا تكون الحقيقة اللغوية: هي الكلمة المستعملة في المعنى الذي وضعت له1, وهي تسمى بأسماء

_ 1 الوضع: تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه, لا بقرينة تنضم إليه ليخرج المجاز, فإن دلالة اللفظ فيه بواسطة القرينة، ودخل المشترك لأنه معين للدلالة على كل من معنييه أو معانيه بنفسه، فالعين وضعت تارة للدلالة على الجارية وأخرى للدلالة على الباصرة وهكذا, وعدم فهم إرادة أحد معنييه أو معانيه الوضعية لعارض الاشتراك لا ينافي ذلك.

تختلف باختلاف الواضع. فإن كان الواضع من أرباب اللغة الفصحاء, سميت "حقيقة لغوية" فقط, كلفظ "الأسد" المستعمل في المعنى الذي وضعه له أهل اللغة "وهو الحيوان المفترس". وإن كان الواضع من أهل الشرع, سميت "حقيقة لغوية شرعية" كلفظ "الصلاة" المستعمل في المعنى الذي وضعه له أهل اللغة الشرعيون "وهو الأفعال والأقوال الخاصة". وإن كان الواضع طائفة خاصة "كالنحاة" مثلًا, سميت "حقيقة لغوية اصطلاحية, أو عرفية خاصة" كالفاعل المستعمل في المعنى الذي وضعه له علماء اللغة النحاة, وهو الاسم المرفوع بعد فعل مبني للمعلوم أو شبهه. وإن كان الواضع غير طائفة بعينها, سميت "حقيقة لغوية عرفية عامة" كلفظ "دابة" المستعمل في المعنى الذي تواضع عليه الناس وتعارفوه, وهو ذات الأربع من الدواب كالحمار, والفرس. تمرين: 1- عرف الحقيقة العقلية، واذكر لها مثالين من عندك؛ أحدهما لإسناد الفعل، والآخر لإسناد ما هو بمعناه, وبين هل إسناد "منبت" إلى "الله" في قول المؤمن: الله منبت الزرع, من قبيل الحقيقة العقلية؟ وَجِّه ما تقول. 2- اذكر أقسام الحقيقة العقلية, ومثل لكل قسم مع الإيضاح التام. 3- بين ما طابق الواقع والاعتقاد، وما طابق أحدهما، وما لم يطابق واحدًا منهما فيما يأتي: 1- قال كافر: قوس ظهري الزمان، وشيبتني الهموم والأحزان، لمن يعلم أنه كافر أو لمن يجهل حاله. 2- قال مؤمن: أذوى الله الزهر, لمن يعلم أنه مؤمن، أو لمن يجهل حاله. 3- قال كافر: أشاب الله لمتي، لمن يخفى عنه حاله.

4- قال رجل وهو يكذب: لقيني أخوك اليوم, لمن لا يعلم أنه كاذب. 5- بين فيما يأتي نوع الحقيقة: 1- "الزكاة" لمقدار من المال يعطى للفقير. 2- "المفعول" لاسم منصوب بعد فعل. 3- "الطائر" لذي المنقار من ذوات الجناح. 4- الدابة لكل ما يدبّ على وجه الأرض. 5- "الفاعل" لمن وقع منه الفعل. 6- "الخبر" الركن الثاني من الإسناد الخبري. والمجاز: إما أن يكون في إسناد اللفظ إلى غيره، وإما أن يكون في ذات اللفظ؛ فإن كان المجاز في الإسناد بأن أسند اللفظ إلى غير ما حقه أن يسند إليه سمي مجازًا عقليًّا1 أو "إسنادًا مجازيًّا" كإسناد "أنضج" في المثال المتقدم إلى "الربيع" في قول المؤمن لمخاطب يعلم إيمانه: أنضج الربيع الثمر, والأصل: أنضج الله الثمر وقت الربيع "فالله" هو المسند إليه الحقيقي "لأنضج" وقد تصرف في "أنضج" بإسناده إلى غير ما حقه أن يسند إليه وهو "الربيع" فالربيع إذًا مسند إليه مجازي. ومثل الفعل في ذلك الوصف في نحو قولك: "الربيع منضج2 الثمر, ولا بد لذلك من علاقة بين المسند إليه الحقيقي والمجازي، كما لا بد من قرينة دالة على التجوز كما سيأتي بيانه. وإذًا يكون:

_ 1 سمي بذلك؛ لأن التصرف واقع في الإسناد, وهو أمر عقلي. 2 أي: يإسناده إلى ضمير الربيع.

المجاز العقلي

المجاز العقلي: إسناد الفعل, أو ما يدل على معنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه لعلاقة، مع قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له أي: على حقيقته. وذلك كإسناد الفعل المبني للفاعل إلى المفعول في قولك: رضيت عيشته, فقولك: "رضيت" فعل مبني للفاعل وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو صاحب العيشة، فيقال مثلًا: رضي محمد عيشته, لكنه أسند إلى المفعول الذي هو "العيشة" إسنادًا مجازيًّا؛ للمشابهة بين "العيشة" و"محمد" في تعلق الفعل بهما. فتعلقه "بمحمد" من حيث صدوره منه، وتعلقه "بالعيشة" من حيث وقوعه عليها "فالعيشة" حينئذ مسند إليه مجازي. ومنه قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} فقد أسند فيه اسم الفاعل إلى ضمير "العيشة" إسنادا مجازيا, من إسناد ما هو بمعنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه. وكإسناد الفعل المبني للمجهول إلى الفاعل في قولك: "غمر السيل" فقولك: "غمر" فعل مبني للمجهول، وكان حقه أن يسند إلى المفعول الحقيقي الذي هو "الوادي" فيقال: غمر الوادي, لكنه أسند إلى الفاعل الذي هو "السيل" إسنادًا مجازيًّا للمشابهة بين "السيل والوادي" في تعلق الفعل بهما، أما تعلقه "بالوادي" فمن حيث وقوعه عليه، وأما تعلقه "بالسيل" فمن حيث صدوره منه، فالسيل حينئذ مسند إليه مجازي. ومنه قولهم: "سيل مفعم" بفتح العين, بالبناء للمجهول بمعنى "مغمور" فقد أسند فيه اسم المفعول إلى ضمير "السيل" إسنادًا مجازيًّا من إسناد ما هو بمعنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه. وكإسناد الفعل إلى المصدر في قولك: "جد جده" وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو "الإنسان" فيقال: جد الإنسان جدا, لكنه أسند إلى المصدر إسنادًا مجازيًّا للمشابهة بين المصدر والفاعل الحقيقي في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالمصدر من حيث إنه جزء مفهومه، وتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه، فالمصدر إذًا مسند إليه مجازي. وكإسناد الفعل إلى ظرف الزمان في قولك: "صام نهاره" برفع "نهاره" على الفاعلية، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي، فيقال: صام محمد في نهاره, لكنه أسند إلى الطرف الذي هو "النهار" إسنادًا مجازيًّا؛ للمشابهة بين "محمد والظرف" في تعلق الفعل بهما، فتعلقه "بمحمد" من حيث صدوره منه وتعلقه "بالنهار" من حيث وقوعه فيه. فالظرف حينئذ مسند إليه مجازي, ومنه قولهم: نهاره صائم، وليله قائم فقد أسند فيهما اسم الفاعل إلى ضمير الظرف وهو "النهار" في المثال الأول

و"الليل" في المثال الثاني إسنادًا مجازيًّا, من إسناد ما هو بمعنى الفاعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه. وكإسناد الفعل إلى ظرف المكان في قولك: جرى النهر برفع "النهر" على الفاعلية، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو "الماء" فيقال: جرى الماء في النهر, لكنه أسند إلى الظرف الذي هو "النهر" أي: مجرى الماء إسنادًا مجازيًّا للمشابهة بين "النهر والماء" في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالماء من حيث صدوره منه، وتعلقه بالنهر من حيث وقوعه فيه, فالظرف حينئذ مسند إليه مجازي. ومنه قولهم: نهر جارٍ, فقد أسند فيه اسم الفاعل إلى ضمير الظرف وهو "النهر" إسنادًا مجازيًّا من إسناد ما هو بمعنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه. وكإسناد الفعل إلى السبب في قولك: "بنى الأمير القصر" وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو "العملة" إذ هم البانون حقيقة، فيقال: بنى العملة القصر بأمر الأمير, لكنه أسند إلى السبب الباعث الذي هو "الأمير" إسنادًا مجازيًّا للمشابهة بين "الأمير والعملة" في تعلق الفعل بهما, فتعلقه "بالأمير" من حيث إنه سبب في البناء, وتعلقه "بالعملة" من حيث صدوره منهم, فالأمير إذًا مسند إليه مجازي، ومنه قوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} فقد أسند فيه الفعل إلى ضمير {هَامَانُ} إسنادًا مجازيًّا من إسناد الفعل إلى السبب وهكذا. ومما تقدم تعلم أن: علاقة المجاز العقلي: هي مشابهة المسند إليه المجازي للمسند إليه الحقيقي في تعلق الفعل بكل منهما, وإن اختلفت جهة التعلق كما عرفت مما سردناه عليك من الأمثلة. وقرينة المجاز العقلي: هي الأمر الصارف عن أن يكون الإسناد على حقيقته؛ لأن المتبادر إلى الفهم عند انتفاء القرينة هو الحقيقة, بمعنى أن ظاهر الكلام بغض النظر عن القرينة يفيد أن الفعل, أو ما في معناه مسند إلى ما حقه أن يسند إليه.

والقرينة نوعان: لفظية، ومعنوية: فاللفظية: هي لفظ يذكر في الكلام يصرفه عن حقيقته، وبدل على التجوز في الإسناد كما تقول: "هزم الأمير خصمه وهو في قصره" فهو "كما ترى" إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه؛ لأن الأمير لم يفعل شيئًا, والذي سوغ إسناد الهزيمة إليه أنه سبب فيها, والقرينة الدالة على هذا التجوز قولك: "وهو في قصره" إذ دل على أن الهازم غير الأمير. والمعنوية: شيء خارج عن اللفظ، يصرف الكلام عن حقيقته، ويدل على التجوز في الإسناد، وذلك أحد أمرين: الأول: أن يكون قيام المسند بالمسند إليه مستحيلًا عقلًا، أو عادة. فمثال المستحيل عقلًا قولهم: "محبتك جاءت بي إليك" فإسناد المجيء إلى ضمير المحبة مجاز عقلي أسند فيه الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه، والذي سوغ هذا الإسناد أن المحبة سبب في المجيء, وقرينة المجاز استحالة قيام المجيء بالمحبة عقلًا. والمراد بالمستحيل عقلًا: ما كان مستحيلًا بالضرورة، وهو ما لو خلا العقل ونفسه لعده محالًا على البديهة كما في المثال المذكور. ومثله قولك: أقدمني بلدك, حق لي عليك. فالقرينة على التجوز في الإسناد استحالة قيام الإقدام بالحق عقلًا. ومثال المستحيل عادة قولهم: هزم القائد الجيش, فإسناد هزيمة الجيش إلى القائد مجاز عقلي, قرينته استحالة أن يهزم القائد الجيش وحده في العادة، وإن أمكن ذلك عقلًا. الثاني: أن يكون الكلام صادرًا عن الموحد كأن يقول المؤمن: قوست ظهري أحداث الزمان، وأشابت رأسي نوائبه، فهذان الإسنادان من قبيل المجاز العقلي, أسند فيهما الفعلان إلى غير ما حقهما أن يسندا إليه بناء على أن أحداث الزمان ونوائبه سبب في التقويس والإشابة، وقرينة التجوز فيهما صدور هذا القول من مؤمن يرى أن الله تعالى مصدر الأفعال كلها. وليس هذا مما استحالته عقلية حتى يكون داخلًا في الأمر الأول؛ إذ لم يجمع ذوو العقول على استحالة مثل هذا بدليل أن كثيرًا من العلماء ذهبوا إليه, وقالوا به, واحتجنا في الرد عليهم إلى الدليل. فالقرينة في هذين الأمرين معنوية؛ إذ لم يكن في الكلام لفظ صريح يدل على التجوز في الإسناد. وإن كان المجاز في ذات اللفظ بأن نقل من معناه الموضوع له إلى معنى آخر, فإما أن يكون هذا اللفظ مفردًا, أو مركبًا.

المجاز المفرد

المجاز المفرد: هو الكلمة المستعملة في غير المعنى الذي وضعت له العلاقة بين المعنى الأول, والثاني مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأول1. والعلاقة فيه: هي المناسبة2 بين المعنى الموضوع له باللفظ، والمعنى المقصود. وقرينته: هي الأمر الذي يجعله المتكلم دليلًا على أنه أراد باللفظ غير المعنى الموضوع له، مثال ذلك لفظ "الأسد" المستعمل في الرجل الجريء في قولك: رأيت أسدًا على فرس, وكلفظ "النبات" المستعمل في الماء في قولك: أمطرت السماء نباتًا, فكل من لفظي "الأسد والنبات" مجاز مفرد؛ لأنه كلمة مستعملة في غير المعنى الموضوع له, والعلاقة بين المعنيين "في الأول" مشابهة الرجل للأسد في الجرأة، "وفي الثاني" سببية الماء للنبات, والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي قولك في المثال الأول: "على فرس" إذ ليس ذلك من شأن الحيوان المفترس، والقرينة في الثاني قولك: "أمطرت" إذ إن النبات لا يمطر. تقسيم المجاز المفرد: ينقسم المجاز المفرد باعتبار العلاقة إلى قسمين: استعارة، ومجاز مرسل, ولكل منهما مبحث خاص سيأتي فيما بعد. فإن كانت العلاقة بين المعنيين المشابهة سمي اللفظ "استعارة" كما في لفظ "الأسد" المستعار للجريء في المثال الأول, وإن كانت العلاقة بينهما غير المشابهة سمي اللفظ "مجازًا مرسلًا" كما في لفظ "النبات" المستعمل في "الماء" في المثال الثاني، وإليك بيان القسم الأول.

_ 1 بقيد "المستعملة" تخرج الكلمة قبل الاستعمال, فلا توصف بحقيقة ولا مجاز, وبقيد "في غير ما وضعت له" تخرج الحقيقة، وبقيد "العلاقة" يخرج الغلط اللساني كقولك: "هذا أسد" مشيرا إلى حجر؛ إذ لا علاقة بين الأسد والحجر, وبقيد "مانعة" تخرج الكناية, فإن قرينتها غير مانعة كما سيأتي. وهذا التعريف بالمعنى الاسمي هو المشهور، وقد تطلق على فعل المتكلم، فيقال: هي استعمال الكلمة ... إلخ. 2 تكون بالمشابهة بين المعنيين كما في الاستعارة، وبغيرها كما في المجاز المرسل على ما سيأتي.

الاستعارة

الاستعارة مدخل ... الاستعارة: هي الكلمة المستعملة في غير المعنى الذي وضعت له لعلاقة المشابهة, مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له كقولك: رأيت قمرًا يتكلم. وطريقة إجرائها: أن يقال في هذا المثال وأشباهه: شبه الوجه الصبوح بالقمر في الإشراق ثم تنوسي التشبيه، وادعى أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، وداخل في جنسه، ثم استعير لفظ المشبه به وهو "القمر" للمشبه وأطلق عليه كأنه موضوع له, باعتباره أحد أفراد القمر. وهكذا يقال في كل استعارة، أي: في كل كلمة استعملت في غير ما وضعت له لعلاقة المشابهة. أركانها: هي كما يؤخذ من التعريف ثلاثة: "المستعار منه" وهو ذات المشبه به، و"المستعار له" وهو "ذات المشبه" و"المستعار" وهو اللفظ الموضوع في الأصل للمشبه به. فإذا قيل: "رأيت أسدًا يرمي" فقد شبه الرجل الجريء بالأسد -على ما سبق- ثم استعير اسم المشبه به للمشبه. فالمعنى المشبه به وهو "الحيوان المفترس" مستعار منه؛ لأن اللفظ الموضوع له وهو "أسد" أخذ منه وأعطي لغيره، فهو كالإنسان يستعار منه ثوبه لغيره, والمعنى المشبه وهو "ذات الرجل الجريء" مستعار له؛ لأن اللفظ الذي لغيره أعطي له فهو كالإنسان يستعار له الثوب من صاحبه, ولفظ "أسد" مستعار؛ لأنه أتي به من صاحبه، واستعير لغيره كاللباس المستعار من صاحبه للابسه, وثلاثتها هي أركان الاستعارة، والدعائم التي تقوم عليها1.

_ 1 من هذا البيان يعلم أن التشبيه إنما يكون في المعاني, وأما الاستعارة ففي الألفاظ.

ما لابد منه لتحقيقها

ما لا بد منه لتحقيقها: يتبين مما تقدم في طريقة إجرائها أن لا بد لتحقيقها من أمور أربعة: 1- أن يتناسى التشبيه، ويجعل كأن لم يكن، ويدعى حينئذ أن المشبه فرد من أفراد المشبه به1 مبالغة في اتصاف المشبه بوجه الشبه, غير أن التشبيه الذي يجب تناسيه فيها هو الذي بنيت عليه الاستعارة, وإذًا فلا مانع من أن تقول: "رأيت أسدًا يتكلم مثل الفيل في الضخامة" فالذي بنيت عليه الاستعارة هو تشبيه الرجل بالأسد في الجرأة, وهذا هو الذي يجب تناسيه فيها, فتشبيهه بعد ذلك بالفيل لا يضر بالاستعارة لعدم بنائها عليه. 2- ألا يذكر وجه الشبه، ولا أداته لا لفظًا ولا تقديرًا, فإن ذكرا، أو ذكر أحدهما كان الكلام تشبيهًا، لا استعارة كما تقول: محمد كأبي العلاء في شعره، أو محمد كأبي العلاء، أو محمد أبو العلاء في شعره. 3- ألا يجمع فيها بين الطرفين أصلًا، أو يجمع بينهما على وجه لا يدل على التشبيه. فمثال الأول قولك: لقيت بحرًا يعظ الناس، وقولك: أظفار المنية نشبت بفلان, ففي الأول: شبه الواعظ بالبحر في الإفاضة، ثم استُعير لفظ المشبه به للمشبه فالمذكور هو لفظ المشبه به فقط، وهو لفظ بحر، وفي الثاني: شبهت المنية بالأسد في الاغتيال، ثم استعير تقديرًا لفظ "الأسد" للمنية, ثم حذف ورمز له بشيء من لوازمه وهو "الأظفار" على ما سيأتي, فالمذكور هو لفظ المشبه لا غير وهو "المنية". ومثال الثاني وهو ما جمع فيه بين الطرفين على وجه لا ينبئ عن التشبيه, قول الشاعر: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر2 فلفظ "القمر" في الشطر الثاني من البيت استعارة؛ لأنه منقول من معناه الأصلي إلى "الإنسان الجميل" وقد جمع فيها بين الطرفين؛ المشبه وهو الضمير في "أزراره" والمشبه به وهو "القمر" ولكن على وجه لا يدل على التشبيه؛ لأن سياق الكلام إنما

_ 1 ويقدر أن "الأسد في المثال السابق" موضوع لفردين, أحدهما متعارف وهو الحيوان المفترس، والآخر غير متعارف وهو الرجل الجريء. 2 البلى من بلي الثوب, إذا فسد. والغلالة بكسر الغين: ثوب قصير ضيق الكمين كالقميص.

هو لإثبات فعل واقع على القمر لا لإثبات التشبيه؛ إذ هو مكنون في النفس، لا يدرك إلا بتأمل ونظر. فإذا جمع بين الطرفين على وجه ينبئ عن التشبيه، ويدل عليه بألا يصح المعنى إلا بمراعاة التشبيه, كان الكلام تشبيهًا لا استعارة وذلك إذا كان المشبه به خبرًا عن المشبه، أو في حكم الخبر عنه كأن يقع حالًا منه، أو صفة له. فمثال ما إذا كان خبرًا قولك: "خالد بن الوليد أسد" فقد جمع فيه بين الطرفين على وجه ينبئ عن التشبيه؛ لأن سياق الكلام "ظاهرًا" إنما هو لإثبات معنى "الأسد" لخالد، وهو يمتنع عن الحقيقة، فيحمل على أنه لإثبات شبه معنى الأسد لخالد، فيكون الإتيان "بالأسد" لإثبات هذا الشبه, ولأن حمل الأسد على "خالد" يقتضي اتحاد المحمول والمحمول عليه في المعنى ليصح الحمل, واتحادهما ممتنع لتباين المفهومين, فتعين الحمل على التشبيه بتقدير أداته فهلذين السببين كان جديرًا أن يسمى تشبيهًا، لا استعارة. ومثال ما في حكم الخبر قولك: كَرَّ خالد على الأعداء أسدًا، ومررت برجل أسد, جمع فيهما بين الطرفين على وجه يدل على التشبيه للسببين المتقدمين, فكان الكلام فيهما تشبيهًا. 4- أن يكون المشبه به كليًّا حقيقة، أو تأويلًا، حتى يتأتى ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، واعتباره فردًا من أفراده. فالكلي الحقيقي كاسم الجنس في مثل "الأسد" فإن معناه كلي، يصدق على كثيرين, فيصح حينئذ جعله استعارة للرجل الجريء، باعتباره داخلا في جنس الأسد ادعاء، وفردًا من أفراده. والكلي التأويلي كعلم الشخص الذي اشتهر بوصف, بحيث إذا أطلق ذلك العلم فهم منه ذلك الوصف, وصار العلم كأنه موضوع للذات المستلزمة لذلك الوصف "كحاتم" علمًا على الطائي المعروف1, فإنه اشتهر بالجود وذاع صيته فيه حتى صار إذا أطلق لفظ "حاتم" فهم منه

_ 1 هو عبد الله بن سعد, المضروب به المثل في السماحة والسخاء.

فإذا شبه شخص بحاتم في الجود, وأريد استعارته وجب أن يتأول في حاتم، فيجعل كأنه موضوع لذي الجود وهو "كما ترى" معنى كلي، فيصح حينئذ فردًا من أفراد "حاتم" ادعاء، فيقال مثلًا: رأيت اليوم "حاتمًا" ويراد محمد الكريم. وهكذا كل علم شخص اشتهر بنوع من الوصف صح جعله استعارة بهذا التأويل المتقدم كـ"مادر1" المشتهر بالبخل و"قس2" المشتهر بالفصاحة و"باقل3" المشتهر بالعي والفهاهة. ولا تصح الاستعارة في علم الشخص بغير تأويله بما يجعله كليًّا "كما عرفت" لأن معناه قبل التأويل جزئي لتشخصه وتعينه خارجًا، فتصوره يمنع من وقوع الاشتراك فيه "فزيد" مثلًا لا يصح جعله استعارة لشخص آخر بينه وبين زيد متشابهة, إذ هي تقتضي ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به "كما سبق" وهذا يقتضي عموم المشبه به و"زيد" المذكور لا عموم فيه, إذ لا يشمل غير مسماه الذي وضع له، اللهم إلا إذا عرف بوصف، واشتهر به فإنه حينئذ يصح جعله استعارة بتأويله كليًّا، باعتبار هذا الوصف كما سبق بيانه في "حاتم". تقسيم الاستعارة باعتبار ذكر أحد الطرفين: تنقسم بهذا الاعتبار قسمين: تصريحية، ومكنية، فإن كان المذكور هو المشبه به دون المشبه سميت الاستعارة تصريحية, وإن كان العكس سميت مكنية. وإذًا يكون:

_ 1 هو رجل من بني هلال, قيل: سمي مادرًا؛ لأنه سقى إبلًا له من حوض, فلما شربت الإبل بقي في أسفل الحوض ماء قليل فسلح فيه, ومدر الماء به أي: خلطه به بخلًا؛ مخافة أن يستقي من حوضه أحد. 2 هو أحد خطباء العرب الأعلام في العصر الجاهلي. 3 هو رجل من إياد, كان شديد العي في المنطق. اتفق أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما, فقيل له: بكم اشتريته؟ ففتح كفيه، وفرق بين أصابعه، وأخرج لسانه ليشير إلى العدد المذكور, فانفلت منه الظبي فضرب به المثل في العي والفهاهة.

الاستعارة التصريحية

الاستعارة التصريحية: هي لفظ المشبه به المستعار للمشبه, كقولك: "زارني بحر في منزلي". وإجراؤها أن يقال: شبهنا الجواد بالبحر في الإمداد, ثم تناسينا التشبيه، وادعينا: أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، ثم استعرنا لفظ المشبه به وهو "بحر" للمشبه استعارة تصريحية, وسميت بذلك للتصريح فيها بلفظ المشبه به "كما في المثال المذكور". وهي باعتبار اللفظ المستعار قسمان: أصلية, وتبعية. فالأصلية: ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس1 حقيقة، أو تأويلًا. فالأول "كأسد" من قولك: "رأيت أسدًا في منزلنا" تريد رجلًا جريئًا, وكالمصدر من نحو قولك: "هالني قتل عباس خصمه" تريد الضرب المبرح, فيشبه الضرب الأليم بالقتل في قسوة الألم، ثم يستعار لفظ "القتل" للضرب الأليم بعد تناسي التشبيه والادعاء السابقين. فالاستعارة في المثالين أصلية؛ لأن اللفظ المستعار فيهما اسم جنس حقيقة. فهو معنى كلي بذاته، صادق على كثيرين، غير أنه "في الأول" اسم ذات و"في الثاني" اسم معنى. والثاني كالأعلام الشخصية المشتهرة بوصف "كمادر" من قولك: "رأيت اليوم مادرًا" تريد رجلًا بخيلًا، فيشبه الرجل البخيل "بمادر" في البخل، ثم يستعار لفظ "مادر" للرجل البخيل بعد التناسي والادعاء, فالاستعارة فيه أصلية أيضًا؛ لأن اللفظ المستعار فيه اسم جنس تأويلًا, وقد سبق لك بيان التأويل فيه. وسميت أصلية؛ نسبة إلى الأصل بمعنى الكثير الغالب، ولا شك أنها أكثر وجودًا في الكلام من التبعية الآتية بعد، أو نسبة إلى الأصل بمعنى الاستقلال وعدم التبعية لاستعارة أخرى، تعتبر أولا، كما سيأتي في التبعية. والتبعية: ما كان اللفظ المستعار فيها فعلًا، أو اسمًا مشتقًّا, أو حرفًا. والأسماء المشتقة "كما علمت" في غير هذا الفن: اسم الفاعل، واسم المفعول, والصفة المشبهة، وأفعل التفضيل، واسما الزمان والمكان، واسم الآلة, وما إلى ذلك من سائر المشتقات، وهاك أمثلتها على التوالي.

_ 1 أي: اسما غير مشتق أي: معنى كليا يصدق على كثيرين "كأسد وقمر" في أسماء الذوات في "كالقتل والضرب" في أسماء المعاني.

الاستعارة في الفعل

الاستعارة في الفعل: الفعل له مادة هي حروفه الدالة على الحدث، وله صيغة وهي الهيئة الدالة على الزمان كما في صيغتي الماضي والمضارع. والاستعارة في الفعل باعتبار مادته غيرها باعتبار صيغته، على ما سيأتي بيانه بعد. فمثالها في الفعل من حيث مادته, قولك: نطقت الحال بكذا, فالنطق "كما هو معلوم" وصف للإنسان لا للحال, وإنما توصف الحال بالدلالة. وتقريرها حينئذ أن يقال: شبهت الدلالة الواضحة بالنطق في إيضاح المعنى، ثم استعير لفظ "النطق" بعد التناسي والادعاء للدلالة الواضحة، فصار النطق بمعنى الدلالة الواضحة، ثم اشتق من النطق بهذا المعنى "نطقت" بمعنى "دلت" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومنه قوله تعالى: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فالإحياء وهو إيجاد الروح إنما يناسب الحيوان لا الأرض, والذي يناسب الأرض إنما هو "التزيين" فيشبه حينئذ "تزينها" بالنبات ذي الخضرة والنضرة "بالإحياء" في الحسن والنفع، ثم يستعار لفظ "الإحياء" بعد التناسي والادعاء للتزيين، ثم يشتق من الإحياء بمعنى التزيين "يحيي" بمعنى "يزين" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثالها في الفعل من حيث صيغته قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} فمن المعلوم أن أمر الله لم يأت بعد وإنما سيأتي، بدليل قوله: {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} فكان سياق الكلام أن يقول: يأتي أمر الله، ولكنه عبر بصيغة الماضي تجوزا في التعبير مبالغة؛ لأن أمر الله آتٍ لا محالة. وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبه الإتيان في المستقبل بالإتيان في الماضي في تحقيق الوقوع، ثم استعير لفظ "الإتيان في الماضي" بعد التناسي والادعاء للإتيان

في المستقبل, ثم اشتق منه {أَتَى} بمعنى "يأتي" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثله قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} فمما لا شك فيه أن النداء المذكور إنما يكون في الدار الأخرى, فكان سياق الكلام أن يقول: وينادي أصحاب الجنة، لكنه عبر بصيغة الماضي تجوزًا. وإجراء الاستعارة فيه على نحو ما سبق في {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} فيقال: شبه النداء في المستقبل بالنداء في الماضي في تحقق الوقوع، ثم استعير "لفظ النداء في الماضي" بعد التناسي والادعاء للنداء في المستقبل، ثم اشتق منه "نادى" بمعنى ينادي على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. وكما تستعمل صيغة الماضي في المستقبل -كما مثلنا- تستعمل صيغة المضارع في الماضي كما في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فالرؤيا المذكورة وقعت "بالفعل" فكان سياق الكلام أن يقول: "إني رأيت" لكنه عبر بـ {أَرَى} تجوزًا في العبارة. وتقرير الاستعارة فيها أن يقال: شبهت الرؤيا الماضية بالرؤيا الحاضرة في استحضار الصورة الغريبة, وهي صورة ذبح إبراهيم -عليه السلام- لابنه, ثم استعير لفظ الرؤيا في الحاضر للرؤيا في الماضي، ثم اشتق منه {أَرَى} بمعنى "رأيت" على سبيل الاستعارة التبعية, وعلى هذا يقاس.

ومثالها في "الصفة المشبهة" قولك: "إنما أصادق الأعمى عن العورات" فقد شبه غضّ البصر بالعمى في عدم الرؤية، ثم استعير لفظ "العمى" بعد التناسي والادعاء لغض البصر، ثم اشتق من العمى بمعنى غض البصر "أعمى" بمعنى غاضّ البصر, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثالها في "أفعل التفضيل" قول الشاعر: ولئن نطقت بشكر برك مفصحًا ... فلسان حالي بالشكاية أنطق شبهت الدلالة بالنطق على نحو ما سبق, ثم استعير النطق للدلالة، ثم اشتق من النطق بمعنى الدلالة "أنطق" بمعنى "أدل" على طريق الاستعارة التبعية. ومثالها في اسمي الزمان والمكان قولك: "هذا مقتل فلان" مشيرًا إلى مكان ضربه، أو زمانه، فيشبه الضرب الشديد بالقتل على قياس ما سبق في اسمي الفاعل والمفعول, ثم يشتق من القتل بمعنى الضرب الشديد "مقتل" اسم زمان أو مكان على سبيل الاستعارة التبعية. ومنه قوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ؟ فمما لا ريب فيه أن هذا السؤال منهم إنما يكون بعد البعث من القبور, فالمراد "بالمرقد" حينئذ موضع الموت أي: القبر، لا موضع الرقاد وهو النوم؛ فقد شبه الموت بالرقاد في عدم الحس أو عدم النفع، ثم استعير لفظ "الرقاد" بعد التناسي والادعاء للموت, ثم اشتق من الرقاد بمعنى الموت "مرقد" بمعنى مكان الموت، وهو القبر على سبيل الاستعارة التبعية. وإن قدر "المرقد" مصدرًا ميميًّا بمعنى "الرقاد" واستعير للموت كانت الاستعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار حينئذ اسم جنس غير مشتق. ومثالها في اسم الآلة قولك: "هذا مفتاح الملك" مشيرًا إلى أحد وزرائه. وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الوزارة1 بفتح الأبواب المغلقة في التوصل إلى المقصود, ثم استعير لفظ "الفتح" بعد التناسي والادعاء للوزارة, ثم اشتق من الفتح بمعنى الوزارة "مفتاح" بمعنى وزير على سبيل الاستعارة التبعية. وهكذا يقال في سائر المشتقات، ولا يعوزك القياس. وسميت الاستعارة في الفعل والاسم المشتق تبعية؛ لجريانها فيهما تبعًا لجريانها في المصدر "كما رأيت". فتشبيه الدلالة في قولك: "نطقت الحال بكذا" يتبعه تشبيه "دل بنطق" واستعارة النطق للدلالة يتبعه كذلك استعارة "نطق لدل" لأن الفعل مشتق من المصدر, فكل تصريف يجري في المصدر يجري نظيره في الفعل تبعًا له، وهكذا سائر المشتقات.

_ 1 مصدر بمعنى المؤازرة.

الاستعارة في الحرف

الاستعارة في الحرف: مثاله قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . اعلم أن لام العلة موضوعة لترتب ما بعدها على ما قبلها, ترتب العلة على المعلول, كما تقول: اشتريت هذا الكتاب لأقرأ فيه؛ فإن القراءة مترتبة على الاشتراء, وعلة باعثة عليه. إذا علمت هذا, فاعلم أن "اللام" في الآية المذكورة مستعملة في غير ما وضعت له؛ لأن ما بعدها -وإن كان مترتبًا على ما قبلها- ليس علة باعثة عليه؛ ذلك أن آل فرعون لم يلتقطوا موسى -عليه السلام- ليكون لهم عدوًّا وحزنًا, وإنما التقطوه ليكون حبيبًا لهم وسرورًا, لكن لما كانت النتيجة المترتبة على التقاطهم هي العداوة والحزن لا المحبة والسرور, شبه العداوة والحزن المترتبان على الالتقاط في الواقع بالمحبة والسرور اللذين كانا ينبغي أن يترتبا عليه، ثم استعملت اللام فيه تجوزًا. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه العداوة والحزن المترتبان على الالتقاط بالعلة الحقيقية التي هي "المحبة والسرور" بجامع الترتب على الالتقاط في كل, فسرى هذا التشبيه إلى تشبيه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط يترتب العلة الحقيقية عليه بجامع مطلق ترتب شيء على شيء, ثم استعيرت "اللام" الموضوعة لترتب العلة الحقيقية على الالتقاط لترتب غير العلة الحقيقية عليه, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثله قوله تعالى: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فلفظ {فِي} موضوع لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين، كما تقول: الماء في الكوز, فإن الماء مظروف في الكوز, والكوز ظرف له, وحينئذ فكلمة {فِي} في الآية مستعملة في غير ما وضعت

له؛ لأن ما بعدها لا يصلح أن يكون ظرفًا لما قبلها على الحقيقة, لكن لما كانت الجذوع متمكنة من المصلوبين تمكن الظرف من المظروف, شبهت الجذوع بالظرف الحقيقي في التمكن, ثم استعير لها لفظ {فِي} تجوزًا في التعبير. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الجذوع المستعلى عليها بالظروف الحقيقية بجامع التمكن في كل, فسرى هذا التشبيه إلى تشبيه تلبس الجذوع بالمصلوبين بتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين بجامع مطلق تلبس شيء بشيء, ثم استعيرت {فِي} الموضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين لتلبس الجذوع المستعلى عليها بالمستعلى, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثله قولهم: "محمود في نعمة" فلفظ "في" كما علمت موضوع لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين كما في المثال السابق، وحينئذ فلفظ "في" في المثال المذكور مستعمل في غير ما وضع له؛ لأن ما بعده لا يصلح للظرفية الحقيقية "كما ترى" لكن لما كانت النعمة متمكنة من "محمود" تمكن الظرف من المظروف, شبهت النعمة بالظرف الحقيقي واستعمل فيها لفظ "في" تجوزًا. وتقرير الاستعارة فيه على نحو ما سبق, فتشبه النعمة بالظرف الحقيقي بجامع التمكن في كل، ثم يسري هذا التشبيه إلى تشبيه تلبس النعمة بمحمود بتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين, بجامع مطلق تلبس شيء بشيء, ثم تستعار "في" الموضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين لتلبس النعمة بمحمود على سبيل الاستعارة التبعية، وهكذا يقال في أمثال ما ذكر. وسميت الاستعارة في الحروف تبعية؛ لأنها تابعة لتشبيهين سابقين عليها "كما رأيت", وهذا القدر كافٍ في تسميتها "تبعية". تنبيه: علمت مما سبق في استعارة الحرف أنه لا بد من تشبيهين يسبقانها, أحدهما في مدخول الحرف، والثاني في معناه. فالتشبيه في آية: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} جرى

أولًا في مدخول لام العلة, وهو "العداوة والحزن" في جانب المشبه و"المحبة والسرور" في جانب المشبه به, ثم جرى ثانيًا في معنى اللام وهو ترتب العلة على المعلول. والتشبيه في آية {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} جرى أولًا في مدخول الحرف وهو "الجذوع" في جانب المشبه "والظروف الحقيقية" في جانب المشبه به, ثم جرى ثانيًا في معنى الحرف وهو "تلبس الظرف بالمظروف". والتشبيه في المثال الأخير جرى أولًا في مجرور الحرف وهو "النعمة" في جانب المشبه، "والظرف الحقيقي" في جانب المشبه به, ثم جرى ثانيًا في معنى الحرف وهو تلبس الظرف بالمظروف, وعلى هذا يكون القياس ا. هـ.

تقسيم آخر للاستعارة التصريحية

تقسيم آخر للاستعارة التصريحية: تنقسم الاستعارة التصريحية إلى ثلاثة أقسام: مرشحة، ومجردة، ومطلقة. فالمرشحة: ما قرنت بما يلائم المستعار منه أي: المشبه به, كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} شبه إيثار الباطل على الحق, واختياره دونه بالاشتراء الذي هو استبدال مال بآخر, بجامع استبدال شيء مرغوب عنه بشيء مرغوب فيه. ثم استعير اسم المشبه به وهو "الاشتراء" بعد التناسي والادعاء للمشبه، وهو "الإيثار والاختيار" ثم اشتق من الاشتراء بمعنى الإيثار والاختيار {اشْتَرَوُا} بمعنى آثروا واختاروا استعارة تبعية، والقرينة حالية إذ لم يقع اشتراء حقيقي بين الضلالة والهدى, وقد قرنت بذكر "الربح والتجارة" اللذين هما من ملائمات الاشتراء الحقيقي, وكقولك: "رأيت أسدًا يخطب القوم, له لبد" فقد استعير "أسد" للرجل الجريء بقرينة يخطب القوم استعارة أصلية, وقد قرنت بقولك: "له لبد" وهو وصف خاص بالأسد؛ لأنه الشعر المتلبد على منكبيه. وسميت "مرشحة" لأن الترشيح معناه التقوية، وذكر ملائم المشبه به يبعدها عن الحقيقة ويقوي فيها دعوى الاتحاد التي هي مبنى الاستعارة. والمجردة: ما قرنت بما يلائم المستعار له أي: "المشبه" كما تقول: "رأيت بحرًا

على فرس يعطي" فلفظ "بحر" مستعار للجواد بقرينة "على فرس" وقد قرنت بما يلائم المشبه, وهو قولك: "يعطي" وكقول البحتري: يؤدون التحية من بعيد ... إلى قمر من الإيوان1 باد فالقمر مستعار للإنسان الجميل بقرينة قوله: "يؤدون التحية من بعيد" وقوله: "من الإيوان باد" تجريد؛ لأنه من ملائمات الإنسان الذي هو المشبه. وسميت "مجردة" لتجردها عما يقوي فيها دعوى الاتحاد, ذلك أن ذكر ملائم المشبه يدنيها من المعنى الحقيقي ويضعف فيها دعوى اتحاد الطرفين. وقد اجتمع الترشيح والتجريد في قول زهير بن أبي سلمى: لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم فقوله: "شاكي السلاح" أي: تامه تجريد؛ لأنه من ملائمات المشبه وهو الرجل الشجاع، و"له لبد" ترشيح؛ لأنه من ملائمات المشبه به وهو "الأسد". وإما قوله: "مقذف" فإن أريد به "المقذوف باللحم" كناية عن الضخامة لم يكن تجريدًا ولا ترشيحًا؛ لملاءمته لكل منهما, وإن أريد به الذي يقذف بنفسه في المعارك, سواء أكان بآلة حرب أو بغيرها, فكذلك فإن كان القذف في المعارك بآلة حرب كان تجريدًا؛ لأنه يناسب الشجاع من الرجال إذ هو الذي يحمل السلاح. وأما قوله: "أظفاره لم تقلم" فليس تجريدًا ولا ترشيحًا؛ لأنه كناية عن نفي الضعف فهو قدر مشترك بين الطرفين, وقرينة الاستعارة قوله: "لدى أسد" على تقدير: "أنا لدى أسد" فإن كانت القرينة حالية اعتبر هذا تجريدًا للملاءمته للمشبه. ومما اجتمع فيه الأمران: الترشيح والتجريد قول الشاعر: رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلدي وهو للقلب جارح

_ 1 اسم لبناء ضخم, ومنه إيوان كسرى.

شبه النظر بالسهم في شدة التأثير، واستعار السهم للنظر "وريشه" ترشيح؛ لأنه من ملائمات المشبه به من قولهم: راش السهم, إذا ألزق عليه الريش ليكون أحكم في الرماية، و"الكحل" تجريد؛ لأنه من ملائمات المشبه والقرينة حالية بهذا الاعتبار, فإن اعتبر "الكحل" قرينة كان قوله: "ريشه" ترشيحًا، واعتبرت الاستعارة مرشحة. واعلم أن اعتبار الترشيح والتجريد إنما يكون بعد استيفاء الاستعارة قرينتها, فقولك: "رأيت بدرًا يضحك" استعارة لا ترشيح فيها ولا تجريد؛ لعدم اقترانها بما يلائم أحد الطرفين، وأما قوله: "يضحك" فهو قرينة الاستعارة فلا يعتبر تجريدًا، وإن كان من ملائمات المشبه؛ لأن التجريد أو الترشيح "كما قلنا" إنما يعتبر بعد تمام الاستعارة, وهي إنما تتم بالقرينة, ولو أن القرينة في هذا المثال حالية لكان قولك: "يضحك" تجريدًا؛ لأنه يلائم المشبه. والمطلقة: ما لم تقترن بشيء من ملائمات أحد الطرفين, كقولك: "عطشي إلى لقائك شديد" شبه الشوق بالعطش بجامع ما يترتب على كل من التلهف، ثم استعير العطش للشوق، والقرينة قولك: "إلى لقائك" وكقولك: غرست الجميل فلم يثمر. شبه فعل الجميل بالغرس بجامع ما يترتب على كل من العائدة، ثم استعير الغرس لفعل الجميل، ثم اشتق منه غرس بمعنى فعل الجميل "على سبيل الاستعارة التبعية" والاستعارة في المثالين مطلقة لعدم اقترانها بشيء يلائم أحد الطرفين. ومن قبيل الاستعارة المطلقة ما اجتمع فيه ترشيح وتجريد "كالبيتين السابقين"؛ لأنهما باجتماعهما يتعارضان فيتساقطان. فكأن لا ترشيح ولا تجريد، اللهم إلا إذا زاد أحدهما على الآخر فإنه حينئذ يرجح جانبه, وبناء عليه يكون قول "زهير" السابق: "لدى أسد شاكي السلاح" "البيت" من قبيل الاستعارة المجردة إن جعلت القرينة حالية؛ لأن ملائمات المشبه حينئذ تكون أكثر من ملائمات المشبه به, كما أن قولك: "رأيت أسدًا على فرس منتفش اللبدة رهيب الزئير" من قبيل الاستعارة المرشحة على تقدير أن القرينة حالية؛ لأن ملائمات المشبه به أكثر، فهي بهذا الاسم أجدر, ورجح بعضهم جانب السابق لسبقه. وسميت مطلقة لإطلاقها عن التقييد بما يلائم أحد الطرفين.

موازنة بين الاستعارات الثلاث

موازنة بين الاستعارات الثلاث: الاستعارة المرشحة "كما قلنا": ما ذكر فيها ملائم المشبه به, وهذا مما يزيد الاستعارة قوة، ذلك أن مبنى الاستعارة "كما علمت" على تناسي التشبيه وادعاء أن المشبه هو المشبه به، لا شيء سواه, والترشيح الذي هو ذكر ملائم المشبه به إمعان في هذا التناسي وغلو في دعوى الاتحاد، وكأن ليس هناك استعارة حتى إنك لتجد الشاعر أو الناثر يمعن في إنكارها، ويخيل للسامع أن الأمر محمول على حقيقته، لا تجوز فيه. ألا ترى إلى قول أبي تمام: ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء فقد استعار لفظ "الصعود" وهو العلو الحسي المكاني لعلو المرتبة، ثم بنى كلامه على أنه صعود حسي حقيقة فذكر ما يلائمه من ظن الجهول أن له حاجة في السماء. وإذا كان هذا شأن المرشحة كانت جديرة أن تحل المكان الأول بين أختيها. ويلي المرشحة في القوة الاستعارة المطلقة, إذ هي "كما عرفت" ما لم يذكر معها شيء يلائم أحد الطرفين فهي -وإن خلت مما يقوي تناسي التشبيه, ويدعم دعوى الاتحاد من ذكر ما يلائم المشبه به- ليس فيها ما ينافيها من ذكر ملائم المشبه, وإذا كان هذا حالها كانت خليقة أن تحتل مكانًا وسطًا بين المرشحة والمجردة, ومن هنا يبدو لك واضحًا أن الاستعارة المجردة في المرتبة الدنيا لاشتمالها على ما يلائم المشبه؛ إذ هو يتعارض مع ما تقتضيه الاستعارة من تناسي التشبيه، ودعوى الاتحاد قضاء لحق المبالغة.

قرينة الاستعارة التصريحية

قرينة الاستعارة التصريحية: القرينة هي -كما سبق- الأمر الذي يجعله المتكلم دليلًا على أنه أراد باللفظ غير معناه الأصلي, وهي أيضًا لفظية، وغير لفظية. فاللفظية: لفظ يلائم المشبه يذكر في الكلام؛ ليصرفه عن إرادة معناه الأصلي. مثال ذلك "في الأصلية" قولك: "كلمني بحر" فبحر مستعار للرجل العالم أو الكريم "استعارة أصلية" وقرينتها لفظ "كلمني"؛ لأن البحر الحقيقي لا يتكلم. ومثالها "في التبعية" قولك: "قتل علي خصمه بحادّ لسانه" استعار القتل للإيذاء الشديد بجامع الألم الأليم، ثم اشتق من القتل بمعنى الإيذاء الشديد "قتل" بمعنى آذى إيذاء شديدًا، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية, والقرينة قولك: "بحاد لسانه" إذ ليس اللسان أداة قتل، وكل من القرينتين ملائم للمشبه "كما رأيت". وغير اللفظية: أمر خارج من اللفظ، يصرف الكلام عن إرادة معناه الحقيقي كدلالة الحال، أو استحالة المعنى. فمثال ما قرينته حالية: "أرى قمرًا" والسامع يرى فتاة حسناء مقبلة "فالقمر" مستعار للفتاة الجميلة "استعارة أصلية" وقرينتها دلالة الحال. ومثال ما قرينته الاستحالة قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} شبه كثرة الماء كثرة جاوزت الحد بالطغيان بجامع تجاوز الحد في كلٍّ. ثم استعير الطغيان للكثرة, واشتق منه "طغى" بمعنى كثر حتى جاوز الحد "استعارة تبعية" والقرينة استحالة صدور الطغيان من الماء, إذ هو من شأن الإنسان, وكقول الشاعر: جمع الحق لنا في إمام ... قتل البخل وأحيا السماحا استعير القتل للمحو والإزالة، واستعير الإحياء للإكثار. ثم اشتق من القتل "قتل" بمعنى أزال، ومن الإحياء "أحيا" بمعنى أكثر, على سبيل الاستعارة التبعية، والقرينة استحالة وقوع القتل على البخل والإحياء على السماح. والقرينة إما أمر واحد أو متعدد. فالأول كما في قولنا: "رأيت بين الناس أسدًا" استعير لفظ "أسد" للرجل الجريء، والقرينة أمر واحد هو قولنا:

"بين الناس" لأن الأسد الحقيقي لا يرى بينهم؛ إذ هو حيوان غير مستأنس, وكقولهم: نطقت الحال بكذا فهو استعارة تبعية, قرينتها شيء واحد كذلك هو استحالة قيام النطق بالحال، والثاني كقول الشاعر: فإن تعافوا العدل والإيمانا ... فإن في أيماننا نيرانا1 يقول: إن كرهتم الإنصاف، وإقرار الأمور في نصابها، وأبيتم التصديق بما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- قهرناكم عليها بما في أيدينا من سيوف تلمع كمشعل النيران، استعير لفظ "النيران" للسيوف "استعارة أصلية" والقرينة على أن المراد بالنيران السيوف هي كل من "العدل والإيمان" باعتبار تعلق العيافة أي: الكراهة بهما, ووجه كون ذلك قرينة على أن المراد "السيوف" هو أن الذي يدعو إلى العدل والإيمان آخذ بالشريعة، وهي إنما تحمل من يخالف على الطاعة بحدّ السيف لا بالإحراق، وكقولهم: رويدك, قد طغى حبي ودمعي ... وبات القلب يحترق اشتياقا استعير الطغيان للكثرة "كما تقدم" استعارة تبعية, والقرينة هي كل من الحب والدمع, باعتبار تعلق الطغيان بهما تعلق استحالة. وقد تكون القرينة معاني ملتئمة, أي: مرتبطًا بعضها ببعض, بحيث يكون المجموع قرينة، لا كل واحد منها كما في قول البحتري: وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرؤس الأقران خمس سحائب2 شبه أنامل يد الممدوح بالسحائب في عموم العطايا، ثم استعار لفظ "السحائب" لأنامل يده، وجعل القرينة على الاستعارة مجموع أشياء؛ فذكر أن هناك صاعقة، وأنها ساقطة من حد سيفه, منقلبة على رءوس الأقران، ثم ذكر عدد أصابع اليد،

_ 1 "تعافوا" من عاف الشيء يعافه, إذا كرهه ومجّه، "الإيمان" الأول بكسر الهمزة: التصديق، والأيمان الثاني بفتح الهمزة: جمع يمين, والمراد اليد اليمنى. 2 الصاعقة في الأصل: نار سماوية تهلك من تصيبه، والنصل: حد السيف, وتنكفي: تنقلب، والأقران جمع قرن بكسر القاف وهو المماثل والنظير.

وهو "خمس" فاتضح من مجموع ذلك كله أنه أراد بالسحائب أصابع اليد؛ لما بينها وبين السحائب من جامع النفع، وعموم العطاء. قد يقال: إن قوله: "وصاعقة من نصله" كافٍ في الدلالة على الاستعارة, وكذا قوله: "على أرؤس الأقران"، وكذلك تحديد العدد بالخمس، فالقرينة إذًا متعددة وليست معاني ملتئمة متضامنة كما قيل، ويجاب بأن الاستعارة لا يكتمل وضوحها إلا بهذه الأمور مجتمعة. وقد يجاب بأن المراد بالتئام المعاني ارتباطها، لا على وجه العطف المؤذن بالاستقلال. تنبيه: ما تقدم من أن القرينة قد تكون أكثر من أمر واحد كما في قول الشاعر المتقدم: "وإن تعافوا العدل" "البيت" مبني على جواز تعدد القرينة، وهذا هو الرأي الأغلب؛ إذ لا مانع من اعتبار كل واحد قرينة على حدة. وقال بعضهم: لا يجوز القرينة؛ لأن الصرف عن إرادة المعنى الحقيقي، إن كان بمجموع الأمور المذكورة، فالقرينة هي تلك الأمور مجتمعة، لا كل واحد منها, وإن كان أحدها كافيًا في الصرف على المعنى الأصلي، فلا حاجة لما عداه, فيعتبر تجريدًا؛ لأنه في التصريحية من ملائمات المشبه.

الاستعارة المكنية

الاستعارة المكنية: هي في اصطلاح جمهور البيانيين: لفظ المشبه به المستعار في النفس للمشبه, والمحذوف المدلول عليه يذكر لازمه كقول أبي ذؤيب الهذلي1: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع2

_ 1 اسمه خويلد بن خالد, أحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية. 2 "أنشبت": علقت و"ألفيت": وجدت و"التميمة": خرزة تجعل معاذة, تعلق بعنق الصبيان؛ صونًا لهم عن العين أو الجن على زعمهم.

يقول الشاعر: إذا حان الأجل عجزت عنده الحيل، ولا مرد لقضاء الله. وإجراؤها أن يقال: شبهت المنية بالأسد في اغتيال النفوس, ثم استعير في النفس لفظ الأسد "للمنية" بعد تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به ثم قدر حذفه، ودل عليه بذكر لازمه وهو "الأظفار" على سبيل الاستعارة المكنية, وكقول الشاعر: وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان يقول: إذا حاطك الله بعنايته، وكلأك بعين رعايته كنت بمأمن من كل سوء, وفي حصانة من كل شر. وإجراؤها بالقياس على ما تقدم أن يقال: شبهت العناية بإنسان في الانتفاع, ثم استعير في النفس لفظ "إنسان" للعناية بعد التناسي والادعاء المعروفين، ثم قدر حذفه، ودل عليه بذكر لازمه وهو "العيون" على سبيل الاستعارة المكنية، وكقول الشاعر المتقدم: ولئن نطقت بشكر برك مفصحًا ... فلسان حالي بالشكاية أنطق والاستعارة في لفظ "حالي" شبه الحال بإنسان ناطق في الدلالة على المقصود, ثم استعير في النفس لفظ "إنسان" للحال، بعد التناسي والادعاء، ثم دل عليه بعد تقدير حذفه بذكر لازمه, وهو "اللسان" على سبيل الاستعارة المكنية. ففي هذه الأمثلة الثلاثة حذف لفظ المشبه به، وكني عن مدلوله بذكر لازمه، ثم أثبت هذا اللازم للمشبه المذكور، وكل ما كان من هذا القبيل ففيه استعارة مكنية. "ففي المثال الأول" حذف لفظ المشبه به وهو "الأسد" وبقي المشبه وهو "المنية" وكني عن المشبه به بذكر لازمه وهو "الأظفار" ثم أثبت هذا اللازم للمنية، فقيل: "أظفارها". "وفي المثال الثاني" حذف لفظ المشبه به, وهو "الإنسان وبقي المشبه" وهو

"العناية" وكني عن المشبه به بذكر لازمه وهو "العيون" ثم أثبت هذا اللازم للعناية فقيل: "عيونها". "وفي المثال الثالث" حذف المشبه به وهو "الإنسان" وبقي المشبه وهو "الحال" وكني عن المشبه به بذكر لازمه وهو "اللسان". ثم أثبت هذا اللازم "للمشبه" فقيل: "لسان حالي". وهكذا, فالمذكور في المكنية من الطرفين هو المشبه دائمًا "عكس الاستعارة التصريحية". والدليل على التشبيه حينئذ إثبات ذلك اللازم؛ لأن إثبات لازم الشيء لغيره إنما يدل على أن ذلك الغير مشبه بذلك الشيء، ومنزل منزلته، وإلا ما أثبت له لازمه وسميت الاستعارة المذكورة "مكنية" لأنه كني فيها عن المشبه به بذكر لازمه "كما عرفت". تنبيه: ينبغي أن يعلم أن اللازم المراد إثباته للمشبه يجب أن يكون به كمال وجه الشبه في المشبه به، أو أن يكون به قوامه ووجوده. فالأول كما في بيت الهذلي, فإن وجه الشبه فيه بين الأسد والمنية هو "الاغتيال" والاغتيال في الأسد يحصل بشيء آخر غير الأظفار "كأنياب" لكنه بالأظفار يكمل ويتم. الثاني كما في قول الشاعر الآخر: "فلسان حالي بالشكاية أنطق" فإن وجه الشبه بين الإنسان والحال هو "الدلالة" وهي لا تتحقق بدون إنسان ا. هـ.

قرينة المكنية

قرينة المكنية: هي إثبات لازم المشبه به المحذوف للمشبه المذكور، كإثبات الأظفار "للمنية" في بيت الهذلي المتقدم, فإن إثباتها لها قرينة على أنها مشبهة بما له أظفار "كالأسد"، وأن لفظ "الأسد" مستعار في النفس للمنية. وإثبات هذا اللازم يسمى عندهم "استعارة تخييلية"، أما أنه استعارة فلأن اللازم المذكور -وهو الأمر المختص بالمشبه به- قد استعير "للمشبه" واستعمل معه، وأما أن الاستعارة تخييلية، فلأن ذلك اللازم لما نقل واستعمل مع المشبه خيل للسامع أن المشبه من جنس المشبه به, ومن هنا يتبين لك أمران:

الأول: أن قرينة المكنية استعارة تخييلية دائمًا، وأنهما متلازمان فلا توجد إحداهما بدون الأخرى؛ لأن المكنية لا بد لها من قرينة، وقرينة المكنية لا تكون إلا تخييلية "كما عرفت". الثاني: أن طرفي الاستعارة التخييلية مستعملان في المعنى الحقيقي لهما "فالأظفار والمنية" كلاهما مستعمل في المعنى الموضوع له, والتجوز إنما هو في إثبات الأظفار للمنية, إذ إن المنية لا أظفار لها، فهو إثبات الشيء لغير ما هو له كما في إثبات الإنبات للربيع في نحو: أنبت الربيع الزرع, إذا صدر من الموحد فإن كلا من الإنبات والربيع مستعمل في حقيقته, والتجوز إنما هو في إثبات الإنبات للربيع1.

_ 1 تنقسم المكنية كالتصريحية إلى أصلية وتبعية, وإلى مرشحة ومجردة ومطلقة. فالأصلية كاستعارة اسم الجنس في نحو قول الشاعر: "وإذا العناية لاحظتك عيونها" فالمستعار هنا لفظ "إنسان" المحذوف وهو اسم جنس. والمكنية التبعية كاستعارة اسم المشتق في قولك: يعجبني إراقة الضارب دم الباغي, وإجراؤها أن يقال: شبه الضرب الشديد بالقتل بجامع الإيذاء الشديد, واستعير القتل للضرب الشديد، واشتق من القتل "قاتل" بمعنى ضارب ضربًا شديدًا, ثم حذف ودل عليه بلازمه وهو "الإراقة" والقرينة إثبات الإراقة للضارب. والمكنية المرشحة نحو: شم علي رائحة العلم, شبه العلم بالمسك وحذف المشبه به ودل عليه بلازمه وهو "الرائحة" والقرينة إثبات الرائحة للعلم، وقوله: "شم" ترشيح للاستعارة؛ لأنه من ملائمات المسك. والمكنية المجردة كقول الشاعر: نقريهم لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زراد "اللهذميات" جمع: لهذم كجعفر القاطع من الأسنة و"القد": القطع, و"الزراد": ناسج الزرد بفتح الراء, وهو الدرع من الحديد, شبه اللهذميات بما يقدم للضيوف من الطعام، ثم حذف المشبه به ودل عليه بشيء من لوازمه، وهو قوله: "نقريهم" فإن "القرى" تقديم الطعام وهو من ملائمات المشبه به, والقرينة إثبات القرى للهذميات، وقوله: "نقد" تجريد للاستعارة؛ لأنه من ملائمات المشبه. والمكنية المطلقة كما في قولهم: نطقت الحال بكذا، استعير الإنسان للحال ثم حذف ودل عليه "بنطق" والقرينة إثبات النطق لها.

تمرين: 1- عرف المجاز العقلي, ومثل له بمثالين من عندك أحدهما لإسناد الفعل، والآخر لإسناد ما هو بمعنى الفعل. 2- بين علاقة المجاز العقلي في مثال من إنشائك، مع بيان القرينة. 3- عرف قرينة المجاز العقلي، ثم ائت بمثال تكون قرينة المجاز العقلي فيه معنوية، وبآخر تكون القرينة فيه لفظية. 4- عرف المجاز المفرد، وبين محترزات التعريف، ثم ائت له من إنشائك بمثالين مختلفي العلاقة. 5- بين علاقة المجاز المفرد، ثم قسمه باعتبارها، عرف كل قسم، ثم أجر الاستعارة في قولك: لقيني قمر أمس, وبين أركانها فيه. 6- اذكر ما يجب توفره من الشروط لتحقيق الاستعارة, وهل قولهم: رأيت بين برديه القمر من قبيل الاستعارة، مع ما تراه فيه من الجمع بين الطرفين، وهو ممتنع فيها؟ وجه ما تقول. 7- لم اشترط في الاستعارة أن يكون المستعار منه كليًّا عامًّا؟ وكيف صحت في مثل "حاتم وباقل" مع تشخيصهما المانع من العموم مما وضح ذلك وضوحًا تامًّا؟ 8- قسم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار, ثم ائت لكل قسم بمثال, وأجر الاستعارة فيه, ثم بين نوع الاستعارة وأجرها في قولنا: نحن في أمن، ودعة. 9- قسم الاستعارة باعتبار ذكر الملائم وعدم ذكره, وعرف كل قسم مع التمثيل، ومن أي نوع قول القائل: بهرني در لم يثقب؟ 10- أي الاستعارات أبلغ: المرشحة، أم المجردة، أم المطلقة؟ وما وجه الأبلغية؟ مثل لكل ما تقول، مع التوجيه.

11- بين الاستعارة وقرينتها في قول الشاعر: فإن تعافوا العدل والإيمانا ... فإن في أيماننا نيرانا 12- عرف الاستعارة المكنية، ومثل لها، مع إشرائها فيما تمثل به, وبين علة تسميتها "مكنية" ثم أجرها في قولك: عين الرعاية تلحظك. 13- يقولون: إن قرينة المكنية استعارة تخييلية, وإنهما متلازمان بين علة هذه التسمية، وسبب هذا التلازم. 14- بين في التشبيهات الآتية وجه الشبه، ثم حَوِّل كلا منها إلى استعارة تصريحية, مبينًا قرينتها: 1- فوق الأغصان بلابل تغرد كأنها القيان. 2- النجوم في السماء كالدر المنثور. 3- قوم إذا نهضوا لنجدة صارخ ... وكبوا الجياد كأنهن رياح 4- وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار 5- كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه 15- بين في الاستعارات الآتية الجامع بين الطرفين, ثم حول كلا منها إلى تشبيه: 1- {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . 2- {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . 3- ما أروع النجم منثورًا على الأغصان. 4- ما أجمل الخدود تختال على سيقانها. 5- يابن الكواكب من أئمة هاشم. 6- أخذت العلم عن بحر لا ساحل له. 7- بكت لؤلؤًا رطبًا ففاضت مدامعي عقيقًا1 ... فصار الكل في نحرها عقدا 16- بين نوع الاستعارة وقرينتها والجامع فيما يأتي: 1- تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبه للمنية يا نئوم 2- ومن لم يعشق الدنيا قليل ... ولكن لا سبيل إلى الوصال 3- أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها

_ 1 معدن كريم أحمر اللون.

4- إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق 5- وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري 6- من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا 7- عضنا الدهر بنابه ... ليت ما حل بنا به 8- بكت لؤلؤًا رطبًا ففاضت مدامعي ... عقيقًا فصار الكل في نحرها عقدا 9- أنفقت عمري في رضاك وليتني ... أعطي وصولًا1 بالذي منفق الجواب على سؤال 14: 1- وجه الشبه حسن النغم, والاستعارة فيه أن يقال: فوق الأغصان قيان تغنين، والقرينة قوله: فوق الأغصان. 2- وجه الشبه التألق, والاستعارة فيه أن يقال: في السماء الدر المنثور, والقرينة قوله: "في السماء". 3- وجه الشبه السرعة, والاستعارة فيه أن يقال: ركبوا الرياح, والقرينة قوله: "ركبوا". 4- وجه الشبه الوضوح والهداية, والاستعارة فيه أن يقال: راعني علم في رأسه نار, والقرينة حالية. 5- وجه الشبه الهيئة الحاصلة من ظهور أجرام مشرقة, مستطيلة، متناسبة المقادير, متحركة بسرعة إلى جهات مختلفة، في جوانب شيء مظلم, والاستعارة فيه أن يقال: هالني ليل تهاوى كواكبه, والقرينة حالية. تمرين على هذا السؤال يطلب جوابه: كأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع له خال على صفحات خد ... كنقطة عنبر في صحن مرمر

_ 1 جمع وصل, وهو صك يؤخذ على المدين استيثاقًا.

تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها وإذا أشار محدثًا فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم الجواب على السؤال 15: 1- الجامع بين الطرفين: أن كلا موصل إلى المطلوب, والتشبيه فيهما أن يقال: أهدنا دينًا قويمًا كالصراط المستقيم. 2- الجامع بين الطرفين في الأول عدم الاهتداء, والتشبيه فيهما أن يقال: ليخرج الناس من الضلال الذي كالظلمات, والجامع بينهما في الثاني الهداية, والتشبيه فيهما أن يقال: إلى الإيمان الذي كالنور. 3- الجامع بين الطرفين التألق والحسن, والتشبيه فيهما أن يقال: ما أروع الزهر منثورًا على الأغصان كالنجم. 4- الجامع بين الطرفين الحمرة, والتشبيه فيهما أن يقال: ما أجمل الوردة تتوهج كخدود الملاح. 5- الجامع بين الطرفين الرفعة والهداية، والتشبيه فيهما أن يقال: يابن الأئمة الذين هم كالكواكب. 6- الجامع بينهما الإمداد والاتساع, والتشبيه فيهما أن يقال: أخذت العلم عن عالم أو كريم كالبحر, لا ساحل له. 7- الجامع بينهما التألق والصفاء، والتشبيه فيهما أن يقال: بكت دمعًا كاللؤلؤ. تمرين يجاب عليه قياسًا على ما سبق: وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرؤس الأقران خمس سحائب فأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت ... وردًا وعضت على العناب بالبرد رأيت شمسًا "تريد إنسانًا مشرق الوجه" ونزلت على حاتم "تريد سمحًا جوادًا" رمتني بسهم ريشه الكحل. لدى أسد شاكي السلاح.

الجواب على السؤال 16: 1- في "تنام" استعارة تصريحية تبعية مرشحة؛ شبه التغافل بالنوم, والجامع عدم النفع, واستعير النوم للتغافل, واشتق منه "تنام" بمعنى تتغافل. وفي "المنايا" استعارة مكنية أصلية, شبهت المنايا بالعدو, والجامع الكراهة والأذى, واستعير العدو للمنايا ثم حذف ودل عليه بلازمه وهو "نفي النوم عنه" والقرينة إثبات هذا الفعل منفيًّا للمنايا. وقوله: "تنبه يا نئوم" ترشيح للاستعارة الأولى. 2- في "يعشق" استعارة تصريحية تبعية مرشحة, شبه الاشتغال بالدنيا بالعشق، والجامع التعلق والاهتمام في كل، واستعير العشق للاشتغال واشتق منه يعشق بمعنى يشتغل. ويصح أن يكون في لفظ "الدنيا" استعارة مكنية أصلية مرشحة, شبهت الدنيا بامرأة جميلة، والجامع الأخذ بمجامع القلوب ثم استعيرت المرأة للدنيا وحذفت ودل عليها بلازمها وهو "يعشق" والقرينة إثبات العشق الذي هو من ملائمات المرأة للدنيا, وقوله: "ولا سبيل إلى الوصال" ترشيح للاستعارتين. 3- في "الخلافة" استعارة مكنية أصلية مرشحة شبهت الخلافة بامرأة حسناء, والجامع ميل النفس في كل, ثم استعيرت المرأة للخلافة وحذفت ودل عليها بذكر لازمها وهو "أتته" والقرينة إثبات الإتيان للخلافة وقوله: "منقادة" وتجرر أذيالها ترشيح. 4- في "امتحن" استعارة تصريحية تبعية, شبه الاشتغال بالدنيا بالامتحان والجامع حصول التعب في كل، ثم استعير "الامتحان" للاشتغال واشتق منه "امتحن" بمعنى اشتغل, والقرينة استحالة وقوع الامتحان "بالمعنى المعروف" على الدنيا. ويصح أن يكون في لفظ "الدنيا" استعارة مكنية أصلية مرشحة, شبهت الدنيا بإنسان مخادع, والجامع عدم الثبات على حال, ثم استعير الإنسان للدنيا ثم حذف ورمز له بلازمه، وهو قوله: "امتحن" والقرينة إثبات الامتحان

الذي هو من ملائمات المشبه به للدنيا، وقوله: "تكشفت له عن عدو ... " إلخ ترشيح. 5- في "تباع" أو "تشترى" استعارة تصريحية تبعية مرشحة, شبه الاستبدال بالبيع أو الاشتراء, ثم استعير البيع أو الاشتراء للاستبدال، ثم اشتق منهما "تباع أو تشترى" بمعنى تستبدل. ويصح أن يكون في لفظ "كريمة" استعارة مكنية أصلية مرشحة, شبهت الخلة الكريمة بجوهرة, والجامع الحسن في كل ثم استعيرت الجوهرة للخلة الكريمة وحذفت ودل عليها بذكر لازمها وهو "البيع أو الاشتراء" والقرينة إثبات البيع أو الاشتراء اللذين هما من ملائمات الجواهر للخلة الكريمة، وقوله: "فسواك بائعها وأنت المشتري" ترشيح للاستعارة. 6- في كل من "العزم والهموم" استعارة مكنية أصلية مرشحة, شُبه كل منهما بماشية, والجامع قبول الانقياد ثم استعير لفظ "الماشية" لكل من العزم والهموم, ثم حذف ودل عليه بلازمه وهو قوله: "مرعى" والقرينة إثبات المرعى للعزم والهموم, وقوله "لم يزل مهزولا" ترشيح لملاءمته للمشبه به وهو الماشية. 7- في "عضنا" استعارة تصريحية تبعية مرشحة، شبه إيلام حوادث الدهر بالعض، والجامع التأثير في كل، واستعير العض للإيلام، واشتق منه "عض" بمعنى آلم، والقرينة استحالة قيام العض بالزمان. ويصح أن يكون في لفظ "الدهر" استعارة مكنية أصلية مرشحة، شبه الدهر بحيوان مفترس, والجامع الأذى في كل، واستعير الحيوان للدهر، وحذف ودل عليه بلازمه وهو "العض" والقرينة إثبات العض الذي هو من ملائمات الحيوان للدهر، ولفظ "الناب" ترشيح للاستعارتين. 8- في "اللؤلؤ" استعارة تصريحية أصلية مرشحة, شبه الدمع باللؤلؤ, والجامع الصفاء والتألق في كل ثم استعير اللؤلؤ للدمع, والقرينة قوله: "بكت" وقوله: "في نحرها عقدا" ترشيح لأنه يناسب المشبه به. 9- في "أنفق" استعارة تصريحية تبعية مرشحة، شبه إفناء العمر بإنفاق المال

والجامع التصرف في كل، ثم استعير الإنفاق للإفناء واشتق منه "أنفق" بمعنى أفنى, والقرينة استحالة وقوع الإنفاق بالمعنى المعروف على العمر. ويصح أن يكون في لفظ "العمر" استعارة مكنية أصلية مرشحة شبه "العمر" بالمال, والجامع الانتفاع في كل، واستعير المال للعمر ثم حذف ودل عليه بلازمه وهو "أنفق" والقرينة إثبات الإنفاق الذي هو من ملائمات المال للعمر، وكل من "وصولا ومنفق" ترشيح للاستعارتين. تمرين على هذا السؤال يطلب جوابه: بين نوع الاستعارة وقرينتها والجامع فيما يأتي: أصون عرضي بمالي، لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال إذا المرء لم يبن افتخارًا لنفسه ... تضايق عنه ما بنته جدوده ازرع جميلًا ولو في غير موضعه ... فلا يضيع جميل أينما زرعا سقاه الردى سيف إذا سل أو مضت ... إليه ثنايا الموت من كل مرقب أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجذع ثاقبه وما الموت بين الناس إلا مهند ... بكف المنايا والنفوس له غمد لقد نبتت في القلب منك محبة ... كما نبتت في الراحتين الأصابع ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله إذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل يابن النجوم الغر من آل هاشم. رشفت الأدب من بحر لا يسبر غوره1. اكفهر2 وجه السماء.. {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} . أنت في رغد3 من العيش. الهجر أقتل لي مما أراقبه. إذا غرست جميلًا فاسقه غدقًا4. رأيت بالمسجد بحرًا يعظ الناس. {يَنْقُضُونَ 1 عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} . محمد قتل الإجرام، وأحيا السلام.

_ 1 "السبر" امتحان عمق الشيء, و"الغور": القعر, والمعنى: لا يدرك عمقه. 2 اغبر وتغير. 3 في سعة وبسط. 4 الغدق: الماء الكثير.

فصل في شرائط حسن الاستعارة

فصل في شرائط حسن الاستعارة: تحسن الاستعارة في اعتبار البلغاء إذا توفرت الآتية بعد: 1- أن تراعى جهات حسن التشبيه؛ لأنها مبنية عليه فهي تابعة له في الحسن والقبح, فإن حسن حسنت، وإن قبح قبحت. فمن جهات حسن التشبيه: أن يكون وافيًا بالغرض منه, فإن كان الغرض منه -مثلًا- تزيين المشبه "كوجه أسود"، فشبه بمقلة الظبي ذات السواد الجميل, ثم استعير له لفظها، فقيل: "رأيت مقلة ظبي"، وأريد ذلك الوجه الأسود حسنت الاستعارة لوفاء التشبيه بالغرض. فإذا شبه الوجه المذكور بالفحم لإفادة هذا الغرض ثم استعير له لفظه، فقيل: رأيت قطعة فحم، وأريد الوجه الأسود لم تحسن الاستعارة لعدم حسن التشبيه, إذ لم يف بالغرض المطلوب. وإن كان الغرض منه تشويه وجه أسود عليه آثار الجدري، فشبهه بحمأة2 يابسة قد نقرتها الديكة، ثم استعير له لفظها، فقيل: رأيت حمأة منقورة، وأريد الوجه الأسود المجدور, حسنت الاستعارة لوفاء التشبيه بالغرض منه، ولو شبه الوجه المذكور لإفادة هذا الغرض بقطعة منقبة من معدن كريم أسود اللون، ثم استعير له لفظها فات الحسن. وهكذا يقال في سائر أغراض التشبيه السابقة. ومن جهات حسن التشبيه: أن يكون وجه الشبه غير مبتذل بأن يكون غريبًا لطيفًا؛ لكثرة التفصيل فيه مثلًا كما سبق في تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل، إذ قد اعتبر في الوجه: الاستدارة, والإشراق، والتموج، والحركة السريعة المتصلة, فإذا استعير لفظ "المرآة في كف الأشل" للشمس فقيل: رأيت مرآة في كف

_ 1 نقض البناء: أزال لبناته، ونقض الحبل: فك طاقاته. 2 الحمأة: الطين الأسود.

أشل" مرادًا به "الشمس" لقرينة حالية, حسنت الاستعارة لحسن التشبيه لما فيه من الدقة بكثرة الاعتبارات. فإذا كان وجه الشبه مبتذلًا كما في استعارة "الأسد" للرجل الجريء فات الحسن. ويستثنى من جهات حسن التشبيه شيء واحد تحسن فيه الاستعارة, ولا يحسن التشبيه، وهو أن يقوى الشبه بين الطرفين جدا حتى يخيل لك أنهما متحدان كالشبه بين العلم والنور, أو بين الشبهة والظلمة, ففي مثل هذا تحسن الاستعارة، فتقول: في قلبي نور أي: علم، ولا يحسن التشبيه، فلا تقول: في قلبي علم كالنور كما يحسن أن تقول: في قلبي ظلمة أي: شبهة, ولا يحسن أن تقول: في قلبي شبهة كالظلمة. وإنما قبح التشبيه في مثل هذا لقوة الشبه بين الطرفين حتى كأنهما شيء واحد, فإجراء التشبيه بينهما بمثابة تشبيه الشيء بنفسه, وحسنت فيه الاستعارة لاختفاء شبح التشبيه فيها لفظًا. 2- أن يزداد بعدها عن الحقيقة بالترشيح؛ ولذلك كانت المرشحة أكثر قبولًا في ذوق البلغاء من أختيها: المجردة، والمطلقة. 3- ألا يكون وجه الشبه خفيًّا جدًّا, فلا تحسن استعارة لفظ "أسد" للرجل الأبخر، وهو ذو الفم المنتن؛ لخفاء وجه الشبه, إذ إن انتقال الذهن من معنى الأسد إلى الرجل إنما يكون باعتبار المعنى المشهور في الأسد وهو "الجرأة" لا "البخر"، فاستعارة لفظ "الأسد" للأبخر حينئذ يعد إلغازًا وتعمية في المراد. 4- ألا يشتم فيها رائحة التشبيه لفظًا, بألا يذكر في الكلام لفظ يدل على المشبه كما في قولنا: زارني قمر في منزلي, فليس في العبارة لفظ دال على المشبه. أما الاستعارة في قول الشاعر المتقدم: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر فقليلة الحسن لما فيها من إشمام رائحة التشبيه، بسبب ذكر لفظ دال على المشبه، وهو الضمير في قوله "غلالته" أو في "زر أزراره" وهذا يتنافى مع ما ترمي إليه

الاستعارة. بيان ذلك: أن الغرض من الاستعارة على ما تقدم: إظهار المبالغة في التشبيه بادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به, ومقتضى هذا: أن يستويا في وجه الشبه, وإشمام رائحة التشبيه بما ذكرنا يلفت الذهن إلى ما هو معلوم في أصل التشبيه من أن المشبه به أقوى في وجه الشبه من المشبه, وهذا يتعارض مع ما تقتضيه الاستعارة من دعوى التساوي بين الطرفين، وتناسي التشبيه فيهما. هذا وحسن الاستعارة التخييلية تابع لحسن المكنية؛ لأنها تابعة لها في الوجود, فينبغي أن تتبعها في كل ما يعرض لها من حسن أو قبح.

المجاز المرسل

المجاز المرسل مدخل ... المجاز المرسل: سبق أن قسمنا المجاز المفرد باعتبار العلاقة إلى قسمين: أحدهما: الاستعارة وهي مجاز علاقته المشابهة, وقد تقدم الكلام فيها. والثاني: المجاز المرسل, وهو ما نحن بصدد الكلام فيه. تعريفه: هو الكلمة المستعملة في غير المعنى الذي وضعت له لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوعة له, كما في قولنا: "رعت الإبل الغيث" ففي "الغيث" مجاز مرسل؛ لأنه كلمة نقلت من معناها الأصلي وهو "الماء" إلى معنى آخر وهو "النبات" بقرينة "الرعي" فإن الغيث لا يرعى، وليست له العلاقة بين النبات والماء المشابهة كما ترى, إنما العلاقة بينهما هي: أن أحدهما سبب في الآخر، ولا شك أن الغيث سبب في النبات, وكفى هذه السببية علاقة تصحح استعمال الغيث في النبات. وسمي مجازًا مرسلًا؛ لأنه أرسل أي: أطلق عن التقييد بعلاقة واحدة، وأن له عدة علاقات سيأتي بيانها بعد، أو لأنه أرسل عن دعوى الاتحاد المعتبرة في الاستعارة, إذ ليست العلاقة بين المعنيين في المجاز المرسل المشابهة حتى يدعى اتحادهما. قيل: إن ما عللوا به في تسمية القسم الأول "استعارة" من أن اللفظ منقول ومستعار من معناه الأصلي للمعنى المراد كالثوب المستعار من صاحبه لغيره, يصح التعليل به في المجاز المرسل, فإن اللفظ فيه أيضًا منقول ومستعار من معناه الأول لمعنى آخر, كلفظ "الغيث" المنقول من معنى "الماء" إلى معنى "النبات" ومقتضى هذا أن يسمى المجاز المرسل "استعارة". أجيب: إن هذه التسمية مجرد اصطلاح؛ قصد بها التفرقة بين نوعين من المجاز, مختلفي العلاقة.

علاقة المجاز المرسل

علاقة المجاز المرسل ... علاقات المجاز المرسل: للمجاز المرسل علاقات عدة, أشهرها وأكثرها استعمالًا ما يلي بعد: 1- السببية: هي أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور سببًا في المعنى المراد كما تقدم في قولنا: "رعت الإبل الغيث" أي: النبات, ففي "الغيث" مجاز مرسل علاقته السببية؛ لأن المعنى الأصلي للغيث سبب في المعنى المراد الذي هو "النبات", والقرينة قوله: "رعت" إذ إن الغيث لا يرعى. 2- المسببية: هي أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور سببًا عن المعنى المراد, كقولك: "أمطرت السماء نباتًا" أي: ماء "فالنبات" مجاز مرسل علاقته المسببية؛ لأن المعنى الأصلي "للنبات" مسبب عن المعنى المراد الذي هو "الماء", والقرينة قوله: "أمطرت" إذ إن النبات لا يمطر. 3- اللازمية1: هي أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور لازمًا للمعنى المراد، أي: يلزم من وجود المعنى المراد وجوده, كما تقول: بزغ الضوء, تريد "الشمس" فالضوء مجاز مرسل علاقته اللازمية؛ لأن المعنى الأصلي للضوء لازم للمعنى المراد الذي هو "الشمس", إذ يلزم من وجود الشمس وجود الضوء، والقرينة قوله: "بزغ" إذ إن البزوغ وصف لجرم الشمس، لا للضوء.

_ 1 المراد باللزوم هنا عدم الانفكاك, لا مطلق ارتباط.

4- الملزومية: هي أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور ملزومًا للمعنى المراد أي: يلزم من وجوده وجود المعنى المراد كما تقول: ملأت الشمس المكان, "فالشمس" مجاز مرسل علاقته الملزومية؛ لأن المعنى الأصلي للشمس ملزوم للمعنى المراد الذي هو "الضوء", والقرينة قوله: "ملأت" فهو وصف للضوء لا للجرم المعروف كما لا يخفى. 5- الكلية: هي أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور كلًّا متضمنًا للمعنى المراد, كقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} أي: أناملهم, ففي {أَصَابِعَهُمْ} مجاز مرسل علاقته الكلية؛ لأن المعنى الأصلي للأصابع كل الأنامل، متضمن لها، والقرينة استحالة وضع الإصبع كلها في الأذن عادة. 6- الجزئية: هي أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور جزءًا من المعنى المراد, كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي: عبد مؤمن ففي {رَقَبَةٍ} مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ لأن المعنى الأصلي للرقبة جزء من العبد، والقرينة أن التحرير إنما يكون للذات كلها، لا لجزء منها؛ إذ إن العتق لا يتجزأ. وكقولهم: "بث الملك عيونه" أي: رقباءه جمع رقيب، وهو يرقب حركات العدو, ففي "العيون" مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ لأن المعنى الأصلي للعين جزء من الرقيب, والقرينة استحالة بث العيون وحدها. وكقول معبد بن أوس المزني1 في ابن أخته: أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد2 ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني يريد: "فلما قال قصيدة" ففي لفظ "قافية" مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ لأن المعنى الأصلي للقافية جزء من القصيدة, والقرينة قوله: "هجاني" لأن الهجاء لا يتأتى من القافية وحدها, غير أنه يشترط لهذه العلاقة أحد أمور ثلاثة: الأول: أن يكون انتفاء الجزء مستلزمًا لانتفاء الكل، كما في إطلاق الرقبة

_ 1 هو شاعر مخضرم يحسن القول في باب الحكم, وفي الشعر الخلقي. 2 يروى بالسين المهملة من التسديد في الرمي, أي: الإصابة فيه.

على الذات في المثال الأول, إذ ليس من شك اليقين أن إعدام الرقبة إعدام للذات, فلا يصح حينئذ إطلاق اليد أو الرجل أو الأذن على الإنسان مجازًا مرسلًا؛ لأنها إجراء لا يستلزم انتفاؤها انتفاء الإنسان عادة. الثاني: أن يكون للجزء مزيد اختصاص بالمعنى المقصود من الكل, كما في إطلاق العين على الرقيب في المثال الثاني, فإن المعنى المقصود من الرقيب هو الاطلاع والتجسس, ولا شك أن للعين مزيد اختصاص في تحقق هذا المعنى؛ إذ بانعدامها ينعدم معنى الرقابة, فإطلاق الإذن مثلا على الرقيب مجازًا مرسلًا لا يحسن، إذ ليس لها مزيد اختصاص بالمعنى المقصود من الرقيب. الثالث: أن يكون الجزء أشرف بقية الأجزاء, كما في إطلاق القافية على القصيدة في المثال الثالث؛ إذ لا ريب أن القافية هي الأساس الذي تبنى عليه القصيدة, فهي إذًا أشرف التفاعيل وأولاها بالاعتبار, فلا يجوز إطلاق أي جزء آخر من أجزاء البيت على القصيدة مجازًا مرسلًا، إذ ليس له من الاعتبار ما للقافية. 7- الحالية: أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور حالا في المعنى المراد, كقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} أي: ففي جنة الله, فقوله: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} مجاز مرسل علاقته الحالية؛ إذ إن رحمة الله بمعنى نعمه وآلائه حالة في جنته, والقرينة استحالة ظرفية الرحمة بمعناها الحقيقي. ومثله قول الشاعر: قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي؟ يريد: إذا تأخر فرسه، أي: تقاعس ورجع إلى خلف خوفًا وجبنًا, "فسرجه" مجاز مرسل علاقته الحالية؛ لأنه حال فوق ظهر الفرس. 8- المحلية: هي أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور محلا للمعنى المراد, كقوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} 1 أي: أهل النادي، ففي {نَادِيَهُ}

_ 1 نادي القوم: مجتمعهم كالمنتدى.

مجاز مرسل علاقته المحلية؛ لأن المعنى الأصلي للفظ "النادي" محل للمعنى المراد الذي هو الأهل, والقرينة استحالة دعاء النادي بمعناه الحقيقي. وكقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهل القرية "فالقرية" مجاز مرسل علاقته المحلية؛ لأن القرية بمعناها الحقيقي محل لساكنيها، والقرينة استحالة سؤال القرية بمعناها الأصلي أي: على أحد الاحتمالين في المثالين1. 9- الآلية: أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور آلة, ووسيلة للمعنى المراد, كقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} أي: ذكرًا صادقًا وثناء عطرًا فيمن يأتي بعدي من الأمم, ففي {لِسَانَ صِدْقٍ} مجاز مرسل علاقته الآلية؛ لأن اللسان بمعناه الأصلي آلة وواسطة للذكر الحسن الذي هو المعنى المراد، والقرينة: استحالة بقاء هذه الجارحة بمعناها الحقيقي فيمن يأتي من الأمم بعد. ومنه قول الشاعر: "أتاني لسان منك لا أستسيغه" أي: ذكر لا يسر, أطلق عليه اللسان مجازًا مرسلًا؛ لأنه آلة الذكر، وقرينته استحالة إتيان اللسان بمعناه الحقيقي. 10- اعتبار ما كان: وهو أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور سابق الحصول على المعنى المراد, كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى 2 أَمْوَالَهُمْ} يريد البالغين، ففي لفظ {الْيَتَامَى} مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان؛ لأن المعنى الحقيقي "لليتيم" سابق الوجود على المعنى المراد، وهو "البالغ"، والقرينة على أن المراد باليتامى البالغون منهم الأمر بدفع الأموال لهم أي: تمكينهم منها بالتصرف فيها, ولا يكون ذلك إلا بعد البلوغ. 11- اعتبار ما يكون: أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور مستقبل الحصول ظنًّا أو يقينًا. فالأول كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} يريد "عنبًا" يئول عصيره إلى خمر، ففي قوله: {خَمْرًا} مجاز مرسل علاقته: اعتبار ما يكون، أي: ما يئول إليه عصيره فيما بعد من الاختمار, فالمعنى الحقيقي للخمر مستقبل الوقوع وإنما

_ 1 والاحتمال الآخر أن يكون مجازًا بالحذف. 2 اليتامى: جمع يتيم, وهو من الإنسان صغير فقد أباه، ومن الحيوان رضيع فقد أمه.

كان هذا المآل مظنونًا؛ لاحتمال أن يقوم حائل دون الاختمار، والقرينة على أن المراد العنب لفظ "الخمر" لأنها عصير والعصير لا يعصر، ومثل قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} أي: بطفل يئول إلى غلام. والثاني قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} يريد: إنك سوف تموت، وإنهم سوف يموتون, فالتعبير "بميت" مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يكون أي: ما سيئول إليه حالهم من المصير المحتوم، والقرينة على التجوز مقام الخطاب؛ لأن من مات فعلا لا يخاطب. 12- المجاورة: أن يكون الشيء مجاورًا لآخر في مكانه كإطلاق "الراوية" على القربة في قولك: "خلت الراوية من الماء" تريد: القربة، ومعنى الراوية في الأصل "الدابة" التي يستقى عليها, فالراوية حينئذ مجاز مرسل علاقته المجاورة؛ لمجاورة الدابة للقربة عند حملها, والقرينة لفظ "خلت" لأن الذي يخلو من الماء هو الوعاء, لا الحيوان. ومما علاقته المجاورة إطلاق العلم على الظن، أو العكس لتقاربهما في المعنى فهما متجاوران. 13- البدلية: وهو أن يكون الشيء بدلًا عن آخر, كإطلاق القضاء على الأداء في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} يريد: "فإذا أديتم"؛ لأن الإتيان بالصلاة في وقتها يسمى أداء لا قضاء, فالتعبير بالقضاء بدلا عن الأداء مجاز مرسل علاقته "البدلية" والقرينة مقام الخطاب؛ إذ إن الخطاب مع من يوفون الصلاة في أوقاتها, ومثل هذا يسمى عندهم أداء. 14- المبدلية: وهي أن يكون الشيء مبدلًا عنه آخر, كإطلاق الدم على الدية في قول شاعر يتبرم بعشرة زوجه ويتوعدها بالزواج عليها: أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر1 يريد: أكلت "دية", ففي قوله: "دما" مجاز مرسل علاقته "المبدلية"

_ 1 راعه: أخافه، والضرة بفتح الضاد: إحدى الزوجتين أو الزوجات، والقرط: ما يعلق في شحمة الأذن، وبعيدة مهوى القرط: كناية عن طول عنقها.

فإن الدم مبدل منه الدية، والدية يأخذها ولي الدم بدلًا عنه, والقرينة قوله: "أكلت" لأن الدم المسفوك لا يؤكل. 15- العموم: وهو أن يكون اللفظ المذكور دالًّا على العموم، شاملًا لكثيرين؛ كإطلاق لفظ {النَّاسَ} على محمد -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ففي {النَّاسَ} مجاز مرسل علاقته العموم, والقرينة حالية. 16- الخصوص: وهو أن يكون اللفظ المذكور دالًّا على الخصوص, كإطلاق اسم أبي القبيلة "كتميم أو تغلب" على القبيلة قبل أن يغلب عليها. 17- التعلق الاشتقاقي: وهو أن يكون اللفظ مشتقًّا منه غيره, كإطلاق المصدر على اسم المفعول في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي: مخلوقه، وقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي: معلومه، فكل من الخلق والعلم مجاز مرسل علاقته ما بين المصدر واسم المفعول من الربط الاشتقاقي. 18- التقييد والإطلاق: هو أن يكون الشيء مقيدًا، ثم يطلق عن قيده كما في إطلاق "المشفر" على شفة "زيد" مثلًا في قولك: "مشفر زيد يسيل دمًا" تريد شفته, فالمشفر "في الأصل" للبعير خاصة، ثم أطلق عن هذا القيد، وأريد به مطلق شفة, فصح إطلاقه على شفة زيد باعتبارها فردًا من أفراد هذا المطلق, فيكون مجازًا مرسلًا علاقته التقييد والإطلاق. ومثله إطلاق "المرسن" على أنف المرأة في قول الشاعر: "وفاحمًا ومرسنًا مرسجًا" فالمرسن في الأصل أنف البعير؛ لأنه موضع الرسن منه, ثم أطلق على قيده وأريد به مطلق أنف, فصح إطلاقه على أنف المرأة باعتباره أحد أفراد هذا المطلق، فهو مجاز مرسل علاقته التقييد والإطلاق1. ويصح في مثل هذين المثالين أن تكون العلاقة المشابهة؛ وحينئذ يكون

_ 1 والمجاز المرسل في المثالين ذو مرتبة واحدة, فإذا أطلق المشفر على شفة زيد لا باعتبارها أحد أفراد مطلق شفة, بل باعتبارها خصوص شفة زيد, كان المجاز المرسل ذا مرتبتين، ومثل هذا يقال في المرسن وأشباهه.

اللفظ "استعارة" بأن تشبه شفة زيد بمشفر البعير في الغلظ والتدلي, ثم يستعار لها لفظ "مشفر" -ومثل هذا يقال في "المرسن"- فاللفظ الواحد قد يكون مجازًا مرسلًا واستعارة باعتبارين, فإن اعتبرت العلاقة بين الطرفين غير المشابهة كان اللفظ "مجازًا مرسلًا"، وإن اعتبرت العلاقة المشابهة كان اللفظ "استعارة"، والعبرة بقصد المتكلم وإرادته، فإن لم يعلم قصده بأن لم تقم قرينة عليه احتمل اللفظ الأمرين. إلى غير ذلك من علاقات المجاز المرسل, فهي لا تقف عند هذا العدد, وإنما أحصينا لك أشهرها، وأكثرها استعمالًا. تنبيهان: الأول: اعلم أن القصد من العلاقة: أن يتحقق ارتباط بين الشيئين على أي وجه, فإطلاق الدال على المدلول مثلًا في قولك: "فهمت الألفاظ" أي: معانيها "مجاز مرسل" علاقته يصح أن تكون "المجاورة"، على اعتبار أن الدال وهو "اللفظ" مجاور للمدلول الذي هو "المعنى. ويجوز أن تكون العلاقة "المحلية" على اعتبار أن الدال محل للمدلول, إذ الألفاظ "كما يقولون" قوالب للمعاني, وإذًا فنوع العلاقة ليس وقفًا على ما ذكرنا، وإنما يرشدك إليها الذوق، ويدلك عليها فهم الكلام. الثاني: مما تقدم يعلم أن المراعى في علاقات المجاز المرسل جانب المعنى المنقول عنه اللفظ المذكور في الكلام, فإن كان المنقول عنه سببًا في المنقول إليه كانت العلاقة السببية، وإن كان مسببًا كانت العلاقة المسببية، وهكذا فالعلاقة في نحو "رعينا الغيث" السببية؛ لأن المعنى المنقول عنه لفظ "الغيث" سبب في المعنى المنقول إليه وهو "النبات", والعلاقة في نحو: "أمطرت السماء نباتًا" المسببية؛ لأن المعنى المنقول عنه لفظ "النبات" مسبب عن المعنى المنقول إليه وهو "الغيث". وإنما روعي في العلاقة جانب المعنى المنقول

عنه اللفظ؛ لأنه الأصل فهو أولى بالمراعاة. وقيل: يراعى فيها جانب المعنى المنقول إليه؛ لأنه المراد, وبناء عليه تكون العلاقة في المثال الأول "المسببية" وفي المثال الثاني "السببية" عكس القول الأول. وقيل: يراعى الجانبان معًا، فينص حينئذ على الأمرين فيقال: علاقة المجاز السببية والمسببية، أو الحالية والمحلية, وهكذا, ففي المسألة أقوال أرجحها الأول. تمرين: 1- عرف المجاز المرسل, ثم وضح التعريف بمثال تختاره من إنشائك, مع بيان علة تسميته "مرسلًا" ولِمَ لم يسم "استعارة" مع أن اللفظ فيه مستعار معناه الأصلي لمعنى آخر؟ 2- بين المجاز المرسل، ووضح علاقته وقرينته في العبارات والأبيات الآتية بعد: 1- عمت أياديك الورى. 2- تبث الحكومة الأمن في أرجاء البلاد. 3- شربت ماء النيل. 4- شربت البن. 5- غرست القطن في أرضنا. 6- قرر المجلس الأعلى كذا وكذا. 7- أقمنا في نعيم ورفاهية. 8- {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} . 9- {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} . 10- أرانا الله وجوهكم في خير. 11- {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . 12- تناولت من الطبيب الشفاء. 13- أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان 14- سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ... بأنني خير من تسعى له قدم 15- تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل الجواب على السؤال الثاني: 1- في "أياديك" مجاز مرسل علاقته السببية؛ إذ إن المراد بالأيادي العطايا

واليد الحقيقية سبب في إيصالها إلى مستحقها, والقرينة قوله: "عمت" إذ العموم لا يناسب اليد بمعناها الحقيقي. 2- في "الأمن" مجاز مرسل علاقته المسببيه؛ إذ إن المراد: رجال الأمن وهو مسبب عنهم، والقرينة في قوله: "تبث" لأن الأمن بمعناه الحقيقي لا يبث, وإنما الذي يبث رجاله. 3- في "ماء النيل" مجاز مرسل علاقته الكلية؛ إذ المراد بعض مائه والنيل كل لهذا الجزء المشروب, والقرينة قوله "شربت" لأن النيل لا يشرب كله. 4- في البن مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان؛ إذ المراد القهوة، وهي كانت قبل ذلك بنًّا, والقرينة قوله: شربت؛ إذ إن البن بمعناه الحقيقي لا يشرب. 5- في القطن مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يكون؛ إذ إن المراد الحب الذي سيئول قطنا فيما بعد في غالب الظن, والقرينة قوله: غرست لأن القطن بمعناه الأصلي لا يغرس, وإنما يجنى. 6- في المجلس مجاز مرسل علاقته المحلية؛ إذ المراد رجال المجلس وهو محل لهم, والقرينة قوله: "قرر" لأن صدور القرار في المجلس بمعناه الحقيقي محال. 7- في "نعيم ورفاهية" مجاز مرسل علاقته الحالية؛ إذ المراد المكان الحال فيه النعيم والرفاهية, والقرينة استحالة الإقامة في النعيم والرفاهية بمعناها الحقيقي. 8- في {السَّمَاءَ} مجاز مرسل علاقته المحلية؛ إذ إن المراد الغيثُ، والسماء محل له, والقرينة قوله: {أَرْسَلْنَا} لأن لمرسل هو الماء لا السماء. 9- في {الْأَنْهَارَ} مجاز مرسل علاقته المحلية أيضًا؛ إذ المراد الماء الذي يجري في الأنهار, والقرينة قوله: {تَجْرِي} لأن الجري من شئون المياه، لا من صفات الأنهار.

10- في وجوهكم مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ إذ المراد الأشخاص أنفسهم والوجه جزء الإنسان, والقرينة عقلية إذ لا معنى لأن يراد رؤية الوجه وحده. 11- في {يَدُ اللَّهِ} مجاز مرسل علاقته السببية؛ إذ إن المراد القوة, واليد منشأ هذه القوة وأكثر ما يظهر سلطان القدرة في اليد؛ فيها الضرب, والبطش، والدفع، والقطع، والقرينة عقلية إذ لا معنى لوضع اليد الحقيقية فوق أخرى. 12- في الشفاء مجاز مرسل علاقته المسببية؛ إذ إن المراد الدواء, والشفاء مسبب عنه, والقرينة استحالة شرب الشفاء بمعناه الأصلي. 13- في القلوب مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ إذ المراد الذات, والقرينة قوله: "تستعبد" لأن الاستعباد إنما يكون اللذات، لا لأجزاء منها. 14- في "قدم" محاز مرسل علاقته الجزئية أيضًا؛ إذ إن المراد: "الإنسان الساعي" والقدم جزء منه, والقرينة قوله: "تسعى" لأن السعي من القدم وحدها محال. 15- في "نفوسنا" مجاز مرسل علاقته الكلية؛ إذ المراد: "دماؤها" والنفس كل يتضمن الدم وغيره, والقرينة قوله: "تسيل" لأن السيلان من صفات الدم. تمرين يطلب جوابه على نحو ما تقدم: وكنت إذا كف أتتك عديمة ... ترجي نوالًا من سحابك بلت غرست الورد في البستان. "كذلك يعادي العلم من هو جاهل". قامت البلاد وقعدت لهذا النبأ. "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن". فرجعوا إلى أنفسهم أي: آرائهم. حكمت المحكمة بكذا. شربنا الزبيب. بلادي -وإن جارت علي- عزيزة ... وأهلي -وإن ضنوا علي- كرام أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه، ما يومه، ما المصرع؟ {وَجَاءَ رَبُّكَ} . {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} . {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} . {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} . فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم فهمت الكتاب أبرّ الكتب ... فسمعا لأمر أمير العرب

المجاز المركب

المجاز المركب الاستعارة التمثيلية ... المجاز المركب: قلنا: إن المجاز في اللفظ على نوعين: مفرد، ومركب, وقد فرغنا من الكلام في المفرد وهاك بيان المجاز المركب. تعريفه: هو اللفظ المركب المستعمل في غير المعنى الذي وضع له؛ لعلاقة بين المعنى الأول والثاني، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأول. وينقسم باعتبار هذه العلاقة إلى قسمين: استعارة تمثيلية, ومجاز مرسل. الاستعارة التمثيلية: هي ما يكون كل من الطرفين فيها هيئة منتزعة من متعدد، والعلاقة بينهما المشابهة كما تقدم في التشبيهات المركبة أي: في الهيئات المنتزعة من متعدد, إذا استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه, كما في قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} وحقيقة الكلام: فتركوا الميثاق، ولم يعتدوا به إهمالًا لأمره, وتهوينًا من شأنه. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة من أخذ عليهم الميثاق فأهملوه, ولم يراعوه بهيئة من كان معه شيء لا يهمه، ولا قيمة له عنده، فطرحه وراء ظهره, والجامع بينهما الهيئة الحاصلة من شيء يهمل احتقارًا لشأنه ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه، بعد تناسي التشبيه وادعاء الاتحاد على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة حالية؛ لأن التاركين للميثاق لم يطرحوا شيئًا وراء الظهور حقيقة، فحالتهم على غير ما يفيده هذا التركيب وضعًا. وكقولهم في المتردد في أمره المتحير: أراك تقدم وجلًا, وتؤخر

أخرى1، وحقيقة الكلام: أراك متحيرًا في أمرك, مترددًا. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة المتردد في أمره بين الإقدام والإحجام بهيئة رجل قام ليذهب إلى جهة, فتارة يعقد النية على الذهاب فيقدم رجلًا, وتارة يعدل فيؤخرها ثانيًا, والجامع الهيئة الحاصلة من إقدام تارة، وإحجام أخرى ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه بعد التناسي والادعاء على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة حالية؛ إذ إن المتردد المذكور لا يقدم رجلًا ولا يؤخر أخرى, فحالته على غير ما يدل عليه المركب وضعًا. وسميت الاستعارة في المركب "تمثيلية" لجريان التشبيه فيه بين الهيئات المركبة من متعدد كما في هذين المثالين، أو للتنويه بعظم شأنها كأن غيرها لا تمثيل فيه؛ ولذا كانت محط أنظار البلغاء، وموضع تقديرهم. وإذا فشت الاستعارة التمثيلية، وكثر استعمالها سميت "مثلًا", فالأمثال السائرة كلها من قبيل الاستعارة التمثيلية. والمثل يراعى فيه المعنى الذي ورد فيه أولًا، فيخاطب به المفرد والمثنى والجمع, مذكرًا، أو مؤنثًا من غير تغيير في أصل العبارة؛ لأنه "كما قلنا" استعارة تمثيلية, والاستعارة يجب أن تكون لفظ المشبه به المستعمل في المشبه كما في مثال المتردد, فقد ورد في شخص معين ثم فشا استعماله حتى صار مثلًا يضرب لكل متحير في أمره، متردد فيه، مفردًا كان، أو مثنى, أو جمعًا, مذكرًا، أو مؤنثًا, فيقال لكل واحد ممن ذكر: أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، فينطق به كما ورد. وأصل هذا المثل: أن الوليد بن يزيد لما بويع بالخلافة، وبلغه توقف مروان بن محمد في البيعة كتب له الوليد يقول: أما بعد: فإني أراك تقدم رجلًا وتؤخر

_ 1 قوله: "تقدم رجلًا" أي: تارة, ومفعول "تؤخر" محذوف أي: تلك الرجل المقدمة "وأخرى" نعت "لتارة" المحذوفة, أي: تارة أخرى, وأصل الكلام: أراك تقدم رجلًا تارة, وتؤخرها تارة أخرى.

أخرى, فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت, والسلام. ومثل المثال المذكور قولهم: "الصيف ضيعت اللبن" بكسر تاء الفاعل, فقد ورد في امرأة، ثم شاع استعماله وذاع، حتى صار مثلًا يضرب لمن فرط في تحصيل شيء وقت إمكان تحصيله، ثم طلبه في زمن يتعذر فيه تحصيله. وأصل هذا المثال: أن امرأة شابة كانت تحت شيخ طاعن ذي ثروة, فطلبت إليه الطلاق لضعفه وكبره، وكان ذلك في زمن الصيف، فأجابها إلى ما طلبت وتزوجت بعده بشاب فقير، ثم احتاجت إلى اللبن فذهبت في فصل الشتاء إلى زوجها الأول تطلب منه لبنًا، فلم يجبها إلى طلبها، وقال لها هذا القول المأثور، فصار مثلًا. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة من فرط في شيء وقت إمكان تحصيله، ثم طلبه في وقت يتعذر الحصول عليه فيه، بهيئة امرأة تركت زوجها وعنده لبن، ثم أتت إليه بعد فراقها تطلب اللبن منه، والجامع الهيئة الحاصلة من التفريط في شيء وقت إمكانه، وطلبه وقت تعذره، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه، بعد التناسي والادعاء, على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة حالية إذ إن حالة المقول فيه المثل على غير ما يدل عليه اللفظ وضعًا. وكقولهم: أحشفًا وسوء كيلة1, يضرب لمن يظلم من وجهين. وأصل هذا المثل: أن رجلًا اشترى تمرًا من آخر، فإذا هو حشف وناقص الكيل, فقال المشتري ذلك. وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة من يظلم من جهتين بهيئة رجل باع لآخر تمرًا حشفًا، وكان مع ذلك يطفف المكيال, والجامع الهيئة الحاصلة من ظلم مزدوج، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه بعد التناسي والادعاء استعارة تمثيلية، والقرينة حالية؛ لأن حالة المقول فيه المثل تغاير ما يدل عليه اللفظ وضعًا كما ذكرنا. وكقول الشاعر: إذا جاء موسى وألقى العصا ... فقد بطل السحر والساحر

_ 1 بكسر الكاف اسم بمعنى الكيل, وبفتح الكاف مصدر كال الشيء يكيله بمعنى: قدره بالمكيال.

هو مثل يضرب لمن تحل المشاكل بوجوده. وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت حال من تحل المشاكل بوجوده بحال نبي الله موسى -عليه السلام- مع سحرة فرعون بجامع حال الشيء يحسم عنده النزاع، ثم استعير ... إلخ, أو هو مثل يضرب لمن يتضاءل شأنه عند وجود من هو أجل شأنًا. وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة من يصغر شأنه عند وجود الأجل منه شأنًا بهيئة قوم فرعون، وقد أخفقوا في سحرهم عند مجيء موسى -عليه السلام- وإلقائه العصا, والجامع الهيئة الحاصلة من ضآلة شيء حقير بجانب شيء خطير، والقرينة حالية كسابقاتها, وقس على ذلك جميع الأمثال السائرة نثرًا ونظمًا.

المجاز المرسل المركب

المجاز المرسل المركب 1: هو ما كانت العلاقة فيه غير المشابهة كما في الجمل الإخبارية المستعملة في الإنشاء لأغراض لم يوضع لها الخبر؛ كإظهار التحسر, أو الضعف، أو السرور، أو الشماتة، أو نحو ذلك. فمثال الخبر المستعمل في إنشاء التحسر والتحزن قول الشاعر: ذهب الصبا وتولت الأيام ... فعلى الصبا وعلى الزمان سلام فهذا الخبر -وإن كان في أصل وضعه للإخبار- مستعمل في إنشاء التحسر على فقدان الشباب، وذهاب أيامه، والعلاقة فيه اللزوم؛ إذ يلزم من الإخبار بذهاب الصبا التحسر والتحزن عليه, والقرينة قوله: "فعلى الصبا وعلى الزمان سلام". ومثال الخبر المستعمل في إظهار الضعف قول الله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} فزكريا -عليه السلام- لا يريد بهذا القول أن يخبر الله بحاله؛ إذ يعلم أن الله لا يخفى عليه خافية ولكنه قصد بهذا إظهار الضعف. وإنه بلغ من الوهن غاية لا أمل له بعده في الحياة, والعلاقة اللزوم كالذي قبله, والقرينة مقام الخطاب. ومثال الخبر المستعمل في إظهار السرور قولك لم يعلم بنجاحك

_ 1 إنما أطلق عليه هذا الاسم قياسًا على المجاز المفرد, وإلا فإن العلماء لم يضعوا له اسما, بل إن أكثرهم لم يبحثوه بحثًا تفصيليًّا.

وأنت تعلم منه ذلك: "نجحت في الامتحان" فليس الغرض أن تفيده بنجاحك, وإنما تريد أن تظهر له سرورك بهذا النجاح، والعلاقة والقرينة كالذي قبله. إلى غير ذلك من الأخبار التي لم يقصد بها الإفادة, غير أن العلماء أهملوا هذا القسم، ولم يبحثوه لتضارب الآراء فيه؛ لهذا لم نشأ الإطالة في البحث فيه. تمرين: 1- عرف المجاز المركب وقسمه, ومثل لكل قسم. 2- عرف الاستعارة التمثيلية، وبين لِمَ سميت تمثيلية, ومتى تسمى مثلًا؟ ثم أجر الاستعارة في قولهم: أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا1, وهو مثل يضرب لمن يعد ولا يفي بما يعد. 3- أجر الاستعارة التمثيلية فيما يأتي على قياس ما سبق: اليد لا تصفق وحدها "لمن يعجز عن القيام بعمل وحده". تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها "لمن يصون نفسه عن خسيس المكاسب". إن الأفاعي وإن لانت ملامسها ... عند التقلب في أنيابها العطب "يضرب لمن يخدع الناس بلينه، ثم يعود عليه طبعه، فينقلب على من خدعه". بالملح تصلح ما نخشى تغيره ... فكيف بالملح إن حلت به الغير؟ "يضرب لمن فسدت حاله ممن هو قدوة لغيره" كرجال العلم والدين. "إن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى" 2 "يضرب لمن جاوز الحد في العمل". تلدغ العقرب وتصيء3 "يضرب لمن يظلم ويتظلم". تسمع بالمعيدي4 خير من أن تراه "يضرب لمن منظره دون مخبره". رجع بخفي حنين5 "لمن يعمل عملًا فيخيب فيه". رمية من غير رامٍ "لمن يصدر منه فعل حسن ليس له أهلًا".

_ 1 "الطحن" بكسر الطاء: الدقيق. 2 "المنبت" هو من أجهد دابته في السير فنفقت قبل الوصول، والمراد بالظهر: الدابة. 3 يسيل ماؤها. 4 هو مصغر معدي بتشديد الدال، والياء للنسبة إلى قبيلة "معد", وهو رجل كان كريه المنظر حسن الصوت. 5 رجل كان إسكافيا يصنع الأحذية

المبحث الخامس: في الكناية

المبحث الخامس: في الكناية مدخل ... المبحث الخامس: في الكناية تعريفها: هي في اللغة: أن تتكلم بالشيء، وتريد غيره، وهي مصدر كنيت بكذا عن كذا, إذا تركت التصريح به وبابه رمى يرمي. وورد "كنوت" بكذا عن كذا, من باب "دعا يدعو". وقد أنشد الجوهري: وإني لأكنو عن قدور بغيرها ... وأعرب أحيانًا بها وأصارح ومعناها اصطلاحًا: لفظ أطلق, وأريد به لازم معناه الحقيقي، مع قرينة غير مانعة من إرادة هذا المعنى, كما تقول: محمد طويل النجاد1, فالمعنى الحقيقي لهذا اللفظ: هو أن نجاد محمد طويلة وليس هذا مرادًا, إنما المراد لازم هذا المعنى وهو أن محمدًا طويل القامة؛ إذ يلزم عادة من طول النجاد أن تكون القامة طويلة, ويصح مع هذا إرادة المعنى الحقيقي أيضًا بأن يراد المعنيان معًا -طول النجاد, وطول القامة- وبهذا: تخالف الكناية المجاز؛ ذلك أن قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي "كما عرفت" من أن نحو: "كلمني أسد" لا يجوز أن يراد منه الحيوان المفترس؛ لأن فيه قرينة تمنع من ذلك، وهو "كلمني" إذ إن الكلام من شأن الإنسان لا من شأن الأسود، أما قرينة الكناية فغير مانعة "كما رأيت". تنبيه: ليس بلازم في الكناية أن يكون المعنى الحقيقي للفظ المكنى به متحققًا في الواقع؛ إذ يصح أن تقول: "فلان طويل النجاد" كناية عن طول القامة, وإن

_ 1 ما يوضع على العاتق من حمائل السيف.

لم يكن له نجاد بل تصح الكناية حتى مع استحالة المعنى الحقيقي, كما في قولهم: "المجد بين برديه, والكرم تحت ردائه" كناية عن إثبات المجد والكرم للمدوح, فإن المعنى الحقيقي للفظ المذكور وهو حلول المجد بين البردين والكرم تحت الرداء مستحيل الحصول؛ إذ إن الحلول الحسي بين الأشياء أو تحتها من شأن الأجسام لا المعاني. وكما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كناية عن الاستيلاء والسيطرة, فإن المعنى الحقيقي للاستواء هو "الجلوس" وذلك مستحيل على الله سبحانه. ومن هنا يعلم أن الشرط في الكناية جواز إرادة المعنى الحقيقي، لا إرادته بالفعل لامتناع إرادته فيما ذكرنا ا. هـ.

أقسام الكناية

أقسام الكناية: تنقسم الكناية باعتبار المكنى عنه إلى ثلاثة أقسام: 1- كناية يطلب بها صفة1. 2- كناية يطلب بها موصوف. 3- كناية يطلب بها نسبة صفة إلى موصوف. فالأولى -وهي المطلوب بها صفة- ضابطها: أن يصرح بالموصوف وبالنسبة إليه، ولا يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، ولكن يذكر مكانها صفة تستلزمها كما في المثال السابق, وهو قولنا: "محمد طويل النجاد" كناية عن طول القامة, فقد صرح بالموصوف وهو "محمد"، وصرح بالنسبة وهي إسناد طول النجاد إليه ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها وهي "طول القامة", ولكن ذكر مكانها صفة أخرى تستلزمها هي "طول النجاد"، كما سبق. وكقولهم: "عباس كثير الرماد" كناية عن جوده, فقد صرح في هذه الكناية بالموصوف، وهو "عباس" وصرح بالنسبة وهي إسناد كثرة الرماد إليه ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي "الجود"

_ 1 المراد بالصفة هنا المعنى القائم بالغير كالجود, وطول القامة لا خصوص النعت النحوي.

ولكن ذكر مكانها صفة تستلزمها هي "كثرة الرماد" إذ يلزم من "كثرة الرماد" صفة الجود كما سيأتي قريبًا, وهكذا. وهذه الكناية ضربان: قريبة وبعيدة. فالقريبة: ما ينتقل الذهن منها إلى المقصود بلا واسطة بين المنتقل عنه, والمنتقل إليه كما في قولنا: "محمد طويل النجاد" فإن المطلوب بقولنا: "طويل النجاد" صفة هي طول القامة -كما بينا- وليس بين طول النجاد وطول القامة واسطة, وإنما ينتقل الذهن من طول النجاد إلى طول القامة مباشرة. والقريبة نوعان: واضحة، وخفية. فالواضحة: ما يفهم المقصود لأول وهلة كالمثال المذكور، فإن طول القامة يفهم من طول النجاد بلا حاجة إلى تأمل؛ لوضوح اللزوم بينهما كما عرفت, وقد تسمى إيماء وإشارة1. والخفية: ما لا يفهم منها المقصود إلا مع شيء من التأمل والتفكير, كما في قولهم: "فلان عريض القفا" كناية عن أنه أبله, فإن عرض القفا بإفراط مما يستدل به على البلاهة إلا أن فهم البلاهة منه يتوقف على إعمال فكر وروية؛ لأن في اللزوم بين المعنيين نوع خفاء وقد تسمى رمزًا2. والبعيدة: ما ينتقل الذهن منها إلى المقصود بواسطة, كما في قولنا: "عباس كثير الرماد" كناية عن أنه جواد سمح, فالمطلوب بهذه الكناية صفة هي "الجود" وبين كثرة الرماد وصفة الجود وسائط عدة لا بد من مراعاتها للوصول إلى هذه الصفة؛ فينتقل أولًا من كثرة الرماد إلى كثرة الإحراق، ومنها إلى كثرة الطبخ، ومنها إلى كثرة الأكلة، ثم إلى كثرة الضيفان، ومنها إلى "الجود" وقد تسمى تلويحًا3.

_ 1 لأن أصل الإشارة أن تكون حسية, وهي ظاهرة ومثلها الإيماء. 2 لأن الرمز أن تشير إلى غيرك من قرب خفية. 3 لأن التلويح أن تشير إلى غيرك من بعد.

والثانية -وهو المطلوب بها موصوف- ضابطها: أن تصرح بالصفة وبالنسبة, ولا يصرح بالموصوف المطلوب النسبة إليه, ولكن يذكر مكانه صفة تختص به كما في قولك: "فلان صفا لي مجمع لبه" أي: قلبه فقد صرح في هذه الكناية بالصفة, وهي "مجمع اللب" وصرح بالنسبة, وهي إسناد الصفاء إليها ولم يصرح بالموصوف المطلوب نسبة الصفاء إليه، وهو "القلب" ولكن ذكر مكانه وصف خاص به وهو مجمع اللب, فإن القلب "كما يقولون" موضع العقل والتفكير. ومنه قول الشاعر: الضاربين بكل أبيض مخزم ... والطاعنين مجامع الأضغان1 يصف القوم بالبسالة، وحسن البلاء في الحروب, وأن سيوفهم لا تعرف غير المقاتل جفونًا, وقد كنى الشاعر بمجامع الأضغان عن "القلوب" لاختصاص الوصف المذكور بها؛ إذ إن الضغن لا يكون في غير القلب. وهذه الكناية أيضًا نوعان: الأول: ما تكون الكناية فيه معنًى واحدًا, لا تعدد فيه كما تقدم في قولنا: "فلان صفا لبه" فإن مجمع اللب المكنى به عن القلب معنى واحد "كما ترى". والمراد بوحدة المعنى هنا ألا يكون من أجناس مختلفة، إن كان مثنى أو جمعًا, فمجامع الأضغان في قول الشاعر السابق -وإن كان جمعًا- هو معنى واحد من حيث إن مدلوله جنس واحد هو القلب, لا أجناس مختلفة. الثاني: ما تكون الكناية فيه مجموع معانٍ مختلفة كما يقال في الكناية عن الإنسان: "زارني حي، مستوي القامة، عريض الأظافر" فالكناية مجموع هذه المعاني من الحياة, واستواء القامة, وعرض الأظافر, لا كل واحد منها, وهذه المعاني مجتمعة وصف خاص بالإنسان، لا يوجد في سواه.

_ 1 "الأبيض": السيف، والمخزم بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الزاي: القاطع, والضغن: الحقد.

والثالثة -وهي المطلوب بها نسبة- ضابطها: أن تصرح بالموصوف والصفة، ولا يصرح بالنسبة بينهما ولكن يذكر مكانها نسبة أخرى تستلزمها، وهذه النسبة إما أن تكون إثباتًا أو نفيًا, فمثالها في الإثبات قولهم: "الكرم بين ثوبي محمد" كناية عن إثبات الكرم له, فقد صرح في هذه الكناية بالموصوف وهو "محمد" وصرح بالصفة وهي "الكرم" ولكن لم يصرح بنسبة الكرم إليه، وإنما ذكر مكانها نسبة أخرى هي نسبة الكرم إلى ثوبيه إثباتًا, وهي تستلزم نسبة الكرم إليه من حيث وجوده بين ثوبيه الخاصين به. ومنه قول الشاعر: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج1 فإن إثبات هذه الأمور الثلاثة للقبة الخاصة بابن الحشرج يستلزم إثباتها له على نحو ما تقدم. ومثالها في النفي قول الشنفرى، يصف امرأة بالعفة: يبيت بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت فقد صرح بالموصوف، وهو الضمير في "بيتها" العائد على المرأة، وصرح بالصفة وهي "اللوم المنفي" في قوله: "بمنجاة من اللوم" ولم يصرح بنسبة نفي اللوم عنها, ولكن ذكر مكانها نسبة أخرى هي نفي اللوم عن بيت يحتويها, وذلك يستلزم نفي اللوم عنها. تمرين: 1- عرف الكناية لغة واصطلاحًا, وبين الفرق بينها وبين المجاز. 2- اذكر أقسام الكناية باعتبار المكنى عنها, وضابط كل منها مع التمثيل. 3- عرف الكناية البعيدة، ومثل لها، وبين وجه البعد فيها.

_ 1 هو عبد الله بن الحشرج, كان أميرًا على نيسابور، يدل على ذلك قوله: "في قبة" إذ يفهم منه أن الممدوح ممن تضرب له القباب، وذلك عنوان السيادة والإمارة.

4- ائت بمثالين للكناية المطلوب بها صفة, وبمثلهما للكناية عن الموصوف، وبآخرين للكناية عن النسبة, ثم بين المكنى به، والمكنى عنه، ونوع الكناية في قول الشاعر: وكلبك آنس بالزائرين ... من الأم بابنتها الزائرة 5- وضح نوع الكناية فيما يأتي: 1- أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر 2- أوما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل1 طلحة ثم لم يتحول 3- وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل2 4- لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل 5- فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير 6- أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا3 7- فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها4 ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد 8- هو سمين رخو 9- فلان يفترش الثرى, ويتوسد الجنادل5. 10- فلان ملء إهابه6 الكرم. 11- فلان عريض الوسادة. 12- {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} 7.

_ 1 على حذف مضاف أي: في خيام آل طلحة. 2 الفصيل: ولد الناقة. 3 الروادف جمع: ردف بكسر سكون, وهو عجيزة المرأة، والثدي بضم الثاء مع التشديد وكسر الدال وتشديد الياء جمع: ثدي بفتح فسكون، والقمص بضم القاف والميم وسكن للضرورة جمع: قميص, وقد جمعت هذه الأشياء للمبالغة. 4 حديد السهم, أو الرمح. 5 الحجارة. 6 الإهاب بكسر الهمزة: الجلد. 7 الدسر بضمتين جمع: دسار, وهو حبل من ليف تشد به ألواح السفينة.

الجواب على السؤال الأخير: 1- في الشطر الثاني من البيت كناية يراد بها صفة هي طول الرقبة؛ إذ يلزم من مهوى القرط أن يكون العنق طويلًا, وهذه الكناية قريبة لعدم وجود الواسطة بين بعد المهوى وطول الرقبة، وواضحة لوضوح اللزوم بين المعنيين. 2- في البيت كناية يراد بها نسبة هي ثبوت المجد لآل طلحة, ذلك أن إلقاء المجد رحلة في خيام آل طلحة، وعدم تحوله عنها يستلزم ثبوت المجد لهم دائمًا؛ لأن المجد وصف لا يصلح قيامه بالخيام والأخبية وليس في الخيام سواهم، فلزم ثبوته لهم وهي قريبة لعدم الواسطة بين النسبتين، وواضحة لوضوح اللزوم بينهما. 3- في الشطر الثاني من البيت كنايتان يراد بهما صفة هي "الجود", فقد كنى أولًا عن جوده "يجبن الكلب" إذ ينتقل الذهن من جبن الكلب واستئناسه بالناس، إلى كثرة مشاهدته لهم, ثم ينتقل من هذا، إلى كثرة من يقصدونه, ثم إلى كثرة قراه للأضياف, ومنه إلى أنه جواد سخي. وكنى ثانيًا عن جوده "بهزال الفصيل" إذ ينتقل الذهن من هزال الفصيل إلى فقدان لبن أمه بنحرها، أو بأخذ اللبن منها، ثم ينتقل من هذا إلى كثرة الآكلين أو الشاربين, ثم إلى كونه مضيافًا سخيًّا. والكنايتان بعيدتان لتعدد الوسائط بين المعنيين، وواضحتان لوضوح اللزوم بينهما. 4- في الشطر الأول من البيت كناية يراد بها نسبة هي إثبات المجد لهم, ذلك أن نزول المجد في منازلهم الخاصة بهم, مقصورًا عليها لا يتعداها إلى غيرها, يستلزم ثبوت المجد لهم وقصره عليهم؛ إذ إن المجد صفة لا يصلح قيامها بالجدران والحوائط وليس في المنازل سواهم, فلزم أن تقوم الصفة بهم، والكانية قريبة لعدم الواسطة بين النسبتين، وواضحة لوضوح اللزوم بينهما. 5- في الشطر الثاني من البيت كناية يراد بها نسبة هي ثبوت المجد للممدوح, ذلك أن حلول المجد بكل مكان يحل به الممدوح يستلزم ثبوت المجد له؛ لأن المجد "كما قلنا" وصف لا يصلح قيامه بالأماكن, فلزم ثبوته له وقيامه به, والكناية قريبة لعدم وجود الواسطة, وواضحة لوضوح اللزوم.

6- في هذا البيت كناية عن عدة أوصاف في المرأة هي كبر عجيزتها, وعظم نهديها، وضمور بطنها، ودقة خصرها؛ ذلك أن منع عجيزتها ونهديها قمصها من أن تمس بطنها وظهرها يستلزم هذه الأوصاف المذكورة فصح أن يكون هذا المنع كناية عنها وهي كناية قريبة؛ لعدم وجود الواسطة، وواضحة لوضوح اللزوم بين هذا المنع وهذه الصفات. 7- في الشطر الثاني من البيت كناية عن موصوف هو "القلب"؛ لأن القلب موطن الأشياء الثلاثة المذكورة, وكونه مواطنًا لها وصف خاص به، فصح أن يكون كناية عنه وهي قريبة واضحة. 8- فيه كناية عن صفة هي الكسل وفقدان النشاط, ذلك أن بدانة الجسم ورخاوته تستدعيان الرغبة عن العمل، والزهادة فيه, وهذا هو عين الكسل، والكناية فيه قريبة واضحة لوضوح اللزوم بين البدانة والكسل. 9- فيه كناية يراد بها صفة هي "الفقر"؛ لأن افتراش الثرى وتوسد الجنادل دليل فقدان ما يفترش ويتوسد, وهذا دليل ضيق ذات اليد وهي كناية بعيدة لوجود الواسطة، ولكنها واضحة اللزوم بين المعنيين. 10- كناية يراد بها نسبة هي إثبات الكرم للممدوح؛ لأن الكرم صفة لا يصلح إهاب الممدوح وعاء لها؛ فلزم ثبوت الكرم لذي الإهاب, وهي قريبة واضحة اللزوم. 11- كناية يراد بها صفة هي "البله"؛ إذ يلزم من عرض الوسادة عرض القفا, وهو مما يستدل به على البلاهة, والكناية بعيدة لوجود الواسطة, وخفية لخفاء اللزوم بين عرض الوسادة والبلاهة. 12- كناية يراد بها موصوف هو "السفينة"؛ لأن مجموع الأمرين المذكورين وهما الألواح والدسر مشدودًا أحدهما بالآخر, وصف خاص بالسفن والكناية فيه واضحة.

تمرين يطلب جوابه قياسًا على ما سبق: يكاد إذا ما أقبل الضيف مقبلًا ... يكلمه عن حبه وهو أعجم لا أمتع العوذ1 بالفصال ... ولا أبتاع إلا قريبة الأجل أبين فما يزرن سوى كريم ... وحسبك أن يزرن أبا سعيد نشتكي ما اشتكيت ما ألم الشو ... ق إليها والشوق حيث النحول ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا متى تخلو تميم من كريم ... ومسلمة بن عمرو من تميم؟ فلان لا يضع العصا عن عاتقه. عباس طاهر الذيل. لبس الدهر لهم جلد النمر. {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} . فلان رحب الصدر قوي الظهر. نموذج في التطبيق على جميع ما مر من قواعد علم البيان: وزاد بك الحسن البديع نضارة ... كأنك في وجه الملاحة خال الجواب: شبه الممدوح بالخال, ووجه الشبه أن كلا يكسب صاحبه بهجة, والأداة "كأن" وهو تشبيه تحقيقي؛ لأن الوجه متحقق في الطرفين غير تمثيلي؛ لأن الوجه منتزع من شيء واحد, وهو مجمل لحذف وجه الشبه، ومرسل لذكر الأداة, والغرض بيان حال المشبه. وفي الملاحة استعارة مكنية شبهت الملاحة بحسناء بجامع ميل النفس إلى كل، واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه, ثم حذف ورمز له بشيء من لوازمه وهو "وجه" على سبيل الاستعارة المكنية, وهي أصلية لأن اللفظ

_ 1 العوذ بضم العين: الإبل الحديثات النتاج, جمع: عائذ كحائل وحول.

المستعار اسم جنس, وقرينتها إثبات الوجه للملاحة، وهذا الإثبات استعارة تخييلية, ودونك القياس على ذلك فيما يأتي من الأبيات: كأن عيون النرجس الغض حولها ... مداهن در حشوهن عقيق وفي يده الصمصام تحكي شباته ... نواجذ أفواه المنايا القواضب هرب النوم عن جفوني فيها ... هرب الأمن من فؤاد الجبان خير أبي حفص لعاب الليل ... يجري إلى الإخوان جري السيل

تتمة

تتمة: أطبق العلماء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وأن الكناية أبلغ من التصريح، وأن الاستعارة أبلغ من التشبيه، ومن المجاز المرسل، والكناية. أما وجه الأبلغية في المجاز والكناية؛ فلأنهما كدعوى الشيء ببينة, ذلك أنك حين تقول متجوزًا: "رأيت أسدًا على المنبر" إنما تريد أن تقول: رأيت رجلًا جريئًا على المنبر, وهذه دعوى قام عليها دليلها وهو إثبات معنى الأسد له, إذ يلزم من كونه أسدًا أن يكون جريئًا للزوم الجراءة للأسد كما علمت, وأنك حين تقول مكنيًا: "محمد طويل النجاد" إنما تريد أن تقول: محمد طويل القامة، وهي دعوى قام عليها دليلها وهو اتصافه بطول النجاد, إذ يلزم من كونه طويل النجاد أن يكون طويل القامة, وكأنك قلت في الأول: رأيت رجلًا جريئًا على المنبر لأنه أسد، وقلت في الثاني: محمد طويل القامة؛ لأنه طويل النجاد. أما الحقيقة في نحو: رأيت رجلًا مقدامًا على المنبر, والتصريح في نحو: محمد طويل القامة, فدعويان لم يقم عليهما دليل وما كان مؤيدًا بدليل أبلغ وآكد مما لم يدعم بدليل, فثبت أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح. ووجه أبلغية الاستعارة على التشبيه هو أن الاستعارة نوع من المجاز، مبني على

دعوى اتحاد المشبه والمشبه به, والتشبيه نوع من الحقيقة بناء على الراجح، وقد ثبت لك أن المجاز أبلغ من الحقيقة. ووجه أبلغيتها على المجاز المرسل ما فيها من دعوى الاتحاد معنى ولفظًا، أما في المعنى فلإدخال المشبه في جنس المشبه به، واعتباره فردًا من أفراده. وأما في اللفظ فلإطلاق لفظ المشبه به على المشبه, بخلاف المجاز المرسل نحو: أمطرت السماء نباتًا، ففيه دعوى الاتحاد لفظًا فقط، من حيث إطلاق اللفظ على المعنى الثاني، أما الاتحاد في المعنى فغير موجود فيه؛ إذ ليس بين الماء والنبات تشابه حتى يدعى اتحادهما. ووجه أبلغيتها على الكناية من جهتين: الأولى: أن فيها جمعًا بين كناية واستعارة، من حيث إن فيها انتقالا من الملزوم "كالأسد" إلى اللازم "كالجريء" كما ينتقل في الكناية من طول النجاد "مثلًا" إلى طول القامة, ومن حيث إن فيها استعمال اللفظ في غير المعنى الموضوع له لعلاقة المشابهة. الثانية: أنها مجاز قطعًا بخلاف الكناية, فإن في مجازيتها خلافًا بين علماء البلاغة، مبسوطًا في محله، فارجع إليه "إن شئت". تنبيه: ليس معنى الأبلغية في هذه الثلاثة أنها تفيد زيادة في أصل المعنى لا يفيدها غيرها, إنما المراد أنها تفيد تأكيدًا لإثبات المعنى، لا يوجد في سواها, فليست فضيلة قولنا: "رأيت أسدًا" على قولنا: "رأيت رجلًا لا يتميز عن الأسد في إقدامه" من حيث إن الأول أفاد زيادة في مساواة الرجل للأسد في الإقدام, لم يفدها الثاني إذ إن التركيبين في ذلك سواء في إفادة معنى المساواة. إنما مزية الأول على الثاني من حيث إن الأول أفاد تأكيدًا وتقريرًا لإثبات معنى المساواة، دون الثاني؛ لما في الأول من دعوى الاتحاد والتعبير عن المشبه بلفظ المشبه به, ودلالة الاتحاد على المساواة "كما في التركيب الأول" أبلغ من التنصيص على المساواة "كما في التركيب الثاني" يدرك ذلك صاحب الذوق السليم.

هذا: والاستعارة التمثيلية أبلغ أنواع الاستعارة؛ لأنها إنما تكون في الهيئات المنتزعة من أمور متعددة, فهي كثيرة الاعتبارات والملاحظات لا يوفق فيها إلا من أُوتي حسن روية وبعد نظر, ويليها في الأبلغية المكنية؛ لاشتمالها على المجاز العقلي في قرينتها، أما الاستعارة التصريحية ففي المرتبة الثالثة. تمرين: بين أنواع التشبيه والمجاز المرسل والاستعارة والكناية فيما يأتي: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} . {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . القضاة دعائم العدل، وبأيديهم أزمة الفصل والفضل. قال الحريري: لبثنا في الانتظار إلى أن هرم النهار، وكاد جرف1 اليوم ينهار. وقال أيضًا: ولما قوض2 الليل خيامه، ورفع الصبح أعلامه كان كذا وكذا. والطل3 في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فيسقط له راحة ينهل جودًا بنانها ... ووجه إذا قابلته يتهلل4 إذا أنشب الدهر ظفرًا ونابًا ... وصال على الحر منا ونابا صبرنا ولم نشك أحداثه ... لأنا نعاف التشكي ونابى5 وقفت وما بالموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم ودبت له في موطن الحلم علة ... لها كالصلال الرقش شر دبيب6

_ 1 ما تجرفه السيول من الأرض. 2 قاض البناء وقوضه: هدمه. 3 المطر الضعيف والندى. 4 يتلألأ بشرا. 5 أصله نأبى مضارع أبى, سهلت همزته. 6 الصلال جمع: صل, وهو بالكسر ضرب من الحيات، لا نجاة من لدغه، والرقش جمع: رقشاء, وهي ذات نقط سود في بياض.

وقيل في وصف السماء: أيقظتني ليلة دواعي الهموم, فنظرت نظرة في النجوم فإذا السماء روضة زاهرة, أو صرح أضواؤه مسفرة، أو غدير تطفو عليه القواقع, أو بنفسج نور أقاحه لامع, أو جمر في خلال رماد، كما قال الشاعر: بساط زمرد بسطت عليه ... دنانير تخالطها دراهم ونهر المجرة1 يجري في سندسها، ويسري ليسقي ذوابل نرجسها, فبينما أسرع في درر الدراري2 نظري وأروض في رياضها جواد فكري, إذ هب نسيم السحر يروي عن أهل نجد أطيب الخبر, ثم تبسم الفجر ضاحكًا، واقتنص بازي الضوء غراب الظلام, وفض3 كافور النور مسك الختام.

_ 1 بياض يبدو في السماء يشبه الهنر. 2 الدراري: النجوم. 3 بمعنى فك.

علم البديع

علم البديع مدخل ... علم البديع: قلنا فيما سبق: إن أول من اخترع هذا العلم، وسماه بهذا الاسم عبد الله بن المعتز المتوفى سنة 296هـ، وإنه جمع منه سبعة عشر نوعًا، وقال: "ما جمع قبلي فنون البلاغة أحد، ولا سبقني إليه مؤلف، ومن أراد أن يقتصر على ما اخترعناه فليفعل، ومن رأى إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختياره". وقلنا: إن مجموع ما جمعه هو ومعاصره قدامة بن جعفر ثلاثون نوعًا, ثم اقتدى بهما كثير من ذوي الفضل كأبي هلال العسكري، وابن رشيق, إلى أن جاء صفي الدين الحلي المتوفى سنة 750هـ فنظم فيه قصيدة ميمية في مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع فيها ما نيف على المائة والخمسين نوعًا، وذكر اسم كل نوع بجانب

كل بيت، وجعل البيت شاهدًا له, ثم جاء بعده "الموصلي" وعارضه بقصيدة على غرار قصيدته، ثم جاء "الحموي" وعارضه كذلك، غير أنه التزم تسمية النوع في البيت. وهكذا طفق العلماء يؤلفون في هذا العلم القصائد والأراجيز، حتى نيف الأنواع على المائة والستين، بل على أكثر من ذلك، نقتصر منها على المهم المتداول حسبما يتسع له المقام. توضيح الفرق بين علم البديع، وعلمي المعاني والبيان: اعلم: أن الفرق بينهما هو أن علمي المعاني والبيان يبحثان في صلب المعنى المراد, غير أن الأول منهما يبحثه من حيث مطابقته لمقتضى الحال، أي: أن يكون الكلام موافقًا مدلوله لما تقتضيه الحال التي وقع فيها, وقد تقدم لك بيانه عند البحث في بلاغة الكلام، وأن الثاني يبحثه من حيث تأديته بطرق مختلفة في الوضوح, وقد سبق البحث فيه عند الكلام في تعريف علم البيان. أما علم البديع: فيبحث المعنى أو اللفظ, من حيث تزيينه وتدبيجه، وإلباسه ثوبًا من البهجة والبهاء، يسترق القلب ويستأثر اللب كما ستعرف بعد. ومن هنا يعلم أن أثر علمي المعاني والبيان في تحسين الكلام "ذاتي" في صميم المعنى، وأن أثر علم البديع فيه "عرضي" أي: بعد أن يكون الكلام مطابقًا لمقتضى الحال، واضح الدلالة على المعنى المراد. فعلم البديع من علمي المعاني والبيان حينئذ بمثابة الطلاء الرائع من البناء الفخم، أو بمنزلة القلادة الثمينة من جيد الحسناء, فإن لم يكن الكلام مطابقا لمقتضى الحال، ولا واضح الدلالة على المعنى المراد كان البديع بمثابة الدر يعلق بأعناق الخنازير. إذا علمت هذا فاعلم أن: علم البديع: هو ما يعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال، ووضوح الدلالة على المعنى المراد.

وتقسيم وجوه التحسين: تنقسم المحسنات البديعية قسمين: معنوية, ولفظية: فالمعنوية: هي التي يكون التحسين بها راجعًا إلى المعنى أصالة، وهو -إن تبعه تحسين اللفظ- غير مقصود. واللفظية: هي التي يكون التحسين بها راجعًا إلى اللفظ أصالة، وهو -وإن تبعه تحسين المعنى- ولكنه أيضًا غير مقصود. وقد أجمع العلماء على أن هذه المحسنات لا سيما اللفظية منها لا تقع موقعها من الحسن, إلا إذا طلبها المعنى بحيث لا يجد الشاعر, أو الناثر مندوحة عنها؛ لذلك لا يحمل الاسترسال فيها، والولع بها لأن المعاني لا تدين للألفاظ في كل موضع، ولا تنقاد لها في كل حين.

المحسنات المعنوية

المحسنات المعنوية: 1- المطابقة 1: هي أن يجمع في كلام واحد بين معنى، ومقابلة، أو ضده, وتكون بلفظين من نوع واحد كأن يكونا "اسمين" كقوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} فالجمع بين "الأيقاظ والرقود" مطابقة لأن اليقظة ضد الرقود وكلاهما من نوع الاسم كما ترى, أو "فعلين" كقوله تعالى: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} فالجمع بين {يَمُوتُ} و {يَحْيَى} مطابقة؛ لأن الموت ضد الحياة وكلاهما من نوع الفعل, أو "حرفين" نحو قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فالجمع بين "اللام وعلى" مطابقة؛ لأن في "اللام" معنى المنفعة، وفي "على" معنى المضرة وهما متضادان. وتكون المطابقة بلفظين من نوعين مختلفين, كقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} فالجمع بين {مَيْتًا} و"أحيينا" مطابقة؛ لأن معناهما متضادان، غير أن الأول منهما من نوع الاسم، والآخر من نوع الفعل.

_ 1 وتسمى الطباق أيضًا.

ثم إن المعنيين المتقابلين إما أن يتفقا في الإيجاب أو السلب كما مر، وإما أن يختلفا كما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فالجمع بين {لا يَعْلَمُونَ} ، و {يَعْلَمُونَ} مطابقة؛ لأن المعنيين تقابلا بالإيجاب والسلب. ومثله قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وسمي هذا النوع طباق السلب؛ لاختلاف المعنيين إيجابًا وسلبًا. والتقابل بين المعنيين إما واضح بين كما مر، وإما خفي نوع خفاء, نحو قوله تعالى: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} فإن صريح قوله: {فَأُدْخِلُوا نَارًا} لا يقابل معنى "الإغراق" ولكنه يستلزم ما يقابله, وهو "الإحراق" فكأنه قال: أغرقوا فأحرقوا؛ لهذا كان في التقابل بينهما بعض خفاء. ومثله قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فإن الرحمة تستلزم اللين المقابل للشدة. 2- المقابلة: وهي أن يؤتى بمعنيين غير متقابلين, أو أكثر ثم يؤتى بما يقابل كلا على الترتيب اللفظي. وتكون المقابلة بين معنيين كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} أتي بالضحك والقلة، ثم بما يقابلهما من البكاء والكثرة على الترتيب، ولا شك أن ليس بين الضحك والقلة، ولا بين البكاء والكثرة تقابل. وتكوين بين ثلاثة, كقول الشاعر: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل أتي بالحسن، والدين، والغنى المفهوم من "الدنيا" ثم أتي بما يقابلها من القبح، والكفر، والإفلاس على الترتيب. ومثله قوله تعالى: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} . وتكون بين أربعة كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .

أتي أولًا بالإعطاء، والاتقاء، والتصديق، واليسر، ثم أتي بما يقابلها على الترتيب من البخل، والاستغناء، والتكذيب، والعسر. ووجه مقابلة "استغنى لاتقى" أن معنى "استغنى" زهد فيما عند الله، فلم يراقبه, أو معناه: استغنى بمتاع الدنيا عن نعيم الجنة، فلم يتق الله في عمله, وإذًا ففي مقابلة "استغنى لاتقى" نوع خفاء. وتكون بين خمسة, كقوله المتنبي: أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي أتي بالزيارة، والسواد، والليل، والشفاعة له, ثم أتي بما يقابلها على الترتيب من الانثناء، والبياض، والصبح، والإغراء به. وتكون بين ستة, كما تراه واضحًا في قول الشاعر: على رأس عبد تاج عز يزينه ... وفي رجل حر قيد ذل يشينه والمقابلة فيه واضحة أتم وضوح، كما ترى. تنبيه: اعلم أن المقابلة نوع من المطابقة من حيث إن فيهما جمعا بين متقابلين, غير أن الشرط في المقابلة أن يكون التقابل فيها بين معنيين على الأقل وبين ما يقابلهما، ويكون بين أكثر من ذلك كما رأيت, بخلاف المطابقة فإنما تكون بين معنى واحد ومقابله كما عرفت ا. هـ. 3- المشاكلة: هي أن يذكر الشيء بلفظ غيره؛ لوقوع ذلك الشيء في صحبة ذلك الغير، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فالجزاء على السيئة في الحقيقة ليس بسيئة, وإنما هو "عقوبة" يراد بها الإصلاح, فالمعنى حينئذ: وجزاء سيئة عقوبة تعادلها، فتعبيره عن العقوبة بلفظ {سَيِّئَةٌ} مشاكلة؛ لوقوعه في صحبة ذلك اللفظ. ومثله قول الشاعر: قالوا: اقترح شيئًا نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا

فتعبيره عن خياطة الجبة بالطبخ مشاكلة؛ لوقوعه في صحبة طبخ الطعام. 4- الاستخدام: هو أن يذكر لفظ بمعنى، ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر, أو يعاد عليه ضميران يراد بثانيهما غش ما يراد بأولهما. فالأول كقول الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا ذكر لفظ "السماء" بمعنى الغيث ثم أعاد عليه الضمير في "رعيناه" بمعنى "النبات". والثاني كقول الشاعر: فسقى الغضا والساكنيه وإن همو ... شبوه بين جوانحي وضلوعي يدعو الشاعر لأحبته الساكنين هذا المكان بالسقيا, وإن أحرقوا قلبه بنار الجوى, "والغضا": شجر شديد الاشتعال وقد أعاد عليه ضميرين؛ أولهما مجرور بالإضافة في "الساكنيه" وأريد به المكان، وثانيهما منصوب على المفعولية في "شبوه" وأريد به النار المشتعلة من شجر الغضا. 5- التورية 1: هي أن يذكر لفظ له معنيان, أحدهما قريب أي: دلالة اللفظ عليه ظاهرة؛ لكثرة استعماله فيه, والثاني بعيد أي: دلالة اللفظ عليه خفية لقلة استعماله فيه, ويراد المعنى البعيد اعتمادًا على قرينة، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فلفظ {اسْتَوَى} له معنيان: قريب وهو الاستقرار في مكان، وبعيد وهو الاستيلاء على الشيء بالقهر والغلبة, والمراد منه في الآية المعنى البعيد، والقرينة على إرادته استحالة المعنى القريب على الله تعالى. ويسمى هذا النوع إيهامًا؛ لأن المتبادر إلى الذهن عند إطلاق اللفظ معناه القريب، فيتوهم السامع لأول وهلة أن المتكلم يريده, وهو ليس بمراد.

_ 1 هي مصدر ورى عن كذا بتشديد الراء أي: أراده وأظهر غيره, فالتورية من معانيها ستر المعنى البعيد بالقريب.

والتورية قسمان: مجردة ومرشحة. فالمجردة: هي التي لم تقترن بشيء يلائم المعنى القريب كالآية المتقدمة, فإن المعنى القريب "لاستوى" الاستقرار في مكان ولم يذكر شيء يلائم هذا المعنى. والمرشحة: هي التي ذكر فيها شيء يلائم المعنى القريب, سواء ذكر الملائم قبلها أو بعدها. فمثال ذكره قبلها قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} فاليد تطلق على الجارحة وهو المعنى القريب, وتطلق على القدرة وهو المعنى البعيد المقصود بقرينة استحالة المعنى القريب على الله, وقد ذكر قبلها ما يلائم المعنى القريب، وهو قوله: {بَنَيْنَاهَا} لأن البناء إنما يكون باليد بمعنى الجارحة. ومثال ذكر الملائم بعدها قول الشاعر: مذ همت من وجدي في خالها ... ولم أصل منه إلى اللثم قالت: قفوا واستمعوا ما جرى ... خالي قد هام به عمي "فالخال" يطلق على خال النسب وهو المعنى القريب, ويطلق على الخال الذي يكون في الخد وهو المعنى البعيد المقصود, وقد ذكر بعده ما يلائم معناه القريب، وهو قوله: "عمي". اللف والنشر: هو أن يذكر متعدد، ثم يذكر ما لكل واحد من آحاده من غير تعيين؛ اتكالًا على أن السامع يرد إلى كلٍّ ما يليق به لوضوح الحال. وهو قسمان: مفصل، ومجمل. فالمفصل: أن يذكر المتعدد على سبيل التفصيل لفًّا, ثم يذكر ما لكل واحد نشرًا, سواء كان النشر على ترتيب اللف، أو على غير ترتيبه. فالأول: كقوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} فقد ذكر المتعدد مفصلًا وهو {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ثم ذكر ما لليل

من السكون فيه؛ لأنه وقت نوم وراحة، وما للنهار من ابتغاء الرزق؛ لأنه وقت كد وعمل، والنشر فيه على ترتيب اللف، فالأول للأول والثاني للثاني. وكقول الشاعر: ألست أنت الذي من ورد نعمته ... وورد راحته أجني وأغترف فقد ذكر متعددًا على سبيل التفصيل, وهو ورد نعمته بفتح الواو وورد راحته بكسر الواو, ثم ذكر ما للأول من "الجني" وما للثاني من "الاغتراف" والنشر على ترتيب اللف كما ترى. والثاني: وهو ما يكون النشر فيه على غير ترتيب اللف, يكون على صورتين: الأولى: أن يكون النشر على عكس اللف, كقول الشاعر: كيف أسلو وأنت حقف وغصن ... وغزال، لحظًا، وقدًّا, وردفا فهو كما ترى معكوس، فاللحظ للغزال، والقد للغصن، والردف للحقف وهو "الرمل المتراكم". الثانية: أن يكون النشر مختلطًا كقوله: هو شمس وأسد وبحر جودًا وبهاء وجرأة, فالجود للبحر والبهاء للشمس والجرأة للأسد. والمجمل: أن يذكر المتعدد على سبيل الإجمال، ثم يذكر ما لكل واحد من آحاده, كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} . فقد ذكر المتعدد مجملًا، وهو "الواو" في "قالوا" إذ هي عبارة عن اليهود والنصارى، ثم ذكر ما يخص كلا من الفريقين في قوله: {إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} أي: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى, فكل أمة منهما تكفر الأخرى.

التوجيه ويسمى "الإيهام": وهو أن يؤتى بكلام يحتمل على السواء معنيين متباينين، أو مضادين كهجاء ومديح ليصل القائل إلى غرضه بما لا يؤخذ عليه. مثاله ما حكي عن محمد بن حزم: أنه هنأ الحسن بن سهل مع من هنأ بتزويج ابنته "بوران" للخليفة المأمون، فأثابهم وحرمه، فكتب إليه يقول: إن أنت تماديت في حرماني قلت فيك بيتًا لا يعرف أمدح هو أو هجاء؟ فاستحضره وسأله عما كان منه فأقر، فقال الحسن: لا أعطيك، أوتفعل؟ فقال ابن حزم: بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من؟ فلم يدر "ببنت من" في العظمة وعلو الشأن، أم في الدناءة والضعة، فاستحسن الحسن منه ذلك، وسأله: أمن مبتكراتك؟ فقال: لا، بل نقلته من شعر بشار بن برد، وكان كثير العبث بهذا النوع. ومما يروى عنه في ذلك: أنه كلف خياطًا أعور العين يسمى "عمرًا" أن يخيط له قباء فقال له الخياط مازحًا: لأخيطنه, فلا تدري أهو جبة أم قباء؟ فقال له بشار: إذًا أنظم فيك شعرًا، لا يدري من سمعه: أدعوت لك أم عليك؟ فلما خاطه له على الصورة التي وعده بها, قال بشار: خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء1 قل لمن يعرف هذا ... أمديح أم هجاء هكذا أخفى الشاعر مراده فلم يدر: أطلب أن تسوى العوراء بالصحيحة, فيكون دعاء له بالإبصار الكامل أم طلب أن تسوى الصحيحة بالعوراء, فيكون دعاء عليه بالعمى الكامل؟ 8- الاقتباس: هو أن يضمن الكلام -نثرًا كان أو نظمًا- شيئًا من القرآن أو الحديث، لا على أنه منه، ويحسن أن يمهد للمقتبس، بحيث يكون مندمجًا

_ 1 روي أن اسم الخياط "زيد", والقباء بفتح القاف: ضرب من الثياب.

في الكلام اندماجًا تامًّا. وأحسنه: ما كان في معاني الوعظ، والتذكير والزهد، وكل ما يراد به إصلاح الحال, وهو ضربان: 1- ما لا ينتقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي, كقول الحريري: "فلم يك إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى أنشد فأغرب"، وكقول الشاعر: إن كنت أزمعت على هجرنا ... من غير ما جرم "فصبر جميل" وإن تبدلت بنا غيرنا ... "فحسبنا الله ونعم الوكيل" 2- ما ينتقل فيه المقتبس من معناه الأصلي, كقول ابن الرومي الشاعر العباسي: لئن أخطأت في مدحـ ... ـك ما أخطأت في منعي لقد أنزلت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع فإن معنى "الوادي غير ذي الزرع" المقتبس من القرآن الكريم: المكان الجدب، لا ماء فيه ولا نبات، فنقله الشاعر من هذا المعنى إلى جانب لا خير فيه. هذا، ولا يضر يسير التغيير لضرورة الشعر، كما تراه في قول الشاعر: قد كان ما خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا ونصه في القرآن: {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . وكما تراه في قول الصاحب في الاقتباس من الحديث الشريف: قال لي: إن رقيبي ... سيئ الخلق فداره قلت: دعيني وجهك ... الجنة حفت بالمكاره ونص الحديث هكذا: "حفت الجنة بالمكاره, وحفت النار بالشهوات". 9- الجمع: هو أن يجمع بين شيئين فأكثر في حكم واحد, كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} جمع بين "المال والبنين" في حكم واحد هو أنهما زينة الحياة وبهجتها. وكقول ابن الرومي: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم

جمع بين هذه الأشياء الثلاثة في حكم واحد هو تألقها كالنجوم، يهتدى بها في دياجير الأحداث والمحن. 10- التفريق: هو أن يفرق المتكلم بين أمرين متدرجين تحت جنس واحد, كقول الشاعر: ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير وقت سخاء فنوال الأمير بدرة عين1 ... ونوال الغمام قطرة ماء فالأمران هما "النوالان" وقد اندرجا تحت جنس واحد, وهو "العطاء" ففرق الشاعر بينهما في المنزلة, إذ جعل نوال الأمير فوق نوال الغمام، من حيث إن الأول يحل منفعة عن الثاني, وكقول الآخر: من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين مثلين أنت إذا جدت ضاحك أبدًا ... وهو إذا جاد دامع العين فرق بين الجمودين، مستندًا في التفريق إلى ما ابتدعه من هذا التعليل الجميل. 11- التقسيم: هو أن يذكر متعدد، ثم يضاف إلى كل من آحاده ما يخصه على التعيين, وبهذا القيد يفترق عن اللف والنشر إذ لا تعيين فيه, بل هو موكول إلى الأفهام كما ذكرنا. مثال التقسيم قول الشاعر: ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد2 هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد ذكر متعددًا وهو "العير والوتد" ثم أضاف إلى الأول "الربط على الخسف" وهو الذل، وأضاف إلى الثاني "الشج بلا هوادة". 12- المبالغة: هي أن يدعى بلوغ وصف في الشدة، أو الضعف حدًّا يستحيل، أو يبعد.

_ 1 البدرة: كيس فيه عشرة آلاف درهم. 2 الأذلان: مثنى الأذل, وهو المهين الحقير, والعير: الحمار، والوتد ككتف: ما يسمر في الأرض من الخشب، والرمة بضم الراء: قطعة من الحبل.

وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: تبليغ، وإغراق، وغلو. فالتبليغ: ما يكون المدعى فيه ممكنًا عقلًا, وعادة كقول امرئ القيس: فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكًا فلم ينضح بماء فيغسل1 يريد "بالثور": الذكر من بقر الوحش, و"بالنعجة": الأنثى منه. وصف الشاعر فرسًا له, فادعى أنه أدرك ثورًا وبقرة وحشيين في شوط واحد ولم يعرق, وهذا أمر يجيزه العقل، ولا تحيله العادة، وإن كان حصوله في غاية الندرة. والإغراق: ما يكون المدعى فيه ممكنًا عقلًا، لا عادة كقول أبي الطيب: روح تردد في مثل الخلال2 إذا ... أطارت الريح عنها الثوب لم تبن كفى بجسمى نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني فيجوز عقلًا أن يصل الشخص في النحف والهزال إلى هذه الحال, وإن امتنع ذلك في العادة. وأحسنه: ما اقترن به ما يقربه إلى الإمكان من نحو: "لو" و"لولا" و"كاد" و"خيل إلي" و"شبه لي" وما أشبه ذلك, والبيت المذكور من هذا القبيل لاشتماله على لفظ "لولا". والتبليغ والإغراق مقبولان؛ لعدم ظهور الكذب الموجب للرد فيهما. والغلو: ما يكون المدعى فيه غير ممكن، لا عقلًا ولا عادة، وهو ضربان: مقبول ومردود. فالمقبول أنواع ثلاثة: الأول: ما اقترن به ما يقربه إلى الإمكان من نحو: {يَكَادُ} في قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فليس معقولًا ولا معتادًا أن

_ 1 عادى عداء: والى موالاة بين الصيدين, يصرع أحدهما أثر الآخر, و"دراكًا": متتابعًا، والنضح: الرشح. 2 جمع خل بالفتح, وهو الثوب الخلق.

يضيء زيت من غير أن تمسه نار، ولكن الذي قربه إلى الإمكان، وجعل الذهن يستسيغه لفظ {يَكَادُ} الذي أفاد أن المدعى لم يكن، ولكنه قارب أن يكون مبالغة, ومن هنا كان الغلو مقبولًا. الثاني: ما تضمن حسن تخييل, كقول المتنبي يصف خيلًا: عقدت سنابكها عليها عثيرًا ... لو تبتغي عنقًا عليه لأمكنا1 ادعى الشاعر أن الغبار المثار فوق الرءوس من سنابك الخيل قد تراكم وتكاثف، بحيث صار أرضًا في استطاعة الخيل "لو أرادت" أن تسير عليه كما تسير على الأرض, وهذا "كما ترى" ممتنع عقلًا وعادة، ولكن الذي جعله مقبولًا مستساغًا أنه تضمن تخيلا حسنا، نشأ من ادعاء كثرة الغبار, وتكاثفه حتى صار بمثابة الأرض المعلقة في الهواء إلى ما اقترن به مما قربه إلى الإمكان، وهو لفظ "لو" الدالة على أن مدعاه لم يكن. ومنه قول المعري يصف سيفًا: يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا الثالث: ما خرج مخرج الخلاعة والمجون, كقول الشاعر: أسكر بالأمس إن عزمت على الشر ... ب غدا إن ذا من العجب ادعى أن شغفه بالشراب وصل إلى درجة أن يسكر بالأمس، عند عزمه على الشرب غدا. ولا شك أن ذلك محال عقلًا وعادة, ولكن لما أتى بالكلام على سبيل الهزل والمجون كان الغلو مقبولًا. وكقول الآخر: ومر بفكري خاطرًا فجرحته ... ولم أر خلقًا يجرحه الفكر ادعى أن فكره جرح محبوبه وهو أمر محال الحصول في العقل والعادة, لكن خروج الكلام مخرج الخلاعة والتظرف جعله مقبولًا مساغًا. والمردود ما ليس ممكنًا لا عقلًا, ولا عادة ولم يكن أحد الأنواع

_ 1 السنابك: الحوافر, والعثير بكسر فسكون ففتح: الغبار, والعنق بفتح العين والنون: السريع, وضمير "عليها" للخيل.

السابقة, كقول أبي نواس الحسن بن هانئ يمدح هارون الرشيد: وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق يمدح الخليفة بأنه أخاف الكفار جميعًا، من وجد منهم ومن لم يوجد. وقد بالغ في إخافته أهل الشرك حتى جعله موضع خشية ورهبة للنطف التي لم توجد بعد, ومعلوم بالبداهة أن خوف النطف الموجودة محال عقلًا وعادة؛ لعدم قيام الحياة بها, فما بالك بنطف لم تخلق أصلًا, فمثل هذا غلو مردود لعدم اشتماله على شيء من موجبات القبول المتقدمة. 13- حسن التعليل: هو أن يدعى لوصف "على جهة التظرف" علة مناسبة ليست له في الواقع, وهذا الوصف لا يخلو حاله من أمرين: 1- أن يكون ثابتًا, فيقصد بيان علته. 2- أن يكون غير ثابت, فيراد إثباته بعلة مدعاة. والأول إما ألا يظهر له في العادة علة, وإما أن تظهر له علة غير المدعاة. مثال الأول قول أبي هلال العسكري: زعم البنفسج أنه كعذاره ... حسنًا فسلوا من قفاه لسانه فخروج ورقة البنفسج إلى الخلف وصف ثابت لا علة له, وقد علله الشاعر بما ليس علة له في الواقع وهو أنه سل لسانه من قفاه, إذ زعم أنه يشبه عذار الحبيب في الحسن كذبًا وافتراء. ومثال للثاني قول أبي الطيب المتنبي: ما به قتل1 أعاديه ولكن ... يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب يقول: ليس هناك ما يحمله على قتل أعدائه والفتك بهم؛ لتمكنه منهم بقوة سلطانه, ولكن الذي يحمله على ذلك تحقيق ما ترجوه جماعة الذئاب من إطعامه إياهم لحوم الأعداء, وأنه لا يريد أن يخيب رجاءها فيه. فقتل

_ 1 "ما" نافية، أي: ليس بالممدوح حنق أوجب قتل أعاديه.

أعاديه وصف ثابت وعلته عادة دفع مضرتهم، وخلو المملكة من منازعاتهم, ولكن الشاعر علله على سبيل التظرف بعلة أخرى ليست له في الواقع, وهي ما ذكرناه من أنه يريد أن يحقق ما ترجوه الذئاب من اتساع الرزق على يديه, بلحوم من يفتك بهم من الأعداء. والثاني, وهو الوصف غير الثابت المراد إثباته: إما ممكن, أو غير ممكن. فمثال الوصف الممكن قول مسلم بن الوليد: يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجي حذارك إنساني من الغرق فاستحسان إساءة الواشي وصف غير ثابت عادة؛ إذ لا يستحسن الناس إساءة الوشاة، ولكنه ممكن الحصول وقد أريد إثباته, فعلله الشاعر بعلة تقتضي وقوعه في زعمه، وهي حذاره من أن يفطن الواشي، ويشعر بما عنده فيشمت به, ولأجل ذلك امتنع من البكاء، فسلم إنسان عينه من الغرق. ومثال الوصف غير الممكن قول الشاعر: لو لم تكن نية الجوزاء خدمته ... لما رأيت عليها عقد منتطق1 فنية الجوزاء خدمة الممدوح صفة غير ثابتة، وغير ممكنة أيضًا؛ لأن النية إنما تكون ممن له إدراك، وقد قصد إثباتها بالعلة المذكورة، وهي كونها منتطقة، أي: شادة النطاق في وسطها، كما يفعله الخادم عادة. 14- ائتلاف اللفظ مع المعنى: هو أن تكون الألفاظ على وفق المعاني، فتختار الألفاظ الجزلة، والعبارات الكزة الشديدة للمعنى الضخم, كالفخر والحماسة، وكالوعيد والتهديد, وتختار الألفاظ اللينة العود، الناعمة الملمس للمعنى الوديع الهادئ كالغزل، والاستعطاف، والاعتذار، ونحو ذلك من المعاني العاطفية. فالأول كقول بشار بن برد في الحماسة والفخر: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو مطرت دما

_ 1 الانتطاق: شد المنطقة في الوسط.

إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة ... ذُرَا منبر صلى علينا وسلما والثاني كقول أبي العتاهية في الاستعطاف: تذكر أمين الله حقي وحرمتي ... وما كنت توليني لعلك تذكر فمن لي بالعين التي كنت دائمًا ... إلي بها في سالف الدهر تنظر؟ وهكذا: لكل مقام مقال، ولكل موقف مجال. 15- حسن الابتداء: هو أن يكون الكلام بارع المطلع أي: لمبدئه روعة تستهوي اللب، وتستخف السمع، وذلك بأن يكون عذب اللفظ، حسن السبك، صحيح المعنى؛ لأن الكلام المبتدأ به أول ما يقرع السمع، أو يقع عليه النظر، فإذا كان على هذه الصفات المذكورة وقع من قلب السامع أو القارئ موقعه من الحسن، فأقبل عليه واهتم له، ووعاه إلى نهايته وإن لم يكن لباقيه من الجودة ما لأوله. فإذا لم يكن مستهل الكلام على ما ذكرنا صدفت عنه النفس ونفرت, وإن كان باقيه رائع الحسن. وأحسنه ما اشتمل على إشارة لطيفة إلى المقصود, ويسمى ذلك "براعة استهلال" كقول المتنبي في تهنئة سيف الدولة بإبلاله مما ألم به: المجد عوفي إذ عوفيت والكرم ... وزل عنك إلى أعدائك الألم وكقول أشجع السلمي يهنئ ببناء قصر: قصر عليك تحية وسلام ... خلعت1 عليك جمالها الأيام وكقول أبي تمام في مطلع قصيدة رثاء: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر وينبغي أن يتجنب في مطالع المديح والتهاني ما يتطير منه, كقول ابن مقاتل الضرير في مطلع قصيدة يمدح فيها الداعي العلوي:

_ 1 ضمن "خلع" معنى طرح, فعداه للمفعول الثاني "بعلى" والمعنى: أن الأيام نزعت جمالها, وطرحته على ذلك القصر.

"موعد أحبابك بالفرقة1 غد" وعند إنشادها تطير العلوي وقال: بل موعد أحبابك يا أعمى، ولك المثل السوء. وروي أن ابن مقاتل هذا دخل على العلوي المذكور في يوم المهرجان2 فأنشده: لا تقل بشرى ولكن بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان فتطير به الداعي العلوي, وأمر بإلقائه على وجهه وضربه خمسين عصا, وقال: إصلاح أدبه خير من إثابته. 16- حسن الختام: أن يكون الكلام بارع المقطع أي: في ختامه روعة تهتز لها النفس، ويطرب لها السمع؛ ذلك أن ختام الكلام هو آخر ما تعيه الأذن، ويرتسم في الخيال, فإن كان حسنًا هفت إليه النفس، واستلذه السمع، وقد يكون جابرًا لما عساه قد وقع من نقص أو تقصير، فإن لم يكن الانتهاء حسنًا رائعًا كان الأمر على العكس من صدوف النفس ونفورها, واستكراه السمع ومجه, وقد ينسي ذلك ما تقدم من محاسن الكلام، فيعود السامع أو القارئ على مجموعه بالذم وإن كان حسنًا. وصفوة القول: أن ما يختم به الكلام بمثابة الطعام, يؤتى به في ختام الأطعمة, فإن كان حلوًا لذيذًا أنسى مرارة أو ملوحة ما قبله, وإن كان مرًّا أو مالحًا أنسى حلاوة أو عذوبة ما قبله. ومثال ما في ختامه روعة قول أبي نواس في المدح: وإني جدير "إذ بلغتك" بالمنى ... وأنت بما أملت منك جدير فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور وأروعه، ما آذن بانتهاء الكلام حتى لا يبقى للنفس تشوف إلى ما وراءه, ويسمى ذلك "براعة المقطع" كقول أبي العلاء:

_ 1 بضم الفاء وسكون الراء اسم موضع, ولكن لما كان يوهم معنى الفراق كان موضع تطير وشؤم. 2 يوم المهرجان أول يوم من فصل الخريف, وهو عندهم يوم فرح وسرور.

بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبرية شامل وكقول ابن حجة: عليك سلام نشره كلما بدا ... به يتغالى الطيب والمسك يختم وكقولي في مدحة يوم عيد: يا ناظم النجم كن "عوني" فقد عطلت ... أجياد غيدي وإن أبدعت تقليدي ويا ملوك القوافي أستميحكم ... عفو الكرام فهذا كل مجهودي تمرين: 1- تكلم باختصار عن تاريخ علم البديع. 2- وضح الفرق بين هذه العلوم الثلاثة: البيان، والمعاني، والبديع. 3- عرف علم البديع وقسم وجوه الحسن فيه، وبين كل قسم مع التمثيل. 4- بين أنواع المحسنات البديعية فيما يأتي: 1- {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار} . 2- حملناهم طرًّا على الدهم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان ملابسا 3- {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} . 4- {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . 5- إن الشباب والفراغ والجدة1 ... مفسدة للمرء أي مفسدة 6- حسبت جماله بدرًا منيرًا ... وأين البدر من ذاك الجمال؟! 7- فما هو إلا الوحي أو حد مرهف ... تميل ظباه أخدعي كل مائل2 فهذا دواء الداء من كل عالم ... وهذا دواء الداء من كل جاهل

_ 1 الاستغناء. 2 "المرهف": السيف القاطع، و"ظباه" جمع: ظبة, وهي حد السيف، والأخدعان: تثنية أخدع, وهو مجرى من مجاري الدم, إذا قطع مات صاحبه.

8- فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا 9- فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه 10- قال الله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} . 11- أيها السائل قوما ... ما لهم في الخير مذهب اترك الناس جميعًا ... "وإلى ربك فارغب" 12- تكاد قسيه من غير رام ... تمكن في قلوبهم النبالا 13- لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي 14- وكنا إذا الجبار صعر خده ... ضربناه حتى تستقيم الأخادع 15- بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وطالع السعد في أفق العلا صعدا 16- وإني محب لطه ومن ... يحب النبي فحاشا يضام نبي كريم رءوف رحيم ... عليه الصلاة وأزكى السلام

المحسنات اللفظية

المحسنات اللفظية: منها: 1- الجناس ويقال له: المجانسة والتجانس, ولا يحسن في الكلام إلا إذا وافق مصنوعه مطبوعه, فينبغي أن ترسل المعاني على سجيتها لتكتسي من الألفاظ ما يزينها، فيكون ذلك أدعى لميل النفس، وأملك لزمام السمع. تعريفه: أن يتفق اللفظان في وجه من الوجوه الآتية بعد مع اختلاف المعنى, وهو نوعان: تام وغير تام. الجناس التام: هو ما اتفق فيه اللفظان في أربعة أشياء: في نوع الحروف, وعددها، وهيئتها، وترتيبها. كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} فلفظتا "ساعة" في الآية قد اتفقتا في هذه الأشياء المذكورة, مع اختلافهما في المعنى؛ إذ قد أريد بالساعة في الأول "القيامة", وفي الثاني: "الساعة الزمنية".

وهو أنواع ثلاثة: مماثل, ومستوفي, ومركب. فالمماثل1: أن يتفق اللفظان في نوع الكلمة, بأن يكونا اسمين، أو فعلين, أو حرفين. فالاسمان كالآية المتقدمة, فإن لفظي الساعة فيها من نوع الاسم، وكقول أبي تمام: فأصبحت غرر الأيام مشرقة ... بالنصر تضحك من أيامك الغرر "فالغرر" الأولى بمعنى البياض والإشراق، والثانية بمعنى الكرم والشرف، وكلتاهما من نوع الاسم, وكقول الشاعر: حدق الآجال آجال ... والهوى للمرء قتال "فالآجال" الأولى جمع: إجل بكسر فسكون، وهو القطيع من بقر الوحش، والثانية جمع: أجل بفتح الهمزة والجيم، وهو أمد العمر، وكلتاهما أيضًا من نوع الاسم. والفعلان كقولك: فلان يجيد أمرين: يضرب في البيداء فلا يضل، ويضرب في الهيجاء فلا يكل. "فيضرب" الأول بمعنى قطع المسافة، والثاني بمعنى الحمل على الأعداء, وكلاهما من نوع الفعل. والحرفان كقولك: تذرع بالصبر تظفر به، فالباء الأولى للتعدية والثانية للتسمية, وكلاهما من نوع الحرف. والمستوفي2: أن يختلف اللفظان في نوع الكلمة, بأن يكون أحدهما اسمًا والآخر فعلًا، أو أحدهما حرفًا والآخر اسمًا أو فعلًا. فمثال الاسم مع الفعل قول أبي تمام: ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله

_ 1 سمي هكذا؛ لاتحاد نوع الحرف فيه. 2 سمي بذلك؛ لاستيفاء كل من اللفظين أوصاف الآخر, وإن اختلفا في النوع.

"فيحيا" الأول فعل مضارع, والثاني اسم علم على الممدوح, وكقول بعضهم: إذا رماك الدهر في معشر ... قد أجمع الناس على بغضهم فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم والشاهد في البيت الثاني, فإن كلا من "دارهم وأرضهم" في الأول فعل أمر، وفي الثاني اسم. ومثال الاسم مع الحرف قولهم: "رب رجل شرب رب رجل آخر" "فرب" الأولى حرف جر والثانية اسم للعصير المستخرج من العنب. ومثال الفعل مع الحرف قولك: علا محمد -عليه الصلاة والسلام- على جميع الأنام "فعلا" الأول فعل ماضٍ بمعنى ارتفع, والثاني حرف جر. والمركب: أن يكون كلا اللفظين أو أحدهما مركبًا. فالأول -وهو ما يكون اللفظان مركبين- كقول الشاعر: فلم تضع الأعادي قدر شاني ... ولا قالوا: فلان قد رشاني فاللفظ الأول مركب من القدر والشأن, والثاني مركب من "قد" الحرفية ومن الفعل المشتق من الرشوة, ويسمى هذا النوع جناسًا ملفقًا. والثاني -وهو ما يكون أحد اللفظين فيه مركبًا- أنواع ثلاثة: مرفو، ومتشابه، ومفروق. فالمرفو1: ما كان اللفظ المركب فيه مركبًا من كلمة, وجزء كلمة كقولهم: "أهذا مصاب أم طعم صاب" فاللفظ الأول مفرد؛ إذ هو "اسم مفعول" من "أصاب" والثاني مركب من كلمة هي لفظ "صاب" بمعنى العلقم وجزء كلمة وهو "الميم" من طعم. والمتشابه2: ما كان اللفظ المركب فيه مركبًا من كلمتين، مع اتفاق اللفظين في الخط كقول الشاعر: إذا ملك لم يكن ذا هبة ... فدعه فدولته ذاهبة

_ 1 سمي "مرفوا" أخذا من قولهم: رفأ الثوب, إذا جمع ما تمزق منه بالخياطة, وكأننا أخذنا الميم من "طعم" ورفأنا بها "صاب" فصارت: "مصاب". 2 سمي بذلك؛ لتشابه اللفظين في الخط.

فاللفظ الأول مركب من كلمتين هما: "ذا" و"هبة" بمعنى صاحب عطية أي: كريم, والثاني مفرد، وهو اسم فاعل من الذهاب وقد اتفق اللفظان في الخط "كما ترى", وكقولهم: يا مغرور أمسك، وقس يومك بأمسك, فاللفظ الأول مفرد، وهو فعل أمر مشتق من الإمساك، بمعنى الكف عن الشيء, والثاني مركب من كلمتين هما: أمس وكاف الخطاب وقد اتفقا في الخط أيضًا. والمفروق1: ما كان اللفظ المركب فيه مركبًا من كلمتين، مع اختلاف اللفظين في الخط كقول الشاعر: لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغت في تهذيبها فإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه منك وساوسا تهذي بها فاللفظ الأول مفرد وهو مصدر "هذب" بالتضعيف، والضمير المضاف إليه بمثابة الجزء منه، والثاني مركب من كلمتين هما: "تهذي" و"بها" من الهذيان وهو الاختلاط في القول, وقد اختلف اللفظان في الخط كما ترى. الجناس غير التام: هو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأشياء الأربعة السابقة، وهو على أربعة أحوال؛ لأن الاختلاف إما في نوع الحروف، أو في عددها، أو في هيئتها، أو في ترتيبها. الاختلاف في النوع: إذا اختلف اللفظان في نوع الحروف كان الجناس على نوعين: مضارع، ولاحق. فالمضارع2: ما كان فيه الحرفان اللذان وقع بينهما الاختلاف متقاربين في المخرج, سواء أكانا في أول اللفظ، أو في وسطه، أو آخره. فالأول نحو قولهم: بيني وبين كني ليل دامس وطريق طامس3, فالدال

_ 1 سمي بذلك؛ لافتراق اللفظين في الخط. 2 سمي بذلك؛ لمضارعة المباين من اللفظين لصاحبه في المخرج. 3 الدامس: الشديد الظلمة, والطامس: المطموس, وهو الذي لا يتبين فيه أثر يهتدى به.

في "دامس" والطاء في "طامس" مختلفان في النوع, إلا أنهما متقاربان في المخرج؛ لأنهما خارجان من اللسان. والثاني كقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} فالهاء والهمزة مختلفان في النوع, إلا أنهما متقاربان في المخرج؛ إذ هما حلقيان. والثالث كقوله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير" فبين اللام والراء اختلاف في النوع، وتقارب في المخرج "لخروجهما من اللسان". واللاحق1: ما كان فيه الحرفان المختلفان متباعدين في المخرج, سواء أكانا في أول اللفظ، أو في وسطه، أو في آخره كذلك. فالأول نحو قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} فالهاء واللام متباعدتان في المخرج، فالأولى حلقية، والثانية لسانية. والثاني نحو قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} فبين الهاء في "شهيد" والدال في "شديد" تباعد في المخرج؛ إذ الأولى حلقية والثانية لسانية. والثالث نحو قول أبي عبادة البحتري، أحد شعراء الدولة العباسية: ألمن فات من تلاق تلاف ... أم لشاك من الصبابة شاف؟ والشاهد في "تلاق وتلاف" فإن القاف والفاء فيهما متباعدتان في المخرج كما ترى. تنبيه: يشترط في اللفظين المختلفين في نوع الحروف ألا يقع الاختلاف في أكثر من حرف واحد, وإلا لم يبق بينهما تجانس لفظي "كنصر ونكل". الاختلاف في العدد: إذا اختلف اللفظان في عدد الحروف, بأن يكون عدد أحد اللفظين زائدًا سمي "الجناس الناقص" لنقصان أحد اللفظين عن الآخر, وهو على أنواع: مطرف، ومكتنف، ومذيل. فالمطرف: ما كان فيه الزيادة في أول اللفظ, كما في قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} بزيادة الميم في أول اللفظ الثاني.

_ 1 سمي بذلك؛ لأن أحد اللفظين ملحق بالآخر في الجناس, باعتبار معظم الحروف.

والمكتنف: ما كان فيه الزيادة في وسط اللفظ نحو قولهم: جدي جهدي، بفتح الجيم فيهما وزيادة الهاء وسطا في الثاني. والمذيل: ما كان فيه الزيادة في آخر اللفظ كقول أبي تمام: يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب1 فقد زيد ميم في "عواصم" وباء في "قواضب" وكلتا الزيادتين في الآخر، وكقول الخنساء في رثاء أخيها صخر: إن البكاء هو الشفا ... ء من الجوى بين الجوانح فبين الجوى والجوانح جناس مذيل؛ لأن الثاني زاد عن الأول بحرفين في آخره. الاختلاف في الهيئة: إذا اختلف اللفظان في هيئة الحروف, كان الجناس على نوعين: محرف، ومصحف. فالمحرف2: ما اختلف فيه اللفظان في الحركات والسكنات, نحو قولهم: جبة البرد جنة البرد، فبين البرد والبرد جناس محرف؛ لاختلافهما في الهيئة, إذ إن الأول بضم الباء وهو ضرب من الثياب، والثاني بفتحها وهو ضد الحر, وكقولهم: الجاهل إما مفرط أو مفرط؛ فالأول اسم فاعل من الإفراط وهو تجاوز الحد، والثاني اسم فاعل من التفريط وهو التقصير. والمصحف3: ما اختلف فيه اللفظان نقطًا بحيث لو زال إعجام أحدهما, أو كليهما لم يتميز أحدهما عن الآخر, كقول أبي نواس: من بحر شعرك أغترف ... ويفيض علمك أعترف فبين "أغترف وأعترف" جناس مصحف, إذ ليس بينهما خلاف إلا بالنقط بحيث لو تجرد كلاهما عنه، لم يتميز أحدهما عن الآخر.

_ 1 عواص جمع: عاصية من العصيان، وعواصم جمع: عاصمة من العصمة، أي: عاصيات على أعدائهم عاصمات لأوليائهم، وقواض جمع: قاضية من القضاء وهو الإهلاك، وقواضب جمع: قاضبة من القضب، وهو القطع أي: مهلكة قاطعة. 2 سمي بذلك؛ لانحراف إحدى الهيئتين عن الأخرى. 3 سمي بذلك؛ لتشابه اللفظين في الخط, من التصحيف وهو التشابه خطا.

الاختلاف في الترتيب: إذا اختلف اللفظان في ترتيب الحروف سمي "جناس القلب" وهو على أربعة أنواع: قلب كل، قلب بعض, مجنح، مستو. فالقلب الكلي: ما انعكس فيه الترتيب كقولهم: حسامه فتح لأوليائه وحتف لأعدائه، فبين "فتح وحتف" جناس قلب كلي؛ لانعكاس الترتيب فيهما انعكاسًا كليًّا إذ إن "حتف" مقلوب "فتح". والقلب الجزئي: ما انعكس فيه الترتيب بعضًا نحو: "اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" فانعكاس الترتيب فيه ليس في جميع الحروف كما ترى. والمجنح1: ما كان فيه أحد اللفظين اللذين وقع بينهما القلب في أول البيت والآخر في آخره، كأنه ذو جناحين كقول الشاعر: قد لاح أنوار الهدى ... في كفه في كل حال فاللفظ الأول وهو "لاح" وقع في أول المصراع الأول، والثاني وهو لفظ "حال" وقع في آخر المصراع الثاني. والمستوي2: ما كان اللفظ فيه بحيث لو عكس، وبدئ بحرفه الأخير إلى الأول لم يتغير نحو: "كل في فلك" فإنك لو عكست هذا التركيب، فبدأت من الكاف في "فلك" كان هو بعينه, ولبعض الأدباء رسالة كبيرة في هذا النوع من البديع. 2- رد العجر على الصدر, ويكون في النثر، وفي النظم. فهو في النثر: أن يجعل أحد اللفظين المكررين, أو المجانسين في اللفظ دون المعنى، أو الملحقين بالمتجانسين، وهما اللذان يجمعهما الاشتقاق أو شبه الاشتقاق, في أول الفقرة، والآخر في آخرها.

_ 1 سمي بذلك؛ لأن اللفظين اللذين وقع بينهما القلب بمنزلة جناحين للبيت, وهو كما قيل خاص بالشعر. 2 سمي بذلك؛ لاستواء التركيب قبل العكس وبعده.

فمثال المكررين قوله تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} فقد جعل أحد اللفظين المكررين، أي: المتفقين لفظا ومعنى في أول الفقرة، والثاني في آخرها كما تراه في الآية الكريمة. ومثال المتجانسين قوله: سائل اللئيم يرجع ودمعه سائل, فالأول مأخوذ من السؤال، والثاني من السيلان. ومثال الملحقين بالمتجانسين اشتقاقًا قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} فاللفظان المذكوران يجمعهما مصدر واحد هو الغفران. ومثال الملحقين بالمتجانسين بشبه اشتقاق قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} فبين {قَالَ} و {الْقَالِينَ} شبه اشتقاق, من حيث الحروف الأصول, وهي "القاف واللام" وإلا فإن مصدر {قَالَ} القول، ومصدر {الْقَالِينَ} القلى أي: البغض, فالمصدران مختلفان مدلولًا. وهو في النظم: أن يكون أحد اللفظين الموصوفين بأحد الأوصاف السابقة في آخر البيت، والآخر إما في صدر المصراع الأول، أو في حشوه، أو في آخره، أو في صدر المصراع الثاني. فالمثال الأول للمكررين قول الشاعر: سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع فالمكرر الآخر في صدر المصراع الأول. والمثال الثاني لهما قول الشاعر: تمتع من "شميم" عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار1 فالمكرر الآخر في حشو المصراع الأول. والمثال الثالث لهما أيضًا قول الشاعر: ومن كان بالبيض الكواعب مغرمًا ... فما زلت بالبيض القواضب مغرما2

_ 1 النجد هنا: ما ارتفع من بلاد العرب, والعرار: وردة ناعمة طيبة الرائحة. 2 الكواعب جمع: كاعب, وهي الجارية حين يبدو ثديها للنهود، والبيض القواضب: السيوف القواطع.

فالمكرر الآخر في آخر المصراع الأول. والمثال الرابع قول الشاعر: وإن لم يكن إلا معرج ساعة ... قليلًا فإني نافع لي قليلها1 فالمكرر الآخر في أول المصراع الثاني كما ترى. والمثال الأول للمتجانسين قول الشاعر: دعاني من ملامكما سفاها2 ... فداعي الشوق قبلكما دعاني فالمتجانس الآخر في صدر المصراع الأول، وهو بمعنى "اتركاني" والذي في آخر البيت بمعنى الدعاء. وهكذا يمثل للملحقين بالمتجانسين اشتقاقًا، أو شبه اشتقاق, غير أنه لم يحضرنا أمثلة لهما في النظم. 3- العكس: هو أن يقدم جزء من الكلام على آخر، ثم يعكس فيؤخر ما قدم، ويقدم ما أخر كما تقول: قول الإمام إمام القول، فقد قدم القول على الإمام ثم عكس، فقدم الإمام بعد تأخيره، وأخر القول بعد تقديمه, ويقع العكس على وجوه: أحدها: أن يقع بين أحد طرفي جملة، وما أضيف إليه ذلك الطرف، كما تقدم في المثال السابق فإن لفظ "قول" أحد طرفي الجملة المذكورة لأنه المبتدأ، ولفظ "الإمام" مضاف إليه ذلك الطرف قد وقع العكس بينهما، فقدم أولًا القول على الإمام، ثم عكس فقدم الإمام على القول، ومثله قولهم: عادات السادات سادات العادات، ويقال فيه ما قيل في الأول. يريد أن يقول: إن الأمور المعتادة للأشراف والأكابر أفضل وأشرف من الأمور المعتادة لغيرهم من الناس.

_ 1 اسم يكن عائد على الإلمام المفهوم من البيت قبله, وهو قوله: "ألما على الدار التي لو وجدتها ... إلخ" و"معرج" خبرها وهو اسم مفعول بمعنى المصدر, أي: وإن لم يكن الإلمام إلا تعريج ساعة، والمراد بالتعريج الإقامة، و"قليلا" صفة مؤكدة لمعنى القلة, إلا تعريجا قليلًا في ساعة. 2 بفتح السين منصوب على التمييز من السفه, وهو خفة العقل.

ثانيها: أن يقع بين متعلقي فعلين في جملتين كقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} فالحي والميت متعلقان "بيخرج" في الجملتين, وقد قدم أولًا الحي على الميت، ثم عكس فقدم الميت على الحي. ثالثها: أن يقع بين لفظين في طرفي جملتين كقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فاللفظان هما: ضمير الذكور وضمير الإناث، وهما واقعان في طرفي كل جملة من هاتين الجملتين, وقد قدم في الجملة الأولى ضمير الإناث على ضمير الذكور، ثم عكس وقدم في الجملة الثانية ضمير الذكور على ضمير الإناث. 4- السجع: هو توافق الفاصلتين من النثر على حرف واحد في الآخر, والفاصلة: هي الكلمة الأخيرة من جملة مقارنة لأخرى، وتسمى كل واحدة من هاتين الجملتين "قرينة" لمقارنتها لأخرى كما تسمى "فقرة". وهو على ثلاثة أنواع: مطرف، ومرصع، ومتواز. فالمطرف1: ما اختلف فيه الفاصلتان وزنا, كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} فـ {وَقَارًا} فاصلة القرينة الأولى؛ لأنها الكلمة الأخيرة منها, و {أَطْوَارًا} فاصلة القرينة الثانية وقد اختلفتا في الوزن؛ لأن ثاني {وَقَارًا} متحرك وثاني {أَطْوَارًا} ساكن. والمرصع2: ما كان فيه ألفاظ إحدى القرينتين كلها, أو جلها مثل ما يقابلها من الفقرة الأخرى في الوزن والتقفية3 كما في قول الحريري: فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه. فجميع ما في القرينة الثانية موافق لما يقابله من الأولى وزنًا وتقفية، "فيطبع" موازن "ليقرع" والقافية فيهما العين, والأسجاع موازن للأسماع والقافية فيهما العين أيضًا و"جواهر" موازن "لزواجر"

_ 1 سمي "مطرفًا"؛ لأن ما وقع به التوافق إنما هو الطرف، وهو الحرف الأخير. 2 سمي كذلك؛ تشبيها له بالعقد تجعل فيه إحدى اللؤلؤتين في مقابلة الأخرى. 3 هي الاتفاق على الحرف الأخير.

والقافية فيهما الراء، و"لفظه" موازن "لوعظه" والقافية فيهما الظاء ولو أبدل لفظ الأسماع "بالآذان" كان مثلًا لما يكون أكثر ما في القرينة الثانية موافقًا لما يقابله من الأولى. والمتوازي1: ما لم يكن جميع ما في القرينة، ولا أكثره مثل ما يقابله من الأخرى. وهذا صادق بأمور ثلاثة: 1- أن يكون الاختلاف في الوزن والتقفية معًا. 2- أن يكون الاختلاف في التقفية دون الوزن. 3- أن يكون الاختلاف بالعكس. فمثال الأول: قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} فالقرينتان: هما {سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} و {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} ولفظ {فِيهَا} لا اعتبار له لعدم وجود ما يقابله فـ {سُرُرٌ} وهو نصف القرينة الأولى يقابله {وَأَكْوَابٌ} من القرينة الأخرى، وقد اختلفتا وزنًا وتقفية. ومثال الثاني قولهم: حصل الناطق والصامت، وهلك الحاسد والشامت2 "فحصل" في القرينة الأولى على زنة "هلك" في القرينة الثانية, ولكنهما اختلفتا تقفيه؛ إذ إن قافية الكلمة الأولى هي "اللام" وقافية الثانية "الكاف" وكذا يقال في: الناطق والحاسد. ومثال الثالث قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا، فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} فقد اختلف "المرسلات والعاصفات" في الوزن, فالأولى على زنة "مفعلات" والثانية على زنة "فاعلات" ولكنهما توافقتا في التقفية؛ إذ إن قافيتهما معًا "التاء".

_ 1 سمي بذلك لتوازن الفاصلتين، أي: توافقهما وزنا وتقفية دون رعاية غيرهما, ويكفي في التسمية أدنى اعتبار. 2 الناطق: الرقيق، والصامت كالخيل ونحوها من سائر الحيوان.

وأحسن السجع: ما تساوت قرائنه في عدد الكلمات, كما في قوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} 1 فهذه قرائن ثلاث متساوية في أن كلًّا مركب من كلمتين. ويليه ما طالت قرينته الثانية أو الثالثة, فالأولى كما في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى, مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} فهاتان قرينتان ثانيتهما أكثر عددا من الأولى, والثانية كقوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} فقوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} قرينة ثالثة، وهي أطول من سابقتيها، كما هو ظاهر. ولا يحسن أن يؤتى بالقرينة الثانية أو الثالثة أقصر مما سبقتها؛ لأن السجع قد استوفى أمده في الأول، فإذا جاء الثاني أقصر بقي الإنسان عند سماعه بمثابة من يريد الانتهاء إلى غاية, فيعثر دونها. 5- الازدواج: هو تجانس اللفظين المتجاورين كقوله تعالى: {مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} ونحو: من جد وجد ومن لج ولج, وما أشبه ذلك. 6- لزوم ما لا يلزم: وهو أن يلتزم الناظم أو الناثر قبل الروي نظمًا, أو قبل الحرف الأخير في الفاصلة نثرًا ما ليس بلازم, كالتزام حرف وحركة, أو كالتزام أحدهما بحيث يتم النظم، أو السجع بدونه. فمما التزم فيه الحرف والحركة معًا قول الطغرائي2 في لاميته المشهورة: أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل وكقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} . فحرف الروي3 في البيت هو اللام, وقد جيء قبله بطاء مفتوحة في المصراعين، وهو ليس بلازم والحرف المقابل للروي في الآية هو "الراء" وقد جيء قبله بهاء مفتوحة في الفقرتين, وهو ليس بلازم كذلك؛ إذ يتم النظم في الأول، والسجع في الثاني بدونهما.

_ 1 السدر: شجر النبق, و {مَخْضُودٍ} : مقطوع الشوك, والطلح: نوع ضخم من الشجر. 2 هو شاعر جليل أصبهاني الأصل, برع في الكتابة والشعر حتى كان أوحد زمانه. 3 هو الحرف الذي بني عليه القصيدة في آخر البيت، وتنسب إليه, فيقال: قصيدة ميمية، أو لامية، وهكذا.

ومما التزم فيه الحركة فقط قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل فقد التزم الفتح فقط في الحرف الذي قبل الروي, وهو ليس بلازم. ولأبي العلاء المعري الباع الطويل في هذا النوع, وها هي ذي لزومياته شاهد صدق على ذلك. تمرين يطلب جوابه: بين أنواع المحسنات اللفظية فيما يأتي: 1- لو زارنا طيف ذات الحال أحيانًا ... ونحن في حفرة الأحداث أحيانا 2- عضنا الدهر بنابه ... ليت ما حل بنا به لا يوالي الدهر إلا ... خاملًا ليس بنابه 3- والمكر مهما اسطعت لا تأته ... لنقتني السؤدد والمكرمة 4- فهمت كتابك يا سيدي ... فهمت ولا عجب أن أهيما 5- رحبة رحبة. 6- قال الحريري: فمحرابي أحرى بي وأسمالي1 أسمى2 لي. 7- البرايا أهداف البلايا. 8- بذلت الجهد لحافظ العهد. 9- قال البحتري: لئن صدفت عنا فربت أنفس ... صواد إلى تلك الوجوه الصوادف3 وكم سبقت منه إلى عوارف ... ثنائي على تلك العوارف وارف 10- البدعة شرك الشرك. 11- قال تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} . 12- ممنعة منعمة رداح ... يكلف لفظها الطير الوقوعا 13- جئت من حلب ببلح 14- حر الكلام كلام الحر

_ 1 جمع سمل, على زنة حذر: الثوب الخلق. 2 من السمو. 3 الصوادي جمع صادية وهي العطشى، والصوادف جمع صادفة وهي المعرضة.

15- فيا سعد حدثنا بأخبار من مضى ... فأنت خبير بالأحاديث يا سعد 16- مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم؟ 17- {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ, ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} . 18- من علم سلم. 19- سأشكر عمرًا ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن1 وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خلتي2 من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت تمرين آخر يطلب جوابه: لا خاب من استخار، ولا ندم من استشار. ما مات من أحيا علمًا، ولا افتقر من ملك حلمًا. سر بى فسر بى طلقوا وطني. الشرط أملك عليك أم لك؟ فلان طويل النجاد، وطلاع النجاد. وقلت للائمي: أقصر فإني ... سأختار المقام على المقام في الحديث: "عليكم بالأبكار؛ فإنهن أشد حبًّا وأقل خبًّا". وخز الأسنة والخضوع لناقص ... أمران في رأي النهى مران والرأي فيما دونه الأمران أن ... تختار وقع أسنة المران وكم غرر من بره ولطائف ... لشكري على تلك اللطائف طائف فإن حلوا فليس لهم مقر ... وإن رحلوا فليس لهم مفر كلكم قد أخذ الجام ولا جام لنا ... ما الذي ضر مدير الجام لو جاملنا؟ فكم لجباه الراغبين لديه من ... مجال سجود في مجالس جود آس أرملا إذا عسرا ... وارع إذا المرء أسا قال بعضهم: غرك عزك, فصار قصار ذلك ذلك، فاخش فاحش فعلك فعلك بهذا تهدى. فالهم ألهمنا الهداية، ووفقنا إلى الصواب، وجنبنا فاحش الفعل قولًا وعملًا، و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .

_ 1 لم تقطع. 2 الخلة بفتح الخاء: الحاجة.

أسئلة لامتحانات رسمية

أسئلة لامتحانات رسمية: نصوص امتحانات سابقة للنقل من الأولى إلى الثانية: الدور الأول لسنة 1355هـ دراسية: 1- اشرح المعاني الاصطلاحية للألفاظ الآتية مع التمثيل: بلاغة الكلام, التشبيه الملفوف, تشبيه التسوية, التشبيه المرسل, الاستعارة التخييلية, كناية النسبة, الرجوع, حسن التعليل. 2- اشرح أربعة من الأغراض التي تقصد من التشبيه، ومثل لكل غرض. 3- بين ما في البيتين الآتيين من البديع: ألا بأبينا جعفر وبأمنا ... نقول إذا الهيجاء سار لواؤها ولا عيب فيه غير ما خوف قومه ... على نفسه ألا يطول بقاؤها ثم تكلم من علم البيان على ما تحته خط في الأبيات الآتية: دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا فكابروا المجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى ومن صبرا لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا 4- مثل من إنشائك لكل ما يأتي: مجاز مركب, استعارة مطلقة, كناية يراد بها صفة، تشبيه المشبه فيه حسي والمشبه به عقلي. الدور الأول لسنة 1360هـ دراسية: القواعد: 1- اشرح المعاني الاصطلاحية للألفاظ الآتية: ضعف التأليف, التعقيد المعنوي, الاستعارة بالكناية, الاستعارة التمثيلية. 2- يقولون: إن التشبيه يتفاوت في المبالغة قوة وضعفًا باعتبار ذكر الأركان وتركها. اشرح ذلك مع التوضيح بالأمثلة.

3- أجب على ما يأتي: أ- افرق بين المجاز المرسل والاستعارة, ومثل لكل منهما. ب- متى يعتبر الترشيح والتجريد في الاستعارة؟ بين ذلك في مثالين تأتي بهما. ج- لِمَ كان المجاز أبلغ من الحقيقة؟ اشرح ذلك في مثال من عندك. التطبيق: 1- بين نوع كل استعارة وقرينتها في كل مما يأتي: أ- شر الناس من يهدم دينه ليبني دنياه. ب- شراء النفوس بالإحسان ... خير من بيعها بالعدوان ج- أولى الناس بزمام الحكم من يبسط جناح رحمته على الرعية. 2- ما نوع الكناية فيما يأتي: أ- قالت أعرابية لبعض الولاة: أشكو إليك قلة الجرذان. ب- ودبت له في موطن الحلم علة ... لها كالصلال الرقش شر دبيب ج- قولهم في مدح الشخص: المجد ملء إهابه. د- وقولهم: فتى ذكره على مشرق الشمس والمغرب. 3- بين ما في الأبيات الآتية من أنواع البديع: أ- وسميته يحيى ليحيا فلم يكن ... إلى رد أمر الله فيه سبيل ب- وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول ج- لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك قالت لي العين ماذا ... تصيد قلت كراكي الدور الثاني لسنة 1360هـ دراسية: القواعد: 1- افرق بين الحال ومقتضى الحال, وخاطب من ينكر كرمك بعبارة تطابق مقتضى الحال، مع بيان ذلك فيها، ثم بين على أي شيء يتوقف حصول البلاغة؟

2- عرف كلا من الاستعارة المرشحة والمطلقة والمجردة، ورتبها بحسب تفاوتها في المبالغة، مع التمثيل والتوجيه لما تذكر. 3- أجب على ما يأتي: أ- لماذا لا تجري الاستعارة في علم الشخص؟ وهل ذلك مطرد؟ ب- اشرح أغراض التشبيه التي تعود على المشبه به, مع التمثيل. التطبيق: 1- بين نوع المجاز فيما تحته خط مما يأتي، وأجر الاستعارة فيما فيه استعارة: أ- كفى بالمرء عيبًا أن تراه ... له وجه وليس له لسان ب- قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا جـ- {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . د- حفر محمد علي ترعة المحمودية. هـ- سكنت القاهرة. 2- مثل من إنشائك لما يأتي: استعارة مكنية, مجاز مرسل علاقته السببية، استعارة تبعية في مشتق, وجه شبه عقلي، تشبيه ملفوف. 3- اذكر ما في الأمثلة الآتية من أنواع البديع: أ- لا يذكر الرمل إلا حن مغترب ... له إلى الرمل أوطار وأوطان ب- أرى بدر السماء يلوح حينا ... ويبدو ثم يلتحف السحابا وذاك لأنه لما تبدى ... وأبصر وجهك استحيا وغابا ج- إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب ... تحرك يقظان التراب ونائمه د- ألست أنت الذي من ورد نعمته ... وورد راحته أجني وأغترف؟ الدور الأول لسنة 1261هـ دراسية: 1- اشرح المعاني الاصطلاحية للألفاظ الآتية, مع التمثيل: فصاحة الكلمة, التعقيد اللفظي, بلاغة الكلام, الحقيقة العقلية، التوجيه، الاقتباس. "6-40"

2- عرف الاستعارة، واذكر ما لا بد منه فيها. ثم بين متى تأتي في علم الشخص، ومتى يمتنع تأتيها فيه ومثل لما تقول. "8-40" 3- ما هي القرينة؟ ولم انقسم اللفظ المستعمل في غير ما وضع له بسببها إلى مجاز وكناية؟ ثم لم كانت الاستعارة أبلغ من التشبيه؟ وما معنى هذه الأبلغية؟ "5-40" 4- أجب على ما يأتي: أ- متى تكون الاستعارة أصلية، ومتى تكون تبعية؟ ب- متى يكون المجاز المركب استعارة تمثيلية، ومتى يسمى مثلًا؟ ج- لم كانت الاستعارة المرشحة أبلغ من غيرها؟ "5-40" التطبيق: 1- أ- ميز المؤكد من المرسل في التشبيهات الآتية, واذكر الغرض من كل تشبيه: والغيث منهل يسح كأنه ... دمع المودع إثر إلف سائر تصوغ لنا أيدي الربيع حدائقا ... كعقد عقيق بين سمط لآلي أنت نجم في رفعة وضياء ... تجليك العيون شرقًا وغربا "3-40" 2- بين نوع الكناية في هذه الأمثلة: ضربت العظمة سرادقها على محمد، فلان يفترش الغبراء، ويلتحف السماء. بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم "3-40" 3- هات مثالًا لكل مما يأتي: استعارة مكنية. مجاز مرسل علاقته المسببية, وآخر علاقته المحلية. ثلاثة تشبيهات: "الأول" وجهه مركب حسي و"الثاني" الغرض منه الاستطراف و"الثالث" مجمل خفي الوجه. "6-40"

ب- سَمِّ النوع البديعي في كل واحد من الأمثلة الآتية: 1- في الحديث: "خير المال عين ساهرة لعين نائمة". 2- وكنا متى يغز النبي قبيلة ... نصل جانبيه بالقنا والقنابل 3- أقول وقد شنوا إلى الحرب غارة ... دعوني فإني آكل الخبز بالجبن 4- لم يزل جوده يجور على الما ... ل إلى أن كسا النضار اصفرار "4-40" الدور الأول لسنة 1362هـ دراسية: 1- عرف وجه الشبه وافرق بين وجه الشبه الواحد والمركب والمتعدد مع التمثيل, وهل كلما كان الطرفان حسيين وجب أن يكون وجه الشبه كذلك؟ وضح هذا, ممثلًا له. 2- أ- عرف المجاز المرسل؛ وافرق بينه وبين الاستعارة، ومثل لهما. ب- متى يجوز جريان الاستعارة في علم الشخص, مع التمثيل والتوجيه. 3- وازن بين الاستعارة المطلقة، والمرشحة، والمجردة, ورتبها بحسب تفاوتها قوة وضعفًا، مع التمثيل. التطبيق: أ- اجعل التشبيهات الآتية استعارات تصريحية: "فوق الأشجار بلابل تغرد كأنها القيان, النجوم في السماء كالدر المثنور". ب- بين نوع المجاز والكناية فيما يأتي: فلان طاهر الذيل وملء إهابه الكرم. أنا ساكن الإسكندرية صيفًا. الدور الأول لسنة 1363هـ دراسية: القواعد: 1- فصل القول في بيان الأمور التي إذا خلصت منها الكلمة تحقق لها وصف الفصاحة، مع التمثيل، ثم اذكر تعريف البلاغة في الكلام, وطبق التعريف على مثال من إنشائك، مبينًا فيه الحال ومقتضاه. "10-40"

2- اذكر أغراض التشبيه، وبين ما يعود منها على المشبه، وما يعود على المشبه به، مع التمثيل. "7-40" 3- عرف الاستعارة التمثيلية وأجرها في قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} يريد: الميثاق, ولماذا خصت باسم التمثيلية؟ ثم بين محسنات الاستعارة، وما الذي قلل من حسنها في قول الشاعر: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر؟ وكيف صحت الاستعارة في هذا البيت, والطرفان مذكوران فيه، والاستعارة لا يجمع فيها بين الطرفين؟ "13-40" التطبيق: 1- بين نوع الاستعارة في الأمثلة الآتية: "إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى". {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} . أخبرني وجهك بصدقك. "6-40" 2- اذكر النوع البديعي في قول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وبين موضعه في الآية، ثم اشرح معناه. "4-40" الدور الثاني لسنة 1363هـ دراسية: القواعد: 1- عرف التشبيه، وهل هو من قبيل الحقيقة أو المجاز؟ وجه ما تقول, وما الذي تدخل عليه الأداة من الطرفين؟ وما المراد بوجه الشبه؟ ثم فرق بين التمثيل وغيره، ومثل لجميع ما تذكر. "7-40" 2- اشرح الأمور التي إذا خلص منها الكلام كان فصيحًا، ومثل لما تذكر. "8-40" 3- وضح الفرق بين الاستعارة والمجاز المرسل، وفي أي نوع من الاستعارة يذكر اسم المستعار منه, وفي أي نوع لا يذكر؟ وما الذي يدل عليه عند عدم ذكره؟ وما معنى الترشيح والتجريد في الاستعارة؟ بين ما تذكر بالمثال. "6-40"

4- عرف الكناية ومثل لها، وبين نوعها في المثال التي تذكره، ولماذا كانت أبلغ من التصريح؟ "4-40" التطبيق: 1- مثل لما يأتي: تشبيه تسوية, تشبيه أحد طرفيه مركب والآخر مفرد, استعارة في علم الشخص ثم أجرها فيه. "5-40" 2- بين النوع البديعي في قول الشاعر: رأى العقيق فأجرى ذاك ناظره ... متيم لج في الأشواق خاطره وفي قول الآخر: على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخرج منه لا علي ولا ليا 3- ما الذي أخل بالفصاحة في قول الشاعر: بثينة شأنها سلبت فؤادي ... بلا ذنب أتيت به سلاما؟ وما الوضع الفصيح لهذا الكلام؟ الدور الأول لسنة 1364هـ دراسية: القواعد: 1- اشرح الفرق بين التعقيد اللفظي والمعنوي، ومثل لكل منهما، وبين من أي النوعين قول الشاعر: فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرًا رسومها قلما وكيف ترتب هذا الكلام ليكون فصيحًا؟ "8-40" 2- متى يكون وجه الشبه قريبًا مبتذلًا؟ ومتى يكون بعيدًا غريبًا؟ وما سبب قربه وابتذاله، وبعده وغرابته؟ بين ذلك مع التمثيل. "8-40" 3- عرف الاستعارة المكنية عند الجمهور، ومثل لها, وهل هي والتخييلية متلازمتان؟ ولماذا؟ ثم أجر الاستعارة في قول الشاعر:

وإذا العناية لاحظتك عيونها ... ثم فالمخاوف كلهن أمان "8-40" التطبيق: 1- بين النوع البديعي, وموضعه في الأمثلة الآتية: قال الله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} . وقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله". وقال الشاعر: بروحي جيرة أبقوا دموعي ... وقد رحلوا بقلبي واصطباري كأنا للمجاورة اقتسمنا ... فقلبي جارهم والدمع جاري "6-40" 2- بين نوع المجاز, وعلاقته في الأمثلة الآتية: قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمهات المؤمنين: "أطولكن يدًا أسرعكن لحوقًا بي". وقال الشاعر: سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ... بأنني خير من تسعى له قدم "6-40" 3- بين نوع الكناية في المثالين الآتيين: قال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} . وقال الشاعر: ودبت له في موطن الحلم علة ... لها كالصلال الرقش شر دبيب

الدور الثاني لسنة 1364هـ دراسية: القواعد: 1- اشرح المعاني الاصطلاحية للألفاظ الآتية, ومثل لها: ضعف التأليف. الحال. تشبيه التسوية. حسن التعليل. "8-40" 2- افرق بين التشبيه المجمل والمفصل، وبين أنواع المجمل مع التمثيل لكل نوع منها، ومن أي نوع قولهم في تشبيه الكلام الفصيح: "هو كالعسل في الحلاوة" ولماذا؟ 3- عرف الاستعارة المرشحة والمجردة والمطلقة، وهل يجتمعان؟ مع التمثيل لكل ما تذكر. "8-40" التطبيق: 1- أ- بين نوع الكناية في المثالين الآتيين: قال الله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} . وقال الشاعر: فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير ب- بين نوع المجاز وعلاقته فيما يأتي: قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} . وقال الشاعر: وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سيبلى بظالم وقال آخر: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم ج- مثل من إنشائك لما يأتي: تشبيه جمع، مجاز مرسل علاقته المسببية، استعارة مكنية، كناية أريد بها صفة، مقابلة، ازدواج، مجاز عقلي. "14-40"

الدور الأول لسنة 1365هـ دراسية: القواعد: 1- عرف بلاغة الكلام، واشرح التعريف شرحًا وافيًا مع التمثيل، ثم بين النسبة بين الفصاحة والبلاغة، وما منشأ تفاوت مراتب البلاغة؟ مع توضيح ذلك بالمثال. "10-20" 2- بأي أنواع الدلالات تتحقق فائدة علم البيان, ولماذا؟ وما وجه ذكر مبحث التشبيه في هذا العلم؟ وهل هو من قبيل الحقيقة أو المجاز؟ وجه ما تقول. "8-40" 3- عرف المجاز المفرد، وقسمه، وبين معنى كل قسم مع التمثيل، ثم بين وجه التقسيم، وبماذا تخرج الغلط والكذب من المجاز؟ وما الفرق بين الكناية والمجاز؟ وضح ذلك في مثال. "11-40" التطبيق: 1- بين طرفي التشبيه ووجهه، والغرض منه، في قول الفرزدق: تفاريق شيب في الشباب لوامع ... وما حسن ليل ليس فيه نجوم "4-40" 2- بين نوع الاستعارة وطريقة إجرائها في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} . "3-40" 3- مثل لما يأتي: استعارة مكنية, كناية عن موصوف, تشبيه تمثيل, تورية. "4-40" الدور الثاني لسنة 1365هـ دراسية: القواعد: 1- اشرح معاني الألفاظ الآتية, ومثل لها: فصاحة المفرد, التشبيه الملفوف, تشبيه التسوية, الاستعارة المرشحة, كناية النسبة. "10-40"

2- متى تعود فائدة التشبيه على المشبه به؟ ومتى يعدل عن التشبيه إلى التشابه؟ ومتى يكفي مجرد الادعاء في تحقيق التشبيه؟ ومتى لا يكفي؟ بين جميع ذلك بالأمثلة. "8-40" 3- عرف الاستعارة، واذكر أركانها، وبين الأمور التي يجب تحققها فيها مع التمثيل, وهل هي من المجاز اللغوي والعقلي؟ وجه ما تقول. "11-40" التطبيق: 1- بين نوع الكناية فيما يأتي: يقولون في الشيب: رغوة الشباب، وفي المرأة المترفة: نئوم الضحى. ويقولون: فلان عانق المجد. 2- بين نوع الاستعارة، وطريقة إجرائها في قول الشاعر: رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلدي وهو للقلب جارح وما فائدة قوله: ريشه الكحل؟ "4-40" 3- مثل لما يأتي: مجاز مركب, تشبيه مفصل, مجاز مرسل علاقته المسببية, استعارة تبعية في اسم الفاعل. "4-40" الدور الأول لسنة 1366هـ دراسية: القواعد: 1- اشرح معنى التعقيد، وقسمه، وبين كل قسم مع التمثيل, مع بيان وجه التعقيد فيما تذكر من المثل. "10-40" 2- عرف وجه الشبه، وبين التحقيقي منه وغيره، واذكر الفرق بين المركب والمتعدد منه، مع التمثيل لكل ما تقول. "9-40" 3 عرف الاستعارة التصريحية وقسمها باعتبار اللفظ المستعار، ومثل لكل قسم، وأجرها في قول الشاعر:

ولئن نطقت بشكر برك مفصحا ... فلسان حالي بالشكاية أنطق "9-40" التطبيق: 1- بين المشبه والمشبه به ووجه الشبه والغرض فيما يأتي: كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخففان "4-40" 2- مثل لما يأتي: تشبيه مجمل. مجاز مركب. مشاكلة. "3-40" الدور الثاني لسنة 1366هـ دراسية: القواعد: 1- بين معنى مخالفة القياس، واذكر معنى التنافر وما يعول عليه في معرفته. وضح ما تقول بالأمثلة, واشرح السبب الذي أخل بالفصاحة في البيت الآتي: إلى ملك ما أمه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره "10-40" 2- اذكر أقسام التشبيه من جهة إفراد طرفيه وتركيبهما، وبين معنى التقييد والفرق بينه وبين التركيب, مع التمثيل لكل ما تقول. "10-40" 3- قسم الاستعارة التصريحية باعتبار ذكر الملائم، واشرح كل قسم مع التمثيل، ووازن بين الأقسام من جهة المبالغة. "9-40" التطبيق: قال الشاعر: 1- كأن الشموع وقد أوقدت ... فأخرجن من كل رمح سنانا أصابع أعدائك الخائفين ... تضرعن يطلبن منك الأمانا بين طرفي التشبيه، وهل هما من قبيل المفرد أو المركب؟ واذكر وجه الشبه. "4-40"

2- اشرح الكناية في البيت الآتي, وبين المطلوب منها ونوعها: يبيت بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت "3-40" 3- مثل لما يأتي: تشبيه الغرض منه بيان الإمكان، مجاز مرسل علاقته السببية، كناية المطلوب بها نسبة، مقابلة. الدور الأول لسنة 1368هـ دراسية: القواعد: 1- ما بلاغة الكلام؟ وما الحال؟ وما مقتضى الحال؟ اذكر مثلًا توضح به الحال، ومقتضى الحال، وبم يرتفع قدر الكلام ويعلو شأنه؟ ولم كان القرآن في أقصى درجات البلاغة؟ "7-40" 2- اذكر الفرق بين التشبيه الملفوف، والمفروق مع التمثيل، والفرق بين تشبيه التسوية، وتشبيه الجمع مع التمثيل. "8-40" 3- عرف الاستعارة بالكناية، والاستعارة التخييلية عند الجمهور, وبينهما في قول الهذلي: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع وأجر الاستعارة بالكناية فيه، وبين لما سميت التخييلية استعارة، ولم سميت تخييلية؟ ولم كانت التخييلية والمكنية متلازمتين عند الجمهور؟ "10-40" التطبيق: 1- بين المشبه، والمشبه به، ووجه الشبه، والأداة في قول الشاعر: العمر مثل الضيف أو ... كالطيف ليس له إقامة "3-40" 2- كون ثلاثة تشبيهات من إنشائك, يكون وجه الشبه في الأول واحدًا, وفي الثاني مركبًا، وفي الثالث متعددًا. "5-40"

3- قال ابن نباتة السعدي في وصف مهر أغر: وأدهم يستمد الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريا في الشطر الثاني من هذا البيت استعارة، فبينها وبين قرينتها ثم أجرها. "4-40" 4- بين ما في هذه الأبيات من البديع: وخز الأسنة والخضوع لناقص ... أمران في رأي النهى مران والرأي فيما دونه الأمران أن ... تختار وقع أسنة المران وقال ابن الرومي: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات نجوم "3-40"

موضوعات الكتاب

موضوعات الكتاب: 3 مقدمة 7 كلمة موجزة في تاريخ علوم البلاغة 9 وجه الحاجة إلى دراستها 10 معنى الفصاحة والبلاغة 10 فصاحة الكلمة 20 فصاحة الكلام 27 فصاحة المتكلم 30 بلاغة الكلام 33 بلاغة المتكلم 34 تتمة في معرفة العيوب المخلة بالفصاحة والبلاغة 38 علم البيان 41 مبحث الدلالة 47 تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز وكناية 48 مبحث التشبيه: تعريفه, أركانه 49 التقسيم الأول للطرفين 51 التقسيم الثاني للطرفين 54 التقسيم الثالث للطرفين 61 مبحث وجه الشبه 61 التقسيم الأول لوجه الشبه 61 التقسيم الثاني لوجه الشبه 63 التقسيم الثالث لوجه الشبه 66 التقسيم الرابع لوجه الشبه 68 التقسيم الخامس لوجه الشبه 70 التقسيم السادس لوجه الشبه 77 مبحث الأداة 87 تقسيم التشبيه باعتبار الأداة 87 مبحث أغراض التشبيه 87 تقسيم التشبيه باعتبار الغرض 93 فصل في بيان مراتب التشبيه 95 خاتمة في استعمال صيغة التشابه بدل صيغة التشبيه 97 الاختلاف في صيغة التشبيه 97 مبحث الحقيقة والمجاز 99 أقسام الحقيقة العقلية 101 المجاز العقلي 103 علاقته وقرينته 105 المجاز المفرد 106 الاستعارة 106 ما لا بد منه لتحقيقها 110 الاستعارة التصريحية وتقسيمها باعتبار الطرفين واللفظ المستعار 111 الاستعارة في الفعل 112 الاستعارة في المشتقات 114 الاستعارة في الحرف 116 تقسيمها إلى مرشحة ومجردة ومطلقة 119 موازنة بين هذه الثلاثة

119 قرينة الاستعارة التصريحية 122 الاستعارة المكنية 122 قرينة المكنية 131 فصل في شرائط حسن الاستعارة 133 المجاز المرسل 134 علاقات المجاز المرسل 144 المجاز المركب 144 الاستعارة التمثيلية 149 مبحث الكناية 150 أقسام الكناية 158 تتمة في أبلغية المجاز والاستعارة والكناية 161 علم البديع 163 المحسنات المعنوية, المطابقة 164 المقابلة 165 المشاكلة, الاستخدام 166 التورية 167 اللف والنشر 179 التوجيه 179 الاقتباس 180 الجمع, التفريق 183 التقسيم, المبالغة 184 حسن التعليل 185 ائتلاف اللفظ مع المعنى 186 حسن الابتداء 179 حسن الختام 181 المحسنات اللفظية, الجناس 185 رد العجز على الصدر 187 العكس 188 السجع 190 الازدواج, لزوم ما لا يلزم 193 أسئلة لامتحانات رسمية

المجلد الثاني

المجلد الثاني علم المعانى مدخل ... علم المعاني: تعريفه: هو أصول وقواعد، يعرف بها، كيف يطابق الكلام مقتضى الحال. والمراد بالأصول والقواعد: المسائل الكلية لهذا العلم, كقولهم: المنكر يلقى إليه الكلام مؤكدًا، وخالي الذهن يلقى إليه الكلام خلوا من التأكيد، والذكي يلقى إليه الكلام موجزًا، والغبي يلقى إليه الكلام مطنبًا, وهكذا. والحال -أي المقام الذي ورد فيه الكلام- هي الأمر الحامل للمتكلم على أن يورد في كلامه شيئًا خاصًا، زائدًا على أصل المعنى. ومقتضى الحال هو ذلك الشيء الخاص الذي ورد في كلام المتكلم. ومطابقة الكلام لمقتضى الحال, هي اشتماله على ذلك الشيء الخاص, مثال ذلك: أن يقال لمنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: "إن محمدًا لرسول الله" فإنكار المخاطب لهذه الرسالة "خال"، لأنه أمر يحمل المتكلم على أن يورد في كلامه شيئًا خاصًا هو "التأكيد" محوًا لهذا الإنكار، كما في المثال المذكور, والتأكيد "كما ترى" أمر زائد على أصل المعنى الذي هو ثبوت الرسالة لمحمد، وصورة التأكيد التي وردت في الكلام هي "مقتضى الحال" إذ إن الحال اقتضتها ودعت إليها، واشتمال الكلام على هذه الصورة هي مطابقة لمقتضى الحال. ومثل الإنكار "المدح" فهو حال تدعو المتكلم إلى أن يورد كلامه على صورة الإطناب، لأن مقام المدح يقتضي الإطالة في القول، والبسط فيه. كذلك ذكاء المخاطب حال تدعو المتكلم لأنه يورد كلامه على صورة الإيجاز، لأن مقام الذكاء يقتضي الاختصار في القول, وكل من صورتي الإطناب والإيجاز مقتضى الحال, واشتمال الكلام على صورة الإطناب أو الإيجاز مطابقة لهذا المقتضى ... وهكذا يقال في كل حال من أحوال الخطاب1 "كالعهد" المقتضي لأن يؤتي بالشيء معرفا "بأل". و"كالاهتمام" المقتضي لأن يؤتى بالشيء مقدمًا ... إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه بعد.

_ 1 هناك رأي آخر هو أن مقتضى الحال: الكلام الكلي المشتمل على التأكيد مثلا أو الإطناب أو الإيجاز، وليس هو التأكيد نفسه أو الإطناب أو الإيجاز كما هو الرأي الأول, فالإنكار مثلًا حال، والمقتضى: مطلق كلام مؤكد بأي نوع من أنواع التأكيد، وقولنا للمنكر: "إن محمدًا لكاتب" فرد من أفراد هذا المطلق المؤكد، ومعنى مطابقة هذا القول لمقتضى الحال حينئذ: أنه مدرج تحت الكلام المطلق وفرد من أفراده, فالفرق بين الرأيين واضح.

تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء

تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء مدخل ... تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء: ينقسم الكلام إلى قسمين: خبر، وإنشاء. فالخبر: قول يحتمل الصدق والكذب لذاته، أي هو ما يصح أن يقال لقائله: أنه صادق فيه أو كاذب، بأن يكون القول مطابقًا للواقع، أو غير مطابق -أو هو قول لا يتوقف تحقق مدلوله على النطق به- فقولك: "علي شجاع" خبر، لأنه يحتمل أن يكون علي شجاعًا في الواقع، فيكون الخبر صادقًا وألا يكون شجاعًا، فيكون الخبر كاذبًا -أو لأن مدلوله- وهو ثبوت الشجاعة له- حاصل سواء نطقت بهذا الخبر أو لا. والإنشاء: قول لا يحتمل صدقًا ولا كذبًا، أي لا يجوز أن يقال لقائله: أنه صادق فيها أو كاذب إذ لا واقع للقول حتى يطابقه أو لا يطابق -أو هو قول يتوقف تحقق مدلوله على النطق به فقولك: "اكتب يا علي" إنشاء مدلوله طلب الكتابة منه، ولا يتعلق بهذا الطلب صدق ولا كذب- كما يتوقف تحقق مدلوله على النطق بهذا المطلب، وسيأتي البحث فيه قريبًا. تنبيه: اعلم أن احتمال الخبر للصدق والكذب منظور فيه إلى ذات الجملة الخبرية، بغض النظر عن المخبر أو الواقع إذ لو نظرنا إلى ذلك لوجدنا بعض الأخبار مقطوعًا بصدقه، لا يحتمل كذبًا، وبعضها مقطوعًا بكذبه: لا يحتمل صدقًا -فالأول كأخبار الله تعالى: وأقوال أنبيائه- وكالبديهيات مثل "الكل أعظم من الجزء" و"الواحد نصف الاثنين" ونحو "السماء فوقنا" "والأرض تحتنا" وغير ذلك مما لا يحتمل كذبًا, والثاني كأقوال مسيلمة الكذاب، ونحو قولك "الجهل نافع". و"العلم ليس بنافع" وما أشبه ذلك: مما لا يحتمل الصدق, فلأجل جعل هذه الأقوال من أفراد الخبر المحتمل للصدق والكذب، ينبغي أن ينظر فيها إلى ذات الجملة الخبرية، وأن يقطع النظر عن المخبر أو عن الواقع, لهذا زيد قوله "لذاته" في التعريف الأول للخبر.

صدق الخبر وكذبه

صدق الخبر وكذبه: الخبر الصادق ما طابق مضمونه الواقع، والكاذب ما لم يطابق مضمونه الواقع. بيان ذلك: أن لصيغة الخبر نسبتين: نسبة مفهومة من الكلام، وتسمي "نسبة كلامية", ونسبة مفهومة من الخارج والواقع، وتسمى "نسبة خارجية أو واقعية" فإذا قلت مثلًا: "محمود مسافر" فإن ثبوت الصفر له المفهوم من هذه الصيغة نسبة كلامية. وهذا الثبوت المفهوم من الواقع والخارج نسبة خارجية أو واقعية. إذا علمت هذا: فأعلم أن صدق الخبر وكذبه يدوران حول هاتين النسبتين فإن توافقت النسبتان ثبوتًا بأن قلت: "محمود" وهو في الواقع كذلك، أو توافقتا سلبًا بأن قلت: "محمود ليس مسافرًا" وهو في الواقع كذلك كان الخبر صادقًا, وإن لم تتوافق النسبتان بأن قلت: "محمود مسافر" وهو في الواقع غير مسافر، أو العكس كان الخبر كاذبًا. فالخبر إذًا محصور في الصدق والكذب، ولا ثالث لهما، وهذا هو رأي الجمهور وهو المعول عليه, وفي المسألة آراء أخرى لا يتسع لها المقام. الإسناد الخبري: هو ضم كلمة، أو ما يجري مجراها إلى أخرى، أو ما يجري مجراها على وجه يفيد الحكم بمفهوم أحداهما على مفهوم الأخرى -ثبوتًا أو نفيًا- ويسمى المحكوم به "مسندًا" والمحكوم عليه "مسندًا إليه"، وتسمى النسبة بينهما "إسنادًا", فقولك: "حسان شاعر" أو "حسان غير شجاع" إسناد خبري إذ قد ضم فيه كلمة "شاعر" في المثال الأول "وغير شجاع" في المثال الثاني إلى أخرى "حسان" فيهما على وجه يفيد الحكم بمفهوم "الشاعرية" في الأول "وعدم الشجاعة" في الثاني على مفهوم "حسان" ثبوتًا كما في المثال الأول، ونفيًا كما في المثال الثاني. والمراد، بما يجري مجرى الكلمة: الجملة الواقعة في موقع المفرد -مبتدأ كان، أو خبرًا، أو فاعلًا، أو نائب فاعل- وبهذا تكون صور طرفي الإسناد أربعًا:

الأولى: أن يكون الطرفان مفردين حقيقة نحو: "علي شجاع"، "وانتصر خالد" و"أبرم الأمر" فالطرفان في هذه المثل مفردان حقيقة. الثانية: أن يكونا جملتين نحو "لا إله إلا الله ينجو قائلها من عذاب الله". الثالثة: أن يكون المسند إليه مفردًا حقيقة، والمسند جملة، نحو: حسان سلق الأعداء بحاد لسانه، ونحو: "خالد هزم الجيش بقوة جنانه". الرابعة: أن يكون المسند إليه جملة، والمسند مفردًا حقيقة: نحو، لا إله إلا الله كلمة النجاة من عذاب الله". تنبيه: الطرفان هما المسند والمسند إليه ولكل منهما مواضع يعرف بها، وإليك بيانها. فمواضع المسند إليه هي: الفاعل، ونائب الفاعل، والمبتدأ الذي له خبر وما أصله المبتدأ كأسماء الأدوات الناسخة، والأمثلة غير خافية. ومواضع المسند هي: الفعل التام واسم الفعل، والمبتدأ المكتفي بمرفوعه عن الخبر نحو: "أراغب" من قوله تعالى: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} ؟ وما أصله خبر المبتدأ كأخبار الأدوات الناسخة، والمصدر النائب عن فعل الأمر كلفظ "سعيًا" من قولك: "سعيًا في الخير" ولا تخفى عليك أمثلة ما لم تمثل له. ا. هـ.

ما يقصده المخبر بخبره

ما يقصده المخبر بخبره: إذا قصدت أن تخبر إنسانًا بخبر ما، فلا يخلو حال المخاطب من أحد أمرين، لا ثالث لهما. 1- أن يكون جاهلًا بمضمون الخبر المراد إلقاؤه إليه. 2- أن يكون عالمًا به قبل الإخبار. فإن كان الأول: كان قصدك بهذا الخبر: أن تفيد مخاطبك مضمونه، وتعلمه به كما إذا قلت مخاطبًا إنسانًا يجهل قدوم أبيه: "قدم أبوك من سفره" فأنت بهذا الخبر تريد أن تفيد مخاطبك الحكم الذي تضمنته هذه العبارة، "وهو قدوم أبيه" ويسمى هذا الحكم حينئذ "فائدة الخبر" لأنه معنى مستفاد منه. وإن كان الثاني: كان قصدك بهذا الخبر: أن يفيد المخاطب أنك عالم بمضمونه كما في المثال المذكور إذا خاطبت به إنسانًا يعلم قدوم أبيه. وأنت تعلم منه ذلك، فأنت لا تريد بهذا الخبر -والحالة هذه- أن تفيده الحكم الذي تضمنه لأنه عالم به، وإنما تريد: أن تفيده أنك أيضًا عالم بقدوم أبيه، لأن هذا هو الذي يجهله المخاطب, ويسمى علمك به "لازم الفائدة" أي الأمر الذي يستلزمه حكم الخبر وفائدته، إذ كل من أفدته خبرًا أفدته أنك عالم به من غير عكس1 أي ليس كل من أفدته أنك عالم بالحكم الذي تضمنه الخبر أفدته هذا الحكم لجواز أن يكون عالمًا به قبل الإخبار؛ لهذا كان الحكم الذي تضمنه الخبر هو "الملزوم" وعلمك بهذا الحكم هو "اللازم". تنبيه: علم مما تقدم أن القصد من إلقاء الخبر؛ أما إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنه الجملة الخبرية، أو إفادة أن المتكلم عالم بهذا الحكم, وهذا هو الغالب في استعمال الخبر. وقد يكون الحامل على الإخبار بواعث أخرى، نذكر منها ما يلي: 1- التوبيخ: كقولك للعاثر في وضح النهار "الشمس طالعة" فغير معقول أنك تريد إفادته طلوع الشمس، أو إفادته أنك عالم به، فإن ذلك مما لا يخفى على أحد، فلا بد إذًا أن يكون الحامل لك على هذا الإخبار غرضًا آخر، هو توبيخه على عثرته، مع طلوع الشمس، ووضوح النهار. 2- إظهار الفرح: كقولك: "نجحت في الامتحان" لمن يعلم ذلك, فليس الغرض الإفادة، بل الغرض إظهار السرور بالنجاح. 3- إظهار الضعف: كقول زكريا عليه السلام يخاطب ربه:

_ 1 أي فليس التلازم بين ذات الخبر وذات العلم, إذ لا تجزم بينهما فقد يتحقق الحكم ولا يعتقده المتكلم, وإنما التلازم بينهما باعتبار الإقامة بمعنى أن إفادة الأول ملزومة لإفادة الثاني.

{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} فزكريا عليه السلام لا يريد بهذا القول: أن يخبر الله تعالى بحاله، إذ يعلم أن الله لا يخفى عليه شيء، ولكنه قصد مجرد إظهار الضعف، وأنه بلغ من الوهن غاية لا أمل له بعدها في الحياة. 4- إظهار التحسر على فوات مأمول: كقول أم مريم عليهما السلام: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فهي تعلم يقينًا أن الله تعالى عالم بالذي وضعت، ولكنها تتحسر إذ ولدت أنثى، وكانت تود لو كان المولود ذكرًا؛ ليكون وقفًا على خدمة بيت المقدس ... إلى غير ذلك من الأخبار الذي لا يقصد بها الإفادة كما هو الأصل فيها.

اختبار- تمرين

اختبار- تمرين ... اختبار: 1- عرف علم المعاني، ووضح أجزاء التعريف، ثم ايت بمثال من عندك، وبين فيه الحال ومقتضاه، ومطابقة الحال لهذا المقتضى. 2- اذكر الفرق بين الخبر والإنشاء، ثم بين كيف كان كلام الله تعالى من قبيل الإخبار، مع أنه لا يحتمل كذبًا. 3- بين معنى صدق الخبر وكذبه، ووضح ذلك بمثال تختاره. 4- عرف الإسناد الخبري، ثم وضح التعريف بمثال من إنشائك وبين المراد بقوله: "أو ما يجري مجراها". 5- بين الغرض الأصلي من إلقاء الخبر، ثم اذكر غرضين من الأغراض التي يخرج فيها الخبر عن موضعه. تمرين: بين المسند والمسند إليه والغرض من الخبر فيما هو آت: انصرف الطلاب للمذاكرة، "لمن لا يعلم ذلك". أنت نجحت في الامتحان, "لمن لا يعلم ذلك". الربا حرام, "والخطاب لمسلم يتعامل بالربا". إني فقير إلى عفوك. جاء الحق وزهق الباطل. لفاعل الخير الجزاء الأوفى. الموت حوض وكل الناس وارده. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} . هذا أمك, "لمن يعتدى عليها بالأذى". {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} . {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . أنت خرجت عن حدك. إن القوم لئام. زارنا الغيث. "ذهب الشباب فما له من عودة".

تمرين يطلب جوابه: بين المسند والمسند إليه والغرض من الخبر فيما يأتي: ظهرت نتيجة الامتحان, "لمن يعلم ذلك". احترام الأب واجب. أنت تحفظ الحديث. كل امرئ سوف يلقى جزاء ما قدمت يداه. جاء الهناء وولى الشفاء. {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} . فاز المجد. ذهب عنا الحزن. وافانا الحبيب, "لمن يعلم ذلك". {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} . ما أنت بالرجل الذي يعول عليه. فرطت وهذه نتيجة التفريط. ظلمت نفسك باتباع هواك. {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُوم} . {لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} . {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} . لا دين لمن لا مروءة له. ثمرة العلم العمل. إلهي عبدك العاصي أتاكا ... مقرًّا بالذنوب وقد دعاكا ذهب الصبا وتولت الأيام ... فعلى الصبا وعلى الزمان سلام

أضرب الخبر

أَضْرُبُ الخَبَرِ: تقدم أن قلنا: أن الغرض من الإخبار في أصل وضعه أحد أمرين: الأول: إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنه الخبر إن كان جاهلا به. الثاني: إفادته أن المتكلم عالم بالحكم إن كان المخاطب عالمًا به. فينبغي إذا للمتكلم أن يكون كلامه على قدر الحاجة، لا يزيد ولا ينقص في عبارته حذرًا عن اللغو، فيضع نفسه من المخاطب موضع الطبيب الماهر من المريض: يشخص حاله، ويعطيها ما يلائمها. والمخاطب إزاء هذه الحال أنواع ثلاثة: 1- أن يكون خالي الذهن من الحكم المراد إفادته إياه، بمعنى: أنه لم يسبق له علم بمضمون الخبر قبل إلقائه إليه. ومثل هذا المخاطب يلقى إليه الخبر خلوا من التأكيد، لعدم الحاجة إليه، لتمكن معنى الخبر في ذهنه إذ وجده خاليًا، وخلو الذهن عن الشيء يوجب استقراره فيه، على حد قول الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا فإن كان للإنسان أخ تقدم إلى الامتحان، ففاز فيه على أقرانه، ولم يصل إلى علمه نبأ فوزه فأردت إخباره بذلك قلت هكذا: "فاز أخوك في

الامتحان وسبق نظراءه، بلا حاجة إلى تأكيد الخبر1, ويسمى هذا الضرب "ابتدائيًّا" لأنه لم يسبق بطلب ولا إنكار. 2- أن يكون مترددًا في الحكم المراد إفادته إياه، طالبا وقوفه على حقيقة الأمر إذ إن المتردد في الشيء يكون عادة متشوقًا إليه، طالبًا معرفته ليزول تردده، ويستقر على أحد الأمرين المتردد بينهما. ومثل هذا المخاطب يستحسن أن يؤكد له الخبر محوًا لهذا التردد، وتمكينًا للحكم في ذهنه, سواء استوى لديه طرفا الإثبات والنفي، أو كان لأحدهما أرجحية على الآخر. هذا هو مذهب الجمهور2. فإذا كان المخاطب في المثال السابق مترددًا بين فوز أخيه، وعدم فوزه، بأن بلغه نبأ فوزه ممن لا يثق بخبره مثلًا, حسن منك أن تؤكد له الخبر ليطمئن إلى أحد الأمرين، فتقول له: "إن أخاك فائز في الامتحان على أنداده". ويسمى هذا الضرب "طلبيًّا" لأنه مسبوق بطلب، إذ إن المخاطب، المتردد طالب بلسان حاله وقوفه على جلية الأمر, كما قلنا. 3- أن يكون منكرًا للحكم المراد إخباره به، معتقدًا غيره. ومثل هذا المخاطب يجب تأكيد الخبر له تأكيدا يتناسب مع إنكاره قوة وضعفًا3 فإن كان المخاطب منكرًا لفوز أخيه معتقدًا إخفاقه لسبب ما وجب عليك أن تؤكد له الخبر لتمحو إنكاره، فتقول له: "إن أخاك لفائز على أقرانه" فإن لم يقتنع، وأصر على إنكاره زدته تأكيدًا

_ 1 التأكيد المحظور هنا هو المنصب على النسبة، أما التأكيد الموجه إلى الطرفين كالتأكيد اللفظي أو المعنوي, فلا مانع منه على قائم أو على نفسه قائم. 2 للإمام عبد القاهر رأي آخر؛ هو أن المستحسن له التأكيد عنده هو المتردد الذي يرجح أحد الأمرين المتردد بينهما, فكأنه يسكن الأمن الآخر ولتحويله عن هذا الأمر الراجح عنده كان في حاجة إلى التأكيد هي أشبه بحاجة المنكر إليه. بخلاف الشاك الذي استوى عنده الأمران فإن أدنى أخبار يمحو شكه ويزيل تردده، فلا داعي لتأكيد الحكم له، وشأنه في ذلك شأن خالي الذهن, وهو عندي رأي حسن. 3 مؤكدات الحكم كثيرة هنا "إن" المكسورة الهمزة، والقسم، ونون التوكيد، ولام الابتداء، واسمية الجملة، وحروف التنبيه، وضمير الفصل، وأداة الحصر، و"قد" التي للتحقيق, وغير ذلك.

حتى يمحى هذا الإنكار, ومنه قوله تعالى حكاية عن رسل عيسى عليه السلام إذا كذبوا في المرة الأولى: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} مؤكدًا بأن وإسمية الجملة1, وإذ كذبوا في المرة الثانية {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} مؤكدًا بالقسم, وإن، واللام, وإسمية الجملة لإمعان المخاطبين في الإنكار، إذ قالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} . ثم إن الجري على هذا النحو في الخطاب: من خلو الكلام عن التأكيد لخالي الذهن، واستحسان التأكيد للمتردد، ووجوبه للمنكر، هو ما يتطلبه ظاهر حال المخاطب, وحينئذ ينبغي للمتكلم أن يراعي في خطابه ما يبدو من حال مخاطبه ليكون كلامه مطابقًا, ويسمى الجري على هذا النحو إخراجًا للكلام على مقتضى ظواهر الحال. إذا علمت هذا فاعلم أن المتكلم قد يغض النظر عن ظاهر حال المخاطب ويعتبر فيه أمرًا آخر غير ما يبدو له لسبب ما، ويخاطبه على هذا الاعتبار، والجري على هذا النحو يسمى.

_ 1 أي اعتبار دلالتها على الثبوت والدوام, غير أن التأكيد بها موقوف القصد والاعتبار. وقيل: إنما تكون مؤكدة إذا انضم إليها مؤكد آخر.

اخراج الكلام على غير مقتضى الظاهر

إخراج الكلام على غير مقتضى الظاهر: وذلك إنما يكون حيث ينزل الشيء منزلة غيره, فمن ذلك: 1- تنزيل العالم بالحكم منزلة الجاهل به لعدم جريه على مقتضى علمه، فإن من لا يعمل بعلمه هو والجاهل سواء كقولك للمسلم التارك للصلاة: الصلاة واجبة فهو قطعًا يعلم وجوبها، فالإخبار حينئذ خروج بالكلام عن مقتضى الظاهر، إذ مقتضى الظاهر: الكف عن إخباره لعلمه بالحكم، لكن نزل علمه به منزلة الجهل به لعدم جريه على موجب علمه إذ لو كان عالمًا بوجوب الصلاة ما تركها. 2- تنزيل خالي الذهن منزلة المتردد وحينئذ: يؤكد له القول كما يؤكد للمتردد, مثاله: أن يأتي إليك رجل يتشفع في ابن لك غضبت عليه فتقول له: "لا تحدثني في شأن هذا الولد العاق, إنه محروم من عطفي" فقولك: "إنه محروم" خبر ألقي لخالي الذهن مؤكدًا تنزيلًا له منزلة المتردد في الحكم.

فخلو الذهن ظاهر حال المخاطب، وهو يقتضي أن يلقى إليه الخبر خلوا من التأكيد, لكن المتكلم صرف النظر عن هذا الظاهر، واعتبر في المخاطب أمرًا آخر هو "التردد"، وخاطبه على هذا الاعتبار، وذلك خروج بالكلام عن مقتضى الظاهر. غير أن تنزيل خالي الذهن منزلة المتردد مشروط بأن يقدم له كلام يلوح بالخبر ويشير إليه، كما في المثال المذكور. فإن قوله: "لا تحدثني في شأن هذا الولد العاق" يشعر المخاطب بجنس الحكم، وهو أن المتشفع فيه قد استحق العقاب، وصار المخاطب بهذا الكلام في مقام المتردد في نوع هذا العقاب أهو ضرب، أم طرد، أم حرمان، أم غير ذلك من أنواع العقاب؟ وكأنه يطلب معرفته, ومنه قوله تعالى مخاطبًا نوحًا عليه السلام: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} , فقوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} مشعر بأن سيحل بقومه العقاب، فصار نوح عليه السلام في مقام المتردد في نوع هذا العقاب، لهذا خاطبه تعالى خطاب المتردد. 2- تنزيل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، وحينئذ يؤكد له الكلام كما يؤكد للمنكر حقيقة كما إذا كان المخاطب مسلمًا تاركًا للصلاة، معاقرًا للخمر، فقوله له مؤكدًا: أن الصلاة لواجبة، أو أن الخمر لحرام, فالمخاطب بحكم إسلامه يعلم قطعًا بوجوب الصلاة، كما يعلم بحرمة الخمر، ولا ينكر ذلك، وكان مقتضى هذا ألا يؤكد له القول, لكن تركه للصلاة، أو معاقرته للخمر جعله في منزلة المنكر لذلك، إذ لو كان يؤمن بوجوب الصلاة، أو بحرمة الخمر ما ترك الصلاة أو ما عاقر الخمر، لهذا خوطب خطاب المنكر خروجًا بالكلام عن مقتضى ظاهر حاله, ومنه قول الشاعر: جاء شقيق عارضًا رمحه ... أن بنى عمك1 فيهم رماح فشقيق هذا لا ينكر أن في بني عمه رماحًا، بل إنه ليعلم ذلك بحكم الجوار أو بحكم الخصومة القائمة بين الفريقين, لكن مجيؤه على هذه الصورة واضعًا رمحه عرضًا، من غير تهيؤ واستعداد، شأن المدل بنفسه، المعجب بقوته جعله في منزلة المنكر أن في بني عمه سلاحًا يذودون به بغي المعتدين، إذ لو كان معترفًا بذلك لجاء على هيئة المستعد للقائهم.

_ 1 إنما سماهم بني عمك باعتبار أنهم جميعًا من فضيلة العرب, وإن تعددت قبائلهم ولا يبعد أن يكون بين القبيلتين وشائج قربى.

المتهيئ لقتالهم"1. فعدم الإنكار فيما مثلنا ظاهر حال المخاطب، وهو يقتضي أن يلقى إليه الكلام خاليًا من التأكيد، بل يقتضي ألا يلقى إليه الخبر أصلًا لعلمه بالحكم الذي تضمنه لكن قطع النظر عن هذا الظاهر، وفرض في المخاطب أمر آخر هو الإنكار، لما بدأ عليه من أمارته، وخوطب خطاب المنكر حقيقة، على غير ما يقتضيه ظاهر حاله، كما تراه في البيت، وفي المثال قبله، وهذا خروج بالكلام علن مقتضى الظاهر. 4- تنزيل المنكر منزلة غير المنكر إذا كان الدليل على غير ما يعتقد واضحًا، بحيث لو استطاع التأمل فيه لارتدع عن إنكاره، وحينئذ لا يؤكد له الخبر كما لو لم يكن منكرًا كقولك لمنكر حقيقة الإسلام: "الإسلام حق" فهذا القول خبر، وقد ألقي للمنكر خلوا من المؤكد تنزيلًا له منزلة غير المنكر، لأن الدليل على حقية الإسلام قائم بين يديه، لو نظر فيه نظرة صادقة لأذعن، وأقلع عن جحوده. فالإنكار ظاهر حال المخاطب حال وهو يقتضي أن يلقى إليه الخبر مؤكدًا، لكن قطع النظر عن هذا الظاهر، وفرض فيه أمر آخر هو "عدم الإنكار" لوضوح الدليل القائم بين يديه، بحيث يعتبر الإنكار معه كلا إنكار، وخوطب خطاب غير المنكر, إلى غير ذلك من المواضع التي ينزل فيها الشيء منزلة غيره "كما رأيت". تنبيه: يعلم مما تقدم أن الحال وظاهر الحال -مع اتفاقهما في أن كلا منهما: أمر يدعو المتكلم إلى اعتبار خصوصية في الكلام- يفترقان من حيث أن ظاهر الحال أخص من الحال، لأن ظاهر الحال هو الوصف الثابت للمخاطب في الواقع كخلو الذهن أو التردد أو الإنكار، بخلاف الحال، هو أعم من أن يكون وصفًا ثابتًا في الواقع، أو كان أمرًا مفروضًا فيه فرضًا, فظاهر الحال في نحو قولك لمنكر حقيقة الإسلام: "أن الإسلام لحق", هو الإنكار إذ هو الأمر الثابت له في الواقع, وهو حال له أيضًا، لأنه أمر دعا المتكلم إلى أن يعتبر الكلام خصوصية هي "التأكيد"، فقد اتحد الحال وظاهر الحال في مثل هذا المثال, أما في نحو قولك للمسلم التارك للزكاة: "إن الزكاة لواجبة" فإن الإنكار هنا يعتبر حالًا، لأنه أمر دعا المتكلم لأن يعتبر التأكيد في خطابه، وليس ظاهر حال للمخاطب إذ ليس وصفًا ثابتًا له في الواقع، وإنما الثابت له عدم الإنكار, غير أن المتكلم لم يعتبر هذا الوصف، وفرض فيه حالًا ليست صفة له هي "الإنكار" وخاطبه على هذا الغرض, فظهر أن ظاهر الحال أخص مطلقًا من الحال". ا. هـ.

_ 1 وفي البيت معنى التهكم والسخرية بشقيق، وأنه من الضعف والجبن بحيث لو علم أن في بني عمه رماحًا ما اتجه إليهم، بل ما قويت يده على حمل السلاح.

تمرين

تمرين: 1- عين فيما يأتي من الجمل نوع الخبر، وبين ما جرى منها على مقتضى ظاهر الحال، وما خرج منها عن مقتضاه. لكم في زكاة أموالكم ثراء. إني مقيم على ودك. دعني وشأن هذا الأثيم لقد حولت قلبي عنه وصرمت حبال وده، إن الأمير سيعودك اليوم "لمتردد". على رسلك يا أحمد "واقصد في القول أن في الحاضرين لخطباء مصاقع". محمد رسول الله "لمنكر الرسالة". إن الميسر لرجس "والخطاب لمسلم".

تمرين يطلب جوابه: 1- عين فيما يأتي نوع الخبر، وبين ما جرى منها على مقتضى الظاهر وما خرج عن مقتضاه. الكذب في بعض الأمور فضيلة. إن الله لسريع العقاب. لا تساوم في شرفك. أن مثلوم العرض مخذول. لم تتق الله في أمرك. إن الله يعلم ما تصنعون. القرآن شفاء القلوب "لمنكر ذلك". {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} "والخطاب لمسلم ظالم". إن خصيمك يطلب زيارتك. 2- ايت من إنشائك بمثالين في أحدهما تنزيل المنكر منزلة غير المنكر، وفي ثانيهما بالعكس، ثم بين في كل منهما الحال ومقتضاه.

أحوال المسند إليه

أحوال المسند إليه ذكر المسند إليه ... أحوال المسند إليه: المسند إليه هو المحكوم عليه, فاعلًا كان، أو نائب فاعل، أو مبتدأ أصلًا أو حالًا, وأحواله هي ما يعرض له من ذكر، وحذف، وتعريف، وتنكير، وتقديم، وتأخير، وغير ذلك. ذكر المسند إليه: اعلم أن المسند إليه واجب الذكر إذا لم يقم عليه قرينة، ولا بحث لنا فيه، فإذا دلت عليه قرينة جاز ذكره وحذفه، وهذا ما نحن بصدد البحث فيه, ذلك: أن البحث إنما هو في مرجحات الذكر على الحذف، أو العكس، وذلك إنما يكون حيث يجوز ذكره وحذفه لقيام قرينة عليه, ومرجحات الذكر كثيرة، نذكر منها ما يلي. 1- كون ذكر المسند إليه هو الأصل، أي الكثير، وليس هناك ما يقتضي حذفه في قصد المتكلم1 أي محل كون الأصالة علة تقتضي الذكر إذا لم تعارضها علة أخرى تقتضي الحذف، قصد إليها المتكلم، بحيث إذا وجدت علة الحذف وقصد إليها روعيت وأهملت علة الأصالة لضعفها كما تقول: "محمد قائم" فنذكر المسند إليه، لأن الأصل فيه أن يذكر إذ هو المحكوم عليه بالقيام فهو أعظم ركني الإسناد.

_ 1 إنما شرطنا قصد المتكلم، لأن المقتضي للحذف موجود كالاحتراز دائمًا عن العبث في ذكره مثلًا.

2- قلة الثقة بالقرينة لضعفها. مثال ذلك أن تقول: "أبو الطيب نعم الشاعر" فتذكر المسند إليه إذا سبق لك ذكر أبي الطيب، وطال عهد السامع به، أو ذكر معه كلام في شأن غيره. 3- التعريض بغباوة السامع، وأنه لا يفهم إلا بالتصريح لقصد إهانته وتحقيره كما تقول لسامع القرآن: "القرآن كلام الله" فتذكر المسند إليه تعريضًا بغباوة السامع، وأنه لا يفهم إلا بالقول الصريح لغرض امتهانه، والازدراء به. 4- زيادة إيضاح المسند إليه: وتقريره في نفس السامع كما تقول: "هؤلاء كتبوا، وهؤلاء أفادوا" فقد ذكر المسند إليه وهو "اسم الإشارة" الثاني، مع الاستغناء عنه "باسم الإشارة" الأول لقصد زيادة إيضاحه وتقريره، وأن هؤلاء الذين ثبتت لهم الكتابة هم أنفسهم الذين ثبتت لهم الإفادة, قيل ومنه قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فذكر المسند إليه الذي هو "اسم الإشارة" الثاني لزيادة الإيضاح والتقرير على ما بيننا1. 5- إظهار تعظيمه أو تحقيره إذا كان اللفظ مما يفيد معنى التعظيم أو الحقارة، كأن يسألك شخص: هل رجع خالد؟ فتقول: رجع الشجاع المقدام، أو الجبان الرعديد، فتذكر المسند إليه في الأول تعظيمًا له، وتذكره في الثاني إهانة له وتحقيرًا. 6- التيمن والتبرك بذكره، لأنه مجمع اليمن والبركات كقولك "نبينا قال كذا وكذا" فتذكره تيمنًا وتبركًا به. 7- التلذذ بذكره: كقولك: "الله ربي" و"محمد نبيي", وكقولك: "الحبيب قادم" فتجري ذلك على لسانك لقصد التلذذ1 بسماع هذه الألفاظ. 8- بسط الكلام وإطالته, وذلك في مقام يكون إصغاء السامع فيه مطلوبًا للمتكلم لخطر مقامه، لقربه من قلب المتكلم، ولهذا يطال الحديث

_ 1 غير أن التمثيل بها نظرًا إذ ليست من قبيل ما نحن فيه، لأننا لو حذفنا اسم الإشارة الثاني لم يكن المسند إليه محذوفا؛ لأن "المفلحون" جملة مركبة من مسند ومسند إليه, وهي إما معطوفة على خبر اسم الإشارة الأول, أو معطوفة على جملة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} , وعلى الاحتمالين لا حذف للمسند إليه.

مع الأحبة, مثاله قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} , وقال ذلك حين سأله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ، وكان يكفيه في الجواب أن يقول: "عصا"؛ لأن "ما" للسؤال على الجنس، لكنه ذكر المسند إليه, وهو "الضمير" حبًّا في إطالة الكلام في حضرة الذات العلية، وأي مقام يسترعي بسط الكلام فيه كهذا المقام؟ ولهذا لم يكتف موسى بذكر المسند إليه، بل أعقب ذلك بذكر أوصاف لم يسأل عنها، فقال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} ... إلى آخر الآية. 9- التهويل والإرهاب: كقولك: "وأمير البلاد يأمرك بكذا", فتذكر المسند إليه, وهو "أمير البلاد" تهويلًا للمخاطب، وإرهابًا له بذكر "الأمير" ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة والامتثال. 10- إظهار التعجب من المسند إليه إذا كان الحكم غريبًا، يندر وقوعه كقولك: "محمد يقاوم الأسود" أو "يحمل كذا طنا من حديد", فتذكر المسند إليه لقصد إظهار التعجب من شدة بأسه. 11- التسجيل على السامع بين يدي الحاكم حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار، والتنصل، كأن يقول الحاكم لشاهد واقعة: هل أقر هذا علي نفسه بكذا؟ مشيرًا إلى رجل معين، فيقول الشاهد: "نعم محمد هذا أقر على نفسه بكذا", فتذكر المسند إليه. لئلا يجد المشهود عليه سبيلًا إلى الإنكار فيما لو حذف اسمه. إلى غير ذلك من علل الذكر إذ ليست سماعية، حتى يمكن استيعابها، بل والمدار في ذلك على الذوق السليم، فما عده الذوق داعيًا من دواعي الذكر، أو الحذف، أو غيرهما عمل به، وإن لم يذكره أهل الفن.

حذف المسند إليه

حذف المسند إليه: يحذف المسند إليه لأغراض نذكر منها ما يلي: 1- الاحتراز عن العبث بذكره، "في ظاهر الأمر" لدلالة القرينة عليه، وينبغي أن يصان كلام البليغ عن العبث, مثال ذلك أن تقول: "حضر" تريد "الأمير" فتحذف المسند إليه، وهو "الأمير" قصدًا إلى التحرز عن العبث في ذكره لقيام القرينة الدالة, وإنما كان العبث ظاهريًا لأن الحقيقة أن لا عبث في ذكره، وإن قامت عليه قرائن، لأن المسند إليه -كما قلنا- أعظم ركني الإسناد إذ هو المحكوم عليه، فلا يكتفى فيه بالقرينة، بل ينبغي مع ذلك أن ينص عليه اهتمامًا بأمره. 2- ضيق المقام عن إطالة الكلام، بسبب سآمة، أو توجع، أو تحزن كقول الشاعر: قال لي كيف أنت قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل لم يقل: أنا عليل لضيق صدره عن الإطالة بسبب ما يعانيه من تباريح الهوى، ولواعج الشوق. 3- الحذر من فوات الفرصة: كأن يقول رجل لصائد: "غزال" يريد: هذا غزال، فيحذف المسند إليه, وهو "هذا" مخافة أن تفوت الفرصة، فيفلت الصيد من يد الصائد. 4- اختبار تنبه السامع عند قيام القرينة على المسند إليه: هل يتنبه له بهذه القرينة الدالة، أو لا يتنبه إلا بالتصريح، مثال ذلك: أن يحضر إليك رجلان تربطك بأحدهما صداقة، فتقول لآخر يعلم بهذه الصلة: "غادر" تريد أن تقول: الصديق غادر، فتحذف المسند إليه، وهو "الصديق" اختبارًا لذكاء السامع: هل يتنبه إلى المسند إليه المحذوف وهو "الصديق" بقرينة ذكر الغدر" إذ لا يتناسب إلا الصديق، أو لا ينتبه. 5- اختبار مقدار تنبه السامع عند قيام قرينة خفية على المسند إليه، هل يتنبه بالقرائن الخفية أم لا؟ مثال ذلك أن يحضرك شخصان تجمعك بهما صداقة, غير أن أحدهما أقدم من الآخر فيها، فتقول لآخر يعلم هذه الصداقة: "جدير بالاحترام" تريد: أقدمهما صحبة، وهو "محمد" مثلًا، فتحذفه اختبارًا لمبلغ ذكاء السامع هل يتنبه لهذا المحذوف بهذه القرينة الخفية، وهي أن الجدير بالاحترام ذو الصداقة القديمة، دون حادثها، أم لا ينتبه. 6- إيهام1 صون المسند إليه عن لسانك من أن يتلوث بنجاسة بمروره عليه لكونه عظيمًا خطيرًا, أو إيهام صون لسانك عنه لحقارته وامتهانه, فالأول نحو قولك: "رافع راية التوحيد، هادم دعائم الشرك" تريد النبي صلى الله عليه وسلم، فتحذفه مخافة أن يتلوث من لسانك, والثاني نحو قولك: "مخذول مطرود" تريد إبليس اللعين فتحذفه لئلا يتلوث اللسان بذكره.

_ 1 إنما عبر بالإيهام، لأن التلوث المراد صون الذكر أو اللسان عنه أمر اعتباري محض.

7- تأتي الأذكار عند الحاجة إليه: كأن يحضر إليه جماعة من بينهم خصم لك، فتقول لآخر: "لئيم فاجر" تريد هذا الخصم، فتترك ذكر اسمه ليتأتى لك الإنكار عند لومه لك على سبه، فتقول له: ما عنيتك، وإنما، أردت غيرك. 8- تعيين المسند إليه؛ إما لأن المسند لا يصلح إلا له لأن المسند كامل فيه, وإما لأنه معهود بين المتكلم والمخاطب, فمثال الأول قولك: "عالم الغيب والشهادة" تريد: الله "سبحانه" فتحذفه لتعينه، إذ إن علم الغيب والشهادة وصف خاص به تعالى, ومثال الثاني قولك: "عادل في حكومته" تريد عمر الفاروق، فتحذفه لتعينه, لأن صفة العدالة بلغت فيه الكمال، ومثال الثالث قولك: "حضر" تريد: إنسانًا معهودًا بينك وبين مخاطبك. 9- ادعاء تعينه كقولك: "وهاب الألوف" تريد: "الأمير" فتحذفه لتعينه ادعاء، وأنه لا يتصف بذلك أحد غيره من رعاياه. 10- المحافظة على وزن، أو سجع، أو قافية, مثال الأول قول الشاعر: على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا علي ولا ليا أي لا علي شيء، ولا لي شيء, حذف المسند إليه فيهما وهو لفظ "شيء" لأن في ذكره إفسادًا لوزن البيت. ومثال الثاني قولهم: "من كرم أصله وصل حبله" أي وصل الناس حبله، فحذف المسند إليه1, وهو "الناس" محافظة على السجع المستلزم رفع الفاصلة2 من الفقرة الثانية، وهي قوله: "حبله" ومثال الثالث قول الشاعر: وما المرء والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يومًا أن ترد الودائع أي أن يرد الناس الودائع، فحذف المسند إليه, وهو "الناس" للمحافظة على القافية، ولولا ذلك لاختلفت لصيرورتها مرفوعة "في الشطر الأول" منصوبة "في الشطر الثاني". 11- اتباع الاستعمال الوارد على ترك المسند إليه كقولهم في المثل

_ 1 المراد: المسند إليه الأصلي الذي هو الفاعل, وهذا لا ينافي أن نائب الفاعل مسندًا إليه أيضًا. 2 هي الكلمة الأخيرة من جملة مقارنة لأخرى.

رمية من غير رام1 أي هي رمية موفقة ممن لا يحسن الرمي المسند إليه وهو "الضمير" اتباعًا لما ورد في استعمالاتهم. ومنه قولهم في النعت المقطوع إلى الرفع، لقصد إنشاء المدح أو الذم أو الترحم. "الحمد لله أهل الحمد", "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم", "اللهم ارحم عبدك المسكين", على تقدير: هو أهل الحمد، وهو الرجيم, وهو المسكين. ومن هذا القبيل قول ابن عنقاء، يمدح عميلة، وقد شاطره ماله لفقره2: رآني عي ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر دعاني فآساني ولو ضن لم ألم ... علي حين لا بدو يرجى ولا حضر غلام رماه الله بالخير يافعًا ... له سيمياء لا تشق على البصر2 أي هو غلام, ومثله قول الشاعر4:

_ 1 مثل يضرب لمن صدر منه فعل ليس هو أهلًا لأن يصدر عنه، قاله الحكم بن يغوث حين نذر أن يذبح مهاة على "الغبغب", وهو جبل يمنى وكان من أرمى الناس فصار كلما رمى مهاة لا يصيبها, مكث على ذلك أيامًا حتى كاد يقتل نفسه, فخرج معه ابنه "مطعم" إلى الصيد فرمى الحكم مهاتين فأخطأهما, فلما عرضت الثالثة رماها "مطعم" فأصابها وكان لا يحسن الرمي فقال الحكم عندئذ: "رمية من غير رام" فصار مثلًا. 2 قال التبريزي في خبر هذه الأبيات: إن قومًا من العرب أغاروا على نعم له فاستاقوها حتى لم يبق له منها شيء، فأتى ابن أخيه عميلة وقال له: يابن أخي نزل بي ما ترى فهل من حلوبة؟ قال: نعم يا عم حين إذ يراح المال فأبلغ مرادك منه، فلما راح المال قاسمه إياه وأعطاه شطره, فقال ابن عنقاء هذه الأبيات. 3 اشتكى حاله إلى ماله, كناية عن أنه رق له وعطف, وهو من أروع الكنايات وألطفها، وقوله: أسر كما جهر يريد: أن باطنه كظاهره فلم يعطه رياء بل كان عطفه عليه وليد رغبة صادقة فيه، ويافعًا من أيفع الغلام إذا ناهز العشرين والسيمياء العلامة يريد، أن سيمياء في وجهه وأن ما ينطوي عليه من خير يدرك بمجرد النظر إليه. 4 هو عمرو بن كميل نظر إليه عمرو بن ذكوان وعليه جبة بلا قميص فجعل يسعى له ويتشفع حتى ولي البصرة, فقال هذه الأبيات, وقيل: إن قائل هذه الأبيات أبو الأسود يمدح بها عمرو بن سعيد العاصي.

سأشكر عمرًا ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت1 أي هو فتى, وهكذا يذكرون الممدوح، ثم يعقبون بعد ذلك بقولهم غلام من شأنه كذا وكذا أو فتى من صفاته كيت وكيت، ولا تكاد تجد المسند إليه يذكر في مثل هذه المواضع لهذا ترك ذكره فيها، وفي نظائرها اتباعًا لاستعمالاتهم الواردة. إلى غير ذلك من دواعي الحذف كإخفاء المسند إليه عن غير المخاطب لسبب ما كالخوف منه، أو عليه، أو نحو ذلك.

_ 1 ما تراخت منيتي: أي ما امتد بي الأجل, أي ما حييت، والأيادي جمع اليد بمعنى العطية, ولم تمنن: أي متصلة لم تنقطع، وقوله: غير محجوب الغنى عن صديقه، يريد أن أمواله في متناول أيدي قاصديه، وقوله: ولا مظهر الشكوى ... إلخ: يريد أنه لجد صبور على قضاء الله لا يجزع لمكروه.

تمرين1

تمرين: بين أسباب ذكر وحذف المسند إليه في العبارات الآتية: هؤلاء جدوا وهؤلاء بلغوا الذروة. {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} . {قَدَّرَ فَهَدَى} . الفاروق يدعوك. قضية ولا أبا حسن لها. على أن يناطح الصخر ويلين الحديد. من ساء طبعه هجر ربعه. وقيل لمريض: كيف حالك؟ قال: لا تسر. قيل لرجل: ماذا بيدك؟ قال: هذا كتابي, رفيقه في غربتي، وسميري في وحدتي. فاجر لا يتقي الله، قادم "تريد رجلًا بعينه". ارفق بالسائل المحرومُ "برفع المحروم". مزلزل إيوان كسرى. قطار "لواقف في طريقه". إبراهيم هذا سلب عمرًا متاعه. محتال مراوغ. هازم الجيوش, خازم أنوف الأعداء. نجوم سماء كلما غار كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكب فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور

تمرين يطلب جوابه: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} , {خَلَقَ فَسَوَّى} ، "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"، لا تخاطب السفيه اللئيم، وأحسن إلى الفقير المسكين "بضم النعت فيهما", {يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، وجيء بالكتاب، خلق الإنسان ضعيفًا، أقبل أمير المؤمنين "جوابًا لمن سأل: هل أقبل عمر؟ ", حاتم يقري الضعيف، وحاتم يفك الحاني1. شنشنة أعرفها من أخزم2 خامل الذكر "بعد ذكر شخص معين" يريد مقابلتك الليلة، خالد هذا اغتصب مال بكر. غارة. خازم الأعداء، محمد يصيد السباع في مرابضها، من طابت سريته حمدت سيرته، سئل رجل: ما خطبك؟ فقال: هم دائم. قوم إذا أكلوا خفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج3 الباب والدار خليلي إما أن تعينا وتسعدا ... وإما كفافًا4 لا علي ولا ليا

_ 1 هو الأسير. 2 هذا المثل عجز بيت قاله أبو أخزم الطائي, كان ابنه أخزم يؤذيه كثيرًا ثم مات في حياة أبيه، وترك أولادًا له، فوثبوا على جدهم يومًا وأوسعوه ضربًا حتى أدموه فأنشد: إن بني ضرجوني بالدم ... من يلق أساد الرجال يكلم ومن يكن ردا له يقدم ... شنشنة أعرفها من أخزم يقول: إن ضربهم إياه خصلة يعرفها من أبيهم أخزم فذهب الشطر الأخير مثلًا. 2 الرتاج ككتاب: الباب المغلق. 4 الكفاف كسحاب: هو من الرزق ما كف عن الناس وأغنى.

تعريف المسند إليه

تعريف المسند إليه: اعلم أن المسند إليه ينبغي أن يكون معرفة، لأنه المحكوم عليه فلا بد أن يكون معلومًا ليكون الحكم عليه معتدًا به, ونكتة الإتيان به معرفة قصد إفاده المخاطب أتم فائدة. ثم إن تعريفه على وجوه مختلفة يكون بالإضمار، وبالعلمية، وبالموصولية، وبالإشارة، وبأل، وبالإضافة, ولا يخلو وجه من هذه الوجوه من أن يتعلق به غرض للبليغ إليك بيانها على هذا الترتيب: تعريفه بالإضمار: يؤتى بالمسند إليه ضميرًا إذا كان الحديث في أحد المقامات الثلاثة الآتية مع الاختصار1. 1- مقام التكلم: كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" , وقول بشار بن برد أحد شعراء الدولة العباسية: أنا المرعث لا أخفى على أحد ... ذرت بي الشمس للقاصي وللداني2 يصف نفسه بأنه ذائع الصيت، واضح الأمر، يعرفه كل من يراه. 2- مقام الخطاب: كقول الحماسي: وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم 3- مقام الغيبة: ولا بد في هذا المقام من أن يتقدم مرجع الضمير لفظًا تحقيقًا أو تقديرًا، أو أن يتقدم معنى، أو تدل عليه قرينة حال, فمثال المتقدم لفظًا تحقيقًا قوله تعالى: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} , ومثال المتقدم لفظًا تقديرًا قولهم: "نعم فارسًا علي" عند من يجعل المخصوص بالمدح مبتدأ مؤخرًا، والجملة قبله خبرًا عنه مقدمًا، فمرجع الضمير في "نعم" حينئذ هو المخصوص وهو, وإن تأخر عنه في اللفظ, متقدم عليه في التقدير، لأنه مبتدأ، والمبتدأ مرتبته التقديم, ومثال المتقدم قوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} فضمير الغائب وهو لفظ "هو" عائد على معنى "الرجوع" المفهوم من قوله "فارجعوا", ومثال ما دلت عليه قرينة حال قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} فمرجع الضمير في ترك هو "الميت" وهو لم يتقدم لفظًا، ولا تقديرًا، ولا معنى، وإنما أرشدت إليه قرينة حال، هي أن الكلام مسوق لبيان الإرث. تنبيه: الأصل في الخطاب: أن يوجه إلى مشاهد معين، لأن معنى الخطاب:

_ 1 احترز به عن قول أحد الأمراء: أمير البلاد يأمرك بكذا، فإن الحديث هنا في مقام التكلم ولكن لا اختصار فيه. 2 الرعثة بضم الراء القرط يعلق بشحمة الأذن، ولقب بشار بالمرعث لرعثة كانت له في صغره، وذرت به الشمس طلعت.

توجيه الكلام إلى حاضر، وهو لا يكون إلا مشاهدًا معينًا كقولك تخاطب شخصًا أمامك: "أنت أسرتني بمعروفك", وقد يخرج الخطاب عن أصله فيخاطب: 1- غير المشاهد إذا كان مستحضرًا في القلب، كأنه نصب العين كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ونحو: "لا إله إلا أنت" وما أشبه ذلك. 2- غير المعين إذا قصد تعميم الخطاب، أي توجيهه إلى كل من يتأتى خطابه، كما نقول: "فلان لئيم، إن أحسنت إليه أساء إليك", فليس بالضمير في قولك: "إن أحسنت" مخاطبًا معينًا كما هو الأصل في الخطاب، وإنما أريد مطلق مخاطب, إشارة إلى أن سوء معاملة اللئيم، لا يختص به واحد دون آخر، ومنه قول المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . فالمراد بقوله: "ولو ترى": مطلق مخاطب "إشارة" إلى أن حالة المجرمين في ذلك الوقت من تنكيس الرءوس خوفًا وخجلًا، ومن رثاثة الهيئة، واسوداد الوجه وغير ذلك من سمات الخزي والخذلان, قد تناهت في الظهور والافتضاح لأهل المحشر إلى حد، يمتنع عنده خفاؤها، فلا يختص بها راء دون راء، وإذا فلا يختص بهذا الخطاب مخاطب دون مخاطب, بل كل من تتأتى منه الرؤية فله نصيب من هذا الخطاب. ا. هـ. تعريفه بالعلمية: يؤتى بالمسند إليه علمًا لأسباب كثيرة منها: 1- إحضار معناه في ذهن السامع باسمه الخاص به ليتميز عمن عداه كقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} . {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُول} جيء في المثالين بالمسند إليه علمًا لإحضاره مسماه في ذهن السامع باسمه الخاص تمييزًا له عمن سواه, وإنما قلنا: "باسمه الخاص" للاحتراز به عن إحضار المسمى بالضمير مثلًا نحو: "أنا كتبت" فإنه وأن أحضر به معنى المسند إليه في ذهن السامع, ليس اسمًا خاصًّا به، لأن لفظ "أنا" موضوع وضعًا عامًّا لكل متكلم, وهكذا يقال في سائر المعارف كاسم الإشارة, والموصول، وغيرهما. 2- تعظيم المسند إليه: أو إهانته، كما في الألقاب، والكنى

الصالحة لذلك كقولك: "قدم حسام الدين" و"أقبل أبو الفضل", وكقولك: "ذهب أنف الناقة"، و"رحل أبو الجهل" جيء بالمسند إليه علمًا في هذه المثل لقصد تعظيمه في الأولين، وتحقيره في الآخرين, وقد يكون ذلك لتعظيم غير المسند إليه، أو إهانته كما في قولك: "أبو الخير صديقي", و"أبو لهب رفيقك" فالغرض من هذا تعظيم المتكلم في الأول وإهانة المخاطب في الثاني، وكلاهما المسند إليه. 3- التفاؤل به: أو التطير منه نحو: "أقبل سرور، وذهب حرب", فالغرض من الإتيان بالمسند إليه علمًا التفاؤل في الأول والتشاؤم في الثاني. 4- التبرك به أو التلذذ فالأول نحو "الله حسبي" و"محمد شفيعي" إذا تقدم لهما ذكر في الكلام، فيعاد ذكرهما تيمنًا به, والثاني كما في ذكر أسماء الأحبة كقول مجنون ليلى: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر والشاهد في قوله "أم ليلى", فإن مقتضى سياق الحديث أن يقول: "أم هي" إذ المقام للضمير لتقدم المرجع، لكنه أورده علمًا لقصد التلذذ بذكر اسم محبوبته. 5- الكناية عن معنى يصلح المعلوم، بحسب معناه الأصلي، قبل أن يكون علمًا كما تقول: "أبو لهب فعل كذا". وتوجيه الكناية فيه: أن "أبو لهب" قبل أن يكون علمًا على الذات فهو مركب إضافي معناه، أبو النار، وأن النار متولدة منه كما تتولد من الخشب، ويلزم من كون الإنسان أبا للنار، بمعنى أنه وقودها، أن يكون جهنميًّا، أي من أهل جهنم إذ إن اللهب الحقيقي هو لهب جهنم، قال تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} ، وحينئذ فلفظ "أبو لهب" -بهذا المعنى المذكور- ملزوم، وقد أطلق لينتقل منه إلى لازمه، وهو كونه جهنميًّا، والانتقال من الملزوم إلى اللازم هو معنى الكناية كما عرفته في محله, فإذا قلت في شأن كافر مسمى "بأبي لهب": أبو لهب فعل كذا فالنكتة في إيراد المسند إليه علمًا: هي أنه كناية عن كونه جهنميا باعتبار المعنى الأصلي الإضافي: من إطلاق الملزوم وهو كونه أبا للنار، وإرادة اللازم، وهو "كونه جهنميًّا" أي من أهل جهنم خالدًا فيها، إلى غير ذلك من دواعي إيراد المسند إليه علمًا.

تعريفه بالإشارة: يؤتى بالمسند إليه اسم إشارة لدواع، يلاحظها البلغاء منها: 1- تمييز المسند إليه أكمل تمييز لاقتضاء الحال ذلك، كأن يكون المقام مقام مدح، أو أن يكون المسند إليه مختصًّا بحكم بديع، فمثال الأول قول ابن الرومي الشاعر العباسي: هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسلم1 يمدح الشاعر هذا الرجل بأنه فذ في خَلقه وخُلقه، لا يدانيه فيهما أحد، وأنه سليل قوم ذوي شمم وإباء، لأنهم يسكنون البوادي، وهي لا تخضع لسطان حاكم، ولا تدين لسلطة قانون والشاهد قوله: هذا أبو الصقر، حيث عبر عن المسند إليه "باسم إشارة" لمقصد تمييزه تمييزًا كاملًا، اقتضاء مقام المدح. ومثال الثاني قول الراوندي: كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقًا يقول: كثير من ذوي الرأي والعقل، ضاقت بهم سبل العيش الرغيد، وسدت في وجوههم مسالك الحياة الهنيئة، بينما نرى كثيرا من ذوي الجهل في رغد من العيش، وسعة الرزق، وهذا الأمر لبعده في بادئ الرأي عن مظان الحكمة والصواب، وخروجه عن المعتاد المألوف، جدير أن يترك العقول حائرة، ويجعل العالم الراسخ في العلم زائغ العقيدة، مسلوب الرشاد، والشاهد قوله: "هذا الذي" حيث أتى بالمسند إليه "اسم إشارة"2 لقصد تمييزه تمييزا كاملا لما اختص به من هذا الحكم البديع، وهو ترك العقول حائرة، والعالم النحرير زنديقا. 2- التعريض بغباوة السامع، وأن الأشياء لا تتميز عنده إلا بالإشارة الحسية، كقول الفرزدق يهجو جريرًا، ويفتخر عليه: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع

_ 1 شيبان اسم قبيلة، والضال جمع ضالة وهي شجرة النبق والسلم بفتح اللام جمع سلمة بالتحريك وهي شجرة ذات شوك. 2 المشار إليه هو ما فهم من البيت الأول "من إعطاء الجاهل وحرمان العاقل" ولغرابة مدلوله وخروجه عن المألوف اختص بهذا الحكم البديع الذي هو "ترك الأوهام حائرة ... إلخ".

يريد: أن جريرًا لا يستطيع أن يأتي بمثلهم آباء ذوي مجد وحسب إذا جمعتهما مجامع الفخر والمساجلة، والشاهد قوله: "أولئك آبائي" حيث أورد المسند إليه "اسم إشارة" قصدًا إلى أن يصم جريرًا يوصمه الغباوة، وأنه لا يدرك إلا المحس بحاسة البصر، ولو أنه عدد آباءه بأسمائهم، فقال: فلان وفلان آبائي لم يكن فيه ما أراد الشاعر: من التعريض عند من له ذوق سليم. 3- بيان حال المسند إليه: من القرب، أو البعد، أو التوسط، فيقال: "هذا محمد" إذا أريد بيان أنه قريب ويقال: "ذلك محمد" إذا أريد بيان أنه بعيد، ويقال: "ذاك محمد" إذا أريد بيان أنه في مكان لا هو بالقريب، ولا بالبعيد. غير أنه قيل: إن كون "هذا" للقريب و"ذلك" للبعيد، و"ذاك" للمتوسط، بحث خاص بعلماء اللغة، لأنهم إنما يبحثون في المعاني الوضعية، أي من حيث أن "هذا" موضوع للقريب، و"ذلك" موضوع للبعيد، و"ذاك" موضوع للمتوسط، وعلم المعاني يبحث فيها من جهة أنه يؤتى "بهذا" إذ قصد بيان قرب المشار إليه، بأن كان المقام يقتضي ذلك، ويؤتى "بذلك" إذا أريد بيان بعد المشار إليه متى اقتضته الحال, وهكذا فالبحث فيها عند علماء اللغة من حيث الوضع، وعند علماء المعاني من حيث اقتضاء الحال لها فوضح الفرق. 4- تعظيم المسند إليه بالقرب: كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} , فينزل قربه من النفس، وحضوره في الذهن منزلة قرب المسافة، ويعبر عنه "باسم الإشارة" الموضوع للقريب لقصد تعظيمه1. 5- تعظيم المسند إليه بالبعد: كأن تقول لحاضر في المجلس: "ذلك الرجل ملجأ البائسين، ومنار المدلجين" فينزل بعد درجته وعلو مرتبته منزلة المسافة، ويعبر عنه "باسم الإشارة" الموضوع للبعيد لقصد تعظيمه2.

_ 1 وجه دلالته على التعظيم هو أنه الشيء المحبوب يكون عادة مخالطًا للنفس حاضرًا في الذهن، فتعظيمه حينئذ يناسبه القرب المكاني. 2 وجه دلالته على التعظيم هو أن العظيم يتأبى على الناس عادة ويبعد عنهم لعزته ورفعة شأنه، فتعظيمه حينئذ يناسبه البعد المكاني على هذا الاعتبار.

6- تحقير المسند إليه بالقرب: كما في قوله تعالى: {هَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُم} , قاله أبو جهل "قبحه الله" مشيرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نزل دنو درجته وانحطاط مرتبته منزلة قرب المسافة، وعبر عنه "باسم الإشارة" الموضوع للقريب لقصد إهانته في "زعمه" لعنة الله عليه1. 7- تحقير المسند إليه بالبعد: كقولك لحاضر مجلسك، ذلك اللئيم وشى بي عند الأمير، فينزل بعده عن ساحة الحضور والخطاب منزلة بعد المسافة، ويعبر عنه "باسم الإشارة" الموضوع للبعيد لقصد تحقيره وامتهانه2. 8- التنبيه على أن المشار إليه المعقب بأوصاف، جدير من أجل تلك الأوصاف بما يذكر بعد "اسم الإشارة" كما في قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} , فالمشار إليه في الآية بأولئك هم "المتقون" وقد عقبه بأوصاف: هي "الإيمان بما أنزل"، و"الإيقان بالآخرة"، ثم أتى بالمسند إليه "اسم الإشارة" تنبيهًا على أن المشار إليهم أحقاء -من أجل تلك الأوصاف المذكورة- بأن يفوزوا بالهداية عاجلًا، وبالفلاح آجلًا. ملاحظة: كثيرًا ما يشار إلى القريب غير المشاهد بإشارة البعيد تنزيلًا للبعيد عن العيان منزلة البعد المكاني، كقوله تعالى حكاية عن سيدنا الخضر مخاطبًا موسى عليه السلام: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} يشير بذلك إلى السبب الذي حمله على ما فعل، من "قتل الغلام، وخرق السفينة، وإقامة الجدار".

_ 1 وجه دلالته على التحقير هو أن الحقير عادة لا يمتنع على الناس بل يكون قريب الموصول إليه مبتذلًا واقعًا بين أيديهم وأرجلهم، فتحقيره حينئذ يناسبه القرب المكاني على هذا التقدير. 2 وجه دلالته على التحقير هو أن الحقير عادة من شأنه ألا يلتفت إليه، ولا يعرض للخاطر لنفرة النفس منه، فتحقيره يناسبه البعد المكاني على هذا الاعتبار.

تعريفه بالموصولية: يؤتى بالمسند إليه اسم موصول لدواع كثيرة، نذكر منها ما يلي: 1- ألا يعلم المتكلم أو المخاطب أو كلاهما شيئًا مما يتعلق بالمسند إليه سوى الصلة، كأن ترى عند أحد أصدقائك رجلًا يرجوه في أمر، ولا عهد لكما أو لأحدكما به، فتقول له من الغد "جاءك الذي كان عندك أمس يتوسل إليك" فتأتي بالمسند إليه "اسم موصول" لعدم العلم بشيء يتعلق به سوى هذه الصلة، لأنها هي المعلومة لكما. 2- استهجان التصريح بذكر المسند إليه، بأن كان مشعرًا بمعنى تقع النفرة منه عرفًا كما في قولك: "الذي يخرج من السبيلين ناقض للوضوء". وكقولك: "الذي رباني أبي" إذا كان اسمه مما لا يستحسن ذكره كلفظة جحش، أو برغوث، أو بطة، أو نحو ذلك. 3- التفخيم والتهويل كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} عبر عن المسند إليه "بما" الموصولية قصدا إلى التفخيم والتهويل، إذ إن في الموصول إشارة إلى أن تفصيل المسند إليه وبيانه، مما لا تفي به عبارة ولا يحيط به علم, ومنه قول الشاعر يصف الخمر: مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باق يطلب الباقي أي مضي بها قدر عظيم من العقل، لا يدرك كنهه. 4- تشويق المخاطب إلى الخبر ليتمكن في ذهنه، وذلك حيث يكون مضمون الصلة حكمًا غريبًا كقول المعري: والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد يقول: إن الذي تحيرت الخلائق في خلقه العجيب واختلف الناس في أمر بعثه، وهل يعاد ثانيًا بعد موته أو لا يعاد؟ هو ذلك الحيوان الآدمي المتولد من النطفة، أو من طينة آدم على الخلاف في المراد بالجماد, والشاهد قوله: "والذي حارت البرية فيه" حيث عبر عن المسند إليه "باسم الموصول" لتضمن الصلة أمرًا غريبًا، هو إيقاع البرية في حيرة وارتباك، ومثل هذا الأمر الغريب يشوق النفس إلى أن تعرف ذلك الذي أوقع البرية كلها في هذه الحيرة. 5- تقرير الغرض المسوق له الكلام: كقوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} فالغرض المسوق له الكلام "نزاهة يوسف وبعده عن مظان الريبة"، والتعبير باسم الموصول مع صلته أدل على هذا

الغرض مما لو قال: "وروادته امرأة العزيز أو زليخاء"؛ لأنه إذا كان في بيتها، وتمكن من نيل مراده منها، ومع ذلك عف وامتنع، كان ذلك غاية في النزاهة. وقيل: إن المراد في الآية: تقرير المسند الذي هو "المراودة" بمعنى أنها وقعت منها "لا محالة" لأن وجوده في بيتها -مع ما لها من سعة السلطان، وقوة النفوذ، ومع فرط الاختلاط والألفة- أدل على وقوع المراودة، وصدور الاحتيال منها1. 6- التنبيه على خطأ وقع فيه المخاطب أو غيره؛ مثال الأول قول عبيدة بن الطيب من قصيدة يعظ بها بنيه: إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا يقول: إن الذين تظنونهم أحباءكم، وأنهم يتمنون الخير لكم, هم على غير ما تظنون؛ يودون السوء لكم، وإيقاع الشر بكم. والشاهد قوله: "إن الذين ترونهم إخوانكم" حيث أتى بالمسند إليه موصولا لقصد تنبيه المخاطبين على خطئهم في ظنهم أن أمثال هؤلاء أصدقاء لهم، إذا تحقق فيهم ما لا يتفق مع هذه الصداقة: من تربص الدوائر بهم, بخلاف ما لو صرح بأسمائهم، فليس في ذلك ما يدل على تنبيههم إلى ذلك الخطأ, ومثال ما فيه تنبيه على خطأ غير المخاطب قولك: "إن الذي يحسبه محمد صديقه الحميم يغتم لسروره ويبتهج لحزنه، ويود له ما لا يحب" ففيه من التنبيه على الخطأ في هذا الحسبان ما ليس في التصريح بالاسم, ومنه قول الشاعر2: إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها

_ 1 وقيل: المراد تقرير المسند إليه الذي هو امرأة العزيز أو زليخاء لإمكان وقوع الإبهام والاشتراك فيهما. بيان ذلك أنه لو قال: وراودته زليخاء لم يعلم يقينا أنها المرأة التي هو في بيتها لاحتمال أن يكون هناك امرأة أخرى مسماة بهذا الاسم غير التي هو في بيتها, ولو قيل: وراودته امرأة العزيز لوقع مثل هذا الاحتمال أيضًا وإن كان بعيدًا, بخلاف التعبير بالموصول فإنه لا احتمال فيه، لأنه معلوم من الخارج أن التي هو في بيتها إنما هي زليخاء امرأة العزيز لا غير. 2 هو ابن أذينة أحد بني ليث بن بكر, وهو شاعر غزل مقدم من شعراء المدينة معدود في الفقاء والمحدثين روى عنه مالك بن أنس.

ففي التعبير بالموصول تنبيه على خطأ هذا الزعم. 7- الإشارة إلى نوع الخبر المحكوم به على المسند إليه كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أتى بالمسند إليه "اسم موصول"؛ لأن في مضمون صلته وهو الاستكبار عن العبادة تلميحًا وإشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من جنس العقوبة والإذلال, وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} , فإن في مدلول الصلة -وهو الإيمان والعمل الصالح- ما يشير إلى أن الخبر المحكوم به من نوع الإثابة والإمتاع, ومن ذلك قولهم: "من ثابر وصبر جنى أطيب الثمر", وقولهم: "من زرع الإهمال حصد الوبال", ففي الأول إشارة إلى أن الخبر من نوع الفوز والفلاح، وفي الثاني إشارة إلى أن الخبر من جنس الإخفاق والحرمان, وهكذا. تنبيه: قد يكون في الموصول إشارة إلى نوع الخبر على نحو ما تقدم ولكن لا يكون ذلك ملحظ المتكلم، ولا مقصوده من الكلام، وإنما يرمى إلى هدف آخر، هو "التعريض" بتعظيم الشيء أو تحقيره, أو أن يكون الهدف تحقيق ذلك الشيء وتقريره. فمثال ما فيه تعريض بالتعظيم قول الفرزدق يفخر على جرير: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتًا دعائمه أعز وأطول يقول: إن الذي رفع السماء "ذلك البناء العظيم" بنى لنا مجدًا وشرفًا لا يطاولهما شيء، وجعل فينا العزة والسيادة, أما أنت "يا جرير" بلا مجد لك ولا شرف, والشاهد فيه قوله: "إن الذي سمك السماء"، ففي الموصول إشارة إلى أن الخبر من جنس البناء والرفعة, لكن ليس هذا هو المقصود بالذات إنما الغرض الذي يرمي إليه الشاعر هو التعريض بتفخيم بيته وتعظيمه من حيث إن بانيه هو ذلك الذي رفع السماء, وأي بناء أرفع وأعظم من سماء هي من صنع يد ذلك المبدع القادر؟ ولو أنه عبر عن المسند إليه بغير الموصول, فقال مثلا: "إن الله بنى لنا بيتًا" لتعطل جيد العبارة من تلك الحلية البلاغية, ومثله قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} ففي الموصول إشارة إلى أن الخبر من نوع الخيبة والخسران، لأن شعيبًا نبي، فتكذيبه يفضي إلى هذه الصفة الخاسرة، لكن المقصود من هذا إنما هو التعريض بتعظيم شأن شعيب عليه السلام، من حيث إن تكذيبه، أوجب هذا الخسران المبين. ومثال ما فيه تعريض بالإهانة قولك: "إن الذي لا يحسن قرض الشعر أنشأ قصيدة" ففي الموصول إشارة إلى أن الخبر من نوع

التأليف والإنشاء لكن ليس هذا هو المقصود، إنما الغرض التعريض، بتحقير هذه القصيدة، وأنها من النوع المبتذل الساقط، لأنها من صنع من لا يجيد قول الشعر, ومثله قولهم: "إن الذي يتبع الشيطان مخذول خاسر" ففي الموصول إشارة إلى أن الخبر من نوع الخزي والخذلان، لأن الشيطان ضال مضل، فاتباعه ضرب من التخاذل, غير أن الغرض التعريض بتحقير الشيطان، من حيث إن اتباعه يفضي إلى ذلك المصير البغيض. ومثال ما فيه تحقيق الشيء وتقريره قول الشاعر: إن التي ضربت بيتًا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول1 يقول متوجعًا شاكيًا من جفاء حبيبه وهجره، أن التي نزعت إلى الكوفة واتخذت بها موطن إقامة دائمة تصرمت حبال ودها، وانحلت عرى العلاقة بيني وبينها, والشاهد في تعبيره بالموصول, إذ فيه إشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من نوع زوال المحبة، وانقطاع المودة، لأن الإنسان لا يهجر وطنه إلى غيره "في العادة" إلا إذا كان كارهًا لأهله، راغبًا عنهم ولكن ليس هذا ملحظ الشاعر، إنما يريد أن يدل بهذه المهاجرة منها على تحقيق هذا الجفاء، وتقرير انصراف قلبها عنه, وإلا فكيف استساغت لنفسها هذا الفراق، واتخذت ذلك البلد النائي موطن إقامة؟ إلى أشباه ذلك من الدواعي كالترغيب في نحو قولك: "الذي حسنت خصاله، ونبلت فعاله محبوب" وكالتنفير نحو: "الذي شاه خلقه وساء خلقه ممقوت" وغير ذلك مما يكون الغرض فيه شيئًا آخر غير الإشارة إلى نوع الخبر. تعريفه بأل: يؤتى بالمسند إليه معرفًا "بأل" للأغراض الآتية بعد: 1- الإشارة بها إلى معهود خارجًا, وتسمى اللام حينئذ "لام العهد الخارخي" وهي التي كون مدخولها معينًا في الخارج. وتنقسم باعتبار مدخولنا إلى ثلاثة أقسام: لام العهد الصريحي، ولام العهد الكنائي، ولام العهد العلمي.

_ 1 ضرب البيت بناؤه للإقامة فيه، وإضافة الكوفة للجند لأدنى ملابسة والغول كل ما يغتال.

فالأولى: ما يتقدم لمدخولها ذكر صريح كقولك: "صنعت في رجل جميلًا فلم يحفظ الرجل هذا الجميل" فإتيان المسند إليه وهو "الرجل" محلى "بأل" للإشارة بها إلى معهود في الخارج عهدًا صريحًا لتقدم ذكره في قوله: "صنعت في رجل جميلًا". والثانية: ما يتقدم لمدخولها ذكر كنائي, أي غير مصرح به كما في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} ، فإتيان المسند إليه, وهو لفظ "الذكر" معرفة "بأل" للإشارة بها إلى معهود في الخارج عهدًا كنائيًا، لتقدم ذكره كناية في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} فإن لفظ "ما" مبهم: يعم "بحسب وضعه" الذكور والإناث لكن التحرير, وهو أن يعتق الولد ليكون وقفًا على خدمة بيت المقدس, إنما كان للذكور دون الإناث. فلفظ "ما" حينئذ كناية عن الذكر باعتبار اختصاص التحرير بالذكور. والثالثة: ما لا يتقدم لمدخولها ذكر مطلقًا، ولكن للمخاطب علم به لقرينة حال، وهذه اللام على قسمين: لام العهد الحضوري، ولام العهد العلمي. فالأولى: ما يكون مدخولها حاضرًا في المجلس كأن تقول في شأن رجل حاضر: "أبدع الرجل في كلامه" لمخاطب سبق له علم به. والثانية: ما يكون مدخولها غائبًا عن المجلس كأن تقول في شأن رجل غائب: "أنشد الرجل فأبدع في إنشاده" لمخاطب سبق له به علم, فإتيان السند إليه في القسمين محلى "بأل" للإشارة بها إلى معهود في الخارج عهدًا علميًا لتقدم علم المخاطب به. 2- الإشارة بها إلى الحقيقة: وهي التي يكون مدخولها موضوعًا للحقيقة والماهية. وتنقسم أيضًا باعتبار مدخولها إلى ثلاثة أقسام لام الحقيقة1, لام العهد الذهني، لام الاستغراق. فالأولى: ما يكون مدخولها مرادًا به الحقيقة نفسها، بغض النظر عما ينطوي تحقيقًا من أفراد كقولهم: "أهلك الناس الدرهم والدينار"، فالإتيان بالمسند إليه محلى "بأل" للإشارة بها إلى حقيقة الدرهم، وحقيقة الدينار، لأن الحكم المذكور إنما هو على جنس هذين النقدين، لا على نقد بعينه كما هو ظاهر, وكقولهم: "الرجل خبر من المرأة" فالحكم بالخبرية إنما هو على الحقيقة نفسها، بمعنى: أن حقيقة الرجل خير من حقيقة المرأة،

_ 1 وتسمى أيضًا لام الجنس ولام الطبيعة.

بلا نظر إلى الأفراد، وهذا لا ينافي أن بعض أفراد حقيقة المرأة يفضل بعض أفراد حقيقة الرجل كالسيدة عائشة أم المؤمنين مثلًا فالمنظور إليه في المفاضلة إنما هو الحقيقة لا الفرد، وليس من شك في أن حقيقة الرجل إذا صرف النظر عن الأفراد تفضل حقيقة المرأة. والثانية: ما يكون مدخولها مرادًا به فردًا مبهمًا من أفراد الحقيقة إذا قامت القرينة على ذلك كقوله تعالى: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} عرف المسند إليه "بأل" للإشارة بها إلى فرد غير معين من أفراد حقيقة الذئب، فليس المراد الحقيقة نفسها بقرينة قوله: {أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} ، إذ الحقيقة من حيث هو أمر لا وجود لها في الخارج، حتى يتحقق منه أكل أو شرب، وليس المراد فردًا معينًا من أفراد الحقيقة، إذ لا عهد في الخارج بذئب معين، فتعين أن يكون المراد فردًا مبهمًا من أفرادها, ومنه قول الشاعر: ومن طلب العلوم بغير كد ... سيدركها متى شاب الغراب فليس المراد حقيقة الغراب، بقرينة قوله: "شاب", وليس المراد فردًا معينًا من أفرادها إذ لا عهد بغراب معين، فظهر أن المراد فرد مبهم. والثالثة: ما يكون مدخولها مرادًا به جميع أفراد الحقيقة, وإنما سميت "لام الاستغراق" لأن المفاد بها: استغراق جميع الأفراد. وهذه اللام قسمان: لام الاستغراق الحقيقي، ولام الاستغراق العرفي. فالأولى: ما يكون مدخولها مرادًا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب اللغة كقولك: "الغيب يعلمه الله", عرف المسند إليه "بأل"؛ لأن القصد إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الغيب" لغة، أي كل غيب، وكقوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فالقصد فيه أيضًا إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الإنسان" لغة، أي كل إنسان، بدليل الاستثناء الآتي بعد في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ} ... الآية، فهو أمارة إرادة العموم في الإنسان: إذ شرطه دخول المستثنى في المستثنى منه لو سكت عن ذكر المستثنى. والثانية: ما يكون مدخولها مرادًا به كل فرد مما يتناول اللفظ بحسب العرف والعادة، كأن تقول: "امتثل الجند أمر الأمير", فإن المراد جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الجند" عرفًا، أي جنود مملكته، لا جنود الدنيا, إذ ليس في وسع الأمير: أن يبسط نفوذه على جنود العالم أجمع عادة.

وصفوة القول: هو أن "أل" التعريفية على قسمين: الأول: لام العهد، وتحته أنواع ثلاثة: صريحي، كنائي، علمي. والعلمي نوعان: علمي حضوري وعلمي فقط. والثاني: لام الحقيقة وتحته أنواع ثلاثة أيضًا: لام الحقيقة من حيث هي ولام الحقيقة ويراد فرد مبهم من أفرادها، وهي المسماة بلام العهد الذهني، ولام الحقيقة، ويراد جميع أفرادها وهي المسماة بلام الاستغراق، وهي نوعان: لام الاستغراق الحقيقي، ولام الاستغراق العرفي. ا. هـ. تعريفه بالإضافة: يؤتى بالمسند إليه معرفًا بالإضافة لمزايا كثيرة، نذكر أهمها فيضًا يأتي: 1- أنها أخصر طريق إلى إحضار مدلول المسند إليه في ذهن السامع كما تقول: "وافاني غلامي" فالتعبير بالإضافة أخصر من قولك: الغلام الذي لي أو غلام لي. وكقول جعفر بن علبة الحارثي1. هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثق2 ويقول والحزن يملأ قلبه, ويجز في أحشائه: أنه سجين بمكة، وأن السجن حال دون أن يرى حبيبه بل سفره، وكان يود لو يحظى منه بنظرة وداع، والشاهد قوله "هواي" حيث أتى بالمسند إليه مضافًا لقصد الاختصار في اللفظ، وهو مطلوب هنا لضيق صدره، وفرط سآمته، وتوجعه لكونه سجينًا والحبيب راحل، ولا شك أن "هواي" أخصر من "الذي أهواه" مثلا.

_ 1 قاله وهو سجين بمكة وكان قد قتل رجلًا من بني عقيل, فسجن فيه وكان يومئذ بمكة ركب من اليمن فيه محبوبته، وقد عزم هذا الركب على الرحيل فأنشد هذا البيت. من قصيدة في هذا المعنى. 2 هواي أي مصدر أريد به اسم المفعول أي مهوي، والركب اسم جمع لراكب واليمانين جمع يمان، وأصل "يمان" يمني, حذفت منه ياء النسب وعوض عنها الألف على خلاف القياس، ثم أعل أعلام "قاض", ومصعد من أصعد في الأرض إذا سار فيها والجنيب المستتبع، وهو الذي يتبعه قومه، ويقدمونه أمامهم.

2- تضمن الإضافة تعظيمًا لشأن المضاف، أو المضاف إليه، أو غيرهما فمثال تعظيم المضاف قولك: "عبد الأمير قادم" ففي الإضافة تعظيم للمضاف بأنه عبد الأمير, ومثال تعظيم المضاف إليه قولك: "عبدي حضر" فالمراد تعظيم المتكلم بأن له عبدًا, ومثال تعظيم غير المضاف والمضاف إليه قولك: "جليس الأمير زارني", ففي الإضافة تعظيم للمتكلم وهو غير المسند إليه المضاف، وغير ما أضيف إليه المسند إليه، وفيها أيضًا تعظيم للمضاف، ولكنه غير مراد. 3- تضمن الإضافة تحقيرًا لشأن المضاف، أو المضاف إليه، أو غيرهما كذلك, فمثال الأول قولك: "ولد اللص قادم" ففي الإضافة تحقير للمضاف بأن أباه لص، ومثال الثاني قولك: "ضارب زيد آت" ففيه إهانة للمضاف إليه بأنه مضروب، ومثال الثالث قولك: "ولد السفيه يجالس عمرًا" ففي الإضافة إهانة وتحقير لشأن عمرٍو بأن ولد السفيه من جلسائه، وهو ليس مضافًا ولا مضافًا إليه، وفيها أيضًا تحقير للمضاف، ولكنه غير مقصود. 4- إغناؤها عن تفصيل متعذر أو متعسر, فمثال المتعذر تفصيله قولهم: "أهل مصر كرام" فقد أضيف المسند إليه لتعذر تعداد أهل مصر, ومثال المتعسر قول حسان بن ثابت: أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن ماوية الكريم المفضل1 وقول مروان بن أبي حفصة: بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل2 أضيف المسند إليه في "البيتين"؛ لتعسر تعداد أولاد جفنة، وبني مطر. 5- إغناؤها عن تفصيل حال دونه مانع مع تيسره، كما تقول: "حضر قادة الجيش" فيضاف المسند إليه منعًا لوقوع التنافس بينهم فيما لو ذكرت أسماؤهم، وقدم اسم أحدهم على غيره. 6- تضمن الإضافة اعتبارًا لطيفًا كما في قول الشاعر: إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ... سهيل أذاعت غزلها في القرائب

_ 1 أولاد جفنة من الغساسنة الذين كان يمدحهم الشاعر بالشام. 2 الغيل الأجمة وخفان مأسد مشهورة بقوة أسودها.

يقول: إن المرأة الحمقاء لا تتهيأ في الصيف للشتاء بإعداد الغزل، حتى إذا ما طلع الكوكب المذكور في بدء الشتاء وزعت غزلها على قريباتها ليغزلنه، والشاهد قوله: "إذا كوكب الخرقاء" حيث أضيف المسند إليه "الخرقاء" لاعتبار لطيف, وهو الإشارة إلى أن الإهمال والتكاسل ديدنها وعادتها، وإنها غافلة عن القيام بشئونها، ولا تفيق إلا على ضوء هذا النجم، وكأنما خلق لأجلها. إلى غير ذلك من الدواعي كالاستهزاء في قوله تعالى حكاية عن فرعون مخاطبًا قومه: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ، وكغير ذلك من دواعي الإضافة، فليست الدواعي محصورة فيما ذكرنا كما هو معروف.

تنكير المسند إليه

تنكير المسند إليه: يؤتى بالمسند إليه نكرة لأسباب أهمها ما سنذكره لك فيما يلي: 1- أن يكون القصد إلى فرد غير معين, إما لأن المتكلم لم يعلم جهة من جهات التعريف: من علمية، أو صلة، أو غير ذلك، أو لأن غرضه لم يتعلق بتعيينه، وإن كان معينًا, مثال الأول قولك لآخر: "حضر رجل هنا يسأل عنك" تقول ذلك إذ لم تعرف اسمه، ولا شيئًا يتعلق به, ومثال الثاني قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} فقد ذكر المفسرون أن ذلك الرجل هو "حبيب النجار" غير أن الغرض لم يتعلق به معينًا. 2- أن يكون القصد نوعًا خاصًّا من أنواع الجنس كقوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة} نكر المسند إليه وهو "غشاوة"؛ لأن المقصود نوع خاص من أنواع الأغشية غير ما يتعارفه الناس, ذلك هو غطاء التعامي عن الحق، أي الإعراض عن آيات الله1. 2- أن يكون الغرض تعظيم المسند إليه، أو تحقيره، وأنه بلغ في رفعة الشأن حدًّا فوق متناول المدارك، أو انحط إلى درجة لا يعتد بها.

_ 1 يرى السكاكي أن التنكير في هذا لتعظيم أي غشاوة عظيمة تحجب أبصارهم دفعة واحدة وتحول بينهم وبين الإدراك, لكن هذا لا يتنافى مع قصد النوعية: لأن الغشاوة العظيمة التي هي غطاء التعامي عن الحق نوع خاص من أنواع الأغشية.

ولا يلتفت إليها, وقد اجتمعا في قول مروان ابن أبي حفصة: له حاجب في كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب يقول: أن بينه وبين ما يشينه حجابًا كثيفًا, وهو إلى جانب هذا في متناول أيدي العفاة، لا يحول دون قاصديه حائل, والشاهد في لفظي "حاجب" في شطري البيت، حيث أتى بهما منكرين, أما في الشطر الأول فلقصد تعظيم الحائل دون ما يشينه، وأنه في حصن حصين من كل ما يزري به, وأما في الشطر الثاني فلقصد تحقير ما يحول بينه وبين قاصديه, كناية عن أن بابه مفتوح على مصراعيه لمن يريد الولوج، فليس هناك أدنى مانع يحجبهم عن فضله ومعروفه. ومثله قول الشاعر: ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب فالتنكير في الأول للتعظيم، وفي الثاني للتحقير، يدل على مقام التمدح برجحان جانب الخير فيه على جانب الشر. 4- أفاده التكثير أو التقليل, مثاله في التكثير: "إن له لإبلا, وإن له لغنمًا", أتى بالمسند إليه في الجملتين نكرة لقصد إفادة أن لديه عددًا كبيرًا من الإبل والغنم، وأنها من الكثرة، بحيث لا يمكن الإحاطة بها، والوقوف على مقدارها. ومثاله في التقليل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فقد نكر المسند إليه, وهو "شيء" لقصد أفاده أنه شيء قليل. ولا يخطر بالبال: "أن التعظيم والتكثير شيء واحد، وأن التحقير والتقليل كذلك فإن بين هذه المعاني من الفروق ما لا يخفى, ذلك أن التعظيم يراعى فيه الحال والشأن كعلو المرتبة، وبعد المنزلة, أما التكثير فالمراعى فيه الكميات والمقادير, كالمعدودات والموزونات, وكذلك يقال في الفارق بين التحقير والتقليل, وقد اجتمع التعظيم والتكثير في قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} ذكر المسند إليه وهو "رسل" لقصد إفادة التعظيم أو التكثير باعتبارين؛ فعلى اعتبار أنهم ذوو شأن عظيم كان التنكير للتعظيم، وعلى اعتبار أن عددهم كبير كان التنكير للتكثير واجتمع التحقير والتقليل كذلك في قولهم: "أصابني منه شيء" أي حقير قليل، فالتنكير هذا للتحقير إن روعي من حيث الشأن، وهو للتقليل إن روعي من حيث العدد. 5- أن يمنع من التعريف مانع كقول الشاعر: إذا سئمت مهنده يمين ... لطول العهد بدله شمالًا لم يقل "يمينه" تحاشيًا من أن ينسب السآمة بصريح اللفظ إلى يمين الممدوح، وهو اعتبار لطيف. 6- أن يراد إخفاؤه عن المخاطب كما تقول لآخر: "قال لي رجل: إنك تنكبت جادة الطريق" فتخفي اسمه لئلا يلحقه أذى من المخاطب إذ نسب إليه ما لا يحب ... إلى غير ذلك من دواعي التنكير.

تمرين2

تمرين: بين الأغراض التي اقتضت تعريف أو تنكير المسند إليه فيما يأتي: 1- أنت تبقى ونحن طرا فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا 2- لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها 3- هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم 4- إذا جاء موسى وألقى العصا ... فقد بطل السحر والساحر 5- فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء 6- ومن طلب العلوم بغير كد ... سيدركها متى شاب الغراب 7- والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر 8- كل من في الوجود يطلب صيدا ... غير أن الشباك مختلفات 9- طلبت الجميع فغاب الجميع ... فمن سوء حظك لا ذا ولا ذا 10- حكم حارت البرية فيها ... وجدير بأنها تحتار 11- ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب 12- شرق متاعك الذي وفد عليك فأكرمت وفادته. 13- {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} . 14- ركب سيف الدولة. 15- أبو الفضل قادم إليك. 16- {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} . 17- إن الذي يعق أباه مطرود من رحمة الله. 18- مات الذي أدبك فأحسن تأديبك. 19- {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} . 20- {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} . 21- أخو الأمير أرسل إليّ.22- محمد يسبق الريح في عدوه. 23- ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما1

_ 1 يساور همه يواثبه بمعنى: يستثير همته إذا أنس منها فتورا.

إذا ما رأى يومًا مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثم صمما ويغشى إذا ما كان يوم كريهة ... صدور العوالي1 وهو مختضب دما إذا الحرب أبدت ناجذيها وشمرت ... وولى هدان2 القوم أقبل معلما3 فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفًا مذمما الجواب: 1- عرف المسند إليه في "أنت" و"نحن" بالإضمار، لأن الحديث في مقام الخطاب الأول، والتكلم في الثاني, وعرف بالعلمية في "أحسن الله" لإحضاره في ذهن السامع باسمه الخاص. 2- نكر المسند إليه في "دواء" للقصد إلى نوع من الدواء خاص, إذ لكل داء من الأدواء ما يناسبه, عرف بالإضمار في "يستطيب" و"أعيت"؛ لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع. 3- عرف المسند إليه "بالإشارة" لقصد تمييزه أكمل تمييز لاقتضاء مقام المدح إياه, أو للتعرض بغباوة السامع, وعرف "بأل" في كل من "البطحاء" و"البيت" و"الحل" و"الحرم" للعهد العلمي فإن كل ذلك معهود في علم المخاطب. 4- عرف المسند إليه "بالعلمية" لقصد إظهار التعجب من موسى عند إلقائه العصا, وعرف "بأل" في "السحر" و"الساحر" للعهد العلمي. 5- عرف المسند إليه "بالإضمار" في "يدعي"؛ لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع لفظًا تحقيقًا, وعرف بالإضمار في "حفظت"؛ لأن المقام للخطاب, ونكر في "أشياء" لقصد إفادة التكثير. 6- عرف المسند إليه في "طلب"؛ لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع لفظًا تحقيقًا, وعرف كذلك في "سيدركها" للسبب المذكور, وعرف "بأل" في "الغراب" للعهد الذهني أي للإشارة إلى فرد ما من أفراد الحقيقة. 7- عرف المسند إليه "بأل" في قوله: و"الخل" للإشارة بها إلى الحقيقة في ذاتها, وعرف "بالإضمار" في "يبدي": لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع لفظًا تحقيقًا, وكذلك يقال في "يخفيها".

_ 1 العوالي: الرماح. 2 الهدان بكسر الهاء: الأحق. 3 المعلم بفتح اللام المخففة: المرسوم بسيما الحرب.

8- عرف المسند إليه بالإضمار في "يطلب"؛ لأن المقام للغيبة, وعرف "بأل" في "الشباك" لقصد الاستغراق الحقيقي. 9- عرف المسند إليه بالإضمار في "طلبت"؛ لأن المقام للخطاب, وعرف "بأل" في الجميع الثاني للإشارة إلى العهد الخارجي الصريحي. 10- ذكر المسند إليه في قوله: "الحكم" لقصد تعظيمه، وأنه بلغ من السمو ما لا يدرك كنهه، وعرف "بأل" في "البرية" للعهد العلمي, وعرف بالإضمار في "تحتار" لمقام الغيبة. 11- نكر المسند إليه في "جانب" الأول لقصد تعظيمه, وفي الثاني لقصد تحقيره، بمعونة المقام. 12- عرف المسند إليه "بالموصولية" لقصد تقرير الرفض المسوق له الكرم وهو خيانة الضيف، أو لقصد تقرير المسند، أو المسند إليه، على ما تقدم في مبحث تعريف المسند إليه بالموصولية. 13- عرف المسند إليه "بالعلمية" في {وَمَا مُحَمَّدٌ} لقصد إحضار مسماه في ذهن السامع، أو للتبرك به أو التلذذ. 14- عرف المسند إليه "بالعلمية" لقصد تعظيمه، أو لغرض الإرهاب. 15- عرف المسند إليه "بالعلمية" لقصد إفادة المعنى الكناني، وهو أن الفضل لازمة ملازمة الأب لابنه. 16- عرف المسند إليه "بالإشارة" الموضوعة للقريب لقصد تحقيره, وأنه في المرتبة الدنيا، تنزيلًا لدنو مرتبته منزلة قرب المسافة. 17- عرف المسند إليه "بالموصولية" للإشارة إلى نوع الخبر المترتب عليها. 18- عرف المسند إليه "بالموصولية" لقصد إفادة التعظيم والتبجيل. 19- عرف المسند إليه بإشارة البعيد لقصد تعظيمه تنزيلًا لبعد درجته منزلة بعد المسافة. 20- عرف المسند إليه بإشارة البعيد لقصد تحقيره تنزيلًا لبعده عن ساحة عز الخطاب منزلة بعد المسافة.

21- عرف المسند إليه بالإضافة لقصد تعظيم المتكلم بأن الذي أرسل إليه أخو الأمير. 22- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد إظهار التعجب من سباقه الريح. 23- عرف المسند إليه "باسم الإشارة" في البيت الأخير لقصد التنبيه على أن المشار إليه المعقب بأوصاف جدير, من أجل تلك الأوصاف بما يذكر بعد اسم الإشارة, ذلك أنه ذكر المشار إليه في قوله: "لله صعلوك"، ثم عدد له خصالا فاضلة من المضاء على الأحداث، وتيمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بلا مبالاة، ثم عقب ذلك بقوله: فذلك أن يهلك ... إلخ. تمرين يطلب جوابه على هذا النحو: أنا الذي نظر الأعمي إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم بيمن أبي إسحاق طالت يد العلا ... وقامت قناة الدين واشتد كاهله هو البر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والبحر ساحله أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل ولربما بخل الكريم وما به ... بخل ولكن سوء حظ المطالب تقول وصكت صدرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس1

_ 1 من كلام ابن كعب العنبري, والمتقاعس من "القعس" بالتحريك, وهو خروج الصدر ودخول البطن ضد الحدب. قاله يخاطب زوجته وقد مرت به في نسوة فوجدته يطحن الرحى لنزول أضياف ببابه, فقالت لهن ولم يكن قد ابتنى بها بعد: أبعلي هذا! استهزاء به، فأخبر بذلك فأنشد هذا البيت وبعده: فقلت لها لا تعجبي وتبيني ... بلائي إذا التفت على الفوارس لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس

زارني صلاح الدين، الدينار خير من الدرهم، أحمد تحن الطيور لسماع صوته، أسعاد ابنة جارنا؟ أم سعاد صديقة ابنته؟. إن الذي تخلص إليه وتفنى في حبه لا يرغب فيك ولا يود لقاءك، أذاع سرك من أوصيته بكتمانه، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ، إن من لا يرحم الصغير ولا يوقر الكبير مبغض ممقوت، {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، مر بي رجل وسأل عنك، أخو السارق قادم، نبأ روع البلاد، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ، إن لنا لضياعًا وإن لنا لخدما, طلاب المعهد رحلوا إلى بلادهم, {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} , الله وكيلي ومحمد كفيلي.

تقديم وتأخير المسند إليه

تقديم وتأخير المسند إليه: اعلم أن مرتبة المسند إليه التقديم؛ لأنه المحكوم عليه، فمدلوله يخطئ أولًا بالذهن, ولكن تقديمه مع ذلك ليس واجبًا، بل يجوز تقديمه وتأخيره, وإنما يؤتى به مقدمًا لأسباب شتى، نذكر لك أهمها فيما يلي: 1- كون التقديم هو الأصل فيه، لأنه المحكوم عليه "كما عرفت" غير أن ذلك مشروط بألا توجد نكتة أخرى تقتضي تأخيره في اعتبار المتكلم كقولك: "محمد رسول الله" فقد قدم المسند إليه لأن الأصل فيه أن يقدم إذ هو المحكوم عليه بالرسالة، فينبغي ذكره أولًا, وإنما شرطنا عدم وجود نكتة أخرى تقتضي التأخير؛ لأن الأصالة وحدها نكتة ضعيفة لا تنهض سببًا مرجحًا للتقديم، مع وجود المقتضى للتأخير1 كما في الفعل مثلًا, فإن الأصل فيه التقديم أيضًا؛ لأنه الذات المحكوم عليها, غير أن الأصالة عارضتها نكتة أخرى تقتضي تأخيره، وهي أن الفعل عامل في الفاعل الرفع، ومرتبة العامل التقديم على المعمول، فرجح جانبه عليه. 2- تعجيل المسرة للتفاؤل، أو المساءة للتطير, مثال الأول قولك: "العفو عنك صدر به الأمر", ومثال الثاني قولك: "القصاص من الجاني حكم به القاضي", قدم المسند إليه في المثالين لقصد المبادرة بإدخال السرور على قلب السامع ليتفاءل بحصول الخير، أو المسارعة بإدخال الغم على قلبه ليتشاءم بحصول الشر. 3 التعجيل بإظهار تعظيمه أو تحقيره إذا كان اللفظ مشعرًا بما يدل

_ 1 سبق مثل هذا الكلام عند البحث في ذكر المسند إليه.

عليهما. تقول في الأول: "أبو الفضل عندنا"، وفي الثاني: "أبو الجهل غادرنا". 4- تعجيل التبرك بذكره، أو التلذذ، كقولك في الأول: "اسم الله اهتديت به", وكقولك في الثاني: "ليلى رأيتها"، و"سلمى تحدثت إليها"، قدم المسجد في الموضعين تبركًا في الأول، وتلذذًا في الثاني. 5- التشويق إلى الخبر إذا كان في المسند إليه ما يوجب الدهشة والاستغراب، مما يجعل النفس في لهفة إلى سماع الخبر كقول أبي العلاء: والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد وقد سبق القول فيه عند الكلام في تعريف المسند إليه بالموصولية، فارجع إليه إن شئت, ومثله قول الشاعر: ثلاثة1 تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر فقد قدم فيه المسند إليه, وهو "ثلاثة"؛ لأن فيه تشويقًا إلى الخبر لاتصافه بما يدعو إلى المعجب، وهو قوله: "تشرق الدنيا ببهجتها"، فإن إشراق الدنيا بأسرها لما يشوق النفس إلى أن تعرف ذلك الذي جعل العالم أجمع يتألق ويضيء، فإذا عرفت ذلك تمكن منها أي تمكن. 6- إفادة تعميم النفي، وشموله للأفراد، إذا كان المسند إليه أداة عموم2 تقدمت على أداة النفي، ولم تكن معمولة للفعل المنفي، كما تراه في نحو قولك: "كل طالب لم يقص" أي إنهم جميعًا لم يقصروا، فقد قدم المسند إليه -وهو أداة عموم- على أداة نفي الفعل غير عامل3 فيها لقصد إفادة عموم النفي أي نفي الحكم -وهو التقصير في هذا المثال- عن كل فرد من أفراد الطلاب, وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" جوابًا عن سؤال ذي اليدين: "أقصرت الصلاة، أم نسيت يا رسول الله؟ ", ومعنى القول الكريم: لم يقع واحد من القصر

_ 1 على اعتبار أنه المبتدأ, وأن ما بعده هو الخبر ويصح العكس ولكن لا يكون فيه شاهد. 2 كلفظ كل وجميع، وكل ما يدل على العموم. 3 إذ هو منها في موضع الخبر ولا عمل للخبر في المبتدأ.

والنسيان فالنفي شمل الأمرين جميعًا, ومنه قول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع برفع: "كل" على أنه مبتدأ، والجملة المنفية بعده خبر, والمعني: لم أصنع شيئًا مما يدعيه على من الذنوب ولإفادة هذا المعنى عدل عن نصب "كل" إلى رفعها حتى لا تقع معمولة للفعل المنفي، وذلك شرط في إفادة العموم. فإن تقدم النفي على أداة العموم، أو كانت هي معمولة للفعل المنفي لم يكن النفي عامًّا شاملًا، بل أفاد الكلام: نفي الحكم عن بعض الأفراد دون بعض. فمثال ما إذا تقدم النفي على أداة العموم قول المتنبى: ما كل ما يتمنى المرأ يدركه ... تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن يريد: أن الإنسان لا يدرك كل ما يتمنى، وإنما يدرك بعضه، دون بعض, ومثله قولك: ما كل الطلاب نجحوا "وما نجح كل الطلاب", "وما نجح الطلاب كلهم" فالمعنى في هذه الأمثلة: أن النجاح منفي عن بعضهم دون الآخر. ومثال ما إذا كانت أداة العموم معمولة للفعل المنفي قولك: "كل الصفحات لم أطالع"، و"الصفحات كلها لم أطالع" بنصب "كل" على المفعولية, والمعنى في المثالين: أن المطالعة منفية عن بعض الصفحات دون بعضها, فالنفي في كل هذه المثل ليس عامًّا، وإنما هو منصوب على بعض الأفراد، دون بعض لوقوع أداة العموم في حيز النفي في الصورتين؛ تحقيقًا في الأولى1 وتقديرًا في الثانية2, يشهد بذلك الذوق السليم, ويدل عليه الاستعمال.

_ 1 وهي صورة تقدم النفي على أداة العموم كما في بيت المتنبي والأمثلة الثلاثة بعده. 2 هي صورة ما إذا كانت أداة العموم معمولة للفعل المنفي، كما في المثالين الأخيرين.

فإذا جاء من هذا القبيل1 ما يفيد: عموم النفي أي سلب الحكم عن كل فرد كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ، قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} , فليس ذلك من أصل وضعه، بل من قرينة خارجية، هي تحريم الاختيال والكفر, وأما التركيب في ذاته فلا يفيد العموم اطرادًا للقاعدة. 7- تقوية الحكم في ذهن السامع إذا كان المسند فعلا رافعًا لضمير المسند إليه كما تقول: "محمد يعطي الجزيل", "وهو يحب الثناء", قدم المسند إليه في المثالين لإفادة تقوى الحكم, وسر التقوية: أن في مثل هذا التركيب تكرارًا للإسناد: من حيث أن الفعل, وهو "يعطي" في المثال الأول أسند مرتين, أسند أولًا إلى الضمير المستتر فيه العائد على "محمد", ثم أسند ثانيًا إلى الاسم الظاهر, فهو بمثابة قولك: "يعطي محمد الجزيل", وهكذا يقال في المثال الثاني, وبتكرار الإسناد يتقوى الحكم، ويتقرر في ذهن السامع. قيل2 ويقرب من هذا في تقوية الحكم: ما كان المسند فيه وصفًا رافعًا لضمير المسند إليه كما في قولك: محمد معطي الجزيل, وذلك لتكرار الإسناد فيه كما في الفعل, "فمعطي" في المثال المذكور مسند مرتين كذلك- مرة إلى الضمير المستتر فيه، ومرة إلى الاسم الظاهر، وتكرار الإسناد هو عماد التقوى "كما عرفت". غير أن الوصف -مع هذا- لم يبلغ مبلغ الفعل في إفادة التقوى؛ لأن فيه جهة ضعف، تلك هي شبهة بالاسم الجامد في أنه يلزم صورة واحدة في المتكلم، والخطاب، والغيبة. فتقول: "أنا قادم"، و"هو قادم" فلفظ "قادم" لم يتحول عن صورته في الأصول الثلاثة, كما هو الحال في الاسم الجامد الخالي من الضمير "كرجل" إذ تقول فيه: "أنا رجل", وأنت رجل و"هو رجل", فرجل كذلك لم يتغير في الأحوال الثلاثة. وقصارى القول: أن الوصف لاشتماله على الضمير كان كالفعل في إفادة التنويه لتكرار الإسناد، ولكن: صورته لا تتغير بتقدير الأحوال.

_ 1 أي من وقوع أداة العموم في حيز النفي المفيد بحسب الوضع لسلب العموم أي في نفي الحكم عن بعض الأفراد دون بعض. 2 قاله السكاكي.

الثلاثة "كالاسم الجامد" كان دون الفعل في هذه التقوية. إلى غير ذلك من دواعي التقييم كإيهام أن المسند إليه لا يزول عن الخاطر نحو: "رحمة الله ترجى"، وغير ذلك. تنبيه: ورد في أساليب العرب قولهم: "مثلك لا يخون"، و"غيرك لا يفي" ويريدون: إثبات عدم الخيانة للمخاطب "في الأول", وإثبات الوفاء له "في الثاني" من طريق الكناية قصدًا إلى الأبلغية في الحكم. وبيان الكناية في الأول, هو أن قولهم: "مثلك لا يخون" معناه: إثبات عدم الخيانة لمثل المخاطب أي للماثل له في صفاته، والمماثل معنى كلي يشمل المخاطب وغيره ممن يماثله، فإذا ثبت عدم الخيانة للماثل لزم ثبوته للمخاطب باعتباره أحد أفراد المعنى الكلي، فقد أطلق الملزوم، وهو إثبات عدم الخيانة للماثل، وأريد اللازم، وهو إثباته للمخاطب. وبيان الكناية في الثاني: هو أن قولهم: "غيرك لا يفي"، معناه: نفي الوفاء عن غير المخاطب، والوفاء صفة وجودية، لا بد لها من محل تقوم به، وهذا المحل منحصر في أمرين: المخاطب، وغير المخاطب، وقد نفيت صفة الوفاء عن غير المخاطب، فلزم قيامها بالمخاطب, فقد أطلق الملزوم، وهو نفي الوفاء عن كل من عدا المخاطب، وأريد اللازم، وهو إثباته للمخاطب. ولما كان الغرض من التعبير الكنائي في "مثل وغير": إثبات الحكم من الطريق الأبلغ، وكان تقديمها حينئذ أعون على تحقيق هذا الغرض لما علمت من أن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي يفيد تقوية الحكم، وتقريره بسبب تكرار الإسناد, لما كان الأمر كذلك كان لهما الصدارة في الكلام؛ ولهذا لم يردا في استعمالات العرب إلا مقدمين "كما رأيت". ا. هـ. ووجه الأبلغية في "مثل وغير": هو أن الحكم فيها مصحوب بالدليل فقولك: "مثلك لا يخون" ينحل إلى جملتين هما: أنت لا تخون، لأن مثلك لا يخون، والأولى هي الدعوى، والثانية هي الدليل, وكذا قولك: "وغيرك لا يفي" إذ معناه أنت تفي لأن غيرك لا يفي, والحكم المؤيد بدليل أبلغ في إثباته مما لم يؤيد بدليل، كما في مبحث "الكفاية". تأخير المسند إليه: يؤخر المسند إليه حيث يقتضي الحال تقديم المسند، كما سيأتي بعد:

تمرين3

تمرين: بين دواعي تقديم المسند إليه في الأمثلة الآتية: ثلاثة ليس لها أياب: الوقت والجمال والشباب، النار وعدها الله الذين كفروا، محمد سيد الأنام، كل ظالم لا يفلح، نجاحك في الامتحان تأكد، مثلك يرعى الحرمة، وغيرك لا يصل، الثقيل رحل عنا، قائد الثورة قادم اليوم، عباس يصل الرحم، ويعطف على الفقراء، محمد شفيعنا، سعاد وصلتني بعد هجر، رضا الرحمن بغيتي ومناوي. الجواب: تمرين يطلب جوابه: ثلاثة يذهبن الحزن: الماء، والخضرة، والوجه الحسن، محمد يود لقاءك، بكاء وعويل في بيتك، كل مجد لا يخيب، أبو المجد يعتزم زيارتك، مثلك يعم فضله، وغيرك لا يفيد، هو يجيد التفكير، ويحسن التدبير، فتاة أنيقة أعدت هذه المائدة، الله ولي المؤمنين، عطفك عليّ لا أنساه، كل أستاذ لا يود الإخفاق لأحد تلاميذه.

أحوال المسند

أحوال المسند ذكر المسند ... أحوال المسند: المسند هو المحكوم به فعلًا كان، أو اسمًا وله كما للمسند إليه أحوال تعرض له: من ذكر، وحذف، وتعريف، وتنكير، وتقديم، وتأخير وغير ذلك، وهاك تفصيل ما ذكر على الترتيب المذكور. ذكر المسند: يذكر المسند في الكلام لأمرين: الأول: ما تقدم من الدواعي التي اقتضت ذكر المسند إليه ككون الذكر هو الأفضل، ولا مقتضى للعدول عنه كما تقول ابتداء: "زهير بن أبي سلمى شاعر" وكضعف التعويل على القرينة كقولك: "رأيك سديد، وحظك سعيد", فلو حذف "سعيد" ما دل عليه المذكور دلالة قاطعة, إذ يحتمل أن يكون الحظ عاثرًا، كما هو شأن الكثير من ذوي الآراء والعقول, وكالتعريض بغباوة السامع كما تقول: "محمد نبينا" في جواب من سأل: من نبيكم؟ فيذكر المسند مع علمه من قرينة السؤال، إشارة إلى أن المخاطب غبي، لا يفهم بالقرينة، بدليل أنه يسأل عن نبي هو أجل من يتوهم خفاؤه، وكالرد على المخاطب نحو: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} بعد قوله: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ؟ أعاد ذكر المسند مع العلم به من السؤال، لأنه محط الإنكار إذ إن الخطاب مع من يذكر إعادة الإنسان بعد موته، وكغير ذلك من دواعي الذكر. الثاني: تعيين أنه فعل، فيفيد التجدد والحدوث، أو اسم، فيفيد الثبوت والدوام, فإذا لم يذكر احتمل أن يكون فعلًا، وأن يكون اسمًا، فلم يتبين المراد, مثال الأول قولك: "محمد يكتب" فتذكر المسند ليتعين أنه "فعل" فيفيد أن الكتابة ليست لازمة له، ولا وصفًا فيه, ومثال الثاني قولك: "محمد كاتب" فتذكر المسند ليتعين أنه "اسم" فيفيد أن الكتابة ثابتة له على الدوام، وأنها صفة من صفاته.

حذف المسند

حذف المسند: بحذف المسند لأغراض عدة، نذكر منها ما يلي: 1- ضيق المقام بسبب المتوجع من ألم، أو بسبب المحافظة على وزن كما في قول ضابعي بن الحارث. ومن يك أمسى بالمدينة رجله ... فإني وقيار بها لغريب يشكو الشاعر ما يعانيه من مرارة الوحشة، وقد آلمه أشد الأم أن يرى نفسه غريب الدار، نائيًا عن الأهل والوطن، بينما يرى غيره ينعم باجتماع شمله بأهله ووطنه, و"قيار" اسم فرس أو جمل للشاعر, قدمه على قوله: "لغريب" لنكتة لطيفة، هي أن هذا الحيوان الأعجم قد ناله من كرب الغربة ما جعله يشاطر صاحبه هذا الألم، وقوله: "لغريب" خبر "أن" بدليل اقترانه بلام الابتداء، وأما المسند إلى "قيار" فمحذوف. والتقدير: "وقيار غريب" وهذا هو محل الشاهد، إذ قد حذف لضيق المقام بسبب ما يعانيه الشاعر من آلام الاغتراب وغصص النوي, قد يكون الحذف المذكور للمحافظة على وزن الشعر, ومثل قول ابن الحارث قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف1 يقول كلانا قانع برأيه: راض به "وإن كنا على خلاف" فكل يرى ما يتفق مع حاله، فرب حسن عند دنيء الهمة قبيح عند عاليها, وقوله "راض" خبر أنت، وأما المسند إلى "نحن" فمحذوف، تقديره: "نحن رضوان" وهو محل الشاهد إذا قد حذف لضيق المقام بسبب تألم الشاعر

_ 1 الفرق بين هذا المثال والذي قبله، أن المحذوف في البيت السابق خبر "قيار" إذ لا يجوز أن يكون "لغريب" خبرًا عنه، لأن لام الابتداء لا تدخل على خبر المبتدأ غير المنسوخ في فصيح الكلام, فقد حذف من الثاني لدلالة الأول عليه, وأن المحذوف في هذا البيت خبر "نحن" إذ لا يجوز أن يكون "راض" خبرًا عنه لعدم مطابقته للمبتدأ في الدلالة على الجمع, فقد حذف من الأول لدلالة الثاني عليه عكس الأول.

من احتدام الخلاف بينه وبين مناظره، أو بسبب المحافظة على وزن الشعر. 2- الاحتراز عن العبث في ذكره، في بادئ الرأي1 كما في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} فقد حذف الفعل المسند إلى ضمير المخاطبين وهو "أنتم" فأنتم إذا فاعل لفعل محذوف لأن "لو" لا تدخل إلا على الأفعال, وأصل الكلام: لو تملكون تملكون، حذف الفعل الأول احترازًا عن العبث في ذكره لوجود مفسره، وهو "تملكون" "الثاني"، فانعصل الضمير الذي هو واو "الجماعة"، وصار "أنتم" وبقي على فاعليته كما كان الحل وهو متصل, ومثله قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} أي ورسوله بريء منهم أيضًا، فقد حذف المسند إلى "رسوله"، لأن في ذكره عبثًا لقيام القرينة عليه. 3- اتباع الاستعمال كما في قول الشاعر: إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذ مضوا مهلا2 يقول: إن لنا في الدنيا حلولا إلى حين، وإن لنا عنها إلى الأخرى ارتحالا، وإن الراحلين عنها أوغلوا في غيبتهم، فلم يعودوا، أي وهكذا نحن على الأثر، سنبقى إلى أمد، ثم نفنى فلا نعود, والشاهد فيه حذف المسند الذي هو خبر "إن" اتباعًا للاستعمال الوارد على حذف الخبر عند تكرار "إن" وتعدد اسمها كما في البيت المذكور, سواء كان الاسم نكرة كما في "هذا البيت، أو معرفة كأن يقول لك قائل: إن القوم ألب عليك3 فهل لك أحد؟ فيقول: "إن محمدًا وإن عليًّا" أي إن لي محمدًا، وإن لي عليًّا, ومثال الحذف تبعًا للاستعمال أيضًا قولهم: "خرجت فإذا رسول أبي" أي فإذا رسول أبي واقف بالباب، أو وافد علينا، فقد حذف المسند إلى رسول اتباعًا للاستعمال الوارد على ترك

_ 1 إنما كان ذلك في بادئ الرأي، لأنه في الحقيقة لا عبث في ذكره إذا هو أحد ركني الإسناد. 2 محلًا ومرتحلًا مصدران ميميان بمعنى الحلول والارتحال، السفر بسكون الفاء اسم جمع "مسافر" بمعنى مسافر كركب وراكب والمهل بالتحريك مصدر بمعنى الإمهال وطول الغيبة. 3 أي مجتمعون على مناهضتك وعداوتك.

المسند إذا وقع إليه بعد "إذ الفجائية"1. 4- أن يقع المسند في جواب عن سؤال محقق، أو مقدر, فالسؤال المحقق ما وجدت صورته في الكلام، والمقدر ما لم توجد له في الكلام صورة, فالأول كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} حذف فيه المسند إلى "لفظ الجلالة" لوقوعه في جواب السؤال المذكور، والتقدير: "خلقهن الله", والثاني كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ، رِجَالٌ} في قراءة من بنى الفعل للمجهول فقد حذف المسند إلى "رجال" لوقوعه في جواب سؤال مقدر، وكأنه قيل: من يسبحه؟ فأجاب "رجال" أي يسبحه رجال. إلى غير ذلك من الأغراض التي اقتضت هناك حذف المسند إليه كاختبار تنبه السامع، أو إيهام صونه عن اللسان، أو صون اللسان عنه، أو غير ذلك مما سبق عند ذكر دواعي حذف المسند إليه.

_ 1 إنما حذف المسند بعد إذ الفجائية، لأنها تدل على مطلق الوجود فالقرينة على المسند قائمة، وهي إذ الفجائية حتى لو صرح به لكان عبثًا في ظاهر الأمر لدلالة إذ الفجائية عليه.

تعريف المسند

تعريف المسند: يؤتى بالمسند معرفًا بإحدى طرق التعريف لواحد من أمرين: 1- إفادة السامع حكمًا بأمر معلوم عنده بإحدى طرق التعريف على أمر معلوم له كذلك1. بيان ذلك: أن الشيء قد يكون له صفتان من صفات التعريف، يعلم المخاطب اتصافه بإحداهما، دون الأخرى، فنخبره باتصافه بها, وحينئذ يجب تقديم المحكوم عليه، وجعله "مبتدأ"، وتأخير المحكوم به وجعله "خبرًا"، وذلك كقولك: "علي الخطيب" فإن للذات صفتي تعريف, إحداهما تسميها "بعلي"، والثانية وصفها "بالخطابة", فإذا عرف المخاطب "عليًّا باسمه وشخصه، ثم علم أن هناك خطيبًا ذائع الصيت، ولكن لا يدري أن "عليًّا" هو ذلك الخطيب، صار كأنه.

_ 1 سواء اتحدا طريقا التعريف فيهما كقولك: الواقف هو الفائز أو اختلفا كما في قولك: محمد الفائز.

يطلب الحكم على "علي" بوصف الخطابة، فنقول له حينئذ "علي الخطيب, وإذا علم أن ثم خطيبًا معروفًا، ثم عرف شخصًا بعينه يسمى "أحمد", ولكن لا يدرى أن ذلك الخطيب هو هذا "الشخص" صار كأنه يطلب الحكم على الخطيب بأنه "أحمد". فنقول له حينئذ: "الخطيب أحمد", فأيا ما كان فالمحكوم عليه هو الذي يجب تقديمه "كما عرفت", وقد أفدت السامع "في المثالين" حكمًا بأمر معلوم له على أمر معلوم له كذلك. وكون المسند والمسند إليه معلومين للمخاطب لا ينافي إفادته أمرًا مجهولًا له، هو الحكم بأحدهما على الآخر، فالعلم لا يستلزم العلم بنسبة أحدهما إلى الآخر "كما رأيت". 2- إفادة السامع قصر المسند على المسند إليه إذا كان التعريف بأل الجنسية, والقصر بها نوعان: حقيقي، وادعائي. فالأول نحو: "أنت الشاعر" إذا لم يكن شاعر سواه، فيؤتى بالمسند معرفًا "بأل" لقصد قصر الشاعرية على المخاطب قصرًا حقيقيًّا. والثاني كقولك: "محمد الكريم"، إذا كان ثم كريم غيره، ولكن الكرم في "محمد" كمل وأتم، فيؤتى بالمسند معرفًا "بأل" لقصد قصر الكرم على "محمد" ادعائيًّا مبالغة في اتصافه بالكرم، بمعنى أنه بلغ فيه مرتبة لم يبلغها سواه، فكأن لا كريم غيره.

تنكير المسند

تنكير المسند: يؤتى بالمسند منكرًا لأمور نذكر منها ما يلي: 1- عدم وجود الموجب لتعريفه "من إرادة التعيين" أو الحصر، بأن لم يرد المتكلم إفادة السامع التعيين في المسند، ولا إفادة حصر المسند إليه على ما تقدم، كما تقول: "محمد كاتب"، و"شوقي شاعر" فأنت تريد الإخبار بمجرد ثبوت الكتابة "لمحمد"، والشعر "لشوقي"، لا حصر الكتابة في "محمد" ولا الشعر في "شوقي"، ولا أحدهما معينًا، بحيث لا يرد الكتابة أو الشعر في شخص بعينه. 2- قصد التفخيم والتعظيم للإشارة إلى أن المسند بلغ من خطورة الشأن، وسمو المنزلة درجة لا يدرك كنهها كقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} بناء على أنه خبر {ذَلِكَ الْكِتَابُ} فقد أتى بالمسند نكرة للدلالة على فخامة هداية الكتاب وكمالها، وأنها بلغت غاية فوق متناول المدارك. 1- قصد التحقير كما تقول: "نصيبي من هذا المال شيء" أي حقير تافه، لا يؤبه له، ولا يعتد به، ولا يبعد أن يكون لمادة الكلمة دخل في المعنى المراد. 4- اتباع المسند إليه في التنكير كما تقول: "طالب من القسم الثاني وافد علينا", إلى غير ذلك من دواعي التنكير.

تقديم وتأخير المسند

تقديم وتأخير المسند: يؤتى بالمسند مقدمًا على المسند إليه لأسباب منها. 1- قصر المسند إليه على المسند كما يقال: "مصري أنا" فتقديم المسند يفيد قصر المتكلم على المصرية، لا يتجاوزها إلى الشامية مثلًا فهو من قصر الموصوف على الصفة وسيأتي ذلك في بابه مفصلًا, وكقوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي أن هذا الملك العظيم له "سبحانه" لا لغيره. 2- "التنبيه من أول الأمر" على أنه خبر عن المسند إليه، لا نعت له، إذ النعت لا يتقدم على المنعوت كقول حسان بن ثابت يمدح النبي "صلى الله عليه وسلم". له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر يقول: إن هممه الكبيرة لا يحصيها عد، ولا يحيط بها وهم، وإن صغرى هممه فوق همة الدهر، بمعنى أن الدهر "على عظيم خطره"، لا يفل من عزيمته ولا يحول دون إرادته, والشاهد في قوله: "له همم" حيث قدم المسند على المسند إليه تنبيهًا "من بادئ الأمر" على أنه خبر لا نعت, ولو أخره فقال: "وهم له" لتوهم ابتداء: أنه نعت لشدة حاجة النكرة إليه، وأن الخبر سيذكر فيما بعد, وكقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ... إلى أشباه ذلك من الآيات. 3- التفاؤل بإسماع المخاطب "من أول الأمر" ما يسره كما تقول للمريض: "في عافية أنت"، أو "في تحسن صحتك"، وكقول الشاعر: سعدت بغرة وجهك الأيام ... وتزينت بلقائك الأعوام قدم المسند في هذه المثل لقصد إسماع المخاطب "من أول الأمر" ما يتفاءل به، ويغتبط له.

4- التشويق إلى ذكر المسند إليه، بأن يشتمل المسند على وصف أو أوصاف للمسند إليه، تشوق النفس إلى ذكره، كقول ابن وهب المتقدم: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتا ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر على تقدير: "أن "ثلاثة" هو الخبر، وقد قدم لاشتماله على وصف مشوق لذكر المسند إليه، ونحو "منهومان لا يشبعان- طالب علم. وطالب مال" على تقدير: "أن "منهومان" خبر. وقدم لاشتماله على وصف مشوق. تأخير المسند: يؤتى بالمسند مؤخرًا للأغراض المتقدمة في تقديم المسند إليه: من أن تقديمه هو الأصل، ولا مقتضى للعدول عنه، أو لأن في تقديمه تشويقًا للمسند، أو لتعجيل المسرة أو المساءة، أو غير ذلك؛ مما بسطنا ذكره هناك.

تمرينات منوعة

تمرينات منوعة: 1- ايت بعدة أمثلة من إنشائك يكون المسند إليه فيها: "1" مذكورًا لإظهار التعجب منه. "2" محذوفًا لتعينه. "3" معرفًا بالإضمار للمتكلم. "4" معرفًا بالعلمية للتفاؤل. "5" معرفًا بإشارة البعيد للإهانة. "6" معرفًا بالموصولية للتشويق إلى الخبر. "7" معرفًا "بأل" للإشارة إلى الحقيقة نفسها. "8" معرفًا بالإضافة لإغنائها عن تفصيل متعذر. "9" منكرًا لإفادة التكثير. "10" مقدمًا للتفاؤل. 2- ايت بعدة أمثلة كذلك يكون المسند فيها: "1" مذكورا للتعريض بغباوة السامع. "2" محذوفًا في جواب سؤال محقق "3" لإفادة القصر. "4" مذكرًا لقصد التحقير. "5" مقدمًا للتطير.

3- اجعل من الكلمات الآتية مسندًا, ثم مسندًا إليه في عبارات من عندك ثم بين الحال العارضة لكل، والغرض الذي دعا إليها. الهدنة، بشير السلام. الحرير, غلام الوزير. رحمة. عراقي. تجهم. أولئك. كاتب أنت. قادم. الذين. 4- بين فيما يأتي: الحال العارضة للمسند، أو المسند إليه، مع بيان السبب الذي دعا إليها. "1" نبينا محمد حبيب الله، سيد الأنبياء والمرسلين، في جواب: "من نبيك؟ ". "2" طيار يقول: "من رأى طيارًا مقبلا؟ ". "2" زهير يذيب الشعر، والشعر يذيبه: ويدعو القول، "والسحر يجيبه، في جواب من قال: ما شأن زهير؟ "4" له راحة لو أن معشار جودها ... على البر كان البر أندى من البحر "5" إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت "6" ما خالد رجلًا. "7" أقبل أمير المؤمنين، جوابًا لمن سأل: هل أقبل عمر؟. "8" {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . "9" حريق اندلع لهيبه في حقلك. "10" {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} . "11" {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} . "12" ذو ملق ونفاق. "13" {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} . 14 خليلي إما أن تعينا وتسعدا ... وإما كفافا لا علي وليا "15" {الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . "16" الجائزة كانت من نصيبك. "17" ربح أصابه تجار القطن هذا العام. "18" كل من عاش لنفسه لا يستحق أن يولد. "19" الجلاء قرر وبشير السلام وافى. "20" إن الذي أخلصت له ودك لا يرغب فيك. "21" على يعظم أهل الدين. "22" شيئان لا تصلح الدنيا بغيرهما ... المال يصلح منه الحال والولد

تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق: إلهي عبدك العاصي أتاكا ... مقرًّا بالذنوب وقد دعاكا فإن تغفر فأنت لذاك أهل ... وإن تطرد فمن يعفو سواكا عربي أنا. محمد تاجر. وعلي كاتب. محمد رحمة للعالمين. علي يعطي وهو متهلل الوجه، تجهم لخصمك الدهر، وابتسمت لك الأيام. ثلاثة تورث المحبة: الأدب، والتواضع، والدين. الذي حارت الناس في أمره الإنسان، {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، ذهبت إلى السوق فإذا أبي، قابلت رجلًا فسألني عنك الرجل، إن الذي تحنو عليه يسلقك بحاد لسانه، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . الصوف خير من القطن. اعتدى على شرفك من صنت عرضه. وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها. يرزق الجنين في بطن أمه. جاء ابن الحلاق. شر أهر ذا ناب. له عزيمة لا تقل. عندهم خدم. وفي حوزتهم ضياع. إن الذي الوحشة في داره ... تؤنسه الرحمة في لحده قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... وللسبع خير من ثلاث وأكثر أن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سننًا للناس تتبع يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

أحوال متعلقات بالفعل

أحوال متعلقات بالفعل: الكلام في هذا الباب مقصور على بحثين: "1" بحث حذف المفعول. "2" بحث تقديمه على عامله. البحث الأول: اعلم: أن للفعل ارتباطًا بكل من الفاعل والمفعول, فارتباطه بالفاعل من جهة وقوعه منه، وارتباطه بالمفعول من حيث وقوعه عليه, ولاختلاف نوع الارتباط اختلف أثر العامل، ولهذا كان أثره في الفاعل "الرفع" وفي المفعول "النصب". والفعل المتعدي إذا أسند إلى فاعله، ولم يكر له مفعول، لا بد فيه من داع لهذا الهدف, وهاك أهم دواعيه: 1- البيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة1 إذا وقع شرطًا، ولم يكن تعلقه بالمفعول المحذوف غريبًا، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} , فمفعول فعل المشيئة محذوف، والتقدير: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُم} , ونكتة حذفه: "البيان بعد الإبهام" لأنه لما قيل: "ولو شاء" علم أن هناك شيئًا تعلقت به المشيئة، فلما جيء بجواب الشرط وهو قوله: {لَهَدَاكُمْ} وضح ذلك الشيء، وعلم أنه "الهداية" فكل من الشرط والجواب حينئذ دلا على المفعول، غير أن الشرط دل عليه إجمالًا، والجواب دل عليه تفصيلًا, والبيان بعد الإبهام أو لتفصيل بعد الإجمال، أو وقع في النفس, إذ إن السامع حينما يسمع قوله: {وَلَوْ شَاءَ} تتحرك نفسه، وتتشوق إلى ما تعلقت به المشيئة، فإذا جاء بعد ذلك جاء النفس في لهفة وشوق، ترقب قدومه فلا يلبث أن يقع منها موقع الماء الفرات من جوف الصدى, ومنه قول الشاعر:

_ 1 مثله كل ما في معناه كالإرادة والرغبة والمحبة وما شابه ذلك.

فلو إني استطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا أي لو أني استطعت خفض الطرف خفضت طرفي، فحذف المفعول للنكتة المتقدمة, والمفعول المحذوف في مثل هذه المواضع يقدر دائمًا مصدر فعل الجواب "كما رأيت". فإن كان تعلق فعل المشيئة بالمفعول غريبًا لم يحسن حذف المفعول إذ لا يدل عليه الجواب حينئذ كقول الشاعر يرثي ابنه: ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع لم يحذف مفعول فعل المشيئة وهو قوله: "أبكي دمًا" لغرابة تعلق الفعل المذكور، ببكاء الدم, لهذا ذكر ليتقرر في ذهن السامع. 2- دفع توهم غير المراد ابتداء كما في قول أبي عبادة البحتري: وكم نددت عني من تحامل حادث ... وسورة أيام حززن إلى العظم يقول الشاعر: كثيرًا ما دفعت عني ظلم الزمان وجبروته ورددت طغيان أيام ضربت فأوجعت، حتى بلغت في قسوتها الغاية. والشاهد في قوله: "حززن إلى العظم" والأصل حززن اللحم إلى العظم، فقد حذف المفعول، لأن ذكره يوهم السامع ابتداء، أي قبل ذكر قوله: "إلى العظم" أن الحز لم يصل إلى العظم، وإنما كان في بعض اللحم، وهذا غير مراد, بل المراد أن الحز جاوز اللحم إلى العظم كناية على أن أيام بلغت في شدتها, فدفعًا لتوهم غير المراد حذف المفعول ليدل الكلام على المراد من أول الأمر. 3- قصد إفادة التعميم في المفعول المحذوف مع الاختصار كقولهم: "قد كان منك ما يؤلم" أي كل أحد، فحذف المفعول لغرض إفادة العموم بقرينة المقام، إذ الغرض: المبالغة في الوصف بالإيلام، وهذا يقتضي إرادة العموم فبمن وقع عليه الألم، وأنه لا يختص به واحد دون الآخر، بل الكل في معاناة الألم سواء، قضاء لحق المبالغة, وكقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} أي يدعو جميع عباده المكلفين. غير أن إفادة العموم في الآية، على وجه الحقيقة، لأن الدعوة إلى الجنة تعم الناس جميعًا, أما المثال الأول فإفادته العموم فيه على وجه المبالغة، لأن إيلام كل أحد من شخص واحد محال عادة, وإنما قلنا: "مع الاختصار" لأن التعميم يمكن أن يستفاد من ذكر المفعول بصيغة العموم، بأن يقال مقالًا: "قد كان منك ما يؤلم كل أحد"، أو يقال في غير القرآن: "والله يدعو كافة الناس إلى دار السلام" لكن يفوتنا الاختصار، وهو مطلوب أيضًا.

4- قصد الاختصار المجرد عن أي اعتبار آخر، من عموم أو خصوص كقولهم: "أصغيت إليه، أي أذني، حذف المفعول هنا لمجرد الاختصار وعليه قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أي أرني ذاتك. 5- استهجان التصريح به كقول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت منه، ولا رأى مني" تريد "العورة", ونص الحديث: "كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، فما رأيت منه، ولا رأى مني". 6- أن ينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم لعدم تعلق الغرض بالمعمول كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ؟ فالغرض مجرد إثبات العلم ونفيه، دون ملاحظة تعلقه بمعمول ما، أي هل يستوي من له علم، ومن لا علم له؟ يريد نفي المساواة بين من هم من أهل العلم، ومن ليسوا من أهله مبالغة في ذمهم بالجهل بالدين، وإن الذين لا علم لهم به كان لا علم عندهم أصلًا. 7- قصد المحافظة على سجع أو وزن, فالأول كقوله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أي وما قلاك, والثاني كقول الشاعر: بناها فأعلى والقنا بقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم أي فأعلاها ... إلى غير ذلك من دواعي الحذف كالاعتماد على تقديم ذكره نحو: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أي ويثبت ما يشاء, وكتعينه نحو: "رعت الماشية" أي النبات، وكغير ذلك. البحث الثاني: اعلم: أن الأصل في العامل أن يتقدم على المعمول، وقد يعكس الأمر فيقدم المعمول1 على العامل لاعتبارات شتى أهمها ما يلي: 1- إفادة التخصيص أي قصر العامل على المعمول، بحيث لا يتجاوزه إلى غيره كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن المعنى نخصك بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك، ولا نستعين به، فقدم المفعول

_ 1 كالمفعول به وكالجار والمجرور والظرف والحال وما أشبه ذلك.

على الفعل لإفادة هذا الحصر، ومثله: {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} أي لا إلى غيره، قدم المعمول، وهو جار ومجرور، لإفادة الحصر كذلك. 2- رد المخاطب إلى الصواب عند خطئه في تعيين المعمول، أو في الاشتراك فيه كقولك في الأول: "علينا لقيت" أي "لا غيره" ردا لمن اعتقد أنك لقيت رجلا غيره، وكقوله في الثاني: "محمدا أكرمت" أي "وحده" ردا لمن اعتقد أنك أكرمت "محمدا" وآخر معه، فقد قدم المفعول "في المثالين" لرد الخطأ في التعيين في الأول، وفي الاشتراك في الثاني. وكالمفعول في هذا: الحال، والتمييز، والظرف، والجار والمجرور، وغيرها من متعلقات الفعل، فتقول في الحال: "راكبا جئت" لمن زعم أنك جئت "ماشيا"، وتقول في التمييز: "نفسا طبت" لمن زعم أنك طبت "نفسا وجسما"، فالأول لرد الخطأ في تعين المعمول، والثاني لرد الخطأ في الاشتراك فيه، وتقول في الظرف والجار والمجرور، "عند الأمير جلست"، و"في المنزل صليت" ردا لمن زعم العكس أو الاشتراك. ويسمى الأول: قصر قلب، والثاني: قصر إفراد، وسيمر بك قريبا بحث واف خاص بهذا الموضوع. 3- الاهتمام بأمر المقدم كما في "بسم الله" حيث يقدر العامل مؤخرا، أي بسم الله أفعل كذا بيانا للاهتمام بالاسم الكريم، وفيه إلى جانب ذلك رد على المشركين، إذ كانوا يبدءون بذكر آلهتهم اهتماما بأمرها، فيقولون: "باسم اللات، باسم العزى"، ولا يشكل علينا آية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} بتقديم الفعل على "اسم الله"، لأن الأمر بالقراءة فيها أهم إذ هي أول ما نزل من القرآن، والمقصود بالذات من الإنزال حفظ المنزل، وهو متوقف على القراءة، فكان البدء بها أحق1. 4- كون المعمول محط الإنكار كما تقول: "أبعد طول التجربة تنخدع بهذه الزخارف"؟ وكما تقول: "أفي الشر تسعى وقد جربت

_ 1 وقد يقال ردا لهذا الإشكال: إن قوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} متعلق "اقرأ" الثاني على أنه مفعول والباء زائدة لإفادة التكرار أي اقرأ "اسم ربك" بمعنى اذكره مرارا وتكرارا وأما "اقرأ" الأول فمنزل منزلة اللازم على معنى وأوجد القراءة، ويكون الكلام حينئذ جاريا على أصله إذ قدم فيه المفعول على الفعل اهتماما به.

عواقبه"؟ فأنت في الأول لم تنكر عليه "الانخداع" إذ هو أمر شائع، وإنما تنكر عليه أن يكون الانخداع منه بعد طول التجربة، كما لم تنكر عليه في الثاني سعيه، وإنما تنكر عليه أن يكون السعي منه في الشر لا في الخير، وقد عرف وخامة عاقبته، وسوء مغبته لهذا قدم كل من الظرف والجار والمجرور على عاملهما إذ هما محطا الإنكار "كما رأيت" ومنه قول الشاعر: أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد1 بالليل نارا فمزية تقديم المفعول "في البيت": إفادة أن الإنكار مسلط عليه، فهو يريد أن ينكر عليها: أن كل الناس "في حسبانها" سواسية، لا فرق بين كامل وناقص، وأن كل نار في زعمها نار كرم وسماحة. 5- التعجيل بالتبرك أو التلذذ به، أو بالمسرة، والمساءة، ففي الأول قولك: "محمدا صلى الله عليه وسلم أحببت"، وفي الثاني قولك: "ليلى وصلت, وسلمى لقيت"، وفي الثالث والرابع: "خيرا تلقي"، "شرا ينال عدوك". 6- موافقة كلام السامع نحو: "محمدا دعوت" في جواب "من دعوت"؟ فيقدم المفعول ليوافق مقابله في كلام السائل وهو "من" الاستفهامية. 7- مراعاة نظم الكلام كقوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} والشاهد في الفقرة الثانية، حيث قدم المفعول على الفعل لتتوافق الفاصلتان في الفقرتين، ومثله قوله عز وجل: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} ، فالتقديم في مثل هذه المواضع ليس إلا مجرد مراعاة نظم الكلام "كما ترى"، إلى غير ذلك من الأسباب التي تستدعي التقديم، ولا تخفى على صاحب الذوق السليم.

_ 1 الأصل تتوقد حذفت إحدى التاءين.

تمرينات متنوعة

تمرينات متنوعة: "1" ايت من إنشائك بخمسة أمثلة حذف فيها المفعول لدواع مختلفة وبخمسة أخرى قدم فيها المفعول على عامله لأسباب مختلفة كذلك. "2" اجعل كلا من الكلمات الآتية معمولا مقدما على عامله، مع اختلاف الدواعي: الله. محمدًا عليه السلام، عليًّا، باسمك ربي. أبعد أن وخط الشيب, نجاحًا. إخفاقًا هندًا. "3" ايت بأربعة أمثلة من عندك يكون المفعول فيه محذوفًا بعد الإبهام، في الأول، ولإفادة التعميم "في الثاني" ولتنزيل الفعل المتعدي منزلة اللازم "في الثالث" ولاستهجان التصريح "في الرابع". "4" بين دواعي حذف المعمول، أو تقديمه فيما يأتي: "1" {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . "2" باسمك الله. "3" {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} . "4" إياك أعني. "5" علونا إلى القمة. "6" إبراهيم زرت. "7" بلغني عنك ما يسر. "8" الرئيس رجوت "في جواب من رجوت؟ ". "9" اشتبكت مع أحد الخصوم، فتراشقنا ببذيء الكلام، فقال لي وقلت له. "10" {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ} . "11" {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} . "12" إلى الوالدين شيء. وأنت لا تجهل نعمتهما عليك. "13" توفيقًا حالفت, وخذلانًا نال عدوك. "14" الله الكريم أسأل. "15" سعاد رأيت. جواب التمرين الرابع:

تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق: الله يحيي ويميت، {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} ، الحفاظ قد نبذ الناس، جميلك أتم، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} . أعندي وقد مارست كل خفية ... يصدق واش أو يخيب سائل لو شئت عدت بلاد نجند عودة ... فحللت بين عقيقه وزورده1 تصفحنا إلى الخاتمة. أخاك قابلت "جوابًا لمن سأل من قابلت؟ ". تبادل رجلان هجو الكلام، فقالا حتى أسفا. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} . بالنبي الكريم أتوسل. فوزًا أحرزت، وإلى مكة قصدت ومن زمزم شربت، وعلى الله توكلت. أكفرًا بعد رد الموت علي؟ أحين عسا2 غصني طرحت حبائلي ... إلي فهلا ذاك وهو رطيب

_ 1 العقيق والزورد مكانان. 2 عسا الغصن يعسو ذبل وجف.

القصر

القصر: تعريفه: هو لغة: الحبس، قال تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} أي محبوسات فيها, ومعناه اصطلاحًا: تخصيص شيء بشيء بإحدى طرق القصر الآتية بعد1, والمراد بالشيء الأول "المقصور" وبالشيء الثاني "المقصور عليه", مثاله أن تقول: "ما نجح إلا فؤاد" فهذا التعبير تخصيص شيء هو "النجاح" بشيء هو "فؤاد" بإحدى طرق القصر هو "النفي والاستثناء". في هذا الباب أربعة مباحث: "1" مبحث تقسيم القصر باعتبار غرض المتكلم. "2" مبحث تقسيمه باعتبار حال المقصور. "3" مبحث تقسيمه باعتبار حال المخاطب. "4" مبحث الطرق الخاصة بالقصر.

_ 1 احترز بهذا عن نحو قولهم: محمد صلى الله عليه وسلم مقصور على الرسالة فلا يسمى قصرًا اصطلاحًا، لأنه ليس آتيا من إحدى الطرق المصطلح عليها.

تقسيم القصر

تقسيم القصر: تقسيم القصر باعتبار غرض المتكلم: يقسم القصر باعتبار غرض المتكلم إلى قسمين: حقيقي، وإضافي. فالحقيقي: هو ما اختص فيه المقصور عليه. بحيث لا يتجاوزه إلى غيره بمعنى ثبوته له، وانتفائه عن ذلك الغير حقيقة كان ذلك أو ادعاء. فالأولى: كما في قولك: "ما خطيب في البلد إلا علي" إذا لم يكن في البلد خطيب سواه، فهذا قصر حقيقي إذ إن الغرض تخصيص الخطابة "بعلي" وقصرها عليه، بحيث لا تتعداه إلى غيره في الواقع ومثله قولهم: "ما معبود بحق إلا الله" فإن العبادة بحق مختصة بالله تعالى لا تكون لأحد سواه. والثاني: كما في المثال المتقدم: "ما خطيب في البلد إلا علي" إذا كان ثم خطباء غيره، ولكنهم لم يبلغوا في الخطابة مبلغ "علي" فهذا قصر حقيقي ادعائي أما أنه حقيقي، فلأن الغرض تخصيص الخطابة "بعلي" وقصرها عليه، بحيث لا تتعداه إلى غيره، وأما ما ادعاني، فلام التخصيص فيه ليس واقعيًا إذ الواقع أن هناك خطباء غيره, وإنما هو في ادعاء المتكلم وافتراضه، وأن من عداه من الخطباء في حكم المعدوم لقصورهم فيها، وكان لم يكن ثم خطيب سواه. ومثله قول الشاعر: لا سيف إلا ذو الفقا ... ر ولا فتى إلا علي القصرين في البيت حقيقي ادعائي، فافتراض أن غير "ذي الفقار" من السيوف، وغير "علي" من الفتيان في حكم المعدوم. فالفرق إذا بين القصر الحقيقي حقيقة، والحقيقي ادعاء: أن الأول منظور فيه إلى الحقيقة والواقع، وأن الثاني منظور فيه إلى الادعاء والافتراض يجعل ما عدا المقصور عليه في حكم المعدوم وسمي هذا القصر حقيقيًّا، لأن القصر فيه بالنسبة إلى جمع ما عداه ولو فرضًا. والإضافي: ما اختص فيه المقصور عليه بالنسبة إلى شيء معين, بحيث لا يتعداه إلى ذلك الشيء، ويصح أن يتعداه إلى شيء آخر كما تقول: "ما كاتب إلا محمد" أي لا "علي" مثلا فالغرض تخصيص الكتابة "بمحمد" وقصرها عليه، بحيث لا تتجاوزه إلى "علي" ويصح أن

تكون لغير "علي" لأن الغرض تخصيصها "بمحمد" بالنسبة "لعلي" فقط وسمي هذا القصر إضافيا، لأن القصر فيه بالإضافة إلى شيء معين كما رأيت. تنبيه: يعلم مما تقدم أن القصر الحقيقي الإدعائي، والقصر الإضافة يشتركان في أمر، ويفترقان في آخر يشتركان في أن المقصور فيهما لا يختص بالمقصور عليه في الواقع، بل يوجد فيه وفي غيره كما تقول: "ما كاتب إلا محمد، فإن الكتابة غير مختصة بمحمد في القصرين أما في الحقيقي الادعائي فلأن الغرض فيه: تخصيص الكتابة بمحمد، مع وجودها في غيره، وافتراضها في حكم المعدوم, وأما في الإضافي فلأن الغرض فيه، تخصيص الكتابة "بمحمد" بالنسبة إلى شخص معين كعلي مثلًا، لا بالنسبة لكل من عدا المقصور عليه, ويفترقان في أن الحقيقي الادعائي روعي فيه نفي الحكم عما عدا المقصور عليه، باعتبار أن ما عداه في حكم المعدوم مبالغة وأن الإضافي يراعى فيه نفس الحكم عن شيء معين لا عن كل ما عدا المقصور عليه كما في المثال المذكور فإن الحقيقي الادعائي روعي فيه نفي الكناية عن غير "محمد" من اشتركوا معه فيها، باعتبارهم في حكم المعدول، وأن الإضافي روعي فيه نفي الكتابة عن "علي" فقط، ولم يتعرض فيه لنفي الكتابة عن غير "علي" فوضح ما بين القصرين من اتفاق وافتراق. ا. هـ. تقسيم القصر باعتبار حال المقصور: يقسم القصر "بنوعيه" باعتبار حال المقصور إلى قسمين قصر صفة1 على موصوف، وقصر موصوف على صفة, والفرق بينهما أن الأول يكون بتقديمه الصفة على الموصوف كما تقول: "ما شاعر إلا علي". والثاني يكون بتقديم الموصوف على الصفة كما تقول "ما علي إلا شاعر"2.

_ 1 المراد بالصفة هنا: الصفة المعنوية وهي المعنى القائم بالغير المقابل للذات سواء دل عليه بلفظ النعت النحوي كقائم, أو بغيره كالفعل ونحوه من ظرف أو جار ومجرور مثل: ما يقوم إلا محمد، وما عندي إلا علي، وما في الدار إلا خالد. 2 هذا إذا لم يكن القصر من طريق التقديم فإن كان منه اختلف الحال ففي نحو: "مصري أنا" قصر موصوف على صفة مع تأخير الموصوف، وفي نحو "إياك نعبد" قصر صفة على موصوف مع تأخير الصفة على ما سيأتي.

فمثال قصر الصفة على الموصوف من الحقيقي حقيقة قولك: "لا إله إلا الله" ففيه قصر صفة الألوهية على ذات الله "سبحانه" قصرًا حقيقيًا حقيقة وهو ظاهر، ومثله قولك: "ما خطيب في البلد إلا علي" إذا لم يكن في البلد خطيب سواه, ومثله من الحقيقي ادعاء قولك "ما عادل إلا عمر" ففيه قصر صفة العدالة على "عمر" قصرًا حقيقيًا ادعائيًا لأنها توجد في غيره ولكنها في "عمر" أكمل منها في سائر الأفراد، فاعتبر كأن لم يكن عادل سواه ومثاله من القصر الإضافة قولك: "ما أديب إلا إبراهيم": أي لا أحمد مثلًا، ففيه قصر الأدب على إبراهيم قصرًا إضافيًا، أي بالإضافة إلى "أحمد" فقط. ومثال قصر الموصوف على الصفة قصرًا حقيقيًا قولك: "ما علي إلا تاجر" تريد قصره على صفة التجارة، وأن لا صفة له غيرها، وهذا النوع من القصر لا يكاد يوجد لتعذر الإحاطة بصفات الشيء، حتى يمكن إثبات شيء منها، ونفي ما عداه، وحينئذ فالتعويل في مثل هذا النوع على قصد المبالغة، بمعنى عدم الاعتداد بصفة غير الصفة المقصور عليها، فيكون من قبيل القصر الحقيقي الادعائي, ومثاله من القصر الإضافي قولك: "ما شوقي إلا شاعر" أي إلا خطيب مثلًا، تريد قصره على صفة الشعر، بحيث لا يتجاوزها إلى الخطابة. تقسيم القصر باعتبار حال المخاطب: ينقسم القصر بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام: قصر قلب، قصر أفراد, قصر تعيين. فقصر القلب: ما يخاطب به من يعتقد عكس الحكم الذي أثبته المتكلم, مثاله في قصر الصفة على الموصوف قولك: "ما نابه إلا أحمد" ردًّا على من اعتقد أن النابه محمود لا أحمد, ومثاله في قصر الموصوف على الصفة قولك: "ما علي إلا بطل" ردًا على من اعتقد اتصافه بالجبن، دون البطولة وسمي: قصر قلب لقلب الحكم على المخاطب. وقصر الإفراد: ما يخاطب من يعتقد الشركة, مثاله في قصر الصفة على الموصوف قولك: "ما نبيل إلا فؤاد" ردًا على من اعتقد اشتراك عباس معه في هذه الصفة، ومثاله في قصر الموصوف على الصفة: "ما فؤاد إلا كاتب" ردًا على من اعتقد اتصافه بالكتابة والشعر, وسمي قصر أفراد لقطع الشركة التي اعتقدها المخاطب.

وقصر التعيين: ما يخاطب به المتردد بين شيئين, مثاله في قصر الصفة على الموصوف قولك: "ما ذكي إلا خالد" خطابًا لمن تردد بين ذكائه وذكاء "بكر" ولا يدري أيهما على التعيين, ومثاله في قصر الموصوف على الصفة قولك: "ما فؤاد إلا ناجح" خطابًا لمن تردد بين نجاحه وإخفاقه, وسمي قصر تعيين لتعيين ما هو غير معين عند المخاطب. تنبيهان: الأول: اعلم أن التقسيم إلى القلب، والإفراد، والتعيين خاص بالقصر الإضافي كما يظهر لك من الأمثلة السابقة, وعللوا ذلك: بأن التقسيم المذكور لا يتأتى إجراؤه في القصر الحقيقي حقيقة1. بيان ذلك: أنك إذا قلت مثلًا في قصر الصفة على الموصول قلبًا: "ما كاتب إلا محمد" تريد قصر الكتابة عليه قصرًا حقيقيًا بمعنى إثبات الكتابة له ونفيها عمن عداه كان مقتضى ذلك: أن المخاطب يعتقد العكس أي يعتقد اتصاف جميع الناس بالكتابة دون "محمد" وهذا بعيد جدًا. إذ لا يتصور من السامع العاقل أن يعتقد اتصاف جميع الناس بصفة من الصفات إلا واحدًا منهم لما هو معلوم بداهة من تعذر استقصاء كافة الناس حتى يحكم عليهم بإثبات أو نفي, كذلك إذا قلت في قصر الموصوف على الصفة قلبًا: "ما محمد إلا كاتب" تريد قصره على صفة الكتابة قصرًا حقيقيًّا حقيقة، بمعنى إثبات الكتابة له، دون غيرها من سائر الصفات, كان مقتضى ذلك أن المخاطب قد اعتقد العكس أي اعتقد ثبوت جميع الصفات "لمحمد" إلا الكتابة، وهذا أيضًا غير متأت لما علم بالبداهة: من تعذر الإحاطة بصفات الشيء، حتى يمكن الحكم بثبوت شيء منها ونفي ما عداه, وهكذا يقال في قصري الإفراد والتعيين. اهـ. الثاني: علمت مما تقدم: أن قصر الإفراد هو ما يخاطب به من يعتقد الشركة أي اشتراك شيئين أو أشياء في أمر واحد كما مثلنا سابقًا وحينئذ. يشترط: في قصر الموصوف على الصفة إفرادًا، إلا يتنافى الوصفان ليتأتى اعتقاد المخاطب اشتراكهما في موصوف واحد، فيرد عليه حينئذ بقصر الإفراد أي بأنه متصف بأحد الوصفين دون الآخر، فإذا قلت مثلًا "ما علي إلا شاعر" وجب أن تكون الصفة المراد نفيها: كونه خطيبًا أو كاتبًا، لا كونه مفحمًا، أي لا يقول الشعر إذ الإقحام ينافي الشاعرية فلا يتأتى اعتقاد اجتماعهما في موصوف واحد. ا. هـ.

_ 1 إنما قلنا ذلك لإمكان القصر الحقيقي الادعائي.

اختبار1

اختبار1: 1- عرف القصر لغة واصطلاحًا، ثم بين أجزاء التعريف الاصطلاحي, ووضح ذلك بالمثال. 2- قسم القصر باعتبار غرض المتكلم، وعرف كل قسم، ومثل له، مبينا علة تسمية كل قسم. 3- قسم القصر باعتبار حال المقصور، ومثل لكل قسم، وافرق بين الأقسام. 4- بين سبب تعذر قصر الموصوف على الصفة قصرًا حقيقيًا، مع بيان المراد بالصفة. 5- اذكر الفرق بين الحقيقي والإضافي, ثم افرق بين الحقيقي حقيقة، والحقيقة ادعاء، ثم فرق بين الحقيقي ادعاء والإضافي، مع توضيح كل ذلك بالمثال. 6- اذكر أقسام القصر الإضافي، وعرف كل قسم، ومثل له، مع بيان سبب تسمية كل قسم من هذه الأقسام، ومن أي نوع قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِر} ؟ 7- بين لماذا خص القصر الإضافي بالتقسيم إلى القلب، والإفراد، والتعيين، دون الحقيقي، وضح ذلك بالمثال.

تمرين

تمرين: حول الجملة الآتية إلى ما يناسبها من جمل قصرية، وبين نوع القصر فيها: علي أبين صفاته الزهد. محمد بذ أبناء بلده في الكرم. عرف خالد بالبسالة ولم يعهد فيه الجبن. إبراهيم فاق أخاه في الذكاء. شوقي يجيد الإنشاء دون الإنشاد. محمود فحسب يحترف التجارة. تمرين يطلب جوابه: حول الجمل الآتية إلى ما يناسبها من جمل قصرية، وبين نوع القصر فيها: توفيق سبق أقرانه علمًا. أظهر سمات الجمل الصبر. اشتهر حسان بالشعر ولم يعرف بالإقدام. استأثر امرؤ القيس باستبكاء الديار. ليس للبحتري حكمة المتنبي. شوقي في شعره أبرز منه في نثره.

طرق القصر

طرق القصر: للقصر طرق يتأدى بها، وهي كثيرة1, ولكن المصطلح عليه منها ستة؛ غير أن المبحوث منها في هذا الباب أربعة2 وإليك بيانها: 1- النفي والاستثناء3 والمقصور عليه فيهما هو ما يلي أداة الاستثناء, مثاله في قصر الصفة قصرًا حقيقيًا قولك: "ما شاعر إلا فؤاد" أي لا غير فؤاد، وفي قصر الموصوف قولك: "ما فؤاد إلا شاعر" أي شاعر, أي لا غير شاعر. ومثاله في قصر الصفة قصرًا إضافيًا قولك: "ما شاعر إلا فؤاد" أي لا توفيق, فإن كان الخطاب مع من اعتقد أن الشاعر توفيق لا فؤاد كان قصر "قلب". وإن كان مع من اعتقد أن الشاعر توفيق وفؤاد كان قصر "إفراد" وإن كان مع من تردد بينهما كان قصر "تعيين", وهكذا يقال في قصر الموصوف. 2- إنما: والمقصور عليه فيها هو المؤخر. مثاله في قصر الصفة على الموصوف قصرًا حقيقيًا قولك: "إنما شاعر شوقي" أي لا غير شوقي, وفي قصر الموصوف على الصفة قولك: "إنما شوقي شاعر" أي لا غير شاعر. ومثاله في قصر الصفة قصرًا إضافيًا قولك: "إنما شاعر شوقي" أي لا المنفلوطي، ومثال قصر الموصوف على الصفة قولك: "إنما شوقي شاعر" أي

_ 1 منها التصريح بلفظ "وحده" أو "لا غيره"، أو "فقط" كما تقول زارني محمد وحده، أو لا غير، أو فقط, ومنها التصريح بمادة الاختصاص، أو القصر كما تقول: اختص محمد بالكتابة، أو الشعر مقصور على محمد، فكل هذا ليس من طرق القصر الاصطلاحية. 2 والاثنان الباقيان؛ أحدهما ضمير الفصل نحو: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} ؟ أو المقصور عليه فيه ما بعد الضمير. وثانيهما تعريف ركني الإسناد سواء اختلف طريقا التعريف كما في قوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} أو اتحدا نحو: الأمير القادم علينا, والمقصور عليه في المثال الأول هو المقدم، وفي الثاني هو المؤخر. 3 أي بإلا أو بإحدى أخواتها كغير وسوى.

لا خطيب, وكونه قصر قلب، أو إفراد، أو تعيين منوط بحال المخاطب كما تقدم. ووجه إفادتها معنى القصر: تضمنهما معنى "النفي والاستثناء" فقولك: "إنما شوقي شاعر"، أو "إنما شاعر شوقي" في معنى قولك: ما شوقي إلا شاعر، أو ما شاعر إلا شوقي. وأحسن مواقع "إنما" استعمالا: ما إذا كان المقصد منها التعريض1 كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} أي إنما يتعقل الحق أصحاب العقول. فمن المجزوم به: أن ليس الغرض من هذا الكلام ظاهره؛ وهو حصر تعقل الحق في ذوي العقول؛ لأن هذا أمر معلوم بالبداهة، وإنما هو تعريض بذم الكفار، وأنهم لفرط عنادهم, وغلبة الهوى عليهم في حكم من لا عقل له، وأن من يطمع في أن ينظروا ويتذكروا كمن يطمع في ذلك من غير أولي الألباب، ومثله قوله: أنا لم أرزق محبتها ... إنما للعبد ما رزقا فهذا تعريض بأنه لا مطمع له في وصلها، وأنه بائس من تحقيق ما يرجوه منها، وإلا فكون الرزق منوطًا بصاحبه، لا يكون لغيره أمر معلوم. وإنما كان التعريض أحسن مواقع "إنما"، لأن الحكم الذي شأنها أن تستعمل فيه يكون "في الغالب" معلومًا للمخاطب "كما سيأتي بعد" فلا يكون الغرض إفادته حينئذ، بل يكون المقصود التاريخ به إلى معنى آخر كما تقدم بيانه "في الآية والبيت" وهذا هو معنى التعريض. 3- العطف بلا، أو ببل، أو بلكن. والمقصور عليه في العطف "بلا" هو المقابل لما بعدها، وفي العطف "ببل، ولكن"، هو ما بعدها. مثال العطف "بلا" في قصر الصفة قصرًا حقيقيًا قولك: "زهير شاعر لا غير زهير"، ومثاله في قصر الموصوف: "زهير شاعر لا غير شاعر" والمقصور عليه في الأول، "زهير" وفي الثاني "شاعر"؛ لأن كلا منهما هو المقابل لما بعد "لا".

_ 1 هو الكلام المستعمل في معناه ليلوح به إلى غيره لغرض من الأغراض.

ومثاله في قصر الصفة قصرًا إضافيًا قولك: "زهير شاعر لا سحبان". ومثاله في قصر الموصوف: قولك "زهير شاعر لا خطيب", والمقصور عليه في الأول "زهير" وفي الثاني "شاعر" لأنهما المقابلان لما بعد "لا", ويبدو لك من الأمثلة: أن المدار في كون هذا النوع "من القصر" حقيقيًا أو إضافيًا على المعطوف فإن كان عامًّا "كما في المثالين الأولين" فالقصر حقيقي، وإن كان خاصًّا "كما في المثالين الآخرين" فهو إضافي. ومثال العطف "ببل ولكن في قصر الصفة قولك: "ما عبد الحميد شاعرًا بل بشار، أو لكن بشار", ومثاله في قصر الموصوف قولك: "ما عبد الحميد شاعرًا بل كاتب، أو لكن كاتب", والمقصور عليه في الأول "بشار" وفي الثاني "كاتب"، وهذا التمثيل للإضافي، وأما الحقيقي فيعلم التمثيل به بالمقايسة على ما تقدم, والمدار في كونه حقيقيًا، أو إضافيًا على عموم المعطوف أو خصوصه "كما بينا", وفي كون الإضافي منه قلبًا، أو إفرادًا، أو تعيينًا مناطه حال المخاطبة "كما علمت". "فائدة" إذا كثر النفي في العطف "بلا" قيل: "لا غير"، و"ليس إلا", فتقول في قصر الصفة: "محمد تاجر لا غير" أي لا غير محمد فهو قائم مقام قولك: لا علي ولا أحمد ولا محمود، ولا غيرهم وتقول في قصر الموصوف: "محمد شاعر لا غير" أي لا غير شاعر، فهو قائم مقام قولك: لا فقيه، ولا تاجر، ولا كاتب، ولا غير ذلك. 4- تقديم ما حقه1 التأخير: كتقديم الخبر على المبتدأ2, وتقديم المعمول على العامل, والمقصور عليه في هذا النوع من القصر هو المقدم. مثال الأول من قصر الموصوف قولك: "مصري أنا" أي لا غير مصري إن كان القصر حقيقيًّا أو لا شامي إن كان القصر إضافيًّا, فتقديم الخبر على المبتدأ أفاد قصر الموصوف, وهو "ضمير المتكلم" على الصفة, وهي "المصرية" بحيث لا يتعداها إلى غيرها أصلا "في القصر

_ 1 احترز به عما وجب تقديمه لصدارته كأين ومتى. 2 محل كون تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر ما لم يكن المتبدأ نكرة قدم عليها الخبر كقولهم: في الدار رجل. فمثل هذا لا يفيد حصرًا.

الحقيقي"، أو إلى الشامية "في القصر الإضافي", ومثال الثاني من قصر الصفة قصرًا حقيقيًّا قولك: "إياك نعبد"، أي لا غيرك, فتقديم المفعول على الفعل أفاد قصر الصفة وهي "العبادة" على الموصوف الذي هو "ضمير الخطاب", بحيث لا تتعداه إلى غيره "سبحانه", ولا يخفى اعتبار الإضافي منه قلبًا، أو إفرادًا، أو تعيينًا. اختلاف طرق القصر: هذه الطرق الأربعة -بعد اشتراكها في إفادة القصر- تختلف من عدة وجوه وإليك بيانها. الأول: أن النفي "بلا العاطفة" لا يجامع النفي والاستثناء, فلا يصح أن يقال في قصر الصفة: "ما حكيم إلا المتنبي لا البحتري"، ولا أن يقال في قصر الموصوف: "ما سحبان إلا خطيب لا شاعر"؛ لأن شرط صحة المنفي "بلا" العاطفة: ألا يكون منفيًّا قبلها بغيرها من أدوات النفي, والمنفي "بلا" في المثالين منفي قبلها "بما" فقبح نفيه ثانيًا. ولكنه يجامع "إنما", والتقديم فيقال: إنما "أنا مصري لا عراقي". ويقال: "محمدًا أكرمت لا عليًّا" وإنما صح ذلك فيهما؛ لأن النفي غير مصرح به، فلم يقبح النفي "بلا" حينئذ. الثاني: إن التقديم يفيد الحصر بمفهوم الكلام ومعناه، بمعنى أن صاحب الذوق السليم إذا تأمل في الكلام الذي فيه التقديم المذكور فهم الحصر، وإن لم يعرف أن التقديم- في اصطلاح البلغاء- يفيد الحصر, فقولك: "مصري أنا" يدل بمفهومه ذوقًا على حصر المتكلم في المصرية, أما ما عداه من طرق القصر فدلالته على الحصر بالوضع, "فلا العاطفة" موضوعة للنفي بعد الإثبات، و"بل ولكن" موضوعتان للإثبات بعد النفي، وهذان المعنيان مفيدان للقصر, كذلك الحال في النفي والاستثناء, فإن حرف النفي موضوع للنفي، وحرف الاستثناء موضوع للإخراج من حكم النفي، وهذا المعنى مفيد للقصر, "وإنما" كذلك مفيدة للحصر وضعًا لتضمنها معنى "النفي والاستثناء" كما علمت. الثالث: أن الأصل في القصر "بالعطف"، أن ينص على المثبت والمنفي معًا فإذا قلت في قصر الصفة: "الحجاج خطيب لا الوليد" فقد نصصت على من تثبت له الخطابة وهو "الحجاج"، وعلى من نفيت عنه وهو "الوليد", وإذا قلت في قصر الموصوف: "الحجاج خطيب لا

شاعر "فقد نصصت على المثبت للحجاج وهو "الخطابة"، وعلى المنفي عنه وهو "الشعر" وكذلك الشأن في العطف "ببل ولكن" ولا يترك النص عليهما إلا كراهة الإطناب لغرض ما، كما يقال في قصر الموصوف: "محمد يعرف الكيمياء لا غير" أي لا الطب ولا الهندسة؛ ردًّا على من يقول محمد يعرف الكيمياء والطب والهندسة, وكما يقال في قصر الصفة: "محمد يعرف الطب لا غير" أي لا إبراهيم، ولا خالد، ردًّا على من يقول: محمد يعرف الطب، وإبراهيم، وخالد. أما الطرق الثلاثة الباقية فالأصل فيها النص على المثبت فقط, فتقول في "النفي والاستثناء" في قصر الصفة: "ما أديب إلا محمد" فقد نص على الذي أثبت له الأدب، وهو "محمد" ولم ينص على الذي نفى عنه، وهو "أحمد" مثلًا. وتقول في قصر الموصوف: ما محمد إلا أديب، فقد نص على الذي أثبت وهو "الأدب"، ولم ينص على الذي انتفى وهو "التجارة" مثلًا, وهكذا يقال في "إنما" و"التقديم" فظهر أن الطرق الثلاثة لا ينص فيها إلا على المثبت. الرابع: أن الأصل "في النفي والاستثناء": أن يستعملا في أمر من شأنه أن يجهله المخاطب، وينكره، أو فيما هو منزل هذه المنزلة. مثال الأول: أن ترى شبحًا من بُعْد، فتقول: "ما القادم إلا محمد" لمخاطب ينكر عليك ذلك معتقدًا أنه محمود، لا محمد، فقدوم محمد أمر من شأنه أن يجهله المخاطب، وينكره لبعد الشبح في مرأى العين. ومثال الثاني وهو ما نزل فيه الأمر المعلوم منزلة ما من شأنه أن يجهل، وينكر قوله تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِير} أي لست مكلفًا بغير الإنذار, فكونه عليه الصلاة والسلام منذرًا فقط أمر لا يجهله، ولا ينكره, لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا جيد الحرص على هداية الناس، يكرر الدعوة جاهدًا لمن امتنع عن الإيمان، صادقًا عنه نزل ذلك الأمر المعلوم له منزلة ما من شأنه أن يجهل وينكر" فعبر فيه "بالنفي والاستثناء" على ما هو الأصل فيهما. والأصل في "إنما" على العكس، أي أن تستعمل في أمر من شأنه ألا يجهله المخاطب، ولا ينكره، أو فيما نزل هذه المنزلة. مثال الأول: أن ترى شبحًا من قرب، بحيث يدرك بقليل من التأمل فتقول لآخر: "إنما المقبل ذئب" فمثل هذا الحكم -والحالة هذه- من شأنه ألا يجهله المخاطب ولا ينكره لقرب الشبح في مرأى العين, وكما تقول: "إنما هو صاحبك القديم"، و"إنما هو أخوك" لمن لا يجهل ذلك، ولكنك تريد أن تنبهه إلى ما يجب عليه: من رعاية حرمة الصاحب، وحق الأخوة لترققه،

وتستعطف قلبه -ومثال الثاني- وهو ما نزل فيه الأمر للمجهول منزلة ما من شأنه ألا يجهل قوله تعالى: حكاية عن اليهود: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} , ادعوا: أن إصلاحهم المجهول للمخاطبين، والمنكر لديهم أمر جلي ظاهر، من شأنه ألا يجهله المخاطب، ولا ينكره تنزيلًا للأمر المجهول لهم، المنكر عندهم منزلة المعلوم المعترف به، فعبروا فيه "بإنما" على ما هو الأصل فيها, ومثله قول الشاعر: إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء ادعى الشاعر أن ثبوت هذه الصفة لممدوحه أمر جلي لا يخفى على أحد, كما هو دأب الشعراء إذا مدحوا، فإنهم يدعون الشهرة فيما يصفون به ممدوحيهم. وإنما خص "النفي والاستثناء" بما من شأنه أن يجهل وينكر دون "إنما" لأن القصر من أسباب التأكيد ولما كان النفي صريحًا في "الاستثناء" كان التأكيد أقوى، فكان لموضع الإنكار أنسب. ا. هـ. الخامس: أن "إنما" يعقل منها الحكمان: الإثبات والنفي دفعة واحدة، ويستفادان منها نصًّا من غير توقف على شيء, فإذا قلت مثلا: "إنما خالد كاتب" فقد أثبت له صفة الكتابة، ونفى عنه صفة الشعر مثلا في القصر الإضافي, وهذان الحكمان استفيدا من العبارة المذكورة في آن واحد، ودلت عليهما نصًّا، بلا توقف على شيء آخر وراء ذلك. بخلاف "العطف" نحو: "خالد كاتب لا شاعر" و"ما خالد كاتبًا بل شاعرًا", فإن الذي يعقل أولا في "المثال الأول" ثبوت الكتابة لخالد, ثم نفي الشاعرية عنه, والذي يعقل في المثال الثاني "نفي الكتابة عن خالد", ثم ثبوت الشاعرية له, ولا شك أن تعقل الحكمين معًا أرجح، إذ لا يذهب فيه الوهم إلى عدم الحصر من أول الأمر "كما في العطف". وبخلاف: "التقديم" نحو: "العلوم لزمت" فإنه وإن أفاد الحكمين معًا لكن ليس ذلك نصًّا، بل احتمالا, فإن الاسم المقدم يحتمل أن يكون معمولا للعامل المؤخر، فيكون تقديم المعمول مفيدًا للحكمين معًا, ويحتمل أن يكون معمولًا لعامل آخر قدر تقديمه على المعمول، فلا يفيد الحكمين. وبخلاف "الاستثناء" فإنه -وإن أفاد الحكمين معًا نصًّا- لكن إفادته ذلك موقوفة على المستثنى منه، لأن الاستثناء موضوع للإخراج فلا بد من ملاحظة المخرج منه.

مواقع القصر

مواقع القصر: كما يقع القصر بين المبتدأ والخبر -كما سبق- يقع بين الأشياء الآتية: 1- بين الفعل والفاعل نحو: "ما صدق إلا محمد", والقصر الواقع بينهما من قصر الصفة على الموصوف؛ لأن الفعل من قبيل الأوصاف. 2- بين الفاعل والمفعول نحو "ما لقي عمرو إلا خالدًا" في قصر الفاعل على المفعول، ونحو "ما لقي خالدًا إلا عمرو" في قصر المفعول على الفاعل, وقد علمت أن المقصور عليه "في الاستثناء هو ما بعد "إلا". 3- بين المفعولين نحو: "ما أعطيت الفقير إلا درهمًا" و"ما أعطيت درهمًا إلا الفقير" و"ما علمت محمدًا إلا البيان" و"ما علمت الباين إلا محمدًا، وهكذا"، والقصر الواقع بين هذه المعمولات من قبيل قصر الصفة على الموصوف، أو قصر الموصوف على الصفة, وبيان ذلك مما لا يتسع له المقام. 4- بين سائر المتعلقات كالحال، والتمييز والظرف، والجار والمجرور، وغير ذلك. ففي الحال تقول: "ما جاء محمد إلا راكبا" أو "ما جاء راكبًا إلا محمد" وفي التمييز تقول: "ما طاب محمد إلا نفسًا، وما طاب نفسًا إلا محمد"، وفي الظرف تقول: "ما جلست إلا بين يدي الأمير"، وفي المجرور تقول: "ما مررت إلا بك" وهكذا يكون القصر في كل ذلك حقيقيًّا، وإضافيًّا قلبًا، أو إفرادًا، أو تعيينًا، ولا يخفى اعتبار ذلك. تأخير المقصور عليه أو تقديمه: إذا كان القصر من طريق النفي والاستثناء فالكثير، الغالب أن يؤخر المقصور عليه على المقصور, فإذا أريد قصر المبتدأ على الخبر قيل: "ما محمد إلا كاتب", وإذا أريد العكس قيل: "ما كاتب إلا محمد"، وإذا أريد قصر الفاعل على المفعول قيل: "ما لقي محمد إلا عليًّا، وإذا أريد العكس قيل: "ما لقي عليًّا إلا محمد" ... وهكذا، فالمقصور عليه في هذه المثل جميعها هو المتأخر كما ترى. ويجوز -على قلة- تقديم المقصور عليه بشرط أن تصحبه أداة

الاستثناء، بحيث يكون واليًا لها نحو: ما لقي إلا عليًا محمد "في قصر الفاعل على المفعول" وما "لقي إلا عباس فؤاد" في قصر المفعول على الفاعل, ومنه قول الشاعر: فلم يدر إلا الله ما هيجت لنا ... عشية لاقينا جزامًا وحميرا وإنما جاز تقديمه على قلة بالشرط المذكور؛ لعدم اللبس في المعنى إذ المقصور عليه هو الوالي لأداة الاستثناء قدم، أو أخر. ويمتنع تقديمه إذا فقد الشرط المذكور لما فيه من التباس المعنى وانعكاس المقصود, بيان ذلك: أنك إذا قلت مثلا: "ما أحب محمد إلا عمرًا" تريد قصر الفاعل على المفعول، ثم قدمت المقصور عليه بدون الأداة، فقلت: "ما أحب عمرًا إلا محمد", كان من قبيل قصر المفعول على الفاعل، وهو خلاف المعنى المراد. وإن كان القصر "بإنما" وجب تأخير المقصور عليه, ولا يجوز تقديمه مطلقًا, فإذا أريد قصر المبتدأ على الخبر قيل: "إنما إبراهيم أديب", وإذا أريد العكس قيل: "إنما أديب إبراهيم", وإذا أريد قصر الفاعل على المفعول قيل: "إنما لقي عليٌّ محمودًا", وإذا أريد العكس قيل: "إنما لقي محمودًا علي", فالمقصور عليه في مثل هذه المثل هو المتأخر دائمًا. ويمتنع تقديمه على المقصور؛ لأن في تقديمه إخلالا بالمعنى المقصود، فإذا قلت مثلا: "إنما لقي بكر خالدًا" تريد قصر الفاعل على المفعول، ثم قدمت خالدًا, فقلت: "إنما لقي خالدًا بكر" كان من قصر المفعول على الفاعل، وانعكس المقصود؛ لهذا وجب تأخير المقصور عليه ليكون التأخير إمارة القصر عليه إذ لا دليل عليه سواه.

اختبار: 1- اذكر ما اصطلحوا عليه من طريق القصر, ثم بين المقصور عليه من طريق العطف في مثالين أحدهما لقصر الصفة، والآخر لقصر الموصوف. 2- ما الفرق بين القصر الحقيقي والإضافي من طريق "العطف" وضح ذلك بمثالين أحدهما لقصر الصفة، والآخر لقصر الموصوف.3- بين المقصور عليه في القصر من طريق "النفي والاستثناء" في مثالين أحدهما لقصر الصفة، والآخر لقصر الموصوف, ثم بين مثل ذلك في القصر بإنما. 4- بين المقصور عليه في القصر من طريق التقديم في مثالين: لقصر الصفة تارة، والموصوف أخرى. 5- بين كيف استفيد معنى الحصر من طرق القصر المصطلح عليها، وما الكل في إفادة هذا المعنى سواء؟ اشرح ذلك مع التمثيل. 6- هل هناك فارق بين القصر من طريق العطف، والقصر من طريق غيره، وإذا كان، فما هو؟ مثل لما تقول. 7- وازن بين "النفي والاستثناء" وبين "إنما" بما تعرفه من وجوه الموازنة مع التمثيل. 8- كيف كان التعريض أحسن مواقع "إنما" مثل لما تقول. 9- اذكر مواقع القصر، ومثل لكل بمثال ومثل لكل بمثال: ومن أي قبيل قصر الفعل على الفاعل؟.

اختبار2

اختبار2: 1- اذكر ما اصطلحوا عليه من طريق القصر, ثم بين المقصور عليه من طريق العطف في مثالين أحدهما لقصر الصفة، والآخر لقصر الموصوف. 2- ما الفرق بين القصر الحقيقي والإضافي من طريق "العطف" وضح ذلك بمثالين أحدهما لقصر الصفة، والآخر لقصر الموصوف.3- بين المقصور عليه في القصر من طريق "النفي والاستثناء" في مثالين أحدهما لقصر الصفة، والآخر لقصر الموصوف, ثم بين مثل ذلك في القصر بإنما. 4- بين المقصور عليه في القصر من طريق التقديم في مثالين: لقصر الصفة تارة، والموصوف أخرى. 5- بين كيف استفيد معنى الحصر من طرق القصر المصطلح عليها، وما الكل في إفادة هذا المعنى سواء؟ اشرح ذلك مع التمثيل. 6- هل هناك فارق بين القصر من طريق العطف، والقصر من طريق غيره، وإذا كان، فما هو؟ مثل لما تقول. 7- وازن بين "النفي والاستثناء" وبين "إنما" بما تعرفه من وجوه الموازنة مع التمثيل. 8- كيف كان التعريض أحسن مواقع "إنما" مثل لما تقول. 9- اذكر مواقع القصر، ومثل لكل بمثال ومثل لكل بمثال: ومن أي قبيل قصر الفعل على الفاعل؟.

تمرينات

تمرينات: الأولى: بين موضع القصر فيما يأتي: "1" ما قصد عباس إلا فؤادًا. "2" لم يزرنا إلا إبراهيم. "3" إنما يخشى الله من عباده العلماء. "4" ما منحت الفقير سوى درهم. "5" إنما أعطيت أخي معطفي. "6" إنما خطب علي وهو جالس. "7" طاب توفيق عيشًا لا نفسًا. "8" إنما اشتقت إليك. "9" ما أقمت إلا عندك. "10" إنما راعني محمد جماله. الثاني: بين نوع القصر وطريقه، والمقصور والمقصور عليه فيما يأتي: "1" ما كامل غير الله. "2" ما خاتم النبيين إلا محمد. "3" ما كريم إلا حاتم. "4" {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} . "5" إنما الدنيا كطيف خيال. "6" الدنيا دار ضيافة لا دار إقامة "7" ما أنت صديق بل شقيق. "8" {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} . "9" {لِلَّهِ الْأَمْرُ} . "10" العلم أطلب. "11" إنما الأعمال بالنيات. "12" لا يعلم السر والنجوى سوى الله. "13" إنما يعرف الفضل من الناس ذووه. "14" الدين المعاملة. "15" إنما منحت المجد مكافأة.

جواب التمرين الأول: "1" القصر فيه بين الفاعل والمفعول. "2" القصر فيه بين الفعل والفاعل. "3" القصر فيه بين المفعول والفاعل. "4" القصر فيه بين مفعولي "منح". "5" القصر بين مفعولي "أعطي". "6" القصر بين الحال وصاحبها. "7" القصر بين التمييز والمميز. "8" القصر بين الفعل والمجرور. "9" القصر بين الفعل والظرف. "10" القصر بين البدل والمبدل منه. تمرين يطلب جوابه على نحو ما سبق: إنما ساءني زيد طبعه. ما كسوت سعيدًا إلا جبة. إنما سبق علينا أخوه. ما زارنا سوى إبراهيم. إنما ساء زيد منقلبا. ما خطب أحمد إلا جالسًا. إنما أحب إبراهيم محمودًا. ما فكرت إلا فيك. ما يرعى حق الجوار إلا كريم. لا يحسن الخلة إلا وفي. ما سأل عمرو إلا خالدًا. إنما يعطي القوس باريها.

تمرين يطلب جوابه: بين نوع القصر، وطريقه، والمقصور عليه فيما يأتي: لا فارس إلا علي. ولا شاعر إلا ابن هانئ1. ابن المقفع ناثر لا ناظم. ما أنا حاسب لكن كاتب. لله درك فارسًا. لا إله إلا الله. بك وثقت. إنما تعلم محمد علم المعاني. ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... ولا أسلمها إلا يدا بيد ليس عارًا بأن يقال فقير ... إنما العار أن يقال بخيل إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس ليس اليتيم الذي قد مات والده ... بل اليتيم يتيم العلم والأدب وما نال المنى في الناس إلا ... غبي القوم أو فطن تغابى إنما الدنيا هبات ... وعوار مسردة كأن لم يمت أحد سواك ولم تقم ... على أحد إلا عليك النوائح قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قطر2 الفارس إلا أنا وقيل في الحكم: لا يألف العلم إلا ذكي، ولا يجفوه إلا غبي، إياك أعني واسمعي يا جارة. وما شاب رأسي من سنين تتابعت ... علي ولكن شيبتني الوقائع أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

_ 1 ابن هانئ من فحول شعراء الأندلس وهذان المثالان ينطبق عليهما قول الشاعر: إن تكن فارسًا فكن كعلي ... أو تكن شاعرًا فكن كابن هانئ 2 بتشديد الطاء يريد: القاه على قطره أي جنبه.

الإنشاء

الإنشاء مدخل ... الإنشاء: قلنا فيما سبق: أن الإنشاء قول لا يحتمل صدقًا ولا كذبًا، أي لا ينسب لقائله صدق أو كذب, وقد تقدم بيان ذلك, وهو يطلق بمعنيين: 1- يطلق ويراد به الكلام الذي ليس لنسبته خارج تطابقه، أو لا تطابقه، نحو: "اكتب يا فلان"، فهذا كلام إنشائي إذ ليس لنسبته خارج تطابقه أو لأن مدلول اللفظ لا يحصل إلا بالتلفظ به, كما ترى. 2- يطلق ويراد به: المعنى المصدري، أي فعل المتكلم، وهو إلقاء مثل الكلام المذكور، والتلفظ به. وينقسم باعتبار المعنى إلى قسمين: طلبي، وغير طلبي. فغير الطلبي كصيغ المدح, والذي مثل "نعم وبئس", وكصيغ العقود "كبعت واشتريت", وكالقسم، وفعلي التعجب, وغير ذلك من الصيغ التي لا يراد بها طلب شيء, وهذا القسم لا بحث له في علم المعاني. والطلبي وهو المقصود بالبحث هنا هو ما يستدعي مطلوبًا غير حاصل وقت الطلب ولو في اعتقاد المتكلم؛ لأن طلب الحاصل لا يليق1. والمبحوث فيه هنا من أنواع الطلب خمسة هي: الأمر، النهي, الاستفهام، التمني، النداء.

_ 1 فإذا استعملت صيغ الطلب في مطلوب حاصل عند الطلب امتنع إجراؤها على معانيها الحقيقية كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا} ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} فإن كلا من الإيمان والتقوى حاصل وقت الطلب لهذا امتنع إجراء صيغة الطلب على معناها الذي هو طلب الحصول، وأريد طلب دوام هذا الحصول، والمعنى داوموا على إيمانكم، ودم على تقواك.

مبحث الأمر

مبحث الأمر: الأمر: هو طلب حصول الفعل على جهة الاستعلاء حقيقيًّا كان ذلك الاستعلاء، أو ادعائيًّا, فالأول كقول السيد لعبده: "افعل كذا"، والثاني كقول العبد لسيده: "افعل كذا" متعاظمًا لا متواضعًا. ولصيغة الأمر صور أربع: 1- فعل الأمر, كقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} ، وكقولك: "اعطني كتابك". 2- المضارع المقرون بلام الأمر, كقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِه} ، وكقولك: "ليؤد كل منكم واجبه". 3- اسم فعل الأمر, كقولك لآخر: "صه عن الغيبة والنميمة", أي كف عنهما، ونحو: "حي على الفلاح" أي أقبل على ما فيه الخير والسعادة، ونحو "آمين" بمعنى استجب, فإن مجنون ليلى العامرية. يا رب لا تسلبني حبها أبدا ... ويرحم الله عبدًا قال آمينا 4- المصدر النائب عن فعل الأمر نحو: سعيًا في الخير، ورفقًا بالضعفاء، وصبرًا على البأساء1. المعنى الحقيقي لصيغة الأمر: مدلول الصيغة -على ما ذهب إليه الجمهور- هو الطلب على جهة الوجوب إذ هو المفهوم منها عند الإطلاق, وما عداه من المعاني يحتاج إلى قرائن تحف به، تستفاد من سياق الكلام, وقيل غير ذلك. فورية الأمر وتراخيه: اختلفوا في صيغة الأمر عند تجردها من القرائن, هل تقتضي الامتثال فورًا، أو على التراخي، أو ما هو أعم منهما؟ فالجمهور على أن مدلول صيغة الأمر هو طلب حصول الفعل مطلقًا عن قيد الفورية؟ أو التراخي, فالمأمور يكون ممثلًا للآمر بالإتيان بالفعل المأمور به سواء أتى به فورًا، أو بعد مهلة, ولا يتعين أحدهما إلا بقرينة، وهذا هو الراجح. وقال السكاكي: إن مدلول الأمر، طلب حصول الفعل فور النطق بالصيغة، إذ مقتضى الطبع في كون الشيء مطلوبًا، أن يراد حصوله في

_ 1 هذه المصادر نائبة عن فعل الأمر المحذوف وجوبًا، ولهذا كان المصدر نفسه هو "المسند" لا الفعل المحذوف، والضمير المستتر فيه هو "المسند إليه".

الحال, فإذا قيل: "افعل كذا" كان معناه افعله فورًا, كما هو الشأن في "الاستفهام والنداء", فالأول يقتضي فورية الجواب عن المستفهم عنه، والثاني يقتضي فورية إقبال المنادى, ولا يستفاد المتراخي إلا بقرينة. ا. هـ. تنبيه: كما أن مدلول صيغة الأمر لا يفيد الفورية، ولا التراخي عند خلو المقام عن القرائن -كما قدمنا- كذلك لا يفيد استمرار الفعل، ولا تكراره، فإذا أمر السيد عبده بالقيام مثلًا كان ممتثلًا بمجرد قيامه، ولا يقتضي ذلك أن يستمر قائمًا، أو أن يكرر القيام مرة بعد أخرى، ما لم تقم قرينة على ذلك. ا. هـ. المعاني المجازية لصيغة الأمر: تخرج صيغ الأمر عن معانيها الحقيقية إلى معان آخر مجازية. تفهم من سياق الكلام، وقرائن الأحوال؛ منها: 1- الدعاء: إذا استعملت الصيغة في مقام التضرع نحو {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ} . 2- الالتماس: كقولك لندك سنًا ومقامًا: "اعطني هذا الكتاب". 3- التهديد: إذا استعملت الصيغة في مقام عدم الرضا بالمأمورية كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ، وكقولك: "افعلوا ما بدا لكم", وإنما كان تهديدًا؛ لأن أمرهم بكل عمل شاءوا، أو بكل عمل بدأ لهم ليس مرغوبًا فيه. 4- التعجيز: إذا استعملت الصيغة في مقام إظهار عجز المدعي كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} , وإنما كان تعجيزًا لأن الإتيان بسورة من مثله فوق مقدورهم، ومن التعجيز قول الشاعر: يا لبكر انشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار فالأمر هنا مراد به التعجيز، لأن المقصود به: إعادة الحياة لكليب، وذلك فوق مقدورهم، وخارج عن طوقهم. 5- التسخير: إذا استعملت الصيغة في مقام يكون المأمور فيه منقادًا لما أمر به كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . 6- الإهانة: إذا استعملت الصيغة في مقام عدم الاعتداد بشأن المأمور كقوله تعالى: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} .

7- الإباحة: إذا استعملت الصيغة، حيث توهم المخاطب عدم جواز الإتيان بالشيء كقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فالمراد بهذا الأمر، بيان حكم الأكل والشرب وأنه مباح لا حظر فيه. 8- التسوية بين الشيئين: إذا استعملت الصيغة في مقام توهم المخاطب فيه أرجحية أحد الطرفين المتساويين كقوله تعالى: {اصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} وكقوله تعالى: {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} . 9- التمني: إذا استعملت الصيغة في معنى لا طماعية في حصوله كقول الشاعر الجاهلي: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل فليس الليل مما يوجه إليه أمر أو نهي، وإنما الشاعر يشكو من طول ليله، ويود لو ينبلج الصبح ليتخلص من هموم الليل والألم والسهر. 10- الامتنان: نحو: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ، يريد "سبحانه" أن يمتنّ علينا بما منحنا من نعمه وآلائه. 11- الإكرام: كقوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ} فليس المراد: الأمر بالدخول لحصوله وقتئذ، وإنما الغرض: إظهار إكرامهم وأنهم يستحقون هذا النعيم بما قدموا من خير. 12- الدوام: كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا} فليس المراد: الأمر بالهداية والإيمان لأنهما حاصلان إنما الغرض الدوام عليهما. 13- الإذن: كقولك لمن طرق الباب: "ادخل" تريد الإذن له بالدخول. 14- الإرشاد والاعتبار: فالأول كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} يريد: إرشادنا إلى ما ينبغي، من تدوين ما يجرى بيننا من معاملات تفاديا لما عسى أن يقع من نزاع, والثاني كقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} , فليس المراد: مجرد الأمر بالنظر إلى الثمر، وإنما الغرض: لفت النظر إلى ما في قدرة الله تعالى من إبداع ليعتبروا ... إلى غير ذلك.

مبحث النهي

مبحث النهي: النهي: طلب الكف عن الفعل على جهة الاستعلاء حقيقيًا كان الاستعلاء أو ادعائيًا -كما في الأمر- فالأول كقول السيد لعبده: "لا تفعل كذا", والثاني كقول العبد لسيده: "لا تفعل كذا" متعاظمًا. ولصيغة النهي صورة واحدة هي الفعل المضارع المقرون "بلا الناهية" كقوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} . المعنى الحقيقي لصيغة النهي: هو- على ما ذهب إليه الجمهور- طلب ترك الفعل طلبًا جازمًا وهذا أرجح الأقوال, وقيل: غير ذلك مما لا مجال لذكره. غير أن صيغة النهي تختلف عن صيغة الأمر: من حيث إن صيغة النهي تدل على الفور والاستمرار جزمًا، لأنه "في الغالب" لدفع مفسدة ما لم تقم قرينة على قصد التراخي أو المرة, فإذا قيل لإنسان يتناول الخمر: "لا تشرب الخمر" لا يعد ممتثلا للنهي حتى يكف في الحال، ويستمر كافًّا عنها, فلو استمر يشرب بعد النهي، ثم كف لم يكن ممتثلا لأنه لم يكف فورًا، وإذا كف على الفور، ثم عاد لم يكن ممتثلا أيضًا لأنه لم يستمر على هذا الكف, وإنما تكون الصيغة للتراخي أو المرة بقرينة, فالأول كقول أستاذ لتلميذه: "لا تخرج من الفصل"، فهو لا يريد طبعًا أن يكف الآن عن الخروج، إذ الخروج لم يحصل بعد حتى يكف عنه، إنما يريد أن يكف عندما يهم به, والثاني كقولك لآخر: "لا تتكلم" فأنت "بالبداهة" لا تريد الكف عن الكلام مدى الدهر، إنما تريده في حالة خاصة، وفي وقت معين. المعاني المجازية لصيغة النهي: تخرج صيغة النهي -كما في الأمر- عن معناها الحقيقي إلى معان مجازية تفهم من سياق الكلام؛ منها: الدعاء: إذا استعملت الصغية في مقام التخضع والاستعطاف نحو قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . الالتماس: كقولك لندك: لا تبرح مكانك حتى أعود إليك. التهديد: كقولك لخادمك الخارج عن طاعتك: "ألا تمتثل أمري", وإنما كان تهديدًا للعلم الضروري بأن السيد لا ينهى خادمه عن امتثال

أمره بل الحال بالعكس فكأنه يقول: سترى ما يسوءك لعدم امتثالك. الإرشاد: كقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} يريد بهذا النهي: إرشادهم إلى أنه لا ينبغي التدخل في أمور يسوء وقعها، ولا يسر العلم بها. التيئيس: كقوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} يريد أن لا فائدة في الاعتذار وأنكم في يأس مما تأملون. الدوام: كقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} , وإنما كان الغرض: الدوام للعلم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يظن ذلك بل لم يخطر له ببال. التمني: كما في قول الشاعر: يا ليل طل يا نوم زل ... يا صبح قف لا تطلع والشاهد في "لا تطلع" فليس مستعملًا في معناه الحقيقي إذ لا يوجه إلى الصبح أمر أو نهي, وإنما كان الغرض: التمني، لأنه يسمر مع حبيبه، فهو يود ألا يطلع الصبح، ليطول سمره، واستمتاعه بحبيبه ما شاء له، الهوى, إلى غير ذلك من المعاني.

اختبار- تمرين1

اختبار- تمرين1: 1- اذكر معنى الإنشاء وقسمه، وبين كل قسم، ومثل له. 2- عرف الأمر، وبين الصيغ الدالة على معناه، مع التمثيل. 3- إذا قال إنسان لخادمه: "افعل كذا فمتى يكون ممتثلًا" على رأي الجمهور، وما رأي السكاكي في هذه المسألة؟ 4- عرف النهي وبين مدلوله الحقيقي، ووازن بين صيغته وصيغة الأمر في الدلالة. 5- ايت من إنشائك بأربعة أمثلة "للأمر" أحدها للتهديد، وثانيها للدعاء، وثالثها للتمني، ورابعها للتعجيز، ثم ايت بمثلها للنهي". تمرين: بين ما يراد من صيغ الأمر والنهي في التراكيب الآتية: يا دار عبلة بالجواء تكملي. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} . أسيئي بنا أو أحسني. لا تعاد الناس في أوطانهم. {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} لا تبرم أمرًا حتى تبحثه. {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} . لا يطمعنك سكوتي عنك. {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} . {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} . اتخذ لنفسك سلمًا في الجو. صديقي لا يكن في صدرك حرج. أعيني جودا ولا تجمدا. لا تقم بأداء الواجب. أربا بنفسك أن ترعي مع الهمل. لا ترحل أيها الشباب. أقم معنا على الرحب والسعة، لا تنه عن خلق وتأتي مثله. خذ ما أعددته لك. لا تشمت بي الأعداء، اصطد العنقاء. لا تحتجب أيها القمر.

جواب التمرين:

تمرين يقاس على ما سبق: لا تطع أمري. استعد لما أنت لاقيه مني أيها المغرور. لا تنته عن غيك. بأسماء أقلعي. لا تحسبن سرورًا دائمًا أبدًا. عش ما شئت فإنك ميت. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} . لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله. استقم أو لا تستقم. لا تلتمس من عيوب الناس ما ستروا. إن كان كبر عليك فوات الغرض فتصعد في السماء. لا تكن قئولا غير فعول. فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي إن دهرك هازل قولك لزميل لك: لا تتوان عن تحصيل دروسك. لا تعبث في الصلاة. قوله صلى الله عليه وسلم: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

مبحث الاستفهام

مبحث الاستفهام: الاستفهام "لغة": طلب الفهم, "واصطلاحًا": طلب العلم بشيء بواسطة أداة من أدواته, وهي إحدى عشرة: الهمزة، هل, ما، من, متى، أيان، أين، كيف، أنى، كم، أي. وهذه الأدوات على ثلاثة أقسام: 1- ما يطلب به التصور تارة، والتصديق أخرى، وهو "الهمزة". 2- ما يطلب به التصديق فحسب، وهو "هل". 3- ما يطلب به التصور فقط، وهو بقية أدوات الاستفهام. وإليك تفصيل الكلام فيها على هذا الترتيب. الهمزة ولها حالتان: الحالة الأولى: أن يطلب بها: تصور المفرد كإدراك المسند إليه وحده أو المسند وحده, تقول في طلب إدراك المسند إليه: "أمحمد مسافر أم محمود؟ ", إذا كنت تعرف أن أحدهما مسافر، ولكنك لا تعرفه بعينه، فأنت تريد بالسؤال تعيينه وتصوره، فتجاب حينئذ بأنه "محمود" مثلًا. وتقول في طلب تصور المسند: "أعلي شاعر أم كاتب" إذا كنت تعرف أن أحد الوصفين ثابت "لعلي" ولكنك لا تعرفه على التعيين، فأنت تطلب بالسؤال تعيينه، فتجاب بأنه "كاتب" مثلًا.

والمسئول عنه بهذه الهمزة1 هو ما يليها سواء أكان مسندًا إليه أم مسندًا أو شيئًا من المتعلقات كالمفعول، والظرف، والمجرور، والحال، ونحو ذلك فمثال ما ولى فيه "المسند إليه" الهمزة قولك: "أأنت أنشأت هذه القصيدة؟ ", إذا كنت تعلم بوقوع الفعل وهو "الإنشاء" ولكنك لا تدري فاعله أهو المخاطب أم غيره، وتريد بالسؤال تعيينه, ومثله "أعلي بنى هذه الدار؟ ", "أمحمد أقام هذه المصنع؟ ", "أإبراهيم خاط هذه القباء؟ ", فالمسئول عنه في هذه المثل هو "المسند إليه" إذ هو الذي ولي الهمزة. ومثال ما ولي فيه "المسند" الهمزة قولك: "أأكرمت محمودًا"؟ إذا كنت تعلم أن فعلا من المخاطب تعلق "بمحمود"، ولكنك لا تدري أهو إكرام أم إهانة؟ وتريد بالسؤال تعيينه ومثال ما وليها "المفعول" قولك "أأياي قصدت؟ " إذا كنت تعلم بوقوع القصد من المخاطب، وتجهل عين المقصود وتريد بالسؤال تعيينه. ومثال ما وليها "الظرف" قولك: "أيوم الجمعة قدمت؟ " إذا علمت بحصول القدوم، وجهلت زمنه, وقولك: "أعندكم أقام فلان؟ ", إذا علمت بحصول الإقامة، وجهلت مكانها, ومثال ما وليها الحال قولك: "أراكبا جئت؟ " ومثال ما وليها المجرور قولك: "أفي المسجد صليت؟ ". وهكذا فالمسئول عنه في هذه المثل وأشباهها هو ما ولي الهمزة كما رأيت. تنبيهان: الأول: يجوز أن يذكر بعد "همزة التصور"، وبعد حرف "أم" لفظ يناسب ما يليها أي مناسبة. ويسمي "معادلا" كما تقول في الأمثلة السابقة: "أأكرمت محمودًا أم أهنته"؟ فلفظ "أهنت" معادل "لأكرمت" وهما متناسبان من حيث التضاد, وتقول: "أأياي قصدت أم أخي؟ " فلفظ "أخي" معادل "لإياي" وهما متناسبان من حيث أن كلا مفعول "قصدت", وتقول: "أيوم الجمعة قدمت أم يوم الخميس؟ " فلفظ يوم الخميس معادل ليوم الجمعة، وهما متناسبان من حيث الظرفية, وتقول: "أراكبا جئت أم ماشيا" فلفظ "ماشيا" معادل "لراكبا" وهما متناسبان من حيث إن كلا حال مضادة لأخرى, وتقول: "أفي المسجد صليت أم في البيت؟ " فلفظ "البيت" معادل للمسجد من حيث أن كلا ظرف مكان للصلاة ... وهكذا, ويجوز حذفه كما تقدمت أمثلته. وتسمى "أم" هذه "متصلة" وهي لتعيين أحد المعادلين، بعد العلم بثبوت أصل الحكم.

_ 1 وهي التي لطلب القصور.

الثاني: محل وجوب إيلاء المسئول عنه الهمزة إذا لم تقم قرينة تدل عليه، فإن قامت عليه قرينة جاز تأخيره كما إذا أتى في الكلام بمعادل -على ما بيناه في التنبيه السابق- نحو: "أأكرمت محمودًا أم أحمد"؟ فإن ذكر المعادل وهو "أحمد" قرينة أن المسئول عنه المفعول لا الفعل، ونحو: "أليلة الخميس بكرت في نومك أم سهرت؟ " "أعندك قام محمد أم علي؟ " "أفي الحفل شعرت أم خطبت؟ " "أماشيًا جاء محمد أم محمود؟ "، "أأنت أنشأت هذه القصيدة أم رويتها؟ " وهكذا فالمسئول عنه في هذه المثل هو ما ولي الهمزة بقرينة، ذكر المعادل "كما رأيت". ا. هـ. الحالة الثانية: أن يطلب بالهمزة: التصديق بنسبة بين شيئين -ثبوتًا أو نفيًا- فالمسئول عنه بها هو نسبة يتردد العقل بين ثوبتها ونفيها، أي بين أن تكون محققة خارجًا أو غير محققة ويكثر حينئذ دخولها على الجملة الفعلية نحو: "أقدم صديقك؟ " فأنت لا تريد السؤال عن ذات القدوم ولا عن ذات "الصديق", وإنما تسأل عن نسبة القدوم إليه هل هي محققة في الخارج أو لا؟ ويقل دخولها على الجملة الاسمية نحو: "أعلي مسافر؟ " تسأل عن نسبة السفر إليه هل هي حاصلة أم غير حاصلة؟ ويجاب: "بنعم" أو "بلا" في الموضعين, وهذه الهمزة لا يتأتى فيها، أن يليها المسئول عنه لأنه "النسبة" وليس لها لفظ خاص يلي الهمزة. "فائدة" إذا ولي الهمزة الفعل كما في نحو: "أأكرمت محمودًا؟ " احتمل ظاهره: أن تكون الهمزة لطلب تصور الفعل أهو إكرام أم إهانة؟ واحتمل أن تكون لطلب التصديق بنسبة الإكرام إلى المخاطب هل هي محققة في الخارج أم لا؟ , ويكون تعيين أحد الاحتمالين بالقرينة كأن يذكر المعادل لما ولي الهمزة, فإن كان المعادل هو النقيض كانت الهمزة لطلب التصديق كما تقول في المثال المذكور: "أأكرمت محمودًا أم لم تكرمه"، وإن كان المعادل غير النقيض كانت الهمزة لطلب القصور كما تقول في هذا المثال: "أأكرمت محمودًا أم أهنته"؟ وعلى هذا فقس. هل ولها صفتان: الأول: اختصاصها بطالب التصديق بنسبة بين شيئين ثبوتًا، أو نفيًا، أي طلب إدراك وقوعها، أو عدم وقوعها كما في الحالة الثانية "للهمزة" وتدخل على الجملتين الفعلية والاسمية نحو: "هل قدم أخوك"؟ وهل أخوك قادم؟ تريد السؤال عن نسبة القدوم إلى الأخ، هل هي حاصلة في الواقع أم غير حاصلة؟ ويجاب "بنعم" أو "لا".

ولاختصاص "هل" بطلب التصديق يمتنع استعمالها في صورة، ويقبح في أخرى, كما تراه فيما يلي: فيمتنع في مثل قولك: "هل قدم محمد أم علي"، من كل تركيب يذكر في المعادل, ووجه المنع: هو أن ذكر المعادل يفيد بحسب السليقة العربية والذوق البلاغي: أن السائل عالم، ومصدق بأصل الحكم، وهو "القدوم" في هذا المثال، وإنما يسأل فقط عن الفاعل أهو محمد أم علي؟ , و"هل" تفيد: أن السائل جاهل بأصل الحكم لأنها لطلب التصديق به، فيؤدي الجمع بينهما في تركيب واحد إلى التناقض. ويقبح استعمالها في مثل قولك: "هل عمرا قابلت"، و"هل بناديك نزل"، و"هل راكبًا أتى إليك"، و"هل عندك أقام" ونحو ذلك: من كل تركيب يتقدم فيه المعمول على العامل, ووجه القبح: هو أن تقديم المعمول على العامل -كما في الأمثلة- يفيد "غالبًا": تخصيص العامل بالمعمول كما تقدم في باب القصر, فقولنا: "عمرًا قابلت" مثلًا يفيد اختصاص عمرو بهذه المقابلة دون سواه، وإذا فالقائل: "هل عمرًا قابلت؟ " مصدق بوقوع المقابلة من الفعل، وإنما يسأل فقط عمن اختص بهذه المقابلة دون غيره -أهو عمرو أم غير عمرو- وحينئذ فتقديم المعمول على عامله يقتضي: التصديق بأصل الحكم، و"هل" لطلب التصديق بأصل الحكم فيؤدي ذلك إلى طلب حصول الحاصل، وهذا ضرب من العبث، ينبغي أن يصان عنه كلام البليغ. وإنما قبح ذلك ولم يمتنع كسابقه، مع أن علة القبح تقتضي المنع، لاحتمال أن يكون تقديم المعمول لغير التخصيص كالاهتمام بالمقدم مثلا، فلا يقتضي تقديمه حينئذ: التصديق بأصل الحكم، فلا يؤدي إلى هذا العبث. الصفة الثانية شبهها "بالسين وسوف" في تخليصها المضارع للاستقبال وضعًا، بعد أن كان محتملا له وللحال, ولهذا لا يصح أن يستفهم بها عن الفعل الواقع في الحال, فلا يقال: "هل تصدق" في جواب من قال: "أحبك" إذ يريد هل تصدق الآن في قولك؟ فهو يستفهم عن اتصافه بالصدق في الحال ووجه عدم الصحة: أن "هل" للاستقبال "كما ذكرنا" والفعل الواقع بعدها هنا حالي, وهما معنيان متدافعان بخلاف الهمزة فإنه يصح فيها ذلك، لأنها ليست مخصصة للمضارع بالاستقبال، فيصح أن يقال في المثال السابق: "أتصدق؟ " ولا ضمير فيه.

ولأجل اختصاص "هل" بطلب التصديق، وتخليصها المضارع للاستقبال اختصت بدخولها على الفعل لفظًا أو تقديرًا, تقول في الأول: "هل يعود أبوك من سفره"؟ وتقول في الثاني: "هل أبوك يعود من سفره"؟ على تقدير رفع "أبوك" في المثال الثاني على الفاعلية لفعل محذوف يفسره المذكور. فإن عدل بها عن الجملة الفعلية إلى الاسمية كان ذلك لنكتة بلاغية أن يجعل ما سيوجد كأنه حاصل موجود اهتمامًا بشأنه، ودلالة على شدة المرغبة فيه نحو: "هل علي مجتهد؟ " والأصل: أن يقال: هل يجتهد علي؟ بمعنى: هل سيحصل اجتهاد من "علي" فيما بعد, غير أنه لما كان الاجتهاد منه مرغوبًا فيه جد الرغبة مطلوبا أشد الطلب أبرز في صورة الحاصل الآن كما هي عادة الإنسان إذا اشتدت رغبته في شيء مستقبل الوقوع تخيله واقعًا؛ لهذا عبر بالجملة الاسمية؛ لأنها أدل على طلب حصول الاجتهاد لدلالتها على الثبوت القائم. ومن هنا كان قوله تعالى: {هَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُون} الذي عدل فيه عن الجملة الفعلية إلى الاسمية أدل على طلب حصول الشكر من العباد مما لو قيل: "فهل تشكرون؟ "، أو "أفأنتم شاكرون؟ ". أما وجه الأدلية "في الأول" فلأن "هل" عشيقة الفعل، لا ترضى به بديلا، فإذا أبعد عنها، وأتى بالجملة الاسمية في مكانه كان ذلك دليلا على كمال العناية بمدلول هذه الجملة لأنها -كما ذكرنا- أدل على طلب حصول المقصود لدلالتها على حصول قائم بخلاف الفعلية1 فإنها إنما تدل على حصول سيأتي. وأما وجه الأدلية "في الثاني" فلأن "هل" أشد ارتباطًا بالفعل من الهمزة، فانفكاكه عنها أشد عسرًا من انفكاكه عن الهمزة لفرط تعلق "هل" به، فيكون ذلك أدل على شدة الاهتمام بمدلول الجملة الاسمية لهذا كان قوله تعالى: {هَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} ؟ أدل على طلب حصول الشكر مما لو قيل: "أفأنتم شاكرون؟ "، مع اتحاد نوعي الجملة فيهما, ولذلك لا يحسن أن يقال: "هل أنت شاكر"؟ إلا من البليغ، لأنه

_ 1 أي المضارعية لأن الحديث فيها.

هو الذي يراعي النكات البلاغية في عباراته أما صدور مثل هذا القول من غير البليغ فقبيح، لأنه استعمال اللفظ في غير موضعه، عن جهل بمرامي الكلام ولطائفه. و"هل" نوعان: بسيطة، ومركبة: فالبسيطة هي التي يستفهم بها عن وجود الشيء في نفسه، أو عدم وجوده على معنى تحققه في الخارج، أو عدم تحققه فيه، بحيث يكون لفظ الوجود، أو عدم الوجود، أو ما في معناهما1 محمولًا على مدخولها كقولك: "هل العنقاء موجودة؟ " أو "هل هي غير موجودة؟ " أي هل هي ثابتة في الخارج متحققة فيه، أو غير متحققة فيه؟ بأن كانت أمرًا اعتباريًا وهميًا. ومعنى كونها بسيطة: أن المذكور فيها شيء واحد غير لفظ "الوجود". أو ما في معناه "كالعنقاء" في المثال المذكور، و"كمحمد" في نحو قولك: "هل محمد موجود؟ "، و"كالكرم" في قولك: "هل الكرم متحقق؟ "فالمذكور في الكلام غير لفظ الوجود أو التحقق، هو "العنقاء" في المثال السابق ومحمد في المثال الثاني والكرم في المثال الثالث. والمركبة: هي التي يستفهم بها عن وجود شيء لشيء، أو عدم وجوده له، بمعنى ثبوته له، أو عدم ثبوته كقولك: "هل الشمس طالعة؟ "، أو "هل هي غير طالعة" أو "هل علي كريم" أو "هل هو غير كريم؟ " فليس الغرض: الاستفهام عن وجود "الشمس" في ذاتها، أو عن وجود "علي" في نفسه, كما في "هل" البسيطة، إنما الغرض، الاستفهام عن ثبوت شيء لهما, هو "الطلوع" للشمس، و"الكرم" لعلي. ومعنى كونها مركبة: أن المذكور فيها شيئان غير لفظ "الوجود أو ما في معناه"، وهذان الشيئان هما "المسند والمسند إليه" "كالشمس والطلوع" في المثال الأول، و"علي والكرم" في المثال الثاني, إلى هنا ينتهي الحديث عن "الهمزة، وهل".

_ 1 كالثبوت والحصول والتحقق ونحو ذلك.

أما باقي أدوات الاستفهام المذكورة فلطلب التصور فحسب غير أنها تختلف: من جهة أن المطلوب بكل منها تصور شيء غير المطلوب تصوره بأداة أخرى وإليك الحديث عنها. ما: ويستفهم بها عن غير العاقل وهي نوعان: 1- ما يطلب به إيضاح الاسم وشرحه كأن تسمع لفظًا لا تعرف معناه، فتقول، ما هو؟ طالبًا أن يبين لك مدلوله اللغوي كقولك: "ما المسجد" أي ما مدلوله اللغوي، فتجاب بلفظ أشهر، فيقال "ذهب"، وكقولك: "ما الغضنفر؟ " فتجاب: "أشد" وهكذا: 2- ما يطلب به، ماهية المسمى وحقيقته كما يقال: "ما الإنسان؟ أي ما حقيقة مسمى هذا اللفظ، فيجاب: "حيوان ناطق" وما الشمس؟ أي ماهيتها: فيجاب: "كوكب نهاري" وهكذا. ويقع السؤال "بهل" البسيطة بين السؤال "بما" التي لشرح الاسم، و"ما" التي لطلب الماهية والحقيقة تمشيًا مع ما يقتضيه المنطق والطبع, فإن من يجهل معنى "البشر" مثلًا يسأل أولًا "بما" التي لشرح الاسم عن مدلوله اللغوي، فيقول: "ما هو؟ " فيجاب: "إنسان"، ثم يسأل ثانية "بهل" البسيطة عن وجوده، فيقول: "هل هو موجود"؟ فيجاب "نعم" مثلًا ثم يسأل ثالثًا "بما" التي لطلب الماهية والحقيقة، فيقال: "ما حقيقته؟ " فيجاب: "حيوان ناطق", وهكذا. من ويسأل بها عن العاقل كما يقال: "من بنى الأهرام؟ " "من فتح مصر؟ " فيجاب باسمه الخاص، فيقال في الأول "خوفو"، وفي الثاني: "عمرو بن العاص", وقد يجاب بوصفه المعين له كما يقال: "من في الدار؟ " فيجاب "الرجل الطويل الذي أنشدك قصيدة أمس", وخرج الوصف غير المعين نحو: تاجر، أو كاتب أو غير ذلك من الأوصاف المشتركة بين كثيرين، فلا يصح أن يقع جواب السؤال "بمن". متى: ويسأل بها عن الزمان ماضيًا كان أو مستقبلًا تقول: "متى قدمت؟ " فتجاب: "أمس"، وتقول: "متى تسافر؟ " فتجاب: "بعد أسبوع أو بعد شهر".

أيان: ويسأل بها عن الزمان المستقبل خاصة, فيقال: "أيان يثمر هذا الشجر؟ " فيجاب: بعد شهرين، أو ثلاثة، أو بعد سنة. وقد تستعمل في مواضع التفخيم والتهويل كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة} فإن الغرض: تفخيم هذا اليوم, وجواب هذا السؤال " {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . أين: ويسأل بها عن المكان، فيقال: "أين بيتك" و"أين تذهب" و"أين قضيت يومك؟ " فيجاب عن كل هذا بأسماء الأماكن. كيف: ويسأل بها عن الحال, فيقال: "كيف صحتك"، أي على أي حالة هي، فيجاب: جيدة أو معتدلة, ويقال: "كيف وجدت صاحبك؟ " أي على أية حال وجدته، فيجاب: وجدته صحيحًا، أو مريضًا، أو مسرورًا أو حزينًا, ويقال: "كيف أتى إليك فلان" أي على أي حال أتى إليك، فيجاب أتى ماشيًا، أو راكبًا ... وهكذا. أنى: ولها استعمالان: أحدهما أن تكون بمعنى "كيف" كما في قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} ، وكقوله تعالى: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} ؟ على معنى كيف في المثالين, ويجب -والحالة هذه- أن يليها الفعل "كما مثلنا" بخلاف "كيف" فلا يجب فيها ذلك كما تقدم في أمثلتها. ثانيهما: أن تكون بمعنى: "من أين" كما في قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} ؟ على معنى: "من أين لك هذا الرزق"؟ بدليل قولها: "هو من عند الله", وقد تأتي بمعنى "متى" كما في قولك: "أني يفيض هذا النيل" أي متى يفيض؟ كم: ويسأل بها عن العدد المبهم كما في قوله تعالى: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} ؟ ويقال: "كم كتابًا عندك؟ " فيجاب: كذا من الأعداد. أي ويطلب بها، تعيين واحد مما أضيفت إليه كما في قوله تعالى: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} ؟، و"أي الحزبين أحصى"؟ و {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ؟ ويجاب في كل هذا بتعيين واحد من المضاف إليه, وهي بحسب ما تضاف إليه, فتكون للزمان، أو المكان إذا أضيفت إليهما، وتكون للحال، أو العدد كذلك وتضاف إلى العاقل، وإلى غيره، فيقال: "أي الأيام

قدمت"، و"أي الأماكن نزلت"، و"على أي الأحوال كنت"، "وأي الرجال بني الأهرام" "وفي أي الكتب تقرأ". استعمال هذه الأدوات في غير معناها الحقيقي: تخرج هذه الأدوات عن معناها الحقيقي إلى معان مجازية، تفهم من سياق الكلام بواسطة القرائن, منها: 1- الأمر: كما في قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ؟ على معنى: انتهوا. 2- النهي: كما في قوله تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} ؟ بمعنى: لا تخشوهم فالله هو الجدير بالخشية منه. 3- النفي: كما في قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ، على معنى ما جزاء الإحسان إلا الإحسان. 4- التشويق: كما في قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ؟ يريد: أن يشوقهم إلى تجارة رابحة هي العمل بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. 5- التعجب: كما في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} ، فالغرض، التعجب من هذه الحال في الرسول. 6- التنبيه على ضلال: نحو: {أَيْنَ تَذْهَبُونَ} ؟ فليس الغرض: الاستفهام عن مكان الذهاب، بل المراد: تنبيههم على أنهم ضالون، وأن لا مفر لهم من عذاب الله، فهو لاحق بهم حيثما كانوا. 7- التمني: كما في قوله تعالى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} ؟ فليس الغرض: الاستفهام عن وجود شفعاء لهم إذ هم يعتقدون أن لا شفيع، ولكنهم يتمنون لو يكون لهم شفعاء يشفعون لهم. 8- التهكم والاستهزاء: كما في قوله تعالى: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} ؟ فليس الاستفهام هنا محمولا على معناه الحقيقي، إنما المقصود السخرية والاستهزاء به. 9- الاستبطاء: كقولك لمن دعوته فأبطأ في الإجابة: "كم دعوتك"؟ فليس المراد: الاستفهام عن عدد الدعوة، إنما الغرض: إظهار أنه تلكأ في الإجابة، فلم يسارع.

10- الاستبعاد: كقوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} ؟ فليس الغرض: السؤال عن الذكرى لاستحالته من الله العالم بخفايا الأمور، إنما المراد: استبعاد تذكرهم بدليل قوله: {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} فكأنه يقول من أين لهم التذكر والاعتبار والرجوع إلى الحق، وقد جاءهم رسول واضح الحجة، فأعرضوا عنه؟ 11- التحقير: كقولك لآخر: "من أنت"؟ استخفافًا به وازدراء. 12- التكثير: كقوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ} ؟ فليس المراد: السؤال من عدد الآيات، وهو الذي لا تخفى عليه خافية، إنما الغرض: بيان أن ما أوتي إليهم من الآيات البينات كثير العدد، أي وهم -مع ذلك- يكابرون عنادًا. 13- التعظيم: كما في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ؟ يراد تعظيمه "سبحانه"، وأن الأمن في الشفاعة مرجعه إليه, ومنوط بإذنه وإرادته. 14- التسوية: كما في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي إنذارهم وعدمه سيان، فهم -في الحالين- معرضون. 15- التقرير: أي حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ؟ فحمل الاستفهام على حقيقته ممنوع بداهة؛ لأنه قول الله تعالى، وإنما هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف, ومثله قوله تعالى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} ؟ 16- الإنكار: كقولك لمن يتعاطى الخمر: "أتشرب الخمر؟ ", أو لمن يسرق: "أتسرق؟ ", فليس الاستفهام محمولًا على حقيقته إذ لا معنى للسؤال عن شيء مشاهد، إنما الغرض. الإنكار على الفاعل فعله, ويسمى الاستفهام حينئذ إنكاريًا, ولا يخرج أمره عن معنيين: التوبيخ، والتكذيب. فالتوبيخ إما على أمر وقع فيما مضى، بمعنى "ما كان ينبغي"، أو على أمر خيف وقوعه في المستقبل، بمعنى: "لا ينبغي أن يكون", فالأول كقولك لمن ارتكب جرمًا: "أعصيت ربك؟ " أي ما كان ينبغي لقد أن تعصيه, والثاني كقولك لمن يعتزم ارتكاب محظور: "أتعصي ربك؟ " أي لا ينبغي أن يصدر منك عصيان, ومن هذا قول الشاعر:

"أفوق البدر يوضع لي مهاد؟ " أي لا ينبغي ذلك، مدعيًا: أنه أعلى مرتبة، وأسمى مكانة من البدر, فالاستفهام في كل هذا يراد به الإنكار على المخاطب فعله، وتوبيخه عليه. والتكذيب: إما في أمر مضى بمعنى: "لم يكن" أو سيأتي بمعنى: "لن يكون", فالأول كقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} ؟ أي لم يكن هذا الإصفاء، وهذا الاتخاد، بل أنتم مفرتون على الله كذبًا فيما تدعون، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا فالمراد هنا: تكذيبهم في دعواهم, والثاني كقوله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي أنكرهكم على قبول الحجة: وأنتم كارهون لها. يعني لن يكون هذا الإلزام والإكراه, بل الذي أنا منوط به، الإعلام لا الإلزام, فالاستفهام في "الآيتين" يراد به الإنكار على المخاطب، وتكذيبه فيما زعم ... إلى غير ذلك من المعاني التي لم يرد فيها: الاستفهام الحقيقي.

اختبار- تمرين2

اختبار- تمرين2: "1" عرف الاستفهام، واذكر أدواته، وبين ما يختص منها بالتصور، وما يختص بالتصديق، وما يشترك بينها، مع التمثيل لما تقول. "2" ما المسئول عنه بالهمزة التي للتصور؟ وماذا يراد بها في مثل قولك: "أقابلت صاحبك"؟ من كل ما ولي الفعل فيه الهمزة، وما المسئول عنه في نحو قولك: "ألقيت محمودًا أم خالدًا؟ ". "3" ما المسئول عنه بهمزة التصديق؟ وهل يشترط فيه إيلاؤه هذه الهمزة كما في همزة التصور؟ وجه لما تقول. "4" بين وجه امتناع أن يقال: "هل زارك علي أم أخوه"؟ وما وجه قبح أن يقال: "هل محمدًا قابلت؟ " ولم لم تمتنع هذه الصورة كسابقتها؟ "5" يقولون: إن "هل" كالسين وسوف: تمحض المضارع للاستقبال, فماذا يترتب على ذلك؟ علل لما تقول مع التمثيل. "6" ما وجه اختصاص "هل" بالجملة الفعلية؟ وما هي النكتة في العدول بها عن الفعلية إلى الاسمية في نحو قولك: "هل أنت صادق؟ " اشرح ذلك بوفاء.

"7" أي العبارتين أدل على طلب الصدق؛ أقولك: "فهل أنت صادق؟ ", أم قولك: "أفأنت صادق؟ ". وضح ما تقول مع التوجيه. "8" قسم "هل"، وعرف كل قسم، ومثل له، مع بيان علة تسميتها بالبسيطة "تارة"، وبالمركبة "أخرى". "9" ايت بمثال من عندك فيه الهمزة للتصديق, ثم حولها إلى همزة تصور في المثال عينه، ثم مثل للهمزة المراد بها تصور المفعول لأجله، وما المراد تصوره في قولك: "أجد قال أم هزل؟ ". "10" بين ما يطلب تصوره "بما"، ثم بين مرتبة "هل" البسيطة بالنسبة "لما"، مثل لما تقول شارحًا إياه. "11" اذكر أربعة من المعاني التي خرج فيها الاستفهام عن معناه الحقيقي، مع التمثيل، ثم بين المراد بالاستفهام في قول الشاعر: أتطلب صاحبًا لا عيب فيه ... وأي الناس ليس له عيوب تمرين: بين المعاني المستفادة من الاستفهام فيما يأتي: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} ؟ هل الحياة إلا ظل زائل؟ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} ؟ أتصون يدك عن الأذى؟ أتغضب والديك؟ هل تسمع قولا فيه إصلاحك؟ من ذا الذي بنى الأهرام؟ أهذا الذي كنت تركن إليه؟ أأنت الذي نال الجائزة أم يوسف؟ {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} ؟ أنى لكم هذا المال وقد أهلككم الفقر؟ قال النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب إلام أنت لاه ولاعب؟ ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟ {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى} ؟ متى يستقيم الظل والعود أعوج؟ أتركن للعدل؟ وهل سمعت بظل غير متنقل؟ أتلهو؟ وأيامنا تذهب؟ أأديت واجبك؟ هل تستوي الظلمات والنور؟ أبعد شيبي يبغي مني الأرب؟ أتكذب علينا؟ هل يعود الشباب؟

جواب التمرين:

تمرين يقاس على ما سبق: بين المعاني المستفادة من الاستفهام فيما يأتي: {هَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} ؟ أعقوقا بعد إذ طوقت عنقي بمعروفك؟ أتسود بلا مشقة أو عمل؟ {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ؟ من علمك؟ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} ؟ أألبس هجر القول من لو هجرته ... إذًا لهجاني عنه معروفة عندي {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} ؟ هل يشرح المعلم الدرس؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} ؟ {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} ؟ {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ؟ {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} ؟ {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} ؟ أين المفزع من أمر الله؟ أأرى الصنيعة منك ثم أسرها ... إني إذًا ليد الكريم لسارق من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط هل الدهر إلا ساعة ثم تنقضي ... بما كان فيها من بلاء ومن خفض متى يبلغ البنيان يومًا تمامه ... إذ كنت تبنيه وغيرك يهدم وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم ... إذا كانت الأخلاق غير حسان إلام وفيم تنقلنا ركاب ... ونأمل أن يكون لنا أوان بالله لفظك هذا سال من عسل ... أم قد صببت على أفواهنا العسلا

مبحث التمني

مبحث التمني: هو طلب الشيء المحبوب الذي لا يرجى حصوله, أما لكونه مستحيلا، أو لأنه بعيد الحصول، فالأول كما في قول الشاعر: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي والثاني كقول أحد السوقة: "ليتني وزير". فإن كان ذلك الشيء مترقب الحصول قريبه كان طلبه ترجيًا، ويعبر فيه حينئذ بألفاظ الترجي "كلعل وعسى" كقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ

بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} وقوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} , ولا بحث لنا فيه؛ لأنه ليس من أقسام الطلب, إذ هو عبارة عن تقرب حصول الشيء محبوبًا كان أو مكروهًا, والمكروه لا يطلب حصوله. صيغة التمني: للتمني صيغ أربع: أحداها أصلية فيه، والثلاث الباقية غير أصلية, وإليك بيانها: "1" ليت: وهي الأداة الموضوعة لأجل التمني أصالة، وقد تقدمت أمثلتها فلا داعي لذكرها. "2" هل: ويتمنى بها، فتعطي حكم "ليت"، وينصب المضارع بعدها على إضمار "أن" كما في قوله تعالى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} ؟ على معنى: ليس لنا شفعاء, ونكتة التمني بها: إبراز المتمني الذي لا طماعية في حصوله في صورة المستفهم عنه، الممكن الوجود، المطموع في حصوله إظهارًا لكمال العناية به، وشدة الرغبة فيه, وإنما لم تحمل على معناها الحقيقي, "وهو الاستفهام" للعلم بأن لا شفعاء لهم، ولا شفاعة. "3" لو: ويتمنى بها، فتعطي أيضًا حكم "ليت"، وينصب في جوابها المضارع على إضمار "أن" كسابقها كما في قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وكما في قولنا: "لو تأتينا فتحدثنا" على معنى: "ليت لنا كرة، وليتك تأتينا" ونكتة التمني بها: إبراز المتمني للإشعار بعزته في صورة الممتنع إذ إن "لو" -في الأصل- حرف امتناع لامتناع, ولم تحمل على معناها الحقيقي "وهو الشرطية" لنصب الفعل بعدها. "4" لعل: ويتمنى بها، فتعطي كذلك حكم "ليت"، وينصب المضارع بعدها على إضمار "أن" كما سبق لأختيها كقوله تعالى حكاية عن فرعون موسى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} على معنى ليتنى أبلغ الأسباب، ومنه قول الشاعر: أسرب القطا هل من يعير جناحه ... لعلي إلى من قد هويت أطير على معنى: ليتني أطير, ولم تحمل على معناها الحقيقي الذي هو "الرجاء" لاستحالة بلوغ الأسباب في الأول، والطيران في الثاني, ونكتة التمني بها: إبراز المتمني البعيد الحصول في صورة القريب المترقب حصوله إشعارًا بكمال العناية به، والشوق إليه.

تنبيهان: الأول: كما تستعمل "لعل" في مقام التمني لنكتة إبراز البعيد الحصول في صورة القريب المتوقع حصوله, تستعمل "ليت" في مقام الترجي لنكتة إبراز المرتقب حصوله في صولة البعيد الحصول "عكس الأول" كما في قول الشاعر: فيا ليت ما بيني وبين أحبتي ... من البعد ما بيني وبين المصائب يقول: إنه مبتلى بأمرين بعد الأحبة عنه: وقرب المصائب منه. فهو يرجو لو تبتعد عنه المصائب ابتعاد الأحبة, وهذا المرجو كما يبدو مترقب الحصول, ولكن لما كان بعيد المنال "في زعمه" وأنه أمر لا طماعية فيه، ولا أمل في الوصول إليه عبر فيه "بليت" تنزيلا للمترجي القريب الحصول منزلة المتمني البعيد الحصول. الثاني: اعلم أن "هل" قد يزاد عليها حرف "لا"، فيقال: "هلا" بالتشديد, وقد تقلب الهاء همزة، فيقال: "ألا", كذلك "لو" قد يضم حرف "لا" أو "ما" فيقال: "لولا ولوما", وبهذا يتكون حروف أربعة، تصلح للتمني بها، هدى, هلا، وألا، ولولا, ولوما؛ وإنما ركبت "هل ولو" هذا التركيب ليزول احتمال معنى الاستفهام في هل ومعنى الشرط في لو ويتعين معنى "التمنى", فإذا دخلت أحداهما على الفعل الماضي حينئذ أفادت معنى "التنديم" أي جعل المخاطب نادمًا وإن دخلت على المضارع أفادت معنى "التحضيض والحث" أي حض المخاطب وحثه على الفعل, تقول في الأول: "هلا سافرت" أو "لولا سافرت"، على معنى: "هلا تخلص في عملك"، أو "لو ما" تصدق في قولك: على معنى: ليتك تخلص أو ليتك تصدق، تريد حضه على الإخلاص أو الصدق. ا. هـ.

مبحث النداء

مبحث النداء: هو طلب المتكلم إقبال المخاطب عليه بحرف ناب مناب أدعو" لفظنا كقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} ، أو تقديرًا كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} . صيغ النداء: للنداء صيغ ثمان هي: الهمزة، أي، يا، آ، آي، أيا، هيا، وا، وهي في الاستعمال قسمان: الأول: الهمزة وأي, وهما موضوعتان لنداء القريب. الثاني: باقي الأدوات, وهي موضوعة لنداء البعيد. وقد ينزل البعيد منزلة القريب، فينادى "بالهمزة وأي" تنبيها على أنه في القلب حاضر، ولا يغيب عن الحاضر كما في قول الشاعر: أسكان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكمو في ربع قلبي سكان1 وقد يعكس فينزل القريب منزلة البعيد، فينادى بأدوات البعيد لغرض من الأغراض منها: 1- الإشعار بأن المنادى رفيع القدر، عظيم الشأن، فينزل بعد المنزلة منزلة بعد المكان كما في قولك: "يا الله" وكقول العبد لسيده، وهو في حضرته: "يا مولاي". 2- الإشارة إلى أن المنادى وضيع المنزلة، منحط المكانة، فكأنه بعيد عن ساحة عز الحضور كما في قولك: "من أنت يا هذا؟ " لمن هو بين يديك. 3- الإشارة إلى أن السامع غافل لذهول، أو نوم، أو نحو ذلك، فيعتبر كأنه غير حاضر في مجلس الخطاب كقولك للساهي: "أيا فلان", إلى غير ذلك. استعمال الصيغة في غير معناها الحقيقي: تخرج صيغة النداء عن معناها الأصلي الذي هو "طلب الإقبال" إلى معان أخر مجازية، تفهم من القرائن أشهرها: الإغراء, وهو الحث على التزام الشيء، والتمسك به كقولك لمن أقبل يتظلم: "يا مظلوم"، فليس الغرض منه، حقيقة النداء الذي هو طلب الإقبال؛ لأن الإقبال حاصل، فلا معنى لطلبه، إنما المراد: إغراء المخاطب، وحثه على زيادة التظلم، وبث الشكوى، بقرينة الحال. الاختصاص: هو هنا تخصيص الشيء من بين أمثاله بما نسب إليه كأن يقول إنسان: "أنا أكرم الضيف أيها الرجل" و"أنا أيها البطل أكشف الكروب" يريد في الأول أن يقول: أنا مختص من بين الرجال بإكرام الضيف, وفي الثاني يريد: أنا مختص من بين سائر الأبطال بكشف الكروب, والاختصاص على صور ثلاث:

_ 1 نعمان الأراك: اسم مكان، والربع: المنزل.

"أ" أن يكون على صورة المنادى، إلا أنه لا يجوز فيه إظهار حرف النداء إذ لم يبق فيه معنى النداء أصلًا كما مثلنا -وكما في قولك: "علي أيها الكريم يعتمد" أي أنا مختص من بين سائر الكرام بالاعتماد علي. "ب" أن يكون معرفًا "بأل" كقولهم: "نحن العرب أسخى الناس"، و"نحن الليبيين ننشد الحرية، ونأبى الضيم". 3- أن يكون معرفًا بالإضافة كقولهم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" أو نحن "أبناء طرابلس" لا نرضى به بديلا. 4- أن يكون معرفًا بالعلمية، وهو نادر الوقوع كقول الراجز العربي: بنا "تميم" يكشف الضباب. فليس الغرض من النداء في هذه الصور: حقيقة الإقبال إذ ليس المراد "بالاسم الظاهر" في هذه المثل: المخاطب، بل المراد: المتكلم نفسه، وهو لا يطلب إقبال نفسه, لهذا حمل على معنى الاختصاص معونة المقام, كأن يكون الكلام في معرض الفخر والمباهاة كما في الأمثلة السابقة, أو في معرض التواضع والمسكنة كما في قولك: "أنا أيها العبد فقير إلى عفو ربي". وقد يكون الحامل عليه: مجرد بيان الغرض من الضمير كقولهم: "اللهم اغفر لنا أيتها العصابة". الاستغاثة والندبة: فالأول نحو: "يا لله للمسلمين", والثاني نحو "واحسيناه" فمن الجلي أن ليس المراد حقيقة النداء، إنما الغرض: الاستغاثة بالمخاطب في الأول، والبكاء عليه في الثاني. التحسر والتحزن: كما في نداء القبور، والأطلال، والمنازل الدارسة كقول الشاعر يرثي معن بن زائدة: أيا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا وكقول آخر: أيا منزلي سلمي سلام عليكما ... هل الأزمن اللاتي مضين رواجع فليس المراد حقيقة النداء كما هو ظاهر إذ ليست هذه الأشياء مما ينادى بها ويطلب إقباله، وإنما الغرض التحسر والتفجع لفقدان الأحبة، وذهاب أيامهم، وما كانوا فيه من مجد وعز وحول وطول.

الزوجر والملامة: كما في قول الشاعر: أفؤادي متى المتاب ألما ... تصح والشيب فوق رأسي ألما1 يزجر الشاعر نفسه، ويلومها على تماديها في غيهة وضلالها، وقد وخطه الشيب، وهو نذير الفناء أي فكان ينبغي أن يرعوي عن غيه، ولا يتمادى في ضلاله. التعجب: كما في قول الشاعر: يا لك من قمبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضى واصفرى إلى غير ذلك مما لا يراد منه حقيقة النداء.

_ 1 ألما بمعنى نزل والألف للإطلاق.

اختبار- تمرين3

اختبار- تمرين3: "1" عرف التمني، ومثل له، وافرق بينه وبين الترجي، وهل الترجي من أقسام الطلب؟ ولما؟ مثل لما تقول. "2" اذكر أدوات التمني، ثم بيِّن معنى "هل" في قوله تعالى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} ؟ وما هي النكتة في استعمال أداة الاستفهام في التمني. "3" بين السبب في استعمال "لو" في معنى التمني في قول المعسر: "لو أن لي مالا فأصدق منه على الفقراء والمحتاجين". "4" بين سر استعمال "لعل" في معنى التمني في قول ذي الفاقة: "لعل لي قنطارًا من ذهب". "5" قال رجل: "ليت الدهر يصفو لي" فما وجه التعبير "بليت"، في حين أن صفاء الزمان ليس مما يستبعد حصوله. "6" عرف النداء: ومثل له، وقسم صيغه باعتبار استعمالها، مع بيان ما تعرف: من دواعي استعمال صيغة المنادى البعيد في القريب. "7" هات مثالين خرجت فيهما صيغة النداء عن معناها الحقيقي، مع بيان علة خروجها عن المعنى.

"8" ما المقصود بالنداء في قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} , وفي قول الشاعر: "أيا منازل سلمى أين سلماك". "9" هات مثالًا من إنشائك في مقام التمني مستعملًا فيه "لعل"، وبين فيه نكتة الاستعمال. تمرين: بين المعاني المستفادة من الجمل الآتية، مع بيان السر في عدم حملها على المعاني الحقيقية. "1" هل إلى مرد من سبيل؟ "2" لو تسالمني الأيام فأتقي شرها. "3" لعلي أرى طيفك في المنام. "4" إسكان العقيق كفى فارقًا. "5" يا مهيض الجناح. "6" نحن "المصريي" من سلالة الفراعنة. "7" يا لك مزبطل. "8" لو تتلو الآيات فتشق سمعي. "9" صاح شمر ولا تزال ذاكر ... الموت فنسيانه ضلال مبين "10" يا لقومي ويا لأمثال قومي ... لأناس عقوهم في ازدياد "11" أيها القلب قد قضيت مراما ... كأنك لم تجزع على ابن طريف "12" أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف "13" يا ليلة لست أنسى طيبها أبدا ... كأن كل سرور حاضر فيها جواب التمرين:

تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق: لعل لي ضياعًا واسعة وجاها عريضًا، يا مسلوب الحق، نحن معشر العرب لا نرضى الهوان، يا لله من ظلم الإنسان، وافضيلتاه، يا له من برهان ساطع، يا قلب متى ترعوي عن غيك؟ لو يولد لي ولد صالح فيدعو لي. ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسدونه يا ناق سيري فقط أفنت أناتك بي ... صبري وعمري وأحلاسي وأنساعي1

_ 1 "أحلاس" جمع حلس بكسر الحاء وهو كساء يوضع على ظهر البعير تحت البردعة و"الأتساع" جمع تسع بكسر النون سير من جلد يشد به الرحل, والمعنى أسرعي أيتها الناقة فقد نفذ الصبر والعمر، وبلي ما عليك من رحل لطول زمن الركوب, فهو يشكو من بطء ناقته، ويتضجر من طول الركوب.

الفصل والوصل

الفصل والوصل مدخل ... الفصل والوصل: الوصل: عطف جملة فأكثر على أخرى، والفصل: ترك هذا العطف والبحث هنا مقصور على العطف بالواو لا غير، إذ هي التي يقع فيها الاشتباه لأنها لمطلق الجمع، ولمجرد تشريك ما بعدها لما قبلها في إعرابه، فلا بد فيها إذا من معنى جامع بين المتعاطفين يصحح العطف, وهذا المعنى لا يوفق إليه إلا من أوتي حظا من حسن الذوق، ورزق قريحة وقادة، لهذا كانت هذه "الواو" محك رجال هذا الفن، ومقياس أقدارهم فيه، حتى قصر بعض العلماء "البلاغة" على معرفة "الفصل والوصل" بخلاف غيرها من حروف العطف فلا بحث لهم فيه إذ لا يقع فيه اشتباه؛ لأن كل حرف من هذه الحروف يفيد -مع التشريك في الإعراب- معنى آخر كالترتيب مع التعقيب في "الفاء"، ومع التراخي في "ثم"، وكالتخيير والإباحة في "أو", وهكذا سائر الحروف العاطفة، فإذا تحقق هذا المعنى حسن العطف، وإن لم توجد جهة جامعة بين المتعاطفين, ولكل من الفصل والوصل مواضع خاصة وهاك بيانها:

مواضع الفصل والوصل

مواضع الفصل والوصل: الأول: أن يكون بين الجملتين "كمال انقطاع"، بحيث لا يصح الربط بينهما لكن ذلك مشروط بألا يكون في الفصل إيهام خلاف المراد كما سيأتي بيانه بعد, وإنما وجب الفصل في هذه الحالة لأن العطف بالواو يقتضي المناسبة بين الجملتين، ولا مناسبة فيما بينهما كمال انقطاع. الثاني: أن يكون بين الجملتين "كمال اتصال"، بحيث لا يصح التغاير بينهما, وإنما وجب الفصل في هذه الحالة؛ لأن العطف بالواو يقتضي المغايرة بين الجملتين، ولا مغايرة فيما بينهما كمال اتصال. الثالث: أن يكون بين الجملتين "شبه كمال انقطاع". الرابع: أن يكون بين الجملتين "شبه كمال اتصال", وإنما وجب الفصل في هاتين الحالتين لما ذكر في الحالتين الأوليين لأن شبه الشيء يأخذ حكمه. الخامس: أن يكون بين الجملتين "توسط بين كمال الانقطاع وكمال الاتصال" مع قيام المانع من الوصل, وإليك تفصيل القول في المواضع الخمسة على الترتيب المذكور: أما كمال الانقطاع بين الجملتين "بالشرط المتقدم"، فيتحقق في صورتين: الأولى: أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاء بأن تكون أحداهما خبرًا لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، وتكون الأخرى إنشاء لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، فالمدار في الاختلاف على المعنى1. فمثال اختلافهما لفظًا ومعنى "والأولى هي الإنشاء" قول الشاعر: لا تسأل عن المرء عن خلائقه ... وجهه شاهد من الخبر فصلت الجملة الثانية عن الأولى لاختلافهما خبرا وإنشاء في اللفظ والمعنى كما ترى, ومثله قول الشاعر:

_ 1 فإن اختلفا لفظًا فقط وجب الوصول نحو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} عطف على قوله: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} لأنه بمعنى النهي أي "لا تعبدوا".

وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فحتف كل امرئ يجري بمقدار1 يقول: أقيموا في هذا المكان نقاتل العدو، ولا تحجموا عن قتاله خشية الموت، فلكل إنسان أجل محدود ينتهي إليه، فلا الإقدام يدنيه, ولا الإحجام يقصيه, والشاهد في قوله "أرسوا نزاولها" حيث فصل بين الجملتين لاختلافهما خبرًا وإنشاء كما ترى. ومثال اختلافهما لفظا ومعنى "والأولى هي الخبر" عكس ما تقدم قولك: "ضل زيد السبيل، اهده يا عمرو". ومثال اختلافهما معنى "وهما في اللفظ خبران" قولهم: "سافر محمد، بلغه الله مناه" فالثانية -وإن كانت خبرًا في اللفظ- هي في المعنى إنشاء للدعاء، على معنى: اللهم بلغه مناه. ومثال اختلافهما معنى "وهما في اللفظ إنشاءان" قولك عند ذكر من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم: "ليتبوأ مقعده من النار، لا تصاحبه أيها الصديق". فالأولى -وإن كانت إنشاء في اللفظ- هي في المعنى خبر. في المعنى خبر على معنى: يتبوأ مقعده. ومثله أن تقول: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ؟ اتق الله أيها العبد", فالأولى خبرية معنى على معنى: الله كاف، وإن كانت في اللفظ إنشاء. الصورة الثانية: أن تتفق الجملتان خبرًا وإنشاء، ولكن لا تناسب بينهما في المعنى، أو في السياق, فالأولى: نحو أن تقول لآخر: "خرجت من داري، أبدع ما قيل من الشعر كذا", فتفضل الثانية عن الأولى لعدم المناسبة بين الخروج من الدار وإبداع ما قيل من الشعر، مع اتفاقهما في الخبرية لفظًا ومعنى, والثاني: نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} , بعد قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الآية، لم يعطف قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ... إلخ على قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} ... إلخ, مع ما بينهما من مناسبة في المعنى بالتضاد: من حيث إن الأول مبين لحال المؤمنين، والثاني مبين

_ 1 الرائد في الأصل من يتقدم القوم لطلب الماء أو الكلأ, والمراد هنا الشجاع "المقدام" و"أرسوا" أقيموا و"نزاولها" بالرفع: نحاولها ونعالجها والضمير للحرب و"الحتف" الهلاك و"المقدار" قضاء الله.

لحال الكفار؛ لأن بيان حال المؤمنين غير مقصود بالذات، وإنما ذكر بطريق التبع لبيان حال الكتاب، في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ، وليس بين حال الكتاب، وحال الكفار مناسبة ظاهرة، تقتضي الوصل. واعلم أن المانع من العطف في هاتين الصورتين ذاتي، لا يمكن دفعه أصلا، وهو كون الجملتين لا تناسب بينهما كما أوضحناه لك فيما تقدم. وأما كمال الاتصال بين الجملتين: فيتحقق في أن تتحد الجملتان اتحادًا تامًّا، بحيث تنزل الثانية من الأولى منزلة نفسها، وذلك في صور ثلاث: الصورة الأولى: أن تكون الجملة الثانية مؤكدة للأولى تأكيدًا لفظيًّا، أو معنويًّا. فالتأكيد اللفظي: أن يكون مضمون الجملة الثانية هو مضمون الجملة الأولى لدفع توهم الغلط أو السهو في الجملة الأولى كما في قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} , فصل بين الجملتين؛ لأن الثانية بمثابة التأكيد اللفظي من الأولى وهو ظاهر. والتأكيد المعنوي: أن يختلف مفهوما الجملتين، ولكن يلزم من تقرر معنى إحداهما: تقرر معنى الأخرى لدفع توهم التجوز في الجملة الأولى كقوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} فصل بين الجملتين؛ لأن الثانية من الأولى بمنزلة التأكيد المعنوي لاختلاف مفهومي الجملتين؛ ولأن مضمون الثانية منهما مقرر لمضمون الأولى, ذلك أنه إذا كان ملكًا لم يكن بشرًا، فإثبات ملكيته تحقيق وتأكيد لنفي بشريته. الصورة الثانية: أن تكون الجملة الثانية بدلا من الأولى, بأن يكون في الأولى قصور، أو خفاء في وفائها بالمراد، وتكون الثانية أوفى به منها، والمقام يقتضي اعتناء بشأنه. والبدل -كما هو معلوم- أنواع ثلاثة: بدل بعض، وبدل اشتمال, وبدل كل بناء على اعتباره في الجمل. فمثال بدل البعض قوله تعالى: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} فصل بين الجملتين؛ لأن الثانية من الأولى بمثابة بدل البعض لقصور الأولى عن وفائها بالمراد, ذلك أن المراد: التنبيه على نعم الله "سبحانه"، والمقام يقتضي اهتمامًا بشأن هذا التنبيه، لأنه إيقاظ للغافلين من سنة غفلتهم عن نعم الله تعالى, وليس من شك: أن الجملة الثانية أوفى بتأدية هذا المراد لدلالتها على نعم الله تفصيلا

بخلاف الجملة الأولى، فإن في وفائها بهذا المراد قصورًا لدلالتها عليه إجمالا, وإنما كانت الجملة الثانية بمثابة بدل البعض من الأولى؛ لأن ما ذكر في الجملة الثانية من النعم الأربع بعض ما يعلمون، فهي على وزان "وجهه" من قولك: "أعجبني محمد وجهه". ومثال بدل الاشتمال قوله تعالى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} , فصلت الثانية عن الأولى إذ أبدلت منها بدل اشتمال؛ لأنها أبين وأوفى من الأولى في تأدية المعنى المقصود, وهو حمل المخاطبين على اتباع الرسل، إذ مفادها: أنهم لا يخسرون معهم شيئًا عن دنياهم بل يربحون صحة دينهم، فينتظم لهم خيري الدنيا والآخرة, وإنما كانت الثانية بدل اشتمال؛ لأن اتباع الرسل يتضمن اتباعًا موسومًا بالهداية والسعادة, وهو مضمون الجملة الثانية، فوزانها حينئذ وزان "علمه" من قولك: "أعجبني محمد علمه", ومثله قول الشاعر: أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما يقول: إنك لم تخلص في صحبتنا، وإن ظاهرك وباطنك على طرفي نقيض، فارحل إذًا، ولا تقم بيننا، وإلا فكن على ما ينبغي أن يكون عليه الرجل المسلم: من طهارة وصفاء في سره وعلنه, والشاهد في قوله "ارحل لا تقيمن" حيث أبدلت الجملة الثانية من الأولى بدل اشتمال إذ هي أوفى منها في تأدية المراد الذي هو "إظهار كمال الكراهية في إقامته"؛ لأنها تدل عليه دلالة صريحة، مع تأكيدها بالنون, وإنما كان البدل اشتمالا؛ لأن الارتحال يتضمن عدم الإقامة. ومثال بدل الكل قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ؟ أبدلت جملة "قالوا" الثانية من جملة "قالوا" الأولى بدل كل، لأن الثانية أوفى من الأولى من حيث إنها مفصلة للمقول، فوزانها وزان "أخوك" من قولك: "زارني محمد أخوك"، وإنما كان بدل كل؛ لأن الجملتين بمعنى واحد، والاختلاف بينهما إنما هو بالإجمال والتفصيل. ومثله قولهم: "فلان جمع بين أمرين: بين طهارة السريرة وحسن السيرة". وقولهم: "قنعنا بالأسودين, قنعنا بالماء والتمر". وقولهم في امراة تزني وتتصدق توبيخًا لها: "لا تجمعي بين الأمرين, لا تزني ولا تتصدقي", ومن لم يعتد ببدل الكل من الجمل يجعل كل هذه الأمثلة من تمييز التوكيد، أو من قبيل عطف البيان الآتي بعد.

الصورة الثالثة: أن تكون الجملة الثانية بيانًا للأولى لخفائها، والمقام يقتضي إزالة هذا الخفاء، كقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} فصلت جملة {قَالَ يَا آَدَمُ} عن جملة {فَوَسْوَسَ} ؛ لأنها موضحة لها، بمثابة عطف البيان منها لخفائها إذ لم تتبين تلك الوسوسة. فوزان {قَالَ يَا آَدَمُ} وزان "عمر" من قولهم: "أقسم بالله أبو حفص عمر". وكالآية الكريمة الأمثلة المتقدمة في بدل الكل عند من لم يعتد به في الجمل. وأما شبه كمال الانقطاع: فيتحقق في أن يكون عطف الثانية على الأولى موهمًا بعطفها على غيرها, وهو غير مقصود لما في العطف على هذا الغير من خلل في المعنى ذلك يكون في جملة مسبوقة بجملتين، يصح عطفها على أحدهما للوجوه المناسبة، ولا يصح عطفها على الأخرى لفساد المعنى، فيترك العطف حينئذ دفعًا لتوهم أنها معطوفة على هذه الأخرى. مثاله قول الشاعر: وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم لم يعطف جملة "أراها" على "تظن" لئلا يدور في خلد السامع أنها معطوفة على "أبغي" لقربها منها، فتكون من مظنونات "سلمى"، ويصير المعنى حينئذ: أن سلمى تظن: أنني أبغي بها بدلا، وتظن أيضًا: أنني أراها تهيم في الضلال، وليس هذا مراده أن يقول: إن "سلمى" أخطأت في زعمها أنني أبغي بها بدلًا, بدليل قوله بعد هذا البيت أو قبله: زعمت هواك عفا الغداة كما عفا ... عنها طلال باللوى ورسوم وشبه هذا بكمال الانقطاع لاشتماله على مانع من العطف "كما بينا" وإنما لم يكن من كمال الانقطاع، لأن المانع ليس من ذات الجملتين، بل خارج عنهما، يمكن دفعه بنصب قرينة على المراد. وأما شبه كمال الاتصال: فيتحقق في أن تكون الجملة الثانية جوابًا لسؤال نشأ عن الجملة الأولى، فتفصل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال, ويسمى الفصل "استئنافًا", وتسمى الجملة الثانية "مستأنفة", والسؤال الناشئ عن الجملة الأولى يكون عن واحد من ثلاثة.

الأول: عن سبب عام للحكم الذي تضمنته الجملة الأولى، بمعنى أن السائل يجهل السبب من أصله كما في قول الشاعر: قال لي كيف أنت قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل فالجملة الأولى هي قوله: "عليل" إذ التقدير: "أنا عليل"، وقد فصلت عنها جملة "سهر دائم ... إلخ"؛ لأنها وقعت جوابًا لسؤال ناشئ عن الجملة الأولى، وكان المخاطب حين سمع قوله: "عليل" تساءل: ما سبب علتك؟ فأجاب سهر دائم، وحزب طويل, ومثله قول الشاعر: جزى الله الشدائد كل خير ... عرفت بها عدوى من صديقي فصل بين الجملتين؛ لأن الثانية في موقع الجواب عن سؤال ناشئ عن الجملة الأولى, وكأن سائلا قال: لم دعوت للشدائد بالخير على غير المألوف, فأجاب: عرفت بها ... إلخ. الثاني: عن سبب خاص للحكم الذي دلت عليه الجملة الأولى؛ أهو حاصل أم غير حاصل؟ كما في قولك: "إني لأتهم نفسي إن النفس نزاعة إلى الشر" فصلت الثانية لوقوعها جوابًا لسؤال نشأ عن الجملة الأولى, وكان سائلا سأل: لم تتهم نفسك ألأنها مطبوعة على حب الشر؟ أم لسبب آخر؟ فأجاب: إن النفس نزاعة إلى الشر، منطبعة على طلب ما لا ينبغي, ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} . وهذا النوع من السؤال يقتضي تأييد الحكم الذي تضمنته الجملة الثانية؛ لأن السائل -كما عرفت- في حكم المتردد في حصوله، وقد تقدم في مبحث الإسناد الخبري أن المتردد يؤكد له الخبر استحسانًا. الثالث -عن غيرهما- أي لا عن سبب عام ولا خاص، ولكن عن شيء آخر له تعلق بالجملة الأولى كما في قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} فصلت جملة: {قَالَ سَلَامٌ} عن جملة: {فَقَالُوا سَلَامًا} ؛ لأن الثانية جواب عن سؤال ناشئ عن الأولى, وكأن سائلًا سأل: فماذا قال إبراهيم عليه السلام ردًّا لتحيتهم؟ فأجاب: "قال: سلام", ومثله قول الشاعر: زعم العواذل أنني في غمرة ... صدقوا ولكن غمرتي لا تفجلي

يقول: قد اتهمني العذال, فزعموا: أنني في كرب وشدة، مما ينتاب القلب من لوعة الهوى، وقد صدقوا فيما زعموا, غير أن ما أنا فيه من شدة لا مطمع لي في زواله. والشاهد فيه: فصل جملة "صدقوا" عن جملة "زعم العواذل"؛ لأن الثانية جواب عن سؤال ناشئ عن الأولى, ذلك أن مساق الكلام: في بث الشكوى من جماعة العذال، وهذا مما يحرك السامع لأنْ يسأل: أصدقوا في هذا الزعم أم كذبوا؟ فأجاب: صدقوا, والسؤال في هذين المثالين لا عن سبب عام ولا خاص إذ إن قول إبراهيم عليه السلام ليس سببًا لسلام الملائكة لا عامًّا ولا خاصًّا, كما أن صدق العواذل ليس سببًا لما زعموه على خلاف ما تقدم من أن "السهر الدائم" سبب في المرض، و"كون النفس نزاعة للشر، أمارة بالسوء" سبب في اتهامها. وأما التوسط بين الكمالين مع قيام المانع من الموصل: فيتحقق في جملتين: لا يوجد بينهما سبب من أسباب الفصل المتقدمة, ولكن لأولاهما حكم، لا يصح تشريك الثانية فيه لما يترتب على هذا التشريك من اختلال المعنى كما في قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} لم يعطف جملة: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة "قالوا" الواقعة جوابًا للشرط لما يلزم على هذا المعطف من فساد المعنى, ذلك أن جملة {قَالُوا} مقيدة بالظرف الذي هو "إذا" والمعنى أنهم إنما يقولون ذلك وقت خلوهم بشياطينهم فحسب, فلو عطف جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة {قَالُوا} لزم تشريك الثانية في حكم الأولى, وهو "التقيد بالظرف المذكور" فيكون المعنى حينئذ: إن الله يستهزئ بهم وقت خلوهم بشياطينهم فقط كالذي قبله وهو باطل إذ إن استهزاء الله بهم -بمعنى: مجازاته لهم بالخذلان- متحمل لا يتقيد بزمن. كذلك لم يعطف جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} الواقعة مفعولا "لقالوا" لما يلزم على هذا العطف من فساد المعنى كذلك، ذلك أن قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} مفعول {قَالُوا} ، فهو إذًا من مقول المنافقين، فلو عطف قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} لزم تشريك الثانية في حكم الأولى، وهو كونها مفعولا "لقالوا"، فيلزم أن تكون جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} من مقول المنافقين أيضًا في حين أنها من مقول الله "سبحانه" فبطل إذا عطفها عليها لما يلزم عليه من هذا الفساد. وإذ قد استوفينا القول في مواضع الفصل، فإليك الحديث مفصلا عن:

مواضع الوصل

مواضع الوصل: الأول: أن يكون بين الجملتين كمال انقطاع، مع إيهام الفصل خلاف المواد, ويتحقق هذا في أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاء, ولكن فصل إحداهما عن الأخرى يوهم خلاف المقصود، كقولك عندما تريد أن تنفي شيئًا في حديث تقدم، مع إرادة الدعاء للمخاطب بالسداد مثلا: لا، وسدد الله خطاك. فقولك: "لا" رد لكلام سابق كأن يقال مثلا: هل الأمر كما زعم فلان؟ فتقول: "لا" أي ليس الأمر كما زعم، فهي جملة خبرية، "وسدد الله خطاك" جملة إنشائية دعائية، فبين الجملتين إذا كمال انقطاع، وكان مقتضى ذلك: أن يجب الفصل لاختلافهما خبرًا وإنشاء, لكن يجب الوصل هنا دفعًا لإيهام خلاف المراد إذ لو ترك الوصل, فقيل: "لا سدد الله خطاك" لأوهم الكلام أنه دعاء على المخاطب بعدم السداد, في حين أن المقصود الدعاء له بالسداد, ومثله قولهم: "لا وشفاه الله", جوابًا لمن سأل: هل نقه محمد من مرضه؟ فإن ترك المعطف -والحالة الثانية- يوهم الدعاء عليه بعدم النقاهة، مع أن الغرض الدعاء له بالنقاهة1؛ لهذا يوجب الفصل فيما ذكرنا وأمثاله دفعًا لهذا الإيهام. الثاني: أن يكون بين الجملتين توسط بين الكمالين، مع عدم وجود مانع من الوصل, ويتحقق هذا في أن تتفق الجملتان خبرًا وإنشاء، وليس في عطف إحداهما على الأخرى ما يوجب فساد المعنى, ولهذا النوع ثماي صور، نذكرها لك فيما يلي: 1- أن تتفق الجملتان في الخبرية لفظًا ومعنى كقول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} ، وكقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} , فالجملتان -في المثالين- خبريتان لفظًا ومعنى. 2- أن تتفق الجملتان في الإنشائية لفظًا ومعنى كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} ، وكقوله تعالى: {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا

_ 1 سأل هارون الرشيد نائبه عن شيء, فقال: لا وأيد الله الأمير. فلما سمع الصاحب ذلك قال: هذه الواو أحسن من واوات الأصداغ على خدود الملاح.

3- أن تتفق الجملتان خبرًا في المعنى "واللفظان إنشاءان" كقولك: "ألم آمرك بالتقوى، وألم أنهك عن الأذى"، على معنى: أمرتك بكذا، ونهيتك عن كذا، وكقولك: "من قال لك: اضرب الغلام، واطرده" على معنى ما قلت لك أن تضربه وتطرده فالجملتان في المثالين خبريتان في المعنى، واللفظان "في الأول" إنشاءان على صيغة استفهام "وفي الثاني" إنشاءان على صيغة الأمر. 4- أن تتفق الجملتان خبرًا في المعنى ولفظ الأول "خبر", والثانية "إنشاء" كقولك: "أوصيتك بحسن المعاملة، وألم أحذرك عن إيقاع الأذى بالناس" فالجملة الثانية إنشاء في اللفظ على صيانة الاستفهام، ولكنها في المعنى خبر على معنى: وحذرتك عن كذا. 5- أن تتفق الجملتان خبرًا في المعنى ولفظ الأولى "إنشاء", والثانية "خبر" عكس السابقة كقوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} فجملة "ودرسوا" عطف على قوله: "ألم يؤخذ" وهو- وإن كان إنشاء على صيغة الاستفهام- خبر في المعنى لأن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه. 6- أن تتفق الجملتان إنشاء في المعنى "واللفظان خبران" كقولك لآخرين: "لقد أخذنا عليكم عهدًا، لا تعبثون بالنظام وتحافظون على أوقاتكم", فكلتا الجملتين إنشائية معنى، أي لا تعبثوا بالنظام، وحافظوا على أوقاتكم، لأن أخذ العهد يقتضي الأمر والنهي فإذا وقع بعده خبر أول بالأمر أو النهي كما هنا. 7- أن تتفق الجملتان إنشاء في المعنى ولفظ الأولى "إنشاء", والثانية "خبر" كما تقول: "قم الليل، وتصوم النهار" فالجملة الثانية -وإن كانت في اللفظ خبرًا- وهي في المعنى إنشاء على صيغة النهي أي لا وصم النهار. 8- أن تتفق الجملتان إنشاء في المعنى ولفظ الأولى "خبر"، والثانية "إنشاء" عكس السابقة كما تقول في المثال المتقدم: "لقد أخذنا عليك عهدًا لا تعبثون بالنظام، وحافظوا على أوقاتكم" فالجملة الأولى -وإن كانت في اللفظ خبرًا- هي في المعنى إنشاء على صيغة النهي أي لا تعبثوا بالنظام. الثالث: أن يكون للأولى حكم أعرابي، وأريد تشريك الثانية فيه، حيث لا مانع منه ككون الأولى خبر مبتدأ نحو: "محمد يعطي ويمنع"، أو حالا نحو: "قام محمد يخطب ويشعر"، أو صفة نحو: "مررت برجل يشرب ويطرب" أو مفعولا نحو: "ألم تعلم أني أحبك، وأني أجلك", أو غير ذلك من كل جملتين أريد تشريك الثانية منهما في حكم إعراب الأولى, وحينئذ يجب عطف الثانية على الأولى ليدل العطف على التشريك المذكور.

محسنات الوصل

محسنات الوصل: مما يريد الوصل حسنًا أمور منها: 1- أن تتفق الجملتان في الاسمية والفعلية, والاسميتان في نوع المسند: من حيث الإفراد، أو الجملية، أو الظرفية, والفعليتان في نوع الفعل: من حيث الماضوية، أو المضارعية, فيحسن العطف في مثل: "محمد كاتب وأحمد شاعر" لاتفاقهما في الاسمية، وفي نوع المسند من حيث إفراده, ويحسن في مثل: "محمد يحسن التفكير، ومحمود يحكم التدبير"؛ لاتفاقهما في الاسمية، وفي نوع المسند من حيث إنه جملة فعلية, ويحسن في مثل: "خالد في بيته، وبكر في مصنعه"؛ لاتفاقهما في الاسمية، وفي نوع المسند من حيث إنه ظرف, وهكذا. كذلك يحسن العطف في مثل: "خطب علي، وشعر حسان"؛ لاتفاقهما في الفعلية, ونوع الفعل من حيث المضي, ويحسن في مثل: "يملي إبراهيم، ويكتب إسماعيل"؛ لاتفاقهما في الفعلية، وفي نوع الفعل من حيث المضارعة, وهكذا. 2- أن تتوافق الجملتان في الإطلاق والتقييد, فيحسن العطف في مثل: "محمد يبدع إذا كتب ومحمود يجيد إذا خطب"؛ لتوافقهما في التقييد بالشرط. وإنما يحسن الوصل في كل ما ذكرنا إذا كان المقصود من الجملتين، الثبوت والدوام كما في الاسميتين، أو التجدد والحدوث في نسبتهما كما في الفعليتين أو كان المقصود الإطلاق أو التقييد فيهما "كما رأيت". فإذا أريد في إحداهما: "الثبوت والدوام" وفي الأخرى: "التجدد والحدوث", أو أريد في إحداهما "المضي"، وفي الأخرى "المضارعة" أو أريد "الإطلاق" في إحداهما، و"التقييد" في الأخرى, امتنع التناسب بين الجملتين، وأتى بهما على وفق المقصود منهما, فيقال: "خطب محمد ومحمود كاتب" حيث أريد الإخبار بحدوث الخطابة "لمحمد".

وثبوت الكتابة "لمحمود", ومنه قوله تعالى: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} ؟ فقد كانوا يزعمون: "أن اللعب حالة دائمة لإبراهيم، فاستفهموا من حدوث مجيئه لهم بالحق, ومثله قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ويقال: "كتب عليّ, ويشعر خالد" حيث أريد الإخبار بحدوث الكتابة "لعلي" فيما مضى, وحدوث الشعر "لخالد" في الحال أو فيما يستقبل, ومنه قوله تعالى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} عبر بالمضارع في الجملة الثانية, وإن كان القتل في الماضي؛ لأن الأمر فظيع فأريد استحضار صورته في النفوس، وقد يقال: "أكرمت محمدًا، وإن جئتني أكرمتك" حيث أريد: الإطلاق في الأولى، والتقييد في الثانية. هذا ولو روعي التناسب في كل هذه المثل لم يفهم السامع المقصود.

اختبار- تمرين4

اختبار- تمرين4: "1" ما الفرق بين الفصل والوصل، وهل يعتبر الوصل بغير المواد. علل لما نقول، ومثل له. "2" بين الصور التي يتحقق فيها كمال الانقطاع، مع التمثيل وبين علة وجوب الفصل. "3" بين بالاختصار المواضع التي يتحقق فيها كمال الاتصال، مع التمثيل ومع بيان علة وجوب الفصل. "4" بين ما يتحقق فيه شبه أحد الكمالين، مع التمثيل لكل. "5" اذكر مواضع الوصل، ومثل لما تقول مع الشرح والبيان. "6" بين الأمور التي يزداد بها الوصل حسنًا، مع التمثيل. تمرين: بين سر الفصل والوصل فيما يأتي: "1" {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} . "2" تأهب أخي للامتحان، ذاكرًا دروسه. "3" يزعم أخوك أني كسلان ... أراه مخطئًا في زعمه "4" فما الحداثة عن حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب "5" ظل يسعى إلى المعالي بجد ... والعلا لا تنال إلا بكد "6" كفى حزنًا أني أروح وأغتدي ... ومالي من مال أصون به عرضي "7" يهوى الثناء مبرز ومقصر ... حب الثناء طبيعة الإنسان "8" كفى زاجرًا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي

"9" إنما المرء بأصغريه ... كل امرئ رهن بما لديه "10" {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . "11" لكل مقام مقال، وخير القول ما وافق الحال. "12" {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} . "13" شرحت صدر خالد أخبرته بنجاحه في الامتحان. "14" إنما الدنيا فناء ... فليس للدنيا ثبوت "15" اخط مع الدهر إذا ما خطا ... واجر مع الدهر كما يجري "16" يقولون أني أحمل الضيم عندهم ... أعوذ بربي أن يضام نظيري "17" إذا ما ساقط أثرى تعدى ... وأنكر قبل كل الناس نفسه "18" حكم المنية في البرية جار ... ما هذه الدنيا بدار قرار "19" أقي بمالي عرضي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال "20" السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب "21" {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} . "22" أعطاه ما يستحق، أعطاه ألف دينار. "22" ساعدني الرئيس رعاه الله. جواب التمرين: "1" فصلت الثانية عن الأولى لما بينهما من كمال الانقطاع لاختلافهما خبرًا وإنشاء، أو لما بينهما من شبه كمال الاتصال، إذ يصح أن تكون الثانية جوابًا عن سؤال نشأ عن الأولى كأنهم تساءلوا: وهل للاستغفار من نتيجة؟ فأجاب: إنه كان غفارًا. "2" فصلت الثانية عن الأولى لما بينهما من كمال الاتصال إذ الثانية من الأولى بمثابة عطف البيان. "3" الفصل هنا لشبه كمال الانقطاع إذ إن عطف قوله: "أراه مخطئًا على قوله: يزعم أخوك" يوهم عطفه على جملة "إني كسلان", وهو فساد في المعنى المراد. "4" فصلت الثانية عن الأولى لما بينهما من شبه كمال الاتصال أو الثانية بمثابة الجواب عن سؤال ناشئ عن الأولى، وكان سائلا سأل: وكيف لا تحول حداثة السن دون العقل؟ فأجاب: قد يوجد الحلم ... إلخ.

"5" وصل بين الجملتين لما بينهما من التوسط بين الكمالين لاتفاقهما في الخبرية، مع وجود المناسبة وعدم المانع من العطف. "6" وصل بينهما للسبب المتقدم وهو المتوسط بين الكمالين، مع عدم المانع من الوصل. "7" فصل بين الجملتين لما بينهما من شبه كمال الاتصال إذ الثانية من الأولى بمنزلة الجواب عن سؤال ناشئ عن الأولى، وكأن سائلًا قال: وكيف كان الثناء مطلوبًا للمجد وغير المجد؟ فأجاب: حب الثناء إلخ. "8" فصل بين جملتي "كفي وتروح"، لما بينهما من كمال الاتصال, إذ الثانية من الأولى بمنزلة عطف البيان, ووصل بين جملتي "تروح وتغتدي" لما بينهما من التوسط بين الكمالين، مع عدم وجود المانع. "9" فصل بين شطري البيت لما بينهما من كمال الانقطاع، إذ لا مناسبة بين معنييهما كما هو ظاهر. "10" وصل بين الجملتين لما بينهما من التوسط بين الكمالين مع وجود المناسبة، وعدم المانع من الوصل. "11" وصل بين الجملتين للسبب المتقدم وهو التوسط بين الكمالين ... إلخ. "12" وصل بين جملتي {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} لما بينهما من التوسط بين الكمالين، مع التناسب وعدم المانع, ثم فصل بين جملتي {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} و {اللَّهُ يَعْلَمُ} ... إلخ؛ لأن للأولى حكمًا هو "القصر" ولا يراد إعطاؤه الثانية لما يترتب عليه من فساد المعنى. "13" فصل بين الجملتين لما بينهما من كمال الاتصال؛ لأن الثانية منهما بمنزلة عطف البيان من الأولى. "14" فصل بين شطري البيت لكمال الاتصال بينهما إذ إن الجملة الثانية تأكيد للأولى. "15" وصل بين شطري البيت للتوسط بين الكمالين، مع التناسب ومع عدم وجود المانع من العطف. "16" فصل بين جملتي "يقولون" و"أعوذ" لما بينهما من شبه كمال الانقطاع إذ إن عطف الثانية على الأولى، موهم لعطفها على غيرها هما يوجب خللا في المعنى المراد, وقد يكون الفصل لشبه كمال الاتصال

إذ إن الثانية بمثابة الجواب عن الأولى، وكان سائلا سأل: وهل صدقوا فيما قالوا؟ فأجاب أعوذ بربي ... إلخ، ومعنى هذا: أنهم كذبوا؛ لأن مثلي لا يضام، فقد حذف الجواب لقيام الدليل عليه. "17" وصل بين جملتي "تعدى وأنكر"؛ لاتفاقهما في الخبرية مع وجود المناسبة وعدم المانع. "18" فصل بين شطري البيت لما بينهما من كمال الاتصال, إذ إن الثانية بمثابة التوكيد المعنوي للأولى. "19" فصل بين جملتي "أقي" و"لا أدنسه" لكمال الاتصال بينهما؛ لأن الثانية بمنزلة التوكيد المعنوي للأولى, وفصل بين جملتي "أقي" و"لا بارك الله" لما بينهما من شبه كمال الاتصال بين جملتي جواب عن سؤال ناشئ عن الأولى, فكأن سائلا سأل: ولم تق عرضك بمالك؟ فأجاب: "لا بارك الله ... إلخ". "20" فصل بين شطري البيت لأحد السببين في البيت قبله. "21" وصل بين جملتي {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ} لما بينهما من متوسط بين الكمالين لاتفاقهما في الإنشائية، مع قيام المناسبة بينهما، وعدم المانع, وفصل بينهما وبين {أَيُحِبُّ} لشبه كمال الاتصال إذ إن الجملة الثانية بمثابة الجواب عن سؤال ناشئ عن الأوليين، وكأن سائلا سأل: ولم ينه عن التجسس والاغتياب؟ فأجاب: لأنهما بمثابة أكل لحم الميت أيحب أحدكم ذلك؟ "22" فصل بين الجملتين لكمال الاتصال بينهما، إذ إن الثانية بدل بعض من الأولى؛ لأن إعطاء ألف دينار بعض ما يستحق. "23" فصل بين الجملتين لكمال الانقطاع باختلافهما خبرًا وإنشاء. تمرين يطلب جوابه على قياس سابقه: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} ، لا وجعلني الله فداك، نصحته قلت له استقم، {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} , علي كاتب، الحمام طائر، إنما زيد شاعر أخوه ناثر. وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وجواب شكرتك إنك للشكر أهل, احتفظ بمسائل هذا الكتاب، لا تدعها تمر بك دون أن تتدبرها، الناس أبناء ما يحسنون، لا يفل الحديد إلا الحديد، المال عارية تجيء وتذهب، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ، {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} .

سألت الندى هل أنت حر فقال لا ... ولكني عبد ليحيى بن خالد والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم ليس العلم ما بقي القمطر ... ما العلم إلا ما حواه الصدر ملكته حبلي ولكنه ... ألقاه من زهد على غاربي وقال إني في الهوى كاذب ... انتقم الله من الكاذب قالت بليت فما نراك كعهدنا ... ليت العهود تجددت بعد البلى فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي إن دهرك هازل {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} ، "إن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". سالم الناس ما استطعت ودار ... أخسر الناس أحمق لا يدارى بادر إلى الفرصة وانهض لما ... تريد منها فهي لا تلبث ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ} ، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} ، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} ، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} .

المساواة والإيجاز والإطناب

المساواة والإيجاز والإطناب مبحث المساواة ... المساواة والإيجاز والإطناب: كل ما يجيش بالصدر من المعاني يمكن أن يعبر عنه بطرق ثلاثة: المساواة والإيجاز والإطناب. فمباحث هذا الباب حينئذ ثلاثة: 1- مبحث المساواة. 2- مبحث الإيجاز. 3- مبحث الإطناب. وهاك تفصيل القول فيها على هذا الترتيب: مبحث المساواة: المساواة: هي أن يؤدى المعنى المراد بعبارة مساوية له، لا تنقص عنه, ولا تزيد -حذوك النعل بالنعل- ويعرف ذلك: بأن تكون العبارة على الحد الذي جرى به عرف أوساط الناس في محاوراتهم, وهم الذين لم يرتقوا إلى درجة البلاغة، ولم ينحطوا إلى درجة الفهامة، فهؤلاء هم الذين يؤدون المعنى بعبارة، يدل كل جزء منها على معناه بالمطابقة, كما في قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} ، وكقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} , وكقوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات" , فالمعنى في كل من الآيتين والحديث قد أدي بما يستحقه من التركيب، من غير نقص أو زيادة. والمساواة: هي الحد الفاصل بين الإيجاز والإطناب، فما نقص عن هذا الحد -بدون إخلال- فإيجاز، وإن زاد عنه -لفائدة- فإطناب.

مبحث الإيجاز

مبحث الإيجاز: الإيجاز: هو أن يؤدى المعنى بعبارة أقل مما يستحق بحسب متعارف الأوساط المتقدم وصفهم، بشرط أن تكون وافية بالمعنى المراد, أو هو اندراج المعاني المتكاثرة، تحت اللفظ القليل الوافي، فإن لم يكن في العبارة أو اللفظ وفاء بالغرض كان إخلالًا، لا إيجازًا كقول اليشكري: والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدا1 فالمستفاد من هذا البيت: هو أن العيش في ظل الجهل ناعمًا كان ذلك العيش أو خشنًا خير من عيش المكدود عاقلًا كان أو جاهلًا. وليس هذا ما يريده الشاعر، إنما مراده أن يقول: إن العيش الناعم مع رذيلة الجهل والحماقة خير من العيش الجاف، مع فضيلة العقل. والبيت لا يفي بهذا المعنى "كما ترى" لأن اعتبار "الناعم" في المصراع الأول منه، واعتبار "العقل" في مصراعه الثاني لا دليل عليهما دلالة واضحة؛ لهذا كان في هذا البيت إخلال لا إيجاز. والإيجاز ضربان؛ إيجاز قصر2 وإيجاز حذف، وهاك بيانهما: إيجاز القصر: هو أن تؤدى المعاني الكثيرة بعبارة قصيرة من غير حذف, وهذا الضرب مطمح أنظار البلغاء، ومحك همم الأفذاذ منهم، التي لا ترام, من ذلك قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} , فتلك آية من جوامع الكلم، انطوى تحتها كثير من مكارم الأخلاق ذلك: "أن في العفو الصفح عمن أساء، والأخذ بمبدأ التسامح

_ 1 النوك بضم النون وفتحها الحمق والجهل وبابه "فرح"، "وكدًّا" صفة لمصدر محذوف أي عاش عيشًا كدًّا أي فيه شدة وجفاء. 2 بكسر ففتح, سمي إيجاز قصر لوجود الاقتصار في العبارة مع كثرة المعنى.

والإغضاء, وفي الأمر بالمعروف: صلة الرحم، والحدب على ذوي القربى، وصون الجوارح عن المحارم, وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والأناة، وكظم الغيظ, وما إلى ذلك من أحاسن الشيم, ومثله قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} , وهي جملة جامعة تضمنت سرًّا من أسرار التشريع التي عليها مدار سعادة المجتمع الإنساني في أولاه وآخرته, ذلك أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتَلَ قُتِلَ دعاه ذلك إلى أن يكف عن القتل خشية أن يذهب ضحية جرمه "قصاصًا", وبهذا القصاص ارتفع كثير من قتل الناس بعضهم بعضًا، وفي ذلك حياة لهم, فهذا المعنى الكثير في كل من "الآيتين" أداه لفظ يسير، من غير أن يكون في اللفظ شيء محذوف يحتاج إليه في أداء المعنى المقصود. وفي هذه الجملة من بلاغة الإيجاز ما يقف دونه قولهم المأثور: "القتل أنفى للقتل", ذلك أن النص الكريم يفضله من وجوه, منها: 1- أن النص القرآني كلمتان فحسب, أما النص العربي فأربع، وما كان أقل لفظًا، مع الوفاء بالمعنى، فهو أبلغ. 2- أن في النص الكريم تصريحًا بالمطلوب، وهو "الحياة", التصريح بها أزجر عن القتل بغير حق، وأدعى إلى القصاص, أما القول المأثور فإنما يدل على "الحياة" لزومًا، لا نصًّا. 3- أن في النص الكريم تذكيرًا "للحياة" وهو مفيد لتعظيمها من حيث إن في تشريع القصاص حياة من هم بالقتل، وحياة المهموم بقتله، وحياة كل من تسول له نفسه بقتل غيره، وحياة ذلك الغير, ففيه إذا حياة الجميع وأي حياة أعظم من تلك الحياة؟ 1 أما النص المأثور, فخلو من هذه المزية. 4- أن النص الكريم عام مطرد إذ القصاص مطلقًا في كل وقت، ولكل فرد سبب في الحياة, أما النص العربي فليس في ظاهره2 مطردًا

_ 1 وقيل في إفادة التفكير للتعظيم، إنهم كانوا في الجاهلية يقتلون القائل ويقتلون عصبته معه، فلما شرع القصاص وهو قتل القائل وحده كان في ذلك حياة لأولياء القائل. 2 إنما كان ذلك بالنظر للظاهر لأن المراد بالقتل في قولهم هذا هو القتل قصاصًا لا مطلق قتل.

إذ ليس كل قتل أنفى للقتل، بل تارة يكون أنفى له إذا كان القتل قصاصًا وأخرى يكون أدعى له إذا كان القتل ظلمًا وعدوانًا. 5- إن النص القرآني خال من التكرار اللفظي, أما المأثور عنهم ففيه التكرار، وهل "في الجملة" عيب في الكلام. 6- إن النص القرآني جعل "القصاص" كالمنبع للحياة بإدخال "في" عليه, أما النص العربي فخلو من هذه المعنى. 7- إن النص القرآن محلى بحلية الطباق، بين "القصاص والحياة", أما النص العربي فعاطل الجيد من تلك الحلية البديعية إلى غير ذلك من المزايا التي انفرد بها النص الكريم. ومثل ما تقدم من الكلمات الجامعة، ذات اللفظ القصير، والمعنى الكثير قوله صلى الله عليه وسلم: "المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء"، ففيه من المعاني الحكيمة الشيء الكثير، وقول علي رضي الله عنه: "ثمرة التفريط الندامة"، وقوله: "من استقبل وجوه الآراء عرف وجوه الخطأ" وقول بعض الأعراب: اللهم هب لي حقك، وارض على خلقك، فلما سمعه عليه الصلاة والسلام قال: "هذا هو البلاغة" , فكل هذا وغيره من جوامع الكلم هو من قبيل إيجاز القصر. إيجاز الحذف: ما قصد فيه إلى إكثار المعنى، مع حذف شيء من التركيب، ودلالة القرينة عليه, والمحذوف أنواع شتى فمنها: "أ" ما يكون حرفًا كقوله تعالى: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} والأصل: ولم أكن، حذفت النون تخفيفًا. "ب" ما يكون مفردًا مضافًا، أو مضافًا إليه, فالأول: كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} , أي أهل القرية, بناء على أن المراد بالقرية: المكان, فإن أريد به: أهلها كان مجازًا مرسلا علاقته الحالية والمحلية، وحينئذ فلا حذف في الآية، ومثله قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أي في سبيل الله. والثاني: كقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} أي بعشر ليال، ومثله قوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أي من قبل ذلك ومن بعده.

"ج" ما يكون موصوفًا, وهو كثير كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} أي حور قاصرات الطرف، ومثله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي دروعًا سابغات، وكقول الشاعر: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني1 يصف نفسه بالشهرة ووضوح الأمر، وأنه كشاف للكروب، ركاب للصعاب، لقوة مراسه وعلو همته، وأنه متى يضع البيضة الحديد على رأسه يعرفوا شجاعته، وقوة بأسه, ويحتمل أن يكون المعنى: أنه متى يرفع العمامة التي يستر بها وجهه لإخفاء نفسه عرفوه ذلك الباسل المغوار، والفارس الذي لا يشق له غبار, والشاهد قوله: "أنا ابن جلا" حيث حذف فيه الموصوف والتقدير: "أنا ابن رجل جلا أي انكشف أمره واتضح، بحيث لا يخفى على أحد، أو ابن رجل كشف الأمور، وجلا الكروب, وأكثر ما يكون حذف الموصوف في باب المصدر كقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} "أي عملًا صالحًا". "د" ما يكون صفة -وهو نادر- كقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} أي سفينة سليمة، بدليل قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فإن ذلك يدل على أن الملك كان لا يأخذ المعيبة, ومن هذا القبيل قول الشاعر: كل امرئ ستئيم منه ... العروس أو منها يئيم2 يريد أن يقول: كل امرئ متزوج، إذ المعنى لا يصح إلا بهذا الوصف. "هـ" ما يكون شرطًا, كقوله تعالى: {اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي إن تتبعوني يحببكم الله، وكقولك: "أين بيتك أزرك؟ " أي إن تعرفنيه أزرك.

_ 1 الثنايا: جمع ثنية على وزن غنية, وهي ما ارتفع من الأرض شبه بها صعاب الأمور، أو كنى بها عنها. 2 آم الزوج من زوجته يئيم إذا انفصل عنها، أو انفصلت عنه بموت أو طلاق.

"و" ما يكون جواب شرط, كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} , والجواب محذوف تقديره: لرأيت أمرًا فظيعًا, والحذف فيه على أن جواب الشرط مما لا يحيط به وصف قصدًا إلى المبالغة, وقد يكون الحذف لمجرد الاختصار كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} , فهذا شرط حذف جوابه، وهو "أعرضوا", بدليل قوله بعد: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} . "ز" ما يكون قسمًا أو جوابه: فالأول كقولك: "لأحجن هذا العام", أي والله لأحجن, والثاني وهو كثير شائع كقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} ... إلخ، وتقدير الجواب: لتعذبن يا كفار مكة. "ح" ما يكون معطوفًا كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} , فقد حذف المعطوف على {مَنْ أَنْفَقَ} والتقدير: ومن أنفق من بعده، وقاتل. "ط" ما يكون جملة كقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} أي فاختلفوا، فبعث، وكقوله تعالى: {قُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} أي فضربه بها فانفجرت. "ي" ما يكون عدة جمل كقوله تعالى: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ، يُوسُفُ} فقد حذف من هذا الكلام عدة جمل، لا يستقيم المعنى إلا بها، والتقدير: فأرسلون إلى يوسف لاستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه، فأتاه، وقال له: يا يوسف ودليل هذه المحذوفات: هو أن نداء يوسف يقتضي أنه وصل إليه والوصول إليه متوقف على فعل الإرسال، والإرسال إنما كان للاستعبار. هذا والحذف على وجهين: الأول: أن يقام مقام المحذوف شيء يدل عليه كقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} فقوله: "فقد كذبت رسل" ليس هو جواب الشرط، لأن تكذيب الرسل سابق على تكذيبه، وجواب الشرط يجب أن يكون مضمونه مترتبًا على مضمون الشرط، والمذكور هنا إنما هو علة الجواب المحذوف، وهو "الصبر وعدم الحزن"، فكأنه قيل، وإن يكذبوك فاصبر، ولا تحزن، لأنه قد كذبت رسل من قبلك، أي فلك بهم أسوة. الثاني: ألا يقام شيء مقام المحذوف، بل يكتفى في فهم المحذوف

بالقرينة الدالة كما تقدم لك في الأمثلة السابقة، وأدلة الحذف كثيرة منها: 1- العقل والعرف: فالعقل يدل على الحذف، والعرف يدل على خصوص المحذوف كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية. أي حرم عليكم أكلها، أو الانتفاع بها, فالعقل دل على أن في القول حذفًا لعدم تصور تعلق الحرمة بالأعيان، والعرف دل على خصوص المحذوف وهو "الأكل أو الانتفاع" إذ المفهوم عرفًا من قول القائل: "حرم عليك كذا: تحريم أكله، أو الانتفاع به". 2-العقل والشروع في الفعل: فالعقل يدل على الحذف، والشروع في الفعل يدل على خصوص المحذوف، كقول القارئ: "بسم الله" أي باسم الله أقرأ, فالعقل دل على أن فيه حذفًا لإدراكه أن الجار والمجرور لا بد أن يتعلقا بشيء، والشروع في الفعل -وهو "القراءة" هنا- دل على خصوص الحذف وهو "أقرأ", وحينئذ يقدر ما جعلت البسملة مبدأ له, ففي "القراءة" مثلا كما هنا يقال: باسم الله أقرأ، وفي "الكتابة" يقال: باسم الله أكتب, وفي "الأكل" يقال: باسم الله آكل ... وهكذا, ومثله قولهم للمعرس، وهو المتخذ عرسًا: "بالرفاء والبنين"1, أي أعرست بالرفاء والبنين, فالعقل دل على الحذف لضرورة تعلق الجار والمجرور بشيء، والشروع في الفعل دل على خصوص المحذوف وهو "أعرست". 3- العقل وحده: بمعنى أنه: يستقل بإدراك الأمرين معًا: الحذف وخصوص المحذوف, كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} أي أمر ربك, فالعقل وحده هو الذي دل على الحذف، وعلى خصوص المحذوف لامتناع مجيء الرب عقلا.

_ 1 الرفاء: الالتئام, تقول رفأت الثوب أرفؤه إذا أصلحت ما فسد منه، والمعنى: أعرست متلبسًا بالالتئام والوئام مع زوجك، وبإنجاب البنين منها، والجملة دعائية, أي جعلك الله ملتئمًا مع زوجك منجبًا للبنين منها.

مبحث الإطناب

مبحث الإطناب: الإطناب: هو أن يؤدى المعنى بعبارة زائدة عما يستحق، بحسب متعارف الأوساط، بشرط أن يكون ذلك الزائد لفائدة كقوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} فاللفظ المستحق في متعارف الأوساط أن يقال: "رب إني كبرت" أو شخت لكنه لما كان في مقام بث الشكاية، وطلب استدرار الرحمة ناسب ذلك ذكر ما يستوجب الشفقة والإحسان لهذا كان الزائد لفائدة, فإن لم يكن لفائدة لم يكن الكلام إطنابًا، وكان بمعزل عن أهداف البلاغة, ولا يخلو الحال حينئذ من أمرين: 1- أن يكون الزائد غير متعين. 2- أن يكون متعينًا. فإن كان الزائد غير متعين سمي "تطويلا" كقول عدي بن زيد, وهو من شعراء العصر الجاهلي: وقددت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذبا ومينا1 وهو من قصيدة له يخاطب بها النعمان بن المنذر يذكره فيها أحداث الدهر، وما وقع "لجذيمة الأبرش" و"الزباء" من خطوب جسام، ولهذين قصة طويلة لا محل لذكرها هنا2, والشاهد في قوله: "ومينا" فإن فيه تطويلا؛ لأن الكذب هو المين، ولا فائدة في الجمع بينهما، ولم يتعين أحدهما للزيادة, ومثله قول الشاعر. ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد ففي قوله و"البعد" تطويل؛ لأنه "النأي" بعينه، ولا فائدة في الجمع بينهما، ولم يتعين أحدهما للزيادة. وإن كان الزائد متعينًا سمي "حشوًا", وهو نوعان: مفسد للمعنى وغير مفسد له، وإليك البيان:

_ 1 "قددت" من القد وهو القطع, و"الأديم" الجلد, و"الراهشان" عرقان في باطن الذراعين إذا فصد المرء منهما مات لساعته، و"المين" الكذب. 2 تتلخص في أن "جذيمة الأبرش" كان قد قتل أبا "الزباء" وكلاهما صاحب ملك وسلطان فسكتت الزباء على كره ريثما يقوى أمرها، ثم بعثت إليه تستدعيه لتتخذه زوجًا فنصح له بعض حاشيته ألا يأمن لها فلم يستجب لنصحه وركب إليها يدفعه الطمع في ملكها، وحينما وصل إليها غدرت به، فأجلس على نطع وشد عضداه وقطع رأهشاه، فتدفق الدم منهما حتى مات.

فالحشو المفسد كلفظ "الندى" في قول أبي الطيب المتنبي يرثي غلامًا: ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب1 يقول: إنه لا فضل في الدنيا للشجاعة والصبر لولا "الموت", وهو حس جميل، لأنهما إنما عدا من الفضائل لما فيهما من الإقدام على الموت واحتمال المكروه, ولو علم الإنسان أنه لن يموت لم يبال بالمغامرات، وهان عليه اقتحام المخاطر, كما أنه لو أيقن الخلود وزوال المكروه لهان عليه الاحتمال والصبر لوثوقه بالخلاص, أما الندى فعلى العكس من ذلك إذ لو أيقن الإنسان أنه لن يفنى اشتد حرصه على المال مخافة أن ينفد، فيصبح صفر اليدين ما لو علم أنه سيموت، ويترك ماله، فإنه حينئذ يستخف به، ويهون عليه بذله، وإذا لا يظهر لهذا البذل فضل, وحينئذ فنظم "الندى" في سياق الحديث عن الشجاعة والصبر لا يستقيم لفساد المعنى, فهو لذلك حشو مفسد. والحشو غير المفسد كلفظ "قبله" من قول زهير بن أبي سلمى من قصيدة في إصلاح ذات البين بين قبيلتي عبس وذبيان: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي يقول: إني محيط علمًا بما مضى، وبما هو حاضر، ولكنني جاهل بما استكن في ضمير المستقبل، فلا أدري ماذا عسى أن يكون في الغد, والشاهد في قوله: "قبله" فهو حشو، ولكنه غير مفسد, أما إنه حشو فلأنه زيادة متعينة، لا لفائدة؛ لأن "الأمس" مفيد للقبلية لدخولها في مفهومه إذ هو اليوم الذي قبل يومك, وأما أنه غير مفسد؛ فلأن المعنى لا يبطل بذكره, ومثله قول الشاعر: ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب فذكر "الرأس" مع الصداع حشو؛ لأن الصداع لا يكون في غير الرأس، ولكنه غير مفسد، لأن المعنى لا يفسد به. وقد يحسن الحشو إذا تضمن نكتة لطيفة كما في قول أبي الطيب المتنبي: 1- "الندى" الكرم و"شعوب" بفتح الشين المنية, وهو مأخوذ من الشعبة وهي الفرقة إذ إن المنية تشعب وتفرق بين الأحبة.

وخفوق قلبي لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما فقوله: "يا جنتي" حشو، ولكنه غاية في الحسن والإبداع لمقابلته بجهنم. ا. هـ. ويكون الإطناب بأمور شتى: 1- يكون بالإيضاح بعد الإبهام: ونكتته عرض المعنى في صورتين مختلفتين؛ إحداهما مبهمة، والأخرى موضحة، وذلك أمر مستحسن إذ هو أشبه بعرض الحسناء في لباسين متغايرين. أو نكتته تمكن المعنى الموضح بعد إبهامه في نفس السامع فضل تمكن، إذ إن الإشعار بالشيء إجمالا يدعو إلى التشوق إليه تفصيلًا، والشيء إذا جاء بعد تشوق وتلهف عليه وقع في النفس، وتمكن أيما تمكن, يرشدك إلى ذلك: أنك إذا قلت: هل أدلك على أكرم الناس أبا، وأفضلهم حسبًا، وأمضاهم عزيمة، وأنفذهم رأيًا؟ ثم قلت: "فلان" كان ذلك أوقع في النفس مما لو قلت: فلان الأكرم الأفضل ... إلخ، من ذلك قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} ثم وضحه بقوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} ولو قيل في غير القرآن: وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين لم يكن له من حسن الموقع ما كان مع الإبهام يدل على ذلك الذوق البلاغي. ويدخل في الإيضاح بعد الإبهام باب "نعم وبئس" نحو: "نعم الرجل محمد"، و"بئس الرجل مسيلمة" على رأي من يجعل المخصوص خبرًا حذف مبتدؤه، أو مبتدأ حذف خبره. 2- يكون بالتوشيع: وهو أن يؤتى في عجز الكلام بمثنى مفسر ياسمين ثانيهما معطوف على الآخر، أو يؤتى بجمع مفسر بأسماء معطوف بعضها على بعض. مثاله في المثنى قولهم: خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق. وقولهم: يشيب ابن آدم، ويشيب معه خصلتان: الحرص وطول الأمل. ونحو: علينا بالشفاءين: العسل والقرآن، ومن هذا القبيل قول الشاعر: فما زلت في ليلين شعر وظلمة ... وشمسين من خمر ووجه حبيب ومثاله في الجمع قولك: إن في فلان ثلاث خصال حميدة: الكرم، والشجاعة، والحلم. 3- يكون بعطف الخاص على العام، ونكتته: التنبيه على فضل الخاص حتى كأنه "لفضله" شيء آخر مغاير لما قبله، كقوله تعالى:

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} قيل: هي صلاة العصر -في الرأي الغالب- لتوسطها بين نهاريتين وليليتين، وقيل غير ذلك. 4- يكون بعطف العام على الخاص ونكتته: الاهتمام بالخاص بذكره في عنوان عام بعد العنوان الخاص نحو: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، ونحو: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ} . 5- يكون بالإيغال وهو "لغة": المبالغة من أوغل في الأمر إذا أمعن فيه، وبالغ, و"اصطلاحًا": ختم الكلام بما يفيد نكتة، يتم المعنى بدونها كالمبالغة في التشبيه أو تحقيقه، أو زيادة الحث والترغيب، فمثال المبالغة في التشبيه قول الخنساء في رثاء أخيها صخر: وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار فقولها: "في رأسه نار" إيغال إذ قد تم المقصود, وهو تشبيهها إياه بالعلم في الظهور والارتفاع, غير أنها لم تكتف بوقوفها عند هذا الحد في التشبيه بل جعلت في رأس العلم نارًا مبالغة في التشبيه لما في ذلك من مزايدة الظهور والاشتهار والاهتداء به, ومثال تحقيق التشبيه، أي بيان التساوي بين الطرفين في وجه الشبه قول امرئ القيس: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب1 يريد أن يقول: إنهم كانوا كثيري اصطياد الوحوش، وكادوا يأكلونها ويطرحون أعينها حول أخبيتهم أشبه شيء بالجزع غير المثقوب, فقوله: "لم يثقب" إيغال إذ قد تم المعنى المراد, وهو تشبيه عيون الوحش بالجزع وبدونه وإنما أتى به تحقيقًا للتشبيه، وبيانًا لتساوي الطرفين في وجه الشبه, ذلك: أن تشبيه عيون الوحش بعد موته "بالجزع" في اللون والشكل ظاهر، لكن الجزع إذا كان مثقبًا يخالف العيون شكلًا إلى حد ما؛ لأن العيون لا ثقوب فيها، فزاد الشاعر قوله "لم يثقب" ليتحقق التشابه كاملا في الشكل حتى يتساوى الطرفان مساواة تامة في وجه الشبه, ومثال زيادة الحث والترغيب قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ

_ 1 "أرحل" جمع رحل "والجزع" بفتح الجيم أو كسرها وسكون الزاي عقيق فيه دوائر بيض وسود يشبه به عيون الوحش.

اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِين، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، فقوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} إيغال؛ لأن المعنى يتم بدونه إذ إن الرسول مهتد لا محالة إلا أن في التصريح بوصف الاهتداء ما يحفزهم إلى اتباع الرسل، ويزيدهم ترغيبًا فيه. 6- يكون بالتكرير لأغراض منها: "أ" تأكيد الردع والإنذار: كقوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، فقوله "كلا" للردع والزجر عن الانشغال، والتعلق بالدنيا، والتلهي بها عن الآخرة، وقوله: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إنذار وتهديد أي سوف تعلمون ما أنتم عليه من ضلال إذا شاهدتم هول المحشر وفي تكريره تأكيد لهذا الردع والإنذار. "ب" استمالة المخاطب لقبول الخطاب كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} كرر قوله: {يَا قَوْمِ} لقصد استمالتهم، وحملهم على قبول الإرشاد. "ج" قصد الاستيعاب: نحو "قرأت الكتاب بابا بابا", "وفهمته كلمة كلمة"، ففي هذا التكرار معنى الاستيعاب والشمول. "د" التنويه بشأن المخاطب: كقولهم: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم". "هـ" إظهار التحسر: كقول الحسين بن مطير بن الأشيم الأسدي1: فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطت للسماحة موضعا ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا

_ 1 وهو شاعر فصيح متقدم في الرجز والقصيد يعد من فحول المحدثين، أدرك بني أمية وبني العباس، ووفد على معن بن زائدة مادحًا فأجزل صلته.

ففي تكرار قوله: "يا قبر معن" إظهار لكمية الحزن المندلعة ناره بين جوانحه على فقده. "و" طول الفصل: كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} , كررت "إنَّ واسمها" لطول الفصل خشية أن يكون الذهن قد ذهل عما ذكر أولا, ومثله قول الشاعر: وإن امرأ دامت مواثيق عهده ... على مثل هذا إنه لكريم 7- يكون بالتكميل, ويسمى الاحتراس أيضًا, وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المراد بما يدفعه كقول المتنبي. غير اختيار قبلت برك بي والجوع يرضي الأسود بالجيف فقوله: "غير اختيار" تكميل أتى به دفعًا لتوهم أن قبول البر عن رضا واشتهاء له, وكقول المعتز يصف فرسا: صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل فقوله "ظالمين" تكميل واحتراس دفع به توهم أنها تستحق الضرب لبلادتها، أو لسوء سيرها, وكقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} تكميل واحتراس قصد به دفع إيهام أن وصفهم بالذلة لضعفهم وهوانهم: من حيث إن شأن المتذلل أن يكون ضعيفًا مهينًا دفع ذلك بأن تذللهم للمؤمنين ليس عن ضعف ومهانة، وإنما هو وليد التوضع منهم للمؤمنين، بدليل أنهم أعزة على الكافرين. 8- يكون بالتتميم, وهو أن يؤتى في الكلام بفضله لنكتة سوى دفع توهم غير المراد كالمبالغة في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} فقوله: {عَلَى حُبِّهِ} تتميم أريد به المبالغة في مدحهم بالسخاء والكرم, أي يطعمونه مع حبهم، واشتهائهم له، واحتياجهم إليه, ولا شك أن إطعام الطعام -مع اشتهائه والاحتياج إليه- أبلغ في المدح بالكرم من مجرد إطعام الطعام, ومثله قول زهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان: من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والذي خلقا

فقوله: "على علاته" أي على رقة حاله وقلة ماله, تتميم قصد به: المبالغة في مدحه بالكرم, والمعنى: إن تلقه على حال إعسار تجده سمحًا جوادًا فما ظنك به على غير هذه الحال. 9- يكون بالتذييل, وهو "لغة": جعل الشيء ذيلا للشيء. "واصطلاحًا": تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها تأكيدا لها. والتذييل على ضربين: الأول: ضرب لم يخرج مخرج المثل، وهو الذي لا يستقل بإفادة المعنى، بل يتوقف على ما قبله كقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} , {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} , فصدر الآية صريح في أن هذا الجزاء إنما كان من أجل كفرهم، فقوله بعد: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} تذييل جيء به تأكيدًا لما استفيد من سابقه, ولم يجر مجرى المثل لتوقف على ما قبله إذ المراد بالجزاء "في الآية": ذلك الجزاء الخاص، وهو المذكور فيما قبل من إرسال سيل العرم، وتبديل جنتيهم، إلى آخر ما هو مذكور في هذا الحادث، فإن أريد مطلق جزاء كان من قبيل الضرب الثاني الآتي بعد. الثاني: ضرب جرى مجرى المثل، وهو ما تضمن حكمًا كليًّا, واستقل بإفادته كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} فقوله: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} ، تذييل أتى تأكيدًا لما فهم مما قبله، وهو جار مجرى المثل لاستقلاله بالإفادة عما قبله بتضمنه معنى كليًّا وهو: أن الباطل لا تقوم له قائمة. والتأكيد بالتذييل على ضربين أيضًا: الأول: أن يكون التأكيد لمنطوق الجملة الأولى كأن تشترك ألفاظ الجملتين في مادة واحدة، مع اختلاف نسبتهما، بأن تكون أحداهما فعلية والأخرى اسمية مثلا كالآية السابقة، فإن قوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} تذييل مؤكد لمنطوق قوله: {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} لاشتراك الجملتين في مادة واحدة, واختلافهما بالفعلية والاسمية. الثاني: أن يكون التأكيد لمفهوم الأولى بألا تشترك ألفاظ الجملتين في مادة واحدة كما في قول النابغة الذبياني: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب

فصدر البيت يدل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال إذ يريد أن يقول: إذا لم تضم أخا إليك، وتقبله على عيبه، وتغض النظر عن زلاته ولم تؤاخذه على كل جريرة لم يطق عشرتك أحد، ولم يبق أخ في الدنيا, إذ ليس في الرجال مهذب كامل التهذيب، مبرأ من العيب فقوله بعد ذلك: أي الرجال المهذب؟ تذييل أتى به تأكيدًا لذلك المفهوم؛ لأنه في معنى قولك: ليس في الرجال مهذب كامل. 10- يكون بالاعتراض: وهو أن يؤتى في أثناء الكلام بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لأغراض منها: "أ" التنزيه: كما في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} , فقوله: {سُبْحَانَهُ} اعتراض وقع في أثناء الكلام لغرض تنزيهه تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا. "ب" الدعاء: كما في قول عوف بن محلم الشيباني يشكو ضعفه: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان يشكو الشاعر ضعف سمعه بسبب الكبر, حتى صار بحيث يحتاج إلى من يكرر له القول بصوت أجهر من سابقه, والشاهد في قوله: "وبلغتها", فهو اعتراض أتى به أثناء الكلام لقصد الدعاء للمخاطب بطول العمر, وهذه الواو تسمى واو الاعتراض. "ج" التنبيه على فضيلة العلم كما في قول الشاعر: واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا يقول: إن الذي قدر "لا محالة" آت طال الزمن أو قصر، وفي هذه تسكين للنفس وتسهيل للأمر عليها؛ لأنها إذا علمت: أن ما قدره الله لا بد آت سهل عليها الصبر، والتفويض، والاستسلام. والشاهد قوله: "فعلم المرء ينفعه"، فهو اعتراض أتى به تنبيهًا للمخاطب على فضل العلم، وهذا مما يزيده إقبالا على طلبه. "د" زيادة التأكيد كما في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} فقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} , تفسير لقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ

بِوَالِدَيْهِ} , وقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} اعتراض أتى به تأكيدًا لطلب الشكر للوالدة, تقديرًا لفضلها العظيم، بسبب ما عانته من آلام الحمل طوال الشهور. ومما جاء فيه الاعتراض بأكثر من جملة قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} , فقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} اعتراض بأكثر من جملة، وقع في أثناء الكلام، وكقوله تعالى: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} , فقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ} ... إلخ, اعتراض بأكثر من جملة.

اختبار

اختبار ... اختيار: "1" بين معنى المساواة, وهل لهذا المعنى من ضابط يعرف به؟ مثل لما تقول مع الإيضاح. "2" عرف الإيجاز، ومثل له، وبين كيف كان قول الشاعر: والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدا إخلالا، لا إيجازا. "3" اذكر قسمي الإيجاز، ثم عرف كل قسم، ومثل له، ثم بين أوجه تفضيل قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} على القول العربي المأثور: "القتل أنفى للقتل". "4" اذكر أنواعًا من إيجاز الحذف، ومثل لكل نوع. "5" اذكر نوعي الحذف، ومثل لكل نوع، مع بيان أدلة الحذف, والتمثيل لها بما تعرف. "6" عرف الإطناب، ومثل له، واذكر الفرق بين الإطناب، والتطويل والحشو، خمع التمثيل لكل ما تذكر. "7" اذكر نوعي الحشو، ومثل لكل نوع، مع التوجيه لما تقول. "8" اذكر أربعة أنواع من أنواع الإطناب، ومثل لكل نوع، مع بيان النكتة فيه، وبين من أي أنواع الإطناب باب "نعم وبئس". "9" بين معاني الألفاظ الآتية، ونكتة التعبير بها، مع التمثيل لها: التوشيع، التذييل، الاعتراض، الإيغال، التتميم، التكميل، التكرير.

تمرين: بين ما جاء من طريق الإيجاز، أو الإطناب، أو المساواة فيما يلي من العبارات: "1" {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . "2" {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} . "3" احذر محل السوء لا تنزل به. "4" اجتهدوا من دروسكم، واللغة العربية. "5" كل امرئ يحصد ما زرع. "6" من علم الدهر هذا الجود والكرما؟ "7" {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} . "8" {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} . "9" دخلت المعهد، فنلت شهادة الدراسة الثانوية. 10- أكرمت إخوتي، وأخواتي "ووالدي وأفراد أسرتي". "11" {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} . "12" لكل امرئ من دهره ما تعودا. "13" إن تلميذا يجد في عمله، ويقوم بأداء واجبه، إنه لحرى بالنجاح. "14" أبو بكر رضي الله عنه، أول الخلفاء الراشدين. "15" {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . "16" نجح محمد باجتهاده وما ينجح إلا المجدون. "17" ألا كل شيء ما خلا الله باطل. "18" فهمت المسألة. "19" فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي "20" شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم "21" أمسى وأصبح من تذكاركم وصبا ... يرثى لي المشفقان الأهل والولد "22" لله لذة عيش بالحبيب مضت ... ولم تدم لي وغير الله لم يدم "23" حليم إذا ما الحلم زين لأهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب "24" أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على هرم "25" وألفيته بحرًا كثيرًا فضوله ... جوادًا متى تذكر له الخير يزدد

جواب هذا التمرين: رقم الجملة نوعها 1 في الآية إطناب إذا قد صرح بذكر أمهات الممكنات ليكون دليلا على القدرة وكان في الإمكان الاستغناء عنه بقوله: إن في خلق كل ممكن لآيات للعقلاء. 2 فيه مساواة؛ لأن اللفظ على قدر المعنى. 3 فيه تكرير؛ لأن الجملتين بمعنى واحد لقصد الزجر والردع. 4 فيه إطناب بذكر الخاص بعد العام تنويها بفضله. 5 فيه إيجاز قصر لتضمن اللفظ القصير المعنى الكثير. 6 فيه تطويل؛ لأن الزائد غير متعين في كلمتي "الجود والكرم". 7 فيه إيجاز بحذف حرف "لا", والتقدير: "لا تفتأ تذكر يوسف". 8 فيه إيجاز بحذف جملتين, أي: فذهبا بالرسالة فكذبوها. 9 فيه إيجاز بحذف جمل، أي: فتلقيت الدروس، واجتهدت، وانتقلت من فرقة إلى فرقة، ودخلت الامتحان، ووفقت فيه، وتقرر نجاحي، فنلت الشهادة. 10 فيه إطناب بذكر العام بعد الخاص اهتمامًا به. 11 فيه إطناب بالإيضاح بعد الإبهام. 12 إيجاز قصر؛ لأن المعنى كبير، واللفظ يسير. 13 إطناب بالتكرير لطول الفصل. 14 إطناب بالاعتراض لقصد الدعاء. 15 إطناب بالتذييل؛ لأن الجملة الثانية مشتملة على معنى الأولى تأكيدًا لها, والتأكيد هنا لمنطوق الجملة الأولى لاشتراك ألفاظ الجملتين في مادة واحدة، والتذييل المذكور جار مجرى المثل.

رقم الجملة نوعها 16 إطناب بالتذييل أيضًا, ولكنه غير جار مجرى المثل لتوقفه على ما قبله, إذ إن معناه: وهل ينجح ذلك النجاح الخاص إلا المجدون؟ 17 إطناب بالاحتراس؛ لأنه دافع لإيهام غير المراد. 18 فيه مساواة؛ لأن اللفظ على قدر المعنى. 19 فيه إيجاز بحذف "لا", أي: لا أبرح ... إلخ. 20 فيه إطناب بالإيغال لزيادة المبالغة في الذم. 21 إطناب بالتوشيع لنكتة الإيضاح بعد الإبهام. 22 فيه إطناب بتذييل جار مجرى الأمثال. 23 فيه إطناب بالاحتراس في قوله: "في عين العدو مهيب". 24 فيه إيجاز بحذف جملة، أي: وآتيناه على هرم "فساءنا". 25 فيه إطناب بالتذييل لإفادة التأكيد لمعنى الجواد.

تمرين يطلب جوابه على غرار ما سبق: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} . ذاكر تراجم رجالات مصر الحديثة، والإمام محمد عبده. سر القائد فلانًا, أنعم عليه بنيشان. تغاض عن هفوان صديقك، وتجاوز عن سيئاته، واستر مساوئه، نحن العرب أقرى الناس للضيف. {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} . أنت -سدد الله خطاك- من صفوة الناس خلقًا. لو غيرك قال هذه العبارات. الأرض للنشيط. أفيقوا من غفلتكم، واستيقظوا، ولا تأخذكم سنة ولا نوم عن هذا الأمر. رب اشرح لي صدري. أتقنت علوم البلاغة ومبحث الإيجاز والإطناب والمساواة. خاب زيد لإهماله وهل يخيب إلا المهملون؟ ما حك جلدك مثل ظفرك. ربح محمد مالا كثيرًا، ربح عشرين ألف دينارًا. إن رجلا يحرص على أداء واجبه، ويحافظ على شرفه، إنه لجدير باحترام الناس له، {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} . إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفوا مشاربه فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي تسمي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طل منا حيث مات قتيل إذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر وإن أضاءت لنا أنوار غرته ... تضاءل النيران الشمس والقمر

نصوص أسئلة لامتحانات رسمية

نصوص أسئلة لامتحانات رسمية: امتحان الدور الأول سنة 1365هـ: القواعد: 1- اذكر مع التمثيل خمسة من دواعي حذف المسند إليه، وخمسة من دواعي تعريفه بالإشارة. "10-40" 2- عرف القصر الإضافي ومثل له، وافرق بينه وبين القصر الحقيقي الادعائي مع التمثيل, ثم بين معنى قصر الإفراد، وقصر القلب، ومن أيهما قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} ؟ "8-40" 3- بين المعنى الاصطلاحي لشبه كمال الانقطاع، وشبه كمال الاتصال، واذكر أنواع ثانيهما، وأي تلك الأنواع يقتضي التأكيد؟ ولماذا؟ وما حكم الجملتين في الحالين؟ مع التمثيل لكل ذلك. "10-40" التطبيق: 1- مثل من كلام مأثور لما يأتي: مسند إليه عرف بالموصولية لتقرير الغرض الذي سبق له الكلام. مفعول حذف لدفع توهم غير المراد. قصر صفة على موصوف حقيقي تحقيقي. "هل" مستعملة في الاستبعاد. 2- بين سر الوصل والفصل فيما يأتي: قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} . "4-40" 3- بين ما في الأمثلة الآتية من إيجاز أو إطناب أو مساواة: قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . وقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} . وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} . وفي الحديث الشريف: "الضعيف أمير الركب". "4-40"

امتحان الدور الثاني سنة 1366هـ: القواعد: 1- اذكر مع التمثيل ثلاثة من دواعي ذكر المسند إليه، وثلاثة من دواعي تعريفه بالعلمية، وأربعة من دواعي تقديمه. "10-40" 2- "أ" عرف القصر الحقيقي والادعائي منه مع التمثيل، وما قصر الموصوف على الصفة؟ وما المراد بالصفة هنا؟ "ب" اذكر خمسة أمور من التي يستعمل فيها الاستفهام مجازًا مع التمثيل. "10-40" 3- بم يتحقق كمال الانقطاع بين الجملتين، وهل يقتضي الفصل أو الوصل؟ مع التمثيل لكل ما تقول، اذكر سر الفصل في قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ} . "7-40" التطبيق: 1- مثل لما يأتي: مسند إليه عرف بأل للإشارة إلى الحقيقة. أمر خرج إلى التمني. نهي الغرض منه الدوام. إيجاز بحذف جمل. "4-40" 2- بين الإيجاز والإطناب فيما يأتي: "أ" {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} . "ب" {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} . "ج" صببنا عليها ظالمين سياطنا. 3- بين المقصور عليه وطريق القصر ونوعه فيما يأتي: "أ" {وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} . "ب" إنما الدنيا هبات وعوار مستردة. "ج" الجديدين في طول اختلافهما لا يفسدان ولكن يفسد الناس "6-40"

امتحان الدور الأول سنة 1366هـ: القواعد: 1- اذكر الأغراض التي يقصدها المخبر بخبره، ومثل لها، وفي أي الحالات يتأتى إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر مع التمثيل. 2- من طرق القصر "إنما" مثل لها في قصر الصفة على الموصوف حقيقيًّا وإضافيًّا, وما وجه إفادتها القصر؟ وما أحسن مواقعها مع التوجيه؟ وأين يقع المقصور عليه في إنما؟ وأي طرق القصر لا يصح بعده العطف بلا مع التوجيه؟ "10-40" 3- بين ما يطلب بهمزة الاستفهام، وأين يقع المسئول عنه في الكلام؟ ولماذا يمتنع مثل: هل قرأت الفقه أم النحو؟ وما وجه اختصاص هل بالجملة الفعلية؟ ومتى يعدل إلى الجملة الاسمية؟ "10-40" التطبيق: 1- مثل لما يأتي: جملة: المفعول فيها محذوف للبيان بعد الإبهام. مسند إليه عرف بالإضافة لإغنائها عن تفصيل. إطناب سببه التتميم. "3-40" 2- بين المقصور والمقصور عليه وطريق القصر ونوعه فيما يأتي: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . كأن لم يمت أحد سواك ولم تقم ... على أحد إلا عليك النوائح "4-40" 3- بين سر الفصل والوصل فيما يأتي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} . {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} . يهوى الثناء مبرز ومقصر ... حب الثناء طبيعة الإنسان "3-40"

امتحان الدور الثاني سنة 1368هـ: القواعد: 1- اذكر خمسة من دواعي تعريف المسند إليه بالموصولية، وثلاثة من دواعي تعريفه بالإضافة مع التمثيل، وبين لم نكر المسند إليه في قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} , وقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَر} . "10-40" 2- من أسباب الفصل بين الجمل كمال الاتصال، ففيم يتحقق، اشرح ذلك شرحًا وافيًا مع التمثيل، وبين منزلة قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيه} , وقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} من قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} مع التعليل. "10-40" 3- اذكر ثلاثة من دواعي حذف المسند مع التمثيل، وبين لم قدم المسند في قول الشاعر: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر وقول حسان في رسول الله صلى الله عليه وسلم: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر له راحة لو أن معشار جودها ... على البر كان البر أندى من البحر "8-40" التطبيق: 1- بين المقصور والمقصور عليه وطريق القصر ونوعه في هذا البيت: إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب "4-40" 2- "ما عليٌّ إلا عالم" متى يكون القصر في هذه الجملة قصر إفراد، ومتى يكون قصر قلب، ومتى يكون قصر تعيين. "3-40" 3- مثل لما يأتي: استفهام عن الفاعل. أمر الغرض منه التهديد. "2-40" 4- بين الوجوه التي بها فضل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} على قولهم: القتل أنفى للقتل. "3-40"

امتحان الدور الأول سنة 1368هـ: القواعد: 1- اذكر أضرب الخبر، ومثل لكل ضرب منها، وبين لم بولغ في تأكيد قوله تعالى: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} ، مع بيان المؤكدات في الجملة الأولى والثانية. "8-40" 2- لم عرف المسند إليه بالإشارة فيما يأتي: "أ"- أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع "ب" {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . "ج" {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} . "د" {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} . "هـ" {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . 3- بماذا تمتاز إنما على العطف؟ ولماذا يجتمع العطف مع إنما والتقديم ولا يجمتع مع النفي والاستثناء؟ ولم كان التأكيد في النفي والاستثناء أقوى من التأكيد في إنما؟ وكيف قال الله تعالى مخاطبًا الرسول: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينكر ذلك؟ بين المقصور والمقصور عليه وأداة القصر في قولك: أنا سعيت في حاجتك، وبين أهو من قصر الموصوف على الصفة، أم من قصر الصفة على الموصوف. "11-40" التطبيق: 4- استفهم عن الفعل والفاعل والمفعول في هذه الجملة "اشترى عليّ كتابًا". "3-40" 5- بين المعاني التي خرج إليها الاستفهام فيما يأتي: "أ" قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} . "ب" وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . "ج" وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى, ورأى أمير المؤمنين جميل؟ "3-40"

3- بين سبب الوصل والفصل في هذين البيتين: قال حسان بن ثابت: أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال أحتال للمال أن أودي فأكسبه ... ولست للعرض في أودي بمحتال "4-40" 4- مثل لما يأتي: إيجاز قصر. إيجاز حذف. إطناب بالتذييل. جملتين فصل بينهما لشبه كمال الاتصال. جملتين وصل بينهما لدفع إبهام خلاف المقصود. "5-40" امتحان الدور الثاني سنة 1369هـ: القواعد: 1- اذكر دواعي تعريف المسند إليه بالإشارة مع التمثيل لكل داع. 2- عرف القصر الحقيقي، واذكر وجه تعذر قصر الموصوف على الصفة فيه، وافرق بين القصر الحقيقي حقيقة، والقصر الحقيقي ادعاء، وبين الحقيقي ادعاء والإضافي، وما الذي يشترط في قصر الموصوف على الصفة إفرادًا، ولماذا اشترط، وما أحسن مواقع إنما. "8-40" 3- عرف التذييل وقسمه مبينًا كل قسم، وممثلا له. "8-40" التطبيق: 1- بين أضرب الخبر في الأمثلة الآتية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع. عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة. "3-40" 2- بين سر الوصل والفصل في الأمثلة الآتية: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وقال الشاعر: لا تسأل الناس والأيام عن خبر ... هما يبثانك الأخبار تفصيلا

اللهم أرني الحق حقًّا فأتبعه، وأرني الباطل باطلًا فأجتنبه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالا بعيدًا. "7-40" 3- بين ما في الأمثلة الآتية من إيجاز، وإطناب، ومساواة: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} . {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} . {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} . "6-40" امتحان الدور الأول سنة 1369هـ: القواعد: 1- متى يجب ذكر المسند إليه، ومتى يترجح، اذكر ستة من دواعي ذكر المسند إليه، مع التمثيل لكل ما تذكر. "8-40" 2- تكلم عن دواعي تنكير المسند إليه ممثلا لما تذكره، وبين الفرق بين التعظيم، والتكثير، والتحقير، والتقليل. "8-40" 3- بين معنى كمال الانقطاع، ومعنى التوسط بين الكمالين واذكر صور كل منهما، وحكم الجملتين في الحالتين، ممثلا لما تقول. "9-40" التطبيق: 1- بين الغرض من الخبر في الجمل الآتية وما جرى على مقتضى الظاهر وما جرى على خلافه فيها: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} . {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} . "6-40" 2- هات مسندًا إليه معرفًا بالإشارة لإفادة التعظيم، ومسندًا إليه معرفًا بالموصولية للتنبيه على خطأ المخاطب، وقصر صفة على موصوف قصرًا حقيقيًّا. "6-40"

3- بين المراد من الاستفهام في الأمثلة الآتية: قال الله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ؟ وقال تعالى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} ، "أسرب القطا هل من يعير جناحه", أتوانيا وقد جد فرناؤك. امتحان الدور الأول سنة 1370هـ: القواعد: 1- اذكر أضرب الخبر بالنظر إلى حال المخاطب وبين دواعي إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر مع التمثيل، ثم بين لم بولغ في التأكيد في قوله تعالى: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} دون قوله أولا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} مع بيان المؤكدات في الجملتين. "10-40" 2- اذكر ثلاثة من دواعي حذف المسند إليه وثلاثة من دواعي حذف المسند مع التمثيل. "6-40" 3- اذكر دواعي تعريف المسند إليه بالموصولية مع التمثيل. "8-40" 4- افرق بين القصر الإضافي وبين القصر الحقيقي الادعائي مع التمثيل ثم بين من أي نوع قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} . "5-40" التطبيق: 1- مثل لما يأتي: مسند إليه معرف بالإضافة لإغنائها عن التفصيل. مفعول مقدم للتخصيص. مسند مقدم لإفادة العموم. هل مستعملة في الاستبعاد. مسند إليه عرف بأل للإشارة إلى الحقيقة. "5-40" 2- قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} , وقال: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} . لم عرف المسند إليه في الآية الأولى بالإشارة. ولم عرف في الآية الثانية بأل. "4-40" 3- بين سر الفصل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} . "2-40"

موضوعات الكتاب

موضوعات الكتاب: الصفحة الموضوع 3 مقدمة 5 تعريف علم المعاني 6 تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء 7 صدق الخبر وكذبه. الإسناد الخبري 8 ما يقصده المخبر بخبره 10 اختبار. تمرين 12 أضرب الخبر 14 إخراج الكلام على غير مقتضى الظاهر 17 تمرين 18 أحوال المسند إليه. ذكر المسند إليه 20 حذف المسند إليه 26 تعريف المسند إليه. تعريفه بالإضمار 28 تعريفه بالعلمية 30 تعريفه بالإشارة 32 تعريفه بالموصولية 36 تعريفه بأل 39 تعريفه بالإضافة 41 تنكير المسند إليه 43 تمرين 47 تقديم المسند إليه 51 تأخير المسند 53 أحوال المسند. ذكر المسند 54 حذف المسند 56 تعريف المسند 57 تنكير المسند 58 تقديم المسند 59 تأخير المسند 59 تمرينات منوعة 63 أحوال متعلقات الفعل 67 تمرينات عامة 69 القصر. تعريفه 70 تقسيم القصر باعتبار غرض المتكلم 71 تقسيم القصر باعتبار حال المقصور 72 تقسيم القصر باعتبار حال المخاطب 74 اختبار 76 طرق القصر 79 اختلاف طرق القصر 82 مواقع القصر 82 تأخير المقصور عليه أو تقديمه 84 اختبار

الصفحة الموضوع 88 الإنشاء 88 مبحث الأمر 92 مبحث النهي 93 اختبار 95 مبحث الاستفهام 105 اختبار 108 مبحث التمني 110 مبحث النداء 113 اختبار. تمرين 115 الفصل والوصل 116 مواضع الفصل 123 مواضع الوصل 125 محسنات الوصل 126 اختبار. تمرين 164 المساواة والإيجاز والإطناب 130 مبحث المساواة 131 مبحث الإيجاز 135 مبحث الإطناب 138 التوشيع 139 الإيغال 140 التكرير 141 التكميل. الاحتراس 141 التتميم 142 التذييل 144 الاعتراض 146 اختبار. تمرين 151 نصوص أسئلة لامتحانات رسمية

المجلد الثالث

المجلد الثالث مقدمات مقدمة المؤلف ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: الحمد لله والصلاة والسلام على خير الناطقين بالضاد من ولد عدنان, محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فها هي ذي مذكرة البلاغة لطلاب السنة الثالثة الثانوية للمعاهد الدينية، تحريت في وضعها الدقة في استيعاب ما قرر عليهم من مباحث السعد، مع إضافة ما لا غنى عنه من آراء الشراح، وأحسبني قد صادفني بعض التوفيق في عرض المسائل عرضا واضحا، مبسط المعنى، منسجم الترتيب, يتلاءم مع الدراسات الأزهرية الحديثة. وقد عنيت بالمسائل المختلف فيها بما جعلها أسرع إلى العقل من المتفق عليها، وما كان لي أن أجتزئ بما أوردوه من أمثلة قصدا إلى زيادة الايضاح، ولإمداد النفس بنوع من الترفيه والنشاط, إلى ما وضعته في ختام كل مرحلة من اختبارات وتطبيقات منوعة الأساليب بعضها مجاب عنه، وبعضها مطلوب جوابه؛ ليكون الطالب على ذكر دائما من قواعد العلم ومسائله. والله سبحانه أسأل أن يثيبني من فضله بقدر ما بذلت من جهد, إنه نعم المجيب. حامد عوني

تمهيد بنشأة العلوم البلاغة وتدرجها

تمهيد بنشأة العلوم البلاغة وتدرجها ... تمهيد بنشأة علوم البلاغة وتدرجها: وإلمامة ببعض أمهات الكتب المؤلفة فيها، والتعريف بالخطيب القزويني، وبسعد الدين التفتازاني: اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل لكل أمة لغة تتفاهم بها، ولسانا تؤدي به مطالبها. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} . وكان من سنته أن جعل بين الأمة ولغتها صلة في الرفعة والانحطاط، والموت والحياة، تلك سنة الله في خلقه. وإذا كان لسان المرء أحد أصغريه المقومين له، ونصفه المنضم إلى فؤاده ليكونا وحدته، فالأمة كذلك لسانها أحد أصغريها، ونصفها المتمم لوجودها. ومن ثم ندرك سر عناية الأمم بلغاتها، ونشاطها في ذيوعها. وإن فيما تفعله الأمم القوية بين أظهرنا -من نشر لغاتها، وفتح دور العلم، وتشجيع الناس ببذل الجوائز والهدايا على الإقبال عليها- لشاهدا ناطقا بأن اللغة عنوان الأمة، وبأن رقيها وامتداد ظلها رقي للأمة، وامتداد لسلطانها. على هذه السنة أرسل الله نبيه الكريم إلى الناس بلسان عربي مبين، وأنزل عليه بهذا اللسان كتابا يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فدعا الناس إلى توحيد الله تعالى، والعمل بشريعته، فآمن به من هداهم الله بنوره من العرب وغير العرب، وتكون من هؤلاء جميعا تلك الأمة المحمدية التي ربط بعضها ببعض ذلك الدين الذي ارتضاه

الله، وذلك اللسان العربي لسان الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد بارك الله في الذين آمنوا بالنبي، فنما عددهم وتزايد جمعهم، وانسابوا في بقاع الأرض ترحل معهم لغتهم في كل مرتحل، وتلاحقهم في كل موطن. وقد تآخى العرب والعجم، وامتزج هؤلاء بأولئك، فجرت كلمات غريبة من غير اللسان العربي في أفواه العرب، كما غزت العربية ألسنة من عداهم ممن دخلوا في دينهم, وتقربوا إلى لغتهم. عند ذلك لُوحظ اعوجاج في ألسنة بعض العرب نتيجة لهذا الاختلاط والتداخل، فخاف الحرصاء على اللغة أن تفسد ملكة العربية، ويضطرب لسانهم من جراء هذا الاندماج، فوجهوا عنايتهم إلى اللغة، فجعلوا منها علوما تستنبط قواعدها، وتقرر قضاياها ليتحامى العربي بتعلمها مزالق الخطأ، ويسير غيره على محجة الصواب. وجهوا عنايتهم أول ما وجهوها إلى ما يحفظ هذه اللغة من جهة الإعراب والبناء، وهو ما عرف بعد "بالنحو"، ثم إلى ما يحفظها من جهة تصريفها وبنيتها، وهو ما عرف "باسم الصرف" ثم إلى ما يحفظها من جهة مادتها، وهو ما عرف باسم "متن اللغة"، فكان ذلك أول ما حدث من تدوين العلوم اللسانية ونشأتها. ثم وجه العلماء عنايتهم إلى ما عرف باسم "علوم البلاغة" دفاعا عن القرآن الكريم من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف، وبراعة الأسلوب، وبديع الإيجاز. وكان مما حفزهم إلى ذلك مسألة البحث في إعجاز القرآن الكريم من أي جهة هو؟ أمن جهة اشتماله على مغيبات صح الإخبار بها بعد؟ أم من جهة الصرفة، وهي: صرف الله العرب عن معارضته مع يسرها عليهم تمكينا لنبيه وتصديقا له؟ أم من جهة مخالفة أسلوبه لأسلوب الشعر والرسائل؟ أم من جهة جودة النظم وقوة التأليف، والسمو

بالبلاغة إلى الحد الذي لم يستطع عنده أحد من البشر أن يحاكيه, أو يمني نفسه بذلك؟ وكان الحق من ذلك كله آخر هذه الأقوال، وهو ما ارتضاه عامة العلماء، واعتنقه جمهور المسلمين، ومنذ اعتناقهم له أخذوا يبحثون عن معنى الفصاحة والبلاغة والفرق بينهما، وعن سر هذه المزايا والخصائص التي ظهرت في نظم القرآن وتأليفه، وكيف كانت له هذه الجزالة التي أخرست الألسن، وأعجزت أساطين البيان، فنشأت عن ذلك مباحث الفصاحة والبلاغة، وأخذوا يدونون فيها. ولم يكن دون فيها إذ ذاك كتاب مستقل يضع ضوابطها، ويضبط عامة أصولها وقواعدها, بل كان كل ما عرف من ذلك رسائل وجيزة أثرت عن بعض العلماء ردا على سائل، أو إفادة لمستفهم على نحو ما كان من أبي عبيدة على ما سيأتي، وعلى نحو ما كان من المبرد حين قصد إليه الفيلسوف أبو يعقوب يوسف الكندي إلى آخر ما جاء في هذه المسألة1. ثم أخذت مسائل هذه العلوم طريقها إلى النمو والظهور على ألسنة الرواة والمتأدبين في غير نظام ولا إحكام، شأن كل جديد ناشئ، حتى جاء أبو عبيدة المتوفى سنة 206هـ فوضع كتابه "مجاز القرآن" على إثر سؤال وجه إليه في مجلس الفضل بن الربيع وزير المأمون عن معنى قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} وكيف يشبه الطلع برءوس الشياطين وهي لم تعرف بعد؟ أي: وينبغي أن يكون التشبيه بشيء قد عرف حتى يتبين الشبه ويتضح. فأجاب أبو عبيدة: إنما كلمهم الله على قدر كلامهم، وهو على حد قول امرئ القيس:

_ 1 هي: أنه ذهب إليه فقال: إني لأجد في كلام العرب حشوا, فقال: في أي موضوع وحدت ذلك؟ فقال: أجدهم يقولون: عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله لقائم، فالألفاظ مختلفة والمعنى واحد, فأجاب أبو العباس: بل المعاني مختلفة؛ فالأول إخبار عن قيامه، والثاني جواب عن سؤال سائل، والثالث جواب عن إنكار منكر ا. هـ. وهذا ما اصطلح العلماء فيما بعد على تسميته "أضرب الخبر".

أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟ يريد أن المشبه به هنا غير معروف كذلك، وأن الغرض من التشبيه في الآية والبيت عرض المشبه وإبرازه في صورة مستفظعة مخوفة, والعرب تشبه قبيح الصورة بالشيطان أو الغول، فيقولون: كأنه رأس الشيطان، أو كأنه وجه الغول وإن لم يروهما لاعتقادهم أن كلا الشيئين شر محض؛ لا يخالطه خير، فيطبع في مخيلتهم بأقبح صورة فاستحسن الفضل ذلك، واستحسنه السائل، ثم قام أبو عبيدة من فوره، وتقصى ما ورد في القرآن من الألفاظ التي أريد بها غير معناها الأول في اللغة، وجمعها في هذا الكتاب، وأسماه "مجاز القرآن"، وهو -على ما قيل- أول كتاب دون في علم البيان. وأبو عبيدة هذا هو معمر بن المثنى البصري أحد رواة اللغة الأعلام، وتلميذ يونس بن حبيب شيخ سيبويه إمام النحاة، وأستاذ الخليفة العباسي هارون الرشيد. ثم تبعه العلماء من بعده، فوضعوا رسائل في الاستعارة والكناية لم تميز علم البيان تمييزا خاصا، وبقيت الحال كذلك مدة العصر العباسي الأول. أما علم المعاني فلم يعرف بالضبط أول من تكلم فيه، وإنما أثر عن بعض فحول الكتاب والخطباء كجعفر بن يحيى1 وسهل بن هارون2 وغيرهما كلام في هذا النوع من البلاغة، ولكنه لم يطبع هذا العلم بطابع خاص يتميز به عن سواه. وأول من أسهم لهذا العلم من عنايته، وخصه بمستفيض بحثه، ودون فيه ونظم شيخ حملة القلم، إمام الأدباء وصاحب التصانيف الممتعة

_ 1 أحد وزراء الرشيد. 2 فارسي الأصل, اتصل بالمأمون فولاه خزانة الحكمة, وكان أديبا شاعرا حكيما يتعصب للعجم على العرب.

والرسائل المبدعة أبو عثمان بحر الجاحظ المتوفى سنة 255هـ, دون ذلك في كتابيه "البيان والتبيين"، و"إعجاز القرآن"، وتقفّاه العلماء من بعده كأبي عباس المبرد صاحب الكامل، وقدامة بن جعفر1، ووقف الأمر عند هذا الحد طيلة هذا العصر. أما علم البديع, فعلى ما قيل: إن أول من كتب فيه كتابا خاصا عبد الله بن المعتز الخليفة العباسي المتوفى سنة 296هـ، وكان الشعراء قبله يأتون في أشعارهم بضروب من البديع -على سبيل الاستطراد- مثل بشار بن برد2 ومسلم بن الوليد3 وأبي تمام4 وغيرهم، فجاء ابن المعتز وجمع من أنواعه سبعة عشر نوعا، وقال في كتابه: وما جمع قبلي فنون البلاغة أحد، ولا سبقني إليه مؤلف، ومن أحب أن يقتدي بنا، ويقتصر على ما اخترعناه فليفعل، ومن رأى إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختياره. وكان ممن يعاصره قدامة بن جعفر سالف الذكر، فجمع منه عشرين نوعا توارد مع ابن المعتز على سبعة منها، وسلم له ثلاثة عشر، تضاف إلى السبعة عشر التي جمعها ابن المعتز، فتكون جملة ما جمعاه ثلاثين نوعا هي أقصى ما جمع في ذلك العصر. وجاء العصر التالي, فزاد كل من أبي هلال العسكري5 صاحب

_ 1 كان نصرانيا وأسلم, واشتهر في زمانه بالبلاغة ونقد الشعر, وألف في ذلك كتبا. 2 هو أبو معاذ أشعر مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية, وكان مع ذلك كفيفا. 3 هو صريع الغواني أبو الوليد, أحد الشعراء المفلقين في الدولة العباسية. 4 هو حبيب بن أوس، عربي الأصل وأحد الشعراء الأعلام في الدولة العباسية. 5 هو الحسن بن عبد الله بن سهل المتوفى سنة 395هـ. ألف كتابه الصناعتين, وبحث في مسائل الفنون الثلاثة, غير أنه أطال الحديث في البديع.

الصناعتين وابن رشيق1 صاحب العمدة وغيرهما أنواعا كثيرة بلغت نحو التسعين نوعا. هذا, ولم تميز هذه العلوم، وتبوب وتفصل إلا في العصر العباسي التالي, وأول من نزع عن قوسه، ورمى إلى هذا الهدف الإمام عبد القاهر شيخ البلاغة المتوفى سنة 471هـ، فهو أول من هذب المسائل، وضم شتاتها، وأرسى قواعدها، وبوبها فأحسن تبويبها، ورتبها فأبدع ترتيبها، وألف في ذلك كتابيه -أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز- فكانا أحفل كتابين فيما عرف بعد بالمعاني والبيان, إذ قد جرى فيهما شوطا لم يبلغه أحد ممن سلف. وقد أبان الشيخ عن ذلك كله بإطناب ممتع، وعبارات مصطفاة، مع سلاسة وجودة، ومع عرض لكثير من الأمثلة والشواهد في أسلوب طلبي خطابي يملك الأسماع، ويستولي على القلوب. ومن هنا عد الشيخ الإمام عبد القاهر واضع هذا الفن عند الجمهرة العظمى من علماء البلاغة. وبقي الأمر على هذه الحال حتى جاء فارس الحلبة أبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626هـ, فوضع كتابه "مفتاح العلوم" وجعله ثلاثة أقسام, بسط في القسم الثالث منها مسائل المعاني والبيان بما سمح له أن يقول عن نفسه: إنه قضى بتوفيق الله منهما الوطر, ولم يكن حديث السكاكي في هذه المباحث كحديث عبد القاهر، فقد وضع حدودا استطاع بها أن يفصل بين هذه الأبحاث فخص ما يتعلق برعاية المطابقة لمقتضى الحال "باسم المعاني"، وخص ما يتعلق بإيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة باسم "البيان"، وخص ما يتعلق بتحسين الكلام وتزيينه بعد رعاية المطابقة, ووضوح الدلالة باسم "البديع"، وقد كانت عند عبد القاهر ومن تقدمه

_ 1 هو أبو علي الحسن بن رشيق المتوفى سنة 406هـ. ألف كتابه العمدة في محاسن الشعر وآدابه, وتحدث فيه عن البلاغة بأنواعها الثلاثة, وكان كتابه في ذلك خير الكتب علما وإفادة.

مجموعة في سمط واحد، وتحت موضوع واحد هو الكلام العربي من حيث إنه كيف يكون بليغا فصيحا، وعذبا رشيقا. والكتاب غاية في الجودة وإن جفت عبارته وخلت من الإطناب الذي التزمه عبد القاهر، ومن الإكثار من الأمثلة والشواهد التي عول عليها الشيخ إلى حد بعيد، ولكنه -مع ذلك- رتب المباحث ترتيبا حسنا، وبوبها تبويبا جيدا، وحدد أنواعها، وضبطها ضبطا وفر به الجهد على من تصدى بعده للنظر فيها. ولما في هذا الأثر الجليل من تمييز المسائل بعضها من بعض, وتحديد مباحث هذه العلوم تحديدا أنار السبيل للباحثين؛ عد الإمام السكاكي واضع البلاغة في رأي كثير من البلغاء. ومهما يكن من شيء, فقد أصبحت علوم البلاغة بعد السكاكي قائمة بذاتها, متميزة الموضوع، واضحة المنهج، قريبة المورد، واتية الجنى. ثم جاء المتأخرون من بعده، فلم يستطيعوا أن يزيدوا عليه شيئا من أصول البلاغة, وكان قصارى جهدهم أن تناولوا كتابه بالاختصار تارة، وبالشرح أخرى، وأهم مختصرات قسم البلاغة منه تلخيص: الخطيب القزويني: وهو أبو المعالي قاضي القضاة, جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الشافعي, المولود بقزوين1 سنة 666هـ والمتوفى سنة 739هـ. وقد نشأ الخطيب مقبلا على العلم، محبا له، جامعا لمسائله، يعينه على ذلك ذكاء نادر، وبديهة قوية، ولم يمض من عمره كثير حتى عرف بالفصاحة، وسعة الاطلاع, وجودة المحاضرة، وعذوبة

_ 1 إحدى بلاد طبرستان, التي يحدها من الشمال بحر الخزر.

الحديث؛ ولهذا ولي القضاء وسنه أقل من عشرين سنة، ولم يثنه ذلك عن متابعة الدرس والتحصيل, فأقبل على شتى الفنون يكمل نفسه بها، وعلى علوم البلاغة يحصلها ويؤلف فيها حتى اشتهر أمره بها, فدعي لتولي الخطابة بجامع دمشق وكانت إذ ذاك وظيفة السادة من العلماء الأعلام، ولعله سمي الخطيب من أجل ذلك، ثم طلب لتولي قضاء الشام، فولي أمره على خير ما يكون، ثم ما لبث أن دعي لتولي القضاء في مصر، وزيادة في تكرمته أعطي رئاسة الأوقاف فيها، فوسع بأموالها على الفقراء وذوي الحاجات، فعظم أمره في مصر، وتطلعت إليه الأنظار، وذكر اسمه على الألسنة مقرونا بالعلم والسماحة والمعروف. غير أن انغماس أولاده في الترف واللهو، وقبولهم للرشوة، واتّجارهم باسم أبيهم وجاهه, كل ذلك أساء إلى سمعة الشيخ الخطيب، فأعفي من العمل في مصر وأعيد إلى قضاء الشام مرة أخرى، فلم يلبث بها كثيرا حتى أصابه فالج مات به, بعد أن ترك لعلماء البلاغة سفرين جليلين هما أثره الباقي في هذا الفن إلى اليوم. أحدهما: كتاب التلخيص الذي ضمنه القواعد الموجودة في القسم الثالث من مفتاح العلوم للسكاكي, وجعله مشتملا على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد. وقد بلغ هذا الكتاب من الشهرة ما لم يبلغه غيره من كتب هذا الفن؛ إذ عني به أرباب الشروح والحواشي, فكتبوا عليه، وكشفوا غوامضه, وأبانوا معالمه، ومن ثم حرص أبناء الأزهر على مدارسته، وتفهم عباراته، وما كتب عليه إلى يومنا هذا. ثانيهما: كتاب الإيضاح, وقد حدث الخطيب عن نفسه, أنه جعله على ترتيب مختصره "تلخيص المفتاح"، وبسط فيه القول ليكون كالشرح له؛ فأوضح غوامضه، وفصل مجمله، وأضاف إليه زيادات لم يشأ أن يجعلها في مختصره, كما أضاف إليه ما أدى إليه فكره، ولم يجده لغيره.

ولقد خدم الخطيب بهذين الكتابين مؤلفات السابقين؛ فجمع شتاتها، وذلل صعابها، وسهل عسيرها، وهذب قواعدها، وهو لهذا معدود ممن خدموا كتب الفن، لا ممن ابتكروا فيه، ووضعوا أصوله, وأرسوا قواعده. وقد بلغ من اعتراف العلماء بهذين الكتابين وجليل نفعهما أن عدوهما آخر ما وصل إليه الإتقان والإبداع في هذه الفنون، فلم يحدثوا أنفسهم بالزيادة على ذلك, أو التبديل فيه، أو الخروج عليه، ووقفت همتهم عند ما انتهى إليه هذا الإمام الجليل، وقصروا جهودهم على البحث في كتبه، يوضحون غامضها، ويحلون مشكلاتها، ويفسرون ما انْبَهم من عباراتها وتراكيبها، ومن ثم كثرت الشروح والحواشي والتقارير تقريبا للأفهام، وتيسيرا للعقول، وكل هذه الشروح -ولله الحمد- كانت خير مثابة لطلاب البلاغة وعشاقها، وأشهر هؤلاء الشراح: سعد الدين التفتازاني: هو سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني الشافعي, المولود بتفتازان1 سنة 712 أو 722هـ على خلاف في الرواية. نشأ سعد الدين عاكفا على دراسة العلم والأدب، واتصل في نشأته بالفطاحل من العلماء, فتخرج في علوم كثيرة منها الفقه, فهو معدود من أصحاب التصانيف فيه. وله في الاهتمام بعلوم البلاغة شأن كبير، وشهرة ذائعة، بل له في كل ما صنف باع طويل في التحقيق البالغ أقصى المدى، وكانت تغلب عليه في ذلك قواعد الفلسفة والمنطق, كما كان مولعا أشد الولع بتعاطي الجدل والمناظرة. وقد تناول فيما تناول كتاب التلخيص فأحسن خدمته والعناية به في شرحيه -المطول والمختصر- وهما ما هما عند

_ 1 إحدى قرى خراسان, من بلاد فارس.

أهل الفن، ألف المطول أولا، فتوسع في الحديث واستطرد في المباحث فرأى -تلبية لرغبة بعض الفضلاء- أن يوجه همته إلى اختصاره، والاقتصار على ما يوضح معاني كتاب التلخيص للقزويني؛ لتقاصر همم المحصلين وتقاعد عزائمهم -كما يقول- فتوفر على تحقيق هذه الرغبة، وألف مختصره، وهو ذلك الكتاب المشهور، والشرح المأثور. وقد عني العلماء بكتابة الحواشي والتقارير عليه، فاشتهر سعد الدين بذلك شهرة لم تكن لغيره ممن عنوا بالكتابة على "التلخيص". غير أن هذا الشرح يؤخذ عليه كما يؤخذ على غيره من الشروح, والحواشي ابتعاد عبارته عن أساليب البلاغة بحيث لا ينبغي لدارس هذه الكتب أن يتخذ ما فيها من التراكيب قدوة له في كتابته؛ لأنها لم تتضمن غير عبارات اصطلاحية جافة، بعيدة كل البعد عن روح البلاغة، وتذوق الأدب، قصد بها شرح الكتاب المؤلف دون نظر إلى شرح خصائص كلام العرب، وتبيين مزاياه، وذلك مما يؤسف له. هذا, ومن الغريب أن جل من تعاطى البلاغة هم من العلماء الأعاجم أو المستعجمين الذين تنازعت ألسنتهم ملكات لغاتهم الأصلية، فحسبوا أن البلاغة تجري مع المنطق والفلسفة في مضمار، فكتبوا بأساليبها كتب البلاغة؛ فازدادت تعقيدا وإبهاما، وبدلا من أن تكون عونا على تربية ملكتي الفصاحة والبلاغة، وحسن الأداء كانت عائقة عن نموها، حائلة دون بلوغها ما أريد منها. ونحن لا نعيب أصحاب هذه الكتب بذلك, ولا ننتقص أقدارهم، ونعتقد أنهم بذلوا غاية الجهد على قدر ما وهبهم الله، وهداهم إليه, غير أن واجبنا يهيب بنا ألا نقنع بالذي صنعوه، وأن نعلي فوق الأساس ونتمم البناء, معترفين بما للسابقين من فضل, متمثلين بقول الشاعر: فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النفس قبل التندم ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها؛ فقلت الفضل للمتقدم ومما ينبغي أن نقوله في هذا المقام هو أننا لا نستطيع أن نكون بلغاء بمجرد الإلمام بهذه القواعد التي انتظمها التلخيص ومختصر السعد وغيرهما، بل لا بد من الحصول على الملكة البلاغية، وحصولها متوقف -إلى جانب ذلك- على دراسة النصوص الأدبية، والاتصال بالمأثور منها في مختلف عصوره، وامتلاء النفس به، وتذوقه وحفظه ومحاكاته.

وجه الحاجة إلى دراستها

وجه الحاجة إلى دراستها: مرجع ذلك إلى أمور ثلاثة: الأول: أن الناظر في هذه العلوم، والمدرك لها، والحائز لملكتها يقف عن يقين؛ لا يشوبه تردد على جهة إعجاز القرآن الكريم بالتفصيل. وهي جهة دلالته اليقينية على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- فيكون بذلك مؤمنا عن عقيدة، لا عن تقليد، وعن برهان، لا عن محاكاة، وذلك شرف لا غاية وراءه. الثاني: أن المتمكن من أصولها وأحكامها يلمس بنفسه دقائق العربية وأسرارها، ويدرك مراتب الكلام ومزايا صوره شعرا ونثرا؛ لأن عليها مدار النقد ومعرفة الجيد من الكلام ورديئه، ومن وفق إلى الإحسان من أرباب القول ومن لم يوفق, وإلا فكيف يعرف الجاهل بفنون البلاغة وأصولها فضل كلام على كلام، وشرف متكلم على آخر، وكيف يستطيع مثل هذا أن يوازن بين شعر وشعر، أو أن يفاضل بين خطيب وخطيب؟ الثالث: أن الدارس لهذه الفنون، الخبير بضوابطها وقوانينها, العارف لأصولها وفروعها إذا أراد أن يقول شعرا أو نثرا في أي غرض من الأغراض, استطاع أن يجد من أمره رشدا، فيصيب الهدف، ويدرك القصد، ويأتي بما يطابق الحال من الألفاظ والتراكيب، ويهتدي إلى المستجاد من الكلام، والمختار من القول؛ لأن معه النبراس الذي يستضيء به، ويسير على هداه.

وإليك ما يقوله الإمام عبد القاهر في ذلك: "ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا, وأبسق فرعا، وأحلى جنيا، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا، وأنور سراجا, من علم البيان الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي، وينفث السحر، ويريك بدائع الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر، والذي لولا تحفيه بالعلوم، وعنايته بها، وتصويره إياها لبقيت كامنة مستورة، ولاستمر السرار بأهلتها، واستولى الخفاء على جملتها, إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، ولا يحصرها الاستقصاء". ولو لم يكن لهذه العلوم من سابغ الفضل على ذويها سوى الوصول بهم إلى موضع السر من إعجاز القرآن، وكيف أنه تحدى العرب -وهم ذوو لسن وفصاحة- في أبين سماتهم، وأجل صفاتهم, بما حواه من محكم الصياغة، ورائع البلاغة، وبما تضمنه من جوامع الكلم، وروائع الحكم حتى وقف بنو العروبة، وحاملو لوائها أمامه واجمين، وخَرَّ له أعلام البيان ساجدين, لو لم يكن لها سوى هذا الفضل لكان لزاما على عامة أبناء العربية أن يرتضعوا أفاويقها, وينهلوا من مناهلها، فما ظنك بها وقد تعدى خطرها هذا الأمر. إنها لتكشف لك عما في الفصحى من كنوز ونفائس لا تقف عند حد, كما تكشف لك عن سر ما لها من فضل التقدم على سائر اللغات حتى نزل بها القرآن الكريم، فوسعته معنى وأسلوبا, على ما فيه من روعة وجلال، فكان ذلك شهادة لها بتبوئها مكان الصدارة، واستوائها على عرش السيادة. وهل تراك بالغا أعماق القلوب، مالكا زمام العقول -تقويما لعقيدة زائغة، أو إحياء لحق مضيع، أو ردا لشرف مثلوم- بغير معونة هذه العلوم؟ أجل, فرب كلام أقطع من حسام، وأنفذ من سهام. وأي أثر ذلك الذي تحسه في نفسك عندما يجري على لسانك اللفظ الأنيق ذو المعنى الدقيق، أو تنعكس على براعتك أشعة الخيال

الرائع، والتصوير البارع، أتراك لو حِيزت لك الدنيا بحذافيرها لقاء أن يعزى إلى غيرك ما أبدعت, أكنت قابلا هذا البدل على جليل خطره، وعظيم قدره؟ تلك "لعمري" متعة النفس, لا يعدلها شيء في الوجود. من أجل ذلك كله, كانت حاجتنا إلى دراسة هذه العلوم فوق حاجتنا إلى شان آخر من شئون الحياة، وحسبك منها أن تعرف بها ما للغة آبائك من قوة واعتزاز، وما احتواه كتاب ربك من أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز.

الفصاحة والبلاغة

الفصاحة والبلاغة الفصاحة مدخل ... الفصاحة والبلاغة: الفصاحة: تطلق "في اللغة" على معانٍ عدة ينبئ جميعها عن معنى الظهور والبيان؛ يقال: أفصح فلان عما في نفسه أي: أعرب عنها، ويقال: أفصح الصبي في منطقه, وفصح فيه إذا فهم ما يقول أول أمره. كما يقال: أفصح الأعجمي وفصح إذا انطلق لسانه بالعربية؛ لا تشوبه لكنة. ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى, عليه السلام: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} أي: أظهر وأبين مني قولا، وقولك: أفصح إن كنت صادقا أي: بين وأظهر. ويقال: سرينا حتى أفصح الصبح أي: بدا ضوءه ولمع. ومنه المثل المشهور: "أفصح الصبح لذي عينين"1 أي: ظهر, كما يقال: هذا يوم مفصح أي: جلى, لا غيم فيه. ويقال: أفصح النصارى أي: برزوا في يوم فصحهم2 ليتبادلوا التهاني، أو ليتسابقوا إلى حيث الرياض والبساتين. ويقال: أفصح اللبن3: إذا نزعت رغوته فظهر, كما يقال: سقاهم لبنا فصيحا أي: منزوع الرغوة. ومنه المثل المعروف: "وتحت الرغوة اللبن الفصيح"4. فوضح لك من كل هذه الأمثلة أن "الفصاحة" لم توضع لمعنى الظهور والبيان، وإنما وضعت لمعانٍ يدل جميعها على هذا المعنى بطريق

_ 1 يضرب للشيء يظهر بعد استتاره. 2 بكسر الفاء أي: عيدهم. 3 قيل: إن هذا المعنى حقيقي للفصاحة, وإن ما عداه مجاز. 4 يضرب للأمر ظاهره غير باطنه.

اللزوم, وهذا هو السر في قول "السعد" بيانا لمعناها لغة: هي تنبئ عن الظهور والبيان. أما الفصاحة "في الاصطلاح" فعلى ما ذهب إليه الخطيب: هي ما يوصف به المفرد، والكلام، والمتكلم, يريد أن معناها يختلف باختلاف موصوفها وهو أحد ثلاثة: الكلمة، والكلام، والمتكلم. يقال: "هذه كلمة فصيحة" إشارة إلى كلمة معينة كلفظ "الأجل", ويقال: "هذا كلام فصيح" إشارة إلى مركب معين كقولنا: "الله الأجل" ويقال: "هذا متكلم فصيح" إشارة إلى متكلم معين كأبي بكر، أو عمر، أو علي, أو غيرهم من فصحاء العرب. غير أن في تعريف الخطيب للفصاحة قصورا؛ إذ لم يشمل المركب الناقص. بيان ذلك: أن المركب الناقص ليس بكلمة لأنها قول مفرد، والمفرد ما قابل المركب، وليس بكلام؛ لأن الكلام خاص بالمركب التام، فالمركب الناقص إذًا خارج عنهما, ومقتضى ذلك ألا يتصف بالفصاحة، مع أنه يوصف بها قطعا، فيقال: هذا مركب فصيح, كما في قول الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا فإن هذا البيت من قبيل المركب الناقص, إذ لا يفيد معنى يحسن السكوت عليه؛ لعدم ذكر الجواب الذي هو محط الفائدة, مع أنه فصيح بالإجماع لخلوه من العيوب المخلة بالفصاحة, على ما سيأتي. أجاب الخلخالي ردا لهذا الاعتراض: بأن يعمم في الكلام أي: أن يراد به المركب مطلقا -تاما كان أو ناقصا- على سبيل المجاز المرسل، من إطلاق الخاص وإرادة العام، وحينئذ يشمل المركب الناقص كالبيت المذكور. ورد "السعد" هذا الجواب: بأنه إنما يصح هذا التأويل لو أن العرب أطلقوا على المركب المذكور كلاما فصيحا، ولم ينقل عنهم ذلك

بل المنقول عنهم وصفه بالفصاحة، لا وصفه بأنه كلام، فقالوا فيه: هذا مركب فصيح، ولم يقولوا: هذا كلام فصيح، ووصف المركب بالفصاحة لا يستلزم وصفه بأنه كلام, فاشتمال الكلام على المركب الفصيح حينئذ غير مسلم. على أن وصف المركب بالفصاحة يحتمل أن يكون باعتبار مفرداته لا باعتبار ذاته، فمعنى قولهم: هذا مركب فصيح: أن مفرداته فصيحة, فيكون حينئذ داخلا في المفرد من غير تأويل فيه؛ وعلى ذلك ينهدم الاعتراض المذكور من أساسه. فالجواب السليم ردا للاعتراض أن يعمم في المفرد, بأن يراد به ما ليس كلاما أي: مركبا تاما ليشمل المركب الناقص. وسند هذا الجواب أنه لم يعهد إطلاق الكلام على المركب مطلقا الشامل للتام والناقص إلا بالحمل على المجاز المرسل كما ذكرنا, أما إطلاق المفرد على ما ليس كلاما فحقيقة عرفية كإطلاقه على ما ليس مثنى ولا مجموعا "في باب الإعراب"؛ وكإطلاقه على ما ليس مضافا ولا شبيها بالمضاف "في باب المنادى"، وكإطلاقه على ما ليس جملة ولا شبيها بها "في باب المبتدأ والخبر" والحمل على الحقيقة أولى من الحمل على المجاز؛ لأنه خلاف الأصل, والقرينة على أن المراد بالمفرد هنا ما ليس كلاما مقابلته به ا. هـ. تنبيه: يلاحظ أنه قسم الفصاحة أولا إلى فصاحة مفرد، وفصاحة كلام, وفصاحة متكلم، ثم عرف كلا على حدة -على ما سيأتي- مع أن الشان أن يؤتى للمعرف بتعريف شامل لأقسامه، ثم يقسم بعد ذلك إلى هذه الأقسام كما فعل في "الكلمة" فقد عرفت أولا بأنها قول مفرد، وهو تعريف شامل لأقسامه الثلاثة: الفعل، والاسم، والحرف؛ إذ يطلق على كل منها: أنه قول مفرد، ثم قسمت بعد ذلك إلى هذه الأقسام. وكما فعل في "الإنسان" فقد عرف أولا بأنه حيوان ناطق، وهو معنى شامل لأنواعه من زنجي وعربي وشامي ومصري, إذ يطلق على كل منها: أنه حيوان ناطق، ثم قسم بعد ذلك إلى هذه الأنواع؛ فهلا فعل في الفصاحة كذلك؟ ويجاب بأنه لم يتأت أن يؤتى للفصاحة بتعريف شامل لأقسامها الثلاثة كما تأتى في الكلمة والإنسان؛ فلهذا اضطروا إلى تقسيمها أولا, ثم تعريف كل قسم من أقسامها ثانيا.

فصاحة الكلمة

فصاحة الكلمة: فصاحتها: أن تسلم من العيوب الثلاثة: تنافر الحروف، مخالفة الوضع، الغرابة. ووجه حصر فصاحة الكلمة في السلامة من هذه الثلاثة: أن كل كلمة لها "مادة" هي حروفها، "وصورة" هي صيغتها، ودلالة على "معناها" فعيبها إما في مادتها وهو "التنافر"، أو في صيغتها وهو "مخالفة الوضع"، أو في دلالتها على معناها وهو "الغرابة". فبسلامتها من هذه العيوب تسلم مادتها، وصيغتها، ومعناها من الخلل, وهاك بيان العيوب الثلاثة على هذا النسق: تنافر الحروف: هو أن تكون الكلمة ثقيلة على اللسان؛ يتعسر النطق بها، وهو نوعان: تنافر شديد، وتنافر قريب منه. فالأول: كلفظ "الظش" للموضع الخشن، و"كالهعخع" لنبات ترعاه الإبل في قول أعرابي, وقد سئل عن ناقته: تركتها ترعى الهعخع. فهاتان الكلمتان غير فصيحتين؛ لما فيهما من تنافر الحروف تنافرا شديدا يشعر به كل ناطق, وهو خلل واقع في مادتهما. والثاني: كلفظ "النقاخ" بضم النون, وهو الماء العذب في قول الشاعر:

وأحمق ممن يكرع الماء قال لي ... دع الخمر واشرب من نقاخ مبرد وكقول امرئ القيس الشاعر الجاهلي1: غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص في مثنى ومرسل2 يصف الشاعر حبيبته بكثرة الشعر وغزارته، وأنه مرتفع فوق رأسها، وأنه لكثافته منوع الأجزاء, فبعضه معقوص ملوي، وبعضه مثنى، وبعضه مرسل لا عقص فيه ولا تثنية، وأن المعقوص منه يتيه ويختفي فيما ثني وأرسل منه. فهاتان الكلمتان "في البيتين" غير فصيحتين؛ لما فيهما من تنافر في الحروف وإن كان أخف وقعا مما قبله، وهو خلل واقع في مادتهما كذلك. قيل: إن الضابط المعول عليه في ضبط التنافر قرب مخارج الحروف أو بعدها بمعنى: أن تكون الحروف متقاربة في المخرج، أو متباعدة فيه؛ فلفظ "الهعخع" مثلا متنافر ثقيل لتقارب حروفه في المخرج؛ لأن الهاء والعين والخاء خارجة كلها من مخرج واحد هو الحلق إلا أن بعضها خارج من أقصاه، وبعضها من قريب منه. ولفظ "مستشزرات" متنافر ثقيل أيضا لتقارب حروفه في المخرج كذلك, إذ إن حروفه ما عدا الميم خارجة من مخرج واحد هو "اللسان"، غير أن بعضها خارج من طرفه، وبعضها من وسطه. ونحو "ملع" بمعنى:

_ 1 هو أسبق شعراء الجاهلية إلى ابتداع المعاني، وحسن التعبير عنها، وأول من وقف على الديار واستبكى الأطلال. 2 الغدائر: جمع غديرة, وهي المسماة بالضفيرة, والضمير راجع إلى "فرع" في البيت الذي قبله وهو: وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل أي: فرع محبوبته، ومستشزرات بكسر الزاي بمعنى: مرتفعات, ويروى بفتح الزاي بمعنى: مرفوعات، والعقاص: جمع عقيصة, وهي الخصلة من الشعر مجتمعة فوق الرأس، "والمثنى" الشعر المفتول، "والمرسل" ضده.

أسرع, متنافر الحروف أيضًا لتباعد حروفه في المخرج, إذ إن الميم خارجة من الشفتين، والعين من أقصى الحلق ... وهكذا. ورد هذا القول بأن الضابط المذكور غير مطرد؛ لأنا لا نجد تنافرا في لفظتي "الجيش والشجي" مع تقارب الجيم والشين في المخرج, كما لا نحس تنافرا في مثل "علم وملح" مع تباعد العين والميم والحاء في المخرج. على أننا لو اعتبرنا التباعد في المخرج، أو التقارب فيه منشأ للتنافر المخل بالفصاحة لاقتضى ذلك وقوع غير الفصيح في القرآن, فقد ذكرت مادة "علم" في غير موضع منه مع تباعد العين والميم في المخرج, كما ورد في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ} الآية، مع تقارب الهمزة والعين والهاء في المخرج, وورود غير الفصيح في القرآن المعدود في أعلى طبقات الفصاحة مما لا يؤمن به عاقل. وقد يجاب بأن ورود كلمة غير فصيحة في جمهرة الكلام الفصيح لا يخرجه عن فصاحته, كما أن ورود كلمة أعجمية في كلام عربي لا يخرجه عن عربيته بدليل ورود كثير من الكلمات الأعجمية في القرآن، ومع ذلك لا يسع عاقلا أن ينكر عربيته، كيف وقد قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} . ورد هذا الجواب: بألا يسلم لهذا القائل ما ادعاه من أن اشتمال الكلام الفصيح على كلمة غير فصيحة لا يخرجه عن فصاحته؛ لأن علماء البلاغة شرطوا في فصاحة الكلام أن تكون أجزاؤه كلها فصيحة, والقياس على الكلام العربي قياس مع الفارق؛ لأنهم لم يشترطوا في الكلام العربي أن تكون كل كلماته عربية كما شرطوا في الكلام الفصيح, على أن مجرد ورود كلمة غير فصيحة في القرآن مما يجرّ إلى ما لا يليق به "سبحانه" من نسبة العجز له عن إبدال غير الفصيح بالفصيح في كلام قصد به الإعجاز, والتحدي لبلوغه أعلى طبقات البلاغة.

أما من زعم1 أن منشأ الثقل في نحو: "مستشزرات" توسط الشين -وهي من الحروف الرخوة المهموسة- بين حرفين يضاربانها في صفتها, وهما "التاء الزاي" إذ إن التاء من الحروف الشديدة، والزاي من الحروف المجهورة فبعيد عن الصواب أيضًا لعدم اطراد ما زعم؛ إذ لا نجد تنافرا في لفظ "مستشرف" مع توسط "الشين" بين حرفين يضاربانها في صفتها كما في "مستشزر" فأي فرق بينهما؟ وإذًا فقرب المخارج أو بعدها، أو غيرهما لا يصلح ضابطا يعول عليه لعدم اطراده -كما عرفت- بل الحكم في ذلك للذوق السليم, فما عده الذوق ثقيلا متعسر النطق فهو متنافر، وما لا فلا, سواء أكان متقارب الحروف، أو متباعدها, أو غير ذلك ا. هـ. مخالفة الوضع2: هي أن تكون الكلمة مخالفة لما ثبت عن الواضع, سواء أخالفت القياس الصرفي أيضا أم لا. فمدار المخالفة على ما ثبت عند الواضع بغض النظر عن القياس المذكور. فمثال ما خالف الأمرين معا لفظ "بوقات" جمع مؤنث مفرده "بوق" بمعنى المزمار, في قول المتنبي يمدح سيف الدولة: فإن يك بعض الناس سيفا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول يقول: إذا كنت سيفا لدولتك له أثره وخطره فغيرك من الملوك بمثابة البوق والطبل لا أثر له، ولا غناء فيه. فلفظ "بوقات" في البيت غير فصيح؛ لمخالفته لما ثبت عن الواضع، وللقياس الصرفي؛ إذ الثابت عن الواضع جمعه جمع تكسير، والقياس الصرفي أيضًا يقتضي

_ 1 هو العلامة الخلخالي. 2 إنما آثرت هذا التعبير على قولهم: مخالفة القياس؛ لأنه أنسب بالمعنى المراد منه, وهو مخالفة الكلمة لما ثبت عن الواضع وإن وافق القياس.

جمعه مكسرا، فيقال: "أبواق"؛ لأن جمع المؤنث السالم له مواضع خاصة ليس هذا الاسم منها. ومثله لفظ "ضننوا" بمعنى بخلوا في قول الشاعر العربي: مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا يخاطب الشاعر من لامته على إحسانه إلى من بخلوا عليه، فيقول: اقصدي من لومك، وهوني على نفسك الأمر, فقد عرفت أن من خلقي مجازاة من يسيء إلي بالإحسان إليه؛ لأني إنما أصنع المعروف للمعروف، لا لشيء وراءه, فلفظ "ضننوا" غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ورد عن الواضع، وللقياس الصرفي. إذ الوارد عن الواضع "وإن ضنوا" بالإدغام لا بالفك، والقياس الصرفي أيضا يقتضي إدغام المثلين -كما عرفته في محله- ومثله لفظ "الأجلل" في قول الفضل بن قدامة الشاعر الإسلامي1: الحمد لله العلي الأجلل ... أنت مليك الناس ربا فاقبل فلفظ "الأجل" غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ثبت عن الواضع، وللقياس الصرفي كما ترى. ومثال ما خالف الثابت عن الواضع، ووافق القياس قولك: "يأبي" بكسر الباء مضارع "أبى". فهو غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ثبت عن الواضع, إذ الثابت عنه "يأبى" بفتح الباء لا بكسرها في حين أنه موافق للقياس الصرفي؛ لأن "فعل" بفتح العين لا يأتي مضارعه على "يفعل" بفتح العين إلا إذا كان عين ماضيه، أو لامه حرف

_ 1 هو المكنى بأبي النجم, وهو من رجازي الإسلام ومن الفحول المقدمين أي: في الطبقة الأولى. وقيل: تمام البيت: "الواحد الفرد القديم الأول". وقيل: تمامه: "الواهب الفضل الكريم المجزل". وقيل: إن البيت على عكس ما يروى, فالعجز للصدر والصدر للعجز، و"ربا" منادى مضاف لياء المتكلم المنقلبة ألفا, حذفت منه ياء النداء على حد "يا حسرتا" وقيل: إن "ربا" منون حالا من الضمير في مليك.

حلق كسأل يسأل, ومنع يمنع, وليس "أبى يأبى" من هذا القبيل. كذلك لا يأتي مضارعه على "يفعل" مضموم العين إلا إذا كان مضعف العين متعديا "كمده يمده", أو أجوف واويا "كقال يقول"، أو ناقصا واويا "كسما يسمو" وليس أبى يأبى أحد هذه الأنواع, فكسر عين مضارعه حينئذ موافق للقياس الصرفي ولكنه مع ذلك غير فصيح؛ لمخالفته ما ثبت عن الواضع. فالشرط إذًا في المخالفة أن تخالف الكلمة ما ثبت عن الواضع, سواء خالفت القياس الصرفي أيضا، أو وافقته -كما عرفت- وذلك خلل واقع في الصيغة يخرج اللفظ عن الفصاحة. تنبيه: علم مما تقدم أن ما ثبت عن الواضع, سواء وافق القياس الصرفي أو خالفه فصيح, فنحو "آل وماء" من قولك: "هؤلاء آلك فاعطف عليهم" و"هذا ماؤك فاشربه" مخالف للقياس الصرفي؛ لأن الأصل فيهما "أهل وموه" أبدلت الهاء فيهما همزة، وهذا الابدال لا يقره القياس، ولكنه فصيح لموافقته ما ورد عن الواضع. ومثله "أبى يأبى" بفتح الباء في المضارع، والقياس كسرها لما تقدم بيانه، ولكنه فصيح لوروده هكذا عن الواضع. كذلك قولهم: "عورت عين فلان"، و {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فإن القياس فيهما أن يقال: عارت عينه، واستحاذ عليهم بقلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فتصحيح الواو حينئذ مخالف للقياس لكنه فصيح؛ لأنه ورد هكذا عن الواضع ا. هـ. الغرابة: هي أن تكون الكلمة وحشية أي: غير ظاهرة الدلالة على المعنى الموضوعة له1, ويكون ذلك لسببين:

_ 1 فلا يرد ما ورد في القرآن في المجمل والمتشابه, فإنهما غير ظاهري الدلالة على المعنى المراد لله تعالى لا على المعنى الموضوع له, وإلا اشتمل القرآن على الغريب غير الفصيح.

الأول: عدم تداول الكلمة في لغة العرب الخلص، فيحتاج في معرفتها إلى بحث وتنقيب في معاجم اللغة إذ لا يذكرها من اللغويين إلا القليل. فتارة يعثر على معناها بعد البحث كلفظتي "تكأكأتم وافرنقعوا" من قول عيسى بن عمر النحوي وقد سقط عن دابته، فاجتمع الناس حوله: "ما لكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة, افرنقعوا" فمعنى "تكأكأتم" اجتمعتم، ومعنى "افرنقعوا" انصرفوا. يقول متعجبا: ما لكم اجتمعتم علي كاجتماعكم على ذي جنون, تنحوا عني. ومنه لفظ "رخاخ" بفتح الراء في قولهم: "نحن في رخاخ من العيش" أي: في سعة ورغد، ونحو "مسحنفرة" بمعنى متسعة في قول امرئ القيس: "رب طعنة مسحنفرة". وتارة لا يعثر عليه بعد البحث كلفظ "جحلنجع" من قول أعرابي يسمى أبا الهميسع1: "من طمحة2 صبيرها3 جحلنجع" بجيم مفتوحة فمهملة ساكنة فلام مفتوحة فنون ساكنة فجيم مفتوحة فعين مهملة, ومثله "ترللج" بفتح فسكون ففتح فكسر. فكل هذه الكلمات غير فصيحة؛ لأنها غريبة، غير ظاهرة المعنى لعدم تداولها, وذلك خلل واقع في المعنى. الثاني: عدم استعمال الكلمة عند العرب الخلص بالمعنى الذي أريد منها، فيحتاج في معرفتها إلى تخريج على وجه بعيد كلفظ "مسرجا" في قول رؤبة بن العجاج4:

_ 1 بفتح الهاء والميم والسين وسكون الياء. 2 الطمحة: النظرة. 3 السحاب المتراكم. 4 كان هو وأبوه العجاج رجازين مشهورين, لكل واحد منهما ديوان رجز ليس فيه سوى الأراجيز.

أيام أبدت واضحا مفلجا ... أغر براقا وطرفا أدعجا ومقلة وحاجبا مزججا ... وفاحما ومرسنا "مسرجا"1 يصف الشاعر من محبوبته عدة أشياء, منها الأنف في قوله: "ومرسنا مسرجا" فقد أراد بالمرسن أنفها، وهو في "الأصل" أنف البعير, إذ هو موضع الرسن2 منه، ثم أريد به مطلق أنف مجازا مرسلا -كما سيأتي بيانه في موضعه- فقوله: "مسرجا" غير فصيح؛ لأنه غريب، غير ظاهر الدلالة لعدم استعماله بالمعنى الذي أريد منه، وهو خلل واقع في المعنى. بيان ذلك: أن "مسرجا" في كلام الشاعر اسم مفعول مشتق، وكل مشتق لا بد له من أصل يرجع إليه في الاشتقاق, غير أنه فتش في معاجم اللغة، فلم يعثر على مصدر لهذا المشتق، وإنما وجد من هذه المادة "سريجي وسراج"، وحمل هذه الكلمة على الخطأ لا يجوز لوقوعها من عربي عارف باللغة، فاحتِيج إلى تخريجها على وجه تسلم به من الخطأ، وإن كان بعيدا، وهذا هو وجه التخريج، والدافع إليه. ولما لم يعلم ما أراده الشاعر بقوله: "مسرجا" اختلف في تخريجه. فقيل: هو من قولهم: سيوف سريجية3، أي: منسوب إليها من

_ 1 ضمير "أبدت" عائد على محبوبته في البيت قبله، و"واضحا" صفة لموصوف محذوف أي: سنا واضحا متميزا, و"الفلج" بالتحريك: تباعد ما بين الأسنان، و"الأغر": الأبيض، و"الدعج" بالتحريك: اتساع العين وحسنها، و"المقلة": بياض العين مع سوادها وقد يراد بها الحدقة, و"التزجيج": التدقيق مع تقويس، و"فاحما": صفة لمحذوف أي: شعرا أسود كالفحم, فهو من نسبة المشبه للمشبه به. 2 هو مقود البعير. 3 نسبة إلى حداد كان يجيد صناعة السيوف, يقال له: "سريج" بضم ففتح.

نسبة المشبه للمشبه به، يريد -على ما يظهر- أن يشبه أنفها بالسيف السريجي في الدقة والاستواء. وقيل: هو مأخوذ من السراج، أي: منسوب إليه نسبة تشبيهية أيضًا يريد -على ما يبدو- أن يشبه أنفها بالسراج في الرونق والضياء. وعلى كلا القولين هو غير ظاهر الدلالة على ما ذكر؛ لأن مادة "فعل" المضعف العين إنما تدل فقط على مجرد نسبة الشيء إلى أصله، فيقال: كفر فلان فلانا نسبه إلى الكفر، وفسقه نسبه إلى الفسق، فهو مكفر أو مفسق أي: منسوب إلى الكفر أو الفسق. ولما لم يوجد "لمسرج" أصل ينسب إليه اعتبر منسوبا للسريجي أو للسراج -على ما سبق في القولين- غير أن النسبة التشبيهية -وهي أن يكون المنسوب شبيها بالمنسوب إليه- لا تدل عليها المادة المذكورة، فأخذ ذلك منها بعيد؛ لهذا كان اللفظ غريبا، غير ظاهر الدلالة؛ لعدم استعماله عند العرب بهذا المعنى المراد. وقد حاول بعضهم لهذه الكلمة علاجا تصح به وتسلم، فقال: إن "مسرجا" اسم مفعول مأخوذ من سرج الله وجهه: حسنه وبهجه، وإذًا فقول الشاعر: "ومرسنا مسرجا" معناه: وأنفا محسنا مبهجا, من غير اعتبار نسبة إلى شيء، أو تشبيه به. وبهذا يخرج اللفظ المذكور سليما معافى من داء الغرابة؛ لظهور دلالته على معناه. وأجيب بأنها محاولة غير مجدية؛ لأن اللفظ بهذا المعنى لا وجود له في المبسوط من معاجم اللغة, إذ لم يشتهر بهذا المعنى في كتبها, فهو وإن سلم من عيب الغرابة بالمعنى الثاني -وهو ما احتيج فيه إلى التخريج البعيد- لا يزال يشكو داء الغرابة بالمعنى الأول, وهو ما احتيج فيه إلى التفتيش والبحث في كتب اللغة. على أنه لا يبعد أن يكون "سرج" مأخوذا من السراج, واستعمل

بمعنى سرج الله وجهه: حسنه وبهجه, أي: أوجده على هذه الصفة، لا على معنى النسبة التشبيهية كالذي تقدم، ويكون ذلك من ابتكار المولدين ومواضعاتهم غير أنه لا يصح أخذ "مسرجا" منه؛ لامتناع أخذ السابق من اللاحق. ووجه انحصار "الغريب" في السببين المتقدمين، أن اللفظ يدل على معناه بجوهره وهيئته، فعدم ظهور دلالته؛ أما باعتبار جوهره فيحتاج إلى التنقير والتفتيش، وإما باعتبار هيئته، فيحتاج إلى التخريج على الوجه البعيد. تنبيهان: الأول: اعلم أن عدم ظهور المعنى المتقدم ذكره في مفهوم الغرابة منظور فيه إلى الخلص من الأعراب سكان البادية، فهم قد يخفى عليهم معنى اللفظ إذا قل تداوله بينهم، أو لم يستعمل عندهم بالمعنى المراد منه -على ما ذكرنا- أما غير العرب من المولدين فغير منظور إليهم في ذلك, وإلا خرج كثير من قصائد العرب، بل جلها عن الفصاحة لغلبة الجهل باللغة على غير أربابها ا. هـ. الثاني: زاد بعضهم عيبا رابعا على العيوب المخلة بفصاحة الكلمة، وهو أن تكون الكلمة مستكرهة يمجها السمع، ويأنفها الطبع كلفظ "النقاخ" بمعنى الماء العذب, في قول الشاعر المتقدم: وأحمق ممن يكرع الماء قال لي ... دع الخمر واشرب من "نقاخ" مبرد و"كالجرشى" بمعنى النفس في قول أبي الطيب المتنبي من قصيدة يمدح بها سيف الدولة.

مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم "الجرشى" شريف النسب1 ورد "السعد" هذا العيب الزائد بأن استكراه السمع للفظ إنما جاء من ناحية وحشيته لغرابته، أو من ناحية تنافر حروفه كما في "تكأكأتم وافرنقعوا" فإنهما -لا شك- يثقلان على السمع لا لشيء سوى غرابتهما؛ لعدم تداولهما في اللغة الفصحى, أو لتنافر حروفهما؛ وحينئذ ففي ذكر الغرابة أو التنافر غنية عن ذكر هذا العيب. ورد غيره هذا العيب بأن الكراهة في السمع إنما جاءت من ناحية قبح الصوت، لا من ذات اللفظ, فلو أضيف هذا العيب إلى العيوب السابقة لخرج عن الفصاحة كثير من الكلمات المتفق على فصاحتها بسبب صدورها من قبيح الصوت. وقد فند "السعد" هذا التوجيه بقوله: لا يسلم لهذا القائل ما ادعاه من أن الكراهة في السمع مرجعها قبح الصوت، لا ذات اللفظ إذ لو كان الأمر كما يدعيه لزم أن تكون كلمة "الجرشى" بمعنى النفس, أو "اطلخم" بمعنى أظلم، أو "النقاخ" بمعنى الماء العذب غير مكروهة في السمع إذا نطق بها ذو الصوت الحسن, فتكون فصيحة, وأن تكون المرادفات المذكورة لهذه الألفاظ مكروهة في السمع إذا نطق بها ذو الصوت القبيح، فلا تكون فصيحة وذلك خلاف الواقع؛ للقطع بكراهية السمع لتلك الألفاظ دون مرادفاتها سواء صدرت عن حسن الصوت، أو عن قبيحه ا. هـ.

_ 1 إنما كان مبارك الاسم لإشعاره بالعلو، ولموافقته لاسم علي بن أبي طالب فهو سميه، و"أغر اللقب" مشهوره لاشتهاره بسيف الدولة والملوك يشار إليهم بألقابهم؛ تعظيما لهم وإجلالا، والأغر في الأصل: أبيض الجبهة من الخيل ثم نقل على طريق الاستعارة, أو المجاز المرسل إلى كل واضح مشهور. وإنما كان شريف النسب؛ لأنه على ما قيل من سلالة بني العباس, ورجح بعضهم أنه تغلبي من قبيلة تغلب.

فصاحة الكلام

فصاحة الكلام: فصاحته أن يبرأ من العيوب الثلاثة الآتية بعد: 1- تنافر الكلمات مجتمعة. 2- ضعف التأليف. 3- التعقيد بنوعيه، ووجه حصر فصاحة الكلام في البراءة من هذه العيوب الثلاثة هو أن كل كلام له "مادة" هي أجزاؤه أي: الكلمات التي تركب منها، وله "صورة" هي هيئة تأليفه من هذه الكلمات، وله دلالة على معناه. فعيبه إما في مادته وهو "التنافر"، أو في صورته وهو "ضعف التأليف" أو في دلالته على المعنى وهو "التعقيد". غير أن براءة الكلام من هذه العيوب مشروطة بسلامة أجزائه أي: الكلمات مفردة من العيوب المتقدمة في فصاحة الكلمة, وإليك بيان العيوب المذكورة على هذا الترتيب. تنافر الكلمات: هو أن تكون الكلمات مجتمعة ثقيلة على اللسان؛ يتعسر النطق بها، وإن كانت كل كلمة على حدة لا ثقل فيها, وهو أيضًا نوعان: تنافر شديد، وتنافر قريب منه. فالأول كقول الشاعر: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر1 قيل: قفر بالرفع نعت لمكان على القطع للضرورة, وإن لم يتعين المنعوت بدون هذا النعت. وقيل: هو خبر لقبر، ومعنى كون القبر

_ 1 زعموا أن هذا البيت لأحد الجان صاح على حرب بن أمية جد معاوية أمير المؤمنين, فمات لساعته فأنشد الجني هذا البيت, والواقع أنه لم يعرف قائله ولعله مصنوع.

قفرا -على هذا القول- قيامه وحده في هذا المكان, و"قرب" ظرف مكان خبر ليس مقدما، ولفظ "قبر" اسمها مؤخرا. والشاهد فيه المصراع الثاني؛ فإن كلماته متعادية ينفر بعضها من بعض أشد النفور, حتى إن اللسان لا يكاد يلفظ بها مجتمعة. ومثله قول الشاعر: أزج زلوج هزرفي زفازف ... هزف يبذ الناجيات الصوافنا1 فإن اللسان ليتعثر عند النطق به, أيما تعثر. والثاني كقول أبي تمام من قصيدة يعتذر بها لممدوحه، ويتبرأ مما نسب إليه زورا وبهتانا: كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي2 يصف الشاعر ممدوحه بالكرم والسخاء, وأنه إذا ما جرى لسانه بمدحه رأى الناس عامة ألسنة مدح وثناء معه لفيض إنعامه وعموم أياديه, وإذا ما هم بلومه لم يتبعه فيه أحد لبراءته مما يقتضي اللوم, والواو في قوله: "والورى معي" واو الحال بدليل وقوع هذه الجملة في مقابلة قوله: "وحدي" الواقع آخر البيت, فإنه حال أيضا,

_ 1 "أزج" بفتح الهمزة والزاي وتشديد الجيم، "وزلوج" على زنة صبور، و"هزرفي" بفتح الهاء وسكون الزاي وفتح الراء وكسر الفاء وتشديد الياء، و"زفاف" على زنة صيغة منتهى الجموع, وكلها أوصاف لفرس معناها: خفيف سريع، و"هزف" بكسر ففتح ففاء مشددة معناه الجافي أو الطويل, و"يبذ": يسبق، و"الناجيات الصوافن": الخيل القوية. 2 ذكر الصاحب بن عباد أنه أنشد هذه القصيدة بحضرة ابن العميد, فلما بلغ هذا البيت قال له ابن العميد: هل تعرف فيه شيئا من الهجنة؟ قال: نعم مقابلة المدح باللوم, وإنما يقابل بالذم والهجاء فقال ابن العميد: غير هذا أردت، فقال: لا أدري غير هذا، فقال ابن العميد: هذا التكرار في "أمدحه" مع الجمع بين الحاء والهاء خارج عن حد الاعتدال, نافر كل التنافر, فأثنى عليه الصاحب.

ولا يصح جعل "الواو" عاطفة لما يترتب عليه من توقف مدح الورى على مدحه, وفي هذا قصور يبرأ منه مقام المدح, ولما يترتب عليه أيضًا من اتحاد الشرط والجزاء1. والشاهد فيه قوله: "أمدحه أمدحه" فإن في اجتماع هاتين الكلمتين ثقلا في النطق بهما يشعر به صاحب الذوق السليم, وليس في مجرد الجمع بين الحاء والهاء ثقل كما قيل, كيف وقد وقع ذلك في القرآن الكريم قال تعالى: {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} غير أن الجمع بينهما مع تكرار الكلمة يزداد به التنافر ثقلا, وهو مما يقبل التفاوت شدة وضعفا. ومثل البيت المذكور قول الشاعر: ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل فإن فيه نوع ثقل يشعر به ذو الذوق البلاغي السليم. ضعف التأليف: هو أن يكون الكلام في تركيبه مخالفا للمشهور من قوانين النحو التي اعتمدها جمهور النحاة كالإضمار قبل ذكر المرجع لفظا، ومعنى، وحكما كما في قول القائل: "أنقذ خادمه الأمير" فإن الضمير في "خادمه" راجع إلى الأمير، وهو لم يذكر قبل الضمير لفظا وهو ظاهر ولا معنى لعدم وجود ما يقتضي تقدمه، ولا حكما لأنه

_ 1 بيان ذلك: أن جملة "أمدحه" الثانية واقعة جزاء للشرط الذي هو جملة "أمدحه" الأولى, وجزاء الشرط -كما هو معلوم- متوقف تحققه على وجود الشرط, فلو جعلنا الواو عاطفة لكانت جملة "والورى معي" معطوفة على جملة الجزاء والمعطوف على الجزاء يكون داخلا في مفهومه وجزءا منه، فتكون الجملة المعطوفة حينئذ متوقفا تحققها على وجود الشرط كالتي عطفت عليها، وإذًا يكون مدح الورى متوقفا على مدحه. أما اتحاد الشرط والجزاء على تقدير العطف المذكور فأمره ظاهر, إذ إن الجملة المعطوفة مستقلة بذاتها عن المعطوفة عليها, بخلاف ما لو جعلت الواو حالا فإنه لا يؤدي إلى هذين المحظورين, أما في الأول فلأن التقدير حينئذ: متى أمدحه أمدحه في حال مشاركة الورى لي في المدح, فالجزاء مدحه في هذه الحالة، وهذا لا ينافي مدحهم له قبل ذلك, وأما في الثاني فلأن الجزاء مقيد دون الشرط فلم يتحدا.

محكوم عليه بالتأخر لمفعوليته، لا لنكتة بلاغية, وسيتضح لك ذلك فيما بعد، فالمثال المذكور إذًا غير فصيح لضعف تأليفه1. ومثله قول الشاعر: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما جوزي سنمار2 يدعو الشاعر على أبي الغيلان أن يجازيه أولاده -مع كبر سنه، وحسن صنيعه معهم- شر جزاء كما وقع لسنمار. والشاهد فيه قوله في المصراع الأول: جزى بنوه أبا الغيلان, حيث أضمر قبل ذكر المرجع لفظا, ومعنى، وحكما كالمثال الذي قبله, فهو إذًا غير فصيح لضعف تأليفه. تنبيه: مما تقدم يفهم أن المرجع إذا تقدم على الضمير، أو معنى, أو حكما كان الكلام سليما معافى من الضعف المذكور. فالتقدم اللفظي: أن يتقدم المرجع على الضمير لفظا, أي: أن ينطق به أولا، وبالضمير ثانيا كما في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} ، وكما في قولك: "أكرم محمدا

_ 1 أجاز هذه المسألة بعض النحاة كالأخفش وابن جني, ولكنه جواز لا يدفع الضعف؛ لأنه مقابل للمشهور من قوانينهم, والمعول عليه في الضعف مخالفة الكلام لما اشتهر بين جمهورهم. أما الكلام المخالف لما أجمع النحاة على منعه كتقديم المحصور فيه بإنما في نحو: إنما عالم محمد، وكنصب الفاعل أو جره مثلا فهو فضلا عن ضعفه فاسد. 2 "سنمار": اسم رجل بنى للنعمان بن امرئ القيس قصرا عظيما بالكوفة سماه "الخورنق" وقد أتقن بحذقه وبراعته صنعه, ولما أكمل بناءه وزخرفه ألقاه النعمان من أعلاه لئلا يبني قصرا مثله لغيره فمات لوقته، وضرب به المثل لكل من يجازى على الخير بالشر، وفي هذا يقول شاعرهم: جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا ... جزاء سنمار؛ وما كان ذا ذنب

صديقه", فمرجع الضمير في الأول "لفظ الجلالة"، وفي الثاني "محمدا"، وقد تقدم كلاهما على الضمير لفظا, غير أنه في الأول تقدم لفظا ورتبة، وفي الثاني تقدم لفظا فقط؛ لأنه مفعول فمرتبته بعد الفاعل. والتقدم المعنوي: ألا يتقدم المرجع على الضمير لفظا, لكن هناك ما يقتضي تقدمه معنى؛ كأن يدل عليه لفظ سابق من جنسه، أو ترشد إليه قرينة حال، أو كانت مرتبته التقدم على الضمير. فمثال ما دل عليه لفظ سابق قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، فمرجع الضمير هو "العدل" المدلول عليه بلفظ {اعْدِلُوا} ، فهو لم يتقدم لفظا، وإنما تقدم معناه في الفعل المذكور. ومثال ما أرشدت إليه قرينة حال قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} فمرجع الضمير المستتر في {تَرَكَ} هو "الميت" ولم يدل عليه لفظ سابق من جنسه كما في {اعْدِلُوا} ، بل دلت عليه قرينة حال هي أن الكلام مسوق لبيان الإرث، ومثله قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ، فمرجع الضمير المستتر في {تَوَارَتْ} هو "الشمس" ولم يدل عليه لفظ سابق من جنسه, ولكن ذكر "العشي" والتواري بالحجاب وسياق الكلام قرائن تدل على أن المراد "الشمس". ومثال ما مرتبته التقدم وإن تأخر في اللفظ قولك: "في داره صديقك"، وقولك: رفع قبيلته عنترة؛ فمرجع الضمير في الأول "صديقك"، وفي الثاني "عنترة"، وقد تأخر كل منهما عن الضمير في اللفظ، ولكن مرتبته التقدم عليه؛ لأنه في الأول مبتدأ، وفي الثاني فاعل، ومرتبة المبتدأ التقدم على الخبر، كما أن مرتبة الفاعل التقدم على المفعول، وكأنما لفظ بهما أولا.

والتقدم الحكمي: هو ألا يتقدم المرجع لفظا، وليس ثم ما يقتضي تقدمه سوى حكم الواضع بأن المرجع يجب تقدمه, غير أنه خُولف فيه حكم الواضع، فأخر لنكتة بلاغية، والمتأخر لعرض متقدم حكما كما في باب "نعم وبئس1"، وضميري "رب والشأن" نحو: "نعم فصيحا سحبان2"، "بئس عييا باقل3" ونحو: "ربه فتى"، ومثل قول الشاعر: هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي فالمرجع في "نعم وبئس" هو المخصوص بالمدح أو الذم، وفي "رب" هو "فتى"، وفي الحال والشأن هو لفظ "الدنيا", وهو في كل هذه المثل لم يتقدم لفظا ولا معنى، ولكنه متقدم حكما من حيث إن وضع الضمير على أن يعود إلى متقدم، وإنما أخر هنا لنكتة هي البيان بعد الإبهام. إلى هنا ظهر جليا أن كل ما سبق من الأمثلة مما تقدم فيه المرجع على الضمير لفظا, أو معنى، أو حكما فصيح لخلوه من ضعف التأليف؛ إذ إنه جرى على المشهور من قوانينهم، وأن ما لم يتقدم فيه المرجع أصلا كقولنا فيما سبق: "أنقذ خادمه الأمير" غير فصيح لضعف تأليفه؛ لأنه جرى على غير المشهور عندهم, وليس هذا من قبيل ما قدم فيه المرجع حكما؛ لأن تأخير المفعول في نحو المثال المذكور لا لنكتة بلاغية، بل لأن مرتبته التأخير عن الفاعل.

_ 1 على رأي من يجعل المخصوص مبتدأ لخبر محذوف أو العكس. 2 هو سحبان وائل الخطيب المصقع، والمضروب به المثل في البلاغة والبيان, نشأ في الجاهلية وعاش إلى زمن معاوية. 3 هو رجل من إياد كان شديد العي في النطق, اتفق أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما، فقيل له: بكم اشتريته؟ ففتح كفيه وفرق بين أصابعه, وأخرج لسانه ليشير بذلك إلى العدد المذكور؛ فانفلت الظبي من يده, فضرب به المثل في العي والفهاهة.

وإذًا, فالفرق بين الإضمار قبل الذكر الموجب للضعف، وبين الإضمار قبل الذكر الذي جعل من قبيل تقدم المرجع حكما, وجود النكتة في الثاني دون الأول. على أنهم قالوا: إذا قصدت النكتة في مثل المثال المذكور، وأن الغرض من تأخير المفعول هو البيان بعد الإبهام كما في "نعم وبئس" لم يبعد أن يكون فصيحا, غير أن الشأن في مثل هذا التركيب ألا تلتمس له نكتة، بخلاف الشأن في باب نعم وبئس وغيرهما مما قدم فيه المرجع حكما ا. هـ. وكالإضمار قبل الذكر في تعطيل الكلام من حلية الفصاحة؛ لضعف تأليفه, الإتيان بالضمير متصلا بعد "ألا"، ونصب المضارع بدون ناصب مذكور في الكلام, فالأول كما في قول الشاعر: وما علينا إذا ما كنت جارتنا ... ألا يجاورنا إلاك ديار يريد أن يقول: إن غاية ما أرجوه من متع الحياة أن أكون بجوارك, فإذا حظينا بهذه الأمنية، فقد نلنا كل شيء، فلا يعنينا بعد ذلك ألا يجاورنا أحد. والأصل: إلا إياك. والثاني كما في قول الشاعر: قبيح من الإنسان ينسى عيوبه ... ويذكر عيبا في أخيه قد اختفى أي: أن ينسى, وأن يذكر. التعقيد: هو أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد لخلل واقع فيه1. وهو نوعان: لفظي ومعنوي.

_ 1 هذا تعريف للتعقيد بالمعنى الاصطلاحي الذي هو كون الكلام معقدا، لا بالمعنى اللغوي الذي هو مصدر عقد المتكلم كلامه تعقيدا, إذا أخفى المراد منه، فإنه بهذا المعنى لا يصح حمل التعريف المذكور عليه؛ لأن التعقيد بهذا المعنى وصف للمتكلم والتعريف المذكور من صفات الكلام, واحترز بقوله: لخلل واقع فيه عما خفي المراد منه لا لخلل فيه, بل لإرادة المتكلم إخفاء المراد منه لحكمة, كالذي ورد في القرآن من المتشابه والمجمل والمشكل, فلا تعقيد فيه.

التعقيد اللفظي: أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى لخلل واقع في نظمه وتركيبه, بحيث لا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني بسبب تقديم، أو تأخير، أو فصل، أو حذف، أو نحو ذلك مما يترتب عليه صعوبة فهم المعنى المراد, وهو على ضربين: شديد، وخفيف. فالشديد كما في قول الفرزدق1 يمدح إبراهيم بن المخزومي خال هشام بن عبد الملك، أحد خلفاء بني أمية: وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه يريد أن يقول: ليس مثل الممدوح في الناس حي يقاربه في الفضائل إلا مملكا2 أبو أم ذلك الملك أبو الممدوح أي: لا يحاكيه أحد إلا ابن أخته وهو "هشام". ففيه فاصل كبير بين البدل وهو "حي" والمبدل منه وهو "مثله" وفيه تقديم المستثنى وهو "مملكا" على المستثنى منه وهو "حي"3، وفيه فصل بين المبتدأ والخبر وهما: "أبو أمه أبوه" بأجنبي هو "حي"، وبين الصفة والموصوف وهما: "حي يقاربه" بأجنبي هو "أبوه" فانظر إلى أي حد وصل تعقيد اللفظ حتى عمي المعنى، واستغلق على الفهم4.

_ 1 هو همام بن غالب بن صعصعة, الشاعر التميمي الأموي المعروف, وقد لقب بهذا اللقب لتقطيع وجهه بالجدري على ما يروى. 2 أي: رجل أعطي الملك والجاه, يريد هشاما. 3 إنما عد تقديم المستثنى من موجبات التعقيد في البيت المذكور مع أنه جارٍ على وفق قوانين النحاة؛ لأن التعقيد يزداد به وهو مما يقبل التفاوت شدة وضعفا. 4 قيل: ويمكن أن يخرج البيت على وجه لا تعقيد فيه, فيجعل "إلا مملكا" مستثنى من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور الواقع خبر "ما" أو خبر "مثله" على الخلاف في جعل "ما" حجازية أو تميمية، ويجعل "أبو أمه" مبتدأ و"حي" خبرا، ويجعل "أبوه" خبرا بعد خبر، والجملة صفة "لمملكا"، وكذلك جملة "يقاربه" أي: إلا مملكا موصوفا بهذه الصفة، وبأنه يقارب خاله في الفضائل. وعلى هذا القول يكون المراد بالحياة في قوله: "حي" الشبوبية والفتوة، وغاية ما يرد على هذا الوجه أن فيه نصب "مملكا", والمختار رفعه لتأخر المستثنى على المستثنى منه بعد النفي.

ومثل هذا البيت في شدة تعقده قول الآخر: فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرا رسومها قلما يصف الشاعر دارا بالية, وأصل الكلام: فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خط رسومها؛ ففيه من الفصل، والتقديم، والتأخير ما جعل التعقيد اللفظي في أقبح صورة وأشنعها. والخفيف كما في قول أبي الطيب المتنبي: جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل يصف قوما بحسن الشمائل, وأصل التركيب هكذا: جفخت بهم شيم دلائل على الحسب الأغر، وهم لا يجفخون بها أي: افتخرت بهم طبائع دالة على ما كان لآبائهم من مناقب ومفاخر وهم لا يفخرون بها؛ لأنهم حاصلون على ما هو خير وأوفى, فقد فصل بين الفعل والفاعل، وهما: "جفخت شيم" بأجنبي هو جملة "وهم لا يجفخون بها" الواقعة حالا، وفصل بين الصفة والموصوف، وهما: "شيم دلائل" بالجار والمجرور، وهما قوله: "على الحسب الأغر". ومثله قول الفرزدق من قصيدة يصف بها ذئبا: تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من "يا ذئب" يصطحبان يريد: نكن يا ذئب مثل من يصطحبان؛ ففصل بين الموصول وصلته وهما: "من يصطحبان" بأجنبي هو قوله: "يا ذئب"، فتعقد اللفظ نوع تعقد. قيل: لا داعي لذكر التعقيد اللفظي بعد ذكر ضعف التأليف؛ لأن ذكره مغنٍ عن ذكر التعقيد المذكور, إذ لا سبب لهذا التعقيد سوى ضعف التأليف. بل لقد ذهب بعضهم1 إلى أن ذكر أحدهما مغنٍ عن ذكر الآخر, أما إغناء الضعف فلما ذكرنا من أنه لا سبب للتعقيد

_ 1 هو العلامة الخلخالي.

سواه، وأما إغناء التعقيد فلأنه لازم للضعف, إذ إن تأليف الكلام إذا لم يكن على وفق المشهور من قوانينهم يوجب صعوبة في فهم المراد منه لا محالة، وذكر اللازم يغني عن ذكر الملزوم كالضاحك للإنسان, فإن ذكر الضاحك يغني عن ذكر الإنسان. أجيب أولا: بأنا لا نسلم أن التعقيد اللفظي لا سبب له سوى ضعف التأليف؛ ذلك أن التعقيد المذكور قد يتحقق بدون الضعف كما في قولك: "إلا عمرا القوم هازم محمد" ففي هذا التركيب تقدم المستثنى على المستثنى منه، والمفعول على اسم الفاعل، والخبر على المبتدأ، وكل هذه الأمور أجازها جمهور النحاة لجريانها وفق المشهور من قوانينهم، والتركيب -مع ذلك- معقد لصعوبة فهم المراد منه, فقد تحقق التعقيد بدون ضعف التأليف. وأجيب ثانيا: بأنا لا نسلم بأن التعقيد لازم للضعف، وأن كل ضعف يوجب تعقيدا, فإن في قولنا: جاءني أحمد "بالتنوين" ضعف تأليف؛ لمخالفته قانون النحاة وهو -مع ذلك- خلو من التعقيد لظهور المعنى المراد منه, فقد وجد الضعف من غير تعقيد. وقد اجتمعا1 في قول الفرزدق السابق: "وما مثله في الناس ... البيت" وإذا بطل ما ادعاه صاحب القيل، وما ذهب إليه الخلخالي، وثبت أن ذكر أحدهما لا يغني عن ذكر الآخر. التعقيد المعنوي: أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل في انتقال الذهن من المعنى الأول المفهوم من اللفظ لغة إلى المعنى الثاني المقصود, بحيث يكون إدراك المعنى الثاني من الأول بعيدا عن الفهم، يحتاج إلى تكلف بسبب استعمال اللفظ في معنى

_ 1 فبينهما العموم والخصوص الوجهي.

خفي لزومه للمعنى الأول1, كقول العباس بن الأحنف2: سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا عبر بالسين الدالة على معنى التسويف -وإن كان مراده الطلب في الحال- لاعتبار لطيف هو أن البعد عن الديار -وإن كان في زعمه وسيلة للقرب من الأحبة، وهو ما يأمله ويبتغيه- جدير أن يسوف, ولا يطلب في الحال لأنه في ذاته مبغض؛ غير مرغوب فيه, و"تسكب" برفع الباء عطف على "أطلب" مجردا عن السين؛ لأن البكاء شعار المحبين وسمة العاشقين, فالتسويف فيه لا يناسب حالهم. ولا يصح فيه نصب الباء؛ لأنه إما أن يكون معطوفا على "بعد الدار"، أو معطوفا على "لتقربوا" وهو لا يحسن في الأول، ولا يصح في الثاني.

_ 1 اعلم أن المراد بخفاء دلالة الكلام على المعنى المراد بطء إدراك المراد منه، وأن المراد بخلل انتقال الذهن بطء انتقاله من المعنى الأصلي إلى المعنى المراد بسبب استعمال المتكلم اللفظ في اللازم الخفي أي: في معنى خفيت علاقته بالمعنى الأصلي. وإذًا فبطء انتقال الذهن من الأول إلى الثاني سبب في بطء فهم المعنى المقصود من اللفظ, كما أن سرعة انتقال الذهن من المعنى الأصلي إلى المعنى المراد سبب في سرعة إدراك المراد من اللفظ, والمراد بالذهن ذهن السامع على ما هو الظاهر؛ لأن الخفاء والظهور إنما هو بالنسبة إليه، وليس من شك أن السامع إذا سمع اللفظ فبطؤ انتقال ذهنه من المعنى الأول إلى الثاني بسبب استعمال اللفظ فيما خفي لزومه للمعنى الأول خفيف عليه دلالة اللفظ أي: بطؤ إدراك المراد منه. "وحاصل المسألة" أن شرط فصاحة الكلام أن يكون المعنى الثاني المراد قريبا فهمه من المعنى الأصلي كمعنى "الكرم" المفهوم من كثرة الرماد في قولك: محمد كثير الرماد, وكمعنى "الشجاع" المفهوم من الأسد في قولك: رأيت أسدا يعطي. فإن كان المعنى الثاني بعيدا فهمه من المعنى الأول, يحتاج في إدراكه إلى تكلف وتمحل بسبب استعمال اللفظ فيما لزم معناه لزوما خفيا, كان الكلام معقدا, فلا يكون فصيحا كما في قول ابن الأحنف. 2 من ندماء هارون الرشيد, وكان لطيف المجلس فكه الحديث.

أما أنه لا يحسن في الأول؛ فلأن سكب الدموع حينئذ يدخل في حيز الطلب، ولا يخفى أن الحزن والبكاء شعار العاشق المهجور، لا ينفكان عنه بحال. فطلبهما إذًا ضرب من العبث لحصولهما, اللهم إلا أن يقال: إن المراد طلب استمرار السكب لا أصله، وهذا الاحتمال هو سر عدم بطلان العطف على بعد الدار. وأما أنه لا يصح في الثاني؛ فلأن تعليل طلب بعد الديار بالقرب يدل على أن المقصود من طلب البعد قرب الأحبة المقتضي للفرح والابتهاج، فلو عطف على "لتقربوا" لكان طلب البعد معللا بالحزن المدلول عليه بسكب الدمع، وتعليله به يقتضي أن المقصود من طلب بعد الدار حصول الحزن والكآبة له، لا قرب الأحبة. فالتعليل الثاني حينئذ يفيد نقيض ما أفاده الأول؛ وإذًا بطل النصب عطفا على "لتقربوا" كما لم يحسن عطفا على "بعد الدار", وتعين الرفع عطفا على "أطلب". ومعنى البيت: أن ابن الأحنف يطلب البعد عن أحبته غير مبالٍ بما يعانيه في ذلك من غصص الفرقة، وآلام النوى، ويعتزم أن يوطن نفسه على تجرع كئوس الأسى لفراق من أحبهم، وهام بهم, عساه فيما بعد يحظى بوصل مقيم، وفرح لا يزول, وكأنه بذلك يخادع الزمان، ويغالطه ليوافيه بضد ما يطلب على عادة الدهر من محاربة الناس في مطالبهم، ووقوفه حائلا دون ما يأملون، وبذلك يتم للشاعر -في غفلة الدهر- ما أراد من لقاء الأحبة والابتهاج والأنس بهم, على حد قول الشاعر: ولطالما اخترت الفراق مغالطا ... واحتلت في استثمار غرس ودادي ورغبت عن ذكر الوصال لأنها ... تبني الأمور على خلاف مرادي والشاهد في بيت ابن الأحنف قوله: "لتجمدا" فإنه لم يوفق

في أداء المعنى الذي أراده من هذا اللفظ على وجه صحيح؛ ذلك أنه أراد أن يكني عما قصده بكنايتين أصاب في إحداهما، وأخطأه الصواب في الأخرى. بيان ذلك: أنه عبر أولا "بسكب الدمع" كناية عما يوجبه فراق الأحبة من الحزن والكمد, فأحسن وأصاب المحز في هذه الكناية؛ لسرعة فهم الحزن من سكب الدموع عرفا. فإن البكاء عادة يكون أمارة الحزن, كما يكون الضحك عنوانا على الابتهاج والفرح، فيقال: أبكاني وأضحكني على معنى: ساءني وسرني. قال الشاعر: أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخ عال إلى خفض أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضي ثم عبر ثانيا "بجمود العين" كناية عما يوجبه اجتماع شمله بأحبته من السرور والابتهاج، فأخطأه التوفيق في هذه الكناية؛ ذلك أن جمود العين جفافها من الدمع عند الدافع إليه، وهو الحزن على فراق الأحبة, فجمودها حينئذ كناية عن بخلها بالدمع وقت الحاجة إليه، لا عما أراده من السرور. يؤيد ذلك قول أبي العطاء يرثي ابن هبيرة: ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود أي: لبخيلة الدمع، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا: أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى؟ أي: أفيضا بالدمع، ولا تبخلا به, كما يرشد إلى ذلك قولهم: "سنة جماد" أي: بخيلة بالقطر، "وناقة جماد": لا تجود بالدر. ومن هنا لا يصح عندهم أن يقال في مقام الدعاء للمخاطب بالسرور:

"لا زالت عينك جامدة" على معنى: لا أبكى الله عينك, إذ هو دعاء عليه بالحزن، لا بالسرور. إذا علمت هذا, ظهر لك أن المعنى الذي أراده الشاعر، وهو "السرور" لا يفهم من "الجمود" إذ لا يدل عله اللفظ لا لغة ولا عرفا, اللهم إلا مع ارتكاب شيء من التعسف1؛ ومن هنا كان التعقيد في المعنى. ومثل قول ابن الأحنف قول الشاعر: أمنا أن تصرع عن سماح ... وللآمال في يدك اصطراع تصرع بتشديد الراء مع البناء للمجهول بمعنى: تغلب وتمنع بشدة، ويريد باصطراع الآمال في يده: ازدحامها وتدافعها. يقول: أمنا أن يغلبك على أمرك غالب يحول دون سماحك وكرمك, والشاهد قوله: "وللآمال في يدك اصطراع" حيث كنى باصطراع الآمال في يده عن معنى الكرم, وهي كناية خفية الدلالة على ما أراد؛ ذلك أن معنى الاصطراع: الاطّراح على الأرض, يقال: اصطرع القوم وتصارعوا: ألقى بعضهم ببعض على الأرض، فاستعماله في معنى الكرم غير ظاهر لخفاء اللزوم بين المعنيين, كاستعمال جمود العين في معنى السرور. فلا بد إذًا من ارتكاب شيء من التعسف وهو أن يستعمل الاصطراع أولا في معنى التزاحم والتدافع؛ كاستعمال جمود العين في الخلو من الدمع مطلقا، وحينئذ يصح أن ينتقل منه إلى معنى الكرم؛ لأن الكريم عادة يزدحم على بابه ذوو الحاجات؛ يطلبون معروفه:

_ 1 هو أن يستعمل الجمود الذي هو الخلو من الدمع حالة الحزن في خلو العين من الدمع مطلقا, وإلى هنا صح أن يكنى به عن السرور؛ لأن المسرور تخلو عينه من الدمع عادة. غير أن استعمال الجمود في مطلق الخلو من الدمع لينتقل منه إلى السرور مخالف لاستعمالاتهم؛ لهذا كان الكلام معقد المعنى.

يسقط الطير حيث ينتثر الحـ ... ـب وتغشى منازل الكرماء وهكذا كل كلام خفيت دلالته على المعنى المراد لخفاء اللزوم بين المعنيين, يكون معقد المعنى. تنبيهان: الأول: زاد بعضهم عيبا رابعا على العيوب المخلة بفصاحة الكلام، وهو أن يكثر فيه التكرار1، أو تتوالى فيه الإضافات. فمثال التكرار قول أبي الطيب يصف فرسا له: وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد2 "سبوح" فعول بمعنى فاعل، يستوي في الوصف به المؤنث والمذكر، وهو من السبح بمعنى العوم. يريد: أن في جريها -مع شدة عَدْوها- سلاسة وسهولة كأنما تسبح في الماء3, وقوله:

_ 1 التكرار: هو ذكر الشيء ثانيا بعد ذكره أولا، وكثرته بذكره ثالثا، والمراد بالكثرة ما فوق الواحد، وإنما شرط الكثرة لأن التكرار بلا كثرة لا يخل بالفصاحة, وإلا قبح التوكيد اللفظي. 2 "تسعدني" من الإسعاد وهو الإعانة والإنقاذ، "والغمرة": ما يغمرك من الماء وقد أراد بها الشدة, "وسبوح" صفة لموصوف محذوف أي: فرس سبوح، و"شواهد" بمعنى دلائل فاعل الظرف وهو "لها"؛ لاعتماده على الموصوف الذي هو "سبوح"، ولم يجعل النظر خبرا مقدما لشواهد لاحتياج التقديم إلى نكتة, ولا نكتة هنا. 3 فيه إشارة إلى أن استعمال "سبوح" في الفرس العادية مجاز؛ لأن السبوح في الأصل كثير السبح في الماء, فاستعمل في كثير الجري على سبيل الاستعارة التبعية المصرحة, إذ شبه الجري الشديد السلس بالسبح في الماء واستعير اسم المشبه به للمشبه, واشتق من السبح سبوح بمعنى جارية جريا شديدا مع سلاسة.

"لها" وصف لسبوح، وقوله: "منها" حال من شواهد1، و"عليها" متعلق به. يصف الشاعر فرسه بشدة الجري وحسنه، وأنها منجاة له من الشدائد بخفة حركتها، وشدة عدوها، وأن أمارات النجابة بادية عليها. الشاهد في المصراع الثاني, فإن تكرار الضمير فيه أخل بفصاحته. ومثال تتابع الإضافات قول ابن بابك: حمامة جرعاء حومة الجندل اسجعي ... فأتت بمرأى من سعاد ومسمع2 يأمر الشاعر حمامة هذا الوادي بالسجع والتطريب؛ إعجابا بمحبوبته واحتفاء بها، ولكي تسمع وترى ما يسرها ويبهجها. والشاهد في المصراع الأول, فإن فيه إضافات متتابعة, إذ أضيف "حمامة" إلى "جرعاء" المضافة إلى "حومة" المضافة إلى "جندل"، وهذا مخل بفصاحة الكلام. هكذا زعم هذا القائل، وفيه نظر؛ لأن كثرة التكرار، أو تتابع الإضافات إن ثقل اللفظ به على اللسان فقد دخل في باب التنافر وإلا فلا يخل بالفصاحة, كيف وقد ورد في القرآن الكريم قال تعالى: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} ، وقال سبحانه: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} ، وقال جل شأنه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} إلى غير ذلك مما نراه في غير موضع من كتاب مقدس هو في أعلى طبقات البلاغة، لا ينكر عليه ذلك أحد. وقد اجتمع الأمران في الحديث

_ 1 لأنه في الأصل نعت لها, ونعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالا. 2 "جرعاء" مؤنث أجرع, وهو الأرض الجرداء لا تنبت شيئا وقصرت للضرورة، و"الحومة": معظم الشيء و"الجندل": الأرض ذات الحجارة و"السجع": تغريد الحمام، وقوله: فأنت بمرأى ... إلخ أي: في مكان تراك فيه سعاد وتسمعك, يقال: فلان بمرأى مني ومسمع أي: بحيث أراه وأسمع قوله.

الشريف, قال صلى الله عليه وسلم: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" فهذا الحديث جمع بين التكرار, وتتابع الإضافات1. الثاني: إنما شرطنا في فصاحة الكلام أن تسلم كل كلمة فيه من العيوب المخلة بفصاحتها؛ لتعلم أن نحو: "محمد أصدق مودة من أخيه"، ونحو: "شعر هند مستشزر"، و"أنفها مسرج" غير فصيح، مع أنه كلام سليم من العيوب المخلة بفصاحته، فلا تنافر كلمات فيه، ولا ضعف تأليف، ولا تعقيد، ولكنه لما لم يسلم من العيوب المخلة بفصاحة بعض أجزائه لم يكن فصيحا؛ إذ الشرط في فصاحة الكلام -كما قلنا- سلامته من عيوبه وعيوب أجزائه, كما تقول في الأمثلة السابقة: "محمد أصدق مودة من أخيه"، و"شعر هند مرتفع"، و"أنفها مستقيم دقيق، أو ناضر بهيج". وهذا هو معنى قول الخطيب في تعريف فصاحة الكلام: خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، مع فصاحة الكلمات. وهم قد جعلوا الظرف حالا من الضمير في "خلوصه" العائد على الكلام أي: أن يخلص الكلام من هذه الثلاثة حال كونه فصيح الكلمات ليخرج بذلك نحو قولهم: شعر هند مستشزر, فإنه -وإن خلص من الأمور المذكورة- غير فصيح لخلو بعض كلماته من الفصاحة2. إذا علمت هذا, علمت أن كل كلام سلم من عيوبه، وعيوب أجزائه عُدَّ في عرف البلغاء فصيحا, وإن لم يسلم من ذلك فقد تعطل جيده من حلية البلاغة.

_ 1 ذلك لأن الإضافات تشمل المتداخلة بأن يكون الأول مضافا للثاني والثاني مضافا للثالث وهكذا كما في الآيتين الأوليين, وغير المتداخلة كما في الحديث, وكثرة التكرار تحصل بذكر الشيء ثالثا سواء كان المذكور ضميرا كما في الآية الثالثة, أو غير ضمير كما في الحديث. 2 وقيل: الظرف حال من الكلمات أي: أن يخلص الكلام من كذا وكذا ومن تنافر الكلمات حال كونها فصيحة, وفي هذا التقدير فساد لأن الظرف حينئذ يكون قيدا للتنافر الداخل تحت النفي وهو الخلوص, والقاعدة: أن النفي إذا دخل على مقيد بقيد توجه في الغالب إلى القيد, وهو هنا فصاحة الكلمات, فيكون المعتبر في فصاحة الكلام انتفاء فصاحة الكلمات مع وجود التنافر, وهذا عكس المقصود؛ إذ المقصود انتفاء التنافر مع وجود فصاحة الكلمات, فيدخل في الفصيح ما ليس بفصيح, ويكون التعريف حينئذ غير جامع.

فصاحة المتكلم

فصاحة المتكلم: هي ملكة أو صفة قائمة بنفس المتكلم راسخة فيه, يستطيع بها أن يعبر تعبيرا صحيحا فصيحا عما يجول بخاطره، ويجيش بصدره من الأغراض والمقاصد. فالمدار في فصاحته على أن تكون هذه الصفة غريزة فيه يستطيع أن يستخدمها متى شاء, في أي ضرب من ضروب الكلام، وفي أي فن من فنونه كالمدح، والذم، والرثاء, والفخر، والتشبيب، وغير ذلك فهو فصيح, وإن لم ينطق متى كان فيه الاستعداد والقدرة على صوغ اللفظ الفصيح, فإن فقد هذا الاستعداد وهذه القدرة فهو غير فصيح. كما لا يكون فصيحا إذا استطاع أن يعبر بلفظ فصيح في مقصد دون آخر, إذا لم يكن ذلك وليد ملكة فيه. وتكوين هذه الملكة إنما يكون بممارسة أساليب العرب الفصحاء، والوقوف على أسرارها، وحفظ الكثير من عيون كلامهم شعرا ونثرا. اختبار: 1- تكلم بإيجاز عن تاريخ نشأة العلوم البلاغية، واذكر أشهر ما وضع فيها من كتب، وأشهر واضعيها، ثم بين ما يترتب على دراستها من فوائد، مع ذكر ما تعرفه عن سعد الدين التفتازاني، والخطيب القزويني. 2- بين معنى الفصاحة في اللغة، ومَثِّل لها بمثالين.

3- بين الأمور التي تُخِل بفصاحة كل من الكلام والكلمة، ثم اذكر معنى المخالفة في كل منهما، مع التمثيل لما تقول. 4- هل يوصف المركب الناقص بالفصاحة؟ فَصِّل القول في هذه المسألة. 5- افرق بين التعقيد اللفظي والمعنوي، مع التمثيل، وبِمَ ترد على من اشترط في فصاحة الكلام سلامته من كثرة التكرار، وتتابع الإضافات، وعلى من زعم أن ضعف التأليف مغنٍ عن التعقيد اللفظي؟ 6- اختلف الرأي في ضابط التنافر المخل بفصاحة الكلمة، فوضح هذا الخلاف، وبين ما استقر عليه الرأي. 7- وضح معنى التعقيد في الكلام، واذكر نوعيه، ثم إن في قول الأحنف: "وتسكب عيناي الدموع لتجمدا" كنايتين صوب النقاد إحداهما، وخطئوا الأخرى, فما وجهتهم في كلتيهما؟ وهل لهم فيما صوبوه وخطئوه ناصر من اللغة؟ بين ذلك بوضوح. 8- بين معنى الغرابة في الكلمة، ومرجع الغرابة فيها، ثم علل غرابة "مسرجا" في قول الراجز: وفاحما ومرسنا مسرجا. 9- عرف فصاحة المتكلم، وهل إذا أجاد القول الفصيح في معنى الفخر مثلا يكون فصيحا؟ تمرينان: 1- مثل لما يأتي من إنشائك ما استطعت: كلام أخل بفصاحته التعقيد اللفظي، وآخر أخل بفصاحته ضعف التأليف، وثالث أخل بفصاحته تنافر الكلمات، ورابع أخل بفصاحته غرابة بعض أجزائه، وخامس أخل بفصاحته تنافر بعض أجزائه.

2- بين العيوب التي أَخَلَّت بفصاحة الكلمة, أو الكلام فيما يأتي: 1- قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت ... عشواء تالية غبسا دهاريسا1 2- فتنتني فجننتني تجنى ... بتجن يفتن غب تجني2 3- يظل بموماة ويمسي بغيرها ... جحيشا ويعرورى ظهور المسالك3 4- لما رأى طالبوه مصعبا ذعروا ... وكاد -لو ساعد المقدور- ينتصر4 5- فلان على شصاصاء من أمره، أي: على عجلة منه، وفلان سدك -بفتح فكسر- أي: مشتهٍ للطعام، وبفلان زلخة -بضم الزاي وفتح اللام المشددة وفتح الخاء- أي: في ظهره وجع، وفلان شرب الإسفنط -بكسر فسكون فكسر فسكون- أي: الخمر، وفلان بيده خنشليل صقيل -بضم الخاء وسكون النون وفتح الشين وكسر اللام- أي: سيف مصقول ماضٍ. 6- إلا الخائن الناس يحترم المليك. قدم أباك الأعزز. 7- زار داود دار أروى وأروى ... ذات دل إذا رأت داودا5

_ 1 "اطلخم الأمر": اشتد, و"العشواء": الناقة الضعيفة البصر, و"الغبس" بصم فسكون جمع غبساء: الشديدة الظلمة, و"الدهاريس": الدواهي. 2 "تجني" آخر المصراع الأول اسم امرأة، و"بتجن" بتجرم، و"يفتن": ينوع، و"غب": عقب. 3 الموماة: الفلاة الواسعة، و"الجحيش" بفتح فكسر أو بضم ففتح: المستبد برأيه، و"اعرورى" الظهر: ركبه عريانا. يقول: إنه جوّاب آفاق وجواس شعاب مستبد الرأي، لا يثنيه عن عزمه اعتكار الليل, ولا مجاهل الصحراء. 4 "مصعب" هو ابن الزبير بن العوام, ابن عمة رسول الله, و"المقدور": القدر. 5 "أروى" اسم امرأة, و"الدل": الدلال.

8- العقعقة: صوت العقعق، والنقنقة: صوت الضفدع، والسقسقة: صوت العصفور. 9- وشوه ترقيش المرقش نقشه ... فأشياعه يشكونه ومعاشره1 10- علمي إلى علمك كالقرارة في المثعنجر2. 11- ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم3 12- السرطراط4 جميل, يتناوله من هو في رخاخ5 من العيش. 13- لم يضرها والحمد لله شيء ... وانثنت نحو عزف نفس ذهول6 14- أنت مصوون عن القبيح، وهو مرضوي عنه. 15- صان اللئيم -وصنت وجهي- ماله ... وونى فلم يبذل ولم أتبذل 16- ارتخش المهمل فزعا عند الامتحان أي: اضطرب. 17- ألا ليت شعري هل يلومن قومه ... زهيرا على ما جر من كل جانب؟ 18- فلا يبرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم7 19- ولا تجز رد ذي سؤال ... فتى إذا في السؤال خفف

_ 1 "شوه": قبح، و"الرقش الترقيش": الزخرفة. 2 أي: علمي بالقياس إلى علمك كالغدير الصغير بجانب البحر الكبير. 3 "يذد" من ذاد يذود بمعنى: دفع يدفع. 4 بكسرتين فكسون: الفالوذ. 5 في رخاخ بفتح الراء: في رغد. 6 "ولم يضرها" من ضار يضير بمعنى ضر يضر، و"انثنت": انعطفت، و"عزفت" النفس عن الشيء عزوفا: زهدت فيه, وانصرفت عنه. 7 أبرم الأمر: أحكمه, يريد: أنه نافذ الرأي فلا يعدل عن حكمه, ولا ينثني عن عزمه.

20- "الدهرس" بفتح الدال وسكون الهاء وفتح الراء: الداهية، والنسع بكسر النون وسكون السين: ريح الشمال، و"المشمخر" بضم فسكون ففتح فكسر: العالي. 21- قرب منا فرأيناه أسدا أي: أبخر. 22- حالت دون صفوي صهصليق1 الحي. ركوب الطخرور2 معزة ومهابة. خير لحوم الخيل جلجلانها3. ملأ البعاق الجردحل4. 23- إن بني للئام زهدة ... ما لي في صدورهم من موددة5 24- نعم متاع الدنيا حباك به ... أروع لا جيدر ولا جبس6 25- بيضاء يمنعها تكلم دلها ... تيها ويمنعها الحياء تميسا7 26- وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار 27- إلى ملك ما أمه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره 28- يوم عصبصب وهلوف ملأ السجسج طلا8.

_ 1 بفتح فسكون ففتح: العجوز الصخابة. 2 بضم فسكون فضم: المهر. 3 الجلجلان, بضم فسكون فضم: القلب أو الصدر. 4 "البعاق" بكسر الباء: المطر، و"الجردحل" بكسر فسكون ففتح فسكون: الوادي. 5 زهدة جمع زاهد, يقول: إن أولاده عاقون لا يأخذهم به حنو ولا شفقة، وإنهم لئام يقابلون إحسانه لهم بالإساءة إليه. 6 "حباك": أعطاك، و"الأروع": هو الذي يعجبك حسنه, و"الجيدر" بفتح الجيم والدال: القصير، و"الجبس" بكسر فسكون: الثقيل الروح. 7 "الدل" والدلال بمعنًى، و"تميس": تميل. 8 "عصبصب" بفتحتين فسكون ففتح بمعنى عصيب شديد, و"هلوف" بكسر الهاء وفتح اللام المشددة: هو الذي يستر غمامه شمسه، و"السجسج": الأرض ليست سهلة ولا صلبة، و"الطل": المطر الخفيف.

29- بثينة شأنها سلبت فؤادي ... بلا ذنب أتيت به سلاما 30- أكلت العرين، وشربت الصمادح1. جواب التمرين الثاني: 1- في "اطلخم" غرابة وتنافر، وفي "غبس" و"دهاريس" غرابة. 2- في البيت تنافر الكلمات مجتمعة لثقل النطق به، وهو من النوع الشديد. 3- في لفظتي "جحيش ويعرورى" غرابة يحتاجان إلى بحث وتنقيب. 4- في البيت في مصراعه الأول ضعف تأليف؛ لعود الضمير في "طالبوه" على "مصعب"، وهو متأخر لفظا، ومعنى, وحكما. 5- في "شصاصاء" غرابة في المعنى، وتنافر في الحروف، وسدك، وزلخة، والإسفنط, كل منها غريب يحتاج إلى كشف لقلة تداوله، و"خنشليل" غريبة متنافرة. 6- في هذه العبارة تعقيد لفظي، والوضع الفصيح أن يقال: يحترم المليك الناس إلا الخائن، و"الأعزز" مخالف للوضع وللقياس الصرفي, والفصيح أن يقال: الأعز بالإدغام. 7- في البيت في المصراع الأول تنافر الكلمات مجتمعة؛ لثقل النطق بها. 8- في هذه الكلمات تنافر حروف ظاهر. 9- في البيت في المصراع الأول تنافر كلمات واضح الثقل.

_ 1 "العرين": اللحم، والصمادح بضم الصاد وكسر الدال: الماء الخالص.

10- في "المثعنجر" تنافر حروف, وغرابة تحتاج فيهما إلى بحث. 11- في قول زهير: "ومن لا يظلم الناس يظلم" تعقيد معنوي؛ إذ مراده: ومن لا يدفع عن نفسه بما أوتي من قوة وبأس، وحسن رأي وتدبير يظلم, فقد استعمل الظلم في معنى الدفاع، وهذا يحتاج إلى جهد وتعمل لخفاء اللزوم. 12- في كل من السرطراط والرخاخ غرابة وتنافر. 13- في المصراع الثاني من البيت تنافر كلمات؛ لثقل النطق بها على اللسان. 14- في كل من "مصوون ومرضوي" مخالفة للوضع وللقياس الصرفي, والصواب: مصون ومرضي. ففي الأول: حذفت الواو الثانية؛ لالتقاء الساكنين بعد نقل حركة الواو الأولى إلى الساكن قبلها. وفي الثاني: اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، ثم أدغمت الياءان، وكسرت الضاد للمناسبة. 15- في البيت تعقيد لفظي بسبب تقديم وتأخير أوجبا عدم استقامة المعنى وخفاءه، والوضع الفصيح هكذا: صان اللئيم ماله وتوانى، فلم يبذل، وصنت وجهي، ولم أتبذل. 16- في "ارتخش" غرابة يحتاج فيها إلى بحث وتنقيب في معاجم اللغة. 17- في البيت ضعف تأليف؛ لأن الضمير في "قومه" عائد على "زهيرا" وهو متأخر لفظا، ومعنى، وحكما، وقد تقدم بيانه. 18- في "في حالل ويحلل" مخالفة للوضع وللقياس الصرفي، والفصيح فيهما: "حال ويحل" بإدغام المثلين المتحركين. 19- في الشطر الأول من البيت تنافر كلمات، يثقل على اللسان النطق بها.

20- الدهرس والنسع والمشمخر كلها كلمات غريبة؛ لعدم تداولها. 21- في العبارة تعقيد معنوي؛ لخفاء لزوم البخر للأسد عرفا, فانتقال الذهن إنما يكون من الأسد إلى معنى الشجاعة لاشتهاره به، لا إلى معنى البخر؛ لبعده عن خواطر الذهن. 22- في كل من "صهصليق" و"الطخرور"، و"الجلجلان" تنافر وغرابة، وفي "البعاق"، و"الجردحل" غرابة فقط. 23- في "موددة" مخالفة لما ثبت عن الواضع وللقياس الصرفي، والفصيح فيه: "مودَّة" بإدغام المثلين. 24- في "جيدر"، و"جبس" غرابة؛ لعدم تداولهما في العربية الفصحى. 25- في البيت ضعف تأليف بسبب نصب المضارع بدون ناصب, والأصل: أن تكلم1، وأن تميس. 26- في "نواكس" مخالفة للوضع وللقياس الصرفي؛ إذ لا يصح نقلا عن الواضع، ولا في القانون الصرفي جمع "فاعل" وصفا لمذكر عاقل على "فواعل". 27- في البيت تعقيد لفظي من النوع الخفيف، والوضع الصحيح: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب، ولا كان هو صهرا لكليب, فهو رفيع النسب أبا وأما. 28- في الكلمات الثلاث غرابة؛ لعدم تداولها في اللغة الفصحى، وفي ثالثتها تنافر. 29- في هذا البيت تعقيد لفظي في أقصى شدته, حتى كاد التركيب يستغلق على فتيق الذهن، فيقف حائرا أمام هذا الطلسم بسبب فحش خروجه عن أوضاع النحاة. والأصل: سلا بثينة: ما شأنها؟ سلبت فؤادي بلا ذنب أتيت به. 30- في "العرين والصمادح" غرابة؛ لعدم تداولهما في اللسان الفصيح.

_ 1 بحذف إحدى التاءين أي: أن تتكلم.

تمرين يطلب جوابه: بين العيوب التي أخلت بفصاحة الكلمة, أو الكلام فيما يأتي: نحن قوم فواهم ما تقول، وقد جئناك في يوم عصيصيب1. وازور من كان له زائرا ... وعاف عافي العرف عرفانه2 كتب بعض أمراء بغداد -حين مرضت أمه- رقاعا، وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام, جاء فيها: "صين امرؤ، ورعى دعا لامرأة إنقحلة3 مقسئنة4 قد منيت5 بأكل الطرموق6، فأصابها من أجله الاستمصال7 أن يمن الله عليها بالاطرغشاش"8، فكان كل من يقرأ كلامه يسلقه بحاد لسانه. يقول الشاعر: أنى يكون أبا البرايا آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد9

_ 1 أي: في يوم شديد البرد. 2 "ازور" على زنة اعتد: انحرف وابتعد، و"عاف": كره، و"عافي العرف": طالب المعروف، و"العرفان": المعرفة, والمعنى: تنحى عنه وقاطعه من كان يزوره، وكره طالب الإحسان معرفته والاتصال به. 3 بكسر فسكون ففتح فسكون بمعنى يابسة. 4 بضم فسكون ففتح فكسر فنون مشددة بمعنى مسنة عجوز. 5 أصيبت. 6 بضم الطاء وسكون الراء وضم الميم: الخفاش. 7 الإسهال. 8 بكسر الهمزة وسكون الطاء وكسر الراء: البرء. 9 "البرايا" جمع برية, وهي الناس عامة و"الثقلان": الإنس والجن، والوضع الفصيح لهذا البيت: أنى يكون آدم أبا البرايا وأنت وأبوك محمد الثقلان، والمعنى: كيف تعقل أبوة آدم لكافة الناس, في حين أن هذا العالم إنسه وجنه هو أنت وأبوك محمد!

قال امرؤ القيس: رب جفنة1 مثعنجرة2، وطعنة مسحنفرة3، وخطبة مستحضرة، وقصيدة محبرة4, تبقى غدا بأنقرة5. كسا حلمه ذا الحلم أثواب سؤدد ... ورقى نداه ذا الندى في ذرا المجد6 مر بي رجل مسعوي به عند الأمير. "في رفع عرش الشرع مثلك يشرع". وما من فتى كنا من الناس واحدا ... به نبتغي منهم عديلا نبادله7 نشر الملك ألسنته في المدينة, يريد: جواسيسه. تسمع بالمعيدي8 خير من أن تراه. صون يديك عن الأذى. أسمع جعجعة وأنا أشرب السمالج9.

_ 1 الجفنة: القصعة. 2 متسعة. 3 متسعة. 4 محسنة. 5 عاصمة تركيا الآن, قال ذلك حين أدركه الموت. 6 "السؤدد" بضم السين وسكون الهمزة وضم الدال: السيادة, فإذا سهلت الهمزة فتحت الدال، و"الندى": الكرم. يقول: إن الحلم والكرم أفضيا به إلى العزة والسيادة، ورقيا به إلى أسمى مراتب المجد والشرف. 7 الوضع الفصيح لهذا البيت: وما من فتى من الناس كنا نبتغي واحدا منهم عديلا نبادله به. 8 تصغير المعدى, وهو مثل يضرب فيمن شهر وتزدري مرآته. 9 الجعجعة: صوت الرحي, وصوت الجمال إذا اجتمعت, والسمالج بضم السين وكسر اللام: اللبن.

البلاغة

البلاغة مدخل ... البلاغة: هي في "اللغة" تنبئ عن الوصول والانتهاء؛ لكونها وصولا خاصا, وهو أن يبلغ الرجل بعبارته كنه مراده أي: غايته. يقال: بلغ1 الرجل بلاغة, إذا أصاب من نفس مخاطبه حاجته، وبلغ منه ما أراد. وهي "في الاصطلاح" تختلف باختلاف موصوفها، وهو أحد اثنين: الكلام، والمتكلم. يقال: هذا كلام بليغ، وهذا متكلم بليغ, ولا توصف بها الكلمة، فلا يقال: هذه كلمة بليغة؛ لعدم ورود السماع بذلك2. أما المركب الناقص, فعلى رأي من يدخله في الكلمة لا يوصف بالبلاغة أيضًا، وعلى رأي من يدخله في الكلام يوصف بها. غير أن وصفه بالبلاغة على هذا الرأي محل نظر؛ لأن بلاغة الكلام -على ما سيأتي- مطابقته لمقتضى الحال، ولا يكون الكلام مطابقا حتى يكون تاما مفيدا.

_ 1 على زنة شرف. 2 هذا هو التعليل الصحيح. وقيل في تعليل ذلك: إن البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال، وهذه المطابقة إنما تحصل بمراعاة المعاني الزوائد على أصل المعنى؛ كأن يراعى معنى التأكيد في خطاب المنكر، أو الإيجاز في خطاب الذكي, وهذا المعنى لا يتحقق في المفرد، بل لا بد فيه من مركب مفيد وهو تعليل لا ينتج المدعى؛ لأن المطابقة بالمعنى المذكور إنما هي في بلاغة الكلام والمتكلم على ما سيأتي. أما المفرد فيحتمل أن يكون له بلاغة بمعنى آخر لم نطلع عليه, كما وجد ذلك في فصاحة المفرد. فإن أجيب بأن لا معنى للبلاغة عند العرب إلا هذا المعنى؛ فقد آل الأمر إلى التعليل بعدم السماع كما قلنا.

بلاغة الكلام

بلاغة الكلام: هي مطابقته لمقتضى2 حال الخطاب، مع سلامته من العيوب المخلة بفصاحته، وفصاحة أجزائه3.

_ 1 المراد بمقتضى الحال مناسبه لا موجبه الذي يمتنع تخلفه عنه, وإنما أطلق عليه مقتضى؛ لأن المستحسن عند البلغاء كالمقتضى. 3 علم من هذا التعريف أن البلاغة تتحقق برعاية هذه المطابقة, وإن لم يراع أداء المعنى المطابق في طرق مختلفة الدلالة الذي هو موضوع علم البيان؛ كما إذا أدى المعنى المذكور بدلالات وضعية مطابقية. نعم إذا أدى هذا المعنى بدلالات عقلية مختلفة الوضوح, فلا بد في بلاغة الكلام حينئذ من مراعاة كيفية الدلالة أيضًا.

والمناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي هي أن الكلام إذا طابق مقتضى الحال, وصل إلى المطلوب عند البلغاء. وحال الخطاب -أي المقام1 الذي ورد فيه الخطاب- هي الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يعتبر2 في كلامه شيئا خاصا زائدا على أصل المعنى. ومقتضى الحال: هو ذلك الأمر الزائد الذي اعتبره المتكلم في كلامه لاقتضاء الحال إياه، وهو ما يسمونه بالاعتبار المناسب، أو الخصوصية. ومطابقة الكلام لمقتضى الحال: هي اشتماله على ذلك الشيء الزائد. مثال ذلك أن يقال لمنكر رسالة محمد, صلى الله عليه وسلم: "إن محمدا لرسول الله"، فإنكار المخاطب لهذه الرسالة "حال" لأنها أمر يحمل المتكلم على أن يعتبر في كلامه شيئا خاصا زائدا على أصل المعنى هو "التأكيد" محوًا لهذا الإنكار كما في المثال المذكور. فإن التأكيد -كما ترى- شيء زائد على المعنى الأصلي الذي هو ثبوت الرسالة لمحمد، وصورة هذا التأكيد التي وردت في الكلام هي "مقتضى الحال"؛ إذ إن الحال اقتضتها، ودعت إليها, واشتمال الكلام على هذه الصورة هو معنى "مطابقته للمقتضى". فهذا القول حينئذ بليغ

_ 1 الحال والمقام شيء واحد، فهما متحدان ذاتا, فكلاهما الأمر الداعي للمتكلم لأن يعتبر في كلامه شيئا زائدا على أصل المعنى, والاختلاف بينهما إنما هو بحسب الاعتبار؛ فإن اعتبر ذلك الأمر الداعي أنه زمان لورود الكلام فيه سمي "حالا" وإن اعتبر أنه محل لوروده سمي "مقاما"، وكل ذلك لا يعدو التوهم والاعتبار وإلا فليس الأمر الداعي -كالإنكار مثلا- زمانا ولا مكانا, وإنما هو سبب لورود الكلام على صورة خاصة. غير أنه لما كان لا بد لهذا الأمر من زمان ومكان يقع فيهما سمي بأحدهما تارة وبالآخر أخرى, فالتسمية حينئذ لأدنى ملابسة. 2 أي: يلاحظ ويقصد, فلا بد في بلاغة الكلام من أن يكون مقتضى الحال مقصودا ملاحظا للمتكلم, ولا يكفي حصوله من غير قصد, وإلا لم يكن مقتضى حال ولم يعتبر الكلام حينئذ مطابقا لمقتضى الحال.

لأنه مطابق لمقتضى الحال, أي: مشتمل على ما تقتضيه الحال من التأكيد. ومثل الإنكار خلوّ الذهن كما تقول لخالي الذهن: "نجح أخوك في الامتحان"، فخلوّ ذهن المخاطب عن الحكم المذكور "حال"؛ لأنها أمر يحمل المتكلم على أن يعتبر في كلامه شيئا زائدا على أصل المعنى، وذلك الشيء هو تجريده عن صورة التأكيد إذ لا حاجة إليه حينئذ، والتجريد عنه هو "مقتضى الحال"، وورود الكلام مجردا عن التأكيد أي: مشتملا على عدم التأكيد1 هو معنى مطابقته للمقتضى, فهذا القول إذًا بليغ؛ لأنه مطابق لمقتضى الحال أي: مشتمل على ما يقتضيه الحال من التجريد عن التأكيد. لكن قد يقال: إن القول المذكور الموجه لخالي الذهن ليس فيه أكثر من الدلالة على أصل المعنى الذي هو ثبوت النجاح لأخي المخاطب, فأين الزيادة التي اقتضتها الحال؟ ويجاب بأن كون الاقتصار على أصل المعنى مقصودا لاقتضاء الحال له هو تلك الزيادة المطلوبة, إذ إن هناك فرقا بين أن يكون الاقتصار على إفادة أصل المعنى غير مقصود للمتكلم، وبين أن يكون الاقتصار على ذلك مقصودا له لاقتضاء الحال إياه, وهذا المعنى الأخير -بلا شك- زائد على الأصل. ولهذا نظير في بحث أحوال المسند إليه عند إيراده اسم إشارة كما تقول: "هذا محمد، وذلك محمد" فإن اللفظ في المثالين لا يدل ظاهره على أكثر من المعنى الأصلي، وهو كون المشار إليه قريبا أو بعيدا؛ لأن "هذا" موضوع للقريب، و"ذلك" للبعيد، لكن علم المعاني لا ينظر لهذا اللفظ هذه النظرة المجردة، ولا يقف به عند هذا الحد، وإنما ينظر إليه من ناحية الدواعي التي اقتضت استعماله فيما

_ 1 معنى اشتماله على عدم التأكيد: اعتباره مجردا عنه لاقتضاء الحال إياه, وهكذا يقال فيما ليس بلفظ من مقتضيات الأحوال.

وضع له, وفرق بين أن يكون اللفظ موضوعا لكذا، وبين أن يكون مستعملا في كذا من أجل كذا, وهذا الأخير هو المعنى الزائد الذي يهدف إليه دائما هذا العلم. وصفوة القول: أن مقتضى الحال لا يجب أن يكون من قبيل اللفظ كعدم التأكيد في الخطاب المتقدم الموجه لخالي الذهن، وكاستعمال اسم الإشارة في القريب أو البعيد كما مثلنا. وكالإنكار أيضا المدح, فهو حال تدعو المتكلم لأن يورد كلامه على صورة الإطناب؛ لأن مقام المدح يقتضي الإطالة في القول، والبسط فيه؛ قضاء لحق الممدوح. وكذلك ذكاء المخاطب حال تحمل المتكلم على أن يورد كلامه على صورة الإيجاز؛ لأن مقام الذكاء يقتضي الاختصار في القول، واستعمال العبارات ذات المعاني الدقيقة الخفية, وكل من صورتي الإطناب والإيجاز مقتضى الحال، واشتمال الكلام على هذه الصورة مطابقة للمقتضى, وهكذا يقال في كل حال من أحوال الخطاب. تنبيهات: الأول: يؤخذ من ظاهر تعريف بلاغة الكلام أن البلاغة مرجعها اللفظ؛ لأنها -على ما سبق- مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والمطابقة صفة المطابق الذي هو الكلام الملفوظ به. وإذًا تكون البلاغة صفة راجعة إلى اللفظ, غير أن رجوعها إليه لا من حيث ذاته، ولا من حيث إفادته المعنى الأول الذي هو النسبة بين الطرفين, فإن هذا المعنى مطروح في الطريق، فهو في متناول عامة الناس، فلا ينظر إليه البليغ, وإنما رجوعها إلى اللفظ من حيث إفادته المعنى الزائد الذي اقتضاه المقام، ودعت إليه الحال "كالتأكيد" مثلا بالنسبة للمنكر وكعدمه

بالنسبة لخالي الذهن, ولو كان مرجعها اللفظ بغضّ النظر عن المعنى الثاني البلاغي؛ لتصور معنى البلاغة بدون اعتبار ما يناسب الحال من المقتضيات, وذلك محال ا. هـ. الثاني: تقدم أن الحال هي الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يعتبر في كلامه شيئا زائدا على المعنى الأصلي, غير أن هذا الأمر الداعي تارة يكون داعيا في الواقع إلى اعتبار هذا الشيء الزائد كما لو كان المخاطب منكرا حقيقة, فإن الإنكار أمر داعٍ في الواقع إلى أن يعتبر المتكلم "التأكيد" في كلامه -ويسمى الأمر الداعي حينئذ "ظاهر الحال"- وتارة لا يكون داعيا في الواقع إلى اعتبار ما ذكر كما لو نزل المخاطب غير المنكر منزلة المنكر لسبب ما, فإن ذلك الإنكار التنزيلي ليس داعيا في الواقع إلى اعتبار شيء في الكلام، وإنما هو داعٍ في تقدير المتكلم, وافتراضه فحسب بتنزيله غير المنكر منزلة المنكر, ويسمى الأمر الداعي حينئذ "حالا" فقط. فظهر من هذا أن الحال هي الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يعتبر في كلامه شيئا زائدا على أصل المعنى -سواء كان ذلك الأمر داعيا في الواقع، أو في عرف المتكلم فقط- وأن ظاهر الحال هو الأمر الداعي للمتكلم في الواقع لا غير، وثبت حينئذ أن الحال أعم مطلقا من ظاهر الحال ا. هـ. الثالث: أن ما تقدم من أن مقتضى الحال هو الشيء الزائد على أصل المعنى كالتأكيد في نحو: "إن محمدا لرسول الله" خطابا للمنكر، وكالخلو منه في مثل: "محمد رسول الله" خطابا لخالي الذهن, وأن معنى المطابقة لمقتضى الحال هو اشتمال الكلام على هذا المقتضى كاشتماله على التأكيد "في المثال الأول" وعلى عدمه "في المثال الثاني", أن هذا الذي تقدم هو خلاف التحقيق. و"تحقيق المسألة": أن مقتضى الحال هو الكلام الكلي المشتمل على الشيء الزائد "كالتأكيد" مثلا، وليس هو التأكيد نفسه -

كما هو الرأي الأول- وأن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي كون الكلام الجزئي الصادر من المتكلم، والمشتمل على الشيء الزائد على أصل المعنى مندرجا تحت الكلام الكلي الذي اقتضته الحال، وجزئيا من جزئياته، بمعنى أن الكلي صادق عليه، شامل له ولأمثاله, فإنكار رسالة محمد مثلا "حال". ومقتضى هذا الحال هو مطلق كلام مؤكد بأي نوع من أنواع التوكيد ردا لهذا الإنكار، لا خصوص قولك: "إن محمدا لرسول الله"، ومعنى مطابقة هذا القول لمقتضى الحال الذي هو مطلق الكلام المؤكد: أنه فرد من أفراد هذا المطلق، وجزئي من جزئياته، فوضح الفرق بين القولين. وعلى كل من الرأيين, فالحال لا تختلف إذ هي الأمر الداعي لاعتبار شيء خاص زائد في الكلام, كما سبق. ا. هـ. الرابع: إنما شرطنا في بلاغة الكلام أن يسلم من العيوب المخلة بفصاحته، وفصاحة أجزائه لتعلم أن البلاغة أخص من الفصاحة، وأن كل كلام بليغ لا بد أن يكون فصيحا، ولا عكس. فإذا قلت لمنكر: "إن أنف هند لمسرج", أو قلت: "والله ليس بقرب قبر حرب قبر"، أو قلت: "إن محمدا لأصفى موددة من أخيه" لم يكن كلامك بليغا رغم أنه مطابق لما تقتضيه حال المخاطب؛ ذلك لفقدان شرط الفصاحة فيه. أما في المثال الأول؛ فلكون بعض أجزائه وحشيا غريبا، وأما في الثاني؛ فلكونه متنافر الكلمات مجتمعة، وأما في الثالث فلكون بعض أجزائه مخالفا لما ثبت عن الواضع، وللقياس الصرفي من وجوب إدغام المثلين المتحركين. وإذا قلت لمن ينكر إمارة شوقي للشعر: "شوقي أمير الشعراء" من غير تأكيد, كان كلامك فصيحا رغم عدم مطابقته لمقتضى حال المخاطب؛ إذ إن حاله تقتضي التأكيد محوا لإنكاره, وإنما كان فصيحا لسلامته من العيوب المخلة بالفصاحة. فعلم من هذا: أن الكلام لا يكون بليغا حتى يكون فصيحا لأخذ شرط الفصاحة فيه, وهو أن يكون سليما من العيوب المخلة بها, وأن الكلام يكون فصيحا وإن لم يكن بليغا لعدم أخذ شرط البلاغة فيه, وهو أن يكون الكلام مطابقا, وقد وضح لك ذلك من الأمثلة السابقة فتدبره ا. هـ.

اختلاف مقتضيات الأحوال

اختلاف مقتضيات الأحوال: مما تقدم تعلم أن مقتضيات الأحوال تختلف باختلاف تلك الأحوال؛ ذلك أن الحال سبب مقتضٍ، واختلاف الأسباب في الاقتضاء يوجب اختلاف المسببات. فإذا كانت الحال إنكارا من المخاطب مثلا كان المقتضى توكيدا، أو كلاما مؤكدا على القولين السابقين؛ لأن ذلك هو اللائق بحال المنكر. وإن كان الحال خلو ذهن المخاطب عن الحكم كان المقتضى خلوا من التأكيد، أو كلاما خاليا منه؛ لأن ذلك هو المناسب لحال خالي الذهن. وإن كان ذكاء في المخاطب كان المقتضى هو الإيجاز، أو الكلام الموجز ذا العبارات اللطيفة والمعاني الدقيقة. وإن كان الحال وعظا كان المقتضى هو الإطناب، أو الكلام المطنب ذا العبارات الصريحة الواضحة ليبلغ أعماق قلوب المخاطبين, وهكذا: لكل مقام مقال, فالذي يعتبر في مقام يخالف ما يعتبر في مقام آخر, فمقام تعريف المسند إليه مثلا يخالف مقام تنكيره، ومقام تقديمه يغاير مقام تأخيره، ومقام الإيجاز -كما سبق- يباين مقام الإطناب، وهكذا. وللسوقة كلام لا يصلح لسراة القوم وأمرائهم, وفي مواقف الحروب، أو الوعيد، أو التهديد كلام يغاير ما يقال في مواطن توديع الأحبة، وبث الأشواق، وذكر أيام الفراق، وما قارب ذلك من معاني الاستعطاف والمعاذير. ففي الأول يستعمل اللفظ الضخم، والمعنى الفخم، وفي الثاني يستعمل اللفظ الرقيق الحاشية، اللين المجس، الناعم الملمس، اللطيف الموقع. ألا ترى إلى قول بشار بن برد: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو أمطرت دما

إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة ... ذرا منبر صلى علينا وسلما وإلى قوله: وجيش كجنح الليل يزحف بالحصا ... وبالشوك والخطي حمر ثعالبه غدونا له والشمس في خدر أمها ... تطالعنا والطل لم يجر ذائبه بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه ... وتدرك من نجى الفرار مثالبه كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه بعثنا لهم موت الفجاءة إننا ... بنو الموت، خفاق علينا سباسبه إذا الملك الجبار صعر خده ... مشينا إليه بالسيوف نعاتبه وإلى قول البارودي: وإني امرؤ لولا العوائق أذعت ... لسلطانه البدو المغيرة والحضر من النفر الغر الذين سيوفهم ... لها في حواشي كل داجية فجر إذا استل منهم سيد غرب سيفه ... تفزعت الأفلاك والتفت الدهر فإنك إذ يقرع سمعك هذا الشعر لتحس معاني الرهبة تملأ جوانب نفسك, وتملك عليك زمام قلبك وحسك. ثم لا تلبث أن يمر بسمعك, وأنت ثائر قول إبراهيم للمأمون:

"يا أمير المؤمنين" ولي الثأر محكم في القصاص، "والعفو أقرب للتقوى"، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن أخذت فبحقك وإن عفوت فبفضلك: ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه فخذ بحقك أولا ... فاصفح بفضلك عنه إن لم أكن في فعالى ... من الكرام فكنه حتى تنقلب الثورة لطفا، القسوة عطفا، كالصخرة الصماء تفتِّتها ليونة الماء؛ فأنت ترى الألفاظ في المقام الأول تنحدر كما تنحدر الصخور من شواهق، وتراها في الثاني تسيل كما يسيل العذب الفرات سائغا للشاربين. بل إن لكل كلمة إذا قرنت بأخرى مقاما ليس لها إذا قرنت بغيرها, وإن لنا في القرآن الكريم لخير قدوة في مراعاة مثل هذه الخصائص؛ فها هو ذا يحدثنا، فيقول عز من قائل: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ 1 قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} فقد عبر في جانب الحسنة بالفعل مصحوبا "بإذا" الموضوعة للجزم والتحقيق؛ لأن المقام مقام جزم ويقين, إذ إن المراد مطلق حسنة بدليل تعريفها بأل الجنسية، ومطلق الحسنة مجزوم بوقوعه, وأتى في جانب السيئة بالفعل مصحوبا "بإن" الموضوعة للشك والتردد؛ لأن المقام مقام شك وعدم جزم بالحصول, إذ إن السيئة بالقياس إلى الحسنة المطلقة نادرة الوقوع، والنادر مما يشك في حصوله ووقوعه. إلى هنا وضح لك أن للفعل مع "إذا" مقاما ليس له مع "إن"؛ لأن مقامه مع "إذا" الجزم، ومقامه "مع أن" الشك, وهذا هو معنى قولهم المشهور: "ولكل كلمة مع صاحبتها مقام": أي: لكل كلمة "كالفعل" مع كلمة أخرى مصاحبة لها في تركيب واحد "كإذا" مقام ليس لها مع كلمة أخرى "كان" كما تراه واضحا في الآية الكريمة. ويتجلى لك هذا في قولهم: "إن جاء محمد آتيك، وآتيك إذا احمر البسر"، عبر أولا مع الفعل "بإن"، ثم عبر ثانيا "بإذا" لأن مقام الأول الشك في وقوع المجيء من محمد، ومقام الثاني الجزم بوقوع احمرار البسر؛ ولهذا لا يصح العكس فيه.

_ 1 يريد بالحسنة الخصب والرخاء، وبالسيئة الجدب والبلاء.

مراتب البلاغة

مراتب البلاغة: مما سبق تعلم أن مراتب البلاغة تتفاوت في العلوّ والانحطاط بتفاوت مراعاة تلك الأحوال والمقامات، واعتبار ما يناسبها من المقتضيات والخصائص. فكلما كانت رعاية تلك الأحوال أتم وأوفى كان الكلام أبلغ وأسمى, وكلما كانت تلك الرعاية أقل وفاء كان الكلام أدنى مرتبة، وأقل بلاغة؛ فإذا كنت مثلا تخاطب ذكيا منكرا لحكم من الأحكام وجب -ليكون كلامك أسمى بلاغة، وأدق صياغة- أن تراعي في خطابك ذكاءه وإنكاره معا، فتعطي له من الكلام ما يلائم ذكاءه من الإيجاز، وما يناسب إنكاره من التوكيد, فإذا راعيت ذلك كان كلامك أرفع مكانة، وأسمى مرتبة؛ لأنه أكمل مطابقة لمقتضى حال الخطاب, وإن راعيت في الخطاب معه أحد الأمرين بأن أوجزت ولم تؤكد، أو أكدت ولم توجز كان كلامك أقل بلاغة وأحط مكانة, فإن لم تراع الأمرين جميعا كان كلامك عاطل الجيد من حلية البلاغة، بل كاد يلتحق بأصوات الحيوان. كذلك إذا كنت تخاطب منكرا إنكارا شديدا وجب أن تراعي قوة إنكاره، فتعطي له من التأكيد ما يتكافأ مع هذا الإنكار الشديد، ومتى راعيت ذلك كان كلامك في المرتبة العليا لأنه أكمل مطابقة، وأتم رعاية, وإن لم تعط له من التأكيد ما يعادل إنكاره بأن كان التأكيد أخف وزنا كان كلامك أحط قدرا، وأهون شأنا, فإن لم تراع إنكاره

أصلا، وخاطبته خطاب خالي الذهن كان كلامك غفلا من معنى البلاغة، بل كان بصوت الحيوان أشبه, وهكذا. هذا, وأما الطرف الأعلى للبلاغة -وهو ما تقطع عنده الأطماع، وتحار فيه العقول، وتخرس الألسنة، وتخر له أعناق الجبابرة- فذلك مرتبة الإعجاز، وهو إنما يكون بمراعاة جميع الأحوال -ظاهرها وباطنها، واعتبار ما يلائمها من المقتضيات- وهذا أمر فوق مقدور البشر انفرد به العليم الخبير؛ ولهذا كان القرآن في أعلى طبقات البلاغة لصدوره عمن هو أعلم بكافة الأحوال -ظاهرها وخفيها- وأدرى بمقتضياتها واعتباراتها {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .

بلاغة المتكلم

بلاغة المتكلم: هي ملكة أو صفة قائمة بالمتكلم راسخة فيه، يتمكن بها متى شاء من تأليف كلام بليغ في أي معنى يريد, فالمدار -كما قلنا في فصاحة المتكلم- على أن تكون فيه هذه الغريزة يستخدمها "متى أراد" في أي فن من فنون الكلام, فهو بليغ وإن لم ينطق متى وجدت فيه هذه القدرة على صوغ الكلام البليغ. فإذا فقد هذه القدرة، وحرم هذا الاستعداد لم يكن بليغا -كما لا يكون بليغا- إذا استطاع صوغ الكلام البليغ في معنى دون آخر. وقياسا على ما سبق من أن البلاغة أخص من الفصاحة يكون المتكلم البليغ أخص من الفصيح؛ لأن المتكلم البليغ هو -كما قلنا- من به ملكة الإتيان بكلام بليغ، والكلام البليغ -كما سبق- مشروط فيه الفصاحة، وحينئذ لا يكون المتكلم بليغا حتى يكون فصيحا. أما المتكلم الفصيح, فقد يفقد صفة البلاغة بأن يصوغ كلاما بريئا من العيوب المخلة بالفصاحة، غير مطابق لمقتضى الحال كما إذا قلت لمنكر نجاح أخيه: نجح أخوك. مما تقدم في تعريف البلاغة تعلم أن:

البلاغة يتوقف أمرها على شيئين: الأول: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وهو معنى مطابقة الكلام لمقتضى حال الخطاب, على ما تقدم بيانه. الثاني: السلامة من العيوب المخلة بالفصاحة، على ما فصلناه لك سابقا. تتمة: علمت مما تقدم في بيان تعريف الفصاحة والبلاغة، ما يعرض للفظ من عيوب، وما ينتابه من خلل، فيجمل بنا إذًا أن نعرف: بم نتقي هذه العيوب، ونتجنب هذا الخلل في كلامنا حتى يخرج اللفظ سليما معافى في جوهره, وصيغته، ومعناه, لا يشكو عيبا، ولا يحس نقصا؟ فنقول: أ- التنافر: ملاك معرفته الذوق السليم، فلا حاكم فيه سواه، فهو الذي يدرك أن نحو: "مستشزر" متنافر، دون مرتفع، وهو الذي يحس ما بين الكلمات مجتمعة من تنافر، أو تضافر. ب- المخالفة: يمكن الاحتراز عنها بالوقوف على ما نقل عن الواضع, أو بالاطلاع على قواعد علم التصريف؛ إذ هو الباحث في صيغ المفردات، ونهج استعمالها. فمن ألمّ بقواعده عرف أن نحو: "الأجلل" مخالف دون "الأجل" إذ من قواعدهم: أن المثلين إذا اجتمعا في كلمة واحدة، وكان ثانيهما متحركا، ولم يكن زائدا لغرض وجب إدغامهما. جـ- الغرابة: يمكن اجتنابها بالاطلاع على علم متن اللغة. فمن تتبع معاجم اللغة، ووقف على معاني المفردات المستعملة علم أن ما عداها مما يفتقر إلى تنقيب، أو تخريج غير سالم من الغرابة.

د- ضعف التأليف والتعقيد اللفظي1: يمكن توقيهما بمعرفة قواعد النحو, إذ هو الباحث في طرق استعمال المركبات على الوجه الحق. فمن مارس هذا العلم، ووقف على أصوله ومسائله استطاع أن يصوغ الكلام على نهج قويم سليم من شوائب الضعف والتعقيد. هـ- التعقيد المعنوي: يعرف من دراسة علم البيان. فمن زاول هذا العلم وأحصى مسائله عرف كيف يتوقى التعقيد في معاني الكلام، وكيف يبرزه فاتحا لك صدره، كاشفا لك عن ضميره. و الخطأ في تأدية المعنى المراد: أي: في تطبيق الكلام على مقتضى الحال, وذلك يعرف من مزاولة علم المعاني. فمن درس هذا العلم، وكشف عن أمره، واستشف أسراره عرف كيف يتحرج الخطأ في تأدية المعنى المراد، وكيف يطبق الكلام وفق مقتضيات الأحوال. أما الوجوه التي تخلع على اللفظ خلعة البهجة والبهاء فتعرف من علم البديع؛ إذ به نعرف كيف نحلي من اللفظ جيده العاطل بما يجليه للنواظر، ويبرزه في صورة تبهج القلب، وتأسر اللُّب. هذا, والثلاثة الأخيرة هي المسماة بعلوم البلاغة، وبعض الأئمة يسمي الكل "علم البيان"؛ لأن البيان هو المنطق الفصيح المعرب عما

_ 1 قد يقال: إن التعقيد اللفظي ليس بلازم أن يكون منشؤه مخالفة القانون النحوي، بل قد يكون سببه اجتماع أمور, كل منها جائز الاستعمال عند النحاة، جارٍ على قوانينهم كتقديم المفعول على الفاعل، وتقديم المستثنى على المستثنى منه, فكيف يبين مثل هذا في علم النحو؟ ويجاب بأن تلك الأمور -وإن كانت جائزة الاستعمال- قد خُولف فيها الأصل؛ إذ الأصل تقديم الفاعل على المفعول، وتقديم المستثنى منه على المستثنى, والنحو يبين فيه ما هو الأصل، وما هو خلاف الأصل, وإذًا يعرف به التعقيد اللفظي الناشئ من أمور خُولف فيها الأصل.

في الضمير. قال الجاحظ: البيان: اسم جامع لكل ما كشف لك عن المعنى. وقال ابن المعتز: البيان ترجمان القلوب، وصيقل العقول. ومنهم من يسمي الأولين "علم البلاغة"؛ لأنهما يبحثان في صلب المعنى المراد، فتأثيرهما في الكلام ذاتي، لا عرضي. وبعضهم يسمي الجميع "علم البديع" لما في مباحثه من الإبداع والابتداع. اختبار: 1- عرف معنى البلاغة لغة واصطلاحا، وهل مرجع البلاغة اللفظ، أو المعنى، أو هما معا؟ علل لما تقول. 2- بين متى يكون الكلام بليغا, ثم وضح الفرق بين الحال وظاهر الحال، مع التمثيل. 3- بين الخلاف في معنى مقتضى الحال، ومطابقة الكلام له, موضحا ذلك في مثال من عندك. 4- بين كيف كان قولك لخالي الذهن: "نجح أخوك" بليغا, مع أنه لا دلالة فيه على أكثر من المعنى الأصلي الذي هو ثبوت النجاح لأخيه، والبلاغة إنما تعتمد على المعاني الزوائد على المعنى الأصلي. 5- بين الفرق بين الفصاحة والبلاغة, موضحا ذلك بالمثال. 6- ائت بثلاثة أمثلة من عندك اختلفت فيها المقتضيات لاختلاف الأحوال والمقامات. 7- بين بالمثال كيف تتفاوت البلاغة علوا وانحطاطا.

8- متى يكون المتكلم بليغا؟ وإذا استطاع متكلم أن يؤلف كلاما في الطبقة العليا من البلاغة في أحد الأغراض كالمدح أو الرثاء, فهل يعد في شريعة البلغاء بليغا؟ تمرينات: 1- ائت بمثالين من عندك تبين فيهما الحال، ومقتضى الحال، ومطابقة الكلام له, على ما في ذلك من خلاف. 2- بين الحال، ومقتضاه، ومطابقة الكلام له فيما يأتي1: أ- المليك صالح تقي "لخالي الذهن". ب- إن المليك لحسن التدبير "للمنكر". جـ- رثى بعض الشعراء البرامكة، وهو مذعور من الرشيد، فقال: أصبت بسادة كانوا عيونا ... بهم نسقى إذا انقطع الغمام د- ما الحياة إلا طيف خيال, تريد التخصيص. هـ- قال الشاعر, يريد تعجيل المسرة: هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما و الوزير العادل حضر، والوزير العادل نصح وأرشد "تقول هذا لبليد". ز- {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . 3- بين وجه خروج الجمل الآتية عن حدّ البلاغة: 1- قال رجل لمنكر قدوم الأمير: الأمير قادم.

_ 1 أتيت بهذا التمرين وإن كانت فيه إحالة على الأبواب الآتية؛ اتكالا على إرشاد الأستاذ، وطمعا في سهولة القياس على ما سبق في المقررات السابقة.

2- نزلت بالعدو داهية خنفقيق أي: شديدة. 3- قال الفرزدق يمدح خالدا، ويذم أسدا أمير خراسان بعد خالد: وليست خراسان التي كان خالد ... بها أسدا إذ كان سيفا أميرها1 4- قتل أخوه اللص. 5- قال ابن نباتة في خطبة يذكر فيها أهوال يوم القيامة: اقمطر2 وبالها، واشمخر3 نكالها، فما ساغت، ولا طابت. 6- إذا جاوز الإثنين سر فإنه ... بنشر وتكثير الوشاة قمين4 جواب التمرين الثاني: 1- خلو الذهن "حال"، وعدم التأكيد، أو الكلام الخالي منه على الخلاف "مقتضى الحال"، وورود الكلام على هذه الصورة "مطابقة لمقتضى الحال" على ما علمته في القولين السابقين من أنه مشتمل على عدم التأكد، أو أنه فرد من أفراد مطلق كلام غير مؤكد, وهكذا يقال في أمثاله. ب- الإنكار "حال", والتأكيد بأن ولام الابتداء، أو الكلام المؤكد "مقتضى الحال"، وورود الكلام على هذه الصورة "مطابقة للمقتضى". جـ- الذعر من الرشيد "حال"، وحذف الفاعل، أو الكلام المحذوف منه الفاعل "مقتضى الحال"، وورود جملة "أصيبت" على هذه الصورة من البناء للمجهول "مطابقة للمقتضى".

_ 1 وأصل الكلام: وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها, وفي "كان" الثانية ضمير الشأن والجملة بعدها خبر عنها. 2 على زنة اطمأن أي: اشتد. 3 اشمخر على زنة اطمأن أيضًا: طال وامتد، والنكال: العذاب. 4 قمين بمعنى جدير. يقول الشاعر: إذا تعدى السر شخصين لم يعد سرا خافيا, فإذا شاع وذاع لم يكن ذلك بدعا؛ لأنه خليق بذلك.

د- قصد التخصيص "حال", والقصر بالنفي والاستثناء، أو الكلام المقصور "مقتضى حال", وورود العبارة على هذه الصورة مطابقة للمقتضى. هـ- قصد تعجيل المسرة "حال"، وتقديم المسند إليه وهو كلمة "هناء"، أو الكلام المقدم فيه المسند إليه "مقتضى حال", وورود البيت على هذه الصورة مطابقة لمقتضى الحال. و بلادة المخاطب "حال"، وتكرير المسند إليه وهو كلمة "الوزير" أو الكلام المكرر فيه المسند إليه "مقتضى حال"، وذكر الكلام على هذه الهيئة "مطابقة للمقتضى". ز- العلم بالفاعل "حال"، وحذفه أو الكلام المحذوف منه الفاعل "مقتضى حال"، وذكر الكلام على هذه الصورة مطابقة للمقتضى.... وهكذا. 1- القول المذكور غير بليغ؛ لعدم مطابقته لمقتضى الحال, إذ إن حال المخاطب تقتضي التأكد. 2- غير بليغ؛ لأن في بعض أجزائه غرابة في المعنى، وتنافرا في الحروف, وهذا مخل بفصاحة الكلام التي هي شرط في بلاغته. 3- ليس البيت من البلاغة في شيء؛ لما فيه من تعقيد في اللفظ خفي المعنى بسببه، وهذا مخل بفصاحته المأخوذة شرطا في بلاغته. 4- غير بليغ لفقدان الفصاحة؛ لما فيه من الإضمار قبل الذكر مطلقا وهو ضعف في تأليف الكلام. 5- خرج هذا القول عن حد البلاغة؛ لأن في بعض أجزائه غرابة في المعنى, وتنافرا في الحروف، وهما مخلان بالفصاحة التي هي أس البلاغة.

6- ليس البيت بليغا لفقدان فصاحته؛ إذ إن في بعض أجزائه وهو لفظ "الإثنين" بقطع الهمزة مخالفة للمنقول عن الواضع، وللقياس الصرفي، والمنقول والقياس وصلها، لا قطعها. تمرينان يطلب جوابهما: 1- بين الحال, ومقتضاه، ومطابقة الكلام للمقتضى فيما يأتي: إن محمدا لخاتم النبيين "خطابا للمنكر". إبراهيم رسول الله "لخالي الذهن". {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . قولك لصياد يترقب صيدا: غزال, تريد: هذا عزال. قولك لآخر: النار تتصاعد من حقلك, تريد تعجيل المساءة. والدك حضر، ووالدك يريد مقابلتك "خطابا لغبي بليد". إنما أنت ناجح "تريد التخصيص". غادر منافق, تريد أن تقول: فلان غادر منافق، فتحذفه خوفا منه. قال الشاعر: سعدت بغرة وجهك الأيام ... وتبسمت ببقائك الأعوام 2- بين وجه خروج الجمل الآتية عن حد البلاغة: قال رجل: والله إن محمدا لكريم الخلق "لغير منكر". قال يحيى بن يعمر لرجل حاكمته امرأته: أئن سألتك ثمن شكرها1 وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها؟ قال الشاعر: ما لي فتنت بلحظك الفتاك ... وسلوت كل مليحة إلاك جزى ربه عني عدي2 بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلهن قلاقل3 والشمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا4 تصفحت الكتاب, فإذا هو مصوون عن الحشو. بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح

_ 1 "الشكر" بفتح الشين وكسرها وسكون الكاف: الفرج، والشبر بفتح الشين وسكون الباء: حق النكاح، وتطلها: تماطلها من طل يطل كنصر ينصر، و"تضهلها": تنقض حقها من ضهل كمنع يمنع. 2 هو ابن حاتم المعروف بكرمه. 2 "قلقل": حرك و"قلاقل" الأولى جمع قلقلة وهي الناقة السريعة، وقلاقل الثانية جمع قلقلة بمعنى الحركة، وضمير كلهن للعيس وهي النوق, والمعنى: حركت بسبب الهم الذي حرك نفسي نوقا خفافا في السير, والمراد أنه سافر ولم يعرج بالمكان الذي يلحقه به ضيم. 3 تقدير البيت: والشمس طالعة تبكي عليك ليست بكاسفة نجوم الليل والقمرا.

علم البيان

علم البيان مدخل ... علم البيان: واضعه: قدمنا في مستهل الكتاب أن أول من وضع فيه كتابا هو أبو عبيدة معمر بن المثنى، أحد رواة اللغة المتوفى سنة 206هـ, وهو الكتاب المسمى "مجاز القرآن"، ثم كتب فيه بعض الأئمة المبرزين كالجاحظ، وأبي العباس المبرد، وقدامة بن جعفر، وأبي هلال العسكري، وابن المعتز، وغيرهم, غير أن الفضل في تنسيق قلائده، للإمام عبد القاهر الجرجاني, فهو من هذه الناحية يعتبر واضع هذا الفن. موضوعه: هو إيراد المعنى الواحد في تراكيب مختلفة في وضوح الدلالة عليه, كما سيأتي بيانه. فائدته: معرفة ما في الكلام الفصيح من تشبيه، ومجاز، وكناية، توصلا إلى معرفة السر في إعجاز القرآن، وما اختصت به لغة قريش من سيادة وسلطان. وفيه خمسة مباحث: 1- مبحث التعريف. 2- مبحث الدلالة. 3- مبحث التشبيه. 4- مبحث الحقيقة والمجاز. 5- مبحث الكناية.

المبحث الأول: في تعريف علم البيان

المبحث الأول: في تعريف علم البيان معناه في اللغة: الكشف والإيضاح, يقال: فلان أبين من فلان أي: أفصح وأوضح كلاما, وهو أيضًا: المنطق الفصيح، المعرب عما في الضمير. ومعناه "في الاصطلاح": علم يعرف به إيراد المعنى الواحد في طرق وتراكيب مختلفة، في وضوح الدلالة عليه. قيل: إن لفظ "علم" في التعريف مشترك بين معنيين: أحدهما الملكة, وهي صفة قائمة بالنفس حاصلة من ممارسة قواعد الفن وأصوله، وثانيهما قواعد هذا الفن وأصوله1. واستعمال اللفظ المشترك في التعريف، دون قرينة معينة لأحدهما يوقع في حيرة من حيث إنه لا يدرى المعنى المراد, وهذا ينافي الغرض من التعريف، وما يقتضيه من الكشف والإيضاح. وأجيب: بأن محل منع استعمال المشترك في التعريف حيث أريد منه أحد معنييه، أو أحد معانيه من غير تعيين. أما إذا صح أن يراد كل معنى يدل عليه اللفظ -كما هنا- فإنه يجوز حينئذ أخذ المشترك في التعريف إذ لا ضير فيه، على أن بين المعنيين المذكورين تلازما؛ ذلك أن الملكة صفة راسخة في النفس يقتدر بها على معرفة المسائل الجزئية، ومن المسائل الجزئية نشأت القواعد والأصول بسبب تتبع هذه الجزئيات في أساليب العرب، وبممارسة هذه القواعد والأصول تربت في النفس ملكة. فالملكة إذًا وليدة القواعد التي هي وليدة

_ 1 يطلق العلم أيضا على "الإدراك", وإنما لم يذكر هذا المعنى لاحتياج الكلام معه إلى تقدير المتعلق بلا ضرورة داعية إليه.

الجزئيات المدركة بالملكة فقد استلزم كل منهما الآخر, والمتلازمان بمثابة الشيء الواحد وكأنه لا اشتراك في اللفظ. ومعنى إيراد المعنى الواحد في الطرق المختلفة في الوضوح: أن يعبر عنه بجملة تراكيب -بعضها أوضح دلالة عليه من بعض- سواء أكانت هذه التراكيب من قبيل التشبيه، أو المجاز، أو الكناية. فالمعنى الواحد "كالجود" مثلا يمكنك -إذا كنت ملما بمسائل هذا الفن, عالما بأصوله وقواعده- أن تؤديه في طرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه. فتارة: من طريق التشبيه، فتقول: "محمد كالبحر في الإمداد"، و"محمد كالبحر"، و"محمد بحر" فهذه تراكيب ثلاثة دالة على معنى "الجود" بعضها أوضح في الدلالة عليه من بعض, فأوضحها ما صرح فيه بوجه الشبه والأداة وهو الأول، ويليه وضوحا ما صرح فيه بأحدهما وهو الثاني، وأقلها وضوحا ما لم يصرح فيه بأحدهما وهو الأخير. وتارة من طريق المجاز، فتقول: "رأيت بحرا في منزلنا" تريد محمدا مثلا, فتشبهه بالبحر في الإمداد، ثم تستعير له لفظ "البحر" -كما ستعرفه بعد في الاستعارة التحقيقية- وتقول: "لجة محمد تتلاطم بالأمواج" فاللجة والتلاطم بالأمواج من أوصاف البحر, مما يدل على تشبيه محمد بالبحر. وتقول: "غمر محمد بفضله جميع الأنام" فالغمر من أوصاف البحر, مما يدل أيضا على أن محمدا مشبه بالبحر, والمثالان الأخيران من قبيل الاستعارة المكنية على ما سيأتي. وأوضح هذه الطرق "الأول"، ويليه وضوحا "الثاني"، وأقلها وضوحا "الثالث"1.

_ 1 أما أوضحية الأول فلظهور التجوز فيه بسبب التصريح باسم المشبه به، وأما الثاني والثالث فلخفاء التجوز فيهما لعدم التصريح باسم المشبه به, غير أن الثاني أوضح من الثالث؛ لاشتماله على وصفين للمشبه به واشتمال الثالث على وصف واحد.

وتارة أخرى من طريق الكناية، فتقول: "محمد كثير الرماد"، و"محمد مهزول الفصيل"، و"محمد جبان الكلب"، فهذه تراكيب ثلاثة تفيد معنى "الجود"؛ لأن كثرة الرماد من كثرة إحراق الحطب للطبخ من أجل الضيفان، وهزال الفصيل يكون بإعطاء لبن أمه للضيوف, وجبن الكلب يكون لكثرة الواردين عليه من الأضياف. وأوضح هذه الطرق "الأول"، ويليه "الثاني"، ثم "الثالث" كما سيذكر بعد. ومثل الجود الشجاعة: فتارة يعبر عنها من طريق التشبيه، فيقال: "محمد كالرئبال"1 في شجاعته وإقدامه. وتارة من طريق الاستعارة، فيقال: "رأيت ليثا يخطب القوم على المنبر في المسجد الجامع" يريد: رجلا مقداما شجاعا. وتارة أخرى من طريق الكناية، فيقال: "زارنا أبو الهيجاء"2, فإن أبوته لها كناية عن ملازمته لها كما يلزم الأب ابنه، وهذا كناية عن شجاعته وإقدامه. وأوضح التراكيب دلالة على هذا المعنى هو الأول، ويليه الثاني، ثم الثالث ... وهكذا دواليك. تنبيهات: الأول: أن "أل" في "المعنى" الوارد في التعريف للاستغراق العرفي، لا الحقيقي لأن استحضار جميع المعاني -وهي لا تتناهى- فوق مقدور البشر فيكون المراد حينئذ: كل معنى واحد يدخل تحت قصد المتكلم. فلو استطاع إنسان أن يورد معنى "الجود" في تراكيب مختلفة في الوضوح -على ما سبق بيانه- دون غيره من المعاني لم يكن بمجرد ذلك عالما بعلم البيان حتى يستطيع ذلك في كل معنى يدخل تحت قصده وإرادته ا. هـ.

_ 1 الرئبال: الأسد. 2 الهيجاء: الحرب.

الثاني: أن في التعريف تقييدين؛ تقييد المعنى "بالواحد", وتقييد الاختلاف "بوضوح الدلالة". أما الأول: فالغرض منه الاحتراز عن المعاني المتعددة، المؤداة بطرق متفاوتة في وضوح الدلالة على معانيها, بأن يكون تركيب في معناه أوضح دلالة من تركيب آخر في معناه؛ كأن تعبر عن معنى "الجود" بقولك: "محمد كالسحاب في الفيض"، ثم تعبر عن معنى "الشجاعة" بقولك: "مر بي أسد فحياني". فمن الواضح أن التركيب الأول معناه أوضح دلالة من الثاني في معناه, ومثل هذا ليس من علم البيان في شيء؛ لأن المعنى في العبارتين مختلف، والشرط أن يكون المعنى فيهما واحدا كما عرفت. وأما الثاني: فالقصد منه الاحتراز عن الاختلاف في مجرد اللفظ، لا في وضوح الدلالة, كما إذا أوردت معنى واحدا في تركيبين مترادفين، وأنت عالم بمدلولات الألفاظ فيهما؛ كأن تقول مثلا: "نكهة1 فم محمد كالطيب"، ثم تقول: "رائحة ثغر محمد كالند"2، فمثل هذا ليس من مباحث علم البيان؛ لأن التركيبين متماثلان في وضوح الدلالة على المعنى، والاختلاف إنما هو في اللفظ والعبارة فقط, والشرط أن يكون الاختلاف في وضوح الدلالة على المعنى كما وضح لك ا. هـ. الثالث: اعلم أن الشرط في المعنى المراد إيراده بالطرق المختلفة أن يكون مدلولا عليه بكلام مطابق لمقتضى الحال، ومعنى هذا: أن علم "البيان" لا بد فيه من اعتبار "علم المعاني"، وأن هذا من ذاك بمثابة المفرد من المركب فإذا قلت لمنكر جود محمد: "محمد كالسحاب في الفيض"، و"محمد غمر الناس بمعروفه"، و"محمد ندي الكف

_ 1 نكهة الفم: رائحته. 2 الند: نوع من الطيب.

مبسوطها" لم تكن بيانيا لفقدان شرط المطابقة لمقتضى حال المخاطب؛ إذ إن حاله تقتضي تأكيد هذه التراكيب ردا لإنكاره. فالتعريف الكامل لعلم البيان حينئذ أن يقال: هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد المدلول عليه بكلام مطابق لمقتضى الحال في طرق مختلفة, في وضوح الدلالة عليه ا. هـ.

المبحث الثاني: في الدلالة

المبحث الثاني: في الدلالة تعريفها: هي كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر, كدلالة لفظ "محمد" على الذات المعينة, إذ يلزم من العلم بمحمد -أي: العلم بوضعه للذات المعينة- العلم بهذه الذات أي: فهمها منه، والأول هو الدال، والثاني هو المدلول. وقيل في تعريفها: فهم أمر من أمر، كفهم الذات المعينة من اللفظ في المثال المذكور, فالأمر الأول "في العبارة المذكورة" هو المدلول، والثاني هو الدال عكس الأول. ولما لم تكن كل دلالة تقبل الاختلاف في الوضوح وجب أن تقسم الدلالة، ثم يعين المقصود منها. تقسيمها: الدلالة -باعتبار الدال- قسمان: لفظية، وغير لفظية. فاللفظية: ما كان الدال فيها لفظا, كدلالة لفظ "إنسان" على الحيوان الناطق، وكدلالة لفظ "أسد" على الحيوان المفترس. وغير اللفظية: ما كان الدال فيها غير لفظ, كدلالة الدخان على النار، وكدلالة حمرة الخدّ على الخجل، أو صفرته على الوجل،

وكدلالة الإشارة الخاصة على معنى "نعم" أو "لا"، وهذه الدلالة لا علاقة لها بمباحث علم البيان. واللفظية أقسام ثلاثة: وضعية، وعقلية، وطبيعية. فالوضعية: ما كان للوضع فيها مدخل؛ كدلالة "الإنسان" على الحيوان الناطق. فالربط بين الدال والمدلول من وضع الواضع أي: تعيينه هذا اللفظ لهذا المعنى, ومثله دلالة الفرس على الحيوان الصاهل. والعقلية: ما كان قوامها "العقل" كدلالة الصوت على حياة صاحبه, كما إذا سمعت صوت إنسان من وراء جدار. فالرابط بين الدال والمدلول في هذه الدلالة هو العقل لا غير. والطبيعية: ما كان قوامها "الطبع" كدلالة التأوّه على الوجع. فالرابط بين الدال والمدلول في هذه الدلالة هو الطبع, إذ إن طبع المريض أن يتأوه عند استشعاره بالألم, والدلالتان الأخريان لا علاقة لهما أيضا بعلم البيان. والأولى -وهي اللفظية الوضعية- أقسام ثلاثة كذلك: مطابقية, وتضمنية، والتزامية. فالمطابقية: أن يدل اللفظ على كامل معناه الموضوع له, كدلالة الإنسان على الحيوان والناطق، ودلالة الأسد على الحيوان والمفترس. وسميت مطابقية لتطابق اللفظ والمعنى أي: تساويهما؛ لأن الواضع إنما وضع لفظ "إنسان" ليدل على مجموع الحيوان والناطق, كما وضع لفظ "أسد" ليدل على مجموع الحيوان والمفترس. والتضمنية: أن يدل اللفظ على جزء معناه الموضوع له, كدلالة "الإنسان" على الحيوان فقط، أو على الناطق فقط, وكدلالة "البيت" على السقف أو الجدار. وسميت تضمنية؛ لأن الحيوان أو الناطق جزء معنى الإنسان، وداخل في ضمنه لأن الواضع -كما

قلنا- إنما وضع لفظ "إنسان" ليدل على الحيوانية والناطقية معا, كما وضع لفظ "بيت" ليدل على جميع أجزائه. فدلالة الإنسان على الحيوان فقط، أو على الناطق فقط دلالة تضمنية, كما أن دلالة البيت على السقف فقط، أو الجدار فقط تضمنية كذلك؛ لأن الكل متضمن لأحد أجزائه1. والالتزامية: أن يدل اللفظ على لازم معناه الموضوع له, كدلالة "الإنسان" على الضحك، وكدلالة "حاتم" على الجود، "والأسد" على الجرأة. وسميت التزامية؛ لأن الضحك ليس معنى الإنسان، ولا جزء معناه، وإنما هو أمر خارج عن معناه، لازم له. وكذلك الجود لحاتم والشجاعة للأسد, فكلاهما لازم للمعنى الموضوع له "حاتم والأسد"2. تنبيهان: الأول: يكفي لدلالة الالتزام أن يكون التلازم بين الشيئين في الذهن, وهو ما يلزم من حصول المعنى الموضوع له في الذهن حصوله فيه, كالتلازم الذي بين الإنسان والضحك, إذ يلزم من حضور معنى الإنسان وهو "الحيوان الناطق" في الذهن حضور معنى الضحك فيه, وكالتلازم الذي بين الأسد والشجاعة, إذ يلزم من تصور معنى الأسد وهو "الحيوان المفترس" تصور معنى الشجاعة. أما التلازم

_ 1 صورة الدلالة التضمنية أن يسألك سائل مشيرا إلى شبح: أناطق هذا أم صاهل؟ فتقول: هو إنسان فيفهم أنه ناطق, فقد دللت بإنسان على الناطق دلالة تضمنية؛ لأن النطق جزء معنى الإنسان. 2- صورة الدلالة الالتزامية أن يسألك سائل مشيرا إلى شبح: أجماد هذا أم متحرك بالإرادة؟ فتقول: هو إنسان، فيفهم السائل أنه متحرك بالإرادة؛ فقد دللت بإنسان على المتحرك بالإرادة دلالة التزامية؛ لأن المتحرك بالإرادة وصف لازم للإنسان.

في الخارج فليس بشرط, فإن وجد مع التلازم الذهني كان حسنا كالتلازم الذي بين الزوجية والأربعة, فإن الزوجية -كما يبدو بداهة- لازمة للأربعة ذهنا وخارجا, وإن لم يوجد التلازم الخارجي فلا ضير كالتلازم الذي بين العمى والبصر؛ فإن البصر لازم للعمى ذهنا فقط إذ يلزم من تصور معنى العمى تصور معنى البصر؛ لأن العمى فقد البصر ممن شأنه الإبصار, أما في الخارج فبينهما التعاند كما ترى. كذلك يكفي في دلالة الالتزام أن يكون التلازم بين الشيئين وليد عرف عام أو خاص، أو وليد التأمل في القرائن والأمارات. فالأول كالتلازم الذي بين الأسد والشجاعة, فقد تعارف عامة الناس على أن الشجاعة لازمة للأسد, فإذا قال إنسان: فلان جبان، فرد عليه آخر بأنه أسد فهم أنه شجاع. والثاني كالتلازم الذي بين كثرة الرماد والكرم، والذي بين الفاعل النحوي وحركة الرفع، والذي بين بلوغ الماء عشرا في عشر وعدم تأثره بالنجاسة، والذي بين اختلاج العين ولقاء الحبيب, فالتلازم الذي بين هذه الأنواع مما أثبته العرف الخاص فقد تعارف علماء البيان على أن الكرم لازم لكثرة الرماد. فإذا قال بياني: فلان بخيل، فرد عليه بأنه كثير الرماد فهم منه أنه كريم، وتعارف علماء النحو على أن حركة الرفع لازمة للفاعل النحوي فإذا قال أحد النحاة: أقبل محمدا بالنصب، فرد عليه بأن "محمدا" فاعل فهم أن الواجب رفعه، وتعارف علماء فقه الأحناف على أن عدم قبول الماء للنجاسة لازم لبلوغه عشرا في عشر, فإذا سأل أحدهم: أينجس هذا الماء إذا وقعت فيه نجاسة؟ فأجيب أنه يبلغ عشرا في عشر فهم أنه لا ينجس، وتعارف بعض الناس على أن لقاء الحبيب لازم لاختلاج العين فإذا قلت لأحد هؤلاء: عيني تختلج, فهم من ذلك أنك ستلقى حبيبا إلى غير ذلك. والثالث كالتلازم الذي بين تغير العالم وحدوثه, فإذا قيل: العالم متغير, فهم بعد التأمل في الدلائل والأمارات أنه حادث.

وقد يكون التلازم وليد التعريض, فإذا قلت لآخر يسيء إليك: أنا لست بفاجر, فهم منك أنك ترميه بالفجور. هذا, وليس بين الأشياء المذكورة تلازم عقلي, فقد يتصور العقل أسدا جبانا كما يتصور كثرة رماد بدون كرم, كما يتصور فاعلا منصوبا أو مجرورا, كما يتصور اختلاج عين بدون لقاء حبيب, وهكذا. وإذًا فالتلازم العقلي -وهو ما لا يتصور العقل انفكاكه- ليس بشرط في دلالة الالتزام كالتلازم الذي بين الأربعة والزوجية، أو بين الثلاثة والفردية, إذ لا يتصور العقل أربعة بدون زوجية، أو ثلاثة بدون فردية. ولو أن التلازم العقلي شرط لخرج كثير من المعاني المجازية والكنائية عن أن تكون مدلولات التزامية مثل قولك: رأيت أسدا, تريد رجلا شجاعا، وكقولك: فلان كثير الرماد أي: كريم, إذ لا تلازم عقلا بين الأسد والشجاعة، ولا بين كثرة الرماد والكرم، ولم يقل بذلك أحد. الثاني: اصطلح البيانيون على تسمية المطابقية "وضعية"؛ لأن الواضع وضع اللفظ لتمام معناه لا لجزئه, ولا للازمه. "فالإنسان" مثلا وضعه الواضع لمجموع الحيوان والناطق، ولم يضعه لواحد منهما، ولا لوصف لازم "كالضحك" مثلا, فقوام هذه الدلالة هو العلم بالوضع دون حاجة إلى شيء آخر وراءه. واصطلحوا على تسمية كل من التضمنية والالتزامية "عقلية"؛ لأن دلالة اللفظ على جزء معناه، أو على لازم هذا المعنى متوقفة على أمر عقلي زائد على العلم بالوضع، وهو أن وجود الكل أو الملزوم يستلزم وجود الجزء أو اللازم. "فالإنسان" مثلا موضوع لمجموع الحيوان والناطق، فمجرد العلم بهذا الوضع ليس كافيا في جعل لفظ "إنسان" دالا على جزء معناه "كالناطقية" مثلا، أو على لازمه "كالضاحكية" بل لا بد -مع

العلم بهذا الوضع- من انتقال العقل من المعنى الموضوع له "إنسان" إلى جزئه ضرورة أن الكل يتضمن الجزء، أو إلى لازمه ضرورة أن الملزوم يستلزم اللازم. وإنما اقتصر على العقل في تسمية هاتين الدلالتين, مع أن كلا من العقل والوضع سبب فيهما؛ لأن سببية العقل أقرب من سببية الوضع، ذلك أن انتقال العقل من الكل إلى جزئه أو من الملزوم إلى لازمه إنما جاء بعد العلم بوضع اللفظ لهذا الكل، أو لهذا الملزوم, فهو لذلك سبب قريب، والذهن إلى القريب أكثر التفاتا منه إلى البعيد1. والمقصود بالبحث في هذا الفن هو الدلالة العقلية بنوعيها, إذ هي التي يتأتى فيها الاختلاف في الوضوح الذي هو موضوع هذا الفن. بيان ذلك في التضمنية: هو أنه يجوز أن يكون المعنى الواحد جزءا من شيء "كالجسم" فإنه جزء من الحيوان، وأن يكون جزءا لجزء من شيء آخر "كالجسم" أيضا, فإنه جزء من الحيوان الذي هو جزء من الإنسان. وإذًا تكون دلالة الحيوان على الجسم الذي هو جزؤه المباشر أوضح من دلالة الإنسان على الجسم الذي هو جزء جزئه. ومثل الجسم - فيما قلنا- "التراب" فإنه جزء من الجدار الذي هو جزء من البيت، وحينئذ تكون دلالة الجدار

_ 1 أما جمهور المناطقة فيسمون الدلالات الثلاث وضعية؛ لأن للوضع مدخلا فيها، وهم يعتبرون في تسميتها وضعية السبب البعيد لأنه الأصل، ويخصون العقلية -سواء كانت لفظية أو لا- بما يقابل الوضعية والطبيعية كدلالة الدخان على النار, ودلالة اللفظ على حياة اللافظ. فالدلالة عندهم ثلاثة أقسام: عقلية كما مثلنا، ووضعية كالمطابقية وأختيها، وطبيعية كدلالة الحمرة على الخجل، ودلالة التأوه على المريض, بخلاف البيانيين فإن العقلية عندهم لا تقابل الوضعية؛ إذ الوضعية قد تكون عقلية كالتضمنية والالتزامية كما عرفت.

على التراب الذي هو جزؤه المباشر أوضح من دلالة البيت على التراب الذي هو جزء جزئه. وبيان ذلك في الالتزامية: هو أنه يجوز أن يكون للازم الواحد عدة ملزومات، لزومه لبعضها أوضح منه لبعضها الآخر "كالكرم" مثلا فإنه لازم، وله جملة ملزومات تستلزمه وتدل عليه هي: كثرة الضيفان، وكثرة الطبخ، وكثرة إحراق الحطب، وكثرة الرماد. فهذه الأمور الأربعة تستلزم الكرم، وتدل عليه إذ يلزم من وجودها وجوده, غير أن دلالة بعضها عليه أوضح من دلالة بعضها الآخر؛ فدلالة كثرة الأضياف على "كرم محمد" مثلا أوضح من دلالة كثرة الطبخ عليه؛ لأن كثرة الأضياف أقرب إلى معنى "الكرم" من كثرة الطبخ, فقولك: "محمد كثير الأضياف" أدل على كرمه من قولك: "محمد كثير الطبخ" إذ لا واسطة بين كثرة الأضياف ومعنى "الكرم", ودلالة كثرة الطبخ على "الكرم" أوضح من دلالة كثرة إحراق الحطب عليه؛ لأن كثرة الطبخ أقرب إلى معنى "الكرم" من كثرة الإحراق, فقولك: "محمد كثير الطبخ" أدل على كرمه من قولك: "محمد كثير إحراق الحطب" لقلة الوسائط بين كثرة الطبخ والكرم، ودلالة كثرة إحراق الحطب على معنى "الكرم" أوضح من دلالة كثرة الرماد عليه؛ لأن كثرة الإحراق أقرب إلى معنى "الكرم" من كثرة الرماد فقولك: "محمد كثير إحراق الحطب" أدل على كرمه من قولك: "محمد كثير الرماد" لقلة الوسائط في الأول، وكثرتها في الثاني. وهكذا كلما كان الملزوم أقرب إلى لازمه كانت دلالته عليه أوضح، وإذًا فأوضح هذه الدلالات على "الكرم" دلالة كثرة الضيفان عند محمد، وأقلها وضوحا دلالة كثرة الرماد عنده, كما رأيت. هذا, وقد يكون مناط الاختلاف في الوضوح كثرة الاستعمال, وقلته بغض النظر عن الواسطة كما في معنى "الكرم" فقد دلت عليه جملة ملزومات هي: كثرة الرماد، وهزال الفصيل، وجبن الكلب،

وأوضحها دلالة على معنى "الكرم"، وأسرعها انتقالا إليه هو "كثرة الرماد"؛ لكثرة استعماله في هذا المعنى, في حين أنه أكثر وسائط من أخويه. إلى هنا وضح لك اختلاف الوضوح في الدلالتين العقليتين -التضمنية والالتزامية- بما لا يقبل المزيد. أما الدلالة الوضعية المطابقية التي هي دلالة اللفظ على تمام معناه, فليست من مباحث هذا الفن؛ إذ لا يتأتى فيها الاختلاف في الوضوح. بيان ذلك: أن السامع لا يخلو حاله من أمرين: 1- أن يكون عالما بوضع الألفاظ لمعانيها. 2- ألا يكون عالما بهذا الوضع. فإن كان الأول فلا تفاوت في الدلالة على المعنى؛ لأن كل لفظ معلوم وضعه لمعناه, وإن كان الثاني فقد انعدم فهم المعنى من اللفظ لتوقف الفهم على العلم بالوضع، وفهم المعنى من اللفظ هو معنى "الدلالة"؛ إذ هي -على أحد القولين السابقين- فهم أمر من أمر, وإذا انتفى الفهم المذكور الذي هو الدلالة فلا اختلاف في الوضوح؛ إذ لا يتصور اختلاف وضوح فيما لا دلالة له. فإذا قلت مثلا: "محمد يشبه السحاب في العطاء"، وكان السامع يعلم بوضع هذه الألفاظ لمعانيها، ثم أتيت بتركيب آخر دال على هذا المعنى بألفاظ مرادفة لألفاظ التركيب الأول، فقلت: "محمد يحكي الغمام في النوال", وكان السامع يعلم أيضا بوضع هذه الألفاظ لمعانيها؛ امتنع حينئذ أن يكون التركيب الثاني أوضح دلالة من الأول، بل هما في الدلالة سواء. فإذا لم يعلم السامع وضع الألفاظ لمعانيها في التركيبين، أو في أحدهما لم يفهم شيئًا أصلا؛ لتوقف الفهم على العلم بالوضع كما

قلنا, وإذا انتفى الفهم فلا دلالة للفظ، فلا اختلاف في الوضوح. فأنت ترى أن الاختلاف في الوضوح منتفٍ "على كلا التقديرين" في الدلالة الوضعية المطابقية, فهي إذًا خارجة عن موضوع هذا الفن. اختبار: 1- عرف علم البيان في اصطلاح البيانيين، وبين كيف أخذ لفظ "علم" في التعريف وهو لفظ مشترك معنوي، وذلك يتنافى مع الغرض من التعريف؟ 2- بين بالأمثلة معنى إيراد المعنى الواحد في الطرق المختلفة في الوضوح. 3- بين لماذا قيد لفظ "المعنى" الواقع في التعريف "بالواحد", وقيد الاختلاف "بالوضوح"؟ وهل كل معنى يصح إيراده في الطرق المختلفة؟ وضح ذلك بالمثال. 4- عرف الدلالة، وقسمها، وعرف كل قسم، مع التمثيل, ثم اذكر أية الدلالات هي موضوع علم البيان، مع التوجيه لما تقول. 5- لماذا لم تكن الدلالة الوضعية المطابقية من مباحث علم البيان؟ وضح ذلك وضوحا تاما، مع بيان معنى اللزوم في الدلالة الالتزامية.

المبحث الثالث: في التشبيه

المبحث الثالث: في التشبيه مدخل ... المبحث الثالث: في التشبيه هو من فنون البلاغة له شأنه وخطره، فهو يدني القصي، ويذلل العصي، ويكشف الخفي، ويكسب المعاني رفعة وشرفا، ويكسوها توكيدا ومتانة، ويبرزها في معارض الحس والعيان، وهو -إلى ذلك- كثير المباحث متشعب النواحي، وإن أردت أن تتبين ذلك فانظر لما يلي من أقوال الشعراء: قال: نعمة كالشمس لما طلعت ... بثت الإشراق في كل بلد قال: الشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب1 قال: كأنها بوتقة2 أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب قال: وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق قال: دان على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب3 كالبدر أفرط في العلو وضوءه ... للعصبة السارين جد قريب قال: بذل الوعد للأخلاء سمحا ... وأتى بعد ذاك بذل العطاء فغدا كالخلاف يورق للعـ ... ـين ويأبى الإثمار كل الإباء4 فإنك لتجد من قوة تأثيره في النفس، ومبلغ أسره في القلب ما لا تستطيع وقعه، ولا تملك دفعه بسبب ما يحرك النفس، ويستثيرها بإخراجها من خفي إلى جلي، ومما لم تألفه إلى ما ألفته، ومما لم تره إلى ما عاينته وشهدته، وهو فوق ذلك يكسب اللفظ حلاوة وطلاوة ويعطيه من الروعة ما يبهر القلب، ويأسر اللب. وجه تقديمه على المجاز: اعلم أن اللفظ قد يستعمل في معنى لم يوضع له لعلاقة بين المعنى الموضوع له اللفظ، والمعنى المستعمل فيه، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له, ويسمى اللفظ حينئذ "مجازا" إذ قد

_ 1 أي: مانع. 2 وعاء خاص يذاب فيه الذهب. 3 العفاة جمع عاف, وهو السائل الطالب للمعروف، والند بكسر النون المشددة: الضريب الشبيه والمثيل. 4 "الخلاف": شجر الصفصاف.

تجوز باللفظ من المعنى الموضوع له إلى المعنى المراد، ثم إن العلاقة بين المعنيين قد تكون المشابهة، ويسمى اللفظ حينئذ "استعارة" كما في قولك: "سمعت قمرا يتكلم" فلفظ "قمر" استعمل في "الإنسان الجميل" وهو معنى لم يوضع له اللفظ, والقرينة المانعة قولك: "يتكلم" والعلاقة بين المعنيين مشابهة الإنسان للقمر في الحسن, فقد شبه "أولا" الإنسان الجميل بالقمر في البهاء، ثم ادعى -مبالغة في التشبيه- أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه باعتباره أحد أفراده -وسيأتي تفصيل ذلك في أبوابه- فالتشبيه إذًا سابق على الاستعارة التي هي أحد أقسام المجاز، وحينئذ وجب التعرض أولا لبحث التشبيه، إذ هو منها بمثابة الأساس من البناء، أو بمنزلة الأصل من الفرع. تعريفه: هو في اللغة: الدلالة1 على مشاركة أمر لأمر في معنى2. ومعناه اصطلاحا: الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى بإحدى أدوات التشبيه لفظا, أو تقديرا لغرض, فالأمر الأول هو "المشبه"، والثاني هو "المشبه به"، ويسميان "الطرفين"، والمعنى المشترك بينهما هو "وجه الشبه".

_ 1 يطلق التشبيه على فعل المتكلم, فالدلالة إذًا صفة له وهي أن يدل المتكلم بقوله على هذه المشاركة، ويطلق على الكلام نفسه الدال على المشاركة, فالدلالة حينئذ صفة الكلام. 2 احترز به عن المشاركة في عين نحو: شارك محمد عمرا في ضيعة, فلا تسمى تشبيها لغويا. وقد اعترض على هذا التعريف بأنه غير مانع لمثل قولك: قاتل محمد عمرا، ولنحو قولك: جاء محمد وعمرو, فإن في كلا المثالين دلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى. فالأول دال على مشاركة محمد لعمرو في القتال, والثاني دال على مشاركة محمد لعمرو في المجيء، وليس شيء منهما تشبيها لغويا وإن قصد بهما معنى الاشتراك؛ لأن التشبيه ليس مجرد الاشتراك في معنى، بل لا بد فيه من ادعاء مماثلة أحد الأمرين للآخر. وأجيب بأن التعريف بالأعم شائع عند أبناء العربية، أو بأن الدلالة على المشاركة فيهما غير صريحة.

وهاك أمثلته: تقول: "القواد المخلصون" كأسود الشرى "في الجرأة والإقدام"؛ ففي هذا دلالة على مشاركة أمر هو "القواد المخلصون" لأمر هو "أسود الشرى" في معنى هو "الجرأة والإقدام" بإحدى أدوات التشبيه هي "الكاف" في هذا المثال. ومثله قولك: "الصحابة مثل النجوم في الهداية والإرشاد"، وقولك: "هند شبه البدر في الوضاءة والإشراق", وقولك: "كأن راحة فلان السحاب في عموم الفيض" إلى غير ذلك. ويجوز حذف الوجه مع بقاء الأداة كقولك في المثال الأول: "القواد المخلصون كأسود الشرى" وهكذا يقال في باقي الأمثلة. ويجوز العكس أي: حذف الأداة مع بقاء الوجه، أو مع حذفه، ويكون المشبه به في الصورتين حينئذ أحد الأنواع الآتية: 1- أن يكون خبرا للمشبه كقولك: خالد بن الوليد أسد1 بدعوى الاتحاد بينهما مبالغة في تشبيه خالد بالأسد في الجرأة، وكقولك: "فلان بطانة فلان" مبالغة في تشبيهه ببطانة الثوب في قوة الملازمة، وقد يحذف المشبه في هذه الحالة لقرينة, كقول الشاعر: أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر2 أي: هو أسد، وكقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي: هم صم. 2- أن يقع خبرا لما دخل على المشبه من النواسخ كما في قولك: "إن محمدا شجى في حلوق أعدائه، وقذى في عيونهم،

_ 1 ادعى بعضهم أن مثل هذا النوع من التشبيه استعارة, بناء على أن حمل معنى الأسدية على خالد لا يصح إلا بإدخاله في جنس الأسد، والتحقيق أنه تشبيه لا استعارة -على ما سيأتي بيانه- لأن الاستعارة إنما تكون حيث يطوى ذكر المشبه لفظا وتقديرا، وهنا ليس كذلك؛ إذ إن الطرفين وهما "خالد والأسد" مذكوران. 2 "الفتخاء": النعامة اللينة الجناح.

فكل من شجى وقذى هو المشبه به وقد وقع خبرا "لإن". ومنه قول البحتري: بنت بالفضل والعلو فأصبحـ ... ـت سماء وأصبح الناس أرضا1 فكل من "سماء وأرضا" هو المشبه به, وكلاهما وقع خبرا "لأصبح". 3- أن يقع حالا من المشبه، أو صفة له. فالأول كقولك: "كر عنترة على الأعداء أسدا"، وكقول الشاعر: بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا2 والثاني كقولك: "مررت برجل بحر"، و"فلان رجل أسد". 4- أن يقع مضافا للمشبه, كما في قول الشاعر: والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء3 أي: الماء المشبه باللجين, فقدم المشبه به، ثم أضيف إلى المشبه كما ترى. 5- أن يقع مصدرا مبينا لنوع المشبه, كما في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أي: تمر مرا كمر السحاب في السرعة، فالمشبه هو المصدر المحذوف، وقد بين نوعه بالمصدر المذكور الذي هو المشبه به, ومثله قول أبي العلاء: هرب النوم عن جفوني فيها ... هرب الأمن عن فؤاد الجبان أي: هربا كهرب الأمن.

_ 1 "بنت" بمعنى: امتزت. 2 "الخوط" بضم الخاء: الغصن, و"البان": نوع من الشجر، و"رنت" من الرنو وهو إدامة النظر. 3 الأصيل هو الوقت ما بين العصر إلى الغروب, وهو وقت تعتدل فيه الريح، واللجين: الفضة.

6- أن يكون هو مبينا بالمشبه, كما في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فالفجر مشبه بالخيط الأبيض وقد جاء بعد المشبه به مبينا له، أي: حتى يتبين لكم الفجر كالخيط الأبيض, ومنه قول الشاعر: فما زلت في ليلين شعر وظلمة ... وشمسين من خمر ووجه حبيب وقول أمير الشعراء أحمد شوقي بك: ودخلت في ليلين فرعك والدجى ... ولثمت كالصبح المنور فاك شبه الشعر في البيتين بالليل، ثم ذكر الشعر وما عطف عليه؛ بيانا للمشبه به في قوله: "ليلين". فاتضح لك من كل ما تقدم من الأمثلة أنه لا بد في التشبيه الاصطلاحي من ذكر الطرفين1 على وجه ينبئ عن التشبيه, بحيث لا يستقيم المعنى إلا بالحمل على التشبيه2 كما في الأمثلة المذكورة، وأنه لا بد فيه من أداة التشبيه ملفوظة أو مقدرة كما رأيت. ولهذا لا يعتبر من التشبيه الاصطلاحي الاستعارة بأنواعها3، والتشبيه على طريق التجريد في بعض صوره4، وهو ما يكون المشبه بحيث يجعل أصلا ينتزع منه المشبه به مبالغة في التشبيه, كما تقول: "لقيت بخالد أسدا"، "ولقيني منه أسد" فقد بولغ في

_ 1 ولو تقديرا, كما في قول الشاعر السابق: "أسد علي وفي الحروب نعامة ... " "البيت". 2 سيأتي لهذه المسألة مزيد بيان. 3 أي: التحقيقية والمكنية, وكذلك التخييلية في رأي السكاكي, على ما سيأتي. 4 وأما بعضها الآخر -وهو ما كان المجرد عين المجرد منه- فليس داخلا في التشبيه أصلا؛ لعدم دلالته على المشاركة في قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} ، فقد انتزعت دار الخلد من جهنم وهي عين دار الخلد لا شبيهة بها.

تشبيه خالد بالأسد, حتى جعل أصلا جرد منه "أسد" ففيه تشبيه ضمني مضمر في النفس. أما عدم اعتبار الاستعارة من التشبيه الاصطلاحي؛ فلخلوها من أحد الطرفين، ومن الأداة لفظا وتقديرا نحو: "أقبل الأسد"، ونحو: "أنشبت المنية أظفارها بفلان"، وأما عدم اعتبار التجريد تشبيها اصطلاحيا فلعدم ذكر الطرفين فيه على وجه ينبئ عن التشبيه، ولخلوه أيضا من أداته كما مثلنا1 -فكلاهما إذًا ليس من التشبيه الاصطلاحي في شيء2- وقد احترز عنهما في التعريف بقولنا: "بإحدى أدوات التشبيه لفظا أو تقديرا". أركان التشبيه 3 وهي أربعة: 1- ذات المشبه. 2- ذات المشبه به، ويسميان "طرفي التشبيه". 3- وجه الشبه, وهو المعنى المشترك الجامع بين الطرفين. 4- أداة التشبيه. وهذه الأربعة هي قوام التشبيه وعماده؛ فقولك: "رضاب هند كالعسل في الحلاوة" تشبيه, والمشبه في هذا المثال هو "الرضاب"، والمشبه به هو "العسل"، ووجه الشبه هو "الحلاوة"، وأداة التشبيه هي "الكاف".

_ 1 وقيل: هو تشبيه حقيقة لذكر الطرفين فيه, فيمكن التحويل فيه إلى هيئة التشبيه لولا قصد التجريد, وسيأتي أن التحقيق خلافه. 2- ولكنهما من قبيل التشبيه اللغوي؛ إذ هو أعم من الاصطلاحي, فكل اصطلاحي لغوي ولا عكس, يجتمعان في نحو: محمد أسد, وينفرد اللغوي في الاستعارة والتجريد. 3 أي: باعتبار إطلاقه على الكلام الدال على المشاركة كقولك: محمد كالبدر في الإشراق، لا باعتباره وصفا للمتكلم. ولا شك أن الأمور الأربعة أجزاء للتشبيه بهذا الاعتبار، ويصح أن تكون أركانا له بالاعتبار الثاني، وأن المراد بالركن ما يتوقف عليه الشيء وإن لم يكن داخلا في حقيقته.

وفيه أربعة مباحث: 1- مبحث الطرفين. 2- مبحث وجه الشبه. 3- مبحث أداة التشبيه. 4- مبحث الأغراض التي دعت إليه. مبحث الطرفين: الطرفان هما -كما تقدم- المشبه والمشبه به كما في قولك: "محمد كسحبان" فالطرفان هما: محمد وسحبان, والأول هو المشبه والثاني هو المشبه به. وللتشبيه باعتبار الطرفين تقسيمات ثلاثة:

التقسيم الأول

التقسيم الأول: ينقسم التشبيه باعتبار حسية الطرفين, وعقليتهما إلى أربعة أقسام: 1- أن يكون طرفاه حسيين أي: مدركين بإحدى الحواس الخمس: البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس. فمثال ما يدرك بحاسة البصر قولك: وجه هند كالبدر، وشعرها كالليل. ومثال ما يدرك بحاسة السمع قولك: أسمع صوتا كأغاريد البلابل، ودويا كدوي الرعد, وأنينا كأنين الثكلى, ومن الطريف ما يقوله ابن ثناء الملك في وصف ساقية: وساقية نزلت بها وإلفي ... أودعه كتوديع المروع فصوت أنينها يحكي أنيني ... وفيض مياهها يحكي دموعي ومثال ما يدرك بحاسة الشم قولك: شذا عرف هند كأريج المسك، وريحها كريح الخزامي1. ومثال ما يدرك بحاسة الذوق

_ 1 هو نبت له زهر طيب الرائحة.

قولك: رضاب ليلى كلعاب النحل، وحموضة هذا الشراب كحموضة الخل. ومثال ما يدرك بحاسة اللمس قول ذي الرمة: لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر1 وقولك: خشونة هذا الثوب كخشونة جلد القنفذ, فالطرفان في هذه المثل جميعها حسيان كما رأيت. 2- أن يكون الطرفان عقليين أي: مدركين بالعقل, كما نقول: "العلم كالحياة"، و"الجهل كالموت" و"الضلال كالعمى". فالطرفان في هذه المثل لا يدركان بغير العقل, ووجه الشبه في الأول "الأثر الجليل"، وفي الثاني "فقدان النفع"، وفي الثالث "عدم الاهتداء". 3- أن يكون المشبه عقليا، والمشبه به حسيا, كقولهم في تشبيه الرأي الواضح، والحظ العاثر: "رأي كفلق الصبح"، و"حظ كسواد الليل"، وكقولك في تشبيه الخلق القويم، والطبع الكريم: "خلق كشذا المسك" و"طبع كأنفاس الزهر". 4- أن يكون المشبه حسيا، والمشبه به عقليا, كما في قول الشاعر: وأرض كأخلاق الكريم قطعتا ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا شبه "الأرض" وهي حسية "بالخلق الكريم" وهو عقلي في الرحابة والسعة بتقدير المعقول محسوسا حتى صار أصلا في وجه

_ 1 "رخيم الحواشي": في أطرافه لين وتكسر، "والهراء" بضم الهاء: الكلام الكثير الفاسد، "والنزر": الكلام القليل, يريد: أنه لا يكثر في الكلام إلى حد الهذيان، ولا يقل منه إلى درجة العي.

الشبه مبالغة, وإلا فإن إلحاق المحسوس بالمعقول قلب للأوضاع1 وجعل الفرع أصلا، والأصل فرعا وهو لا يجوز، ولا يستسيغه عقل لولا قصد المبالغة. ومثله قول الشاعر: وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا ... فتك الصبابة بالمحب المغرم فالفتك الأول حسي، والثاني عقلي، وهو من أحاسن التشبيهات وأبدعها، وأشدها تأثيرا في النفس، وامتلاكا للقلب. تنبيه: من الحسي ما لا تدركه الحواس بذاته ولكن تدرك مادته, ويسمى "خياليا", وهو الشيء المعدوم خارج الأعيان الذي ركبته المتخيلة من أمور مدركة بالحس, كما في قول الصنوبري: وكأن محمر الشقيـ ... ـق إذا تصوب أو تصعد أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد2 يشبه الشاعر هذا الزهر الأحمر حال تصوبه وتصعده بهيئة أعلام من ياقوت، منشورة على رماح من زبرجد. وليس من شك أن صورة الأعلام المصنوعة من ياقوت، المنشورة على رماح مصنوعة من زبرجد، شيء لا يدرك بالحس الظاهر لعدم وجوده خارج

_ 1 ذلك أن الأمور العقلية مستفادة من طريق الحواس, فالحواس إذا أصل لها "كحدوث العالم" مثلا فهو أمر عقلي أدركه العقل من تغيره المدرك بحاسة البصر, ولولاها ما أدركه؛ ولذا قالوا: من فقد حسا فقد علما, فتشبيه المحسوس بالمعقول حينئذ قلب للوضع سوغه قصد المبالغة. 2 "محمر الشقيق" من إضافة الصفة للموصوف أي: الشقيق المحمر, وهو ورد أحمر في وسطه سواد، ويقال له: شقائق النعمان، إضافته إلى النعمان لأنه ينبت كثيرا في أرض كان يحميها "النعمان" وهو لقب لكل من ملك الحيرة، وقيل: النعمان اسم للدم والشقيق يشبهه في اللون, فالإضافة إذًا تشبيهية من إضافة المشبه للمشبه به، و"تصوب": مال إلى أسفل, و"تصعد": مال إلى علو.

الأعيان، وإنما المدرك مادته وهي: الأعلام، والياقوت، والرماح؛ والزبرجد, وهذا كافٍ في جعل الشيء حسيا. فالحسي حينئذ: هو ما يدرك بذاته، أو بمادته بإحدى الحواس الخمس ليشمل الخيالي, ومثل قول الصنوبري قول الشاعر يصف الخمر في الكأس: كأن الحباب المستدير برأسها ... كواكب در حشوهن عقيق شبه هيئة الفقاقيع الطافية على وجه الكأس بهيئة كواكب من در منثورة في سماء من عقيق. فالمشبه به خيالي لا يدرك بالحس؛ لعدم وجوده خارج الأعيان، وقد فرض مجتمعا من أمور, كل منهما مدرك بالحس، وهي: الكواكب، والدر، والسماء، والعقيق. ومن العقلي ما لا يدرك هو, ولا مادته بإحدى الحواس الظاهرة؛ لعدم وجوده خارجا، ولكنه لو وجد لم يدرك إلا بها1, ويسمى "وهميا" وهو ما اخترعه الوهم من عند نفسه، من غير أن يكون له، ولا لمادته وجود في الخارج كقول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟ 2 وكقوله تعالى في شجرة الزقوم: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} فأنياب الأغوال، ورءوس الشياطين لم توجد هي، ولا مادتها، وإنما هي من اختراعات الوهم وافتراضاته.

_ 1 قيد الوهمي بهذا القيد؛ ليتميز عن العقلي الصرف كالعلم والحياة، وهذا لا ينافي أن الوهمي من أفراد العقلي بالمعنى المذكور هنا. 2 الاستفهام هنا للاستبعاد و"المشرفي": السيف المنسوب إلى مشارف, وهي بلاد باليمن مختصة بصناعة السيوف، و"مضاجعي": ملازمي حال الاضطجاع أي: ففي غير هذه الحال أولى، كناية عن أن السيف لا يفارقه، وأن الاعتداء عليه بعيد المنال، و"مسنونة": حادّة مصقولة، ووصفها بالزرقة لصفائها.

فالعقلى حينئذ: ما لا يدرك هو ولا مادته بإحدى الحواس الظاهرة ليدخل فيه التشبيه الوهمي المذكور, كما يدخل فيه أيضا ما يدرك بالوجدان أي: بالقوة الباطنة، ويسمى "وجدانيا" كاللذة، والألم، والفرح، والغضب، وكالعطش، والجوع، والري، والشبع1, وما شاكل ذلك من الحالات التي لا يدركها الحس الظاهري، ولا العقل الصرف الذي لا يستند إلى حس باطني، وإنما تدرك بإحساس باطني، وتكييف نفسي كالحالة الخاصة التي يحسها الجائع، أو الظامئ، أو يحسها من شبع بعد جوع، أو روى بعد ظمأ. مثال ذاك: أن يشبه الجائع ما يحسه من ألم الجوع بالموت، أو أن يشبه الظامئ ما يشعر به من وهج العطش بالنار ا. هـ.

_ 1 هي أمور حسية أي: مستندة إلى إحساس باطني خاص فلا يدركها العقل الصرف, وإنما يدرك العقل المعاني الكلية لهذه الأشياء كأن يتصور العقل معنى اللذة على أنها شعور خاص يحصل عند نيل الشيء اللذيذ، وأن يتصور معنى الجوع على أنه ميل إلى الطعام واشتهاء إليه. أما الحالة النفسية التي تعتري الملتذ بالشيء أو التي تعرض للجائع فلا يدركها العقل وحده, بل لا بد من تكيف خاص يحس به الملتذ أو الجائع فالفرق واضح.

التقسيم الثاني

التقسيم الثاني: ينقسم التشبيه باعتبار إفراد الطرفين وتركيبهما إلى أربعة أقسام: 1- أن يكون طرفاه مفردين, وهما إما أن يكونا مطلقين عن التقييد بنحو وصف، أو إضافة، أو مفعول، أو حال، أو غير ذلك، أو يكونا مقيدين بشيء مما ذكر, أو يكون أحدهما مقيدا، والآخر مطلقا. فالمفردان المطلقان كقولك: "لها لحظ كالسهم، وثغر كالدر", والمقيدان كما في تشبيه من لم يحصل من سعيه على نتيجة بالناقش على الماء؛ فالمشبه هو "الساعي" المقيد بأن سعيه لم يكلل بنجاح، والمشبه به هو "الناقش" المقيد بأن نقشه على صفحة الماء، ووجه الشبه هو أن الفعل وعدمه سيان في عدم ترتب نتيجة. ومثله قول الشاعر: إني وتزييني بمدحي معشرا ... كمعلق درا على خنزير يريد أن يشبه الشاعر نفسه مقيدا بعمل خاص، وهو مدحه من لا يستحقون المدح بالمعلق مقيدا بعمل خاص، وهو تعليقه شيئا نفيسا بعنق شيء خسيس غير قابل للزينة، فالمشبه مقيد "بحال" والمشبه به مقيد بمفعول وجار ومجرور، ووجه الشبه هو هيئة من يضع الشيء في غير موضعه. ومثال ما فيه المشبه مطلق، والمشبه به مقيد قول الشاعر: والشمس كالمرآة في كف الأشل ... لما رأيتها بدت فوق الجبل يريد أن يشبه الشمس بالمرآة بقيد كونها في يد رعشاء, ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من الاستدارة، والحركة السريعة المتصلة، مع تموج الإشراق حتى يرى الشعاع كأنه ينبسط، ثم يرجع من انبساطه إلى الانقباض, فالمشبه "الشمس" مطلقة عن التقييد بشيء، والمشبه به "المرآة" مقيدة بالقيد المذكور. ومثله تماما قول الآخر: ولاحت الشمس تحكي عند مطلعها ... مرآة تبربدت في كف مرتعش ومن هذا الضرب قولك: "وجهها كالبدر ليلة تمامه"، و"ثغرها كاللؤلؤ المنظوم"، ووجه الشبه في الأول هيئة الجمال، مع كمال الإشراق، وفي الثاني هيئة البريق، مع التنسيق. ومثال ما فيه المشبه مقيد، والمشبه به مطلق عكس الأمثلة السابقة، وهو أن تشبه المرآة في كف الأشل بالشمس، أو تشبه البدر ليلة تمامه بوجه المرأة، أو تشبه اللؤلؤ المنظوم بالثغر تشبيها مقلوبا؛ مبالغة في وصف المشبه بوجه الشبه على ما سيأتي.

2- أن يكون طرفاه مركبين, ومعنى التركيب فيهما أن يقصد إلى عدة أشياء مختلفة في كل من الطرفين، ثم تنتزع منها هيئتان تجعل إحداهما مشبها، والأخرى مشبها به في هيئة تعمهما, كما في قول بشار بن برد: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه1 يصف بشار ملحمة بين جيشين يقتتلان بالسيوف، وفد انعقد عليهما غبار كثيف؛ فهو يشبه الهيئة المنتزعة من السيوف، وقد سلت من أغمادها، وهي تتألق في حركة سريعة مختلفة النواحي، على أشكال متناسبة، وسط غبرة قاتمة قد انعقد فوق الرءوس بالهيئة الحاصلة من النجوم، وهي تتساقط إلى جهات مختلفة في جنح الليل البهيم. ووجه الشبه الهيئة المنتزعة من سقوط أجرام لامعة، مستطيلة متناسبة المقادير، متناثرة في جوانب شيء مظلم, فالمشبه مركب من النقع مثارا فوق الرءوس، ومن السيوف المتلاحمة اللامعة في أثنائه, والمشبه به مركب من الليل، ومن الكواكب المتهاوية في مواقع مختلفة. ومثله تماما قول الشاعر: كأن دخان العود والند بيننا ... وأقداحنا ليل تهاوى كواكبه

_ 1 "مثار النقع" من إضافة الصفة للموصوف أي: النقع المثار، والواو في "وأسيافنا" بمعنى "مع" فأسيافنا إذًا مفعول معه، ولم يجعل منصوبا "بكأن" عطفا على اسمها الذي هو "مثار" لئلا يتوهم أن في البيت تشبيهين مستقلين, كل منهما تشبيه مفرد بمفرد، وأن المعنى: كأن النقع المثار ليل، وكأن سيوفنا كواكبه, وهذا لا يصح الحمل عليه لما صرحوا به من أنه متى أمكن اعتبار التشبيه مركبا فلا يعدل عنه إلى اعتباره مفردا, إذ تفوت معه الدقة التركيبية المرعية في وجه الشبه، "وتهاوى" فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والأصل تتهاوى, وإنما لم يجعل فعلا ماضيا لما يلزم عليه من الإخلال بما قصده الشاعر من المعنى الدقيق, ذلك أن صيغة المضارع تدل على الاستمرار التجددي وهو أدل على كثرة الحركات، والتساقط في جهات متعددة، بخلاف الفعل الماضي, فإنه -وإن دل على هذا المعنى- لا تجدد فيه ولا استمرار.

فهو يشبه الهيئة المنتزعة من أقداح الخمر، وهي تتألق في أيديهم، وتتحرك إلى جهات مختلفة أثناء ما انعقد حولهم من دخان العود والند قاتما متكاثفا, بهيئة الكواكب المتهاوية في دياجي الليل. وهذا القسم ضربان: ما يصح فيه تشبيه كل جزء من أحد طرفيه بما يقابله من أجزاء الطرف الآخر, ما لا يصح فيه ذلك. فالأول كما في البيتين السابقين, فإن كل جزء من أجزاء المشبه له نظير في الطرف الآخر يمكن تشبيهه به، فيشبه النقع بالليل، وتشبه السيوف أو الأقداح بالكواكب, غير أن غرض الشاعر لم يتعلق بالتشبيه على هذه الصورة، إذ ليس فيه من دقة المعنى، وبديع التخيل، وروعة التمثيل ما له في صورته الأولى من تشبيه الهيئة بالهيئة حتى صار بشار -وهو كفيف البصر- يسمو به إلى درجة يقف دونها العباقرة المبصرون. ومن طريف هذا الضرب قول الشاعر: كأن سهيلا والنجوم وراءه ... صفوف صلاة قام فيها إمامها1 يشبه الشاعر هيئة سهيل، والنجوم مصطفّة وراءه بهيئة إمام قائم يصلي، والناس خلفه صفوف متراصة. فالمشبه مركب من سهيل, ومن النجوم وراءه، والمشبه به مركب كذلك من إمام قائم في محرابه، ومن صفوف المصلين خلفه، ولكل جزء من أجزاء المشبه به نظير في الطرف الآخر يصح تشبيهه به، فيشبه سهيل بإمام يصلي، والنجوم بصفوف الصلاة, غير أن التشبيه على هذا الوضع ليس الذي يهدف إليه الشاعر لسذاجته, فأين هذا من ذلك الذي يملك عليك قلبك أنه يريك هيئة سهيل يتقدم طائفة متراصة من الكواكب المؤتلقة على هيئة إمام تؤمه صفوف المصلين ألا تراه أدق صياغة, وأحلى إساغة؟

_ 1 سهيل: نجم.

الثاني كما في قول الشاعر: كأنما المريخ والمشتري ... قدامه في شامخ الرفعة منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجت قدامه شمعة1 يشبه الشاعر هيئة المريخ، والمشتري قدامه يتألق بهيئة إنسان منصرف بالليل عن دعوة، وأمامه شمعة مضيئة. فالتشبيه -كما ترى- مركب الطرفين, غير أننا لو حللنا هذا التشبيه، فألحقنا أحد أجزاء الطرف الأول بما يقابله من الطرف الثاني، فقلنا: المريخ كمنصرف بالليل عن دعوة, كان ضربا من الهذيان والسخف. 3- أن يكون المشبه مفردا، والمشبه به مركبا, كما في قول الصنوبري السابق: وكأن محمر الشقيـ ... ـق إذا تصوب أو تصعد أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد فالمشبه "محمر الشقيق" وهو مفرد مقيد بصفة، والمشبه به مركب من أعلام ياقوت، ومن رماح زبرجد أي: من هيئة أجرام حمر، مبسوطة على رءوس سيقان خضر مستطيلة. ومثله قول الخنساء ترثي أخاها صخرا: وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار فالمشبه مفرد وهو "صخر"، والمشبه به مركب من علم، ومن نار على رأسه. 4- أن يكون المشبه مركبا، والمشبه به مفردا, كما في قول أبي تمام: يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور

_ 1 "المريخ والمشتري": نجمان في السماء, و"قدامه" بتشديد الدال: ظرف مكان بمعنى أمامه، و"أسرجت": أضيئت.

تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر1 يلفت الشاعر نظري صاحبيه إلى صنيع المبدع القادر فيما أخرج من نبات بهيج ناضر، وكيف أن النبات -لشدة اخضراره، وكثافته- صار لونه يضرب إلى السواد حتى نقص من ضوء النهار المشرق، وكأنه ليل سرى فيه ضوء القمر، لا ترى فيه الأشياء الدقيقة، فهو يريد أن يشبه هيئة النهار المشرق وقد خالطه زهر الربا، فتضاءل ضوءه ونقص بليل بزغ قمره. فالمشبه مركب من نهار تألقت شمسه، ومن زهر نابت في الربا، والمشبه به مفرد مقيد بصفة، وهو "الليل المقمر". ومثله قولهم: القواد في ساعة الوغى كليوث العرين في الدفاع عن الحمى، فالمشبه مركب من القواد، ومن ساعة الوغى، والمشبه به "ليوث العرين" وهو منفرد مقيد بالإضافة كما ترى. تنبيهان: الأول: اعلم أن المراد بالقيد في التشبيه الذي كلا طرفيه، أو أحدهما مقيد ما يكون له دخل في وجه الشبه بحيث لا يتم التشبيه بدونه. ففي المثال المتقدم في تشبيه الساعي المقيد بعدم التوفيق في سعيه بالناقش المقيد بأن نقشه على الماء لا بد فيه من اعتبار هذين القيدين؛ لأن وجه الشبه بين الطرفين هو -كما علمت- المساواة بين الفعل وتركه في كون النتيجة سلبا. وهذا المعنى لا يتم إلا بمراعاة القيدين المذكورين، وكذلك تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل لا بد فيه من اعتبار كون المرآة في كف مرتعش؛ لأن وجه الشبه بين الطرفين هو -كما سبق- الهيئة الحاصلة من الاستدارة، والحركة السريعة المتصلة مع نموذج الإشراق، وهذا المعنى لا يتوفر، ولا يستقيم بدون ملاحظة هذا القيد, كذلك لا بد في تشبيه الثغر باللؤلؤ

_ 1 يقال: تقصى الشيء: بلغ أقصاه, أي: غايته, يريد: أمعنا النظر وتدبرا وفكرا، و"تصور" بحذف إحدى التاءين أي: تتصور، و"شابه": خالطه, و"الربا" جمع ربوة, وهو ما ارتفع من الأرض, وخص زهر الربا بالذكر؛ لأنه أنضر وأشد خضرة.

المنظوم من اعتبار قيد "المنظوم"؛ لأن وجه الشبه هو هيئة البريق مع حسن التنسيق، وهذا لا يتم إلا بمراعاة القيد المذكور, فليس المراد إذًا مطلق قيد، بل المراد قيد له تعلق بوجه الشبه أي: له دخل في تكوينه -كما بينا- فإن لم يكن كذلك فلا اعتبار له، ويعتبر الطرف المقيد بمثل هذا القيد من قبيل المفرد المطلق عن القيد كما في قولك: "رأيت رجلا يهب الجزيل كالأسد" فقولك: "يهب الجزيل" قيد لا يعتبر به المشبه مقيدا؛ إذ لا دخل له في تحقيق وجه الشبه ا. هـ. الثاني: الفرق بين المقيد من الطرفين والمركب منهما أن المقصود بالذات في المركب هو الأجزاء مجتمعة، وليس فيها جزء قصد وحده بالتشبيه، وإن صح أن يشبه بجزء من الطرف الآخر على نحو ما سبق في بيت بشار، فإن المشبه هناك مجموع النقع المثار, والأسياف المسلولة، والمشبه به مجموع الليل، والكواكب المتهاوية، ولم يتعلق الغرض بتشبيه النقع وحده بالليل، ولا بتشبيه السيوف وحدها بالكواكب، وإن صح ذلك. أما القيد, فإن المقصود بالذات فيه هو أحد أجزاء الطرف، مع مراعاة قيد فيه. فالقيد إذًا ليس مقصودا بذاته, بل مقصود لذلك الجزء كما في تشبيه الساعي المقيد بأن سعيه لم يكلل بنجاح بالناقش المقيد بأن نقشه على الماء, فإن المقصود بالذات كل من "الساعي والناقش" مراعى في كل منهما قيده الخاص به أشبه الأشياء باليد من الإنسان. فمدار التفرقة بينهما إذًا على القصد والاعتبار، لا على التركيب اللفظي, فإن كانت الأجزاء كلها مقصودة بذاتها في التشبيه كان من قبيل المركب، وإن كان المقصود أحد الأجزاء، وأن ما عداه تبع له كان من قبيل المفرد المقيد. والمرجح لأحد القصدين، وجود الحسن فيه دون الآخر1، والحاكم في ذلك هو الذوق السليم، والقريحة الصافية, أما التركيب اللفظي فلا اعتبار له في التفرقة بين المقيد والمركب؛ إذ قد يستويان فيه غالبا ا. هـ.

_ 1 هذا بالنظر إلى المتكلم, وأما السامع فيفرق بينهما باعتبار ما يبدو له من القرائن الدالة على أن المتكلم قصد الأجزاء كلها، أو قصد أحد الأجزاء واعتبر ما عداه تبعا.

التقسيم الثالث

التقسيم الثالث 1: ينقسم التشبيه باعتبار تعدد الطرفين، أو تعدد أحدهما إلى أربعة أقسام: 1- ملفوف. 2- مفروق. 3- تسوية. 4- جمع. فالملفوف: هو أن يتعدد طرفاه، ويجمع كل طرف مع مثله؛ بأن يؤتى بالمشبهات أولا بطريق العطف أو غيره، ثم بالمشبهات بها كذلك, أو العكس؛ بأن يؤتى بالمشبهات بها أولا بطريق العطف أو غيره، ثم بالمشبهات كذلك. فمثال تعددهما معطوفين قول امرئ القيس يصف عقابا بكثرة اصطياد الطيور: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي2 شبه امرؤ القيس الرطب الطري من قلوب الطير بالعناب في الشكل والمقدار واللون، وشبه اليابس العتيق منها بالحشف البالي في هذه الثلاثة أيضا, فالمشبه متعدد وهو "الرطب الطري من قلوب الطير، واليابس العتيق منها", والمشبه به متعدد كذلك، وهو "العناب والحشف البالي"، وقد جمع بين المشبهين في المصراع الأول

_ 1 لا يخفى أن هذا التقسيم لا يناسب أخويه السابقين؛ لأنه تقسيم لتشبيهات متعددة, إذ لا يتعدد طرفا تشبيه واحد، والتقسيم فيما سبق لتشبيه واحد. 2 أراد بالطير الجنس الصادق بالكثير والقليل، و"رطبا ويابسا" حالان من القلوب، والعامل فيهما "كأن" لتضمنها معنى التشبيه، وكأنه قال: أشبه قلوب الطير رطبا ويابسا, وإنما لم يؤنث الحالين؛ لأن الضمير فيهما راجع للقلوب لا باعتبار الجمع، بل باعتبار البعض أي: حالة كون بعضها رطبا، وبعضها يابسا, ولا بد من هذا التنويع؛ لأن الرطوبة واليبوسة لا تجتمعان في محل واحد و"لدى وكرها" ظرف يحتمل أن يكون حالا من القلوب أو من الضمير المستتر في "رطبا ويابسا" العائد على البعض، ويحتمل غير ذلك، و"الوكر": عش الطائر و"العناب": حب أحمر مائل إلى الكدرة في حجم قلوب الطير الرطبة، و"الحشف": أردأ التمر في هيئة قلوب الطير اليابسة.

على طريق العطف كما جمع بين المشبهين بهما في المصراع الثاني كذلك كما ترى1. ومثال تعدد الطرفين غير معطوفين قولك: "والداك القمران" فالطرفان متعددان من غير عطف -كما رأيت- وقد يؤتى بأحدهما معطوفا، دون الآخر كما تقول: "أبوك وأمك القمران"، و"والداك الشمس والقمر" فالمعطوف في الأول هو "المشبه"، وفي الثاني هو "المشبه به"، وفي جميعها تقدم المشبه على المشبه به كما ترى. وعكس ذلك أن يقال: "كالشمس والقمر هند ودعد" بتقديم المشبهين بهما على المشبهين، مع العطف فيهما, ويقال: "كالقمرين ليلى وسعاد" معطوفا أحدهما دون الآخر، ويقال في عكسه: "كالأسد والبحر صديقاك", إلى غير ذلك مما جمع فيه كل صنف على حدة كما هو رأس المسألة. وسمي هذا النوع "ملفوفا" لأنه من اللف وهو الضم، وقد لف المشبهان في جميع ما مثلنا أي: ضم بعضهما إلى بعض, كما لف المشبهان بهما كذلك. والمفروق: أن يتعدد طرفاه، ويجمع كل طرف مع صاحبه، بأن يجمع كل مشبه مع مشبه به كما في قول ابن سكرة: الخد ورد والصدغ غالية ... والريق خمر والثغر كالدرر2 شبه الشاعر الخد بالورد, والصدغ بالغاية، والريق بالخمر، والثغر بالدرر، جاعلا كل مشبه مع مقابله. ومثله قول المرقش الأكبر3:

_ 1 إنما جعل من تشبيه المفرد المتعدد، ولم يجعل من تشبيه المركب بالمركب؛ لأنه ليس لانضمام الرطب من القلوب إلى اليابس منها هيئة حاصلة خاصة يقصد إليها، ولا لاجتماع العناب مع الحشف البالي هيئة كذلك. ولهذا لو فرق التشبيه فقيل: كأن الرطب من القلوب عناب، وكأن اليابس منها حشف لصح ذلك، بدون توقف أحد التشبيهين على الآخر. 2 المراد بالصدغ: الشعر المتدلي على الخد، والغالية: أخلاط من الطيب, و"الثغر" أراد به الأسنان. 3 هو عمرو بن سعد, شاعر جاهلي.

النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم1 جمع الشاعر أيضا في هذا البيت كل مشبه به مع مشبهه كما في البيت السابق. وسمي هذا النوع "مفروقا"؛ لأنه لم يجمع فيه بين المشبهات على حدة، ولا بين المشبهات بها كذلك كما في القسم الأول، بل فرق بينهما، فوضع كل مشبه به بجوار مشبهه كما ترى. وتشبيه التسوية: هو أن يتعدد المشبه، دون المشبه به كقول الشاعر: صدغ الحبيب وحالي ... كلاهما كالليالي وثغره في صفاء ... وأدمعي كاللآلي شبه الشاعر في البيت الأول حاله، وصدغ حبيبه بالليالي في السواد، وشبه في البيت الثاني أدمعه، وثغر حبيبه باللآلي في الصفاء والتألق, فالمشبه فيهما متعدد دون المشبه به. وسمي هذا النوع "تشبيه التسوية"؛ لأنه سوي فيه بين شيئين في إلحاقهما بشيء واحد, كما تراه في البيتين. وتشبيه الجمع: هو أن يتعدد المشبه به دون المشبه, عكس تشبيه التسوية, كما في قول البحتري من قصيدة له: بات نديما لي حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو برد أو أقاح2

_ 1 "النشر": الرائحة الطيبة, و"العنم": شجر لين الأغصان أحمر اللون, تشبه به أصابع الجواري المخضبة, وأراد بأطراف الأكف الأصابع. يريد أن يقول: إن رائحة هؤلاء النسوة كرائحة المسك والوجوه منهن كالدنانير من الذهب في الاستدارة، والاستنارة، والصفرة، وهذا اللون مما كان يستحسن في ألوان النساء، وإن أصابعهن كالعنم في الحمرة والليونة. 2 "النديم" في الأصل: مؤانسك حال الشرب, والمراد هنا المؤانس ليلا، و"الأغيد": الناعم البدن, مؤنثه غيداء ويقال: غادة, و"المجدول": المدمح أي: المدخل بعضه في بعض, يريد: أنه ضامر الخاصرتين والبطن وهما موضع الوشاح, وهو جلد عريض مرصع بالجواهر يشد في الوسط بقصد التزين، و"يبسم" من باب "ضرب" وقد ضمن هنا معنى يكشف فعداه بعن. وفي جعل هذا البيت من باب التشبيه نظر؛ لأن المشبه وهو "الثغر" غير مذكور في الكلام فهو إذًا من باب الاستعارة. وقد يجاب بأن التشبيه هنا ضمني لا صريح يدل عليه "كأن" إذ إن المجاز يجب ألا يشتمّ فيه رائحة التشبيه لا لفظا, ولا تقديرا.

شبه البحتري في البيت الثاني ثغر محبوبه بثلاثة أشياء: اللؤلؤ" وهو المعدن النفيس المعروف، و"البرد" وهو حب الغمام، و"الأقاح" بفتح الهمزة جمع: أقحوان بضمها وسكون القاف وضم الحاء، وهو نور طيب الرائحة يتفتح كالورد, وأوراقه أشبه شيء بالأسنان. فالمشبه شيء واحد وهو "الثغر"، والمشبه به متعدد -كما ترى- و"أو" هنا بمعنى الواو، أو هي على أصلها للتنويع, ولما لم يعين واحد بخصوصه كان كأنه مشبه بالثلاثة. ومثله قول الشاعر: ذات حسن لو استزادت من الحسـ ... ـن لما أصابت مزيدا فهي الشمس بهجة والقضيب اللـ ... دن قدا والريم طرفا وجيدا1 شبه الشاعر في البيت الثاني هذه المرأة بثلاثة أشياء: الشمس والقضيب، والرئم. فالمشبه شيء واحد وهو "ذات الحسن"، والمشبه به متعدد. وسمي هذا النوع "تشبيه الجمع" لاجتماع شيئين أو أشياء في مشابهة شيء واحد. ملحوظة: إن التفرقة بين تشبيهي التسوية والجمع اصطلاح لهم، وإلا فيمكن أن يعتبر في كل منهما ما اعتبر في الآخر، ويسمى باسمه. اختبار: 1- اذكر وجه تقديم مباحث التشبيه على مبحث المجاز. 2- عرف التشبيه لغة واصطلاحا، وهل هو وصف المتكلم أو الكلام؟ وضح ذلك بمثالين من إنشائك.

_ 1 "القضيب": الغصن، و"اللدن": الطري الغض، و"القد": القامة، و"الرئم": الغزال, و"الطرف": العين و"الجيد": العنق.

3- بماذا يفرق بين التشبيه والاستعارة، ثم بينه وبين صورة التجريد في مثل قولك: "لقيني منه أسد". 4- اذكر أركان التشبيه, ووضح ذلك في مثال من عندك. 5- قسم التشبيه باعتبار حسية الطرفين وعقليتهما، مع التمثيل، ثم ائت بتشبيهات خمسة من إنشائك: أولها: يدرك طرفاه بحاسة البصر، ووجهه بحاسة الشم. ثانيها: يدرك طرفاه بحاسة البصر، ووجهه بحاسة اللمس. ثالثها: يدرك طرفاه ووجهه بحاسة الذوق. رابعها: يدرك طرفاه ووجهه بحاسة السمع. خامسها: يدرك أحدهما بإحدى الحواس، والآخر بالعقل. 6- بين معنى الحسي والعقلي في الطرفين، ومن أي قبيل قولهم: "النساء حبائل الشيطان" وقول الشاعر: كأن عيون النرجس الغضّ حولها ... مداهن در حشوهن عقيق؟ وجه ما تقول في المثالين. 7- قسم التشبيه باعتبار إفراد الطرفين وتركيبهما، مع التمثيل، ثم بين المراد بالقيد فيما طرفاه أو أحدهما مقيد، وهل من قبيل ما طرفاه مقيدان قولهم: "محمد الكريم كالأسد الرابض في عرينه"؟ 8- افرق بين المقيد من الطرفين والمركب منهما، مع توضيح ذلك بالمثال. 9- قسم التشبيه باعتبار تعدد الطرفين، مع التمثيل، وبين سبب تسمية كل قسم باسم خاص، ومن أي نوع قول الشاعر: بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا؟ تمرينات: 1- بين فيما يأتي طرفي التشبيه، والحاسة التي يدرك بها كل منهما:

1- صوت كأغاريد البلابل، ونكهة كريح الخزامي. 2- {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} . 3- دواء كالعقم، ولسع كلسع الأرقم1. 4- رضاب كجنى النحل، وجبين كالقمر. 5- شعر كالحرير، وقدّ كغصن البان. 6- {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} . 7- عبير كأنفاس الأزهار، ونغم كسجع الأطيار. 8- كأنما الماء في صفاء ... وقد جرى ذائب اللجين 2- بين فيما يأتي طرفي التشبيه وحاليهما، ونوع التشبيه باعتبارهما: 1- علم لا ينفع كدواء لا ينجع. 2- الصديق المنافق، والأخ الجاهل كلاهما كجمر الغضا2. 3- الحق سيف على أهل الباطل. 4- فرحت وآمالي كحظى كواسف ... وعزمي يحاكي سعيه في المكارم 5- ألا إن الغضب جمرة توقد في جنب ابن آدم. 6- وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا ... فتك الصبابة بالمحب المغرم 7- إنما الدنيا كبيت ... نسجه من عنكبوت 8- خود كأن بنانها ... في خضرة النقش المزرد سمك من البلور في ... شبك تكون من زبرجد3 9- رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه مطيب كأنك من كل النفوس مركب ... فأنت إلى كل النفوس حبيب 10- فكم معنى بديع تحت خط ... هناك تزاوج كل ازدواج

_ 1 هو من أشد الأفاعي فتكا. 2 شجر سريع الالتهاب. 3 البلور: معدن شفاف, والزبرجد: جوهر نفيس.

كراح في زجاج أو كروح ... سرت في جسم معتدل المزاج 11- له خال على صفحات خد ... كقطعة عنبر في صحن مرمر1 12- أين أزمعت أيهذا الهمام ... نحن نبت الربا وأنت الغمام 13- يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا2 والبدر لو لم يغب والشمس لو نطقت ... والأسد لو لم تصد والبحر لو عذبا 14- أنت بدر حسنا وشمس علوا ... وحسام حزما وبحر نوالا 15- ليل وبدر وغصن ... شعر ووجه وقد خمر ودر وورد ... ريق وثغر وخد 16- لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل3 17- وجهه وجه الشيطان، وعمله عمل الملائكة. 18- ريقها العذب الفرات, وصوتها مزمار داود. 19- "أنتم الشعار، والناس الدثار" 4.

_ 1 "الخال": شامة على الخد، و"المرمر": الرخام. 2 صوب الغيث: انصبابه, و"المحيا": الوجه. 3 الأفاعي: الحيات، و"الأري": عسل النحل, و"الجنى": كل ما يجنى, وشار العسل واشتاره: استخرجه، و"الأيدي العواسل": هي المستخرجة للعسل من موضعه. 4 "الشعار": الثوب الذي يلي البدن, و"الدثار": ما فوق الشعار من الثياب. يريد: أنتم أقرب الناس مني كالشعار, أما الناس فبعيدون عني كالدثار.

تمرينات يطلب جوابها: 1- بين فيما يأتي طرفي التشبيه وحاليهما ونوع التشبيه باعتبارهما: إذا الدولة استكفت به في ملمة ... كفاها فكان السيف والكف والقلبا في رأس مشرقة حصاها لؤلؤ ... وترابها مسك يشاب بعنبر إني وتزييني بمدحي معشرا ... كمعلق درا على خنزير كلنا باسط اليد ... نحو نيلوفر1 ندي كدبابيس عسجد ... قضبها من زبرجد2 وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على المال خانته فروج الأصابع يهز الجيش حولك جانبيه ... كما نفضت جناحيها العقاب كأنما النار في تلهبها ... والفحم من فوقها يغطيها زنجية شبكت أناملها ... من فوق نارنجة لتخفيها وإذا أشار محدثا فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم 2- مثل لما يأتي: تشبيه مقيد الطرفين. تشبيه طرفه الأول حسي، والآخر عقلي، أو العكس. تشبيه طرفه الأول مقيد، والآخر مركب، أو العكس. تشبيه مفروق، وآخر ملفوف. تشبيه طرفاه مركبان حسيان. تشبيه تسوية، وآخر تشبيه جمع. 3- اجعل مجموع الأشياء الآتية مشبها به، وبين نوع التشبيه فيه: الدر، والغصن، والورد، ثم بين من أي أنواع التشبيه قولهم: هو بدر حسنا، وشمس علوا، وبحر علما، وأسد شجاعة؟

_ 1 بكسر النون وفتح اللام والفاء: نبت له أصل كالجذر, وله ساق تطول حسب عمق الماء, فإذا ساوى سطحه أورق وأزهر. 2 "العسجد": الذهب و"الزبرجد": الزمرد.

مبحث وجه الشبه

مبحث وجه الشبه التقسيم الأول ... مبحث وجه الشبه: الوجه: هو المعنى الذي اشترك الطرفان فيه "كالجمال" في قولك: "سعدى كالبدر"، ومثل "السرعة" في قولك: "الجواد كالريح" فكل من الجمال والسرعة وجه شبه؛ لأنه المعنى الذي اشترك فيه الطرفان: "سعدى والبدر" في الأول، "والجواد والريح" في الثاني. غير أنه يشترط أن يكون له مزيد اختصاص بالطرفين في قصد المتكلم ليفيد التشبيه فائدته؛ ولهذا ينبغي أن يكون وجه الشبه مقصودا للمتكلم, فليس كل معنى مشترك بين الطرفين "وجه شبه" ما لم يقصد جعله موضع اشتراك, وإلا فإن الطرفين قد يشتركان في كثير من المعاني كالحيوانية، والجسدية، والوجود، والحدوث، وغير ذلك، ومع ذلك لا يعد واحد منها وجه شبه اللهم إلا إذا قصد إليه المتكلم، واعتبره وجها للشبه بين الطرفين لغرض ما كالتفريع مثلا, كأن ترى إنسانا يقسو على آخر، ويحمله ما لا يطيق، فتقول له: "هذا مثلك فارحمه" تريد: مثلك في الحيوانية، أو الجسدية, فيكون لهذا الوجه حينئذ مزيد اختصاص وارتباط من حيث ذلك الغرض. و"للتشبيه" باعتبار الوجه تقسيمات عدة: التقسيم الأول: ينقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين: تحقيقي، وتخييلي. فالتحقيقي: ما يكون وجه الشبه فيه قائما بالطرفين حقيقة, كما تقول:

وجه هند كالبدر، وشعرها كالليل، فوجه الشبه بين الطرفين هو "الإشراق" في الأول، "والسواد" في الثاني, وكلا المعنيين قائم بالطرفين على وجه الحقيقة. والتخييلي: ما لا يكون الوجه قائما بالطرفين، أو بأحدهما إلا تخيلا، وهو أن يثبته الخيال بجعله غير المحقق محققا. فمثال ما فيه الوجه متخيل في أحد الطرفين قولك: "له سيرة كنفح1 الطيب" و"أخلاق كأريج المسك" فقد شاع وصف كل من السيرة والأخلاق بالطيب مبالغة, حتى تخيل أنهما من ذوات الرائحة الطيبة, فوجه الشبه وهو "الرائحة الجميلة" متخيل في المشبه في المثالين، ومن هذا القبيل قول القاضي التنوخي: رب ليل قطعته بصدود ... وفراق ما كان فيه وداع موحش كالثقيل تقذى به العيـ ... ـن وتأبى حديثه الأسماع وكأن النجوم بين دجاه ... سنن لاح بينهن ابتداع2 والشاهد في البيت الأخير, فإن وجه الشبه فيه هو الهيئة الحادثة من حصول أشياء بيض مشرقة، في جوانب شيء مظلم وهي غير موجودة في المشبه به ضرورة أن "الإشراق" -لكونه حسيا- لا تتصف به السنة لأنها أمر عقلي، وأن "الإظلام" -لكونه حسيا أيضا- لا تتصف به البدعة؛ لكونها أمرا عقليا كذلك. فوجه الشبه إذًا غير موجود في المشبه به إلا على طريق التخيل والتوهم بافتراض غير الحاصل حاصلا. بيان ذلك: أنه لما كانت البدعة، وكل ما هو ضلال مما يجعل صاحبه كمن يمشي في الظلام، فلا يهتدي إلى طريق النجاة شبهت

_ 1 نفح الطيب نفحا ونفاحا: تضوّعت رائحته وفاحت. 2 الدجى جمع دجية, وهي الظلمة والضمير لليل، وروي "ودجاها" والضمير حينئذ للنجوم، والإضافة لأدنى ملابسة، و"الابتداع": البدعة وهي الأمر الذي ادعي أنه مأمور به شرعا, وهو ليس كذلك.

البدعة بالظلمة، وشاع وصفها بها، وكان من أثر هذا الشيوع أن تخيل أن البدعة من الأجرام ذوات اللون الأسود, كما تخيل الكفر من الأجرام التي لها سواد في قولهم: "شاهدت سواد الكفر في جبين فلان" ولزم بطريق العكس أن تشبه السنة، وكل ما هو هدى بالنور، وشاع وصفها به حتى تخيل أن السنة من الأجرام ذوات اللون الأبيض المشرق, كما تخيلت الشريعة الغراء من الأجرام التي لها بياض في قوله, صلى الله عليه وسلم: "أتيتكم بالحنيفية البيضاء ليلها كنهارها" فبسبب هذا التخيل، واعتبار ما ليس بمتلون متلونا, صح تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع، وصار واضحا جليا. ونظير هذا تشبيههم النجوم بين الدجى ببياض الشيب يلمع في سواد الشباب، أو بالأزهار تتألق بين النبات الشديد الخضرة. والبيت المذكور من قبيل تشبيه مفرد مقيد بمفرد مقيد, فإن المشبه "النجوم" بقيد كونها ظهرت بين قطع الليل البهيم، والمشبه به "السنن" بقيد كونها لاحت بين الابتداع. غير أن في عبارة الشاعر قلبا؛ لأنه جعل في جانب المشبه "النجوم بين الدجى" فكان الواجب أن يجعل في جانب المشبه به "السنن بين الابتداع" لتصح المقابلة، ويتوافق الجانبان. ولعل النكتة في هذا القلب الإشارة إلى كثرة السنن في زمانه، وأن البدع بالقياس إليها كانت قليلة. ومثل قول التنوخي قول أبي طالب الرقي: ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق1 يصف الشاعر نفسه بالوفاء، وأنه لا ينسى حبيبه حتى في أحلك الأوقات وأشد الأزمات. ووجه الشبه بين الطرفين هو "السواد"

_ 1 في هذا البيت تشبيه جمع؛ لاتحاد المشبه وتعدد المشبه به.

غير أنه متخيل في المشبه به كالذي قبله؛ لأنه لما شاع وصف أوقات المكاره بالسواد توسعا، فقالوا: اسودّ النهار في عيني، وأظلمت الدنيا في وجهي, تخيل أن "يوم النوى" من الأشياء ذوات اللون الأسود, فشبه الظلام به, كما شبه بفؤاد من لم يعشق تظرفا, فإن الغزل يدعي قسوة من لم يعشق؛ ولذا يقولون: ويل للشجي من الخلي, وكم يوصف القلب القاسي بالسواد حتى تخيل أن له سوادا حالكا. ومثله قول الشاعر: يا من له شعر كحظي أسود ... جسمي نحيل من فراقك أصفر فإن الوجه بين الطرفين السواد، وهو متخيل في المشبه به لشيوع وصفه بالسواد, حتى تخيل أنه ذو لون أسود تدركه العيون. فإذا قيل في هذا البيت: "يا من له حظ كحظي أسود"، أو قيل في بيت أبي طالب: "ولقد ذكرتك والزمان كأنه يوم النوى ... " "البيت" كانا مثالين لما يكون فيه الوجه متخيلا في الطرفين. هذا, وقد تقدم أن تشبيه المحسوس بالمعقول لا يجوز إلا إذا تخيلنا المعقول محسوسا, وافترضناه أصلا في وجه الشبه يقاس به المشبه مبالغة، وإذًا فلا بد هنا أن نتخيل غير المتلون أصلا للمتلون الحقيقي، فنتخيل "السنن" في بيت التنوخي أصلا في البياض، و"البدع" أصلا في السواد, كما نتخيل في بيت أبي طالب "كلا من يوم النوى، وفؤاد من لم يعشق" أصلا في السواد كذلك. تنبيهان: الأول: مما تقدم في تعريف وجه الشبه, وتقسيمه إلى تحقيقي وتخييلي, يتبين أنه لا بد من وجوده في الطرفين تحقيقا، أو تخييلا. فإذا لم يوجد في الطرفين على إحدى هاتين الصفتين لم يصح

جعله وجه شبه, وإذًا لا يصح أن يكون وجه الشبه في قوله: "النحو في الكلام كالملح في الطعام" كون القليل مصلحا, والكثير مفسدا؛ لأنه المشبه، وهو "النحو" لا يشترك مع المشبه به في هذا المعنى؛ إذ لا يحتمل قلة ولا كثرة، بل هو عبارة عن أن تراعى قواعده، وأحكامه من رفع الفاعل، ونصب المفعول فإن تحقق ذلك في الكلام كان صالحا، وإلا كان فاسدا, أما المشبه به وهو "الملح" فيحتمل القلة والكثرة، والقليل منه مصلح، والكثير مفسد؛ وحينئذ لا يصح جعل "كون القليل مصلحا، والكثير مفسدا" وجه شبه لعدم تحققه في كلا الطرفين لا تحقيقا ولا تخييلا, بل وجه الشبه بينهما هو: "الصلاح إذا استعملا، والفساد إذا أهملا" وهذا المعنى "لا شك" موجود في الطرفين ا. هـ. الثاني: قد يكون وجه الشبه في أحد الطرفين ادعائيا، وفي الآخر حقيقيا كما يقال للجبان: هو أسد، وللبخيل: هو حاتم. فوجه الشبه بين الطرفين في الأول "الشجاعة"، وفي الثاني "الجود", وليس من شك أن الشجاعة في الجبان، والجود في البخيل, كلاهما أمر ادعائي ليس غير. ومثل هذا الكلام -في ظاهره- غير صحيح؛ لأن وجه الشبه -كما قلنا- لا بد أن يكون معنى مشتركا بين الطرفين، والطرفان "في المثال الأول" لم يشتركا في معنى "الشجاعة" لانعدامه في الجبان, كما لم يشتركا في معنى "الجود" في المثال الثاني؛ لانعدامه في البخيل فلا مندوحة إذًا من توجيه يصح به مثل هذا التشبيه. وتوجيه ذلك: أن ينزل التضاد بين الطرفين المتضادين منزلة التناسب بينهما، وإبراز الخسيس في صورة الشريف, فيجعل "الجبن" مثلا بمنزلة الشجاعة، والبخل بمثابة الجود، ويعتبر الجبان شجاعا, والبخيل جوادا لغرض ما، وبهذا التأويل صح أن يكون الوجه في الأول "الشجاعة"، وفي الثاني "الجود"، ووضح اشتراك الطرفين

في الوجه, ويسمى مثل هذا النوع من التشبيه "تشبيه التضاد". غير أنه لا بد لتنزيل التضاد منزلة التناسب من غرض صحيح يدعو إليه, وإلا كان الكلام ضربا من الهذيان، وذلك الغرض هو التهكم والسخرية، أو التظرف والتمليح1، وبغير ذلك لا يتم التنزيل المذكور، ولا يعتبر. فإذا قلت مثلا: "ما أشبه البخيل بحاتم"! أو ما أشبه العيي بسحبان وائل، منزلا التضاد بينهما منزلة التناسب؛ فلا بد أن يكون ذلك منك على سبيل التهكم والسخرية، أو التظرف والتمليح. أما ما قيل من أن وجه الشبه في نحو هذين المثالين هو "التضاد" أي: كون كل منهما مضادا للآخر؛ لأنه المعنى المشترك بين الطرفين, فهو قول لا يعدو صماخ الأذن؛ إذ من المعلوم بداهة: أن كلا من المتضادين مضاد للآخر ومقابل له كما في قولنا: "السواد كالبياض في التضاد"، و"العدم كالوجود في التقابل". وهكذا ومثل هذا التشبيه من لغو القول ينبغي أن يبرأ منه كلام البليغ, على أنه لو كان الأمر كذلك لم يكن للتهكم أو التظرف معنى؛ إذ لا تهكم أو تظرف في أن يشبه أحد المتضادين بالآخر في معنى التضاد؛ لأن هذا لا يعدو الواقع الملموس، وإنما يكون التهكم أو التمليح حيث يدعى للجبان شجاعة، وللبخيل جود، بعد تنزيل التضاد بينهما منزلة التناسب كما رأيت ا. هـ. اختبار وتمرين: 1- عرف وجه الشبه، وهل كل معنى بين الطرفين يصح جعله موضع اشتراك؟ وجه ما تقول، مع التمثيل.

_ 1 يفرق بينهما بحسب المقام, فإن رمى المتكلم إلى السخرية والاستهزاء فتهكم, وإن كان متظرفا فتمليح.

2- افرق بين التشبيه التحقيقي والتخييلي، ثم ائت بتشبيه يكون أحد الطرفين فيه حسيا، والوجه عقليا، وبآخر يكون الوجه في أحد الطرفين تخييليا. 3- الشأن في ملح الطعام أن يكون القليل منه مصلحا، والكثير مفسدا, فهل يصح جعل هذا الوصف وجه شبه بينه وبين النحو في قولهم: النحو في الكلام كالملح في الطعام؟ وجه ما تقول، ثم اذكر ما تراه يصلح وجه شبه. 4- بين وجه الشبه، ونوع قيامه بكل من الطرفين من حيث تحققه، أو تخيله، أو ادعاؤه فيما يأتي: "1" ثوب المخلص كقلبه. "2" باقل كسحبان. "3" الحياة كسحابة صيف. "4" فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا جواب التمرين: 1- وجه الشبه هو البياض وهو في المشبه حقيقي، وفي المشبه به تخييلي, فإن القلوب ليست من ذوات الألوان وقد جعل القلب مشبها به لاعتباره أصلا في البياض مبالغة. 2- وجه الشبه الفصاحة وهو في المشبه ادعائي، وفي المشبه به حقيقي بتنزيل التضاد بين الطرفين منزلة التناسب، وجعل العي بمثابة الفصاحة تهكما أو تمليحا. 3- وجه الشبه عدم الثبات وهو قائم بالطرفين حقيقة. 4- وجه الشبه هيئة اجتماع بياض بسواد, إذ قد شبه الشاعر النار والفحم مجتمعين بالعدل والظلم مجتمعين كذلك في الهيئة المذكورة, وهي قائمة بالمشبه حقيقة، وبالمشبه به تخيلا, بعد اعتباره أصلا في هذه الهيئة يقاس عليه مبالغة.

التقسيم الثاني

التقسيم الثاني: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى ثلاثة أقسام: 1- ما يكون وجه الشبه فيه شيئا واحدا1. 2- ما يكون الوجه فيه مركبا منزلا منزلة الواحد. 3- ما يكون الوجه فيه متعددا. فالوجه الواحد: ما لا تركب فيه ولا تعدد "كالحمرة" في قولك: "خده كالورد" و"كالنعومة" في قولك: "لها بشر مثل الحرير"، و"كالحلاوة" في قولك: "تفاحك كالعسل"، و"كالكرم" في قولك: محمد كحاتم، و"كالهداية" في قولك: العلماء العاملون كالنجوم, فوجه الشبه في هذه المثل جميعها شيء واحد كما رأيت. والمركب المنزل منزلة الواحد: ما كان مركبا من متعدد تركيبا اعتباريا, بأن يقصد إلى عدة أوصاف لشيئين، فتنتزع منها هيئة تعمهما بحيث لا يصلح واحد منها على انفراده وجه شبه، وبحيث لو سقط واحد منها لم يتم التشبيه, كما في قول بشار المتقدم: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه فإن وجه الشبه -على ما سبق- مجموع الهيئة المنتزعة من هوي أجرام مشرقة، مستطيلة الأشكال، متناثرة في جوانب شيء مظلم, ولا يصح "في العرف البلاغي" جعل واحد من هذه الأشياء وجه شبه على حدة؛ لأن القصد تشبيه الطرفين في هذه الهيئة المجتمعة, كما لا يصح إسقاط واحد منها "في اعتبار المتكلم" لصيرورة الهيئة وحدة متضامة الأجزاء. ومثله قول الشاعر: والبدر في كبد السماء كدرهم ... ملقى على ديباجة زرقاء

_ 1 المراد بالواحد: ما يعد في العرف واحدا.

فوجه الشبه -كما ترى- مجموع الهيئة المركبة من عدة أمور: هي ظهور صورة مشرقة مستديرة بيضاء، في رقعة مبسوطة زرقاء, ولا يصح في "الذوق البلاغي" اعتبار أحد هذه الأمور وجه شبه على استقلاله, كما لا يصح فصل أحدها عن مجموع الهيئة. وإنما نزل هذا القسم منزلة الواحد؛ لأن الوجه فيه مركب من أشياء تضامت، وتلاصقت حتى صارت كالشيء الواحد لا يقبل التجزئة, وإنما لم يكن واحدا حقيقة لتركبه من جملة أمور، ولا تركب في الواحد. وقد شرطنا في المنزل منزلة الواحد أن يكون تركيبه اعتباريا ليخرج ما كان مركبا من متعدد تركيبا حقيقيا كالحقيقة الإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية في مثل قولك: "عباس كفؤاد في الإنسانية" فإن هذا الوجه من قبيل الواحد، لا من قبيل المنزل منزلته؛ لأنه مركب من جزأين صارا بهذا التركيب شيئا واحدا في الخارج، قائما بذاته, بخلاف الوجه في نحو ما في بيت "بشار"، فإن الأمور التي تكونت منها تلك الهيئة السابقة لا يلتئم من مجموعها حقيقة واحدة قائمة بذاتها كالحقيقة الإنسانية, وإنما هي أمر اعتباري لاحظه المتكلم من اجتماع أمور انتزعها العقل من الطرفين. ولو أننا اعتبرنا المركب الحقيقي في موضوع المسألة لكان أمثال قولك: "عباس كفؤاد" من قبيل تشبيه المركب بمثله, إذ إن كلا من الطرفين مركب من حيوانية وناطقية, ولا قائل به. والوجه المتعدد ما كان عدة أمور جعل كل منها وجه شبه على حدة, كما في قولك: هذه الفاكهة كالتي أكلناها أمس في الطعم، واللون، والرائحة، وكما في قولك: محمد كأخيه في الطول، والرشاقة، والوسامة، ومثله في الحلم والكرم، والذكاء. فوجه الشبه في هذه المثل أمور متعددة, كل منها يصلح أن يكون وجه شبه على انفراده, إذ ليس القصد تشبيه الطرفين في الهيئة المركبة من هذه الأمور، بل في كل واحد منها.

تنبيهان: الأول: مما تقدم يعلم أن الفرق بين الوجه المركب من عدة أشياء, وبين المتعدد هو أن المركب منظور فيه إلى مجموع الأشياء، والهيئة المركبة منها بحيث تصير وحدة لا تتجزأ، وبحيث لو حذف أحد هذه الأشياء اختل التشبيه كما في قول بشار: "كأن مثار النقع ... " "البيت" فإن وجه الشبه -كما علمت- هو مجموعة الأمور السابقة, وهي سقوط الأجرام المشرقة, المستطيلة الأشكال, المتناثرة في جوانب شيء مظلم, فلو حذف من هذه المجموعة واحد كالإشراق، أو الاستطالة لم يتم التشبيه بين الطرفين. وكما في قول الآخر: "والبدر في كبد السماء ... " "البيت" فإن وجه الشبه فيه مجموعة الأشياء السابقة من ظهور صورة بيضاء مشرقة مستديرة في رقعة زرقاء, فلو حذف من هذه المجموعة واحد كالاستدارة، أو الإشراق لاختل التشبيه كذلك؛ ذلك أن الغرض تشبيه الطرفين في الهيئة التركيبية المتضامة الأجزاء. أما الوجه المتعدد, فإن المنظور فيه إلى أمور متعددة يقصد جعل كل واحد منها على استقلاله وجه شبه -عكس الأول- بحيث لو حذف أحدها، أو قدم, أو أخر لم يختل التشبيه كما في المثال السابق في تشبيه فاكهة بأخرى في الطعم، والرائحة، واللون, فإنك لو حذفت اللون مثلا، أو الطعم لم يختل التشبيه؛ إذ ليس الغرض أن يجعل وجه الشبه الهيئة الحاصلة من مجموع هذه الأمور، بل المراد جعل كل واحد منها وجه شبه، من غير أن يتقيد أحدها بالآخر. ويتبين لك الفرق بينهما جليا في قول الشاعر: كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت1

_ 1 كما أبرقت, الكاف للتشبيه وما مصدرية وأبرقت بمعنى ظهرت وعرضت, وفي الأساس: أبرقت لي فلانة, إذا تحسَّنت وازَّيَّنت, وهو من باب الحذف والإيصال, فقوله: أبرقت قوما أي: أبرقت لقوم و"أقشعت" بمعنى أقلعت وذهبت.

شبه الشاعر حال من ظهر له شيء هو في غاية الحاجة إليه، وقد علق به رجاءه، ثم ما لبث أن فوجئ بفقدانه، أو ذهابه إلى حيث لا أمل فيه بحال قوم عطاش عرضت لهم غمامة هم أشد ما يكون حاجة إليها، وما إن رجوها أن تمطرهم حتى انقشعت عنهم، وذهبت وتركتهم في حيرة ويأس, ووجه الشبه الهيئة الحادثة من الشيء يكون أوله مطمعا مغريا، وآخره مخيبا موئسا. فأنت ترى أن الوجه منتزع من أمرين متصلين: ابتداء مطمع، وانتهاء موئس, والشطر الأول من البيت المذكور إنما تضمن الأمر الأول إذ معناه: أن الغمامة ظهرت لقوم يرجون الماء لشدة حاجتهم إليه فقد أطمعتهم أول الأمر حين عرضت لهم. أما الأمر الثاني وهو الانتهاء الموئس, فقد تكفل به الشطر الثاني إذ معناه: أن الغمامة خذلتهم، وتولت عنهم حين التمسوها فكانت الحال نهاية موئسة. وإذ علمت هذا: تعلم أنه لا يتأتى انتزاع وجه الشبه من الشطر الأول فقط؛ لأن الوجه -كما عرفت- مركب من الأمرين معا، فلا بد أن ينتزع من الشطرين جميعا ولو اقتصر فيه على الشطر الاول لاختل التشبيه؛ لعدم وفاء هذا الشطر بالمعنى المراد. وهذا بخلاف التشبيه المتعدد كما في المثال السابق في تشبيه فاكهة بأخرى، أو كما في قولنا: "محمد كالأسد في ضخامته، وزئيره، وإقدامه" فإن القصد فيه إلى تشبيهه بالأسد في كل واحد من هذه الأمور الثلاثة بحيث لو ترك أحدها, لم يتغير حال الباقي في إفادة معناه ا. هـ. الثاني: اعلم أنه إذا كان وجه الشبه مركبا وجب أن يكون الطرفان مركبين، أو مقيدين، أو أحدهما مركبا، والآخر مقيدا ولو تقديرا؛ ذلك أن وجه الشبه قائم بالطرفين، منتزع منهما، وليس معقولا أن تقوم هيئة مركبة من عدة أمور بشيء واحد، أو أن تنتزع

من شيء واحد. فوجه الشبه في بيت بشار المتقدم هو الهيئة المركبة من عدة أمور سبق بيانها غير مرة، وتلك الهيئة لا يمكن أن تقوم بشيء واحد، ولا أن تنتزع منه. كذلك وجه الشبه في قول الشاعر السابق: إني وتزييني بمدحي معشرا "البيت" هو هيئة من يضع الشيء في موضع ليس أهلا له, وهذا المعنى التركيبي -وقد سبق بيانه- لا يمكن أن يقوم بأحد الطرفين مجردا عما لوحظ فيه من قيود. كذلك وجه الشبه في تشبيه الشمس بالمرآة في يد رعشاء هو الهيئة السابق ذكرها، وأحد الطرفين وهو الشمس -وإن أفراد لفظا- مقيد معنى بجملة قيود هي الإشراق المتموج، والحركة السريعة المتصلة، والاستدارة، وبهذا صح أن يكون منزعا للهيئة المذكورة ا. هـ. اختبار: 1- افرق بين الوجه المركب والمتعدد، ووضح ذلك بالأمثلة توضيحا تاما، واذكر لِمَ كان المركب منزلا منزلة الواحد، ولم يكن واحدا حقيقة؟ 2- قالوا: إذا كان وجه الشبه مركبا فالطرفان إما مركبان, أو مقيدان، أو مختلفان، ولا يصح أن يكون أحدهما، أو كلاهما مفردا. علل لهذه القاعدة، موضحا ما تقول بالمثال. 3- ائت بتشبيهات أربعة، فيها الوجه مركب؛ إما مع طرفين مركبين كذلك، أو مفردين مقيدين، أو مختلفين. 4- قالوا: إن وجه الشبه في نحو قول بشار: "كأن مثار النقع ... " "البيت" من قبيل المركب, فهل يصح تحويله إلى تشبيه متعدد، فيشبه النقع المثار بالليل والسيوف اللامعة بالكواكب؟ علل لما تقول. 5- علامَ استشهد الخطيب في تلخيصه بقول الشاعر: كما أبرقت قوما عطاشا سحابة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت؟

التقسيم الثالث

التقسيم الثالث: 1- أن يكون وجه الشبه فيه حسيا, أي: مدركا بالحس الظاهر، مفردا كان، أو مركبا، أو متعددا. فالمفرد الحسي "كالإشراق" في قولك: "له وجه كالبدر"، و"كالملاسة" في قولك: "له خد كصفحة المرمر" و"كالطيب" في قولك: له عرف كأريج العنبر, إلى آخر ما تقدم من الأمثلة في الأمور الحسية. والمركب الحسي يكون طرفاه مركبين، أو مفردين مقيدين، أو مختلفين؛ فالمركب ذو الطرفين المركبين كما في قول بشار السابق: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه فإن وجه الشبه فيه -على ما سبق- هو الهيئة الحاصلة من تساقط أجرام مشرقة، مستطيلة، متناسبة المقادير، متناثرة، في أثناء شيء مظلم، وهذه الهيئة حسية تدرك أجزاؤها بحاسة البصر, والطرفان مركبان -كما ترى- إذ لم يقصد تشبيه النقع بالليل، أو السيوف بالكواكب، بل قصد إلى تشبيه الهيئة بالهيئة كما سبق بيانه. والمركب الحسي ذو الطرفين المقيدين, كما في قول قيس بن الخطيم: وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا1

_ 1 "الثريا": اسم لمجموعة من النجوم متقاربة على شكل خاص, و"الملاحية" بضم الميم وتخفيف اللام وقد تشدد كما هنا: عنب أبيض في حبه طول, ومعنى "نور" تفتح نوره, وقيل: معناه: أدرك وهو أظهر والإضافة بيانية.

فإن وجه الشبه فيه هيئة اجتماع صور بيض مستديرة، صغار المقادير، في رأي العين، على وضع خاص1. وهذه الهيئة حسية، والطرفان هنا "الثريا والعنقود" وهما مفردان روعي في كل منهما قيده الخاص, ففي الأول روعي كونه في وقت الصبح، وفي الثاني روعي كونه عنقود ملاحية حين تفتح نوره. والمركب الحسي ذو الطرفين المختلفين, إفرادا وتركيبا كما في قول الصنوبري: وكأن محمر الشقيـ ... ـق إذا تصوب أو تصعد أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد فإن وجه الشبه فيه هيئة الأجرام الحمر، المنشورة على رءوس أجرام مستطيلة خضر, وهذه الهيئة حسية تدرك بحاسة البصر، والمشبه -كما ترى- مفرد؛ لأنه اسم لمسمى واحد هو "الشقيق"، ولكن روعي فيه قيوده من الاحمرار، والتصوب والتصعد، والمشبه به مركب؛ لأن القصد فيه إلى هيئة الأعلام الياقوتية، المنشورة على الرماح الزبرجدية. وكما تقدم في عكسه من قول أبي تمام: يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجه الأرض كيف تصور تريا نهارا مشمسا قد شبه ... زهر الربا فكأنما هو "مقمر" فإن وجه الشبه فيه هيئة اختلاط شيء أسود بشيء أبيض مشرق, وهذا الوجه مما يدرك أيضا بحاسة البصر, والمشبه مركب لأن القصد فيه -كما سبق- إلى هيئة النهار المشمس، خالطه زهر الربا، فنقص من ضوئه والمشبه به وهو "الليل" مفرد مقيد بالوصف المذكور. لكن قد يقال: إن وجه الشبه هو المعنى الذي يشترك فيه الطرفان، فينبغي إذًا أن يكون كليا ليتأتى فيه معنى الاشتراك،

_ 1 أي: لا هي منضمة شديدة الانضمام، ولا هي مبتعدة شديدة الابتعاد.

والحسي -وهو المدرك بإحدى الحواس- لا بد من وجوده في جسم معين خارجا, حتى يتأتى إدراكه بالحاسة كالحمرة القائمة بخد معين، وورد معين, ومثل هذا لا يكون إلا جزئيا والجزئي لا يتأتى فيه الاشتراك فلا يصح أن يكون وجه شبه. ويجاب: بأن لا نزاع في أن وجه الشبه لا يكون إلا كليا ضرورة اشتراك الطرفين فيه, فوجه الشبه في نحو قولك: "خده كالورد" هو "مطلق حمرة" وهو معنى كلي لا يدركه إلا العقل، ولا مدخل للحواس فيه, غير أن الموصوف بالحسية إنما هو جزئيات هذا الكلي كحمرة هذا الخد المشاهد، وحمرة هذا الورد المعين؛ وحينئذ فإطلاق وصف الحسية على وجه الشبه الذي هو مطلق حمرة فيه نوع تسامح من إطلاق ما للجزئي على الكلي. والمتعدد الحسي ما تقدم في تشبيه فاكهة بأخرى في الطعم, والرائحة، واللون, فوجه الشبه لكل واحد من هذه الأمور الثلاثة، وجميعها حسي، يدرك الأول منها بحاسة الذوق، والثاني بحاسة الشم، والثالث بحاسة البصر. 2- أن يكون وجه الشبه عقليا أي: مدركا بالعقل، واحدا كان، أو مركبا، أو متعددا. فالوجه الواحد العقلي, طرفاه إما: عقليان، أو حسيان، أو مختلفان. فالواحد العقلي ذو الطرفين العقليين "كعدم النفع" في قولك: "وجود فلان كعدمه"، و"كعظم الفائدة" في قولك: "العلم كالحياة". والواحد العقلي ذو الطرفين الحسيين "كالهداية" في قول النبي صلى الله عليه وسلم: $"أصحابي كالنجوم, بأيهم اقتديتم اهتديتم"، و"كالرسوخ" في قولك: "فلان كالجبل". والواحد العقلي ذو الطرفين المختلفين حسا وعقلا "كالهداية" في قولك: "العلم كالنور"، فالمشبه عقلي، والمشبه به حسي,

و"كاستطابة النفس" في قولك: "العطر كالخلق الكريم" فالمشبه حسي, والمشبه به عقلي عكس الأول، والوجه في الجميع عقلي كما رأيت. والمركب العقلي كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} . شبه حال اليهود المنتزعة من حملهم للتوراة، بمعنى تكليفهم العمل بها، وكون المحمول مستودع العلم النافع لهم، وعدم حملهم لها بمعنى عدم العمل بمقتضاها، والانتفاع بما فيها، مع تحملهم ما طلب إليهم، مما يثقل عليهم، ويشق على نفوسهم, شبه هذه الحال بحال الحمار المنتزعة من حمله أوعية العلوم، ومستودع ثمار العقول، وعدم انتفاعه بما يحمل، مع معاناته مشاق الحمل. ووجه الشبه بين الحالين هو هيئة الحرمان من الانتفاع بأبلغ نافع، مع معاناة الكد في استصحابه. وهذه الهيئة أمر عقلي انتزع من عدة أمور كذلك1. ومثل الآية الكريمة قول الشاعر: والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء2 بالنار شبه حال من أصابته شدة، فالتجأ إلى عمرو طمعا في الاحتماء به, فإذا عمرو أشد خطرا مما وقع فيه بحال من لذعته الرمضاء، فالتجأ إلى ما هو أشد لذعة، وأنكى ألما. ووجه الشبه هيئة الالتجاء من

_ 1 وإنما كان الوجه منتزعا من أمور عقلية؛ لأنه روعي في جانب اليهود حمل خاص هو التكليف، وحرمان من الانتفاع بما كلفوا به، ومعاناة كد فيما حملوه, وكل هذه الأشياء أمور عقلية، وروعي مثل ذلك في جانب الحمار غير أن الحمل في جانبه حسي؛ لأن المراد منه الحمل على الظهر بخلافه في جانب اليهود, فإن المراد منه التكليف والطلب، وكون بعض الأمور المنتزع منها حسيا لا يؤثر في عقلية المنتزع. 2 هي الأرض ذات الحرارة الشديدة, من الرمض -بفتح الراء والميم- وهو شدة وقع الشمس على الرمل.

الضار إلى ما هو أضر منه؛ طمعا في النجاء, فمجموع الهيئة هو الالتجاء إلى ما هو أضر, والطمع في الانتفاع به، وهما -كما ترى- أمران عقليان. والمتعدد العقلي كما في قولك: محمد كأبيه في شجاعته، وحلمه، وإيمانه, فوجه الشبه كل واحد من هذه الأمور الثلاثة, والجميع مما لا يدرك بغير العقل. 3- أن يكون الوجه مختلفا؛ بعضه حسي وبعضه عقلي, كما في وجه الشبه المتعدد, كأن تشبه رجلا بآخر في طوله وجسامته، وحلمه وشهامته, فوجه الشبه كل واحد من هذه الأمور الأربعة, غير أن الأولين منها حسيان، والآخرين عقليان. تنبيهان: الأول: أن الوجه المختلف حسا وعقلا كما يكون في المتعدد -كما مثلنا- يكون كذلك في المركب المنزل منزلة الواحد باعتبار الأجزاء التي تركب منها, كما في تشبيه الحسناء الوضيعة الأصل بخضراء الدمن1 في حسن المنظر مع سوء المخبر, فإن وجه الشبه مجموع الأمرين المذكورين, وأحدهما حسي, والآخر عقلي. غير أن علماء البيان يعتبرون المركب من حسي وعقلي من قبيل العقلي بتغليب العقل على الحس لاتساع أفقه, إذ يدرك المحسوسات والمعقولات بخلاف الحواس فلا تدرك غير ما وقع تحت الحس, فالمركب حينئذ إما حسي فقط، أو عقلي فقط كما هو الشأن في الوجه المفرد, أما الوجه المتعدد فإن فيه الأنواع الثلاثة كما عرفت ا. هـ.

_ 1 هي شجرة تنبت في معاطن الدواب, تكون ناضرة بهيجة، ولكن لا ثمر فيها.

الثاني: مما تقدم من الأمثلة تعلم أن الوجه إذا كان حسيا، مفردا كان، أو مركبا، أو متعددا, أو كان بعضه حسيا كما في المتعدد المختلف، أو المركب المختلف؛ وجب أن يكون الطرفان حسيين أيضا. أما الأول فلأحد سببين: "أحدهما": أنه لا بد من قيام وجه الشبه بالطرفين تحقيقا للتشارك بينهما، والحسي لا يقوم بغير الحسي "فالبياض" مثلا مما يدرك بحاسة البصر. فلو جعل مشتركا بين شيئين وجب أن يكونا من المبصرات حتى يتأتى قيام البياض بهما. كذلك "الملاسة" مما تدرك بحاسة اللمس، فلو جعلت موضع اشتراك بين شيئين وجب أن يكونا من الملموسات حتى يتأتى قيام الملاسة بهما, وهكذا يقال في سائر المحسات. "ثانيهما": أنه لا بد من إدراك الوجه في الطرفين ليتحقق لنا التشارك فيه، والحواس لا تدرك غير المحسات, فحاسة البصر مثلا لا تدرك إلا ما كان مبصرا، وحاسة السمع لا تدرك إلا ما كان مسموعا, وحاسة اللمس لا تدرك إلا ما كان ملموسا. وهكذا ومحال أن تدرك هذه الحواس شيئا من المعقولات، فلا تبصر العين معنى "الكرم"، ولا تلمس اليد معنى "الشجاعة" ولا تشم الأنف معنى "الحلم". وأما الثاني -وهو ما كان بعضه حسيا وبعضه عقليا- كما في الوجه المتعدد أو المركب؛ فلأنه لا بد من قيام كل واحد من ذلك المتعدد, أو كل جزء من ذلك المركب بالطرفين، أو إدراكه فيهما -كما قلنا- ويمتنع بداهة قيام الحسي بالعقلي، أو إدراكه فيه كما بينا. أما الوجه العقلي فيصح -على ما تقدم- أن يكون طرفاه عقليين، أو حسيين، أو مختلفين. فالعقليان كأن تشبه وجود الجاهل بعدمه في الخلو من الفائدة، والحسيان كأن تشبه قوي البأس

بالجبل في الصمود، والمختلفان كأن تشبه السيرة الحميدة بأريج المسك، أو العكس كأن تشبه أريج المسك بالسيرة الحميدة في ارتياح النفس لهما. فالطرفان في هذه المثل ما بين حسيين, وعقليين, ومختلفين، ووجه الشبه في الجميع عقلي كما رأيت. وإنما صح هذا التعميم في الوجه العقلي؛ لجواز قيام المعقول بالمحسوس، كقيام معنى الفصاحة بسحبان، وقيام معنى الشاعرية بحسان، ولجواز أن يدرك العقل أمرا معقولا في شيء محسوس, كإدراك معنى "الشجاعة" في خالد بن الوليد، وإدراك معنى "الجود" في حاتم.

فصل في الوجه المركب الحسي

فصل في الوجه المركب الحسي: للوجه المركب الحسي صور بديعة رائعة، ذلك أنه قد ينتزع الوجه المذكور من هيئة حركة الجسم، أو من هيئة سكونه. والأول ضربان: 1- أن يراعى مع الحركة شيء من أوصاف الجسم كالشكل، واللون، فيكون الوجه منتزعا من مجموع الأمرين؛ حركة الجسم، وشيء من أوصافه كما في قول الراجز المتقدم: والشمس كالمرآة في كف الأشل فإن وجه الشبه -كما سبق- هو الهيئة المنتزعة من الحركة المتصلة، مع الاستدارة، والإشراق المتموج المضطرب. فأنت تراه قد اعتبر مع حركة الجسم استدارته، وأنه ذو شعاع براق متموج حتى أحدث هذا المنظر العجيب في مرأى العين من انبساط تارة، وانقباض أخرى. وإنك لو أنعمت النظر في الشمس لتتبين جرمها

وجدتها مؤدية هذه الهيئة كما تؤديها المرآة في كف الأشل1. ومثله قول الوزير المهلبي: والشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب فإن البوتقة إذا أحميت، وذاب فيها الذهب تشكل بشكلها في الاستدارة, وأخذ يتحرك بجملته تلك الحركة العجيبة, إذ يخيل إليك: أنه ينبسط حتى يوشك أن يفيض من جوانبها لما في طبعه من النعومة، ثم تراه كأنه يعود إلى الانقباض لما بين أجزائه من التماسك والاتصال، فقد اعتبر هنا أيضا مع حركة الجسم المذكورة وصفه من حيث استدارته، وإشراقه، وانتزع الوجه من مجموع الأمرين كالذي قبله. 2- ألا يراعى مع الحركة شيء من أوصاف الجسم، فيكون الوجه منتزعا من حركة الجسم وحدها، ولا بد في هذا الضرب من وجود حركات2 كثيرة إلى جهات مختلفة؛ ليتحقق معنى التركيب في قول ابن المعتز الخليفة العباسي: وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا3 فالمشبه "البرق" وهو مفرد مقيد تقديرا، والمشبه به "المصحف"

_ 1 غير أننا نعلم أن الحركة السريعة في الشمس وشعاعها أمر خيالي؛ لأنا نقطع بأن حركة الشمس ليست على ما نتخيل, ولولا هذا التخيل لرئيت كالثابتة, بخلاف الحال في المرآة في كف الأشل, فإن الحركة السريعة المتصلة فيها أمر حقيقي. 2 خرج بذلك حركة الرحى أو السهم فلا تركيب فيها؛ لأنها في اتجاه واحد, على أنه لو روعي مع هذه الحركة وصف الجسم من الاستقامة أو الاستدارة, وانتزع الوجه من المجموع, كان مركبا. 3 قار بحذف الهمزة أي: قارئ, والفاء في قوله: "فانطباقا" لتعليل التشبيه المستفاد من "كأن"، أو لبيان وجه الشبه بين البرق والمصحف.

وهو مفرد مقيد بإضافته إلى القارئ, ووجه الشبه هيئة مجموع الحركات المختلفة باختلاف الجهات, غير أن هذه الهيئة تحقيقية في المصحف، تخييلية في البرق, إذ لا انفتاح فيه، ولا انطباق حقيقة وإنما هو ظهور يعقبه خفاء والعكس, إلا أنه يشبه في هذه الحالة المصحف، يفتحه القارئ تارة، ويطبقه أخرى. فهو -كما ترى- لم يعتبر في الهيئة المنتزعة شيئا من أوصاف الجسم، وإنما راعى فقط تلك الحركات المختلفة النواحي عند انفتاح المصحف وانطباقه، وعند ظهور البرق واختفائه. ولا شك أن المصحف يتحرك في كل من حالتي الانفتاح والانطباق إلى جهات مختلفة، فبعضه يتحرك إلى اليمين وبعضه إلى اليسار، ومجموعه إلى العلو حالة الانطباق، وإلى السفل حالة الانفتاح, وكذلك حال البرق في ظهوره وخفائه في مرأى العين. ومثله تماما قول الشاعر: والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا ونظير ذلك قول الشاعر يصف روضة: حفت بسرو كالقيان تلحفت ... خضر الحرير على قوام معتدل فكأنها والريح تخطر بينها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل1 فوجه الشبه في البيت الثاني منتزع من هيئة حركة التهيؤ للدنوّ بغية العناق، وحركة الرجوع سريعا إلى أصل الافتراق، وتكررهما مرة بعد أخرى، فقد اعتبر في انتزاع الوجه مجرد هذه الحركات، دون مراعاة شيء آخر من أوصاف الجسم2.

_ 1 السرو: شجر له رواء وليس له ثمر, و"القيان" جمع قينة، وهي الجارية، مغنية كانت أو غير مغنية, و"التلحف": اتخاذ الشيء لحافا، والقوام: القامة. 2 هو تخيل غاية في البداعة, فقد تخيل الشاعر هذا النبات والريح تعبث به فتميل بعضه إلى بعض, ثم لا يلبث أن يعود إلى طبيعته من الاعتدال, تخيله كأن جماعة الأحبة تريد أن تتعانق ثم لا تلبث أن يدركها الحياء, فيحول دون هذا العناق.

والثاني, وهو أن ينتزع الوجه المركب الحسي من هيئة سكون الجسم، ضربان كذلك: 1- أن يراعى مع هيئة السكون شيء من أوصاف الجسم، فيكون الوجه منتزعا من مجموع الأمرين: سكون الجسم، وشيء من أوصافه, كما في قول الشاعر يصف مصلوبا: كأنه عاشق قد مد صفحته ... يوم الوداع إلى توديع مرتحل أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتمطيه من الكسل1 فوجه الشبه "في البيت الأول" منتزع من هيئة سكون عنقه، وصفحته، ويديه حال امتدادهما، مع اصفرار الوجه. فقد اعتبر مع هيئة السكون المذكورة اصفرار اللون بالموت، وهو من أوصاف الجسم، وتلك هي حال العاشق المادّ عنقه، وصفحته، ويديه مفتوحتين لوداع معشوقه. ووجه الشبه "في البيت الثاني" منتزع من هيئة السكون السابقة، مع اصفرار اللون أيضا، واسترخاء الجسم. فقد اعتبر مع هذه الهيئة وصفان من أوصاف الجسم هما: اصفرار اللون، والاسترخاء، وتلك هي حالة القائم من النعاس متمطيا مواصلا تمطيه. 2- ألا يراعى مع هيئة السكون شيء من أوصاف الجسم، فيكون الوجه منتزعا من هيئة السكون وحده. ولا بد في هذا الضرب أيضا من تعدد أفراد هيئة السكون ليتحقق معنى التركيب في الوجه, كما في قول المتنبي يصف كلب الصيد حال جلوسه: يقعي جلوس البدوي المصطلي ... بأربع مجدولة لم تجدل2

_ 1 صفحة الرجل: جانب وجهه، واللوثة بضم اللام: الاسترخاء. 2 الإقعاء: الجلوس على الأليتين، والاصطلاء: الاستدفاء بالنار, ومجدولة: محكمة الخلق لم يجدلها إنسان، والغرض مدح الكلب بشدة الحرص.

فوجه الشبه منتزع من هيئة مواقع الأعضاء في إقعاء الكلب, وفي جلوس البدوي المصطلي, إذ يكون لكل عضو في الإقعاء، أو في الجلوس للاصطلاء موضع خاص، وللمجموع هيئة خاصة مؤلفة من تلك المواقع, ولم يراع في انتزاع الوجه شيء وراء ذلك من أوصاف الجسم, كما ترى. اختبار: 1- مثل لتشبيهين يكون وجه الشبه فيهما مفردا حسيا في أحدهما، وعقليا في الآخر. 2- قد يكون وجه الشبه مركبا حسيا, فما أنواع طرفي التشبيه حينئذ؟ مثل لما تقول، ثم مثل لتشبيهين يكون وجه الشبه فيهما عقليا مركبا تارة، ومتعددا أخرى. 3- كيف يصح جعل "الحمرة" مثلا وجه شبه في نحو قولك: خده كالورد، مع أن الحمرة معنى جزئي، ووجه الشبه ينبغي أن يكون كليا ليتأتى الاشتراك فيه؟ وضح ما تقول بالمثال. 4- من أي قبيل يكون الوجه المركب من حسي وعقلي كما في تشبيه الحسناء الوضيعة الأصل بخضراء الدمن قبيل الوجه العقلي أو الحسي؟ علل لما تذكر. 5- لماذا أوجبوا في الوجه الحسي أن يكون الطرفان حسيين؟ ولماذا عمّموا في الوجه العقلي؟ مثل في تعليلك بما يوضح المقام. 6- للوجه المركب الحسي أنواع بديعة, فصل القول في تلك الأنواع مع التمثيل.

التقسيم الرابع

التقسيم الرابع: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى قسمين: تمثيل، وغير تمثيل. فالتمثيل: ما كان وجه الشبه فيه هيئة منتزعة من عدة أمور1، حسيا كان ذلك الوجه، أو غير حسي. فالحسي كما مر في تشبيه مثار النقع مع الأسياف بليل تتهاوى كواكبه، وتشبيه الثريا بعنقود الملاحية حين نور، وتشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل، وتشبيه البدر في كبد السماء بدرهم ملقى على ديباجة زرقاء، وغير ذلك من كل ما فيه الوجه منتزع من أمور حسية. وغير الحسي ما مر في تشبيه حال اليهود بحال الحمار, فإن وجه الشبه -كما سبق- منتزع من أمور عقلية هي الحرمان من الانتفاع بأبلغ نافع، مع معاناة المشاق في تحمله. ومثله ما سبق في تشبيه المستجير بعمرو بالمستجير بالنار, فإن وجه الشبه -كما عرفت- هيئة مركبة من أمرين عقليين هما: الالتجاء من الضار إلى ما هو أشد ضررا، والطمع في الاحتماء به. وغير التمثيل: ما لم يكن وجه الشبه هيئة منتزعة من متعدد، وبأن كان أمرا واحدا، أو متعددا. فالأول "كالنغم الحسن" في تشبيه صوت حسن بتغريد البلابل، وكالمضاء في تشبيه العزيمة بالسيف، وكالإشراق في تشبيه الحجة بالشمس، ونحو ذلك مما يكون وجه الشبه فيه شيئا واحدا لا تركيب فيه ولا تعدد. والثاني كما في تشبيه فاكهة بأخرى في الطعم، والرائحة، واللون, فإن وجه الشبه كل واحد من هذه الثلاثة، لا هيئة مركبة منها.

_ 1 أي: من أمرين أو أكثر, فالمراد بالجمع هنا ما فوق الواحد.

هذا هو مذهب جمهور البيانيين، فهم -كما عرفت- لا يفرقون في تشبيه التمثيل بين الحسي وغير الحسي، فالمدار عندهم على أن يكون الوجه هيئة مركبة من عدة أمور, أيا كان نوعها. وللسكاكي فيه مذهب؛ هو أن تشبيه التمثيل عنده خاص بما كان وجه الشبه فيه وصفا غير حقيقي، منتزعا من عدة أمور. ومعنى قوله غير حقيقي: أن يكون غير متحقق حسا ولا عقلا, بأن يكون أمرا اعتباريا وهميا إذ قال ما نصه: التشبيه متى كان وجهه وصفا غير حقيقي، وكان منتزعا من عدة أمور خص باسم "التمثيل"، وهذا يقتضي أن ما كان وجهه مركبا حسيا أو عقليا ليس من تشبيه التمثيل عنده، غير أننا لم نظفر بغير آية اليهود المتقدمة مثالا للتشبيه الاعتباري على مذهبه، وهي التي مثل بها القوم -فيما سبق- للتشبيه المركب العقلي، إذ قالوا: إن حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع معاناة الكدّ في استصحابه أمور متقررة في العقل، وليست من اختراعات القوة الوهمية. وحينئذ كان السكاكي يعتبر هذه الآية من قبيل التشبيه الاعتباري الوهمي، وأن هذه الأمور المذكورة التي انتزع منها الوجه مرجعها الوهم أي: لا وجود لها في غير الأوهام. وهذا الرأي -إن صح عن السكاكي- قد يتردد العقل في قبوله؛ لأنا نعلم أن الأشياء التي تركب منها الوجه "في آية اليهود" أمور موجودة متقررة في العقل، قائمة بالموصوف قياما حقيقيا، لا وهميا. فلعل السكاكي أراد بالتشبيه الاعتباري الوهمي ما تعلق بمعقول مطلقا، لا ما تعلق فقط بالاعتبارات المحضة، وبذلك يشمل العقلي والوهمي. وإذًا ينبغي أن يفسر قوله: "غير حقيقي" بغير حسي ليدخل فيه العقلي والوهمي, وبهذا التفسير يلتقي مذهبه بمذهب عبد القاهر القائل

بأن تشبيه التمثيل هو ألا يكون الوجه المركب فيه حسيا, بأن كان عقليا أو اعتباريا1. فالمذاهب إذًا ثلاثة: مذهب الجمهور، ومذهب عبد القاهر، ومذهب السكاكي2, والأول أعم الثلاثة، ويليه الثاني، وأخصها الأخير, على ما فهم من صريح قول السكاكي. أما غير التمثيل عند الشيخين فيختلف باختلاف مذهبهما في تشبيه التمثيل, فهو عند السكاكي -على ما فهم من صريح قوله- ما لا يكون وجه الشبه فيه هيئة منتزعة من متعدد، أو كان منتزعا من متعدد، وليس اعتباريا وهميا بأن كان وصفا حقيقيا -حسيا أو عقليا- وعند عبد القاهر: ما لا يكون وجه الشبه فيه هيئة منتزعة من متعدد، أو كان منتزعا من متعدد، ولكنه ليس عقليا، أو اعتباريا بأن كان حسيا. فمثل تشبيه مثار النقع، يتخلله بريق السيوق بليل تهاوى كواكبه، وتشبيه الثريا بعنقود الملاحية، وتشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل، وغير ذلك مما فيه الوجه منتزع من متعدد حسي. كل ذلك من قبيل تشبيه التمثيل عند الجمهور؛ لأن وجه الشبه فيها هيئة مركبة من عدة أمور, وليس من تشبيه التمثيل عند عبد القاهر، ولا عند السكاكي؛ لأن وجه الشبه فيها ليس مركبا عقليا، أو اعتباريا. وأما نحو التشبيه في آية اليهود السابقة، أو في قول الشاعر: والمستجير بعمرو عند كربته "البيت" مما يكون فيه الوجه مركبا عقليا, فمن تشبيه التمثيل عند الجمهور،

_ 1 كون الوجه المركب حسيا أو عقليا إنما هو باعتبار مادته المنتزع هو منها, وإلا فإن الهيئة المنتزعة أمر اعتباري لا وجود له. 2 ولصاحب الكشاف مذهب, وهو أن التشبيه والتمثيل مترادفان, فكل تشبيه عنده تمثيل ولو كان الوجه مفردا, وبهذا تتم المذاهب أربعة.

وعبد القاهر. أما الجمهور؛ فلأن وجه الشبه فيه هيئة منتزعة من متعدد على ما هو الشرط عندهم، وأما عبد القاهر؛ فلأن وجه الشبه فيه مركب عقلي، وليس من تشبيه التمثيل عند السكاكي، على ما فهم من صريح قوله؛ لأن وجه الشبه في مثل هذا التشبيه ليس مركبا اعتباريا. أما نحو تشبيه الخد بالورد في الحمرة من كل ما فيه الوجه شيء واحد, ونحو تشبيه الفاكهة بأخرى في الطعم والرائحة واللون من كل ما فيه الوجه متعدد, فليس من تشبيه التمثيل عند الجميع؛ لأن الوجه في الموضعين ليس هيئة منتزعة. اختبار: 1- عرف تشبيه التمثيل عند الجمهور، ومَثِّل له، وبين مذهب السكاكي فيه على ما يبدو من صريح كلامه، ثم على ما ينبغي أن يفهم منه، وافرق بينهما، وبين ما ذهب إليه الإمام عبد القاهر، مع التمثيل. 2- بين المذاهب الثلاثة في نحو قول الشاعر: كأن عيون النرجس الغضّ حولنا ... مداهن در حشوهن عقيق من كل تشبيه وجهه مركب حسي، وفي نحو آية اليهود من كل تشبيه وجهه مركب عقلي، مع توجيه كل مذهب، ومن أي قبيل في المذاهب الثلاثة قولك: وجه محمد كالبدر في الإشراق، ونحوه من كل تشبيه فيه الوجه ليس هيئة مركبة؟

التقسيم الخامس

التقسيم الخامس: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى قسمين: مفصل، ومجمل. فالمفصل: ما صرح فيه بذكر وجه الشبه على طريقته1، وهي أن يذكر مجرورا "بفي"، أو منصوبا على التمييز على معنى "في" كما تقول: "طبع فؤاد كالنسيم في رقته، أو رقة"، و"يده كالسحاب في الفيض، أو فيضا"، و"كلامه كالدر في الحسن، أو حسنا"، فكل هذه المثل من التشبيه المفصل للتصريح فيها بذكر الوجه، على نحو ما رأيت. ومن قبيل المفصل قولهم في تشبيه الكلام السهل، الخفيف على السمع: "ألفاظ كالعسل في الحلاوة" وفي تشبيه الحجة بالشمس: "حجة كالشمس في الوضوح"، فوجه الشبه في المثالين مذكور على طريقته، وهو قائم بالطرفين، غير أنه تخييلي في المشبه، تحقيقي في المشبه به -كما ترى- ولا ضير فيه2. والمجمل: ما لم يصرح فيه بذكر الوجه على طريقته، وهو باعتبار هذا الوجه قسمان:

_ 1 احترز به عن نحو قولهم: يد فؤاد كالنهر تفيض، ووجه هند كالبدر يضيء, فليس ذلك من قبيل المفصل؛ لعدم ذكر الوجه على طريقته من كونه مجرورا بفي, أو منصوبا على التمييز على ما مثلنا. 2 أما ما قيل من أن في مثل هذين المثالين تسامحا من حيث إن وجه الشبه لم يذكر, وإنما ذكر شيء يستلزمه، وهو "الحلاوة" في الأول و"الوضوح" في الثاني, فقول غير سديد؛ لأن ذكر "الحلاوة والوضوح" إن كان من قبيل التعبير بالملزوم عن اللازم الذي هو "ميل النفس" في الأول، و"زوال الحجاب" في الثاني كان من قبيل المجاز، ولا تسامح فيه؛ لأن الوجه مذكور, غاية الأمر أنه عبر عنه بملزومه, وإن لم يكن من المجاز فهو خطأ؛ إذ لا واسطة بين الحقيقة والمجاز غير الخطأ، ولا ينبغي حمل الكلام الفصيح على الخطأ.

1- ما يكون وجهه ظاهرا يستوي في إدراكه العامة والخاصة, كما في تشبيه الشعر بالفحم، والقدّ بالغصن، والوجه بالبدر. فأوجه الشبه في هذه المثل من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى إعمال فكر. 2- ما يكون وجهه خفيا، لا يدرك ببديهة النظر, بل يحتاج إلى تأمل وتعمل. مثاله ما روي أن فاطمة بنت الخرشب1 الأنمارية سُئِلت عن بنيها الأربعة: أيهم أفضل؟ فقالت: "هم كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفاها" تريد: هم في تناسبهم في الشرف، والشجاعة، وعدم تفاوتهم فيهما بحيث يمتنع تفضيل أحدهم على الآخر، كالحلقة المتصلة الجوانب، فإن أجزاءها متناسبة في الصورة، يمتنع تعيين بعضها طرفا، وبعضها وسطا. فوجه الشبه بين الطرفين هو "التناسب الكلي الخالي عن التفاوت"، وقد أشعر به قولها: "لا يدرى أين طرفاها"، غير أنه في المشبه تناسب في الشرف, وفي المشبه به تناسب في صورة الأجزاء، وهو -كما ترى- خفي دقيق، فوق متناول مدارك العامة, ولا يدركه إلا من ارتفع منهم إلى طبقة الخاصة.

_ 1 بضم الخاء والشين، وسبب هذا القول: أنها سئلت عن بنيها الأربعة، وهم: ربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظ، وأنس الفوارس, سئلت: أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة، ثم بدا لها غير هذا فقالت: لا بل فلان، ثم بدا لها غير هذا، فقالت: لا بل فلان، ثم قالت في حيرة: ثكلتهم إن علمت أيهم أفضل "هم كالحلقة المفرغة, لا يدرى أين طرفاها". وقيل: إنه من قول كعب الأشعري في وصف بني المهلب للحجاج حين قال له: كيف تركت الناس؟ فقال كعب: تركتهم بخير، أدركوا ما أملوا، وأمنوا مما خافوا، فقال الحجاج: فكيف بنو المهلب فيهم؟ فقال: هم حماة السرح نهارا، فإذا أليلوا ففرسان البيات، فقال الحجاج: فأيهم كان أنجد, أي أشجع؟ فقال كعب: هم كالحلقة المفرغة ... إلخ.

تنبيه: من هذا المثال السابق يتضح أن التشبيه المجمل لا يخرجه عن إجماله أن يذكر لأحد الطرفين وصف مشعر بوجه الشبه, كما في قول فاطمة بنت الخرشب، فإن قولها: "لا يدرى أين طرفاها" وصف للحلقة "المفرغة" التي هي المشبه به، وهو مشعر بوجه الشبه1 الذي هو "التناسب الكلي", إذ يفهم من عدم دراية الطرفين معنى التناسب في الأجزاء. ومثله قول زياد الأعجم: فإنا وما تلقي لنا أن هجوتنا ... لكالبحر "مهما تلق في البحر يغرق" يشبه زياد حال قومه -إذ يرميهم المخاطب بالنقيصة فلا تضرهم، ولا يظهر لها فيهم أثر لخطورة شأنهم-يشبههم بحال البحر العظيم، لا يتأثر بما يلقى فيه, ووجه الشبه هيئة الأمر الخطير لا ينال منه الحقير, وقوله: "مهما تلق في البحر يغرق" وصف للمشبه به مشعر بهذا الوجه. وقد يكون الوصف المشعر بالوجه خاصا بالمشبه, كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم, بأيهم اقتديتم اهتديتم" فوجه الشبه في الحديث "الهداية"، وقد أشعر به قوله: "بأيهم اقتديتم اهتديتم" وهو وصف خاص بالمشبه. ومثله أن تقول: "رأيت اليوم رجلا كالسحاب يعم نفعه"، و"شهدت إنسانا كالأسد يهابه من يحدثه". وقد يوصف كل من الطرفين بوصف مشعر بالوجه, كما في قول أبي تمام: صدفت عنه ولم تصدف مواهبه ... عني، وعاودني ظني فلم يخب

_ 1 لا يصلح أن يكون وجه شبه؛ لأنه وصف خاص بالحلقة، والوجه إنما يكون وصفا مشتركا بين الطرفين، وعلى طريقته من حيث وقوعه مجرورا "بفي" أو منصوبا على التمييز على معنى "في" كما علمت.

كالغيث إن جئته وافاك ريقه ... وإن ترحلت عنه لج في الطلب1 وصف الشاعر "الممدوح" الذي هو المشبه بأن عطاياه مغدقة سابغة عليه -أعرض عنه أو أقبل عليه- ثم وصف "الغيث" الذي هو المشبه به بأنه يصيبك -طلبته أو تجنبته- ووجه الشبه مطلق الإفاضة في الحالين2, والوصفان المذكوران مشعران بهذا الوجه. وصفوة القول: أن التشبيه المجمل: هو ما لم يذكر فيه وجه الشبه -ظاهرا كان ذلك الوجه أو خفيا- كما بينا, وأن وصف أحد الطرفين، أو كليهما بما يشعر بالوجه -كما رأيت- لا يتنافى مع الإجمال؛ لأن المدار في كون التشبيه مجملا على ألا يذكر وجه الشبه ذاته، لا وصف مشعر به ا. هـ. اختبار: 1- افرق بين المفصل والمجمل، ثم اذكر نوعي المجمل, ومثل لكل نوع. 2- من أي قبيل قولهم في تشبيه الكلام الغثّ: "هو كالعلقم في مرارته"؟ وجه لما تقول. 3- من أي قسمي التشبيه قولك: "هو كالسحاب ينتظم خيره البلاد"، و"كالبدر يهدي ضوءه السارين"؟ علل لما تقول. 4- ائت بتشبيهين من عندك, تذكر في أحدهما وصفا للمشبه مشعرا بالوجه, وفي الثاني وصفا للمشبه به كذلك، مع بيان نوع التشبيه فيهما.

_ 1 "صدفت عنه": أعرضت وبابه ضرب، ومعنى "لم تصدف مواهبه": لم تنقطع عطاياه، ويروى بالياء، و"مواهبه" حينئذ مفعول؛ لأن "صدف" يأتي لازما ومتعديا، و"عاودني ظني فلم يخب" أي: عاودته بعد إعراضي عنه؛ طلبا لإحسانه ظنا مني أنه يصلني رغم إعراضي عنه فكان عند ظني، وإذًا فنسبة المعاودة إلى الظن تجوز، والريق بتشديد الياء المكسورة هو من كل شيء أفضله وأحسنه، و"لج في الطلب": ألح فيه. 2 أي: حالي الإعراض والإقبال.

التقسيم السادس

التقسيم السادس: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى قسمين: قريب مبتذل، وبعيد غريب. ومعنى "قريب": أنه في متناول العامة وغيرهم، ومعنى "مبتذل": أنه متداول بين الناس, ومن هذا التفسير يعلم معنى البعيد الغريب الآتي بعد. فالقريب المبتذل: ما ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به من غير تأمل, ونظر بسبب وضوح وجه الشبه فيهما, كتشبيه حسناء الوجه بالقمر في الإشراق، وحسن الصوت بالبلبل في حسن النغم، وكتشبيه الشجاع بالأسد في الإقدام، والكريم بالغيث في الإغداق. فكل واحد من هذه التشبيهات قريب؛ يكثر تداوله بين الناس؛ لسهولة انتقال الذهن فيه من المشبه إلى المشبه به بسبب وضوح وجه الشبه بين الطرفين, كما ترى. وأسباب وضوح وجه الشبه ثلاثة: 1- أن يكون الوجه شيئا واحدا، لا تعدد فيه، ولا تفصيل كالأمثلة السابقة. فإن وجه الشبه في كل منها واحد، وإدراك الشيء الواحد لا يحتاج لغير ملاحظة واحدة؛ لهذا كان التشبيه قريبا مبتذلا؛ لانتقال الذهن فيه من المشبه إلى المشبه به بلا تأمل. 2- أن يكون في وجه الشبه شيء من التفصيل، يحتاج إلى تعدد الملاحظة, غير أنه يكثر حضور صورة المشبه به في الذهن عند استحضاره صورة المشبه؛ لما بين الصورتين من شدة التناسب

كأن تشبه العنب بالبرقوق في حجمه، وشكله، ولونه, ففي وجه الشبه بين الطرفين تفصيل ما؛ إذ لوحظ فيه هذه الأمور الثلاثة: الحجم، والشكل، واللون. وهذا يقتضي شيئا من غرابة التشبيه وبعده، ولكن عارض ذلك ما يقتضي قربه وابتذاله، وهو سرعة حضور صورة المشبه به في الذهن عند استحضار صورة المشبه؛ لما بينهما من شدة التجانس، وقوة التناسب, إذ إن العنب والبرقوق من فصيلة واحدة، يجمعهما زمن واحد، وسوق واحدة، فلا أثر للتفصيل في وجه الشبه، مع قوة هذا التجانس المقتضي لسرعة انتقال الذهن إلى المشبه به لظهور الوجه، ووضوحه. ومثله تشبيه الجرة الصغيرة بالكوز في "المقدار والشكل", فإن سرعة حضور صورة الكوز في الذهن عند استحضاره صورة الجرة؛ لشدة التناسب بين الصورتين عارضت التفصيل في الوجه على نحو ما ذكرنا في المثال الأول, وبهذا سهل انتقال الذهن لوضوح الوجه, ومن هنا كان التشبيه قريبا، مبتذلا. 3- أن يكون في الوجه شيء من التفصيل -كسابقه- يحتاج إلى تعدد الملاحظة، غير أنه يكثر حضور صورة المشبه به في الذهن مطلقا أي: لا بقيد استحضار صورة المشبه؛ وذلك لكثرة مشاهدة صورة المشبه به، وتكررها على الحس, فإن المشاهد كثيرا يكثر خطوره بالبال عادة, وإذا كثر حضوره في الذهن لكثرة مشاهدته سهل الانتقال إليه عند إرادة التشبيه، ووضح وجه الشبه ومن هنا كان التشبيه قريبا مبتذلا، كما في تشبيه إنسان بالقمر "في الرفعة والهداية"، وكتشبيه المرآة المجلوة بالشمس "في الاستدارة والاستنارة" فإن في وجه الشبه بين الطرفين "في المثالين" شيئا من التفصيل؛ إذ لوحظ فيه أمران: "الرفعة والهداية" في الأول، و"الاستدارة والاستنارة" في الثاني, وهذا يقتضي شيئا من غرابة التشبيه وبعده، ولكن عارض ذلك ما جعله قريبا مبتذلا. وهو كثرة حضور صورة المشبه به في الذهن

لكثرة النظر إليها، وليس من شك أن صورة "القمر" في المثال الأول، وصورة "الشمس" في المثال الثاني مما يشاهد كثيرا. والبعيد الغريب: ما لا ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به إلا بعد إعمال فكر، وطول تأمل بسبب خفاء وجه الشبه فيهما. وأسباب خفاء وجه الشبه ثلاثة أيضا: 1- أن يكون في الوجه تفصيل يحتاج إلى كثرة الملاحظات، والاعتبارات كما في تشبيه الهيئات بعضها ببعض, كتشبيه هيئة الخال على الخد بالشقيق في قول الشاعر: لا تعجبوا من خاله في خده ... كل الشقيق بنقطة سوداء فوجه الشبه بين الطرفين هو الهيئة الحاصلة من وجود نقطة مستديرة سوداء، في وسط رقعة مبسوطة حمراء وفيه من كثرة التفصيل، والاعتبارات ما لا يقع في نفس مريد التشبيه إلا بعد روية ونظر, وكتشبيه الشمس بهيئة المرآة في يد مرتعشة، أو بهيئة بوتقة محماة، فيها ذهب ذائب، وكتشبيه مثار النقع، يتخلله بريق السيوف المتلاحمة بليل تتهاوى كواكبه، وكتشبيه هيئة إقعاء الكلب بهيئة جلوس البدوي المصطلي, إلى غير ذلك مما لا يقوم بنفس مريد التشبيه إلا بعد أن يتأمل ويتعمل. 2- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن عند استحضار صورة المشبه لبعد التناسب بين الصورتين، وعدم التجانس بينهما، كما في تشبيه القمر بالعرجون في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ 1 الْقَدِيمِ} ، فصورة "العرجون" في ذاتها غير نادرة الحضور في الذهن، ولكنها تندر عند استحضار صورة

_ 1 هو سباطة البلح إذا يبست انحنت, وتقوست أشبه شيء بتقوس الهلال.

"القمر" للبون الشاسع بين الصورتين؛ فإن القمر مسكنه في السماء، والعرجون في الأرض، والقمر مثال العلو والهداية، والعرجون شيء تافه حقير، لا تكاد تظهر له فائدة، فشتان ما بين الصورتين، وناءٍ ما بين الطرفين. ومثله قول الشاعر يصف أزهار البنفسج على سيقانها: ولازوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت1 كان المناسب للشاعر أن يشبه صورة أزهار البنفسج، وهي على سيقانها بما يناسبها من الأزهار, إذ هو الذي يتبادر إلى الذهن عند استحضار صورة البنفسج، ولكنه شبهها بصورة النار في أطراف الكبريت أول شبوبها, ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من تعلق أجرام صغيرة لطيفة، ذات لون خاص على شكل خاص بجرم دقيق الساق يخالفها لونا. فصورة النار في أطراف الكبريت غير نادرة الحضور في الذهن؛ إذ إنها في متناول عامة الناس، واقعة بين أيديهم وأرجلهم، لكنها تندر عند استحضار صورة البنفسج وهو على سيقانه لما بينهما من عدم التجانس، وبعد الموطن, فهذا زهر ندي لطيف، وذاك لهب حار عنيف، وهذا يسكن الخمائل، وذاك يستوطن المنازل، فبعد ما بين الطرفين.

_ 1 "لازوردية" بكسر الزاي وفتح الواو وسكون الراء صفة لمحذوف, أي: رب أزهار من البنفسج لازوردية, نسبة إلى الحجر المسمى باللازورد؛ لكونها على لونه فهي نسبة تشبيهية، و"تزهو" من الزهو وهو الكبر، ونسبة التكبر إلى البنفسج تجوز, و"حمر اليواقيت" من إضافة الصفة للموصوف أي: اليواقيت الحمر، يحتمل أن يراد بها المعنى الحقيقي، ويحتمل أن تكون استعارة أراد بها الأزهار الحمر لمشابهة الأزهار بها, وهو المناسب للبنفسج بدليل قوله: "بين الرياض"، و"فوق قامات" حال من اسم "كأن"، و"ضعفن بها" يريد انحنين بها؛ لأن الساق التي عليها زهر البنفسج إذا طالت انحنت وكأنها ضعفت عن حمله, و"أوائل النار" أي: في بدء اشتعالها, وإنما قيدت بذلك؛ لأن النار في هذا الحال يضرب لونها إلى الزرقة الشبيهة بلون البنفسج.

3- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن مطلقا, أي: سواء حضرت صورة المشبه في الذهن أو لا؛ وذلك لأمور منها: أ- أن يكون المشبه به وهميا, أي: من اختراع الوهم, كما في تشبيه النصال المسنونة الزرق بأنياب الأغوال, فإن أنياب الأغوال مما لا وجود لها في غير الأوهام. ب- أن يكون المشبه به خياليا, أي: من نسج الخيال, كصورة أعلام من ياقوت، منشورة على رماح من زبرجد في قول الشاعر المتقدم, فإن هذه الصورة وما شاكلها من الهيئات المركبة لا وجود لها إلا في الخيال. جـ- أن يندر تكرر المشبه به على الحس, كصورة المرآة في كف الأشل1, فقد ينقضي عمر الإنسان ولا يرى مرآة في يد شلاء. هذا, وإنما كانت كثرة حضور المشبه به في الذهن سببا في وضوح وجه الشبه، وندرة حضوره سببا في خفاء الوجه؛ لأن وجه الشبه -كما علمت- مشترك بين الطرفين، قائم بهما، فتصوره فيهما موقوف على تصورهما. فإذا كان المشبه به كثير الحضور في الذهن، أو نادر الحضور فيه؛ لزم أن يكون وجه الشبه أيضا كثير الحضور، أو نادره تبعا له، ومن هنا كان وضوحه أو خفاؤه. معنى التفصيل في الوجه: اعلم أن المراد بالتفصيل في وجه الشبه ما فيه من كثرة الاعتبارات والملاحظات، بأن ينظر فيه إلى أكثر من وصف لشيء واحد أو لأكثر، متعددا كان ذلك الوجه، أو مركبا اعتباريا، غير أن المركب أشد

_ 1 وفيه سبب آخر لخفاء الوجه، وغرابة التشبيه، وهو كثرة التفصيل فيه.

حاجة إلى إعمال فكر، ودقة نظر؛ لما فيه من الهيئة التركيبية الحاصلة من تضامّ الأجزاء، وارتباط بعضها ببعض. فمثال تعدد الأوصاف لشيء واحد ما تراه في تشبيه المفرد المقيد بمثله, كما في قول الشاعر المتقدم في "تشبيه الثريا بعنقود الملاحية" إذ قد لُوحظ في الوجه عدة أوصاف متضامة، تكونت من شكل أجرام، ولونها، ومقدارها، وهيئة أوضاعها، على ما سبق، ومجموعها وصف لشيء واحد مشبه بآخر مثله كما عرفت. ومثال تعدد الأوصاف لأكثر من شيء واحد ما تراه في تشبيه مركب بمركب في قول "بشار" في تشبيه مثار النقع، مع الأسياف اللامعة بالليل، مع الكواكب المتهاوية, فقد اعتبر في الوجه عدة أوصاف تلاصقت والتأمت من اللون القاتم، وبريق الأجرام في أثنائه, وحركاتها، وتناسب أشكالها، واختلاف مواقعها -على ما تقدم- ومجموعها وصف لمركب مشبه بمثله كما رأيت. هذا, وكلما كثر التفصيل في الوجه كان التشبيه أدخل في باب الغرابة، وأبعد عن الابتذال، وكان أدق نسجا، وأجمل وقعا كما تراه في قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ ... } "الآية" فقد حوت من كمال الدقة، واستقصاء مناحي التشبيه ما يبهر العقول. أوجه التفصيل: يقع التفصيل في وجه الشبه على وجوه كثيرة، أحراها بالقبول، وأولاها بالاعتبار صورتان: الأولى: أن يؤخذ بعض الأوصاف، ويترك بعضها من كل تشبيه فيه دقة تحتاج إلى مزيد نظر1، وفضل ملاحظة كما في قول امرئ القيس:

_ 1 احترز به عن نحو قولك: محمد كعلي في مجموع الجبن، وعدم الكرم، فليس بشيء.

حملت ردينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان1 شبه الشاعر سنان الرمح بلهب ذي سنا, فاعتبر في كل منهما شكله المخروطي الدقيق الطرف، وزرقته الصافية، ولمعانه، ثم قصد أن ينفي الدخان عن السنا تحقيقا للتشبيه, ولو لم ينف ذلك لم يتم التشبيه المقصود؛ إذ ليس في رأس السنان ما يشبه الدخان، وتحقيق التشبيه على هذه الصورة لا يتأتى على البديهة -كما ترى- ومثله قول الشاعر: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب2 يقول: إنهم كانوا كثيري اصطياد الوحوش، وإنهم كانوا يأكلونها، ويطرحون أعينها حول أخبيتهم، أشبه شيء بالجزع غير المثقوب, وقد نفى التثقيب عن الجزع تحقيقا للتشبيه، وبيانا لتساوي الطرفين في وجه الشبه لأن الجزع إذا كان مثقبا خالف العيون في الشكل بعض المخالفة, إذ لا تثقيب فيها. الثانية: أن يؤخذ جميع الأوصاف، بأن يعتبر وجودها جميعها في وجه الشبه, كما مر في نحو قول الشاعر: وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا فقد اعتبر في كل من الطرفين الشكل، والمقدار، واللون، والوضع الخاص, ومثله سائر التشبيهات في الهيئات السابقة.

_ 1 "الرديني": الرمح المنسوب إلى ردينة اسم امرأة كانت تجيد صنعة الرماح وتقويمها, وهي امرأة "السمهر" بفتح السين وسكون الميم وفتح الهاء, وهو أيضا كان يحسن صنع الرماح وإليه تنسب الرماح السمهرية، و"سنا لهب" من إضافة الصفة للموصوف أي: لهب ذو سنا. 2 "الخباء": بيت من شعر، و"أرحل" جمع رحل وهو ما يحمل على البعير، والجزع بفتح الجيم أو كسرها وسكون الزاي: عقيق فيه دوائر بيض وسود تشبه به عيون الوحش, قال الأصمعي: الظبي والبقرة الوحشية إذا كانا حيين فعيونهما كلها سود, فإذا ماتا بدا بياضها فأشبهت الجزع.

تنبيهان: الأول: اعلم أن التشبيه البليغ1 هو ما كان بعيدا غريبا2 كما في تشبيه الهيئات المنتزعة من أمور متعددة -على ما عرفت- سواء كان وجه الشبه مركبا من أمور كثيرة أو لا, وسواء ذكرت أداته، أو لم تذكر لما هو مركوز في الطباع من أن الشيء إذا نيل بعد الاحتيال له، ومعاناة التوسل إليه كان نيله أحلى، وموقعه في النفس ألذ وأشهى؛ ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف موقعه، ودق موضعه ببرد الماء على الظمأ, قال القطامي: وهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي قالوا: وما أشبه هذا الضرب بالجوهر في الصدف، لا يبرز إليك إلا أن تشقه عنه, أو بالحبيب المتحجب، لا يريك وجهه حتى تستأذن, وقديما قالوا: وزاده كلفا في الحب أن منعت ... وحب شيء إلى الإنسان ما منعا أما إطلاق البليغ على التشبيه الذي حذفت أداته إطلاقا شائعا, فاصطلاح لبعضهم، وإلا فهو يسمى تشبيها مؤكدا، على ما سيأتي. ا. هـ. الثاني: قد يتصرف الحاذق بصنعة الكلام في التشبيه القريب

_ 1 المراد بالبليغ هنا ما يتخاطب به الخواصّ من البلغاء لما فيه من دقة التركيب، ولطف المعنى، وليس المراد ما كان مطابقا لمقتضى الحال, فإن المبتذل قد يطابق مقتضى الحال إذا كان الخطاب مع غبي متبلد. 2 قد يقال: إن الغرابة منشؤها خفاء الوجه -كما علمت- فكيف يكون خفاء الوجه سببا في بلاغة التشبيه، مع أنه تقدم أن عدم الظهور ضرب من التعقيد وهو ينافي البلاغة؟ والجواب: إن الخفاء الموجب للتعقيد ما كان منشؤه سوء التركيب، أو اختلال انتقال الذهن من المعنى الأول إلى الثاني -على ما سبق- أما هنا فمنشأ الخفاء لطف المعنى ودقته وهذا محقق للبلاغة وموجبها، لا منا فيها كما في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ ... } "الآية"، وكما في تشبيه الهيئات المتقدمة.

المبتذل، بما يجعله غريبا ممتنعا، لا ترتقي إليه مدارك العامة, كما في قول أبي الطيب من قصيدة يمدح بها هارون بن عبد العزيز: لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء يريد الشاعر أن يشبه وجه الممدوح بالشمس في الإشراق، ومثل هذا التشبيه مطروق مبتذل، يستوي فيه العامة والخاصة لظهور وجه الشبه، وعدم توقفه على نظر -غير أن حديث الحياء، وما فيه من الدقة والحسن- من حيث إفادته المبالغة في وصف الممدوح بوضاءة الوجه، وأنه أعظم إشراقا من الشمس -أخرج التشبيه عن الابتذال، وكساه صورة رائعة، تستوقف النظر، وتستثير الإعجاب- ذلك أنه نزَّل الشمس منزلة من يرى ويستحي، فادعى أنها حينئذ تلقى وجه الممدوح لا تلقاه إلا بوجه منزوع منه الحياء، أي: وكان ينبغي حينئذ تلقاه أن تتوارى خجلا1. ومثل هذا التصرف يقتضي أن يكون وجه الممدوح أكمل وأتم إشراقا من الشمس, وفي هذا تشبيه ضمني؛ لأن وجه الممدوح إذا كان أتم من الشمس في الإشراق استلزم ذلك اشتراكهما في أصل الإشراق، فيثبت التشبيه ضمنا2، وهو تشبيه معكوس إذ المقصود تشبيه الوجه بالشمس، لا العكس. وشبيه بقول المتنبي قول الشاعر: إن السحاب لتستحيي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها لا شك أن تشبيه الندي بالسحاب في الفيض مبتذل، في متناول العامة، ولكن حديث "الاستحياء"، وتنزيل السحاب منزلة من ينظر

_ 1 ويصح رفع الوجه في بيت أبي الطيب ونصب شمس نهارنا على المفعولية, والمعنى على هذا: أن الشمس لا يمكن أن يلقاها وجه الممدوح إلا إذا كانت مجردة عن الحياء، وكلا التصرفين بديع. 2 أي: على اعتبار أن قوله: "لم تلق" من لقيته بمعنى أبصرته, وإن كان من لقيته بمعنى عارضته وماثلته, فالتشبيه حينئذ مأخوذ من الفعل المنفي المصرح به، فيكون التشبيه مصرحا به لدلالة الفعل عليه صراحة.

ويستحي, خرج بهذا التشبيه من ابتذاله إلى مستوى رفيع -على ما قلنا في البيت السابق- ومثل البيتين السابقين قول رشيد الدين: عزماته مثل النجوم ثواقبا ... لو لم يكن للثاقبات أفول1 فإن تشبيه العزم بالنجم في الثقوب، وهو النفوذ مبتذل قريب؛ لوضوح وجه الشبه، وعدم حاجته إلى توقف، ولكن وصف الأفول، وعروضه للثاقبات دون العزمات، وما في ذلك من الدلالة على أن المشبه أتم من المشبه به في وجه الشبه أبرز التشبيه في صورة ممتنعة، وكساه خيالا بديعا رائعا، وكأنه يقول: هذا التشبيه إنما كان يتم بين الطرفين, لولا اختصاص المشبه بوصف لم يوجد في المشبه به. ويسمى مثل هذا النوع "بالتشبيه المشروط" أي: المقيد بشرط, كأن تقول: هذا الشيء كهذا الشيء لو كان بصفة كذا، أو لولا أنه على صفة كذا. والتقييد بالشرط إما أن يكون في المشبه به، أو في المشبه، أو في كليهما، والشرط إما أن يكون وجوديا، أو عدميا2، وإما مدلولا عليه بصريح اللفظ، أو بسياق الكلام. فمثال تقييد المشبه به ما تقدم في تشبيه "العزمات بالنجوم" في قول الشاعر السابق؛ فقد قيد المشبه به بعدم الأفول إذ لا يتم

_ 1 عزماته جمع عزمة, وهي التصميم في الإرادة المتعلقة بمعالي الأمور، و"ثواقبا" حال من "النجوم" وصح مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأن قوله: "مثل النجوم" في معنى مماثلة النجوم، و"الثواقب": النوافذ في الظلمات بإشراقها, مأخوذة من الثقوب وهو النفوذ, وسمي لمعان النجوم ثقوبا لظهورها من وراء الظلمة, فكأنها ثقبتها، و"الأفول": الغروب, وجواب الشرط محذوف تقديره: لتم التشبيه. 2 المراد بالعدمي: ما دخل عليه حرف النفي, بخلاف الوجودي.

التشبيه بدونه, كأنه يقول: عزماته مثل النجوم, لولا أن لها أفولا, وكقولك: وجه فلان مثل الشمس لولا كسوفها، وكالقمر لولا خسوفه. ومثال تقييد المشبه قول البديع: يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا والدهر لو لم يخن الشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد1 والبحر لو عذبا فالمشبه به الممدوح, وقد شبه به كل من صوب الغيث، والدهر، والشمس، والليث، والبحر مقرونا كل منها بقيد لولاه ما تم التشبيه. ومثال تقييد الطرفين معا قولك: "عباس في علمه بالأمور إذا كان يقظا كعلي في علمه بها إذا كان غافلا". هذا, وكل ما تقدم من القيود، وجوديا كان أو عدميا، قد دل عليه بصريح اللفظ كما رأيت. ومثال المدلول عليه بسياق الكلام قولهم: "هذه القبة كالفلك في الأرض" أي: لو كان الفلك في الأرض, وقولهم: "هي بدر يسكن الأرض" أي: لو كان البدر يسكن الأرض. ومن هذا النوع ما يسمى "تشبيه التفضيل" وهو أن يشبه المتكلم شيئا بشيء، ثم يرجع فيرجع المشبه على المشبه به, كقول الشاعر: حسبت جماله بدرا منيرا ... وأين البدر من ذاك الجمال؟ وكقول الآخر: من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شيئين

_ 1 هو بالبناء للمجهول.

أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وذاك إن جاد دامع العين ومنه نوع يسمى "تشبيه التشكيك" كما في قول الشاعر: وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء؟ وكقول الآخر: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن، أم ليلى من البشر؟ إلى غير ذلك من أنواع التصرف في التشبيه المبتذل بما يخرجه عن ابتذاله، ويكسوه ثوبا من الجمال يستوقف النظر إعجابا. ومن أبدع ما قيل في هذا الباب قول ابن نباتة في وصف فرس أبلق أغر: وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه شبه أولا جبين الفرس بالصبح في البياض والإشراق، ثم شبه ثانيا قوائم الفرس بالصبح في هذا المعنى, وهما تشبيهان -كما ترى- من قبيل القريب المبتذل، غير أن حديث لطم الصبح للجبين اعتداء، ثم خوض الفرس في أحشاء الصبح انتقاما جعلهما من الممتنع البعيد المنال، النادر المثال, والتشبيه في كليهما ضمني؛ ذلك أن لطمة الصبح لجبين الفرس تركت فيه أثر البياض, كما علق هذا الأثر بقوائم الفرس حينما خاض في أحشاء الصبح, وهذا يقتضي تشبيه كل من جبين الفرس، وقوائمه بالصبح في بياضه وإشراقه. اختبار: 1- بين معنى التشبيه القريب المبتذل، والتشبيه البعيد الغريب، مع بيان سبب قرب الأول وابتذاله، وسبب بعد الثاني وغرابته، ثم بين من أي الأنواع التشبيه البليغ؟ وما وجه ما تقول؟ 2- اذكر بالإجمال الأسباب التي يكون بها وجه الشبه واضحا، والأسباب التي يكون بها خفيا، مع التمثيل. 3- بين معنى التفصيل في الوجه، وأشهر أنواع التفصيل فيه، مع التمثيل. 4- ائت بتشبيهين مبتذلين تصرف فيهما بما أخرجهما إلى الغرابة، ثم بين نوع هذين التشبيهين.

مبحث أداة التشبيه

مبحث أداة التشبيه: الأداة: لفظ يدل على معنى التشبيه, كالكاف1 قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} فالكاف في قوله: {كَالْأَعْلَامِ} أداة تشبيه؛ لأنها دالة عليه. ومثل الكاف كل ما يفيد معنى المماثلة والمشابهة, حرفا كان، أو اسما، أو فعلا, كلفظ "كأن" حرفا، و"كمثل، وشبه" اسمين، وكالفعل الدال على معنى التشبيه، ماضيا كان، أو مضارعا, كماثل يماثل، وشابه يشابه، وحاكى يحاكي، وكالوصف المشتق المفيد لهذا المعنى كمماثل، ومشابه، ومحاكٍ. تقول: "كأن محمدا أسد"، وهند مثل الغزال، وعلي شبه الغمام، وتقول: سعدى ماثلت البدر إشراقا، وهي تماثل الحرير نعومة، ومحمد حاكى البحر فيضا، وهو يحاكي النجم علوا، وعلي شابه الأسد إقداما، وهو يشابه أو يشبه الجبل صمودا، والنسيم رقة.

_ 1 هي الأصل في الدلالة على التشبيه, وإذا دخلت على "أن" المفتوحة الهمزة مع تشديد النون فصل بينهما "بما" فيقال: محمد عالم كما أن أخاه عالم.

وتقول: ليلى مماثلة البدر في بهائه، ومشابهة الغصن في ليونته, ومحاكية الحرير في نعومته "بالإضافة في جميعها"1. ومن أدوات التشبيه "سيان وسواء" تقول: "محمد والأسد سيان", و"محمد وعمرو في ذلك سواء". والأصل في الكاف، وما جرى مجراها من الأسماء المضافة لما بعدها أن يليها المشبه به لفظا كما مثلنا، أو تقديرا كما في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ 2 مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} بعد قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ... } الآية، فالمشبه به الثاني في الآية قد ولي الكاف تقديرا, والأصل: كمثل ذوي صيب، أما تقدير "ذوي" فلأن الضمائر الثلاثة في {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} للمنافقين، وهم ليسوا مذكورين في الآية، فبقيت الضمائر بلا مرجع، ولا بد لها منه كما هو الشأن فيها. وأما تقدير "مثل" فلأجل أن يشاكل المعطوف عليه،

_ 1 قال بعضهم: إن المتبادر أن هذه المشتقات كلها إنما تفيد الإخبار بمعناها, فقولك: محمد يشبه عمرا أو مشابه عمرا أو محاكيه إخبار بالمشابهة كما تقول: محمد يقوم أو محمد قائم, فإنه إخبار عنه بالقيام وليس هناك أداة داخلة على المشبه, فعدها من أدوات التشبيه لا يخلو عن مسامحة. 2 الصيب: المطر, من صاب بمعنى نزل وهطل، ويطلق أيضا على السحاب. شبه حال المنافقين وقد أبصروا بأعينهم نور الإيمان, وذاقوا حلاوته, وشهدوا بأنفسهم دلائله وشواهده, ووضح أمامهم طريقا الخير والشر وهم -مع ذلك- مصرون على عقيدتهم الفاسدة، مؤثرون أن يقيموا على ظلام الكفر ويتخبطوا في دياجير الضلال, شبه هذه الحال بحال قوم أوقدوا حولهم نارا تبينوا على ضوئها ما أحاط بهم من معالم الأشياء, ثم ما لبثوا أن أطفئت النار فوقعوا في ظلام دامس يتخبطون، أو بحال آخرين كانوا في حال من الهناءة والدعة والاستقرار, ثم ما لبثوا أن دهمهم مطر غزير، أو سحاب متكاثف قاتم صحبه أهوال من الرعد القاصف، والبرق الخاطف مما جعلهم يضعون أصابعهم في آذانهم حذر الموت.

وهو قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ، وقد يلي الكاف ونحوها غير المشبه به بشرطين: 1- أن يكون المشبه به مركبا, أي: هيئة منتزعة من أمور لم يعبر عنها بمفرد دال عليها, كلفظ "مثل أو حال", ولم يقتض الحال تقدير هذا المفرد1. 2- أن يذكر بعد الكاف ونحوها بعض هذه الأمور التي انتزعت منها تلك الهيئة. مثال ذلك قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} فليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء حتى تكون الآية مما ولي فيه المشبه به كاف التشبيه, بل المراد تشبيه حال الدنيا في إقبالها على الإنسان في زي حسناء فاتنة، واغتراره بابتسامتها الخادعة، وطلائها الكاذب، وما يعقب ذلك من زوال نعيمها، وامّحاء بهجتها ونضارتها، بحال النبات يغذيه الماء فيخضرّ، وتنضر خضرته، وتبتسم زهرته، ثم لا تلبث أن تنطفئ هذه النضره، وتذبل هذه الزهرة، ويتحول النبات النضر البهيج إلى هشيم تذروه الرياح, وكأنه لم يكن, ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من حسن، وبهجة، وهناء، يتلوه تلف، وشقاء، وفناء. فأنت ترى أن المشبه به لم يل الكاف؛ لأنه هيئة لم يدل عليها بمفرد كلفظ "مثل"، ولا اقتضى الحال تقديره؛ لأن المعتبر هو الهيئة الحاصلة من مجموع الكلام المذكور بعد الكاف، واعتبارها مستغنٍ

_ 1 احترز به عما عبر فيه عن الهيئة بمفرد دال عليها، أو اقتضى الحال تقديره, فالأول كما في آية اليهود فقد عبر فيها عن المشبه به المركب بلفظ "مثل", إذ قال: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ ... } إلخ, والثاني كما في آية {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ... } إلخ, فإن الحال اقتضت أن يقال: كمثل ذوي صيب على ما سبق بيانه.

عن هذا التقدير، لكن وليها شيء يتعلق بها، وهو "الماء" إذ هو أحد أجزاء الهيئة المذكورة. وإنما احتِيج إلى تقدير المفرد في آية {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} ، ولم يستغن عنه بمجموع الكلام كما في هذه الآية؛ لأن الضمائر هناك في {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} أحوجت "كما قلنا" إلى تقدير المرجع وهو "ذوي". ولما فتح باب التقدير قدر "المثل" المعبر به عن القصة والهيئة؛ ليشاكل قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} لهذا كانت آية {أَوْ كَصَيِّبٍ} من قبيل ما ولي فيه المشبه به كاف التشبيه تقديرا, بخلاف آية {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ} إذ لا حاجة فيها إلى تقدير شيء. والأصل في "كأن" الدالة على التشبيه أن يليها المشبه عكس "الكاف" وأخواتها, تقول: "كأن عنترة أسد" فعنترة هو المشبه، وقد ولي "كأن"، ويقول الله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فضمير النسوة هو المشبه، وما بعده هو المشبه به. ومثل "كأن" في هذا الحكم كل ما له معمولان من الأفعال، أو الأسماء المشتقة لمعنى التشبيه؛ تقول: ماثل أو يماثل خالد أسدا، وشابه أو يشابه علي حاتما، وحاكى أو يحاكي شوقي أبا الطيب, فالذي ولي الأفعال في هذه المثل هو المشبه، وتقول: خالد ماثل أو يماثل الأسد، وعلي شابه أو يشابه حاتما، وشوقي حاكى أو يحاكى أبا الطيب، وتقول في الأسماء المشتقة: علي مماثل أو مشابه أسدا، وشوقي محاكٍ أبا الطيب, فالضمائر المستكنة في هذه الأفعال، أو الصفات هي المشبهات وقد وليتها؛ لأنها فواعل، والفاعل مرتبته التقدم على المفعول به، وقد يجري الكلام على خلاف الأصل لقيام قرينة نحو: "شابه أسدا علي" فيقدم المشبه به لفظا, لا معنى.

تنبيهان: الأول: ما تقدم من كون "كأن" أداة دالة على التشبيه هو الأكثر استعمالا، وقد تستعمل عند ظن المتكلم ثبوت الخبر من غير قصد إلى تشبيه، سواء كان الخبر جامدا أو مشتقا. والحق ما قاله بعضهم من أنها للتشبيه إذا كان الخبر جامدا مما يتمثل به كما تقول: "كأن محمدا أسد", وللظن إذا كان الخبر مشتقا، أو شبيها بالمشتق, تقول في الأول: "كأن محمدا شجاع"، وتقول في الثاني: "كأن محمدا أخوك" أي: متولد من ماء أبيك، والمعنى في الموضعين على أنك تشكّ في شجاعته، أو في أخوته. ولا يصح هنا أن تكون "كأن" للتشبيه؛ لأن اسمها وخبرها متحدان خارجا، ولا معنى لتشبيه الشيء بنفسه ا. هـ. الثاني: قد يقوم مقام الأداة في الدلالة على التشبيه "فعل" غير ما تقدم من الأفعال المشتقة من المماثلة والمشابهة, كما تقول: "قدم القائد فوجدته أسدا" و"سمعت الواعظ يخطب فحسبته سحبان وائل"، غير أن الفعل في المثال الأول يستعمل حيث ادعي كمال المشابهة بين الطرفين؛ لأن "وجد" وأخواته من أفعال اليقين، وهي تدل على التحقق والتيقن، وأن الفعل في المثال الثاني يستعمل حيث ادعي ضعف المشابهة بين الطرفين؛ لأن "حسب" وأخواته من أفعال الظن والحسبان، وليس فيها أكثر من الرجحان، والإدراك على وجه الاحتمال، دون التحقق والتيقن ا. هـ. غير أنه قيل: لا نسلم دلالة الفعل المذكور بنوعيه على التشبيه للقطع بأن لا دلالة للوجدان والحسبان على ذلك، بل إن الدال عليه هو عدم صحة الحمل؛ لأنا نجزم أن "الأسد" مثلا لا يصح حمله على "زيد" لتباين الحقيقتين، وأن المعنى لا يستقيم إلا على تقدير أداة التشبيه، سواء ذكر الفعل أم لم يذكر.

وأجيب: بأن المراد من دلالة المذكور على التشبيه دلالته على حاله من القوة والضعف, فدلالة "علمت محمدا أسدا" على المشابهة بينهما أقوى من دلالة "حسبت محمدا أسدا" على هذه المشابهة؛ لإفادة الأول معنى التيقن والتحقق، دون الثاني. ومن مجموع الاعتراض والجواب يفهم أن الفعل ليس أداة من أدوات التشبيه، وأن المثالين المذكورين من قبيل التشبيه المؤكد، وهو ما حذفت منه الأداة -على ما سيأتي- غير أن الخطيب في الإيضاح مثّل للتشبيه المرسل بقول البحتري يصف الدروع: وإذا الأسنة خالطتها خلتها ... فيها خيال كواكب في الماء يقول: إذا خالطت الأسنة الدروع خلتها "في هذه الحالة" خيال نجوم في الماء, فهو قد جعل تشبيه الأسنة لامعة في الدروع بالكواكب لامعة في الماء من قبيل التشبيه المرسل، وهو ما ذكرت فيه الأداة "على ما سيأتي"، فكأنه اعتبر الفعل المذكور أداة تشبيه, ولعل هذا هو السر في قول الخطيب في متن التلخيص: "وقد يذكر فعل ينبئ عن التشبيه"، ولم يقل: ينبئ عن حاله. تقسيم التشبيه باعتبار الأداة: ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى قسمين: مرسل، ومؤكد. فالمرسل: ما ذكرت فيه أداة التشبيه لفظا أو تقديرا. فمثال ما ذكرت فيه الأداة لفظا قوله تعالى فيما سبق: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ، وكقولك: "سجعه كسجع الحمام، ووشيه كوشي الطاووس". ومثال ما قدرت فيه الأداة قولك: سجعه سجع الحمام، ووشيه وشي الطاووس, إذا قدرت في نفسك أنه على معنى الكاف، وأن المشبه مثل المشبه به لا عينه، وسمي التشبيه مرسلا؛ لإرساله عن التأكيد أي: خلوه منه.

والمؤكد: ما تركت فيه الأداة لفظا وتقديرا أي: ترك التصريح بها, وتُنُوسِي تقديرها في نظم الكلام أيضا إشعارا من حيث الظاهر بأن المشبه عين المشبه به مبالغة, كما تقول في المثالين السابقين: "سجعه سجع الحمام، ووشيه وشي الطاووس" فتترك ذكر الأداة، ولا تقدرها في نفسك ادعاء منك أن المشبه هو المشبه به نفسه لا شيء سواه. ومثله قوله تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يريد -والله أعلم بمراده- أن الجبال يوم القيامة بعد النفخة الأولى تسير في الهواء كالسحاب تسوقه الرياح، فهو تشبيه مؤكد تركت فيه الأداة, وتنوسي تقديرها ليكون المعنى: إن مرور الجبال يوم القيامة هو مرور السحاب بعينه، وهذا المعنى هو ما ينبغي أن يفهم تصويرا للحالة التي ستكون. ومنه قول الشاعر: هم البحور عطاء حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقى بهم بهم ولو فرض تقدير الأداة في الكلام, لكان تشبيها مرسلا. إذا علمت هذا, فاعلم أن كل مثال تركت فيه الأداة، يحتمل أن يكون من قبيل التشبيه المؤكد إن لم تقدر فيه الأداة، وأن يكون من قبيل المرسل إن قدرت الأداة ما لم تقم قرينة على المراد. ومن التشبيه المؤكد ما أضيف فيه المشبه به إلى المشبه بعد حذف الأداة، وتقديم المشبه به على المشبه، والإضافة حينئذ بيانية تقتضي الاتحاد في المفهوم, كما في قول الشريف الرضي يستمطر الرحمة على قبور الموتى: أرسى النسيم بواديكم ولا برحت ... حوامل المزن في أجداثكم تضع1

_ 1 "أرسى النسيم بواديكم" بمعنى: استقر بها, و"المزن" أراد بها السحاب, و"الأجداث" جمع جدث -بفتح الجيم والدال- وهو القبر، و"تضع" بمعنى تهمي وتهطل, وإنما عبر بالوضع لمناسبة لفظ "الحوامل".

أراد أن المزن الممتلئة بالماء كالحوامل من الحيوان؛ فقد شبه المزن بالحوامل بجامع المنفعة في كل، ثم تركت أداة التشبيه وتنوسيت، ثم أضيف المشبه به إلى المشبه، بعد تقديمه عليه -كما ترى- وفي التعبير بقوله: "تضع"، مع قوله: "حوامل المزن" براعة بارعة في مراعاة التناسب. ومثله قول الشاعر يصف اعتدال الريح وقت الأصيل: والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء1 شبه الشاعر الماء بالفضة في النقاء والصفاء، ثم أضاف المشبه به إلى المشبه بعد حذف الأداة، وتناسيها في نظم الكلام -كما ذكرنا- وسمي التشبيه مؤكدا؛ لأنه أكد وقرر بدعوى اتحاد الطرفين، وأن المشبه هو المشبه به، لا يتميز أحدهما عن الآخر في شيء. اختبار: 1- عرف أداة التشبيه، ومثل من عندك بأداتين من أدواته, يكون وجه الشبه في أحد المثالين عقليا، وفي الآخر حسيا. 2- بين أي الطرفين يلي كاف التشبيه، وما حكم "كأن التشبيهية" في هذا الشأن؟ مثل لما تقول. 3- من أي قبيل قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ ... } الآية، وقولك: خالد ماثل الأسد؟

_ 1 تعبث بالغصون: تحركها وتميلها, و"جرى" بمعنى ظهر والجملة حالية، والأصيل هو: الوقت بين العصر والغروب ويعد من أطيب الأوقات، وذهبه: صفرته بسبب شعاع الشمس وإطلاق الذهب عليه "استعارة" واللجين: الفضة, وقد أضيف إلى الماء من إضافة المشبه به إلى المشبه, وهو محل الشاهد.

4- متى تستعمل "كأن" في معنى الظن؟ بين الخلاف في ذلك مع التمثيل، وهل من قبيل أداة التشبيه فعلا الوجدان والحسبان في نحو قولك: زرت عليا فوجدته بحرا، ورأيت توفيقا يخطب فظننته قسا؟ وما الفرق بين الفعلين؟ 5- قسم التشبيه باعتبار الأداة، وعرف كل قسم مع التمثيل، واذكر من أي قبيل قول الشاعر: ورد الخدود ورمان النهود وأغصـ ... ـان القدود تصيد السادة الصيدا؟ وما نوع الإضافة فيه؟ 6- من أي نوعي التشبيه "المؤكد والمرسل" قولهم: صوته مزمار داود، وما علة هذه التسمية في كل منهما؟

مبحث أغراض التشبيه

مبحث أغراض التشبيه: أغراض التشبيه: هي البواعث التي تحمل المتكلم على أن يعقد شبها بين شيئين, وهي على ضربين: 1- ما يعود على المشبه, وهو الأكثر1. 2- ما يعود على المشبه به. الأغراض التي تعود على المشبه, وهي سبعة: الأول: بيان حال المشبه, أي: بيان وصفه الذي هو عليه, وذلك إذا كان المخاطب يجهل حال ذلك المشبه ويريد أن يعرف حاله، فيلحق بمشبه به معروف لديه؛ بيانا لهذه الحال كما في تشبيه ثوب بآخر في

_ 1 إنما كان الأكثر ذلك؛ لأن التشبيه بمنزلة القياس في ابتناء شيء على آخر, فالمعقول إذًا أن يعود الغرض منه على المشبه الذي هو كالمقيس؛ ولذا كان عوده إليه هو الغالب الكثير.

بياضه، أو سواده, وكما في قول امرئ القيس المتقدم يصف عقابا بكثرة اصطياد الطيور: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي شبه الرطب من قلوب الطير، واليابس منها بالعناب والحشف البالي؛ بيانا لما فيها من الأوصاف كالشكل، والمقدار، واللون. ومثله قول النابغة يمدح النعمان بن المنذر: كأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب شبه النابغة النعمان بين سائر الملوك بالشمس بين سائر الكواكب, بجامع الهيئة الحاصلة من الشيء الحقير، يتضاءل شأنه عند وجود الشيء الخطير. والغرض بيان حال النعمان مع سائر الملوك من أنه صفوتهم, إذا ظهر بينهم طغى أمره على أمرهم, شأن الشمس مع الكواكب. وينبغي لتحقيق هذا الغرض أن يكون المشبه به معروفا عند المخاطب بوجه الشبه؛ لأن الغرض تعريف حال المشبه المجهولة للمخاطب, فلو لم تكن حال المشبه به معروفة عنده من قبل لزم تعريف المجهول بالمجهول. وليس بلازم في تحقيق هذا الغرض أن يكون وجه الشبه في المشبه به أتم وأقوى منه في المشبه -وإن كان الشأن فيه ذلك- لأن المخاطب إنما يجهل حال المشبه، ويريد مجرد تصورها، من غير التفات إلى زيادة أو نقصان، وهذا يكفي فيه أن يكون وجه الشبه معروفا في المشبه به عنده, فإذا قيل: ما لون ثوبك الذي اشتريته؟ فقلت: كثوب فلان مثلا, والمخاطب يعلم أنه أسود فقد تم الغرض، ولا يتوقف على أن يكون سواد ثوب فلان أتم منه في الثوب المشترى؛ لأن ذلك زائد على المطلوب.

الثاني: بيان مقدار حال المشبه من القوة، أو الضعف، أو الزيادة, أو النقصان، وذلك إذا كان المخاطب يعلم حال المشبه, ويجهل مقدار هذه الحال، ويريد الوقوف على مقدارها، فيلحق حينئذ بشيء يعلم المخاطب مقدار حاله, كما في قول الشاعر: فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم1 أشار بقوله: "سودا" إلى الصفة المشتركة بين الطرفين, فالمخاطب يعلم حال المشبه، وأنه أسود اللون، ولكن لا يدري إلى أي مدى وصل هذا السواد, وكأنه يطلب معرفته فجاء المتكلم بهذا التشبيه كاشفا عن مقداره، وأنه على حد السواد في الغراب الأسحم المعروف عند المخاطب بشدة سواده، وبهذا اتضحت حال المشبه، واستقر في الذهن مقدار سواده، وأنه بين الحلكة شديدها. ومثله قول الشاعر: إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران2 فقد أشار بقوله: "تثنت" إلى الوصف المشترك بين الطرفين, فالمخاطب يعلم حال المشبه، وأنه لين لا يبس فيه، ولكنه لا يدري إلى أي حد وصلت هذه الليونة، فجاء الشاعر بهذا التشبيه كاشفا عن مقدارها، وأنها على غرار ليونة الخيزران المعروف للمخاطب مبلغ ليونته وتكسره. وكتشبيه الصوت الضعيف بالهمس، أو القوي بالرعد بيانا لمقدار ضعفه، أو قوته.

_ 1 "الحلوبة": الناقة ذات اللبن الغزير، و"الخافية": ريش في الطائر يختفي إذا ضم جناحيه، و"الأسحم": شديد السواد. 2 "تثنت": تمايلت مع تكسر, و"الخيزران": نوع من الخشب واضح الليونة.

ولتحقيق هذا الغرض ينبغي أن يكون المشبه به أعرف بوجه الشبه وأشهر به عند المخاطب1 من المشبه، غير أنه يجب هنا أن يكون المشبه به مساويا للمشبه في وجه الشبه، لا أكثر ولا أقل, حقيقة أو ادعاء2, إذ لو كان المشبه به أتم في وجه الشبه من المشبه، أو أقل منه لم يتعين المقدار, فلم يتم الغرض من التشبيه. الثالث: بيان إمكان المشبه أي: بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود, وذلك إذا كان أمرا غريبا من شأنه أن ينازع فيه، ويدعى امتناعه، فيمثل حينئذ بشيء مسلم الوقوع، ليكون كالدليل على ثبوته, كما في قول أبي الطيب من قصيدة يرثي بها أم سيف الدولة: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال ادعى الشاعر أن الممدوح من السمو والرفعة بحيث فاق الجنس البشري الذي هو أحد أفراده، وصار كأنه جنس آخر. ولما كان هذا المعنى في بادئ الرأي غريبا في بابه، لا تقبله العقول لاستبعاد أن يخرج الشيء عن جنسه أراد أن يؤيده بما لا نزاع فيه ليتبين إمكانه, فشبهه بشيء أقرته العقول، وآمنت به, وهو "المسك" فإنه خرج عن أصله، وتحول إلى جنس آخر لما فيه من معنى ليس في سائر الدماء أي: وإذا جاز أن يفوق الشيء أصله لميزة فيه, فليس يبعد أن يفوق الممدوح جنسه لما فيه من جليل الصفات. ومن هذا البيان يتبين أمران: أحدهما: أن قوله: "فإن المسك ... " إلخ لم يأت به جوابا للشرط في المصراع الأول، وإنما سيق مساق الدليل على هذا الجواب،

_ 1 أي: وإن لم يكن أشهر في الواقع. 2 حقيقة كما في الأمثلة المتقدمة، وادعاء كما في تشبيه شراب بارد شديد البرودة بالثلج، أو شراب شديد الحرارة بالنار.

وكأنه يقول: فإن تفق الأنام وأنت منهم فلا بدع ولا غرابة؛ لأن لك نظيرا هو "المسك" فقد حذف الجواب وهو قوله: "فلا بدع ولا غرابة" واستغنى عنه بهذا الدليل. ثانيهما: أن التشبيه في البيت ليس صريحا، بل دل عليه الكلام ضمنا؛ ذلك أن المعنى الصريح لهذا الكلام هو -كما قلنا- أن لا بدع ولا غرابة أن يخرج الممدوح عن بني جنسه لمعنى فيه ليس فيهم؛ لأن المسك بعض دم الغزال، وهو -مع ذلك- لا يعد من الدماء لما اختص به من معنى كريم, ومفهوم هذا: أن حال الممدوح شبيهة بحال المسك, وبهذا التشبيه الضمني تبين أن المشبه أمر ممكن الوجود. ومثل هذا البيت قول الشاعر: وإن تكن تغلب الغلباء1 عنصرها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب يريد: وإن كانت هذه المرأة من قبيلة تغلب ذات العزة والمنعة, فإن فيها من معاني الكمال ما جعلها تبذ قومها وتفوقهم، ثم دلل على هذه الدعوى بما معناه: أن العنب أصل الخمر, ولكنها تحولت إلى شيء آخر لمعنى اختصت به دونه. ولتحقيق هذا الغرض ينبغي أن يكون المشبه به أعرف وأشهر بوجه الشبه من المشبه كالذي قبله ليصح جعله مقيسا عليه، واعتباره دليلا على إمكان المشبه, وليس بلازم أن يكون المشبه به أتم وأكمل من المشبه في وجه الشبه؛ لأن المطلوب بيان إمكان المشبه بإثبات نظير له، وهذا يكفي فيه مجرد وجود وجه الشبه في المشبه به خارجا، ولا يتوقف على أن يكون الوجه في المشبه به أتم منه في المشبه. فإذا قلت لإنسان: إنك في خروجك عن جنسك كالمسك تم الغرض بمجرد العلم بخروج المسك عن جنسه، وإن لم يكن المسك أتم منه في هذا الخروج فرضا.

_ 1 أي: ذات عزة ومنعة.

الرابع: تقرير حال المشبه، وتمكينها في نفس السامع بإبرازها في صورة هي فيها أوضح وأقوى، وإنما يكون ذلك في الأشياء المحسة كالذي تراه في تشبيه من لا يحصل من سعيه على طائل1 بمن يرقم على الماء أو الهواء، فقد أراك لخيبة المسعى، وبوار العمل صورة ملموسة لا يشك فيها شاكّ, وهل هناك من يشك في عبث من يرقم على الماء أو الهواء، وهو يرى بعينه عملا لا أثر له؟ ومثله قول الشاعر: إن القلوب إذا تنافر ودها ... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر شبه الشاعر هيئة القلوب المتنافرة بهيئة الزجاجة المتصدعة بجامع هيئة الشيء التالف، تتعذر عودته إلى حالته الأولى. ولما كان تنافر القلوب، وتعذر عودتها إلى التواصل -كما كانت- من الأمور المعقولة التي لا تطمئن إليها النفس أيما اطمئنان, إذ قد يتوهم جواز عودتها إلى ما كانت عليه من الالتئام, لما كان الأمر كذلك أراد أن يبرز هذا المعنى في صورة ترى بالعين لتسكن إليه النفس، وتؤمن به إيمانا قويا، فشبهه بالزجاجة إذا تصدعت. ومثل هذا التشبيه تجد فيه من تقرير المعنى، وتمكينه في النفس ما لا تجده في غيره؛ ذلك أن الجزم بالأمور الحسية أتم منه بالأمور العقلية، وليس من شك في أن التئام الزجاجة بعد صدعها من الأمور المقطوع بتعذرها لتقررها في عالم الحس. ألا ترى لو وصفت يوما بالطول، فقلت: هو كأطول ما يتوهم، أو كأنه لا آخر له, أكنت تحس من الأنس والأريحية بمثل ما تجده في قول الشاعر: ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطكاك المزاهر2

_ 1 الطائل: الفائدة, يقال: هذا الأمر لا طائل تحته أي: لا فائدة فيه. 2 المراد بدم الزق: الخمر, وهو على تقدير مضاف أي: شرب دم الزق، والزق: وعاء الخمر، و"عنا" حال من دم الزق أي: حال كونه صادرا عنا, و"المزاهر" جمع مزهر بكسر الميم: آلة من آلات الطرب و"اصطكاكها": ضرب بعضها في بعض.

وهل تراك لو وصفته بالقصر، فقلت: هو كأقصر ما يتصور، أو كلمح البصر, أكنت ترى فيه من تجسيم المعنى، وعرضه في صورة ملموسة ما تراه في قولهم: "أيام كأباهيم1 القطا"، أو في قول الشاعر: ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب؟ 2 ذلك أن اطمئنان القلب إلى ابن الحاسة أقوى وأتم -كما رأيت- ألا ترى إلى قول إبراهيم الخليل عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . وإن شئت المثل الأعلى لهذا النوع, فعليك بكتاب الله في غير موضع منه؛ قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ} ، وقال جلت قدرته: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} ، إلى غير ذلك من صور إبراز المعاني المحجوبة عن العيان في معارض الحس والمشاهدة؛ ليكون ذلك أمكن في النفس، فيقوى إيمانها به، واطمئنانها إليه. وهذا الغرض لا يتحقق إلا بالأمرين جميعا: أعرفية المشبه به بوجه الشبه، وأتميته فيه, أي: أن يكون المشبه به أعرف بوجه الشبه من المشبه، وأن يكون أتم وأقوى منه فيه؛ لأن النفس إلى الأتم الأقوى أميل، فالتشبيه به لقصد التقرير والتقوية أجدر, فأنت إذا قلت مثلا: إن القلوب المتنافرة يتعذر عودتها إلى التواصل, جاز أن يتوهم -كما قلنا- إمكان عودتها إليه, فإذا مثلت هذا المعنى بالزجاجة المتصدعة،

_ 1 الأباهيم جمع إبهام -بكسر الهمزة- وهو أكبر أصابع اليد أو الرجل، والقطا جمع قطاة, وهي طائر معروف بخفة الحركة. 2 سالفة الذباب: مقدم أعناقه.

وهي التي لا يتصور فيها مطلقا أن تعود إلى الالتئام ثانيا, تمكن المعنى في النفس، وآمنت به إيمانها بالمعنى الممثل به. الخامس: تزيين المشبه للمخاطب أي: تصويره له بصورة جميلة محببة للنفوس؛ بأن يلحق بمشبه به استقر في النفس حسنه وحبه ليتخيله المخاطب كذلك، فيرغب فيه لما هو مركوز في الطباع من أن المتماثلين حكمهما واحد، لا فرق في ذلك بين المبصرات وغيرها كما في قول الشاعر: سوداء واضحة الجبيـ ... ـن كمقلة الظبي الغرير1 فالوجه الأسود مما لا يستحسن في رأي العين, فلأجل الترغيب فيه شبه بمقلة الظبي في حسن سوادها واستدارته تزيينا له عند السامع، فيتخيله حسنا، ومثله قول الشاعر: تفاريق شيب في الشباب لوامع ... وما حسن ليل ليس فيه نجوم؟ شبه الشاعر هيئة ظهور بياض الشيب يلمع بين سواد الشباب بهيئة نجوم تتألق في جنح الليل, بجامع هيئة اختلاط شيء ناصع البياض بآخر حالك السواد. والغرض من هذا التشبيه تصوير الشيب بين سواد الشباب بصورة الكواكب تبرق في ظلام الليل؛ تزيينا له في عين المخاطب، فلا ينفر منه, وكما في تشبيه صوت مغنٍّ بصوت داود، وبشرة إنسان بالحرير، ونكهة فم بالعطر، أو نحو ذلك. السادس: تقبيح المشبه وتصويره للمخاطب بصورة قبيحة؛ بأن يلحق بمشبه به تتقزز منه النفس، ويمجّه الطبع ليتخيله المخاطب كذلك، فيرغب عنه لما تقدم من أن المتماثلين حكمهما واحد كما في قول الشاعر:

_ 1 الغرير: الحسن الشكل.

وإذا أشار محدثا فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم شبه الشاعر هيئة إنسان مبغض، يشير في حديثه بهيئة قرد يضحك، أو عجوز تصفع خديها في بشاعة المنظر وقبحه؛ تشويها له في نظر السمع، ومثله قول الشاعر يذم القمر: كلف في شحوب وجهك يحكي ... نكتا فوق وجنة برصاء1 فتشبيه ما يبدو على صفحة القمر -في مرأى العين- من نقط دكن بهيئة نكت مبثوثة على وجنة برصاء مما يؤثر في نفس الناظر إلى القمر, إذ يبدو له كأنه بالحالة التي شبه بها، وكتشبيه الصوت الشديد بالرعد، والجهل بالموت، ورجل السوء بالمنية، وسرب الأشرار بالأفاعي، ونحو ذلك. هذا, ولم يشترطوا لتحقيق هذين الغرضين أتمية الوجه في المشبه به ولا أشهريته فيه, وعللوا ذلك بصحة تشبيه وجه أسود حالك السواد بمقلة الظبي لقصد تزيينه، مع أن السواد فيها ليس أتم منه في الوجه الأسود، ولا هي أشهر منه في السواد، وبأن الهيئة المشتركة بين من يشير متحدثا، وبين قرد يقهقه، أو عجوز تلطم ليست في القرد، أو العجوز أتم، ولا هما بها أشهر. غير أن هذا القول إنما يستقيم لو أن وجه الشبه المشترك بين الوجه الأسود، ومقلة الظبي "مطلق سواد"، أو لو أن الوجه المشترك بين هيئة من يشير متحدثا, وبين هيئة القرد وهو يضحك، أو العجوز وهي تلطم "مطلق هيئة" وليس كذلك, فإن الوجه في الأول "السواد الحسن"، وفي الثاني "الهيئة القبيحة"؛ لأن الغرض من التشبيه تزيين المشبه، أو تقبيحه بإلحاقه بمشبه به حسن أو قبيح.

_ 1 الكلف بفتح الكاف واللام: شيء يعلو الوجه كحب السمسم, بين السواد والحمرة، والبرصاء مؤنث أبرص, وهو المصاب بداء البرص.

وإذًا يجب أن يكون المشبه به أتم وأشهر من المشبه في هذا المعنى ليتم الغرض, وليس من شك أن مقلة الظبي لما فيها من صفاء السواد، وحسن استدارته أتم وأشهر في هذا المعنى من الوجه الأسود، وأن فيما نراه من قباحة صورة القرد يضحك، والعجوز تلطم وجهها ما لا نجده في صورة من يتحدث مشيرا, مهما قبح منظره، وشاه خلقه, فالقباحة فيهما أتم وأشهر كذلك. السابع: استطراف المشبه أي: جعله طريفا بديعا, وذلك يكون بواحد من أمرين: 1- أن يبرز في صورة ممتنعة الوجود في الخارج عادة، أو نادرة الحضور في الدهن. 2- أن يشبه بشيء يندر حضوره في الذهن عند حضور المشبه؛ لما بين الطرفين من بعد المناسبة. فالأول كما في تشبيه هيئة فحم سرت فيه النار بهيئة بحر من المسك، موجه الذهب, بجامع الهيئة الحاصلة من وجود شيء مضطرب مائل إلى الحمرة، وفي وسط شيء أسود فصورة البحر المذكورة عزيزة الوجود خارجا، ونادرة الحضور في الذهن -كما ترى- فإذا أبرز المشبه التافه الذي لا يؤبه له "كهيئة الفحم المذكور" في صورة شيء نفيس ممتنع الوجود في الخارج، أو نادر الوجود في الخاطر "كالصورة المذكورة للبحر" تخيله السامع طريفا بديعا. والثاني كما في قول عدي بن الرقاع يصف قرن الغزال: تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها1 شبه الشاعر صورة قرن الغزال، وقد علا طرفه سواد, بصورة قلم

_ 1 تزجي: تسوق, و"الأغن": غزال في صوته غنة، و"روقه": قرنه، وإبرته: طرف القرن، والمداد: الحبر, والدواة: المحبرة.

عليه أثر المداد, وصورة القلم المذكورة قلّما تخطر بالبال عند تصور قرن الغزال ذي الطرف الأسود؛ لما بين الصورتين من بعد المناسبة, فقد أراك الشاعر عناقا بين متباعدين أشد التباعد، ومن هنا كان الاستطراف1. ومثله ما تقدم لك من تشبيه أزهار البنفسج فوق سيقانها بلهيب النار في أطراف الكبريت, إذ أراك شبها لنبات غض، وأوراق رطبة بلهب نار في جسم استولى عليه اليبس. ومبنى الطباع على أن الشيء إذا ظهر في مكان لم يعهد ظهوره فيه كانت صبابة النفس به أكثر، وكان الولع به أجدر. ولا يشترط لتحقيق هذا الغرض ما اشترط في غيره من كون المشبه به أتم, وأشهر في وجه الشبه من المشبه، بل كلما كان المشبه به أندر وأخفى كان التشبيه لتأدية هذا الغرض أتم وأوفى. تنبيه: اعلم أن التشبيه إلحاق شيء بشيء في معنى, أو هو قياس شيء على شيء في هذا المعنى، والأول هو المشبه أو المقيس، والثاني هو المشبه به أو المقيس عليه, ومقتضى الطبع أن يكون المشبه به الذي هو المقيس عليه أصلا في وجه الشبه للمشبه الذي هو المقيس. وإذًا فقاعدة التشبيه تقتضي أن يكون المشبه به أتم وأشهر في وجه الشبه من المشبه ليصح الإلحاق أو القياس، وبهذا صرح السكاكي إذ قال: إن حق المشبه به أن يكون أعرف بجهة التشبيه من المشبه، وأخص بها، وأقوى حالا معها ... إلخ، وقد جرى عليه أبو العلاء المعري في قوله: ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسـ ... ـك وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكي

_ 1 وإنما جاء الاستطراف إلى المشبه من حيث إنه أحد المتباعدين المتعانقين, أو من حيث تصويره بصورة النفيس الممتنع مع تفاهته, أو بصورة نادرة الحضور في الذهن مع عدم ندرته.

غير أنك عرفت مما تقدم -على ما حققناه- أن أعرفية المشبه به بوجه الشبه شرط فيما عدا "الاستطراف"، وهو خلاف ما ذهب إليه شراح التلخيص من عدم اشتراطها أيضا عند قصد التزيين والتقبيح، وقد عرفت ما فيه. ووجه اشترط الأعرفية في تلك الأغراض: أن المشبه به بمثابة المعرف لحال المشبه، فلو لم يكن المشبه به أعرف بوجه الشبه لزم تعريف المجهول بالمجهول، أما الأتمية فقد شرطها شراح التلخيص عند قصد تقرير المشبه وتمكينه في النفس لما ذكروه من أن النفس إلى الأتم الأقوى أميل منها إلى غيره، لكنك علمت أيضا أنها كذلك شرط عند قصد تزيين المشبه، أو تقبيحه لما بيناه من توقف تحقيق هذين الغرضين على أتمية الحسن، أو القبح في المشبه به كما هو واضح في المثالين السابقين، وهي فيما عدا ذلك من الأغراض ليست بشرط عند الجميع لإمكان تحقيق هذه الأغراض بدون الأتمية -كما بينا- غير أن هذا لا يتنافى مع قاعدة التشبيه من وجوب كون المشبه به أتم من المشبه في وجه الشبه, فإن عدم اشتراط الشيء لا ينافي وجوده، ولو على سبيل الوجوب ا. هـ. الأغراض التي تعود على المشبه به, وهي اثنان: الأول, وهو الكثير الغالب: إيهام المخاطب أن المشبه أقوى وأتم من المشبه به في وجه الشبه، وذلك إنما يكون في التشبيه المقلوب بأن يجعل المشبه في مكان الشبه به بادعاء أن المشبه أكمل في وجه الشبه من المشبه به مبالغة، فيتوهم السامع حينئذ أن الأصل فرع والفرع أصل, جريا على قاعدة التشبيه من وجوب كون المشبه به أقوى وأتم في وجه الشبه من المشبه, كما في قول محمد بن وهيب يمدح المأمون:

وبدا الصباح1 كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح يريد الشاعر أن يشبه وجه الخليفة بغرة الصباح في الضياء والإشراق, جاعلا وجه الخليفة مشبها به، قاصدا إيهام أنه أتم وأكمل في الضوء من غرة الصبح مبالغة في وصف وجهه بالتهلل والطلاقة عند استماع المديح. وإنما قيد الشاعر إشراق وجه الخليفة بوقت الامتداح؛ ليدل على أمرين هما: 1- اتصاف الممدوح بحسن قبوله للمدح، الدال على تقديره للمادح، وتعظيمه له، ولو كان غير قابل له لعبس في وجهه. 2- اتصافه بالكرم, إذ الكريم هو الذي يتهلل وجهه، وتنبسط أساريره للمدح, ولو كان لئيما ضنينا لقطب جبينه، وأشاح بوجهه. ومثله قول البحتري يصف بركة المتوكل: كأنها حين لجت في تدفقها ... يد الخليفة لما سال واديها فقد أراد البحتري أن يوهم أن يد الخليفة أقوى تدفقا بالعطاء من البركة بالماء؛ مبالغة في وصفه بالكرم. وكقول الشاعر: والبدر في أفق السماء كغادة ... بيضاء لاحت في ثياب حداد حتى بدا وجه الصباح كأنه ... وجه الحبيب أتى بلا ميعاد ففي كلا البيتين إيهام أن المشبه أقوى في وجه الشبه من المشبه به.

_ 1 يحتمل أن يراد به الضياء التام الحاصل عند الإسفار, وأن يراد به الضياء المخلوط بظلمة آخر الليل، ففي الأول تكون الإضافة في قوله: "غرته" بيانية أي: كأن الغرة التي هي الصباح، وعلى الثاني تكون الإضافة على أصلها لإحاطة الظلمة في ذلك الوقت بإشراق هو كالغرة المحاطة بسواد الفرس، والغرة: بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم استعير لبياض الصبح.

الثاني: بيان اهتمام المتكلم بالمشبه به, كأن يشبه الجائع وجه حبيبه بالرغيف في الاستدارة والاستلذاذ به, مدعيا أن الرغيف أظهر في وجه الشبه من وجه الحبيب؛ ليدل بهذا التشبيه على اهتمامه بالرغيف، وأنه -لشدة جوعه- لا يغيب عن خاطره، وكأن يشبه الفقير وجه الحبيب بالدينار في الاستدارة والإشراق ليدل بهذا التشبيه على مبلغ عنايته بالنقدين، وأنه لشدة فقره لا يغربان عن ذهنه، وأن الدينار في زعمه أظهر من المشبه في وجه الشبه, ويسمى هذا النوع من التشبيه "إظهار المطلوب"1 لإتيان صاحبه بما يدل على مطلوبه، ولا بد في مثل هذا التشبيه من قرينة تدل على قصد المتكلم كالعدول عما يناسب إلى غيره. وههنا في المثالين قد عدل عن تشبيه الوجه في الإشراق بما يناسبه وهو "البدر" إلى غيره, وهو "الرغيف" في الأول و"الدينار" في الثاني.

_ 1 قال السكاكي: ولا يحسن المصير إليه إلا في مقام الطمع في حصول المطلوب, وقد حكي: أن قاضي سجستان دخل على "الصاحب", فأخذ يمدحه حتى قال: "وعالم يعرف بالسجزي" يريد السجستاني نسبة إلى سجستان على غير قياس، فأشار الصاحب إلى ندمائه أن يتمموا البيت على أسلوبه، فكمله أحدهم بقوله: "أشهى إلى النفس من الخبز" ففهم مراده, فقدم له مائدة.

تقسيم التشبيه باعتبار الغرض

تقسيم التشبيه باعتبار الغرض: ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى قسمين: مقبول، ومردود. فالمقبول: ما كان وافيا بالغرض الذي سِيق لأجله التشبيه. فإن كان الغرض بيان حال المشبه وجب أن يكون المشبه به معروفا بوجه الشبه عند المخاطب من قبل؛ لئلا يؤدي إلى التشبيه بالمجهول. وإن كان الغرض بيان مقدار حاله, وجب أن يكون المشبه به على حد المشبه في وجه الشبه، لا أكثر منه ولا أقل. وإن كان الغرض بيان إمكانه, وجب أن يكون وجه الشبه مسلم الوقوع في المشبه به؛ ليتبين عدم استحالة المشبه.

وإن كان الغرض تقريره, وجب أن يكون المشبه به أتم في وجه الشبه من المشبه؛ ليتقرر في ذهن السامع، ويزداد به إيمانا. وإن كان الغرض تزيينه أو تقبيحه, وجب أن يكون المشبه به أتم أيضا في وجه الشبه من المشبه, على الخلاف في ذلك. وإن كان الغرض استطرافه, وجب أن يكون المشبه به غريبا في بابه، أو بعيد التصور, وقد تقدمت أمثلة كل هذا، فلا داعي لذكرها. والمردود: ما لم يكن وافيا بالغرض المسوق له التشبيه. ففي بيان الحال: أن يكون المشبه به مجهول الصفة للمخاطب, كأن تشبه ثوبا في لونه بآخر لا يعرفه المخاطب. وفي بيان المقدار: أن يكون المشبه به أقل أو أكثر من المشبه في وجه الشبه, كأن تشبه ثوبا أبيض بآخر أقل أو أكثر منه بياضا. وفي بيان الإمكان: أن يكون وجه الشبه غير مسلم الوجود في المشبه به, كأن تشبه رجلا فاق جنسه لميزة فيه بآخر فاق جنسه كذلك. وفي التقرير: ألا يكون المشبه به أتم في وجه الشبه من المشبه, كأن تشبه من لم يحصل من سعيه على نتيجة بمن ينقش على حجر، أو بساعٍ آخر لم يحصل من سعيه على طائل. وفي تزيينه، أو تقبيحه: ألا يكون المشبه به أتم في وجه الشبه من المشبه, كأن تشبه وجها أسود بالفحم مريدا تحسينه، أو أن تشبه إنسانا يتكلم بحسناء تبتسم مريدا تقبيحه. وفي الاستطراف: ألا يكون المشبه به غريبا، أو بعيد التصور, كأن تشبه فحما تتخلله نار بقطع من الحديد في أثنائها لهب، أو أن تشبه أزهار البنفسج بما يناسبها من الأزهار إذ ليس المشبه به غريبا في الأول، ولا بعيد التصور في الثاني, فالتشبيه -في كل ما ذكرنا- مردود؛ لعدم وفائه بالغرض كما رأيت.

اختبار: 1- ما هي أغراض التشبيه؟ ومتى يكون الغرض منه بيان مقدار حال المشبه؟ وبم يتحقق هذا الغرض؟ مثل لما تقول. 2- بين وجه اشتراطهم في تقرير الحال أعرفية الوجه، وأتميته في المشبه به، مع توضيح ذلك بالمثال، وما هو الغرض من التشبيه في قولي الشاعر: ولاح ضوء قمير كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر فتى عِيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا؟ 3- ائت بثلاثة تشبيهات, يكون الغرض في أحدها تقرير المشبه، وفي الآخر استطرافه، وفي الثالث تقبيحه. 4- قسم التشبيه باعتبار الغرض، وعرف كل قسم، ومثل له. تمرينات: 1- بين طرفي التشبيه، ووجهه، ونوعه باعتبار الأداة، والغرض منه فيما يأتي من أقوال الشعراء: 1- الخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر 2- وصبغ شقائق النعمان يحكي ... يواقيتا نظمن على اقتران1 3- كأن سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفى أسود يتبسم 4- فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع

_ 1 الصبغ: اللون, وشقائق النعمان: زهر أحمر يشوبه نقط سود, واليواقيت: جمع ياقوت, جوهر نفيس صلب شفاف مفرده ياقوتة، ونظمن على اقتران أي: اجتمعن في سلك واحد على مقارنة ومماثلة.

5- له خال على صفحات خد ... كنقطة عنبر في صحن مرمر 6- أنا الذهب الإبريز ما لي آفة ... سوى نقص تميز المعاند في نقدي1 7- كأنه2 سرم بغل حين تفتحه ... عند البراز وباقي الروث في وسطه 8- وبين الخد والشفتين خال ... كزنجي أتى روضا صباحا تخير في الرياض فليس يدري ... أيجني الورد أم يجني الأقاحا؟ 3 9- كم نعمة مرت بنا وكأنها ... فرس يهرول أو نسيم سار ب- بين أركان التشبيه فيما يأتي: 1- والشمس من بين الأرائك قد حكت ... سيفا صقيلا في يد رعشاء 2- نعمة كالشمس لما طلعت ... بثت الإشراق في كل بلد 3- كأن على قلبي قطاة تذكرت ... على ظمأ وردا فهزت جناحها4 4- تزدحم الناس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزحام 5- يجود بالوعد ولكنه ... يدهن من قارورة فارغة

_ 1 الإبريز: الخالص, والآفة: العاهة. 2 يذم الشاعر الورد, فالضمير في "كأنه" عائد إليه. 3 الأقاحي: جمع أقحوان, وجاز نصبه على رأي من رفع الراء في قوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ} . 4 الورد بكسر الواو: الإشراف على الماء.

6- وكأن الجو ميدان وغى ... رفعت فيه المذاكي رهجا1 7- ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إن السماء تُرجَّى حين تحتجب 8- وإنما الحقد كمثل النار ... كامنة في باطن الأحجار 9- وما كمد الحساد شيئا قصدته ... ولكنه من يزحم البحر يغرق 10- هو السيف إن لاينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان 11- والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم 12- وكأنما المريخ بين نجومه ... ياقوتة في لؤلؤ متبدد2 13- بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي 14- كريشة في مهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق

_ 1 المذاكي: الخيل، والرهج بفتح الراء والهاء: الغبار. 2 المريخ: نجم، والمتبدد: المتفرق.

تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق: بين طرفي التشبيه، ووجهه، ونوعه باعتبار الأداة، والغرض منه فيما يأتي: وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله وحديقة غناء تنتظم الندى ... بفروعها كالدر في الأسلاك {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} . {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} . هو كالفراشة. العلماء في الأرض كالكواكب في السماء. النحو في الكلام كالملح في الطعام. الحياة كسحابة صيف. سكبت عيناي غيث الدموع. المشتغل بما لا طائل تحته مثل الراقم على الهواء، نزل بساحتنا فكأنه مطر الربيع. لئن أك أسود فالمسك لوني. {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} .

تمرين يطلب جوابه: بين أركان التشبيه فيما يأتي: وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وحديقة غناء تنتظم الندى ... بفروعها كالدر في الأسلاك والورد في أعلى الغصون كأنه ... ملك تحف به سراة جنوده وانظر لنرجسه الجني كأنه ... طرف تنبه بعد طول هجوده وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال والنقع ليل سماء لا نجوم له ... إلا الأسنة والهندية البتر1 رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء لا يعيه طبيب إذا الثريا اعترضت ... عند طلوع الفجر حسبتها لامعة ... سبيكة من ذهب2

_ 1 النقع: الغبار، والهندية: السيوف، والبتر: جمع الأبتر وهو القاطع. 2 السبيكة: القطعة.

التشبيه والتشابه

التشبيه والتشابه: تقدم أن المشبه به ينبغي أن يكون أعرف بوجه الشبه من المشبه، أو أتم وأقوى منه فيه، حقيقة إذا عاد الغرض على المشبه، أو ادعاء إذا عاد على المشبه به كما سبق تفصيله. ومتى كان الأمر كذلك جيء بصيغة التشبيه المعروفة إشعارا بهذا التفاوت، ودلالة على أن أحدهما ناقص، والآخر كامل, كما تقول: "هذا الشيء كهذا الشيء" أو مثله، أو شبهه، أو يحاكيه، أو يماثله، أو كأنه كذا، أو غير ذلك من أنواع صيغة التشبيه الدالة وضعا على أن بين الشيئين تفاوتا. فإذا أريد التساوي بين الشيئين في أمر، من غير قصد إلى تمييز أحدهما في الأعرفية، أو الأتمية، أو فيهما معا, سواء وجد هذا التفاوت بينهما أو لا, فالأفضل العدول عن صيغ "التشبيه" المذكورة آنفا إلى صيغة "التشابه"، أو ما يماثلها من كل ما يدل على حصول المعنى من الجانبين على السواء, كتماثل وتعادل وتحاكى؛ احترازا من إيهام1 ترجيح أحد المتساويين الذي هو غير مراد قصدا إلى المبالغة في التشبيه، كما تقول: تشابه محمد والأسد، وتماثل وجهه والبدر، وتحاكى نواله والغيث، ونحو ذلك من كل فعل لا مفعول له للإشعار بأن ليس بين الطرفين تفاوت. ومنه قول أبي إسحاق الصابي2: تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب فوالله ما أدري أبالخمر أسبلت ... جفوني، أم من عبرتي كنت أشرب3

_ 1 إنما عبر بالإيهام؛ لأن الاحتراز عن ترجيح أحد المتساويين يوجب العدول عن صيغ التشبيه، مع أن العدول عنها جائز لا واجب. 2 هو إبراهيم أبو إسحاق الصابي اليهودي, وكان يحفظ القرآن, ولكن الله لم يشرح صدره للإسلام كما هداه إلى محاسن الكلام. 3 المدامة والمدام: الخمر و"الفاء" في قوله: "فمن مثل" لإفادة تعليل التشابه أي: تشابها؛ لأن ما تسكبه العين من الدمع مثل ما في الكأس من الخمر، وأسبل هنا فعل لازم يقال: أسبل الدمع أو المطر: هطل، فالباء في قوله: "أبالخمر" للتعدية وقد ورد متعديا فقيل: "أسبل الدمع" بنصب الدمع على المفعولية: أرسله، والعبرة بفتح العين: الدمع, وبكسرها: مصدر بمعنى الاعتبار.

خيل إلى الشاعر -لشدة ما يعانيه من ألم الجوى- أن دمعه الهاطل على خده أحمر قانٍ، فشبهه بما في كأسه من الخمر في الحمرة, غير أنه زعم أن الخمر والدمع تساويا في وجه الشبه، بحيث لا يفضل أحدهما الآخر فيه حتى أشكل عليه الأمر، فلم يدر: أكانت عيناه تسكبان خمرا، فكان يشرب خمرا، أم كانتا تسكبان دمعا، فكان يشرب دمعا؟ لهذا عدل عن التعبير بصيغة التشبيه إلى صيغة التشابه المفيدة لمعنى التساوي الذي زعمه, وهذا من باب تجاهل العارف، وإلا فهو يعلم قطعا أنه يحتسي خمرا، وأن عينيه تسحّان دمعا. ومن هذا البيان يعلم أن في قول أبي إسحاق حذفا من جهتين, وكأنه يقول: أبالخمر أسبلت جفوني "فمن الخمر كنت أشرب؟ "، "أم بالعبرة أسبلت جفوني"، فمن عبرتي كنت أشرب؟ فأنت تراه قد حذف من إحدى العبارتين ما ذكر مقابله من الأخرى، وهو ما يسمى عندهم "بالاحتباك". غير أن قوله: "فمن مثل ما في الكأس" صيغة تشبيه، وهي تتعارض مع صيغة التشابه في قوله: "تشابه دمعي ... إلخ". ولعل الجواب على هذا أن المراد بالتشابه التساوي في مقدار وجه الشبه, أما التشبيه فباعتبار أن وجه الشبه في المشبه به أعرف وأشهر منه في المشبه, وقد أجيب بغير ذلك. ونظير قول الصابي قول الصاحب بن عباد: رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر وفي هذا الشاهد أيضا ما في الذي قبله من تعارض صيغة التشبيه "في البيت الثاني" المقتضية للتفاوت مع صيغة التشابه "في البيت الأول" المقتضية للتساوي. ويجاب بأن "كأن" هنا للشك، لا للتشبيه بدليل قوله في البيت الثاني: "ولا قدح"، ثم قوله: "ولا خمر"، وذلك أمارة التساوي. وقد يجاب بأن التشبيهين في

البيت الثاني تعارضا لفظا، كما تعارضا معنى فتساقطا وبقي التشابه. هذا, ويجوز في هذه الحالة أيضا -وهي إرادة التساوي بين شيئين من غير قصد إلى تمييز- الإتيان بصيغة التشبيه لغرض ما, كأن يكون أحد الطرفين موضع حديث المتكلم، أو محل اهتمامه, فيجريه على لسانه أولا، ويجعله مشبها، فإذا كان يتحدث عن الليل يتألق فيه بياض الصبح, صح أن يشبه ذلك بجواد أدهم ذي غرة, كما في قول الشاعر: والصبح في طرة ليل مسفر ... كأنه غرة مهر أشقر1 وإذا شغف بحب فرسه الدهماء ذات الغرة البيضاء, جاز أن يشبه ذلك بظلمة الليل ينشقّ عنها وجه الصباح كما في قول الشاعر: وجهه صبح ولكن ... سائر الجسم ظلام فالشاعر في كلتا الحالين إنما يرمي إلى ما في الطرفين من مجرد ظهور بياض في سواد أكثر منه، من غير قصد إلى قوة أو ضعف, غير أن الأفضل -كما قلنا- هو العدول إلى صيغة "التشابه"؛ لأنها أدل على المراد، وأصرح في معنى التساوي بين الطرفين. وإنما لم يجب العدول إلى صيغة التشابه؛ لما بينّا من أن أحد الطرفين قد يكون موضع اهتمام المتكلم، أو موضع حديثه, فله حينئذ أن يقدمه في مستهل كلامه، ويعرضه في صورة المشبه من غير قصد إلى تمييز بينه وبين المشبه به, كما مثلنا لك.

مراتب التشبيه

مراتب التشبيه: للتشبيه باعتبار الأداة والوجه -ذكرا أو تركا- مراتب ثلاث تتفاوت قوة وضعفا. فالأولى, وهي عليا المراتب: ما ترك فيها ذكر الوجه والأداة جميعا, كما تقول: "محمد أسد" فهذا التشبيه يفيد من قوة المبالغة ما لا يفيده غيره. وجه ذلك أنه مشتمل على معنى الاتحاد بين الطرفين, من وجهين: 1- أن ترك الوجه يفيد -بحسب الظاهر1- عموم جهة الإلحاق, أي: إن المشبه وهو "محمد" في المثال المذكور يماثل المشبه به وهو "أسد" في جميع صفاته من القوة، والمهابة، والضخامة، والإقدام، وما إلى ذلك من أوصاف الأسد, إذ لا ترجيح لبعض الأوصاف على بعض عند ترك التصريح بالوجه، وهذا يقوي دعوى الاتحاد بين الطرفين، بخلاف ما لو ذكر الوجه لفظا أو تقديرا، فقيل: "محمد أسد في الجرأة"، أو "محمد أسد" على تقدير "في الجرأة", فإنه يفيد أن "محمدا" يماثل الأسد في صفة الجرأة فقط، لا في سائر صفاته، فتضعف بذلك دعوى الاتحاد. 2- أن ترك الأداة يفيد -بحسب الظاهر2 أيضا- أن المشبه به في المثال المذكور محمول على المشبه، والحمل يقتضي اتحادهما معنى، أي: أن يكون المشبه هو المشبه به عينه، وليس شيئا سواه, وإلا ما صح الحمل فيهما لامتناع حمل أحد المتباينين على الآخر، بخلاف ما لو ذكرت الأداة لفظا أو تقديرا، فقيل: "محمد كالأسد"، أو "محمد أسد" على تقدير الكاف, فإنه يفيد أن محمدا غير الأسد, وهذا يضعف دعوى الاتحاد بين الطرفين. فترك الوجه والأداة إذًا يفيد معنى الاتحاد بين الطرفين من جهتين

_ 1 إنما كانت إفادته العموم بحسب الظاهر؛ لأن الوجه في الحقيقة وصف خاص, قصد اشتراك الطرفين فيه كالجرأة مثلا. 2 إنما كان الحمل بحسب الظاهر أيضا؛ لأنه في الحقيقة لا حمل, وإنما هو تشبيه أحدهما بالآخر.

-"كما بينا"- لهذا كان التشبيه عند تركهما1 في المرتبة الأولى. والثانية, وهي الوسطى: ما ترك فيها ذكر أحدهما -الوجه أو الأداة- كما تقول: "محمد كالأسد"، أو "محمد أسد في الجرأة"، فقد ترك الوجه في الأول، والأداة في الثاني. وإنما كان التشبيه في هاتين الصورتين في المرتبة الوسطى؛ لاشتماله على معنى الاتحاد بين الطرفين من جهة واحدة، أي: من جهة عموم الإلحاق كما في صورة ترك الوجه، أو من جهة حمل أحد الطرفين على الآخر كما في صورة ترك الأداة. غير أنه قيل: إن الصورة الثانية، وهو ما ترك فيها الأداة دون الوجه, أقوى مبالغة من الصورة التي ترك فيها وجه الشبه، دون الأداة لظهور حمل أحد الطرفين على الآخر المقتضي للتماثل التام بينهما، بخلاف الصورة الأولى التي ترك فيها الوجه, فإن عموم التماثل مع وجود ما يقتضي التباين، وهو "الكاف" مثلا يضعف دعوى الاتحاد، مع العلم بأن المتروك يحتمل الخصوص. والثالثة, وهي المرتبة الأخيرة: ما ذكر فيها الوجه والأداة جميعا -عكس الأولى- كما تقول: "محمد كالأسد في الجرأة"، ووجهه كالبدر في البهاء والضياء، وإنما كانت هذه المرتبة دنيا المراتب الثلاث؛ لخلو التشبيه فيها عن دعوى الاتحاد التي هي مدار المبالغة فيه. تنبيه: اعلم أن وصف التشبيه بالعلو، والتوسط، والانحطاط فرع عن تحققه، وهو إنما يتحقق بالطرفين: المشبه والمشبه به، فلا بد إذًا من ذكرهما. أما المشبه به؛ فلأنه الأصل المقيس عليه، وأما المشبه فلأنه الفرع المقيس, غير أنه يجوز ترك ذكر المشبه لفظا فقط إذا دلت عليه قرينة, كأن يكون بينك وبين مخاطبك مذاكرة في شأن "محمد" مثلا, فتقول له: وما حال محمد؟ فيقول لك: أسد، على تقدير: هو أسد، فلا يذكر المشبه لدلالة الكلام السابق عليه، لكن لا بد من تقديره في نظم الكلام، وإلا كان استعارة لا تشبيها ا. هـ.

_ 1 إنما عبر بالترك في جانب حذف الوجه والأداة؛ لأن معناه عدم الذكر لفظا وتقديرا، وهذا هو المراد؛ لأن مدار المبالغة على دعوى الاتحاد، وهي لا تجامع التقدير في نظم الكلام.

الاختلاف في صيغة التشبيه

الاختلاف في صيغة التشبيه: اختلف الرأي في صيغة التشبيه: أهي من قبيل الحقيقة, أم من قبيل المجاز؟ فالرأي الأول -وهو ما عليه المحققون- أنها من قبيل الحقيقة؛ ذلك أن كلا من المشبه والمشبه به مستعمل في معناه الذي وضع له, "فمحمد" في نحو: "محمد كالبدر" مستعمل في الذات الإنسانية المعروفة, كما أن "البدر" مستعمل في الكوكب المعروف. وقيل: هو من قبيل المجاز؛ لأن المعنى من قولنا: "محمد كالبدر" أنه تناهى في الحسن حتى بلغ مستوى البدر فيه، وهذا المعنى غير ما يدل عليه التركب وضعا, إذ إن معناه الموضوع له أن محمدا قريب في الحسن من البدر، ولم يبلغ فيه مستواه. وإلى هذا الرأي ذهب ابن الأثير, محتجا بأن مضمر الأداة من التشبيه معدود في الاستعارة عند الكثير، وهي مجاز باتفاق القوم، فيجب أن يكون مظهر الأداة من التشبيه كذلك, إذ لا تفرقة بينهما إلا من جهة ظهور الأداة، وظهورها إن لم يزده قوة ودخولا في المجاز, لم يكن مخرجا له عن سننه. اختبار: 1- بين الفرق بين صيغة التشبيه، وصيغة التشابه، وهل العدول عن الأولى إلى الثانية جائز أم واجب؟ ولماذا؟ وضح ذلك بالمثال.

2- اذكر مراتب التشبيه، ومثل لكل، مع بيان وجه التفاوت بينها. 3- وضح الخلاف في صيغة التشبيه، وهل هي من قبيل الحقيقة أو المجاز؟ بين ما تقول بالمثال. 4- من أي قبيل قول الصاحب بن عباد: متغايرات قد جمعن وكلها ... متشاكل أشباحها أرواح وإذا أردت مصرحا تفسيرها ... فالراح والمصباح والتفاح لم يعلم الساقي وقد جمعت له ... من أي هذي تملأ الأقداح؟ تمرينات منوعة وجوابها: التمرين الأول: بين أركان التشبيه, والغرض منه فيما يأتي: أ- كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل1 ب- إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع الجواب: أ- المشبه فجاج الأرض مع قيدها، والمشبه به "كفة الحابل", والأداة "كأن", ووجه الشبه عدم القدرة مع الضيق والشدة، والغرض "بيان الحال". ب- في البيت تشبيه ضمني؛ فقد شبه السلاح في يد الجبان بالمخلب في الحيوان الذي لا يستطيع الافتراس، ووجه الشبه عدم الفائدة مع وجود آلة العمل، والغرض بيان إمكان المشبه.

_ 1 كفة الحابل بضم الكاف: شبكة الصياد.

التمرين الثاني: تكلم عن التشبيه في قول الشاعر: العلم في الصدر مثل الشمس في الفلك ... والعقل للمرء مثل التاج للملك الجواب: في الشطر الأول: المشبه "العلم في الصدر"، وهو مفرد عقلي، والمشبه به "الشمس في الفلك" وهو مفرد حسي، وأداة التشبيه "مثل"، ووجه الشبه "النفع في كل"، والتشبيه مجمل؛ لعدم التصريح بوجه الشبه، ومرسل للتصريح بالأداة، والغرض بيان حال المشبه، أو بيان مقداره, أو تقريره. وفي الشطر الثاني: المشبه "العقل للمرء" وهو مفرد عقلي، والمشبه به "التاج للملك" وهو مفرد حسي، وأداة الشبه "مثل"، ووجه الشبه "الزينة", والتشبيه مجمل، ومرسل كالذي قبله، والغرض تحسينه، أو تقريره، أو بيان مقدار حاله من مظاهر الزينة. التمرين الثالث: بين وجه الشبه, ونوع التشبيه باعتباره فيما يأتي: 1- لفظ كالسحر، وخلق كالعطر. 2- له صوت كرنين الأوتار. 3- التقي كالمصباح يضيء في الظلام. 4- محمد كأبيه شجاعة، وإيمانا، وكرما. 5- له كلام يؤثر في القلوب كالسحر. 6- وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يوافي تمام الشهر ثم يغيب

7- مهفهف وجنتاه ... كالخمر لونا وطعما1 8- طلق شديد البأس راحته ... كالبحر فيه النفع والضرر2 9- هذا أبو الهيجاء في الهيجاء ... كالسيف في الرونق والمضاء3 10- ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في الغيم الجهام4 11- غدا والصبح تحت الليل باد ... كطرف أشهب ملقى الجلال5 12- كأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب 13- يا شبيه البدر في الحسـ ... ـن وفي بعد المنال 14- كأن انتضاء البدر من تحت غيمه ... نجاء من البأساء بعد وقوع6

_ 1 مهفهف: ضامر البطن دقيق الخصر، والوجنتان: ما ارتفع من الخدين. 2 طلق الوجه: مشرقه ضاحكه, و"راحته" يريد يده. 3 أبو الهيجاء كنية الممدوح, والهيجاء: الحرب, ورونق السيف: ماؤه وبريقه. 4- للبحتري يصف فرسا محجلا, والأحجال جمع حجل -بكسر فسكون- وهو بياض في قوائم الفرس, والغيم الجهام: السحاب لا ماء فيه. شبه هيئة اختلاط بياض الأحجال بسواد القوائم بهيئة اختلاط البرق بسواد الغيم, فهو تشبيه مركب بمركب. 5 الطرف: الفرس الكريم, والأشهب: الأبيض, يصف عاديا بأنه يبكر في غدوه فلا ينتظر حتى يتنفس الصبح بل يغدو ويسير والصبح يلوح من وراء الليل كفرس أشهب قد ألقي عليه جله وهو ما تلبسه الدابة لتصان به، شبه الظلمة وضوء الصبح مجتمعين بهيئة بياض الفرس وسواد الجل مجتمعين, فهو تشبيه مركب بمركب أيضا. 6 أراد بالانتضاء: الانكشاف والظهور, من انتضى السيف من غمده إذا سله وأخرجه, والنجاء: الخلاص. شبه هيئة انتضاء البدر من تحت الغيم بالهيئة الحاصلة من النجاء من البأساء بعد الوقوع فيها ووجه الشبه التخلص من حالة إلى حالة أفضل, فهو تشبيه مركب كذلك.

15- وأرض كأخلاق الكريم قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا1 16- السفرجل كالبرتقال في شكله، وحجمه، ولونه. 17- أنت كالمصباح في ضوئه، وهدايته. 18- "النساء حبائل الشيطان". 19- كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء در على أرض من الذهب2

_ 1 السماك: نجم، ومعنى "كحل الليل السماك فأبصر": أن الليل اشتد ظلامه فاشتد تألق النجم, وكأنه أبصر بعد أن كان ضريرا، شبه الأرض اللينة السهلة بأخلاق الكريم. 2 الفقاقيع: هي ما يطفو على وجه الماء كالبرد، مفرده: فقاعة على زنة رمانة, والحصباء: الحصا.

تمرين يطلب جوابه على هذا النحو: بين وجه الشبه, ونوع التشبيه باعتباره فيما يأتي: كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جون1 وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا كأنما الشعرات البيض طالعة ... في مفرقي أنجم أشرقن في الظلم2 ما الأرض إلا الربيع المستنير إذا ... جاء الربيع أتاك النور والنور فالأرض ياقوتة والجو لؤلؤة ... والنبت فيروزج والماء بلور الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. فلان كالبحر لا يعكره ولوغ الكلاب. إنك كالبحر في مده وجزره، وكالدهر في إقباله وإدباره. الأماني حلم اليقظان. حجتك كفلق الصبح. مرآة الغريبة كالشمس استدارة وصفاء. النار في أطراف الكبريت كالبنفسج. وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريض

_ 1 جمع دجية وهي الظلمة، وقوادم الطير: مقاديم ريشه, والجون بضم الجيم: جمع جون بفتحها يقع على الأبيض والأسود, والمراد هنا الأبيض. والمعنى: كأنا وضوء الصبح يسوق الدجى على عجل نطير من الليل غرابا أبيض القوادم. 2 المفرق كمقعد ومجلس: وسط الرأس, وهو الذي يفرق فيه الشعر.

التمرين الرابع: بين ما في هذه الأبيات من تشبيه، مع بيان نوعه: 1- نشرت إلي غدائرا من شعرها ... حذر الكواشح والعدو الموبق فكأنني وكأنها وكأنه ... صبحان باتا تحت ليل مطبق1 2- لدى نرجس غض القطاف كأنه ... إذا ما منحناه العيون عيون 3- أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعضّ ورد الخدود 4- لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرب ... فالطير يرقص مذبوحا من الألم 5- من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام 6- اصبر على كيد الحسـ ... ـود فإن غيظك قاتله كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله الجواب: 1- شبه هيئة اجتماعه بها وقد انسدل الشعر عليهما بهيئة اجتماع صبحين انضويا تحت حالك، بجامع هيئة شيء أسود ينطوي على شيئين يخالفانه لونا، وهو تشبيه تمثيل لجريانه في الهيئات، ومجمل لعدم التصريح بالوجه، وغريب لخفاء الوجه؛ لما فيه من الدقة التركيبية. 2 شبه النرجس وهو مفرد حسي بالعيون, وهو مفرد حسي كذلك, ووجه الشبه جمال المنظر، وهو مجمل لعدم ذكر الوجه، وهو من التشبيه المعكوس؛ إذ كان الوضع أن تشبه العيون بالنرجس.

_ 1 أي: حالك واضح الحلوك.

3- شبه هيئة الأقحوان, وهو يعانق الشقيق بهيئة الثغور تعض على الخدود، ووجه الشبه هيئة شيء ذي بياض يخالط شيئا, يضرب لونه إلى الحمرة، وهو تشبيه تمثيل لجريانه في الهيئات، ومجمل لعدم التصريح بالوجه، وغريب لخفاء الوجه, وفي "ورد الخدود" تشبيه مؤكد؛ لإضافة المشبه به إلى المشبه. 4- شبه هيئة المتألم يضطرب من شدة الألم بهيئة الحيوان الذبيح يرقص لشدة ما يعانيه من آلام الذبح, بجامع هيئة المتألم المضطرب, وهو تشبيه تمثيل لجريانه في الهيئات، ومجمل لعدم التصريح بالوجه، وغريب لخفاء الوجه ودقته, والتشبيه فيه ضمني لا صريح. 5- شبه هيئة من يتغشاه الهوان فيقبله، ولا يتألم له بهيئة ميت يوخز بالأسنة فلا يحس ألما، ولا يشكو وجعا، ووجه الشبه الهيئة المنتزعة من عدم التأثر مما ينبغي التأثير منه, وهو تشبيه تمثيل، ومجمل غريب, والتشبيه هنا أيضا ضمني، أخذ من مضمون الكلام. 6- شبه هيئة الحسود يترك، فيأكل الغيظ قلبه بهيئة النار تترك من غير وقود، حتى يأكل بعضها بعضا, وهو تشبيه تمثيل، ومجمل غريب. تمرين يطلب جوابه: بين وجه الشبه، ونوع التشبيه باعتباره، وباعتبار أداته، والغرض منه فيما يأتي: ولولا كونكم في الناس كانوا ... هراء كالكلام بلا معان وإن كنت من جنس البرايا وفقتهم ... فللمسك نشر ليس يوجد في العطر العمر والإنسان والدنيا هم ... كالظل في الإقبال والإدبار

وكأنما الشمس المنيرة دينار ... م جلته حدائد الضراب وعيون من نرجس تتراءى ... كعيون موصولة التسهيد العيش نوم والمنية يقظة ... والمرء بينهما خيال سار قد أقذف العيس في ليل كأنه به ... وشيئا من النور أو روضا من العشب كأن الثريا في أواخر ليلها ... تفتح نور أو لجام مفضض كأن الدموع على خدها ... بقية طل على جلنار1 شقائق يحملن الندى فكأنه ... دموع التصابي في خدود الخرائد2 حبر أبي حفص لعاب الليل ... يسيل للإخوان أي سيل خلقنا سماء فوقهم بنجومها ... سيوفا ونقعا يقبض الطرف أقتما وكأنها وكأن حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على الندماء شمس الضحا رقصت فنقط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء ونار لو نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد العمر مثل الصيف أو ... كالطيف ليس له إقامة

_ 1 بضم الجيم, وفتح اللام المشددة: زهر الرمان. 2 الخرائد جمع خريدة, وهي البكر لم تمس، أو اللؤلؤة لم تثقب, والمراد الأول.

المبحث الرابع: في الحقيقة والمجاز

المبحث الرابع: في الحقيقة والمجاز الحقيقة ... المبحث الرابع: في الحقيقة والمجاز 1 اعلم أن المقصود الأصلي من علم البيان هو "المجاز" إذ هو الذي يتأتى فيه اختلاف الطرق في وضوح الدلالة على المعنى المراد, أما الحقيقة فلا يتأتى فيها ذلك؛ لأنها إنما وضعت لشيء بعينه لتستعمل فيه. فإن كان السامع عالما بالوضع فلا تفاوت, وإلا فلا يفهم شيئا أصلا لتوقف الفهم على العلم بالوضع, وقد تقدم بيان ذلك واضحا في مبحث الدلالة. غير أنه لما كانت الحقيقة بمثابة2 الأصل للمجاز من حيث إن الاستعمال في غير ما وضع اللفظ له فرع الاستعمال فيما وضع له, جرت العادة بالبحث عن الحقيقة أولا، وإليك البيان: الحقيقة: تعريفها: هي في اللغة: وصف على زنة "فعيل", إما بمعنى اسم الفاعل, من حق الشيء إذا ثبت، فهو حقيق أي: ثابت, قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: لقد ثبت القول, وإما بمعنى اسم المفعول, من حققت الشيء إذا أثبته فهو حقيق أي: مثبت، ثم نقل هذا اللفظ في الاصطلاح من الوصفية "بمعنييها" وجعلت اسما للكلمة المستعملة فيما وضعت له باعتبار أنها ثابتة في مكانها الأصلي3 "على الاعتبار الأول"4 أو مثبتة في مكانها

_ 1 قد يقيدان باللغويين لإخراج الحقيقة والمجاز العقليين, والأكثر عدم التقييد؛ لأنهما عند الإطلاق لا ينصرفان لغير اللغويين بخلاف الحقيقة والمجاز العقليين, فقد اصطلحوا على وجوب تقييدهما بهذا القيد. 2 إنما قلنا ذلك؛ إشارة إلى أنها ليست أصلا للمجاز حقيقة, وإلا كان لكل مجاز حقيقة وليس كذلك, فإن لفظ "الرحمن" قد استعمل من أول الأمر في "المنعم" مجازا ولم يسبق له استعمال في المعنى الحقيقي, وهو "رقيق القلب" فهو إذًا مجاز لم يتفرع عن حقيقة. 3 المراد بمكانها الأصلي: المعنى الذي وضعت له أولا. 4 وهو أنها في الأصل بمعنى فاعل.

الأصلي "على الاعتبار الثاني"1، والتاء فيه للدلالة على نقل الكلمة من الوصفية إلى الاسمية2. وإذًا يعلم أن: الحقيقة في الاصطلاح: هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في3 اصطلاح التخاطب أي: في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب بالكلمة المذكورة "كالأسد" إذا استعمل في الحيوان المفترس, فهو حقيقة لاستعماله فيما وضع له في كافة الاصطلاحات، و"كالصلاة" إذا استعملها المتكلم بعرف الشرع في الأركان الخاصة, فهي أيضا حقيقة لاستعمالها فيما وضعت له في اصطلاح أهل الشرع، و"كالصلاة" أيضا إذا استعملها المتكلم بعرف اللغة في الدعاء, فهي حقيقة لاستعمالها فيما وضعت له في اصطلاح أرباب اللغة. واعلم أن في التعريف قيودا ثلاثة: 1- المستعملة. 2- فيما وضعت له. 3- في اصطلاح التخاطب, وقد أتي بها للاحتراز.

_ 1 هو أنها في الأصل بمعنى مفعول. 2 بيان ذلك أن التاء في أصلها تدل على معنى فرعي هو التأنيث, فإذا روعي نقل الوصف إلى الاسمية اعتبرت التاء فيه إشعارا بفرعية الاسمية كما كانت حال الوصفية إشعارا بالتأنيث، فالتاء الموجودة فيه بعد النقل غيرها قبله. 3 الظرف متعلق بقوله: "وضعت" لا "بالمستعملة" لما يترتب عليه من فساد في اللفظ والمعنى؛ أما في اللفظ فلأنه يؤدي إلى تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى, وهو غير جائز عند علماء النحو، وأما في المعنى فلأن استعمال الشيء في الشيء معناه: أن يكون الثاني مدلولا للأول، فيؤدي ذلك إلى أن يكون "اصطلاح التخاطب" مدلولا للكلمة المستعملة وهو ظاهر البطلان. وقد يجاب عن الأول بأن الجار الأول تعلق بالعامل مطلقا والثاني تعلق به مقيدا بالأول، فيكون التعلق بعاملين لا بعامل واحد؛ لأن المطلق غير المقيد. ويجاب عن الثاني بأن "في" بمعنى "على" أي: إن الكلمة مستعملة استعمالا جاريا على اصطلاح التخاطب، على أنهم قالوا: إن التعلق "بوضعت" أولى لفعليته, فهو أحق بالعمل من الوصف.

أما القيد الأول, فقد احترز به عن الكلمة قبل الاستعمال، فلا تسمى حقيقة، ولا مجازا. وأما القيد الثاني, فقد احترز به عن شيئين: 1- "الغلط اللساني"1 وهو ما استعمل في غير ما وضع له، من غير تعمد لذلك الاستعمال نحو: "ناولني هذا الحجر" مشيرا إلى كتاب, فمثل هذا ليس حقيقة، بل ولا مجازا لعدم العلاقة بين المعنيين. 2- "المجاز" وهو ما استعمل في غير ما وضع له في سائر الاصطلاحات "كالأسد" المستعمل في الرجل الشجاع في قولك: "على الفرس أسد". وأما القيد الثالث, فقد احترز به عن الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح آخر غير الاصطلاح الذي وقع به التخاطب "كالصلاة" إذا استعملها المتكلم بعرف الشرع في "الدعاء", فليست بحقيقة لعدم استعمالها فيما وضعت له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب وهو "الشرع", وإن استعملت فيما وضعت له في اصطلاح آخر وهو "اللغة"، و"كالصلاة" إذا استعملها المتكلم بعرف اللغة في الأركان الخاصة, فليست بحقيقة أيضا لعدم استعمالها فيما وضعت له في اصطلاح أهل اللغة، وإن استعملت فيما وضعت له في اصطلاح أهل الشرع. وإذًا فالمدار في "الحقيقة" على أن تكون الكلمة مستعملة فيما وضعت له عند أهل الاصطلاح, الذي وقع به التخاطب بالكلمة المذكورة كما بينا.

_ 1 أما الغلط القلبي فهو حقيقة إن كان الاستعمال فيما وضع له بحسب زعم المتكلم, ولو أخطأ في قصده كمن قال في الحجر الذي رآه عن بعد: هذا طائر, معتقدا أنه حيوان ذو جناح.

المجاز

المجاز: تعريفه: هو -في اللغة- على ما ذهب إليه عبد القاهر: مصدر ميمي على زنة مفعل1 بمعنى الجواز والتعدية, من جاز المكان يجوزه إذا تعداه، نقل في الاصطلاح إلى الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له باعتبار أنها جائزة ومتعدية مكانها الأصلي، فيكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، أو باعتبار أنها مجوز بها مكانها الأصلي، فيكون المصدر بمعنى اسم المفعول. وذهب الخطيب إلى أن المجاز -في اللغة- مصدر ميمي بمعنى مكان الجواز والتعدية, من قولهم: جعلت هذا مجازا إلى حاجتي أي: طريقا لها, فهو من جاز المكان سلكه إلى كذا، لا من جازه إذا تعداه كما هو الرأي الأول، ثم نقل إلى الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له باعتبار أنها طريق إلى تصور المعنى المراد منها, وهو نوعان: مفرد، ومركب. المجاز المفرد: هو في الاصطلاح: الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب؛ لعلاقة بين المعنى الأول والثاني، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأول. العلاقة: هي المناسبة الخاصة بين المعنى الأصلي الموضوع له اللفظ، والمعنى المقصود. والقرينة: هي الأمر الذي يجعله المتكلم دليلا على أنه أراد باللفظ غير المعنى الموضوع له، مثال ذلك لفظ "الأسد" المستعمل في الرجل الشجاع في قولك: "في الحمام أسد"، وكلفظ "الغيث" المستعمل في النبات في قولك: "رعت الماشية الغيث"، و"كالصلاة" المستعمل عند أهل الشرع في الدعاء, فكل من هذه الألفاظ مجاز مفرد؛ لأنه كلمة مستعملة في غير المعنى الموضوعة له في اصطلاح التخاطب، والعلاقة بين المعنيين "في الأول" مشابهة الرجل الشجاع للأسد، "وفي الثاني" سببية الغيث للنبات، "وفي الثالث" الكلية والجزئية, إذ إن الصلاة كل للدعاء وهو جزء منها، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي قولك في المثال الأول:

_ 1 فأصله "مجوز" نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها, فتحركت الواو بحسب الأصل, وانفتح ما قبلها بحسب الآن فقلبت ألفا.

"في الحمام" إذ الحلول في الحمام ليس من شأن الحيوان المفترس, والقرينة في الثاني قولك: "رعت الماشية" إذ إن الغيث لا يرعى, والقرينة في الثالث حالية وهي كون المستعمل للفظ الصلاة من أهل الشرع. وفي هذا التعريف قيود خمسة: 1- المستعملة. 2- في غير ما وضعت له. 3- في اصطلاح التخاطب. 4- لملاحظة علاقة. 5- مع قرينة مانعة. أما القيد الأول, فقد احترز به عن الكلمة قبل الاستعمال, فلا تسمى حقيقة، ولا مجازا. وأما القيد الثاني, فقد احترز به عن الحقيقة, وهي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في كافة الاصطلاحات, كالأسد المستعمل في الحيوان المفترس. وأما القيد الثالث, فقد احترز به عن الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح آخر غير الاصطلاح الذي وقع به التخاطب "كالصلاة" إذا استعملها المتكلم بعرف الشرع في الأركان الخاصة، فليست بمجاز لعدم استعمالها في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب وهو "الشرع"، وإن كانت مستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح آخر وهو "اللغة". و"كالصلاة" أيضا إذا استعملها المتكلم بعرف اللغة في الدعاء، فليست بمجاز كذلك؛ لعدم استعمالها في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب وهو اللغة, وإن استعملت في غير ما وضعت له في اصطلاح آخر هو "الشرع"، فالمدار في المجاز حينئذ على أن تكون الكلمة مستعملة في غير ما وضعت له عند أهل الاصطلاح, الذي وقع به التخاطب بالكلمة المنطوق بها. وأما القيد الرابع, فقد احترز به عن الغلط اللساني1، وهو

_ 1 أما الغلط في الاعتقاد, فإن استعمل اللفظ في معناه بحسب اعتقاد المتكلم كأن يقول: انظر إلى هذا الأسد, معتقدا أنه الحيوان المفترس فإذا هو فرس, فهو حقيقة لاستعماله في معناه الأصلي في اعتقاده, وإن لم يصب. وإن استعمل اللفظ في غير معناه الأصلي بحسب اعتقاده كأن يقول: انظر إلى هذا الأسد, مشيرا إلى حجر معتقدا أنه رجل شجاع, كان مجازا؛ لأنه مستعمل في غير معناه لعلاقة وإن لم يصب في ثبوت العلاقة في المشار إليه, وهذا هو أصح الأقوال في هذه المسألة, إذ المعول عليه الاعتقاد.

ما استعمل في غير ما وضع له لا لعلاقة، من غير تعمد لهذا الاستعمال كما إذا أشار متكلم إلى حجر، وأراد أن يقول: خذ هذا الحجر، فسبق لسانه، وقال: خذ هذا الفرس، فمثل هذا ليس مجازا؛ لأنه -وإن استعمل فيه اللفظ في غير ما وضع له- لا علاقة فيه بين المعنيين. ومن هنا يعلم أنه لا بد للمجاز من علاقة1، وهي -كما قلنا- مناسبة خاصة بين المعنى الحقيقي، والمعنى المجازي كالمشابهة في مجاز الاستعارة في نحو قولك: رأيت سحبان يخطب, تريد رجلا فصيحا، وكالسببية والمسببية في المجاز المرسل في نحو قولك: رعت الماشية الغيث, تريد النبات، غير أنه لا يكفي في المجاز مجرد وجود العلاقة بين المعنيين، بل لا بد أيضا من اعتبارها2 وملاحظتها. وإنما اشترط في المجاز ملاحظة العلاقة بين المعنيين، ولم يكتف بالقرينة الدالة على المراد؛ لأن إطلاق اللفظ على المعنى المجازي بعد إطلاقه على المعنى الحقيقي تشريك بين المعنيين في اللفظ، وتفريع لأحد الإطلاقين على الآخر، وذلك يستدعي وجها لتخصيص المعنى الفرعي "وهو المجازي" بالتشريك والتفريع، دون سائر المعاني، وذلك الوجه هو العلاقة، وإلا فلا حكمة في تخصيص بعض المعاني دون غيره، فيكون تحكما.

_ 1 سميت علاقة؛ لأنه بسببها يتعلق المعنى الثاني بالأول، ويرتبط به، فينتقل الذهن حينئذ من المعنى الأول إلى الثاني. 2 المعتبر في العلاقة نوعها لا شخصها؛ ولهذا جاز إنشاء المجاز في كلام المولدين, فإذا استعمل العرب علاقة خاصة بين معنيين جاز لنا أن نستعمل للربط بينهما لفظا آخر غير ما استعملوه, ولا نقتصر على خصوص اللفظ الذي اعتبروه، ولو كان المعتبر شخص العلاقة لتوقف استعمال اللفظ في معناه المجازي على النقل عن العرب, وليس كذلك.

وأما القيد الخامس, فقد احترز به عن الكناية1 بناء على القول بأنها واسطة، لا هي حقيقة ولا مجاز2, فهي اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، مع قرينة، غير مانعة من إرادة المعنى الحقيقي بحيث تجوز إرادته مع المعنى الكنائي3، وسيأتي لها مبحث خاص. هذا, وقد علم مما تقدم في بيان معنى الحقيقة والمجاز أن الوضع مأخوذ جزءا في تعريفهما، فوجب التعرض حينئذ لبيان معنى.

_ 1 أي: عند من لا يجيز الجمع بين الحقيقة والمجاز وهم البيانيون, أما من أجازه كالأصوليين فلا يشترط في القرينة أن تكون مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي. 2 أما أنها ليست حقيقة؛ فلأن الحقيقة -كما سبق- اللفظ المستعمل فيما وضع له، والكناية ليست كذلك. وأما أنها ليست مجازا؛ فلأنه اشترط فيه القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة, والكناية أيضا ليست كذلك. 3 المراد بجواز إرادة المعنى الحقيقي ألا ينصب المتكلم قرينة على انتفائه، وليس المراد أن يوجد المعنى الحقيقي معها دائما, فإنك إذا قلت مثلا: فلان طويل النجاد كناية عن طول قامته؛ صح ذلك ولو لم يكن له نجاد, اللهم إلا إذا قصد جعل علم المتكلم بأن النجاد له قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي, فإنه حينئذ يكون مجازا لا كناية.

الوضع

الوضع: وهو: تعيين اللفظ1 ليدل على معناه بنفسه، بمعنى أن يكون العلم بتعيين اللفظ للمعنى كافيا في فهمه منه عند الإطلاق، وبالقيد المذكور, وهو قوله: "بنفسه" يخرج شيئان: 1- المجاز بالنسبة لمعناه المجازي. 2- الكناية على القول بأنها غير حقيقة. وإنما خرجا؛ لأن كلا من لفظي المجاز والكناية إنما يدل على المعنى المجازي، أو الكنائي بالقرينة، لا بنفسه كدلالة "الأسد" على الرجل الشجاع بقرينة الحمام مثلا, في قولك: "في الحمام أسد"، وكدلالة "كثرة الرماد" على الكرم بقرينة المدح في مثل قولك: "محمد كثير الرماد"، غير أن القرينة في المجاز مانعة -على ما سيأتي- ولولا القرينة فيهما, لكان المتبادر إلى الفهم هو المعنى الحقيقي. أما المشترك وهو ما وضع لمعنيين، أو أكثر وضعا متعددا, فلا يخرج بالقيد المذكور؛ إذ قد عين للدلالة على كل من معنييه، أو معانيه بنفسه لفهم ذلك منه بدون قرينة, كما في لفظ "القرء" فقد عين "تارة" للدلالة على الطهر بنفسه، وعين "أخرى" للدلالة على الحيض بنفسه كذلك، فهو موضوع لكل منهما على استقلال، وعدم فهم أحد المعنيين منه على التعيين لعارض الاشتراك لا ينافي ذلك، كما لا يضيره احتياجه إلى القرينة -والحالة هذه- لأن القرينة إنما هي لتعيين المراد من المعنيين المدلولين للفظ، لا لوجود أصل الدلالة على المراد، ومثله لفظ "العين" الموضوع لجملة معانٍ ا. هـ.

_ 1 أي: ولو بالقوة؛ لتدخل الضمائر المستترة.

القول بدلالة اللفظ لذاته

القول بدلالة اللفظ لذاته: اعلم أن ما ذكر من أن دلالة اللفظ على المعنى إنما تكون بالوضع, والتعيين هو ما عليه المحققون، وكون الواضع هو الله "سبحانه" بطريق الوحي، أو الواضع هو البشر بحث ليس هنا محله. وذهب بعضهم1 إلى أن دلالة اللفظ على معناه لا تحتاج إلى وضع وتعيين، بل هو أمر ذاتي؛ بمعنى أن بين اللفظ والمعنى علاقة ذاتية طبيعية ربطت بينهما، واقتضت دلالة اللفظ على معناه, فكل من سمع اللفظ فهم المعنى بهذه العلاقة الذاتية, وحجة صاحب هذا الرأي أمران: 1- وجود العلاقة الذاتية بين كثير من الألفاظ ومعانيها؛ فلفظ "العواء" بالضم إنما دل على صوت الذئب؛ لما بين الدالّ والمدلول

_ 1 هو عباد بن سليمان الصيمري, من المعتزلة.

من علاقة ذاتية هي التوافق في الصوت والحروف. ومثله "المواء" بضم الميم لصوت القط، والقهقهة لصوت الضاحك، إلى غير ذلك مما بين الدالّ والمدلول توافق. 2- أنه لولا وجود هذه العلاقة بينهما؛ لكان اختيار لفظ دون آخر ترجيحا بلا مرجح، وقد رد هذا القول من وجوه: الأول: لو أن اللفظ يطلب المعنى لعلاقة ذاتية بينهما, لزم أن يفهم الإنسان معنى اللفظ في أية لغة من اللغات، بدون حاجة إلى تعلم متى رجع إلى ما بينهما من علاقة. والواقع ليس كذلك, بل لما اختلفت اللغات في معنى اللفظ الواحد باختلاف الأمم؛ لأن اللفظ دال بذاته، وما بالذات لا يختلف باختلاف الغير واللازم باطل. الثاني: لو أن اللفظ دال بذاته على المعنى لامتنع أن يدل بواسطة القرينة على المعنى المجازي، دون الحقيقي كما في "الأسد" المستعمل في الرجل الشجاع بقرينة الحمام مثلا, ولامتنع أيضا أن ينقل اللفظ من معنى إلى آخر بحيث لا يفهم منه إلا المعنى الثاني "كالصلاة" المنقولة من معنى الدعاء إلى الأركان الخاصة، وكالدابة المنقولة من كل ما يدبّ على الأرض إلى ذوات الأربع؛ لأن اللفظ فيما ذكرنا دال بذاته على المعنى الأول، وما بالذات لا يزول بالغير واللازم باطل. الثالث: لو كانت المناسبة الذاتية دليلا على المعنى فيما بينهما ذلك التوافق في الصوت والحرف كالذي مثل به هذا القائل من العواء، والمواء، والقهقهة, فكيف تنهض دليلا فيما لا توافق بينهما، مع ما نعلمه من خلو غالب الألفاظ من هذا التوافق؟ الرابع: ماذا يقول صاحب هذا الرأي فيما هو مشاهد من دلالة كثير من الألفاظ على معانيها، وعلى أضداد هذه المعاني؟ فأي أثر للمناسبة الذاتية هنا بين اللفظ، وضد معناه؟ الخامس: هلا كفى أن يكون مجرد عروض اللفظ، دون غيره للخاطر مرجحا، ودافعا إلى اختياره؟

وقيل1 في معنى "دلالة اللفظ" لذاته: إن للحروف في أنفسها خواص, وصفات، وإن لهيئات تركيبها أيضا خواص, وصفات تقتضي ألا يهمل أمرها عند وضع اللفظ للمعنى, بأن يراعى التناسب بينهما أداء لحكمة اتصاف الحروف، أو هيئاتها بتلك الخواص. فالأول "كالفصم" بالفاء التي هي حرف رخو, فإنه وضع لكسر الشيء من غير أن يبين، و"كالقصم" بالقاف التي هي حرف شديد, فإنه وضع لكسر الشيء حتى يبين, ولا شك أن كسر الشيء مع البينونة أشد وأقوى من الكسر بلا بينونة. والثاني "كالفعلان" و"الفعلى" بالتحريك فيهما؛ فإنهما وضعا لما فيه حركة واضطراب كالجولان والغليان، وكالحيدى والجمزى وصفين للحمار السريع, هكذا قيل. غير أن اعتبار التناسب بين اللفظ والمعنى بحسب خواص الحروف, أو هيئات تركيبها -كما قيل- إنما يظهر في بعض الكلمات كالمذكورة سابقا, أما اعتباره في جميع الكلمات من لغة واحدة -فضلا عن جميع اللغات- فمتعذر أيما تعذر, فلعل تلك الألفاظ المذكورة، وما شاكلها وضعت لمعانيها اتفاقا، بدون مراعاة التناسب بينهما. تنبيه: يتسمى كل من الحقيقة والمجاز بأسماء تختلف باختلاف الواضع "بالنسبة للحقيقة"، وباختلاف الاصطلاح "بالنظر إلى المجاز". ففي الحقيقة: إن كان الواضع لها من أرباب اللغة الفصحاء سميت "حقيقة لغوية" كلفظ "الأسد" المستعمل في المعنى الذي وضعه له أهل اللغة، وهو الحيوان المفترس.

_ 1 أريد بهذا القول تأويل قولهم: "إن دلالة اللفظ بذاته" بحمله على غير ظاهره, ولكنه مع ذلك لا يستقيم؛ لعدم اطراده كما هو ظاهر.

وإن كان الواضع لها من أهل الشرع سميت "حقيقة شرعية" كلفظ الصلاة المستعمل في المعنى الذي وضعه له أهل اللغة الشرعيون, وهو الأفعال والأقوال الخاصة. وإن كان الواضع لها طائفة خاصة كالنحاة مثلا سميت "حقيقة اصطلاحية"، أو "عرفية خاصة" كالفاعل المستعمل في المعنى الذي وضعه له علماء النحو، واصطلحوا عليه، وهو: الاسم المرفوع بعد فعل مبني للمعلوم أو شبهه. وإن كان الواضع لها غير طائفة بعينها سميت "حقيقة عرفية عامة" كلفظ "الدابة" المستعمل في المعنى الذي تواضع عليه الناس وتعارفوه، وهو ذات الأربع من الدواب كالفرس والحمار. وفي المجاز: إن كان المستعمل له من أهل اصطلاح اللغة سمي "مجازا لغويا" "كالأسد" المستعمل في الرجل الشجاع. وإن كان المستعمل له من أهل الشرع سمي "مجازا شرعيا" كالصلاة إذا استعملها الشرعيون في معنى الدعاء. وإن كان المستعمل له طائفة خاصة سمي "مجازا اصطلاحيا"، أو "عرفيا خاصا" "كالفاعل" إذا استعمله النحاة فيمن وقع منه الفعل. وإن كان المستعمل له غير طائفة بعينها سمي "مجازا عرفيا عاما" كلفظ "دابة" إذا استعمله العرف العام في الإنسان المتبذل الحقير. تفسير المجاز المفرد: قلنا فيما سبق: إن المجاز لا بد له من علاقة، وهي -كما قلنا غير مرة- المناسبة الخاصة بين المعنيين الحقيقي والمجازي, وهو باعتبار هذه العلاقة ينقسم إلى قسمين: استعارة، ومجاز مرسل. فإن كانت العلاقة بين المعنيين المشابهة سمي "استعارة" كلفظ "الأسد" المستعار للرجل الجريء كقولنا فيما تقدم: "في الحمام أسد", فإن العلاقة بين الأسد والجريء مشابهة الرجل للأسد في الإقدام. وإن كانت العلاقة بين المعنيين غير المشابهة سمي اللفظ "مجازا مرسلا" كلفظ "الغيث" المستعمل في النبات كقولنا فيما سبق: "رعت الماشية الغيث", فإن العلاقة بين الغيث والنبات السببية؛ إذ إن الغيث سبب في النبات, وإليك بيان كل:

الاستعارة

الاستعارة مدخل ... الاستعارة 1: هي: الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوعة له2, كما في قول زهير: لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم3 يريد: أنا عند أسد أي: رجل مقدام بطل. وطريقة إجرائها: أن يقال في هذا المثال وأشباهه: شبه الرجل الجريء بالأسد في الجرأة والإقدام، ثم تنوسي التشبيه، وادعي أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، وداخل في جنسه، ثم استعير لفظ المشبه، وهو "الأسد" للمشبه، وأطلق عليه باعتباره أحد أفراد

_ 1 المراد الاستعارة التصريحية, وهي -على ما سيأتي- ما صرح فيها بذكر المشبه به, دون المشبه. 2 هذا التعريف بالمعنى الاسمي وهو المشهور, وقد تطلق الاستعارة بالمعنى المصدري وهو فعل المتكلم، فيقال: هي استعمال الكلمة في غير ما وضعت له ... إلخ, ومن هنا صح الاشتقاق فيقال: اللفظ مستعار، والمشبه به مستعار منه، والمشبه مستعار له، والمتكلم مستعير. 3 شاكي السلاح: تامه, ومقذف بصيغة اسم المفعول أي: المقذوف باللحم أو المقذوف به في المعارك، واللبد على زنة عنب: الشعر الكثيف المجتمع على نصفه الأعلى.

الأسد1. وهكذا يقال في كل استعارة, وكالمثال المذكور قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: الدين الحق؛ استعير الصراط المستقيم للدين الحق، بعد إجراء التشبيه فيهما على نحو ما تقدم في المثال الذي قبله, ووجه الشبه أن كلا وسيلة إلى المطلوب, والاستعارة في المثالين تحقيقية، وهي ما كان المستعار له فيها محققا حسا كما في المثال الأول، أو عقلا كما في المثال الثاني. أركان الاستعارة: هي -كما يؤخذ من التعريف- ثلاثة: "المستعار منه"، وهو ذات المشبه به "كالحيوان المفترس" في المثال المتقدم؛ لأن اللفظ الموضوع له هو "أسد" أخذ منه وأعطي لغيره، فهو كالإنسان يستعار ثوبه ويعطى لغيره, "والمستعار له"، وهو ذات المشبه كالرجل الجريء؛ لأن اللفظ الذي لغيره أعطي له، فهو كالإنسان يستعار له الثوب من صاحبه، ويلبس إياه, "والمستعار" وهو لفظ "أسد"؛ لأنه أتي به من صاحبه، واستعير لغيره كاللباس المستعار من صاحبه للابسه، وثلاثتها هي أركان الاستعارة2.

_ 1 ويقدر أن الأسد موضوع لفردين, أحدهما متعارف وهو الحيوان المعروف, والآخر غير متعارف وهو الرجل الجريء. 2 من هذا البيان يعلم أن التشبيه إنما يكون في المعاني, وأما الاستعارة ففي الألفاظ.

ما لا بد منه لتحقيقها

ما لا بد منه لتحقيقها: يتبين مما تقدم في طريقة إجرائها أن لا بد لتحقيقها من أمور أربعة: 1- أن يتناسى التشبيه ويجعل كأن لم يكن، ويدعى حينئذ أن المشبه فرد من أفراد المشبه به مبالغة في اتصاف المشبه بوجه الشبه, غير أن التشبيه الذي يجب تناسيه فيها هو الذي ينيت عليه الاستعارة وإذًا فلا مانع من أن تقول: "رأيت أسدا يتكلم مثل الفيل في الضخامة"، فالذي بنيت عليه الاستعارة هو تشبيه الرجل الجريء بالأسد في الجرأة، وهذا هو الذي يجب تناسيه فيها، فتشبيهه بعد ذلك بالفيل لا يضر بالاستعارة؛ لعدم بنائها عليه. 2- ألا يجمع فيها بين الطرفين أصلا، أو يجمع بينهما على وجه لا يدل على التشبيه، في غير صور التجريد. فمثال الأول قولك: "لقيت بحرا يعظ الناس"، وقولك: "أظفار المنية نشبت بفلان"، ففي الأول: شبه الواعظ بالبحر في الإفاضة، على ما تقدم في طريقة إجرائها، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه، فالمذكور هو المشبه به فقط وهو "البحر". وفي الثاني: شبهت المنية بالأسد في الاغتيال، ثم استعير تقديرا لفظ الأسد للمنية، ثم حذف ورمز له بشيء من خواصه، وهو "الأظفار" -على ما سيأتي بيانه بعد- فالمذكور هو المشبه لا غير. ومثال الثاني, وهو ما جمع فيه بين الطرفين على وجه لا ينبئ عن التشبيه قول الشاعر: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر1 فلفظ "القمر" في الشطر الثاني من البيت استعارة؛ لأنه مستعار من معناه الحقيقي للإنسان الجميل، بعد إجراء التشبيه بينهما, وقد جمع فيها بين الطرفين؛ المشبه، وهو الضمير في "غلالته"، أو في "أزراره" والمشبه به وهو "القمر"، ولكن على وجه لا يدل على التشبيه؛ لأن سياق الكلام إنما هو لإثبات شيء واقع على القمر وهو زرّ الأزرار، لا لإثبات التشبيه إذ هو مكنون في الضمير، لا يدرك

_ 1 البلى من بلي الثوب إذا فسد, والغلالة: ثوب قصير ضيق الكمين كالقميص يلبس تحت الثوب, وزر القميص عليه: شد أزراره, وبهذا يعلم أن تعدية "زر" إلى الأزرار في البيت فيه ضرب من التسامح.

إلا بشيء من التأمل. ومثله قولهم: "سيف علي في يد أسد" فقد جمع فيه بين الطرفين على وجه لا ينبئ عن التشبيه للسبب المتقدم, وهو أن الكلام مسوق لإثبات شيء واقع على الأسد وهو كون السيف في يده، ولا لإثبات التشبيه. فإذا جمع بين الطرفين على وجه ينبئ عن التشبيه، ويدل عليه -بألا يصح المعنى إلا بمراعاة التشبيه- كان الكلام تشبيها لا استعارة؛ وذلك إذا كان الكلام مسوقا لإثبات التشبيه، لا لإثبات شيء آخر كما تقدم, ويكون ذلك إذا كان المشبه به جاريا على المشبه كأن يكون المشبه به خبرا1 عن المشبه، أو في حكم الخبر عنه بأن يقع حالا منه، أو صفة له. فمثال وقوعه خبرا عن المشبه قولك: "خالد بن الوليد أسد"، ومثال ما في حكمه قولك: "كرّ خالد أسدا"، و"لجأت إلى رجل أسد"، ففي هذه المثل جمع بين الطرفين على وجه ينبئ عن التشبيه؛ لأن المعنى لا يصح إلا بمراعاة التشبيه, إذ إن سياق الكلام ظاهرا إنما هو لإثبات معنى الأسدية لخالد، وهو ممتنع على الحقيقة، فيحمل على أنه لإثبات شبه من الأسد لخالد، ويكون الإتيان "بالأسد" لإثبات هذا الشبه, ومعنى هذا التعليل واضحا: أن جريان لفظ "أسد" على "خال" يقتضي اتحادهما في المعنى ليصح الحمل في المثال الأول، وليصح الاتصاف في المثالين الآخرين، واتحادهما ممتنع لتباين المفهومين، فتعين الحمل على التشبيه بتقدير أداته، وكأنك قلت: خالد بن الوليد كأسد، وكر خالد كأسد، ولجأت إلى رجل كأسد. 3- ألا يذكر وجه الشبه، ولا أداته لا لفظا، ولا تقديرا، فإن ذكرا كما تقول: رأيت كأبى العلاء في شعر أو ذكر أحدهما,

_ 1 أي: أصلا أو حالا, الأول كما في لجين الماء, فإن أصله "لجين" فقدم المشبه به على المشبه ثم أضيف إليه, والثاني كما في قولهم: محمد أسد.

كما تقول: رأيت كأبي العلاء، أو رأيت أبا العلاء في شعره، كان الكلام تشبيها لا استعارة. 4- أن يكون المشبه به كليا, حقيقة أو تأويلا, حتى يتأتى ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، واعتباره فردا من أفراده. فالكلي الحقيقي كاسم الجنس في مثل "الأسد", فإن معناه كلي يصدق على كثيرين، فيصبح حينئذ جعله استعارة للرجل الجريء باعتباره أحد أفراد الأسد ادعاء كما مثلنا. والكلي التأويلي كعلم الشخص الذي اشتهر بوصف, بحيث إذا أطلق ذلك العلم فهم منه ذلك الوصف، وصار العلم كأنه موضوع للذات الموصوفة بذلك الوصف "كحاتم" علما على الطائي المعروف1, فإنه اشتهر بالجود، وذاع صيته فيه حتى صار إذا أطلق لفظ "حاتم" فهم منه معنى الجود, فإذا شبه شخص بحاتم في الجود وجب أن يتأمل في حاتم، فيجعل كأنه موضوع لذي الجود مطلقا، وهو -كما ترى- معنى كلي يشمل حاتما الطائي، وغيره من أجاويد الناس، فيصح حينئذ أن يجعل لفظ "حاتم" استعارة لأية ذات كريمة باعتبارها فردا من أفراد حاتم2 ادعاء، فيقال مثلا: "رأيت اليوم حاتما يعطف على البائسين"، ويراد "محمد الكريم" مثلا, والقرينة هنا هي استحالة وجود شخص حاتم الطائي لانقراضه, وهكذا كل علم شخص اشتهر بنوع من الوصف صح جعله "استعارة" بهذا التأويل المتقدم كمادر3 "المشتهر بالبخل"، وقس4 المشتهر بالفصاحة، وباقل5 الذي اشتهر بالعي والفهاهة، ومن هنا يعلم أن:

_ 1 هو عبد الله بن سعد, المضروب به المثل في الجود والكرم. 2 هذا التأويل إنما يكون بعد التشبيه، فلا يقال إذا كان المشبه فردا من أفراد المشبه به, فكيف يصح التشبيه حينئذ؟ 3 هو رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة, وهو المضروب به المثل في البخل. قيل: سمي مادرا؛ لأنه سقى إبلا له من حوض, فلما رويت الإبل بقي في أسفل الحوض بقية ماء فسلح فيه ومدر الماء به, أي: خلطه به؛ مخافة أن يستقي من حوضه أحد. 4 هو قس بن ساعدة الإيادي, أحد خطباء العرب الأعلام في العصر الجاهلي. 5 هو رجل من إياد كان شديد العي في النطق, حتى كان مضرب المثل فيه. روي أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما فقيل له: بكم اشتريته؟ ففتح كفيه، وفرق بين أصابعه وأخرج لسانه ليشير بذلك إلى العدد المذكور؛ فانفلت الظبي منه, فضرب به المثل في الفهاهة.

الاستعارة لا تصح في علم الشخص

الاستعارة لا تصح في علم الشخص: ذلك أن معناه جزئي لتشخصه وتعينه خارجا، فتصوره يمنع من وقوع الاشتراك فيه. فلفظ "محمد" مثلا لا يصح جعله استعارة لشخص آخر بينه وبين محمد مشابهة في شيء, إذ هي تقتضي ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به باعتباره أحد أفراده -كما عرفت- وهذا يقتضي عموم المشبه به، و"محمد" المذكور لا عموم فيه إذ لا يشمل غير مسماه الذي وضع له، اللهم إلا إذا عرف بوصف، واشتهر به كما سبق في "حاتم" فإنه حينئذ يصح جعله كليا بالتأويل المتقدم, باعتبار هذا الوصف1. فصل في نحو: خالد أسد: اختلف الرأي في نحو قولهم: "خالد أسد"، و"كر خالد أسدا"، و"أعجبت برجل أسد" من كل لفظ استعمل فيما وضع له. فقال الخطيب: إنه تشبيه بليغ لا استعارة؛ لأن الاستعارة عنده لفظ تضمن تشبيه معناه المراد بما وضع له, كما في نحو: "رأيت أسدا مدرعا" أي: لابسا درعا, فإن لفظ أسد أفاد تشبيه معناه المراد منه، وهو "الرجل الجريء" بالمعنى الموضوع له اللفظ، وهو "الحيوان

_ 1 تخصيصهم الاستعارة بالذكر في عدم صلاحيتها في علم الشخص, يفهم منه أن المجاز المرسل يصح إجراؤه في العلم المذكور، وأنه لا مانع من كون المجاز المرسل علما لجواز أن يكون للعلم لازم ولو غير مشهور يستعمل فيه لفظ العلم, كما إذا أطلق "قميار" علم فرس على "زيد" مثلا مرادا منه لازمه, وهو شدة العدو.

المفترس"، فلو أن لفظ "أسد" من نحو قولهم: "خالد أسد" استعارة لتضمن تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن المعنى المستعمل فيه اللفظ عين المعنى الموضوع له1, وتشبيه الشيء بنفسه محال. ومما يدل على أنه تشبيه بليغ، لا استعارة إيقاع لفظ "أسد" على "خالد" أي: حمله عليه كما في المثال الأول، أو وصفه به كما في المثالين الآخرين، وهذا يقتضي اتحاد المحمول والمحمول عليه، أو اتحاد الصفة والموصوف في المعنى، واتحادهما باطل لما ذكرنا -سابقا- إذ لا يمكن أن تنقلب حقيقة الإنسان إلى حيوان مفترس، أو العكس، فوجب المصير حينئذ إلى التشبيه بحذف أداته؛ قصدا إلى المبالغة. وقال السعد التفتازاني: إن نحو ما ذكر من الأمثلة من قبيل الاستعارة، لا من قبيل التشبيه مدعيا أن لفظ "أسد" مستعمل في معنى "الجريء"، بعد إجراء التشبيه بينه وبين الأسد، لا كما قال الخطيب. ودليل استعماله فيه حمله على "خالد" الذي هو فرد من أفراد "الجريء"، أو وصفه به، والحمل أو الوصف -كما قلنا- يقتضي اتحاد الحقيقتين، ولا يتم هذا الاتحاد إلا إذا كان لفظ "أسد" مستعملا في معنى "الجريء"، وحينئذ يكون استعارة لاستعماله في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة بين الجريء والأسد كما في قولك: رأيت أسدا شاهرا سيفا2, وليس في هذا جمع بين طرفي التشبيه؛ لأن "خالدا" في نحو: "خالد أسد" ليس هو المشبه، بل المشبه المعنى الكلي لخالد، وهو "الجريء"، ولم يذكر لفظه في الكلام. ومما يؤيد استعمال لفظ "أسد" في معنى "الجريء"، لا في المعنى الحقيقي ما ورد من تعلق الجار والمجرور بالمشبه به في مثل هذه

_ 1 من حيث إن الاستعارة تقتضي ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به. 2 يلاحظ أن هذا الاستلال هو عين ما استدلوا به على أنه تشبيه بليغ، ولكن لكلٍّ وجها في تدليله كما تراه.

المواضع. قال عمران بن حطان يخاطب الحجاج بن يوسف الثقفي: أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتحاء تنفر من صفير الصافر1 أي: أنت مجترئ علي، وفي الحروب جبان رعديد؛ فقد استعمل لفظ "أسد" في معنى المجترئ, كما استعمل لفظ "نعامة" في معنى "الجبان", إذ النعامة من أجبن الحيوانات. وقال أبو العلاء المعري في مرثية له: والطير أغربة عليه بأسرها ... فتح السراة وساكنات لصاف2 فليس المراد "بالأغربة" الطيور المعروفة إذ لا معنى له، بل المراد: والطير باكية عليه؛ فاستعمل لفظ "أغربة" في معنى "باكية", إذ يزعمون أن الغراب يعلم بالموت، ومن لازم ذلك التحزن والبكاء, فالجار مع مجروره في كل ما ذكرنا إنما تعلق بهذه الألفاظ بعد تأولها بالمشتق -كما رأيت- ولو كانت مستعملة في معناها الحقيقي -كما ذهب إليه الخطيب- ما صح تعلقه بها لامتناع تعلقه بالجوامد؛ لهذا كانت هذه الألفاظ الواردة مستعملة في هذه المعاني المذكورة، لا في المعنى الموضوع له، فهي إذًا من أنواع المجاز بالاستعارة.

_ 1 "الفتحاء" بالحاء المهملة: المسترخية الجناحين عند النزول, والمراد بقوله: "تنفر من صفير الصافر" أنها تنزعج من مجرد الصدى, وبعد هذا البيت: هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر وغزالة: اسم امرأة كان يضرب بها المثل في الشجاعة، وقد حدث أنها هجمت على الكوفة ليلا في ثلاثين فارسا وكان الحجاج بالكوفة على رأس ثلاثين ألف مقاتل فخرج موليا، فصلت المرأة صلاة الصبح فيها وقرأت -على ما قيل- في تلك الصلاة سورة البقرة. 2 الفتح -بضم الفاء وسكون التاء- جمع فتحاء من الفتح وهو اللين، والسراة بفتح السين: جبال باليمن، ولصاف بفتح اللام: اسم جبل لطيء, وكلاهما مأوى للطير.

والاستدلال بأن لفظ "أسد" محمول على "خالد"، ووصف له، وهذا يقتضي اتحاد الحقيقتين، ومعلوم أن الإنسان لا ينقلب أسدا, وأن الأسد لا ينقلب إنسانا، فوجب المصير إلى التشبيه. إنما يتم لو كان لفظ "أسد" مستعملا في معناه الحقيقي، وليس كذلك، بل مستعمل في معنى "الجريء" للأدلة التي أوردناها, فحمله حينئذ على "خالد"، أو وصفه به، باعتباره أحد أفراد "الجريء" صحيح, لا ضير فيه لاتحاد الحقيقتين. وقد يجاب ردا على السعد: بأن الاستعارة لا يجمع فيها بين طرفي التشبيه، وواضح أن في مثل قولنا: "خالد أسد" جمعا بين الطرفين, وقولهم: إن "خالدا" في المثال المذكور ليس مشبها، وإنما المشبه الرجل الجريء، تمحل لا معنى له؛ إذ إن "خالدا" لم يلاحظ باعتبار ذاته، بل باعتبار اتصافه بالجرأة، وهو بهذا الاعتبار مشبه قطعا, ولا دليل لهم فيما أوردوه من نحو: "أسد علي" فإن تعلق الجار "بالأسد" لا باعتبار ذاته، بل باعتبار ما لزمه من وصف الجرأة, ويكفي هذا في صحة التعلق. ويحتمل أن يكون الجار متعلقا بأداة التشبيه المفهومة من التركيب في كل من البيتين؛ لما فيها من معنى الفعل، والمعنى: أنت تشبه الأسد بالنسبة إلي، وحذف ما تعلق به الجار شائع. وهناك رأي قد يكون قاطعا في المسألة, هو أن الغرض من قولنا: "خالد أسد" ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به, بخلاف نحو قولنا: "رأيت أسدا في حمام" فإن الغرض منه إثبات حكم للمشبه به هو كونه مرئيا في حمام، وكأن ادعاء دخول المشبه في جنسه أمر مقطوع به، مفروغ منه بدليل حذف المشبه من التركيب. كذلك المشبه به في الصورة الأولى ذكر على وجه يصح فيه تقدير أداة التشبيه لفظا, بخلاف المشبه به في الصورة الثانية, فإنه ذكر على وجه لا يفهم منه المشبه إلا بعد التأمل في القرائن، ولا شك أن الخصم لا يسعه إنكار أبلغية الثانية, فهي إذًا أولى أن تسمى "استعارة"، وأن تسمى الأولى تشبيها بليغا.

الاستعارة مجاز لغوي لا عقلي

الاستعارة مجاز لغوي, لا عقلي: اختلف رأي علماء البيان في الاستعارة: هل هي من قبيل المجاز اللغوي, أم من قبيل المجاز العقلي؟ فجمهور البيانيين -ومنهم الخطيب- على أنها مجاز لغوي, أي: إنها لفظ استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة, فالتصرف فيها إنما هو في نقل اللفظ من معناه الموضوع له في اللغة إلى معنى آخر. والدليل على ذلك: أن اللفظ المستعار موضوع -في اللغة- للمشبه به، لا للمشبه، ولا للأعم من المشبه والمشبه به، فلفظ "أسد" من قولنا: "رأيت أسدا يقود الجيش" موضوع -في اللغة- للحيوان المعروف، لا للرجل الجريء، وهو ظاهر، ولا لمعنى أعم منه، ومن الحيوان المعروف كالحيوان الجريء مطلقا, رجلا كان أو أسدا، إذ لو كان موضوعا لمطلق حيوان جريء لكان إطلاقه على كل منهما حقيقة باعتبارهما من أفراد هذا المطلق، وليس الواقع كذلك، وإذا لم يوضع لواحد منهما نقلا عن أئمة اللغة كان استعماله في المشبه إطلاقا للفظ على غير ما وضع له، وهذا هو معنى المجاز اللغوي. وقيل: إنها من قبيل المجاز العقلي بمعنى: أنها تصرف في أمر عقلي لا لغوي. ودليل هذا القائل: أن من يقول: "رأيت أسدا معتقلا رمحا" إنما يريد أن يثبت معنى الأسدية لرجل جريء مقدام، وأن ينقل هذا الرجل الجريء من نوع الإنسانية إلى جنس الأسد, مدعيا أنه فرد من أفراده حقيقة1, إذ لو لم يكن هذا مراده لزم عليه أمور ثلاثة:

_ 1 من هذا يعلم أن المجاز العقلي يطلق على أمرين: إسناد الشيء إلى غير ما هو له, التصرف في المعاني العقلية على خلاف ما في الواقع والمراد هنا الثاني, وهو ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، وأنه فرد من أفراده, وإن لم يكن كذلك في الواقع.

1- ألا يكون القول المذكور وأشباهه استعارة؛ لأن حقيقة الاستعارة أن ينقل اللفظ بمعناه بدعوى دخول المشبه في جنس المشبه به، لا أن ينقل اللفظ مجردا عن المعنى، وعن هذه الدعوى، وإلا كانت الأعلام المنقولة "كيزيد ويشكر" استعارة، ولا قائل به. 2- ألا تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة, إذ لا مبالغة في نقل اللفظ مجردا عن المعنى، وخاليا عن دعوى الاتحاد, وهذا خلاف الواقع. 3- أن من قال: "رأيت شمسا تتحدث"، وأراد "ليلى" مثلا, لا يقال فيه: إنه جعلها شمسا أي: أثبت لها معناها كما لا يقال فيمن سمى بنته شمسا: إنه أثبت لها هذا المعنى لاستواء الأمرين في عدم ادعاء دخول ما أطلق عليه الاسم المستعار في جنس صاحب الاسم، مع أنه من المقطوع به أن من قال: "رأيت شمسا تتحدث"، وأراد "ليلى" مثلا إنما يريد -في العرف- أن يجعل ليلى شمسا, أي: أن يثبت لها معنى الشمس، ولا يكون هذا إلا باعتبار ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به. وإذ ثبت أن اللفظ المستعار إنما نقل إلى المستعار له بعد نقل معناه إليه، بمعنى إثبات معناه له كإثبات معنى الشمس الحقيقية للمرأة الجميلة ادعاء كان استعمال اسم "الشمس" في المرأة الجميلة استعمالا للفظ فيما وضع له1، فلا يكون مجازا لغويا، بل عقليا, بمعنى أن العقل اعتبر المرأة الجميلة داخلة في جنس الشمس الحقيقية، وفردا من أفرادها -واعتبار ما ليس في الواقع واقعا مجاز عقلي- يؤيد هذا صحة التعجب في قول ابن العميد2:

_ 1 ظهر من هذا أن المستعار في الحقيقة على هذا الرأي هو معنى المشبه به, ولما تبع ذلك إطلاق اللفظ سمي استعارة تبعا لاستعارة المعنى. 2 هو ذلك الكاتب المعروف, وقد قاله في غلام جميل قام على رأسه, يظلله من حر الشمس.

قامت تظللني من الشمس ... نفس أعز على من نفسي قامت تظللني ومن عجب ... شمس تظللني من الشمس1 أي: غلام جميل كالشمس في الحسن والبهاء, كما يؤيده صحة النهي عن التعجب في قول أبي الحسن2: يا من حكى الماء فرط رقته ... وقلبه في قساوة الحجر يا ليت حظي كحظ ثوبك من ... جسمك يا واحدا من البشر لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر3 أي: على جسم مشرق كالقمر, فلولا أن ابن العميد ادعى لغلامه معنى الشمس الحقيقي لما كان لهذا التعجب معنى, إذ ليس ببدع أن يظلل إنسان حسن الوجه إنسانا آخر، ويقيه بشخصه وهج الشمس، كذلك لولا أن أبا الحسن جعل صاحبه قمرا حقيقة لما كان هناك وجه للنهي عن التعجب؛ لأن الكتان إنما يسرع إليه البلى حين يلابس القمر الحقيقي كما يقولون، لا حين يلابس إنسانا بلغ الغاية في الحسن. ومثله قول الشاعر: ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحيانا فيبليها

_ 1 ضمن التظليل معنى المنع, فعداه بمن أي: تمنعني من حر الشمس, والمراد بالنفس غلام جميل وأنّث الفعل مراعاة لتأنيث اللفظ. 2 هو الشريف أبو الحسن, يتصل نسبه بعلي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وهو شاعر مفلق. 3 الشاهد في البيت الأخير, وقد سبق شرح مفرداته في موضع آخر.

فكيف تنكر أن تبلى معاجرها1 ... والبدر في كل يوم طالع فيها فلولا أن الشاعر جعل صاحبه قمرا حقيقيا, لما كان هناك وجه للتعجب من هذا الإنكار؛ لأن الكتان -كما قلنا- إنما يبليه ملابسته للقمر الحقيقي. ورد هذا الدليل بأن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به لا يقتضي أن يكون لفظ المشبه به مستعملا فيما وضع له؛ لأن هذا الادعاء مبني على جعل أفراد الأسد بطريق التأويل قسمين: "متعارفا"، وهو الذي له غاية الجرأة في الهيكل المعروف، و"غير متعارف", وهو الذي له تلك الجرأة لا في ذلك الهيكل، ولفظ "الأسد" إنما هو موضوع للقسم المتعارف، فاستعماله في غير المتعارف استعمال للفظ في غير ما وضع له، والقرينة مانعة من إرادة المعنى المتعارف ليتعين غير المتعارف. وأما التعجب، أو النهي عنه، وما إليهما مما ورد في الأمثلة السابقة, فمبني على تنزيل الاستعارة منزلة الحقيقة بتناسي التشبيه الذي بنيت عليه قضاء لحق المبالغة, حتى إن كل ما يترتب على المشبه به يترتب على المشبه. ويعلم مما تقدم أن الخلاف بين الرأيين لفظي؛ ذلك أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به مسلم عند القائل بأن الاستعارة مجاز لغوي، وكون اللفظ المستعار مستعملا في غير معناه الأصلي مسلم عند القائل بأنها مجاز عقلي، فلم يبق إلا النزاع في التسمية، فمن نظر إلى حقيقة الأمر سماها مجازا لغويا، ومن نظر إلى الادعاء والمبالغة سماها مجازا عقليا.

_ 1 جمع معجر على زنة منبر, وهو ثوب تعتجر به المرأة أي: تلتفّ به.

الاستعارة تفارق الكذب: تفارق الاستعارة الكذب من جهتين: الأولى: أن الاستعارة مبنية على التأويل، وهو دعوى دخول المشبه في جنس المشبه به, بأن يجعل أفراد المشبه به قسمين: متعارفا، وغير متعارف كما مر بيانه, أما الكذب فلا تأويل فيه. الثانية: أن الاستعارة لا بد من نصب قرينة على إرادة خلاف الظاهر من اللفظ, أي: مانعة من إرادة المعنى الحقيقي للفظ، أما الكذب فلا تنصب فيه قرينة على إرادة خلاف الظاهر، بل إن قائله ليبذل كل جهده لترويج ظاهره1، وإظهار صحة باطله, وإذ لا بد للاستعارة من قرينة تميزها عن الكذب فهاك بيانها.

_ 1 محل ذلك إذا كان الكاذب يعرف عدم مطابقة كلامه للواقع وقصد إظهار صحته، وأنه مطابق، لا أنه لم يقصد ذلك واعتقد صحته.

قرينة الاستعارة

قرينة الاستعارة: الاستعارة نوع من المجاز, وقد تقدم أن المجاز لا بد له من قرينة تفصح عن الغرض، وترشد إلى المقصود، ويمتنع معها إجراء الكلام على حقيقته, وهي -كما قدمنا- الأمر الذي ينصبه المتكلم دليلا على أنه أراد باللفظ غير معناه الأصلي. وهي نوعان: لفظية، وغير لفظية: فاللفظية: هي لفظ يلائم المشبه يذكر في الكلام؛ ليصرفه عن إرادة معناه الأصلي. مثال ذلك قولك: "حدثني بدر" أي: غلام جميل, "فبدر" مستعار لهذا الغلام، وقرينة الاستعارة لفظ "حدثني", وكقولك: قتل محمد خصمه بحادّ لسانه؛ استعار القتل للإيذاء الشديد بجامع الألم الأليم، ثم اشتق من القتل بمعنى الإيذاء الشديد "قتل" بمعنى آذى إيذاء شديدا على سبيل الاستعارة التبعية على

ما سيجيء, والقرينة قولك: "بحاد لسانه" إذ ليس اللسان أداة قتل. وغير اللفظية: هي الأمر الخارج عن اللفظ بصرف الكلام عن إرادة معناه الحقيقي؛ كدلالة الحال، أو استحالة المعنى. فمثال ما قرينته حالية قولك: "أشرق القمر" والسامع يرى فتاة حسناء مقبلة, فالقمر مستعار للفتاة الجميلة, وقرينة الاستعارة دلالة الحال. ومثال ما قرينته الاستحالة قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} شبه كثرة الماء بالطغيان بجامع مجاوزة الحد في كل، ثم استعير الطغيان للكثرة، واشتق منه {طَغَى} بمعنى كثر على سبيل الاستعارة التبعية, والقرينة استحالة صدور الطغيان بمعناه الحقيقي من الماء, إذ هو من شأن الإنسان. وهي كذلك تتنوع إلى أمرين: الأول: أن تكون أمرا واحدا لا تعدد فيه، وهو الشائع الكثير كما في الأمثلة السابقة. الثاني: أن تكون القرينة أكثر من أمر واحد, يكون كل منها كافيا في الدلالة على الاستعارة, كقول الشاعر: فإن تعافوا العدل والإيمانا ... فإن في أيماننا نيرانا1 يقول: إن كرهتم الإنصاف، وأبيتم إقرار الأمور في نصابها، وامتنعتم عن التصديق بما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- قهرناكم عليها بما في أيدينا من سيوف تلمع كشعل النيران؛ استعير لفظ "النيران" للسيوف, والقرينة على أن المراد بالنيران السيوف

_ 1 تعافوا من: عاف الشيء يعافه, إذا كرهه ومجه, و"الإيمان" الأول بكسر الهمزة: التصديق، والأيمان الثاني بفتح الهمزة: جمع يمين, وهي الجارحة المعروفة.

هي كل من العدل والإيمان1 باعتبار تعلق العيافة بهما, ووجه كون ذلك قرينة هو أن الذي يدعو إلى العدل والإيمان آخذ بالشريعة، وهي إنما تحمل من يخالف على الطاعة بحد السيف، لا بالإحراق. وقد تكون القرينة معاني ملتئمة, ارتبط بعضها ببعض بحيث تتكون القرينة من مجموعها, كما في قول البحتري: وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرؤس الأقران خمس سحائب2 شبه أنامل الممدوح بالسحائب في عموم النفع، ثم استعار لفظ "السحائب" لأنامل يده، وجعل القرينة على الاستعارة مجموع أشياء؛ فذكر أن هناك صاعقة، وأنها ساقطة من حد سيفه، وأنها منقلبة على أرؤس الأقرن تفتك بهم، وأنها خمس بقدر أصابع اليد، فاتضح من مجموع ذلك كله غرضه من "السحاب"، وأن المراد بها أنامل الممدوح؛ لما بينها وبين السحائب من جامع النفع، وعموم العطاء. قد يقال: إن واحدا من هذه الأمور التي ذكرها كافٍ في الدلالة على الاستعارة, فالقرينة إذًا متعددة، وليست معاني ملتئمة متضامّة كما قيل. ويجاب: بأن الاستعارة لا يكتمل وضوحها إلا بهذه الأمور مجتمعة، وهذا لا ينافي كفاية بعضها في أصل الدلالة على المراد. أو يجاب: بأن المراد بالتئام المعاني ارتباطها، لا على وجه العطف المؤذن بالاستقلال, كما تراه في البيت المذكور.

_ 1 إنما جعل كل واحد قرينة ولم يجعل أحدهما قرينة والآخر تجريدا وهو ذكر ما يلائم المشبه؛ لأن مجموع الأمرين بمنزلة الشرط, فهما بمثابة الشيء الواحد لكن لو انفرد كل منهما لصح أن يكون قرينة. 2 "الصاعقة" في الأصل: نار سماوية تهلك من تصيبه, و"النصل": حد السيف, و"تنكفي": تنقلب و"الأقران": جمع قرن بكسر القاف, وهو المماثل والنظير, والمعنى: ورب نار من حد سيفه تهوي بها على رءوس الأنداد أنامله الخمس التي هي في الجود, وعموم العطايا كالسحائب, فهو يصفه بالشجاعة والكرم.

تنبيهان: الأول: ما تقدم من أن القرينة قد تكون أكثر من أمر واحد كما في قول الشاعر المتقدم: "وإن تعافوا العدل والإيمانا"، مبني على جواز تعدد القرينة, وهذا هو الرأي الغالب؛ إذ لا مانع من اعتبار كل واحد قرينة على حدة. ورأي بعضهم عدم جواز تعددها؛ لأن الصرف عن إرادة المعنى الحقيقي إن كان بمجموع الأمور المتعددة, فالقرينة هي تلك الأمور مجتمعة، لا كل واحد منها، وإن كان أحدها كافيا في الصرف عن المعنى الأصلي فلا حاجة لما عداه، فيعتبر تجريدا؛ إذ هو في الاستعارة التصريحية من ملائمات المشبه كما ستعرفه بعد ا. هـ. الثاني: مما تقدم يعلم أن أثر القرينة في الاستعارة محصور في أمرين: تعيين المعنى المراد، ومنع إرادة المعنى الأصلي. فقولك: "رأيت قمرا يتحدث" استعارة, قرينتها لفظ "يتحدث" وبهذه القرينة تعين المعنى المراد من القمر، وهو "الإنسان الجميل" وامتنع أن يراد المعنى الحقيقي له، وهو "الكوكب المعروف" إذ إن التحدث من شأن الإنسان، لا من شأن القمر. فإذا انتفت هذه القرينة من الكلام, ولم تدل عليها حال انتفى أثرها المذكور, فلا تعيين للمعنى المراد حينئذ، ولا منع من إرادة المعنى الأصلي, وحينئذ صلح اللفظ لأن يراد به المعنى الأصلي، وأن يراد به المعنى المراد. أما ما قيل من أنه إذا انتفت القرينة تعينت إرادة المعنى الأصلي, باعتبار أن اللفظ موضوع له, فغير سديد؛ لأن كون اللفظ موضوعا للمعنى لا يوجب استعماله فيه, فقصارى أمره الجواز، لا الوجوب. اختبار: 1- عرف الحقيقة في اللغة وفي الاصطلاح, مبينا المناسبة بين المعنيين، ثم بين القيود التي في التعريف الاصطلاحي، ومحترز كل قيد، مع التمثيل لكل ما تذكر.

2- عرف المجاز لغة واصطلاحا, مبينا كذلك المناسبة بين المعنيين، والقيود التي في التعريف الاصطلاحي، ومحترز كل قيد، مع التمثيل لكل ما تقول. 3- عرف معنى الوضع، وبين ما يخرج بالتعريف، مثل لما تقول مع التوجيه، وهل المشترك داخل في التعريف، أم خارج؟ ولماذا؟ 4- بين حجة القائل بدلالة اللفظ لذاته، ثم انقض هذه الحجة بما تراه من الأدلة. 5- بأي اعتبار ينقسم المجاز المفرد إلى استعارة، ومجاز مرسل، وضح ذلك بالأمثلة. 6- عرف الاستعارة، واذكر لها مثالا من عندك، وبين فيه طريقة إجرائها تفصيلا. 7- بين في مثال من إنشائك أركان الاستعارة، مع التوجيه. 8- بين وجه كون قول الشاعر: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر من قبيل الاستعارة، مع ذكر الطرفين، والاستعارة -كما عرفت سابقا- لا يجمع فيها بين الطرفين أصلا. 9- لِمَ شرطوا في الاستعارة أن يكون المشبه به كليا؟ وكيف صح إجراء الاستعارة في نحو "حاتم"، مع أن مدلوله جزئي؟ بين ذلك بوضوح تام. 10- اختلف الخطيب والسعد في نحو: "محمد أسد" فقال الخطيب: هو تشبيه بليغ، وقال السعد: هو استعارة, فما دليل كل؟ اشرح ذلك شرحا وافيا. 11- بِمَ تفارق الاستعارة الكذب؟ مثل لما تقول. 12- بين أنواع قرينة الاستعارة، ومثل لكل نوع، واذكر ما وقع من الخلاف في جواز تعددها.

تقسيم الاستعارة

تقسيم الاستعارة باعتبار الطرفين ... تقسيم الاستعارة: للاستعارة تقسيمات شتى, تختلف باختلاف الاعتبارات. تقسيمها باعتبار الطرفين: تنقسم الاستعارة باعتبار طرفيها إلى قسمين: وفاقية، وعنادية. فالوفاقية: ما يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد؛ لما بين الطرفين من الوفاق, كما تقول: "فلان أحيته الموعظة" أي: هدته؛ شبهت "الهداية" بمعنى الدلالة على الطريق القويم "بالإحياء" بمعنى جعل الشيء حيا بجامع ما يترتب على كل من المنافع، وبعد تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به, استعير لفظ الإحياء للهداية، ثم استعير "أحيا لهدى" تبعا لاستعارة المصدر للمصدر, على ما سيأتي في الاستعارة التبعية, والحياة والهداية مما يتأتى اجتماعهما في شيء واحد, وإذًا فاستعارة الإحياء للهداية وفاقية. والعنادية: ما لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد؛ لما بين الطرفين من التعاند, كاستعارة "اسم المعدوم للموجود عديم الجدوى" في قولك: "رأيت ميتا يتحدث" أي: جاهلا؛ شبه الجهل بالموت بجامع عدم النفع في كل، وبعد تناسي التشبيه, والادعاء المعروفين استعير الموت للجهل، ثم استعير "لفظ ميت" للجاهل تبعا لاستعارة المصدر للمصدر, والجهل والموت مما لا يجتمعان في شيء واحد؛ لأن الميت لا يوصف بالجهل, فهي إذًا استعارة عنادية. ومثله استعارة "اسم الموجود للمعدوم ذي الآثار الخالدة" إذ يمتنع بداهة اجتماع الوجود والعدم في شيء. وقد اجتمعت الوفاقية والعنادية في قول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أي: أومن كان ضالا فهديناه، فقد استعير في الأول الميت للضال، وهما لا يجتمعان في شيء واحد؛ إذ لا يوصف

الميت بالضلال، فالاستعارة عنادية, واستعير ثانيا الإحياء للهداية "كما سبق", والحياة والهداية مما يجتمعان، فالاستعارة وفاقية، ومن العنادية تتفرع. الاستعارتان التهكمية، والتمليحية: وهما ما نزل فيهما التضاد، أو التناقض1 منزلة التناسب، واستعمل اللفظ في ضد معناه، أو في نقيضه؛ إبرازا للخسيس في صورة الشريف لقصد الهزء والسخرية، أو التمليح والتظرف وذلك كأن يطلق لفظ "الكريم" على البخيل، و"الأسد" على الجبان في نحول قولك: "زارني اليوم كريم" تريد رجلا بخيلا، و"رأيت على الفرس أسدا" تريد جبانا رعديدا, فقد نزل أولا البخل منزلة الكرم، ونزل ثانيا الجبن منزلة الشجاعة، على ما تقدم في مبحث التشبيه، ثم شبه البخيل بالكريم، والجبان بالأسد، ووجه الشبه "الجود" في الأول، و"الشجاعة" في الثاني، وإن كان كل من الجود في البخيل، والشجاعة في الجبان تنزيليا، ثم استعير اسم الكريم للبخيل، واسم الأسد للجبان. فإن كان الغرض الحامل على استعمال اللفظ في ضد معناه التهكم والاستخفاف بالمقول فيه, كانت الاستعارة تهكمية، وإن كان الغرض الحامل هو بسط السامعين، وإزالة السآمة عنهم بتصوير القبيح في صورة مستحسنة كانت الاستعارة تمليحية. ولا يخفى امتناع اجتماع البخل والكرم، أو الجبن والشجاعة في شيء واحد, فكلتاهما إذًا استعارة عنادية أيضا. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، نزّل التضاد بين التبشير والإنذار منزلة التناسب بينهما، ثم شبه الإنذار بالتبشير, ووجه الشبه إدخال السرور إلى النفس في كل, وإن كان تنزيليا في المشبه، ثم استعير اسم البشارة للإنذار، بعد تناسي التشبيه والادعاء، ثم اشتقّ من البشارة بشر بمعنى "أنذر" على سبيل الاستعارة التهكمية، وهي أيضا عنادية؛ لأن التبشير والإنذار مما لا يجتمعان في شيء واحد، ومثله قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} 2 أي: فجروهم جرا عنيفا.

_ 1 الضدان هما الأمران الوجوديان اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان كالسواد والبياض، والنقيضان هما الأمران اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأحدهما وجودي، والآخر عدمي كالوجود وعدمه. 2 نزل التضاد بين الهداية التي هي الدلالة بلطف، وبين الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر وعنف منزلة التناسب، ثم شبه الأخذ بالعنف بالهداية بجامع الخير والنفع في كل، وإن كان تنزيليا في المشبه، ثم استعير بعد تناسي التشبيه الادعاء لفظ الهداية للأخذ بالعنف، واشتق منه "اهدوهم" بمعنى: جروهم بشدة وقهر, على سبيل الاستعارة التهكمية، وهي عنادية؛ لعدم تأتي اجتماع اللطف والعنف في شيء واحد.

تقسيم الاستعارة باعتبار الجامع

تقسيم الاستعارة باعتبار الجامع: الجامع: هو ما قصد اجتماع الطرفين فيه، وهو ما يسمى في التشبيه "وجه الشبه"، وسمي هنا "جامعا"؛ لأنه جمع المشبه مع أفراد المشبه به تحت مفهومه وأدخله في جنسه ادعاء، وهو لا بد أن يكون في المستعار منه أقوى؛ لأن الاستعارة مبنية على المبالغة في التشبيه، والمبالغة فيه توجب إلحاق المشبه بما هو أكمل في وجه الشبه، ولا كذلك التشبيه, إذ يكفي فيه أحيانا أن يكون المشبه به مساويا للمشبه في وجه الشبه, وقد تقدم ذلك في مبحث أغراض التشبيه، وللاستعارة باعتبار هذا الجامع تقسيمان. التقسيم الأول: تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار إلى قسمين: داخلية، وغير داخلية. فالداخلية: أن يكون الجامع داخلا في مفهومي الطرفين1: المستعار منه، والمستعار له, بأن يكون جزءا من مفهوميهما كما في استعارة التقطيع للتفريق في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} أي: فرقناهم؛ شبه تفريق الجماعة بالتقطيع بجامع إزالة الاجتماع في كل، ثم استعير -بعد إجراء التشبيه بينهما- لفظ التقطيع للتفريق، ثم اشتق منه "قطّع" بمعنى "فرّق" والجامع -وهو إزالة الاجتماع- داخل في مفهوم التقطيع؛ إذ إن التقطيع موضوع لإزالة الاجتماع في الأشياء المتماسكة، وداخل أيضا في مفهوم تفريق الجماعة؛ لأنه موضوع لإزالة الاجتماع في الأشياء غير المتماسكة. وبديهي أن إزالة الاجتماع في التقطيع أشد وأقوى كما هو الشرط في الجامع, إذ يصعب أن تعود الأشياء المتماسكة بعد التقطيع إلى الاجتماع بخلاف التفريق. ومثل الآية الكريمة قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة طار إليها" 2، شبه العدو الذي هو قطع المسافة بسرعة في الأرض بالطيران الذي هو قطع المسافة بسرعة في الهواء، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه، واشتق

_ 1 قيل: إن الحكم بدخول الجامع في مفهومي الطرفين يتنافى مع ما هو مقرر من أن جزء الماهية لا يختلف شدة وضعفا؛ ذلك أن دخول الجامع في مفهومي الطرفين يقتضي عدم التفاوت؛ لأن الجزء لا يختلف, وكونه جامعا يقتضي التفاوت لوجوب كونه أقوى في المستعار منه تحقيقا للمبالغة، وهذا جمع بين متنافيين. ويجاب بأن امتناع الاختلاف بالشدة والضعف في أجزاء الماهية إنما هو في الماهية الحقيقية, كماهية الإنسان المركبة من الحيوانية والناطقية, وأما الماهية المركبة من أمور اعتبارية, فإنه يصح فيها أن يكون الجامع داخلا في مفهومي الطرفين، مع كونه في أحدهما أشد كما في "الأسود", فإن السواد جزء مفهومه المركب من السواد والذات. 2 العنان بكسر العين: اللجام، والهيعة: الصيحة يفزع منها, من هاع يهيع إذا جبن، يقول: خير الناس رجل مستعد للجهاد, كلما سمع صيحة الحرب أسرع إليها.

من الطيران "طار" بمعنى "عدا", والجامع بينهما قطع المسافة بسرعة، وهو جنس داخل في مفهوميهما إلا أنه في الطيران أقوى منه في العدو كما هو الشأن في الجامع, غير أنه قيل: إن الطيران قطع المسافة في الهواء أو بالجناح فحسب, وأما السرعة فلازمة له في الأكثر1، لا داخلة في مفهومه، بخلاف العدو فإن السرعة جزء مفهومه, وإذًا فلا يكون الجامع داخلا في مفهومي الطرفين، فلا تكون الاستعارة في الحديث الشريف من القسم الأول. وغير الداخلية: أن يكون الجامع غير داخل في مفهومي الطرفين بأن كان خارجا عن مفهوم كل منهما، أو كان داخلا في مفهوم المستعار له دون المستعار منه، أو العكس. فالأول كما في استعارة "الدرر" للكواكب، و"الشمس" للوجه المتهلل, و"البحر" للجواد في قولك: "رأيت دررا في السماء تضيء"، و"أبصرت شمسا داخل غرفة"، و"وردت بحرا يعطي" فالجامع في الأول "التألق واللمعان"، وفي الثاني "التهلل والإشراق"، وفي الثالث "الإفاضة" وكلها عوارض غير داخلة في مفهومي الطرفين. والثاني كاستعارة "الطيران" للعدو في المثال السابق، على القول بأن السرعة داخلة في مفهوم العدو، لا في مفهوم الطيران. والثالث كاستعارة "العدو" للطيران على القول المذكور. التقسيم الثاني: تنقسم الاستعارة باعتبار الجامع أيضا قسمين: عامية، وخاصة. فالعامية وهي المبتذلة: ما ظهر فيها الجامع بحيث يدركه

_ 1 أي: بالنظر للغالب, وقد يكون الطيران قطع المسافة في الهواء, أو بالجناح من غير سرعة.

العامة، كإطلاق الأسد على الرجل الجريء, فإن الجامع -وهو الجرأة- أمر واضح في متناول عامة الناس؛ لاشتهار الأسد بها، وسميت "مبتذلة" لابتذالها بكونها في طوق كل أحد. والخاصية وهي الغريبة: هي التي لا يدرك الجامع فيها إلا من ارتفع عن طبقة العامة, كما في قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك، يصف فرسا له بأنه مؤدب إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه, لا يبرح مكانه حتى يعود إليه: عودته فيما أزور حبائبي ... إهماله وكذاك كل مخاطر وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك الشكيم إلى انصراف الزائر1 شبه جمع القربوس مضموما إلى جانبي فم الفرس بالعنان2, ممتدا من القربوس إلى جانبي الفم, شبه ذلك بالاحتباء، وهو جمع

_ 1 "الاحتباء": أن يشد الرجل ركبتيه إلى بطنه بنحو ثوب يمتد من جانبيه إلى ظهره، و"القربوس" بفتح القاف والراء: مقدم السرج وهو المراد, وقيل: هو السرج نفسه، ثم هو يحتمل أن يكون فاعل "احتبى" بتنزيله منزلة الرجل المحتبي, فكان القربوس ضم الفرس ورأسه إليه بالعنان كما يضم المحتبي ركبتيه إليه بنحو بثوب, ويحتمل أن يكون قربوسه مفعول "احتبى" مضمنا معنى "جمع" ويكون الفاعل ضميرا عائدا على الفرس. والمعنى: جمع هذا الفرس قربوسه إليه بعنانه كما يضم المحتبي ركبتيه إليه بثوب ونحوه, والتشبيه على الاحتمال الثاني أتم وأدخل في تحقيق التشابه؛ لأن القربوس في الهيئة أعلى من فم الفرس وهذه الحالة هي التي تنطبق على حالة الاحتباء؛ إذ إن ركبتي المحتبي تكونان في الهيئة أعلى من ظهره، والعنان: اللجام, والشكيم والشكيمة: هي الحديدة المعترضة في فم الفرس، ومعنى علكها: لاكها ومضغها, وقد أراد بالزائر نفسه. وإنما عبر عن نفسه بالزائر؛ لدلالته على كمال تأدب فرسه، وأنه لا يبرح مكانه إن طال مكثه عند حبيبه كما يدل عليه البيت قبله. 2 متعلق بجمع.

ركبتي المحتبي منضمتين إلى بطنه بنحو1 ثوب ممتد من الركبتين إلى الظهر، ثم استعير لفظ الاحتباء لجمع القربوس منضما إلى جانبي فم الفرس بالعنان، واشتق منه "احتبى" بمعنى جمع. فهذه الاستعارة غريبة لكونها على نمط غير مألوف في تشبيهات الاستعارة؛ لا يقع في كلامهم إلا نادرا، ذلك أن الانتقال إلى معنى الاحتباء المذكور عند استحضار إلقاء العنان على القربوس في غاية الندور لما بين المعنيين من البعد2، مع ما في الوجه من دقة التركيب، وكثرة الاعتبارات الموجبة لصعوبة إدراكه، وبعده عن الأذهان. غير أنه قيل: إن التشبيه في هذه الاستعارة بين مفردين: الاحتباء، وجمع القربوس إلى جانبي فم الفرس، وإن تضمنا تشبيه هيئة إلقاء العنان على القربوس بهيئة الاحتباء, إذ إن هذا التضمين لا يخرجهما عن إفرادهما. هكذا قيل، وفي النفس منه شيء؛ إذ لا ضرورة إلى اعتبار التشبيه بين مفردين مع وضوح كون الطرفين هيئتين مركبتين. تنبيه: قد يتصرف في الاستعارة العامية بما يخرجها من الابتذال إلى الغرابة, بأن يضم إليها تجوز لطيف اقتضته الحال كما في قول كثير عزة: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح وشدت على دهم المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

_ 1 متعلق بجمع. 2 إذ إن أحدهما من وادي الركوب, والآخر من وادي القعود.

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... "وسالت بأعناق المطي الأباطح"1 يقول: لما فرغنا من أداء النسك، وقضينا أيام منى، واستلمنا الأركان وشددنا الرحال، ومضى الناس، لا ينتظر الغادي منهم الرائح شوقا للعودة إلى أوطانهم, ابتدأنا في الحديث آخذين بأطرافه وفنونه شأن الرفاق في السفر قد شملتهم الغبطة لما وفقوا إليه من أداء الفريضة، في حين أن المطي سارت في الأباطح سيرا حثيثا، في لين وسلاسة كسيلان الماء. وهذه الأبيات الثلاثة مع ما فيها من روعة المطلع، وعذوبة الجرس لا ترى فيها معنى دقيقا، ولا تصويرا شائقا، سوى ما نراه في الشطر الثاني من البيت الأخير، وهو محل الشاهد؛ حيث شبه سير المطي في الأباطح سيرا حثيثا، في لين وسلاسة, بسيلان الماء في هذه الأباطح، ثم استعار سيلان الماء للسير الموصوف بما ذكرنا، واشتق منه سالت بمعنى: سارت حثيثا، في لين وسلاسة، ووجه الشبه أو الجامع بين الطرفين هو قطع المسافة بسرعة. فهذه -كما ترى- استعارة عامية؛ يعرفها الخاصة والعامة، غير أنه تصرف فيها بما جعلها غريبة، لا يدركها إلا الخواص, ذلك أنه بعد أن استعار فعل "السيلان" لسير الإبل الحثيث السلس حتى أفاد كأن سيولا جرت

_ 1 أراد بالأركان أركان الكعبة، وبالمسح بها طواف الوداع، والدهم بالضم جمع دهماء, وهي السوداء من الخيل، والمهارى بفتح الراء وكسرها جمع مهرية, وهي في الأصل الناقة منسوبة إلى مهرة بن حيدان بطن من قضاعة، ثم صار هذا اللفظ يطلق على كل نجيبة من الإبل, ومعنى ينظر: ينتظر, والغادي: السائر في الغداة, والرائح: السائر من الظهر إلى الغروب، والأطراف جمع طرف بكسر الطاء بمعنى الكريم, والمراد كرائم الأحاديث, أو جمع طرف بالتحريك بمعنى الناحية, والمراد فنون الأحاديث, والأباطح جمع أبطح وهو مسيل الماء فيه دقاق الحصا, وشد الرحال: وضع الأمتعة من أخبية وغيرها على متون الإبل مشدودة بنحو حبل؛ حتى لا تميل أو تسقط.

في تلك الأباطح, أسند الفعل المستعار وهو "سالت" إلى الأباطح دون "المطي" الذي حقه أن يسند إليه، فأفاد هذا الإسناد: أن الأباطح امتلأت بالإبل إلى حد يخيل للناظر أن الأباطح هي التي تسيل, إذ إن نسبة فعل الحال إلى المحل تشعر بشيوع الحال في المحل، وكأن كل محل من هذه الأباطح سائر، يماثل ذلك إسناد الجري إلى النهر في قولهم: جرى النهر، فهذا الإسناد يشعر بامتلاء النهر بالماء حتى كأن النهر هو الذي يجري، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أسند الاشتعال الذي هو وصف الشعر إلى محله وهو الرأس؛ إشعارا بأن الاشتعال قد عمه، ولم يبق فيه جزء غير مشتعل على قاعدة أن نسبة الحال إلى المحل تشعر بشيوع الحال فيه. وإنما أدخل الأعناق في السير إذ جرها بباء الملابسة المقتضية لملابسة الفعل لها؛ لأن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران -غالبا- في أعناقها. وإذًا فقد أضيف إلى الاستعارة المذكورة مجازان عقليان؛ أحدهما مصرح به، وهو إسناد الفعل إلى الأباطح، والآخر مقدر، وهو إسناده إلى الأعناق؛ لأن مقتضى كون الأباطح في سيرها ملابسة لأعناق المطي أن تكون الأعناق أيضا سائرة, وبإضافة هذين المجازين إليها صارت غريبة طريفة. ومثله قول ابن المعتز: سالت عليه شعاب1 الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير فقد استعار السيلان للسير الحثيث السلس، ثم أسند فعله إلى الشعاب إسنادا عقليا صريحا، وأسنده إلى الوجوه إسنادا عقليا مقدرا كما في البيت قبله، وبهذين التصرفين امتنعت الاستعارة بعد ابتذال، واعتزت بعد ضعة.

_ 1 شعاب جمع شعب بكسر الشين, وهو الطريق في الجبل.

تقسيم الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع

تقسيم الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع: تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار ستة أقسام، ذلك أن المستعار منه والمستعار له، إما حسيان، وإما عقليان، أو المستعار منه حسي والمستعار عقلي، أو العكس، والجامع في الثلاثة الأخيرة عقلي لا غير؛ لما سبق في مبحث التشبيه من أن وجه الشبه -وهو المسمى هنا بالجامع- لا بد أن يقوم بالطرفين, فإذا كان كلاهما، أو أحدهما عقليا وجب أن يكون الجامع عقليا؛ لأن الحسي لا يقوم بغير حسي كما علمت. أما القسم الأول -وهو ما إذا كان الطرفان فيه حسيين- فصوره ثلاث؛ لأن الجامع حينئذ إما حسي، أو عقلي، أو مختلف، وهاك أمثلتها على التوالي: 1- استعارة محسوس لمحسوس, والجامع حسي كما في قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} 1، فالمستعار منه ولد البقرة، والمستعار له الحيوان المخلوق من حلى القبط التي سبكتها نار السامري2 عندما ألقى فيها التربة التي أخذها من موطئ فرس جبريل عليه السلام؛ ولهذا الحادث قصة ليس هنا محلها والطرفان حسيان، كما ترى، والجامع حسي كذلك، وهو الشكل والخوار، فإن ذلك الحيوان كان على شكل ولد البقرة، وله صوت كصوته. ومثله قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، فالمستعار منه حركة الماء على الوجه الخاص، والمستعار له الحركة والاختلاط الناشئان عن الحيرة والارتباك، والجامع بينهما ما يشاهد في كل من الحركة الشديدة والاضطراب، والجميع

_ 1 {جَسَدًا} أي: بدنا بلحم ودم وهو بدل من عجل, و {لَهُ خُوَارٌ} أي: له صوت البقر؛ شبه الصورة التي سبكتها نار السامري بابن البقرة بجامع الشكل والصوت في كل, ثم استعير لفظ المشبه به وهو العجل للمشبه الذي هو الصورة المسبوكة من النار. 2 هو موسى السامري, وكان رجلا حدادا في زمن موسى -عليه السلام- منسوبا لسامرة قبيلة من بني إسرائيل.

حسي1 -كما ترى- ومثله قولك: "رأيت "قينة" ذات جناحين على شجرة"، فالمستعار منه الجارية المغنية، والمستعار له "البلبل" وهو الطائر المعروف، والجامع الصوت الحسن، والجميع حسي كذلك. 2- استعارة محسوسة لمحسوس، والجامع عقلي كقوله تعالى {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} فالمستعار منه كشط الجلد, وسلخه عن الشاة ونحوها، والمستعار له إزالة ضوء النهار، وانتزاعه عن مكان الليل، وكلاهما حسي2، والجامع بينهما عقلي؛ إذ هو ترتب أمر على آخر في كل، ففي المستعار منه ترتب ظهور اللحم على كشط الجلد وسلخه، وفي المستعار له ترتب ظهور ظلمة الليل على محو ضوء النهار وإزالته؛ ولهذا صح قوله: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} لأن الواقع عقيب إزالة الضوء هو "الإظلام"، وما قيل من أن المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل فلا يتفق مع القول المذكور؛ لأن الواقع بعد ظهور النهار من ظلمة الليل إنما هو الإبصار لا الإظلام، وقد وفق بعضهم بين القولين بما لا يخلو عن تكلف. 3- استعارة محسوس لمحسوس, والجامع مختلف؛ بعضه حسي، وبعضه عقلي كقولك: "رأيت بدرا يتحدث" وأنت تريد إنسانا كالبدر في حسن الطلعة، ونباهة الشأن، والأول حسي، والآخر عقلي.

_ 1 شبه تزاحمهم وتدافعهم بتلاطم الموج بجامع ما يشاهد في كل من الاضطراب, ثم استعير لفظ المشبه به وهو تلاطم الموج للمشبه الذي هو التزاحم والتدافع, ثم اشتق منه يموج بمعنى يتزاحم ويتدافع. 2 أي: باعتبار متعلقهما -الجلد والضوء- وإلا فإن كلا من كشط الجلد وإزالة الضوء أمر عقلي؛ لأنهما معنيان مصدريان, والمعنى المصدري لا وجود له خارجا فلا يكون محسوسا، ويقال في إجرائها: شبه إزالة ضوء النهار عن موضع الظلمة بسلخ الجلد عن لحم الشاة بجامع ترتب أمر على أمر، ثم استعير لفظ المشبه به وهو السلخ للمشبه الذي هو إزالة الضوء, ثم اشتق منه {نَسْلَخُ} بمعنى نزيل.

4- استعارة معقول لمعقول, كقوله تعالى حكاية عن قول الكفار يوم القيامة: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} فالمستعار منه "الرقاد" أي: النوم على اعتبار أن "المرقد" مصدر ميمي, والمستعار له "الموت"، وكلاهما عقلي إذ هو فقد الإحساس، والجامع بينهما عدم ظهور الأفعال الاختيارية في كل1، وهو عقلي كذلك. ويحتمل أن يكون "المرقد" اسم مكان، فيكون المستعار منه على هذا الاحتمال محل الرقاد، والمستعار له محل الموت أي: القبر، وهما حينئذ حسيان، وبهذا يخرج المثال عما نحن فيه من استعارة معقول لمعقول، إلا أنهم قالوا: إن المنظور إليه في مثل هذا التشبيه إنما هو "الرقاد، والموت" لأن المقصود بالنظر في اسم المكان، وفي سائر المشتقات إنما هو المعنى القائم بالذات، وهو المصدر، واعتبار التشبيه في المقصود الأهم أولى, وإذًا فالمستعار منه "الرقاد"، والمستعار له "الموت" على كلا الاحتمالين2, ولهذه الاستعارة قرينتان, معنوية ولفظية، فالأولى هي كون هذا الكلام كلام الموتى بعد أن يبعثوا، وليس من شك أن الموتى لا يريدون الرقاد بمعنى النوم, إذ لم يكن حاصلا لهم، والثانية هي قوله بعد: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} لأن

_ 1 قيل: إن الجامع في الاستعارة يجب أن يكون في المستعار منه أقوى منه في المستعار له، والأمر هنا بالعكس فإن عدم ظهور الأفعال الاختيارية في الموتى أقوى منه في النوم لفقدان الروح في الموتى لا في النوم, فالأولى حينئذ أن يكون الجامع "البعث" الذي هو رد الإحساس السابق, والبعث بهذا المعنى أقوى ظهورا واشتهارا في النوم؛ إذ لا شبهة فيه لأحد بخلافه في الموت فقد أنكره قوم. 2 وإجراء الاستعارة على الاحتمال الأول أن يقال: شبه الموت بالنوم بجامع عدم ظهور الأفعال الاختيارية في كل, ثم استعير اللفظ الدال على المشبه به وهو "الرقاد" للمشبه الذي هو "الموت" وإجراؤها على الاعتبار الثاني هو ما تقدم في الاحتمال الأول, غير أنه يشتق من الرقاد بعد استعارته للموت مرقد اسم مكان بمعنى القبر, وتكون الاستعارة تبعية على ما سيأتي.

الذي وعد به الرحمن، وصدق فيه المرسلون، وأنكره الكافرون إنما هو البعث من الموت. ولا يصح أن يكون "البعث" قرينة الاستعارة؛ لاشتراكه بين الطرفين, إذ يقال أيضا: بعثه من نومه إذا أيقظه، والقرينة يجب أن يكون لها اختصاص بالمستعار له؛ لتكون مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. 5- استعارة محسوس لمعقول كقوله تعالى: {فَاصْدَعْ 1 بِمَا تُؤْمَرُ} أي: بلغ الأمة الأحكام التي أمرت بتبليغها لهم تبليغا واضحا لا لبس فيه، ولا غموض. فالمستعار منه كسر الزجاجة ونحوها مما لا يلتئم بعد الكسر، وهو حسي2، والمستعار له تبليغ الرسالة للمرسل إليهم، وهو أمر عقلي، والجامع بينهما التأثير في الشيء بحيث لا يعود إلى ما كان عليه، وهو عقلي، والمعنى: أبن الأمر إبانة لا يعود معها إلى الخفاء, كما أن كسر الزجاجة لا تعود معه إلى الالتئام. ومثله قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فالمستعار منه {الظُّلُمَاتِ} و {النُّورِ} وهما حسيان، والمستعار له "الضلال" و"الهدى" وهما عقليان، والجامع في الأول عدم الاهتداء وفي الثاني الاهتداء، وهما عقليان أيضا، والاستعار فيهما لا تحتاج إلى بيان. 6- استعارة معقول لمحسوس كقوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي: لما كثر الماء, فالمستعار منه التكبر أو التعالى، وهو عقلي والمستعار له كثرة الماء، وهو حسي، والجامع بينهما الخروج عن حد الاعتدال3، وهو عقلي كذلك. ومثله قوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} استعار العتو، وهو عقلي لشدة الريح المفسدة، وهي حسية باعتبار متعلقها، والجامع عقلي، وهو مجاوزة الحد.

_ 1 الصدع والكسر: تفريق أجزاء الأجسام المتماسكة. 2 أي: باعتبار متعلقه لا باعتبار ذاته, إذ هو معنى مصدري، والمعاني المصدرية -كما قلنا- لا وجود لها خارجا, وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه تبليغ الأحكام للناس تبليغا واضحا بالصدع بجامع التأثير في كل, ثم استعير لفظ المشبه به وهو الصدع للمشبه الذي هو تبليغ الأحكام, ثم اشتق منه "اصدع" فعل أمر بمعنى بلغ الأحكام تبليغا واضحا. 3 شبه كثرة الماء كثرة جاوزت الحد بالتكبر المعبر عنه بالطغيان, ثم استعير اسم المشبه به وهو الطغيان للمشبه الذي هو كثرة الماء, ثم اشتق من الطغيان {طَغَى} بمعنى كثر, وهكذا يقال في أشباه ذلك من كل ما كان لفظ المشبه به مشتقا كما سيأتي البحث فيه.

تقسيم الاستعارة باعتبار ذكر أحد طرفيها

تقسيم الاستعارة باعتبار ذكر أحد طرفيها: اعلم أن الاستعارة إنما تكون حيث يطوى أحد طرفيها دون الآخر، وهي -بهذا الاعتبار- تنقسم إلى قسمين: تصريحية، ومكنية. فإن كان المذكور لفظ المشبه به دون المشبه فالاستعارة تصريحية، وإن كان العكس فالاستعارة مكنية وإذًا تكون.

الاستعارة التصريحية

الاستعارة التصريحية مدخل ... الاستعارة التصريحية: هي لفظ المشبه به المستعار للمشبه المحذوف, كما تقول: "رأيت قسورا يمتشق حساما" تريد رجلا مقداما، "فقسور" هو لفظ المشبه به، والمستعار للمشبه، وكما تقول: "هطل الدمع من نرجسها" أي: من عينها, فلفظ "نرجس" هو اسم المشبه به، المستعار للمشبه الذي هو العين. ومن هنا سميت "استعارة تصريحية" للتصريح فيها بلفظ المشبه به, كما في المثالين المذكورين وأشباههما من كل ما صرح فيه باسم المشبه به، دون المشبه. ولهذه الاستعارة تقسيمان باعتبارين: التقسيم الأول باعتبار لفظ المشبه به: تنقسم باعتبار لفظ المشبه به المستعار قسمين: أصلية، وتبعية:

الاستعارة الأصلية

الاستعارة الأصلية: ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس غير مشتق, والمراد به الماهية الصالحة لأن تصدق على كثيرين1، من غير اعتبار وصف من الأوصاف في الدلالة2, سواء كان صدقها على الكثيرين حقيقة، أو تأويلا، وسواء كانت اسم عين "كالأسد"، أو اسم معنى "كالضرب والقتل". فمثال اسم الجنس الحقيقي لفظ "أسد" من نحو قولك: "رأيت أسدا يداعب أقرانه" أي: رجلا باسلا. وإجراء الاستعارة فيه -على ما سبق- أن يقال: شبه الرجل الباسل المقدام بالأسد بجامع الجراءة في كل، ثم ادعي أن الرجل المقدام فرد من أفراد الأسد وداخل في جنسه، ثم استعير اسم المشبه به للمشبه استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار وهو "أسد" اسم جنس حقيقة, إذ يصدق على كل فرد من أفراد هذا الحيوان المفترس. ومثال اسم الجنس التأويلي لفظ "حاتم" ونحوه من كل علم اشتهر مدلوله بنوع من الوصف, كما في قولك: "رأيت اليوم حاتما" تريد رجلا مسماحا، فلفظ حاتم علم على الذات المعروفة، ولكن تؤول

_ 1 احترز به عن الأعلام، والمضمرات، وأسماء الإشارة، والأسماء الوصولة, فإنها كلها جزئيات لا تجري فيها الاستعارة؛ لعدم صدقها على غير مدلولها الجزئي. 2 خرج به المشتقات كضارب وقاتل؛ لأنها وإن صدقت على كثيرين لكن باعتبار ما تدل عليه من الوصف, فالاستعارة فيها تبعية لا أصلية بخلاف لفظ نحو أسد, فإنه دال على الماهية من غير اعتبار وصف فيه؛ لأنه موضوع للحيوان المفترس من حيث ذاته, لا باعتباره ذا جرأة وإقدام حتى لو وجد أسد لا جرأة فيه صدق عليه اسم الأسد.

فيه، فجعل اسم جنس موضوعا لمطلق ذات متصفة بالجود، ومن هنا صح جعله استعارة لكل جواد بادعاء دخوله في جنس حاتم، واعتباره فردا من أفراده، وقد سبق لهذا الموضوع بحث. وإجراء الاستعارة فيه، وفي أمثاله أن يقال: شبه فلان الكريم بحاتم بجامع السماحة في كل، ثم ادعي أن هذا الكريم أحد أفراد حاتم باعتبار مفهومه الكلي التأويلي، ثم استعير اسم المشبه به، للمشبه استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار وهو "حاتم" اسم جنس تأويلا, إذ يصدق بهذا التأويل على كل فرد من أفراد الكريم، والمستعار في كلا المثالين اسم عين لدلالته على ذات. وإنما اعتبرت الأعلام التي تضمنت معنى الوصف اسم جنس تأويلا، ولم تعتبر من فصيلة المشتق الآتي بعد؛ لأن الوصف ليس جزء معناها وضعا، بل هو لازم لها، غير داخل في مفهومها. فحاتم مثلا إنما وضع للرجل المعروف باعتبار ذاته، لا باعتبار وصف الجود, إذ إن الجود عرض له، ولزمه فيما بعد، بخلاف المشتق "كالكريم" مثلا, فإنه موضوع للذات باعتبار ما تضمنته من وصف الكرم، فهو داخل في مفهومها وضعا. ومثال اسم الجنس -وهو اسم معنى- قولك: آلمني قتل زيد أخاه، تريد: إذلاله إياه، ويقال في إجرائها: شبه الإذلال بالقتل بجامع شدة الألم في كل، ثم ادعي أن الإذلال داخل في جنس القتل، وفرد من أفراده، ثم استعير لفظ المشبه به وهو "القتل" للمشبه الذي هو "الإذلال" استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار وهو "القتل" اسم جنس معنى. وسمي هذا القسم من الاستعارة التصريحية "استعارة أصلية" نسبة إلى الأصل بمعنى الكثير الغالب، ولا شك أنها أكثر وجودا في الكلام من التبعية الآتية بعد, أو نسبة إلى الأصل بمعنى ما انبنى عليه غيره، ولا ريب أنها أصل للتبعية لبنائها عليها, على ما سيأتي بيانه قريبا.

الاستعارة التبعية

الاستعارة التبعية: ما كان اللفظ المستعار فيها فعلا، أو اسما مشتقا، أو حرفا، والأسماء المشتقة -كما علمت في غير هذا الفن- هي: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وأفعل التفضيل، واسما الزمان والمكان، واسم الآلة, وما إلى ذلك، وهاك أمثلتها على التوالي: الاستعارة في الفعل: الفعل له "مادة" هي حروفه الدالة على الحدث، وله "صيغة" وهي الهيئة الدالة على الزمان كما في صيغتي الماضي والمضارع، والاستعارة في الفعل، باعتبار مادته غيرها، باعتبار صيغته. فمثالها في الفعل باعتبار مادته قولك: "من غرس الجميل محبوب" ففي غرس استعارة تصريحية تبعية، إجراؤها: شبه الفعل الجميل بالغرس بجامع انتظار الثمرة في كل، ثم استعير الغرس للفعل الجميل، فصار الغرس بمعنى الفعل الجميل، ثم اشتق من الغرس بهذا المعنى "غرس" بمعنى فعل الجميل على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. وكقولك: "نطقت" حالك بكذا, فالنطق -كما هو معلوم- وصف للإنسان، لا للحال، وإنما توصف الحال بالدلالة. وتقرير الاستعارة فيها أن يقال: شبهت الدلالة الواضحة بالنطق في إيضاح المعنى، ثم استعير النطق للدلالة الواضحة، فصار النطق بمعنى الدلالة الواضحة، ثم اشتق من النطق بهذا المعنى "نطقت" بمعنى دلت, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومنه قوله تعالى: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فالإحياء -وهو إيجاد الروح- إنما يناسب الحيوان، لا الأرض، والذي يناسب الأرض إنما هو "التزيين"، فيشبه حينئذ تزينها بالنبات ذي الخضرة والنضارة بالإحياء في الحسن والنفع، ثم يستعار الإحياء للتزيين، فيصير الإحياء بمعنى التزيين، ثم يشتق من الإحياء بهذا المعنى {يُحْيِي} بمعنى يزين, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

ومثالها في الفعل باعتبار صيغته قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فمن المعلوم أن أمر الله لم يأت بعد، وإنما سيأتي بدليل قوله: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فكان سياق الكلام أن يقول: يأتي أمر الله بصيغة المضارع, لكنه عبر بصيغة الماضي تجوزا. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه الإتيان في المستقبل بالإتيان في الماضي في تحقق الوقوع، ثم استعير لفظ "الإتيان في الماضي" للإتيان في المستقبل، فصار الإتيان في الماضي بمعنى الإتيان في المستقبل، ثم اشتق من الإتيان بهذا المعنى {أَتَى} بمعنى يأتي على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثله قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} فمما لا شك فيه أن النداء المذكور يكون في الدار الأخرى، فكان سياق الكلام أن يقال: وينادي أصحاب الجنة, لكنه عبر بصيغة الماضي تجوزا. وتقرير الاستعارة فيه على نحو ما سبق في {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ، فيقال: شبه النداء في المستقبل بالنداء في الماضي في تحقق الوقوع، ثم استعير لفظ النداء في المستقبل، فصار النداء في الماضي بمعنى النداء في المستقبل، ثم اشتق من النداء بهذا المعنى "نادى" بمعنى ينادي, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية, وأمثال هذا كثير. قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} , {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا} الآية، {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} على تقدير المضارع في جميعها؛ تشبيها للمستقبل المتحقق بالماضي. وكما تستعمل صيغة الماضي في المستقبل -كما مثلنا- تستعمل صيغة المضارع في الماضي, كما في قوله تعالى حكاية لقول إبراهيم -عليه السلام- لابنه إسماعيل: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فالرؤية المذكورة وقعت لا محالة، فكان سياق الكلام أن يقول: إني رأيت في المنام, لكنه عبر بصيغة المضارع تجوزا. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الرؤية الماضية بالرؤية الحاضرة في استحضار الصورة العجيبة هي صورة ذبح إبراهيم -عليه السلام- لابنه، ثم استعير لفظ الرؤية في الحاضر للرؤية الماضية، فصارت الرؤية الحاضرة بمعنى الرؤية

الماضية، ثم اشتق من الرؤية بهذا المعنى {أَرَى} بمعنى "رأيت" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثله قوله تعالى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} أي: قتلتم, وقس على هذا. الاستعارة في المشتقات: ومثالها في اسمي الفاعل والمفعول قولك: "جليل أعمالك "ناطق" بكمالك" أي: دال عليه, ففي ناطق استعارة تبعية، وإجراؤها: أن يقال فيها على غرار ما قيل في نطقت الحال بكذا, غير أن المشتق من النطق هنا "ناطق" بمعنى دال. وكقولك: "حكم "على قاتلك" بالسجن" أي: ضاربك ضربا مبرحا، وقولك: "رفع "مقتولك" أمره إلى الحاكم" أي: مضروبك ضربا شديدا. وإجراء الاستعارة فيهما أن يقال: شبه الضرب الأليم بالقتل في قسوة الألم، ثم استعير لفظ "القتل" للضرب الشديد، فصار القتل بمعنى الضرب الشديد، ثم اشتق من القتل بهذا المعنى "قاتل أو مقتول" بمعنى ضارب أو مضروب ضربا شديدا, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثالها في الصفة المشبهة قولك: إنما أصادق "الأصم" عن العوراء، وأجاور "الأعمى" عن الفحشاء؛ فقد شبه أولا التصامم بالصمم في عدم السماع، ثم استعير لفظ "الصمم" للتصامم، فصار الصمم بمعنى التصامم، ثم اشتق من الصمم بهذا المعنى "أصم" صفة مشبهة بمعنى متصامم. وشبه ثانيا غض البصر بالعمى في عدم الرؤية، ثم استعير لفظ "العمى" لغض البصر، فصار العمى بمعنى غض البصر، ثم اشتق من العمى بهذا المعنى "أعمى" صفة مشبهة بمعنى غاض البصر, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية في المثالين. ومثالها في اسمي الفاعل والمفعول قولك: ولئن نطقت بشكر برك مفصحا ... فلسان حالي بالشكاية أنطق شبهت الدلالة بالنطق على نحو ما سبق في نطقت الحال بكذا،

ثم اشتق من النطق بمعنى الدلالة "أنطق" بمعنى أدل, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثالها في اسمي الزمان والمكان قولك: "هذا مقتل فلان" مشيرا إلى زمان ضربه ضربا قاسيا، أو إلى مكانه؛ فيشبه الضرب الشديد بالقتل على قياس ما سبق في استعارة اسمي الفاعل والمفعول، ثم يشتق من القتل بمعنى الضرب الشديد "مقتل" اسم زمان أو مكان على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومنه الآية السابقة: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} , فمما لا ريب فيه أن هذا السؤال منهم إنما يكون بعد البعث من القبور, فالمراد بالمرقد حينئذ موضع الموت أي: القبر، لا موضع الرقاد بمعنى النوم؛ فقد شبه الموت بالرقاد في عدم ظهور الأفعال الاختيارية، ثم استعير لفظ الرقاد للموت، فصار الرقاد بمعنى الموت، ثم اشتق من الرقاد بهذا المعنى "مرقد" بمعنى مكان الموت وهو القبر, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. وإن قدر "المرقد" مصدرا ميميا بمعنى الرقاد، واستعير للموت كانت الاستعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار حينئذ اسم جنس غير مشتق1, وهكذا سائر المشتقات. هذا, ويعلم مما تقدم في استعارة الفعل، والأسماء المشتقة أن التشبيه فيها أجري أولا في مصادرها، لا في ذواتها. ففي قولهم: "نطقت" الحال بكذا أي: دلت, يقدر تشبيه الدلالة بالنطق، وفي قولهم: رفع "مقتولك" أمره إلى الحاكم, يقدر تشبيه الضرب الشديد بالقتل, وهكذا في سائر المشتقات. دليل التبعية: وإنما كانت الاستعارة في الفعل، وسائر المشتقات تبعية؛ لجريانها

_ 1 وقيل: إن "مرقدا" في الآية حقيقة لا استعارة, وإن القوم لاختلاط عقولهم ظنوا أنهم كانوا نياما فسألوا عمن أيقظهم, وهذا رأي لبعض المفسرين.

فيهما تبعا لجريانها في المصادر -كما رأيت- فتشبيه الدلالة بالنطق في المثال السابق يتبعه تشبيه "دل بنطق"، واستعارة النطق للدلالة يتبعه كذلك استعارة "نطق لدل"؛ لأن الفعل مشتق من المصدر، فكل تصرف يجري في المصدر يجري نظيره في الفعل تبعا له، وكذلك سائر المشتقات. وإنما اعتبر التشبيه والاستعارة في المصدر قبل اعتبارهما في الفعل وسائر المشتقات؛ لأن المصدر هو المعنى القائم بالذات، فهو المقصود الجدير بأن يعتبر فيه التشبيه والاستعارة أولا، والشيء إذا اشتمل على قيد كان الغرض هو ذلك القيد, هذا هو التحقيق. وقالوا في تعليل كون الاستعارة في الأمرين المذكورين تبعية: إن الاستعارة تعتمد التشبيه، وتنبني عليه، والتشبيه يقتضي اتصاف طرفيه بوجه الشبه -كما علمت- وإنما يصلح للموصوفية الحقائق الثابتة كالأجسام وأشباهها. أما ما كان مدلوله متجددا أي: غير متقرر ثابت كمعاني الأفعال, والصفات المشتقة فلا يصلح للموصوفية, فلا يصح فيه التشبيه، فلا تجري فيه الاستعارة الأصلية وإنما كانت مدلولاتها غير متقررة لدخول الزمان -وهو غير قار الذات- في مفهوم الأفعال، ولزومه للصفات. ورد هذا الدليل بألا يسلم لهم قولهم: لا يصلح للموصوفية غير الحقائق الثابتة, إذ قد صح أن يوصف كل من الحركة والزمان، فيقال: حركة بطيئة، وزمان عصيب، مع القطع بعدم تقررهما وثباتهما, على أن عروض الزمان للصفات لو كان مانعا من جريان التشبيه فيها, لما صح جريانه في المصادر أيضا لعروض الزمان لمفهومها كذلك؛ لأنها دالة على الأحداث، ولا بد لها من زمان تقع فيه، مع أن الاستعارة في المصادر أصلية. وعلى تقدير تسليم ما ذكروا لا يتناول دليلهم أسماء الزمان والمكان والآلة؛ لأنها تصلح للموصوفية، فيقال: هذا مقام واسع،

ومجلس فسيح، ومنبت طيب، ومفتاح كبير، ومنشار ماضٍ, سيما إذا علمنا أنهم صرحوا بأن المراد بالمشتقات ما عدا هذه الثلاثة. ومقتضى عدم شمول الدليل لها، أو تصريحهم باستثنائها أن تكون الاستعارة فيها أصلية بأن يقدر التشبيه فيها ذاتها، لا في مصادرها, وليس الواقع كذلك للقطع بأنا إذا قلنا: "هذا مقتل فلان" للموضع الذي ضرب فيه ضربا شديدا، و"هذا مرقد فلان" لقبره, فإن المعنى على تشبيه الضرب بالقتل، والموت بالرقاد، وإن الاستعارة في المصدر نفسه، لا في ذات المكان. فالتعليل الصحيح إذًا في كونها "تبعية" هو ما ذكرنا من جريان الاستعارة في المشتقات, تبعا لجريانها في المصادر؛ لأن المصدر هو المعنى القائم بالذات, فهو أسبق في الاعتبار وأولى. الاستعارة في الحرف: مثالها قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . اعلم: أن لام العلة موضوعة لترتب ما بعدها على ما قبلها ترتب العلة على المعلول, كما في قولك: "جئت إلى المعهد لأرتشف العلم من مناهله" فإن ارتشاف العلم مترتب على المجيء، وعلة باعثة عليه. إذا علمت هذا فاعلم: أن "اللام" المذكورة مستعملة في غير ما وضعت له؛ لأن ما بعدها -وإن كان مترتبا على ما قبلها- ليس علة باعثة عليه, ذلك أن آل فرعون لم يلتقطوا موسى -عليه السلام- ليكون لهم عدوا وحزنا، وإنما التقطوه ليكون حبيبا لهم وسرورا, لكن لما كانت النتيجة المترتبة على التقاطهم هي العداوة والحزن، لا المحبة والسرور, شبه العداوة والحزن المترتبان على الالتقاط في الواقع بالمحبة والسرور اللذين كان ينبغي أن يترتبا عليه، ثم استعملت فيه اللام تجوزا.

وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبه العداوة والحزن المترتبان على الالتقاط بالعلة الحقيقية التي هي المحبة والسرور بجامع الترتب على الالتقاط في كل، فسرى هذا التشبيه إلى تشبيه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب العلة الحقيقية عليه, بجامع مطلق ترتب شيء على الشيء، ثم استعيرت اللام الموضوعة لترتب العلة الحقيقية على الالتقاط؛ لترتب غير العلة الحقيقية عليه على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثله قوله تعالى: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ، فلفظ {فِي} موضوع لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين كما تقول: الماء في الكوز. وإذًا فكلمة {فِي} في الآية مستعملة في غير ما وضعت له؛ لأن ما بعدها لا يصلح ظرفا لما قبلها على الحقيقة, لكن لما كانت الجذوع متمكنة من المصلوبين تمكن الظرف من المظروف شبهت الجذوع بالظرف الحقيقي في هذا التمكن، ثم استعير لها لفظ {فِي} تجوزا. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الجذوع المستعلى عليها بالظروف الحقيقية بجامع التمكن في كل، فسرى هذا التشبيه إلى تشبيه تلبس الجذوع بالمصلوبين بتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين بجامع مطلق تلبس شيء بشيء، ثم استعيرت {فِي} الموضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين لتلبس الجذوع المستعلى عليها بالمستعلي، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثله قولهم: "محمود في غبطة" فلفظ "في" -كما علمت- موضوع لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين -كما في المثال السابق- وإذًا فلفظ "في" في المثال المذكور مستعمل في غير ما وضع له؛ لأن ما بعده لا يصلح للظرفية الحقيقية -كما ترى- لكن لما كانت الغبطة متمكنة من محمود تمكن الظرف من المظروف الحقيقيين, شبهت الغبطة بالظرف الحقيقي في هذا التمكن، واستعمل فيها لفظ "في" تجوزا.

وتقرير الاستعارة فيه على نحو ما سبق، فتشبه الغبطة بالظرف الحقيقي بجامع التمكن في كل، فيسري هذا التشبيه إلى تشبيه تلبس الغبطة بمحمود بتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين بجامع مطلق تلبس شيء بشيء, ثم تستعار "في" الموضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين؛ لتلبس الغبطة بمحمود, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية, وهكذا يقال في أمثال ما ذكر. ومن هذا البيان يعلم أن الاستعارة في الحرف لا بد فيها من تشبيهين يسبقانها؛ أحدهما في مدخول الحرف، والثاني في معناه, فالتشبيه في آية {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ} جرى -أولا- في مدخول لام العلة، وهو "العداوة والحزن" في جانب المشبه، "والمحبة والسرور" في جانب المشبه به، ثم جرى -ثانيا- في معنى اللام، وهو ترتب العلة على المعلول. والتشبيه في آية {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} جرى -أولا- في مدخول الحرف، وهو "الجذوع" في جانب المشبه، والظروف الحقيقية في جانب المشبه به، ثم جرى -ثانيا- في معنى الحرف، وهو "تلبس الظرف بالمظروف", والتشبيه في المثال الأخير جرى -أولا- في مجرور الحرف، وهو "الغبطة" في جانب المشبه، والظرف الحقيقي في جانب المشبه به، ثم جرى -ثانيا- في معنى الحرف، وهو "تلبس الظرف بالمظروف" وعلى هذا فقس. هذا هو مذهب الخطيب في استعارة الحرف -على ما يفهم من كلامه في كتابه الإيضاح- فهو -كما رأيت- لا يجري استعارة في مجرور الحرف، ويعقد التشبيه فيه، لا في معنى كلي كما ذهب إليه الجمهور -على ما سيأتي- قالوا: وهذا هو الأولى؛ لأن الحرف في حاجة إلى ذكر المجرور, فاللائق أن يكون التشبيه فيه لا في غيره، وأن تكون الاستعارة في الحرف تبعا للتشبيه في مجروره, كما مثلنا.

أما مذهب الجمهور في استعارة الحرف فهو أنهم يعقدون التشبيه في متعلق معنى الحرف1، فيقولون في آية الالتقاط: شبه مطلق ترتب علة واقعية، "كالعداوة والحزن" على الالتقاط بمطلق ترتب علة غائية "كالمحبة والسرور" عليه, بجامع مطلق ترتب شيء على شيء, فسرى التشبيه من هذين الكليين إلى جزئياتهما، ثم استعيرت -بناء على هذا التشبيه الحاصل بالسراية- اللام الموضوعة لجزئي من جزئيات المشبه به2 لجزئي من جزئيات المشبه3, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ويقال في آية {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} : شبه مطلق تلبس مستعلى عليه بمستعل بمطلق تلبس ظرف بمظروف, بجامع مطلق تلبس شيء بشيء, فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، ثم استعير -بناء على هذا التشبيه- لفظ {فِي} الموضوع لجزئي من جزئيات المشبه به4 لجزئي من جزئيات المشبه5, استعارة تصريحية تبعية. ويقال في المثال الأخير: شبه مطلق تلبس شيء لا يصلح للظرفية -كالغبطة في المثال المذكور- بشيء آخر بمطلق تلبس ظرف بمظروف, بجامع مطلق تلبس شيء بشيء، فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات

_ 1 المراد بمتعلق معنى الحرف: المعنى الكلي الذي يستلزمه المعنى الجزئي للحرف, فلفظ "في" مثلا موضوع لمعنى جزئي هو الظرفية الخاصة في نحو قولك: الماء في الكوز, وهذا المعنى الجزئي يتعلق بمعنى كلي هو مطلق ظرفية شيء في شيء, ومعنى تعلقه به استلزامه له، إذ الخاص يستلزم العام، ولام العلة موضوعة لمعنى جزئي هو ترتب علة خاصة على معلول خاص, كما في نحو: جئت لتلقي العلم, وهذا المعنى الجزئي يتعلق بمعنى كلي هو مطلق ترتب شيء على شيء, وهكذا. 2 هو ترتب المحبة والسرور المتعلقين بموسى, عليه السلام. 3 هو ترتب العداوة والحزن المتعلقين بموسى, عليه السلام. 4 أي: في نحو: الماء في الكوز. 5 أي: كما في المثال المذكور.

ثم استعير لفظ {فِي} من أحد جزئيات المشبه به1 لأحد جزئيات المشبه3, استعارة تصريحية تبعية, وهكذا. وسميت الاستعارة في الحرف تبعية "على المذهبين"؛ لأنها تابعة لتشبيه -على ما بينا- لا لأنها تابعة لاستعارة أخرى في المجرور -على رأي الخطيب- أو في متعلق معنى الحرف -على رأي القوم- إذ لا استعارة في الموضعين -كما رأيت- وليس في اعتبارها فيهما سوى تكثير المؤنة والكلفة, بخلاف استعارة المصدر في المشتقات, فإن فائدتها اشتقاق الفعل أو شبهه منه. غير أنه نقل عن القوم استعارة متعلق معنى الحرف, بأن يقال بعد إجراء التشبيه في الكليين في مثل آية الالتقاط: ثم استعير اسم المشبه به للمشبه، فتكون الاستعارة في الحرف حينئذ تابعة لاستعارة أصلية، وقد علمت أن لا فائدة مترتبة على اعتبار ذلك. وكما تسمى تبعية لما ذكرنا تسمى تصريحية؛ للتصريح فيها بالحرف المنقول من المشبه به إلى المشبه "كاللام" في آية "الالتقاط"، وكلفظ {فِي} في آية {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} , فكلاهما بمثابة لفظ "الأسد" المنقول من الحيوان المفترس إلى الرجل الباسل. وصفوة القول في الاستعارة التبعية أن يقال: إن كانت الاستعارة في الفعل أو شبهه يقدر التشبيه في معنى المصدر، ثم ينقل المصدر إلى غير معناه الأصلي، ثم يشتق منه ما وقعت الاستعارة فيه من فعل، أو وصف، فتكون الاستعارة فيهما حينئذ تابعة للاستعارة في المصدر, بلا خلاف في المسألة. وإن كانت الاستعارة في الحرف, فعلى مذهب الخطيب يقدر التشبيه في المجرور بالحرف -أولا- ثم في معنى الحرف -ثانيا-

_ 1 في نحو: محمد في بيته. 2 كالمثال المذكور.

من طريق السراية، ثم ينقل الحرف إلى المعنى المراد، فتكون الاستعارة حينئذ تابعة لتشبيه. أما على مذهب القوم, ففي قول يقدر التشبيه -أولا- في متعلق معنى الحرف، ثم يقدر -ثانيا- من طريق السراية في جزئية، ثم يستعار الحرف للمعنى المراد، فتكون الاستعارة حينئذ تابعة لتشبيه, وفي قول آخر عنهم يقدر التشبيه في متعلق معنى الحرف كسابقه، ثم يستعار اسم المشبه به الكلي للمشبه الكلي، ثم يقدر التشبيه "ثانيا" في الجزئيات من طريق السراية، ثم ينقل الحرف إلى المعنى المراد، فتكون الاستعارة في الحرف حينئذ تابعة لاستعارة أصلية, ولا يعوزك تطبيق هذا الكلام على ما يعرض لك من الأمثلة. قرينة التبعية: قرينة التبعية في الفعل، والمشتق1 مرجعها غالبا إلى: 1- "الفاعل" بأن يكون إسناد الفعل إليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد بالفعل معنى ينساب الفاعل, كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ونحو قولنا: نطقت "حاله" بكذا؛ فالطغيان بمعناه الحقيقي يستحيل صدوره من الماء, كما أن النطق بالمعنى المعروف يستحيل صدوره من الحال؛ إذ هما من شئون الإنسان، فدل ذلك على أن المراد بالطغيان في الأول ما يصح إسناده إلى الماء وهو الكثرة التي جاوزت الحد, وأن المراد بالنطق ما يصح إسناده إلى الحال، وهو الدلالة الواضحة. 2- نائب الفاعل بأن يكون إسناد الفعل إليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد بالفعل معنى يناسب نائب الفاعل كما في

_ 1 إنما قلنا في الفعل والمشتق؛ لأن قرينة التبعية في الحروف غير مضبوطة.

قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} فالضرب -وهو نصب الشيء- من شأن الخيام لا من شأن الذلة والمسكنة؛ إذ هما أمران معنويان, فدل ذلك على أن المراد بالضرب معنى يناسبهما، وهو "الحكم" ويكون المعنى حينئذ: حكم عليهم بالذلة والمسكنة1. 3- المفعول بأن يكون تسلط الفعل أو ما يشتق منه على المفعول غير صحيح, فيدل ذلك على أن المراد بهما معنى يناسب المفعول. من ذلك قول ابن المعتز الخليفة العباسي: جمع الحق لنا في إمام ... قتل "البخل" وأحيا "السماحا" فالقتل والإحياء الحقيقيان لا يقعان إلا على ذي روح، والبخل والسماح ليسا من ذوات الأرواح فعدم صحة إيقاع القتل على البخل، والإحياء على السماح دليل على أن المراد بالقتل معنى يناسب البخل, وهو "الإزالة"، وأن المراد بالإحياء معنى يناسب الجود، وهو "الإكثار", وكأنه قال: أزال البخل وأكثر السماح2، فالقرينة إذًا هي "البخل" في الأول و"السماح" في الثاني. وقد تكون القرينة المفعول الثاني, كما في قول القطامي من قصيدة: لم تلق قوما هم شر لإخوتهم ... منا عشية يجري بالدم الوادي

_ 1 شبه الحكم على الشيء بنصب الخيام عليه, بجامع الاشتمال في كل، ثم استعير ضرب الخيام للحكم واشتق منه ضرب بمعنى حكم, على طريق الاستعارة التبعية. 2 شبه أولا إزالة البخل بالقتل بجامع ما يترتب على كل من العدم، ثم استعير القتل للإزالة، واشتق منه قتل بمعنى أزال، وشبه ثانيا الإكثار من الشيء بإحيائه بجامع شيوع المنفعة في كل، ثم استعير الإحياء للإكثار، واشتق من الإحياء أحيا بمعنى أكثر, على سبيل الاستعارة التبعية في المثالين.

نقريهمو لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زراد1 يقول: لم تجد أقوى منا في إيقاع الشر بأعدائنا، والتنكيل بهم عند النزال وتفاقم القتال؛ إذ نطعنهم طعنات نافذات تقد الدروع، وتشق الضلوع. والشاهد في قوله: "نقريهمو لهذميات" فهو استعارة تبعية قرينتها "لهذميات"، وهو المفعول الثاني لنقري, ذلك أن القرى تقديم الطعام للضيف، فلا يصح إيقاعه على اللهذميات بمعنى الطعنات، فعلم أن المراد "بالقرى" معنى يناسب هذه الطعنات، وهو تقديمها إلى الأعداء عند اللقاء. وقد تكون القرينة المفعولين معا كقول الحريري: وأقري المسامع أما نطقت ... بيانا يقود الحرون الشموسا2 يقول: وأقدم إلى المسامع بيانا يكبح بسحره وعذوبته جماح النفوس الصوادف, يصف نفسه بسحر البيان وعذوبة القول. والشاهد في قوله: "وأقري المسامع بيانا" فإن "أقري" استعارة تبعية قرينتها تعلق القرى بكل من المسامع والبيان, ذلك أن القرى -كما قدمنا- تقديم الطعام إلى الضيف، فلا يصح إيقاعه، وتعلقه

_ 1 القرى على "إلى" الإحسان إلى الضيف, واللهذميات جمع لهذمية وهي الطعنة الواسعة, منسوبة إلى اللهذم بفتح اللام والذال وهو السيف القاطع, وقد يراد بها الأسنة القاطعة والنسبة للمبالغة، والقد: القطع، وضمن "خاط" معنى قدر فعداه بعلى، والزراد: صانع الزرد -بفتح الراء- وهو الدرع، ومعنى زردها: نسجها, شبه تقديم الطعنات أو الأسنة عند اللقاء بالقرى بجامع أن كلا تقديم ما يصل من خارج إلى داخل، ثم استعير القرى لتقديم الطعنات أو الأسنة، واشتق من القرى نقريهمو بمعنى: نقدم لهم الطعنات أو الأسنة, على سبيل الاستعارة التبعية. 2 الحرون من الخيل: ما لا ينقاد لصاحبه ومثله الشموس, يقال: حرن الفرس وشمس على زنة دخل, إذا منع ظهره.

بالمسامع والبيان، فعلم من هذا أن المراد به معنى يناسبها، وهو "التقديم" كالمثال الذي قبله. 4- المجرور بأن يكون تعلق الفعل بالمجرور غير مناسب، فيدل ذلك على أن المراد به معنى يناسب ذلك المجرور, كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فإن التبشير إخبار بما يسر، فلا يناسب تعلقه بالعذاب، فعلم من هذا أن المراد بالتبشير معنى يناسب العذاب1، وهو الإنذار أي: الإخبار بما يحزن, ففي قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ} استعارة تبعية قرينتها مجرور الحرف. ومثله قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} فقوله: {نَقْذِفُ} استعارة تبعية بمعنى نرد, ولفظ "الحق" قرينتها, إذ إن الحق أمر معنوي لا يناسبه القذف الخاص بالمحسوسات2. وقد تكون القرينة غير ما ذكرنا, كما في قوله تعالى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} على أن يكون "مرقد" اسم مكان, والقرينة على الاستعارة كون هذا القول من كلام الموتى، مع ضميمة قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} . وإذ قد فرغنا من التقسيم الأول للاستعارة التصريحية,

_ 1 نزل التضاد بين التبشير والإنذار منزلة التناسب بينهما، ثم شبه الإنذار بالتبشير في أن كلا إخبار بما يسر، ثم استعير التبشير للإنذار واشتق منه بشر بمعنى أنذر, على طريق الاستعارة التصريحية التبعية التهكمية. 2 شبه الرد بالقذف بجامع الإبعاد في كل، واستعير القذف للرد، ثم اشتق من القذف {نَقْذِفُ} بمعنى نرد, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

التقسيم الثاني باعتبار الملائم

التقسيم الثاني باعتبار الملائم: تنقسم باعتبار ذكر الملائم لأحد الطرفين، وعدم ذكره إلى ثلاثة أقسام: مرشحة، ومجردة، ومطلقة. فالمرشحة: ما قرنت بما يلائم المستعار منه أي: المشبه به، سواء كان ذلك الملائم صفة نحوية، أو معنوية، أو كان تفريعا1. فمثال الأول من الاستعارة الأصلية قولك: "رأيت أسدا حادّ الأنياب منتفش اللبدة"، وقولك: "جاورت بحرا بعيد الغور"، فقد استعير في الأول "الأسد" للرجل الجريء، ثم وصف المستعار منه بما يلائمه من حدة الأنياب، وانتفاش اللبدة ترشيحا للاستعارة, واستعير في الثاني "البحر" للعالم الجليل، ثم وصف المستعار منه بما يلائمه من بعد الغور ترشيحا للاستعارة، وكلا الترشيحين وصف نحوي. ومثال الترشيح بالصفة المعنوية من الاستعارة الأصلية أيضا قول الشاعر: ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمر بن بكر لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر2 يقول: ينازعني عبد عمرو سيفي الذي أقي به نفسي وعرضي، ثم التفت وقال له: تمهل، فسأقسم بيني وبينك، فأحتفظ لنفسي بقائمه الذي بيدي، وأعطيك أنت صدره, يريد: أنه سيضربه على رأسه بصدر سيفه ضربا يشق ذلك الرأس ويشطره، فهو يهدده

_ 1 الفرق بين الصفة والتفريع أن الملائم إن كان من بقية الكلام الذي فيه الاستعارة فهو صفة, وإن كان كلاما مستقلا جيء به بعد ذلك الكلام الذي فيه الاستعارة مبنيا عليه كان تفريعا, سواء كان بحرف التفريع أو لا, والعبرة بالاعتبار والقصد, فنحو قولك: "رأيت أسدا يرمي" يصح أن يكون من قبيل الصفة، ومن قبيل التفريع. 2 رويدك: اسم فعل بمعنى أمهل, وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، ودونك: اسم فعل بمعنى خذ، والاعتجار: لف الرأس بنحو ثوب، وأراد بالشطر الذي ملكت يمينه: قائم سيفه، وبالشطر الآخر: صدر السيف.

بالقتل حسما للنزاع. والشاهد فيه: استعارة الرداء للسيف، ثم وصف الرداء الذي هو المستعار منه بما يلائمه من الاعتجار -إذ هو لف الرأس بنحو ثوب- ترشيحا للاستعارة. ومثال الترشيح بالتفريع، والاستعارة تبعية قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا 1 الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ؛ استعير الاشتراء للاختيار، واشتق منه {اشْتَرَوْا} بمعنى: اختاروا، ثم فرع عليه بما يلائم المستعار له من نفي الربح والتجارة؛ ترشيحا للاستعارة. وسمي هذا القسم استعارة "مرشحة"؛ لأن الترشيح معناه التقوية، وذكر ملائم المشبه به يبعدها عن الحقيقة، ويقوي فيها دعوى الاتحاد التي هي مبنى الاستعارة. والمجردة: ما قرنت بما يلائم المستعار له، سواء كان هذا الملائم صفة نحوية، أو معنوية، أو كان تفريعا. فمثال الصفة النحوية قول البحتري: يؤدون التحية من بعيد ... إلى قمر من الإيوان باد2 فقد استعار القمر للإنسان الجميل، ثم وصف المستعار له بما يلائمه من كونه مطلا من الإيوان تجريدا للاستعارة, وقرينتها قوله: "يؤدون التحية من بعيد". ومثله قولك: "أبصرت رئبالا يقود جيشا، ويخطب الجنود"، استعير الرئبال لقائد همام, ثم وصف المستعار له بما يلائمه من خطابه في الجنود تجريدا للاستعارة، وقرينتها قوله:

_ 1 شبه إيثار الباطل على الحق واختياره دونه بالاشتراء بجامع استبدال شيء مرغوب عنه بشيء مرغوب فيه، ثم استعير اسم المشبه به وهو الاشتراء للمشبه الذي هو الإيثار والاختيار, ثم اشتق من الاشتراء بمعنى الإيثار والاختيار {اشْتَرَوْا} بمعنى: آثروا واختاروا, على طريق الاستعارة التبعية. 2 الإيوان: اسم لبناء ضخم, ومنه إيوان كسرى.

"يقود جيشا"، ويصح العكس، فيكون الأول تجريدا، والثاني هو القرينة. ومثال الصفة المعنوية قول كثير عزة: غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال1 يقول: إنه كثير العطاء، واسع البذل, إذا ابتسم لطالبي معروفه تمكنت رقاب أمواله من أيديهم، وتعذر انفكاكها كالرهن الحبيس في يد المرتهن، وقد عجز الراهن عن استرداده، والشاهد فيه: استعارة الرداء للعطاء بعد تشبيه العطاء به في أن كلا وقاية حفظ وصيانة، فالمال يصون العرض، والرداء يصون السوءة، ثم وصف الرداء "بالغمر" الملائم للمستعار له2 وهو العطاء؛ تجريدا للاستعارة, وقرينتها تتمة الكلام من تبسم الممدوح، وحبس رقاب أمواله في أيدي العفاة3. ومثال التفريع قولهم: "رأيت غضنفرا في حومة الوغى فلجأت إلى ظل رمحه"، استعير الغضنفر للرجل المقدام, بقرينة قوله: في حومة الوغى، ثم فرع عليه بما يلائم المستعار له من اللجوء إلى ظل رمحه تجريدا للاستعارة. ومثالها من التبعية قولك: طغى الماء فأغرق الوادي؛ شبه كثرة الماء بالطغيان على

_ 1 "الغمر" في الأصل: الماء الكثير, واستعمل هنا بمعنى كثرة العطاء, وفي قوله: "تبسم ضاحكا" وصف للممدوح بالبشر والطلاقة مع الوقار, وأنه لا يقهقه كما يفعل المتبذلون، وقوله: "غلقت" من غلق الرهن في يد المرتهن, إذا لم يقدر الراهن على انفكاكه لعجزه عن أداء الدين، والضحكة -بفتح الضاد وسكون الحاء- المرة من الضحك، ويريد برقاب المال: أصوله. 2 هذا إذا كان من غمر الماء إذا كثر, أما إذا كان من قولهم: ثوب غامر أي: واسع فضفاض فهو ترشيح, على أن حقيقة الغمر الكثير من الماء، فإطلاقه على الكثير من العطاء مجاز، فالملائم في الترشيح أو التجريد ما كان مناسبا سواء كان حقيقة أو مجازا. 3 إنما جعل تتمة الكلام قرينة الاستعارة، مع جواز أن يكون الوصف بالغمر قرينتها، بل هو أولى لتقدمه؛ لأن المقصود بالاستعارة لا يتضح إلا مع هذه الإضمامة.

ما سبق بيانه, وقوله: "فأغرق الوادي" تفريع أتي به تجريدا للاستعارة. وسمي هذا القسم "استعارة مجردة" لتجردها عما يقوي فيها دعوى الاتحاد؛ ذلك أن ذكر ملائم المستعار له الذي هو المشبه يقربها من المعنى الحقيقي، ويضعف فيها دعوى اتحاد الطرفين. وقد اجتمع الترشيح والتجريد في قول "زهير بن أبي سلمى": لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم1 استعار الأسد للرجل الجريء، ثم أتى بجملة ملائمات، بعضها للمستعار له، وبعضها للمستعار منه, وبعضها مشترك بينهما. فقوله: "شاكي السلاح" أي: تامه تجريد؛ لأنه من ملائمات المستعار له، وقوله: "له لبد" ترشيح؛ لأنه من ملائمات المستعار منه، أما قوله: "مقذف" فإن أريد به المقذوف باللحم كناية عن ضخامته لم يكن تجريدا، ولا ترشيحا لملاءمته لكل منهما، وإن أريد به الذي يقذف بنفسه في المعارك، سواء كان بآلة حرب أو بغيرها فكذلك, فإن القذف بآلة حرب كان تجريدا؛ لأنه يناسب الجريء من الرجال إذ هو الذي يحمل السلاح. وأما قوله: "أظفاره لم تقلم" فإن أريد به أن ذلك الأسد ليس من الجنس الذي تقلم أظفاره كان ترشيحا؛ لأن الأسد الحقيقي ليس من شأنه ذلك، وإن أريد جعله كناية عن نفي الضعف لم يكن ترشيحا ولا تجريدا؛ لأنه قدر مشترك بين الطرفين, وقرينة الاستعارة قوله: "لدى أسد" على تقدير: أنا لدى أسد, فإن كانت القرينة حالية اعتبر هذا تجريدا لملاءمته للمستعار له. ومما اجتمع فيه الأمران قول الشاعر: رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلدي وهو للقلب جارح

_ 1 "شاكي" أصله شائك, دخله القلب المكاني, واللبد -على زنة عنب- جمع لبدة, وهي ما تلبد من شعر الأسد على منكبيه، ولم تقلم أي: لم تقطع؛ مبالغة في القلم وهو القطع.

شبه النظر بالسهم في شدة التأثير، واستعار السهم للنظر، و"ريشه" ترشيح؛ لأنه من ملائمات المستعار منه, من قولهم: راش السهم إذا ألصق عليه الريش ليكون أحكم في الرماية, و"الكحل" تجريد؛ لأنه من ملائمات المستعار, والقرينة حالية بهذا الاعتبار, فإن اعتبر "الكحل" قرينة كان "ريشه" ترشيحا, واعتبرت الاستعارة مرشحة. ومما ينبغي أن يعلم, أن اعتبار الترشيح والتجريد إنما يكون بعد استيفاء الاستعارة قرينتها؛ فقولك: "رأيت سحابا يعطي" استعارة لا ترشيح فيها ولا تجريد؛ لعدم اقترانها بما يلائم أحد الطرفين، وأما قولك: "يعطي" فهو قرينة الاستعارة، فلا يعتبر تجريدا، وإن كان من ملائمات المستعار له؛ لأن الترشيح والتجريد -كما قلنا- إنما يعتبران بعد تمام الاستعارة، وهي إنما تتم بالقرينة, ولو أن القرينة في هذا المثال حالية لكان قولك: "يعطي" تجريدا؛ لملاءمته للمستعار له. والمطلقة: ما لم يقترن بشيء من ملائمات أحد الطرفين, كما تقول: "عطشي إلى لقائك شديد"؛ شبه الشوق بالعطش بجامع ما يترتب على كل من التلهف، ثم استعير العطش للشوق, والقرينة قولك: إلى لقائك. ومثله قولك: "رأيت بحرا في سوق عكاظ" أي: شاعرا فحلا, فالاستعارة في المثالين مطلقة لعدم اقترانها بشيء يلائم أحد الطرفين. وسمي هذا القسم استعارة مطلقة لإطلاقها عن التقييد بما يلائم أحد الطرفين. قالوا: ومن قبيل المطلقة ما اجتمع فيها ترشيح وتجريد كالبيتين السابقين؛ لأنهما باجتماعهما تتعارضان فتتساقطان, فكأن لا ترشيح، ولا تجريد. وكما في قولك: "زارني غيث غزير يعطي ياليمين واليسار" ففي هذا المثال ذكر ما يلائم الطرفين، فالغيث وهو المشبه به يلائمه غزير، والرجل الجواد وهو المشبه يلائمه يعطي باليمين

واليسار, فالاستعارة مطلقة اللهم إلا إذا زاد أحدهما على الآخر، فإنه حينئذ يرجح جانبه. وبناء عليه يكون قول زهير: "لدى أسد شاكي السلاح" "البيت" من قبيل الاستعارة المجردة إن جعلت القرينة حالية؛ لأن ملائمات المستعار له حينئذ أكثر من ملائمات المستعار منه، كما أن قولك: "رأيت أسدا على فرس منتفش اللبدة رهيب الزئير" من قبيل الاستعارة المرشحة على تقدير أن القرينة حالية؛ لأن ملائمات المستعار منه حينئذ أكثر فهي بهذا الاسم أجدر، ورجح بعضهم جانب السابق لسبقه. موازنة بين هذه الثلاث: الاستعارة المرشحة -كما قلنا- ما ذكر فيها ملائم المستعار منه أي: المشبه به, وهذا مما يزيد الاستعارة قوة مبالغة؛ ذلك أن مبنى الاستعارة -كما علمت- على تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه هو المشبه به، لا شيء سواه, والترشيح الذي هو ذكر ملائم المشبه به إمعان في هذا التناسي، وغلو في دعوى الاتحاد، وكأن ليس هناك استعارة بل ولا تشبيه حتى إنك لتجد الشاعر، أو الناثر يمعن في إنكارها، ويخيل للسامع أن الأمر محمول على حقيقته، لا تجوز فيه, ألا ترى إلى قول أبي تمام: ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء فقد استعار لفظ "الصعود"، وهو العلو الحسي المكاني لعلو المرتبة، ثم بنى كلامه على أنه صعود حسي حقيقة إمعانا في تناسي التشبيه، وفي إنكار أن هناك استعارة، فذكر ما يلائم هذا الصعود الحسي من ظن الجهول أن للصاعد حاجة في السماء، ولولا أنه تناسى، أو أنكر أن هناك تشبيها, واستعارة، وأنه جعل الممدوح صاعدا في السماء صعودا حسيا مشاهدا, ما كان لهذا الكلام وجه. يؤيد ذلك ما تقدم من قول الشاعر:

قامت تظللني من الشمس ... نفس أعز على من نفسي قامت تظللني ومن عجب ... شمس تظللني من الشمس وقول الآخر: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر ففي الأول شبه إنسانا جميلا بالشمس، ثم استعار الشمس له، وفي الثاني شبه إنسانا جميلا بالقمر، ثم استعار القمر له، ثم تناسى التشبيه، وتناسى الاستعارة، وبنى الكلام على أن الشمس والقمر حقيقتان, ولولا ذلك ما كان للتعجب "في الأول" ولا للنهي عنه "في الثاني" معنى, على ما سبق من أنه لا معنى للتعجب من أن ذاتا جميلة تظلل إنسانا من الشمس، ولا معنى للنهي عن التعجب من أن ذاتا جميلة تبلى غلالة. وإذا كان هذا شأن المرشحة, كانت جديرة أن تحل المكان الأول بين أختيها, ويلي المرشحة في القوة الاستعارة المطلقة؛ إذ هي -كما عرفت- ما لم يذكر معها شيء يلائم أحد الطرفين، فهي -وإن خلت مما يقوي تناسي التشبيه، ويدعم دعوى الاتحاد من ذكر ما يلائم المشبه به- ليس فيها ما ينافيهما من ذكر ما يلائم المشبه, وإذا كان هذا حالها كانت خليقة أن تحتل مكانا وسطا بين أختيها: المرشحة، والمجردة. ومن هنا يبدو لك واضحا أن الاستعارة المجردة في المرتبة الدنيا؛ لاشتمالها على ما يلائم المشبه, إذ هو يتعارض مع ما تقتضيه الاستعارة من تناسي التشبيه ودعوى الاتحاد قضاء لحق المبالغة. تنبيه: تقريرا لما سبق من جواز البناء على المشبه به في الاستعارة بذكر أوصاف تلائمه, نقول: إن البناء على المشبه به ليس خاصا بالاستعارة،

بل ورد البناء عليه في التشبيه أيضا, كما في قول العباس بن الأحنف: هي الشمس مسكنها في السماء ... فعز الفؤاد عزاء جميلا فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا فهو يشبه إنسانة جميلة بالشمس، ثم يتناسى التشبيه، فيذكر أحوالا تخص الشمس من أن السماء مسكنها، وأنها لا تستطيع النزول كما لا يستطاع إليها الصعود. وكقول أبي العلاء المعري: هي قالت لما رأت شيب رأسي ... وأرادت تنكرا وازورارا1 أنا بدر وقد بدا الصبح في رأسـ ... ـك والصبح يطرد الأقمارا لست بدرا وإنما أنت شمس ... لا ترى في الدجى وتبدو نهارا فقد شبهت نفسها بالبدر، ثم تناست التشبيه، فذكرت ما يخص المشبه به من كون الصبح لا يجامع البدر، وشبهها هو بالشمس، ثم تناسى التشبيه، فذكر ما يلائم الشمس من أنها لا ترى إلا نهارا2. وإذا جاز البناء على المشبه به أي: ذكر ما يلائمه من الصفات، مع الاعتراف بالمشبه في التشبيه, كان البناء عليه، مع جحد المشبه في الاستعارة أولى؛ إذ قد طوي فيها ما يتعارض مع هذا البناء، وهو ذكر المشبه3.

_ 1 الازورار: العدول والانحراف. 2 بل لقد ورد ما هو أبعد من هذا, فقد وقع في بعض أشعار العجم النهي عن التعجب، مع الاعتراف بالمشبه، ومع التصريح بأداة التشبيه. وحاصل كلامهم في ذلك قولهم: لا تعجبوا من قصر ذوائبه, فإنها كالليل ووجهه كالربيع, فمن المعلوم أن المائل إلى القصر في الربيع هو الليل الحقيقي, ولما تنوسي التشبيه، وادعي أن الذوائب هي الليل الحقيقي وأن وجه المحبوب هو الربيع نفسه نهي عن التعجب من قصر الذوائب، فقد بنى على المشبه به مع الاعتراف بالمشبه، ومع التصريح بالأداة. 3 قيل: إذا كان البناء على المشبه به موقوفا على تناسي التشبيه -كما تقدم- والتناسي ينافيه الاعتراف بالمشبه كان البناء على المشبه به عند ذكر المشبه ممتنعا, فكيف يدعى جوازه؟ أجيب: إن المنافي للبناء على المشبه به إنما هو ذكر المشبه مع الإشعار بأنه باقٍ على أصله من أنه لم يبلغ مرتبة المشبه به، ومجرد ذكر الطرفين لا يشعر بما ذكر, فيتأتى معه تناسي التشبيه، وادعاء اتحاد الطرفين في الحقيقة بدليل حمل أحدهما على الآخر وإلا ما صح الحمل، وهذا إنما يظهر في التشبيه الخالي عن الأداة, وأما عند ذكرها ففيه بعد.

الاستعارة المكنية

الاستعارة المكنية مدخل ... الاستعارة المكنية: سبق أن قسمنا الاستعارة باعتبار ذكر أحد طرفيها إلى تصريحية، ومكنية, وقد فرغنا من الكلام في التصريحية، وهاك البحث في الاستعارة المكنية. تعريفها: اختلفت الآراء فيه: فمذهب السلف، وجمهور علماء البيان، وهو المشهور: أنها لفظ المشبه به المستعار في النفس للمشبه، والمحذوف المدلول عليه بذكر شيء من لوازمه, وخواصه كما في قول أبي ذؤيب الهذلي1 من قصيدة: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع2 يقول: إذا حان الأجل عجزت عنده الحيل، ولا مرد لقضاء الله, شبه الهذلي المنية بالسبع في اغتيال النفوس، من غير تمييز بين نافع

_ 1 هو خويلد بن خالد أحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام, ولم يثبت أن اجتمع بالنبي, صلى الله عليه وسلم. 2 أنشبت أظفارها أي: علقتها ومكنتها, وألفيت: وجدت، والتميمة: خرزة تجعل معاذة, وتعلق بأعناق الصبيان صونا لهم عن العين, أو الجن في زعمهم.

وضار، ثم استعار في نفسه لفظ السبع للمنية بعد تناسي التشبيه, وادعاء أن المشبه من جنس المشبه به، ثم قدر حذفه دالا عليه بذكر بعض خواصه، وهو "الأظفار"، ثم أثبته للمشبه الذي هو المنية على سبيل الاستعارة المكنية. وكما في قول الشاعر الآخر: إذا هزه في عظم قرن تهللت ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك1 شبه المنايا عند هزه السيف في عظم قرنه بإنسان يضحك لتوفر دواعي السرور، ثم استعار في نفسه لفظ المشبه به وهو "الإنسان الضاحك" للمنايا بعد التناسي والادعاء، ثم حذفه ودل عليه بذكر بعض لوازمه، وهو "تهلل النواجذ" وأثبته للمنايا على سبيل الاستعارة المكنية. وكقول الشاعر: ولئن نطقت بشكر برك مفصحا ... فلسان حالي بالشكاية أنطلق يقول: إن نطقت بلساني مفصحا عن شكر يدك, فلسان حالي أنطق بالشكاية منك؛ لأن ضرك أكثر من نفعك, شبه الحال بإنسان متكلم في الدلالة على المقصود، ثم استعير الإنسان للحال، ثم حذف ودل عليه بلازمه وهو "اللسان"، وأثبت الحال على سبيل الاستعارة المكنية. وكقول زهير بن أبي سلمى: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله2

_ 1 القرن -بكسر القاف- الند والنظير، وتهلل: تلألأ وأشرق، والنواجذ: هي الأضراس جمع ناجذ, والنجذ: العضّ. 2 "صحا" من الصحو بمعنى: زوال السكر والإفاقة منه، والمراد به السلو وهو زوال العشق من القلب، ففيه استعارة تبعية؛ شبه السلو من العشق بالصحو بالمعنى المذكور بجامع انتفاء ما يحول دون الرشد, ثم استعير اسم المشبه به واشتق منه صحا بمعنى سلا. و"أقصر باطله" يقال: أقصر عن الشيء, إذا أقلع عنه وتركه, مع القدرة عليه فإذا عجز عنه قيل: قصر عنه بلا ألف، وباطل القلب: ميله إلى الهوى. وإنما صح إسناد الإقصار إلى الباطل، وهو ليس بذي قدرة واختيار؛ إما لأن في العبارة قلبا، وأن الأصل: أقصر القلب عن باطله، فقلب وأسند الفعل إلى الباطل مجازا عقليا, وإما لأن المراد بالإقصار معناه المجازي وهو مطلق الامتناع، لا الامتناع مع القدرة الذي هو المعنى الحقيقي، فيكون معنى قوله: أقصر باطل القلب: امتنع عنه وانتفى وزال، والرواحل جمع راحلة, وهي البعير القوى على الأسفار، ومعنى تعرية الأفراس والرواحل: تجريدها من سروجها ورحالها للكف عن استخدمها في هذا السبيل, كناية عن انصرافه عما كان فيه من لهو وعبث.

يقول الشاعر: إنه ثاب إلى رشده، وسلا قلبه عن سلمى، وأقلع عن تعاطي الهوى معها، وجنب نفسه ما كان فيه من غواية وجهل، وسلك مناهج الحق والرشاد. والشاهد فيه الشطر الثاني من البيت, حيث شبه الصبا -بمعنى الميل إلى الصبوة والجهل- بإحدى جهات المسير إلى غاية كتحصيل علم، أو تجارة, أو نحوهما بجامع ما يتطلبه كل من تجشم للمشاق، واجتياز للمسالك الوعرة، من غير مبالاة بما يستهدف من خطر، ولا اكتراث لما يعرض من شدة، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه، ثم قدر حذفه مدلولا عليه بلازمه، وهو الأفراس والرواحل، ثم أثبت هذا اللازم للمشبه على سبيل الاستعارة المكنية1. ففي هذه الأمثلة الأربعة حذف لفظ المشبه به، وكني عنه بذكر لازمه، ثم أثبت هذا اللازم للمشبه المذكور، وكل ما كان من هذا القبيل ففيه استعارة مكنية. ففي المثال الأول حذف لفظ المشبه به، وهو "السبع"، وبقي

_ 1 ويحتمل أن الشاعر أراد بالأفراس والرواحل ما تركز في النفوس من شهوات جامحة، مع ما أودع فيها من قوى تعينها على استيفاء الملذات كالصحة والفراغ وما إليهما من جهد وتدبير، أو أراد بها الأسباب التي تتهيأ عادة إبان الصبا كالمال والأعوان، فتكون الاستعارة حينئذ تحقيقية في الأفراس والرواحل لتحقق معناها عقلا إن أريد بها شهوات النفوس وما إليها، أو حسا إن أريد بها الأسباب, ووجه الشبه بين الأفراس والرواحل، وبين ما ذكر في الوجهين أن كلا آلة لتحصيل ما لا يخلو عن مشقة وجهد.

المشبه وهو "المنية"، وكني عن المشبه به بذكر لازمه الذي هو "الأظفار"، ثم أثبت هذا اللازم للمنية، فقيل: "أظفارها". وفي المثال الثاني حذف لفظ المشبه به، وهو "الإنسان الضاحك" وبقي المشبه وهو "المنايا"، وكني عن المشبه به بذكر لازمه، وهو "تهلل النواجذ"، ثم أثبت هذا اللازم للمشبه، فقيل: "تهللت نواجذ أفواه المنايا". وفي المثال الثالث حذف لفظ المشبه به، وهو "الإنسان الناطق" وبقي المشبه وهو "الحال"، وكني عن المشبه به بذكر لازمه، وهو "اللسان" ثم أثبت هذا اللازم للمشبه, فقيل: "فلسان حالي". وفي المثال الرابع حذف لفظ المشبه به، وهو الجهة التي يقصد منها إلى الغاية، وبقي المشبه وهو الصبا، وكني عن المشبه به بذكر لازمه، وهو الأفراس والرواحل، ثم أثبت هذا اللازم للمشبه، فقيل: "أفراس الصبا ورواحله". وهكذا, فالمذكور في المكنية من الطرفين هو المشبه دائما عكس الاستعارة التصريحية، على ما عرفت. والدليل على التشبيه حينئذ إثبات ذلك اللازم؛ لأن إثبات لازم الشيء لغيره إنما يدل على أن ذلك الغير مشبه بذلك الشيء، ومنزل منزلته، وإلا ما صح أن يثبت له لازمه. وسميت هذه الاستعارة مكنية؛ لعدم التصريح فيها بذكر المشبه به, والكناية عنه بذكر بعض خواصه, كما رأيت. وذهب الخطيب القزويني إلى أن الاستعارة المكنية هي: التشبيه المضمر في النفس المدلول عليه بإثبات لازم المشبه به للمشبه, كما في نحو قول الهذلي السابق. ويقال في إجراء الاستعارة فيه على هذا المذهب: شبهت المنية بالسبع تشبيها مضمرا في النفس بجامع الاغتيال، ثم تنوسي التشبيه، وادعي أن المشبه من أفراد المشبه به، ثم أثبت لازم المشبه به، وهو "الأظفار" للمشبه على سبيل الاستعارة المكنية، وهكذا يقال في أمثال ما ذكر.

وعلى هذا المذهب خرجت الاستعارة عن أن تكون من أفراد المجاز اللغوي؛ لأنه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له, فهو من عوارض الألفاظ، والاستعارة المكنية -على هذا المذهب- هي التشبيه المضمر في النفس ... إلخ، وهو فعل من أفعال المتكلم، بخلافها "على مذهب الجمهور" فإنها من قبيل المجاز اللغوي، إذ هي لفظ المشبه به، المستعار للمشبه، المرموز له بشيء من لوازمه, على ما سبق. وإذًا, فإطلاق لفظ "الاستعارة" على المكنية -على رأي الخطيب- مجرد تسمية خالية عن المناسبة1، وأما إطلاق لفظ "المكنية" عليها فظاهر, إذ لم يصرح فيها بالتشبيه، وإنما كني عنه بذكر لازم المشبه به، وإثباته للمشبه.

_ 1 التمس بعضهم وجها لهذه التسمية, هو أن هذا التشبيه المضمر أشبه الاستعارة من حيث إن فيه ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به, ذلك نه لما أثبت اللازم للمشبه دل ذلك على أن مريد التشبيه ادعى دخوله في جنس المشبه به حتى استحق خواصه, والادعاء المذكور من شأن الاستعارة.

قرينة المكنية

قرينة المكنية: هي إثبات لازم المشبه به المحذوف للمشبه المذكور, كإثبات الأظفار للمنية في بيت الهذلي، وكإثبات تهلل النواجذ للمنايا في البيت الثاني، وكإثبات اللسان للحال "في البيت الثالث"، وكإثبات الأفراس والرواحل للصبا "في بيت زهير"، فإثبات مثل هذه الأشياء قرينة على أن في الكلام استعارة بالكناية. وهذا الإثبات يسمى عندهم "استعارة تخييلية". أما أنه استعارة فلأن اللازم المذكور -وهو الأمر المختص بالمشبه به- استعير للمشبه، واستعمل معه، وأما أنه استعارة تخييلية؛ فلأن ذلك اللازم لما نقل واستعمل مع المشبه خيل للسامع أن المشبه من جنس المشبه به. ومن هنا يتبين لك أمران: الأول: أن قرينة المكنية استعارة تخييلية دائما -عند القوم والخطيب- إذ هي -عندهم- إثبات لازم المشبه به للمشبه، وأنهما متلازمان، فلا توجد إحداهما بدون الأخرى, أي: لا توجد التخييلية بدون المكنية، والمكنية يجب أن تكون قرينتها تخييلية. أما في الأول؛ فلأن التخييلية لو وجدت مع التصريحية، أو مع مجاز آخر كانت ترشيحا لا تخييلا1, وأما في الثاني؛ فلأن التخييلية -كما عرفت- إثبات ما للمشبه به للمشبه -على المذهبين- وهذا الإثبات عندهما يسمى تخييلا, وقد علمت وجهه. الثاني: أن طرفي الاستعارة التخييلية مستعملان في معنييهما الحقيقيين؛ فالأظفار والمنية مثلا كلاهما مستعمل في المعنى الموضوع له، والتجوز إنما هو في إثبات الأظفار للمنية؛ إذ إن المنية لا أظفار لها، فهو إثبات الشيء لغير ما هو له كالمجاز العقلي في نحو: أنضر الربيع الشجر, إذا صدر القول عن موحد, فإن كلا من الإنضار والربيع مستعمل في معناه الحقيقي، والتجوز إنما هو في إثبات الإنضار للربيع. تنبيهان: الأول: اعلم أن ذلك اللازم المراد إثباته للمشبه يجب أن يكون به كمال وجه الشبه في المشبه به، أو أن يكون به قوامه ووجوده. فالأول كما في بيت الهذلي, فإن وجه الشبه فيه بين السبع والمنية هو "الاغتيال"، والاغتيال في السبع يحصل بشيء آخر غير الأظفار

_ 1 الفرق بين الترشيح والتخييل أن الترشيح يكون في غير المكني عنها, والتخييل خاص بالمكني عنها. فمثال الترشيح في التشبيه قولهم: أظفار المنية الشبيهة بالسبع أودت بفلان, ومثاله في المجاز المرسل قوله -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه: "أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا" فإن اليد مجاز مرسل عن النعمة؛ لصدورها من اليد، وقوله: "أطولكن" ترشيح لذلك المجاز, إذ هو مأخوذ من الطول -بالفتح- وهو الإنعام وذلك ملائم لليد الحقيقية، فالترشيح إذًا لا يختص بنوع خاص من أنواع المجاز, وليس كذلك التخييل.

كالأنياب، لكنه بالأظفار يكمل ويتم. وكما في قول الشاعر الآخر, فإن وجه الشبه بين الإنسان الضاحك والمنايا هو السرور, وهو إن أمكن أن يظهر في غير تهلل النواجذ لكنه لا يكمل إلا به. والثاني كما في قول الشاعر الثالث، فإن وجه الشبه بين الإنسان والحال هو الدلالة الواضحة -على ما سبق- وهي لا تتحقق بدون اللسان. وكما في قول زهير, فإن وجه الشبه بين الصبا والجهة الموصلة للمطلوب ما يتطلبه كل من تحمل مشاق الوصول إلى الغرض وهو لا يتحقق بدون الأفراس والرواحل، وإن جاز أن يتم الوجه بدون الأفراس والرواحل فإنه بهما أتم وأكمل. الثاني: علم مما سبق أن الخطيب يخالف السلف في تعريف المكنية، ويتفق معهم في قرينتها، وأن المكنية والتخييلية عند الخطيب فعلان من أفعال النفس هما: التشبيه، والإثبات, فليسا من المجاز اللغوي؛ لأنه من عوارض الألفاظ -كما قلنا- وأن التخييلية عند الخطيب والقوم من قبيل المجاز العقلي؛ لما فيها من إثبات الشيء لغير ما هو له1 ا. هـ.

_ 1 تنقسم المكنية كالتصريحية إلى أصلية وتبعية، وإلى مرشحة ومجردة ومطلقة. فالأصلية كاستعارة اسم الجنس في نحو قول الشاعر: وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان فالمستعار هنا لفظ "إنسان" المحذوف, وهو اسم جنس. والمكنية التبعية كاستعارة اسم المشتق في قولك: يعجبني إراقة الضارب دم الباغي، وإجراؤها أن يقال: شبه الضرب الأليم بالقتل بجامع الإيذاء الشديد، واستعير القتل للضرب الشديد، واشتق من القتل "قاتل" بمعنى ضارب ضربا شديدا, ثم حذف ودل عليه بلازمه وهو "الإراقة", والقرينة إثبات الإراقة للضارب. والمكنية المرشحة نحو: شم علي رائحة العلم, شبه العلم بالمسك وحذف المشبه به بعد استعارته ودل عليه بلازمه وهو الرائحة، والقرينة إثبات الرائحة للعلم, وقوله: "شم" ترشيح؛ لأنه من ملائمات المسك الذي هو المشبه به. والمكنية المجردة كقول الشاعر: "نقريهمو لهذميات نقد بها" "البيت" شبه اللهذميات بما يقدم للأضياف من طعام، ثم استعير اسم المشبه به للمشبه، ثم حذف ودل عليه بشيء من لوازمه وهو قوله: "نقريهمو" فإن القرى تقديم الطعام وهو من خواص المشبه به, والقرينة إثبات القرى للهذميات, وقوله: "نقد" تجريد للاستعارة؛ لأنه من ملائمات المشبه. والمكنية المطلقة كما في قولهم: نطقت الحال بكذا, استعير الإنسان للحال، ثم حذف لو دل عليه بنطق، والقرينة إثبات النطق لها. بما يقدم للأضياف من طعام، ثم استعير اسم المشبه به للمشبه، ثم حذف ودل عليه بشيء من لوازمه وهو قوله: "نقريهمو" فإن القرى تقديم الطعام وهو من خواص المشبه به, والقرينة إثبات القرى للهذميات, وقوله: "نقد" تجريد للاستعارة؛ لأنه من ملائمات المشبه. والمكنية المطلقة كما في قولهم: نطقت الحال بكذا, استعير الإنسان للحال، ثم حذف لو دل عليه بنطق، والقرينة إثبات النطق لها.

اختبار

اختبار: 1- عرف كلا من الاستعارة الوفاقية والعنادية، ومثل لكل بمثال، مع إجراء الاستعارة فيه، ومن أي قبيل قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} ؟ 2- أجر الاستعارة في نحو قولك: راعني الورد, تريد الخد الأحمر، وبم تسمي هذا النوع من الاستعارة؟ 3- عرف الجامع بين طرفي الاستعارة، وافرق بينه وبين وجه الشبه في التشبيه، ثم أجر الاستعارة في قوله, صلى الله عليه وسلم: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه, كلما سمع هيعة طار إليها" واذكر ما ورد على هذا المثال. 4- عرف الاستعارة الخاصة أي: الغريبة، وأجرها في قول الشاعر: وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك الشكيم إلى انصراف الزائر وبين وجه الغرابة فيه، وفي قول الشاعر: "وسالت بأعناق المطي الأباطح" ... مع وضوح وجه الشبه في الأخير 5- قسم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار، وعرف كل قسم، ومثل له, وكيف صحت الاستعارة في نحو: "زارني اليوم باقل" تريد رجلا عييا لا يكاد يبين، مع اشتراط أن يكون المستعار اسم

جنس كلي؟ ثم أجر الاستعارة في نحو قولهم: "قتل علي عدوه" أي: أذلّه. 6- بين وجه كون الاستعارة في المشتقات تبعية بمثال من عندك، ثم اذكر ما قالوه في تعليل تبعيتها، وبم رد هذا التعليل؟ 7- أجر الاستعارة في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} على كل من مذهبي الخطيب والجمهور، مع بيان علة تسمية الاستعارة في الحرف تبعية. 8- بين مدار قرينة التبعية في المشتقات والحروف، مع التمثيل، ومع بيان قرينة الاستعارة في قوله تعالى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} . 9- عرف كلا من المرشحة، والمجردة، والمطلقة، ومثل لكل بمثال، مع بيان علة التسمية في كل منها، ومن أي قبيل قول الشاعر: رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلدي وهو للقلب جارح؟ وهل من قبيل التجريد لفظ "يتصدق" من قولك: رأيت بحرا يتصدق؟ 10- أي الاستعارات الثلاث أبلغ: المرشحة، أو المجردة، أو المطلقة؟ وما وجه الأبلغية؟ وهل الترشيح خاص بالاستعارة؟ وضح كل ذلك بالمثال. 11- عرف الاستعارة المكنية على رأي الخطيب والجمهور، ومثل لها، مع إجرائها فيما تمثل به على المذهبين، ثم بين علة تسميتها مكنية فيهما. 12- يقولون: إن قرينة المكنية استعارة تخييلية، وإنهما متلازمان، بين علة هذه التسمية وسبب هذا التلازم.

تمرينات منوعة

تمرينات منوعة: 1- أجر الاستعارة، وبين نوعها، وقرينتها فيما يأتي: 1- قولك لرجل عيي: يا قس بن ساعدة. 2- قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} . 3- نثرتهم فوق الأحيدب نثرة ... كما نثرت فوق العروس الدراهم1 4- وجعلت كوري فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرحل2 5- {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} . 6- {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} . 7- {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} . 8- {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} . 9- تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبه للمنية يا نئوم 10- ومن لم يعشق الدنيا قليل ... ولكن لا سبيل إلى الوصال 11- أتته الخلافة منقادة ... إله تجرر أذيالها

_ 1 الأحيدب على صورة التصغير: اسم جبل, بنى عليه سيف الدولة قلعة. يقول: فرقتهم على هذا الجبل أشلاء متناثرة, كما تنثر الدراهم على العروس. 2 الكور -بضم الكاف- الرجل, والناجية: الناقة السريعة, والاقتيات: اتخاذ القوت. يقول: أذبت شحم سنامها وهزلتها بوضع الرحل عليها دائما، يصف نفسه بكثرة الأسفار.

12- إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق 13- وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري 14- من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا 15- عضنا الدهر بنيابه ... ليت ما حل بنا به 16- بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعي ... عقيقا1 فصار الكل في نحرها عقدا 17- أنفقت عمري في رضاك وليتني ... أعطى وصولا2 بالذي أنا منفق 2- بين في الاستعارات الآتية الجامع بين الطرفين، ثم حول كلا منها إلى تشبيه: 1- {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . 2- تلك آية بينة تخرج متدبرها من العمى إلى الإبصار. 3- ما أروع الخدود منثورة على الأغصان. 4- ما أجمل العيون تختال على سيقانها. 5- يابن القمرين, أقبل. 6- تعلمت الكرم من سحاب لا يكف. 7- بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعي ... عقيقا فصار الكل في نحرها عقدا

_ 1 معدن كريم, أحمر اللون. 2 جمع وصل, وهو صك يؤخذ على المدين استيثاقا.

8- "رمتني بسهم ريشه الكحل" 9- نزلت على حاتم, تريد رجلا بخيلا. 3- بين في التشبيهات الآتية وجه الشبه، ثم حول كلا منها إلى استعارة, مبينا نوعها وقرينتها: 1- في هذه الخميلة أزهار كأنها الكواكب، وفوق الأغصان كروان كأنها القيان. 2- سكبت دمعا كحبات الجمال. 3- قوم إذا نهضوا لنجدة صارخ ... ركبوا الجياد كأنهن رياح 4- وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار 5- وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق 6- له خال على صفحات خد ... كنقطة عنبر في صحن مرمر جواب التمرين الأول: 1- نزل التضاد بين العي والفصاحة منزلة التناسب، ثم نزل العيي منزلة الفصيح تهكما أو تظرفا، ثم شبه الرجل العيي بقس بن ساعدة بجامع الفصاحة في كل، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية التهكمية، والقرينة حالية؛ لأن المنادى غير قس. 2- نزل التضاد بين الهداية -وهي الدلالة برفق- وبين الأخذ بعنف وقسوة منزلة التناسب، ثم نزل السوق إلى جهنم منزلة الهداية إلى الخير تهكما، ثم شبه السوق عنيفا بالهداية بجامع ما يترتب

على كل من النفع، وإن كان ادعائيا في المشبه، ثم استعير الهداية للسوق، واشتق منها "اهدوهم" بمعنى: سوقوهم بشدة وعنف, على سبيل الاستعارة التبعية التهكمية, وقرينتها "المجرور بإلى". 3- شبه إسقاط المنهزمين صرعى, بلا نظام في جهات مختلفة بنثر الدراهم على العروس, بجامع التفريق في كل، ثم استعير النثر للإسقاط بلا نظام، واشتق منه نثر بمعنى أسقط بلا نظام, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية الداخلية1, وقرينتها المفعول وهو ضمير الجمع في "نثرتهم". 4- شبه إزالة شحم السنام شيئا فشيئا بالاقتيات بجامع الإفتاء التدريجي في كل, ذلك أن اقتيات الشي ينقصه شيئا فشيئا حتى يفنى، وكثرة الرحلات والأسفار على الناقة ينقص شحم سنامها تدريجيا حتى يزول، ثم استعير الاقتيات للإزالة واشتق منه "يقتات" بمعنى "يزيل" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية الخاصية, أي: الغريبة لغرابة الجامع فيها -كما رأيت- وقد أسند هنا فعل "الاقتيات" بعد استعارته إلى الرحل، وهو تجوز لطيف زاد الاستعارة غرابة ولطفا؛ إذ أفاد أن الرحل بحكم ملازمته للسنام طوال الرحلات كأنه هو الذي يقتات من شحم الدابة, وقرينة الاستعارة الفاعل وهو "الرحل". 5- شبه ظهور الشيب وانتشاره باشتعال النار بجامع البياض والتألق في كل, ثم استعير الاشتعال للظهور الواضح، واشتق منه "اشتعل" بمعنى ظهر ظهورا بينا, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، وقرينتها الفاعل، وهو {الرَّأْسُ} 2. 6- شبه رد الباطل بالحجة الدامغة بالقذف بشيء صلب, بجامع الإبعاد في كل، ثم استعير القذف للرد، واشتق منه {نَقْذِفُ} بمعنى نرد, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، وقرينتها المجرور بالباء

_ 1 لأن الجامع بين الطرفين, وهو التفريق, داخل في مفهوميهما. 2 على حذف مضاف أي: شعر الرأس, ففيه مجاز بالحذف, ويصح أن يكون مجازا مرسلا من إطلاق المحل وإرادة الحال.

وهو "الحق" إذ ليس القذف من شئون "الحق"، بل من شئون الأشياء الصلبة. ويصح أن تكون الاستعارة مكنية في "الحق", فيشبه الحق أي: الحجج القوية بنحو قطعة من حديد, بجامع قوة التأثير في كل، ثم استعير لفظ المشبه به، وحذف ودل عليه بلازمه، وهو القذف على سبيل الاستعارة المكنية, وقرينتها -كما علمت- إثبات القذف للحق. 7- في {وَزُلْزِلُوا} استعارة تصريحية تبعية؛ شبه ما نالهم من فزع واضطراب بالزلزلة، بجامع شدة الاضطراب في كل، ثم استعير الزلزلة للانزعاج الشديد والاضطراب البالغ، ثم اشتق منه "زلزلوا" بمعنى اضطربوا وانزعجوا, على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. 8- في {الْعَمَى} استعارة تصريحية أصلية؛ شبه الضلال بالعمى بجامع عدم الاهتداء إلى الصالح، ثم استعير العمى للضلال, وتصوير الضلال بصورة العمى البغيض للنفس تنفير من الضلال أشد النفور. 9- في "تنام" استعارة تصريحية تبعية مرشحة؛ شبه التغافل بالنوم بجامع عدم النفع، واستعير النوم للتغافل، واشتق منه "تنام" بمعنى تتغافل وتتشاغل. ويصح أن يكون في "المنايا" استعارة مكنية أصلية، شبهت المنايا بالعدو المترصد بجامع الكراهة والأذى، ثم استعير العدو للمنايا، ثم حذف ودل عليه بلازمه، وهو نفي النوم عنه، والقرينة في التبعية حالية؛ إذ المقام مقام وعظ وإرشاد، والقرينة في المكنية إثبات فعل النوم منفيا إلى المنايا، وقوله: "تنبه يا نئوم" ترشيح للاستعارة الأولى؛ لأنه من ملائمات المشبه به. 10- في "يعشق" استعارة تصريحية تبعية مرشحة؛ شبه الاشتغال بالدنيا بالعشق، والجامع التعلق والاهتمام، ثم استعير العشق للاشتغال، واشتق منه يعشق بمعنى يشتغل. ويصح أن يكون في "الدنيا" استعارة مكنية أصلية مرشحة؛ شبهت الدنيا بامرأة

جميلة بجامع الأخذ بمجامع القلوب، ثم استعيرت المرأة للدنيا، وحذفت ودل عليها بلازمها وهو "يعشق", والقرينة إثبات العشق الذي هو من ملائمات المرأة للدنيا، وقوله: لا سبيل إلى الوصال ترشيح للاستعارتين؛ لأنه من ملائمات المشبه به فيهما. 11- في "الخلافة" استعارة كنائية أصلية مرشحة؛ شبهت الخلافة بامرأة حسناء بجامع ميل النفس إلى كل، ثم استعيرت المرأة للخلافة، وحذفت ودل عليها بلازمها وهو "أتته"، والقرينة إثبات الإتيان للخلافة، وقوله: "منقادة"، و"تجرر أذيالها" ترشيح. 12- في "امتحن" استعارة تصريحية تبعية؛ شبه الاشتغال بالدنيا بالامتحان بجامع حصول التعب في كل، ثم استعير "الامتحان" للاشتغال، واشتق منه "امتحن" بمعنى اشتغل، والقرينة المفعول الذي هو "الدنيا"؛ لاستحالة وقوع الامتحان بالمعنى المعروف على الدنيا. ويصح أن يكون في "الدنيا" استعارة مكنية أصلية مرشحة؛ شبهت الدنيا بإنسان مخادع بجامع عدم الثبات على حال، ثم استعير الإنسان للدنيا، وحذف ورمز له بلازمه، وهو قوله: "امتحن"، والقرينة إثبات الامتحان الذي هو من ملائمات المشبه به للدنيا, وقوله: "تكشفت له عن عدو ... إلخ" ترشيح للمكنية. 13- في "تباع" أو "تشترى" استعارة تصريحية تبعية مرشحة؛ شبه الاستبدال بالبيع أو الاشتراء، ثم استعير البيع أو الاشتراء للاستبدال، ثم اشتق منهما تباع وتشترى بمعنى تستبدل. ويصح أن يكون في "كريمة" استعارة مكنية أصلية مرشحة؛ شبهت الخلة الكريمة بجوهرة بجامع الحسن، ثم استعيرت الجوهرة للخلة الكريمة، وحذفت ودل عليها بذكر لازمها وهو البيع والاشتراء، والقرينة إثبات البيع أو الاشتراء اللذين هما من ملائمات الجواهر للخلة الكريمة، وقوله: "فسواك بائعها وأنت المشتري" ترشيح للاستعارتين. 14- في كل من "العزم والهموم" استعارة مكنية أصلية

مرشحة؛ شبه كلا منهما بماشية بجامع قبول الانقياد، ثم استعير لفظ الماشية لكل من العزم والهموم، ثم حذف ودل عليه بلازمه، وهو "مرعى"، والقرينة إثبات المرعى للعزم والهموم، وقوله: "لم يزل مهزولا" ترشيح للاستعارة؛ لملاءمته للمشبه به. 15- في "عضنا" استعارة تصريحية تبعية مرشحة؛ شبه إيلام الدهر بالعض بجامع شدة التأثير في كل، واستعير العض للإيلام، واشتق منه "عض" بمعنى "آلم"، والقرينة لفظ "الدهر"؛ لاستحالة قيام العض بالزمان. ويصح أن يكون في "الدهر" استعارة مكنية أصلية مرشحة؛ شبه الدهر بحيوان مفترس بجامع الأذى, واستعير الحيوان للدهر، وحذف ودل عليه بلازمه، وهو "العض"، والقرينة إثبات العض الذي هو من ملائمات الحيوان للدهر، ولفظ "الناب" ترشيح للاستعارتين. 16- في "لؤلؤ" استعارة تصريحية أصلية مرشحة؛ شبه الدمع باللؤلؤ بجامع البياض والتألق، ثم استعير اللؤلؤ للدمع, والقرينة قوله: "بكت"، وقوله: "في نحرها عقدا" ترشيح للاستعارة. 17- في "اتفق" استعارة تصريحية تبعية مرشحة؛ شبه إفناء العمر بإنفاق المال بجامع التصرف في كل، واستعير الإنفاق للإفناء، واشتق منه "أنفق" بمعنى أفنى، والقرينة "المفعول" وهو "عمري"؛ لاستحالة وقوع الإنفاق بمعناه الحقيقي على العمر. ويصح أن يكون في "العمر" استعارة مكنية أصلية مرشحة؛ شبه "العمر" بالمال بجامع الانتفاع, واستعير المال للعمر، ثم حذف ودل عليه بلازمه، وهو "أنفق"، والقرينة إثبات الإنفاق الذي هو من ملائمات المال للعمر, وكل من "وصول ومنفق" ترشيح للاستعارتين.

جواب التمرين الثاني: 1- النجد في الأصل: الطريق الواضح المرتفع، والمراد هنا: طريقا الخير والشر, والجامع بين الطرفين الوضوح والجلاء، والتشبيه فيهما أن يقال: وهديناه طريقي الخير والشر اللذين هما كالنجدين, أي: كالطريقين المرتفعين الواضحين. 2- الجامع بين الطرفين في الأول "عدم الاهتداء"، والتشبيه فيهما أن يقال: تخرج متدبرها من الضلال الذي هو كالعمى، والجامع بينهما في الثاني "الهداية"، والتشبيه فيهما أن يقال: إلى الإيمان الذي هو كالإبصار. 3- الجامع بين الطرفين "الحمرة والنضارة"، والتشبيه فيهما أن يقال: ما أروع الورود منثورة على الأغصان كالخدود. 4- الجامع بين الطرفين "الشكل والصورة"، والتشبيه فيهما أن يقال: ما أجمل أزهار النرجس كالعيون تختال على سيقانها. 5- الجامع بين الطرفين "الرفعة والإشراق"، والتشبيه فيهما أن يقال: يابن الأبوين الشبيهين بالقمرين. 6- الجامع بين الطرفين "الفيض الدائم"، والتشبيه فيهما أن يقال: تعلمت الكرم من رجل كريم شبه السحاب. 7- الجامع بين الطرفين "التألق والحسن"، والتشبيه فيهما أن يقال: بكت دمعا مثل اللؤلؤ. 8- الجامع بين الطرفين "شدة التأثير"، والتشبيه فيهما أن يقال: رمتني بلحظ كالسهم. 9- الجامع بين الطرفين الكرم تهكما، والتشبيه فيهما أن يقال: نزلت على رجل كريم كحاتم.

جواب التمرين الثالث: 1- وجه الشبه في الأول "التألق", والاستعارة فيه أن يقال: في هذه الخميلة "كواكب"، وهي تصريحية أصلية، وقرينتها قوله: "في هذه الخميلة"، ووجه الشبه في الثاني "حسن النغم"، والاستعارة فيه أن يقال: وفوق الأغصان "قيان"، وهي تصريحية أصلية, وقرينتها "فوق الأغصان". 2- وجه الشبه "التألق"، والاستعارة فيه أن يقال: سكبت حبات الجمان وهي تصريحية أصلية، وقرينتها قوله: "سكبت", إذ إن السكب من شأن الدموع، لا من شأن اللآلئ. 3- وجه الشبه "السرعة"، والاستعارة فيه أن يقال: ركبوا الرياح وهي تصريحية أصلية، والقرينة قوله: "ركبوا" إذ إن الرياح كما تركب المطايا. 4- وجه الشبه "الوضوح والهداية"، والاستعارة فيه أن يقال: راعني "علم" في رأسه نار، وهي تصريحية أصلية، والقرينة حالية. 5- وجه الشبه الهيئة المنتزعة من ظهور أجرام مشرقة، منثورة على رقعة مبسوطة زرقاء، والاستعارة فيه أن يقال: بهرني "درر نثرن على بساط أزرق", وهي تصريحية أصلية، والقرينة حالية. 6- وجه الشبه هيئة ظهور صورة مستديرة سوداء، في رقعة مبسوطة بيضاء، والاستعارة فيه أن يقال: له نقطة عنبر في صحن مرمر، وهي استعارة تصريحية أصلية، والقرينة حالية.

تمرين يطلب جوابه قياسا على ما سبق: بين نوع الاستعارة، وقرينتها, والجامع فيما يأتي: أصون عرضي1 بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال ازرع جميلا ولو في غير موضعه ... فلا يضيع جميل أينما زرعا أضاءت لهم أحسابهم2 ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجذع ثاقبه وما الموت بين الناس إلا مهند ... بكف المنايا والنفوس له غمد لقد نبتت في القلب منك محبة ... كما نبتت في الراحتين الأصابع ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد لله وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود أعلل3 النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} . حبك الشيء يعمي ويصم. نهلت الأدب من بحر لا يسبر غوره4. أنا في رغد من العيش. إذا غرست جميلا فاسقه غدقا5. {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} .

_ 1 ما يجب صيانته من نفس, أو حسب. 2 ما تعده من مفاخر الآباء. 3 من علل الصبي أو غيره: شغله وألهاه. 4 الغور: العمق. 5 الماء الغدق: الغزير.

المجاز المرسل

المجاز المرسل علاقات المجاز المرسل ... المجار المرسل: سبق أن قسمنا المجاز المفرد باعتبار العلاقة إلى قسمين: أحدهما الاستعارة وقد انتهى البحث فيها، وثانيهما "المجاز المرسل" وهو ما نحن بصدد الكلام فيه. تعريفه: هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي, كما في قولنا: "أمطرت السماء نباتا" فلفظ النبات مجاز مرسل؛ لأنه كلمة استعملت في "الماء"، وهو غير المعنى الموضوع له لفظ "النبات". وقرينة استعماله فيه قولك: أمطرت السماء, إذ إن النبات لا يمطر، وليست العلاقة بين النبات والماء المشابهة لبعد التباين بين الحقيقتين، وإنما العلاقة بينهما من حيث إن أحدهما مسبب عن الآخر، وليس من شك أن النبات مسبب عن الماء, وحسبنا هذه علاقة تصحح استعمال النبات في الماء كما في المثال. علاقات المجاز المرسل: عرفت فيما سبق أن علاقة الاستعارة محصورة في المشابهة بين المعنيين، أما علاقة المجاز المرسل فعلى أنواع شتى، وهاك أشهرها وأكثرها استعمالا. 1- السببية: وهي أن يكون المعنى الحقيقي للفظ المذكور سببا في المعنى المجازي، فيطلق حينئذ اسم السبب، ويراد المسبب كما تقدم في قولنا: رعت الماشية الغيث أي: النبات، "فالغيث" مجاز مرسل علاقته السببية؛ لأن المعنى الحقيقي للغيث سبب في المعنى المجازي الذي هو النبات, وقرينة المجاز قولنا: رعت الماشية, إذ إن الغيث لا يرعى. وكما في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، وكقولك: "جلت يدك عندي، وعمت أياديك الورى"، فاليد "في الآية الكريمة" مجاز مرسل بمعنى القدرة أي: إن قدرة الله لا تدانيها قدرة، والعلاقة بين

المعنيين كون اليد بمثابة العلة الصورية للقدرة1؛ لأن أكثر ما يظهر سلطان القدرة في اليد إذ بها البطش، والضرب، والقطع، والدفع، وغير ذلك مما يعتبر أثرا من آثار القدرة، وقرينة المجاز قوله: {فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} , إذ لا معنى لكون اليد -بمعنى الجارحة- فوق أخرى، و"اليد" في المثالين الآخرين مجاز مرسل بمعنى النعمة، والعلاقة فيهما كون اليد بمنزلة العلة الفاعلية2؛ لأن الإعطاء صدر عنها، والقرينة فيهما قولك في أحد المثالين: "جلت"، وقولك في الآخر: "عمت" إذ لا معنى لعظم اليد -بمعنى الجارحة- كما أنه لا معنى لعمومها. 2- المسببية: هي أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور مسببا عن المعنى المراد، فيطلق حينئذ اسم المسبب، ويراد السبب كما في قولك: أمطرت السماء "نباتا" أي: ماء, فالنبات مجاز مرسل علاقته المسببية؛ لأن المعنى الأصلي للنبات مسبب عن المعنى المجازي الذي هو الماء, وقرينة المجاز قوله: "أمطرت" إذ إن النبات لا يمطر. ومثله قوله تعالى: {يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} أي: ماء يتسبب عنه الرزق، وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أي: ما لا تتسبب عنه النار، فالعلاقة في الآيتين المسببية، والقرينة في الأولى قوله: {يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} ، وفي الثانية قوله: {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} . 3- اللازمية 3: أن يكون المعنى الحقيقي للفظ المذكور لازما للمعنى المجازي, أي: يجب وجوده عند وجود المعنى المجازي، فيطلق حينئذ اسم اللازم، ويراد الملزوم كما في قولك: بزغ الضوء

_ 1 بناء على أن المراد بالقدرة الصفة التي تؤثر في الشيء, فإن أريد بها أثرها فالعلاقة حينئذ السببية. 2 إنما لم تكن علة فاعلية حقيقة؛ لأن العلة الفاعلية في الحقيقة هي الإنسان, واليد آلة للإعطاء. 3 المعتبر هنا اللزوم الخاص, وهو عدم الانفكاك لا مطلق ارتباط.

تريد "الشمس"، فالضوء مجاز مرسل علاقته اللازمية؛ لأن المعنى الحقيقي للضوء لازم للمعنى المراد الذي هو "الشمس", إذ يلزم من وجود الشمس وجود الضوء, والقرينة قوله: "بزغ"؛ لأن البزوغ وصف لجرم الشمس، لا للضوء. ومثله قولك: نظرت إلى الحرارة أي: إلى النار, ففي الحرارة مجاز مرسل علاقته اللازمية؛ لأن الحرارة توجد حتما عند وجود النار, والقرينة قوله: "نظرت"؛ لأن الحرارة لا ترى بالباصرة. 4- الملزومية: هي أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور ملزوما للمعنى المجازي, أي: يلزم من وجوده المعنى المجازي فيطلق حينئذ اسم الملزوم, ويراد اللازم كما تقول: "دخلت الشمس من الكوة"1 تريد: دخل الضوء, فالشمس مجاز مرسل علاقته الملزومية؛ لأن المعنى الحقيقي للشمس ملزوم للمعنى المراد الذي هو الضوء، والقرينة قوله: "دخلت" فهو وصف للضوء، لا للجرم المعروف, كما لا يخفى. ومثله: "ملأت الشمس الغرفة" يريد: ملأ الضوء الغرفة, ففي الشمس مجاز مرسل علاقته الملزومية، والقرينة "ملأت". 5- الكلية: هي أن يكون المعنى الأصلي المذكور كلا متضمنا للمعنى المجازي، فيطلق اسم الكل، ويراد الجزء كما في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} أي: يجعلون أناملهم، ففي {أَصَابِعَهُمْ} مجاز مرسل علاقته الكلية؛ لأن المعنى الأصلي للأصابع كل للأنامل، متضمن لها, وقرينة المجاز استحالة وضع الإصبع كلها في الأذن عادة. ومثله قولك: "أكلت نبات الأرض، وشربت ماء النيل" ففي نبات الأرض، وماء النيل مجاز مرسل علاقته الكلية, إذ قد أطلق اسم الكل وهو النبات أو الماء، وأريد الجزء أي: بعضه، والقرينة في الأول "أكلت"، وفي الثاني "شربت" لاستحالة أكل الكل, أو شربه.

_ 1 الكوة -بفتح الكاف, وقد تضم- الفتحة في الحائط.

6- الجزئية: هي أن يكون المعنى الحقيقي للفظ المذكور جزءا من المعنى المجازي، فيطلق حينئذ اسم الجزء، ويراد الكل كما في قوله تعالى: {رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي: عبد مؤمن، ففي {رَقَبَةٍ} مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ لأن المعنى الحقيقي للرقبة جزء من العبد, والقرينة قوله: {فَتَحْرِيرُ} ؛ لأن التحرير إنما يكون للذات كلها، لا لجزء منها, إذ إن العتق لا يتجزأ. ومثله قولهم: "بث الملك "عيونه" في المدينة" أي: جواسيسه, ففي "العيون" مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ لأن المعنى الأصلي للعين جزء من الجاسوس، والقرينة قوله: "بث" لاستحالة بث العيون وحدها. وكقول معبد بن أوس المزني1 في ابن أخته: أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد2 ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني الشاهد في البيت الثاني, إذ يريد: فلما قال قصيدة، ففي لفظ "قافية" مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ لأن المعنى الحقيقي للقافية جزء من القصيدة، وقرينة المجاز لفظ "قال"؛ لأن معناه نظم، والنظم إنما يكون للقصائد، غير أنه يشترط لهذه العلاقة غالبا أحد أمور ثلاثة: الأول: أن يكون انتفاء الجزء مستلزما لانتفاء الكل, كما في إطلاق الرقبة على الذات في المثال الأول, إذ ليس من شك أن إتلاف الرقبة إعدام للذات، فلا يصح حينئذ إطلاق اليد، أو الرجل، أو الأنف على الإنسان مجازا مرسلا علاقته الجزئية؛ لأنها أجزاء لا يستلزم انتفاؤها انتفاء الإنسان عادة, إذ لا تتوقف عليها حياته. الثاني: أن يكون للجزء مزيد اختصاص بالمعنى المقصود من

_ 1 هو شاعر مخضرم يحسن القول في باب الحكم, وفي الشعر الخلقي. 2 يروى بالسين المهملة من التسديد في الرمي, أي: الإصابة فيه.

الكل كما في إطلاق العين على الرقيب في المثال الثاني, فإن المعنى المقصود من الرقيب هو الإطلاق والتجسس، ولا شك أن للعين مزيد اختصاص في تحقق هذا المعنى, إذ بانعدامها لا يكمل معنى الرقابة، فإطلاق "الأذن" مثلا على الرقيب مجازا مرسلا لا يجوز؛ إذ ليس لها مزيد اختصاص بالمعنى الكامل المراد من الرقيب. الثالث: أن يكون الجزء أشرف بقية الأجزاء, كما في إطلاق القافية على القصيدة في المثال الثالث؛ إذ لا ريب أن القافية هي الأساس الذي تنبني عليه القصيدة, فهي إذًا أشرف التفاعيل، وأولاها بالاعتبار، فلا يجوز إطلاق أي جزء آخر من أجزاء البيت على القصيدة مجازا مرسلا؛ إذ ليس له من الاعتبار ما للقافية. 7- الحالية: أن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور حالا في المعنى المراد، فيطلق حينئذ اسم الحال، ويراد المحل كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: ففي جنة الله1, فقوله: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} مجاز مرسل علاقته الحالية؛ إذ إن {رَحْمَةِ اللَّهِ} بمعنى نعمه وآلائه حالة في جنته، والقرينة قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فإن الخلود الذي هو الإقامة الدائمة إنما يكون في مكان, ويصح أن تكون قرينة المجاز معنوية، وهي استحالة ظرفية الرحمة بمعناها الحقيقي. ونحو قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي: خذوا لباسكم فـ {زِينَتَكُمْ} مجاز مرسل علاقته الحالية؛ لحلول الزينة في اللباس والقرينة قوله: {خُذُوا} . ومثله قولك: نزلت "بالقوم" أي: بدارهم, ففي القوم مجاز مرسل علاقته الحالية, أطلق الحال وهو "القوم"، وأريد المحل الذي هو الدار, والقرينة قوله: "نزلت".

_ 1 الرحمة في الأصل: رقة في القلب تقتضي الإشفاق والعطف, والمراد بها في جانب الله لازمها وهو الإنعام, وليس هو حالا في الجنة؛ لأنه أمر اعتباري, إذ هو تعلق القدرة بالمنعم به إيجادا وإعطاء, وإنما الحال فيها متعلق هذا الإنعام وهو الأمور المنعم بها, ففيه بناء مجاز على مجاز.

8- المحلية: هي أن يذكر اسم المحل، ويراد الحال عكس السابق كما في قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} 1 أي: أهل ناديه، ففي {نَادِيَهُ} مجاز مرسل علاقته المحلية؛ لأن النادي محل لأهله, والقرينة قوله: {فَلْيَدْعُ} لاستحالة دعاء النادي بمعناه الحقيقي. ومثله قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهل القرية, ففي {الْقَرْيَةَ} مجاز مرسل علاقته المحلية؛ لأن القرية بمعناها الحقيقي محل لساكنيها، وقرينة المجاز قوله: {وَاسْأَلِ} لاستحالة سؤال القرية بمعناها الأصلي. ومنه قولهم: أمليت القلم من "الدواة" أي: من المداد, ففي "الدواة" مجاز مرسل علاقته المحلية؛ إذ إن الدواة محل للمداد, فقد أطلق اسم المحل وأريد الحال وهو المداد, والقرينة قوله "أمليت". وكما تقول: انصرف "المعهد" أي: طلابه, فقد ذكر اسم المحل وأريد الحال, وكل هذه الأمثلة على أحد احتمالين2. 9- الآلية: هي أن يطلق اسم الآلة، ويراد أثرها الناتج عنها كما في قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} أي: ذكرا صادقا، وثناء عطرا فيمن يأتي بعدي من الأمم. ففي {لِسَانَ صِدْقٍ} مجاز مرسل علاقته الآلية؛ لأن اللسان بمعناه الحقيقي آلة، وواسطة للذكر الحسن الذي هو المعنى المراد, والقرينة قوله: {فِي الْآَخِرِينَ} لاستحالة بقاء هذه الجارحة بمعناها الأصلي فيمن يأتي من الأمم بعد. وكما في قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} أي: بلغتك، ومثله قول الشاعر: "أتاني لسان منك لا أستسيغه" أي: ذكر لا يسر, أطلق عليه اللسان مجازا مرسلا؛ لأنه آلة الذكر، وقرينته قوله: "أتاني" لاستحالة إتيان اللسان بمعناه الحقيقي. 10- اعتبار ما كان، أي: تسمية الشيء باسم ما كان عليه قبل

_ 1 نادي القوم: مجتمعهم كالمنتدى. 2 والاحتمال الآخر أن تكون من قبيل المجاز بالحذف, أي: على تقدير مضاف, فلا يكون في الكلام تجوز في المعنى.

كقوله تعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى 1 أَمْوَالَهُمْ} أي: الذين كانوا يتامى, إذ لا يتم بعد البلوغ، وسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه من وصف اليتم، ففي إطلاق اسم {الْيَتَامَى} على البالغين مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان, والقرينة على أن المراد البالغون قوله: {وَآَتُوا} فهو أمر بدفع الأموال لهم بتمكينهم منها بالتصرف فيها ولا يكون ذلك إلا بعد البلوغ. ومنه قولهم: أكلنا "قمحا" أي: خبزا، ففي لفظ "قمح" مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان, إذ إن الخبز كان قمحا, والقرينة قوله: "أكلنا". 11- اعتبار ما يكون: أي: تسمية الشيء باسم ما يئول إليه في الزمان المستقبل ظنا أو يقينا. فالأول كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} يريد: عنبا يئول عصيره إلى خمر، ففي قوله: {خَمْرًا} مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يكون أي: ما يئول إليه العنب من الاختمار، وإنما كان هذا المآل مظنونا لاحتمال أن يقوم حائل دون الاختمار، وقرينة المجاز لفظ {أَعْصِرُ} ؛ لأن الخمر عصير، والعصير لا يعصر. ومثله قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} أي: بطفل مآله أن يكون غلاما وهذا المآل مظنون أيضا؛ لاحتمال قيام حائل دونه كالموت مثلا. والثاني كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} يريد أنك ستموت، وأنهم سيموتون، فالتعبير بـ {مَيِّتٌ} مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يكون أي: ما سيئول إليه حالهم من المصير المحتوم, والقرينة على التجوز مقام الخطاب؛ لأن من مات فعلا لا يخاطب. ومثله قوله تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} أي: وليدا يئول أمره إلى هذه الحالة قطعا، والقرينة: {وَلَا يَلِدُوا} إذ لا يمكن أن يكون فاجرا في فجر ولادته. 12- المجاورة: هي أن يسمى الشيء باسم ما يجاوره كما

_ 1 جمع يتيم وهو من الإنسان صغير فقد أباه، ومن الحيوان رضيع فقد أمه.

في إطلاق لفظ "الراوية" على القربة في قولك: "خلت "الراوية" من الماء" تريد خلت القربة، ومعنى الراوية في الأصل الدابة يستقى عليها، "فالراوية" حينئذ مجاز مرسل علاقته المجاورة؛ لمجاورة الدابة للقربة عند الحمل، والقرينة لفظ "خلت"؛ لأن الذي يخلو من الماء هو الوعاء لا الحيوان. ومنه قول الشاعر: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم أي: شككت بالرمح جسمه، فلفظ "ثيابه" مجاز مرسل علاقته ما بين الجسم والثياب من المجاورة التامة, والقرينة قوله: "فشككت" إذ المراد بالشك الطعن وهو إنما يكون في الأجسام، لا في الثياب. ومما علاقته المجاورة إطلاق اللفظ على المعنى، أو العكس, تقول: فهمت اللفظ، وتريد معناه، وقرأت المعنى، وتريد اللفظ؛ وذلك لشدة ارتباط الدال بالمدلول. ومنه إطلاق الظن على العلم، أو العكس؛ لتقاربهما في المعنى، فهما متجاوران. 13- البدلية: هي كون الشيء بدلا وعوضا عن شيء آخر، فيطلق اسم البدل، ويراد المبدل منه كإطلاق القضاء على الأداء في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} يريد: فإذا أديتم؛ لأن الإتيان بالصلاة في أوقاتها يسمى أداء، لا قضاء فالتعبير بالقضاء بدلا من الأداء مجاز مرسل علاقته البدلية، والقرينة مقام الخطاب, إذ إن الخطاب مع من يوفون الصلاة في أوقاتها. ومثله: "قضيت" الدين في "ميعاده" أي: أديته, ففي "قضيت" مجاز مرسل علاقته البدلية كالذي قبله, والقرينة قوله: "في ميعاده" إذ إن الدفع في الميعاد أداء، لا قضاء. ومنه قولهم: في ملك فلان "ألف دينار" أي: متاع يعادل ألفا, فقد أطلق البدل، وهو الألف دينار، وأريد المبدل منه، وهو المتاع. 14- المبدلية: هي كون الشيء مبدلا منه شيء آخر فيطلق اسم المبدل منه، ويراد البدل كإطلاق الدم على الدية في قول الشاعر يتبرم بعشرة زوجه، ويتوعدها بالزواج عليها:

أكلت "دما" إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر1 يريد: أكلت دية، ففي قوله: "دما" مجاز مرسل علاقته المبدلية؛ ذلك أن الدم مبدل منه الدية، والدية يأخذها ولي الدم بدلا منه، والقرينة قوله: "أكلت"؛ لأن الدم بمعناه الحقيقي لا يؤكل. 15- العموم أو الخصوص: ففي الأول: أن يكون مدلول اللفظ المذكور عاما، ويراد منه معنى خاص كإطلاق لفظ الناس على محمد -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ} فـ {النَّاسَ} مجاز مرسل علاقته العموم والقرينة حالية. وفي الثاني: أن يكون مدلول اللفظ المذكور خاصا، ويراد منه العموم كإطلاق اسم أبي القبيلة "كتميم، وتغلب" على القبيلة قبل أن يغلب عليها. 16- التعلق الاشتقاقي: وهو أن يذكر اللفظ، ويراد ما اشتق منه كإطلاق المصدر على اسم المفعول في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي: مخلوقه، وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي: معلومه، فكل من "الخلق والعلم" مجاز مرسل علاقته ما بين المصدر، واسم المفعول من الربط الاشتقاقي. 17- التقييد والإطلاق: هو أن يكون الشيء مقيدا، فيطلق عن قيده كما في إطلاق "المشفر" على شفة الإنسان في قولك: "مشفر" زيد يسيل دما, تريد شفته. فالمشفر -في الأصل- للبعير خاصة، ثم أطلق عن هذا القيد، وأريد منه مطلق شفة، فصح إطلاقه على شفة زيد باعتبارها أحد أفراد هذا المطلق، فيكون مجازا مرسلا علاقته التقييد والإطلاق. ومثله إطلاق "المرسن" على أنف الإنسان. فالمرسن -في الأصل- أنف الحيوان, إذ هو موضع الرسن منه، ثم أطلق

_ 1 راعه: أخافه وأفزعه, والضرة -بفتح الضاد- إحدى الزوجتين أو الزوجات, والقرط -بضم القاف- ما يعلق في شحمة الأذن، وقوله: "بعيدة مهوى القرط" كناية عن طول عنقها.

عن قيده، وأريد منه مطلق أنف، فصح إطلاقه على أنف الإنسان باعتباره أحد أفراد هذا المطلق، فهو -كذلك- مجاز مرسل, علاقته التقييد والإطلاق. وإن أطلق "المشفر أو المرسن" على شفة الإنسان, أو أنفه لا باعتباره أحد أفراد مطلق شفة، أو مطلق أنف، بل باعتبار خصوصه, كان مجازا مرسلا بمرتبتين؛ علاقة الأول التقييد ثم الإطلاق، وعلاقة الثاني الإطلاق ثم التقييد1. هذا, ويصح في مثل هذين المثالين أن تكون العلاقة المشابهة، وحينئذ يكون اللفظ "استعارة" بأن تشبه شفة "زيد" مثلا بمشفر البعير في الغلظ والتدلي, ثم يستعار لها لفظ "مشفر". ومثل هذا يقال في "المرسن"، فاللفظ الواحد قد يكون مجازا مرسلا، ويكون استعارة باعتبارين؛ فإن اعتبرت العلاقة بين الطرفين غير المشابهة كان اللفظ "مجازا مرسلا"، وإن اعتبرت العلاقة المشابهة كان اللفظ "استعارة"، والعبرة بقصد المتكلم وإرادته، فإن لم يعلم قصده بأن لم تقم قرينة عليه احتمل اللفظ الأمرين. إلى غير ذلك من علاقات المجاز المرسل، فهي لا تقف عند هذا العدد, وإنما أحصينا لك أشهرها استعمالا. وسمي مجازا مرسلا؛ لأنه أرسل أي: أطلق عن التقييد بعلاقة واحدة بل له علاقات عدة -كما رأيت- أو لأنه أرسل عن دعوى الاتحاد المعتبرة في الاستعارة, إذ ليست العلاقة فيه بين المعنيين المشابهة حتى يدعى اتحادهما. وإنما لم يسم استعارة، مع أن اللفظ فيه منقول، ومستعار من معناه الأصلي إلى المعنى المراد كما في الاستعارة؛ لأن هذه

_ 1 بيان ذلك أن لفظ المشفر في الأصل مقيد بكونه مشفر بعير، ثم أطلق عن قيده وأريد منه مطلق شفة, وهذه هي المرتبة الأولى وعلاقتها التقييد ثم الإطلاق, فإذا أطلق بعد ذلك على شفة إنسان باعتبار كونها شفة إنسان بخصوصه لا باعتبارها فردا من أفراد مطلق شفة, فهذه هي المرتبة الثانية وعلاقتها الإطلاق ثم التقييد، وكذا يقال في المرسن.

التسمية مجرد اصطلاح، قصد به التفرقة بين نوعين من المجاز مختلفي العلاقة. تنبيهان: الأول: اعلم أن القصد من العلاقة أن يتحقق ارتباط بين الشيئين على أي وجه, فإطلاق الدال على المدلول مثلا في قولنا فيما تقدم: "فهمت اللفظ" أي: معناه, مجاز مرسل علاقته يصح أن تكون "المجاورة" -على ما سبق- باعتبار أن الدال وهو اللفظ مجاور للمدلول الذي هو المعنى, ويجوز أن تكون العلاقة "المحلية" على اعتبار أن الدال محل للمدلول, إذ الألفاظ -كما يقولون- قوالب للمعاني، وإطلاق الثياب على الجسم في قول الشاعر المتقدم: فشككت بالرمح الأصم "ثيابه" "البيت" مجاز مرسل، يصح أن تكون علاقته المحلية كما تقدم، باعتبار أن الثياب محل للابسها, ويصح أن تكون العلاقة "المجاورة" على اعتبار أن الثياب لاصقة بلابسها، فهي مجاورة له مجاورة تامة, وإذًا فنوع العلاقة ليس وقفا على ما ذكرنا، وإنما يرشدك إليها الذوق ويدلك عليها فهم الكلام. الثاني: مما تقدم يعلم أن المراعى في علاقات المجاز المرسل جانب المعنى المنقول عنه اللفظ. فإن كان المنقول عنه سببا في المنقول إليه كانت العلاقة "السببية"، وإن كان مسببا كانت العلاقة "المسببية". وهكذا فالعلاقة في نحو "رعينا الغيث" السببية؛ لأن المعنى المنقول عنه لفظ "الغيث" سبب في المعنى المنقول إليه، وهو "النبات"، والعلاقة في نحو: أمطرت السماء "نباتا" المسببية؛ لأن المعنى المنقول عنه لفظ "النبات" مسبب عن المعنى المنقول إليه, وهو "الغيث". وإنما روعي في العلاقة جانب المعنى المنقول عنه اللفظ؛ لأنه الأصل فهو أولى بالمراعاة. وقيل: يراعى فيها جانب المعنى المنقول إليه؛ لأنه المراد، وبناء عليه تكون العلاقة في المثال الأول "المسببية"، وفي المثال الثاني "السببية" -عكس القول الأول- وقيل: يراعى الجانبان معا، فينصّ حينئذ على الأمرين فيقال: علاقة المجاز السببية والمسبية، والحالية والمحلية. وهكذا ففي المسألة أقوال ثلاثة, أشهرها الأول.

المثال الثاني "السببية" -عكس القول الأول- وقيل: يراعى الجانبان معا، فينصّ حينئذ على الأمرين فيقال: علاقة المجاز السببية والمسبية، والحالية والمحلية. وهكذا ففي المسألة أقوال ثلاثة, أشهرها الأول. تمرين على المجاز المرسل: 1- عرف المجاز المرسل، ومثل له من إنشائك بما تكون العلاقة فيه المجاورة، ثم عين المجاز المرسل, وبين علاقته في قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} . 2- بين علة تسميته مرسلا، ولِمَ لَمْ يسم استعارة، مع أن اللفظ فيه -كما في الاستعارة- مستعار من معناه الأصلي لمعنى آخر؟ 3- بين المجاز المرسل، ووضح علاقته في العبارات والأبيات الآتية بعد: 1- وكنت إذا كف أتتك عديمة ... ترجي نوالا من سحابك بلت 2- بلادي -وإن جارت علي- عزيزة ... وقومي -وإن ضنوا علي- كرام 3- أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم 4- أقبل في المستن من ربابه ... أسنمة الآبال في سحابه1 5- فهمت الكتاب أبر الكتب ... فسمعا لأمر أمير العرب

_ 1 المستن: المنصب, يقال: استنت العين: انصب دمعها، والرباب: السحاب, واحدته: ربابة, والضمير في ربابه وسحابه للبرق، وأسنمة جمع سنام, وهو ما ارتفع من ظهر البعير, فاعل أقبل, والآبال: إبل.

6- يبيت بمنجاة من اللوم بيتها إذا ما بيوت بالملامة حلت 7- غرست الورد في البستان. 8- كذاك يعادي العلم من هو جاهل. 9- قامت البلاد وقعدت لهذا النبأ. 10- تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. 11- فرجعوا إلى أنفسهم, أي: آرائهم. 12- حكمت المحكمة بكذا. 13- شربنا الزبيب. 14- {وَجَاءَ رَبُّكَ} . 15- {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . جواب السؤال الثاني: 1- في "كف" مجاز مرسل علاقته "الجزئية", إذ المراد بالكف الشخص نفسه، وهي جزء منه، والقرينة قوله: "أتتك"؛ لاستحالة الإتيان من الكف وحدها. 2- في "بلادي" مجاز مرسل علاقته "المحلية", إذ إن المراد سكان البلاد التي هي محل لهم، والقرينة قوله: "وإن جارت علي"؛ لاستحالة صدور الجور من البلاد بمعناها الحقيقي. 3- في "أدبي" مجاز مرسل علاقته "الحالية", إذ المراد المحل الذي قام به الأدب، وهو الشخص نفسه بقرينة قوله: "نظر"؛ لاستحالة النظر إلى الأدب بمعناه الحقيقي. ويحتمل أنه أراد "الأدب" بمعناه الحقيقي، وهو ما يتحلى به من معانٍ سامية، وأنها من الوضوح والاشتهار بحيث يراها الأعمى، وحينئذ لا شاهد فيه. 4- في "أسنمة الآبال" مجاز مرسل علاقته "المسببية"؛ إذ إن المراد بأسنمة الآبال الغيث، والأسنمة مسببة عن النبات المسبب عن الغيث. 5- في "الكتاب" بمعنى المكتوب مجاز مرسل علاقته "المحلية"؛ إذ إن المراد المعاني، والمكتوب محل لها، والقرينة قوله:

"فهمت" لأن الفهم إنما يكون للمعاني، لا للنقوش، ويصح أن تكون العلاقة المجاورة؛ لأن المكتوب دال على معناه، والدال والمدلول متجاوران. 6- في "بيتها" مجاز مرسل علاقته "المحلية أو المجاورة" كالذي قبله؛ لأن المراد به شخص المرأة، والبيت محل لها أو مجاور، والقرينة "نفي اللوم" وهو إنما ينفي عمن يتصور لومه، وهو الإنسان. 7- في "الورد" مجاز مرسل علاقته "اعتبار ما يكون" إذ المراد الحب الذي سيئول وردا فيما بعد، والقرينة قوله: "غرست"؛ لأن الورد بمعناه الحقيقي لا يغرس، وإنما يقطف ويجنى. 8- في "العلم" مجاز مرسل علاقته "الحالية"؛ إذ إن المراد أهل العلم, وهو حال فيهم قائم بهم، والقرينة قوله: "يعادي"؛ لأن المعاداة بمعناها الحقيقي إنما تكون للأشخاص، ويصح أن يكون في "العلم" استعارة بالكناية فيشبه العلم بعدو ثم يحذف, ويرمز له بإحدى خواصه وهي قوله: "يعادي". 9- في "البلاد" مجاز مرسل علاقته "المحلية"؛ إذ المراد أهل البلاد التي هي محل لهم، والقرينة قوله: "قامت وقعدت" فإن القيام والقعود من شئون الإنسان. 10- في "السفن" مجاز مرسل علاقته المحلية أيضا؛ إذ المراد: ركاب السفن، وهي محل لهم، والقرينة قوله: "تشتهي" فإن الاشتهاء من صفات الأناسي، لا من شئون الجماد. 11- في "أنفسهم" مجاز مرسل علاقته "المحلية" كذلك؛ إذ المراد "فرجعوا إلى آرائهم" والنفوس محل لها، والقرينة قوله: "رجعوا"؛ إذ لا معنى للرجوع إلى النفس بمعناها الحقيقي. 12- في "المحكمة" مجاز مرسل علاقته "المحلية" أيضا؛ إذ المراد

قضاة المحكمة التي هي محل لهم، والقرينة قوله: "حكمت" فإن صدور الحكم عن المحاكم بمعناها الحقيقي محال. 13- في "الزبيب" مجاز مرسل علاقته "اعتبار ما كان" إذ المراد عصيره وهو كان قبل ذلك زبيبا، والقرينة قوله: "شربنا" إذ إن الزبيب بمعناه الحقيقي لا يشرب. 14- في {رَبُّكَ} مجاز مرسل علاقته السببية؛ إذ المراد أمره، أو عذابه والله تعالى سبب فيهما، والقرينة قوله: {وَجَاءَ} فإن نسبة المجيء بمعناه الحقيقي إلى الله محال. 15- في {قَرَأْتَ} مجاز مرسل علاقته "المسببية"؛ إذ إن المراد: "إذا أردت القراءة" فالقراءة مسببة عن الإرادة, والقرينة قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} فإن الاستعاذة إنما تكون قبل القراءة، لا بعدها. تمرين يطلب جوابه على نحو ما تقدم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} . بثت الحكومة الأمن في أرجاء البلاد. شربت البن. غرست القطن في أرضنا. تناولت كأس الشفاء من يد الطبيب. قرر المجلس الأعلى كذا. أقمنا في نعيم ورفاهية. {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} . أرانا الله وجوهكم في خير. "من قتل قتيلا فله سلبه". ألقى القائد كلمة في الجنود. خذ الملآن "للإناء الفارغ". طحنت خبزا. أكلت دم القتيل. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ... بأنني خير من تسعى له قدم

المجاز المركب

المجاز المركب: قلنا فيما سبق: إن المجاز على نوعين: مفرد، ومركب, وقد فرغنا من الكلام في المفرد, وهاك بيان المجاز المركب. تعريفه, كما يقضي به القياس: هو اللفظ المركب المستعمل في غير المعنى الذي وضع له لعلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. وهو -باعتبار هذه العلاقة- نوعان: مجاز مركب علاقته المشابهة ويسمى تمثيلا1 أو استعارة تمثيلية، ومجاز مركب علاقته غير المشابهة، ويسمى مجازا مركبا مرسلا. الاستعارة التمثيلية: هي اللفظ المركب المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة كما تقدم في التشبيهات المركبة2 أي: في الهيئات المنتزعة من أمور متعددة إذا استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه, كأن تقول: "رأيت مرآة في كف أشل" تريد أن تقول: رأيت شمسا؛ فقد شبهت هيئة الشمس السابق ذكرها بهيئة المرآة في كف الأشل بجامع الهيئة الحاصلة من كل، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية, والقرينة حالية. ومثله قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} ، وحقيقة الكلام: فتركوا الميثاق وأهملوه، ولم يعتدوا به, وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة من أخذ عليهم الميثاق

_ 1 إذا أطلق "التمثيل" انصرف إلى الاستعارة التمثيلية, فإذا أريد التشبيه ذو الوجه المركب, قيل: تشبيه تمثيل أو تشبيه تمثيلي. 2 هذا التعريف هو الموافق لقول الخطيب في تعريف المجاز المركب: هو اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل. ومن المعلوم أن تشبيه التمثيل هو ما يكون وجهه منتزعا من متعدد, ولا يكون ذلك إلا بين هيئتين منتزعتين من أمور متعددة, وقد سبق بحثه في مبحث التشبيه.

فأهملوه، ولم يراعوه بهيئة من كان معه شيء تافه، لا قيمة له في اعتباره فطرحه وراء ظهره، والجامع بينهما الهيئة الحاصلة من شيء يهمل احتقارا لشأنه، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة حالية؛ لأن التاركين للميثاق لم يطرحوا شيئا وراء الظهور حقيقة، فحالتهم على غير ما يفيده هذا التركيب وضعا. وكقولهم في المتردد في أمره المتحير: "أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى1", وحقيقة الكلام: أراك متحيرا في أمرك مترددا. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة المتردد في أمره بين الإقدام والإحجام بهيئة رجل قام ليذهب إلى جهة؛ فتارة يعقد النية على الذهاب، فيقدم رجلا، وتارة يعدل، فيؤخرها ثانيا، والجامع الهيئة الحاصلة من إقدام تارة، وإحجام أخرى، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة حالية؛ إذ إن المتردد المذكور لا يقدم رجلا، ولا يؤخر أخرى، فحالته على غير ما يدل عليه التركيب وضعا. وسميت الاستعارة في المركب تمثيلية؛ لجريان التشبيه فيه بين الهيئات المركبة من متعدد كما في الأمثلة المذكورة2. وإذا فشت الاستعارة التمثيلية، وشاع استعمالها سميت "مثلا", وإذًا فالأمثال السائرة كلها من قبيل الاستعارة التمثيلية التي شاع استعمالها، والمثل يراعى فيه المعنى الذي ورد فيه أولا، فيخاطب به المفرد، والمثنى، والجمع، مذكرا، أو مؤنثا من غير تغيير في العبارة

_ 1 قوله: تقدم رجلا أي: تارة, ومفعول تؤخر محذوف أي: تلك الرجل المقدمة، وأخرى نعت لتارة المحذوفة أي: تارة أخرى, وأصل الكلام: أراك تقدم رجلا تارة وتؤخرها تارة أخرى. وأصل هذا المثل: أن الوليد بن يزيد لما بويع بالخلافة وبلغه توقف مروان بن محمد في البيعة أرسل إليه الوليد يقول: أما بعد, فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى, فإذا أتاك كتابي فاعتمد على أيهما شئت, والسلام. 2 قضيته أن التمثيل لا بد فيه من انتزاع وجهه من متعدد, فمعنى التمثيل فيه واضح؛ لكثرة ما اعتبر فيه مما أوجب غرابته.

الواردة؛ لأنه -كما قلنا- استعارة تمثيلية، والاستعارة يجب أن تكون لفظ المشبه به المستعمل في المشبه كما في مثال "المتردد"؛ فقد ورد في شخص معين، ثم شاع استعماله حتى صار مثلا يضرب لكل متحير في أمره، متردد فيه، مفردا كان، أو مثنى، أو جمعا، مذكرا، أو مؤنثا، فيقال لكل واحد مما ذكر: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فينطلق به كما ورد. ومثل المثل المذكور قولهم: "الصيف ضيعت اللبن" بكسر تاء الفاعل, فقد ورد في امرأة، ثم فشا استعماله أيضا، وذاع حتى صار مثلا يضرب لمن طلب شيئا بعد التفريط فيه, وتضييعه، وفوات فرصته. وأصل هذا المثل: أن امرأة شابة1 كانت تحت شيخ2 طاعن في السن، ذي ثروة، فزهدت فيه، وكرهت معاشرته لضعفه، وكبره, ورجته أن يتركها، فلبى طلبها، وكان ذلك صيفا، ثم تزوجت بعده بشاب فقير3 ثم احتاجت إلى اللبن زمن الشتاء، فجاءت إلى زوجها الأول تطلب منه لبنا، فلم يجبها إلى طلبها، وقال لها القول المذكور، فجرى مجرى الأمثال. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة من فرط في شيء وقت إمكان تحصيله، ثم طلبه في وقت يتعذر الحصول عليه فيه بهيئة امرأة تركت زوجها ذا اللبن الوفير، ثم أتت إليه بعد فراقها تطلب اللبن منه, والجامع الهيئة الحاصلة من التفريط في الشيء وقت إمكانه، وطلبه وقت تعذره، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة حالية؛ إذ إن حالة المقول فيه المثل على غير ما يدل عليه التركيب وضعا. ومثله قول الشاعر:

_ 1 تدعى دسوس بنت لقيط بن زرارة. 2 قيل: اسمه عمرو بن عويس. 3 قيل: اسمه عمرو بن معبد بن زرارة.

جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا ... جزاء سنمار1 وما كان ذا ذنب يضرب لمن يجازى على الإحسان بالإساءة. وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبه هيئة من يجازى بالإحسان إساءة بحال "سنمار" بجامع مقابلة الإحسان بالإساءة، واستعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية، والقرينة حالية؛ لأن حالة المقول فيه المثل تغاير ما يدل عليه اللفظ وضعا. ومثله قول الشاعر: إذا جاء موسى وألقى العصا ... فقد بطل السحر والساحر مثل يضرب لمن يتضاءل شأنه عند وجود من هو أجلّ شأنا. وتقرير الاستعارة فيه هكذا: شبهت هيئة من يقل شأنه عند وجود الأجل شأنا بهيئة قوم فرعون، وقد أخفقوا في سحرهم عند مجيء موسى عليه السلام، وإلقائه العصا، والجامع الهيئة الحاصلة من ضآلة الشيء الحقير بجانب الشيء الخطير ثم استعير ... إلخ، والقرينة حالية كسابقاتها. وقد يقال في تقريرها: شبهت حال من تحل المشكلات بوجوده بحال نبي الله موسى -عليه السلام- مع سحرة فرعون, بجامع حال الشيء يحسم عنده النزاع، ثم استعير ... إلخ. وكقولهم: "أحشفا وسوء كيلة؟ "2 يضرب لمن يظلم من وجهين, وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة من يظلم من جهتين بهيئة رجل باع آخر تمرا حشفا، وكان مع ذلك يطفف المكيال, والجامع الهيئة الحاصلة من ظلم مزدوج، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية, والقرينة حالية -كما عرفت- وقس على ذلك جميع الأمثال السائرة, نثرا ونظما.

_ 1 اسم رجل كان صانعا ماهرا, وقد تقدم الحديث عنه. 2 كيلة -بكسر الكاف- اسم بمعنى الكيل -بفتحها- مصدر كال الشيء يكيله بمعنى: قدّره بالمكيال. وأصل هذا المثل أن رجلا اشترى تمرا من آخر فإذا هو حشف, وناقص الكيل فقال المشتري ذلك, فصار مثلا.

المجاز المركب المرسل 1: هذا هو القسم الثاني من قسمي المجاز المركب: وهو اللفظ المركب المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي, كما في الجمل الخبرية المستعملة في الإنشاء لأغراض لم يوضع لها الخبر, كإظهار التحسر، أو الضعف، أو السرور، أو الشماتة، أو نحو ذلك. فمثال المستعمل في معنى التحسر والتحزن قوله تعالى حكاية عن أم مريم: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} , ومثال المستعمل في إظهار الضعف قوله تعالى حكاية عن نبي الله زكريا عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} . فهذان المركبان, وإن كانا في أصل وضعهما للإخبار والإفادة إلا أنهما -في هذا المقام- مستعملان في غير هذا المعنى؛ إذ إن أم مريم، وزكريا -عليهما السلام- يعلمان حق العلم أن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية. فأما أم مريم, فقد أرادت بهذا الخبر إظهار التحسر، والتحزن على فوات مأمول لها هو ذلك المولود الذكر، وأما زكريا -عليه السلام- فقد أراد إظهار الضعف، وأنه بلغ من الوهن والكبر غاية لا أمل له في الحياة بعدها. والعلاقة في الموضعين اللزوم, إذ يلزم من إخبار أم مريم بأنها وضعت أنثى على غير ما كانت تأمل إظهار تحسرها وحزنها كما يلزم من إخبار زكريا بأنه قد وهن عظمه، واشتعل رأسه إظهار ضعفه، وأنه بحالة تدعو إلى الشفقة والرحمة, والقرينة في الموضعين مقام الخطاب. ومن استعمال الخبر في إنشاء التحسر قول الشاعر يتحسر على ذهاب شبابه وأيام صباه: ذهب الصبا وتولت الأيام ... فعلى الصبا وعلى الزمان سلام فالخبر مستعمل في إنشاء التحسر والتحزن على فوات الشباب، وذهاب أيامه العذاب، والعلاقة فيه اللزوم كسابقه, إذ يلزم من الإخبار

_ 1 إنما أطلق عليه هذا الاسم قياسا على المجاز المفرد, وإلا فإن العلماء لم يضعوا له اسما, بل أكثرهم لم يبحثوه بحثا تفصيليا.

بذهاب الصبا, وتصرم أيامه الباسمة التحسر والأسى على فواته بقرينة قوله: "فعلى الصبا وعلى الزمان سلام". ومثال الخبر المستعمل في إظهار الابتهاج والفرح قولك لمن يعلم بنجاحك، وأنت تعلم منه ذلك: نجحت في الامتحان، فليس الغرض أن تفيده بنجاحك؛ لأنه يعلم به كما تعلمه، وإنما أردت إظهار أنك مبتهج فرح بهذا النجاح, والعلاقة والقرينة كالذي قبله. ومنه قول الشاعر: خلقت من الحديد أشد قلبا ... وقد بلي الحديد وما بليت فهذا كلام خبري استعمل في غير ما وضع له؛ لأن الشاعر أراد بالإخبار إظهار الفخر والمباهاة، والعلاقة اللزوم أيضا؛ لأن إخبار الإنسان بصفات الشجاعة والإقدام يلزمه الفخر غالبا، والقرينة حال الشاعر إذ لم يكن في مقام الإخبار، إلى غير ذلك من الأخبار التي لم يقصد بها المعنى الذي وضعت له، وهو الإخبار للإفادة. غير أن العلماء أهملوا هذا القسم، ولم يبحثوه، ولم يظهر لإهمالهم له وجه، واعتذر بعضهم عن هذا بقلة وروده، وهو عذر واهٍ، لا يقره الواقع، إذ هو كثير شائع. أسئلة وتطبيق على المجاز المركب بقسميه: 1- عرف المجاز المركب، وقسمه، ومثل لكل قسم. 2- عرف الاستعارة التمثيلية، وبين وجه تسميتها "تمثيلية", ومتى تسمى "مثلا"؟ مثل لما تقول، ثم أجر الاستعارة في قولهم: إن البغاث1 بأرضنا يستنسر "يضرب للضعيف يصير قويا". 3- ما الفرق بين المجاز المرسل المفرد، والمجاز المرسل المركب؟ اذكر لكل مثالا واشرحه.

_ 1 هو طير ضعيف الشوكة.

4- بين أنواع المجاز فيما يأتي واشرحها: "1" تصرمت منا أويقات الصبا ... ولم نجد من المشيب مهربا "2" إن الأفاعي وإن لانت ملامسها ... عند التقلب في أنيابها العطب "3" وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب "4" وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قل المساعد "5" من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع "6" وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم؟ "7" وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل "8" وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم "9" هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثق1 5- أجر الاستعارة التمثيلية فيما يأتي: "1" أتطلب أثرا بعد عين "فيمن ترك الشيء، ثم طلبه بعد ذهابه".

_ 1 هواي مصدر أريد به اسم المفعول أي: مهوى، والركب اسم جمع لراكب، واليمانين جمع يمان وأصل يمان يمني, حذفت ياء النسب وعوض عنها الألف على خلاف القياس, ثم أعل أعلال قاضٍ، ومصعد من أصعد في الأرض إذا سار فيها، والجنيب: المستتبع, وهو الذي يتبعه قومه ويقدمونه أمامهم.

"2" أسمع جعجعة, ولا أرى طحنا1 "فيمن يعد ولا يفي". "3" تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. "4" أرى خالا2, ولا أرى مطرا "لكثير المال لا يصاب منه خير". "5" تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها "لمن يصرف نفسه عن خسيس المكاسب". "6" ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخل يضرب لذي المنظر, ولا خير فيه. "7" رجع بخفي حنين "لمن يعمل عملا فيخيب فيه". "8" رمية من غير رامٍ "لمن يصدر منه فعل حسن ليس له أهلا". "9" عند الصباح يحمد القوم السرى "يضرب في تحمل المشقة رجاء الراحة". "10" بالملح نصلح ما نخشى تغيره ... فكيف بالملح إن حلت به الغير؟ "يضرب لمن فسدت حاله, ممن هو قدوة كرجال العلم والدين". "11" اليد لا تصفق وحدها "لمن يعالج أمرا وحده, فيعجز عنه". "12" وعند جهينة الخبر اليقين "لمن يعرف الشيء على وجهه", ومثله قولهم: على الخبير سقطت. جواب السؤال الرابع: 1- في البيت مجاز مرسل مركب من استعمال الخبر في الإنشاء علاقته السببية؛ لأن هذا الكلام سبب في التحسر، أو الملزومية؛ لأن الإخبار بهذا يستلزم التحسر، والقرينة حالية. 2- في البيت استعارة تمثيلية, شبه هيئة من يغر الناس بلينه الظاهري، ثم يعود، فيضرهم ويؤذيهم بهيئة الأفاعي اللينة الملمس، الشديدة الأذى, بجامع هيئة شيء لين المجس، ناعم الملمس، ينطوي

_ 1 الجعجعة: صوت الرحى, والطحن -بكسر الطاء- الدقيق. 2 الخال: المراد به السحاب.

على شيء ضار شديد الضرر، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية، والقرينة حالية. 3- في البيت استعارة تمثيلية، شبهت هيئة من علا قومه بحيث لا يباريه أحد بهيئة الشمس لا ضريب لها من الكواكب, بجامع هيئة الشيء يعلو فيفوق غيره بحيث لا يطمع في مماثلته, واستعير الكلام الدال على المشبه به للمشبه استعارة تمثيلية, والقرينة حالية. 4- في البيت مجاز مرسل مركب من استعمال الخبر في الإنشاء علاقته السببية، أو الملزومية؛ لأن الإخبار بمثل هذا يسبب التحسر لفقد الخلان، أو يستلزم التحسر لفقدهم، والقرينة حالية كالذي قبله. 5- في البيت استعارة تمثيلية، شبهت هيئة من علت منزلته إلى حيث لا يتأثر بسبب ما بهيئة من سكن فوق محل الشمس, بجامع هيئة الشيء يسمو حتى لا يؤثر فيه، أو يصل إليه شيء، ثم استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه استعارة تمثيلية، والقرينة حالية. 6- في البيت مجاز مرسل مركب من استعمال الاستفهام في معنى الإنكار, والعلاقة فيه الملزومية؛ إذ إن الاستفهام عن مثل هذا يستلزم الإنكار، والقرينة حالية. 7- في البيت استعارة تمثيلية, شبه هيئة من لا يعترف بالفضل لذويه رغم وضوحه, وشهرته بهيئة من يحتاج إلى دليل على وجود النهار, بجامع هيئة من يجهل جهلا مطبقا، ثم استعير اللفظ الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية، والقرينة حالية. 8- في البيت مجاز مرسل مركب من استعمال الخبر في معنى التوبيخ والتقريع, وعلاقته السببية أو الملزومية؛ لأن مثل هذا القول يسبب التوبيخ، أو يستلزمه, والقرينة حال الشاعر؛ لأنه في مقام التوبيخ.

9- في البيت مجاز مرسل مركب من استعمال الخبر في إنشاء التحسر على حبيبه النازح إلى اليمن، وهو سجين بمكة، موثق بها، لا يستطيع فكاكا, والعلاقة السببية، أو الملزومية, والقرينة حالية. جواب السؤال الخامس: 1- شبه هيئة من ترك الشيء، ثم طلبه بعد فواته بهيئة من أهمل طلب العين، ثم تلمس الأثر بعد ذهابها, بجامع هيئة الشيء يهمل أمره حتى ينتهي ثم يطلب بعده ما لا نفع فيه، ثم استعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه استعارة تمثيلية. 2- شبه هيئة من يعد ولا يفي بهيئة رحى تسمع لها جعجعة, ولا ترى طحنا, بجامع هيئة الشيء ظاهره خادع، وباطنه مخيب، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية, والقرينة حالية. 3- شبه هيئة من يأتيه الشيء على غير ما يهوى بهيئة ركاب سفن تأتيهم الرياح بعكس ما يريدون, بجامع هيئة الشيء يعرض له ما لا يلائمه، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه استعارة تمثيلية. 4- شبه هيئة المثرى الذي لا يجود بخيره بهيئة السحاب الذي لا مطر فيه, بجامع هيئة الشيء يرى حافلا ولا خير فيه، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه استعارة تمثيلية, والقرينة حالية. 5- شبه هيئة من يتعفف عن خسيس المكاسب بهيئة امرأة تؤثر الجوع عن أن تكون مرضعا بأجر, بجامع هيئة الشيء يترفع عن الدنايا، ثم استعير المركب الدال على المشبه به للمشبه استعارة تمثيلية. 6- شبه هيئة ذي المنظر الرائع، ولا غناء فيه بهيئة فتيان طوال غلاظ, لا خير فيهم, بجامع هيئة الشيء يروعك منظره، ولا يرضيك مخبره, ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية, والقرينة حالية.

7- شبه هيئة من يسعى في عمل فيخيب فيه بهيئة الأعرابي الذي رجع بخفي حنين, بجامع هيئة الشيء لم يجن منه خير، ثم استعير اللفظ الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية. 8- شبه هيئة من يصدر منه عمل لا يستأهله بهيئة من رمى السهم فأصاب الرمية، وهو لا يحسن الرمي, بجامع هيئة الشيء يصدر عن غير أهله، ثم استعير المركب الدال على المشبه به للمشبه استعارة تمثيلية. 9- شبه هيئة من يتحمل المشقة رجاء الراحة بهيئة من سرى ظمآنا؛ رجاء العثور على الماء صباحا, بجامع هيئة الشيء ينال بعد عناء، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية. 10- شبه هيئة من فسدت حاله ممن هو قدوة لغيره بهيئة ملح الطعام سرى إليه الفساد، فلم يعد صالحا للاستعمال, بجامع هيئة الشيء المفيد يعتريه تلف، ثم استعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه استعارة تمثيلية. 11- شبه هيئة من يحاول عملا وحده، فيعجز عنه بهيئة من يحاول التصفيق بيد واحدة, بجامع هيئة الشيء لا يحالفه التوفيق. 12- شبه هيئة من يعرف الشيء على وجهه الحق بهيئة الرجل منسوبا إلى جهينة, بجامع هيئة الشيء يعرف به الأمر على حقيقته، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية, والقرينة في الجميع حالية؛ لأن حالة المقول فيه المثل تغاير ما يدل عليه التركيب وضعا.

طائفة من الأمثال يطلب بيانها على نحو ما سبق: رزمة, ولا درة1 "لمن يعد ولا يفي". ركوض في كل عروض2 "لمن يمشي بين الناس بالفساد". مصائب قوم عند قوم فوائد. رب حثيث مكيث3 "لمن أراد العجلة, فحصل على البطء". لأمر ما جدع قصير أنفه "لمن يتستر تحت أمر ظاهري؛ ليحصل على أمر خفي". رب مخطئة من الرامي الذعاف4 "لمن يخطئ على غير عادة".

_ 1 الرزمة -بفتح الراء وسكون الزاي- حنين الناقة، والدرة -بكسر الدال وفتح الراء المشددة- كثرة اللبن وسيلانه. 2 العروض: الناحية. 3 الحثيث: السريع، والمكيث: البطيء. 4 الذعاف: القاتل.

فصل في شرائط حسن الاستعارة

فصل في شرائط حسن الاستعارة: لا تقع الاستعارة موقعها من الحسن, والقبول إلا إذا توافرت الأمور الآتية بعد: 1- رعاية جهات حسن التشبيه, أي: مراعاة أسباب حسنه؛ لأنها مبنية عليه فهي تابعة له في الحسن والقبح، فإن حسن حسنت، وإن قبح قبحت. فمن جهات حسن التشبيه أن يكون وافيا بإفادة الغرض منه. فإن كان الغرض منه مثلا تزيين المشبه "كوجه أسود"، فشبه بمقلة الظبي، ذات السواد الجميل، ثم استعير له لفظها، فقيل: رأيت مقلة ظبي، وأريد وجه أسود؛ حسنت الاستعارة لوفاء التشبيه بالغرض. فإذا شبه الوجه الأسود المذكور بالفحم لإفادة هذا الغرض، ثم استعير له لفظه, فقيل: "رأيت فحما"، وأريد الوجه الأسود؛ لم تحسن الاستعارة لعدم حسن التشبيه, إذ لم يف بالغرض المطلوب.

وإن كان الغرض منه تشويه وجه أسود عليه آثار الجدري، فشبه بحمأة جامدة قد نقرتها الديكة، ثم استعير له لفظها، فقيل: رأيت حمأة منقورة، وأريد الوجه الأسود المجدور؛ حسنت الاستعارة لحسن التشبيه لوفائه بالغرض. ولو شبه الوجه المذكور لإفادة هذا الغرض بقطعة منقبة من معدن كريم أسود اللون، ثم استعير له لفظها؛ فات الحسن, وهكذا. ومن جهات حسن التشبيه أن يكون وجه الشبه غير مبتذل، بأن يكون غريبا لطيفا؛ إما بكثرة ما فيه من التفصيل, أو لكونه نادر الحضور في الذهن، كما سبق في تشبيه "الشمس بالمرآة في كف الأشل"، وتشبيه "زهر البنفسج على سيقانه بأوائل النار في أطراف الكبريت". فإذا استعير لفظ المرآة في كف الأشل للشمس، فقيل: "رأيت مرآة في كف أشل" مرادا به الشمس لقرينة حال، أو استعير لفظ النار مشبوبة في أطراف كبريت لزهر البنفسج فقيل: "رأيت نارا مشبوبة في أطراف كبريت"، وأريد به البنفسج لقرينة حال أيضا؛ حسنت الاستعارة فيهما لحسن التشبيه؛ لما فيه من الدقة بكثرة الاعتبارات في الأول، ولندور حضور المشبه به في الثاني. أما استعارة لفظ "الشمس" للإنسان ذي الوجه المشرق، أو لفظ الأسد للرجل الجريء, فليست بذات حسن؛ لفوات الحسن في التشبيه بسبب ابتذاله لوضوح الوجه فيه. ويستثنى من جهات حسن التشبيه شيء واحد تحسن فيه الاستعارة، وإن لم يحسن التشبيه, وهو أن يقوى الشبه بين الطرفين جدا حتى ليخيل لك أنهما متحدان كالشبه بين العلم والنور، أو بين الشبهة والظلمة. ففي مثل هذين المثالين تحسن الاستعارة، فتقول: في قلبي نور أي: علم، ولا يحسن التشبيه، فلا تقول: في قلبي علم كالنور، وتقول: في قلبي ظلمة أي: شبهة، ولا يحسن أن تقول: في قلبي شبهة كالظلمة.

وإنما قبح التشبيه في مثل ما ذكرنا؛ لقوة الشبه بين الطرفين حتى كأنهما شيء واحد, فإجراء التشبيه بينهما بمثابة تشبيه الشيء بنفسه، وحسنت فيه الاستعارة؛ لاختفاء شبح التشبيه لفظا. 2- أن يزداد بعدها عن الحقيقة بالترشيح؛ ولذلك كانت الاستعارة المرشحة أكثر قبولا في ذوق البلغاء من أختيها: المجردة، والمطلقة. 3- ألا يشم فيها رائحة التشبيه لفظا1, بألا يذكر في الكلام لفظ يدل على المشبه كما في قولنا: "زارني بدر في منزلي" فليس في العبارة لفظ دال على المشبه. أما قول الشاعر المتقدم: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر فاستعارة -كما يقولون- قليلة الحسن2؛ لما فيها من إشمام رائحة التشبيه بسبب ذكر لفظ دال على المشبه، وهو "الضمير" في قوله: "غلالته", أو في: "أزراره". وهذا يتنافى مع ما ترمي إليه الاستعارة؛ ذلك أن الغرض منها -كما تقدم- إظهار المبالغة في التشبيه بادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، ومقتضى هذا أن يستويا في وجه الشبه, وإشمام رائحة التشبيه بما ذكرنا يلفت الذهن إلى ما هو معلوم في أصل التشبيه من أن المشبه به أقوى في وجه الشبه من المشبه، وهذا يتعارض مع ما تقتضيه الاستعارة من تناسي التشبيه، ودعوى اتحاد الطرفين. ومما ينبغي أن يعلم هنا أن المراد بإشمام رائحة التشبيه المشروط

_ 1 إنما شرطوا ذلك في اللفظ؛ لأن شم التشبيه معنى لا بد منه في كل استعارة بواسطة القرينة؛ لأن الاستعارة لفظ أطلق على المشبه بمعونة القرينة, فلا يمكن نفي إشمام التشبيه لفظا ومعنى؛ لأن المعنى على التشبيه قطعا. 2 في نفسي مما يقولون شيء, فإني لأشعر بروعة الاستعارة تملأ جوانب نفسي كلما قرأت هذا البيت أو سمعته.

نفيه في حسن الاستعارة ما لا يخرج به الكلام عن الاستعارة كما في البيت المذكور، ونحوه مما ذكر فيه المشبه على وجه لا ينبئ عن التشبيه, بخلاف ما لو ذكر فيه المشبه على وجه ينبئ عن التشبيه نحو: "محمد أسد"، أو صرح فيه بوجه الشبه نحو: "رأيت أسدا في الجرأة"، أو بالأداة نحو: "رأيت مثل الشمس", فإن مثل هذا الإشمام في الأمثلة المذكورة مبطل للاستعارة, فنفيه شرط لصحتها، لا لحسنها. 4- ألا يكون وجه الشبه خفيا جدا بحيث لا يدرك بغير تأمل ونظر، فلا تحسن استعارة لفظ "أسد" للرجل الأبخر، وهو ذو الفم المنتن لخفاء وجه الشبه, إذ إن انتقال الذهن من معنى الأسد إلى الرجل إنما يكون باعتبار المعنى المشهور في الأسد، وهو الجرأة، لا البخر. فاستعارة لفظ الأسد للأبخر حينئذ يعد إلغازا وتعمية في المراد؛ ذلك أن من شروط حسن الاستعارة -كما علمت- عدم إشمامها رائحة التشبيه، وذلك مما يبعدها عن الحقيقة فإذا انضم إلى ذلك خفاء وجه الشبه ازدادت بعدا، فخفيت على الفهم، وصارت إلغازا. ومن هذا القبيل قولهم في الاستعارة التمثيلية: "رأيت يوم الجمعة في المسجد إبلا مائة, لا تجد فيها راحلة"1 من قوله, صلى الله عليه وسلم: "الناس كإبل مائة، لا تجد فيها راحلة" يريد: أن المختار المنتخب من الناس في عزة وجوده، مع كثرة أفراد جنسه كالنجيبة المنتخبة التي لا توجد في كثير من أفراد جنسها, فوجه الشبه بين الطرفين هو "عزة وجود الكامل، مع كثرة أفراد جنسه"، وهذا المعنى خفي؛

_ 1 في الفائق: أن الراحلة: البعير الذي يرتحله الرجل، جملا كان أو ناقة، ثم إنه يحتمل أن تكون جملة "مائة لا تجد فيها راحلة" استئنافية أي: مائة منها لا تجد فيها راحلة, فهي جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: على أي حال رأيتهم؟ فقيل: مائة منها لا تجد فيها راحلة. ويحتمل أن تكون مائة نعتا للإبل, وأن ما بعده وصف للمائة أي: إبلا معدودة بهذا القدر الكثير الموصوف بأنك لا تجد فيه راحلة.

لأن انتقال الذهن من معنى الإبل إلى الناس إنما يكون باعتبار المعنى المشهور في الإبل، وهو كثرة الأكل، وقلة الفهم، مع كبر الأعضاء وطولها، أو هو الصبر والجلد على العمل, أما عزة وجود الكامل، مع كثرة أفراد جنسه فهو معنى بعيد عن الخاطر؛ لهذا كانت الاستعارة في المثال المذكور تعمية في المراد وإلغازا. ومن هنا يعلم أن التشبيه أعم محلا1, إذ كل ما يتأتى فيه الاستعارة يتأتى فيه التشبيه من غير عكس؛ لجواز أن يكون وجه الشبه غير جلي، فتصير الاستعارة إلغازا كما في المثالين المذكورين. هذا, والاستعارة التمثيلية كالتحقيقية في أن حسنها يكون بما ذكرنا من الأمور السابقة, إذ لا فرق بينهما إلا من حيث الإفراد والتركيب، أما الاستعارة المكنية فلا يشترط في حسنها عدم إشمامها رائحة التشبيه؛ لعدم تأتّيه فيها, إذ من لوازم المكنية أن يذكر معها شيء من خواص المشبه به، وذلك دليل التشبيه وحينئذ لا ضير في خفاء وجه الشبه فيها. والاستعارة التخييلية قرينة المكنية -كما علمت- فحسنها حينئذ تابع لحسن المكنية. اختبار: 1- اذكر بالإجمال الأسباب الموجبة لحسن الاستعارة, مع التوضيح بالمثال لكل ما تذكر. 2- ما السر في قبح التشبيه في مثل: في قلبي علم كالنور؟ وما وجه حسن الاستعارة فيه؟ وما علة كون الاستعارة في قول الشاعر: "قد زر أزراره على القمر", وفي نحو قولك: "رأيت أسدا" أي: أبخر, قليلة الحسن؟ اشرح ذلك بوضوح تام. 3- من أي قبيل تشبيهك وجها أبيض بالجير, تريد تحسينه؟ علل لما تقول.

_ 1 المراد به أن يكون العموم من حيث التحقق، لا من حيث الصدق؛ إذ لا يصدق التشبيه على الاستعارة، أو العكس.

فصل آخر في المجاز بالحذف والزيادة

فصل آخر في المجاز بالحذف, والزيادة: اعلم أن لفظ "مجاز" كما يطلق على الكلمة المنقولة عن معناها الأصلي إلى غيره -كما سبق- يطلق أيضا1 على الكلمة المنقولة عن حكم إعرابها الأصلي إلى غيره بسبب حذف لفظ، أو زيادة لفظ. فالأول كما في نحو قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} , {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فكل من لفظي {رَبُّكَ} و {الْقَرْيَةَ} مجاز بالحذف2؛ إذ ليس الكلام محمولا على ظاهره لاستحالة مجيء الرب سبحانه في الآية الأولى، وللقطع بأن المراد سؤال أهل القرية، لا سؤال الأبنية في الثانية. وأصل الكلام: وجاء أمر ربك، واسأل أهل القرية، فهما -في الأصل- مجروران بالإضافة، ثم نقلا من هذا الحكم الإعرابي بسبب حذف المضاف، وجعل الأول مرفوعا على الفاعلية، والثاني منصوبا على المفعولية. والثاني كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، فقوله: {كَمِثْلِهِ}

_ 1 إما على سبيل الاشتراك اللفظي أي: إن لفظ "مجاز" موضوع بوضعين؛ أحدهما للكلمة المستعملة في غير معناها الوضعي، والثاني للكلمة التي تغير حكم إعرابها الأصلي، فيكون إطلاق المجاز عليها حينئذ حقيقة، وإما على سبيل التشابه أي: مشابهة الكلمة المنقولة عن إعرابها الأصلي للكلمة المنقولة عن معناها الأصلي, بجامع الانتقال عن الأصل في كل, واستعير اسم المشبه به وهو لفظ "مجاز" للمشبه, فيكون إطلاق لفظ "مجاز" على الكلمة التي تغير حكم إعرابها مجازا بالاستعارة. 2 ويحتمل أن يكونا من قبيل المجاز المرسل, من إطلاق اسم السبب على المسبب في الأول، وإطلاق اسم المحل على الحال في الثاني.

مجاز بالزيادة, والأصل: ليس مثله شيء؛ لأن المراد نفي مثل الله، لا نفي مثل مثله؛ إذ لا مثل له تعالى حتى ينفى عن ذلك المثل من يكون مثله، فالحكم الإعرابي "لمثل" حينئذ هو النصب خير ليس، ثم نقل من هذا الحكم، وجعل مجرورا بسبب زيادة الكاف. ومن هذا البيان يعلم أن الموصوف المجاز في هذا النوع هو الكلمة التي تغير إعرابها -كما في المثالين المذكورين- وهذا أقرب مما ذكره السكاكي من أن الموصوف بالمجاز هنا هو حركة الإعراب. وجه ذلك أن مدلول المجاز على الرأي الأول واحد في الموضعين، إذ مدلوله هنا، وفيما تقدم: "الكلمة المنقولة"1، بخلاف الحال على رأي السكاكي, فإن في مدلوله تخالفا في الموضعين، فمدلوله فيما تقدم: "الكلمة" نفسها، وفي هذا الموضع "حال الكلمة"، وهو الإعراب، وما ليس في مدلوله تخالف أولى بالاعتبار مما في مدلوله تخالف.

_ 1 أما هناك فمنقولة عن المعنى الأصلي، وأما هنا فمنقولة عن إعرابها الأصلي.

المبحث الخامس في الكناية

المبحث الخامس في الكناية مدخل ... المبحث الخامس: في الكناية تعريفها: هي -في اللغة- أن تتكلم بالشيء وتريد غيره، وهي مصدر كنيت بكذا عن كذا, إذا تركت التصريح به، وبابه رمى يرمي. وورد كنوت بكذا عن كذا من باب دعا يدعو، وقد أنشد الجوهري: وإني لأكنو عن قدور1 بغيرها ... وأعرب أحيانا بها وأصارح والأول أفصح بدليل قولهم في المصدر: "كناية" ولم يسمع كناوة. وهي -في الاصطلاح- لفظ أطلق، وأريد لازم معناه الحقيقي لقرينة لا تمنع من إرادة هذا المعنى، مع المعنى المراد. قيود التعريف: خرج بقيد "اللفظ" نحو الإشارة، والكتابة من كل ما ليس بلفظ، وخرج بإرادة لازم المعنى الحقيقي اللفظ المراد به المعنى الحقيقي نفسه، وخرج بقوله: لقرينة لا تمنع ... إلخ المجاز, إذ لا بد فيه من قرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي، مع المعنى المجازي، عند من يمنع الجمع بين الحقيقة، والمجاز كالخطيب القزويني كما تقول: "كلمني أسد"؛ فلا يجوز أن يراد منه الحيوان المفترس؛ لأن فيه قرينة تمنع من ذلك، وهي "كلمني", إذ إن الكلام من شأن الإنسان، لا من شأن الأسود. ومن هنا يعلم أن الكناية واسطة بين الحقيقة والمجاز، فهي ليست بحقيقة؛ لأن اللفظ لم يرد به معناه الحقيقي، بل أريد به لازمه، وليست بمجاز؛ لأن المجاز لا بد له -كما قلنا- من قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي2. ولا يرد على الخطيب أنه لا يجيز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن محل عدم الجواز عنده إذا استعمل اللفظ فيهما على أن كلا مقصود لذاته، وما هنا ليس كذلك؛ لأن المقصود بالذات هو المعنى اللازمي لا غير. مثال الكناية قولك: "محمد طويل النجاد" كناية عن طول قامته. قال الشاعر:

_ 1 بفتح القاف وضم الدال: اسم امرأة. 2 وقيل: هي من قبيل الحقيقة؛ لأنها لفظ مستعمل في المعنى الحقيقي لينتقل منه إلى المعنى اللازمي، والحقيقة أعم من أن يكون المراد باللفظ فيها المعنى الحقيقي وحده كما في الصريح، أو مع إرادة المعنى الكنائي كما في الكناية.

"طويل نجاد السيف" شهم كأنما ... تصول إذا استخدمته بقبيل1 فالمعنى الحقيقي لهذا اللفظ هو أن نجاد محمد طويلة، وليس هذا مرادا, إنما المراد لازم هذا المعنى وهو: أن محمدا طويل القامة, إذ يلزم عادة من طول النجاد أن تكون القامة طويلة. ويصح مع هذا إرادة المعنى الحقيقي أيضا بأن يراد المعنيان جميعا -طول النجاد، وطول القامة- وهذا هو موضع الفرق بينها وبين المجاز -كما عرفت- ومثله قولك: "محمد نظيف اليد" كناية عن نزاهته, فالمعنى الحقيقي هو أن يده نظيفة, ولكنه ليس مرادا بل المراد لازم هذا المعنى، وهو أنه نزيه، لا يفعل ما يلوث شرفه، وتجوز إرادة المعنيين. وكقولهم: "فلانة نئوم الضحا" كناية عن أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها، ويقوم بشئونها. فالمعنى الحقيقي للفظ: أن المرأة المذكورة تنام إلى الضحا، وليس هذا مرادا وإنما المقصود ما يلزم هذا المعنى, وهو أنها من ذوات الترف والنعمة, لها من يقوم بتدبير أمرها، وإصلاح حالها, وتجوز إرادة المعنيين معها -كما علمت- وهكذا. تنبيهان: الأول: ليس بلازم في الكناية أن يكون المعنى الحقيقي للفظ المكنى به متحققا في الواقع, إذ يصح أن تقول: "فلان طويل النجاد" كناية عن طول القامة، وإن لم يكن له نجاد، بل تصح الكناية حتى مع استحالة المعنى الحقيقي كما في قولهم: المجد بين برديه، والكرم

_ 1 النجاد: ما وقع على العاتق من حمائل السيف, وفيه إشعار بأن الممدوح من أرباب السيف والإقدام، والقبيل: الجماعة؛ شبه الممدوح وهو مفرد بالجمع في القوة والمنعة، وفي هذا المعنى يقول حافظ في رثاء مصطفى باشا كامل: سنشهد في التاريخ أنك لم تكن ... فتى مفردا بل كنت جيشا مغازيا

تحت ردائه كناية عن إثبات المجد والكرم للممدوح, فإن المعنى الحقيقي لكل من العبارتين وهو حلول المجد بين البردين، وحلول الكرم تحت الرداء مستحيل الحصول؛ إذ إن الحلول الحسي بين الأشياء أو تحتها من شأن الأجسام، لا المعاني. وكما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كناية عن الاستيلاء والسيطرة, فالمعنى الحقيقي للاستواء هو "الجلوس" وهذا المعنى مستحيل على الله سبحانه1, ومن هذا يعلم أن الشرط في الكناية جواز إرادة المعنى الحقيقي، لا إرادته بالفعل؛ لامتناع إرادته فيما ذكرنا. ا. هـ. الثاني: علمت مما تقدم أن مناط الفرق بين المجاز والحقيقة وجوب وجود القرينة المانعة في الأول, دون الثانية. وقد فرق "السكاكي" بينهما أيضا بأن الانتقال "في الكناية" من اللازم إلى الملزوم, كالانتقال من طول النجاد إلى طول القامة في المثال المتقدم, فطول القامة ملزوم لطول النجاد، وطول النجاد لازم لطول القامة. أما المجاز, فالانتقال فيه من الملزوم إلى اللازم "عكس الأول" كالانتقال من الغيث إلى النبات في نحو قولك: رعى جوادي الغيث، وكالانتقال من الأسد إلى الجريء في نحو قولك: على الفرس أسد، فإن النبات لازم للغيث عادة، والغيث ملزوم له, كما أن الجريء لازم للأسد، والأسد ملزوم له. ورد هذا الفرق بأن اللازم إذا لم يكن ملزوما2 لا ينتقل منه

_ 1 ومثل الآية المذكورة قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} كناية عن نفي المماثلة عن ذاته تعالى؛ إذ إن سلب الشيئية عن مثل مثله يستلزم سلبها عن مثله, وإلا لزم التحكم في نفي الشيئية عن أحد المثلين دون الآخر, ولا يخفى امتناع إرادة المعنى الحقيقي لهذه العبارة؛ لاستحالة ثبوت مماثله تعالى. 1 أي: بنفسه أو بانضمام قرينة إليه؛ فالأول كالناطق بالنسبة للإنسان, فإنه -وإن تبادر منه أنه لازم للإنسان- ملزوم له أيضا؛ لمساواته له إذ يلزم من وجوده وجود الإنسان، والثاني كقولنا: رأيت إنسانا لا يفارق المنارة, كناية عن المؤذن, فإن الإنسان الموصوف بهذا الوصف فيما يتبادر لازم للمؤذن، ويصح أن يكون أعم منه؛ لجواز أن تكون ملازمته للمنارة لا للأذان, لكن قرينة العرف دالة على أنه المؤذن؛ لأن ذلك هو المتبادر الغالب, فهذا اللازم الأعم صار ملزوما بالقرينة.

إلى الملزوم؛ لأن اللازم من حيث إنه لازم يجوز أن يكون أعم من ملزومه, ولا دلالة للعام على الخاص كما في الضوء للشمس؛ إذ لا دلالة للضوء عليها لاحتمال أن يكون ضوء مصباح، أو قمر, والسكاكي نفسه معترف بهذه القضية, وإذ لا بد -في الانتقال من اللازم إلى الملزوم- أن يكون المنتقل منه ملزوما أيضا, كان الانتقال حينئذ من الملزوم إلى اللازم، وإذًا لا يتحقق الفرق بينهما من هذه الناحية؛ لأن الانتقال في كل منهما من الملزوم إلى اللازم، فثبت أن الفرق الذي أتى به السكاكي ليس بشيء. وما يقال من أن المراد باللازم في الكناية ما كان تابعا, كطول النجاد التابع لطول القامة, فمردود بأن المجاز أيضا قد ينتقل فيه من التابع في الوجود الخارجي إلى المتبوع, كإطلاق النبات على الغيث في نحو: أمطرت السماء نباتا، فلو اختصت الكناية بما يكون الانتقال فيه من التابع كان مثل هذا المثال من قبيل الكناية مع أنه مجاز بالإجماع, فثبت أن لا فرق بين الكناية والمجاز إلا من حيث القرينة, كما سبق.

أقسام الكناية

أقسام الكناية: تنقسم الكناية باعتبار المكنى عنه إلى ثلاثة أقسام: 1- كناية يطلب بها صفة1. 2- كناية يطلب بها موصوف. 3- كناية يطلب بها نسبة صفة إلى موصوف. فالأولى -وهي المطلوب بها صفة- ضابطها: أن يصرح بالموصوف، وبالنسبة إليه، ولا يصرح بالصفة المطلوب نسبتها وإثباتها، ولكن يذكر مكانها صفة تستلزمها كما في المثال السابق: "محمد طويل النجاد" كناية عن طول قامته، فقد صرح بالموصوف، وهو "محمد" وصرح بالنسبة، وهي إسناد طول النجاد إليه، ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي "طول القامة"، ولكن ذكر مكانها صفة أخرى تستلزمها هي "طول النجاد". وكما في قولهم: "فلانة نئوم الضحا" كناية عن أنها مترفة مخدومة, فقد صرح بالموصوف، وهو "فلانة" وصرح بالنسبة، وهي إسناد النوم في الضحا إليها، ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي "الترف والنعمة" ولكن ذكر مكانها صفة تستلزمها هي "النوم إلى الضحا"، وهكذا. وهذه الكناية ضربان: قريبة وبعيدة: فالكناية القريبة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المقصود بلا واسطة بين المنتقل عنه, والمنتقل إليه كما في القول السابق: فلان طويل النجاد، فإن المطلوب بقولنا: "طويل النجاد" صفة هي "طول القامة" كما بينا, وليس بين طول النجاد وطول القامة واسطة، وإنما ينتقل الذهن من طول النجاد إلى طول القامة مباشرة، وسميت قريبة لقصر زمن إدراك المقصود منها بسبب انتفاء الواسطة. والقريبة نوعان: واضحة وخفية: فالواضحة: ما يفهم منها المقصود لأول وهلة؛ لوضوح اللزوم بين المكنى به والمكنى عنه كما تقدم في قولنا: فلان طويل نجاده، أو فلان طويل النجاد2, فإن طول القامة يفهم من طول النجاد بلا حاجة إلى

_ 1 المراد بالصفة المعنى القائم بالغير كطول القامة, وكالجود، لا خصوص النعت النحوي. 2 الفرق بين المثالين أن الأول من قبيل الكناية الساذجة, لا يشوبها شيء من التصريح بالمعنى المقصود؛ لأن فاعل الوصف هو النجاد لينتقل منه إلى طول قامة فلان, والثاني من قبيل الكناية المشوبة بشيء من التصريح بالمعنى المراد؛ لتضمن الوصف للضمير العائد على الموصوف, فكأنه قيل: فلان طويل، وهو كلام صريح لا كناية فيه. ولما أضيف إلى النجاد صار كناية عن طوله, لكن مع شيء من التصريح لتحمل الوصف لضمير الموصوف بدليل أنك تقول: فلانة طويلة النجاد, وأنتما طويلا النجاد, وأنتم طوال النجاد, فتؤنث وتثني وتجمع.

تأمل لوضوح اللزوم بينهما كما عرفت. ومثله قول الشاعر: أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا1 كنى عن كبر عجيزة المرأة، ونهود ثديها بارتفاع قميصها عن أن يمس منها بطنا أو ظهرا، وهي كناية واضحة اللزوم كما ترى. والخفية: ما لا يفهم منها المقصود إلا مع شيء من التأمل والتفكير؛ لخفاء اللزوم بين المكنى عنه، والمكنى به كما في قولهم: فلان عريض القفا؛ كناية عن أنه أبله بليد, فإن عرض القفا بإفراط مما يستدل به على البلاهة والبلادة إلا أن فهم ذلك منه يتوقف على إعمال فكر وروية؛ لأن في اللزوم بين المعنيين نوع خفاء، لا يدركه كل أحد. والكناية البعيدة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المقصود بواسطة كما في قولنا: "عباس كثير الرماد" كناية عن أنه جواد مسماح. فالمطلوب بهذه الكناية صفة هي "الجود"، وبين كثرة الرماد وصفة الجود وسائط عدة لا بد من مراعاتها للوصول إلى هذه الصفة؛ فينتقل أولا من كثرة الرماد إلى كثرة الإحراق، ومنها إلى كثرة الطبخ، ثم إلى كثرة الأكلة، ومنها إلى كثرة الضيفان، ومنها إلى الجود. ومثله قول الشاعر: وما يك من عيب فإني ... جبان الكلب، مهزول الفصيل2

_ 1 الروادف: جمع ردف -بكسر فسكون- وهو عجيزة المرأة، والثدي -بضم الثاء مع التشديد وكسر الدال وتشديد الياء- جمع ثدي -بفتح فسكون- والقمص -بضم القاف والميم وسكن للضرورة- جمع قميص, وقد جمعت هذه الأشياء للمبالغة. 2 الفصيل: ولد الناقة.

فقد كنى عن جوده، وكثرة قِراه للأضياف بجبن الكلب، وهزال الفصيل, إذ ينتقل الذهن من جبن الكلب إلى تأديبه ومنه إلى استمرار ما يوجب نباحه، وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه، ثم ينتقل من هذا إلى كون صاحبه مقصدا للداني والقاصي، ومن هذا إلى أنه يقري الأضياف، ومن قرى الأضياف إلى وصف الجود. كذلك ينتقل الذهن من هزال الفصيل إلى فقد1 أمه بنحرها، ومنه إلى قوة الداعي لنحرها؛ لكمال عناية العرب بالنوق لا سيما المتليات2، ومنه ينتقل الذهن إلى إعدادها للطبخ، ومنه إلى أنه مضياف كريم. وسميت هذه الكناية بعيدة؛ لبعد زمن إدراك المقصود منها. والثانية -وهي المطلوب بها موصوف- ضابطها: أن يصرح بالصفة وبالنسبة، ولا يصرح بالموصوف المطلوب النسبة إليه، ولكن يذكر مكانه صفة، أو أوصاف تختص به كما في قولك: "فلان صفا لي مجمع لبه" كناية عن قلبه؛ فقد صرح في هذه الكناية بالصفة، وهي "مجمع اللب"، وصرح بالنسبة، وهي إسناد الصفا إليها، ولم يصرح بالموصوف المطلوب نسبة الصفاء إليه، وهو "القلب"، ولكن ذكر مكانه وصف خاص به وهو "كونه مجمع اللب"، فإن القلب -كما يقولون- موضع العقل والتفكير. وهذه الكناية أيضا نوعان: الأول: ما يكون الكناية فيه معنى واحدا كما في المثال السابق: فلان صفا لي مجمع لبه؛ فمجمع اللب المكنى به عن القلب معنى واحد -كما ترى3- وكما في قول الشاعر:

_ 1 أو إلى أخذ اللبن منها, وتقديمه للضيفان. 2 هي التي تلاها ولدها أي: تبعها. 3 ويسمى هذا النوع من الكناية عند أصحاب العلوم العقلية "خاصة بسيطة" لعدم تركبها، ويسميه السكاكي "كناية قريبة" لا بالمعنى السابق, بل بمعنى سهولة المأخذ, وسرعة الانتقال فيها لبساطتها.

الضاربين بكل أبيض مخذم ... والطاعنين مجامع الأضغان1 يصف الشاعر قومه بالبسالة، وحسن البلاء في الحروب، وأن سيوفهم لا تعرف غير المقاتل جفونا، كنى بمجامع الأضغان، وهو معنى واحد عن القلوب. والمراد بوحدة المعنى ألا يكون من أجناس مختلفة، وإن كان مثنى أو جمعا فمجامع الأضغان في قول الشاعر السابق -وإن كان جمعا- هو معنى واحد من حيث إن مدلوله جنس واحد هو "القلوب" لا أجناس مختلفة، وكون القلب مجمع الضغن وصف خاص به، فلا يحل الضغن في غيره. الثاني: ما يكون الكناية فيه مجموع معانٍ مختلفة ضم بعضها إلى بعض؛ لتكون جملتها مختصة بالموصوف، فيتوصل بذكرها إليه كما يقال في الكناية عن الإنسان: زارني حي، مستوي القامة، عريض الأظفار، فالكناية مجموع هذه المعاني من الحياة، واستواء القامة، وعرض الأظفار، لا كل واحد منها، وهذه المعاني مجتمعة وصف خاص بالإنسان، لا يوجد في سواه2. والثالثة -وهي المطلوب بها نسبة3- ضابطها: أن يصرح بالموصوف والصفة، ولا يصرح بالنسبة بينهما، ولكن يذكر مكانها نسبة أخرى تستلزمها. وهذه النسبة إما أن تكون إثباتا أو نفيا؛ فمثالها في الإثبات قولهم: "المجد بين بردي محمد" كناية عن إثبات المجد له, فقد صرح في هذه الكناية بالموصوف، وهو "محمد".

_ 1 الأبيض: السيف, والمخذم كمنبر: القاطع, والأضغان: جمع ضغن وهو الحقد، وكل من الضاربين والطاعنين منصوب على المدح بقدرتهم على النكاية, والفتك بالأعداء. 2 ويسمى هذا النوع عند ذوي العلوم العقلية "خاصة مركبة"؛ لتركبها من جملة معانٍ مختلفة، ويسميه السكاكي كناية بمعنى صعوبة المأخذ, والانتقال فيها لتركبها من عدة أمور. 3 أي: إثبات أمر لأمر, أو نفيه عنه.

وصرح بالصفة، وهي "المجد"، ولكن لم يصرح بنسبة المجد إليه، وإنما ذكر مكانها نسبة المجد إلى برديه إثباتا، وهي تستلزم نسبة المجد إليه من حيث وجوده بين برديه الخاصين به، واستحالة قيام المجد بنفسه، ووجوب قيامه بمحل صالح. ومنه قول زياد بن الأعجم: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج1 فقد كنى عن إثبات هذه الثلاثة للممدوح بإثباتها لقبة ضربت عليه؛ لأنه إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبت له لما قلنا من استحالة قيام الأمر بنفسه, ووجوب قيامه بمحل صالح له. ومثالها في النفي قول الشنفرى يصف امرأة بالعفة والنزاهة: يبيت بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت فقد صرح بالموصوف، وهو الضمير في "بيتها" العائد على المرأة، وصرح بالصفة، وهي اللوم المنفي في قوله: "بمنجاة من اللوم" ولم يصرح بنسبة اللوم عنها، ولكن ذكر مكانها نسبة أخرى هي نفي اللوم عن بيت يحتويها، وهذا اللوم يستلزم نفي اللوم عنها2.

_ 1 هو عبد الله بن الحشرج كان أميرا على نيسابور, يدل على ذلك قوله: "في قبة" إذ يفهم منه أن الممدوح ممن تضرب له القباب, وذلك عنوان السيادة والإمارة. 2 قيل: قد يطلب بالكناية صفة، ونسبة معا كقولك: كثر الرماد في ساحة محمد, كناية عن صفة المضيافية وإثباتها لمحمد, وقد يطلب بها الصفة والنسبة والموصوف جميعا كما في قولك: كثر الرماد في ساحة حي مستوي القامة عريض الأظفار. ويحاب بأن ما ذكر ليس كناية واحدة, بل هو في المثال الأول كنايتان؛ إحداهما مطلوب بها صفة وهي كثرة الرماد كناية عن المضيافية، والثانية مطلوب بها نسبة المضيافية إلى محمد بواسطة نسبتها إلى ساحته, وفي المثال الثاني ثلاث كنايات، مطلوب بها صفة في كثرة الرماد، ومطلوب بها نسبة في إثباتها للساحة، ومطلوب بها موصوف في حي مستوي القامة عريض الأظفار.

تنبيه: قد يكون الموصوف بالكناية غير مذكور في الكلام, وذلك إذا كان المطلوب بالكناية صفة، أو نسبة صفة إلى موصوف. فمثال المطلوب بها صفة قولهم: "كثر الرماد في هذه الساحة", فإن كثرة الرماد كناية عن صفة المضيافية، وإيقاع الكثرة في الساحة كناية عن ثبوت هذه الصفة لصاحب الساحة، وهو لم يذكر في الكلام. ومثال المطلوب بها نسبة: قوله -صلى الله عليه وسلم- في شأن من يؤذي المسلمين: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" فهو كناية عن نسبة هي نفي1 صفة الإسلام عن المؤذي، وهو غير مذكور في الكلام. ووجه الكناية فيه أن مدلول الجملة في الحديث الشريف حصر الإسلام فيمن لا يؤذي المسلمين، ولا ينحصر فيه إلا بانتفائه عن المؤذي، فقد أطلق الملزوم، وهو حصر الإسلام فيمن لا يؤذي, وأريد اللازم، وهو انتفاء الإسلام عن المؤذي. أما الكناية المطلوبة بها موصوف, فلا يتصور إلا كونه غير مذكور؛ لأنه هو المطلوب بالكناية, وإلا فكيف يطلب حصول ما هو حاصل؟

_ 1 النسبة المكنى عنها هنا نفي الصفة, لا ثبوتها؛ لأن نسبة الصفة يكنى عنها مطلقا، ثبوتية كانت أو سلبية كما تقدم مثاله, وهي هنا سلبية؛ إذ هي سلب الإسلام عن المؤذي.

بحث للسكاكي في بعض أنواع الكناية

بحث للسكاكي في بعض أنواع الكناية: رأى السكاكي أن يسمي بعض أنواع الكناية بأسماء تختلف باختلاف الاعتبارات، فهي تتنوع عنده إلى أربعة أنواع: تعريض، وتلويح، ورمز، وإيماء أو إشارة. فالتعريض -لغة- خلاف التصريح، واصطلاحا: إمالة الكلام إلى عرض1 يدل على المقصود, أي: توجيه الكلام إلى جانب يفهم منه المعنى المراد. فلفظ الحديث السابق من قبيل التعريض إذا قصد منه شخص معين, إذ إن معناه الصريح حصر الإسلام في غير المؤذي، ويلزمه نفي الإسلام عن كل مؤذٍ، وهو المعنى الكنائي, فإذًا قصد به نفي الإسلام عن ذلك الشخص المعين المفهوم من سياق الكلام2. ومثله قولك لآخر: "لست بخائن, ولا مراءٍ" فهو كناية من قبيل التعريض بخيانة, ومراءاة من تخاطبه لقرينة أنه ممن اتسم بهاتين الرذيلتين. ومن مزايا التعريض أن تستطيع النيل من خصمك، والتنديد به بما لا يخرج عن دائرة الأدب، ولا يجعل له عليك سبيلا. ومما تقدم يعلم أن التعريض ليس من قبيل الحقيقة، ولا من المجاز, ولا من الكناية؛ لأن الحقيقة هي اللفظ المستعمل في معناه الأصلي، والمجاز هو اللفظ المستعمل في لازم معناه فقط، والكناية هي اللفظ المستعمل في اللازم, مع جواز إرادة الأصل. أما التعريض فهو أن يفهم من اللفظ معنى بالسياق أو القرائن، من غير أن يقصد استعمال اللفظ فيه3.

_ 1 العرض -بضم العين- الجانب والناحية, تقول: عرضت بفلان, إذا قلت قولا لغيره وأنت تعنيه, فقد أشرت بالكلام إلى جانب وأردت به جانبا آخر. 2 معنى هذا: أن اللفظ قد يستعمل في معنى مكنى عنه ليلوح به إلى معنى آخر بالقرائن, أو السياق كما في الحديث, فإن حصر الإسلام فيمن لا يؤذي يلزمه انتفاء الإسلام عن مطلق مؤذٍ, فإذا استعمل هذا اللفظ في هذا اللازم ولم يرد به شخص معين بالذات كان كناية, وإن كان ثم شخص معين موصوف بالإيذاء وقد قصد إليه بالكناية, كان الكلام تعريضا. 3 ذكر السكاكي أن التعريض قد يكون مجازا تارة، وكناية أخرى, كما تقول لآخر: آذيتني فستعرف, فإن مدلول هذا التركيب والمقصود منه تهديد المخاطب بسبب إيذائه إياه, وهذا المعنى يلزمه عرفا تهديد من كان مثل المخاطب في الإيذاء والضرر, فإن استعمل هذا التركيب في اللازم فقط وهو تهديد غير المخاطب لقرينة كون المخاطب صديقا مثلا ولعلاقة الاشتراك في الإيذاء ولو فرضا, كان هذا الكلام مجازا, وإن استعمل في اللازم والملزوم معا لقرينة عداوة تنتظم المخاطب وغيره, كان الكلام كناية, وفي هذا الكلام نظر يطول البحث فيه.

والتلويح: كناية كثرت فيها الوسائط بين اللازم, والملزوم كما سبق في نحو: فلان كثير الرماد, وفلان جبان الكلب، مهزول الفصيل، وكقولهم: "فلان كثير الإخوان" كناية عن حسن أخلاقه, فإن الذهن ينتقل أولا من كثرة الإخوان إلى سهولة خلقه، ومنها إلى أنسهم به، وارتياحهم إليه، ثم ينتقل من هذا إلى حسن معاشرته ومعاملته، ثم إلى حسن أخلاقه وطيب أعراقه. وسميت الكناية تلويحا؛ لأن التلويح -في الأصل- أن تشير إلى غيرك من بعد, وكثيرة الوسائط بعيدة الإدراك غالبا. والرمز: كناية عدمت فيها الوسائط, أو قلت مع خفاء اللزوم. فمثال ما عدمت فيه الواسطة قولهم: فلان عريض القفا, إذ إنهم يكنون بعرض القفا عن البله والبلادة, ومثله قولهم: فلان مكتنز اللحم، أو مفتول الذراعين كناية عن القوة. ومثال ما قلت فيه الواسطة قولهم: فلان عريض الوسادة, فهم يكنون بعرض الوسادة عن عرض القفا، ثم يكنون به عن البله والغباء. واللزوم فيما مثلنا خفي -كما ترى- يحتاج إلى نوع من التأمل، وسميت هذه الكناية "رمزا"؛ لأن الرمز -في الأصل- أن تشير إلى قريب منك خفية بنحو شفة أو حاجب, قال الشاعر: رمزت إلي مخافة من بعلها ... من غير أن تبدي هناك كلامها والإيماء أو الإشارة: كناية عدمت وسائطها أو قلت، مع وضوح اللزوم. فمثال ما عدمت فيه الواسطة قولك لآخر: "الحظ حليف الوفي" فتكني بمحالفة الحظ للوفي عن اتصافه بالوفاء. ومثال ما قلت فيه الواسطة قول البحتري:

أوما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول؟ 1 يقول: قد علمت أن المجد أقام بخيام آل طلحة، ولم يرحل عنها فقد أثبت المجد لخيام آل طلحة, إذ جعله مقيما بها وهو كناية عن إثبات المجد لهم من حيث إن المجد صفة لا بد من قيامها بمحل, والخيام لا تصلح محلا لها، واللزوم واضح في المثالين -كما ترى- وسميت هذه الكناية إشارة أو إيماء؛ لأن الإشارة -في الأصل- موضوعة للدلالة على محسوس وهو أمر ظاهر، ومثلها الإيماء. اختبار: 1- عرف الكناية لغة واصطلاحا، ثم بين محترزات التعريف، وهل هي من قبيل الحقيقة أو المجاز؟ بين ذلك بوضوح, مع التمثيل. 2- كيف صح جواز إرادة المعنى الأصلي في الكناية، مع استحالته في قولهم: المجد بين برديه؟ 3- هل بين المجاز والكناية فارق؟ وإذا كان, فما هو؟ وما رأي السكاكي في الفرق بينهما؟ وبم رد عليه فيما رأى؟ 4- اذكر أقسام الكناية باعتبار المكنى عنه، وضابط كل منها، مع التمثيل لكل ما تذكر. 5- قسم الكناية المطلوب بها صفة، وعرف كل قسم، ومثل له. 6- قسم الكناية المطلوب بها موصوف، مع التمثيل لكل قسم، ثم بين نوع الكناية في قول الشاعر: ودبت له في موطن الحلم علة ... لها كالصلال الرقش شر دبيب2

_ 1 إلقاء الرحل كناية عن الإقامة، والتحول: والارتحال، وقوله: "في آل طلحة" على تقدير مضاف أي: في خيام آل طلحة. 2 الصلال: جمع صل -بكسر الصاد- ضرب من الحيات لا نجاة من لدغه, والرقش: جمع رقشاء, وهي حية ذات نقط سود في بياض.

7- ما نوع الكناية في قولك لآخر عديم النفع: خير الناس من ينفعهم. 8- عرف التعريض، وهل هو من قبيل الحقيقة، أو من قبيل المجاز؟ مثل له من إنشائك، مع بيان المعنى الكنائي فيما تمثل به. 9- عرف التلويح، والإيماء، ومثل لكل بمثال، مع بيان المعنى الكنائي فيهما. 10- اذكر الفرق بين الرمز، والإيماء، ثم بين الرمز والتلويح، مع التمثيل. تمرين, وجوابه: وضح نوع الكناية فيما يأتي: 1- وكلبك آنس بالزائرين ... من الأم بابنتها الزائرة 2- لا يرفع الضيف عينا في منازلنا ... إلا إلى ضاحك منا ومبتسم 3- أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر 4- لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل1 5- فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير

_ 1 المقل: جمع مقلة, وهي العين جملة.

6- فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها1 ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد 7- وإذا الكريم أضاع مطلب أنفه ... أو عرسه لكريهة لم يغضب 8- لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل2 9- أبين فما يزرن سوى كريم ... وحسبك أن يزرن أبا سعيد3 10- ولما شربناها4 ودب دبيبها ... إلى موطن الأسرار قلت لها قفي 11- يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من حبه وهو أعجم 12- لست براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم5 13- خلق اللسان لنطقه وبيانه ... لا للسكوت وذاك حظ الأخرس 14- هو سمين رخو. 15- فلان يفترش الثرى, ويتوسد الجنادل. 16- فلان ملء إهابه الكرم. 17- {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} .

_ 1 النضل: حديدة السيف، يقول: أتبعت طعنة بطعنة, أخفيت بها حديدة السيف في القلب الذي هو موضع هذه الأشياء الثلاثة. 2 العوذ -بالضم- الإبل الحديثات النتاج, جمع: عائذ, كحائل وحول, والفصال جمع: فصيل, وهو ولد الناقة. 3 الضمير في أبين للإبل يقول: يكفيك من كل كريم أن تزور إبلك أبا سعيد أي: كل الصيد في جوف الفرا. 4 الضمير للخمر. 5 الوضم: كل ما قطع عليه اللحم.

جواب التمرين: 1- في البيت كناية يراد بها صفة الكرم، بيانه أن استئناس الكلب بالزائرين عنوان معرفته بهم؛ لأن الكلب لا يأنس إلا بمن يعرف، ومعرفته بهم دليل اتصال مشاهدته إياهم ليل نهار, وهذا دليل على أن دار الممدوح محطّ الرحال، وملتقى الآمال، وهذا يدل على ما أراده الشاعر من وفور إحسان الممدوح، وسعة جوده، وعموم أياديه, فقد بعدت المسافة بين أنس الكلب بالزائرين وإحسان الممدوح, فهي من الكنايات البعيدة المسماة "بالتلويح"، وكون الكلب آنس من الأم مبالغة في استئناسه بالزوار, وهو يقتضي المبالغة في وصف الممدوح بالإحسان. 2- في البيت كناية أريد بها نسبة الكرم إلى قومه وعشيرته, إذ يلزم من الضحك والابتسام في وجه الضيف الحفاوة به, وهذا يستلزم الكرم "إيماء" لقلة الوسائط، ووضوح اللزوم بين الابتسام والكرم. 3- في الشطر الثاني من البيت كناية يراد بها صفة هي طول الرقبة "إيماء"، بيانه أن بعد مهوى القرط يستلزم أن يكون العنق طويلا، وهي قريبة لعدم وجود الواسطة بين بعد المهوى وطول العنق, وواضحة لوضوح اللزوم بين المعنيين. 4- في الشطر الأول من البيت كناية يراد بها نسبة، هي إثبات المجد لهم "إيماء"، ذلك أن نزول المجد في منازلهم الخاصة بهم, مقصورا عليها لا يتعداها إلى غيرها, يستلزم ثبوت المجد لهم، وقصره عليهم, إذ إن المجد صفة لا يصلح قيامها بالجدران والحوائط، وليس في المنازل سواهم، فلزم أن تقوم الصفة بهم، وهي قريبة، وبينة اللزوم. 5- في الشطر الثاني من البيت كناية يراد بها نسبة، هي ثبوت المجد للممدوح "إيماء"، ذلك أن حلول المجد بكل مكان يستلزم

ثبوت المجد له؛ لأن المجد -كما قلنا- وصف لا يصلح قيامه بالأماكن، فلزم ثبوته له, وقيامه به, وهي قريبة واضحة. 6- في الشطر الثاني من البيت كناية يراد بها موصوف هو "القلب"؛ لأن القلب موطن للأشياء الثلاثة المذكورة، وكونه موطنا لها وصف خاص به، فصح أن يكون كناية عنه. 7- في الشطر الأول كناية يراد بها موصوف هو "الفرج", بيانه أن الجنين -على ما يقال- إذا أتمّ أيامه في الرحم، وأراد الخروج منه طلب بأنفه الموضع الذي يخرج منه؛ فقد كنى الشاعر بمطلب أنفه عن فرج الأم؛ لأنه وصف خاص به. يريد أن يقول: إن الرجل الذي لا يحمي عرض أمه، ولا امرأته لا يغضب بعد ذلك من شيء؛ لأنهما محكّ الغيرة ومثارها. 8- في البيت كنايتان بعيدتان يراد بهما صفة هي "الجود", ذلك أن حرمانه العوذ من أن ترى فصالها، وتمتع بها يدل على أنه ينحرها ولا يبقيها، وهذا يدل على كثرة القرى الدال على وفرة الجود، وأن ابتياعه لما قرب أجلها يدل على أنها لا تبيت عنده حية، ومعنى هذا أنه ينحرها، وهذا يدل على كثرة القرى الدالة على أنه مضياف كريم. 9- في الشطر الثاني من البيت كناية يراد بها صفة, هي كرم أبي سعيد "إيماء", والكناية واضحة من قوله: "وحسبك أن يزرن أبا سعيد" مع ما يفيده صدر البيت من أن الإبل أبت إلا أن تولي وجهها شطر الكريم. 10- في البيت كناية يراد بها موصوف هو "القلوب", إذ هي من الناس مواضع أسرارهم, وهي معنى واحد وإن تعددت؛ لأن مدلولها متحدّ الجنس. 11- في البيت كناية يراد بها صفة الكرم, على نحو ما قيل في البيت الأول من هذا التمرين, فإن حب الكلب للضيف حتى إنه ليكاد

يكلمه دليل شدة معرفته به, وهذا يدل على كثرة مشاهدته إياه لكثرة الوسائط فيها. 12- في البيت كناية, يعرض فيها الحجاج بأن من يخاطبهم من رعاة الإبل والغنم، أو من الجزارين, فهي كناية يراد بها نسبة الحقارة لهؤلاء. 13- في البيت تعريض أيضا بأن المخاطب عيي غبي, فهو كناية يراد بها نسبة العي للمخاطب. 14- فيه كناية عن صفة الكسل، وفقدان النشاط "إيماء", ذلك أن بدانة الجسم، ورخاوته تستدعيان "عادة" الرغبة عن العمل، والزهادة فيه، وهذا هو عين الكسل, والكناية فيه قريبة واضحة؛ لوضوح اللزوم بين البدانة والكسل. 15- فيه كناية يراد بها صفة هي الفقر "إيماء"؛ لأن افتراش الثرى، وتوسد الجنادل دليل فقدان ما يفترش ويتوسد، وهذا عنوان ضيق ذات اليد, فهي كناية قريبة، واضحة اللزوم. 16- فيه كناية يراد بها نسبة الكرم إلى الممدوح؛ لأن الكرم صفة لا يصلح إهاب الممدوح وعاء لها، فلزم ثبوت الكرم لذي الإهاب. 17- فيه كناية يراد بها موصوف هو "السفينة"؛ لأن مجموع الأمرين المذكورين -وهما الألواح والدسر مشدودا أحدهما بالآخر- وصف خاص بالسفينة. تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق: تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو ... ق إليها والشوق حيث النحول بنى المجد بيتا فاستقرت عماده ... علينا فأعيا الناس أن يتحولا

ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجاب الناس أصبعا أحن إلى ما يضمن الخمر والحلي ... وأصدف عما في ضمان المآزر1 نصبوا بقارعة الطريق خيامهم ... يتسابقون على قِرى الضيفان ويكاد موقدهم يجود بنفسه ... حب2 القِرى حطبا على النيران رميتهم ببحر من حديد ... له في البر خلفهم عباب فمساهم وبسطهم3 حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب فلان لا يضع العصا عن عاتقه. لبس الدهر لهم جلد النمر. {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} . فلان رحب الصدر، قوي الظهر. فلان طاهر الذيل. روي أن امرأة وقفت على قيس بن سعد4، فقالت: أشكو إليك قلة الفأر في بيتي، فقال: ما أحسن ما روت عن حاجتها! املئوا بيتها خبزا ولحما وسمنا، ويروى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك، فقالت: يا أمير المؤمنين, مشت جرذان بيتي على العصا، فقال لها: ألطفت في السؤال, لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود، وملأ بيتها حبا, إلى غير ذلك من لطائف الكنايات، وطرائف العبارات، ذات المعاني الخفية الرائعة.

_ 1 الخمر -بضم الخاء وسكون الميم, أو ضمها- جمع خمار -بالكسر- وهو ما تستر به المرأة وجهها، وأصدف على زنة أضرب بمعنى: أعرض، والمآزر: جمع مئزر, وهو الملحفة. 2 مفعول لأجله أي: لأجل الحب. 3 جمع بساط, وسكنت سينه للضرورة. 4 من سادات العرب, وأجاويدهم.

خاتمة

خاتمة: أطبق علماء هذا الفن على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وأن الكناية أبلغ من التصريح1، وأن الاستعارة أبلغ من التشبيه، ومن المجاز المرسل، والكناية. أما وجه الأبلغية في المجاز والكناية؛ فلأن الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم2, فهما كدعوى الشيء ببينة3، ذلك أنك حين تقول متجوزا: "رأيت أسدا على المنبر" إنما تريد أن تقول: رأيت رجلا مقداما على المنبر, وهذه دعوى قام عليها دليلها هو إثبات معنى الأسد له, إذ يلزم من كونه أسدا أن يكون مقداما جريئا للزوم الإقدام والجرأة للأسد، وأنك حين تقول مكنيا: محمد طويل, النجاد إنما تريد أن تقول: محمد طويل القامة، وهي أيضا دعوى قام عليها دليلها هو اتصافه بطول النجاد, إذ يلزم من كونه طويل النجاد أن يكون طويل القامة، وكأنك قلت في الأول: رأيت مقداما على المنبر لأنه أسد، وقلت في الثاني: محمد طويل القامة لأنه طويل النجاد. أما الحقيقة في نحو: "رأيت رجلا مقداما على المنبر"، والتصريح في نحو: "محمد طويل القامة" فدعويان لم يقم عليهما

_ 1 المراد بالأبلغية هنا الأفضلية في الحسن والقبول, وإنما قلنا ذلك؛ لأن الكناية كلمة مفردة، وأن المجاز قد يكون مفردا, وقد سبق أن البلاغة لا يوصف بها المفرد. 2 أي: فلا يفهم المعنى المراد منهما من اللفظ نفسه، بل بواسطة الانتقال من الملزوم إلى اللازم, فلا يفهم معنى الشجاع من ذات قولك: رأيت أسدا على فرس، بل بواسطة الانتقال من معنى الحيوان المفترس إلى لازمه وهو الشجاع. كذلك لا يفهم معنى طول القامة من ذات قولك: فلان طويل النجاد، بل بواسطة الانتقال من طول النجاد إلى لازمه الذي هو طول القامة. 3 وجه كونهما كالدعوى بالبينة: أن تقرر الملزوم يستلزم تقرر اللازم؛ لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم, فصار تقرر الملزوم مشعرا باللازم.

دليل, وما كان مؤيدا بدليل أبلغ وآكد مما لم يدعم بدليل، فثبت أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة التصريح. ووجه أبلغية الاستعارة على التشبيه هو أن الاستعارة نوع من المجاز، مبني على دعوى اتحاد المشبه والمشبه به، والتشبيه نوع من الحقيقة بناء على القول الراجح, وقد ثبت أن المجاز أبلغ من الحقيقة، على ما بينا. ووجه أبلغيتها على المجاز المرسل ما فيها من دعوى الاتحاد لفظا ومعنى؛ أما لفظا فلإطلاق لفظ المشبه به على المشبه، وأما معنى فلإدخال المشبه في جنس المشبه به، واعتباره فردا من أفراده، بخلاف المجاز المرسل نحو: أمطرت السماء نباتا، فإن فيه دعوى الاتحاد لفظا فقط من حيث إطلاق اللفظ على المعنى الثاني. أما الاتحاد في المعنى فغير موجود فيه, إذ ليس بين المعنيين "كالماء والنبات" في المثال المذكور تشابه ما حتى يدعى اتحادهما. ووجه أبلغيتها على الكناية من جهتين: "الأولى": أن في الاستعارة جمعا بين كناية واستعارة من حيث إن فيها انتقالا من الملزوم "كالأسد" إلى اللازم "كالشجاع"، كما ينتقل في الكناية من "طول النجاد" مثلا إلى طول القامة، ومن حيث إن فيها استعمال اللفظ في غير المعنى الموضوع له لعلاقة المشابهة. "الثانية": أنها مجاز قطعا بخلاف الكناية, ففي مجازيتها خلاف بين علماء البلاغة مبسوط في محله، فارجع إليه إن شئت. تنبيه: ليس معنى الأبلغية في هذه الثلاثة أنها تفيد زيادة في أصل المعنى، لا يفيدها غيرها, إنما المراد أنها تفيد تأكيدا لإثبات المعنى لا يوجد في سواها.

فليست فضيلة قولنا: "رأيت قمرا" على قولنا: رأيت وجها لا يتميز عن القمر في إشراقه, وبهائه من حيث إن الأول أفاد زيادة في مساواة الوجه للقمر في إشراقه لم يفدها الثاني, إذ إن التركيبين في إفادة هذا المعنى سواء. إنما مزية الأول على الثاني من حيث إن الأول أفاد تأكيدا وتقريرا لإثبات معنى المساواة، دون الثاني؛ لما في التركيب الأول من دعوى الاتحاد، والتعبير عن المشبه بلفظ المشبه به، ودلالة دعوى الاتحاد على معنى المساواة كما في التركيب الأول أبلغ من التنصيص على المساواة كما في التركيب الثاني. كذلك ليست فضيلة قولنا: "محمد طويل النجاد" على قولنا: محمد طويل القامة, من جهة أن التركيب الأول أفاد زيادة في معنى الطول لم يفدها الثاني, فالتركيبان في ذلك سواء, إنما ميزة الأول على الثاني من ناحية أن الأول أفاد تأكيدا, وتقريرا لإثبات معنى الطول دون الثاني؛ لما في التركيب الأول من الدعوى المستندة إلى دليل -كما بينا سابقا- ودلالة دعوى "الشيء" مؤيدة بدليل كما في التركيب الأول أبلغ من التنصيص عليه, غفلا عن الدليل كما في التركيب الثاني, يدرك ذلك صاحب الذوق السليم ا. هـ. هذا, والاستعارة التمثيلية أبلغ أنواع الاستعارة؛ لأنها إنما تكون في الهيئات المنتزعة من أمور متعددة, فهي كثيرة الاعتبارات والملاحظات، لا يوفق فيها إلا من أوتي حسن روية، وبعد نظر. ويليها في الأبلغية الاستعارة المكنية؛ لاشتمالها على المجاز العقلي في قرينتها, أما التصريحية ففي المرتبة الثالثة. نموذج في التطبيق على جميع ما مر من قواعد علم البيان: وفي يده الصمصام تحكي شباته ... نواجذ أفواه المنايا القواضب1

_ 1 الصمصام والصمصامة: السيف لا ينثني, وشباته: حده، والنواجذ: الأضراس والأنياب مفرده ناجذة، والقواضب: القواطع.

الجواب: شبه الشاعر حد الحسام المرهف بنواجذ المنايا, ووجه الشبه المضاء والنفاذ، وهو أمر عقلي، والطرفان حسيان، وأداة التشبيه قوله: "تحكي"، وهي من الأدوات التي يليها المشبه، والتشبيه تحقيقي؛ لأن الوجه محقق في الطرفين وهو غير تشبيه تمثيل؛ لأن الوجه شيء واحد، لا مركب، وهو مفصل لحذف وجه التشبيه، ومرسل لذكر الأداة، والغرض بيان مقدار حال المشبه، وأنه بلغ من قوة مضائه ونفاذه بحيث لا يرد له حكم. وفي "المنايا" استعارة بالكناية؛ شبهت المنايا بالسبع بجامع الاغتيال، واستعير لفظ المشبه به للمشبه، ثم حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو "نواجذ" على سبيل الاستعارة المكنية، ولفظ "أفواه" ترشيح لملاءمته للمشبه به الذي هو المستعار منه، وهي أصلية؛ لأن اللفظ المستعار اسم جنس، وقرينتها إثبات النواجذ للمنايا، وهذا الاثبات استعارة تخييلية. ودونك القياس على ذلك فيما يأتي من الأبيات: كأن عيون النرجس الغض حولنا ... مداهن در حشوهن عقيق هرب النوم عن جفوني فيها ... هرب الأمن عن فؤاد الجبان سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا ازرع جميلا ولو في غير موضعه ... فلا يضيع جميل أينما زرعا إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا ونار لو نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد

والبدر في أفق السماء كغادة ... بيضاء لاحت في ثياب حداد حتى بدا وجه الصباح كأنه ... وجه الحبيب أتى بلا ميعاد تمرينات: بين أنواع التشبيه، والمجاز المرسل والاستعارة والكناية فيما يأتي: قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} ، {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . ألفاظ كغمزات الألحاظ، ومعانٍ كما تنفست الأسحار. ذم إنسان آخر فقال: كأن وجهه أيام المصائب، وليالي النوائب، يا عجبا من جسم كالخيال، وروح كالجبال. القضاة دعائم العدل، وبأيديهم أزمة الفصل والفضل. قال الحريري: لبثنا في الانتظار إلى أن هرم النهار، وكاد جرف الليل ينهار. زارنا فكأنه مطر الربيع، ونزل بساحة الوغى فكان كأسد خفان، وفاه بلفظ كالدر المنظوم، وبدا بوجه كفلق الصبح، أو كصفحة القمر. والظل في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فيسقط له راحة ينهل جودا بنانها ... ووجه إذا قابلته يتهلل إذا أنشب الدهر ظفرا ونابا ... وصال على الحر منا ونابا صبرنا ولم نشك أحداثه ... لأنا نعاف التشكي ونابى1

_ 1 أصله نأبى, سهلت همزته.

وقفت وما بالموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم المرء مثل هلال حين تبصره ... يبدو ضئيلا ضعيفا ثم يتسق يزداد حتى إذا ما تم أعقبه ... كر الجديدين نقصا ثم ينمحق أنا نار في مرتقى نظر الحا ... سد ماء جار مع الأخواز بنفسج جمعت أوراقه فحكى ... كحلا تشرب دمعا يوم تشتيت كأنه وضعاف القضب تحمله ... أوائل النار في أطراف كبريت وقيل في وصف السماء: بساط زمرد بسطت عليه ... دنانير تخالطها دراهم ونهر المجرة يجري في سندسها، ويسري ليسقي ذوابل نرجسها, فبينما أسرح في درر الدراري نظري، وأروض في رياضها جواد فكري, إذ هبّ نسيم السحر يروي عن أهل نجد أطيب الخبر، ثم تبسم الفجر ضاحكا، واقتنص بازي الضوء غراب الظلام، وفضّ كافور النور مسك الختام. تم وضع هذا الكتاب عصر يوم السبت 28 شوال سنة 1366هـ, الموافق 13 سبتمبر سنة 1947م, فنرجو أن يكون قد رافقه بعض التوفيق في تأليفه وتنسيقه، وفي أسئلته وتطبيقه, ونحمده -جل شأنه- ونسأله أن ينفع به سؤال معترف بالعجز لقادر, بعونه وتوفيقه تتم الصالحات.

أسئلة وامتحانات رسمية

أسئلة وامتحانات رسمية: نصوص امتحانات سابقة: امتحان النقل من السنة الثالثة الثانوية، الدور الأول لسنة 1360 الدراسية: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان 1- اشرح المراد من كون التشبيه تمثيلا أو غير تمثيل, واذكر خلاف السكاكي في ذلك, ثم بين متى يكون التشبيه مفصلا، ومتى يكون مجملا, مع بيان أنواع المجمل، ومثل لكل ما تقول. 2- عرف الاستعارة، وقسمها باعتبار اللفظ المستعار، وبين المراد بكونها تحقيقية مع التمثيل لكل ذلك، ثم اشرح وجه مفارقتها للكذب، وبين متى يصح جريانها في علم الشخص, ومتى يمتنع جريانها فيه مع التمثيل. 3- افرق بين المجاز المفرد والمركب، ثم بين هل انقسام المفرد إلى مرسل، واستعارة خاص به, أو جارٍ في المركب كذلك، ووجه ما تقول مع التمثيل. التطبيق: أ- بين وجه الشبه, والغرض من التشبيه فيما يأتي: 1- {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} . 2- الحسد يأكل الحسنات, كما تأكل النار الحطب. 3- والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا ب- هات مثالا لكل واحد مما يأتي: تشبيه وجهه من بديع المركب الحسي, تشبيه مبتذل تصرف فيه بما أخرجه إلى الغرابة, مجار مرسل علاقته المسببية، استعارة اجتمع فيها الترشيح والتجريد، استعارة تبعية مدار قرينتها على المفعول.

جـ- بين نوع الاستعارة فيما يأتي: 1- أنفقت عمري في رضاك. 2- "وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر" 3- قصر تعانق شرفاته السحاب. د- بين نوع الكناية في كل مما يأتي: 1- قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} . 2- قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} . 3- قولهم في المديح: "فلان ساكن الريح". 4- ولما شربناها ودبّ دبيبها ... إلى موطن الأسرار قلت لها قفي 5- إذا كنت مرتاد السماحة والندى ... فسائل تخبر عن ديار الأشاهب امتحان النقل من السنة الثالثة الثانوية، الدور الثاني، لسنة 1360 الدراسية: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان 1- افرق بين التشبيه المبتذل والغريب، وفصل القول في أسباب الابتذال والغرابة، وما معنى التفصيل في وجه الشبه، وما أحسن وجوهه، مع التمثيل لكل ما تذكر؟ 2- اختلف علماء البيان في أن الاستعارة مجاز عقلي أو لغوي، فاشرح هذا الخلاف، واذكر أدلة كل من الطرفين، مع توجيه اختيار المصنف. 3- عرف كلا مما يأتي، مع التمثيل: الاعتبار المناسب، الحال، الكناية، المجاز بالحذف، الترشيح، التجريد. التطبيق: أ- بين الغرض من التشبيه، ووجهه، وأداته فيما يأتي: 1- {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} . 2- الإمام العادل ظل الله في أرضه. 3- كأن سهيلا والنجوم وراءه ... صفوف صلاة قام فيها إمامها

4- قولهم في ذم الشخص: إنه مثل السراب، يغر من رآه، ويخلف من رجاه. ب- مثل لكل واحد مما يأتي: تشبيه مجمل فيه وصف المشبه به فقط، تشبيه الغرض منه إظهار المطلوب، استعارة تمثيلية، استعارة تبعية ثم يحول مثالها إلى استعارة أصلية، مجاز مرسل علاقته الجزئية. جـ- بين نوع المجاز، والاستعارة، والكناية فيما يأتي: 1- {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} . 2- قال أعرابي: دخلت البصرة, فإذا ثياب أحرار على أجسام عبيد. 3- وقد أغتدى والليل يبكي تأسفا ... على نفسه والنجم للغرب ماثل 4- يا كوكبا ما كان أقصر عمره ... وكذاك عمر كواكب الأسحار 5- أتتني لسان فكذبتها ... وما كنت أرهبها أن تقالا امتحان النقل من السنة الثالثة الثانوية، الدور الأول، لسنة 1361 الدراسية: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان 1- اذكر أقسام الاستعارة باعتبار الجامع, ومثل لكل قسم، ولأي قسم منها مثل المصنف بالحديث الشريف: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه, كلما سمع هيعة طار إليها"؟ وما الذي أورده الشارح عليه؟ ثم أجر الاستعارة في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} . 2- تكلم عن أربعة أغراض من أغراض التشبيه تعود إلى المشبه, مبينا في كل غرض منها حال وجه الشبه في الطرفين, مع توضيح ذلك بالمثال. 3- اشرح معنى الاستعارة المكنية على رأي الجمهور من البلاغيين، وهل يشملها معنى المجاز اللغوي على هذا الرأي؟ وضح ذلك في قول

زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله التطبيق: أ- مثل لما يأتي: تشبيه مقيد الطرفين، تشبيه قريب أخرجه شرط فيه إلى الغرابة, تشبيه قيد أحد طرفيه، تشبيه تمثيل على مذهب السكاكي فيه، مجاز مرسل علاقته ما يئول إليه، استعارة مكنية مرشحة. ب- ما الذي أخلّ بفصاحة الأمثلة الآتية: 1- قول المتنبي: جفخت وهم لا يجفخون بهابهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل 2- قول حسان: ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما 3- قول أبي تمام: جذبت نواه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعا بين أيدي القصائد جـ- بين نوع الكناية في قول أبي نواس: يشير إليك الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين ينظر امتحان النقل من السنة الثالثة الثانوية لسنة 1362هـ الدراسية: البلاغة الدور الأول "الزمن: ساعتان" 1- اذكر الفرق بين التعقيد اللفظي والمعنوي, ومثل لهما وبين وجه إخلالهما بالفصاحة, وكيف ترد على من زعم أن ذكر ضعف التأليف يغني عن التعقيد اللفظي؟ 2- علام استشهد المصنف بقول الشاعر: كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت ثم بين المشبه والمشبه به ووجه الشبه في المثال. 3- اذكر أقسام التشبيه باعتبار طرفيه إفرادا وتركيبا, ومثل لكل قسم.

4- التطبيق: أ- مثل للآتي: تشبيه ملفوف. مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان. استعارة تمثيلية. ب- بين ما الذي أخلّ بالفصاحة في الآتي, مع التوجيه: قال الشاعر: إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... بنشر وتكثير الوشاة قمين وقال آخر: وشوه ترقيش المرقش رقشة ... فأشياعه يشكونه ومعاشره امتحان النقل من السنة الثالثة الثانوية "الدور الثاني" لسنة 1362-1363هـ الدراسية: البلاغة "الزمن: ساعتان" 1- يقول المصنف: "وارتفاع شأن الكلام في الحسن, والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب وانحطاطه بعدمها, فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب". اشرح هذه العبارة شرحا وافيا, وبين المراد من الاعتبار المناسب والمراد من الكلام والمراد من الحسن. 2- عرف تشبيه التمثيل, ومثل له, وبماذا قيده السكاكي؟ وافرق بين مذهبه وبين مذهب الجمهور, مع التمثيل. 3- اشرح معنى الاستعارة الوفاقية والعنادية, ومثل لهما, ثم بين تحت أيهما تدخل الاستعارة التهكمية, ووجه ما تقول مع التمثيل. التطبيق: أ- هات أمثلة لما يأتي: كناية أريد بها صفة. مجاز مرسل علاقته الحالية. استعارة تبعية، تشبيه ضمني، مجاز مركب، تكرار أخل بالفصاحة. ب- في الحديث والبيت الآتيين مجاز وكناية, فبين نوع المجاز واذكر علاقته, ووضح الكناية وبين نوعها:

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لزوجاته الطاهرات: $"أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا". وقال الشاعر: ولما شربناها ودبّ دبيبها ... إلى موطن الأسرار قلت لها قفي امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول، لسنة 1363 الدراسية: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- اشرح المعاني الاصطلاحية للألفاظ الآتية, مع التمثيل: التعقيد المعنوي، ضعف التأليف، تنافر الحروف, مقتضى الحال، المقام. وهل يغني ضعف التأليف عن التعقيد اللفظي في تحقيق معنى فصاحة الكلام؟ ولماذا؟ 2- قد يكون وجه الشبه مركبا حسيا, فما أنواع طرفي التشبيه حينئذ؟ اشرح ذلك مع التمثيل لكل نوع، ثم بين في مثال معنى التركيب في الوجه والطرفين، ولهذا الوجه أنواع بديعة، فصل القول في تلك الأنواع مع التمثيل. 3- قيل: إن الاستعارة من قبيل المجاز اللغوي, فما وجه ذلك؟ ثم بين بأي شيء تفارق الاستعارة الكذب، وهل تجري الاستعارة في علم الشخص؟ ولماذا؟ مثل لما تذكر. التطبيق: 1- مثل لما يأتي: تشبيه ملفوف، استعارة مكنية مرشحة, تشبيه مبتذل خرج إلى الغرابة، مجاز مرسل علاقته الإطلاق والتقييد. 2- بين أركان التشبيه، ونوع وجهه، وطرفيه, باعتبار التركيب والإفراد فيما يأتي:

قال عدي بن الرقاع يصف ظبية: تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها وقال آخر: تبني سنابكها من فوق أرؤسهم ... سقفا كواكبه البيض المباشير امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الثاني لسنة 1363 الدراسية: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- افرق بين التعقيد المعنوي واللفظي مع التمثيل، وبماذا ترد على من اشترط في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار وتتابع الإضافات؟ وما ضابط التنافر المخل بفصاحة الكلمة؟ وما وجه الغرابة في كلمة "مسرج" في قول العجاج: وفاحما ومرسنا مسرجا؟ وما معنى مطابقة الكلام لمقتضى الحال؟ مثل لما تقول. 2- اذكر معنى التشبيه القريب المبتذل، والتشبيه البعيد الغريب، وبين الأسباب التي يكون بها التشبيه قريبا، والأسباب التي يكون بها بعيدا، ومن أي النوعين التشبيه البليغ؟ وما وجه ذلك؟ ومتى يكون البعيد الغريب حسنا؟ وضح ما تذكر بالمثال. 3- بين معنى الاستعارة الوفاقية، والعنادية، ومن أي النوعين الاستعارة التهكمية، ثم اذكر معنى الاستعارة الغريبة، مع التمثيل, وعلى أي شيء استشهد المصنف بقول الشاعر: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح مع بيان وجه الاستشهاد في البيت. التطبيق: 1- مثل لما يأتي: تشبيه تمثيل، مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان، كلام أخلّ

بفصاحته التعقيد اللفظي، كلام مطابق لمقتضى ظاهر الحال. 2- بين نوع التشبيه باعتبار حسية الطرفين أو عقليتهما، والغرض منه، وأجر الاستعارة في قول معن بن أوس يعاتب ابن عمه: فما زلت في ليني له وتعطفي ... عليه كما تحنو على الولد الأم وخفض له مني الجناح تآلفا ... لتدنيه مني القرابة والرحم امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1364 الدراسية: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- تكلم على أربعة أغراض من أغراض التشبيه تعود إلى المشبه, مبينا في كل غرض منها حال وجه الشبه في الطرفين، مع توضيح ذلك بالمثال. 2- اذكر أقسام التشبيه باعتبار الطرفين إفرادا وتركيبا, ممثلا لكل قسم منها، وافرق بين التشبيه المركب والمتعدد. 3- اذكر المراد من دخول الجامع في طرفي الاستعارة وعدم دخوله فيهما، مع التمثيل لكل منهما، وبين لأي قسم منهما مثل المصنف بالحديث الشريف: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه, كلما سمع هيعة طار إليها" وما الذي أورده الشارح عليه؟ ثم أجر الاستعارة في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} . التطبيق: 1- ما الذي أخل بفصاحة الأمثلة الآتية: قال الشاعر: جفخت وهم لا يجفخون بهابهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل

وقال الآخر: جذبت نداه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعا بين أيدي القصائد وقال الآخر: ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما 2- مثل لما يأتي: تشبيه قريب أخرجه شرط فيه إلى الغرابة، تشبيه تمثيل على مذهب السكاكي، استعارة مكنية مرشحة، مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يئول إليه. 3- بين نوع الكناية في البيت الآتي: يشير إليك الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين تنظر امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الثاني لسنة 1364 الدراسية: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- عرف البلاغة في الكلام، واشرح التعريف, مبينا معنى المطابقة، والحال، وبين الخلاف في مقتضى الحال، وهل يختلف معنى الحال باختلاف معنى المقتضى والمطابقة؟ وضح لما تقول بالمثال. 2- اشرح معنى اشتراك الطرفين في وجه الشبه تحقيقا, أو تخييلا مع التمثيل لما تقول، ثم بين وجه الشبه في قولهم: "النحو في الكلام كالملح في الطعام". 3- اشرح تعريف المجاز المركب، وبين هل يقع في غير الاستعارة؟ وبأي شيء يمتاز عن التشبيه التمثيلي؟ مع توضيح ما تقول بالمثال. التطبيق: 1- بين نوع الاستعارة في المثالين الآتيين, وأجرها فيهما: رأيت اليوم عمرو بن العاص يستعرض جيش مصر. قولهم في المثل: "بيدي لا بيد عمرو".

2- بين وجه الشبه, والغرض من التشبيه في الأمثلة الآتية: قال الله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} . وقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". وقال الشاعر: والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا 3- هات أمثلة لما يأتي: تشبيه مفروق، تشبيه تعدد فيه وجه الشبه، استعارة تمثيلية، تعقيد معنوي، كناية أريد بها صفة، مجاز مرسل مركب. امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1365 الدراسية: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- فصل القول في بيان الأمور التي إذا خلص منها الكلام كان فصيحا مع التمثيل. 2- بين معنى التشبيه المشروط، ومثل له، ولماذا سمي بذلك؟ وتحت أي أنواع التشبيه يندرج؟ ولماذا ومتى يكون التشبيه الغريب بليغا؟ وما أعلى مراتب التشبيه في المبالغة؟ ولماذا؟ 3- اشرح مذهب الجمهور في الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية, وهل بينهما تلازم على هذا المذهب؟ ولماذا؟ وما وجه تسمية التخييلية استعارة عندهم؟ ثم بين طريقة إجراء الاستعارة على مذهبهم في مثال.

التطبيق: 1- مثل لما يأتي: تشبيه تمثيل، استعارة تبعية في اللام، كناية أريد بها صفة، مجاز مرسل علاقته الجزئية. 2- بين نوع المجاز, وقرينته فيما يلي: خير الناس من يبني دينه, ولا يهدم دنياه. شراء النفوس بالإحسان خير من بيعها بالعدوان. 3- بين نوع التشبيه, والغرض منه في قول الشاعر: تحسنت الدنيا بوجه خليفة ... هو الصبح إلى أنه الدهر مسفر امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1366 الدراسية: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- فصل القول في بلاغة الكلام، وبين تفاوت مراتبه, ووضح منشأ هذا التفاوت، وعرف الاعتبار المناسب, وهل هو غير مقتضى الحال؟ وجه ما تقول. 2- وضح التشبيه الذي يكون وجه الشبه فيه مركبا حسيا، واذكر أقسامه مع التمثيل, وبين البديع الغريب منه بمثال تشرح فيه وجه الغرابة, وما المراد بالتركيب؟ 3- اذكر أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين, وبين وجه ذلك التقسيم ووضحه بالتمثيل, واشرح ما تكون به الاستعارة خاصية مع التمثيل. التطبيق: 1- أ- بين التشبيه, والغرض منه في قول المتنبي: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال ب- من أي أقسام الاستعارة قوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ؟ وضح طريقة إجراء تلك الاستعارة.

2- مثل لما يأتي: مجاز علاقته السببية، استعارة مطلقة، كناية عن نسبة، استعارة تمثيلية. 3- تكلم من علم البيان على ما يأتي: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} . وذي رحم قلمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الثاني لسنة 1366 الدراسية: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- بين التنافر في الكلمة, واذكر ضابطه, واشرح الغرابة المخلة بفصاحة الكلمة مع التمثيل. 2- اذكر أغراض التشبيه, موضحا كلا منها بمثال. 3- قسم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار, باسطا القول في دليل التبعية, وأجرها في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} , وبين العلم الذي تجري فيه الاستعارة, ونوعها. التطبيق: 1- مثل لما يأتي: تشبيه مشروط، مجاز مرسل علاقته الكلية، استعارة بالكناية، كناية عن موصوف. 2- تكلم عن علم البيان, عما يأتي: بيض صنائعنا سود وقائعنا ... ناسو بأموالنا آثار أيدينا وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري 3- بين نوع التشبيه, ووجه الشبه فيما يأتي: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا ظهرت لم يبد فيهن كوكب

امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1368هـ "1949م" البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- اشرح التعقيد، واذكر سببه مع التمثيل، وبماذا ترد على من اشترط في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار وتتابع الإضافات؟ ولم كان كل بليغ فصيحا دون العكس؟ 2- عرف وجه الشبه, وبين التحقيقي منه والتخييلي مع التمثيل، واذكر الفرق بين وجه الشبه المركب ووجه الشبه المتعدد، وبين لم وجب أن يكون الطرفان حسيين إذا كان الوجه حسيا؟ ولم كان وجه الشبه العقلي أعم؟ ولم لا يجوز أن يكون وجه الشبه في قولهم: "النحو في الكلام كالملح في الطعام" كون القليل مصلحا والكثير مفسدا؟ وما وجه الشبه إذًا في قولهم هذا؟ 3- بين الفرق بين الاستعارة والمجاز المرسل، واذكر مثالا فيه لفظ يصح أن يكون استعارة, وأن يكون مجازا مرسلا بحسب القصد مع بيان العلاقة إذا جعلته استعارة والعلاقة إذا جعلته مجازا مرسلا، ومثل للاستعارة التي معناها متحقق حسا والاستعارة التي معناها متحقق عقلا، وبين الاستعارة في قول الشاعر: "وسالت بأعناق المطي الأباطح" واذكر ما أفادها اللطف والغرابة. التطبيق: 1- بين ما في هذه الأبيات من البيان: قال بشار: وكأن رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا حوراء إن نظرت إليـ ... ـك سقتك بالعينين خمرا وتخال ما جمعت عليـ ... ـه ثيابها ذهابا وعطرا 2- مثل لما يأتي من إنشائك: كناية عن نسبة، مجاز مرسل علاقته الجزئية، استعارة مرشحة.

امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الثاني لسنة 1368هـ، 1949م: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- بين مخالفة القياس وضعف التأليف, ومثل لهما, واشرح تنافر الكلمات, ومثل له بمثالين أحدهما أشد تنافرا من الآخر. 2- قسم التشبيه باعتبار الطرفين من حيث الإفراد والتركيب مع التمثيل لكل قسم، وبين التشبيه المجمل والمفصل مع التمثيل. 3- اشرح رأي الخطيب والجمهور في الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية, وأجر الاستعارة بالكناية على رأيهما, مبينا قرينتها في قول زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله التطبيق: 1- بين ما في الأبيات من البيان: قال أبو تمام يعاتب أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي: إذا ما الحاجة انبعثت يداها ... جعلت المنع منك لها عقالا فأين قصائد لي فيك تأبى ... وتأنف أن أهان وأن أذالا هي السحر الجلال لمجتليه ... ولم أر قبلها سحرا حلالا 2- بين المجاز المرسل, وعلاقته فيما يأتي: قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، وقال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} . وقال الشاعر: إلا من رأى الطفل المفارق أمه ... بعيد الكرى عيناه تنسكبان

امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1369هـ، 1950م: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- عرف البلاغة في الكلام, واشرح التعريف، مبينا معنى المطابقة والحال، وبين الخلاف في مقتضى الحال، وهل يختلف معنى الحال باختلاف معنى المقتضى والمطابقة؟ وضح ما تقول بالمثال. 2- اشرح معنى اشتراك الطرفين في وجه الشبه تحقيقا, أو تخييلا مع التمثيل لما تقول، ثم بين وجه الشبه في قولهم: "العلم كالنور". 3- وضح تعريف المجاز المركب، وبين هل يكون المجاز المركب غير استعارة؟ وبأي شيء يمتاز عن التشبيه التمثيلي؟ وضح ما تقول بالمثال. التطبيق: 1- بين نوع الاستعارة في المثالين الآتيين, وأجرها فيهما: "رأيت اليوم حاتما" "بيدي لا بيد عمرو". 2- بين وجه الشبه, والغرض من التشبيه في الأمثلة الآتية: قال الله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} ، وقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". وقال الشاعر: والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا 2- هات أمثلة لما يأتي: تشبيه مفروق، تشبيه تعدد فيه وجه الشبه، استعارة بالكناية، تعقيد معنوي، استعارة تبعية، كناية أريد بها صفة.

امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الثاني لسنة 1369هـ، 1950م: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- عرف الغرابة، وتنافر الحروف ومثل لهما، وبين ما يعرف به كل منهما، ولم اشترط في الفصاحة الخلو منهما؟ 2- اذكر أربعة من أغراض التشبيه ممثلا لكل منها، وافرق بين التشبيه المركب والمتعدد، والمفصل والمجمل، مع التمثيل. 3- اذكر المراد من دخول الجامع في طرفي الاستعارة، وعدم دخوله فيهما، مع التمثيل لكل منهما، وبين لأي قسم منهما مثل المصنف بالحديث الشريف: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه, كلما سمع هيعة طار إليها" وما الذي أورده الشارح عليه؟ ثم أجر الاستعارة في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} . التطبيق: 1- ما الذي أخل بفصاحة الأمثلة الآتية: قال الشاعر: جفخت وهم لا يجفخون بهابهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل وقال آخر: جذبت نداه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعا بين أيدي القصائد وقال آخر: ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما 2- مثل لما يأتي: تشبيه قريب تصرف فيه بما يجعله غريبا، تشبيه تمثيلي على مذهب السكاكي، استعارة مكنية مرشحة، مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يئول إليه.

3- بين نوع الكناية في البيت الآتي: يشير إليك الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين تنظر امتحان نقل السنة الثالثة من القسم الثانوي، الدور الأول لسنة 1370هـ، 1951م: البلاغة الزمن المحدود للإجابة: ساعتان القواعد: 1- أ- اذكر الفرق بين التعقيد اللفظي والمعنوي، وبين نوع التعقيد, ووجه قول العباس بن الأحنف: سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتكسب عيناي الدموع لتجمدا ب- ما المراد من الحال، والمطابقة، والمقتضى؟ وضح ذلك بمثال من إنشائك. 2- بين المراد من التركيب في وجه الشبه, ثم قسم المركب الحسي باعتبار الطرفين مع التمثيل لكل قسم, وبيان المشبه والمشبه به ووجه الشبه في مثالين مما تذكر. 3- أ- وضح الفرق بين الاستعارة المرشحة والمجردة والمطلقة، ولم كانت المرشحة أبلغ منهما؟ مع التمثيل لما تذكر. ب- اشرح كلا من الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية عند الخطيب, ثم أجر الاستعارة في قول الهذلي: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع التطبيق: 1- بين المشبه, والمشبه به في قول حافظ يصف إشراق الشمس في مصر واحتجابها في إيطاليا: شمسهم غادة عليها حجاب ... فهي شرقية حوتها الخدور شمسنا غادة أبت أن توارى ... فهي غربية جلاها السفور

2- أجر الاستعارة في قول صفي الدين الحلي: خلع الربيع على غصون البان ... حللا فواضلها على الكثبان 3- مثل لما يأتي: مجاز مرسل علاقته المحلية، تشبيه مبتذل تصرف فيه بما يجعله غريبا، استعارة تبعية مرشحة. 4- بين نوع الكناية في قول الشاعر: قوم ترى أرماحهم يوم الوغى ... مشغوفة بمواطن الكتمان تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله

موضوعات الكتاب

موضوعات الكتاب: صفحة الموضوع 5 تمهيد بنشأة العلوم البلاغية 15 وجه الحاجة إلى دراستها 18 الفصاحة والبلاغة 21 فصاحة الكلمة 32 فصاحة الكلام 49 فصاحة المتكلم 58 البلاغة 59 بلاغة الكلام 65 اختلاف مقتضيات الأحوال 68 مراتب البلاغة 69 بلاغة المتكلم 77 علم البيان: واضعه، موضوعه، فائدته 78 المبحث الأول في تعريفه 82 المبحث الثاني في الدلالة 90 المبحث الثالث في التشبيه 97 التقسيم الأول باعتبار طرفيه 101 التقسيم الثاني باعتبار طرفيه 108 التقسيم الثالث باعتبار طرفيه 116 مبحث وجه الشبه 119 التقسيم الأول باعتباره 126 التقسيم الثاني 131 التقسيم الثالث 137 فصل في الوجه المركب الحسي 142 التقسيم الرابع 146 التقسيم الخامس 150 التقسيم السادس 162 مبحث أداة التشبيه 167 تقسيم التشبيه باعتبار الأداة 170 مبحث أغراض التشبيه 183 تقسيم التشبيه باعتبار الغرض 191 التشبيه والتشابه 194 مراتب التشبيه 197 الاختلاف في صيغة التشبيه 208 المبحث الرابع في الحقيقة والمجاز 208 الحقيقة 211 المجاز، المفرد 214 الوضع 215 القول بدلالة اللفظ لذاته 219 الاستعارة 220 ما لا بد منه لتحقيقها 224 الاستعارة لا تصح في علم الشخص 224 فصل في نحو خالد أسد 228 الاستعارة مجاز لغوي لا عقلي 232 الاستعارة تفارق الكذب 232 قرينة الاستعارة 237 تقسيم الاستعارة باعتبار الطرفين 239 تقسيمها باعتبار الجامع 245 تقسيمها باعتبار الطرفين والجامع 250 تقسيمها باعتبار ذكر أحد طرفيها، الاستعارة التصريحية 250 الاستعارة الأصلية 253 الاستعارة التبعية، الاستعارة في الفعل 255 الاستعارة في المشتقات 256 دليل التبعية 258 الاستعارة في الحرف

صفحة الموضوع 263 قرينة التبعية 266 تقسيم الاستعارة إلى مرشحة ومجردة ومطلقة 272 موازنة بين هذه الثلاثة 275 الاستعارة المكنية 279 قرينة المكنية 294 المجاز المرسل 294 علاقات المجاز المرسل 309 المجاز المركب 320 فصل في شرائط حسن الاستعارة 325 فصل آخر في المجاز بالحذف والزيادة 326 المبحث الخامس في الكناية 330 أقسام الكناية 336 بحث للسكاكي في بعض أنواع الكناية 346 خاتمة في أبلغية المجاز والكناية والاستعارة 352 أسئلة وامتحانات رسمية

المجلد الرابع

المجلد الرابع علم المعاني مدخل ... علم المعاني: قدم الخطيب القزويني في تلخيصه: علم المعاني على علم البيان معللا ذلك بأن علم المعاني من البيان بمنزلة المفرد من المركب. بيان ذلك: أن مرجع علم البيان أمران: أحدهما: إيراد المعنى الواحد في تراكيب مختلفة في وضوح الدلالة. ثانيهما: رعاية مطابقة هذه التراكيب لمقتضى الحال. ولهذا عرفوه بأنه: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد في تراكيب مختلفة في وضوح الدلالة، مع رعاية المطابقة لمقتضى الحال, فصار كأنه مركب من هذين الأمرين. أما علم المعاني فمرجعه رعاية مطابقة الكلام لمقتضى الحال فحسب، وهي أحد الأمرين اللذين هما مرجع علم البيان, والمفرد مقدم في الوجود طبعا، فقدم في التأليف وضعا. وإنما كان علم المعاني شبيها بالمفرد، لا مفردا حقيقة؛ لأن علم البيان لم يكن مركبا من الأمرين السالفين على التحقيق إذ حقيقة المركب ما توقف تحققه على تحقق أجزائه، وعلم البيان لا يتوقف تحققه على ثاني الأمرين السابقين، وإنما المدار في تحققه على الأول منهما وهو الإيراد المذكور الناشئ عن ملكة في النفس -وجدت رعاية المطابقة أو لم توجد- فإذا قلت لخالي الذهن مثلا: "إن محمدا لهزيل الفصيل, وإنه لجبان الكلب، كثير الرماد، معبرا بذلك عن كرمه كنت بيانيا متى كان ذلك وليد ملكة فيك مع أنك لم تراع في قولك مطابقته لمقتضى حال المخاطب إذ إن حاله يقتضي خلو الكلام من التأكيد. فعلم البيان حينئذ لا يتوقف تحققه على الأمر الثاني, ولكن لما كان إيراد المعنى الواحد في التراكيب المختلفة لا يعتبر ولا يعتد به عند البلغاء إلا بعد رعاية تلك المطابقة لمقتضى الحال كان علم البيان بمثابة المركب منهما،

وكأن تحققه متوقف عليهما لهذا كان علم البيان بمنزلة المركب، وعلم المعاني منه بمثابة المفرد، وذلك هو وجه تقديمه عليه. تعريفه: هو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال1.

_ 1 قيل: إن أحوال اللفظ العربي أخذت في تعريف علم المعاني فهو إذًا متوقف عليها، وهي لا تعرف إلا منه؛ لأنه الباحث عن أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال, فهي إذًا متوقفة عليه, ففي التعريف حينئذ دور, وأجيب بأن الجهة منفكة؛ لأن العلم متوقف عليها من حيث تصور ماهيته، وهي متوقفة عليه من حيث حصولها، وتحققها خارجا.

تحليل لهذا التعريف

تحليل لهذا التعريف: المراد بالعلم الملكة التي يقتدر بها على معرفة المسائل الجزئية التي تندرج تحت قواعد هذا الفن. بيان ذلك: أن واضع هذا الفن تتبع كلام العرب فوجدهم يؤكدون القول لمنكر الحكم، فيقولون: "إن حسانا لشاعر، وإن زيادا لخطيب، وإن عليا لشجاع"، فاستنبط من تتبع هذه الجزئيات قاعدة عامة هي: كل كلام يلقى للمنكر يجب توكيده، ووجدهم يرسلون القول خلوا من التأكيد إذا خاطبوا خالي الذهن، فيقولون: "حسان شاعر، وزياد خطيب, وعلي شجاع" فاستخلص من ذلك أصلا عاما هو: "كل كلام يلقى لخالي الذهن يجب خلوه من التأكيد, وهكذا استقصى أساليبهم، فاستخرج منها قواعد الفن وأصوله، وفيها تندرج مسائله وقضاياه الجزئية. وبممارسة هذه القواعد والأصول ومزاولتها تتربى في النفس ملكة, وهي قوة راسخة في النفس يتمكن بها الإنسان متى شاء من استحضار جزئيات هذا الفن, فإذا خاطبت منكرا لحكم من الأحكام كشاعرية حافظ مثلا استطعت بهذه الملكة الناشئة من ممارسة تلك القواعد أن تستخرج الجزئي المندرج تحت القاعدة القائلة: كل كلام يراد إلقاؤه إلى منكر يجب

توكيده، وذلك الجزئي هو: أن هذا الكلام الخاص المراد إلقاؤه إلى منكر معين يجب توكيده1، فيقال: "إن حافظا لشاعر"، وتلك الملكة هي "العلم" على هذا الرأي. ويجوز أن يراد بالعلم القواعد والأصول، فيكون العلم حينئذ بمعنى المعلوم2, قال بعضهم: وهو أولى؛ لأن الكثير الشائع في استعمالاتهم إطلاق العلم على الأصول والقواعد؛ ولأنه لا يحوج إلى ارتكاب استخدام3 في قولهم: "وينحصر في ثمانية أبواب" إذ المنحصر في الأبواب الثمانية هو القواعد والأصول ولا معنى لانحصار الملكة فيها؛ لأنها -كما سبق- قوة قائمة بالنفس، والاستخدام خلاف الأصل, غير أن المشهور في العرف استعمال العلم في الملكة القائمة بالنفس، ولذلك رجحوه على استعماله بمعنى القواعد، وقد صرح بذلك العلامة عبد الحكيم. ومعنى "يعرف به": يستخرج به إن جرينا على أن المراد بالعلم الملكة، والباء حينئذ للسببية أي: يستخرج بسبب الملكة المسائل الجزئية، وإن جرينا على أن المراد بالعلم: القواعد والأصول كان المعنى يستخرج منه؛ لأن القواعد هي التي تستخرج منها تلك المسائل الجزئية. والمراد بأحوال اللفظ الأمور العارضة له من التأكيد، والتعريف، والتنكير والتقديم، والتأخير، والذكر، والحذف، وغير ذلك فهي إذًا أوصاف فقط.

_ 1 يعلم من هذا أن الجزئيات المستخرجة من القواعد بالملكة هي القضايا ذات الموضوعات الجزئية كقولهم: هذا الكلام المراد القاؤه لهذا المنكر يجب توكيده، وهذا الكلام المراد إلقاؤه لهذا المنكر يجب توكيده, وهذا الكلام المراد إلقاؤه لهذا المريض يجب إيجازه، وهذا الكلام المراد إلقاؤه لهذا الممدوح يجب إطنابه. وهذه القضايا الجزئية غير أحوال اللفظ المراد معرفتها بالعلم المفسر بالملكة كالتأكيد، أو الإيجاز، أو الإطناب الواقع في الكلام الموجه للمخاطب- ويجاب بأن معرفة جزئيات القواعد وسيلة لمعرفة أحوال اللفظ, فمعرفة أن هذا الكلام الملقى إلى هذا المنكر يجب توكيده مؤدية إلى معرفة أن هذا التأكيد مناسب لهذا الإنكار وهكذا. 2 ولا يضر حينئذ استعمال المشترك في التعريف لصحة إرادة كل من معنييه، ومحل المنع إذا لم تصح إرادة ذلك، ولا يصح إطلاق العلم على الإدراك لفساد المعنى حينئذ إذ إن الإدراك لا يدرك به. 3 هو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر.

أما الحال في قولنا: "مقتضى الحال" فالمراد بها: الأمر الداعي؛ لأن يعتبر المتكلم في كلامه خصوصية ما "كالإنكار" مثلا فإنه حال للمخاطب تدعو المتكلم إلى أن يسم كلامه بسمة خاصة هي التأكيد محوا لهذا الإنكار, و"كالذكاء" فإنه حال للمخاطب تدعو المتكلم إلى أن يحذف في كلامه اعتمادا على هذا الذكاء وهكذا.. فالحال هنا حينئذ وصف للمخاطب بخلاف الحال هناك. ومقتضى الحال على التحقيق: هو الكلام الكلي الموسوم بطابع خاص كالكلام المطلق المؤكد، أو المحذوف منه، أو المطنب، أو نحو ذلك فالإنكار مثلا حال للمخاطب، وهذه الحال إنما تقتضي مطلق كلام مؤكد بأي طريق من طرق التأكيد, والذكاء حال له تقتضي مطلق كلام محذوف منه, والغباوة حال تقتضي مطلق كلام لا حذف فيه وهكذا ... فمقتضى الحال إذًا هو الكلام المكيف بكيفية خاصة غير منظور فيه إلى تعبير خاص. واللفظ المطابق له: هو تلك العبارة الخاصة الصادرة من المتكلم إلى المخاطب مشتملة على تأكيد، أو حذف، أو غيرهما من سائر الأحوال. ومعنى مطابقة هذا اللفظ لمقتضى الحال: اندراجه فيه، وصيرورته فردا من أفراده أي: إن هذا اللفظ الخاص الصادر من المتكلم بسبب اشتماله على حال خاصة طابق الكلام الكلي, الذي هو مقتضى الحال بمعنى: أنه اندرج تحته، وصار أحد أفراده, فقولك للمنكر مثلا: "إن زيادا لخطيب" لفظ مشتمل على حال هي التأكيد، وبسبب اشتماله على هذا التأكيد طابق مقتضى الحال الذي هو مطلق كلام مؤكد بمعنى: أنه اندرج في هذا المطلق، وصار جزئيا من جزئياته. أما ما قيل من أن مقتضى الحال هو تلك الصفات من التأكيد, والتقديم، والتأخير، وغيرها فغير صحيح إذ لا يستقيم حينئذ أنها أحوال بها يطابق اللفظ مقتضى الحال؛ لأنها هي بعينها مقتضى الحال، فيلزم عليه اتحاد المطابق -بفتح الباء- الذي هو مقتضى الحال، والمطابق بسببه الذي هو حال اللفظ, فحال اللفظ في نحو: "إن محمدا قائم" للمنكر هو التأكيد، وقد طابق

بسببه مقتضى الحال الذي هو التأكيد على هذا الرأي، واتحادهما باطل1 كما ترى. وليس المراد بمعرفة أحوال اللفظ مجرد تصور معانيها, على ما هو المتبادر من إسناد المعرفة للأحوال في قولهم: "يعرف بها أحوال اللفظ" بل المراد: معرفتها من حيث إن اللفظ يطابق بها مقتضى الحال -على ما سبق بيانه- واحترز بهذا القيد عما سوى هذا الفن من سائر العلوم اللسانية فليس البحث فيها عن أحوال اللفظ من هذه الناحية2. قيل: إن التأكيد وعدمه، والحقيقة والمجاز العقليين على ما سيأتي ليست أحوالا للفظ، بل هي أحوال للإسناد، وهو غير لفظ، وإذًا لا تكون من مباحث هذا الفن، مع أنها منه, أجيب أن الإسناد أحد أجزاء الجملة، وهي ملفوظ بها، فأحواله إذًا أحوال للفظ. وتخصيص اللفظ "بالعربي" مجرد اصطلاح، وليس للاحتراز وإلا فإن هذا البحث يوجد في غير اللفظ العربي أيضا.

_ 1 قد يقال: إن المراد بأحوال اللفظ الخصوصيات الجزئية كالتأكيد الخاص في نحو قولك: إن محمدا كاتب، وإن المراد بمقتضى الحال الخصوصية الكلية كالتأكيد المطلق، وحينئذ لا مانع من أن يقال: "إن محمدا كاتب" قد طابق بالتأكيد الخاص مطلق تأكيد بمعنى أنه اشتمل على أحد أفراده إذ لا اتحاد بين المطابق بالفتح والمطابق به حينئذ. 2 من هذه العلوم علم البديع على ما هو المشهور من أن المحسنات البديعية لا يقتضيها الحال أصلا، وأما على ما حققوه من أن الحال قد تقتضيها فلا تخرج عن التعريف بالقيد المذكور.

اختبار

اختبار: 1- اذكر المراد بلفظ العلم الواقع في التعريف, أهو الملكة أم الأصول والقواعد؟ وأي المعنيين أولى بأن يكون مرادا وجه ما تقول، مع بيان المقصود من قوله: "يعرف به" الواقع في التعريف. 2- ما المراد بأحوال اللفظ، وما هو الحال ومقتضاه، وما معنى مطابقة اللفظ لهذا المقتضي.

3- بين الحال ومقتضاه، وكيف طابق اللفظ مقتضى الحال في قول المتكلم "إن عباسا لكاتب" خطابا لمن ينكر ذلك. 4- بين وجه عدم صحة أن يراد بمقتضى الحال تلك الصفات من التأكيد والتقديم، والتأخير وغيرها مما يعرض للفظ. 5- بين المراد بمعرفة أحوال اللفظ، وهل لهذا المراد محترز؟

ما ينحصر فيه علم المعاني

ما ينحصر فيه علم المعاني: ينحصر هذا العلم في ثمانية أبواب: أحوال الإسناد الخبري, أحوال المسند إليه, أحوال السند, أحوال متعلقات الفعل, القصر, الإنشاء, الفصل والوصل, الإيجاز والإطناب والمساواة, غير أن البحث في هذا الكتاب خاص بالخمسة الأول: ثم إن انحصار هذا العلم في الأبواب الثمانية من قبيل انحصار الكل في أجزائه، لا الكلي في جزئياته, وضابط الأمرين: أن الأول: لا يصح فيه حمل الكل على كل جزء من أجزائه, كانحصار الجسم في الأعضاء، فلا يصح أن يحمل الجسم على كل عضو من أعضائه، فلا يقال: الرأس جسم، واليد جسم؛ لأن الجسم إنما يطلق على الأعضاء مجتمعة، لا على كل عضو. وأن الثاني: يصح فيه حمل الكلي على كل جزئي من جزئياته كانحصار الكلمة في الاسم، والفعل، والحرف، فيصح أن تحمل الكلمة على كل واحد من هذه الثلاثة، فيقال: الاسم كلمة، والفعل كلمة، والحرف كلمة، فالكلي صادق على كل جزئي كما رأيت. وما نحن فيه من القبيل الأول إذ لا يصدق على كل باب أنه علم المعاني، فلا يقال: أحوال الإسناد الخبري مثلا علم المعاني، أو القصر علم المعاني؛ ذلك لأن علم المعاني اسم لهذه الأبواب مجتمعة1.

_ 1 ينبغي إذًا أن يكون المراد بالعلم المنحصر في الأبواب الثمانية "القواعد والأصول" لأن الأبواب المنحصر فيها ألفاظ ضرورة أنها تراجم، والمنحصر في الألفاظ يجب أن يكون من قبيل الألفاظ, فإذا أريد بالعلم "الملكة" كما هو الراجح وجب أن يقدر مضاف، فيقال: وينحصر متعلق علم المعاني إذ إن متعلق العلم بمعنى الملكة هو القواعد والأصول, أو لا يقدر هذا المضاف، ويتركب الاستخدام بأن يجعل الضمير في "ينحصر" راجعا للعلم بمعنى القواعد ويستقيم الكلام.

وجه انحصاره في هذه الأبواب: إن الكلام إما خبر، أو إنشاء، وإذا لا بد من باب ينعقد لبيان ما يعرض للإنشاء من أحوال ستوافيك فيما بعد. والخبر لا بد له من مسند إليه، ومسند، وإسناد, ولا بد لهذه الثلاثة من بيان أحوالها، فتحصل لنا ثلاثة أبواب, باب أحوال الإسناد الخبري، وباب أحوال المسند إليه، وباب أحوال المسند. والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا، أو ما في معناه كالمصدر، واسم المفعول، والظرف، ونحو ذلك، فلا بد إذا من باب خامس يبين فيه أحوال متعلقات الفعل. والإسناد: أما بقصر، أو بغير قصر، فلا بد إذًا من باب سادس يبحث فيه عن أحواله يسمى "باب القصر". وكل جملة قرنت بأخرى, أما معطوف عليها، أو لا، فلا بد إذا من باب سابع يسمى "باب الفصل والوصل". والكلام إما أن يكون أقل مما يتضمن من معنى، أو يكون أكثر منه لفائدة، أو مساويا له، فلا بد حينئذ من باب ثامن يسمى: "باب الإيجاز والإطناب والمساواة".

تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء

تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء: لكل كلام تام طرفان هما: المسند، والمسند إليه, فالطرفان في

قولك: "علي كاتب" هما: الكتابة وعلي، وفي قولك: "اكتب يا علي" هما: الكتابة والفاعل المستتر، والإيجاب والسلب في ذلك سواء. ولا بد للطرفين من رابط يربط بينهما يسمى "نسبة" فالنسبة هي تعلق أحد الطرفين بالآخر, إما على سبيل الحكم بأحدهما على الآخر -إيجابا أو سلبا- كما في الخبر، وإما على وجه الطلب كما في الإنشاء. فالنسبة في قولك: "علي شاعر" هي تعلق الشعر بعلي من حيث ثبوته له، وفي قولك: "علي ليس بشاعر" هي تعلق الشعر بعلي من حيث سلبه عنه1، وفي نحو قولك: "اقرأ يا محمد" تعلق القراءة بمحمد من حيث طلب إيجادها منه، وفي نحو قولك: "هل قرأ محمد؟ " تعلق القراءة بمحمد من حيث طلب فهم حصولها منه وهكذا ... أما ما قيل من أن النسبة هي: "الإيقاع والانتزاع" أي: إدراك أنها واقعة أو ليست بواقعة فتفسير بعيد عن الصواب لعدم شموله للنسب الإنشائية إذ لا يتأتى فيها ذلك كما سيأتي بيانه، وحينئذ فلا يصح تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء. وهذه النسبة أنواع ثلاثة: كلامية، وذهنية، وخارجية, فالكلامية: تعلق أحد الطرفين بالآخر المفهوم من الكلام، والذهنية: تعلق أحد الطرفين بالآخر القائم بذهن المتكلم، والخارجية: تعلق أحد الطرفين بالآخر المفهوم من الخارج والواقع. فقولك: "علي بطل" يشتمل على النسب الثلاث، فثبوت البطولة لعلي باعتبار فهمه من الكلام يسمى "نسبة كلامية"، وثبوت البطولة له باعتبار قيامه بذهن المتكلم يسمى "نسبة ذهنية"، وثبوت البطولة له باعتبار حصوله في الخارج يسمى "نسبة خارجية"- ومثل النسبة الإيجابية في ذلك النسبة السلبية, كذلك قولك: "أقدم يا علي" فإن طلب الإقدام منه باعتبار فهمه من الكلام يسمى

_ 1 الإيجاب والسلب إنما يكونان في الخبر كما رأيت، ولا يتصف بهما الإنشاء؛ لأنهما من أنواع الحكم، والإنشاء ليس بحكم، بل هو إيجاد معنى بلفظ يقارنه في الوجود.

نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بذهن المتكلم يسمى نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بالنفس، واتصافها به يسمى نسبة خارجية1. وإذ علمت ذلك فالكلام باعتبار هذه النسبة نوعان- خبر وإنشاء، وقد وضح لك ذلك من الأمثلة المذكورة, وتحقيق الفرق بينهما من وجوه: الأول: أن الخبر قول يحتمل الصدق والكذب لذاته أي: هو ما يصح أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب, فقولك: "علي شاعر" خبر إذ يحتمل في الواقع أن يكون شاعرا، فيكون الخبر صادقا، وألا يكون شاعرا فيكون الخبر كاذبا, وأما الإنشاء فقول لا يحتمل صدقا ولا كذبا لذاته أي: لا يجوز أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب, فقولك: "اكتب يا علي" إنشاء معناه: طلب الكتابة منه، ولا يتعلق بهذا الطلب صدق ولا كذب؛ لأنهما من خواص الصيغ الحاكية لنسب حاصلة. الثاني: أن الخبر لا يتوقف حصول مدلوله على النطق به, فقولك: "محمود جواد" خبر لأن مدلوله، وهو ثبوت الجود له حاصل -سواء نطقت بهذا الخبر أو لا- أما الإنشاء: فمدلوله متوقف على حصوله على النطق بصيغة الطلب، فقولك: "أقبل يا سعيد" إنشاء لأن مدلوله وهو حصول الإقبال منه متوقف على النطق بهذا الطلب. الثالث: أن مدلول الخبر -وهو ما يسمى بالنسبة الكلامية- يراد به أن يكون حكاية عن أمر حاصل في الواقع، وهو ما يسمى بالنسبة الخارجية، فقولك: "سعيد كريم" أو سعيد ليس بكريم" خبر لأنه قصد به أن يكون حكاية عن ثبوت الكرم لسعيد، أو عن عدم ثبوته له في الخارج بمعنى: أن في الواقع شيئا هو ثبوت الكرم لسعيد أو عدم ثبوته له، وقد قصد بهذا القول حكايته, أما الإنشاء فلا يقصد به أن يكون

_ 1 من هذا يعلم أن النسبة الخارجية في الإنشاء ما كان خارجا عن اللفظ كتعلق الإقدام بعلي القائم بالنفس على وجه الطلب بخلاف النسبة الخارجية في الخبر فإن المراد بها ما كان خارج الأعيان.

حكاية عن أمر حاصل، وإنما يقصد به إيجاد أمر لم يحصل، فلفظ "اقرأ" مثلا لم يقصد به أن يكون حكاية عن قراءة حاصلة في الخارج، بل المقصود به طلب إحداث مدلوله، وهو إيجاد القراءة بهذا اللفظ بحيث لا يحصل هذا المعنى بدون النطق به. على أنه إذا قصد بصيغة الإنشاء أن تكون حكاية للنسبة الخارجية التي هي الطلب القائم بالنفس كان الإنشاء خبرا مجازا، وصار معنى "اقرأ": أنا طالب القراءة، ولكن هذا القصد غير ملاحظ في النسب الإنشائية بخلاف النسب الخبرية لأنها -كما قلنا- حاكية للنسب الخارجية، فالمطابقة بين النسبتين في الخبرية مقصودة البتة. ومن هنا يتبين أن للإنشاء كما للخبر نسبة خارجية تطابق الكلامية، أو لا تطابقها, أما في الخبر فظاهر، وأما في الإنشاء فبيانه أنك إذا قلت لآخر: "قم" فإن كان في نفسك أن تطلب قيامه، بأن كنت مريدا له حقيقة فقد تطابق النسبتان، وإن لم يكن في نفسك هذا الطلب بأن طلبته على غير إرادة لم تحصل المطابقة, غير أن المطابقة وعدمها في الخبر مقصودة له. قال بعضهم: والتحقيق أن الإنشاء, وإن كانت له نسبة لكن لا خارج لها؛ لأن النسبة التي لها خارج هي التي تكون حاكية لهذا الخارج، ونسب الإنشاء ليست حاكية، بل موجدة، ولو كان لها خارج لزم أن يتصور فيه الصدق والكذب، واللازم باطل. وقد عرفت من قريب أن لنسب الإنشاء خارجا هو الطلب النفسي، وأنها حاكية قطعا لهذا الطلب القائم بالنفس غير أن ذلك غير مقصود فيها، وهو محط الفرق بينها وبين النسب الخبرية. تنبيه: اعلم أن احتمال الخبر للصدق والكذب منظور فيه إلى ذات الجملة الخبرية بقطع النظر عن المخبر، أو الواقع: إذ لو نظرنا إلى ذلك لوجدنا بعض الأخبار مقطوعا بصدقه، لا يحتمل كذبا، وبعضها مقطوعا بكذبه،

لا يحتمل صدقا، فالأول. كأخبار الله تعالى، وأقوال أنبيائه، وكالبديهيات مثل الكلم أعظم من الجزء، والواحد نصف الاثنين، ونحو: السماء فوقنا، والأرض تحتنا، إلى غير ذلك مما لا يحتمل الكذب, والثاني: كأقوال مسيلمة، وكنحو قولك الجهل نافع، والعلم ليس بنافع، وما أشبه ذلك مما لا يحتمل الصدق, فلأجل عد هذه الأقوال من أفراد الخبر المحتمل للصدق والكذب ينبغي أن ينظر فيها إلى ذات الجملة الخبرية، وأن يقطع النظر عن المخبر، أو عن الواقع. كذلك: عدم احتمال الإنشاء للصدق والكذب منظور فيه إلى ذات الجملة الإنشائية، بغض النظر عما يستلزمها، وإلا فإن الجمل الإنشائية تستلزم جملا خبرية تحتمل الصدق والكذب، فقولك: "اقرأ يا محمد" يستلزم خبرا هو: أنا طالب منك القراءة، وقولك: "هل كتبت يا علي" يستتبع خبرا هو: أنا طالب فهم حصول الكتابة منك، وقولك: "ليت الشباب يدوم" يستدعي خبرا هو: أنا أتمنى دوام الشباب وهكذا ... فكل هذه الأقوال جمل خبرية محتملة للصدق والكذب هي وليدة الجمل الإنشائيةو فعدم احتمال الصيغ الإنشائية للصدق والكذب إذًا منظور فيه إلى ذات الصيغة، لا إلى ما تستلزمه من هذه الأخبار ولهذا زيد قوله: "لذاته".

صدق الخبر وكذبه

صدق الخبر وكذبه: قدمنا لك أن لصيغة الخبر نسبة كلامية، وهي المفهومة من الكلام، ونسبة خارجية، وهي المفهومة من الخارج والواقع, فإذا قلت مثلا: "محمود مسافر، أو محمود ليس مسافرا" فإن ثبوت السفر له، أو عدم ثبوته المفهوم من هذه الصيغة نسبة كلامية، وهذا الثبوت، أو عدمه المفهوم من الواقع والخارج نسبة خارجية. إذا علمت هذا فاعلم: أن صدق الخبر وكذبه يدوران حول هاتين النسبتين، فإن توافق النسبتان ثبوتا بأن قلت: "محمود مسافر" وهو

في الواقع مسافر، أو توافقتا سلبا بأن قلت: "محمود ليس مسافرا" وهو في الواقع كذلك كان الخبر صادقا، وإن لم تتوافق النسبتان بأن قلت: "محمود مسافر" وهو في الواقع غير مسافر، أو العكس كان الخبر كاذبا -فالخبر إذًا محصور في الصدق والكذب ولا ثالث لهما- وهذا هو رأي الجمهور، وهو الراجح المعول عليه، وفي المسألة آراء أخرى، لا يتسع لها المقام، وليست من صميم الموضوع.

اختبار

اختبار: 1- فيم ينحصر علم المعاني، وما نوع انحصاره فيه, وما الفرق بين انحصار الكل في أجزائه, وانحصار الكلي في جزئياته؟ 2- اذكر أنواع النسبة، وبين ذلك في مثال تختاره. 3- قسم الكلام باعتبار نسبته، واذكر ما تعرف من الفروق بين الخبر والإنشاء، مع التمثيل. 4- بين كيف كان كلام الله تعالى، أو كلام رسله عليهم السلام من قبيل الأخبار، مع أنه لا يحتمل كذبا. 5- بين السر في زيادة كلمة: "لذاته" في قولهم في بيان معنى الإنشاء: هو ما لا يحتمل الصدق والكذب لذاته. 6- ما معنى صدق الخبر وكذبه؟ وضح ذلك في مثال من عندك. تمرين: بين الطرفين, والنسبة بينهما بأنواعها الثلاثة في العبارات الآتية: 1- محمد علي مؤسس الدولة المصرية. 2- ما كان شوقي خطيبا. 3- تكلم يا غلام. 4- لا تنه عن خلق وتأتي مثله.

5- هل أتاك حديث الغاشية؟ 6- ليت الشباب يعود. الجواب: 1- الطرفان هما: محمد علي ومؤسس الدولة، فتعلق التأسيس بمحمد علي هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من الكلام نسبة كلامية، وباعتبار قيامه بذهن المتكلم نسبة ذهنية، وباعتبار حصوله في الخارج نسبة خارجية. 2- الطرفان هما: شوقي والخطابة، وتعلق الخطابة به من حيث سلبها عنه هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من الكلام نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بالذهن نسبة ذهنية، وباعتبار حصوله في الخارج نسبة خارجية. 3- الطرفان هما: التكلم والفاعل المستتر وتعلق التكلم بالفاعل من حيث طلبه منه هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من الكلام نسبة كلامية، وباعتبار قيامه بذهن المتكلم نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بنفس المتكلم نسبة خارجية. 4- الطرفان هما: لا تنه، والفاعل المستتر، وتعلق النهي بالفاعل من حيث طلب عدم حصوله منه هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من الكلام نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بذهن المتكلم نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بنفس المتكلم، واتصافها به نسبة خارجية. 5- الطرفان هما: أتاك، وحديث الغاشية، وتعلق الإتيان بحديث الغاشية من حيث طلب فهم حصوله هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من الكلام نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بذهن المتكلم نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بنفس المتكلم نسبة خارجية. 6- الطرفان هما: "الشباب" و"يعود"، وتعلق العود بالشباب من حيث طلب حصوله على جهة التمني هو النسبة، وهو باعتبار فهمه من

الكلام نسبة كلامية، وباعتبار حضوره بذهن المتكلم نسبة ذهنية، وباعتبار قيامه بنفس المتكلم نسبة خارجية. تمرين على هذا السؤال يطلب الجواب عليه: عنترة فارس عربي. زهير ليس بفارس. اقرأ باسم ربك الذي خلق. لا تقل أصلي وفصلي أبدا. أفاهم أنت؟ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. علي يقوم الليل. خالد لا يرهب العدا. أفق من غفلتك. لا تيئسوا من روح الله.

الإسناد الخبري

الإسناد الخبري: هو ضم1 كلمة، أو ما يجري مجراها إلى أخرى، أو ما يجري مجراها على وجه يفيد أن مفهوم2 إحداهما -وهو المحكوم به- ثابت، أو منفي عن مفهوم الآخرى -وهو المحكوم عليه- ويسمى المحكوم به مسندا، والمحكوم عليه مسندا إليه، وتسمى النسبة بينهما إسنادا. فقولك: "حسان شاعر، أو حسان ليس بفارس" إسناد خبري إذ قد ضم فيه كلمة هي "شاعر" في المثال الأول" و"فارس" في الثاني إلى أخرى هي "حسان" فيهما على وجه أن مفهوم الشاعرية في الأول، والفروسية في الثاني ثابت لمفهوم "حسان" كما في المثال الأول، ومنفي عنه كما في المثال الثاني. والمراد بما يجري مجرى الكلمة الجملة الواقعة موقع المفرد -مبتدأ كان، أو خبرا، أو فاعلا، أو نائب فاعل- وبهذا تكون صور طرفي الإسناد أربعا.

_ 1 أي: انضمام كلمة, أطلق المصدر وأريد الأثر الناشئ عنه وهو الانضمام؛ لأنه الذي يتصف به اللفظ. 2 المراد: المفهوم المطابقي أو التضمني للقطع بأن الثابت في نحو كتب محمد، أو محمد كاتب إنما هو الحدث الذي هو جزء مفهوم الفعل، أو اسم الفعل، وأن الثابت في نحو: الإنسان حيوان ناطق هو المفهوم المطابقي.

الأولى: أن يكون الطرفان مفردين حقيقة مثل: "علي شجاع"، وانتصر خالد، وقضي الأمر". الثانية: أن يكونا جملتين مثل: "لا إله إلا الله ينجو صاحبها من النار". الثالثة: أن يكون المسند إليه مفردا حقيقة، والمسند جملة نحو: "حسان سلق الأعداء بحاد لسانه"، "وخالد هزم الجيش بقوة جنانه". الرابعة: أن يكون المسند إليه جملة، والمسند مفردا حقيقة نحو: "لا إله إلا الله كنز من كنوز الجنة".

بيان مواضع إليه والمسند

بيان مواضع إليه والمسند ... بيان مواضع المسند إليه والمسند: لكل من المسند إليه، والمسند مواضع يعرف بها، وهاك بيانها: مواضع المسند إليه هي: 1- فاعل الفعل التام، أو شبهة نحو قولك: "حضر محمد الكريم خلقه" فكل من "محمد" و"خلقه" مسند إليه؛ لأن الأول فاعل للفعل التام: وهو "حضر"، والثاني فاعل للشبيه بالفعل، وهو "الكريم". 2- نائب الفاعل كلفظ "زيد" من قولك: "ظلم زيد" بالبناء للمجهول. 3- المبتدأ الذي له خبر كلفظ "الحلم" من قولك: "الحلم محمود". 4- ما أصله المبتدأ كأسماء الأدوات الناسخة كلفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ، وكلفظ "العلم" في قولك: إن العلم لمفيد، وكالمفعول الأول لظن وأخواتها، والمفعول الثاني لأرى وأخواتها "كمحمد" من قولك: "ظننت محمدا قادما"، و"كالصبر" من قولك: "أريتك الصبر جميلا".

ومواضع المسند هي: 1- الفعل التام مثل: قولك: حضر الأمير، فحفلت به البلاد. فكل من "حضر وحفلت" فعل تام. 2- اسم الفعل مثل "هيهات الشباب"، و"شتان ما بين الثرى والثريا". 3- المبتدأ المكتفي بمرفوعه عن الخبر مثل: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} . 4- خبر المبتدأ كلفظ "ناجح" من قولك لآخر: أخوك ناجح. 5- ما أصله خبر المبتدأ كأخبار الأدوات الناسخة كالخبر في قولك: "كان معاوية حليما"، وفي قولك: "إن الإسلام لحق"، وكالمفعول الثاني لظن وأخواتها، والمفعول الثالث لأرى وأخواتها كلفظ: "ذكيا" من قولك: "ظننت عليا ذكيا" وكلفظ "جميلا" من قولك: "أريتك الصبر جميلا". 6- المصدر النائب عن فعل الأمر كلفظ "سعيا" من قولك: "سعيا في الخير"، ومثله قولك: رفقا بالضعفاء، وصبرا على البأساء.

اختبار

اختبار: 1- عرف الإسناد الخبري ثم وضح التعريف في مثال تختاره، وبين المراد بقوله: أوما يجري مجراها. 2- اذكر صور طرفي الإسناد الخبري، ومثل لكل بمثال من عندك. 3- بين مواضع المسند إليه، والمسند, مع التمثيل لهما من إنشائك. 4- بين في العبارات الآتية الجمل الخبرية والإنشائية، مع بيان المسند والمسند إليه في كل منها: لا تكن عجلا فيما تؤمله. إن للشباب أملا، إن الشباب جنون برؤه الكبر، لا يغلب من نصره الله. أمسيء أنت أباك؟. أتظن الله غافلا عنك؟. قد يلام البريء من غير ذنب. لا تسع فيما يضرك. صبرا جميلا. شتان ما بينهما. وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.

تؤخذ اسكنر تمرين يطلب جوابه: عين فيما يأتي الجمل الخبرية والإنشائية, وميز ركني كل جملة: قد يدرك المرأ ما يتمنى, ستار البغي مهتوك, لا تظن الناس طبعا واحدا,

لا تنه عن خلق أنت آتيه. إنما يعرف الفضل من الناس ذووه. إنما يجزي المرء على قدر عمله. وكان الله قويا عزيزا. برا بالوالدين. أحسن إلى الفقراء. أراغب أنت عن الخير؟ هيهات أن يعود الشباب. على قدر المغارس يكون اجتناء الغارس. زر غبا تزدد حبا. في كل شيء عبرة لمن عقل. لا تغرنكم الحياة الدنيا.

ما يقصده المخبر بخبره

ما يقصده المخبر بخبره: إذا قصدت أن تخبر إنسانا بخبر ما، وتعلمه إياه فلا يخلو حالك من أمرين: الأول: أن تقصد إفادة المخاطب الحكم1 الذي تضمنته الجملة الخبرية، كما إذا قلت مخاطبا إنسانا يجهل قدوم أبيه: "قدم أبوك اليوم" فأنت بهذا الخبر تريد أن تفيد مخاطبك الحكم الذي تضمنته هذه العبارة، وهو قدوم أبيه، ويسمى هذا الحكم "فائدة الخبر" لأنه مستفاد من الخبر. الثاني: أن تقصد إفادة المخاطب أنك عالم2 بالحكم الذي دلت عليه العبارة كالمثال المتقدم إذا كان المخاطب يعلم قدوم أبيه، وأنت تعلم منه ذلك، فأنت لا تريد بإخباره في هذه الحال إفادة الحكم الذي تضمنه الخبر وهو قدوم أبيه؛ لأنه عالم به، إنما تريد أن تفيده: أنك عالم بقدوم أبيه. ويسمى علمك بهذا الحكم "لازم الفائدة" أي: الأمر الذي تستلزمه

_ 1 المراد بالحكم المقصود إفادته وقوع النسبة في الخارج كما في القضية الموجبة، أو عدم وقوعها كما في القضية السالبة, فإذا قال لك شخص: قام محمد، أو قال لك: لم يقم محمد كان قصده إفادتك أن ثبوت القيام لمحمد أو نفيه عنه قد تحقق في الخارج, وليس المراد بالحكم الإيقاع، والانتزاع إذ إن معناهما -على ما سبق- إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة، ولا ريب أن ليس قصد المتكلم إفادة المخاطب أنه أدرك أن القيام ثابت لمحمد في الواقع أو غير ثابت. 2 المراد بالعلم هنا التصديق بالنسبة جزما أو ظنا، لا مجرد التصور.

الفائدة وهي ذلك الحكم الذي تضمنه الخبر -على ما سبق- وإنما سمي بهذا؛ لأن كل من أفدته حكما لزم أن تفيده أيضا أنك عالم به1، من غير عكس أي: ليس كل من أفدته أنك عالم بالحكم الذي تضمنه الخبر أفدته هذا الحكم نفسه لجواز أن يكون عالما به قبل الإخبار, لهذا كان الحكم الذي تضمنه الخبر هو الملزوم، وعلمك بهذا الحكم هو اللازم. قيل: إن فائدة الخبر هي الحكم المستفاد منه -على ما سبق- وهذا الحكم قد يكون معلوما للمخاطب قبل الإخبار -كما علمت- فما وجه تسميته فائدة الخبر حينئذ؟ أجيب: أن ليس المراد بالفائدة ما يستفاد من الخبر فعلا، بل ما من شأنه أن يقصد بالخبر، ويستفاد منه وإن لم يستفد بالفعل. ملحوظة: إن قصد المخبر إفادة وقوع النسبة لا يستلزم تحققها في الخارج. فإذا قلت لآخر: "محمد كريم"، أو قلت: "محمد ليس كريما" دل على ذلك ثبوت الكرم لمحمد في الواقع، أو عدم ثبوته له في الواقع، غير أن دلالته على ذلك لا تستلزم أن يكون الكرم أو عدمه متحققا في الواقع حقيقة لجواز أن يكون الخبر كاذبا، وإذًا فعدم تحقق النسبة في الواقع في القضية الموجبة، أو تحققها في الواقع في القضية السالبة احتمال عقلي نشأ عن كون دلالة الخبر على معناه وضعية، يجوز فيها تخلف الدال عن المدلول. تنبيه: علم مما تقدم أن القصد من إلقاء الخبر بمعنى الإعلام به, إما إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة الخبرية، أو إفادة أن المتكلم عالم بهذا الحكم، وهذا هو الغالب في استعمال الخبر.

_ 1 أي: فليس التلازم بين ذات الحكم وذات العلم إذ لا تلازم بينهما فقد يتحقق الحكم ولا يعتقده المتكلم، وإنما التلازم بينهما باعتبار الإفادة. بمعنى أن إفادة الأول ملزومة لإفادة الثاني, ومن هنا يعلم أن ليس المراد بالعلم في هذه الملازمة خصوص التصديق بالحكم تصديقا جازما، بل المراد به مجرد حصول صورة الحكم في ذهن المخبر, سواء كان معتقدا له اعتقادا جازما أو غير جازم، أو غير معتقد له أصلا.

وقد يكون الحامل في الأخبار بواعث أخرى نذكر منها ما يلي: 1- إظهار التحسر والتحزن كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فغير معقول أن تريد أم مريم الإعلام بمضمون هذا الخبر، أو بلازمه لأن المخاطب هو المولى سبحانه، وهو العالم بخفايا الأمور، وإنما تريد أن تظهر تحزنها وتحسرها على خيبة رجائها، وفوات ما كانت تأمل، وهو أن تلد ذكرا لتهبه لخدمة بيت المقدس, ومن هذا يعلم أن استفادة معنى التحسر من الآية إنما جاء من طريق الإشارة والتلويح، وليس اللفظ مستعملا فيه كما فهم بعضهم1، والإلزام أن تكون الآية إنشاء في المعنى، فلا تصلح شاهدا لما نحن بصدده من التمثيل بها لما هو خبر لم يرد به إفادة المخاطب الحكم، ولا لازمه. 2- إظهار الضعف كما في قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} فزكريا عليه السلام لا يريد بهذا القول أن يخبر الله بحاله إذ يعلم أن الله لا يخفى عليه شيء، ولكنه قصد إظهار ضعفه، وأنه بلغ من الوهن والكبر غاية لا أمل له بعدها في الحياة. 3- التوبيخ كما في قولك لمسلم تارك الصلاة: "الصلاة ركن من أركان الإسلام" فغير معقول أنك تريد إفادته مضمون هذا الخبر، أو إفادته أنك عالم به، فإن ذلك مما لا يخفى على أحد من المسلمين، فلا بد إذًا أن يكون الحامل على هذا الإخبار غرضا آخر هو توبيخه على تركه الصلاة، مع قيام الدلائل القاطعة على فرضيتها, إلى غير ذلك من الأخبار المستعملة في معانيها، ولم يقصد بها الإفادة كما هو الأصل فيها.

_ 1 فهم هذا القائل أن الكلام مستعمل في معنى التحسر والتحزن مجازا مرسلا من استعمال المركب في غير ما وضع له لعلاقة اللزوم, إذ يلزم من الإخبار بوقوع ضد ما يرجى إظهار التحسر والتحزن على فواته, وقد عرفت الرد عليه.

اختبار

اختبار: 1- ما هو الغرض الأصلي من إلقاء الخبر؟ وما المراد بالحكم المقصود إفادته المخاطب، مثل لما تقول. 2- ما وجه تسمية علم المتكلم بالحكم لازم الفائدة، أو لازم الحكم؟، وهلا صح العكس، فيجعل الحكم المراد إفادته هو اللازم، ويجعل العلم به هو الملزوم؟ وما المراد بالعلم المقصود إفادته المخاطب, التصديق، أم مجرد التصور؟ بين ذلك بالمثال. 3- اذكر أربعة من الأغراض التي يخرج فيها الخبر عن وضعه، مع التمثيل. 4- بين الغرض من الخبر فيما يأتي: هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثق1 أنت ربحت كذا من المال "لمن يعلم ذلك". احترام الأم واجب. أخوك نجح في مسعاه لمن لا يعلم ذلك. كل امرئ بما كسب رهين. من غربل الناس نخلوه. {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . إلهي عبدك العاصي أتاكا ... مقرا بالذنوب وقد دعاكا جاء الهناء وولى الشقاء. فاز المجد. وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون. الشمس طالعة, للعاثر. قال الشاعر: قومي همو قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي2

_ 1 قاله جعفر بن علبة الحارثي وهو سجين بمكة, وكان قد قتل رجلا من بني عقيل فسجن فيه, وكان يومئذ بمكة ركب من اليمن فيه محبوبته, وقد عزم هذا الركب على الرحيل فأنشأ هذا البيت يتحسر وهو من قصيدة أنشأها في هذا المعنى. 2 قاله الحرث بن وعلة الجرمي وهو شاعر جاهلي: يقول: قومي يا أميمة هم الذين فجعوني بقتل أخي, فإن حاولت الانتقام منهم عاد ذلك علي بالضرر؛ لأن عز الرجل بعشيرته.

اسكنر

تمرين على هذا السؤال يطلب جوابه: ظهرت نتيجة الامتحان "لمن لا يعلم ذلك". {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . جاء الظريف وذهب الثقيل. نجح ابنك في الامتحان "لمن يعلم هذا النبأ". رب إني لا أستطيع اصطبارا ... فاعف عني يا من يقبل العثارا {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} . {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . رب إني قد تخطاني التوفيق. لفاعل الخير الجزاء الأوفى. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} . ذهب الشباب فما له من عودة.

أحوال الإسناد الخبري

أحوال الإسناد الخبري: للإسناد الخبري أحوال تعرض له، وهي أربعة: التوكيد، وتركه، والحقيقة العقلية، والمجاز العقلي. الأول والثاني: التوكيد، وتركه. تقدم أن المقصود الأصلي من الإخبار إفادة المخاطب مضمون الخبر، أو لازمه، فينبغي للمتكلم إذًا أن يكون كلامه على قدر الحاجة، فلا يزيد ولا ينقص في عبارته حذرا عن اللغو، فيضع نفسه من المخاطب موضع الطبيب الماهر من المريض، يشخص حاله، ويعطيها ما يناسبها, والمخاطب إزاء هذه الحال أحد ثلاثة: 1- أن يكون خالي الذهن من الحكم1 ومن التردد فيه، بمعنى أنه لم يسبق له علم بمضمون الخبر على جهة التصديق به أو التردد فيه.

_ 1 فهم بعضهم: أن معنى خلو الذهن عن الحكم عدم التصديق به, أو عدم التصور له ومن المعلوم أن خلو الذهن عن تصور الحكم لا يتأتى معه التردد فيه؛ لأن التردد في الشيء فرع عن تصوره وإذًا فلا حاجة إلى قوله: ومن التردد فيه, وأجيب بأن المراد بخلو الذهن عن الحكم عدم الإذعان والتصديق به؛ لأن معنى خلو الذهن عنه عدم حصوله فيه، وحصوله فيه إنما هو الإذعان به فيكون المعنى: خلو الذهن عن الإذعان به، وخلو الذهن عما ذكر لا يستلزم خلوه عن التردد فيه فقد يوجد التردد في الشيء مع خلو الذهن عن التصديق به.

ومثل هذا المخاطب يلقى إليه الخبر ساذجا غفلا من أدوات التأكيد لعدم الحاجة إليه لتمكن معنى الخبر في ذهنه إذ وجده خاليا، وخلو الذهن عن الشيء يوجب استقراره فيه، قال الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا فإن كان لإنسان أخ تقدم إلى الامتحان فنجح فيه، ولم يصل إلى علمه نبأ نجاحه، فأردت إخباره بذلك قلت هكذا, "نجح أخوك في الامتحان" مجردا من أي أداة من أدوات التأكيد1,ويسمى هذا الضرب من الخطاب "ابتدائيا" لأنه لم يسبق بطلب أو إنكار. 2- أن يكون مترددا في الحكم المراد إفادته إياه، طالبا له2 أي: طالبا بلسان حاله وقوفه على جلية الأمر إذ إن المتردد في الشيء عادة يكون متشوقا إليه، طالبا في نفسه معرفته ليزول تردده، ويستقر على أحد الأمرين المتردد فيهما, ومثل هذا المخاطب يستحسن أن يؤكد له الخبر بأداة توكيد واحدة محوا لهذا التردد وتمكينا للحكم في ذهنه -سواء استوى لديه طرفا الإثبات والنفي، أو كان لأحدهما راجحية إلى حد ما- وهذا هو مذهب الجمهور. أما رأي الإمام عبد القاهر فإن المستحسن له التأكيد عنده إنما هو المتردد الذي يرجح أحد الطرفين المخالف لرأيك فكأنه ينكر الطرف الآخر، ولتحويله عن هذا الطرف الغالب عنده كان إلى التأكيد في حاجة هي أشبه بحاجة المنكر إليه, وليس كذلك شأن الشاك الذي استوى عنده الطرفان، فإن أدنى إخبار يمحو شكه، ويزيل تردده إذ لم يكن له ميل

_ 1 التأكيد المحظور هنا هو المنصب على النسبة، أما التأكيد الموجه إلى الطرفين كالتأكيد اللفظي: أو المعنوي فلا مانع منه نحو: على علي قائم، أو على نفسه قائم. 2 المراد بالحكم المقصود إفادته وقوع النسبة أو عدم وقوعها, والضمير في "له" عائد إليه بمعنى العلم بوقوع النسبة أو عدم وقوعها أي: التصديق بذلك ففي الضمير شبه استخدام.

خاص لأحد الجانبين، فلا داعي لتأكيد الحكم له، وشأنه في ذلك شأن خالي الذهن -تلك هي- على ما أعلم وجهة نظر الإمام عبد القاهر1. فإن كان المخاطب في المثال السابق مترددا في الحكم أي: بين فوز أخيه، وعدم فوزه، بأن بلغه نبأ فوزه، أو إخفاقه ممن لا يثق بخبره حسن منك أن تؤكد له الخبر ليطمئن إلى أحد الأمرين، فتقول له: "إن أخاك فائز في الامتحان" سواء كان المخاطب شاكا أو ظانا على مذهب الجمهور. وعند الإمام لا يقال ذلك إلا لمن له ميل أكثر إلى أحد الجانبين، وهو عدم الفوز كما سبق بيانه، ويتضح هذا الرأي في قول أبي نواس: عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في اليأس فإن مثل هذا الخبر مما يبعد في الظن مثله لجزيان العادة على خلافه, إذ إن مجرى العرف والعادة ألا يدع الناس الرجاء والطمع، ويحملوا أنفسهم على اليأس ويجعلوا فيه الغنى كما ادعى. فالرأي الغالب إذا على خلاف هذا، ولذلك قالوا: يحسن موقع "إن" المؤكدة في مثل هذا الخبر ويسمى هذا الضرب: "طلبيا" لأن المخاطب -كما قلنا- طالب وقوفه على حقيقة الأمر. 3- أن يكون منكرا للحكم المراد إخباره به معتقدا غيره, ومثل هذا المخاطب يجب2 تأكيد الخبر له تأكيدا يتناسب مع إنكاره قوة وضعفا3.

_ 1انظر على أي الرأيين يمكن أن يحمل قوله تعالى مخاطبا نوحا عليه السلام: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} مع ما نعلمه من أن نوحا لم يكن ظانا لعدم غرقهم بل كان مترددا. 2 التأكيد الواجب والمستحسن في نظر البلغاء سواء؛ لأن المستحسن عندهم واجب, غير أن الفرق بينهما من جهة أن اللوم على ترك المستحسن أخف نوعا من اللوم على ترك الواجب. 3 أي: لا عددا فقد يطلب للإنكار الواحد تأكيدان مثلا لقوته وللإنكارين ثلاثة تأكيدات لقوتهما، وللثلاثة أربعة تأكيدات كما سيأتي في الآية.

فإن كان المخاطب في المثال السابق منكرا لنجاح أخيه، معتقدا إخفاقه لسبب ما وجب عليك أن تؤكد له الخبر محوا لهذا الإنكار، فتقول: "إن أخاك لناجح" فإن لم يقتنع المخاطب، وأصر على إنكاره زدته تأكيدا1. حتى يمحي هذا الإنكار, ومنه قوله تعالى حكاية عن رسل عيسى عليه السلام إذ كذبوا2 في المرة الأولى: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} مؤكدا بإن، واسمية الجملة3، وإذ كذبوا في المرة الثانية قال: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} مؤكدا بالقسم4، وإن، واللام، واسمية الجملة لإمعان المخاطبين في الإنكار إذ قالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} وسمي هذا الضرب إنكاريا؛ لأنه مسبوق بإنكار, وهكذا تختلف الأساليب باختلاف المقاصد، ويتنوع الكلام حسبما يقتضيه المقام. وقد يخفى على بعض ذوي البصر ما في اللغة العربية من خواص ودقائق، فيقع في حيرة وارتباك حتى يقيض الله له بعض من سبروا غورها، ووقفوا على أسرارها، فيحسر اللثام عن وجه الحقيقة، ويداوي

_ 1 مؤكدات الحكم كثيرة منها: إن المكسورة، والقسم، ونونا التوكيد، ولام الابتداء، واسمية الجملة، وتكريرها، وحروف التنبيه، وضمير الفصل، وقد التي للتحقيق، وأداة الحصر، وغير ذلك. 2 عبر بصيغة الجمع مع أن المكذب في المرة الأولى اثنان بدليل قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} ؛ لأن تكذيب الاثنين تكذيب للثلاثة, إذ إن ما جاء به الثالث عين ما جاء به الاثنان. 3 أي: كونها اسمية وليس المعنى صيرورتها وجعلها اسمية, إذ لا يشترط في التأكيد بها كونها معدولا بها إلى الاسمية وكما فهم, ثم إن الجملة الاسمية لا تفيد التأكيد إلا إذا اعتبرت مؤكدة بأن قصد التأكيد بها، وقيل لا تفيد التأكيد وحدها، بل تفيده مع مؤكد آخر. 4 وهو قوله {رَبُّنَا يَعْلَمُ} فقد ذكروا أنه جار مجرى القسم في التأكيد كشهد الله وعلم الله.

حيرته بما يثير إعجابه1. ثم إن الجري على هذا النحو في الخطاب من خلو الكلام من التأكيد لخالي الذهن، واستحسان التأكيد للمتردد، ووجوبه للمنكر هو ما يتطلبه ظاهر حال المخاطب -وحينئذ ينبغي للمتكلم أن يراعي في خطابه ما يبدو من حال مخاطبه ليكون كلامه مطابقا- ويسمى الجري على هذا النحو إخراجا للكلام على مقتضى ظاهر الحال. إذا علمت هذا فاعلم أن المتكلم قد يغض النظر عن ظاهر حال المخاطب، ويعتبر فيه أمرا آخر غير ما يبدو له من حاله لسبب ما، ويخاطبه على هذا الاعتبار، والجري على هذا النحو يسمى:

_ 1 من ذلك ما روي أن أبا إسحاق الكندي ركب إلى أبي العباس المبرد يسأله: إني لأجد في كلام العرب حشوا. فقال أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجدهم يقولون: عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله قائم، ثم يقولون: إن عبد الله لقائم، فالألفاظ مختلفة والمعنى واحد. فأجاب أبو العباس: بل المعاني مختلفة، فالأول إخبار عن قيامه، والثاني جواب عن سؤال سائل، والثالث جواب عن إنكار منكر، فقد اختلفت الألفاظ لاختلاف المعاني فما أحار الكندي جوابا.

إخراج الكلام على غير مقتضى الظاهر

إخراج الكلام على غير مقتضى الظاهر: وذلك إنما يكون حيث ينزل الشيء منزلة غيره, فمن ذلك: 1- تنزيل العالم بالحكم، أو بلازمه منزلة الجاهل بهما لعدم جريه على مقتضى علمه، فإن من لا يعمل بمقتضى علمه هو والجاهل سواء. مثال العالم بالحكم المنزل منزلة الجاهل به قولك للمسلم التارك للصلاة "الصلاة واجبة" فهو قطعا يعلم وجوبها بحكم إسلامه، فالإخبار حينئذ خروج بالكلام عن مقتضى الظاهر, إذ مقتضى الظاهر الكف عن إخباره لعلمه بالحكم لكن نزل علمه به منزلة الجهل به لعدم جريه على موجب علمه, إذ لو كان عالما حقا بوجوب الصلاة ما تركها. ومثال العالم بلازم الحكم المنزل منزلة الجاهل به قولك: "ضربت

ابنى" بتاء الخطاب لمخاطب يعلم أنك تعرف أنه اعتدى على ابنك بالضرب، لكنه يناجي غيره بضربه إياه. فالمخاطب إذًا يعلم بلازم الحكم، فالإخبار حينئذ خروج بالكلام عن مقتضى الظاهر إذ مقتضاه ألا يخبر بما هو عالم به, لكن نزل علمه هذا منزلة الجهل لعدم جريه على مقتضى علمه إذ لو كان عالما حقا بأنك تعلم ما صنعه في ابنك ما ناجى غيره بما فعله, فهو لما أسر إلى غيره بضرب ابنك صار كأنه يخفي عنك ذلك، وكأنه يجهل أنك عالم بما كان منه1. ونظير ما ذكرنا في تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به قوله تعالى يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: {وَلَقَدْ 2 عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بيان ذلك أن عجز الآية في بادئ الرأي يتنافى مع صدرها ذلك: أن معنى الآية: والله لقد علم اليهود أن من آثر كتاب السحر على كتاب الله ما له في ثواب الله من نصيب، ووالله لبئس ما باعوا به سعادتهم وحظوظهم لو كانوا يعلمون سوء مغبة ما فعلوا، فأنت ترى أن العلم الواقع بعد "لو"

_ 1 إنما جاز تنزيل العالم منزلة الجاهل عند عدم القيام بموجب العلم تنديدا به، وتقبيحا لحاله لأنه إذا كان عالما بالشيء ولم يعمل بموجب علمه، ثم أخبر به كان في إلقاء الخبر إليه إشارة إلى أنه هو والجاهل سواء وفي هذا من التوبيخ ما لا يخفى. 2 اللام موطئة للقسم، والضمير في {عَلِمُوا} لليهود واللام في {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} ابتدائية، وضمير {اشْتَرَاهُ} عائد على كتاب السحر والشعوذة، والمراد بالاشتراء: الاختيار والاستبدال، و {مَنِ} مبتدأ، وجملة {اشْتَرَاهُ} صلة، وقوله: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} جملة مركبة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبر {مَنِ} ، وجملة "من اشتراه إلخ" سادة مسد مفعولي "علم" لتعليقه بلام الابتداء، وجملة "ولبئس إلخ" معطوفة أما على جملتي القسم والجواب فيقدر فيها قسم, وتكون اللام في لبئس موطئة له، وأما معطوفة على جملة الجواب وحدها فلا يقدر فيها قسم وتكون اللام في لبئس موطئة للقسم الأول كاللام الأولى و"لو" شرطية ومفعول "يعلمون" محذوف أي: لو كانوا يعلمون مذمومية الشراء، أو ينزل الفعل منزلة اللازم أي: لو كانوا من أهل العلم وجواب "لو" محذوف تقديره "لامتنعوا".

منفي بها؛ لأنها حرف امتناع، وقد أثبت ذلك العلم لهم في صدر الآية، وهذا بحسب ظاهره تناف، ولأجل التحلل من هذا التنافي، والتوفيق بين ثبوت العلم لهم أولا، ونفيه عنهم ثانيا نزل العلم المثبت لهم منزلة عدمه لعدم جريهم على موجبه إذ لو علموا حقا سوء عاقبة ما فعلوا من إيثارهم كتاب السحر على كتاب الله لأقلعوا عنه. وإنما كانت الآية نظيرا لما نحن بصدده، وليست مثالا له؛ لأنها ليست من قبيل تنزيل العالم بالفائدة، أو لازمها منزلة الجاهل بهما؛ لأن اليهود ليسوا مخاطبين بالآية، ولم يقصد إعلامهم بها، منزلين منزلة الجاهلين وإنما المخاطب بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كما قدمنا، وهم ليسوا عالمين بفائدة الخبر1. 2- تنزيل خالي الذهن منزلة المتردد, وذلك إنما يكون حيث يقدم له كلام يلوح بجنس الخبر، ويشير إليه كأن يأتي إليك رجل يتشفع إليك في ابن لك غضبت عليه لسبب ما، فتقول له: "لا تحدثني في شأن هذا الولد العاق إنه مطرود من منزلي"، فقولك: "إنه مطرود" هو الخبر، وقد ألقي لخالي الذهن مؤكدا تنزيلا له منزلة المتردد في الحكم، الطالب لمعرفته. ذلك لأنه قدم له كلام يشعر بجنس هذا الحكم، وهو قولك أولا: "لا تحدثني في شأن هذا العاق" فإن هذا القول يشعر المخاطب أن المتشفع فيه قد استحق العقاب، وصار في مقام المتردد في نوع هذا العقاب أهو ضرب، أم طرد، أم حرمان من كذا، أم نحو ذلك من أنواع العقاب؟ وكأنه يطلب معرفته لهذا نزل منزلة المتردد، وخوطب خطابه, فخلوا الذهن هو ظاهر حال المخاطب، وهو أمر ثابت فيه متحقق يقتضي

_ 1 قد ينزل وجود الشيء منزلة عدمه كما في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فقد نزل الرمي منه -صلى الله عليه وسلم- منزلة العدم باعتبار ما ترتب عليه من الآثار العجيبة التي لا تترتب على فعل غيره من سائر البشر عادة، وهي إصابة جميع الكفار بالتراب في أعينهم، ولهذا نفي عنه بقوله: وما رميت، ثم أثبت له ثانيا بالنظر إلى الظاهر.

أن يلقى إليه الخبر خلوا من التأكيد, لكن المتكلم صرف النظر عن هذا الظاهر المتحقق، واعتبر في المخاطب أمرا آخر غير متحقق فيه، وذلك هو التردد لما قدم له من الكلام الملوح للخبر، وعامله في الخطاب معاملة المتردد, ومثله قوله تعالى خطابا لنوح عليه السلام: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} فقوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} مشعر بأن سيحل بقومه العقاب1، فصار نوح عليه السلام في مقام المتردد في نوع هذا العقاب لهذا نزل منزلة المتردد، وخوطب خطابه. 3- تنزيل العالم بالحكم منزلة المنكر إذا ظهر2 عليه شيء من أمارات الإنكار3 وحينئذ يؤكد له الكلام كما يؤكد للمنكر حقيقة كما إذا كان المخاطب مسلما تاركا للصلاة، أو معاقرا للخمر، فتقول له مؤكدا: "إن الصلاة لواجبة، أو إن الخمر لحرام"، فالمخاطب بحكم إسلامه يعلم قطعا بوجوب الصلاة، كما يعلم بحرمة الخمر، ولا ينكر ذلك، لكن تركه للصلاة، أو معاقرته للخمر جعله في منزلة المنكر ذلك إذ لو كان يؤمن حقا بوجوب الصلاة، أو بحرمة الخمر لما خالف أمر الله فيهما، لهذا خوطب خطاب المنكر خروجا بالكلام عن مقتضى ظاهر حاله -ومنه قول حجل4 بن نضلة القيسي.

_ 1 أي: مشعر بجنس الخبر وهو مطلق عقاب، ولا إشعار فيه بخصوص الخبر الذي هو الإغراق نعم إذا لاحظنا ضميمة قوله قبل ذلك: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا, كان فيه إشعار بخصوص هذا العقاب. 2 أو كان الحكم بعيدا والمخاطب سيئ الظن بالمتكلم، أو أن المتكلم يعرف من المخاطب أنه لا يقبله، أو غير ذلك من الأسباب التي تستدعي التأكيد. 3 أي: في زعم المتكلم لا الأمارات الموجبة لظن الإنكار وإلا كان التأكيد حقيقيا لا تنزيليا. 4 بفتح الحاء والجيم وهذا لقبه واسمه أحمد بن عمرو بن عبد القيس: نضلة: بفتح فسكون اسم أمه.

جاء شقيق عارضا رمحه ... إن بني عمك فيم رماح1 فشقيق هذا لا ينكر أن في بني عمه رماحا، بل إنه ليعلم ذلك بحكم الجوار، أو بحكم الخصومة القائمة بين الطرفين، لكن مجيئوه على هذه الصورة، واضعا رمحه عرضا من غير تهيؤ واستعداد، شأن الصلف، المزهو بنفسه، المدل بقوته جعله في منزلة المنكر أن في عمه من يستطيع نزاله في ميدان القتال، إذ لو كان معترفا بذلك لجاء على هيئة المستعد للقائهم، المتهيئ لقتالهم2. فعدم الإنكار فيما مثلنا "أولا وثانيا" ظاهر حال المخاطب، وهو أمر ثابت فيه ووصف له في الواقع يقتضي أن يلقي إليه الكلام خلوا من التأكيد، بل يقتضي ألا يلقي إليه الخبر أصلا لعلمه بالحكم الذي تضمنه، لكن المتكلم غض النظر عن هذا الظاهر، واعتبر في المخاطب أمرا آخر ليس متحققا فيه، ولا وصفا له هو "الإنكار" لما بدا عليه من أماراته، وخوطب خطاب المنكر حقيقة على غير ما يقتضيه ظاهر حاله كما تراه في البيت، وفي المثال قبله. 4- تنزيل المتردد في الحكم منزلة المنكر كما في قولك: "إن أخاك لناجح" لمن يتردد في نجاح أخيه، ولكنه يرجح عدم نجاحه، فهذا القول خبر وقد ألقي للمتردد مؤكدا تأكيدا يناسب المنكر للحكم تنزيلا له منزلته -ذلك أنه لما غلب على رأيه عدم نجاح أخيه صار بمثابة المنكر لنجاحه، واستحق أن ينزل منزلة المنكر في الخطاب- فالتردد حال ظاهرة

_ 1 عارضا رمحه أي: واضعا رمحه وهو راكب على فخذيه يكون عرضه جهة العدو, وإنما سماهم بني عم باعتبار أنهم جميعا من فصيلة العرب وإن تعددت قبائلهم، ولا يبعد أن يكون بين شقيق وهؤلاء القوم وشائج قربى. 2 في الشطر الثاني من البيت التفات من الغيبة إلى الخطاب وفي هذا تهكم وسخرية بشقيق ورمي له بالنزق وخرق الرأي إذ لو علم بعدة بني عمه ما اتجه إليهم بل لم تقو يده على حمل السلاح لضعف بنائه؛ ولأنه لم يألف هذه المواقف وكأنه يخاف عليه أن يداس بالقوائم كما يخاف على الصبيان.

للمخاطب، وهي وصف ثابت له حقيقة، يقتضي أن يلقى إليه الخبر مؤكدا تأكيدا يناسبه، ولكن غض النظر عن هذه الحال الظاهرة، واعتبر فيه أمر آخر ليس وصفا له في الواقع هو "الإنكار" وخوطب خطاب المنكر. 5- تنزيل المنكر منزلة المتردد كما في قولك: "إن الأدب نافع" لمن ينكر نفع الأدب، ولكن إنكاره ضعيف يزول بأدنى تأكيد فهذا القول خبر، وقد ألقى للمنكر مؤكدا تأكيدا يلائم المتردد في الحكم تنزيلا له منزلته بسبب ضعف إنكاره حتى كاد يكون مترددا لا منكرا, فالإنكار حال ظاهرة في المخاطب، وهي أمر ثابت فيه حقيقة, يقتضي أن يخاطب خطاب المنكر، فيؤكد له الخبر تأكيدا يتناسب مع إنكاره، لكن صرف النظر عن هذه الحال الظاهرة، وفرض فيه أمر آخر غير متحقق فيه هو "التردد" وخوطب خطابه1. 6- تنزيل المنكر منزلة خالي الذهن إذا كان الدليل على غير ما يعتقد واضحا، بحيث لو استطاع التأمل فيه لارتدع عن إنكاره كما في قوله تعالى خطابا لمنكر الوحدانية: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فهذا القول خبر، وقد ألقي للمنكر خلوا من التأكيد تنزيلا له منزلة من لم يكن منكرا ولا مترددا, ذلك أن الدليل على الوحدانية قائم بين يديه، لو نظر فيه نظرة عادلة، وأزال تلك الغشاوة من عينيه، والتفت إلى ما يحيط به من الآثار لأذعن عن جحوده, فالإنكار ظاهر حاله، وهو وصف له في الواقع يقتضي أن يلقى إليه الخبر مؤكدا وجوبا، لكن قطع النظر عن هذا الأمر الثابت، وفرض فيه أمر آخر غير متصف به في الواقع، وهو خلو الذهن من الحكم لنكتة وضوح الدليل القائم، بحيث يعتبر الإنكار معه كلا إنكار، وخوطب خطاب غير المنكر, ومثله قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} ، ومعناه:

_ 1 قد يقال: أي: ثمرة لتنزيل المنكر منزلة المتردد أو العكس مع أن كليهما يؤكد به القول من غير تنزيل، ويجاب بأن فائدة التنزيل نقص التوكيد في الأول، وزيادته في الثاني فإن المتردد يؤتى معه بتأكيد واحد، ويؤتى مع المنكر بأكثر من ذلك, وهذا الجواب أحسن مما أجاب به بعضهم من أن فائدة التنزيل صيرورة التأكيد مع المنكر واجبا، ومع المتردد مستحسنا إذ الوجوب والاستحسان لا يفهمان من اللفظ.

أن القرآن ليس مظنة للريب، ولا موضعا للشك، ولا ينبغي أن يرتاب فيه، وهذا الحكم مما ينكره الكثير من الكفار وكان مقتضى الظاهر أن يؤكد، فيقال: إنه لا ريب فيه، لكن نزل إنكارهم منزلة عدمه لما بين أيديهم من الدليل الواضح1 الدال على أنه لا ينبغي أن يكون موضع ريب. وإنما كان معنى الآية ما ذكرنا من كون القرآن ليس بمظنة للشك؛ لأننا لو أبقيناها على ظاهرها من نفي الريب على الاستغراق بمعنى: لم يقع فيه ريب من أحد لم يكن مطابقا للواقع لكثرة المرتابين فيه، فلا تكون الآية من قبيل جعل المنكر كغير المنكر؛ لأن الحكم الذي يجعل فيه المنكر كغيره يجب أن يكون مطابقا للواقع، عليه من الدلائل ما لو تأملها المنكر لأذعن، وأقلع عن إنكاره, وهذا الحكم -وهو نفي الريب على سبيل الاستغراق- ليس كذلك لثبوت الريب في الواقع2- إلى غير ذلك من المواضع التي يخرج فيها الكلام على غير مقتضى الظاهر لتنزيل الشيء منزلة غيره. تنبيهان: الأول: يعلم مما تقدم أن الحال وظاهر الحال -مع اتفاقهما في أن كلا منهما يدعو المتكلم إلى اعتبار أمر زائد في الكلام- يفترقان من حيث إن ظاهر الحال أخص مطلقا من الحال؛ لأن ظاهر الحال هو الوصف الثابت للمخاطب في الواقع كخلو الذهن أو التردد، أو الإنكار, بخلاف الحال فهو أعم من أن يكون وصفا ثابتا للمخاطب في الواقع، أو كان أمرا مفروضا فيه

_ 1 هو كونه معجزا تحدي العرب في أبين صفاتهم فعجزوا عن مباراته. 2 الأولى أن تكون الآية المذكورة من قبيل التنظير لتنزيل وجود الشيء منزلة عدمه, بناء على وجود ما يزيله، فينزل ريب المرتابين منزلة عدمه اعتمادا على ما يزيله من الأدلة والأمارات كما ينزل الإنكار منزلة عدمه, أما جعل الآية من قبيل المثال لما نحن بصدده فيحتاج إلى تأويل الآية بما ذكرنا من أن المعنى: ليس القرآن بمظنة للريب، وما لا يحتاج إلى تأويل أولى مما يحتاج.

فرضا, فالحال في نحو قولك لمنكر حقية الإسلام: "إن الإسلام لحق" هو الإنكار؛ لأنه أمر دعا المتكلم إلى أن يعتبر في كلامه خصوصية هي "التأكيد" وهو ظاهر حال أيضا؛ لأنه أمر ثابت للمخاطب في الواقع فقد اتحد الحال وظاهر الحال في مثل هذا المثال, أما في نحو قولك للمسلم التارك للزكاة: "إن الزكاة لواجبة" فإن الحال فيه "الإنكار" لأنه أمر دعا المتكلم إلى أن يعتبر التأكيد في خطابه، وليس ظاهر حال له إذ ليس وصفا ثابتا له في الواقع، وإنما الثابت له "عدم الإنكار", غير أن المتكلم لم يعتبر هذا الوصف، وفرض فيه أمرا ليس وصفا له في الواقع هو "الإنكار" وخاطبه على هذا الاعتبار, فظهر أن ظاهر الحال أخص مطلقا من الحال. الثاني: أن ما تقدم من الاعتبارات السابقة من ترك التأكيد لخالي الذهن، واستحسانه للمتردد، ووجوبه للمنكر على حسب إنكاره كما يجري في الإسناد المثبت -كما سبق- يجري مثله في الإسناد المنفي, فيقال لخالي الذهن في النفي: "ما محمد شاعرا" بلا تأكيد، ويسمى ابتدائيا, ويقال للمتردد: "ما محمد بشاعر" بالتأكيد المستحسن، ويسمى طلبيا، ويقال للمنكر: "والله ما محمد بشاعر" بالتأكيد الواجب، ويسمى إانكاريا. كذلك قد يخرج الكلام في النفي على غير مقتضى الظاهر كما في الإثبات، فينزل غير المنكر مثلا منزلة المنكر إذا ظهرت عليه أمارات الإنكار، فيؤكد له القول كما يؤكد للمنكر حقيقة، فيقال: "والله ما خلا هذا البلد من بني فلان" لمن بدت عليه أمارة إنكار أن هذا البلد لم يخل من هؤلاء الأعداء لذهابه إليهم على هيئة الآمن المطمئن, كما يجعل المنكر كغير المنكر إذا كان الدليل على غير ما يعتقد قائما بين يديه، لو تأمل فيه ارتدع، وحينئذ لا يؤكد له القول كما هو الشأن مع خالي الذهن، فيقال: "ما دين المجوسية حقا" لمنكر أن دين المجوسية ليس حقا, وعلى هذا يكون القياس.

اختبار

اختبار: 1- اذكر أحوال الإسناد الخبري، ثم بين أحوال المخاطب بالنظر إلى تأكيد الخبر، وعدم تأكيده، مع بيان نوع الخبر المناسب لكل حال، مع التمثيل. 2- بين الخلاف الواقع بين الإمام والجمهور في خطاب المتردد، وأي الرأيين أقرب إلى الصواب حسب رأيك؟ 3- لم كان العلم بالحكم لازما له. وهلا صح العكس؟ وضح ما تقول بالمثال، وائت بمثالين من عندك نزل في أحدهما العالم بالحكم منزلة الجاهل به، وفي الآخر بالعكس. 4- ائت بمثال نزل فيه خالي الذهن منزلة المتردد، مع بيان الفرق بين الحال وظاهر الحال، ومع توضيح ذلك بالمثال. 5- عين فيما يأتي من الجمل نوع الخبر، وبين ما جرى منها على مقتضى ظاهر الحال، وما جرى منها على خلافه. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، إني لوفي لأصدقائي. قولك في غير القرآن: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء. على رسلك يا علي، واقصد في القول إن في الحاضرين للسنا مقاويل. إن الميسر لرجس، "والخطاب لمسلم". لا تراوغ في الحق إن المبطل مخذول. إن شفاءك لقريب. "لمريض تردد في شفائه لخطورة مرضه". العالم حادث "لمنكر حدوثه". إن فرج الله قريب "لمنكر ذلك ولكن إنكاره ضعيف".

تؤخذ اسنكر تمرين يطلب جوابه قياسا على ما سبق: للحق الغلبة ولو بعد حين, إن ربك لبالمرصاد, إن الحق واضح أبلج, لم ترع الله في عملك، إن الله يعلم ما تصنعون، لكم من زكاة أموالكم ثراء، دعني وشأن هذا الأثيم قد حولت قلبي عنه، وصرمت حبال

وده. إن الصلاة لإحدى دعائم الإسلام "لمسلم" القرآن شفاء القلوب "لمنكر ذلك". لقد وافق الرئيس على تعيينك "لمتردد". لا يغرنك ما كتب، إن بين السامعين كتابا. محمد رسول الله "لمنكر الرسالة". إن الله لعزيز ذو انتقام، لمنكر الحكم.

الثالث والرابع من أحوال الإسناد الخبري الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

الثالث والرابع من أحوال الإسناد الخبري, الحقيقة العقلية, والمجاز العقلي 1: وإنما ذكرا في علم المعاني، مع أنهما من مباحث علم البيان تتميما لذكر الأحوال التي تعرض للإسناد. الحقيقة العقلية, هي إسناد الفعل، أو ما يدل على معنى الفعل2 إلى شيء3 بني الفعل، أو ما يدل على معناه له4 عند المتكلم فيما يؤخذ من ظاهر حاله5.

_ 1 شرط الخطيب القزويني -على ما سيأتي في تعريفي الحقيقة والمجاز العقليين- أن يكون المسند فيهما هو الفعل، أو ما في معناه من سائر المشتقات، وأن يكون المسند إليه الفاعل، أو نائبه لا غير، وبغير ما ذكرنا لا يكون حقيقة ولا مجازا عنده كإسناد الخبر إلى المبتدأ سواء كان الخبر مشتقا كما في إسناد كاتب إلى محمد في قولك: "محمد كاتب"، أو كان الخبر جامدا كما في إسناد "جسم" إلى حيوان في نحو: "الحيوان جسم", فالإسنادان المذكوران ليسا حقيقة ولا مجازا عنده, أما عند السكاكي فالإسناد منحصر فيهما حيث عرف كلا منهما بأنه إسناد الشيء إلخ. والشيء أعم من أن يكون فعلا أو ما في معناه، أو أن يكون خبرا, مشتقا أو جامدا كما رأيت. 2 المراد بالفعل المعنى المصطلح عليه، والمراد بما يدل على معناه ما يدل تضمنا كالمصدر واسم الفاعل واسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم التفضيل، والظرف المستقر فإن هذه الأشياء إنما تدل على جزء معنى الفعل وهو الحدث لا على تمام معناه وإلا كانت أفعالا. 3 المراد بالشيء الفاعل فيما بني للفاعل ونائب الفاعل فيما بني له ولا ثالث لهما عند الخطيب. 4 معنى كونه "له": أن معناه قائم به مطلق قيام, سواء صدر عنه باختياره كنحو كتب وشعر أو بغيره كمرض وشفي. 5 فالتعريف المذكور شامل لما فيه سلب، فيقدر فيه أن الإثبات كان قبل النفي, ففي قولنا: ما محمد شاعرا، يقدر فيه أن الشعر كان مسندا إلى محمد، ثم نفي عنه.

مثال إسناد الفعل إلى ما بني له قولك: "هزم خالد الجيش"، "وهزم الجيش", ففي المثال الأول أسند الفعل، وهو "هزم" مبنيا للمعلوم شيء هو "خالد"، والفعل على هذه الصورة مبني وموضوع؛ لأن يسند إلى "خالد" لأنه الفاعل للهزيمة, وفي لمثال الثاني أسند الفعل، وهو "هزم" مبنيا للمجهول إلى شيء هو "الجيش"، والفعل على هذه الصورة مبني وموضوع لأن يسند إلى "الجيش" لأنه المفعول الواقع عليه الهزيمة. ومثال إسناد ما يدل على معنى الفعل قولك: جاء الصادق قوله، المحمود فعله، الكريم خلقه "فالصادق" اسم فاعل مسند إلى "قوله"، و"المحمود" اسم مفعول مسند إلى "فعله" و"الكريم" صفة مشبهة مسندة إلى "خلقه"، وكلها شبيهات بالفعل دالة على معناه. أما نحو "صام نهاره" فليس من الحقيقة العقلية في شيء إذ لم يبن الفعل المذكور؛ لأن يسند إلى النهار؛ لأن الصوم لا يصدر عن النهار. وإنما يكون من الشخص، والنهار ظرف له. وقوله: عند المتكلم في ظاهر حاله قيدان أتيا بهما للإدخال. وتوضيح المقام: أن قوله: "بني الفعل، أو ما يدل على معنى الفعل لذلك الشيء" يتبادر منه أن البناء له بحسب الواقع ونفس الأمر، فيتناول ما طابق الواقع فقط، وما طابق الواقع والاعتقاد معا, فالأول كقول الكافر: أبرأ الله المريض، فإن فعل الإبراء بني؛ لأن يسند إلى الله تعالى، لكن لا في اعتقاده هو، بل في الواقع فقط, والثاني كأن يقول هذا القول مؤمن، فالإبراء هنا بني؛ لأن يسند إلى الفاعل المختار في الواقع، وفي اعتقاده أيضا. ولا يتناول ما طابق الاعتقاد فقط، وما لم يطابق واحدا منهما, فالأول كقول الكافر: أبرأ الطبيب المريض, فإن إسناد الإبراء إلى الطبيب في اعتقاده فقط، لا في الواقع لأن المبرئ في الواقع هو الله تعالى, والثاني كأن تقول كذبا: قدم أبوك.

فهاتان الصورتان خارجتان؛ لأنهما على خلاف المتبادر من قوله. بني الفعل أو ما في معناه له، وهو أن يكون البناء له، بحسب الواقع. فإذا زيد قوله: "عند المتكلم" دخل ما طابق الاعتقاد فقط، وهو إحدى الصورتين الخارجتين كقول الكافر المتقدم: أبرأ الطبيب المريض، وبقي ما طابق الاعتقاد والواقع داخلا في التعريف كقول المؤمن: "أبرأ الله المريض" وإنما تناول هذا القيد هاتين الصورتين؛ لأن الفعل فيهما مبني لما هو له -عند المتكلم- أي: في اعتقاده. وخرج به ما طابق الواقع فقط، وهو إحدى الصورتين الداخلتين كقول الكافر: "أبرأ الله المريض"، وما لم يطابق واحدا منهما كالخبر الكاذب المتقدم, وإنما خرجت هاتان الصورتان -بهذا القيد- لأن الفعل فيهما لم يبن لما هو له -عند المتكلم- أي: في اعتقاده. فإذا زيد قوله: "في ظاهر حال المتكلم" دخلت هاتان الصورتان؛ لأن الفعل فيهما بني لما هو له عند المتكلم في ظاهر حاله؛ لأن الظاهر من حاله أنه يسند الفعل إلى فاعله ما لم ينصب1 قرينة دالة على حاله, وحينئذ يتناول تعريف الحقيقة العقلية أقساما أربعة. 1- ما طابق الواقع والاعتقاد كقول المؤمن: "أنبت الله الزرع" فإن إخراج النبات في الواقع لله، وفي اعتقاد الكافر للغيث، ومحل ذلك إذا كان المخاطب يعلم أن المتكلم مؤمن، ينسب الآثار كلها لله، وعلم المتكلم منه ذلك إذ المفهوم من ظاهر حال المتكلم حينئذ أن الإسناد إلى ما هو له، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المخاطب مؤمنا أو كافرا2 إذ المدار على اعتقاده بأن المتكلم مؤمن, فإذا اعتقد أن المتكلم كافر، يضيف الإنبات

_ 1 المراد بنصبها ملاحظتها لتشمل قرائن الأحوال، وهذا يفيد أن المجاز لا يتحقق بمجرد وجود القرينة من غير ملاحظة دلالتها على المراد، ويكون الإسناد في هذه الحالة حقيقة فمدار الحقيقة والمجاز على ملاحظة القرينة, غير أنه لما كانت الملاحظة أمرا خفيا أدير الأمر على وجودها إن كانت مقالية وعلى ملاحظتها إن كانت حالية. 2 المراد بالكافر من يعتقد نسبة التأثير لغير الله تعالى.

إلى الربيع، كان الإسناد مجازا؛ لأن المخاطب يفهم حينئذ من ظاهر حال المتكلم أن الإسناد لغير ما هو له، ويكون اعتقاده هذا قرينة المجاز. لكن هل يشترط أن يكون المتكلم عالما بأن المخاطب يعتقد فيه ما ذكر ليكون علمه باعتقاده ذلك نصبا للقرينة الصارفة، أو لا يشترط ذلك؟ قيل بالأول لأن الشرط نصب القرينة، لا مجرد وجودها؛ وقيل بالثاني لأن الشرط وجود القرينة الصارفة، والراجح الأول. لكن قد يقال: إذا كان المخاطب غير جازم بحال المتكلم: فلا يدرى أهو مؤمن يضيف الإنبات إلى الله، أم كافر يضيف الإنبات إلى الربيع، فمن أي قبيل يكون الإسناد، أمن الحقيقة هو، أم من المجاز؟ وقد يجاب بأنه حقيقة إذ لا قرينة صارفة فظاهر حال المتكلم حينئذ أنه يسند الفعل إلى ما هو له. 2- ما طابق الواقع فقط كقول المعتزلي، وهو يخفي حاله عن المخاطب: "خلق الله الأفعال كلها" فقد طابق هذا الإسناد الواقع؛ لأن الأفعال كلها لله تعالى حقيقة، ولم يطابق اعتقاد المعتزلي لاعتقاده أن خالق الأفعال الاختيارية هو العبد, ولا فرق في ذلك بين أن يكون المخاطب يعرف حال المتكلم أو لا, فالمدار في كون الإسناد حقيقة على قصد الإخفاء؛ لأن المتكلم حينئذ لا ينصب قرينة على عدم إرادة ظاهر اللفظ، فالمفهوم من ظاهر حاله حينئذ أن الإسناد لما هو له. فإن قال المعتزلي ذلك وهو يظهر حاله للمخاطب كان الإسناد مجازا؛ لأن الإظهار حينئذ يكون بمثابة قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له، بل إلى السبب، وهو الله تعالى في زعمه. 3- ما طابق الاعتقاد فقط كقول الكافر "أخرج الغيث النبات" فإن إخراج النبات في الواقع لله، وفي اعتقاد الكافر للغيث، ومحل ذلك إذا كان المخاطب يعلم أن المتكلم كافر ينسب الآثار لغير الله، والمتكلم يعلم منه ذلك إذ المفهوم من ظاهر حال المتكلم حينئذ أن الإسناد إلى ما هو له، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المخاطب مؤمنا أو كافرا إذ المدار على اعتقاده بأن المتكلم كافر.

فإن كان يعتقد أنه مؤمن يضيف إخراج النبات إلى الله تعالى، وقد علم المتكلم منه ذلك الاعتقاد كان الإسناد مجازا؛ لأنه المفهوم من ظاهر حاله, ويكون هذا الاعتقاد من المخاطب قرينة على المجاز، وعلم المتكلم به نصبا للقرينة. وإذا تردد المخاطب في حال المتكلم أمؤمن هو أم كافر؟ ففيه ما تقدم من أن الإسناد يكون حقيقة لعدم وجود القرينة الصارفة فضلا عن نصبها. 4- ما لا يطابق الواقع ولا الاعتقاد كقولك: "جاء محمد" وأنت خاصة تعلم أنه لم يجئ، دون المخاطب إذ لو علمه المخاطب أيضا، وكان المتكلم يعلم منه ذلك ما تعين كونه حقيقة لجواز أن يكون المتكلم جعل علم المخاطب بأن محمدا لم يجئ قرينة على أنه لم يرد ظاهره. فالتركيب المذكور إذا من قبيل الحقيقة ولو لم يطابق واحدًا منهما؛ لأن الفعل فيه مسند إلى ما هو له فيما يظهر من حال المتكلم، ولا ينافي ذلك كذبه إذ الكذب لا ينافي الحقيقة. المجاز العقلي: سمي مجازًا عقليا نسبة إلى العقل؛ لأنه المتصرف في الإسناد، أو لأن التصرف والتجوز في أمر معقول هو الإسناد, بخلاف المجاز اللغوي فقد سمي بذلك لتوقفه على اللغة أي: معرفة أن هذا اللفظ مثلا موضوع لكذا لا لكذا، أو لأن التصرف فيه في أمر نقلي، وهو أن هذا اللفظ لم يوضع لكذا بل لكذا وسمي أيضا مجازًا حكميا1، ومجازا في الإثبات2، وإسنادا مجازيا3.

_ 1 نسبة إلى الحكم بمعنى النسبة لتعلقه بها. 2 قيل إن التقيد بالإثبات يفيد عدم جريان المجاز في النفي وليس كذلك قال تعالى: فما ربحت تجارتهم, وأجيب بأن التقيد بالإثبات مراعاة للأصل وأن النفي فرع عنه, وقد يجاب بأن المراد بالإثبات الانتساب والاتصاف فيشمل الإيجاب والسلب إذ في كل منهما انتساب واتصاف. 3 أي: إسنادا منسوبا إلى المجاز.

تعريفه: هو إسناد الفعل، أو ما في معناه إلى غير ما هو له للملابسة بتأول1. وذلك "الغير" المسند إليه الفعل، أو ما في معناه أعم من أن يكون غيرا في الواقع، أو عند المتكلم في ظاهر حاله, وبهذا التعميم شمل التعريف الأقسام الأربعة المتقدمة في الحقيقة العقلية، فإنها تجري أيضا في المجاز العقلي باعتبار حال المخاطب أو المتكلم. فمثال ما طابق الواقع والاعتقاد قول المؤمن: "شفى الله المريض" لمن يعتقد أن المتكلم كافر يضيف الشفاء إلى الطبيب، وعلم المتكلم بهذا الاعتقاد, فهذا القول مجاز عقلي؛ لأنه إسناد الفعل إلى غير ما هو له بالنظر لما يعتقده المخاطب فيه، ويكون اعتقاد المخاطب قرينة المجاز، وعلم المتكلم بهذا الاعتقاد نصبا لهذه القرينة. ومثال ما طابق الواقع فقط قول المعتزلي السابق: "خلق الله الأفعال كلها" لمن يعلم حاله، والمتكلم يعرف منه ذلك, فهذا مجاز عقلي؛ لأنه إسناد الفعل إلى غير ما هو له بالنظر إلى حال المتكلم والمخاطب معا، ويكون علم المخاطب بحاله قرينة هذا المجاز، وعلم المتكلم باعتقاد المخاطب نصبا لهذه القرينة كما تقدم. ومثال ما طابق الاعتقاد فقط قول الكافر "شفى الطبيب المريض" لمن يعتقد أن ذلك القائل ممن يضيف الشفاء إلى الله، وعلم المتكلم منه ذلك فهذا القول مجاز عقلي؛ لأنه إسناد الفعل إلى غير ما هو له بالنظر لحال المخاطب. ومثال ما لم يطابق واحدا منهما قولك: نجح أخوك في الامتحان لمخاطب يعلم أنه لم ينجح، وأنت أيضا تعلم بإخفاقه فيه، وتعلم كذلك أن المخاطب عالم به, فهذا القول مجاز عقلي؛ لأن إسناد الفعل إلى غير

_ 1 "التأول" من آل إلى كذا رجع إليه ومعناه: تطلب المآل الذي هو حقيقة الكلام التي يئول إليها المجاز بتطلبها الالتفات إليها وملاحظتها وذلك إنما بنصب قرينة على إرادة خلاف المراد.

ما هو له بالنظر لحال المتكلم والمخاطب معا، وقرينة المجاز، ونصبها على ما تقدم في الأمثلة السابقة1. ولا بد لهذا المجاز من علاقة بين المسند إليه المجازي، والمسند إليه الحقيقي تسوغ إسناد الفعل، أو ما في معناه إلى المسند إليه المجازي, وتلك العلاقة هي التي عبر عنها في التعريف بقوله "للملابسة"، وهي أن يشابه المسند إليه المجازي المسند إليه الحقيقي في مطلق ملابسة الفعل لهما، وتعلقه بكل منهما. فقولك مثلا: "قام الليل" إسناد مجازي أسند فيه الفعل وهو "قام" إلى غير ما هو له، وهو "الليل"، فالليل ليس فاعلا حقيقيا للقيام، وإنما الفاعل الحقيقي هو الشخص، والليل ظرف للقيام، ففاعليته إذًا مجازية, والذي سوغ إسناد الفعل إليه مشابهته للفاعل الحقيقي الذي هو الشخص في تعلق الفعل به، وذلك أن الفعل الذي هو القيام تعلق بالشخص من حيث صدوره منه، وتعلق بالليل من حيث وقوعه فيه, فالعلاقة بين الفاعلين -الحقيقي والمجازي- هي المشابهة في أن الفعل لابس كلا منهما، وتعلق به، وإن اختلفت جهة التعلق. وللفعل وما في معناه ملابسات شتى، فهو يلابس الفاعل الحقيقي لصدوره منه، أو قيامه به، ويلابس المفعول به الحقيقي2 لوقوعه عليه، ويلابس المصدر لكونه جزء مفهومه، ويلابس الزمان لكونه جزء مفهومه

_ 1 وبذلك التعميم أيضا سقط اعتراض وارد على قولح: "غير ما هو له" وهو أنه: إن أريد غير ما هو له عند المتكلم في الظاهر فلا حاجة إلى قوله: "بتأول" لأنه لا يسند الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له عند المتكلم إلا إذا كان ثم قرينة تدل على أن ذلك المسند إليه غير فقوله: "إلى غير ما هو له" يتضمن اعتبارها, وإن أريد: غير ما هو له في الواقع خرج عن التعريف ما طابق الواقع دون الاعتقاد نحو قول الجاهل: شفى الله المريض مجازا باعتبار الإسناد إلى السبب, وهو الله تعالى في زعمه, إذ يعتقد أن الفاعل الحقيقي هو الطبيب, وأن الله سبب وحينئذ فلا يكون التعريف جامعا. من أجل هذا أراد المعنى الأعم من الغير في الواقع والغير عند المتكلم، ويكون قوله: "بتأول" محتاجا إليه بالنسبة لما هو غير الواقع, ودخل في التعريف قول الجاهل المذكور. 2 المراد به نائب الفاعل؛ لأنه المسند إليه.

كذلك، أو لكونه لازما لوجوده إذ لا بد للفعل من زمان يقع فيه، ويلابس المكان لكونه لازما لوجوده إذ لا بد للفعل أيضا من مكان يقع فيه، ويلابس السبب لحصوله به1. فإسناد الفعل المصوغ للفاعل إلى الفاعل نحو: "قدم محمد"، وإسناد الفعل المصوغ للمفعول إلى المفعول نحو: "أكرم علي" حقيقة عقلية كما تقدم؛ لأن الفعل فيهما أسند إلى ما صيغ لأجله، وبني له, فالفعل المبني للفاعل صيغ؛ لأن يسند إلى الفاعل، والفعل المبني للمفعول صيغ؛ لأن يسند إلى المفعول كما رأيت. أما إسناد الفعل المبني للفاعل إلى غير الفاعل، وإسناد الفعل المبني للمفعول إلى غير المفعول فمجاز عقلي؛ لأن الفعل فيهما أسند إلى غير ما صيغ لأجله، وبني له، وإليك الأمثلة: فمثال إسناد الفعل المبني للفاعل إلى المفعول قولك محدثا عن إنسان: "رضيت عيشته" فلفظ "رضي" فعل مبني للفاعل، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو صاحب العيشة، فيقال: "رضي محمد عيشته" لكنه أسند إلى المفعول الذي هو العيشة إسنادا مجازيا للمشابهة بين محمد والعيشة في تعلق الفعل المذكور بكل منهما، فتعلقه بمحمد من حيث صدوره منه، وتعلقه بالعيشة من حيث وقوعه عليها، فالعيشة إذًا مسند إليه مجازي, ومنه قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} فقد أسند فيه اسم الفاعل من "رضي" المبني للفاعل إلى ضمير المفعول الذي هو "العيشة" إسنادا مجازيا من إسناد ما هو في معنى الفعل إلى غير ما هو له. وأصل التركيب: رضي محمد عيشته فأقيم المفعول مقام الفاعل للمشابهة بينهما على ما تقدم، ثم أسند الفعل إليه، فصار رضيت عيشته،

_ 1 لم يتعرض للمفعول معه نحو: جاء الأمير والجيش، أو الحال نحو: قدم الأمير راكبا، أو التمييز نحو: طاب محمد نفسا، أو المستثنى نحو: قدم القوم إلا محمدا؛ لأن الفعل لا يسند إليها مع بقائها على معانيها.

ثم اشتق من الفعل المذكور اسم فاعل، وأسند إلى ضمير العيشة بعد جعله مبتدأ، فصار عيشة راضية. ومثال إسناد الفعل المبني للمفعول إلى الفاعل قولك: أفعم السيل فلفظ "أفعم" فعل مبني للمجهول، وكان حقه أن يسند إلى المفعول الحقيقي الذي هو "الوادي" فيقال: أفعم الوادي أي: امتلأ، لكنه أسند إلى الفاعل الذي هو "السيل" إسنادا مجازيا للمشابهة بين "السيل والوادي" في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالسيل من حيث صدوره عنه، وتعلقه بالوادي من حيث وقوعه فيه فالسيل حينئذ مسند إليه مجازي, ومنه قولهم: "سيل مفعم" بفتح العين فقد أسند فيه اسم المفعول إلى ضمير السيل إسنادا مجازيا من إسناد ما هو في معنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه, وأصل التركيب هكذا: "أفعم السيل الوادي" فبني الفعل للمجهول، وأقيم الفاعل مقام المفعول للمشابهة بينهما على ما سبق بيانه، ثم أسند الفعل إليه، فصار: أفعم السيل، ثم اشتق من "أفعم" المبني للمجهول اسم مفعول، وأسند إلى ضمير السيل بعد جعله مبتدأ، فصار: "سيل مفعم". ومثال إسناد الفعل إلى المصدر قولهم: "جد جده" وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو الإنسان، فيقال: جد الإنسان جدا، لكنه أسند إلى المصدر إسنادا مجازيا للمشابهة بين المصدر والفاعل الحقيقي, في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالمصدر من حيث إنه جزء مفهومه، وتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه فالمصدر إذًا مسند إليه مجازي, ومنه قولهم: "شعر شاعر" فقد أسند فيه اسم الفاعل إلى ضمير المصدر إسنادا مجازيا من إسناد ما هو بمعنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه1. ومثال إسناد الفعل إلى ظرف الزمان قولهم: "صام نهاره" برفع نهاره على الفاعلية، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي، فيقال: صام محمد في نهاره لكنه أسند إلى الظرف الذي هو "النهار" إسنادا مجازيا

_ 1 يحتمل أن يكون المراد بالشعر الكلام المؤلف المنظوم فيكون المثال من قبيل اسم الفاعل المسند إلى ضمير المفعول كما في عيشة راضية.

للمشابهة بين المسند إليه الحقيقي والمجازي في تعلق الفعل بهما، فتعلقه "بمحمد" من حيث صدوره منه، وتعلقه "بالنهار" من حيث وقوعه فيه. فالظرف حينئذ مسند إليه مجازي, ومنه قولهم: "نهاره صائم، وليله قائم فقد أسند فيهما اسم الفاعل إلى ضمير الظرف، وهو "النهار" في المثال الأول، و"الليل" في المثال الثاني إسنادا مجازيا من إسناد ما هو بمعنى الفعل إلى غير ما هو له. ومثال إسناد الفعل إلى ظرف المكان قولك: "جرى النهر" برفع النهر على الفاعلية، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو "الماء" فيقال: جرى الماء في النهر، لكنه أسند إلى الظرف الذي هو "النهر" أي: مجرى الماء للمشباهة بين "النهر والماء" في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالماء من حيث صدوره منه، وتعلقه بالنهر من حيث وقوعه فيه، فالظرف إذا مسند إليه مجازي, ومنه قولهم: "نهر جار" فقد أسند فيه اسم الفاعل إلى ضمير الظرف الذي هو "النهر" إسنادا مجازيا من إسناد ما هو بمعنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه. ومثال إسناد الفعل إلى السبب قولهم: "بنى هامان الصرح"، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي الذي هو "العملة" إذ هم البانون حقيقة، فيقال: بنى العملة الصرح بأمر هامان، لكنه أسند إلى السبب الباعث الذي هو "هامان" إسنادا مجازيا للمشابهة بين هامان والعملة في تعلق الفعل بهما فتعلقه بالعملة من جهة صدوره عنهم، وتعلقه بهامان من حيث إنه السبب الآمر فهامان حينئذ مسند إليه مجازي, ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون موسى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} فقد أسند فيه الفعل إلى ضمير هامان مجازا من إسناد الفعل إلى السبب, فمما تقدم لك من الأمثلة تعلم أن: علامة المجاز العقلي: هي مشابهة المسند إليه المجازي للمسند إليه الحقيقي في تعلق الفعل، أو ما في معناه بكل منهما، وإن اختلفت جهة التعلق كما عرفت. كذلك لا بد للمجاز العقلي من قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد

على حقيقته؛ لأن المتبادر إلى الفهم عند انتفاء القرينة هو الحقيقة بمعنى أن ظاهر الكلام بغض النظر عن القرينة يفيد أن الإسناد إلى ما هو له, وهذا هو المراد بقوله في تعريف المجاز: "بتأول" أي: بأن تنصب قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له, وبهذا القيد خرج ما لا تأول فيه، وهو أمران: الأول: ما طابق الاعتقاد دون الواقع كما في إسناد الفعل للأسباب العادية كقول الجاهل: "شفى الطبيب المريض1" فهذا القول -وإن أسند فيه الفعل إلى غير ما هو له في الواقع- لا تأول فيه لأن الجاهل لا ينصب قرينة صارفة عن إرادة الظاهر من قوله؛ لأن هذا الظاهر هو مراده ومعتقده، فهو يعتقد أن الشفاء من الطبيب، وأن الله سبب، وإذ كان هذا القول لا تأول فيه فهو حقيقة عقلية, ومنه قول الصلتان العبدي2 من قصيدة: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي والشاهد في البيت الأول حيث أسند "أشاب وأفنى" إلى كر الغداة ومر العشي وهو إسناد في ظاهره حقيقي لعدم التأول فيه, إذا قطعنا النظر عما ورد في هذه القصيدة مما يدل على أن الشاعر لم يكن دهريا، يعتقد تأثير الزمان، بل كان موحدا يضيف الإشابة والإفناء إلى الله تعالى3.

_ 1 ومثله قولهم: أنبت الربيع البقل، وأحرقت النار الحطب وقطع السكين اللحم، فالإسناد فيما ذكر وأشباهه إذا صدر من الجاهل حقيقة عقلية لانتفاء التأول فيها, أي: لانتفاء نصب القرينة الصارفة. 2 الصلتان لقبه واسمه قثم بن خبية بن عبد القيس وإليه ينسب فيقال: العبدي وهو -كما قيل- شاعر إسلامي سليط اللسان. 3 فهو الذي يقول بعد: الم تر لقمان أوصى ابنه ... وأوصيت عمرا ونعم الوصي ومراده بوصاية لقمان قوله: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} ، بل يقول ما هو أصرح من هذا: فملتنا أننا المسلمون ... على دين صديقنا والنبي

الثاني: الأقوال الكاذبة كقولك: "أمطرتنا السماء" وأنت تعلم أنها لم تمطر فإن إسناد الفعل في مثل هذا -وإن كان إلى غير ما هو له- لا تأول فيه لأن الكاذب لا ينصب قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له إذ هو جد حريص على ترويج ظاهره، وما لا تأول فيه فهو حقيقة. والقرينة نوعان: لفظية ومعنوية فاللفظية: أن يكون في الكلام لفظ يصرفه عن ظاهره أي: عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له كما في قول الصلتان العبدي السابق إذا لاحظنا قوله فيما بعد: الم تر لقمان أوصى ابنه ... وأوصيت عمرا ونعم الوصي وقوله: فملتنا أننا المسلمون ... على دين صديقنا والنبي فإن هذا القول منه يعتبر قرينة صارفة عن أن يكون إسناد الإشابة والإفناء إلى تعاقب الأيام والليالي إسنادا حقيقيا, ومثله قول أبي النجم: ميز عنه قنزعا عن قنزع ... جذب الليالي أبطئي أو أسرعي أفناه قيل الله للشمس اطلعي ... حتى إذا واراك أفق فارجعي1

_ 1 "ميز عنه" بمعنى أزال عنه والضمير في عنه راجع إلى "الرأس" في البيت قبله وهو. قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع لما رأت رأسي كرأس الأصلع "والقنزع" بضم القاف وسكون النون وضم الزاي أو فتحها الشعر المتجمع في نواحي الرأس "وجذب الليالي" مضيها وتعاقبها، وقوله "أبطئي أو أسرعي" حالان من الليالي على تقدير القول؛ لأن الجملة الطلبية إذا وقعت حالا لا بد فيها من تقدير القول أي: مقولا في شأنها من الشاعر: أبطئي أو أسرعي" إذ لا يبالي وقد تقدمت به السن، وضعف أمله في الحياة أأبطأت أم أسرعت، وقيل الله أمره وإرادته.

يقول: إن الذي أفنى شعره1 وأزاله خصلة بعد خصلة اختلاف الليالي، وتعاقب الأيام، فقد أسند "ميز" إلى "جذب الليالي" وهو -كما ترى- إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه بناء على أنه زمان، له أو سبب فيه, وقرينة المجاز قوله بعد: "أفناه قيل الله للشمس اطلعي" إذ دل ذلك على أن القائل موحد يسند الأمور إلى بارئها, وكقولك: هزم الأمير الجيش وهو في قصره فهو كذلك إسناد مجازي أسند فيه الفعل إلى غير ما هو له؛ لأن الأمير لم يفعل شيئا، والذي سوغ الإسناد إليه أنه سبب في الهزيمة، والقرينة الدالة على هذا التجوز قولك: "وهو في قصره". والمعنوية: ألا يكون في الكلام لفظ صارف عن إرادة الظاهر، بل هو أمر خارج عن اللفظ، وذلك أحد أمرين: الأول: أن يكون قيام المسند بالمسند إليه مستحيلا عقلا، أو عادة فمثال المستحيل عقلا قولك: "محبتك جاءت بي إليك"، فإسناد المجيء إلى المحبة مجاز عقلي أسند فيه الفعل إلى غير ما هو له بناء على أن المحبة سبب في المجيء، وقرينة المجاز استحالة قيام المجيء بالمحبة عقلا2 والمراد بالمستحيل عقلا ما كان مستحيلا بالضرورة، وهو ما لو خلى العقل ونفسه لعده محالا على البديهة، ولا يسع أحدا من الناس أن يجيزه. ومثال المستحيل عادة قولهم: "هزم القائد الجيش" فإسناد الهزيمة إلى القائد مجاز عقلي قرينته استحالة أن يهزم القائد الجيش وحده عادة وإن أمكن عقلا.

_ 1 يحتمل أن يكون ضمير المفعول في "أفناه" عائد إلى شبابه أو إلى نفسه فالمعنى على الأول: أفنى شبابه أي: أطفأ زهرته. وأزال نضرته وعلى الثاني: أفنى ذاته أي: جعله مشرفا على الفناء والعدم. 2 بناء على ما ذهب إليه المبرد من أن باء التعدية تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في حصول الفعل فمعنى ذهبت بعلي: صاحبت عليا في الذهاب، وعلى هذا فمعنى قولك: محبتك جاءت بي إليك: أن محبتك صاحبتني في المجيء إليك ولا شك أن مجيء المحبة محال.

الثاني: أن يكون الكلام صادرا عن الموحد كأن يقول المؤمن: قوست ظهري أحداث الزمان، فهذا الإسناد مجاز عقلي أسند فيه الفعل إلى غير ما هو له بناء على أن أحداث الزمان سبب في التقويس، وقرينة المجاز صدور هذا القول من مؤمن، يرى أن الله تعالى مصدر الأفعال كلها, وليس هذا وأمثاله مما استحالته عقلية حتى يكون داخلا في الأمر, إذ لم يجمع العقلاء على استحالة مثل هذا بدليل أن كثيرا من ذوي العقول ذهبوا إليه، وقالوا به واحتجنا في الرد عليهم إلى الدليل, فالقرينة في هذين الأمرين معنوية إذ ليس في الكلام لفظ صريح يدل على التجوز في الإسناد، وإنما الدال عليه أمر معنوي كما رأيت. وجوب أن يكون للمجاز العقلي حقيقة: اختلف الرأي في هذه المسألة، فقال الخطيب: إن المسند في المجاز العقلي يجب أن يكون له مسند إليه حقيقي، يكون الإسناد إليه حقيقة, غير أن هذا المسند إليه. "تارة": يكون ظاهرا يدرك بأدنى تأمل كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} فإن الفاعل الحقيقي للربح هو التجار، وإنما كان الفاعل ظاهرا بسبب عرف الاستعمال، فقد تعارف أهل اللغة: أنهم إذا قصدوا الاستعمال الحقيقي أضافوا الربح للتجار لا للتجارة: فقالوا: فما ربح التجار في تجارتهم, ومثله قولهم: "أنبت الربيع البقل"، "وشفى الطبيب المريض" فإن الفاعل الحقيقي فيهما هو الله تعالى، ولا خفاء فيه لما تعارفوا عليه في الاستعمال. وتارة: يكون المسند إليه الحقيقي خفيا، لا يدرك إلا بشيء من التأمل كما في قولهم: "سرتني رؤيتك"، وقولهم: أقدمني بلدك حق لي عليك، وكقول الشاعر: يزيد وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا1

_ 1 وقبل هذا البيت: يرينا صفحتي قمر ... يفوق سناهما القمرا

فليس الفاعل الحقيقي للسرور، والإقدام، والزيادة هو ما ذكر من الرؤية، والحق، والوجه، وإنما الفاعل الحقيقي لهذه الأمور هو الله تعالى, وأصل الكلام: سرني الله عند رؤيتك، وأقدمني الله بلدك لأجل حق لي عليك، ويزيدك الله حسنا في وجهه, لكن لما كثر في استعمالهم إسناد هذه الأفعال إلى الفاعل المجازي، وإهمال إسنادها إلى الفاعل الحقيقي خفي حينئذ الفاعل الحقيقي، بحيث لا يخطر بالبال، ولا يدرك إلا مع شيء من النظر. وقال الإمام عبد القاهر: ليس بواجب في المجاز العقلي أن يكون للمسند فاعل حقيقي أسند إليه أو لا إسنادا معتدا به في العرف والاستعمال قبل إسناده إلى الفاعل المجازي، بل: تارة: يكون له مسند إليه حقيقي أسند إليه أولا إسنادا معتدا به عرفا واستعمالا، ثم نقل إلى المسند إليه المجازي كما في قولهم: شفى الطبيب المريض فإن المسند هنا فاعلا حقيقيا هو "الله تعالى"، وقد أسند إلي الفعل إسنادا جرى به العرف والاستعمال قبل إسناده إلى الفاعل المجازي الذي هو الطبيب, فقيل: "شفى الله المريض بسبب الطبيب". ومنه قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} فإن للمسند فاعلا حقيقيا هو "التجار" وقد أسند إليه الفعل أولا إسنادا جرى به عرف أهل اللغة، فقالوا: فما ربح التجار في تجارتهم، ثم نقل وأسند إلى الفاعل المجازي وهو "التجارة". وتارة: لا يكون للمسند فاعل حقيقي جرى العرف والاستعمال بإسناده إليه، فيسند من أول الأمر إلى الفاعل المجازي كقولهم: سرتني رؤيتك، ويزيدك وجهه حسنا، وأقدمني بلدك حق لي عليك، فليس لهذه الأفعال فاعل حقيقي جرى الاستعمال العربي بإسنادها إليه إذ هي أمور اعتبارية لا وجود لها في الخارج، فلا يكون لها فاعل حقيقي، بل فاعلها متوهم مفروض، ولا يعتبر الإسناد إليه؛ لأنه بمنزلة العدم، ولم يجر الاستعمال أن يقال: سرني الله عند رؤيتك، ويزيدك الله حسنا في وجهه،

وأقدمني الله بلدك لحق لي عليك, كما جرى الاستعمال العربي بإسناد الشفاء إلى الله فقيل: شفى الله المريض, وبإسناد الربح للتجار فقيل: فما ربح التجار في تجارتهم، لهذا كانت هذه الأسانيد بمثابة المجاز الذي لا حقيقة له. فتصدى للشيخ عبد القاهر الإمام الرازي معترضا عليه بأنا لا نسلم أن هناك أفعالا لا فواعل لها, إذ يمتنع أن يوجد بدون فاعل, وقد آزره في ذلك السكاكي قائلا: إن فاعل هذه الأفعال في الأمثلة السابقة إنما هو الله تعالى، ولعل أمره خفي على الشيخ نظرا لكثرة إسناد الفعل إلى الفاعل المجازي. والحق ما قال الشيخ إذ ليس مراده نفي الفاعل رأسا، فإن ذلك لا يسع عاقلا أن يقول به، وإنما مراده نفي وجوب أن يكون هناك فاعل حقيقي يسند إليه الفعل إسنادا معتدا به قبل إسناده إلى الفاعل المجازي، فهو لا يشترط في المجاز العقلي أن يكون المسند قد أسند قبل إلى الفاعل الحقيقي, بل يجوز أن يسند من أول الأمر إلى الفاعل المجازي لعدم تحقق الفاعل الحقيقي خارجا كما في الأمور الاعتبارية في الأمثلة السابقة. أما تقدير الفاعل الموجد وهو الله تعالى في مثل هذه الأفعال المتقدمة فهو مما لا يقصد في الاستعمال العربي، ولا يتعلق به الغرض في التراكيب ا. هـ. تقسيم المجاز العقلي باعتبار طرفيه: ينقسم المجاز العقلي باعتبار حقيقة الطرفين ومجازيتيهما أربعة أقسام1: الأول: أن يكون الطرفان -وهما المسند والمسند إليه- حقيقتين

_ 1 لا يختص المجاز العقلي بهذه الأقسام الأربعة بل الحقيقة العقلية أيضا تنقسم إلى هذه الأقسام الأربعة, وأمثلتها هي بعينها أمثلة المجاز العقلي غير أن الحال تختلف بينهما بالنظر لمن صدرت عنه من كونه مؤمنا أو كافرا ولم تذكر أقسام الحقيقة لعلمها بالمقايسة أو لقلة الاهتمام بها.

لغويتين، أي: كلمتين مستعملتين فيما وضعتا له في اصطلاح التخاطب نحو "شفى الدواء المريض" فإن كلا الطرفين -الشفاء والدواء- مستعمل في المعنى الذي وضع له، والمجاز إنما هو في الإسناد إذا صدر هذا القول من المؤمن, ومثله قول الشاعر "وشيب أيام الفراق مفارقي"، ومنه إسناد اسم الفاعل إلى ضمير الليل في قول الشاعر: ونمت وما ليل المطي بنائم. فالإسناد في هذين المثالين مجاز عقلي، مع حقيقة الطرفين. الثاني: أن يكون الطرفان مجازيين لغويين، أي: كلمتين مستعملتين في غير ما وضعتا له كقولهم: "أحيا الأرض شباب الزمان" فكل من الطرفين -أحيا وشباب الزمان- مستعمل في غير المعنى الموضوع له, ذلك أن "الإحياء" معناه في الأصل: إيجاد الحياة في الحيوان، وهي صفة تقتضي الحس والحركة الإرادية، لكن هذا المعنى لا يتأتى هنا، فهو إذًا غير مراد، وإنما المراد معنى آخر مناسب، وإن لم يوضع له اللفظ، وهو: إحداث النضارة والخضرة في الأرض بسبب تهييج قواها المنمية للنبات، وهذا المعنى مجازي نقل إليه اللفظ على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية1. كذلك "الشباب" معناه في الأصل: كون الحيوان في ريعانه أي: في زمن ازدياد قوته، واشتعال الحرارة فيه، وهذا المعنى أيضا غير مراد هنا, وإنما المراد معنى آخر مناسب لم يوضع له اللفظ، وهو كون الزمان في بدء ازدياد قواه المنمية للنبات بسبب اعتدال الهواء، وهطول الأمطار من السماء، وهذا المعنى أيضا مجازي نقل إليه اللفظ على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية2, ومثله إسناد "الإشعال إلى حنادس" في نحو

_ 1 وتقريرها أن يقال: شبه المعنى المنقول إليه وهو إحداث النضارة والخضرة بالمعنى المنقول عنه وهو إيجاد الحياة بجامع أن كلا منهما إحداث لأمر هو منشأ المنافع والمحاسن، ثم استعير اسم الشبه به وهو "الإحياء" للمشبه، فصار معنى الإحياء إحداث النضارة والخضرة، ثم اشتق من الإحياء بهذا المعنى "أحيا" بمعنى: أحدث الخضرة والنضارة. 2 وتقريرها أن يقال: شبه المعنى المنقول إليه. وهو كون الزمان في بدء ازدياد قوته بالمعنى المنقول عنه وهو كون الحيوان في زمن اشتعال حرارته بجامع الحسن في كل ثم استعير لفظ المشبه به وهو الشباب للمشبه فصار معنى الشباب كون الزمان في بدء ازدياد قوته.

قولك: "أشعلت رأسي حنادس الدهر" فكل من الطرفين مستعمل في غير ما وضع له فأستعير "الإشعال" وهو إيقاد النار لانتشار الشيب في نواحي الرأس كما استعير "الحنادس" بمعنى الليالي المظلمة لما يقع في الدهر من أحداث جسام. الثالث: أن يكون المسند حقيقة، والمسند إليه مجازا نحو: أنضج الثمر شباب الزمان، فالإنضاج مستعمل في حقيقته، وشباب الزمان في مجازه, ومثله قولك: قوست ظهري حنادس الأيام. الرابع: أن يكون المسند مجازا، والمسند إليه حقيقة نحو: "أحيا الأرض الربيع" فالإحياء مستعمل في مجازه، والربيع في حقيقته, ومثله قولك: أشعلت رأسي الخطوب. وجه الانحصار في هذه الأربعة ما تقدم في تعريف المجاز العقلي من أنه إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له من فاعل أو مفعول، وكلاهما يكون مفردا، وكل مفرد إما مستعمل في حقيقته، أو في مجازه. يجري المجاز العقلي في النسب بأنواعها: كما يجري المجز العقلي في النسب الإسنادية الخبرية, كما تقدم يجري أيضا في النسب الإضافية، والإيقاعية، والإنشائية. فالإضافية: هي النسب الواقعة بين المضاف والمضاف إليه نحو: "سرني شفاء الطبيب المريض"، و"راعني إنبات الربيع البقل"، ونحو: "أدهشني جري النهر" و"هالني صوم النهار1" ... وهكذا، والأصل: شفاء الله المريض بسبب الطبيب، وإنبات الله البقل في وقت الربيع، وجري الماء في النهر، وصومي في النهار, ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاق

_ 1 إنما يقع المجاز في النسبة الإضافية إذا كانت الإضافة على معنى اللام إما إذا جعلت بمعنى "في" كانت حقيقة والمدار في هذا على قصد المتكلم.

بَيْنِهِمَا} فهو من إضافة المصدر إلى المكان، وأصل الكلام: وإن خفتم شقاق الزوجين في الحالة الواقعة بينهما, وقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} من إضافة المصدر إلى الزمان، والأصل: بل مكر الناس في الليل والنهار. والإيقاعية هي النسب الواقعة بين الفعل والمفعول، وسميت إيقاعية؛ لأن الفعل المتعدي واقع على مفعوله نحو: "نومت الليل" أي: أوقعت التنويم على الليل، وحقه أن يقع على الشخص؛ لأنه هو المفعول الحقيقي، والأصل: نومت الشخص في الليل, ومثله: "أجريت النهر" أي: أوقعت الإجراء على النهر، وحقه أن يقع على الماء؛ لأنه المفعول الحقيقي، والأصل: أجريت الماء في النهر, ومنه قوله تعالى: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} فقد أوقع الإطاعة على الأمر، وحقها أن تقع على ذي الأمر؛ لأنه المفعول به حقيقة، والأصل: ولا تطيعوا المسرفين في أمرهم. قيل: هاتان النسبتان لم يشملهما تعريف المجاز العقلي إذ قد عرفوه بأنه إسناد الفعل أو ما في معناه إلخ. والمراد بالإسناد النسبة التامة، والنسبتان -الإضافية والإيقاعية- ليستا من النسب التامة فالتعريف إذًا غير جامع، وأجيب بأحد جوابين: الأول: أن المراد بالإسناد في التعريف مطلق النسبة فهو مجاز مرسل من إطلاق المقيد على المطلق. الثاني: أن المراد بالإسناد ما هو أعم من أن يكون صريحا، أو مستلزما للصريح فالمجازات المتقدمة في النسبتي. الإضافية، والإيقاعية, وإن لم تكن إسنادات صريحة, هي مستلزمة لها، فقولك مثلا: "بل مكر الليل والنهار" يستلزم: بل الليل والنهار ماكران، وقولك: "جري النهر" و"صوم النهار" يستلزم: النهر جار، والنهار صائم، وقوله تعالى: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} يستلزم: الأمر مطاع ... وهكذا. والنسبة الإنشائية كقوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} فإن فيه إسناد الأمر بالبناء إلى هامان، مع أن البناء للعملة، وأما هامان فسبب

آمر1, ومثله: "لينبت الربيع ما شاء" وأصل المثال: لينبت الله بالربيع ما شاء، ونحو: "ولتصم نهارك"، و"ليجد جدك"، والأصل: ولتصم في نهارك، ولتجد جدا، أي: ولتجتهد اجتهادا، وكقولك: "ليت النهر جار"، فقد أسند الجري إلى ضمير النهر مجازا، والأصل: ليت الماء جار في النهر، وكقوله تعالى: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} أسند الفعل إلى ضمير الصلاة مجازا على طريق الاستفهام، والأصل: أيأمرك ربك في صلاتك كيت وكيت؟ ... وهكذا. هذا, وقد ورد المجاز العقلي في القرآن كثير2. قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} أسندت الزيادة وهي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا في زيادة الإيمان. وقال تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} أسند التذبيح والاستحياء اللذان هما فعل الجيش إلى فرعون لأنه سبب آمر, والأصل: يذبح ويستحيي قوم فرعون بأمره وإرادته. وقال تعالى: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} أسند نزع اللباس عن آدم وحواء، وهو فعل الله تعالى إلى إبليس؛ لأن سببه الأكل من الشجرة، وقد نهيا عنه، وسبب الأكل وسوسة إبليس لعنة الله عليه، فهو سبب السبب. وقال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا 3 يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} أسند الفعل وهو "يجعل" إلى الزمان لوقوعه فيه، وهو كناية عن شدته،

_ 1 قالوا ولا يتعين أن يكون المثال المذكور مجازا عقليا بل يجوز أن يكون من قبيل المجاز اللغوي وأن يكون "ابن" بمعنى: مر بالبناء. 2 قد رد بهذا على الظاهرية الزاعمين عدم وقوع المجاز العقلي أو اللغوي في القرآن لإيهام المجاز الكذب والقرآن منزه عنه ووجه الرد أن لا إيهام مع القرينة. 3 يريد يوم القيامة وهو منصوب على أنه مفعول به؛ لأن الوقاية منه لا فيه, ثم إن "تتقون" يتعدى إلى مفعولين الأول محذوف والثاني "يوما" على حذف مضاف والمعنى: فكيف تتقون أنفسكم عذاب يوم أي: تصونونها من عذاب يوم، ويتعدى إلى واحد ويكون بمعنى الحذر والمعنى: فكيف تحذرون من عذاب يوم.

وكثرة ما فيه من هموم وأحزان؛ لأن الشيب مما يتسارع عند تفاقم الشدائد والمحن، أو كناية عن طوله، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة، فيشيبون. وقال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} 1 أي: ما فيها من الدقائق والخزائن أسند الفعل وهو الإخراج إلى الأرض التي هي مكان متعلق الإخراج، وهو الشيء المخرج، وحقه أن يسند إلى الله تعالى. والأصل: وأخرج الله من الأرض أثقالها. فكل ما تقدم من الأمثلة مجازات عقلية، أسند فيها الفعل إلى غير ما هو له، وهو غيض من فيض مما ورد في الذكر الحكيم. غير أن السكاكي مع هذا أنكر2 المجاز العقلي, ورده إلى الاستعارة بالكناية، وجعل كل ما ذكر من أمثلة المجاز العقلي من قبيل الاستعارة بالكناية, فالاستعارة عنده في نحو قولهم: "شفى الطبيب المريض" في لفظ "الطبيب" الذي هو الفاعل المجازي، لا في الإسناد. بيان ذلك أنه يريد "بالطبيب" الفاعل الحقيقي مبالغة بقرينة نسبة الشفاء إليه, وتقرير الاستعارة عنده -على ما فهم من مذهبه- أن يشبه الفاعل المجازي "كالطبيب" في المثال المذكور بالفاعل الحقيقي، وهو "الفاعل المختار" في تعلق الفعل بكل منهما -على ما سبق- ثم يذكر المشبه، ويراد به حقيقة المشبه به بواسطة قرينة هي أن ينسب إليه شيء من لوازم المشبه به "كالشفاء" في هذا المثال، وكالأنشاب في "أنشبت المنية أظفارها".

_ 1 أثقال جمع ثقل بفتح التاء والقاف وهو في الأصل متاع البيت، فالتفسير المذكور تفسير مراد والإسناد في هذه الآية إلى المفعول به بواسطة حرف البحر وهو "من" وليس الإسناد إلى الظرف المكاني؛ لأن الأرض ليست مكانا للفعل, إذ لا يقال أخرج فيها بل أخرج منها؛ لأن الأثقال مخرجة منها لا فيها، والمكان الملابس للفعل هو مكان الفعل وملابسته له لوقوعه فيه. 2 الحامل له على هذا الإنكار تقليل الانتشار وتقريب الضبط لاعتبارات البلغاء بإرجاع أمثلة المجاز العقلي إلى الاستعارة بالكناية, ويرد عليه بأن ذلك ليس بأولى من العكس.

ودليله على هذا: أن كل مجاز عقلي يمكن أن يقال فيه: هو ذكر المشبه، وإرادة المشبه به بواسطة قرينة، وكل ما هذا شأنه فهو استعارة بالكناية. وما ذهب إليه السكاكي مردود إذ يترتب عليه أمران محظوران: الأول: تجويز أمور تضافروا على منعها وهي: 1- ظرفية الشيء في نفسه في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ذلك أن الفاعل المجازي عنده يراد به الفاعل الحقيقي بقرينة إثبات ما هو من لوازم الفاعل الحقيقي له، وحينئذ يكون المراد "بعيشة" في الآية صاحبها؛ لأنه الفاعل الحقيقي، ويصير الكلام: فهو في صاحب عيشة، وظرفية الشيء في نفسه باطل وإذًا يلزم ألا تصح الآية، واللازم باطل إذ لا شك في صحتها. 2- إضافة الشيء إلى نفسه في نحو قولهم: "نهاره صائم" من كل ما أضيف في الفاعل المجازي إلى الفاعل الحقيقي بناء على مذهبه من أن المراد بالفاعل المجازي الذي هو "النهار" الفاعل الحقيقي الذي هو "الشخص" وإضافة الشيء إلى نفسه باطل وإذا لزم ألا تصح هذه الإضافة، واللازم باطل إذ لا شك في صحتها لوقوعها في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} . 3- ألا يكون الأمر بالبناء لهامان في قوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} لأن المراد بضمير "ابن" حينئذ هم "العملة" بناء على مذهبه من أن المراد بالفاعل المجازي وهو "هامان" الفاعل الحقيقي الذي هو "العملة" فيلزم أن يصير الكلام: يا هامان ابن يا عملة"، فالنداء لشخص، والخطاب مع غيره واللازم باطل؛ لأن النداء لهامان، فيكون الأمر له أيضا إذ لا يجوز تعدد الخطاب في كلام واحد. 4- أن يتوقف على السماع من الشارع قولهم: "شفى الطبيب المريض" و"سرتني رؤيتك" ونحو ذلك من كل ما كان فيه الفاعل الحقيقي هو الله تعالى؛ ذلك لأن أسماء الله توقيفية، فلا يصح أن يطلق عليه

تعالى اسم "ما لم يرد إذن من الشارع" ولم يرد إطلاق لفظ "الطبيب أو الرؤية" على الله تعالى فلزم ألا يصح مثل هذه التراكيب واللازم باطل؛ لأنه صحيح شائع عند القائلين بالتوقيف, وعند غيرهم سمع من الشارع أو لم يسمع، وشيوعه يدل على أن المراد بهذه الأسماء غير الله. الثاني: انتقاض ما ذهب إليه السكاكي من رد المجاز العقلي إلى الاستعارة بنحو: "نهاره صائم، وليله قائم" من كل ما اشتمل على الفاعل الحقيقي كالضميرين في "نهاره وليله" وذلك لاشتماله على ذكر طرفي التشبيه, وهما المشبه والمشبه به, أما المشبه فهو الضمير في "صائم وقائم" لأنه الفاعل المجازي، وأما المشبه به فهو الضمير في "نهاره وليله" لأنه الفاعل الحقيقي إذ المراد به الشخص, واجتماع طرفي التشبيه في تركيب واحد مانع من حمل الكلام على الاستعارة، وقد صرح السكاكي نفسه بذلك إذا اشترط في الاستعارة بالكناية ألا يذكر فيها المشبه به1 ا. هـ. وأجيب عن السكاكي فيما اتجه إليه من المآخذ الأربعة السابقة بأن ذلك إنما يتم لو أن مذهبه في الاستعارة بالكناية أن يذكر المشبه، ويراد المشبه به حقيقة كما فهم المعترض، وليس كذلك، بل المراد المشبه به ادعاء إذ لا يقول عاقل إن المراد "بالنية" في قولنا: "مخالب المنية نشبت بفلان" هو الأسد الحقيقي, فهو إنما يشبه المنية بالسبع، ثم يبالغ في التشبيه, فيدعي أن المنية فرد من أفراد السبع بحيث يصير للسبع فردان: فرد حقيقي، وهو "ذلك الحيوان المفترس" وفرد ادعائي، وهو "المنية" ثم يذكر المشبه، ويريد به المشبه به ادعاء وحينئذ فلا يتجه عليه ما ذكر. ورد هذا الجواب بأنه اعتراف بما أنكره، ووقوع فيما فر منه, ذلك

_ 1 هذا التوجيه يفيد أن الضمير في كل من "صائم وقائم" راجع للنهار والليل بمعنى الفاعل المجازي وهو الزمان، فالمضاف والمضاف إليه في "نهاره وليله" حينئذ شيآن إذ إن المضاف بمعنى الزمان والمضاف إليه بمعنى الشخص, وهذا يخالف ما تقدم من أن المراد بالنهار والضمير المضاف إليه شيء واحد، وأن المراد بالليل وضميره المضاف إليه شيء واحد كذلك, وأجيب بأن لا مانع من أن يراد هذا أو ذاك فكلاهما ممنوع ولا مفر للسكاكي من لزوم واحد من الأمرين.

أن المشبه به ادعاء في نحو قولك: "أنشبت المنية أظفارها" مثلا إنما هو المشبه، وقد أسند إليه ما هو من لوازم المشبه به حقيقة، وهو "الإنشاب"، وكان حقه أن يسند إلى المشبه به الحقيقي، وهو "السبع"، فيكون حينئذ إسنادا للشيء إلى غير ما هو له، وذلك هو المجاز العقلي بعينه فالسكاكي في كلتا الحالين مؤاخذ, سواء أراد بالمشبه المشبه به حقيقة، أو ادعاء. وأجيب عنه في الاعتراض الأخير بأنا لا نسلم أن ذكر طرفي التشبيه مطلقا مانع من الحمل على الاستعارة، وإنما يمنع من الحمل عليها ذكرهما على وجه ينبئ عن التشبيه، ويدل عليه بألا يصح المعنى إلا بمراعاة التشبيه، وذلك إذا وقع المشبه به خبرا عن المشبه نحو: "عنترة بني عبس أسد"، أو وقع حالا منه، أو صفة له نحو: حمل عنترة على الأعداء أسدا، ومررت برجل أسد، فإن حمل الأسد على عنترة، أو وقوعه حالا منه، أو وصف الرجل به ممنوع لتباين المفهومين، فيتعين إذًا الحمل على التشبيه بتقدير أداته. أما إذا كان الجمع بين الطرفين على وجه لا ينبئ عن التشبيه، ولا يدل عليه فذلك لا يمنع من أن يكون استعارة كما في قولك: "سيف عمرو بن معديكرب في يد أسد"، ولقيت من خالد بن الوليد أسدا, ومنه قولهم: نهاره صائم" "وليله قائم"1 بدليل أن السكاكي نفسه جعل قول الشاعر: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر2 من باب الاستعارة استعير فيه لفظ "القمر" لذات المحبوب، مع ذكر

_ 1 على اعتبار أن الإضافة فيهما على معنى اللام فإن كانت الإضافة بيانية وهي ما يكون المضاف فيها عين المضاف إليه ولو على سبيل المبالغة كان المثالان المذكوران من قبيل ما ذكر فيه الطرفان على وجه ينبئ عن التشبيه؛ لأن الإضافة حينئذ في معنى حمل أحد الطرفين على الآخر مبالغة في معنى الإلحاق كما في لجين الماء. 2 "البلى" بكسر الباء والقصر مصدر بلي الثوب يبلى صار خلقا و"الغلالة" شعار يلبس تحت الثوب "والأزرار"" جمع زر بكسر الزاي وهو ما يوضع على القميص يقال زر القميص إذا شد أزراره عليه.

الطرفين، وهما "القمر"، و"ضمير" أزراره باعتباره راجعا إلى المحبوب المشبه بالقمر، أو "ضمير" غلالته الراجع إليه. تنبيهان: الأول: اعلم أن الحقيقة والمجاز من مباحث علم البيان, وإنما أوردوهما في علم المعاني استطرادا لأدنى مناسبة, وليس بسديد ما علل به بعضهم من أنهما من أحوال اللفظ إذ ليس كل ما كان من أحوال اللفظ يذكر في علم المعاني؛ لأنه لا يبحث فيه عن جميع أحوال اللفظ، بل عن الأحوال التي بها المطابقة لمقتضى الحال, ولا يقال: "إن الإضافة للعهد، أي: أحوال اللفظ المعهودة، وهي الأحوال التي بها المطابقة؛ لأنهم لم يذكروا للحقيقة والمجاز العقليين أحوالا تقتضيهما كما ذكروا لغيرهما. الثاني: هذه الأحوال الأربعة المتقدمة: وهي التأكيد وعدمه، والحقيقة والمجاز العقليان, كما تكون في الإسناد الخبري تكون أيضا في الإنشاء فإذا قلت لشخص: "ابن لي قصرا" فإن كان ذلك الشخص أهلا للبناء بنفسه فالإسناد حقيقة عقلية، وإلا فمجاز عقلي، وإذا كان المخاطب قريب الامتثال قيل له: "أقبل" من غير تأكيد، وإن كان شديد البعد عن الامتثال قيل له: "أقبلن" بالنون المشددة، وإن كان غير شديد البعد عن الامتثال قيل له "أقبلن" بالنون الخفيفة وإنما اختص الحديث في ذلك بالخبر؛ لأنه المقصود الأعظم في نظر البلغاء لكثرة مباحثه.

اختبار

اختبار: 1- عرف الحقيقة العقلية، وبين المراد "بالفعل"، وما في معناه، و"بالشيء" الذي يسند إليه الفعل، أو ما في معناه، مع بيان ذلك بمثالين أحدهما للفعل، والثاني لما في معناه. 2- بين المراد بقوله: "عند المتكلم في ظاهر حاله" وهل هو للإخراج أو للإدخال؟ وضح ذلك وضوحا تاما.

3- اذكر أقسام الحقيقة العقلية، ووجه هذا التقسيم، ومثل لكل بمثال. 4- عرف المجاز العقلي، وبين لم كان عقليا، وما الفرق بين العقلي واللغوي من حيث النسبة؟ 5- بين المراد بلفظ "غير" الواقع في تعريف المجاز العقلي، وهل المراعى فيه حال المتكلم أو الواقع؟ وهل يترتب على ذلك شيء؟ فصل القول في ذلك. 6- اذكر أقسام المجاز العقلي، ومثل لكل بمثال، مع بيان قرينة المجاز في كل منها، وبين هل يكتفى بوجود القرينة، أم لا بد من نصبها، وبم يكون نصب القرينة، وما منشأ هذا التقسيم؟ 7- بين معنى قوله: "للملابسة" في تعريف المجاز، ووضح ذلك بمثال، ثم اذكر ثلاثة أنواع من ملابسات الفعل، مع التمثيل لكل نوع. 8- بين معنى قوله "بتأول"، وبسبب وجوب التقييد به، وما الذي يخرج بهذا القيد؟ وما الفرق بين قول الجاهل: "أنبت الربيع البقل" والأقوال الكاذبة، مع أن كليهما غير مطابق للواقع، وما رأي السكاكي في هذا القيد؟ 9- قسم القرينة، وعرف كل قسم، مع التمثيل، واذكر من أي نوعي القرينة المعنوية قول المؤمن: "أشاب رأسي الزمان"، وهلا كان من نوع المستحيل عقلا؟ 10- اذكر باختصار ما وقع من النزاع بين الخطيب ومناصريه، وبين الإمام عبد القاهر في وجوب أن يكون للمجاز العقلي حقيقة، أو عدم وجوبه، مع بيان ما يتحصن به كل من الطرفين من دليل. 11- قسم المجاز العقلي باعتبار طرفيه، مع التمثيل لكل قسم، ومن أي الأقسام قولهم: أحيت الجاهل آيات الكتاب الحكيم؟

12- مقتضى تعريفهم المجاز العقلي: بأنه إسناد الفعل إلخ، وجعله من أحوال الإسناد الخبري أنه خاص بالنسب التامة الخبرية، مع أنه يجيء في النسب غير التامة كالإضافية والإيقاعية كما يأتي أيضا في النسب الإنشائية فما الجواب على هذا؟ 13- أنكر السكاكي المجاز العقلي، ورده إلى الاستعارة بالكناية، فما دليله؟ وما الذي ردوا به عليه، وبماذا أجيب عنه تأييدا لدعواه؟ فصل القول في هذه المسألة. 14- بين ما طابق الواقع، والاعتقاد، وما طابق أحدهما، وما لم يطابق واحدا منهما، مع بيان كونه حقيقة أو مجازا، ومع تعيين قرينة المجاز فيما يأتي: 1- قال الجاهل: شيبتني الهموم والأحزان لمن يعلم أنه مؤمن يضيف الإشابة إلى الله، والمتكلم يعلم ذلك. 2- قال المؤمن: أخرج الله النبات لمن يعتقد إيمانه. 3- قال الجاهل: أنضر الله الأرض لمن يعلم حاله، والمتكلم يعلم منه ذلك. 4- قال الجاهل: قوس ظهري الدهر، وألانت قناتي الأيام "لمن يعلم حاله". 5- قال الجاهل: أدر الله الضرع، وأنضج الزرع لمن يخفى حاله عنه. 6- قال المؤمن: شفى الله المريض "لمن يعتقد أنه جاهل يضيف الشفاء إلى الطبيب" وعلم المتكلم منه ذلك. 7- ما الحكم فيما لو قال رجل كذبا: "حضر الأمير" لمن لا يعلم أنه كاذب، وما الحكم إذا قال ذلك لمن يعلم كذبه، وهو يعلم منه ذلك؟

الجواب على السؤال الأخير: 1- مجاز عقلي بالنظر لحال المخاطب وهو مطابق للاعتقاد دون الواقع وعلم المخاطب بأنه مؤمن قرينة المجاز، وعلم المتكلم باعتقاد المخاطب نصب لهذه القرينة. 2- حقيقة عقلية وهو مطابق للاعتقاد والواقع. 3- مجاز عقلي بالنظر لحالهما معا وهو مطابق للواقع دون الاعتقاد، وعلم المخاطب بحال المتكلم قرينة المجاز، وعلم المتكلم باعتقاد المخاطب نصب لهذه القرينة. 4- حقيقة عقلية وهو مطابق للاعتقاد والواقع. 5- حقيقة عقلية بالنظر إلى ظاهر حال المتكلم وهو مطابق للواقع دون الاعتقاد، واعتقاد المخاطب بأنه جاهل قرينة المجاز، وعلم المتكلم باعتقاده نصب للقرينة. 6- مجاز عقلي بالنظر إلى حال المخاطب وهو مطابق للاعتقاد والواقع، واعتقاد المخاطب بجهل المتكلم قرينة المجاز، وعلم المتكلم باعتقاده نصب لهذه القرينة. 7- حقيقة عقلية في الأول بالنظر لظاهر حال المتكلم، وهي لم تطابق الواقع ولا الاعتقاد, ومجاز عقلي في الثاني بالنظر لحالهما معا، ولم يطابق واحدا منهما. تمرين على هذا السؤال يطلب جوابه: قال الجاهل: أبرأ الدواء الجرح لمن يعلم أنه مؤمن يضيف الإبراء إلى الله، قال رجل كذبا: "غمرت أراضينا المياه" لمن يعلم كذبه، وهو يعلم ذلك منه. قال مؤمن: "هدى الله العاصي" لمن يعتقد إيمانه وأنه يضيف الهداية إلى الله تعالى. قال مؤمن: "أزال الله كربي" لمن يعتقد أنه جاهل يضيف الإزالة إلى غير الله من المؤثرات. قال جاهل: "أفنى

الله الإنسان" لمن يعلم أنه جاهل يضيف الإفناء إلى الزمن. قال رجل هو كاذب: "أخصبت أراضينا" لمن لا يعلم كذبه. قال جاهل: "أزهر الله النبات" لمن يخفى حاله. قال جاهل: "أذبل الشتاء الزهر لمن يعلم حاله".

أحوال المسند

أحوال المسند ذكر المسند إليه ... أحوال المسند إليه: أحوال المسند إليه هي ما يعرض له من حيث1 إنه مسند إليه من ذكر وحذف، وتعريف، وتنكير, وتقديم، وتأخير، وغير ذلك مما سيأتي. ذكر المسند إليه: المسند إليه هو المحكوم عليه, فاعلا كان، أو نائب فاعل، أو مبتدأ أصلا أو حالا, وأحواله هي ما يعرض له من ذكر، وحذف، وتعريف، وتنكير، وتقديم، وتأخير، وغير ذلك مما سيأتي في أبوابه مفصلا. واعلم أن المسند إليه واجب الذكر إذا لم تقم عليه قرينة، ولا بحث لنا فيه فإذا دلت عليه قرينة من ذكر أو حال جاز ذكره وحذفه، وهذا ما نحن بصدد البحث فيه, ذلك أن البحث إنما هو في مرجحات الذكر على الحذف، أو العكس، وذلك إنما يكون حيث يجوز ذكره وحذفه لقيام قرينة عليه، ومرجحات الذكر كثيرة نذكر منها ما يلي:

_ 1 هذه حيثية تقييد احترز بها عن الأمور العارضة للمسند إليه لا من هذه الحيثية, ككونه حقيقة أو مجازا فإنهما عارضان له لا من حيث إنه مسند إليه من حيث الوضع، وككونه كليا أو جزيئا فإنهما عارضان له لا من حيث لفظه، وككونه ثلاثيا أو رباعيا فإن ذلك عارض له من حيث عدد حروفه. وليست حيثية تعليل إذ يفيد ذلك أن الحذف والذكر وغيرهما من سائر الأحوال المذكورة في أبوابها بعد عارضة له من أجل كونه مسندا إليه مع أنه ليس كذلك بل هذه الأحوال إنما تعرض له من أجل الدواعي التي ستذكر في أبوابها, ولا يقال: إن "الرفع" من الأحوال التي تعرض له من حيث إنه مسند إليه فكان حقه أن يذكر في هذا الفن؛ لأن إضافة أحوال للمسند إليه للعهد وهي التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال, فخرج الرفع فإنه وإن كان عارضا من هذه الحيثية لكن لا يطابق به اللفظ مقتضى الحال.

1- كون ذكر المسند إليه هو الأصل أي: الكثير، وليس هناك ما يقتضي حذفه في قصد المتكلم1 أي: محل كون الأصالة علة تقتضي الذكر حيث لم تعارضها علة أخرى تقتضي الحذف، قصد إليها المتكلم، وإلا روعيت وأهملت علة الأصالة لضعفها, بخلاف سائر نكات الذكر فإن كلا منها يصلح بمجرده نكتة حتى إذا وجدت معها نكتة للحذف فلا بد من مرجح لإحداهما. 2- قلة الثقة بالقرينة لضعفها, إما لخفائها في نفسها وإما للاشتباه فيها, فالأول أن يذكر المسند إليه في حديث، ثم تمضي فترة حتى يطول عهد السامع به، فيذكر ثانيا لاحتمال غفلة السامع عنه لطول العهد به, والثاني أن يذكر المسند إليه في حديث, ثم يحول مجرى الحديث في شأن غيره، فيذكر ثانيا لئلا يشتبه السامع في المحدث عنه, أهو الأول أم الثاني؟ فقد ضعف التعويل على القرينة في الموضعين لما ذكرنا, مثال ذلك أن تقول: "شوقي نعم الشاعر" فتذكر المسند إليه إذا سبق لك ذكر "شوقي" في حديث سابق وطال عهد السامع به، أو ذكر معه كلام في شأن غيره. 3- التنبيه على غباوة السامع، وأنه لا يفهم إلا بالتصريح, نقصد إفادة أن الغباوة وصفه، أو لقصد إهانته وتحقيره كما تقول لسامع القرآن: "القرآن كلام الله" فتذكر المسند إليه تنبيها على أن المخاطب موسوم بميسم الغباوة، لا ينبغي أن يكون الخطاب معه إلا هكذا. 4- زيادة الإيضاح والتقرير2 أي: إيضاح المسند إليه، وانكشافه لذهن السامع، وتثبيته في نفسه كما تقول: "هؤلاء جدوا وهؤلاء بلغوا الذروة" ذكر المسند إليه وهو اسم الإشارة الثاني لقصد زيادة الإيضاح

_ 1 إنما شرطنا قصد المتكلم؛ لأن المقتضي للحذف موجود دائما كالاحتراز عن العبث في ذكره مثلا فالمدار إذًا على قصد المتكلم. 2 المراد بالتقرير مطلق الإثبات وحينئذ فبيان الزيادة في الإيضاح والتقرير أن في القرينة إيضاحا وتقريرا للمسند إليه حيث دلالتها عليه, وأن المحذوف لدليل كالمذكور وفي التصريح بالمسند إليه مع قيام القرينة عليه زيادة في إيضاحه وتقريره.

والتقرير، وأن هؤلاء الذين ثبت لهم الاجتهاد هم أنفسهم الذين ثبت لهم بلوغ الذروة، فتكرار "هؤلاء" أفاد اختصاصهم بكل واحد من الاجتهاد وبلوغ الذروة مميزا لهم عمن عداهم، وفي هذا الإيضاح والتقرير ما لا يخفى, ومنه قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فذكر المسند إليه لزيادة الإيضاح والتقرير على نحو ما بينا في المثال قبله, غير أن في التمثيل بالآية نظرا إذ ليست من قبيل ما لو لم يذكر فيه المسند إليه لكان محذوفا كما هو فرض المسألة؛ لأننا لو حذفنا اسم الإشارة الثاني لم يكن المسند إليه محذوفا إذ إن جملة {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} مركبة من مسند ومسند إليه، وهي إما معطوفة على خبر اسم الإشارة الأول، أو معطوفة على جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} وعلى كلا الاحتمالين لا حذف للمسند إليه. 5- إظهار1 تعظيمه، أو تحقيره إذا كان اسمه مما يفيد معنى التعظيم أو الحقارة كأن يسألك شخص: "هل رجع خالد؟ " فتقول: "رجع الشجاع المقدام"، أو "رجع الجبان الرعديد"، فتذكر المسند إليه في الأول تعظيما له، وفي الثاني إهانة وتحقيرا, وكما تقول: "نعم: أمير البلاد يخاطبك"، في جواب من سأل: هل الذي يخاطبني فلان؟ أو تقول: "قدم السفيه" جوابا لمن سأل: هل قدم زيد؟ 6- التيمن والتبرك بذكره؛ لأنه مجمع اليمن والبركات كما تقول: نبينا عليه الصلاة والسلام قائل هذا القول جوابا لمن قال: هل قال هذا القول رسول الله؟ فتذكره تيمنا بذكره وتبركا به. 7- التلذذ بذكره كقولك: الله حسبي، ومحمد شفيعي، وكقولك: "حضر الحبيب" جوابا لمن قال: هل حضر فلان؟ يريد هذا الحبيب، فتجري ذلك على لسانك لقصد التلذذ بسماع هذه الألفاظ.

_ 1 إنما زيد لفظ إظهار لأن المسند إليه يفيد التعظيم في حال الحذف من حيث دلالة القرينة عليه فيكون ذكره لإظهار التعظيم.

8- بسط الكلام وإطالته، وذلك حيث يكون إصغاء1 السامع مطلوبا للمتكلم لخطر مقامه، أو لقربه من قلبه، ولهذا يطال الكلام مع الأجباء مثاله، قوله تعالى حكاية لقول موسى عليه السلام: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} الآية، قال ذلك حين سأله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ؟، وكان يكفي في الجواب أن يقول: "عصا" لأن "ما" للسؤال عن الجنس لكنه ذكر المسند إليه، وهو "الضمير" حبا في إطالة الكلام في حضرة الذات العلية، وأي مقام يستدعي بسط الكلام فيه كهذا المقام؟ ولهذا لم يكتف موسى عليه السلام بذكر المسند إليه، بل أعقب ذلك بذكر أوصاف لم يسأل عنها، فقال: أتوكأ عليها إلى آخر الآية2, ومثله أن يسألك إنسان تحبه وتجله: ماذا بيدك؟ فتقول له: "هذا كتابي رفيقي في غربتي، وسميري في وحدتي" وكان يكفي أن تقول: "كتاب" لأن السؤال عن جنس ما بيدك لكنك ذكرت المسند إليه حبا في إطالة الكلام في حضرة من تحبه, ولذلك أضفت إليه وصفين لم تسأل عنهما. 9- قصد التهويل والإرهاب كقولك: أمير البلاد يأمرك بكذا، فتذكر المسند إليه باسم الأمارة تهويلا للمخاطب، وإرهابا ليكون ذلك أدعى إلى الامتثال والطاعة.

_ 1 المراد بإصغاء في الآية لازمه وهو السماع, فيكون مجازا مرسلا وإنما كان المراد ذلك هنا؛ لأن الإصغاء بالمعنى المعروف الذي هو إمالة الأذن لسماع الكلام محال في حقه تعالى. 2 الإجمال في آخر الآية في قوله: ولي فيها مآرب أخرى، ينافي حمل الآية على البسط والمناسب لذلك تفصيل تلك المآرب, والجواب أحد احتمالين الأول أن يكون موسى كان يترقب السؤال منه تعالى عن تفصيل ما أجمل فيتلذذ بخطاب الله له -الثاني- أن يكون الحياء قد غلب عليه لمزيد المهابة والإجلال فلم يستطع الاسترسال في القول, ثم إن في جواب موسى عليه السلام إشكالا وهو أن السؤال "بما" عن الجنس فكيف أجاب بالشخص، بل ولم ذكر هذه الصفات وهي غير مسئول عنها وإنما المسئول عنه الجنس؟ ويجاب بأنه أجاب عن الجنس في ضمن هذا الفرد فكأنه قال: هي جنس هذا الفرد, وأن "ما" كما تكون للسؤال عن الجنس قد تكون للسؤال عن الصفة فموسى عليه السلام احتاط فجمع في جوابه بين الأمرين لاحتمال أن يكون السؤال عن هذا أو ذاك أو عنهما معا.

10- إظهار التعجب من المسند إليه إذا كان الحكم غريبا يندر وقوعه كما في قولك: "علي يصرع الأسد"، أو "يحمل كذا طنا من حديد" إذا دلت عليه قرينة، فتذكر المسند إليه لقصد إظهار التعجب من شدة بأسه. 11- قصد التسجيل على السامع بين يدي القاضي حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار والتنصل كأن يقول القاضي لشاهد واقعة: هل أقر هذا بأن عليه لعلي كذا، فيقول الشاهد: نعم محمد هذا أقر بأن عليه لعلي كذا، فيذكر المسند إليه لئلا يجد المشهود عليه سبيلا إلى الإنكار فيما لو لم يذكر اسمه بأن يقول للقاضي مثلا عند التسجيل عليه كتابة: إنما فهم الشاهد أنك أشرت إلى غيري، فأجاب بما أجاب به، ولذلك لم أنكر، ولم أطلب الإعذار فيه1. إلى غير ذلك من نكات الذكر إذ ليست سماعية حتى يمكن استيعابها بل المدار في ذلك على الذوق السليم، فما عده الذوق داعيا من دواعي الذكر أو الحذف، أو غيرهما عمل به، وإن لم يذكره أهل الفن.

_ 1 الإعذار إبداء العذر.

حذف المسند إليه

حذف 2 المسند إليه: يحذف المسند إليه لأغراض نذكر منها ما يلي: 1- الاحتراز عن العبث في ظاهر الأمر لدلالة القرينة عليه، وذلك أن ما قامت عليه قرينة، ووضح أمره يكون ذكره عبثا في ظاهر الأمر؛ لأنه معلوم من القرينة، فلا معنى لذكره، وينبغي أن يصان كلام البليغ عن العبث, مثال ذلك أن تقول: "حضر" تريد "الأمير" إذا كان هناك قرينة من لفظ أو حال تدل على أن الذي حضر هو الأمير، فتحذف المسند

_ 1 إنما عبر هنا في جانب المسند إليه بالحذف وفي جانب المسند بالترك على ما سيأتي؛ لأن المسند إليه هو الركن الأعظم الشديد الحاجة إليه, حتى إنه إذا لم يذكر تخيل أنه أتى به ثم حذف بخلاف المسند فليس بهذه المثابة؛ لأنه وصف المسند إليه والوصف متوقف على الموصوف من غير عكس, فهو إذًا أدنى مرتبة منه.

إليه قصدا إلى التحرز عن العبث في ذكره لقيام القرينة الدالة, وإنما كان العبث ظاهريا؛ لأن الحقيقة أن لا عبث في ذكره، وإن قامت عليه قرائن؛ لأن المسند إليه أعظم ركني الإسناد إذ هو المحكوم عليه، فلا يكتفى فيه بالقرينة، بل ينبغي مع ذلك أن ينص عليه اهتماما بأمره. 2- تخييل العدول إلى أقوى الدليلين1: اللفظ والعقل أي: أن يقصد المتكلم أن يخيل للسامع أنه عدل إلى أقوى الدليلين، وهو العقل. بيان ذلك: أن الدال على المسند إليه عند حذفه هو "العقل"، وأن الدال عليه عند ذكره هو "اللفظ" غير أن العقل أقوى دلالة من اللفظ؛ لأن العقل ليس بحاجة دائما إلى اللفظ في الدلالة، بل كثيرا ما يستقل بها كما في المعقولات الصرفة، وكما في دلالة الأثر على المؤثر, بخلاف اللفظ فإنه دائما مفتقر إلى العقل في الدلالة، إذ لا يمكن أن يفهم منه شيء بدون معونة العقل، فالعقل آلة الإدراك، ولكن الحقيقة أن العقل أيضا غير مستقل في الدلالة عند الحذف، وإنما يدل بمعونة اللفظ المقدر المدلول عليه بالقرائن، فكلاهما ردء للآخر، وحينئذ لم يتحقق العدول إلى أقوى الدليلين، من أجل هذا جعلوا النكتة في الحذف قصد العدول المتخيل لا المتحقق, مثال ذلك قولك في المثال السابق: "حضر" تريد الأمير فقد حذف المسند إليه؛ لأن المتكلم يريد أن يدخل في روع السامع، وفي خياله أنه عدل عن أضعف الدليلين إلى أقواهما وهو "العقل" كما بين. 3- ضيق المقام عن إطالة الكلام بسبب ما قد يعتري المتكلم من توجع أو ضجر ناشئين من أحداث الزمان، أو تباريح الهوى، بحيث لا يستطيع التكلم بأكثر مما يفيد الغرض كما في قول الشاعر: قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل سهر دائم وحزن طويل لم يقل: "أنا عليل" لضيق صدره عن الإطالة بسبب ما ينوء به

_ 1 أي: على المسند إليه.

من أعباء الهموم، أو ما يعانيه من آلام الهوى، ومنه قوله تعالى1: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} لم تقل "أنا عجوز" لما تحسه من ضيق الصدر عن الإطالة في القول بسبب ما انتابها من عقم، وما لحقها من كبر. 4- الحذر من فوات الفرصة كأن يقول رجل لصائد: "غزال" يريد: "هذا غزال" فيحذف المسند إليه وهو "هذا" مخافة أن تفوت الفرصة بإطالة الكلام، فيفلت الصيد من يد الصائد, ومثله قولك: "قطار" لواقف في طريقه غافلا عنه أي هذا قطار فتحذف المسند إليه انتهازا للفرصة حتى لا يدهمه القطار. 5- اختبار تنبه السامع عند قيام القرينة على المسند إليه أيتنبه إليه لهذه القرينة القائمة، أم لا يتنبه إلا بالتصريح؟ مثال ذلك أن يحضر إليك رجلان تربطك بأحدهما صداقة، فتقول لآخر يعلم بهذه الصلة: "غادر" تريد أن تقول: الصديق غادر، فتحذف المسند إليه اختبارا للسامع أيتنبه إلى أن المسند إليه المحذوف هو "الصديق" بقرينة ذكر "الغدر" إذ لا يناسب إلا الصديق أم لا يتنبه؟ ومثله قولك: "مستفاد نوره من الشمس" تريد "القمر" فتحذفه اختبارا لذكاء السامع. 6- اختبار مقدار تنبه السامع ومبلغ ذكائه عند قيام قرينة خفية على المسند إليه أيتنبه بالقرائن الخفية أم لا؟ مثال ذلك أن يحضرك شخصان تجمعك بهما صداقة غير أن أحدهما أقدم من الآخر فيها، فتقول لآخر يعلم بهذه الصحبة: "جدير بالإحسان" تريد أقدمهما صحبة، وهو "محمد" مثل، فتحذف المسند إليه اختبارا لمبلغ ذكاء المخاطب أيتنبه إلى هذا المحذوف لهذه القرينة الخفية، وهي أن أهل الإحسان ذو الصداقة القديمة, دون حادثها أم لا يتنبه2؟

_ 1 حكاية عن قول السيدة سارة عندما دخل الملائكة المكرمون على زوجها إبراهيم عليه السلام, وبشروه بأنه سيولد له ولد كثير العلم هو إسحاق عليه السلام, فلما بلغها ذلك صاحت ولطمت وجهها وقالت يا ويلتا: أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا؟ إن هذا لشيء عجيب. 2 حكي عن بعض خلفاء بني العباس أنه ركب سفينة مع أحد ندمائه فسأله الخليفة: أي طعام أشهى عندك؟ فقال: مخ البيض المسلوق فاتفق عودهما هنالك في المقابل فقال له الخليفة: مع أي شيء؟ فأجاب النديم مع الملح فتعجب الخليفة من قوة استحضاره وكمال تنبهه ويقظته.

7- إيهام1 صون المسند إليه عن لسانك من أن يتلوث بنجاسة بمروره عليه لكونه عظيما خطيرا, أو إيهام صون لسانك عنه لحقارته وامتهانه, فالأول نحو: "رافع راية التوحيد، هادم دعائم الشرك" تريد النبي -صلى الله عليه وسلم- فتحذفه مخافة أن يتلوث من لسانك. والثاني نحو قولك: "مخذول مطرود" تريد إبليس اللعين، فتحذفه لئلا يتلوث اللسان بذكره, وكما يكون الحذف لإيهام صونه عن اللسان أو عكسه يكون أيضا لإيهام صونه عن سماع المخاطب، أو عكسه. 8- تأتي الإنكار وتيسره عند الحاجة إليه, مثال ذلك أن يحضر إليك جماعة من بينهم خصم لك، فتقول لآخر: "وغد لئيم" تريد هذا الخصم، فتترك ذكر اسمه ليتأتى لك الإنكار عند لومه لك على سبه، فتقول له: ما عنيتك وإنما أردت غيرك. 9- تعين المسند إليه2, إما لأن المسند لا يصلح إلا للمسند إليه، أو لأن المسند كامل فيه, وإما لأن المسند إليه معهود بين المتكلم والمخاطب, فمثال الأول قولك: "عالم الغيب والشهادة" تريد الله سبحانه، فتحذفه لتعينه إذ إن علم الغيب والشهادة وصف خاص به تعالى، لا يكون لسواه, ومثال الثاني: قولك: "عادل في حكومته" تريد عمر الفاروق، فتحذفه لتعينه؛ لأن صفة العدالة بلغت فيه الكمال, ومثله قولهم: "أمير الشعراء يريدون "شوقي"، فيحذفونه لتعينه لأن صفة الشاعر بلغت فيه الذروة, ومثال الثالث قولك: "حضر اليوم" تريد إنسانا معينا بينك وبين مخاطبك. 10- ادعاء تعين المسند إليه كقولك، "وهاب الألوف" تريد

_ 1 إنما عبر بالإيهام؛ لأن التلوث المراد صون الذكر أو اللسان عنه أمر اعتباري محض. 2 قيل إن ذكر الاحتراز عن العبث يغني عن ذكر التعيين؛ لأنه متى نعين المسند إليه كان حذفه احترازا عن العبث, وأجيب بأن القصد إلى التعين مغاير للقصد للاحتراز عن العبث، فقد يجوز أن يقصد أحدهما مع الذهول عن الآخر فتكون نكتة الحذف للبليغ قصد التعين دون الاحتراز وإن كان حاصلا, ويمكن أن يقال ذلك في سائر النكات التي يمكن اجتماعها.

"الأمير" فتحذفه لتعينه ادعاء، وأنه لا يتصف بذلك أحد من رعاياه, وإنما كان تعينه ادعائيا؛ لأنه يمكن غيره من أفراد شعبه أن يبذل ذلك. 11- المحافظة على وزن، أو سجع، أو قافية, مثال الأول قول الشاعر: على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا علي ولا ليا أي لا علي شيء، ولا لي شيء. حذف المسند إليه فيهما، وهو لفظ "شيء" لأن في ذكره إفسادا لوزن البيت, ومثله قول الشاعر المتقدم: قال لي كيف أنت قلت عليل ... لم يقل أنا عليل محافظة على الوزن, ومثال الثاني قولهم: "من طابت سريرته حمدت سيرته" أي: حمد الناس سيرته، فحذف المسند إليه1، وهو "الناس"، محافظة على السجع المستلزم رفع الفاصلة2 من الفقرة الثانية، وهي قوله: "سيرته" إذ لو ذكر المسند إليه لكانت الأولى مرفوعة، والثانية منصوبة, ومثله قولهم: "من كرم أصله وصل حبله" أي: وصل الناس حبله، فحذف المسند إليه محافظة على السجع على نحو ما سبق, ومثال الثالث قول لبيد: وما المرء والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع أي: أن يرد الناس الودائع، فحذف المسند إليه وهو لفظ "الناس" للمحافظة على القافية، ولولاه لاختلفت لصيرورتها مرفوعة في الشطر الأول، منصوبة في الثاني, ومثله قول الشاعر: قد قال عذول مناك أتى ... فأجبت وقلت كذبت متى فقال حبيبك ذو خفر ... وكبير السن فقلت فتى فالمسند إليه في البيتين محذوف محافظة على القافية تقديره متى الإتيان وهو فتى3.

_ 1 المراد بالمسند إليه الأصلي الذي هو الفاعل, وهذا لا ينافي أن نائب الفاعل مسند إليه أيضا. 2 هي الكلمة الأخيرة من جملة مقارنة لأخرى. 3 وفي مثل هذا محافظة على الوزن إلا أنه غير مقصود، وفرق بين الحاصل قصدا والحاصل من غير قصد.

12- اتباع الاستعمال الوارد على ترك المسند إليه كقولهم في المثل: "رمية من غير رام"1 أي: هي رمية موفقة ممن لا يحسن الرمي حذف المسند إليه وهو "الضمير" اتباعا لما ورد في استعمالاتهم من ترك المسند إليه في مثل هذه المواضع, ومثله قولهم: "شنشنة أعرفها من أخزم"2. أي: هي شنشنة، فحذف المسند إليه اتباعا للاستعمال الوارد, ومنه قولهم في النعت المقطوع إلى الرفع لقصد إنشاء المدح، أو الذم، أو الترحم، "الحمد لله أهل الحمد" برفع أهل، وقولهم: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" برفع الرجيم، وقولهم: "اللهم ارحم عبدك المسكين" برفع المسكين على تقدير: هو أهل الحمد، وهو الرجيم، وهو المسكين، فقد حذف المسند إليه في هذه المثل اتباعا للاستعمال الوارد على تركه في نظائرها كقول العرب: "الحمد لله الكريم" برفع الكريم على المدح، وقولهم: "مررت بزيد الخبيث" برفع الخبيث على الذم، وقولهم: "اللهم ارحم عبدك الفقير" برفع الفقير, ومن هذا القبيل قول ابن عنقاء الفزاري يمدح عميلة وقد شاطره ماله لفقره3:

_ 1 مثل يضرب لمن صدر منه فعل ليس أهلا له قاله الحكم بن يغوث حين نذر أن يذبح مهاة على الغبغب وهو جبل بمنى, وكان من أرمى الناس فصار كلما رمى مهاة لا يصيبها, ومكث على ذلك أياما حتى كاد يقتل نفسه فخرج معه ابنه "مطعم" إلى الصيد فرمى الحكم مهاتين فأخطأهما فلما عرضت الثالثة رماها مطعم فأصابها, وكان لا يحسن الرمي فقال الحكم عندئذ: رمية من غير رام فصار مثلا. 2 هذا المثل عجز بيت قاله أبو أخزم الطائي, كان ابنه أخزم يؤذيه كثيرا، ثم مات في حياة أبيه، وترك أولادا له فوثبوا على جدهم يوما وأوسعوه ضربا حتى أدموه فأنشد: إن بني ضرجوني بالدم ... من يلق آساد الرجال يكلم ومن يكن ردءا له يقدم ... شنشنة أعرفها من أخزم يقول إن ضربهم إياهه خصلة يعرفها من أبيهم أخزم, فذهب الشطر الأخير مثلا سائرا. 3 قال التبريزي في خبر هذه الأبيات: إن قوما من العرب أغاروا على نعم له فاستاقوها حتى لم يبق له منها شيء, فأتى ابن أخيه عميلة وقال له: يابن أخي إنه نزل بعمك ما ترى فهل من حلوبة؟ قال: نعم يا عم حين إذ يروح المال فأبلغ مرادك منه فلما راح المال قاسمه إياه وأعطاه شطره, فقال ابن عنقاء هذه الأبيات.

رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلي ما له حالي, أسركما جهر دعاني فآساني ولو ضن لم ألم ... على حين لا بدو يرجى ولا حضر غلام رماه الله بالخير يافعا ... له سيمياء لا تشق على البصر1 أي: هو غلام ومنه قول الشاعر2. سأشكر عمرا ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت3 أي: هو فتى, وهكذا يذكرون الممدوح، ثم يعقبون بعد ذلك بقولهم: غلام من شأنه كذا وكذا، أو فتى من شأنه كيت وكيت، ولا تكاد

_ 1 "اشتكى حاله إلى ماله" كناية عن أنه رق له وعطف وهو من أروع الكنايات وألطفها، وقوله: "أسركما جهر" يريد: أن باطنه كظاهره فلم يعطه رياء بل كان عطفه عليه وليد رغبة صادقة فيه، ورماه الله بالخير غمره به، واليافع الشاب من أيفع الغلام إذا ناهز العشرين، والسيمياء الحسن والبهجة يرد أن سيماءه في وجهه وأن ما ينطوي عليه من خير يدرك بمجرد النظر إليه. 2 هو عمرو بن كميل. نظر إليه عمرو بن ذكوان وعليه جبة بلا قميص فجعل يسعى له ويتشفع حتى ولي البصرة فقال هذه الأبيات، وقيل إن قائل هذه الأبيات أبو الأسود يمدح بها عمرو بن سعيد العاصي. 3 ما تراخت منيتي يريد: ما امتد بي الأجل أي: ما حييت، والأيادي جمع يد بمعنى العطية، ولم تمنن أي: متصلة لم تنقطع، وقوله غير محجوب الغنى عن صديقه يريد أن أمواله في متناول أيدي قاصديه، وقوله. "ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت" يريد أنه جلد على قضاء الله لا يجزع لمكروه.

تجد المسند إليه يذكر في مثل هذه المواضع لهذا ترك ذكره فيها، وفي نظائرها اتباعا لاستعمالاتهم الواردة, إلى غير ذلك من دواعي الحذف كإخفاء المسند إليه عن غير المخاطب كالخوف منه، أو عليه، أو نحو ذلك. تنبيه: اعلم: أن ما تقدم لك من أسباب ترجيح الذكر على الحذف، أو العكس هو ما يسمى عندهم "أحوال الخطاب"1 وهي الأمور الداعية لأن يعتبر المتكلم خصوصية في كلامه -على ما سبق- والكلام الكلي المتكيف بهذه الخصوصية هو مقتضى الحال، واندراج الكلام الجزئي المنطوق به مكيفا بهذه الخصوصية تحت هذا الكلام الكلي هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال -على ما تقدم- فإذا قلت مثلا: "محمد قادم" فذكرت المسند إليه مراعيا أن ذكره الأصل فالحال حينئذ هو كون الأصل فيه الذكر، ومقتضى الحال هو الكلام الكلي المذكور فيه المسند إليه، ومطابقة القول المنطوق به لمقتضى الحال هو اندراجه مشتملا على هذا الذكر تحت الكلام الكلي, وإذا قلت: "قادم" تريد "محمد قادم" فحذفت المسند إليه قاصدا اختبار تنبه السامع إلى هذا المحذوف فإن الحال حينئذ هي قصدك اختبار ذكاء السامع، ومقتضى الحال هو الكلام الكلي المحذوف منه المسند إليه، ومطابقة الكلام الجزئي المنوق به لمقضتى الحال هو اندراجه مشتملا على هذا الحذف تحت الكلام الكلي, وهكذا يقال في سائر ما سيمر بك من دواعي التعريف، أو التنكير، أو التقديم، أو التأخير، أو غير ذلك مما يعرض لطرفي الإسناد.

_ 1 أما الذكر والحذف وما إليهما من التعريف والتنكير وغيرهما فهي أحوال لطرفي الإسناد فهذه غير تلك.

تمرين وجوابه

تمرين وجوابه: بين أسباب ذكر وحذف المسند إليه في العبارات الآتية: والله قدير والله غفور رحيم. {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} . قضية ولا أبا حسن لها. علي يصيد

الأفاعي بيده. من ساء طبعه هجر ربعه. قيل لمريض: كيف حالك؟ قال: لا تسر, قيل لرجل: ماذا أرى فوق رأسك؟ قال: هذه مظلتي: أتحصن بها في اليوم المطير، وأرد بها وهج الشمس عند الهجير. هاد إلى الطريق القويم تريد النبي -صلى الله عليه وسلم. أمير البلاد يكلمك بعد سابق ذكره. لئيم منافق بعد ذكر شخص معين. لا تخاطب اللئيم السفيه "بضم السفيه". الحبيب قادم "بعد ذكر اسمه". خالد هذا تسور على بكر الحائط. حضرك شخصان وأحدهما صديق فقلت: خائن تريد: الصديق. مهزام الكماة1 تريد شجاعا معينا. شاعر مفلق تريد شوقي: اعتاد قلبك من ليلى عوائده ... وهاج أهواءك المكنونة الطلل ربع قواء أذاع المعصرات به ... وكل حيران سار ماؤه خضل الجواب: جدول اسكنر

_ 1 الكماة جمع كمي وهو الشجاع المتكمى بسلاحه أي: الغاص به.

جدول اسكنر تمرين يطلب جوابه على نحو ما سبق: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . أقبل السارق. محتال مراوغ. الأمير نشر المعارف وأمن المخاوف. على هذا سطا على بيت خالد وسلب متاعه، أبو بكر حارب المرتدين. فعباس يصد الخطب عنا ... وعباس يجير من استجارا لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم نجوم سماء كلما غار كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور مزلزل إيوان كسرى. غارة "لواقف في مظان الخطر". فاجر لا يتقى الله. قادم تريد رجلا بعينه. علي يناطح الصخر، ويلين الحديد.

حاتم يقري الضيف وحاتم يفك العاني1. من صدق وده حفظ عهده. مرعى ولا كالسعدان. قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار خليلي إما أن تعينا وتسعدا ... وإما كفافا لا علي ولا ليا

_ 1 الأسير.

تعريف المسند إليه

تعريف المسند إليه: اعلم أن الأصل في المسند إليه أن يكون معرفة1؛ لأن المقصود الحكم على شيء معلوم لدى المخاطب؛ ولأنه المحكوم عليه، والحكم على المجهول لا يفيد، لا معنى إذًا لالتماس نكتة لمطلق تعريفه كما فعلوا في الإيضاح، والنكرة وإن أمكن أن تخصص بالوصف، بحيث لا يشاركها فيه غيرها كما تقول مثلا: "لقيني رجل حياك أمس، وهو يحمل حقيبة سوداء" لكن ليس ذلك في قوة تخصيص المعرفة؛ لأن تخصيصها وضعي، وتخصيص النكرة ليس كذلك. ثم إن التعريف على وجوه كثيرة يكون بالإضمار، وبالعلمية، وبالموصولية وبالإشارة، وبأل المعرفة، وبالإضافة, ولا يخلو وجه من هذه الوجوه من أن يتعلق به غرض للبليغ.

_ 1 بخلاف المسند فإن الأصل فيه أن يكون نكرة؛ لأن المقصود فيه إثبات مفهومه لشيء فتعريفه حينئذ أمر زائد على المقصود يحتاج إلى داع.

إيراد المسند إليه ضميرا

إيراد المسند إليه ضميرا: الضمير -كما هو معلوم- أنواع ثلاثة: ضمير تكلم "كأنا"، وضمير خطاب "كأنت"، وضمير غيبة "كهو", ولا بد لهذا الأخير من أن يتقدمه مرجع يعود هو إليه، وإلا لم يفهم منه معنى, غير أن تقدم المرجع يكون على وجوه ثلاثة: 1- أن يتقدم لفظا -تحقيقا أو تقديرا- فالمتقدم في اللفظ تحقيقا هو ما ينطق به أولا، وبالضمير ثانيا كما في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ حَتَّى

يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} فمرجع الضمير لفظ الجلالة، وقد تقدم على الضمير لفظا تحقيقا إذ قد نطق به أولا, وكقول أبي تمام: بيمن أبي إسحاق طالت يد العلا ... وقامت قناة الدين واشتد كاهله هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والبحر ساحله والمتقدم لفظا في التقدير هو ما نطق به بعد الضمير كقولهم: "نعم فارسا علي" على رأي من يجعل المخصوص مبتدأ مؤخرا، والجملة قبله خبرا مقدما، فمرجع الضمير حينئذ هو المخصوص، وقد تأخر عن الضمير في اللفظ، ولكنه في التقدير متقدم عليه؛ لأنه مبتدأ والمبتدأ مرتبته التقدم على الخبر، فكأن قد لفظ به أولا, وأما تمثيلهم بنحو قولهم: "في داره صديقك" فليس مما نحن فيه، وهو أن يكون الضمير مسندا إليه. 2- أن يتقدم المرجع معنى، وذلك بأن يدل عليه لفظ سابق من جنسه، أو ترشد إليه قرينة حال, فمثال ما دل عليه لفظ قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فمرجع الضمير هو "العدل" المدلول عليه بلفظ "اعدلوا"، فهو لم يتقدم لفظا، وإنما تقدم معناه في الفعل, ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} فمرجع الضمير هو معنى الرجوع المفهوم من قوله "ارجعوا"، ومثال ما دلت عليه قرينة حال قوله تعال: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ، فمرجع الضمير المستتر في "ترك" هو "الميت"، ولم يدل عليه لفظ سابق، بل دلت عليه قرينة حال هي أن الكلام مسوق لبيان الإرث, ومثله قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} فالمرجع وهو "الشمس" لم يدل عليه لفظ سابق كما في "عدلوا"، ولكن ذكر العشى والتواري بالحجاب، وسياق الكلام كل ذلك قرائن تدل على أن المراد هو "الشمس". 3- أن يتقدم المرجع حكما كضميري رب والشأن نحو "ربه فتى"،

ونحو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فالمرجع في هذين لم يتقدم لفظا، ولا معنى، وكان حقه أن يتقدم؛ لأن وضع الضمير على أن يعود على متقدم، وإنما أخر لنكتة هي البيان بعد الإبهام لهذا كان المرجع في حكم المتقدم. إذا علمت هذا فاعلم أن نكتة إيراد المسند إليه ضميرا هي أن يكون الحديث في أحد المقامات الثلاثة الآتية: مقام التكلم، مقام الخطاب، مقام الغيبة. فإذا كان المتكلم هو المحدث عن نفسه كان المقام للتكلم، فينبغي أن يقول "أنا"، وإذا كان يخاطب إنسانا أمامه كان المقام للخطاب، فينبغي أن يقول "أنت"، وإذا كان يخبر عن غائب كان المقام للغيبة، فينبغي أن يقول "هو", فمثالي الأول قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" وكقول بشار بن برد: أنا المرعث لا أخفى على أحد ... ذرت بي الشمس للقاصي وللداني1 يصف نفسه بأنه ذائع الصيت، واضح الأمر، يعرفه كل من يراه لشهرته. ومثال الثاني قول الشاعر: وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم ومثال الثالث قول الشاعر: من البيض الوجوه بنو سنان ... لو أنك تستضيء بهم أضاءوا

_ 1 الرعثة بضم الراء القرط يعلق بشحمة الأذن, ولقب بشار بالمرعث لرعثة كانت له في صغره به، وذرت الشمس طلعت.

هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا وهذه الضمائر الثلاثة إنما تدل على مقاماتها دلالة قاطعة، لا احتمال فيها، فلا ينافي ذلك أن الاسم الظاهر قد يؤتى به في مقام التكلم، كما يقال مثلا: "فاروق يأمرك بكذا" فإنه وإن جاز أن يقال هذا في مقام التكلم، على معنى: أنا آمرك بكذا بأن كان المتكلم هو فاروقا نفسه, لكن دلالته على هذا المقام ليست قاطعة لاحتمال أن يكون هذا الكلام إخبارا عن الملك فاروق بأنه يأمر بكذا، فيكون المقام للغيبة لا للتكلم, بخلاف نحو: أنا آمرك بكذا، أو هو يأمر بكذا فإنه نص في التكلم، أو الغيبة, على أننا لو راعينا أن في مدلول الضمير اختصارا ليس في الاسم الظاهر لخرج مثل القول المتقدم إذ صدر من فاروق نفسه، فإن الحديث هنا -وإن كان في مقام التكلم- لا اختصار فيه. تنبيه: وضعت المعارف على أن تستعمل في معين بالذات فالضمير، والعلم، والإشارة، والموصول، والمحلى بأل، والإضافة كل واحد من هؤلاء موضوع لأن يستعمل في شخص بعينه1، ومن جملة هذه المعارف ضمير الخطاب, فهو إذًا موضوع لأن يستعمل في معين خصوصا إذا علمنا أن معنى الخطاب توجيه الكلام إلى حاضر مشاهد -واحدًا كان أو أكثر2- وهو لا يكون إلا معينا كقولك تخاطب شخصا أمامك: أنت استرققتني بمعروفك, وقد يخرج الخطاب عن وضعه، فيخاطب:

_ 1 قيل إن المعرف بلام العهد الذهني من جملة المعارف مع أنه لا يستعمل في معين, وأجيب أنه في حكم النكرة والكلام في معرفة ليست كذلك, وقد يجاب أن المعرف بلام العهد الذهني مستعمل في الجنس, وهو في نفسه معين وإن كان باعتبار وجوده في ضمن فرد ما غير معين, ولا يرد على الجواب الثاني النكرة بناء على أنها موضوعة للجنس لا للفرد الشائع؛ لأن تعين الجنس معتبر في المعرف بلام العهد الذهني غير معتبر في النكرة. 2 فضمير المخاطب بصيغة التثنية لاثنين معينين وبصيغة الجمع لجماعة معينة أو للجميع على سبيل الشمول كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" , فإن الشمول الاستغراقي من قبيل التعيين.

1- غير المشاهد إذا كان مستحضرا في القلب كأنه نصب العين كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ونحو: لا إله إلا أنت، وما أشبه ذلك. 2- غير المعين بأن يراد به مطلق مخاطب على طريق المجاز المرسل علاقته الإطلاق1, وذلك حيث أريد تعميم الخطاب أي: توجيهه إلى كل من يتأتى خطابه، لكن لا على سبيل التناول دفعة واحدة، بل على سبيل البدل أي: كل فرد من أفراد المخاطبين2 كما في قولك: "فلان لئيم إن أحسنت إليه أساء إليك"، فليس المراد بالضمير في قولك: "إن أحسنت" مخاطبا معينا كما في الأصل في الخطاب، وإنما أريد مطلق مخاطب على سبيل البدل أي: فرد من أفراد هذا المطلق إشارة إلى أن سوء معاملة اللئيم لا يختص به واحد دون آخر ومنه قول المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، فليس المراد بقوله: {وَلَوْ تَرَى} مخاطبا معينا، وإنما أريد مطلق مخاطب على سبيل البدل إشارة إلى أن حالة المجرمين في ذلك اليوم من تنكيس الرءوس خوفا وخجلا، ومن رثاثة الهيئة، واسوداد الوجه، وغير ذلك من سمات الخزي والخذلان, قد تناهت في الظهور والافتضاح لأهل المحشر إلى حيث يمتنع خفاؤها فلا يختص بها راء دون راء، وإذ كان كذلك فلا يختص بهذا الخطاب مخاطب دون مخاطب، بل كل من تتأتى منه الرؤية فله مدخل في هذا الخطاب, تلك هي نكتة العدول بالخطاب عن أصل وضعه.

_ 1 ذلك لأن ضمير المخاطب موضوع بالوضع العام لكل معين فإذا لم يقصد به معين كان مجازا لاستعماله في غير ما وضع له. 2 وإنما كان عمومه بدليا لا شموليا للإشارة إلى أن الخطاب لم يخرج عن أصل وضعه من كل وجه حتى يكون كالنكرات في العموم بل يصاحبه الإفراد المناسب للتعيين.

قيل: إن توجيه الخطاب إلى غير معين من قبيل إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وإذًا فكان ينبغي ذكره في باب إخراج الكلام على خلاف المقتضى. وأجيب بأنا لا نسلم أن توجيه الخطاب لغير معين من إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ ليس هنا داع اقتضى إيراد الخطاب لمعين، فأجرى الكلام على خلاف ما يقتضيه، بل ليس هنا إلا مجرد استعمال اللفظ في غير ما وضع له لداع هو قصد تعميم الخطاب وهو مقتضى الظاهر، ولو أن هذا القدر كاف في جعله من خلاف مقتضى الظاهر لزم أن يكون جميع المجازات اللغوية من قبيل إخراج الكلام على خلاف المقتضى، ولا قائل بذلك.

إيراد المسند إليه علما

إيراد المسند إليه علما: العلم1 هو ما وضع لشيء معين، مع ما يلازمه من مشخصات تميزه عما عداه، بحيث لا يشاركه فيها سواه2. فلا يرد على التعريف صفات الطفولة كصغر الأعضاء، وعدم التمييز وفقدان النطق، وغيرها مما يزول بزوال الطفولة فليست معتبرة في وضع العلم، إنما المعتبر الصفات اللازمة التي لا تزول كاللون الخاص، وكالأوضاع الخاصة في تقاسيم الوجه، ونحو ذلك مما لا يختلف كثيرا باختلاف أطوار الحياة.

_ 1 المراد علم الشخص إذ هو الذي يتأتى فيه التعين بالمشخصات بخلاف علم الجنس فإنه لا تعين فيه ولا تشخص. 2 المعتبر في المشخصات أن تكون جزء الموضوع له لا أنها أمر زائد، ويكفي في وضع العلم ملاحظة هذه المشخصات ولو بوجه عام، ويظهر ذلك فيمن سمى ولده الذي لم يره ولم يطلع على مشخصاته, إذ لا يتعين عند وضع الاسم ملاحظة هذه المشخصات على جهة الخصوص, وقد قيل إن هذا التعريف غير شامل لعلم الجنس؛ لأنه موضوع للماهية ولا وجود لها في الخارج حتى يكون لها مشخصات, وأجيب بأن هذا التعريف خاص بما علميته حقيقية وهو علم الشخص أما علم الجنس فعلميته حكمية, وقد يجاب بأن المراد بالمشخصات ما يشمل الخارجية والذهنية وإذًا يكون التعريف شاملا لعلم الجنس.

ودواعي إيراد المسند إليه علما كثيرة أهمها ما يلي: 1- إحضار المسند إليه1 بعينه وشخصه2 في ذهن السامع3 ابتداء4 باسمه الخاص به5 بحيث6 لا يطلق على غيره باعتبار وضعه لهذه الذات المعينة، وإن أطلق باعتبار وضع آخر على ذات آخرى كما في الأعلام المشتركة "كمحمد" المسمى به جماعة- مثاله قولك: "وفد محمد علينا" فالمسند إليه هو "محمد" وقد جيء به علما لقصد إحضار

_ 1 هو على حذف مضاف أي: إحضار معنى المسند إليه, وإنما قلنا ذلك؛ لأن كونه مسندا إليه وصف للفظ والمحضر في ذهن السامع إنما هو المعنى؛ لأنه المحكوم عليه. 2 قيل: احترز بهذا القيد عن إحضار المسند إليه باسم جنسه كما تقول: "زارني اليوم رجل" ولم يكن يزورك في هذا اليوم سواه غير أن هذا القول لا يرد؛ لأن المراد بإحضار المسند إليه بعينه وشخصه إحضاره من جهة الوضع كما في علم الشخص، أما الإحضار في المثال المذكور فليس من طريق الوضع، بل آت من طريق انحصار الوصف المذكور في المسند إليه، ثم إن المراد بالإحضار بالعين والشخص ما يشمل الإحضار بوجه جزئي كما في نحو: "محمد" من أسماء الأشخاص أو بوجه كلي ينحصر فيه المعنى كما في لفظ الجلالة فإن مدلوله يستحضر بوجه عام ينحصر فيه ككونه واجب الوجود خالقا للعالم. 3 المراد بإحضاره في ذهن السامع لفت نفسه وتوجيهها إليه ولو كان حاضرا من قبل كما إذا قيل "أقبل محمد" حال حضور مدلوله في ذهن السامع فليس الغرض إحضار معناه في ذهنه؛ لأنه حاضر فيه وإنما الغرض لفت نفسه إليه وإشعارها به. 4 احترز به عن الإحضار الذي يجيء ثانيا كما في ضمير الغائب نحو جاءني محمد وهو راكب فإنه وإن أحضر شخصه في ذهن السامع لكنه إحضار جاء ثانيا بعد إحضاره بالمرجع أولا, وقيل احترز بقيد "ابتداء" عن الإحضار بشرط كما في ضمير الغائب والمعروف بلام العهد, إذ يشترط فيهما تقدم ذكره وكالموصول إذ يشترط فيه تقدم العلم بالصلة، وهذا مردود؛ لأن جميع طرق التعريف كذلك مشروطة بتقدم شيء حتى "العلم" نفسه يشترط فيه تقدم العلم بالوضع. 5 احترز به عن الإحضار بالضمير مثلا نحو: "أنا كتبت" فإنه وإن أحضر به معنى المسند إليه بعينه في ذهن السامع ابتداء لكنه ليس اسما خاصا به؛ لأن "أنا" موضوع بوضع عام لكل متكلم, وهكذا يقال في سائر المعارف كاسم الإشارة والموصول وغيرهما. 6 بهذه الحيثية اندفع ما قيل من أن الأعلام المشتركة من قبيل علم الشخص في حين أنها لا تعين أشخاص مدلولاتها, والجواب على هذا ما ذكرنا من أنها تعين شخص مدلولها باعتبار كل وضع بخصوصه.

مسماه بعينه وشخصه في ذهن السامع ابتداء باسمه الخاص باعتبار وضعه لهذا المسمى, فلفظ "محمد" باعتبار وضعه لذات خاصة يعين شخصها، ولا يتناول باعتبار هذا الوضع غيرها ممن اشترك في هذا الاسم, وكقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ 1 أَحَدٌ} على أن يجعل ضمير الشأن مبتدأ أولا، ولفظ الجلالة مبتدأ ثانيا، والجملة خبر الأول ليكون فيه الشاهد2 وهو إيراد المسند إليه علما لأجل إحضاره بشخصه3 في ذهن السامع ابتداء باسمه الخاص به. غير أن القيد الأخير وهو قولنا: "باسمه الخاص به" يغني عن القيدين قبله، وهما: إحضار المعنى بعينه وشخصه، وكون هذا الإحضار ابتداء إذ إن إحضار الشيء باسمه المختص به إحضار له بعينه أول مرة, وهذا إنما يكون بالعلم, وإنما ذكر القيدان المذكوران مع إغناء الأخير عنهما بيانا للواقع، أو تحقيقا لمقام العلمية. 2- تعظيم المسند إليه، أو إهانته4 كما في الألقاب نحو "قدم حسام الدين وأقبلت نور الهدى"، ونحو: "رحل عنا أنف الناقة، وفارقنا صخر" أتى بالمسند إليه في هذه المثل علما لقصد تعظيمه في الأولين، وإهانته في الآخرين, وكما في الأسماء الصالحة لذلك نحو

_ 1 أصل "الله" الآلهه حذفت همزته وعوض عنها حرف التعريف ثم جعل علما للذات الواجب الوجود الخالق للعالم، والمراد بتعويض حرف التعريف اعتباره عوضا عن الهمزة, لا تعويضه عنها بالفعل والإلزام عليه تحصيل الحاصل؛ لأن حرف التعريف موجود في الكلمة قبل التعويض كما يلزم عليه الجمع بين العوض والمعوض عنه قبل حذف الهمزة من لفظ الإله, ووجه جعله علما للذات العلية أنه وضع من أول الأمر لها من غير سبق تصرف فيه, وهو ما عليه الأئمة الأربعة. 2 أما عند من يجعل لفظ الجلالة خبرا أولا لضمير الشأن ويجعل "أحد" خبرا ثانيا فلا شاهد فيه؛ لأن لفظ الجلالة حينئذ لم يقع مسندا إليه بل مسندا. 3 أي: بمشخصاته التي قام عليها الدليل ككونه واجب الوجود خالقا للعالم قادرا على كل شيء. 4 أي: أو تعظيم غيره أو إهانته كما تقول: أبو الفضل صديقك: وأبو لهب رفيقك فالتعظيم في الأول والتحقير في الثاني للمخاطب وهو غير مسند ولا مسند إليه.

قولهم: "كر علي على الأعداء فهرب معاوية"1 ففي الأول معنى العلو، وهو مفيد للتعظيم، وفي الثاني معنى "العواء" لصراخ الذئب، وهو مفيد للإهانة, وكما في الكنى الصالحة لذلك أيضا نحو قولهم: "أقبل علينا أبو الفضل"، و"ذهب عنا أبو الجهل" ففي الأول تعظيم للمسند إليه، وفي الثاني إهانة له وتحقير. 3- التفاؤل به، أو التطير منه نحو: "وافانا سرور، ونزح عنا حرب. فالغرض من إتيان المسند إليه علما التفاؤل في الأول، والتشاؤم في الثاني. 4- قصد التبرك به إن كان مما يتبرك بذكر اسمه، أو قصد الإعلام بالتلذذ بذكره, فالأول نحو: الله حسبي، ومحمد شفيعي، إذ تقدم لهما ذكر في كلام سابق، فيعاد ذكرهما تيمنا به, والثاني كما في ذكر أسماء الأحبة، ومن ثم يقول أبو الطيب المتنبي من قصيدة يمدح بها عضد الدولة: أساميا لم تزده معرفة ... وإنما لذة ذكرناها وعليه قول قيس مجنون ليلى العامرية: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر؟ والشاهد في قوله: "أم ليلى" فإن مقتضى سياق الحديث أن يقول: "أم هي" إذ المقام للضمير لتقدم المرجع، لكنه أورده علما لقصد الإعلام بالتلذذ بذكر اسم محبوبته. 5- التسجيل على السامع حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار كأن يقول القاضي لرجل: هل أقر عمرو بكذا لخالد؟، فيقول الرجل: نعم عمرو أقر بكذا، فيؤتى بالمسند إليه علما لقصد التسجيل على السامع فلا يسعه أن ينكر.

_ 1 هما اسمان صالحان لما يراد منهما من معنى التعظيم والإهانة, ويصح اعتبارهما لقبين لإشعار أولهما بمدح وثانيهما بذم.

6- التنبيه على غباوة السامع، وأنه لا يفهم إلا بالتصريح كأن يقول لك إنسان: هل محمد صنع هذا، فتجيبه: محمد صنعه، فتأتي به علما لقصد التنبيه على بلادة المخاطب. 7- أن يكون العلم كناية عن معنى يصلح العلم له باعتبار معناه الأصلي قبل أن يكون علما كما تقول: "أبو لهب فعل كذا" كناية عن معنى هو: كونه جهنميا, أي: من أهل جهنم، وكأنك قلت: جهنمي فعل كذا، وهذا المعنى يصلح العلم له بالنظر إلى معناه الوضعي قبل أن يجعل علما على الذات. وتوجيه الكناية فيه: أن "أبو لهب" بحسب معناه الأصلي قبل جعله علما على الذات كان مركبا إضافيا معناه كما قال العصام1: من تتولد منه النار بمعنى: أنه وقودها كما تتولد النار من الخشب، فكأن الخشب أب لها، ويلزم من كون الإنسان وقودا للنار أن يكون جهنميا أي: من أهل جهنم إذ المراد بالنار نار جهنم قال تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فلفظ "أبو لهب" بهذا المعنى المذكور ملزوم، وقد أطلق لينتقل منه إلى لازمه وهو كونه جهنميا، والانتقال من الملزوم إلى اللازم هو معنى الكناية, وهذا الانتقال -كما ترى- من المعنى الإضافي، لا من المعنى العلمي2 فإذا قلت في شأن

_ 1 وهذا المعنى أسلم مما ذهب إليه غيره من أن معنى "أبو لهب": ملازم للنار وملابسها، ويلزم ذلك أن يكون جهنميا إذ ورد عليه أن الملازمة ممنوعة, فإن الفران ملازم للنار وملابس لها, وهو مع ذلك ليس جهنميا، وهاهم أولاء الملائكة الزبانية ملازمون للنار الحقيقية وهم كذلك ليسوا جهنميين, فاحتيج إلى الرد "بالنسبة إلى الفران" بأن المراد باللهب اللهب الحقيقي, وهو نار جهنم لا مطلق لهب, وبأن المراد باللزوم بالنسبة إلى الزبانية اللزوم العرفي, وهو أن يكون أحد الأمرين بحيث يصلح للانتقال منه إلى الآخر, وإن لم يكن هناك لزوم عقلي, وهذا اللزوم كاف عند علماء المعاني, ومثل هذا لا يرد على تفسير العصام لمعنى المركب المذكور, إذ ليس من شك في لزوم كونه جهنميا لذلك المعنى وهو كونه وقودا للنار. 2 لأن المعنى العلمي هو الذات المسماة بأبي لهب, والذات من حيث هي لا يلزمها أن تكون جهنمية لاحتمال أن تكون ذاتا صالحة. بخلاف المعنى الإضافي وهوكونه أبا للهب بمعنى أنه وقودها, فإن هذا هو الذي يلزمه أن يكون جهنميا.

كافر مسمى بأبي لهب: "أبو لهب فعل كذا" فالنكتة في إيراد المسند إليه علما هي أنه كناية عن كونه جهنميا باعتبار المعنى الإضافي الأصلي من إطلاق الملزوم وهو الذات المتولدة عنه النار والانتقال منه إلى لازمه. وهو كونه جهنميا أي: من أهل جهنم خالدا فيها. غير أنه قيل: إن شأن الكناية أن ينتقل فيها من المعنى المستعمل فيه اللفظ إلى لازمه كما في "كثير الرماد" المستعمل في معناه مرادا به لازمه وهو الكرم, وهنا ليس كذلك؛ لأن المعنى الذي استعمل فيه لفظ "أبو لهب" هو الذات وليس من لوازمها أن تكون جهنمية. ويجاب بأن الكناية لا يتوقف الأمر فيها على الانتقال من المعنى الذي استعمل فيه اللفظ إلى لازمه، بل تارة يكون الانتقال فيها من معنى قد استعمل فيه اللفظ إذا كانت الكناية باعتبار المسمى بهذا الاسم كما في كثير الرماد, وتارة يكون الانتقال من معنى لم يستعمل اللفظ فيه إذا كانت الكناية باعتبار المعنى الأصلي كما هنا. وفي هذه الكناية رأي آخر: وهو أن يستعمل اللفظ في اللازم ابتداء بيان ذلك أن "أبو لهب" من قولك: أبو لهب فعل كذا معناه بالنظر للوضع الثانوي وهو المعنى العلمي: الذات الكافرة المعروفة، ويلزمها أن تكون جهنمية, فإذا قلت في شأن كافر غير أبي لهب: "جاء أبو لهب" فقد أردت أن تقول: جاء جهنمي، وحينئذ تكون قد استعملت اللفظ ابتداء في لازم المعنى الموضوع له, كما تقول في شأن أي كريم: "جاء حاتم"، فأنت من غير شك تريد أن تقول: جاء جواد، وهو لازم للمعنى الموضوع له الذي هو الذات الكريمة المعروفة، فقد استعملت اللفظ ابتداء في لازم المعنى المذكور. فالفرق بين الرأيين واضح, وهو أن اللفظ على الرأي الأول مستعمل في معناه العلمي ملتفتا معه إلى المعنى الإضافي لينتقل منه إلى لازمه

-كما بين سابقا- وأن اللفظ على الرأي الثاني لم يستعمل لا في المعنى الأصلي الإضافي ولا في المعنى العلمي، وإنما استعمل بادئ ذي بدء في لازم المعنى العلمي، فأبو لهب مستعمل ابتداء في "الجهنمي" اللازم للذات الكافرة المسماة بأبي لهب, ولم يستعمل في الشخص المعروف وهو "عبد العزى" لينتقل منه إلى كونه جهنميا, كما أن حاتما مستعمل ابتداء في الجواد اللازم للذات الكريمة، لا في الذات المعروفة وهي "عبد الله بن سعد الطائي" لينتقل منه إلى معنى الجواد. وقد رد هذا الرأي من وجوه: الأول: أنه يلزم على هذا التوجيه أن يكون قولنا: "جاء أبو لهب" أو قولنا: "جاء حاتم" استعارة1، لا كناية2 لأن استعمال لفظ "أبو لهب" في لازم معناه وهو "الجهنمي" استعمال للفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة في الكفر, كما أن إطلاق لفظ "حاتم" على لازم معناه وهو "الجواد" استعمال للفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة في الجود, والقرينة في الموضعين مانعة من إرادة المعنى الأصلي، وهي استحالة مجيء حاتم الطائي، أو عبد العزى للعلم القاطع بموتهما، وهذا معنى الاستعارة بعينه. الثاني: أنه يلزم عليه أنك إذا قلت: "رحل عنا أبو جهل" في شأن كافر لا يسمى بهذا الاسم، أو قلت: "هذا الرجل فعل كذا"، مشيرا إلى كافر كان هذا القول كناية عن الجهنمي, إذ إن منشأ الانتقال إلى

_ 1 أي: إن اعتبرنا العلاقة المشابهة وإن اعتبرنا العلاقة الإطلاق والتقييد كان مجازا مرسلا من إطلاق المقيد وهو أبو لهب الذي نزلت فيه الآية على المطلق كافر ثم أريد به الكافر المخصوص المسمى بزيد مثلا ليكون مجازا مرسلا بمرتبتين. 2 لأنها استعمال اللفظ في معناه ابتداء لينتقل منه إلى لازمه وهنا قد استعمل اللفظ ابتداء في اللازم على مذهب هذا القائل.

اللازم عند صاحب هذا الرأي كون الذات الكافرة مستلزمة له, ولم يقل بأن مثل هذا القول كناية أحد1. الثالث: أن صاحب المفتاح وغيره مثلوا لهذه الكناية بقول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ، وليس من شك أن المراد "بأبي لهب" في الآية الشخص المعروف المسمى أبا لهب، وهو "عبد العزى" لا كافر آخر وإلا كان استعارة، لا كناية, كما بينا، وإذا كان المراد به عبد العزى، لا كافرا آخر لم يكن كناية عن الجهنمي إلا على الرأي الأول القائل بأن اللفظ مستعمل في معناه العلمي ملاحظا فيه المعنى الإضافي لينتقل منه إلى لازمه، أما على الرأي الثاني فلا يكون كناية إلا إذا أريد به شخص آخر غير "عبد العزى" إذ اللفظ عنده غير مستعمل في معناه الأصلي. فاستشهاد السكاكي بالآية في بيان معنى الكناية دليل على فساد الرأي الثاني، وصحة الرأي الأول.

_ 1 قد يجاب عن هذا بأنه لا يلزم من فهم الجهنمي من "أبي لهب" فهمه "من أبي جهل" مرادا به كافر، أو من لفظ "هذا" مشارا به إلى كافر لعدم اشتهار المعنى الذي وضع له اللفظ بذلك اللازم بخلاف أبي لهب فإنه اشتهر بكونه جهنميا نظرا إلى معناه الأصلي وهو كونه أبا للنار بمعنى أنه وقودها فقياس أبي جهل على أبي لهب قياس مع الفارق.

إيراد المسند إليه اسم إشارة

إيراد المسند إليه اسم إشارة: يؤتى بالمسند إليه1 اسم إشارة لدواع يقصدها البلغاء أهمها ما يلي: 1- أن يقصد تمييز المسند إليه2 أكمل تمييز3 لاقتضاء الحال ذلك كأن يكون المقام مقام مدح بإجراء أوصاف الرفعة، ونعوت المحمدة

_ 1 يعني لفظه لأنه الذي يعرف. 2 أي: معناه لأنه المراد تمييزه. 3 هذا مقتضى أن اسم الإشارة أعرف المعارف وهو مخالف لما هو مقرر عندهم من أن أعرف المعارف الضمائر ثم الأعلام ثم المبهمات, والجواب أن دلالته على أكملية التمييز لا تقتضي أعرفيته؛ لأن دلاته على الأكملية إنما هي بواسطة الإشارة الحسية لا من أصل الوضع كما في الضمير والعلم.

عليه، أو كأن يكون المسند إليه مختصا بحكم بديع, فإن تمييزه بالإشارة حينئذ أعون على كمال المدح، أو على كمال التنويه بمن اختص بذلك الحكم الغريب, مثال الأول قول ابن الرومي الشاعر العباسي: هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسلم1 يمدح الشاعر هذا الرجل بأنه فذ في خلقه وخلقه، لا يدانيه فيهما أحد، وأنه سليل قوم ذوي شمم وإباء، إذ يسكنون البوادي2، وهي لا تخضع لسلطان حاكم، ولا تدين لسلطة قانون, والشاهد فيه قوله: "هذا أبو الصقر" حيث عبر عن المسند إليه باسم إشارة لقصد تمييزه كاملا اقتضاه مقام المدح إذ وصفه بالانفراد في الحسن، وبالعزة والمنعة, ومثله قول الحطيئة: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

_ 1 "أبو الصقر" خبر عن اسم الإشارة أو بدل منه أو عطف بيان، "وفردا" منصوب على المدح أو على الحال من الخبر وسوغ مجيء الحال منه كونه مفعولا في المعنى لمعنى اسم الإشارة أو لمعنى ها التنبيه لتضمن كل منهما معنى الفعل, وهو أشير أو أنبه أي: أشير إليه أو أنبه عليه حال كونه منفردا بالمحاسن على حد قوله تعال {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} و"من نسل شيبان" حال ثانية من صاحب الحال الأول، أو خبر ثان ذكر بيانا لنسبه بعد ذكر حسبه "وشيبان" اسم قبيلة، وبين الضال والسلم حال من نسل شيبان وهو الأوجه "والضال" بتخفيف اللام جمع ضالة, وهو شجر السدر "والسلم" جمع سلمة بالتحريك وهو شجر ذو شوك عظيم يسمى شجر العضاة. 2 يحتمل أن يكون المراد بالوصف بسكنى البادية الإشارة إلى وصفهم بكمال البلاغة والفصاحة, من حيث إنهم لا يخالطون طوائف العجم؛ فلغاتهم سليمة نقية لا تشوبها عجمة, غير أن المعنى الأول أولى أن يكون مرادا تصديقا لقول المعري.... لا يحضرون وفقد العز في الحضر

ومثال الثاني قول الراوندي: كم عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا يقول: كثير من ذوي الرأي والحجا ضاقت بهم سبل العيش الرغيد، وسدت في وجوههم مسالك الحياة الهنيئة, بينما نرى الكثير من ذوي الجهل في بسطة من العيش، وسعة في الرزق، وهذا الأمر لبعده في بادئ الرأي عن مظان الحكمة والصواب، وخروجه عن العرف المألوف, خليق أن يترك العقول حائرة، ويجعل العالم الراسخ في العلم زائع العقيدة، مسلوب الرشاد, والشاهد قوله: "هذا الذي" حيث أتى بالمسند إليه اسم إشارة لقصد تمييزه تمييزا كاملا لما اختص به من هذا الحكم البديع، وهو ترك العقول حائرة, والعالم النحرير زنديقا. 2- أن يقصد التعريض بغباوة السامع، وأن الأشياء لا تتميز عنده إلا بالإشارة الحسية كقول الفرزدق يهجو جريرا ويفتخر عليه: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع يريد: أن جريرا لا يستطيع أن يأتي بمثلهم آباء ذوي مجد وحسب إذا جمعتهما مجامع الفخر والمساجلة, والشاهد قوله: "أولئك آبائي" حيث أورد المسند إليه اسم إشارة قصدا إلى أن يصمه بوصمة الغباوة, وأنه لا يدرك إلا المحس بحاسة البصر, ولو أنه ذكر آباءه بأسمائهم، فقال: فلان، وفلان وفلان آبائي لم يكن فيه ما أراده من التعريض عند من له ذوق سليم, والأمر في قوله: "فجئني" أمر تعجيز على حد قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} أي: إنك لن تستطيع يا جرير أن تأتي بمثلهم في مناقبهم إذا جمعتنا مجامع المساجلة يوما ما1.

_ 1 لا يبعد أن تكون نكتة التعبير باسم الإشارة في بيت الفرزدق تمييزهم أكمل تمييز أو تعظيم شأنهم على ما سيأتي، بل قد يبدو ذلك واضحا.

3- أن يقصد بيان حال المسند إليه من القرب، أو البعد، أو التوسط فيقال: "هذا" لمشار إليه قريب، ويقال: "ذلك" لمشار إليه بعيد، ويقال "ذاك" لمشار إليه في مكان وسط، لا هو بالقريب ولا بالبعيد. غير أنه قيل: إن كون "هذا" للقريب، وذلك للبعيد، وذاك للمتوسط بحث خاص بعلماء اللغة؛ لأنهم إنما يبحثون في المعاني اللغوية، فلا ينبغي أن يتناوله بحث علماء المعاني؛ لأنهم إنما يبحثون في المعاني الزوائد على أصل المعنى الذي هو ثبوت الحكم للمسند إليه أيا كان حاله. والجواب: أن لأسماء الإشارة جهتين, فاللغة تبحث فيها من جهة معانيها الوضعية أي: من حيث إن "هذا" موضوع للقريب، و"ذلك" موضوع للبعيد، "وذاك" موضوع للمتوسط, وعلم المعاني يبحث فيها من جهة المعاني الثانوية أي: من جهة أنه يؤتى "بهذا" إذا قصد بيان قرب المشار إليه بأن كان المقام يقتضي ذلك، ويؤتى "بذلك" إذا أريد بيان بعد المشار إليه لاقتضاء الحال إياه وهكذا, فالبحث فيها عند علماء اللغة من حيث الوضع، وعند علماء المعاني من جهة اقتضاء الحال لها، فوضح الفرق بينهما. 4- أن يقصد تعظيم المسند إليه بالقرب تنزيلا لقربه من النفس، ومخالطته للروح منزلة قرب المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للقريب تحقيقا لهذا الغرض كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . ووجه دلالته على التعظيم هو أن المحبوب يكون عادة مخالطا للنفس، حاضرا في الذهن، لا يغيب عن الخاطر، فتعظيمه حينئذ يناسبه القرب المكاني على هذا الاعتبار. 5- أن يقصد تحقير المسند إليه بالقرب تنزيلا لدنو منزلته، وانحطاط مرتبته منزلة قرب المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للقريب تحقيقا لهذا الغرض كما في قوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي

يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} قاله أبو جهل قبحه الله مشيرا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لقصد إهانته "في زعمه" لعنة الله عليه, ومثله قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} . ووجه دلالته على التحقير هو أن الحقير عادة لا يمتنع على الناس، بل يكون قريب الوصول إليه، سهل التناول، مبتذلا، واقعا بين أيديهم وأرجلهم، فتحقيره حينئذ يناسبه القرب المكاني على هذا التقدير. 6- أن يقصد تعظيم المسند إليه بالبعد تنزيلا لبعد درجته، وعلو مرتبته منزلة بعد المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للبعيد للدلالة على قصد التعظيم كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} لم تقل "هذا" مع أنه كان حاضرا في المجلس رفعا لمنزلته في الحسن, ومثله في قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} فالإشارة فيه "بذلك" لقصد تعظيمه وأنه بعيد المنزلة. ووجه دلالته على ذلك أن العظيم عادة يتأبى على الناس، ويبعد عنهم لعزته ورفعة شأنه، فتعظيمه حينئذ يناسبه البعد المكاني على هذا الاعتبار. 7- أن يقصد تحقير المسند إليه بالبعد تنزيلا لبعده عن ساحة عز الحضور والخطاب منزلة بعد المسافة، ويعبر عنه حينئذ باسم الإشارة الموضوع للبعيد للدلالة على التحقير، كما تقول لحاضر مجلسك: "ذلك الرجل وشى بي عند الأمير". ومنه قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} . ووجه دلالته على ذلك هو أن الحقير عادة شأنه ألا يلتفت إليه، ولا يعرض للخاطر لنفرة النفس منه. فتحقيره حينئذ يناسبه البعد المكاني على هذا التقدير. فائدة: علمت أن "ذلك" موضوع للبعد المحس بحاسة البصر, وقد يشار به للغائب عن حاسة البصر, سواء كان ذاتا أو معنى تنزيلا

للبعد عن العيان منزلة البعد عن المكان, فمثال الأول قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ، ومثله قولك: "جاءني رجل فقال لي ذلك الرجل كذا"، تحكي أمره بعد غيبته, فالمشار إليه في كلا المثالين ذات غائبة عن حاسة البصر, غير أنه في الأول مما لا يمكن إدراكه بحاسة الإبصار، وفي الثاني مما يمكن إدراكه ومثال الثاني قولك: "وفى محمد بوعده فسرني منه ذلك الوفاء" فإن الوفاء معنى غائب عن حاسة الإبصار, ومنه ما حكي عن سيدنا الخضر مخاطبا نبينا موسى عليه السلام إذ قال له: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} ، يشير بذلك إلى الأمور التي حملته على ما فعل من قتل الغلام، وخرق السفينة، وإقامة الجدار, والاستعمال المذكور من قبيل المجاز بالاستعارة1. 8- أن يقصد التنبيه على أن المشار إليه المعقب بأوصاف جدير من أجل تلك الأوصاف بما يذكر بعد اسم الإشارة كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} بعد قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . فالمشار إليه في الآية بأولئك هم "المتقون" وقد ذكر عقيبه أوصاف هي: الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق من الرزق، والإيمان بما أنزل، والإيقان بالآخرة، وإنما أشار إليهم، "بأولئك" مع أن المقام للضمير لتقدم المرجع تنبيها على أن المشار إليهم أحقاء, من أجل هذه الأوصاف المذكورة, بما يرد بعد اسم الإشارة من الفوز بالهداية في العاجلة، وبالفلاح في الآجلة, ومن هذا القبيل قول حاتم الطائي: ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما ويغشى إذا كان يوم كريهة ... صدور العوالي وهو مختضب دما

_ 1 فقد شبه غير المدرك بالبعيد بجامع عدم إدراك كل بحاسة البصر ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه.

إذا الحرب أبدت ناجذيها وشمرت ... وولي هدان القوم أقبل معلما فذلك أن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما1 فالمشار إليه "بذلك" هو "صعلوك" ثم عدد له خصالا فاضلة من المضاء على الأحداث مقدما، وتيمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها, إلى غير ذلك مما ذكره بعد، ثم عقب ذلك بقوله: فذلك أن يهلك إلخ فكان في ذلك تنبيه على أن المشار إليه جدير من أجل هذه الخصال بما ذكر بعد اسم الإشارة. ووجه التنبيه على ما ذكر أن اسم الإشارة موضوع للدلالة على المشار إليه، والمشار إليهم في الآية هم الذوات، مع ملاحظة الأوصاف السابقة؛ لأن كمال التمييز الدال عليه اسم الإشارة إنما يكون بمراعاة هذه الأوصاف، وتعليق الحكم على موصوف يؤذن بعلية الوصف أي: إن الأوصاف السابقة هي العلة في الاستحقاق, أما الضمير فإنه لا يفيد مراعاة هذه الأوصاف في العلية, وإن كانت موجودة؛ لأنه موضوع للذات المجردة لهذا كان المقام للإشارة، لا للضمير. تنبيه: ينبغي أن يعلم أنه ليس بشرط في هذه النكتة أن تتعدد أوصاف المشار إليه، ولا أن تأتي عقيبه, كما لا يشترط أن يكون ما هو جدير به من الجزاء واردا بعد اسم الإشارة، بل يصح أن يكون المشار إليه موصوفا بوصف واحد، وأن يكون سابقا عليه, كما يجوز أن يكون ما هو خليق به من الجزاء سابقا على اسم الإشارة، فيقال مثلا: "جاءني الكامل محمد ويستحق الإكرام هذا" فالوصف واحد لا تعدد فيه وهو لفظ "الكامل"، وقد تقدم على موصوفه الذي هو "محمد", وما هو جدير به من استحقاق الإكرام ذكر قبل اسم الإشارة, فدل ذلك على أن ما ذكر من هذه الأمور

_ 1 صعاليك العرب فقراؤهم ومتلصصوهم، ويساور همه يواثبه، والهم العزيمة، وأعرضت ظهرت. والعوالي الرماح والهدان الأحمق والمعلم بفتح اللام المخففة الموسوم بسيما الحرب.

ليست شروطا يجب مراعاتها، وإنما ذكرت وفقا لما ورد في النص الكريم, والعبارة الواضحة في تقرير هذه النكتة أن يقال: يؤتى بالمسند إليه اسم إشارة للتنبيه -عند الإشارة إلى موصوف- على أن المشار إليه جدير بما أسند لاسم الإشارة من أجل كونه موصوفا ا. هـ.

إيراد المسند إليه اسم موصول

إيراد المسند إليه اسم موصول: يؤتى بالمسند إليه اسم موصول لأسباب أهمها ما يأتي: 1- ألا يكون المخاطب عالما بالأمور المختصة1 بالمسند إليه سوى الصلة. كأن ترى عند أحد أصدقائك رجلا ينشده شعرا، ولا عهد له به من قبل، فتقول له من الغد: "أين الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر؟ " فالمخاطب لم يكن يعلم شيئا يتعلق بالمسند إليه سوى أنه كان عنده بالأمس ينشده شعرا, فأنت في هذه الحالة لا طريق لك إلى تعريف الرجل للمخاطب سوى هذه الصلة؛ لأنها هي المعلومة له. وإنما خص المخاطب بعدم العلم بسوى الصلة، ولم يتعرضوا لصلة لم يكن للمتكلم وحده، أو مع المخاطب علم بغيرها؛ لأن الكلام حينئذ لا يكون فيه كبير فائدة غالبا2 إذ لا يمكن الحكم من المتكلم إلا بالأحوال العامة، والحكم بها قليل الجدوى؛ لأن أغلب الناس لا يجهلونها, فمثال ما إذا كان المتكلم وحده لا يعلم شيئا غير الصلة قولك: "الذين زاروك أمس لا أعرفهم" فمقتضى كون المتكلم لا يعلم شيئا من أحوال المسند إليه سوى هذه الصلة ألا يكون له به سابق معرفة، فإذا أراد أن يحكم عليه بشيء، فلا يعدو حكمه ما سبق في المثال من أنه لا يعرفهم وهو -كما ترى-

_ 1 المراد باختصاصها به عدم عمومها لغالب الناس لا عدم وجودها في غيره. 2 وقد يكون فيه كبير فائدة كما في قولك: الذي ملك مصر يعظم أهل الدين, وكقولك: الذين في بلاد المغرب مخترعون، فليس من شك أن في مثل هذه الأخبار فائدة يعتد بها.

حكم عام ليس فيه كبير جدوى إذ من المعلوم لغالب الناس أن من لا صلة لك به لا تعرفه, ومثال ما إذا لم يكن للمخاطب ولا للمتكلم علم بغير الصلة قولك: "الذين في بلاد اليابان لا نعرفهم" إذ لا يمكن الحكم عليهم إلا بما هو معلوم لغالب الناس. أما إذا كان المخاطب وحده هو الذي لا يعلم شيئا يتعلق بالمسند إليه سوى الصلة كالمثال السابق فإن الكلام غالبا يكون كثير الفائدة؛ لأن المتكلم يكون في الغالب عالما بالأحوال المختصة به، فيحكم بها عليه. غير أنه قيل: إن عدم العلم بغير الصلة لا يستدعي إتيان المسند إليه موصولا إذ يمكن التعبير عن المسند إليه بغير الموصول كالإضافة مثلا كقولنا في المثال السابق: "أين منشدك الشعر بالأمس" وإذًا فلا بد من انضمام شيء يترجح به اختيار الموصول على ما سواها من الطرق, وأجيب بأن النكتة لا يشترط فيها أن تكون مختصة بهذه الطريق، ولا أن تكون أولى بها، بل يكفي إمكان حصولها بها، وإن أمكن حصولها بغيرها, وليس معنى اقتضاء النكتة للموصول أنها مستلزمة له، بحيث لا يجزئ سواه، بل إن معنى اقتضائها للموصول مجرد مناسبته لها, وبهذا يجاب على كل سؤال من هذا النوع في آية نكتة. 2- استهجان التصريح بالاسم الدال على ذات المسند إليه بأن كان مشعرا في العرف بما تقع النفرة منه في معناه أو لفظه, مثال الأول قولك: "الذي يخرج من أحد السبيلين ناقض للوضوء"، ومثال الثاني قولك: "الذي نشأت على يديه جدي" إذا كان اسمه قبيحا لا يستحسن ذكره كلفظ جحش أو خنشور, ففي الأول قبح التصريح بذكر الخارج من أحد السبيلين لفحش معناه، وقبح في الثاني لنفرة النفس من سماع اللفظ لهذا أتى بالموصول توقيا من تصريح تمجه النفس، ويعافه الطبع. 3- زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام كما في قوله تعالى:

{وَرَاوَدَتْهُ 1 الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} فالغرض المسوق له الكلام نزاهة يوسف، وطهارة ذيله، وبعده عن مظان الريبة, والتعبير بالصلة أدل2 على هذا الغرض مما لو قال: وراودته امرأة العزيز أو زليخاء؛ لأنه إذا كان في بيتها، وتمكن3 من نيل ما طلبت منه، ومع ذلك عف وامتنع كان ذلك غاية في نزاهته وعفته عليه السلام. وقيل: إن المراد تقرير المسند الذي هو "المراودة": بمعنى أنها وقعت منها لا محالة؛ لأن وجوده في بيتها، مع ما لها من سعة السلطان، وقوة النفوذ، ومع فرط الاختلاط والألفة, أدل على وقوع المراودة، وصدور الاحتيال منها. وقيل: إن المراد تقرير المسند إليه الذي هو "امرأة العزيز، أو زليخاء" وذلك لإمكان وقوع الإبهام، أو الاشتراك فيهما. بيان ذلك: أنه لو قال: وراودته "زليخاء" مثلا لم يعلم يقينا أنها المرأة التي هو في بيتها لاحتمال أن يكون هناك امرأة أخرى مسماة بهذا الاسم غير التي هو في بيتها, ولو قيل: وراودته "امرأة العزيز" لوقع مثل هذا الاحتمال أيضا, وإن كان بعيدا, بخلاف التعبير بالموصول فإنه لا احتمال فيه مطلقا؛ لأنه معلوم من الخارج أن التي هو في بيتها إنما هي

_ 1 مصدر المراودة وهي في الأصل بمعنى المجيء والذهاب من راد برود جاء وذهب ثم أريد منها المخادعة على سبيل الاستعارة التبعية بأن شبهت المخادعة, وهي الاحتيال لأخذ ما بيد الغير بالمراودة الموضوعة للمجيء والذهاب بجامع التردد في كل, ثم استعيرت المراودة للمخادعة, ثم اشتق من المراودة بمعنى المخادعة راودت بمعنى خادعت، ثم هي بعد ذلك ليست على إطلاقها بل على خصوص الجماع, غير أن تفسير المراودة بما سبق يقتضي وقوع الطلب من الطرفين؛ لأنها مفاعلة من الجانبين ويوسف عليه السلام نبي معصوم لا يقع منه طلب من هذا النوع, ولعل الجواب على هذا أن المراودة ليست على بابها بل المراد بها أصل الفعل، أو هي على بابها ولك الطلب اختلفت جهته فطلبها للوقاع, وطلبه للدفاع وبهذا فسر قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ، أي: همت به فعلا وهم بها تركا. 2 أي: إن الغرض يدل عليه كل من الموصول وامرأة العزيز وزليخاء إلا أن الموصول أدل عليه لاقتضائه أنه تمكن منها ولم يفعل بخلاف غيره. 3 أي: ولو بحسب الصورة وإلا فهو نبي معصوم.

زليخاء امرأة العزيز لا غير, لهذا كان هذا الوجه هو الأولى بالاعتبار، والأحق بالتقدير1, ومثل الآية المذكورة قول أبي العلاء المعري: أعباد المسيح يخاف صحبي ... ونحن عبيد من خلق المسيحا؟ فقوله: "عبيد من خلق المسيح" أدل على تقرير غرضه وهو نفي خوف أصحابه من قوله: عبيد الله. غير أنه ينبغي أن يعلم الذي أفاد زيادة التقرير إنما هو الوصول من حيث اشتماله على الصلة، فالصلة هي مبعث هذه الفائدة, وكذلك يقال فيما يأتي بعد من النكات. 4- قصد التفخيم والتهويل في المسند إليه كما في قوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} يريد غشيهم ماء غزير لا يقدر كنهه, لهذا عبر عن المسند إليه "بما" الموصولية إذ إن في هذا الإبهام من التفخيم ما لا يفي به التصريح فيما لو قال: فغشيهم من اليم ثلاثون قامة مثلا ففي الموصول إذًا إشارة إلى أن تفصيل المسند إليه، وبيانه مما لا تفي به عبارة, ولا يحيط به علم2 ومثله قول الشاعر يصف الخمر: مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باق يطلب الباقي3 يريد تفخيم ما ذهب من عقول المعاقرين لها. 5- تنبيه المخاطب على خطأ وقع منه، أو من غيره: مثال الأول قول عبدة بن الطيب من قصيدة يعظ بها بنيه:

_ 1 ما ذكرناه من أن الآية مثال لزيادة التقرير هو الظاهر, ولا يبعد أن تكون أيضا لاستهجان التصريح بالاسم, إما لأن العادة جرت باستقباح التصريح بأسماء النساء, أو لأن السمع يمج لفظ زليخاء لكونه مركبا من حروف يستقبح في السمع اجتماعها. 2 لا يقال إن صلة الموصول يشترط فيها أن تكون معهودة للمخاطب ليتعرف المسند إليه باعتبارها والإبهام في الصلة ينافي مقام التعريف، لا يقال ذلك لأن اشتراطهم عهدية الصلة إنما هو في غير مقام التعظيم والتفخيم. 3 ومنه في غير المسند إليه قول دريد بن الصمة: صبا ما صبا حتى علا الشبب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد

إن الذين ترونهم إخونكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا1 يقول: إن الذين تظنونهم أصدقاءكم، يتمنون الخير لكم, هم على غير ما تظنون، يودون دماركم، وإيقاع الشر بكم، فأنتم إذًا مخطئون في هذا الظن, والشاهد فيه قوله: "إن الذين ترونهم إخوانكم" حيث أتى بالمسند إليه موصولا لقصد تنبيه المخاطبين2 على خطئهم في ظنهم أن أمثال هؤلاء أصدقاء لهم إذ قد تحقق منهم ما لا يتفق مع هذه الصداقة من تربص الدوائر بهم, بخلاف ما لو صرح بأسمائهم مثلا فقيل: فلان وفلان وفلان يشفي غليل إلخ, فليس في ذلك ما يفيد تنبيههم إلى هذا الخطأ, ومثال ما فيه تنبيه على خطأ غير المخاطب قولك: إن الذي يحسبه محمد صديقه الحميم يغتم لسروره، ويبتهج لحزنه، ويود له ما لا يجب. ففيه من التنبيه على خطأ "محمد" في هذا الحسبان ما ليس في التصريح بالاسم, ومنه قول عروة بن أذينة3: إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها ففي التعبير بالموصول تنبيه على خطئها في زعمها. 6- تشويق المخاطب إلى الخبر ليتمكن في ذهنه, وذلك حيث يكون مضمون الصلة حكما غريبا كما في قول أبي العلاء المعري: والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد4

_ 1 "ترونهم" بضم التاء على صورة المبني للمجهول, ولكن على معنى البناء للفاعل وعلى هذا تكون الواو فاعلا وهم مفعولا أولا وإخوانكم مفعولا ثانيا, وأما فتح التاء على أن تكون "ترى" بمعنى تبصر فلا يصح؛ لأنه غير مراد نعم يصح على جعل الرؤية قلبية بمعنى الاعتقاد لكن الرواية تخالفه، والغليل هنا بمعنى الحقد، وتصرعوا من الصرع وهو الإلقاء على الأرض, وهو إما كناية عن الهلاك أو عن الإصابة بالحوادث. 2 منشأ التنبيه كما علمت هو الصلة. 3 هو أحد بني ليث بن بكر وهو شاعر غزل مقدم من شعراء المدينة ومعدود من الفقهاء والمحدثين روى عنه مالك بن أنس. 4 المراد بحيرة الناس فيه اختلافهم في أمر بعثه فقد أطلقت الحيرة وأريد لازمها وهو الاختلاف, إذ يلزم من الحيرة في الشيء الاختلاف فيه=

يقول: إن الذي تحيرت الخلائق فيه أي: اختلف الناس في أمر بعثه، وهل يعاد ثانيا بعد موته أو لا يعاد؟ هو ذلك الحيوان الآدمي المتولد من النطفة، أو طينة آدم -على الخلاف في المراد بالجماد- والشاهد قوله: "والذي حارت البرية فيه" إذ عبر المسند إليه باسم الموصول لتضمن الصلة أمرًا غريبا هو إيقاع البرية كلها في حيرة وارتباك، ومثل هذا الأمر العجيب يشوق النفس إلى أن تعرف ذلك الذي أوقع البرية كلها في هذه الحيرة, ومثله قولك: الذي يقاوم الأسود في مرابضها فلا، والذي يصيد الأفاعي من أعشاشها فلان، وأشباه ذلك مما تضمن أمرا لا يقره الألف والعادة. 7- الإشارة إلى نوع الخبر المحكوم به على المسند إليه المعبر عنه بالموصول كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} فإن مدلول الصلة -وهو الإيمان والعمل الصالح- ما يشير إلى أن الخبر المحكوم به من نوع الإثابة والإمتاع, وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي: صاغرين ففي مضمون الصلة وهو الاستكبار عن العبادة تلميح وإشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من جنس الإذلال والعقوبة, من ذلك قولهم: من صبر وتأنى نال ما تمنى، وقولهم: من استمرأ مرعى الكسل جانبه الأمل, ففي الأول إشارة إلى أن الخبر من نوع الفوز والفلاح، وفي الثاني إشارة إلى أنه من نوع الإخفاق والحرمان, وهكذا يؤتى بالمسند إليه اسم موصول للإشارة به إلى أن الخبر المحكوم به عليه من أي نوع هو؟ أمن

_ = فلا يقال حينئذ أن كل فريق جازم بما يراه في أمر بعثه فأين الحيرة إذًا؟ ولفظ "حيوان" على حذف مضاف أي: معاده؛ لأن الاختلاف إنما وقع في أمر بعثه لا في ذاته، والمراد بالحيوان المستحدث بنو آدم بدليل سياق الحديث؛ لأن البيت من قصيدة يرثي بها فقيها حنفيا إذ يقول فيها: وفقيها أفكاره شدن للنعـ ... ـمان ما لم يشده شعر زياد فيبعد إذًا أن يكون المراد بالحيوان غير الآدميين كناقة صالح، أو ثعبان موسى عليه السلام كما قيل، ويتعين أن الذي وقعت من أجله الحيرة هو معاده وبعثه من جديد.

نوع الثواب، أو العقاب، أو الفوز، أو الإخفاق، أو نحو ذلك، فيفطن المخاطب من فاتحة الكلام إلى ما تدل عليه خاتمته. غير أن الإيماء إلى نوع الخبر قد يكون غير ما يهدف إليه المتكلم، وإنما يكون هدفه شيئا آخر يتوسل إليه بهذا الإيماء أي: يجعله وسيلة إليه، وهذا الغرض هو التعريض بتعظيم شأن الخبر، أو التعريض بإهانته1. فمثال ما فيه تعريض بتعظيم شأن الخبر قول الفرزدق يفتخر على جرير بن عطية. إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا2 دعائمه أعز وأطول يقول: إن الذي رفع السماء "ذلك البناء العظيم" بنى لنا مجدا وشرفا لا يطاولهما شيء، وجعل قبيلتنا سيدة القبائل، ورمز فخارها، أما أنت يا جرير فلا مجد فيك ولا شرف, والشاهد فيه قوله: "إن الذي سمك السماء" فإن في الموصول تلميحا إلى أن الخبر المحكوم به عليه أمر من جنس البناء والرفعة عند من له ذوق سليم3 لكن ليس هذا هو المقصود بالذات إنما الغرض الذي يهدف إليه الشاعر متوسلا بهذا الإيماء هو التعريض بتفخيم بيته من حيث إن بانيه هو ذلك الذي رفع السماء،

_ 1 قد يقال: ليس في بيت الفرزدق الآتي تعريض بتعظيم شأن الخبر وإنما فيه تعريض بتعظيم شأن البيت وهو واقع مفعولا لا خبرا, ويجاب بأن تعظيم البيت إنما جاء من كونه بناء من سمك السماء, وإذًا فلا محيد من اعتبار البناء في التعظيم، أو يجاب بأن المراد بالخبر ما وقع في سياق الجملة الخبرية, ولو مفعولا كما في بيت الفرزدق ونحوه في الأمثلة ولا شك أن لفظ "بيتا" في كلام الفرزدق واقع في جملة الخبر وفي سياقه. 2 المراد بيت المجد والشرف وللفرزدق الحق في هذا الفخر؛ لأن قبيلته من قريش فآباؤه أماجد وأشراف بخلاف جرير فإن آباءه من أرذال بني تميم. 3 أي: إن الذوق شاهد على هذا التلميح فإنه إذا قيل "الذي اخترع هذا البناء البديع" فهم منه عرفا أن ما يترتب عليه أمر من جنس الأبنية المتقنة فإذا قيل "ابتدع لي هذا البناء" كان كالتأكيد لما أشير إليه في أول الكلام.

وأي بناء أرفع وأعظم من سماء هي صنع يد ذلك المبدع القادر؟ وإنا لنعلم أن آثار المؤثر الواحد متشابهة لا تختلف, ومثل بيت الفرزدق قولك: "الذي بنى سراي القبة بنى لنا هذه الفلة"1، ففيه من غير شك إشارة إلى التعريض بتعظيم شأن "الفلة" وأنها فخمة البناء دقيقة الصنع, ولو أنه عبر عن هذا التعبير فقيل مثلا: إن الله بنى لنا بيتا2، أو قيل: إن الذي بنى بيت3 فلان بنى لنا فلة، لتعطل جيد العبارتين من تلك الحلية البلاغية لخلو الأولى من الإشارة إلى نوع الخبر, وخلو الثانية من التعريض بتعظيم شأنه، وإن أشير فيه إلى جنسه. ومثال ما فيه تعرض بإهانته قولك: "إن الذي لا يحسن قرض الشعر أنشأ قصيدة" ففي الموصول إشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من نوع التأليف والإنشاء لكن ليس هذا هو الغرض، وإنما المقصود التوسل بهذه الإشارة إلى التعريض بتحقير هذه القصيدة، وأنها من النوع المبتذل الساقط؛ لأنها صنع من لا يحسن التأليف في الشعر. وقد يكون التعريض بتعظيم شأن غير الخبر، أو التعريض بإهانته, مثال الأول قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} ففي صلة الموصول إشارة إلى أن الخبر من نوع الخيبة والخسران، وذلك أن شعيبا نبي فتكذيبه يفضي إلى هذه الصفة الخاسرة, لكن المقصود من هذا إنما هو الإيماء إلى التعريض بتعظيم شأن شعيب عليه السلام إذ إن تكذيبه أوجب هذا الخسران المبين, ولفظ "شعيب" واقع في جملة الصلة، لا في جملة الخبر فالتعريض هنا بتعظيم شأن غير الخبر, ومثال الثاني قولهم: "إن من يتبع الشيطان خاسر" ففي الصلة إيماء إلى أن الخبر من نوع الخزي والخذلان؛ لأن الشيطان ضال مضل فاتباعه ضرب من التخاذل والاندحار, غير أن الغرض هو التعريض بتحقير شأن الشيطان من حيث إن اتباعه يفضي

_ 1 اسم لبناء على صورة شاعت في هذا العصر. 2 قد يقال إن تعظيم البيت يفهم من لفظ الجلالة, وإن لم يكن فيه إيماء إلى نوع الخبر, إلا أن يقال إن التعظيم بواسطة الإيماء أتم منه بدونه. 3 أي: على فرض أن بيت فلان ليس على طراز ممتاز حتى لا يكون فيه تعريض بتعظيم الخبر.

إلى هذا المصير البغيض1 ولفظ "الشيطان" واقع في جملة الصلة، لا في جملة الخبر, فالتعريض إذًا بالتهوين من شأن غير الخبر, ومثله قولك: "إن من لا يحسن معرفة فن الأدب قد صنف فيه" ففي الموصول مع صلته إيماء إلى أن الخبر من نوع ما يتعلق بالأدب، وفي ذلك الإيماء تعريض بأن مصنفه من النوع المبتذل؛ لأنه عمل من لا يحسن تعاطي الأدب. غير أنه قيل: إن منشأ تعظيم شأن الخبر أو إهانته إنما هو الموصول مع صلته, وإذًا فلا مدخل للإيماء إلى نوع الخبر في التعريض بتعظيم الخبر أو إهانته بدليل وجود التعريض بتعظيم الخبر أو إهانته بدون ذلك الإيماء في قولنا: "بنى لنا بيتا الذي سمك السماء"، وقولنا "أنشأ قصيدة من لا يحسن قرض الشعر" بتقديم المسند فيهما، فإن التركيبين بلا شك مفيدان للتعريض بتعظيم شأن الخبر في الأول, وإهانته في الثاني في حين أن لا إشارة فيهما لنوع الخبر؛ لأن الإشارة إنما تكون حيث يجعل الموصول مقدما, وإذ ثبت أن ليس للإيماء دخل في التعريض بالتعظيم كما وضح لك من المثالين المذكورين. فكيف يتوسل به ويجعل ذريعة إليه؟ وأجيب بأن التعريض بالتعظيم أو الإهانة المستفاد من المثالين المذكورين إنما أفاده مجموع الكلام، ومثل هذا لا يحتاج لإيماء إلى نوع الخبر، وكلامنا في التعظيم أو التحقير المستفادين من الوصول وصلته فقط، ولا شك أن ذلك يحتاج إلى التوسل إليهما بالإيماء المذكور، فإن تعظيم شعيب عليه السلام في الآية السابقة إنما استفيد من الصلة لما فيها من الإيماء إلى نوع من الخبر بدليل أنه لو بني على الصلة شيء غير المومئ إليه، بأن رتب عليها غير الخسران، فقيل مثلا: الذين كذبوا شعيبا أبناء قبيلة كذا لم يستفد منه تعظيمه, على أن استفادة التعظيم أو الإهانة من الصلة بواسطة الإيماء كما في بيت الفرزدق، أو آية شعيب لا تنافي استفادتهما من مجموع الكلام كما في المثالين المذكورين.

_ 1 قد يقال إن إهانته تفهم من العلم بقبح اتباعه بلا حاجة إلى إيماء, ويجاب بأن حصول الإهانة مع الإيماء أتم منه بدونه.

تنبيه: قد يكون في الموصول إيماء إلى نوع الخبر على نحو ما تقدم، وهو -مع ذلك- بمثابة الدليل على تحقيق الخبر وتثبيته في ذهن السامع، وذلك إنما يكون حيث تصلح الصلة دليلا على وجود الخبر كما في قول الشاعر يشكو ويتوجع من جفاء حبيبه وهجره: إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول1 يقول: إن التي نزعت إلى الكوفة، واتخذت بها موطن إقامة دائمة تصرمت حبال ودها، وانحلت عرا العلاقة بيني وبينها, والشاهد فيه تعبيره بالموصول وصلته إذ قال: "إن التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند" فإن فيه إشارة إلى أن الخبر الآتي بعد من نوع زوال المحبة، وانقطاع المودة حيث قال: غالت ودها غول؛ لأن الإنسان لا يهجر وطنه إلى غيره -في العادة- إلا إذا كان كارها لأهله, راغبا عنهم, ومع ما في الصلة من هذه الإشارة هي كالدليل على ثبوت هذا الجفاء، وانصراف قلب محبوبه عنه، وإلا فكيف استساغ لنفسه فراق محبه، واتخذ ذلك البلد النائي موطن إقامة؟ وهذا المعنى مفقود في مثل قول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا إلخ" فهو -وإن كان فيه إشارة إلى أن الخبر من نوع البناء- لا دليل فيه على ثبوت هذا البناء وتحققه إذ لا يلزم عقلا، ولا عرفا من سمك السماء بناء البيت المذكور؛ لأن رفع السماء ليس علة لبناء البيت, بخلاف ما نحن فيه فإنه يلزم عادة من المهاجرة إلى الكوفة، وضرب البيت بها للإقامة فيه زوال المحبة وانصرام حبل المودة, ومثل البيت المذكور قولهم:

_ 1 ضرب البيت في الأصل أن تشد حباله بالأوتاد, وهو كناية عن الإقامة من باب الانتقال من الملزوم إلى اللازم "ومهاجرة" حال من فاعل "ضربت" أفادت أن الكوفة ليست بلدها الأصلي, والكوفة إحدى المصرين بالعراق وإضافتها إلى الجند لإقامة جند كسرى بها فالإضافة لأدنى ملابسة "وغالت" أهلكت والغول بمعنى المهلك أي: اغتالت ودها الغوائل, وقد أنث الفعل؛ لأن الغول مؤنث سماعا ولفظ البيت خبر والمعنى على إنشاء التحسر.

إن الذي حسنت سيرته طابت سريرته، والذي صفا قلبه صدق حبه, فالموصول في المثالين مشير إلى نوع الخبر، وهو كالدليل على ثبوته وتقرره.

إيراد المسند إليه معرفا بأل

إيراد المسند إليه معرفا بأل: يؤتى بالمسند إليه محلى بأل للغرضين الآتيين بعد: 1- الإشارة بها إلى معهود خارجا, وهي التي يكون مدخولها معينا في الخارج, واحدا كان ذلك المعين، أو اثنين، أو جماعة، وتسمى اللام حينئذ لام العهد الخارجي -وهي باعتبار مدخولها ثلاثة أقسام- لام العهد الخارجي، ولام العهد الكنائي ولام العهد العلمي، والأخيرة قسمان: علمي حضوري، وعلمي فقط على ما سيأتي. فالأولى: أن يتقدم لمدخولها ذكر صريح, وتسمى حينئذ لام العهد الخارجي الصريحي كما في قولك: "صنعت في رجل جميلا فلم يرع الرجل هذا الجميل" فإتيان المسند إليه وهو "الرجل" محلى بأل للإشارة بها إلى معهود خارجا عهدا صريحا لتقدم ذكره صراحة في قوله: "صنعت في رجل جميلا" وكقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ، فقد ذكر المصباح والزجاجة منكرين، ثم أعيدا معرفين باللام للغرض السابق, ومنه قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} غير أن مدخول اللام هنا ليس مسندا إليه، والكلام في أحوال المسند إليه. والثانية: أن يتقدم لمدخولها ذكر كنائي أي: غير مصرح به، وتسمى حينئذ لام العهد الخارجي الكنائي كما في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى 1} ،

_ 1 للمفسرين في هذه الجملة رأيان: فقيل إنها من كلام امرأة عمران وفيه قلب أي: ليس الأنثى كالذكر في التحرير, وهو من تتمة تحسرها على وضعها أنثى وعدم مساواتها الذكر في التحرير. وعلى هذا تكون اللام فيه للجنس فلا تصلحان مثالين للام العهد, وقيل إنه كلام الله تسلية لها، والمعنى ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت بل الأنثى التي وهبتها أرفع مرتبة من الذكر الذي طلبته, وعلى هذا تكون اللام فيها للعهد.

فإتيان المسند إليه1 وهو لفظ "الذكر" محلى بأل للإشارة بها إلى معهود خارجا عهدا كنائيا لتقدم ذكره كناية في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} . فإن لفظ" ما" مبهم يعم بحسب وضعه الذكور والإناث لكن التحرير، وهو أن يعتق الولد ليكون وقفا على خدمة بيت المقدس إنما كان للذكور دون الإناث، فلفظ "ما" حينئذ كناية2 عن الذكر باعتبار اختصاص التحرير بالذكور, وأما لفظ "الأنثى" فاللام فيه للإشارة إلى ما سبق ذكره صريحا في قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فهي من القسم الأول من أقسام اللام غير أنه ليس مسندا إليه؛ لأنه مجرور بالكاف خبر "ليس" فلا شاهد فيه. والثالثة: ألا يتقدم لمدخولها ذكر مطلقا، لا صريحا ولا كناية ولكن للمخاطب علم به, وهذه اللام على قسمين كما ذكرنا سابقا. الأول: أن يكون مدخولها حاضرا في المجلس، وتسمى اللام حينئذ "لام العهد العلمي الحضوري" كما تقول في شأن رجل حاضر في المجلس: "أبدع الرجل في كلامه" لمخاطب سبق له علم به. والثاني: أن يكون مدخولها غائبا عن المجلس, وتسمى اللام حينئذ "لام العهد العلمي فقط" كأن يقال في شأن رجل غائب عن المجلس: "خطب الرجل فجود في خطابه" لمن سبق له به علم, فإتيان المسند إليه في القسمين محلى بأل للإشارة بها إلى معهود خارجا عهدا علميا لتقدم علم المخاطب به.

_ 1 إنما كان مسندا إليه؛ لأنه اسم "ليس" فهو في الأصل مبتدأ. 2 يحتمل أن يكون المراد الكناية بالمعنى اللغوي, وهو الخلفاء؛ لأن فهم الذكر من لفظ ما الصادق بالذكر والأنثى فيه خفاء لعدم التصريح وإن كان قوله محررا مبينا للمراد، ويحتمل أن المراد بالكناية المصطلح عليها, وإن المطلوب بها موصوف وهي أن تختص صفة بموصوف معين فتذكر تلك الصفة ويراد بها الموصوف, فالتحرير من الصفات المختصة بالذكور فهو إذًا ملزوم والذكر لازم له, وقد أطلق اسم الملزوم وهو لفظ "ما في بطني" الموصوف بالتحرير وأريد اللازم وهو الذكر.

2- الإشارة بها إلى الحقيقة وهي التي يكون مدخولها موضوعا للحقيقة والماهية وهي باعتباره أقسام ثلاثة أيضا: لام الحقيقة1 ولام العهد الذهني ولام الاستغراق, والأخيرة قسمان على ما سيأتي بعد. فالأولى: ما يكون مدخولها مرادا به الحقيقة نفسها, أي: الماهية من حيث هي بغض النظر عما ينطوي تحتها من أفراد كما في قولهم: "الرجل خير من المرأة"، وقولهم: الحرير يفضل القطن، وقولهم: الدينار خير من الدرهم، وما أشبه ذلك مما يكون المقصود فيه الحكم على الحقيقة نفسها بمعنى أن حقيقة الرجل خير من حقيقة المرأة، وحقيقة الحرير تفضل حقيقة القطن. وحقيقة الدينار خير من حقيقة الدرهم. وهذا لا ينافي أن بعض أفراد حقيقة المرأة يفضل بعض أفراد حقيقة الرج كالسيدة عائشة أم المؤمنين، وأن بعض أفراد حقيقة القطن يفضل بعض أفراد حقيقة الحرير كأن يكون الحرير من النوع الرديء, وأن بعض أفراد حقيقة الدرهم أفضل من بعض أفراد حقيقة الدينار كأن يكون في معدن أحد الدنانير غش, وهكذا ... فالمنظور إليه في المفاضلة إنما هو الحقيقة لا الفرد, وليس من شك أن حقيقة الرجل إذا قطعنا النظر عن الأفراد تفضل المرأة، وحقيقة الحرير تفضل حقيقة القطن، وحقيقة الدينار تفضل حقيقة الدرهم, ومن ذلك قولهم: "أهلك الناس الدرهم والدينار" فأل فيهما للإشارة إلى حقيقتي الدرهم والدينار؛ لأن الحكم المذكور إنما هو على جنس هذين النقدين، لا على نقد بعينه كما هو ظاهر, ومنه قول أبي العلاء: والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر أي: حقيقة الخل تشبه حقيقة الماء فيما ذكر. وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} ، يريد حقيقة الماء. والثانية: ما يكون مدخولها مرادا به فرد مبهم من أفراد الحقيقة

_ 1 وتسمى أيضا لام الجنس ولا الطبيعة.

لقرينة دالة على ذلك1 مثل ذلك قوله تعالى: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أتى بالمسند إليه معرفا بأل؛ لأن القصد إلى فرد ما من أفراد حقيقة الذئب، والقرينة على ذلك قوله: {أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} فليس المراد الحقيقة نفسها؛ لأن الحقيقة من حيث هي أمر لا وجود له في الخارج حتى يتحقق منه أكل أو شرب، وإنما يتحقق ذلك من الأفراد, ولا الحقيقة من حيث وجودها في جميع الأفراد لاستحالة أن تجتمع الذئاب جميعها على أكله, ولا الحقيقة من حيث وجودها في فرد معين إذ لا عهد في الخارج بذئب معين، فتعين أن يكون المراد فردا ما من أفراد الحقيقة2 ومنه قول الشاعر: ومن طلب العلوم بغير كد ... سيدركها متى شاب الغراب فالقصد هنا إلى فرد ما من أفراد حقيقة الغراب بقرينة قوله: "شاب" إذ وصف الشيب من شئون الأفراد، وليس المراد الحقيقة نفسها، ولا هي في ضمن جميع أفرادها، ولا هي من حيث وجودها في فرد معين كما وضح ذلك في المثال قبله, ومن هذا القبيل في غير المسند إليه قولهم: "ادخل السوق" حيث يراد فرد ما من أفراد حقيقة السوق بقرينة قوله: "ادخل" فليس المراد الحقيقة نفسها لاستحالة الدخول في الحقيقة، ولا الحقيقة في ضمن جميع الأفراد لاستحالة دخول الشخص الواحد جميع أفراد السوق- ولا الحقيقة من حيث وجودها في فرد معين إذ لا عهد بسوق معينة. والثالثة: ما يكون مدخولها مرادا به جميع الأفراد المندرجة تحت

_ 1 أي: إن الفرد المبهم مستفاد من القرينة الخارجية لا من المعرف باللام إذ هو موضوع للحقيقة نفسها كما قلنا. 2 قيل: كيف سميت هذه اللام لام العهد الذهني مع أن مدخولها فرد غير معين فلا عهد فيه لا ذهنا ولا خارجا بل هو مبهم, ويجاب بأنه معهود في الذهن باعتباره أحد أفراد الحقيقة والحقيقة معهودة في الذهن بمعنى أنها معلومة متميزة عما عداها من الحقائق فعهديته تبع لعهدية الماهية فصح بهذا الاعتبار اعتباره معهودا ذهنيا وصحت تسمية أل الداخلة عليه لام العهد الذهني.

الحقيقة عند قيام القرينة على ذلك1 ولهذا سميت: لام الاستغراق إذ إن المفاد بها استغراق جميع أفراد الحقيقة -وهذه اللام قسمان- لام الاستغراق الحقيقي، ولام الاستغراق العرفي. فالأولى: ما يكون مدخولها مرادا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب الوضع كما في قولنا: "الغيب يعلمه الله" فإن القصد فيه إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الغيب" وضعا والمعنى: كل أفراد الغيب لا تخفى على الله, وكما في قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فإن القصد فيه إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الإنسان" وضعا أي: كل إنسان, ومنه في غير المسند إليه قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: محيط علما بكل مغيب وكل مشاهد. والثانية: ما يكون مدخولها مرادا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف2 والعادة كما في قولك: "امتثل الجند أمر الأمير" فإن المراد جميع الأفراد التي يتناولها لفظ "الجند" عرفا أي: جنود مملكته؛ لأن هذا هو المفهوم بحسب العرف، لا جنود الدنيا، إذ ليس في وسع الأمير أن يبسط نفوذه على جنود العالم أجمع عادة, ومنه في غير المسند إليه قولهم: "جمع الأمير الصاغة"3، أي: صاغة مملكته، لا صاغة الدنيا بأسرها. والقرينة على إرادة الشمول في لام الاستغراق نوعان: حالية،، ومقالية. فالحالية: كما في نحو ما سبق من قولنا: "الغيب يعلمه الله" فالقرينة

_ 1 أي: على أن ليس القصد إلى الحقيقة من حيث هي ولا من حيث وجودها في فرد مبهم فيكفي في الحمل على الاستغراق وجود القرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة من حيث هي, ومن حيث وجودها في بعض الأفراد. 2 المراد العرف العام أما ما كان بحسب العرف الخاص فهو داخل في الاستغراق الحقيقي. 3 أصله صوغه تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا وهو جمع صائغ, وهذا المثال مبني على القول بأن أل الداخلة على اسم الفاعل الدال على الثبوت والدوام كما في المثال المذكور معرفة لا موصولة.

هنا على إرادة الاستغراق حالية لظهور أن ليس المراد حقيقة الغيب وماهيته إذ ليس ذلك مما استأثر الله بعلمه، ولا أن يكون المراد فردا مبهما أو معينا من أفراد الغيب، فحاشا لله العليم بخفايا الأمور أن يقتصر علمه على بعض الغيوب فتعين إذًا أن يكون المراد جميع الأفراد التي يتناولها لفظ الغيب وضعا. والمقالية: كما في قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فالقرينة هنا على أن المراد عموم الأفراد، لا الحقيقة نفسها، ولا فرد مبهم أو معهود من أفرادها صحة الاستثناء الآتي بعد في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} " الآية"، فهي أمارة العموم1 إذ إن شرط الاستثناء دخول المستثنى في المستثنى منه لو سكت عن ذكر المستثنى، ودخوله فيه فرع عن عمومه الدال على الاستغراق, ولو أريد بالإنسان الحقيقة نفسها لما صح استثناء الأفراد منه لعدم تناول اللفظ هنا، وإن أريد بعض مبهم أو معين لم يصح الاستثناء كذلك لعدم تحقق دخول المستثنى في المستثنى منه، وهذا الدخول -كما قلنا- شرط في صحة الاستثناء فتعين أن يكون المراد جميع الأفراد التي يتناولها الإنسان وضعا. ومثل الآية ما مثلنا به للاستغراق العرفي من نحو قولنا: "امتثل الجند أمر الأمير"، فالقرينة فيه على أن المراد عموم الأفراد عرفا، لا الحقيقة نفسها ولا فرد مبهم من أفرادها قوله: "امتثل" فإن الحقيقة من حيث هي لا توصف بالامتثال أو عدمه، وإنما ذلك من صفات الأفراد, كما لا معنى أن يقال: امتثل الجند أمر الأمير ويراد فرد مبهم من أفرادهم فتعين أن يكون المراد جميع الأفراد التي يتناولها لفظ الغيب عرفا. تنبيهان: الأول: علم مما سبق أن حمل "أل" التي للعهد الذهني على

_ 1 دلالة الاستثناء على الاستغراق بناء على القول بوجوب دخول المستثنى في المستثنى منه, أما على القول بأنه يكفي في صحة الاستثناء جواز الدخول فلا دلالة للاستثناء على الاستغراق حينئذ.

الفرد المبهم، والتي للاستغراق على جميع الأفراد مشروط بالقرينة الدالة على ما حملتنا عليه أما بدونها فكلتا اللامين محمولة على الحقيقة؛ لأن مدخولها موضوع للحقيقة -كما أسلفنا- وإذًا فالنظر إلى الفرد المبهم "في لام العهد الذهني"، أو إلى جميع الأفراد "في لام الاستغراق" إنما هو بالقرينة لا بالوضع. الثاني: قلنا إن المعرف بلام العهد الذهني موضوع للحقيقة، وإنما يحمل على الفرد المبهم عند قيام القرينة الدالة عليه, فهو إذًا ذو شبهين من جهتين, يشبه النكرة من جهة المعنى، ويشبه المعرفة من جهة اللفظ. أما شبهة بالنكرة؛ فلأن مفاد كل منهما غير معين1 ولهذا يعامل معاملة النكرة، فيوصف بالجملة كما توصف النكرة قال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني2 يريد أنه كريم الخلق، بعيد الأناة، لا تنال منه سقطة اللئيم، ولا تستفزه سفاهة الجاهل فهو إذ يسمع من اللئيم ما يسيئه يصدف عنه، محدثا نفسه بأن اللئيم لا يعنيه ولا يقصده، بل يريد غيره3, ويحتمل أن يكون المراد: أنه يصدف عنه غير عابئ به، فلا يعيره أذنا، ولا يقيم له وزنا4 حفظا لكرامته, والشاهد قوله: "يسبني" فإن الجملة هنا صفو "للئيم" لأنه في معنى النكرة إذ إن الشاعر لم يرد لئيما بعينه؛ لأن ذلك يتنافى مع ما يريده من التمدح بفضيلة الحلم فقد يحلم الإنسان مع شخص،

_ 1 غير أن النكرة تدل على هذا البعض وضعا والمعرف بلام العهد الذهني يدل عليه بالقرينة, وإلا فهو موضوع للحقيقة نفسها فبينهما فرق؛ ولهذا أشبه النكرة ولم يكن عينها, وهذا الفرق بناء على أن النكرة موضوعة للفرد المنتشر فإن قلنا إنها موضوعة للماهية فالفرق أن تعين الماهية معتبر في مدلول المعرف بلام العهد الذهني غير معتبر في مدلول النكرة وإن كان حاصلا. 2 عدل إلى المضارع في -أمر- قصدا إلى الاستمرار وعدل إلى الماضي في قوله: فحضيت وقلت, دلالة على التحقق وثم حرف عطف وإذا لحقتها علامة التأنيث كما هنا اختصت بعطف الجمل. 3 من عناه إذا قصده وأراده. 4 من عناه الأمر إذا أهمه.

ولا يحلم مع غيره، والحليم من يكون الحلم سجية فيه, كما أنه لم يرد الماهية من حيث هي بقرينة المرور، ولا من حيث وجودها في جميع أفرادها لعدم تأتي المرور بكل لئيم، بل المراد الجنس في ضمن فرد مبهم فهو كالنكرة لهذا جعلت صفة لا حالا. أما من قال: إن الجملة حال من اللئيم فلا شاهد فيه فليس بشيء إذ يفيد الكلام حينئذ: أن السبب مقيد بوقت المرور فقط كما هو شأن الحال, وهذا يتنافى مع ما أراده الشاعر من أن اللئيم دأبه وشأنه السب، وهو مع ذلك يفسح له صدرا، ولا يعيره اهتماما1. وأما شبهه بالمعرفة فلجريان أحكام المعارف عليه غالبا, فهو يقع مبتدأ كما تقول: "الذئب في حقلك يرتقب فريسته" ويكون ذا حال كما في قولك: "رأيت ذئبا خارجا من حقلك يطارده كلب" ويأتي موصوفا بها كما في قولك: "السوق ذات السلع الجيدة يؤمها الناس" إلى غير ذلك. هذا, ولما ذكر فيما سبق أن من أفراد اللام المشار بها إلى الحقيقة "لام الاستغراق" أرادوا لهذه المناسبة أن يذكروا إحدى قضاياهم المشهورة هي قولهم: واستغراق2 المفرد أشمل من استغراق المثنى والجمع. ومعنى هذا: أن اسم الجنس المفرد إذا دخلت عليه أداة الاستغراق كان شموله للأفراد أكثر مما لو كان اسم الجنس مثنى أو جمعا, بمعنى أن اسم الجنس المفرد يتناول كل واحد من الأفراد، والمثنى إنما يتناول كل اثنين اثنين، والجمع إنما يتناول كل جماعة جماعة.

_ 1 لكن قيل إن المناسب جعله حالا؛ لأن المتبادر من قوله: قلت لا يعنيني أنه قال ذلك حال سماع السب في حال المرور لا أنه قاله فيمن دأبه السب ولو في غير حال المرور. 2 سواء كان الاستغراق بحرف التعريف كما في مسألتنا أو بغير كحرف النفي في النكرة كما ستأتي أمثلته.

بيان ذلك: أنك إذا قلت مثلا: "لا طالبين في الفصل" وكان فيه طالب واحد لم تكن كاذبا في قولك؛ لأنك إنما نفيت الكينونة في الفصل عن جنس المثنى أي: نفيت أن يكون فيه طالبان، ولم تنف أن يكون فيه طالب واحد, وإذا قلت: "لا طلبة في الفصل"، وكان فيه طالبان كنت صادقا أيضا؛ لأنك إنما نفيت الكينونة في الفصل عن جنس الجمع أي: نفيت أن يكون في الفصل طلبة، وأقل الجمع ثلاثة، فلم تنف إذًا أن يكون فيه طالب أو طالبان. أما إذا قلت: "لا طالب في الفصل"، وكان فيه طالب واحد، أو اثنان أو ثلاثة، أو أكثر كنت كاذبا في قولك؛ لأنك نفيت الكينونة في الفصل عن هذا الجنس وهو يتناول جميع أفراده, فدل ذلك على أن استغراق المفرد أشمل من استغراق المثنى والجمع1. وجملة القول في هذا: أن معنى الاستغراق شمول أفراد مدلول اللفظ، ومدلول صيغة المثنى "اثنان"، ومدلول صيغة الجمع "ثلاثة فأكثر"، ومدلول صيغة المفرد "الجنس"، والنفي منصب على مدلول كل من هذه الصيغ الثلاث لا يتعداه إلى غيره, غير أنه ورد على هذه القضية اعتراضان:

_ 1 قيل: هذا منقوض بقولنا: لا يرفع هذا الحجر العظيم كل رجال، وبقولك: هذا الخبز يشبع كل رجال فإن ذلك أشمل من قولك: لا يرفع الحجر المذكور كل رجل، ومن قولك: هذا الخبز يشبع كل رجل إذ يلزم من عدم استطاعة الجمع عدم استطاعة الفرد كما يلزم من إشباع الجمع إشباع الفرد بخلاف العكس في المثالين, فلا ينبغي إذًا أن يطلق القول بأن استغراق المفرد أشمل بل تارة يكون اسغراقه أشمل وأخرى يكون استغراق غيره أشمل كما في المثالين المذكورين, وأجيب: بأن المراد الأشملية بحسب الوضع, وبالنظر إلى المدلول المطابقي والأشملية في المثالين بالالتزام؛ لأن الحكم على الكل يستلزم الحكم على كل واحد, على أن الكلام في الاستغراق المفاد أو بالجمع والمفيد للاستغراق في المثالين المذكورين لفظ "كل" بل قد يندفع هذا القيل من أساسه إذا اعتبرنا القضية جزئية بأن يكون المراد: واستغراق المفرد قد يكون أشمل.

الأول هو: أن الحكم بأشملية استغراق المفرد ليس على عمومه كما هو ظاهر العبارة، وإنما هو خاص بالنكرة المنفية -كما مثلنا- أما في المعرف باللام فالجمع والمفرد سواء في الاستغراق الشامل بحيث يتناول كل واحد من الأفراد، وليس أحدهما بأوسع استغراقا من الآخر. مثال الجمع المحلى بأل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، فالاستغراق في هذه الجموع شامل كل فرد، ونحو قولك: "أحب المسلمين إلا زيدا" فإن المراد كل فرد من أفراد المسلمين لا كل جمع، وإلا قيل في الاستثناء إلا الجمع الفلاني. ومثال المفرد المعرف بأل قولك: "المؤمن جدير بالاحترام، أي: كل مؤمن, وقد اجتمعا في قوله عليه الصلاة والسلام: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، أي: كل فرد ممن يصدق عليه "مسلم" هو من يسلم من شره جميع أفراد المسلمين. وأجيب بأن الحكم المذكور عام البتة أي: إن المفرد أشمل استغراقا من الجمع مطلقا1 وكون الجمع المحلى بأل مساويا للمفرد في الشمول فذلك لأن "أل" الجنسية حينما تدخل عليه تبطل منه معنى الجمعية، ويصير معناه مفردا فإفادته للشمول حينئذ إنما جاءت من ناحية إفراد معناه, أما على تقدير بقاء الجمع على معناه الأصلي, وهو ما مشى عليه الخطيب تبعا لعلماء المعاني, فإن استغراق المفرد حينئذ يكون أشمل. وقيل في الجواب: إن القضية المذكورة خاصة بالنكرة المنفية بدليل اقتصارهم على التمثيل بها في معرض البيان, فالاعتراض مدفوع من أصله. الاعتراض الثاني هو: أن المفرد ما قابل المثنى والجمع، فمعناه حينئذ واحد لا تعدد فيه، وأن أداة الاستغراق الداخلية عليه تفيد تعدده، ومحال أن يكون الشيء الواحد متعددا غير متعدد في آن واحد لتنافيهما

_ 1 أي: سواء كان نكرة منفية أو محلى بأل.

فكيف ساغ إذًا دخول أداة الاستغراق على المفرد؟ وإليك جوابين: أحدهما بالمنع، والآخر بالتسليم. حاصل الأول: أننا نمنع أن هناك تنافيا بين الوحدة والتعدد ذلك أن الوحدة في المفرد معناها عدم اعتبار شيء آخر معه، وأن التعدد في المفرد الداخلة عليه أداة الاستغراق معناه: كل فرد فرد على حدة أي: من غير اعتبار ضم شيء آخر إليه، ولذلك امتنع وصفه بنعت الجمع عند الجمهور1، فيكون كل فرد -على هذا الاعتبار- متصفا بالوحدة إذ لم يجتمع معه شيء آخر, فإذا قلت مثلا: "لا طالب في الفصل" فقد سلبت الكينونة في الفصل عن كل طالب طالب على حدة، بحيث لا يخرج فرد من الأفراد عن هذا الحكم، وهذا هو معنى التعدد، وكون هذا الحكم واقعا على كل فرد على حدة، من غير اعتبار اجتماعه بفرد آخر هو معنى الوحدة، فلا تنافي حينئذ بين الوحدة والتعدد على هذا الاعتبار, وإنما يحصل التنافي لو أن المفرد الداخلة عليه أداة الاستغراق معناه: الأفراد مجتمعة لا كل فرد على حدة. وحاصل الثاني: سلما أن هناك تنافيا بين الوحدة والتعدد, غير أن المفرد حينما دخلت عليه أداة الاستغراق كان مجردا عن اعتبار الدلالة على معنى الوحدة، وصار محتملا لها وللتعدد؛ لأنه قصد به الجنس، وبدخول أداة الاستغراق عليه تعين للتعدد، وإنما لم يطرد2 وصفه بنعت الجمع، فيقال مثلا: "إن المسلم القائمين الليل لهم أجر عظيم" لأجل المحافظة على التشاكل اللفظي ا. هـ.

_ 1 حكاه الأخفش عن بعضهم في قوله: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض؛ نظرا لأن أل للجنس ومدخولها يصدق بالجمع لتحقيق الجنس فيه. 2 هو جواب عما يقال. حيث جرد المفرد المذكور عن معنى الوحدة وصحبته أداة الاستغراق كان معناه متعددا, ومقتضى ذلك جواز وصفه بنعت الجمع مع أنه ممنوع، والجواب ما ذكرنا, وإنما لم يمتنع بتاتا وصفه بنعت الجمع لوقوع الوصف به مراعاة لمعناه في قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} لهذا قلنا لم يطرد وصفه بنعت الجمع.

إيراد المسند إليه مضافا

إيراد المسند إليه مضافا: يؤتى بالمسند إليه معرفا بالإضافة إلى أحد المعارف السابقة لأغراض كثيرة أهمها ما سنذكره لك فيما بعد: 1- أنها أخصر1 طريق إلى إحضار المسند إليه في ذهن السامع كما في قول جعفر بن علبة الحارثي2. هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثق3 يقول وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت: إن حبيبه راحل, وإن السجن حال دون أن يراه وقت رحيله، وكان يود لو يحظى منه بالنظرة الأخيرة والشاهد فيه قوله: "هواي" حيث أتى بالمسند إليه مضافا لقصد الاختصار في العبارة، وهو مطلوب هنا لضيق صدره، وفرط سآمته وتوجعه

_ 1 ظاهره أنها أخصر طرق التعريف, وليس كذلك إذ لا تظهر الأخصرية إلا بالنسبة للموصول، أما العلم والضمير واسم الإشارة والمعرف باللام فالأمر فيها بالعكس, ويجاب بأن المراد أنها أخصر الطرق في إحضار المسند إليه متلبسا بالوصف الذي قصد إليه المتكلم لا إحضاره في ذهن السامع من حيث ذاته, فالذي قصده الشاعر في البيت المذكور إحضار المسند إليه بوصف كونه مهويا لأجل إفادة زيادة التحسر ولو قال: الذي أهواه أو المحبوب لي مع الركب اليمانين إلخ لكان مفيدا لقصد المتكلم, ولكنه ليس أخصر من الإضافة, ولو أتى به اسم إشارة أو ضميرا أو علما فقيل: هذه أو هي أو فلانة مع الركب اليمانين إلخ لم يفد غرض المتكلم من كونها محبوبة فثبت من هذا أن الإضافة أخصر الطرق. 2 قاله وهو سجين بمكة, وكان قد قتل واحدا من بني عقيل فسجن فيه, وكان يومئذ بمكة ركب من اليمن فيه محبوبته وقد عزم هذا الركب على الرحيل فأنشد يتحسر وبعد هذا البيت: عجبت لمسراها وأنى تخلصت ... إلي وباب السجن دوني مغلق ألمت فحيت ثم قامت فودعت ... فلما تولت كادت النفس تزهق 3 هواي مصدر أريد به اسم المفعول أي: مهوى "والركب" اسم جمع لراكب كصحب وصاحب "واليمانين" جمع يمان وأصل "يمان" يمني حذفت منه ياء النسب وعوض عنها الألف على خلاف القياس لكثرة الاستعمال ثم أعل إعلال قاض، "ومصعد" من أصعد في الأرض إذا سار فيها، "والجنيب" المستتبع وهو الذي يتبعه قومه ويقدمونه أمامهم مخافة سبيه.

لكون سجينا والحبيب راحل، ولفظ البيت خبر، ومعناه إنشاء التحسر على بعد حبيبه. 2- تضمن1 الإضافة تعظيما لشأن المضاف، أو المضاف إليه، أو غيرهما, فمثال ما فيه تعظيم المضاف قولك: "حاجب رئيس الوزراء قادم" ففي الإضافة تعظيم للحاجب بأنه حاجب رئيس الوزراء, ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ففيه تعظيم لشأن العباد بأنهم عباد الله سبحانه, ومنه في غير المسند إليه قول الشاعر: لا تدعني إلا "بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي ومثال ما فيه تعظيم المضاف إليه قولك: "سيارتي في انتظاري" ففي الإضافة تعظيم للمتكلم المضاف إليه بأن له سيارة, ومثال ما فيه تعظيم غير المضاف والمضاف إليه قولك: "سكرتير رئيس مجلس الوزراء زارني" ففي الإضافة تعظيم للمتكلم, وهو غير المسند إليه المضاف، وغير ما أضيف إليه المسند إليه, وفيه أيضا تعظيم للمضاف ولكنه غير مقصود. 3- تضمن الإضافة تحقيرا لشأن المضاف، أو المضاف إليه، أو غيرهما, فمثال الأول قولك: "أخو اللص قادم"، ففي الإضافة تحقير للمسند إليه المضاف بأنه أخو اللص, ومثال الثاني قولك: "رفيق عمرو لص" ففيه تحقير المضاف إليه بأن رفيقه لص, ومثال الثالث قولك: "ولد اللص يجالس عمرا" ففيه إهانة وتحقير لشأن عمرو بأن ولد اللص من جلسائه، وعمرو غير المسند إليه المضاف، وغير ما أضيف إليه المسند إليه، وفيه أيضا تحقير للمضاف ولكنه غير مراد للمتكلم. 4- إغناؤها عن تفصيل متعذر أو متعسر, فمثال المتعذر تفصيله

_ 1 قيل إن هذا التضمن قد يوجد في غير صورة الإضافة كما في قولك: السيارة التي لي في انتظاري، وكما في نحو: الذي يرافقه عمرو لص، فالإضافة إذًا لا تترجح على غيرها من الطرق بإفادة التضمن المذكور إلا بمراعاة الاختصار, والرد على هذا ما سبق من أنه لا يشترط في النكتة أن تكون مختصة بالطريق المؤدية إليها ولا أن تكون بها أولى بل يكفي مجرد المناسبة بينهما وإن أمكن تأدية النكتة من طريق آخر.

قولهم: "اتفق أهل الحق على كذا" فقد أتى بالمسند إليه مضافا لتعذر تعداد كل من كان على حق, ومثال المتعسر تفصيله قولك: "أهل مصر كرام" فقد أضيف المسند إليه لتعسر تعداد أهل مصر, ومنه قول حسان بن ثابت: أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن ماوية الكريم المفضل1 وقول مروان بن أبي حفصة: بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل2 أضيف المسند إليه في البيتين المذكورين لتعسر تعداد أولاد جفنة، وبني مطر. 5- إغناؤها عن تفصيل حال دونه مانع، مع تيسره كما تقول: "حضر أمراء الجيش" فيضاف المسند إليه منعا لوقوع التنافس بينهم فيما لو ذكرت أسماؤهم, وقدم اسم أحدهم على غيره, وكما في قول الشاعر: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي يقول يا أميمة: قومي هم الذين فجعوني بقتل أخي فإذا هممت بالانتقام منهم عاد ذلك علي بالنكاية في نفسي والإضرار بها, والشاهد قوله: "قومي" حيث أتى به مضافا؛ لأن في تفصيله تصريحا بذمهم، وهو يستتبع الحقد عليه والنفور منه، في حين أنه في حاجة إليهم، فهم قومه، وعز الرجل بعشيرته. 6- تضمن الإضافة اعتبارا لطيفا كما في قول الشاعر:

_ 1 أولاد جفنة من الغساسنة الذين كان يمدحهم الشاعر بالشام. 2 "الغيل" الأجمة و"خفان" مأسدة مشهورة بقوة أسودها.

إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ... سهيل أذاعت غزلها في القرائب1 يقول: إن المرأة الحمقاء لا تتهيأ في الصيف للشتاء بإعداد الغزل حتى إذا ما طلع الكوكب المذكور في بدء الشتاء سحرا وزعت غزلها على قريباتها ليغزلنه, والشاهد قوله: "إذا كوكب الخرقاء" إذ قد أضيف المسند إليه إلى "الخرقاء" لاعتبار لطيف طريف, وهو الإشارة إلى أن الإهمال والتكاسل ديدنها وعادتها، وأنها غافلة عن القيام بشئونها، ولا تفيق إلا على ضوء هذا النجم، وكأنما خلق لأجلها, إلى غير ذلك من دواعي الإضافة كالاستهزاء في قوله تعالى: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} . وكغير ذلك.

_ 1 "الخرقاء" الحمقاء "وسهيل" بدل من كوكب، وهو نجم يطلع في بدء الشتاء وقت السحر "وأذاعت" وزعت وفرقت.

إيراد المسند إليه منكرا

إيراد المسند إليه منكرا: يؤتى بالمسند إليه نكرة لدواع أهمها ما يأتي: 1- أن يكون القصد بالحكم إلى فرد غير معين من الأفراد التي يصدق عليها مفهوم اللفظ1, إما لأن الغرض لم يتعلق بتعيينه وإن كان معينا بل المقصود أن الحكم لم يثبت لغير فرد واحد من هذا الجنس، وأما لأن المتكلم لم يعلم جهة من جهات التعريف من علمية أو صلة، أو نحو ذلك, فمثال الأول قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى 2} أي: رجل واحد، لا رجلان، ولا رجال فقد أتى بالمسند إليه منكرا للقصد فيه إلى فرد ما من أفراد مفهوم لفظ "رجل" لأن حكم المجيء لم يثبت لغير فرد واحد من هذا الجنس, ومثال الثاني قولك: "جاء هنا رجل

_ 1 اعلم أن دلالة النكرة على الفرد ظاهرة إن قلنا أن النكرة موضوعة للفرد المنتشر, وأما إن مشينا على رأي من قال إنها موضوعة للحقيقة فدلالتها على الفرد باعتبار الاستعمال الغالب؛ لأن الغالب استعمالها في الفرد بقرينة المقام. 2 هذا الرجل هو مؤمن آل فرعون وأراد بالمدينة مدينة فرعون وكانت تسمى "منف" وليست منف المشهورة الآن بل هي بلدة كانت بإقليم الجيزة فخربت بدعوة من موسى عليه السلام.

يسأل عنك" تقول ذلك إذا لم تعرف اسمه ولا شيئا يتعلق به فالقصد فيه حينئذ إلى فرد ما من أفراد مفهوم اللفظ وهو مطلق رجل, ومثله قولك1: "لقيني رجلان، وتبعني رجال"، فإن القصد في الأول إلى فرد غير معين من أفراد مفهوم لفظ "المثنى" وهو مطلق اثنين, والقصد في الثاني إلى فرد غير معين من أفراد مفهوم لفظ "الجمع" وهو مطلق جماعة. 2- أن يكون القصد بالحكم إلى نوع خاص من أنواع الجنس المنكر كما في قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فقد نكر المسند إليه؛ لأن القصد فيه إلى نوع خاص من أنواع الأغشية غير ما يتعارفه الناس ذلك هو غطاء التعامي عن الحق أي: الإعراض عن آيات الله, وليس المراد فردا واحدا من أفراد الغشاوة بأن يكون المعنى: وعلى أبصارهم غشاوة واحدة لا غشاوتان مثلا؛ لأن الفرد الواحد لا يقوم بالأبصار المتعددة, ومنه قول الشاعر: لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها أي: لكل داء نوع خاص من أنواع الأدوية. ويرى السكاكي أن التنكير في الآية للتعظيم بمعنى: وعلى أبصارهم غشاوة عظيمة ذلك؛ لأنها تحجب أبصارهم حجبا تاما، وتحول دون إدراكها الأدلة إلى معرفة الله تعالى, قالوا: وهذا الرأي أولى بالرعاية؛ لأن المقصود بيان أنهم بعيدون عن الإدراك أشد البعد، والتعظيم أدل على ذلك، وأوفى بتأديته, غير أن هذا المعنى لا يتنافى مع قصد النوعية؛ لأن الغشاوة العظيمة التي هي غطاء التعامي عن آيات الله نوع خاص من مطلق غشاوة. 3- قصد إفادة تعظيم المسند إليه أو تحقيره، وأنه بلغ في رفعة الشأن حدا فوق متناول الإدراك، أو انحط إلى درجة لا يعتد بها، ولا يلتفت إليها, فمثال التعظيم قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي: حياة عظيمة إذ إن في القصاص منعا لهم عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد,

_ 1 أي: لا فرق في ذلك بين المفرد والمثنى والجمع.

ومثال التحقير قولهم: "شعور بالكرامة منجاة من مواقف الذل", وقد اجتمعا في قول مروان بن أبي حفصة: له حاجب في كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب1 يقول: إنه من النزاهة والطهر بحيث يحول دون ما يشينه حجاب عظيم2 وهو -إلى جانب هذا- في متناول أيدي العفاة: ما استقصاه ذو لبانة إلا قضى حاجته وسد خلته, والشاهد في لفظي "حاجب" في شطري البيت حيث أتى بهما منكرين, أما في الشطر الأول فلقصد تعظيم الحائل دون ما يشينه، وأنه في حصن حصين من كل ما يزري به، وأما في الشطر الثاني فلقصد تحقير ما يحول بينه وبين قاصديه كناية عن أن بابه مفتوح على مصراعيه لمن يريد الولوج، فليس هناك أدنى مانع يحجبهم عن فضله ومعروفه3, ومثله قول الشاعر:

_ 1 "يشينه" من الشين هو القبح، "والعرف" المعروف والإحسان غير أن الحجب يتعدى إلى المفعول الثاني بعن, وأما المفعول الأول فيتعدى إليه بنفسه يقال: حجبت فلانا عن الأمر, وإذا "فحاجب" الأول جاء على أصله؛ لأن صلته محذوفة "وفي كل أمر" ظرف مستقر صفة لحاجب أي: له حاجب عن ارتكاب ما لا يليق في كل أمر يشينه, أو تجعل "في" بمعنى "من" وأما "حاجب" الثاني فعلى خلاف الأصل؛ لأن العرف مفعوله الثاني والطالب له مفعوله الأول, والحاجب إنما يحجب الطالب عن العرف لا الممدوح عن الطالب كما هو ظاهر الشطر الثاني من البيت ففي العبارة قلب قضت به الضرورة, وقبل هذا البيت: فتى لا يبالي المدلجون بناره ... إلى بابه ألا تضيء الكوكب يصم عن الفحشاء حتى كأنه ... إذا ذكرت في مجلس القوم غائب 2 أخذ معنى التعظيم من كون المقام مقام مدح, وأنه إذا هم بفعل ما لا ينبغي حال دونه مانع, وإذا طلب منه معروف لم يحل دون بذله مانع ضئيل فضلا عن التعظيم فهو في غاية الكمال. 3 قيل يحتمل أن يكون التنكير في الشطر الثاني لقصد الفردية كما في نحو {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} بل هذا الاحتمال أولى لدلالة التركيب على نفي جميع الأفراد مطابقة, ورد هذا بأن حمل التنكير فيه على التحقير أولى لما فيه من سلوك طريق البرهان, وهي إثبات الشيء بدليل لاستفادة انتفاء الحاجب العظيم من انتفاء الحقير بالطريق الأولى مع حسن مقابلة تنوين التعظيم في الشطر الأول بتنوين التحقير في الثاني وهو محسن بديعي.

ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب فقد نكر "جانب" في الشطرين وأريد بالتنكير في الأول التعظيم، وفي الثاني التحقير. 4- قصد إفادة التكثير أو التقليل, فمثال التكثير قولهم: "إن له لإبلا وإن له لغنما" أتى بالمسند إليه في الجملتين نكرة لقصد إفادة أن لديه عددا كبيرا من الإبل والغنم، وإنها من الكثرة بحيث لا يمكن الإحاطة بها والوقوف على مقدارها1, ومثاله في التقليل قولهم: "كلمات تتضمن حكما خير من سفر ينضح هراء" فالمسند إليه "كلمات" وقد نكر لقصد إفادة أنه قليل, وعليه قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي: شيء قليل من رضوان الله خير مما ذكر في صدر هذه الآية2 من الجنة ونعيمها, غير أن وصف الرضوان بالقلة مجازا تنزيلا للرضا منزلة المعدود باعتبار تعدد ما يتعلق من مظاهره كعدم الفضيحة يوم العرض، والأمن من العذاب، والخلود في دار السلام، وغير ذلك وإلا فإن الرضى معنى من المعاني، لا يقبل القلة والكثرة، والتفاوت فيه إنما هو بحسب الضعف والقوة ليس غير3. ولا يخطر بالبال أن التعظيم والتكثير شيء واحد، وأن التحقير والتقليل كذلك فبين هذه المعاني من الفرق ما لا يخفى, ذلك أن التعظيم يراعى فيه الحال والشأن كعلو المرتبة، وسمو القدر، وبعد الدرجة أما

_ 1 استفيد التكثير من أن المقام للمدح وإنما أفاد التنكير التكثير مع أن الأصل في النكرة الإفراد وهو يتنافى مع التكثير؛ لأن التنكير يشعر بعدم الإحاطة بالمنكر, وهذا يدل على أنه كثير بالغ الكثرة. 2 هو قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} . 3 وإنما كان الرضوان وإن قل أعظم من كل ما في الجنة من نعيم؛ لأن المراد بالرضوان إعلامهم به ولا شك أن مجرد إعلامهم به أكبر من كل نعيم يأتي بلا إعلام؛ لأن لذة النفس بشرف كونها مرضية عند ملك الملوك تفوق كل لذة, وقد تعلل أكبرية الرضوان بأن ما سواه من صنوف النعيم إنما هو من ثمراته ونتائجه.

التكثير فالمراعى فيه الكميات والمقادير كالمعدودات، والمكيلات، والموزونات، وكذلك يقال في الفارق بين التحقير والتقليل. وقد اجتمع التعظيم والتكثير في قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} نكر المسند إليه وهو "رسل" لقصد إفادة التعظيم أو التكثير باعتبارين مختلفين, فعلى اعتبار أنهم ذوو شأن عظيم، يحملون آيات عظاما لمن أرسلوا إليهم كان التنكير للتعظيم، وعلى اعتبار أن عددهم كبير كان التنكير للتكثير, وقد اجتمع التحقير والتقليل أيضا في قولهم: "لي في هذا المال نصيب" أي: حقير قليل فالتنكير للتحقير إن روعي من حيث الشأن، وهو للتقليل إن روعي من حيث العدد, ومنه قولهم: عطاء كريم خير من عطايا تتبعها أذى أي: عطاء قليل أو ضئيل. 5- أن يمنع من التعريف مانع كما في قول الشاعر: إذا سئمت مهندده يمين ... لطول العهد بدله شمالا نكر المسند إليه وهو لفظ "يمين" تحاشيا من أن ينسب السآمة بصريح اللفظ إلى يمين الممدوح فيما لو قال "يمينه" وهو اعتبار لطيف. 6- أن يراد إخفاؤه عن المخاطب خوفا عليه كما تقول لآخر: "قال لي رجل إنك تنكبت محجة الصواب" فتخفي اسمه لئلا يلحقه أذى من المخاطب إذ نسب إليه ما لا يحب, إلى غير ذلك من دواعي التنكير1.

_ 1 إن ما تقدم من معاني الإفراد, وهي: النوعية، والتعظيم، وبالتحقير وغيرها ليست خاصة بتنكير المسند إليه، بل تأتي فيه، وفي غيره، وهاك أمثلة منها, فمن تنكير غير المسند إليه للإفراد أو النوعية قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} فقد نكر كل من "دابة وماء" وهما غير مسند إليهما لقصد الإفراد أو النوعية, فالمعنى على الإفراد: والله خلق كل فرد من أفراد الدواب من فرد خاص من أفراد المياه, وهو الماء الخاص بأبيه، فالتنكير في "دابة وماء" للوحدة الفردية, والمعنى على النوعية: والله خلق كل نوع من أنواع الدواب من نوع خاص من أنواع المياه, وهو نوع النطفة المختصة بذلك النوع من الدواب فالتنكير في "دابة وماء" للوحدة النوعية, ومن تنكيره للتعظيم قوله تعالى: {فَأْذَنُوا =

تمرين وجوابه

تمرين وجوابه: بين الأغراض التي اقتضت تعريف أو تنكير المسند إليه فيما يأتي: 1- إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا 2- هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم 3- لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها 4- إذا جاء موسى وألقى العصا ... فقد بطل السحر والساحر

_ = بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: حرب عظيم, وجعل التنكير هنا للتعظيم؛ لأن الحرب الهينة تؤذن بالتساهل في النهي عن موجب الحرب وهو الربا, وهذا غير مناسب لمقام التنفير عن هذا الجرم الشنيع، ويحتمل أن يكون التنكير للنوعية أي: فأذنوا بنوع من الحرب غير متعارف لكم، ومن تنكيره للتحقير قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} أي: إن نظن بالساعة إلا ظنا حقيرا ضعيفا, فتنكير المفعول المطلق هنا للإشارة إلى تحقيره, وأنه ظن ضعيف إذ هو مما يقبل الشدة والضعف, وإنما لم يكن المصدر للتوكيد المجرد عن إفادة معنى التحقير لئلا يلزم عليه محظوران, استثناء الشيء من نفسه والتناقض. أما الأول فلأن المستثنى المفرغ يجب أن يستثنى من متعدد مستغرق حتى يدخل فيه المستثنى فيخرج بالاستثناء وليس مصدر "نظن" محتملا شيئا آخر غير الظن حتى يخرج الظن بالاستثناء دونه, وحينئذ يلزم استثناء الشيء من نفسه, وأما الثاني فلأن الظن الذي نفي أولا هو الذي أثبت ثانيا, ولأجل الخروج من هذين المحظورين في مثل هذا التركيب يجعل التنكير في المصدر مفيدا للنوعية, وأن يراد نوع خاص هو الظن الحقير الضعيف فيكون المستثنى منه مطلق الظن فيشمل الضعيف وغير الضعيف فيستثنى حينئذ الضعيف الحقير كما هنا, ويرتفع التناقض تبعا لأن الظن الذي نفي أولا هو الظن المطلق وهو غير ما أثبت ثانيا؛ لأن المراد به نوع خاص كما ذكرنا ولا حاجة لما ذكره بعض النحاة من حمل الكلام على التقديم والتأخير وأن التقدير: إن نحن إلا نظن ظنا, ومن تنكيره للتقليل قول المتنبي مادحا: فيوما بخيل تطرد الروم عنهمو ... ويوما بجود يطرد الفقر والجدبا يريد: بعدد قليل من خيولك، وبيسير من فيض جودك.

5- فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء 6- عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع 7- وربما بخل الكريم وما به ... بخل ولكن سوء حظ الطالب 8- كل من في الوجود يطلب صيدا ... غير أن الشباك مختلفات 9- حكم حارت البرية فيها ... وجدير بأنها تحتار 10- وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل 11- إن الذي الوحشة في داره ... تؤنسه الرحمة في لحده 12- فلا تحسبا هندا لها الغدر وحدها ... سجية نفس, كل غانية هند 13- طلبت الجميع فغاب الجميع ... فمن سوء حظك لاذا ولاذا 14- لكل مقام مقال 15- أبو الحرب راكب إليك 16- ابتهاج ابنة أخيك نجحت 17- سرق متاعك الذي وفد عليك فأكرمت وفادته 18- ما كان محمد أبا أحد من رجالكم 19- أهذا الذي بعث الله رسولا؟ 20- على هذا سلب خالدا متاعه 21- الذي أخذ الكتاب مني أمس سافر اليوم 22- صالح تحن الطيور إلى سماع صوته 23- الذي يخرج من الفم لا ينقض الوضوء إلا بشروط 24- أخو الأمير كتب إلي 25- علماء الدين أجمعوا على كذا 26- إن الذي تظنه عدوك يود لك الخير 27- ذلك

الصديق لا شك فيه 28- إن الذي يعق أباه مطرود من رحمة الله 29- نعم باسلا خالد 30- الماء حياة النفوس 31- إن الذي بنى الأهرام أقام هذا البناء. الجواب: 1- عرف المسند إليه بالإضمار في "أكرمت وملكت" لأن المقام للخطاب وعرف في "تمرد" بالضمير أيضا؛ لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع لفظا تحقيقا. 2- عرف المسند إليه باسم الإشارة في الشطرين لقصد تمييزه أكمل تمييز. 3- عرف المسند إليه بالموصول لقصد زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، وهو بيان صدقه فيما يدعيه من ألم الشوق والهوى. 4- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد إظهار التعجب من موسى عند إلقائه العصا، وعرف "بأل" في "السحر والساحر" للعهد العلمي. 5- عرف المسند إليه بالإضمار في "يدعي" لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع لفظا تحقيقا، وعرف بالإضمار في "حفظت" لأن المقام للخطاب، ونكر في "أشياء" لقصد إفادة التكثير. 6- عرف المسند إليه بالعلمية في "عباس" والفضل، والربيع، لقصد تعظيمه، وعرف "بأل" في "الوغى" للإشارة إلى فرد مبهم من أفراد الحقيقة فاللام فيه للعهد الذهني. 7- عرف المسند إليه بأل في "الكريم" للعهد الذهني إذ إن القصد إلى فرد ما من أفراد الحقيقة، ونكر في "بخل" لإفادة التقليل. 8- عرف المسند إليه بالإضمار في "يطلب" لأن المقام للغيبة، وعرف بأل في "الشباك" لقصد الاستغراق الحقيقي. 9- نكر المسند إليه في "حكم" لقصد إفادة تعظيمه باعتبار علو شأن

الحكم، أو لإفادة التكثير باعتبار كثرة عددها, وعرف بأل في "البرية"، للإشارة إلى العهد العلمي, وعرف بالضمير في "بأنها وتحتار" لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع لفظا تحقيقا. 10- نكر المسند إليه في "شيء" لقصد إفادة التحقير باعتبار انحطاط الشأن أو إفادة التقليل باعتبار قلة العدد، وعرف بأل في "النهار" للإشارة بها إلى الحقيقة. 11- عرف المسند إليه بالموصولية للإشارة بها إلى نوع الخبر، وعرف بأل في "الرحمة" للإشارة بها إلى العهد العلمي. 12- عرف المسند إليه بالضمير في "لا تحسبا" لأن المقام للخطاب, وعرف بأل في "الغدر" للإشارة بها إلى الحقيقة, وعرف بالإضافة في "كل غانية" لإغنائها عن تفصيل متعذر. 13- عرف المسند إليه بالإضمار في "طلبت" لأن المقام للخطاب, وعرف بأل في "الجميع" الثاني للإشارة إلى العهد الخارجي الصريحي. 14- نكر المسند إليه في "مقام" لإفادة معنى النوعية أي: لكل مقام نوع خاص من أنواع الكلام يناسب المقام الذي قيل فيه. 15- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد تعظيمه، أو لكونه كناية عن معنى يصلح له العلم. 16- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد التفاؤل بلفظ الابتهاج. 17- عرف المسند إليه بالموصولية لقصد تقرير الغرض المسوق له الكلام وهو خيانة الضيف، أو لقصد تقرير المسند، أو المسند إليه, على ما سبق في مبحث تعريف المسند إليه بالموصولية. 18- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد التبرك والتيمن بذكره. 19- عرف المسند إليه بالإشارة التي للتقريب لقصد التحقير, وعرف

بالعملية في "بعث الله" لقصد التعريض بغباوة السامع، وأنه لا يفهم إلا بالتصريح أو لإحضاره بعينه في ذهن السامع باسمه الخاص به. 20- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد التسجيل على السامع أمام القضاء. 21- عرف المسند إليه بالموصولية لعدم علم المخاطب شيئا عن أحواله سوى الصلة. 22- عرف المسند إليه بالعلمية لقصد إظهار التعجب من أمره. 23- عرف المسند إليه بالموصولية لاستهجان التصريح بذكره. 24- عرف المسند إليه بالإضافة لقصد تعظيم المتكلم وهو غير المسند إليه المضاف، وغير ما أضيف إليه المسند إليه. 25- عرف المسند إليه بالإضافة لإغنائها عن تفصيل متعذر. 26- عرف المسند إليه بالموصولية لقصد التنبيه على خطأ المخاطب في رأيه. 27- عرف المسند إليه بإشارة البعيد لقصد تعظيمه تنزيلا لبعد منزلته منزلة بعد المسافة. 28- عرف المسند إليه بالموصولية للإشارة إلى نوع الخبر. 29- عرف المسند إليه بالضمير؛ لأن المقام للغيبة لتقدم المرجع حكما. 30- عرف المسند إليه "بأل" للإشارة بها إلى الحقيقة. 31- عرف المسند إليه بالموصولية للإشارة بها إلى التعريض بتعظيم شأن الخبر. تمرين يطلب جوابه: بين الأغراض التي اقتضت تعريف أو تنكير المسند إليه في الأمثلة الآتية:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم أنت تبقى ونحن طرا فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا ولربما جاد البخيل وما به ... جود ولكن حسن الحظ الطالب تقول وصكت صدرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس1 صلاح الدين يود لقاءك، وصخر يخون ودك. غمره من السرور ما غمره. أحمد يصيد السباع في مرابضها. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . محمد صنعه لمن سأل: هل محمد صنع هذا؟ أسعاد ابنة جارنا, أم سعاد صديقة ابنته؟. جاء الذي طلب يد ابنتك بالأمس فرفضته. إن الذي تخلص إليه، وتفنى في حبه لا يرغب فيك. أذاع سرك من أوصيته بكتمانه. إن الذي أنشد القصيدة العصماء أمس قال هذا الشعر. إن من يجالس السفهاء يمقته الناس. مر بي رجل وسأل عنك. إن لنا لضياعا، وإن لنا لخدما. إن الذين كرمت أخلاقهم وطهرت سرائرهم، وحسنت فعالهم أولئك لهم حسن الخاتمة والمتعة الدائمة. جاء ابن الحجام. على وجوههم من الخزي غبرة. شر أهر ذا ناب. ابن اللص يجالس زيدا وينادمه. طلبة المعهد يحيون عميدهم. خلق الإنسان ضعيفا. زرت نديم الأمير فاحتفى بي النديم. تلك هي أخلاقي الكريمة فدلني على شيمك. لله الأمر من قبل ومن بعد.

_ 1 من كلام ابن كعب العنبري "والمتقاعس" من القعس بالتحريك وهو خروج الصدر ودخول البطن ضد الحدب. قاله يخاطب زوجه وقد مرت به في نسوة فوجدته يطحن بالرحى لنزول أضياف ببابه فقالت لهن وقد كان لم يبتن بها بعد: أبعلي هذا؟ استهزاء به فأخبر بذلك فأنشد هذا البيت، وبعده: فقلت لها لا تعجبي وتبيني ... بلائي إذا التفت على الفوارس

تقييد المسند إليه بأحد التوابع

تقييد المسند إليه بأحد التوابع: إيراد المسند إليه متبوعا بوصف 1: يتبع المسند إليه بوصف لأغراض أهمها ما يلي: 1- الكشف عن حقيقته وتوضيح معناه كما في قولهم: "الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله" فقد أتى بالمسند إليه موصوفا بهذا الوصف لقصد بيانه وإيضاحه2, ومثله في الكشف وإن لم يكن وصفا للمسند إليه قول أوس بن حجر3 من قصيدة يرثي بها فضالة بن كلدة4: إن الذي جمع السماحة والنجدة والبر والتقى جمعا الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا5

_ 1 يطلق الوصف ويراد به التابع المخصوص ويطلق بالمعنى المصدري أي: ذكر الصفة على أي وجه, وهذا المعنى أنسب بالتعليل؛ لأن الذي يعلل إنما هو الأحداث لا الألفاظ. 2 قيل إن كل واحد من الأوصاف الثلاثة المذكورة: الطول والعرض والعمق وصف كاف في الكشف والبيان إذ يكفي الكشف ولو بوجه عام -وقيل- وهو الظاهر أن الوصف الكاشف هو مجموع هذه الأمور لا كل واحد على حدة إذ يصدق على المجموع بحسب المعنى: أنه وصف واحد معناه: الممتد في الجهات الثلاث وإن تعدد بحسب اللفظ والإعراب ونظيره في ذلك قولهم: "حلو حامض" فقد جعل خبرا واحدا على معنى: مز, وقيل غير ذلك. 3 بضم فسكون. 4 بفتح فاء فضالة وكسر كاف كلدة وسكون لامه. 5 "النجدة" القوة والشجاعة وقوله: "جمعا" توكيد للأربعة قبله فهو بمعنى جميعا وقوله: "الذي يظن بك الظن" تفسير للألمعي باللازم؛ لأن الألمعي معناه: الذكي المتوقد فطنة ومن لوازمه أنه إذا ظن بك ظنا كان موافقا للواقع كأنه رأى وسمع فالوصف إذًا مبين للموصوف يلازمه، ثم إنه يحتمل أن مفعولي "يظن" محذوفان أي: الذي يظنك متصفا بصفة ويحتمل أنه نزل منزلة اللازم "وكأن" مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والجملة حال من فاعل يظن أي: حال كونه مشابها للرائي والسامع, ويصح أن تكون حالا من الظن أي: حال كونه مشابها لرؤية راء وسماع سامع، أو صفة له أي: ظنا مماثلا للرؤية والسمع, وإنما صح أن تكون صفة بعد المعرفة؛ لأن أل في الظن للعهد الذهني والمعرف بها كالمعرف بلام الجنس في جواز الحالية والوصفية.

يقول: إن الذي جمع هذه الصفات الفاضلة هو المتوقد الذهن الذي لا تكذب فراسته، ولا يخطئ ظنه، فإذا ظن بك أمرا أصاب كبد الحقيقة، وكأنه رأى بعينه، وسمع بأذنه, والشاهد قوله في البيت الثاني: "الذي يظن بك الظن إلخ" فهو وصف كاشف عن حقيقة الألمعي، وموضح لمعناه أيما وضوح, غير أن الموصوف هنا ليس مسندا إليه إذ هو خبر "إن" في البيت قبله، أو منصوب صفة لاسم "إن"، أو بتقدير أعني, والخبر حينئذ هو قوله بعد: أودى فلا تنفع الإشاحة من ... أمر لمرء يحاول البدعا وأول هذه المرثية ذلك البيت المشهور وهو قوله: أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا 2- تخصيصه1 أي: تقليل الاشتراك الواقع فيه إذا كان نكرة، أو رفع الاحتمال الواقع فيه إن كان معرفة, مثال الأول قولك: "رجل منجم في منزلنا" فقد وصف المسند إليه بالتنجيم لقصد تخصيصه أي: تقليل الاشتراك فيه. بيان ذلك: أن "رجل" في المثال المذكور موضوع للذكر البالغ العاقل من بني آدم، وقد اشترك في هذا المعنى الشاعر والمنجم والكاتب وغيرهما من سائر الناس، فإذا قيل: "رجل في منزلنا" لم يعلم من أي فئة هو؟ أمن فئة الشعراء، أم الكتاب، أم المنجمين؟ فإذا قيل: "رجل منجم" علم أنه من طائفة المنجمين، فقد قلل هذا الوصف الاشتراك، وجعل المشتركين معه في معناه الوضعي محصورين في دائرة التنجيم خاصة, ومثال الثاني قولك: "محمد الكاتب سيزورنا اليوم"، فقد وصف المسند إليه بالكتابة لقصد تخصيصه أي: رفع الاحتمال فيه.

_ 1 الفرق بين الوصف المخصص والوصف الكاشف السابق أن الغرض من المخصص تخصيص اللفظ بالمراد وأن الغرض من المبين كشف المعنى.

بيان ذلك: أن "محمد" في المثال المذكور موضوع لعدة أشخاص يختلفون في صناعاتهم، فمنهم التاجر، والكاتب، والشاعر، والخطيب، فإذا قيل: "محمد سيزورنا" احتمل أن يكون الزائر محمدا التاجر، وأن يكون محمدا الخطيب أو الكاتب، فإذا قيل: "محمد الكاتب" ارتفع هذا الاحتمال، وصار الكلام نصا في واحد بعينه لا يحتمل غيره1. هذا وإذا كان التخصيص عبارة عن تقليل الاشتراك، أو رفع الاحتمال كما بين فهو إذًا يدخل النكرات والمعارف، وهذا هو اصطلاح البيانيين، فكلا الأمرين عندهم تخصيص, بخلاف النحاة فإن التخصيص في عرفهم خاص بالنكرات؛ لأنه تقليل للاشتراك فيها، ولا يدخل المعارف عندهم، وأما رفع الاحتمال في المعارف فيسمى عندهم توضيحا لا تخصيصا. 3- المدح أو الذم كما تقول: "وفد علينا محمد العالم"، "وذهب عنا خالد الجاهل" فقد وصف المسند إليه في الأول "بالعلم"، وفي الثاني "بالجهل"، لقصد مدح الأول، وذم الثاني, وإنما يكون الوصف للمدح أو الذم إذا كان الموصوف متعينا قبل ذكر الوصف كأن لا يشاركه في اسمه غيره، أو كان المخاطب يعرفه من قبل، فإن كان لا يتعين إلا به فالظاهر حينئذ أن يكون الغرض منه التخصيص أي: رفع الاحتمال2. 4- التوكيد وليس المراد التأكيد الاصطلاحي بنوعيه، بل المراد التقرير, وذلك فيما إذا كان المسند إليه متضمنا لمعنى ذلك الوصف، فيكون الوصف حينئذ مؤكدا ومقررا للمسند إليه كما في قولك: "أمس الدابر كان يوما عظيما" فقد وصف المسند إليه بالدبور لقصد تأكيده

_ 1 اعلم أن اللفظ المشترك نوعان: معنوي ولفظي، فالمشترك المعنوي ما وضع لمعنى واحد مشترك بين أفراد "كرجل" وهذا هو المراد في تقليل الاشتراك أي: تقليل مقتضاه وهو الاحتمال, وإلا فإن اشتراك اللفظ بين أفراد مفهومه لا يندفع بشيء, والمشترك اللفظي ما وضع لمعنيين أو أكثر بأوضاع متعددة "كمحمد" فإنه وضع للتاجر بوضع. وللكاتب بوضع وللخطيب بوضع وهكذا, وهذا هو المراد به في رفع الاحتمال أي: الاحتمال الذي اقتضاه الاشتراك اللفظي. 2 أي: وإن صح أن يراد منه المدح أو الذم، والمدار في ذلك على قصد المتكلم.

وتقريره لتضمن "أمس" معنى الدبور, وينبغي أن يكون هنالك غرض يتعلق بهذا التأكيد كالتأسف عن دبوره لما كان فيه من دواعي السرور، أو الشماتة بدبوره لما كان فيه من بواعث الحزن والألم وإلا لم يكن ذكر الوصف من البلاغة في شيء, ومنه في وصف غير المسند إليه قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فالوصف هنا لقصد التأكيد. 5- بيان المقصود من المسند إليه أي: إفرازه وتمييزه عن غيره، بأن يكون محتملا لمعنيين فيؤتى بالوصف لبيان المراد1 منهما. كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} وصف المسند إليه الأول وهو "دابة" بما يخص الجنس، وهو {فِي الْأَرْضِ} ووصف المسند إليه الثاني، وهو "طائر" بما يخص الجنس أيضا وهو "يطير بجناحيه" لبيان المقصود منهما، وهو أن المراد -كما قال صاحب الكشاف- زيادة2 التعميم والإحاطة، وكأنه قيل: وما من دابة قط في جميع الأرضين، وما من طائر في جو السماء من كل ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، تراعى شئونها، ولا يهمل أمرها. بيان ذلك، كما في الكشاف: أن كلا من "دابة وطائر" نكرة وقعت في سياق النفي، والنكرة الواقعة في سياقه تفيد الاستغراق, غير أن

_ 1 إلى هنا تبين أن الوصف يتنوع إلى وصف كاشف، ومخصص، ومؤكد، ومبين للمقصود, ولم يبق إلا أن نفرق بين هذه الأنواع, أما بين الوصف المبين للمقصود والمؤكد فهو أن المؤكد لا يلاحظ فيه بيان المقصود الأصلي بل الملاحظ فيه مجرد التأكيد والتقوية وبيان المقصود به حاصل غير مراد, والفرق بين الوصف المبين للمقصود والوصف الكاشف هو أن الكاشف يقصد به مجرد إيضاح معنى اللفظ, أما المبين للمقصود فإن الغرض منه بيان أحد المحتملين أو المحتملات للفظ بأن يحتمل اللفظ معنيين فأكثر, فيؤتى بالوصف لبيان المراد كما في "دابة وطائر" في الآية المذكورة, والفرق بين المبين للمقصود والمخصص أن الغرض من المبين للمقصود بيان أحد محتملات اللفظ ورفع غيره من محتملاته, وأن الغرض من المخصص بيان أحد أفراد المعنى الكلي ورفع غيره من الأفراد كما في "رجل تاجر عندنا" فقد ارتفع بالوصف الفقيه مثلا وهو أحد أفراد معنى الرجل الموضوع لمعنى كلي تحته أفراد أحدها الفقيه. 2 وأما أصل التعميم فمستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي المقرون بمن الاستغراقية.

الاستغراق, مع هذا يحتمل معنيين: أن يكون المعنى: جنس الدواب، وجنس الطيور، فيكون الاستغراق حقيقيا، يتناول كل دابة من دواب الأرضين، وكل طائر من طيور الآفاق, وأن يكون المعنى: طائفة من الدواب، وطائفة من الطيور، فيكون الاستغراق، عرفيا يتناول من الأفراد ما هو متعارف, فلإفادة الاستغراق الحقيقي، وأن المراد عامة الدواب، وعامة الطيور ذكر لكل منهما وصفا نسبته إلى جميع الدواب، وجميع الطيور على السواء لينبه على أن المراد دواب أي أرض من الأرضين وطيور أي جو من الأجواء, إذ الكينونة في الأرض لا يختص بها دابة دون أخرى, كما أن الطيران بالجناح لا ينفرد به طائر دون طائر, فالوصفان المذكوران إذًا لزيادة التعميم والشمول.

اختبار

اختبار: 1- اذكر غرضين من الأغراض المقتضية لوصف المسند إليه مع بيان الحال ومقتضاه في مثال تختاره، ومع بيان معنى الوصف. - اذكر مثالين لتخصيص المسند إليه بالوصف أحدهما لتقليل الاشتراك والثاني لرفع الاحتمال، وبين الفرق بينهما، وهل يتلاقى رأي النحاة مع رأي البيانين في تخصيص المسند إليه؟ 3- ما الغرض من وصف المسند إليه في نحو قولك: "زارنا إبراهيم الفيلسوف" في حين أن الرجل المذكور متعين عند المخاطب، وما القصد من وصفه في نحو "البدر المنير اختفى عنا"، مع بيان الحال ومقتضاه في المثالين. 4- بين المقصود من وصف المسند إليه في قولهم: "ما من إنسان يمشي على رجلين إلا يسبح بحمده، وضح ذلك توضيحا تاما. إيراد المسند إليه مؤكدا: يؤتى بالمسند إليه مؤكدا لأغراض أهمها ما يأتي: 1- تقرير المسند إليه، وتحقيق مفهومه في ذهن السامع، وذلك

فهرس

فهرس: الموضوع الصفحة علم المعاني تحليل لهذا التعريف 5 اختبار 8 ما ينحصر فيه علم المعاني 9 تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء 10 صدق الخبر وكذبه 14 اختبار 15 الإسناد الخبري 17 بيان مواضع المسند إليه والمسند 18 اختبار 19 ما يقصده المخبر بخبره 21 اختبار 24 أحوال الإسناد الخبري 26 إخراج الكلام على غير مقتضى الظاهر 30 اختبار 38 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي 40 اختبار وتمرين 64 أحوال المسند إليه: ذكر المسند إليه 68 حذف المسند إليه 72

الموضوع الصحفة تمرين وجوابه 79 تعريف المسند إليه 82 إيراد المسند إليه ضميرا 82 إيراد المسند إليه علما 87 إيراد المسند إليه اسم إشارة 94 إيراد المسند إليه اسم موصول 101 إيراد المسند إليه معرفا بأل 111 إيراد المسند إليه مضافا 122 إيراد المسند إليه منكرا 125 تمرين وجوابه 130 تقييد المسند إليه بأحد التوابع 136 إيراد المسند إليه متبوعا 136 اختبار 140 إيراد المسند إليه مؤكدا 140 اختبار 144 إيراد المسند إليه مبدلا منه 144 إيراد المسند إليه متبوعا بعطف بيان 148 إيراد المسند إليه متبوعا بعطف نسق 150 اختبار 157 إيراد المسند إليه معقبا بضمير فصل 158 اختبار 159 إيراد المسند إليه مقدما 162 اختبار وتمرين 180 فصل "مثل وغير" 190 اختبار وتمرين 193 تأخير المسند إليه 195

الموضوع الصفحة الالتفات 204 أسلوب الحكيم 213 القلب 215 اختبار 221 أحوال المسند 224 ذكر المسند 234 إيراد المسند فعلا 235 إيراد المسند اسما 237 إيراد المسند ظرفا 238 إيراد المسند فعلا مقيدا بأحد المفاعيل ونحوها 239 إيراد المسند فعلا غير مقيد 240 إيراد المسند فعلا مقيدا بالشرط 241 إيراد المسند مفردا 243 إيراد المسند جملة 245 إيراد المسند جملة فعلية أو اسمية أو شرطية 247 إيراد المسند جملة ظرفية 248 إيراد المسند منكرا 255 إيراد المسند مخصصا بوصف أو إضافة 256 إيراد المسند غير مخصص بوصف أو إضافة 257 إيراد المسند مقدما 257 إيراد المسند مؤخرا 261 اختبار وتمرين 261 فصل في "إن, وإذا، ولو" 267 اختبار 290

الموضوع الصفحة أحوال متعلقات الفعل 291 المبحث الأول 292 المبحث الثاني 304 المبحث الثالث 311 اختبار 313

المجلد الخامس

المجلد الخامس علم البيان مدخل ... علم البيان: البيان -لغة- الكشف والإيضاح، وهو أيضا: المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير -يقال: فلان أبين من فلان، أي أفصح وأوضح كلاما. وهو في الاصطلاح: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه. ومعنى: إيراد المعنى الواحد بالطرق المختلفة في الوضوح: أن يعبر عنه بجعلة تراكيب، بعضها أوضح دلالة عليه من بعض -سواء أكانت هذه التراكيب من قبيل التشبيه، أم المجاز، أم الكتابة. فالمعنى الواحد، كالجود" مثلا يمكن أن يؤدي بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه. فتارة: من طريق التشبيه، فتقول: "محمد كالبحر في الامداد": وتقول: "محمد كالبحر" وتقول "محمد بحر" فهذه تراكيب ثلاثة دالة على معنى "الجود" وبعضها أوضح في الدلالة عليه من بعض، فأوضحها ما صرح فيه بوجه الشبه والأداة جميعا كما في المثال الأول، ويليه وضوحا ما صرح فيه بأحدهما كما في المثال الثاني، وأقلها وضوحا ما لم يصرح فيه بواحد منهما كما في المثال الأخير. وتارة: من طريق المجاز، فتقول: "رأيت بحرا في منزلنا" تريد محمدا مثلا، فتشبيه بالبحر في الامداد، ثم تستعير له لفظ "البحر" كما ستعرفه بعد في الاستعارة التحقيقية، وتقول: "لجة محمد تتلاطم بالأمواج" فاللجة والتلاطم بالأمواج من أوصاف البحر، مما يدل على تشبيه محمد به -وتقول: عمر محمد بفضله الأنام، فالغمر من أوصاف البحر، مما يدل أيضا على أن محمدا مشبه بالحبر، والمثالان

الأخيران من قبيل الاستعارة المكنية -على ما سيأتي- وأوضح هذه الطرق الأول، ويليه وضوحا الثاني، وأقلها وضوحا الثالث1. وتارة أخرى: من طريق الكناية، فتقول "محمد كثير الرماد"، و"هو مهزول الفصيل"، "وهو جبان الكلب" فهذه تراكيب ثلاثة دالة على معنى "الجود" لأن كثرة الرماد، من كثرة إحراق الحطب للطبخ، من أجل الضيفان، وهزال الفصيل يكون بإعطاء لبن أمه للأضياف، أو بنحرها لهم -وجبن الكلب يكون لكثرة الواردين عليه من الضيوف، وأوضح هذه الطرق الأول، ويليه الثاني، ثم الثالث كما سنذكره بعد. تنبيه: اعلم أن في التعريف تقييدين -تقييد المعنى "بالواحد" وتقييد الاختلاف "بوضوح الدلالة". أما التقييد الأول: فالغرض منه: الاحتراز عن المعاني المتعددة المؤداة بطرق متفاوتة في وضوح الدلالة عليها: بأن يكون تركيب في معناه أوضح دلالة من تركيب آخر في معناه، كأن تعبر عن "الجود" بقولك: "محمد كالسحاب في الفيض" ثم تعبر عن معنى "الشجاعة فيه" بقولك: "مر بي أسد فحياني"، فمن الواضح: أن التركيب الأول في معناه أوضح دلالة من الثاني في معناه- ومثل هذا ليس من علم البيان في شيء، لأن المعنى في العبارتين مختلف -والشرط أن يكون المعنى فيهما واحدا- كما عرفت. وأما التقييد الثاني: فالقصد منه الاحتراز عن الاختلاف في مجرد اللفظ لا في وضوح الدلالة- كما إذا أوردت معنى واحدًا في تركيبين مترادفين، وأنت عالم

_ 1 أما أوضحية الأول فلظهور التجوز فيه بسبب التصريح باسم المشبه به، وأما الثاني والثالث فلخفاء التجوز فيهما لعدم التصريح باسم الشبه به -غير أن الثاني أوضح دلالة من الثالث لاشتماله على وصفين للمشبه به واشتمال الثالث على وصف واحد.

بمدلولات الألفاظ فيهما. كأن تقول مثلا: "نشر فم محمد كنفح الطيب" ثم تقول: "ريح ثغر محمد كأريح العطر، فمثل هذا أيضا ليس من مباحث علم البيان، لأن التركيبين متماثلان في وضوح الدلالة على المعنى، والاختلاف فيهما إنما هو في اللفظ والعبارة فقط -والشرط أن يكون الاختلاف في وضوح الدلالة على المعنى كما سبق. الدلالة العقلية: هي أن يدل اللفظ على جزء المعنى الموضوع له، أو على لازم معناه فالأول كدلالة لفظ "إنسان" على الحيوان، أو على الناطق، وتسمى هذه الدلالة: "تضمنية" لأن الحيوان أو الناطق جزء معنى الإنسان، وداخل في ضمنه والثاني كدلالة لفظ "إنسان على الضاحك، وكدلالة لفظ "أسد" على الجرى، ودلالة لفظ "حاتم" على الجود -وتسمى هذه الدلالة: "التزامية" لأن الضحك ليس معنى الإنسان، ولا جزء معناه، وإنما هو أمر خارج عن معناه لازم له، وكذلك الجرأة للأسد، والجود لحاتم، فكلاهما لازم للمعنى الموضوع له. غير أن البيانيين اصطلحوا على تسمية كل من التضمنية والالتزامية "عقلية" لأن دلالة اللفظ على جزء معناه، أو على لازم هذا المعنى متوقفة على أمر عقلي هو أن وجود الكل، أو الملزوم يقتضي عقلا وجود الجزء أو اللازم. هذا: والدلالة العقلية بنوعيها هي المقصود بالبحث في هذا لافن إذ هي التي يتأتى بها الاختلاف في الوضوح الذي هو موضوع هذا الفن. ثم إن الغرض من معرفة هذا الإيراد: أن يحترز المتكلم عن الخطأ في تأدية الكلام، بحيث لا يورد من الكلام ما يدل على مقصوده دلالة خفية، عند اقتضاء المقام دلالة واضحة كأن يكون المخاطب غبيا، أو دلالة واضحة، عند اقتضاء المقام دلالة خفيةن كالخطاب مع الذكي.

مبحث التشبيه

مبحث التشبيه منزلة التشبيه من علم البيان ... مبحث التشبيه: منزلته من الاستعارة: اعلم أن اللفظ قد يستعمل في معنى لم يوضع له وهذا الاستعمال إن صحبته قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له كان اللفظ "مجازا" إذ قد تجوز به من المعنى الموضوع له إلى المعنى المراد -ولا بد- مع هذا- من وجود علاقة بين المعنى المنقول عنه اللفظ والمعنى المنقول إليه، فإذا كانت العلاقة المشابهة سمي اللفظ حينئذ استعارة" كما في نحو: "رأيت أسدا يخطب" فغن لفظ "أسد" مستعمل في الإنسان الجرئ، وهو معنى لم يوضع له لفظ "أسد"، والعلاقة بين المعنيين مشابهة الإنسان للأسد في وصف الجرأة. فالتشبيه إذن سابق عن الاستعارةن ضرورة أنها مبنية على المبالغة في التشبيه، فهو إذن منها بمثابة الأساس من البناء، أو بمنزلة الأصل من الفرع -ومن هنا يعلم وجه تقديم بحثه على بحث المجاز. منزلة التشبيه من علم البيان: اعلم: أن التشبيه من فنون البلاغة، له شأنه وخطره، فهو يدني القصين ويذلل العصي، ويكشف الخفي، ويكسب المعاني رفعة وشرفا، ويكسوها روعة وفخامة، ويبرزها في معارض الحس والعيان -وهو- إلى ذلك- كثير المباحث، متشعب النواحي. وإليك جملة من الشواهد في مزايا التشبيه، تريك إجمالا منزلته من علم البيان، قال البحتري1: دان على أيد الغفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب

_ 1 هو أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي الشاعر المطبوع أشهر من استحق لقب شاعر بعد أبي نواس، ومن أحسن قوله: دنوت تواضعا وعلوت مجدا ... فشأناك انحدار وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تسامي ... ويدنو الضوء منا والشعاع

كالبدر أفرط في العلو وضوؤه ... العصبة السارين جد قريب1 فقد ادعى الشاعر في البيت الأول: الجمع بين معنيين متدافعين، عما قوله: دان وشاسع، وهو أمر -في بادئ الرأي- لا يكاد يقره العقل، أو تؤمن به النفس، ثم ما لبث أن أراكهما بهذا التمثيل الرائع في البيت الثاني إلفين متعانقينن فإن البدر -مع شاسع بعده، وفرط علوه -ماثل بين أيدينا بضوئه، فهو بعيد قريب، لهذا لم يسع العقل إلا أن يقر، ولا النفس إلا أن تؤمن -وقال ابن لنكك: إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا ... رأيت صورته من أقبح الصور وهبه كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر2 فأنت تراك في البيت الأول تقف موقف الحائر المتردد، وكيف ينقلب ذو الوسامة الصبيح مشوه الخلق، تتقزز لمرآه النفوس -حتى إذا ما جاوزته إلى البيت الثاني آمنت بالأمر إيمانا لا يرقى إليه شك -وقال ابن الرومي3:

_ 1 "العفاة" جمع عاف، وهو الطالب المعروف، و"الشاسع" البعيد. "والند" المثل والنظير، ومثله الضريب، وقد عطف على الند عطف تفسير. و"العصبة" "الطائفة من الناس، "السارين" جمع سار وهو السائر ليلا، و"جد قريب" على معنى. قريب جدا. 2 "السمج" على زنة كتف القبيح، "هبه" فعل أمر بمعنى: افرضه وقولهم: هب أنه كذا تعبير خاطئ، لعدم ورود السماع بذلك. 3 هو أبو الحسن على بن العباس مولى بني العباس الشاعر المكثر المطبوع صاحب النظام العجيب، والمعاني المخترعة، والأهاجي المقذعة -ومن معانيه البديعة قوله: وإذا امرؤ مدح امرءا لنواله ... وأطال فيه فقط أطال هجاءه لو لم يقدر فيه بعد المتقى ... عند الورود لما أطال رشاءه

بذل الوعد للأخلاء سمحا ... وأبي بعد ذاك بذل العطاء فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء1 يحدثنا الشاعر عن إنسان يبذل لك الوعد في سخاء، بينما تراه يتخلف عن ركب الأوفياء، ثم مالبث أن أراكه عيانا في شجرة الصفصاف، يبهرك رواؤها -بينما تراها عقيما لا تلد، ولا تثمر -وقال أبو تمام2: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود3 يذكر لنا الشاعر: أن الفضيلة مثار حقد وحسد من فاقديها، فإذا قدر لفضيلة أن تنشر مطارفها على الناس، بعد أن طويت أجراها على لسان حسود حاقد، فهو كفيل أن يذيع أمرها، وينشر عبيرها، بما يبديه من غيظ وحنق، ثم وضع هذا المعنى في إطار بديع، فأرانا بالعين ذلك المعنى في كمين عرف الطيب، يثيره حر اللهيب -ثم انظر إلى قوله: وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب يتجدد فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد4

_ 1 "السمح" الكريم. و"الخلاف" ككتاب شجر الصفصاف. 2 هو حبيب بن أوس الطائي أسبق الشعراء الثلاثة الذين سارت بذكرهم الركبان"، وخلد شعرهم الزمان: ثانيهم البحتري، وثالثهم المتنبي"، ومن أبياته السائرة قوله: ولو صورت نفسك لم تردها ... على ما فيك من كرم الطباع 3 نشر الفضيلة إذاعتها بين الناس، أتاح لها هيا لها، وعرف العود رائحته. 4 مخلق من أخلق الشيء أبلاه، "والديباجتان" صفحتا الخدين، والمراد: عامة الوجه ولذا أعاد الضمير عليهما مفردا في "يتجدد" و"السرمد" الدائم.

وقس حالك، وأنت في البيت الأول، ولم تنته إلى الثاني: بحالك، وقدانتهيت إليه، ووقفت ببصرك عليه، فإنك -لا ريب- مدرك مدى تمكن المعنى في نفسك. كما تدرك الفرق بين أن يقول لك قائل: "الدنيا لا تدوم، ثم يسكت، وبين أن يذكر عقبيه قوله صلى الله عليه وسلم: من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة، أو أن ينشد قول لبيد1: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولابد يوما أن ترد الودائع كما ترى الفرق واضحا بين أن يقول قائل: أرى قوما لهم منظر، وليس لهم مخبر ويقطع الكلام، وبين أن يشفعه بنحو قول ابن لنكك: في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر2 وهل تراك لو بالغ لك أحد في وصف أيام بالقصر فقال: أيام كأقصر ما يتصور، أكنت تجد لك من الأنس في نفسك ما تجده في نحو قولهم: "أيام كأباهيم القطا"، أو في نحو قول الشاعر: ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب3 فأنت في كل ذلك ترى المعنى في الحالة الثانية أسمى شرفا، وأشد وقعا، وأرسخ قدما منه في الحالة الأولى- ذلك لما يحصل للنفس من الإنس بإخراجها من خفي إلى جلي، ومن معقول إلى محسوس، ومما لم تألفه إلى ما ألفته، ومما لم تعلمه إلى ما هي به أعلم.

_ 1 هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري أحد أشراف الشعراء المجيدين، والقواد البواسل المعمرين. نشأ جوادا شجاعا فاتكا وهو القائل: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل 2 "السرو" نوع من الشجر ذو رونق ولكنه لا يثمر. 3 "سالفة الذباب" مقدم عنقه، يريد: أن اليوم يحكيها في القصر.

إلى غير ذلك من روائع التشبيه وفضائله، حتى إنك لتجد فيه من قوة تأثيره في النفس، ومبلغ أسره للقلب مالا تقوى على دفعه، وهو فوق ذلك يكسب اللفظ حلاوة وطلاوة، ويضفي على المعنى من الروعة وإليهاء، ما يبهر القلب، ويأسر اللب.

تعريف التشبيه

تعريف التشبيه: هو -في اللغة: الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى -ومعناه- في الاصطلاح: الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى1 بإحدى أدوات التشبيه لفظا، أو تقديرا -فالأمر الأول هو "المشبه" والثاني هو "المشبه بـ" ويسميان الطرفين، والمعنى المشترك بينهما يسمى: "وجه الشبه" كما تقول: "القواد البواسل كأسود الشرى في الجرأة"، ففي هذه دلالة على مشاركة أمر هو "القواد البواسل"، لأمر هو "أسود الثرى" في معنى هو "الجرأة" بإحدى أدوات تشبيه وهي "الكاف". ويجوز حذف الوجه مع بقاء الأداء فتقول: "القواد البواسل كأسود الشرى" ويجوز العكس، أي حذف الأداء، مع بقاء الوجه، فتقول: "القواد البواسل أسود الشرى في الجرأة" ويجوز حذفهما جميعا، فتقول: القواد البواسل أسود الشرى -ويكون المشبه به في الصورتين الأخيرتين أحد الأنواع الآتية: أ- يكون خبرا للمشبه كما مثلنا من نحو "القواد البواسل أسود الشرى" "بدعوى الاتحاد بين الطرفين مبالغة في التشبيه -وكما في قولهم: "فلان بطانة فلان" مبالغة في تشبيهة ببطانة الثوب في قوة الملازمة، وقد يحذف المشتبه في هذه الحالة لقرينة كما في قول عمران بن حطان2:

_ 1 احترز به عن المشاركة في عين فلا يسمى تشبيها. 2 هو من شعراء الخوارج، ويؤثر عنه أنه لم يكذب في شعره قط قالت له امرأته يوما: ألم تزعم أنك لا تكذب في شعرك؟ قال بلى.. فقالت: أرأيت قولك: وكذلك مجزأة بن ثو ... ر كان أشجع من أسامه أيكون رجل أشجع من أسد؟ قال لعم: إن مجزأة بن ثور فتح مدينة كذا والأسد لا يقدر على ذلك.

أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صغير الصافر1 يريدك هو أسد، وكقوله تعالى: "صم بكم عمي فهم لا يعقلون" على تقدير: هم صم..إلخ. ب- يكون خبرا لما دخل على المشبه من النواسخ. أو مفعولا ثانيا له. فالأول نحو قولك: "كان محمد شجي في حلوق أعدائه، وقذى في حيوان حساده"، فكل من "شجي" وقذى" مشبه به، وقد وقع خبرا "لكان" -ومنه قول البحتري: بنت بالفضل والعلو فأصبحت سماء وأصبح الناس أرضا فكل من "سماء وأرضا" مشبه به، وكلاهما واقع خبرا لأصبح. والثاني نحو قول الشاعر: حسبت جماله بدرا منيرا ... وأين البدر من ذاك الجمال؟ وكما تقول: حمل خالد على الأعداء، فخلته أسدا، فكل من "بدرا وأسدا" مشبه به، وقع وقع الأول مفعولا ثانيا "لحسب"، ووقع الثاني مفعولا ثانيا "لخال". جـ- يكون حالا من المشبه، أو صفة له- فالأول كقولك: "كر عنترة على الأعداء أسدا" فلفظ أسدا" هو المشبه بهن وقد وقع حالا من عنترة -ومنه قول الشاعر: بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا2

_ 1 "فتخاء" مؤنث أفتخ من الفتخ بالفتح، وهو استرخاء المفاصل ولينها يريد نعامة مسترخية الجناحين. 2 "الخوط" بضم الخاء الغصن، و"البان" نوع من الشجر، و"رنت" من الرلو وهو إرادة النظر.

فالمشبه ضمير المرأة المستتر في الأفعال المذكورة، والمشبه به هو ما ذكر من تلك الأحوال -والثاني نحو "جلست إلى محمد فإذا هو رجل بحر"، تريد: في العلم "فبحر" مشبه به وهو وصف لرجل. د- يكون مضافا للمشبه كما تقول: "لؤلؤ ثغره يبهر العين، وورد خده يتضوع أريجا" تريد: ثغيره الشبيه باللؤلؤ، وخده يبهر العين، وورد خده يتضوع أريجا" تريد: ثغيره الشبيه باللؤلؤ، وخده الشبيه بالوردن ويقول الشارع: أقحران معانق لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود1 يريد: الخدود الشبيهة بالورد في الحمرة، ومنه قول الشاعر: والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين لماء2 يريد: الماء الشبيه باللجين في البياض والصفاءن وقد أضيف المشبه به في هذا المثل كما ترى. هـ- يكون مصدرا مبينا لنوع المشبه كما في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أي تمر مرًا كمر السحاب في سرعتها، فالمشبه هو المصدر المحذوف، وقد بين نوعه بالمشبه به الذي هو المصدر المذكور المضاف -ومثله قول أبي العلاء3. هرب النوم عن جفوني فيها ... هرب الأمن عن فؤاد الجبان يريد: هربا كهرب الأمن -وكأن تقول: فلان يهدر هدير الحمام، ويزأر زئير الأسود، ومثل هذا أكثر من أن يحصى.

_ 1 الأقحوان: بضم الهمزة والحاء نبت ذر رائحة طيبةن والشقيق نبت ذر زهر أحمر. 2 "الأصيل" هو الوقت ما بين العصر إلى الغروب، وهو وقت تعتدل فيه الريح واللجين الفضة. 3 هو أحمد بن عبد الله سليمان المعري الشاعر الفيلسوف، عربي النسب وبيته بيت علم وقضاء، قال الشعر وعمره إحدى عشرة سنة وقبل موته أوصى أن يكتب على قبره: هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد

و ويكون مبينا بالمشبه -كما في قول الشاعر: فما زلت في ليلين شعر وظلمة ... وشمسين من خمر ووجه حبيب فالمشبه به في الشطر الأول هو "الليل" وقد بين بالمشبه، وهو "الشعر" والمشبه به في الشطر الثاني هو "الشمس" وقد بين المشبهين: الخمر ووجه الحبيب- ومثله تماما الشطر الأول من قول الشاعر: ودخلت في ليلين فرعك والدجى ... ولئمت كالصبح المنور فاك1 وعليه قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، فالمشبه به هوالخيط الأبيضن وقد بين بالمشبه، وهو "الفجر" يريد: حتى يبدو لكم الفجر كالخيط الأبيض- ولزم بطريق المقابلة: أن يشبه الليل بالخيط الأسود ليكون المعنى: حتى يتبين لكم بياض النهار من سواد الليل. إلى هنا وضح لك من كل هذه الأمثلة والشواهد. أنه لا بد في التشبيه الاصطلاحي من ذكر الطرفين، ولن تقديرا2، على وجه ينبئ عن التشبيه: بألا يستقيم المعنى إلا بالحمل على التشبيه كما في الأمثلة المذكورة -وأنه لا بد فيه من أداة التشبيه ملفوظا بها، أو مقدرة في الكلام- على ما رأيت. ولهذا لا يعتبر من التشبيه الاصطلاحي3: الاستعارة بأنواعها- عل ما سيأتي كما لا يعد منه: التشبيه على طريق التجريد، في بعض صوره، وهو ما كان المنتزع فيه غير المنتزع منه كما تقول: "لقيت بخالد أسدا، وغمرني منه بحر". فقد بولغ في تشبيه خالد بالأسد حتى جعل أصلا جرد منه أسد -كما بولغ في تشبيهه بالبحر، بحيث جعل

_ 1 قائله أحمد شوقي، "والفرع" الشعر وسمى بذلك لأنه متفرع من الإنسان والدجى" جمع دجية وهي القطعة من الليل. 2 كما سبق في بيت ابن حطان. أسد علي إلخ، وفي آية: صم بكم إلخ. 3 أما التشبيه بالمعنى اللغوي فلا تخرج الاستعارة عنه.

أصلا انتزع منه بحر -ففي المثالين تشبيه ضمني مضمر في النفس والمنتزع فيهما غير المتنزع منه1. أما عدم اعتبار الاستعارة من التشبيه الاصطلاحي فلخلوها من ذكر أحد الطرفين وهو المشبه "في الاستعارة التحقيقية" نحو: "أقبل الأسد شاكي السلاح"- والمشبه به "في الاستعارة المكنية" نحو: "عين العناية ترعاك" على ما سيأتي بيانه- ولخلوها أيضا من ذكر الأداة لفظا وتقديرا". وأما عدم اعتبار التجريد المذكور تشبيها اصطلاحيا فلعدم ذكر الطرفين على وجه ينبئ عن التشبيه، ولخلوه أيضا من أداته في اللفظ والتقدير2. فكلاهما ليس من التشبيه الاصطلاحي في شيء -ويمكن الاحتراز عنهما بقولنا في التعريف. بإحدى أدوات التشبيه لفظا أو تقديرا.

_ 1 أما بعضها الآخر، وهو ما كان المنتزع عين المنتزع منه فليس داخلا في التشبيه أصلا لعدم دلالته على المشاركة كما في قوله تعالى: "لهم فيها دار الخلد" فقد انتزعت دار الخلد من جهنم، وهي عين دار الخلد لأشبيهة بها. ومثله: في قولهم لي من فلان صديق حميم، فقد جرد من فلان صديق حميم وكلاهما عين الآخر لا شبيه به. 2 قيل: هو تشبيه حقيقة لذكر الطرفين فيه إذ يمكن التحويل فيه إلى هيئة التشبيه أولا قصد التجريد وسيأتي أن التحقيق خلافه.

أركان التشبيه

أركان التشبيه: 1- ما أريد إثبات الصفة له، ويسمى "مشبها". 2- ما وضحت فيه الصفة، ويسمى: "مشبها به"، وكلاهما يسميان: "طرفي التشبيه، أي الشيئين اللذين قصدا بالتشبيه. 3- الصفة التي قصد إثباتها للمشبه، وتسمى: "وجه شبه" وهو المعنى الجامع بين الطرفينن أي المشترك بينهما.

4- الكلمة التي أفادت معنى المماثلة. وتسمى: "أداة التشبيه". وهذه الأربعة هي قوام التشبيه وعماده -فقولك: "يد فلان كالبحر في تدفقه" تشبيه. والمشبه هو "اليد" والمشبه به هو "البحر" ووجه الشبه هو "التدفق"، وأداة التشبيه هو الكاف- ومن هنا نعلم أن: في التشبيه ثلاثة مباحث: 1- مبحث الطرفين. 2- مبحث وجه الشبه. 3- مبحث أداة التشبيه. مبحث الطرفين: الطرفان هما -على ما علمت- المشبه والمشبه به، والتشبيه -باعتبارهما- عدة تقسيمات: منها. التقسيم الأول: ينقسم التشبيه باعتبار حسية الطرفين، وعقليتهما أربعة أقسام: 1- أن يكون طرفاه حسيين، أي مدركين بإحدى الحواس الخمس. فمثال ما يدرك بحاسة البصر قولك: وجه هند كالبدر، وقدها كالرمح، وشعرها كالليل. ومثال ما يدرك بحاسة السمع قولك: "أسمع صوتا كأغاريد البلابل، أو كدوي الرعد، أو كأنين الثكلى- ومنه قول الشاعر يصف ساقية: وساقية نزلت بها والفى ... أودعه كتوديع المروع فصوت أنينها يحكى أنيني ... وفيض دموعها يحكى دموعي

ومثال ما يدرك بحاسة الشم قولك: "شذا عرف ليلى كأريج المسك، وريح ثيابها كريح الخزامي"1. ومثال ما يدرك بحاسة الذوق قولك: "رضاب سلمى كلعاب النحل، وعصير لحصرم كالخل". ومثال ما يدرك بحاسة اللمس قول ذي الرمة2 يصف امرأة بنعومة البشرةن ورخامة الصوت: لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي -لا هراء ولا نزر3 وقولك: بشرة فلان كجلد القنفذ -فالطرفان في هذه المثل جميعها حسيان، وأوجه الشبه فيها واضحة، لا تحتاج إلى بيان. 2- أن يكون الطرفان عقليين، أي مدركين بالعقل كقولهم: "العلم كالحياة" "والجهل كالموت" و"الضلال كالعمى" -فالطرفان في هذه المثل لا يدركان بغير العقل- ووجه الشبه في الأول: "الأثر الجليل"، وفي الثاني: "فقدان النفع" وفي الثالث: "عدم الاهتداء". 3- أن يكون المشبه عقليا والمشبه به حسيا كقولهم في شبيه الخلق القويم والطبع الكريم: خلق كشذا العطر، وطبع كأنفاس الزهر، وكقولك في تشبيه الرأي الواضح والحظ العاثر "رأى كفلق الصبح"، و"حظ كسواد الليل"، ومنه قول الشاعر: الرأي كالليل مسود جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بإصباح 4- أن يكون المشبه حسيا، والمشبه به عقليا كما في قول الشاعر:

_ 1 هو نبت له زهر طيب الرائحة. 2 هو غيلان بن عقبة شاعر أموي. 3 "رخيم الحواشي" في أطرافه لين وتكسر، "والهاء" بضم الهاء الكلم الكثير الفاسد و"النزر" الكلام القليل يريد أنه لا يكثر في الكلام إلى حد الهذيان، ولا يعقل منه إلى درجة العي.

وأرض كأخلاق الكريم قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا1 يقول: رب أرض رحبة الجنبات قطعتها في ليل تألق نجمه -شبه الأرض بالخلق الكريم في الرحابة والسعة، بتقدير المعقول محسوسا، واعتباره أصلا في وجه الشبه، يقاس به مبالغة، وإلا فإن إلحاق المحسوس بالمعقول قلب للأوضاع2، وجعل للفرع أصلا، والأصل فرعا، وهو لا يجوز، ولا يستسيغه عقل لولا قصد المبالغة -ومن الطريف في ذلك قول الشاعر: وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا ... فتك الصبابة بالمحب المغرم فالفتك الأول حسي باعتبار متعلقه، والثاني عقلي، وهو من أحاسن التشبيهات وأبدعها، وأشدها في النفس وقعا -ومثله قول الصاحب: أهديت عطرا مثل طيب ثنائه ... فكأنما أهدى له أخلاقه تنبيه: من الحسي: مالا تدركه الحواس بذاته، ولكن تدرك مادته، ويسمى: خياليا، وهو الشيء المعدوم خارج الأعيان الذي ركبته المتخيلة من أمور مدركة بالحس الظاهر كما في قول أبي الغنائم الحمصي: خود كأن بنانها ... في خضرة النقش المزرد سمك من البلور في ... شبك تكون من زبرجد3

_ 1 السماك نجم، وهو مفعول والليل فاعله، الضمير في "أبصرط عائد على "السماك" وتكحيل الليل له على معنى أن الليل إذا اشتدت ظلمته ازداد السماك تألقا كان الليل كحل بسواده. 2 ذلك أن الأمور العقلية مستفادة من طريق الحواس فالحواس إذن أصل لها كحدوث العالم مثلا فهو أمر عقلي أدركه العقل من تغيره المدرك بحاسة البصر ولولاها ما أدركه، ولذا قالوا من فقد حسا فقد علما فتشبيه المحسوس بالمعقول حينئذ قلب للأوضاع سوغه قصد المبالغة. 3 "الخود" بفتح الخاء الشابة الحسناء "والبنان" أطراف الأصابع، "والبلور" معدن شفاف، و"الزبرجد" جوهر نفيس.

شبه الشاعر هيئة بنانها، مع ما عليها من نقش منسق أخضر: بهيئة سمك مصنوع من البلور: داخل شبك مصنوع من زبرجد -فليس من شك أن صورة المشبه به المذكورة شيء خيالي، لا يدرك بالحس الظار لعدم تحققه خارج الأعيان، وإنما المدرك مادته، وهي السم، والبلور، والشبك، والزبرجد، ومن هنا كانت حسية -ومنه قول الشاعر يصف الخمر في الكاس: كأن الحباب المستدير برأسها ... كواكب در حشوهن عقيق1 شبه هيئة الفقاقيع الطافية على وجه الكأس: بهيئة كواكب من در، منثورة في سماء من عقيق -فالمشبه به خيالي-: لا يدرك بالحس لعدم وجوده خارج الأعيان، وقد فرض مجتمعا من أمور، كل منها مدرك بالحس، وهو: الكواكبن والدر، والعقيق. فالمراد بالحسي حينئذ: ما يدرك بذاته، أو بمادته بإحدى الحواس الظاهرة ليشمل الخيالي الوارد في البيتين السابقين ونحوهما. ومن العقلي: مالا يدرك هو ولا مادته بإحدى الحواس الظاهرة لعدم وجوده خارجا. ولكنه بحيث وجد لم يدرك إلا بها، ويسمى "وهميا"2 وهو ما اخترعه الوهم من عند نفسه، من غير أن يكون له، ولا لمادته وجود في الخارج، كما تراه في قول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال3

_ 1 "الحباب" هو تلك الفقاقيع التي تطفو عادة على سطح الماء، والعقيق نوع من الأحجار الكريمة. 2 قيد الوهمي بهذا القيد لتيميز عن العقلي الصرف كالعلم والحياة، وهذا لا ينافي أن الوهمي من أفراد العقلي بالمعنى المذكور هنا. 3 الاستفهام هنا للإنكار، "والمشرقي" السيف المنسوب إلى مشارف اليمن، "ومضاجعي" ملازمي حال الاضطجاع وهو كناية عن أن السيف لا يفارقه وأن الاعتداء عليه بعيد المنال، "ومسنونة" حادة مصقولة، وصفت بالزرقة لفرط صفائها.

ينكر أن يتمكن من قتله أحد، وهو محصن بسيفه ورمحه. وكما تراه في قول تعالى في سجرة الزقوم: "طلعها كأنها رءوس الشياطين" -فأنياب الأغوال، ورءوس الشياطين لم توجد بعد لاهي ولا مادتها، فلم تدرك بالحواس، وإنما هي من اختراعات الوهم وافتراضاته ولكنها- على فرض وجودها- لا تدرك بغير الحس الظاهر. فالمراد بالعقلي حينئذ: ما لا يدرك هو، ولا مادته بإحدى الحواس الظاهرة ليشمل التشبيه الوهمي المذكور -كما يدخل فيه أيضا ما يدرك بالوجدان، أبي بالقوة الباطنة كاللذة، والألم، والفرح، والغضبن والجوع، والعطش، والشبعن والرين وغير ذلك من الحالات الباطنة التي لا يدركها الحس الظاهر، ولا العقل الصرف، وإنما تدرك بإحساس باطني، وتكييف نفسي، كالحالة الخاصة التي يحسها الجائع، أو الظامئ أو التي يحسها من شبع بعد سغب، أو روى بعد ظما -مثال ذلك: أن يشبه الجائع ما يحسه من ألم الجوع بالموت، أو أن يشبه الظامئ ما يشعر به من وهج العطش بالنار. التقسيم الثاني: ينقسم التشبيه باعتبار تعدد الطرفين، أو تعدد أحدهما إلى أربعة أقسام: 1 ملفوف 2 مفروق 3 تسوية 4 جمع فالملفوف: هو أن يتعدد طرفاه، ويجمع كل طرف مع مثله: بأن يؤتى بالمشبهات أولا، ثم بالمشبهات بها ثانيا أو العكس، بأن يؤتى بالمشبهات بها أولا، ثم بالمشبهات بعد ذلك. فمثال الأول قول امرئ القيس1 يصف عقابا بكثرة اصطياد الطيور:

_ 1 هو أبو الحرث جندج بن حجر الكندي رأس شعراء الجاهلية وقائدهم إلى التفنن في أبواب الشعر وفنونه.

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها -العناب والحشف البالي1 شبه الشاعر الرطب الطرى من قلوب الطير بالعناب في الشكل والمقدار، واللون- وشبه اليابس العتيق منها: بالحشف البالي في هذه الثلاثة أيضا- فالمشبه متعدد، وهو الرطب من قلوب الطيرن واليابس العتيق منها- والمشبه به متعدد كذلك وهو "العناب والحشف البالي"، وقد جمع بين المشبهين في المصراع الأول على طريق العطف -كما جمع المشبهين بهما في المصراع الثاني كذلك2. ومثال الثاني قولك: "كالشمس والقمر هند ودعد" بتقديم المشبهين بهما على المشبهين -إلى غير ذلك مما جمع فيه كل صنف على حدة كما هو رأس المسألة. وسمي هذا النوع "ملفوفا" لأنه من اللف، أي الضم، وهو لف المشبهين فيما مثلنا، أي ضم بعضهما إلى بعض -كما لف المشبهان بهما كذلك. والمفروق: أن يتعدد طرفاه: ويجمع كل طرف مع صاحبه: بأن يجمع مشبه مع مشبه بهن كما تراه في قول الشاعر: الخد ورد والصدغ غالية ... والريق خمر والثغر كالدرر3

_ 1 "رطبا ويابسا" حالان من القلوب، "ولدى وكرها" ظرف يحتمل أن يكون حالا من القلوب أو من الضمير المستتر في "رطبا ويابسا"، "والوكر" عش الطائر "والعناب" حب أحمر مائل إلى الكدرة في حجم قلوب الطير الرطبة و"الحشف" أردأ التمر في هيئة قلوب الطير اليابسة. 2 إنما جعل من قبيل المفرد المتعدد ولم يجعل من تشبيه المركب بالمركب لأنه ليس لانضمام الرطب من القلوب إلى الياس منها هيئة خاصة يقصد إليها، ولا لاجتماع العناب من الحشف البالي هيئة كذلك -ولهذا لو فرق التشبيه، فقيل: كأن الرطب من القلوب عتابا، وكأن اليابس منها حشف لصح ذلك دون توقف أحد التشبيهين على الآخر. 3 المراد "بالصدع" الشعر المتدلى على الخد، "والغالية" أخلاط من الطيب "والثغر" أراد به الأسنان.

شبه الشاعر الخد بالورد، والصدغ بالغالية، والريق بالخمر، والثغر بالدر جاعلا كل مشبه مع مقابله -ومنه المرقش الأكبر1: النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم2 يقول: إن رائحة هؤلاء النسوة كرائحة المسكن والوجوه منهن كالدنانير من الذهب في الاستدارة والصفرة، وهو لون كان يستحسن في النساء، وأن أصابعهن المخضبة كالعنم في الحمرة والليونة -وقد جمع في هذا البيت كل مشبه به مع مشبهه- كما في البيت السابق. وسمي هذا النوع "مفروقا" لأنه لم يجمع فيه بين المشبهات على حدة، ولا بين المشبهات بها كذلك -كما في القسم الأول- بل فرق بينهما، فوضع كل مشبه به بجوار مشبههه- كما ترى. وتشبيه التسوية: هو أن يتعدد المشبه، دون المشبه به كقول الشاعر: صدغ الحبيب وحالي ... كلاهما كالليالي وثغره في صفاء ... وأدمعي كاللآلي3 شبه الشاعر في البيت الأول -حاله، وصدغ حبيبه بالليالي في السواد، وشبه في البيت الثاني- أدمعه، وثغر حبيبه باللآلئ في الصفاء والتألق -فالمشبه فيهما متعدد، دون المشبه به -والمراد بالمتعدد هنا: أن يكون ذا معنيين مختلفي المفهوم، أو ذا معان كذلك، وعلى هذا لا يكون المشبه به -في البيتين- وهو الليالي، واللآلي، "متعدد بهذا المعنى، لأن آحاد كل متحدة المفهوم- كما ترى:

_ 1 هو عمرو بن سعد شاعر جاهلي. 2 "والنشر" الراحئة الطيبة، "والعنم" بالتحريك شجر لين الأغصان أحمر اللون تشبه به أصابع الجواري المخضبة، وأراد بأطراف الأكف: الأصابع. 3 الصدع تقدم شرحه والمراد بالثغر الأسنان، "واللآلي" جمع لؤلؤة سهلت همزته الروى.

سمي هذا النوع: "تشبيه التسوية"، لأنه سوى فيه بين شيئين في إلحاقهما بشيء واحد- كما تراه واضحا في البيتين. وتشبيه الجمع: هو أن يتعدد المشبه به، دون المشبه، عكس تشبيه التسوية كما تراه في قول البحتري، من قصيدة له يمدح بها عيسى بن إبراهيم: بات نديما لي حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو برد، أو أقاح1 شبه البحتري في البيت الثاني ثغر محبوبته بثلاثة أشياء -اللؤلؤ- والبرد، والأقاحي- فالمشبه شيء واحد، وهو "الثغر" المفهوم من قوله: "يبسم" والمشبه به متعدد -كما ترى- "وأو" هنا بمعنى "الواو" أو هي على أصلها لقصد التنويع، ولما لم يعين واحد بخصوصه كان كأنه مشبه بالثلاثة -والتشبيه هنا ضمني، يدل عليه لفظ "كأن"، وكأنه يقول: كأنما يبسم عن ثغر كالؤلؤ، أو برد، أو أقاح- ومثله قول الشاعر: ذات حسن لو استزادت ... من الحسن لما أصابت مزيدا فهي الشمس بهجة والقضيب اللدن قدا والرئم طرفا وجيدا2.

_ 1 "النديم" في الأصل مؤنسك حال الشراب، والأغيد الناعم البدن مؤنثه غيداء، ويقال: غادة، "والمجدول" المدخل بعضه في بعض يريد: أن ضامر الخاصرتين والبطن، و"والوشاح" جلد عريض مرصع بالجواهر يشد في الوسط بقصد التزين، ويبسم" من باب "ضرب"، وقد ضمن معنى "يكشف" فعده "بعن"، و"المنضد" المنظم"، والبرد" بفتح الراء حب الغمام، "الأقاحي" بفتح الهمزة جمع "أقحوان" بضم فسكون فضم، وهو زهر زكى الرائحة كالورد وأوراقه أشبه بالأسنان. 2 "القضيب" الغصن، و"اللدن" الطري الغض، و"القد" القامة، و"الرئم الغزال "والطرف" العين. "والجيد" العنق.

شبه الشاعر في البيت الثاني هذه المرة بثلاثة أشياء، فالمشبه شيء واحد، وهو ذات الحسن، والمشبه به متعدد. وسمي هذا النوع: تشبيه الجمع" لاجتماع شيئين أو أشياء في مشابهة شيء واحد بها- غير أن التفرقة بين تشبيهي التسوية والجمع اصطلاح لهم، وإلا فيمكن أن يعتبر في كل منهما ما اعتبر في الآخر، ويسمى باسمه.

اختبار

اختبار: 1- عرف التشبيه واصطلاحا، وبين منزلته من الاستعارة، ولماذ لم تعد الاستعارة والتجريد من التشبيه الاصطلاحي؟ وبم احترز عنهما في التعريف؟ مثل لكل ما تقول. 2 قسم التشبيه باعتبار حسية الطرفين وعقليتهما، مع التمثيل، ثم بين من أي قبيل قول الشاعر: كأن عيون النرجس الغض حولنا مداهن در حشوهن عقيق وقولهم: النساء حبائل الشيطان، وجه ما تقول في المثالين. 3 بين المراد بالحسي والعقلي في الطرفين، مع التمثيل، ومن أي قبيل قول الشاعر: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟ 4- قسم التشبيه باعتبار تعدد الطرفين، ومثل لكل قسم مع بيان سبب تسمية كل قسم باسم خاص، ومن أي الأنواع قول الشاعر: بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا

تمرينات منوعة

تمرينات منوعة مدخل ... تمرينات منوعة: 1- إيت بتشبيهات أربعة من إنشائك. أولها: يدرك طرفاه بحاسة البصر، ووجهه بحاسة الشم. ثانيها: يدرك طرفاه بحاسة البصر، ووجهه بحاسة اللمس. ثالثها: يدرك طرفاه ووجهه بحاسة السمع. رابعها يدرك أحد الطرفين بإحدى الحواس، والآخر بالعقل. 2- بين فيم يأتي طرفي التشبيه، والحاسة التي يدرك بها كل منهما: صوت كمزمار داود. نكهة كريح العنبر. كأنهم أعجاز نخل خاوية. دواء كالعلقم، واسع كلمع الأرقم. رضاب كجنى النحل، وجبين كالقمر. شعر كالحرير، وقد كغصن البان. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. عبير كأنفاس الأزهار، ونغم كسجع الأطيار. كأنما الماء في صفاء وقد ... جرى ذائب اللجين1 3- مثل لما يأتي: تشبيه كلا طرفيه عقلي: تشبيه مفروق، وآخر ملفوف. تشبيه جمع. 4- اجعل كلا من الأشياء الآتية مشبها به، ثم بين نوع الحاسبة فيه: الدر. العطر. الشوك- ثم بين من أي أنواع التشبيه قولهم: هو بدر حسنا وشمس علوا، وبحرا علما، وأسد إقداما. 5- كون تشبيهات من الأطراف الآتية: بحيث تأتي مع كل طرف بما يشاكله: الإرادة القوية، الغيث المنهمر، العافية في البدن، شذا المسك، الحديث الممتنع، السف القاطع، يد الجواد، الصديق الوفي. 6- اجعل كل واحد مما يأتي مشبهابه، مع بيان وجه الشبه في كل منها. بلابل

_ 1 "ذائب اللجين" من إضافة الصفة للموصوف أي اللجين الذائب واللجين الفضة.

الأغصان. النهار المشرق. الأم الرءوم. الوابل الهاطل. المرآة الصافية: النسيم العليل. الرعد القاصف. 7- بين فيما يأتي طرفي التشبيه، وحاليهما من حيث الحسية، والعقلية مع بيان نوعه من حيث تعدد الطرفين. علم لا ينفع كدواء لا ينجع. الصديق النافع. والأخل الجاهل، كلاهما كجمر الغضا1 الحق سيف على أهل الباطل. قال الشاعر: فرحت وآمالي كحظى كواصف ... وعزمي يحاكي سعيه في المكارم ألا إن الغضب جمرة توقد في جنب ابن آدم: إنما الدنيا كبيت ... نصجه من عنكبوت وضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه مطيب ابن أزمعت أيهذا الهمام ... نحن نبت الربا وأنت الغمام يكاد يحكيك صوت الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا والبدر لم يغب والشمس لو نطقت ... والأسد ل لم تصد والبحر لو عذبا2 أنت بدر حسنا وشمس علوا ... وحسام حزما وبحر نوالا

_ 1 "الغضا" شجر سريع الالتهاب. 2 "صوب الغيث" انصبابه، و"المحيا" الوجه.

ليل وبدر وغصن ... شعر ووجه وقد خمر ودر وورد ... ريق وثغر وخد لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل وجهه وجه الشيطان، وعمله عمل الملائكة، أنتم الشعار والناس الدثار1. جواب التمرين الأخير: علم لا ينفع إلخ -المشبه "علم لا ينفع" وهو عقلي- والمشبه به "دواء لا ينجع"/ وهو حسي يدرك بحاسة الذوق. الصديق المنافق الخ: المشبه "الصديق المنافق، والأخ الجاهل"، وهو متعدد حسي يدرك بحاسة البصر، والمشبه به "جمر الغضا" وهو مفرد حسي يدرك بحاسة اللمس "وهو من تشبيه التسوية". الحق سيف الخ: المشبه هو "الحق" وهو عقلي، والمشبه به "سيف" وهو حسي يدرك بحاسة البصر. فرحت وآمالي الخ: المشبه: "آمالي"، وهو عقلين والمشبه "حظي" وهو عقلي كذلك". ألا إن الغضب جمرة الخ: المشبه "الغضب" وهو عقلي، والمشبه به "جمهرة" وهو حسي يدرك بحاسة اللمس.

_ 1 "الشعار" الثوب الذي يلي البدن "والدثار" ما يلبس فوق الشعار- يريد: أنتم أقرب الناس مني كالشعار، أما الناس فبعيدون عني كالدثار.

إنما الدنيا كبيت الخ: المشبه "الدنيا" وهو حسي يدرك بحاسة البصر، والمشبه به "بيت العنكبوت"، وهو حسي كسابقه. وضاك شباب الخ: المشبه "رضاك"، وهو عقلي، والمشبه به "شباب" وهو حسي باعتبار متعلقه يدرك بحاسة البصر. أين أزمعت أيهذا الخ: المشبه "نحن -أنت" وهو مفرد حسي، والمشبه به "نبت" الربا -الغمام" وهو حسي وكلاهما يدرك بحاسة البصر. يكاد يحكيك صوب الخ: المشبه "صوب الغيث وما عطفت عليه"، وهو متعدد حسي، والمسبه به، الممدوح المدلول عليه بكاف الخطاب، وهو مفرد حسي وكلاهما يدرك بحاسة البصر، وهو من تشبيه التسوية. أنت بدر حسنا الخ: المشبه "أنت" وهو مفرد حسي، والمشبه به "بدر وما عطف عليه" وهو متعدد حسي، من تشبيه الجمع. ليل وبدر وغصن الخ: المشبه "ليل وما عطف عليه"، وهو متعدد حسي والمشبه به "شعر وما عطف عليه" وكلاهما يدرك بحاسة البصر، وهو تشبيه ملفوف، والبيت الثاني مثله. لعاب الأفاعي الخ: المشبه "لعابه" وهو مفرد حسي، والمسبه به "لعبا الأفاعي وما عطف عليه"، وهو متعد حسين ومن قبيل تشبيه الجمع. وجهه وجه الشيطان الخ: المشبه "وجهه" وهو حسي يدرك بحاسة ابصر والمشبه به "وجه الشيطان" وهو وهمي. أنتم الشعار الخ: المشبه "أنتم -الناس"، وهو مفرد حسي، والمشبه به "الشعار -الدثار" وهو مفرد حسي كذلك وكلاهما يدرك بحاسة البصر.

مبحث وجه الشبه

مبحث وجه الشبه: الوجه هو المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه "كالجمال" في قولك: "سعدي كالبدر" و"كالسرعة" في قولك "الجواد كالريح" -فكل من "الجمال والسرعة" وجه الشبه لأنه المعنى الذي اشترك فيه الطرفان في قصد المتكلم، فليس كل معنى مشترك بين الطرفين وجه الشبه مالم يقصد جعله موضع اشتراك، وإلا فإن الطرفين قد يشتركان في كثير من المعاني كالحيوانية والجسدية، والوجود، والحدوث وغيرها، وهي -مع ذلك- لا يعد واحد منها وجه شبه- اللهم إلا إذا قصد إليه المتكلم واعتبره وجها للشبه بين الطرفين لغرض ما "كالتقريع" مثلا، كأن ترى إنسانا يقسو على حيوان ضعيف، ويحمله مالا يطيق، فتقول له: "هذا مثلك فارحمه" تريدك مثلك في الحيوانية، أو الجسدية، فيكون لهذا الوجه حينئذ مزيد اختصاص، من حيث أنه قصد إليه بالذات لهذا الغرض. والتشبيه باعتبار الوجه تقسيمات عدة: القسم الأول: ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى قسمين -تحقيقي، وتخييلي: فالتحقيقي: ما يكون وجه الشبه فيه قائما بالطرفين حقيقة كقول الشاعر يصف فرسا أدهم بسرعة الجرى: وأدهم كالغراب سواد لون ... يطير مع الرياح ولا جناح فوجه الشبه بين الطرفين "السواد" وهو قائم بالطرفين على وجه الحقيقة، والتخييلي: ما لا يكون الوجه فيه قائما بالطرفين، أو بأحدهما إلا تخيلا، بمعنى: أن يثبته الخيال، يجعله غير المحقق محققا- فمثال ما فيه الوجه

متخيل في أحد الطرفين قولك: له سيرة كنفح الطيب"، و"أخلاق كأريج المسك" فقد شاع وصف كل من السيرة والأخلاق بالطيب مبالغة، حتى تخيل أنهما من ذوات الرائحة الطيبة -فوجه الشبه، وهو "الرائحة الطيبة" متخيل في المشبه في المثالين- من هذا القبيل قول القاضي التنوخي: رب ليل قطعته بصدود ... وفراق ماكان فيه وداع موحس كالثقيل تقذى به العين ... وتأبى حديثه الأسماع وكأن النجوم بين دجاه ... سنن لاح بينهن ابتداع1 والشاهد في البيت الأخير. فإن وجه الشبه فيه بين النجوم والسنن هو: الهيئة الحاصلة من اجتماع أشياء بيض مشرقة، في جوانب شيء مظلم، وهذه الهيئة غير موجودة في المشبه به على وجه التحقيق- ضرورة أن "الإشراق" لكونه حسيا- لا تتصف به السنة لكونها أمرا عقليا- وأن الإظلام لكونه حسيا أيضا لا تتصف به البدعة لأنها أمر عقلي كذلك- فوجه الشبه إذن غير متحقق في المشبه به إلا على طريق التخيل والتوهم، بافتراض غير الحاصل حاصلا. ومثل قول التنوخي قول الشاعر السابق: وأرض كأخلاق الكريم قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا

_ 1 "الدجى" جمع دجية وهي القطعة من الليل، والضمير في "دجاه" الليل وروى: "بين دجاها" فيكون الضمير للنجوم، وإضافة لأدنى ملابسة، "والابتداع" البدعة، وهي الأمر الذي ادعى أنه مأمور شرعا، وهو ليس كذلك- غير أن في عبارة الشاعر قلبا لأنه جعل -في جانب المشبه- النجوم بين الدجى، فكان من الواجب أن يجعل -في جانب المشبه به- السنن بين الابتداع لتصح المقابلة، ولعل النكتة في هذا القلب: الإشارة إلى كثرة السنن في زمانه وأن البدع بالقياس إليها كانت قليلة.

فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة، أو الضيقة، تخيل أنها شيء له سعة فشبهت الأرض الرحبة بها كما في البيت، ومن هذا القبيل قول أبي طارق الرقى: ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق1 يصف الشاعر نفسه بالوفاء، وأنه لا ينسى حبيبه، حتى في أحلك الأوقات، وأشد الأزمات، ووجه الشبه بين الطرفين هو السواد -غير أنه متخيل المشبه به كالذي قبله وذلك لشيوع وصف أوقات المكاره بالسواد توسعا: فقالوا أسود النهار في عيني، وأظلمت الدنيا في وجهي- حتى تخيل أن يوم النوى من الأشياء ذوات اللون الأسود، فشبه الظلام به، كما شبه بفؤاد من لم يعشق تظرفا، فإن الغزل يدعى قسوة من لم يعشق- ولهذا يقولون: ويل للشجى من الخلى، والقلب القاسي يوصف بالسواد توسعا. ومنه أيضا قول الشاعر: يا من له شعر كحظئ أسود ... جسمي نحيل من فراقك أصفر فوجه الشبه بين الشعر والحظ هو السواد، وليس موجودا في المشبه به حقيقة بل تخيلا كما ترى- فإذا قيل في البيت المذكور: "يا من له حظ كحظي أسود" كان مثالا لما يكون فيه الوجه متخيلا في الطرفين. هذا: وقد تقدم أن تشبيه المحسوس بالمعقول لا يجوز إلا إذا تخيلنا المعقول محسوسا، وافترضناه أصلا في وجه الشبه، يقاس به المشبه مبالغة، وإذن فلا بد هنا أن نتخيل غير المتلون أصلا للمتلون الحقيقي، فنتخيل "السنن" في بيت التنوخي أصلا في البياض، والبدع أصلا في السواد حتى يصح القياس- كما نتخيل في بيت أبي طارق كلا من "يوم النوى، وفؤاد من لم يعشق، أصلا في السواد كذلك.

_ 1 في هذا البيت تشبيه جمع لاتحاد المشبه، وتعدد المشبه به.

أثر وجوب اشتراك الطرفين في وجه الشبه: مما تقدم في تعريف وجه الشبه، وتقسيمه إلى تحقيقي، وتخييلي: يتبين أن لابد من وجوده في الطرفين -تحقيقا، أو تخيلا- فإذا لم يوجد في الطرفين على إحدى هاتين الصفتين لم يصح جعله وجه شبه- وإذن لا يصح أن يكون وجه الشبه في قولهم: "النحو في الكلام كالملح في الطعام": كون القليل مصلحا، والكثير مفسدا، لأن "المشبه، وهو "النحو، لا يشترك مع المشبه به المذكور في هذا المعنى أصلا إذ لا يحتمل النحو قلة ولا كثرة بل هو عبارة عن أن تراعي قواعده وأحكامه: مع رفع الفاعل ونصب المفعول، وغير ذلك فإن تحقق ذلك في الكلام كان صالحا، وإلا كان فاسدا بخلاف المشبه به فإنه يحتمل القلة والكثرة، والقليل منه مصلح، والكثير مفسد -وحينئذ لا يصح جعل المعنى المذكور وجه شبه، لعدم وجوده في كلا الطرفين- لا تحقيقا، ولا تخيلا. أما ما يصلح وجه شبه بينهم فهو: الصلاح إذا استعملا، والفساد إذا أهملا وهذا المعنى -لا شك- موجود في الطرفين على السواء. تنبيه: قد يكون وجه الشبه في أحد الطرفين حقيقيا، وفي الآخر ادعائيا كما يقال في الجبان: "هو أسد" وفي البخيل: "هو حاتم" -فوجه الشبه، بين الطرفين في الأول "الشجاعة"، وفي الثاني "الجود"، وليس من شك، أن الشجاعة في الجبان والجود في البخيل كلاهما إدعائي لا حقيقي، فمثل هذا الكلام -في ظاهره- غير صحيح لأن وجه الشبه -كما قلنا- لابد أن يكون معنى مشتركا بين الطرفين. والطرفان في المثال الأول لم يشتركا في معنى "الشجاعة" لانعدامه في الجبان- كما لم يشتركا في معنى "الجود" في المثال الثاني لانعدامه في البخيل، فلا مندوحة إذا من توجيه يصح به مثل هذا التشبيه.

وتوجيه ذلك: أن ينزل التضاد به الطرفين المتضادين منزلة التناسب بينهما، وأن يبرز الخسيس في صورة الشريف، فيجعل "الجبن" مثلا بمنزلة الشجاعة "والبخل" وبهذا التأويل صح أن يكون الوجه في الأول "الشجاعةط وفي الثاني "الجود" ووضح حينئذ اشتراك الطرفين في الوجه -ويسمى هذا النوع امن التشبيه: "تشبيه التضاد". غير أنه: لابد -لتنزيل التضاد منزلة التناسب- من غرض صحيح يدعو إليه، وإلا كان الكلام ضربا من الهذيان، وذلك الغرض هو: التهكم والسخرية، أو التظرف والتمليح1 وبغير ذلك لا يتم التنزيل المذكور، ولا يعتبر. أم ما قيل: من أن وجه الشبه في نحو هذين المثالين "هو التضاد" أي كون كل منهم مضادا للآخر، لأنه المعنى المشترك بين الطرفين، فهو قول لا يعدو صماخ الأذن، إذ من المعلوم بداهة: أن كلا من المتضادين مضاد للآخر ومقابل له -كما في قولنا: السواد كالبياض في التضاد، وكقولنا: العدم كالوجود في التقابل.. وهكذا، ومثل هذا التشبيه من لغو القول، ينبغي أن يبرأ منه كلام البليغ. على أنه لو كان الأمر كذلك لم يكن للتهكم، أو للتظرف معنى إذ لا تهكم أو تظرف في أن يشبه أحد المتضادين بالآخر في معنى التضاد لأن هذا لا يعدو الواقع الملموس، وإنما يكون التهكم أو التظرف، حيث يدعى للجبان "شجاعة" والبخيل "جود" بعد تنزيل التضاد بين الطرفين منزلة التناسب -كما رأيت أهـ.

_ 1 يفرق بينهما بحسب القرائن فإن كان المتكلم يهدف إلى السخرية والاستهزاء فتهكم. وإن كان متظرفا فتملح.

اختبار وتمرين

اختبار وتمرين مدخل ... اختبار وتمرين: 1- عرف وجه الشبه، وهل كل معنى قائم بالطرفين يصح جعله موضع اشتراك علل لما تقول، مع التمثيل. 2- افرق بين التشبيه التحقيقي، واتلتخييلي، ومثل لكل، وهل من قبيل التشبيه التخييلي قولهم: النحو في الكلام كالمحل في الطعام، في أن القليل مصلح، والكثير مفسد؟ ولماذ؟ 3- بين وجه الشبه، ونوع قيامه بكل من الطرفين. من حيث تحققه، أو تخيله، أو إدعاؤه فيما يأتي بعد: 1 ثوب المخلص كقلبه 2 باقل كسحبان 3 الحياة كسحابة صيف 4 فانهض بنار إلى فحم كأنهما في العين ظلم وانصاف قد اتفقا جواب التمرين: 1- وجه الشبه البياض، وهو في المشبه حقيقي، وفي المشبه به تخييلي فإن القلوب ليست من ذوات الألوان، وجعل القلب مشبها به لاعتباره أصلا في البياض مبالغة. 2- وجه الشبه الفصاحة، وهو في المشبه إدعائي، وفي المشبه به حقيقي بتنزيل التضاد بين الطرفين منزلة التناسب، وجعل العي بمثابة الفصاحة تهكما أو تظرفا. 3- وجه الشبه عدم الثبات وهو قائم بالطرفين حقيقة، فالتشبيه إذا حقيقي. 4- وجه الشبه هيئة اجتماع بياض بسواد. إذ قد شبه الشاعر النار والفحم مجتمعين، بالعدل والظلم مجتمعين كذلك في الهيئة المذكورة. وهي قائمة بالمشبه حقيقة، وبالمشبه به تخيلا، بعد اعتباره أصلا في هذه الهيئة تقاس به مبالغة، فهو تشبيه تخييلي.

التقسيم الثاني

التقسيم الثاني: ينقسم التشبيه باعتبار وحدة الوجه، وتعدده ثلاثة أقسام: الأول: ما يكون وجه الشبه فيه شيئا واحدا، أي ما يعد في العرف واحدا، وهو مالا تركب فيه، ولا تعدد "كالحمرة" في قولك: خده كالورد "وكالخشونة" في قولك: له بشرة كجلد القنفذ، وكالهداية، في قولك: العلماء العاملون كالنجوم، فوجه الشبه في هذه المثل شيء واحد -كما رأيت. الثاني: ما يكون الوجه فيه منزلا الواحد، وهو ما يكون مركبا من متعدد تركيبا اعتباريا: بأن يقصد إلى عدة أمور لشيئين، فتنزع منها هيئة تعمهما، بحيث لا يصلح واحد منها على انفراده وجه شبه، بحيث لو سقط أحدها لم يتم التشبيه -كما في جميع الهيئات المتخيلة على نحو ما في بيت بشار بن برد: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه فإن وجه الشبه فيه -مجموع الهيئة المتنزعة من تساقط أجرام مشرقة، مستطيلة الأشكال، متناثرة في جوانب شيء مظلم -ولا يصح في الذوق البلاغي جعل واحد من هذه الأشياء وجه شبه على حدة، لأن القصد- كما قلنا- إلى تشبيه الطرفين في الهيئة المجتمعة -كما لا يصح إسقاط واحد منها- في اعتبار المتكلم. لصيرورة الهيئة وحدة متضامة الأجزاء- ومثل بيت بشار قول الآخر: ولاحت الشمس تحكى عند م طلعها ... مرآة تبر بدت في كف مرتعش1

_ 1 يريد أن يشبه الشمس عند البزوغ بمرآة من تبر وفي يدر عشاء ووجه الشبههو الهيئة الحاصلة من الاستدارة والحركة السريعة المتصلة مع تموج الإشراق غير أن الطرفين هنا مفردان: الشمس والمرآة" مع مراعاة القيود المذكورة إذ أن الهيئة المذكورة لا تتحقق بدون هذه القيود وتقييد الطرفين لا يخرجهما عن أفرادهما، بخلاف بيت بشار فإن الطرفين فيه مركبان فالمشبه مركب من النقع مثارا فوق الرءوس ومن السيوف المتلاحمة اللامعة في أثنائه- والمشبه به مركب من الليل ومن النجوم المتهاوية في رواية المختلف.

وإنما نزل هذا القسم منزلة الواحد، لأن الوجه فيه مركب من أشياء تضامت وتلاصقت حتى صارت كالشيءالواحد لا يقبل التجزئة، وإنما لم يكن واحدا حقيقة لتركبه من جملة أمور، ولا تركب في الواحد. وإنما وصف يكون تركيبه اعتباريا ليخرج ما كان مركبا من متعدد تركيبا حقيقيا، كالحقيقة الإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية في مثل قولك: محمد كعلي في "الإنسانية" فإن هذا الوجه من قبيل الواحد، لا من قبيل المنزل منزلته، لأنه مركب من جزءين صارا بهذا التركيب شيئا واحدا في الخارج، قائما بذاته- بخلاف الوجه المركب تركيبا اعتباريا كما في نحو بيت "بشار" فإن الأشياء التي تكونت الوجه المركب تركيبا اعتباريا كما في نحو بيت "بشار" فإن الأشياء التي تكونت منها الهيئة السباقة لا يلتئم من مجموعها حقيقة واحدة قائمة بذاتها، وإنما هي امرأة اعتباري رعاه المتكلم من اجتماع أمور انتزعها العقل من الطرفين. ولو أننا اعتبرن المركب الحقيقي في موضوع المسألة لكان أمثال قولك: "محمد كعلي" من كل تشبيه إنسان بآخر: من قبيل تشبيه مركب بمثله إذ أن كلا من الطرفين مركب من حيوانية، وناطقية، ولا قائل بذلك. الثالث: ما يكون وجه الشبه فيه متعدد أي مكونا من عدة أمور، جعل كل منها وجه شبه على حدة، كما في قولك: هذه الفاكهة كالتي أكلناها أمس في الطعم، واللون والرائحة- وكما في قولك محمد كأخيه في الطول والرشاقة والوسامة- ومثله في الكرم والحلم والذكاء- فوجه الشبه في هذه المثل أمور متعددة، كل منها يصلح أن يكون وجه شبه على انفراده إذ ليس القصد إلى تشبيه الطرفين في الهيئة المركبة من هذه الأمور، فليس لهذه الأمور مجتمعة هيئة يقصد إليها، بل الغرض: التشبيه في كل واحد منها. تنبيهان: الأول: مما تقدم يعلم أن الفرق بين الوجه المركب من عدة أشياء، والمتعدد: هو أن المركب منظور فيه إلى مجموع الأشياء، والهيئة المركبة منها-

بحيث صارت وحدة لا تتجزأ -وبحيث لو حذف أحد هذه الأشياء اختل التشبيه- كما في بيت "بشار" فإن وجه الشبه -كما علمت- مجموع الأمور السابقة، وهي سقوط أجرام مشرقة، مستطيلة الأشكال، متناثرة في جوانب شيء مظلم، فلو حذف من هذه المجموعة واحد منها "كالأشراق" أو "الاستطالة" لم يتم التشبيه بني الطرفين -ذلك: أنالغرض: تشبيه الطرفين في هذه الهيئة التركيبة المتضامة الأجزاء. أما الوجه المتعدد فإن المنظور فيه إلى أمور متعددة، بقصد جعل كل منها على انفراده وجه شبه -عكس الأول- بحيث لو حذف أحدها، أو قهم، أو أخر لم يختل التشبيه، ولم يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيده قبل الحذف أو قبل التقديم والتأخير- كما في المثال السابق: في تشبيه فاكهة بأخرى في الطعم، والرائحة واللون فإنك لو حذفت "اللون" مثلا أو الرائحة أو الطعم وقدمت أحدها على الآخر لم يختل التبشبيه إذ ليس الغرض: أن يجعل وجه الشبه مجموع هذه الأمور فليس لمجموعها -كما قلنا- هيئة خاصة، يقصد إليها- بل المراد: جعل كل واحد منها وجه شبه، من غير أن يتقيد أحدهما بالآخر. ويتبين لك الفرق بينهما جليا في قول الشاعر: كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت1 شبه الشاعر حال من ظهر له شيء هو في غاية الحاجة إليه، وقد علق به رجاء÷ ثم ما لبث أن فوجئ بفقدانه، بذهابه غلى حيث لا عودة له، ولا رجاء منه -شبه ذلك بحال قوم عطاش. عرضت لهم غمامة، هم أشد ما يكونون حاجة إليها، وما أن رجوها أن تمطرهم حتى انقشعت عنهم، وذهبت، وتركتهم

_ 1 "كما أبرقت" الكاف للتشبيه "وما" مصدرية، "وأبرقت بمعنى ظهرت وعرضت -وفي الأساس: أبرقت لي فلانة إذا تحسنت وازينت، فهو من باب الحذف والاتصال، والأصل: أبرقت لقوم، "وأقشعت" بمعنى أقلعت، وذهبت.

في حيرة اليائس- ووجه الشبه: الهيئة الحاصلة من الشيء يكون أوله مطمعا مغريا، متصلا بنهاية مخيبة مؤيسة. فأنت ترى أن الوجه منتزع من أمرين متصلين: ابتداء مطمع، وانتهاء مؤيس والشطر الأول من البيت المذكور إنما تضمن الأمر الأول، إذ معناه: أن الغمامة ظهرت لقوم يرجون الماء لشدة حاجتهم إليه، فقد أطمعتهم أول الأمر حين عرضت لهم -أما الأمر الثاني، وهو الانتهاء المؤيس فقد تكفل به الشطر الثاني، إذ معناه: أن الغمامة خذلتهم، وتولت عنهم حين التمسوها، فكانت الحال نهاية مؤيسة. إذا علمت هذا -علمت أنه لا يتأتى انتزاع وجه الشبه من الشطر الأول فقط لأن الوجه -كما عرفت- مركب من الأمرين معا، فلابد أن ينزع من الشطرين جميعا، ولو اقتصر فيه على الشطر الأول لاختل التشبيه لعدم وفاء هذا الشطر بالمعنى المراد. وهذا بخلاف التشبيه المتعدد كما في المثال السابق في تشبيه فاكهة بأخرى فإن القصة فيه -كما عرفت- إلى الأشياء الثلاثة من الطعم، والرائحة، واللون، بحيث لو ترك أحدها لم يتغير حال الباقي في إفادة معناه. الثاني: اعلم أنه إذا كان وجه الشبه مركبا وجب أن يكون الطرفان مركبين أو مقيدين، أو أحدهما مركبا، والآخر مقيدا، ولو تقريرا- ذلك أن وجه الشبه قائم بالطرفين، متنزع منهما. وليس معقولا أن تقوم هيئة مركبة من عدة أمور بشيء واحد، أو أن تنتزع منه، فوجه الشبه في بيت بشار مثلا هو الهيئة المركبة من الأمور السابق ذكرها. وتلك الهيئة لا يمكن أن تقوم بشيء واحد، ولا أن تنتزع منه -كذلك وجه الشبه في قول الشاعر: إني وتزييني بمدحي معشرا ... كمعلق درا على خنزير هو صورة من يضع الشيء في موضع لا يصلح له، وليس له أهل، وهذا المعنى التركيبي لا يمكن أن يقوم بأحد الطرفين مجردا عما لوحظ فيه من قيد- كذلك وجه

الشبه في تشبيه الشمس بالمرآة في يد شلاء. هو الهيئة السابق ذكرها- وأحد الطرفين وهو "الشمس"- وإن أفرد لفظا- مقيد معنى بجملة قيود، هي الإشراق المتموج، والحركة السريعة المتصلة، والاستدارة- ولهذا صح أن يكون منزعا للهيئة المذكورة. اختبار: 1- فرق بين الوجه المركب "والمتعدد" ووضح ذلك بالأمثلة توضيحا تاما، واذكر لم كان المركب منزلا منزلة الواحد، ولم يكن واحدا حقيقة. 2- قالوا: إذا كان وجه الشبه مركبا فالطرفان- إما مركبان: أو مقيدان أو مختلفان. ولا يصح أن يكون كلاهما، أو أحدهما مفردا صرفا- علل لهذه القاعدة موضحا بالمثال. 3- أيت بتشبيهات أربعة فيها الوجه مركب -إما من طرفين مركبين كذلك، أو مفردين مقيدين، أو أحدهما أو أحدهما مركب، والآخر مقيد. 4- علمت أن التشبيه في بيت بشار من قبيل المركب، فهل يصح تحويله إلى تشبيه متعدد، فيشبه النقع المثار بالليل، وتشبه السيوف اللامعة بالكواكب- علل لما تقول: 5- علام استشهدوا بقول الشاعر: كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت

التقسيم الثالث

التقسيم الثالث: ينقسم التشبيه باعتبار حسية الوج، وعقليته إلى ثلاثة أقسام: 1- ما يكون وجه الشبه فيه حسيا، أي مدركا بالحس الظاهر- مفردا كان، أو مركبا، أو متعددا. فالمفرد الحسي "كالأشراق" في قولك: له وجه كالقمر" و"كالملاسة"

في قولك: "له خد كصفحة المرمر"، و"كالطيب" في قولك: "له عرف كريح العنبر"- إلىآخر ما تقدم من الأمثلة في الأمور الحسية. والمركب الحسي: يكون طرفاه مركبين، أو مفردين مقيدين، أو مختلفين. فالمركب الحسي ذو الطرفين المركبين: كما في بيت بشار: كأن مثار النقع الخ. فإن وجه الشبه فيه -على ما سبق- هو الهيئة الحاصلة من تساقط أجرام مشرقة، مستطيلة، مناسبة المقادير متناثرة في جوانب شيء مظلم؟ وهذه الهيئة حسية، تدرك أجزاؤها بحاسة البصر. والطرفان مركبان -كما ترى- إذ لم يقصد: تشبيه النقع بالليل، أو السيوف بالكواكب، بل المقصود: تشبيه الهيئة بالهيئة- كما سبق بيانه- وكما في بيت أبي طارق: وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق فإن وجه الشبه فيه: الهيئة الحاصلة من أجرام متأنقة، مستديرة صغار المقادير في مرأى العين متناثرة على سطح جسم أزرق. صافي الزرقة- وهذه الهيئة أيضا حسية، تدرك أجزاؤها بحاسة البصر- والطرفان مركبان إذ المقصود: تشبيه هيئة النجوم اللوامع في أديم السماء: بهيئة الدرر المنثورة على بساط أزرق- وليس الغرض كما علمت: تشبيه الدرر بالنجوم، أو السماء بالبساط الأزرق. والمركب الحسي ذو الطرفين المقيدين كما في قول الشاعر: وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا1

_ 1 "الثريا" اسم المجموعة النجوم متقاربة على وضع خاص، "الملاحية" بضم الميم وتخفيف اللام وقد تشدد كما هنا. عنب أبيض في حبه طول، ومعنى "نور" تفتح نوره، والمراد: أدرك نضجه. وإضافة عنقود إلى ملاحية بيانية، وقوله كما ترى يريد به، أن التشبيه حسب مرأى العين، لا بحسب الواقع فالكاف فيه بمعنى "علي".

فإن وجه الشبه فيه: هيئة اجتماع صور بيض، مستديرة، صغار المقادير -في مرأى العين، على وضع خاص1 وهذه الهيئة حسية- والطرفان هنا: "الثريا والعنقود" مفردان، روعى في كل منهما قيد خاص- ففي الأول روعي كونه في وقت الصبح، وروعي في الثاني كونه عنقود ملاحية، حين تفتح نوره، أي أدرك ونضج. والمركب الحسي ذو الطرفين المختلفين -أفرادا وتركيبا- كما في قول الصنوبري: وكأن محمر الشقيق إذ تصوب أو تصعد ... أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد فإن وجه الشبه فيه هيئة الأجرام الحمر، المنشورة على رءوس أجرام مستطيلة خضر، وهيه الهيئة حسية، تدرك أجزاؤها بحاسة البصر -والمشبه- كما ترى- مفرد لأنه اسم لمسمى واحد هو "الشقيق" لكن روعي فيه قيوده، من الاحمرار، والتوصب، والتصعد- والمشبه به مركب لأنه مجموع أمرين- الأعلام الياقوتية والرماح الزبرجدية. فالقصد فيه هيئة اجتماع هذين الأمرين- وكما في عكسه من قول أبي تمام: يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر فوجه الشبه هنا: هيئة اختلاط شيء أسود بشيء أبيض مشرق، وهذا الوجه مما يدرك بحاسة البصر -والمشبه مركب من النهار المشمس، وزهر الربا إذ القصد

_ 1 أي لاهي منضمة شديدة الانضمام، ولاهي بعيدة شديدة البعد.

فيه إلى هيئة اجتماعهما -والمشبه به مفرد، وهو "الليل" المقيد بالوصف المذكور، إذ التقدير، فكأنما هو ليل مقمر. المتعدد الحسي: هو ما تقدم في تشبيه فاكهة بأخرى، في الطعم والرائحة، واللون، فوجه الشبه كل واحد من هذه الثلاثة، وجميعها حسي، يدرك الأول منها بحاسة الذوق، والثاني بحاسة الشم، والثالث بحاسة البصر. لكن قد يقال: أن وجه الشبه هو المعنى الذي يشترك فيه الطرفان فينبغي إذا أن يكون كليا ليتأتى فيه معنى الاشتراك- والحسي هو المدرك بإحدى الحواس، فلابد من وجوده في جسم معين خارجا، حتى يتأنى إداركه بالحاسة، "كالحمرة" القائمة بالخد أو الورد، ومثل هذا لا يكون إلا جزئيا والجزئي لا يتأنى فيه الاشتراك إذ يمتنع أن يوجد بعينه في محلين، وإذا فلا يصح أن يكون وجه الشبه حسيا. ويجاب: بأن لا نزاع في أن وجه الشبه لا يكون إلا كليا ضرورة اشتراك الطرفين فيه، فوجه الشبه في نوح قولك: "خده كالورد" مطلق الحمرة وهو معنى كلي لا يدركه إلا العقل، ولا مدخل للحواس فيه- غير أن الموصف بالحسية إنما هو جزئيات هذا الكلي، كحمرة خد معين، أو حمرة ورد معين. وحينئذ فاطلاق وصف الحسية على وجه الشبه فيه نوع تسامح، من اطلاق ما للجزئي على الكلي. 2- ما يكون وجه الشبه فيه عقليا، أي مدركا بالعقل- واحدا كان، أو مركبا أو متعددا- وهو أعم من التشبيه بالوجه الحسي- على ما سيأتي. فالوجه الواحد العقلي طرفاه: إما عقليان، أو حسيان، أو مختلفان. فالواحد العقلي طرفاه: إما عقليان، أو حسيان، أو مختلفان. فالواحد العقلي ذو الطرفين العقليين "كالعراء عن الفائدة" في تشبيه وجود الشيء العديم النفع بعدمه "وكعظم الفائدة" في تشبيه العلم بالحياة.

والواحد العقلي ذو الطرفين الحسيين، "كالهداية" في قول النبي صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم: بأيهم اقتديتم اهتديتم" و"كالإقدام" في تشبيه الرجل كالأسد، فالطرفان في المثالين حسيان. والواحد العقلي ذو الطرفين المختلفين حسا وعقلا "كالهداية" في تشبيه العلم بالنور، فالمشبه عقلي، والمشبه به حسي -وكاستطابة النفس" في تشبيه العطر بالخلق الكريم، فالمشبه حسي يدرك بحاسة الشم، والمشبه به عقلي- والوجه في جميع ما ذكر عقلي- كما ترى. والمركب العقلي كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} شبه حال اليهود المتنزعة من حملهم التوراة، بمعنى تكليفهم العمل بها، وكون المحمول مستودع العلم النافع لهم، وعدم حملهم لها، بمعنىعدم العمل بموجبها، والانتفاع بما فيها، مع تحملهم ما طلب إليهم، مما يثقل عليهم، ويشق على نفوسهم -شبه هذه الحال: بحال الحمار المتنزعة من حمله أوعية العلوم، ويشق على نفوسهم -شبه هذه الحال: بحال الحمار المتنزعة من حمله أوعية العلوم، وعدم انتفاعه بما يحمل، مع معاناته مشاق الحمل- ووجه الشبه بين الحالين "صورة الحرمان من الانتفاع بأبلغ نافع، مع معاناة الكد في استصحابه"- وهذه الهيئة عقلية، انتزعت من عدة أمور عقلية كذلك- غير أن الحمل في جانب "الحمار" حسي لأن المراد به: الحمل علىالظهر -بخلافه- في جانب "اليهود" فغن المراد به التكليف والطلب وكون بعض الأمور المتنزع منها حسيا لا يؤثر في عقلية الوجه- ومنه قول الشاعر: والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار1 شبه حال من أصابته شدة، فالتجأ إلى عمرو، طمعا في الاحتماء به، فإذا عمرو أشد خطرا مما وقع فيه -شبه هذه الحال بحال من لدغته الرمضاء، ففزع

_ 1 "الرمضاء" الأرض ذات الحرارة الشديدة من الرمض بالتحريك وهو شدة وقع أشعة الشمس على الرمل.

إلى ما هو أشد لذعة، وأنكى ألما، وهو النار -ووجه الشبه: الصورة المتزعة من الفرار من الضار والالتجاء إلى ما هو أضر عنه، طمعا في الانتفاع به، وهما -كذلك -أمران- عقليان. والمتعدد العقلي: كما في تشبيه طائر بالغراب في حدة النظر، وكمال الحذر، واخفاء السفاد1، فوجه الشبه كل واحد من هذه الثلاثة، وجميعها مما لا يدرك بغير العقل- وكما في تشبيه إنسان بآخر في شجاعته وحلمه، وإيمانه. 3- ما يكون وجه الشبه فيه مختلفا، بعضه حسي، وبعضه عقلي- كما في وجه الشبه المتعدد، كأن تشبه رجلا بآخر في طوله وجسامته، وحلمه، وشهامته، فوجه الشبه كل واحد من هذه الأربعة -غير أن الأولين منها حسيان، والآخرين عقليان- ومثله ما تراه في تشبيه إنسان مشرق الوجه بالشمس في حسن الطلعة، ونباهة الشأن، فالأول منهما حين والآخر عقلي. تنبيهان: الأول: اعلم: أن الوجه المختلف -حسا وعقلا- كما يكون في المتعدد كما مثلنا- يكون في المركب المنزل منزلة الواحد، باعتبار الأجزاء التي تركب منها كما في تشبيه الحسناء الوضيعة الأصل: بخضراء الدمن2 في حسن المنظر، مع سوء المخبر، فإن وجه الشبه مجموع الأمرين المذكورين وأحدهما حسي، والآخر عقلي- غير أن علماء البيان يعتبرون المركب من حسي وعقلي من قبيل العقلي، بتغليب العقل على الحس لاتساع أفقه، إذ يدرك المحسوسات والمعقولات- بخلاف الحواس فلا تدرك غير ما يقع تحت الحس- فالمركب حينئذ إما حسي فقط، أو عقلي فقط كما هو

_ 1 "السفاد" بكسر العين نزو الطائر الذكر على أنثاه. 2 هي شجرة تنبت في معاطن الإبل والدواب تكون ناضرة بهيجة ولكن لا ثمر فيها.

الشأن في الوجه المفرد -أما الوجه المتعدد ففيه الأنواع الثلاثة كما عرفت. اتلثاني: مما تقدم من الأمثلة تعلم: أن الوجه متى كان حسيا- مفردا كان أو مركبا، أو متعددا، أو كان بعضه حسيا كما في المتعدد- وجب أن يكون الطرفان حسيين أيضا- وذلك لسببين: أحدهما: أنه لابد من قيام وجه الشبه بالطرفين تحقيقا لمعنى التشارك بينهما والحسي لا يقوم بغير حسي: "فالبياضط مثلا مما يدرك بحاسة البصر فلو جعل مشتركا بين شيئين وجب أن يكونا من المبصريات، حتى يتأتى قيام البياض بهما- كذلك "الملاسة" مما يدرك بحاسة اللمس، فلو جعلت موضع اشتراك بين شيئين. وجب أن يكون من الملموسات، حتى يتأتى قيام الملاسة بهما -وهكذا يقال في سائر المحسات. ثانيهما: أنه لابد من إدراك الوجه في الطرفين ليتحقق لنا التشارك فيه، والحواس لا تدرك غير المحسات- فحاسة البصر لا تدرك إلا ما كان مبصرا، وحاسة اللمس لا تدرك إلا ما كان ملموسا ... فحاسة البصر لا تدرك إلا ما كان مبصرا، وحاسة اللمس لا تدرك إلا ما كان ملموسا ... وهكذا، ومحال أن تدرك هذه الحواس شيئا من المعقولات، فلا تبصر العين معنى "الكرم"، ولا تلمس اليد معنى الشجاعة، ولا تشم الأنف معنى الحلم، وما إلى ذلك من الأمور العقلية. كذلك الحال إذا كان بعض الوجه حسيا، وبعضه عقليا كما في الوجه المتعدد -فلابد من قيام كل واحد من ذلك المتعدد بالطرفين، وإدراكه فيهما -كما قلنا- ليتحقق معنى التشارك، ويمتنع بداهة قيام الحسي بالعقلي، أو إدراكه فيه- كما بينا. أما الوجه العقلي، فيصح على ما تقدم- أن يكون طرفاه عقليين، أو حسيين أومختلفين- فالعقليان كأن تشبه وجود الجاهل بعدمه في الخلو من الفائدة- والحسيان كأن تشبه قوي البأس بالجبل في الثبات- والمختلفان كأن تشبه السيرة

الحميدة بأريج المسك في ارتياح النفس لهما -أو العكس كأن تشبه أريج المسك بالسيرة الحميدة في المعنى المذكور- فارطفان في هذه المثل ما بين عقليين أو حسيين أو مختلفين، ووجه الشبه في الجميع عقلي- كما رأيت. وإنما صح هذا التعميم في الوجه العقلي لجواز قيام المعقول بالمحسوس، كقيام معنى الفصاحة، "بسحبان"، وكقيام معنى الشاعرية "بحسان" -ولجواز أن يدرك العقل أمرا معقولا في شيء محسوس لادراك معنى "الشجاعة" في عنترة، وكادراك معنى "البخل" في مادر ومعنى "العي" في باقل- ومن هنا قالوا: أن التشبيه بالوجه العقلي أعم من التشبيه بالوجه الحسي- وقد عرفت وجهه. صورة من بديع الوجه المركب الحسي: الوجه المركب الحسي صور بديعة -وذلك: أنه قد ينتزع الوجه المذكور من هيئة حركة الجسم، أو من هيئة سكونه- والأول ضربان: 1- أن يراعي مع الحركة شيء من أوصاف الجسم كالشكل واللون بحيث ينتزع الوجه من الأمرين جميعا: حركة الجسم، وشيء من أوصافه كما في قول الشاعر: "والشمس كالمرآة في كف الأشل". فإن وجه الشبه -على ما سبق- هو الهيئة المنتزعة من الحركة المتصلة مع الاستدارة، والإشراق المتموج المضطرب، بسبب حركة الجسم المذكورة فأنت تراه قد اعتبر مع حركة الجسم شيئا من أوصافه كاستدراته، وأنه ذو شعاع براق متموج، حتى أحدث هذا المنظر العجيب في مرأى العين: من انبساط تارة، وانقبضا أخرى- وأنك لو أنعمت النظر في الشمس لتبينت جرمه مؤديا هذه الهيئة، كما

تؤديها المرآة في كف الأشل1- ومثله قول الوزير المهلبي: والشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب كأنها بوتقه أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب2 فإن البوتقة إذا أحميت، وذاب فيها الذهب تشكل بشكلها في الاستدارة، وأخذ يتحرك بجملته تلك الحركة العجيبة، فيخيل إليك: أنه ينبسط حتى يوشك أن يفيض من جوانبها لما في طبعه من النعومة، ثم تراه كأنه يعود إلى الانقباض لما بين أجزائه من التماسك والاتصال، ولو نظرت إلى الشمس عند مطلعها لرأيت جرمها على هيئة ما يشاهد في البوتقة المذاب فيها لاذهب- فقد اعتبر هنا كذلك مع حركة الجسم المذكورة وصفه من حيث استدارته، وإشراقه، وقد انتزع الوجه من مجموع الأمرين كالذي قبله. 2- ألايراعي مع الحركة شيء من أوصاف الجسم، فيكون الوجه متتزعا من حركة الجسم وحدها، وولابد لهذاالضرب من وجود حركات كثيرة للجسم غلى جهات مختلفة3 ليتحقق معنى التركيب في الوجه كما في قول ابن المعتز يصف البرق:

_ 1 غير أننا نعلم أن الحركة السريعة في الشمس أمر خيالي لأنا نقطع بأن حركة الشمس ليست على ما نتخيل، وأولا هذا التخيل لرؤيت كالثابتة -بخلاف الحال في المرآة في كفي الأشل فإن الحركة المتصلة فيها أمر حقيقي. 2 "البوتقة" وعاء خاص يذاب فيه الذهب أو الفضة. 3 خرج بذلك حركة الرحى والسهم فلا تركيب فيها لأنها في اتجاه واحد -على أن إذا روعي مع هذه الحركة وصف الجسم من حيث استدارته واستقامته، وانتزع الوجه من المجموع كان مركبا.

وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا1 فالمشبه "البرق"، والمشبه به "المصحف"، ووجه الشبه: هيئة مجموع الحركات المختلفة باختلاف الجهات- غير أن هذه الهيئة تحقيقية في المصحف، تخييلية في البرق، إذ لا انفتاح ولا انطباق فيه حقيقة، وإنما هو ظهور يعقبه خفاء، والعكس- إلا أنه يحكي في هذه الحالة: المصحف يفتحه القارئ تارة، ويطبقه أخرى، فهو -كما ترى- لم يعتبر في هذه الهيئة المنتزعة شيئا من أوصاف الجسم. وإنما راعى فقط تلك الحركات المختلفة النواحي عند انفتاح المصحف وانطباقه، وعند ظهور البرق واختفائه- ومثله تمام قول الشاعر: والسحب تلعب بالبروق كأنها ... قار على عجل يقلب مصحفا هذا -وكلما كان التفاوت في الجهات التي تتحرك أبعاض الجسم إليها أشد كان التركيب في هيئة المتحرك أكثر. ومن لطيف ذلك قول الأعشى يصف السفين في البحر، تتقاذفها الأمواج، فتضطرب وتتحرك إلى جهات مختلفة: تقص السفين بجانبيه كما ... يثب الرباح خلاله كرع2 شبه الشاعر: هيئة حركات السفينة حين تتقاذفها الأمواج، فترتفع بها تارة، وتنخفض أخرى، وتضطرب في جهات مختلفة -بهيئة حركات الفصيل في وثباته، فإن له حينئذ حركات متفاوتة، تصير لها أعضاؤه في جهات مختلفة من تسفل وتصعد، على غير نظام وترتيب، وفي سرعة خاطفة، بحيث لا يتبينه الطرف مرتفعا حتى يراه

_ 1 "قار" بحذف الهمزة "والفاء" في قوله "فانطباقا" لتعليل التشبيه المستفاد من "كأن" ولبيان وجه الشبه بين البرق والمصحف. 2 "تقص" أي تثب في وزنه ومعناه و"الرباح" بضم الراء وتخفيف الباء الموحدة وفيها تشديد كرمان ومعناه الناقة، و"الكرع" بالفتح ماء السماء.

متسفلا -ووجه الشبه مجموع تلك الحركات المختلفة، والشاعر -كما تراه- لم يراع في هذه الهيئة شيئا من أوصاف الجسم، وإنما نظر فقط إلى هيئة تلك الحركات في اختلافها وتفاوتها. ومن اللطيف في هذا المعنى أيضا قول الشاعر يصف روضة: حفت بسرو كالقيان تلحفت ... خضر الحرير على قوام معتدل فكأنهما والريح تخطر بينها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل1 تخيل الشاعر هذا النبات، والريح تعبث به، فتميل بعضه إلى بعض، ثم لا يلبث أن يعود إلى طبيعته من الاعتدال -تخيله كأنه جماعة الأحبة تريد أن تتعانق ثم لا تلبث أن يدركها الحياء، فيحول دون هذا العناق، وهو تخيل غاية في البداعة - والشاهد فيه: أن وجه الشبه في البيت الثاني منتزع من هيئة حركة التهيؤ للدنو بغية العناق. وحركة الرجوع سريعا إلى أصل الافتراق، وتكررها مرة بعد أخرى دون ماعاة شيء آخر من أوصاف الجسم: ومن هذا الضرب قول امرئ القيس: مر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل2 يقول: إن هذا الفرس لفرط ما فيه من قوة الدفع، وسرعة الانعطاف

_ 1 "السرو" شجر له رواء ليس له ثمر، "القيان" جمع قينة وهي الجارية -مغنية كانت أو غير مغنية، و"التحلف" اتخاذ الشيء لحافا، و"القوام" القامة. 2 "مكر مفر" صيغتا مبالغة من السكر والفرو "الجلمو هو الصخر فالإضافة بيانية "حطه السيل" قذف به، و"من عل" أي من فوق

في إقباله وإدباره -أشبه الأشياء بجلمود صخر دفعه السيل من مكان عال. والحجر بطبعه يطلب جهة السفل، فإذا ما قذفته قوة دافعة، كان له عند سقوطه حركات سريعة، مختلفة الجهات. والثاني: وهو ن ينتزع الوجه المركب الحسي من هيئة سكون الجسم -ضربان كذلك. 1- أن يراعي مع هيئة السكون شيء من أوصاف الجسم، فيكون الوجه منزعا من مجموع الأمري: سكون الجسم، وشيء من أوصافه كما في قول الشاعر يصف مصلوبا: كأنه عاشق قد مد صفحته ... يود الوداع إلى توديع مرتحل أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتمطيه من الكامل1 فوجه الشبه -في البيت الأول- متنزع من هيئة سكون عنق المطلوب وصفحته ويديه حالا امتدادها، مع اصفرار الوجه- فقد روعي مع هيئة السكون المذكورة: اصفرار اللون بالموت، وهو من أوصاف الجسم، وتلك هي حال العاشق الماد عنقه، وصفحته، ويديه مفتوحتين عند توديع معشوقه -ووجه الشبه- في البيت الثاني- منتزع من هيئة السكون السابقة، مع اصفرار الوجه أيضا واسترخاء الجسم- فقد اعتبر مع هيئة السكون المذكورة وصفان من أوصاف الجسم: اصفرار اللون، والاسترخاء، وتلك هي حال القائم من النعاس متمطيا، مواصلا تمطيه، لما به من لوثة الكسل.

_ 1 "الصفحة" باطن الكف أو جانب الوجه، والمراد أحد الأمرين، و"اللوثة" بضم اللام: الاسترخاء والتمطي، وهو ما يحدث عادة عقب الانتباه من النوم: مد الجسم وإطالته.

2- ألا يراعي مع هيئة السكون شيء من أوصاف الجسم، فيكون الوجه منتزعا من هيئة السكون وحده -ولا بد في الضرب أيضا من تعدد أفراد هيئة السكون ليتحقق معنى التركيب في الوجه كما في قول المتنبي يصف كلب صيد حال جلوسه يقعي جلوس البدوى المصطلى ... بأربع مجدولة لم تجدل1 فوجه الشبه منتزع من هيئة مواقع الأعضاء في إقعاء الكلب، وفي جلسة البدوى المصطلى إذ يكون لكل عضو في الإقعاء، وفي الجلوس للاصطلاء موقع خاص، وللمجموع هيئة خاصة مؤلفة من تلك المواقع، ولم يراع في انتزاع الوجه شيء وراء ذلك من أوصاف الجسم- كما ترى- ومنه قول ابن الرومي يصف مصلوبا: كأن له في الجو حبلا يبوعه ... إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل2 فإن وجه الشبه أيضا منتزع من هيئة مواقع الأعضاء في المصلوب، وفيمن صعد إلى مكان، يقيس بباعه حبلا أثر حبل، دون أن يراعي شيء من أوصاف الجسم. اختبار: 1- مثل لتشبيهين يكون وجه الشبه في أحدهما مفردا حسيا وفي الآخر مفردا عقليا.

_ 1 "يقعي" من الإقعاء وهو الجلوس على الإليتين، "والمصطلي" المستدفئ بالنار، وقوله: "بأربع" يريد يديه ورجليه ومجدولة" محكمة الخلق، "ولم تجدل" أي لم يجدلها إنسان، والغرض: مدح الكاتب بشدة الحرص. 2 "يبوعه" يقيسه بالباع، وقوله: "إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل" نظير قول الشاعر السابق: "مواصل لنمطيه من الكسل" في الدلالة على استدامه المشبه بالمصلوب لأنه إذا كان يبوع حبلا بعد حبل من غير توقف لم يقبض باعه ولم يرسل يده، وفي ذلك بقاء للمشبه بالمصلوب.

2- قد يكون وجه الشبه مركبا حسيا، فما أنواع طرفي التشبيه حينئذ؟ مثل لما تقول، ثم مثل لتشبهين يكون وجه الشبه فيهما عقليا- مركبا ومتعددا أخرى. 3- كيف صح جعل "الحمرة" مثلا وجه شبه في نحو قولك: كالورد مع أن الحمرة هنا معنى جزئي، ووجه الشبه ينبغي أن يكون كليا ليتأنى الاشتراك فيه. وضح ما تقول ومثل. 4- من أي قبيل يكون الوجه المركب من حسي وعقلي كما في تشبيه الحسناء الوضيعة الأصل بخضراء الدمن- أمن قبيل العقل أم الحسي؟ علل ملا تقول: 5- لم أوجبوا في الوجه الحسي أن يكون الطرفان فإن حسيين، ولماذا عمموا في الوجه العقلي، مثل في توجيهك بما يوضح المقام. 6- للوجه المركب الحسي أنواع طريقة، أيت من كل نوع بمثال، مع بيان الوجه والطرفين.

التقسيم الرابع

التقسيم الرابع: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى قسمين- تمثيل، وغير تمثيل. فالتمثيل -عند جمهور البيانيين ما كان وجه الشبه فيه هيئة مننتزعة من عدة أمور اثنين فما فوق- حسيا كان ذلك الوجه، أو غير حسي. فالحسي: ما مر من تشبيه مثار النقع، مع الأسياف، بليل تتهاوى كواكبه- وتشبيه الثريا، بعنقود الملاحية حين نور- وتشبيه الشمس، بالمرآة في كف الأشل- وتشبيه البدر في كبد السماء، بدرهم ملقى على ديباجته زرقاء- وغير ذلك من كل ما فيه الوجه صورة منتزعة من أمور حسية.

وغير الحسي: ما سبق في تشبيه حال اليهود بحال الحمار. فإن وجه الشبه -كما سبق- هيئة الحرمان من الانتفاع بأبلغ نافع، مع معاناة المشاق في تحمله، وهي صورة مركبة من أمور عقلية -كما ترى- ومثله ما تقدم من تشبيه المستجير بعمرو بالمستجير بالنار، فإن وجه الشبه -كما سلف- هيئة مركبة من أمرين لا يقعان تحت حس: هما الفرار من الضار، والالتجاء إلى ما أشد ضررا، طمعا في الانتفاع به- من ذلك قول المعتز الخليفة العباسي: اصبر على مضض الحسو ... د فغن صبرك قاتله فالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله فقد شبه الشاعر حال الحسودن وقد قتله كمدا صبر الممدوح عليه, وعدم جزعه لما يناله من أذى: بحال النار، يأكل بعضها بعضا إذا لم تجد وقودا- ووجه الشبه: إسراع الفناء لانقطاع ما فيه مدد البقاء، وهو -كما ترى- أمر عقلين منتزع من أمور عقلية، لا تدخل تحت حس: ومنه قول صالح بن عبد القدوس: وإن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه حتى تراه مونقا ناضرا ... بعد الذي أبصرت من يبسه شبه حال من تؤدبه وقت الصبا، فيثمر فيه التأديب- بحال العود يسقى في غرسه، في إبان سقيه، فيورق، وينضر- ووجه الشبه: الوصول إلى الغاية المرجوة، باستصلاح الشيء وتعهده بالرعاية في الوقت المناسب، وهو- كذلك أمر عقلي منتزع من أمور عقلية1.

_ 1 كون وجه الشبه حسيا أو عقليا إنما هو باعتبار مادته المنتزع هو منها وإلا فإن الهيئة المنتزعة أمر اعتباري دائما إذ لا وجود له خارجا.

وغير التمثيل: ما لم يكن وجه الشبه فيه هيئة منتزعة من متعدد: بأن كان أمرا واحدا، أو أمور متعددة، كل منها قائم بذاته. فالأول: كما تقول: "زلة القلم كزلة القدم في الضرر"، و"العلماء الأتقياء كنجوم السماء في الهداية" وعزيمة الحازم كالسيف الصارم في المضاء، ونحو ذلك: مما يكون وجه الشبه فيه شيئا واحدا، لا تركيب فيه ولا تعدد. والثاني: كما في تشبيه فاكهة بأخرى في الطعم، والرائحة، واللون، فإن وجه الشبه كل واحد من هذه الثلاثة، لا هيئة مركبة منها. هذا هو مذهب جمهور البيانيين، فهم -كما عرفت- لا يفرقون في تشبيه التمثيل بين الحسي، وغير الحسي- فالمدار عندهم على أن يكون الوجه هيئة منتزعة من عدة أمور، أيا كان نوعها.

التقسيم الخامس

التقسيم الخامس: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى قسمين: مفصل ومجمل: فالمفصل: ما صرح فيه بوجه الشبه على صورته الخاصة1، وهي أن يذكر مجرورا بفي، أو منصوبا على التمييز على معنى "في". فالأول كما في قول ابن الرومي: يا شبيه البدر في الحسن وفي بعد المنال ... جد فقد تنفجر الصخرة بالماء الزلال

_ 1 بهذا يخرج نحو قولهم: فلان كسحبان يفصح في كلامه، ويده كالبحر تفيض، وألفاظه كالدر فيها حسن فليس ذلك من قبيل المفصل لعدم ذكر الوجه على طريقته من كونه مجرورا بفي أو منصوبا على التمييز -كما مثلنا.

والثاني كما في قول أبي بكر الخالدي: يا شبيه البدر حسنا ... وضياء ومنالا وشبيه الغصن لينا ... وقواما واعتدالا أنت مثل الورد لونا ... ونسيما وملالا فكل هذه المثل من التشبيه المفصل للتصريح فيها بالوجه على نحو ما رأيت: من كونه مجرورا بفي، أو منصوبا على التمييز. ومن قبيل: التشبيه المفصل ما ذكر فيه ما يستتبع الوجه ويستلزمه كقولهم في تشبيه الكلام السهل، الخفيف على السمع: ألفاظه كالعسل في الحلاوة، أو كالماء في السلاسة، أو كالنسيم في الرقة، فوجه الشبه في الحقيقة لازم الحلاوة، وهو "ميل الطبع، ولازم السلاسة والرقة، وهو "إفادة النفس نشاطا وروحا"- ذلك لأنه المعنى المشترك بين الطرفين- وكقولهم في تشبيه الحجة الواضحة: حجة كالشمس في الإشراق، أو كالصبح في الإسفار، فوجه الشبه في الواقع لازم الإشراق أو الأسفار، وهو "إزالة الحجاب" لأنه المعنى المشترك. على أنه يجوز أن كيون ما ذكرنا من قبيل ما ذكر فيه الوجه بذاته، لا بما يستلزمه -غاية الأمر أنه متحقق في أحد الطرفين، متخيل في الآخر "فالحلاوة" مثلا هي وجه الشبه بين الكلم العذب والعسل. إلا أنها متحققة في العسل، متخيلة في الألفاظ ... وهكذا يقال في باقي الأمثلة- وقد سبق تقسيم التشبيه باعتبار الوجه إلى تحقيقي وتخييلي، وهذا الرأي عندي أوجه، تقليلا للأقسام بالقدر المستطاع. والمجمل: ما لم يصرح فيه بوجه الشبه على صورته السابقة- وهو- باعتبار ذلك قسمان: الأول: ما يكون وجهه ظاهرا، يستوي في إدراكه العامة، والخاصة كما في قولك: شعر عند كالفحم، وقدها كالغصن، ووجهها كالبدر. فأوجه الشبه

في هذه المثل غير مصرح بها، ولكنها -مع ذلك- من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى إعمال فكر. الثاني: ما يكون وجهه خفيا، ولا يدرك ببديهة النظر، بل يحتاج إلى تأمل وتعمل- مثاله: ما روى أن فاطمة بنت لخرشب1 الأنمارية سئلت عن بنيها الأربعة2: أيهم أفضل، فقالت: "هم كالحلقة المفرغة، لا يدري أين طرفاها" تريد: هم في تناسبهم في الشرف والشجاعة، وعدم تفاوتهم فيهما، بحيث يمتنع تعيين أحدهم فاضلا. وأحدهم مفضولا، كالحلقة المتصلة الجوانب، فإن أجزاء متناسبة، يمتنتع تعيين بعضها طرفا، وبعضها وسطا -فوجه الشبه بين الطرفينن هوالتناسب الكلي الخالي عن التفاوت، وهو غير مصرح به في الكلام ولكن أشعر به قولها: "لايدري أين طرفاها" -غير أنه في "المشبه" تناسب في الشرف، وفي "المشبه به" تناسب في صورة الأجزاء، وهو -كما ترى- خفي دقيق، فوق متناول مدارك العامةن ولا يدركه بسهولة إلا من ارتفع منهم إلى طبقة الخاصة. تنبيه: من قول فاطمة السابق يتضح: أن التشبيه المجمل لا يخرجه عن إجماله: أن يذكر لأحد الطرفين وصف مشعر بوجه الشبه، فإن قولها: "لا يدري أين طرفاها" وصف للحلقة المفرغة التي هي المشبه به، ولا يصلح أن يكون وجه شبه، لأنه وصف خاص بالحلقة، والوجه إنما يكون وصفا مشتركا بين الطرفين على صورته الخاصة كما عرفت، ولكنه -مع ذلك- مشعر بوجه الشبه الذي هو

_ 1 بضم الخاء والشين. 2 هم ربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظن وأنس الفوارس: سئلت أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة، ثم بدا لها غير هذا فقالت: لا بل فلان، ثم بدا لا غير هذا فقالت: لا بل فلان، ثم قالت في حيرة: ثكلتهم إنعلمت أيهم أفضل هم كالحلقة.. إلخ.

"التناسب الكلي" إذ يفهم من عدم دراية الطرفين: معنى التناسب الخالي عن التفاوت ومثله قول النابغة: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب فإن وجه الشبه بين الطرفين: هيئة الشيء العظيم، يتلاشى أمامه الشيء الحقيرن وقوله: "إذا طلعت لم يبد منهن كوكب"، وصف خاص بالمشبه به، مشعر بالمعنى المذكور ومثله كذلك قول زياد الأعجم: فإنا وما تلقى لنا أن هجوتنا1 ... كالبحر مهما تلق في البحر يغرق يشبه زياد حال قومه، إذ يرميهم المخاطب بالنقيصة، فلا يضرهم ذلك، ولا يظهر فيهم أثر نقص لخطورة شأنهم- يشبه حالهم هذه: بحال البحر العظيم، لا يتأثر بما يلقى فيه من أقذاء ووجه الشبه: هيئة الأمر الخطير، لا ينال منه الحقير، وقوله: "مهما تلقى في البحر يغرق" وصف للمشبه به مشعر بهذا الوجه. وقد يكون الوصف المشعر بالوجه خاصا بالمشبه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم، بأيهم أقتديتم أهتديتم"، فوجه الشبه في الحديث: "الهداية"، وقد أشعر به قوله: "بأيهم أقتديتم أهتديتم" وهو وصف خاص بالمشبه. وقد يوصف كل من الطرفين بوصف مشعر بالوجه كما في قول أبي تمام: صدفت عنه ولم تصدف مواهبه ... عني وعاوده فلم يخب

_ 1 "أن هجرتنا" بفتح همزة "أن" على تقدير بأن هجوتنا أي بسبب هجائك لنا.

كالغيث إن جئته وأفاك ريقه ... وإن ترحلت عنه لج في الطلب1 وصف الشاعر الممدوح الذي هو المتشبه بأن عطاياه مغدقة سابغة عليه -أعرض عنه، أو أقبل عليه، ثم وصف الغيث الذي هو المشبه به بأنه يصيب الإنسان- طلبه أو تجنبه- ووجه الشبه: "مطلق الإفاضة في الحالين"2، والوصفان المذكوران مشعران به. وصفوة القول: أن التشبيه المجمل: هو مالم يذكر فيه وجه الشبه- ظاهرا كان ذلك الوجه أو خفيا- كما بينا- وأن وصف أحد الطرفين، أو كليهما بما يشعر بالوجه -كما رأيت- لا يتنافى مع الإجمال لأن المدار في كون التشبيه مجملا على ألا يذكر وجه الشبه ذاته، ولا ما يستلزمه اهـ. اختبار: 1- افرق بين التشبيه المفصل والمجمل، ثم اذكر نوعي المجمل، ومثل لكل نوع. 2- من أي قبيل قولهم في تشبيه الكلام الغث: هو كالمعلقم في مرارته، وجه ما تقول. 3- من أي قسمي التشبيه قولك: هو كالغيث، ينتظم خيره البلاد، وكالبدر يهدي ضوؤه المدلجين3 علل لما تقول. 4- أيت بتشبيهين من عندك، تذكر في أحدهما وصفا للمشبه مشعرا بالوجه،

_ 1 "صدفت عنه" أعرضت، وبابه ضرب، ومعنى "لم تصدف مواهبه": لم تنقطع عطاياه، ومعنى "عاوده ظني فلم يخب": عاودته بعد إعراضي عنه طلبا لمعروفه وطمعا في أن يصلني رغم إعراضي عنه فكان عند ظني به -وإذن فنسية المعاودة إلى الظن فيها تجوز، والريق بتشديد الياء المكسورة هو من كل شيء أفضله، "ولج في الطب" ألخ فيه وألحف. 2 أي حالتي الإعراض والإقبال. 3 المدلجون هم السائرون ليلا.

وفي الثاني وصفا المشبه به كذلك، مع بيان نوع التشبيه فيهما من حيث الإجمال والتفصيل.

التقسيم السادس

التقسيم السادس: ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضا إلى قسمين -قريب مبتذل، وبعيد غريب- ومعنى "قريب": أنه في متناول العامة وغيرهم، ومعنى "مبتذل". أنه متداول بين الناس، ومن هذا التفسير يعلم معنى البعيد الغريب الآتي. فالقريب المبتذل: ما ينتقل فيه الدهن من المشبه إلى المشبه به، من غير تأمل ونظر، بسبب وضوح وجه الشبه فيهماكتشبيه حسناء الوجه بالقمر، وكتشبيه حسالصوت بالبلبل، وتشبيه الجرئ بالأسد، والكريم بالغيث -فكل واحد من هذه التشبيهات قريب: في متناول العامة، مبتدل: يكثر تداوله لسهولة انتقال الذهن فيه من المشبه إلى به، بسبب وضوح الوجه بين الطرفين: ذلك: أن المشبه به في كل ما ذكرنا أعرف الأشياء بالمعنى الذي عقد له التشبيه. أسباب وضوح وجه الشبه ثلاثة: أ- أن يكون الوجه شيئا واحدا، لا تعدد فيه، ولا تفصيل كالأمثلة السابقة، فإن وجه الشبه في كل منها واحد، وإدراك الشيء الواحد لا يحتاج لغير ملاحظة واحدة، لهذا كان التشبيه قريبا مبتذلا لانتقال الذهن فيه إلى المشبه به، دون تأمل. ب- أن يكون في وجه الشبه شيء من التفصيلن يحتاج إلى تعدد الملاحظة -غير أنه يكثر حضور صورة المشبه به في الذهن عند استحضار صورة المشبه لما بين الصورتين من شدة التناسب- كأن تشبه العنب بالبرقوق في حجمه، وشكله، ولونه ففي الوجه تفصيل ما، إذ لوحظ فيه هذه الأمور الثلاثة: الحجم. والشكل. واللون. وهذا يقتضي شيئا من غرابة

التشبيه وبعده -لكن عارض ذلك ما يقتضي قربه وابتذاله، وهو سرعة حضور صورة "البرقوق" في الذهن عند استحضار صورة "العنب" لما بينهما من شدة التجانس المقتضى لسرعة الانتقال، فلا أثر للتفصيل في وجه الشبه مع قوة هذا التجاس. جـ- أن يكون في الوجه شيء من التفصيل كسابقه، يحتاج إلى تعدد الملاحظة- غير أنه يكثر حضور صورة المشبه به في الذهن مطلقا، أي لا يقيد استحضار صورة المشبه، وذلك لكثرة مشاهدة صورة المشبه به، وتكررها على الحس- فإن المشاهد كثيرا ما يكثر خطورة بالبال عادة. وبذلك يسهل الانتقال إليه عند إرادة التشبيه- ومن هنا كان التشبيه قريبا مبتدلا، كما في تشبيه إنسان جميل: بالقمر في الرفعة والهداية- وكتشبيه المرآة المجلوة: بالشمس في "الاستدارة والاستنارة-" ففي وجه الشبه- في المثالين- شيء من التفصيل، إذ لوحظ في كل منهما أمران- "الرفعة والهداية" في الأول، والاستدارة والاستنارة "في الثاني- وهذا يقتضي شيئا من غرابة التشبيه وبعده- لكن عارض ذلك ما جعله قريبا مبتذلا. وهو سرعة حضور صورة المشبه به في الذهن لكثرة النظر إليها ومشاهدتها وليس من شك: أن صورتي الشمس والقمر مما يتوارد على النظر كثيرا. والبعيد الغريب: ما لا ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به إلا بعد إعمال فكر وطول تأمل، بسبب خفاء وجه الشبه فيهما. وأسباب خفاء وجه الشبه ثلاثة أيضا: أ- أن يكون في وجه الشبه تفصيل يحتاج إلى كثرة الملاحظات والاعتبارات كما في شبيه الهيئات بعضها ببعض.. كتشبيه هيئة الخال على الخد بالشقيق في قول الشاعر: لا تعجبوا من خاله في خده ... كل الشقيق بنقطة سوداء1

_ 1 "الخال" شامة في البدن يضرب لونها إلى السواد، وقد توجد على صفحة الخد، والشقيق زهر معروف.

فوجه الشبه بين الطرفين هو الهيئة الحاصلة من وجود نقطة مستديرة سوداء، في وسط رقعة مبسوطة حمراء، وفيه من كثرة التفصيل والاعتبارات ما لا يقع في نفس مريد التشبيه إلا بعد روية ونظر -وكغير ذلك مما تقدم في تشبيه هيئة بأخرى، مما لا يقوم بنفس المتكلم إلا بعد أن يتأمل ويتعمل. ب- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن عند استحضار صورة المشبه لبعد التناسب بين الصورتين كما في تشبيه القمر بالعرجون في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ 1 الْقَدِيمِ} فصورة العرجون في ذتها غير نادرة الحضور في الذهن- ولكنها تندر عند استحضار صورة القمر للبون الشاسع بين الصورتين- فإن القمر مسكنه في السماءن والعرجون في الأرض، والقمر مثال العلو والهداية، والعرجون شيء تافه لا يؤبه له، والقمر من قبيل الكواكب، والعرجون من فصيلة النبات، فشتان ما بين الصورتين، وناء ما بين الطرفين. من ذلك تشبيه صورة أزهار البنفسج، وهي على سيقانها، بصورة النار في أطراف الكبريت أول شبوبها في قول الشاعر: ولا زوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت2

_ 1 هو سباطة البلح إذا يبست انحنت وتقوست أشبه شيء بتقوس الهلال. 2 "اللازوردية" بكسر الزاي وفتح الواو وسكون الراء وصف لأزهار النبفسج وهي نسبة إلى الحجر المسمى باللازورد لكونها على لونه فهي نسبة تشبيهية. "وتزهر" من الزهو وهو الكبر، وفي نسبة الكبر إلى البنفسج تجوز "وحمر اليواقيت" من إضافة الصفة للموصوف أي اليواقيت الحمر "وفوق قامات" حال من اسم كأن، "وضعفن بها" انحنين بها لأن ساق البنفسج إذا طالت انحنت لدقتها فكأنها ضعفت عن حمل هذا الزهر، وأوائل النار أي بدء اشتعالها، وإنما قيدت بذلك لأن النار في هذه الحال يضرب لونها إلى الزرقة الشبيهة بلون البنفسج.

فكان المناسب للشاعر أن يشبه صورة أزهار البنفسج وهي على سيقانها، بما ينسابها من الأزهار، إذ هو الذي يتبارد إلى الذهن، عند استحضار صورة البنفسج، ولكنه شبهها بصورة النار المذكورة، وهي -في ذاتها- غير نادرة الحضور في الذهن، إذا أنها في متناول عامة الناس، واقعة بين أيديهم وأرجلهم- ولكنها تندر عند استحضار صورة النفسج المذكور، لما بين الصورتين من عدم التجاس، وبعد الموطن- فهذا زهر ندى لطيف، وذاك لهب حار عنيف. وهذا يسكن الخمائل، وذاك يستوطن المنازل، فبعد ما بين الطرفين. جـ- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن مطلقا، أي لا يقيد حضور صورة المشبه فيه -وذلك لأمور منها: 1- أن يكون المشبه به وهميا، أي من اختراع الوهم، كما في اتشبيه النصال الزرق المسنونة، بأنياب الأعوال في قول الشاعر: "ومسنونو زرق كأنياب اإوال" فإن أنياب الغوال مما لاو وجود له في غغير الوهم. 2- أن يكون المشبه به مركبا خياليان أي من نسج الخيال، كصورةأعلام من ياقوت، منشورة على رماح من زبرجد، في قو لاشاعر السابق، وماشاكله من الهيئات المركبة. 3- أن يندر تكرار المشبة به على الحس، كصورة المرآة في كف الأشل، فقد ينقضي عمر الإنسا، ولا يتفق له أن يرى مرآة في سد شلاهن وفي هذا سبب آخر لغرابة الوجه، هو كثرة التفصي فيه. معتى التفصيل في الوجه: اعلم: أن المراد بالتفصيل في وجه الشبه: ما فيه من كثرة الاعتبارات والملاحظات: بأن ينظر فيه إلى أكثر من وصف لشيء واحد، أو لأكثر

متعددا كان ذلك الوجه، أو مركبا اعتباريا- وكملا كثر التفصيل في الوالمج كان التشبيه أدخل في باب الغراب، وأبعد عن الابتذال، وكان أدق نسجا وأجمل وقعا، كما تراه في قوله تعالى: "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلنا" الآية. فقد حوت من كمال الدقة، وكثرة التفصيل ما يبهر العقول. أوجه التفصيل: يقع التفصيل في وجه الشبه علىوجوه كثيرة، أحراها بالقبول وأولداها بالعتبار. صورتان. الأولى: أني ؤخذ بعض الأوصافن ويترك بعضها: من كل تشبيه فيه دقة تحتاجغلى مزيد نظر، وفضل ملاحظة- كما في قول امرئ القيس: حمتل درينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان1 شبه الشاعر سنان الرمح بهلهب ذي سنا، فاعتبر في كل منهماشكله المرخويط الدقيق الطرف، وزرقته السافية، وبريقه، ثم قصد أن ينفي الدخان عن السنا تحقيقا للتشبيه إذ ليس في رأس السنان ما يشبه الدخان- وتحقيق التشبيه على هذه الصورة لا يواتيك ببديهة النظر، بل تراك تحتال له، وتدبر أمره- ومثله قول الشاعر: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب2

_ 1 "الرديني" الرمح منسوبا إلى "ردينة" وهي امرأة اشتهرت بتقويم الرماح "وسنا اللهبط ضوؤه- يشبه سنانه بضوء الهلب. 2 قال الأصمعي- الظبي والبقرة الوحشية إذا كانا حيين فعيونها كلها سوداء فإذا ماتا بدا بياضها فأشبهت الجزع، وهو خرز يماني فيه سواد وبياض تشبه به الأعين، والأرحل جمع رحل وهو مركب للبعير.

والشاهد فيه أن الشاعر: نفى التثقيب عن الجزع تحقيقا للتشبيه، وبيانا لتساوي الطرفين في وجه الشبه، لأن الجزع إذا كان مثقبا خالف العيون في الشكل بعض المخالفة، إذ لا ثقوب فيها. والثانية: أن تؤخذ جميع الأطراف: بأن يعتبر وجودها جميعها في وجه الشبه كما مر نحو قول الشاعر: وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا فقد اعتبر في كل من الطرفين: الشكل، والمقدار، واللون، والوضع الخاص- ومثله سائر التشبيهات السابقة. ومن ابلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه قوول ابن المعتز: كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جون1 شبه هيئة ظلام الليل، يبدو في ثناياه ضوء الصبح: بهيئة غراب أسود اللون، ذي قوادمن بيض، وإنما روعي أن تكون قوادمه بيضاء لأن تلك القطع م الظلام تقع في حواشيها أطياف من نور، يتخيل منها في مرأى العين شكل قوادم بيض لطائر أسود قائتم السواد، وسر الروعة والجمال في هذه التشبيه: أنهجعل ضوء الصبح -لقوة ظهوره، ودفعه للظلام- كأنه يحفز الدجى، ويستعجلها، ولا يرضى منها أن تتمهل في حركتها، ولما راعى ذلك في التشبيه ابتداء راعاه آخر؟، حيث قال: "نطير غرابا" ليفيد معنى لاسرعة- لأن الطائر إذا كان حاطا في مكان، فأزعج وأطير منه كان ذلك -لا محالة- أسرع لطيرانه، وأدعى لأن يمعن في الطيران، إلى حيث لاتراه العيون- بخلاف ما إذا طار عن اختيار، فقد يجوز أن يبطئ في طيرانه، وليس هذا المعنى مرادا.

_ 1 "القودام" أوائل ريش الطائر، "والجون" بالضم جمع جون بالفتح يطلق على الأبيض والأسود، والمراد هنا الأبيض.

تنبيهان: الأول: اعلم أن التشبيه البليغ1 هو ما كان بعيدا غريبا2 كما في تشبيهات الهيئات المنتزعة من أمور متعددة على ما عرفت- سواء كان الوجه مركبا من أمور كثيرة أو لا، وسواء ذكرت الأداء أو لا. لما هو مركوز في الطباع: من أن الشيء إذا نيل بعد احتيال له ومعاناة التوسل إليه. كان نيله أحلى، وموقعه في النفس ألذ وأشهى- ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف موقعه، ودق موضعه ببرد الماء على الظمأ. قال القطامي: وهن ينبذن من قول يصبن به ... وقع الماء من ذي الغلة الصادي3 قالوا: وما أشبه هذا الضرب بالجوهر في الصدق، لا يبرز إليك إلا أن تشقه عنه، أو بالجيب المتحجب، لا يريك وجهه حتى تستأذن، وقديما قالوا: وزاده كلفا4 في الحب أن منعت ... رحب شيء غلى الإنسان ما منعا أما إطلاق البليغ على التشبيه المحذوف منه الأداة إطلاقا شائعا، فهو اصطلاح لبعضهم، وإلا فهو يسمى "تشبيها مؤكدا" لما فيه من دعوى اتحاد الطرفين، مجمل أحدهما على الآخر. على ما سيأتي:

_ 1 المراد بالبليغ هنا: ما يتخاطب به الخواص من البلغاء لما فيه من دقة التركيب ولطف المعنى. 2 قد يقال أن الغرابة منشؤها خفاء الوجه -كما علمت فكيف يكون خفاؤه سببا في بلاغة التشبيه مع أنهه تقدم أن عدم ظهور المعنى ضرب من التعقيد، وهو ينافي البلاغة،- ويجاب بأن الخفاء الموجب للتعقيد ما كان منشؤه سوء التركيب، أما هنا فمنشؤه لطف المعنى ودقته. 3 "ينبذن" يرمين" والغلة" حرارة العطش "والصادي" العطشانز 4 هو بالتحريك شدة الولع بالشيء.

الثاني: قد يتصرف الحاذق بصنعة الكلام في التشبيه المبتذل، بما يجعله غريبا ممتنعا، لا ترتقي إليه مدارك العامة- كما في قو لاملتنبي، من قصيدة يمدح بهاهارون ابن عبد العزيز الأدراجي: لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء يريد الشاعر: أن يشبه وجه الممدوح بالشمس في الإشراق. ومثل هذا التشبيه مطروق مبتذل، يستوي فيه العامة الخاصة لوضوح وجه الشبه، وعدم توقفه على نظر- غير أن حديث "الحياء"، وما فيه من الدقة والحسن: من حيث إفادته: المبالغة في وصف الممدوح بوضاءة الوجه، وأنه أعظم إشراقا من الشمس أخرج التشبيه عن ابتذاله، وكساه صورة رائعة، تستوقف النظر، وتستثير الإعجاب- ذلك: أنه نزل الشمس منزلة من يرى ويستحي، فادعى أنها حين تلقى وجه الممدوح لا تلقاه إلا بوجه منزوع منه الحياء، أي وكان ينبغي حين إذ تلقاه أن تتوارى منه خجلا، ومثل هذا التصرف يقتضي أن يكون وجه الممدوح أكمل وأتم إشراقا من الشمس- وشبيه بقول المتنبي قول الآخر: إن السحاب إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها1 لا شك أن تشبيه الندى بالسحاب في الفيض مبتذل، في متناول العامة، لكن حديث الاستحياء، وتنزيل السحاب منزلة من ينظر ويستحي خرج بهذا التشبيه عن ابتذاله إلى مستوى رفيع، على نحو ما قلنا في البيت السابق. ومن ذلك قول رشيد الدين: عزماته مثل النجوم ثواقبا ... لو لم يكن للثاقبات أقول2

_ 1 "قاسته بما فيها" أي شبهته، ويريد بما فيها: المطر. 2 "عزماته" جمع عزمة، وهي التصميم في الغرادةن و"ثواقبا" حال من النجوم وهي النوافذ في الظلمات بإشراقها، وسمي لمعان النجوم ثقوبا لظهورها من وراء الظلمة وكأنها ثقبتا "والأفول" الغروب: وجواب الشرط محذوف تقديره لكانت عزماته مثلها

ذلك: أن تشبيه العزم بالنجم في الثقوبن وهو النفوذ: قريب مبتذل لوضوح وجه الشبه، وعدم حاجته إلى توقف- لكن وصف الأفول، وعروضه للثاقبات، دون العزمات، وما في ذلك من الدلالة على أن المشبه أتم من المشبه بهن في وجه الشبه، أبرز التشبيه في صورة ممتنعة، وكساه خيالا رائعا- ويسمى هذا النوع: التشبيه المشروط: أي المقيد بشرط. كأن تقول هذا الشيء كهذا الشيء لو كان على صفة كذا، أو لولا أنه على صفه كذا. والتقييد: بالشرط إما أن يكون في المشبه به، أو في المشبه، أو في كليها- والشرط إما أن يكون وجوديا أو عدميا1. فمثال تقييد المشبه به. ما سبق في تشبيه العزمات بالنجوم في قول الشاعر السابق، فقد قيد المشبه به بعدم الأقول، إذ لا يتم التشبيه بدونه، وكأنه يقول: عزماته مثل النجوم لولا ما يعرض لها من أفول -وكقولك: وجه فلان كالمش لولا ما يعتريها من كسوف، أوم ثل مالقمر لولا ما يعرض له من خسوف. ومثال تقييد المشبه قول البديع السابق: يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا والبدر لو لم يغب والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد2 والبحر لو عذبا فالمشبه به هو الممدوح، وقد شبه به كل من صوب الغيث، والبرد والشمس والبحر مقرونا كل مها بقيد أولاه لتم التشبيه. ومثال تقييد الطرفين معا قولك: عباس في علمه بالأمور- إذا كان يقظا كعلى في علمه بها- إذا كان غافلا.

_ 1 المراد بالعدمي: ما دخل عليه حرف النفي. 2 بالبناء للمفعول.

ومن هذا النوع: ما يسمى: تشبيه التفضيل، وهو أن يشبه المتكلم شيئا بشيء ثم يرجع فيفضل المشبه على المشبه به كما في قول اشاعر: حسبت جماله بدرا منيرا ... وأين البدر من ذاك الجمال؟ وكقول الآخر: من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شكلين1 أنت إذ جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين ومنه نوع: يطلقون عليه: تشبيه التشكيك كما في قول الشاعر: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكن أم ليلى من البشر2 فقد وضع الشاعر نفسه موضع من أشكل عليه الأمر، فلم يدر من أي الجنسين ليلاهن مبالغة في دعوى المساواة- إلى غير ذلبك من أنواع التصرف في التشبيه المبتذل بما يخرجه عن ابتذاله، ويكسوه ثوبا من الجمال، ويبرزه في حالة رائعة من الحسن تستثير إعجابك. ومن روائع التشبيه قول البحتري يصف امرأة: في طلعة البدر شيء من محاسنها ... وللقضيب نصيب من تثنيها2 يقول: إن ما نراه في طلعة البدر من روعة وجمال، وما نشاهده في الغصن من تكسر وانثناه- كلاهما بعض ما وهبته هذه المرأة، من آيات الحسن والبهاء ومنه قول ابن بابك.

_ 1 "الجدوى" العطاء. "2 القاع" الأرض المستوية. 3 "القضيب" الغصن، "والتثمي"التميل.

ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى ... نسيمك مسروق وصفك منتحل حكيت أبا سعد فنشرك نشره ... ولكن له صدق الهوى ولك الملل1 ومن أبدع ما قيل في هذا الباب، قول ابن نبانة في وصف فرس أبلق أغر: وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه شبه أولا جبين الفرس بالصبح في البيضا والإشراق، ثم شبه ثانيا قوائم الفرس بالصبح في هذا المعنى، وهما تشبيهان -كما ترى- من النوع الساذج المبتذل- غير أن حيث لطم الصبح للجبين اعتداء. ثم خوض الفرس في أحشاء الصبح انتقاما جعلهما من الممتنع، البعيد المنال -والتشبيه في كلهيما ضمني- ذلك: أن لطمة الصبح لجبين الفرس تركت فيه أثر البياض- كما علق هذا الأثر بقوائم الفرس، حينما خاض في أحشاء الصبح- وهذا يفيد تشبيه كل من جبين الفرس وقوائمه بالصبح في بياضه وإشراقه، ولكن في معرض ساحر خلاب. اختبار: 1- من أي أنواع التشبيه قول الشاعر: وكأن النجوم بين دجاه ... سنن لاح بينهن ابتداع ثم بين وجه الشبه فيه، وكيف صح تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين

_ 1 "الحزن" بفتح الحاء وسكون الزاء ما غلظ من الأرضن "والأبرق" مثله، مع مايقع فيه من حجارة، ورمل وطين، "منتحل" اسم مفعول من انتحل كذا، ادعاه لنفسه، وهو لغيره، و"النشر" الرائحة الطيبة، "والملل" السأم- يريد: أنه سريع الزوال.

الابتداع، مع أن تشبيه المحسوس بالمعقول قلب للأوضاع، وهل لذلك من نكتة؟ 2- شاع قولهم في الجبان: هو أسد، وفي العي هو سحبان، فما وجه الشبه بين الطرفين وجه ما تقول واشرحه شرحا وافيا- وهلا كان وجه الشبه هو "التضاد- علل لما تقول تعليلا واضحا: 3- من أي أنواع التشبيه قول الشاعر: كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوه أقشعت وتجلت وهلا صح انتزاع الوجه من الشطر الأول من البيت؟ وجه ما تقول. 4- بين الفرق بين التشبيه القريب المبتذل، والبعيد الغريب، مع بيان سبب قرب الأول، وابتذاله÷ وسبب بعد الثاني وغرابته، مع التمثيل، ثم بين من أي الأنواع التشبيه البليغ وجه ما تقول. 5- بين معنى التفصيل في الوجه، وأشهر أنواع التفصيل فيه، مع التمثيل، ومع بيان وجه التصرف البلاغي في قول الشاعر: لم تلق هذا الوجه شمس نهارها ... إلا بوجه ليس فيه حياء تمرينات منوعة: 1- بين وجه الشبه: ونوع قيامه بكل من الطرفين من حيث تحققه، أو تخيله، أو ادعاؤهه فيمايأتي: قلب التقى كثوبه الناصع. باقل كسحبان. الحياة كسحابة صيف - قال الشاعر: فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا

2- أيت بتشبيهات أربعة فيها الوجه مركب -إما مع طرفين مركبين كذلك، أو مفردين مقيدين، أو مختلفين. 3- مثل لتشبيهين مبتذلين، تصرف فيهما بما أخرجهما إلى الغرابة، ثم بين نوع هذين التشبيهين من حيث التركيب والإفراد. 4- مثل لما يأتي: تشبيه مركب الوجه انتزعت أجزاؤه من حركة الجسم دون وصفه. تشبيه تمثيل على رأي الجمهور، تشبيه بعيد، وآخر مبتذل، تشبيه مركب الوجه، انتزعت أجزاؤه من سكون الجسم وحده، تشبيه وجهه مركب خيالي في أحد طرفيه، تشبيه مشروط. 5- بين نوع التشبيه في البيت الآتي من حيث تفصيله وإجماله: كشفي مقص تجمعتما ... على غير شيء سوى التفرقة 6- كون من الألفاظ الآتية تشبيهات مفصلة، وأخرى مجملة: الماء الزلال نسيم الرياضن ضوء القمر. شباة الحسام. الزهرة الباسمة. السيل الدافق. 7- بين طرفي التشبيه ووجه الشبه فيما يأتي من الأبيات: وكأن الهلال نون لجين ... رسمت في صحيفة زرقاء وما الموت إلا سارق دق شخصه ... يصول بلا كف ويسعى بلا رجل كأن سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفى أسود يتبسم فسواد رأسك والبياض كأنه ... ليل تدب نجومه وتسير

مبحث أدوات التشبيه

مبحث أدوات التشبيه مدخل ... مبحث أداة التشبيه: الأداة لفظ يدل على معنى التشبيه كالكاف1 قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} ونحو: "عزمة محمد كالسيف مضاء، وطبعه كالنسيم لطفا". ومثل الكاف: كل ما يفيد معنى المماثلة -حرفا كان، أو اسما، أو فعلا كلفظ "كأن" حرفا، نحو قوله: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة} و"كمثل وشبه" اسمين نحو قول الشاعر: والوجه مثل الصبح مبيض ... والفرع شبه الليل مسود صنوان لما استجمعا حسنا ... والضد يظهر حسنه الضد وكالفعل الدال على معنى التشبيه -ماضيا كان أو مضارعا، كماثل يماثل، وشابه يشابه، وحاكى يحاكي- وكالوصف المشتق المفيد لهذا المعنى، كمماثل ومشابه، ومحاك. تقول: سعدي ما ثلت البدر إشراقا، وبشرتها تماثل الحرير نعومة، ومحمد حاكي السحاب فيضا، وهو يحاكي النجم علوا- وتقول: ليلى مماثلة البدر في بهائه، ومشاهبة الغصن في تثنيه، ومحاكية الحرير في ملاسته2- ومن أدوات التشبيه "سيان وسوءا"- تقول: خالد والأسد سيان، ووجهه والبدر سواء. والأصل في الكاف: ونحوها من كل ما يدخل على المفرد كمثل، وشبه ونحو: أن يليها المشبه به كما مثلنا- وقد يليها غير المشبه به بشرطين:

_ 1 هي الأصل في الدلالة على التشبيه. 2 قال بعضهم إن المتبادر أن هذه المشتقات تفيد الإخبار بمعناها، فقولك محمد يشابه عمرا أو مشابه عمرا أو محاكيه إخبار بالمشابهة كما تقول: محمد يقوم أو قائم وليس هناك أداة داخلة على المشبه به. فعدما من أدوات التشبيه لا يخلو عن مسامحة.

1- أن يكون المشبه به هيئة منتزعة من أمور، لم يعبر عنه بمفرد دال عليها كلفظ "مثل" أو لفظ "حال"1. 2 أن يذكر بعد الكاف ونحوها بعض هذه الأمور التي انتزعت منها تلك الهيئة- مثال ذلك قول الله سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} - فليس الغرض: تشبيه حال الدنيا "بالماء" حتى تكون الآية مما ولي فيه المشبه به كاف التشبيه. بل المراد. تشبيه حال الدنيا في نضارتها وغضارتها، وما يعقب ذلك من زوال متاعها، وامحاء ما أضفى عليها من بهجة وبهاء- بحال النبات يغذيه الماء فيخضر وينضر، ثم يورق ويزهر، ثم لا يلبث أن تنطفئ نضرته، وتذبل زهتره، ويتحول النبات النضر البيه إلى هشيم تذروه الرياح كأن لم تكن- ووجه الشبه: مجموع الهيئة الحاصلة من حسن، وبهجة وبهاء، يتلوها تلف، واضمحلال، وفناء -فأنت ترى أن المشبه به لم يل الكاف كما هو الأصل فيها، إذا لا يتأتى فيه ذلك، لأن المعتبر فيه الهيئة الحاصلة من مجموع اكلام المذكور بعد الكاف، دون أن يعبر عنها بمفرد داله عليها- لكن وليها شيء له تعلق بهذه الهيئة، وهو "الماء" إذ هو أحد أجزائها كما هو الشرط. والأصل في "كأن" الدالة على التشبيه: أن يليها المشبه -عكس الكاف وأخوانها- يقول الله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فضمير النسوة هو المشبه، وما بعده هو المشبه به، ويقول الشاعر: وكأن الهلال نون لجين ... رسمت في صحيفة زرقاء ومثل كأن في هذا الحكم كل ماله معمولان من الأفعال، أو الأسماء المشقة المفيدة لمعنى المماثلة. وتقول: "مائل، أو يمائل خالدا أسدا، وحاكى، أو يحاكي شوقي

_ 1 كما في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} الآية فقد دخلت الكاف على المشبه به وهو لفظ "مثل" الدال على المشبه به المذكور.

أبا الطيب وشابه أو يشابه محمد حاتما -فالذي ولي الأفعال في هذه المثل هو المشبه. وتقول خالد مائل، أو يمائل الأسد، وشوقي حاكي، أو يحاكي أبا الطيب، ومحمد شابه أو يشابه حاتما- وتقول خالد مماثل الأسد، وشوقي محاك أبا الطيب وعلى مشابه حاتما- فالضمائر المستكنة في هذه الأفعال، أو الصفات هي المشبهات، وقد وليتها لأنها فواعل، والفاعل مرتبته التقدم على المفعول- وقد يجري الكلام على خلاف الأصل لقيام قرينة نحو: شابه أسدا على" فيقدم المشبه به لفظا لا معنى. تنبيهان: الأول: ما تقدم من كون "كأن" أداة دالة على التشبيه هو الأكثر استعمالا، وقد تستعمل "كأن" عند الظن بثبوت الخبر، من غير قصد إلى التشبيه- سواء كان جامدا، أو مشقا، نحو كأن محمدًا أخوك، وكأنه شجاع. الثان: قال بعض البيانيين: قد يقوم مقام الأداء في الدلالة على التشبيه فعل غير ما تقدم من الأفعال المشتقة من الممائلة والمشابهة، كما تقول: "أقدم القائد، فوجدته أسدا، وسمعت واعظا، فحسبته سحبان وائل"- غير أن الفعل في المثال الأول يستعمل، حيث يدعى، كمال المماثلة بين الطرفين لأن "وجد" من أفعال اليقين: وأن الفعل في المثال الثاني يستعمل، حين يدعى: ضعف المشابهة بين الطرفين لأن "حسب" ليس فيها أكثر من الإدراك على وجه الظن والرجحان، دون التحقق والتيقن. ولكن الحق: أن لا دلالة الفعل بنوعيه على التشبيه: بل إن الدال عليه هو عدم صحة الحمل، فنحن نجزم: أن "الأسد" مثلا لا يصح حمله على القائد لتباين الحقيقتين، وأن المعنى لا يستقيم إلا على تقدير أداة التشبيه -سواء

ذكر الفعل أولا -غير أن معنى التشبيه مع "وجد" أقوى منه مع "حسب" لدلالة الأول التيقن، دون الثاني- وإذا فالمثالان المذكوران من التشبيه المؤكد وهو ما حذفت منه الأداة على ما سيأتي:

تقسيم التشبيه باعتباره الأداة

تقسيم التشبيه باعتباره الأداة ... تقسيم التشبيه باعتبار الأداة: ينقسم التشبيه بهذا الاعتبار إلى قسمين- مرسل، ومؤكد: فالمرسل: ذكرت فيه أداة التشبيه لفظا أو تقديرا- فمثال الأول قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} وقولك: ناقضو العهود كالأفاعي، وقولك: الساعي بلا طائل كالناقش على الماء- وقول المعري: تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعادله سبك ومثال ما قدرت فيه الأداة قولك: سجعه سجع الحمام، ووشيه وشى الطاووس إذا قدرت في نفسك: أنه على معنى "الكاف" وأن المشبه مثل المشبه به. لاعينه- وسمى مرسلا لإرساله عن التأكيد، أي خلوه منه. والمؤكد: ما تركت فيه الأداة لفظا وتقديرا، أي ترك التصريح بها، وتنوسيت في نظم الكلام أيضا إشعارا -من حيث الظاهر- بأن المشبه هو المشبه به عينه مبالغة، كما تقول: وجهه النهار، وطبعه النسيم، وألفاظه الدر، وعزمه السيف قال المتنبي: أين أزمعت أيهذا الهمام ... نحن نبت الربا وأنت الغمام فتترك ذكر الأداء، ولا تقدرها في نفسك، ادعاء منك: أن المشبه هو المشبه به نفسه، لا شيء سواه -ومنه قوله تعالى: "وهي تمر مر السحاب"، يريد -والله أعلم- أن الجبال يوم القيامة، بعد النفخة الأولى تسير في الهواء كالسحاب، تسوقه الرياح، فهو تشبيه مؤكد، تركت فيه الأداة، وتنوسي تقديرها. ليكون المعنى: أن مرور الجبال يوم القيامة هو

مرور السحاب بعينه، وهذا المعنى هو ما ينبغي أن يفهم تصويرا للحالة التي ستكون -وإليك قول الحماسي، يصف قوما بالكرم والشجاعة: هم البحور عطاء حين تسألم ... وفي اللقاء إذا تلقى بهم يهم1 ولو فرض تقدير الأداة فيما ذكرنا من أمثلة التشبيه المؤكد لكان من قبيل التشبيه المرسل، وإذا فكل مثال تركت فيه الأداة يحتمل أن يكون من قبيل التشبيه المؤكد إذا لم تقدر فيه الأداة- وأن يكون من التشبيه المرسل إن قدرت الأداة، مالم تقم قرينة على المراد. ومن التشبيه المؤكد: ما أضيف فيه المشبه به إلى المشبه2 بعد حذف الأداة، وتقديم المشبه به على المشبه ك ما تقول: "فلان يسترشد بسراج رأيك"، وليس فلان رداء العافية"3- ومنه قول الشاعر: يصف اعتدال الريح وقت الأصيل: والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء4 شبه الشاعر الماء بالفضة في بياضها وصفائها، ثم أضاف المشبه به غلى المشبه بعد حذف الأداء، وتناسبها- كما ذكرنا- ومنه كذلك قول الشريف الرضي، يستمطر الرحمة على قبور الموتى:

_ 1 "البهم" بضم الباء واحده بهمة، وهو الشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى لخطورته وقوة بأسه. 2 والإضافة حينئذ بيانية تقتضي الاتحاد في المفهوم. 3 شبه الرأي بالسراج في الاهتداء به كما شبه العافية باللباس في الاشتمال، ثم قدم المشبه به وأضيف إلى المشبه. 4 "تعبث بالغضون" تحركها وتميلها، و"قد جرى" بمعنى ظهر، و"الأصيل" هو الوقت ما بين العصر والغروب، ويعد من أطيب الأوقات، "وذهبه" صفرته بسبب شعاع الشمس وإطلاق الذهب عليه استعارة، و"اللجين الفضة.

أرسى النسيم بواديكم ولا برحت ... حوامل المزن في أجدائكم تضع1 شبه الشاعر المزن الممتلئة بالماء: بالحوامل من الحيوان، ثم أضاف المشبه به إلى المشبه كسابقه، وفي التعبير بقوله: "تضع" مع قوله: حوامل "المزن" براعة بارعة في مراعاة التناسب- ومنه قول الشاعر السابق: أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود شبه الشاعر الورد بالخدود في حمرته، ثم أضاف المشبه به للمشبه- وسمي التشبيه المتروك فيه الأداء، مؤكدا" لأنه أكد وقرر بدعوى اتحاد الطرفين بحيث، لا يتميز أحدهما عن الآخر في شيء. اختبار: 1- عرف أداة التشبيه، ومثل من عندك بأداتين من أدواته، يكون وجه الشبه في أحد المثالين حسيا، وفي الآخر عقليا. 2- بين أي الطرفين يلي التشبيه، وما حكم "كأن" التشبيهية في هذا الحكم مثل لما تقول، وهل مما يلي فيه المشبه به كاف التشبيه قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ} الآية؟ وأين المشبه في نحو قولك، خالد مائل الأسد "وخالد مماثل الأسد" بالإضافة. 3- بين الخلاف فيما تستعمل فيه "كأن" مع التمثيل، وهل من قبيل أداة التشبيه، فعلا الوجدان والحسبان، في نحو قولهم، زرت عليا فوجدته بحرا، وسمعته فحسبته قسا؟ ما الفرق بين الفعلين.

_ 1 "أرسى النسيم بواديكم"، بمعنى استقر بها، يصفه بلطف الجو واعتداله، و"المزن" أراد بها السحاب، "والأجداث" جمع بالتحريك القبر، و"تضع بمعنى تهمي وتهطل، وعبر بالوضع مراعاة التناسب وهو محسن بديعي.

4- قسم التشبيه باعتبار "الأداء" وعرف كل قسم مع التمثيل، واذكر من أي القسمين قول الشاعر: ورد الخدود ورمان النهود وأغصان القدود وتصيد السادة الصيدا 5- من أي قسمي التشبيه -المرسل والمؤكد- قولهم: صوته مزمار دواد، وما علة التسمية في كل من القسمين؟

تمرينات منوعة

تمرينات منوعة: 1- بين أركان التشبيه في الأبيات الآتية، مع بيان نوعه، من حيث التأكيد والإرسال: 1- وجيش كمثل الليل هولا وهيبة ... وإن زانة ما فيه من أنجم زهر 2- فوجهك كالنار في ضوئها ... وقلبي كالنار في حرها 3- إذا ما الرعد زمجر خلت أسدا ... غضابا في السحاب لها زئير 4- فعلت بنا فعل السماء بأرضه ... خلع الأمير وحقه لم نقضه1 5- إذا الدولة استكفت به في ملمة ... كفاها فكان السيف والكف والقلبا2 2- انثر الأبيات الآتية، مستعملا أداة تشبيه، غير التي استعملها الشاعر،

_ 1 يقول زانتنا خلع الأمير بوشيها وحسنها كما زينت السماء أرضه بمختلف النبات، ولم نقض حق الثناء عليه. 2 "استكفت" اسنعانت، "والملمة" النازلة يريد. إذا استعانت الدولة به كان سيفا على أعدائها وكان الكف التي تبطش بها، والقلب الذي تجترئ به على اقتحام الأهوال.

مع بيان نوع التشبيه، من حيث الإرسال والتأكيد، ومع بيان وجه الشبه. قال ابن المعتز: انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الخدسا كمنجل قد صبغ من فضة ... يحصد من زهر الدجى نرجسا وقال: والنجم في الليل البهيم تخاله ... عينا تخالس غفلة الرقباء والصبح من تحت الظلام كأنه ... شيب بدا في لمة سوداء 3- اجعل كل كلمة مما يأتي مشبهات، في تشبيه تأتي به، وبين الوجه فيها، مع التنويع في الأداء: اللحظة، الشيب. الكملة النافذة. الحق. القلب. الطرف الناعس. الرئم الأغن. 4- اجعل من الكلمات الآتية مشبهات بها، وخالف بين الأداء في كل منها مع بيان الوجه: السيف القاطع. الصبح الأبلج. النار اللاقحة. الجبل الأشم. الماء الزلال. البحر الخضم. 5- اجعل كل صفة من الصفات الآتية وجه شبه، في تشبيه تأتي به، مع بيان الطرفين: البهاء. الدمامة. السرعة. الصفاء. الصمود. الكدر. القسوة الهداية. 6- اجعل كل كلمتين مناسبتين طرفي تشبيه، تكونه. مع بيان وجه الشبه في كل تشبيه: الدرع. النسر. الماء. الثغر. الطائرة. اللؤلؤ. الحجة. الليل. الشمس القمر.

جواب التمرين الأول: تمرينات منوعة: 1- بين طرف التشبيه ونوعه باعتبار الأداة - فيما يأتي: 1- الخل كمالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء يخفيها مع الكدر 2- وصبغ شقائق النعمان يحكي ... يواقيتًا نظمن على اقتران1 3- كأن سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفي أسود يبتسم 4- فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع 5- له خال على صفحات خد ... كنقطة عنبر في صحن مرمر 6- كم نعمة مرت بنا وكأنها ... فرس يهرول أو نسيم سار

_ 1 "الصبغ" اللون: "وشقائق النعمان" زهر أحمر يشوبه نقط سود، واليواقيت مفرده ياقوته وهي جوهر نفيس صلب شفاف و"نظمن على اقتران" أي اجتمعن في سلك واحد على مقارنة ومماثلة.

2- بين طرفي التشبيه ونوعه باعتبار الأداء فيما يأتي من الأبيات: داوت تواضعا وعلوت مجدا ... فشأناك انخفاض وارتفاع كذاك الشمس يبعد أن تسامي ... ويدنو للضوء منا والشعاع لي جار كلانه أليوم في الشكل ... وأما في عجبه فقرات هو كالماء إن أردت له قبضان ... وإن رمت موردا فسراب

مراتب التشبيه

مراتب التشبيه: للتشبيه باعتبار الوجه والأداة -ذكرا، أو تركا- مراتب ثلاث، تتفاوت قوة وضعفا. فالأولى -وهي عليا المراتب- ما ترك فيها الوجه والأداة جميعا كما يقول الشاعر: عزماتهم قضب وفيض أكفهم ... سحب وبيض وجوههم أقمار

فكل من هذه الشبيهات الثلاثة في البيت، يفيد من قوة المبالغة مالا يفيده غيره مما سنذكره بعد. وجه ذلك: أنه مشتمل على معنى الاتحاد من الطرفين، من وجهين: الأول: أن ترك الوجه يفيد، بحسب الظاهر. عموم جهة الإلحاق1 أي أن المشبه في التشبيهات المذكورة، يماثل المشبه به في كافة صفاته إذ لا ترجيح لبعض الأوصاف على بعض، عند ترك التصريح بالوجه- فالتشبيه الأخير مثلا من البيت، يفيد مماثلة الوجوه البيض، للأقمار في كافة صفاتها من البياض والإشراق، والاستدارة ما إلى ذلك من أوصاف القمر، من غير ترجيح لبعض الأوصاف، وهذا من غير شك يقوى معنى الاتحاد بين الطرفين، وهو مناط المبالغة- بخلاف ما لو ذكر الوجه لفظ، أو تقديرا: فقيل: "وجوهم أقمار في الإشراق" مثلا، فإنه يفيد: أن الوجوه تماثل الأقمار في وصف "الأشراق فقط، دون سائر الصفات فتضعف بذلك دعوى الاتحاد. الثاني: أن ترك الأداة يفيد -بحسب الظاهر أيضا: أن المشبه به في المثال المذكور محمودل على المشبه2، والحمل يقتضي اتحادهما معنى، أي أن يكون المشبه هو المشبه به عينه، وليس شيئا سواه، وإلا ما صح الحمل فيهما لامتناع حمل أحد المتباينين على الآخر- بخلاف ما لو ذكرت الأداة لفظا، أو تقديرا، فقيل مثلا: وجوههم كالأقمار، فإنه يفيد أن "الوجوه" غير "الأقمار" وهذا يضعف دعوى الاتحاد بين الطرفين. فترك الوجه والأداة إذن، يفيد معنى الاتحاد بين الطرفين من جهتين -كما بينا-

_ 1 إنما كانت إفادته العموم بحسب لأن الوجه في الحقيقة وصف خاص قصد اشتراك الطرفين فيه "كالمضاء" مثلا في التشبيه الأول من البيت "بين العزمات والقضب" التي هي السيوف. 2 إنما كان بحسب الظاهر أيضا لأنه في الحقيقة لا حمل بين حقيقتين مختلفتين، وإنما هو تشبيه أحدهما بالآخر.

لهذا كان التشبيه عند تركهما في المرتبة الأولى1. والمرتبة الثانية -وهي الوسطى- ما ترك فيها ذكر أحدهما- الوجه أو الأداة- كما تقول في المثال المذكور: "وجوههم كالأقمار" أو "وجوههم أقمار في الإشراق" فقد ترك "الوجه" في الأول، "والأداء" في الثاني- وإنما كان التشبيه في هاتين الصورتين في المرتبة الوسطى لاشتماله على معنى الاتحاد بين الطرفين من جهة واحدة، أي من جهة عموم الإلحاق كما في صورة ترك الوجه، أو من جهة حمل أحد الطرفين على الآخر -كما في صورة ترك الأداة. غير أنه قيل: إن الصورة الثانية، وهي ما ترك فيها الأداة، دون الوجه أقوى مبالغة من الصورة التي ترك وجه الشبه، دون الأداة لظهور حمل أحد الطرفين على الآخر، المقتضى للتماثل التام بينهما -بخلاف الصورة الأولى التي ترك فيها الوجه، فإن عموم جهة التمثيل، مع وجود ما يقتضي التباين، وهو "الأداء"ن يضعف دعوى الاتحاد- فضلا عن أن المتروك يحتمل الخصوص. والمرتبة- وهي المرتبة الدنيا: ما ذكر فيها الوجه والأداة جميعا، عكس الأولى كما تقول: "وجوهم كالأقمار في الإشراق"- وإنما كانت هذه المرتبة دنيا المراتب الثلاث، لخلو التشبيه فيها عن دعوى الاتحاد التي هي مناط المبالغة فيه. تنبيه: اعلم: أن وصف التشبه بالعلو، أو التوسط، أو الانحطاط فرع عن تحققه، وهو إنما يتحقق بالطرفين، فلا بد إذن من ذكرهما -أما المشبه به فلأنه الأصل المقيس به -وأما المشبه فلأنه الفرع المقيس- غير أنه يجوز ترك المشبه لفظا

_ 1 إنما عبر بالترك في جانب حذف الوجه والأداة لأن معناه: عدم الذكر لفظا وتقديرا وهذا هو المراد لأن مدار المبالغة على دعوى الاتحاد، وهي لا تجامع التقدير في نظم الكلام.

فقط إذا دلت عليه قرينة -كأن يكون بينك وبين مخاطبك مذاكرة في شأن إنسان معين، فتقول له: وما شأنه؟ فيقول: "بحر" على تقدير: "هو بحر" فلا يذكر المشبه لدلالة الكلام السابق عليه -لكن لابد من تقديره في نظم الكلام، وإلا كان استعارة لا تشبيها -على ما سيأتي اهـ. اختبار: تمرينات منوعة: 1- بين أركان التشبيه، في البيتين الآتيين: كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل1 إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع 2- تكلم عن كل ما يتعلق بالتشبيه في البيت الآتي: العلم في الصدر مثل الشمس في الفلك ... والعقل للمرء مثل التاج للملك 3- بين وجه الشبه، ونوع التشبيه باعتباره في البيتين الآتيين: ما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يوافي تمام الشهر ثم يغيب طلق شديد البأس راحته ... كالبحر فيه النفع والضرر 4- بين ما في هذه الأبيات "من تشبيه" مع بيان نوعه: 1- نشرت إلى غدائرا من شعرها ... حذر الكواشح والعدو الموبق

_ 1 كفة الحابل، بضم الكاف شبكة الصياد.

فكأنني وكأنها وكأنه ... صبحان باتا تحت ليل مطبق1 2- لدى نرجس غضن القطاف كأنه ... إذا ما منحناه العيون عيون 3- أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود 4- لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا ... فالطير يرقص مذبوحا من الألم 5- من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام جواب التمرين الرابع: 1- شبه هيئة اجتماعه بها وقد انسدل الشعر عليهما: بهيئة اجتماع صبحين انضويا تحت ليل حالك. ووجه الشبه: هيئة الشيء الأسود ينطي على شيئين يخالفانه لونا، وهو تشبيه تمثيل لجريانه في الهيئات، ومجمل لعدم التصريح بالوجه، وغريب لخفاء الوجه، لما فيه من الدقة التركيبية. 2- شبه النرجس، وهو مفرد حسي بالعيون، وهو مفرد حسي كذلك ووجه الشبه ما في كل من بياض يتوسطه سواد، وهو مجمل لعدم ذكر الوجه. 3- شبه هيئة الأقحوان، وهو يعانق الشقيق: بهيئة الثغور تعض الخدود، ووجه الشبه هيئة شيء ذي بياض يخالط شيئا يضرب لونه إلى الحمرة، وهو تشبيه تمثيل لجريانه في الهيئات، ومجمل لعدم التصريح بالوجه، وغريب

_ 1 "الكواشح" جمع كاشح، هو الذي يضمر لك العداوة، وقد جمع على كواشح كفارس وفوارس، و"الموبق" الملك و"الليل المطبق" شديد الظلام.

لخفاء الوجه -وفي "ورد الخدود" تشبيه مؤكد من إضافة المشبه به المشبه. 4- شبه هيئة المتألم يضطرب من شدة الألم. بهيئة الحيوان الذبيح يضطرب كالراقص لشدة ما يعانيه من آلام الذبح، ووجه الشبه هيئة المتألم المضطرب، وهو تشبيه تمثيل، ومجمل غريبن والتشبيه فيه ضمني لا صريح. 5- شبه حال من بغداد الهوان فيقبله، ولا يتألم له: بحال ميت يوخز بالأسنة فلا يحس ألما، ولا يشكو وجعا ووجه الشبه عدم التأثر مما ينبغي التأثر منه. وهو تشبيه تمثيل. ومجمل غريب، والتشبيه أيضا ضمني، أخذ مضمون الكلام.

مبحث الحقيقة والمجاز

مبحث الحقيقة والمجاز مدخل ... مبحث الحقيقة والمجاز 1: اعلم: أن المقصود الأصلي من علم البيان هو "المجاز" إذ هو الذي يتأتى فيه اختلاف الطرق في وضوح الدلالة على المعنى المراد -أما الحقيقة فلا يتأتى فيها ذلك لأنها إنما وضعت لشيء بعينه لتستعمل فيه، فإن كان السامع عالما بالوضع فلا تفاوت، وإلا لم يفهم شيئا أصلا لتوقف الفهم على العلم بالوضع. غير أنه لماكانت الحقيقة بمثابة الأصل2 للمجاز: من حيث إن الاستعمال في غير ما وضع له اللفظ فرع الاستعمال فيما وضع له: جرت العادة بالبحث عن الحقيقة أولا. وإليك بيان:

_ 1 قد يقيدان باللغويين لإخراج الحقيقة والمجاز العقليين، والأكثر عدم التقييد لأنهما عند الإطلاق لا ينصرفان لغير اللغويين- بخلاف الحقيقة والمجاز العقليين فقد اصطلحوا على وجوب تقيدهما بهذا القيد. 2 إنما قتلنا ذلك إشارة إلى أنها ليست أصلا للمجاز حقيقةن وإلا كان لكل مجاز حقيقة وليس كذلك فإن لفظ "الرحمن" قد استعمل من أول الأمر في "المنعم" مجازا، ولم يسبق له استعمال في المعنى الحقيقي الذي هو رقيق القلب فهو إذا مجاز لم يتفرع عن حقيقة.

الحقيقة: تعريفها: هي -في إصطلاح البيانيين1- الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب، أي في الاصطلاح الذي جرى به التخاطب "كالأسد" إذا استعمل في الحيوان المفترس، فهو حقيقة لاستعماله فيما وضع له في كافة الاصطلاحات، "وكالصلاة" إذا استعملها المتكلم بعرف الشرع في "الأركان الخاصة"،- فهي أيضا حيقيقة لاستعمالها فيما وضعت له في اصطلاح أهل الشرع -و"كالصلاة" أيضا إذا استعملها المتكلم بعرف اللغة في "الدعاء" فهي كذلك حقيقة لاستعمالها فيما وضعت له في اصطلاح أرباب اللغة وهكذا. واعلم: أن بالتعريف قيودا ثلاثة: 1- المستعملة. 2- فيما وضعت له. 3 في اصطلاح التخاطب -وقد جئ بهذه القيود للاحتراز. أما القيد الأول: قد احترز به عن الكملة قبل الاستعمال، فلا تسمى حقيقة ولا مجازا- لأن الاستعمال هو الذي يعين المعنى المراد من اللفظ. وأما القيد الثاني: فقد احترز به عن شيئين: 1- الغلط اللساني1، وهو ما استعمل في غير ما وضع له غلطا، كأن تقول

_ 1 وهي في اللغة وصف على زنة "فعيل" إما بمعنى فاعل من حق الشيء إذا ثبت فهو حقيق أي ثابت قال تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون" أي لقد ثبت القول- وإما بمعنى مفعول من حققت الشيء إذا أثبته، فهو حقيق أي مثبت، ثم نقل هذا اللفظ في اصطلاحهم من الوصفية بمعنييها إلى الكلمة المستعملة فيما وضعت له، والتاء فيه للدلالة على نقل الكلمة من الوصفية إلى الإسمية، وليست التاء للتأنيث بدليل صحة أن يقال: هذا اللفظ حقيقة ولو كانت للتأنيث ما صح أن يقال ذلك. 2 أما لاغظ القلبي فهو حقيقة أن كان الاستعمال فيما وضع له بحسب زعم المتكلم ولو أخطأ في قصده كمن قال في شأن حجر رآه عن بعد، هذا طائر معتقدا أنه حيوان ذو جناح

لآخر: ناولني هذا الحجب مشيرا إلى كتاب -فمثل هذا لا يسمى "حقيقة" لاستعماله في غير وضع له. ولا يسمى "مجازًا" لعدم وجود علاقة بين معنين الحجر والكتاب. 2- المجاز، وهو ما استعمل في غير ما وضع له في سائر الاصطلاحات "كالأسد" المستعمل في الرجل الجرئ، من قولك: "على الفرس أسد". وأما القيد الثالث: فقد احترز به عن الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح آخر. غير الاصطلاح الذي جرى به التخاطب "كالصلاة" إذا استعملها المتكلم بعرف الشرع في "الدعاء"- فليست حقيقة لعدم استعمالها فيما وضعت له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب، وهو الشرع، وإن استعملت فيما وضعت له في اصطلاح أهل اللغة -و"كالصلاة" أيضا إذا استعملها المتكلم بعرف اللغة في الأركان الخاصة -فليست حقيقة لعدم استعمالها فيما وضعت له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب، وهو "اللغة" وإن استعملت فيما وضعت له في اصطلاح أهل الشرع. وإذن فالمدار في الحقيقة على أن تكون الكلمة مستعملة فيما وضعت له عند أهل الاصطلاح الذي جرى به التخاطب بالكلمة المذكورة- وإذا فرغنا من بيان معنى الحقيقة فإليك بيان: المجاز: تعريفه -هو- في الاصطلاح1- يختلف معناه باختلافه- إفرادا وتركيبا.

_ 1 وهو في اللغة مصدر ميمي على زنة مفعل بمعنى الجواز والتعدية نقل إلى الكلمة المستعملة في غير ما وضعت به باعتبار أنا جائزة مكانها الأصلي، فيكون المصدر بمعنى اسم الفاعل- أو باعتبار أنها مجوز بها مكانها الأصلي فيكون المصدر بمعنى اسم المفعول- وقيل: هو في اللغة مصدر ميمي بمعنى مكان الجوز والتعدية فهو من جاز المكان سلكه إلى كذا ثم نقل إلى الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له.

فالمجاز المفرد: هو الكلمة المستعملة، في غير ما وضعت له، في اصطلاح التخاطب، لعلاقة بين المعنى الموضوعة له، والمعنى المستعملة فيه، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوع له اللفظ. والعلاقة: هي المناسبة الخاصة بين المعنى الأصلي، الموضوع له اللفظ، والمعنى المقصود منه- ولابد منها لصحة النقل من المعنى الأصلي إلى المعنى المراد. والقرينة: هي الأمر الذي يجعله المتكلم دليلا على أنه أراد باللفظ غير المعنى الموضوع له -مثال ذلك لفظ "أسد" المستعمل في الجرئ، في نحو قولك: "على الفرس أسد"، ولفظ "الغيث" المستعمل في "النبات" في نحو قولك: "رعت الماشية الغيث"، ولفظ "الصلاة" المستعمل عند أهل الشرع في الدعاء- فكل من هذه الألفاظ "مجاز مفرد". لأنه كلمة مستعملة في غير المعنى الموضوعة له في اصطلاح التخاطب- والعلاقة بين المعنيين في الأول: مشابهة الرجل للأسد في الجرأة، وفي الثاني: سببية الغيث للنبات، وفي الثالث: الكلية والجزيئة، إذا أن الصلاة كل للدعاء، وهو جزء منها- والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي قولك في المثال الأول: "على الفرس" إذ الحلول فوق الفرس ليس من شأن الحيوان المفترس والقرينة في الثاني قولك: "رعت" إذ أن الغيث لا يرعى- والقرينة في الثالث حالية، وهي كون المستعمل اللفظ "الصلاة" من أرباب الشرع. وفي هذا التعريف قيود خمسة: 1- المستعملة 2- في غير ما وضعت له 3- في اصطلاح التخاطب 4- لعلاقة 5- مع قرينة مانعة. أما القيد الأول: فقد احترز به عن الكلمة قبل الاستعمال، "فلا تسمى حقيقة" "كما لا تسمى مجازا"- على ما ذكرنا في تعريف الحقيقة.

وأما القيد الثاني: "فقد احترز به عن الحقيقة، وهي الكلمة المستعملة فيما وضعت له "كالأسد" المستعمل في الحيوان المعروف. وأما القيد الثالث: فقد احترز به عن الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح آخر، غير الاصطلاح الذي وقع به التخاطب "كالصلاة" التي استعملها المتكلم بعرف الشرع في الأركان الخاصة. فليست بمجاز لعدم استعمالها في غير ما وضعت له في اصطلاح أهل الشرع، وإن استعملت في غير ما وضعت له-في اصطلاح أهل اللغة- "وكالصلاة" أيضا إذا استعملها المتكلم بعرف اللغة في "الدعاء"، فليست مجازا كذلك لعدم استعمالها في غير ما وضعت له في اصطلاح أهل الفقة، وإن استعملت في غير ما وضعت في اصطلاح الشرع. فالمدار: في المجاز حينئذ على أن تكون الكلمة مستعملة في غير ما وضعت له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب بالكلمة المنطوق بها. وأما القيد الرابع: فقد احترز به عن الغلط اللساني1. وهو ما استعمل في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنيين، من غير تعمد لهذا الاستعمال- كما إذا أشار متكلم إلى حجر، وأراد أن يقول لآخر: خذ هذا الحجر، فسبقه لسانه، فقال: خذ هذا الكتاب- فمثل هذا لا يسمى "مجازا" لأنه- وإن استعمل فيه اللفظ في غير ما وضع له- لا علاقة فيه بين المعنيين.

_ 1 أما الغلط في الاعتقاد -فإن استعمل اللفظ في معناه بحسب اعتقاد المتكلم كأن يقول: انظر إلى هذا الأسد معتقدا أنه الحيوان المعروف فإذا هو فرس- فهو حقيقة لاستعماله في معناه الأصلي حسب اعتقاده وإن لم يصب- وإن استعمل اللفظ في غير معناه الأصلي بحسب اعتقاده كأن يقول: انظر إلى هذا "الأسد" مشيرا إلى حجرا معتقدا أنه رجل شجاع كان مجازا لأنه، مستعمل في غير الحقيقي لعلاقة وإن لم يصب في إثبات العلاقة في المشار إليه- وهذا صح الأقوال، إذا المعول عليه الاعتقاد.

ومن هنا يعلم: أن لابد للمجاز من علاقة1، وهي -كما قلنا- مناسبة خاصة بين المعنى الحقيقي، والمعنى المجازي كالمشابهة "أو السببية"، أو الكلية والجزئية- على ما سبق بيانه- غير أنه لا يكفي في المجاز مجرد وجود العلاقة بين المعنيين، بل لابد من اعتبارها وملاحظتها2. وأما القيد الخامس: فقد احترز به عن الكناية، بناء على القول بأنها واسطة، لا هي حقيقة، ولا مجاز3 فهي اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، مع قرينة غير مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، بحيث تجوز إرادته، مع المعنى الكنائي4. اختبار: 1- عرف الحقيقة في الاصطلاح، وهل التاء فيها لإفادة معنى التأنيث بين ذلك مع بيان القيود الواردة في التعريف ومحترز كل قيد، مع التمثيل لكل ما تذكرز 2- عرف المجاز في الاصطلاح، وبين القيود الواردة في تعريفه، ومحترز كل قيد، مع التمثيل. 3- بين في مثال من عندك معنى العلاقة والقرينة- وهل يكفي مجرد وجود

_ 1 سميت علاقة لأنه بسببها يتعلق المعنى الثاني بالأول، ويرتبط به فينتقل الذهن حينئذ من المعنى الأول إلى الثاني. 2 المعتبر في العلاقة: نوعها لاشخصها، ولهذا جاز إنشاء المجاز في كلم المولدين فإذا استعمل العرب علاقة خاصة بين معنيين جاز لنا أن نستعمل الربط بينها شيئا آخر غير الذي استعملوه، ولو كان المعتبر شخص العلاقة لتوقف استعمال اللفظ في معناه المجازي على النقل عن العرب، وليس كذلك. 3 أما أنها ليست حقيقة فلأن الحقيقة -كما سبق- اللفظ المستعمل فيما وضع له والكناية ليست كذلك وأما أنها ليست مجازا، فلأنه اشترط فيه القرينة المانعة من إرادة الحقيقة والكناية أيضا ليست كذلك. 4 المراد بجواز إرادة المعنى الحقيقي ألا ينصب المتكلم قرينة على انتقائه- وليس المراد: أن يوجد الحقيقي معها دائما فإنك إذا قلت مثلا: فلان طويل النجاد كناية عن طول قامته صح ذلك وإن لم يكن له نجاد- اللهم إلا إذا قصد المتكلم جعل علم المخاطب بأن لا نجاد له قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي فإنه حينئذ يكون مجازا لا كناية.

93- العلاقة، وهل المعتبر فيها نوعها وشخصها، وجه لكل ما تقول، مع التمثيل.

تقسيم المجاز المفرد

تقسيم المجاز المفرد: قلنا فيما سبق- أن المجاز لا بد له من علاقة تصحح التجوز، وهي- كماسبق: المناسبة الخاصة بين المعنيين- الحقيقي، والمجازي. وهو ينقسم -باعتبار هذه العلاقة- إلى مجاز مرسل، واستعارة. فإن كان العلاقة بين المعنيين غير المشابهة- سمي اللفظ مجازا مرسلا، كلفظ "النبات" المستعمل في "الغيث" في نحو قولك: "أمطرت السماء نباتا" فإن العلاقة بين النبات والغيث السببية، إذ أن النبات مسبب عن الغيث. وإن كانت العلاقة بين المعنيين "المشابهة" سمي اللفظ، "استعارة" كلفظ "القمر" المستعمل في الإنسان الجميل، في نحو قولك "بين بردية القمر" فإن العلاقة بين معنى القمر، والإنسان الجميل، الإنسان المذكور للقمر في الوضاءة والإشراق -وإليك بيان:

المجاز المرسل

المجاز المرسل: وهو ما كانت العلاقة فيه بين المعنيين غير المشابهة -والعلاقة فيه على أنواع شتى- وهاك أشهرها، وأكثرها استعمالا: 1- السببية كما تقول: "رعت الماشية الغيث"، فليس المراد "بالغيث" معناه الحقيقي بقرينة: قولك: رعت" إذ أن الغيث لا يرعى. فالمراد به إذن: "النبات" فلفظ "الغيث" حيئذ مجاز مرسل، علاقته السببية، لأن الغيث سبب في النبات- ومثله قولك: "جلت يدك عندي" "وعمت أياديك الوردى"- فليس المراد: "باليد" في المثالين: معناها الحقيقي الذي هو "الجارحة" بقرينة قوله: "جلت" في المثال الأول، "وعمت" في الثاني، إذ لا معنى لعظم اليد، بمعنى الجارحة، كما أن لا معنى لعمومها -وإنما المراد بها: "النعمة" فاليد في المثالين مجاز مرسل، علاقته السببيه، لأن اليد سبب في وصول النعمة إلى مستحقيها- ومنه قول أبي الطيب المتنبي:

له أياد على سابغة ... أعد منها ولا أعددها يقول: إن الممدوح على نعما شاملة، يعد وجودي منها، ولا أستطيع حصرها ومثال ذلك أيضان قوله تعالى: "يد الله فوق أيديهم" فليس المراد "باليد":معناها الحقيقي، بقرينة استحالة أن لله يدا، ولأنه لا معنى لكون اليد بمعنى "الجارحة، فوقديد أخرى، بل المراد بها: القدرة على معنى: قدرة الله لا تدانيها قدرة-فلفظ اليد في الآية إذن مجاز مرسل، علاقته السببية، لأن أكثر ما يظهر سلطان القدرة في اليد، إذ بها البطش، والضرب، والقطع والدفع، وغير ذلك مما يعتبر أثرا من آثار القدرة. 2- المسببية: كما في قولك: "أمطرت السماء نباتا"، فليس المراد "بالنبات" معناه الحقيقي، بقرينة قوله: "أمطرت"، إذ أن النبات لا يمطر، وإنما المراد به "الغيث"، فالنبات إذن مجاز مرسل، علاقته المسببية، إذ أن النبات مسبب عن الغيث- ومثله قوله تعالى: {يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} أي ماء، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} يريد: مالاحراما فقد عبر في الآية الأولى عن الماء بالرزق، وعبر في الثانية عن المال الحرام، "بالنار مجازا مرسلا، علاقته المسببية، إذا أن الرزق في الأولى مسبب عن الماء، والنار في الثانية مسببة عن أكل المال الحرام، والقرينة في الأولى قوله: "ينزل من السماء لأن أرزاق الناس لا تنزل بذاتها من السماء، والقرينة في الثانية قوله: "يأكلون في بطونهم" لأن النار لا تؤكل في البطون. 3- اللازمية1 كما تقول: "بزغ الضوء" فليس المراد: المعنى الحقيقي للضوء بقرينة لفظ "البزوغ" لأنه وصف لجرم الشمس لا للضوء، "فالضوء" إذن مجاز مرسل يراد به "الشمس" علاقته اللازمية، لأن الضوء لازم للشمس يلزم من وجود الشمس وجود الضوء- ومثله: قولك "نظرت إلى الحرارة فليس المراد بالحرارة: معناه الحقيقي، بقرينة "نظرت" لأن الحرارة لا ترى

_ 1 ليس المراد باللزوم عدم الاحتكاك بل المراد به مطلق ارتباط.

بالباصرة، وإنما المراد: النار، ففي "الحرارة" مجاز مرسل علاقته اللازمية، لأن الحرارة توجد حتما عند وجود النار. 4- الملزومية كما تقول: "دخلت الشمس من الكوة"1، فليس المراد من الشمس: المعنى الحقيقي الذي هو الجرم المعروف، بقرينة قوله: "دخلت"، إذ ليس الدخول من صفات الجرم المذكور، وإنما المعنى الحقيقي للشمس ملزوم للضوء، يوجد حتما عند وجودها- ومثله قولك: "ملأت الشمس الغرفة" تريد ملأ الضوء، بقرينة "ملأت". 5- الكلية كما في قوله تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} فليس المراد بالأصابع: معناها الحقيقي، بقرينة استحالة إدخال الأصبع كلها في الأذن عادة، وإذن فالمراد بها "الأنامل" التي هي أطراف الأصابع، "فالأصابع" حينئذ مجاز مرسل، علاقته الكلية، إذ أن الأصابع كل للأنامل- ومثله قولك: "أكلت نبات الأرض، وشربت ماء النيل". فقد أطلق اسم الكل، وهو "النبات أو الماء"، وأريد الجزء، بقرينة "أكلت" في الأول "وشربت" في الثاني لاستحالة أكل الكل، أو شربه. 6- الجزئية كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فليس المراد بالرقبة: الجزء الخاص بها فقط، بدليل "التحرير"، لأنه إنما يكون للذات كلها، لا لجزء منها، إذ أن العنق لا يتجزأ- وإنما المراد بها: الذات كلها، فالرقبة إذن مجاز مرسل، علاقته الجزئية، لأن الرقبة جزء من العبد- ومثله قول الشاعر: كما بعثنا الجيش حرا ... را وأرسلنا العيونا فليس المراد بالعيون: حقيقتها بقرينة "أرسلنا" لاستحالة إرسال العيون

_ 1 "الكوة" بفتح الكاف وقد تضم، الفتحة في الحائط.

وحدها، وإذن فقد عبر بالعيون عن الجواسيس مجازا مرسلا، علاقته الجزئية، لأن العين جزء من الجاسوس-ومثله كذلك إطلاق القافية على القصيدة، في قول معن بن أوس المزني1 في ابن أخته: أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد2 ساعده رماني وكم علمته نظم القواقي ... فلما قال قافية هجاني الشاهد في البيت الثاني حيث عبر بالقافية، وأراد: القصدية، بقرينة لفظ "قال" لأن معناه: "نظم"، والنظم إنما يكون للقصائد كما لا يخفى- فلفظ قافية" إذن مجاز مرسل، علاقته الجزئية، إذا أن القافية جزء من القصيدة. غير أنه يشترط لعلاقة الجزئية- غالبا- أحد أمور ثلاثة: الأول: أن يكون انتفاء الجزء مستلزما لانتفاء الكل كما في إطلاق الرقبة على الذات، في المثال الأول، إذ ليس من شك: أن إتلاف الرقبة إعدام الذات، فلا يصح حينئذ: إطلاق اليد، أو الرجل، أو الأنف على الذات، مجازا مرسلا علاقته الجزئية، لأنها أجزاء لا يستلزم انتفاؤها انتفاء الذات عادة، ولا نتوقف عليها حياتها. الثاني: أن يكون للجزء مزيد اختصاص بالمعنى المقصود من الكل، كما في إطلاق العين على الرقيب "في المثال الثاني" فإن المعنى المقصود من الرقيب: هو الاطلاع والتجسس، ولا شك أن للعين مزيد اختصاص في تحقيق هذا الغرض، إذ بانعدامها لا يتحقق معنى الرقابة -فإطلاق "اليد" مثلا على الرقيب مجازا مرسلا لا يجوز، إذ ليس لها مزيد اختصاص بالمعنى المراد من الرقيب.

_ 1 هو شاعر مخضرم يجيد القول في باب الحكم، وفي الشعر الخلقي. 2 يروى بالسين المهملة من التسديد في الرأي الإصابة فيه.

الثالث: أن يكون الجزء أشرف بقية الأجزاء كما في إطلاق القافية على القصيدة في "المثال الثالث" إذ لا ريب أن القافية هي الأساس الذي تبنى عليه القصيدة، فهي إذن أشرف التفاعيل، وأولاها بالاعتبار فلا يجوز إطلاق أي جزء آخر من أجزاء البيت على القصيدة مجازا مرسلا. إذ ليس له من الاعتبار ما للقافية، وقد علمت أن هذه الشروط في الحالة الغالبة. 7- الحالية: كما في قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} فليس المراد بالنعيم: معناه الحقيقي الذي هو "معنى المتعة" بقرينة الظرفية، إذ لا معنى لا يحل الإنسان في معنى من المعاني، وإنما المراد به: مكان النعيم أي "الجنة "وإذن فإطلاق النعيم على مكانه مجاز مرسل علاقته الحالية، إذ النعيم حال في الجنة -ومثله قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، أي خذوا لباسكم، فعبر عن اللباس بالزينة مجازا مرسلا" علاقته الحالية، لحلول الزينة في اللباس- والقرينة قوله: "خذوا، لأن الزينة لا تؤخذ- ومنه قوله الشاعر: ألما على معنى وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا بعد مربع1 يريد: ألما على فبر معن، أي أنزلا به- أطلق اللفظ وأراد المكان، إذ لا معنى لأن يحل إنسان بآخر، خصوصا إذا كان معدوما كما هنا. 8- المحلية: كما في قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} 2 فليس المراد من النادي: معناه الحقيقي الذي هو مكان الاجتماع لقرينة قوله: "فليدع" لاستحالة دعاء الأمكنة وإنما المراد: أهل النادي، وهم نصراؤه وعشيرته- ففي "ناديه" مجاز مرسل علاقته المحلية، إذ أن النادي محل لأهله يجتمعون فيه- ومثله قوله سبحانه: "واسأل أهل القرية" أي أهلها، ففيه كسابقه مجاز مرسل، علاقته المحلية، إذا أن القرية محل ساكنيها وقرينته استحالة سؤال الأماكن والأبنية- ومنه قولهم: أمليت القلم من الدواة، أي

_ 1 "الغوادي" جمع غادية وهي السحابة تمر غدوة، والمربع المنزل والأحسن أن تكون اسما مأخوذا من أربعة والمعنى: سقتك الغوادي أربعة أيام متوالية أثر أربعة أخرى والغرض الدعاء بكثرة السقيا للقبر. 2 نادى القوم مجتمعهم كالمنتدى.

من المداد، أطلق اسم المحل وأريد الحال، بقرينة "أمليت"،- ومنه "الصرف المعهد" تريد: طلابه ... وهكذا وكل هذه الأمثلة، وما يماثلها مبني على أحد احتمالين1. 9- الآلية كما في قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} فليس المراد باللسان: معناه الحقيقي الذي هو الجارحة.. بقرينة استحالة بقاء هذه الجارحة فمن يأتي من الأمم بعد، وإنما المراد به: الذكر الصادق، والثناء العاطر، ففي اللسان مجاز مرسل، علاقته الآلية، لأن اللسان بمعنا الحقيقي آلة وواسطة الذكر الحسن- ومثل الآية قول الشاعر: "أتاني لسان منك لا أستسيغه، أي ذكر لا يسر، أطلق عليه اللسان لأنه آلته- ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ، وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِك} - عبر باللسان في الآيتين عن اللغة لأنه آلتها. 10- اعتبار ما كان كما في قوله تعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى 2 أَمْوَالَهُمْ} فليس المراد باليتامى: المعنى الحقيقي، بدليل الأمر بدفع الأموال إليهم، بتمكينهم منها بالتصرف فيها: إذ أن ذلك لا يكون إلا بعد البلوغ، حتى يحسنوا التصرف فيما يدفع إليهم من مال مورثيهم، وإذن فالمراد باليتامى: البالغون منهم، وحينئذ فإطلاق اليتامى على البالغين الراشدين مجاز مرسل، علاقته اعتبار ما كان- ومنه قولهم: أكلنا قمحا وشربنا بناء ولبسنا قطنا" ونحو ذلك مما يكون التعبير فيه باعتبار ما كان. 11- اعتبار ما يكون كما في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} - فليس المراد من الخمر: معناها الحقيقي- بدليل ذكر "العصر" لأن الخمر عصير، والعصير لا يعصر، وإنما يريد: عنبا يئول عصيره إلى خمر- وإذن ففي لفظ "خمر" مجاز مرسل، علاقته "اعتبار ما يكون"، أي ما يئول إليه العنب من الاختمار- ومثله قوله

_ 1 والاحتمال الآخر أن يكون من قبيل المجاز بالحذف على تقدير مضاف، وحينئذ لا يكون في الكلام تجوز في المعنى. 2 جميع يتيم، وهو من الإنسان صغير فقد أباه، ومن الحيوان رضيع فقد أمه.

تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} أي وليدا، يئول أمره إلى هذه الحالة- بقرينة قوله: "ولا يلدوا" إذ لا يمكن أن يكون فاجرا في فجر ولادته. 12- المجاوزة كما في إطلاق لفظ "الرواية" على القربة في قولهم: "خلت الرواية من الماء" يريدون: خلت القربة- ومعنى الرواية في الصل: الدابة يستقى عليها، فليس المراد من الراوية حينئذ: المعنى الحقيقي الذي هو الدابة، بدليل قوله: "خلت" لأن الذي يخلو من الماء إنما هو الوعاء لا الحيوان، وإذن فالمراد به: القربة مجازا مرسلا، علاقته المجاورة الدابة للقربة عند الحمل. ومنه قول الشاعر: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم يريد: شككت بالرمح جسمه أي طعنته -فليس المراد من "الثياب" معناها الحقيقي، بقرينة قوله: "شككت"، إذ المراد بالشك: الطعن، وهو إنما يكون في الأجسام، لا في الثياب، فهو إذن مجاز مرسل علاقته المجاورة التامة وأي مجاورة أتم من الثياب للجسم؟ - ومما علاقته المجاورة: إطلاق اللفظ على المعنى، أو العكس، في نحو قولك: "فهمت اللفظ" وتريد: معناه، أو "قرأت المعنى" وتريد: اللفظ، وذلك لشدة الربط بين الدال والمدلول- ومنه إطلاق الظن على العلم، أو العكس لتقاربهما في المعنى. فهما متجاوران. 13- التقييد والإطلاق: هو أن يكون الشيء مقيدا فيطلق عن قيده كما في إطلاق "المشفر" على شفة الإنسان، في نحو قولك: "مشفر زيد يسيل دما" تريد: شفته- "فالمشفر" في الأصل للبعير خاصة، ثم أطلق عن هذا القيد، وأريد منه: مطلق شفة، فصح إطلاقه على شفة زيد، باعتبارها أحد أفراد هذا المطلق، فيكون مجازا مرسلا علاقته التقييد والإطلاق -ومثله إطلاق "المرسن" على أنف الإنسان- فالمرسن- في

الأصل: أنف الحيوان، إذ هو موضع الرسن منه/ ثم أطلق عن قيده، وأريد منه: مطلق أنف، فصح أطلاقه على أنف الإنسان، باعتباره أحد أفراد هذا المطلق، فهو -كذلك- مجاز مرسل علاقته التقييد والإطلاق. هذا: ويصح في مثل هذين المثالين: أن تكون العلاقة المشابهة، وحيئنذ يكون اللفظ "استعارة" بأن شبه شفة فلان مثلا بمشفر البعير في الغلظ والتدلي، ثم يستعار لها لفظ "المشفر"- ومثل هذا يقال في "المرسن" فاللفظ الواحد قد يكون مجزا مرسلا واستعارة باعتبارين فغن اعتبرت العلاقة غير المشاهبة كان اللفظ مجازا مرسلا، وإن اعتبرت العلاقة المشاهبة كان اللفظ استعارة- والعبرة بقصد المتكلم وإرادته، فإن لم يعلم قصده: بأن لم تقم قرينة عليه احتمل اللفظ الأمرين. إلى غير ذلك من علاقات المجاز المرسل، فهي لا تقف عند هذا العدد، وإنما أحصينا لك أشهرها، وأكثرها استعمالا. وسمي مجازا مرسلا لأنه أرسل، أي أطلق عن التقيد بعلاقة واحدة، بل له علاقات عدة- كما رأيت- أو لأنه أرسل عن دعوى الاتحاد المعتبرة في الاستعارة إذ ليست العلاقة فيه بين المعنين المشابهة حتى يدعى اتحددهما- وإنما لم يسم "استعارة" مع أن اللفظ فيه منقول ومستعار من معناه الأصلي إلى المعنى المراد كما في الاستعارة- لأن هذه التسمية مجرد اصطلاح، قصد به: التفرقة بين نوعين من المجاز مختلفي العلاقة. تشبيهان: الأول: اعلم أن القصد من العلاقة في المجازر المرسل: أن يتحقق ارتباط بين الشيئين على أي وجه- فإطلاق الدال على لمدلول مثلا في قولك: "فمهت اللفظ" تريد: معناه هو مجاز مرسل، علاقه يصح أن تكون "المجاورة" على ما سبق- باعتبار أن الدال مجاور للمدلول- ويجوز أن تكون العلاقة المحلية، على اعتبار أن الدال محل للمدلول إذ الألفاظ -كما يقولون- قوالب للمعاني- وإطلاق الثياب على الجسم في قول الشاعر المتقدم: "فشككت" بالرمح الأصم ثيابه" ... مجاز مرسل،

يصح أن تكون علاقته "المجاورة" على اعتبار أن الثياب لاصقة بلابسها، فهي مجاورة له مجاورة تامة- ويجوز أن تكون العلاقة "المحلية" باعتبار أن الثياب محل للابسها- وإذن فنوع العلاقة ليس وقفا على ما ذكرنا، وإنما يرشد إليها الذوق، ويدلك عليها فهم الكلام. الثاني: مما تقدم يعلم أن المراعي في علاقات المجاز المرسل: جانب المعنى المنقول عنه اللفظ، فإن كان المنقول عنه سببا في المنقول إليه كانت العلاقة السببية، وإن كان مسببا كانت العلاقة المسببي.. وهكذا. فالعلاقة في نحو: "رعينا الغيث" "السببية" لأن المعنى المنقول عنه لفظ "الغيث" سبب في المعنى المنقول إليه الذي هو "النبات" والعلاقة في نحو "أمطرت السماء نباتا" المسببية لأن المعنى المنقول عنه لفظ "النبات" مسبب عن المعنى المنقول إليه، وهو "الغيث". وإنما روعي في العلاقة: جانب المعنى المنقول عنه اللفظ، لأنه الأصل، فهو أولى بالمراعاة، وهذا الرأي أرجح الآراء. اختبار: 1- بأي اعتبار ينقسم المجاز المفرد إلى مجاز مرسل واستعارة؟ وضح ذلك بالمثال. 2- عرف المجازر المرسل ومثل له من إنشائك بثلاثة أمثلة مختلفة العلاقات، مع بيان علاقة كل، وقرينته -وما علاقة المجاز في قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ؟ 3- بين علة تسميته مرسلا، ولم لم يسم استعارة، مع أن اللفظ فيه مستعار- كما في الاستعارة- من معناه الأصلي إلى معنى آخر؟ تمرينات منوعة: 1- بين المجاز المرسل ووضح علاقته وقرينته في الآبيات الآتية: 1- وكنت إذا كلفت أتتك عديمة ترجى نوالا من سحابك بلت

2- بلادي وإن جارت على عزيزة ... وقومي وإن ضنوا على كرام 3- فهمت الكتاب أبر الكتب ... فسمعا لأمر أمير العرب 4- وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سبيلي بظالم 5- رأيتك محض الحلم في محض قدرة ... ولو شئت كان الحلم منك الهمند1 2- بين علاقات المجاز المرسل في الأمثلة الآتية: بثت الحكومة الأمن في ربوع البلاد من الناس من يأكل القمح، ومنهم من يأكل اذرة والشعير. قرر المجلس الأعلى كذا. أقمنا في هناءة ورفاية. {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} ، أرانا الله وجوهكم في خير. سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ... بأنني خير من تسعى له قدم 3- حول ما يأتي إلى مجاز مرسل، مع بيان العلاقة والقرينة: غرست بذور الورد في البستان، كذاك يعادي أهل العلم من هو جاهل. قام سكان البلاد وقعدوا لهذا النبأ. تجري الرياح بما لا تشتهي وبابين السفن. حكم قاض المحكمة بكذا. شربنا عصير العنب. 4- رد المجاز المرسل إلى حقيقته فيما يأتي من أمثلة: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه"، ومن قتل قتيلا فله سلبه. ألقى القائد كلمة في الجنود. طحنت خبزا. أكلت دم القتيل.

_ 1 "المحض" الخالص، و"الهند" السيف الهندي والمراد به الحرب، يقول: رأيتك خالص الحلم في قدرة لايشوبها عجز ولو شئت أن تجعل الحرب مكان الحلم لفعلت.

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان تسيل إلى حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل جواب التمرين الأول: 1- في "كف" مجاز مرسل علاقته الجزئية "إذ أن المراد بالكف الشخص نفسه، وهي جزء منه، والقرينة قوله: "أتتك" لاستحالة الإتيان من الكف وحدها. 2- في "بلادي" مجاز مرسل علاقته "المحلية" إذ أن المراد: سكان البلاد التي هي محل لهم- والقرينة قوله: "وإن جارت على" لاستحالة صدور الجور من الأماكن والأبنية. 3- في "الكتاب" بمعنى المكتوب "مجاز مرسل" علاقته المحلية إذ أن المراد: المعاني، والمكتوب محل لها والقرينة قوله: "فهمت" لأن الفهم إنما يكون للمعاني لا للنقوش- ويصح أن تكون العلاقة "المجاورة" لأن المكتوب دال على معناه، والدال والمدلول متجاوران. 4- في "يد" مجاز مرسل علاقته السببية إذ أن المراد بها القوة: بقرينة قوله: ألا يد الله فوقها، إذ لا معنى لوضع "يد" بمعنى الجارحة، فوق أخرى -فضلا عن أن الله سبحانه لا يد له. 5- في "المهند" مجاز مرسل علاقته الآلية إذ أن المراد: الحرب، والمهند آلتها التي تدور بها رحاها، وتشتعل نارها.

الاستعارة

الاستعارة مدخل ... الاستعارة: تعريفها: هي اللفظ المستعمل في غير المعنى الذي وضع له، لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة من أن يكون المراد: المعنى الأصلي1 كماتراه في قول زهير بن أبي سلمى: لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم2 يريد: أنا عند أسد، أي رجل جرئ مقدام شبهة بالأسد في الجرأة، ثم استعار له اللفظ- ومثله قول المتنبي، وقد قابله الممدوح وعاتقه: ولم أر قبلي من مشى البحر نحوه ... ولا رجلا قامت تعانقه الأسد يشبه ممدوحه بالبحر في الكرم، وبالأسد في الجرأة، ثم استعار له لفظيهما. طريقة إجرائها: أن يقال في نحو هذين المثالين: شبه الرجل الكريم بالبحر في الفيض، ثم تنوسى التشبيه، وادعى أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، وداخل في جنسه مبالغة، ثم استعير لفظ المشبه به، وهو "البحر" للمشبه. وأطلق عليه باعتباره أحد أفراد "البحر"- ويقال له في المثال الثاني: شبه الرجل الجرئ بالأسد في الجرأة والإقدام، ثم تنوسى التشبيه، إلى آخر ما ذكرنا في المثال الأول- وهكذا يقال في كل استعارة. أركان الاستعارة: هي- كما يؤخذ من التعريف بالمعنى المصدري- ثلاثة:

_ 1 هذا التعريف بالمعنى الاسمي، وهو المشهور، وقد تطلق بالمعنى المصدري، وهو فعل المتكلم، فيقال هي استعمال اللفظ في غير المعنى الخ- ومن هنا صح الاشتقاق فيقال المشبه به مستعار منه، والمشبه مستعار له واللفظ مستعار والمتكلم مستعير. 2 شاكي السلاح تامه "ومقذف" بصيغة اسم المفعول أي المقذوف باللحم، أو المقذوف به في المعارك، و"اللبد" على زنة عنب: الشعر المتكاثف على نصف الأسد الأعلى.

1- المستعار منه، وهو ذات المشبه به "كالحيوان المفترس" في المثال المتقدم؛ لأن اللفظ الموضوع له، وهو "أسد" أخذ منه، وأعطي لغيره, فهو كالإنسان يستعار ثوبه لآخر. 2- المستعار له, وهو ذات المشبه، "كالرجل الجريء" لأن اللفظ الذي لغيره أعطي له, فهو كالإنسان، يستعار له الثوب من صاحبه. 3- المستعار كلفظ "أسد" لأنه أتى به من صاحبه، واستعير لغيره، كاللباس المستعار من صاحبه للابسه - وثلاثتها هي أركان الاستعارة1. وهي: إما تحقيقية، أو تخييلية، أو مكنية، وسيأتي البحث في الأخيرتين. والتحقيقية: ما يكون المعنى المنقول إليه اللفظ محققا حسا، أو عقلا. أي: مما يدرك بالحس، أو مما يقره العقل، ويثبته. "فالأول" كما في بيت زهير، أو المتنبي، فإن المعنى المنقول إليه لفظ "أسد" أو لفظ "بحر" وهو الرجل الجريء أو الكريم محقق حسا. أي: مدرك بإحدى الحواس، "والثاني" كما في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يريد: من الضلال إلى الهدى، فقد استعير الظلمات "للضلال"، والنور "للهدى"، وكلاهما أمر محقق عقلا، أي: يقره العقل، ولا يسعه أن ينفيه. الاستعارة مجاز لغوي: اعلم أن جمهور البيانيين على أنها مجاز لغوي، أي: لفظ مستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة. فالتصرف فيها إنما هو في نقل اللفظ من معناه الموضوع له في اللغة، إلى معنى آخر, والدليل على ذلك:

_ 1 من هذا البيان يعلم أن التشبيه إنما يكون في المعاني، وأما الاستعارة ففي الألفاظ. ثم إن بيان الأركان بما ذكر مبني على أن المراد بالاستعارة: المعنى المصدري ليصح الاشتقاق حينئذ أما الاستعارة بالمعنى الاسمي، وهو اللفظ المستعار فلا يتأتى فيه ذلك، إذ لا يشتق من اسم المفعول.

إن اللفظ المستعار موضوع -في اللغة- للمشبه به لا للمشبه، ولمعنى أعم من المشبه والمشبه به. فلفظ "أسد" مثلا من قولنا: "رأيت أسدا على فرس" موضوع -في اللغة- للحيوان المعروف، لا للرجل الجريء وهو ظاهر. ولا لمعنى أعم منه، ومن ذلك الحيوان "كالحيوان الجريء" رجلا كان أو أسدا، إذ لو كان موضوعا لمطلق حيوان جريء لكان إطلاقه على كل منهما: "حقيقة" باعتبارهما من أفراد هذا المطلق، وليس الواقع كذلك, وإذا ثبت أنه لم يوضع لواحد منهما، نقال عن أئمة اللغة -كان استعماله في المشبه إطلاقا للفظ على غير ما وضع له- وهذا هو معنى المجاز اللغوي. الاستعارة تفارق الكذب: تفارق الاستعارة الكذب من جهتين: الأولى: أن الاستعارة مبنية على التأويل، وهو دعوى دخول المشبه في جنس المشبه به, وجعله أحد أفراده مبالغة, فيقدر: أن الأسد، مثلا في نحو قولنا "على الفرس أسد" موضوع لفردين: متعارف، وهو الحيوان المعروف، وغير متعارف، وهو الرج الجريء. أما الكذب فلا تأويل فيه؛ لأن الكاذب يتعمد الكذب. ومثل هذا لا يتأول في كلامه. الثانية: الاستعارة لا بد فيها من نصب قرينة دالة على إرادة خلاف الظاهر من اللفظ، مانعة من إرادة المعنى الحقيقي له. أما الكذب فلا تنصب فيه قرينة على إرادة غير الظاهر، بل إن قائله ليبذل كل جهده لترويج ظاهره، وإظهار صحة باطله1.

_ 1 محل ذلك إذا كان الكاذب يعرف أن كلامه لا يطابق الواقع وقد قصد إظهار صحته، وأنه مطابق، لا أنه لم يقصد ذلك، واعتقد صحته.

الاستعارة في علم الشخص: اعلم: أن الاستعارة لا تصح في علم الشخص -ذلك: أن معناه جزئي لتشخصه وتعينه خارجا، فتصوره يمنع من وقوع الاشتراك فيه- فلفظ "محمد" مثلا لا يصح جعله "استعارة" لشخص آخر بينه وبين "محمد" مشابهة في شيء، إذ هي تقتضي: ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، باعتباره أحد أفراده -كما عرفت، وهذا يقتضي: عموم المشبه به، و"محمد" المذكور لا عموم فيه، إذ لا يحتمل غير مسماه الذي وضع له- اللهم إلا إذا عرف بوصف، واشهر به "كحاتم" مثلا، فإنه علم على الطائي المعروف1, ولكنه اشتهر بالجود، وذاع صيته فيه، حتى صار بحيث إذا أطلق لفظ "حاتم" فهم منه معنى الجود، وحينئذ يصح جعله كليا باعتبار هذا الوصف. فإذا شبه إنسان بحاتم في الجود وجب أن يتأول في "حاتم" فيجعل كأنه موضوع للجواد مطلقا، وهو -كما ترى- معنى كلي يشمل حاتما الطائي وغيره من أجاويد الناس، ويكون شأنه في ذلك شأن "أسد": من حيث دلالته على العموم، فيصح حينئذ: أن تشبه آية ذات كريمة "بحاتم" ثم يستعار لها لفظه، باعتبارها أحد أفراده ادعاء، فيقال: "رأيت اليوم حاتما يعطف على البائسين"، ويراد محمد الكريم مثلا، والقرينة حالية, هي العلم بعدم وجود شخص حاتم الطائي لانقراضه. وهكذا يتأول في كل عام شخص اشتهر بنوع من الوصف، وبهذا التأويل يصح جعله استعارة "كمادر"2 المشتهر بالبخل "وقس"3 المشتهر بالفصاحة

_ 1 هو ابن عبد الله بن سعد المضروب به المثل في الجود. 2 هو رجل من بني هلال وهو المضروب به المثل في البخل. قيل: سمي "مادرا" لأنه سقى إبلا له من حوض ولما رويت الإبل بقي في أسفل الحوض بقية ماء فسلح فيها ومدر الماء أي: خلط بعضه ببعض مخافة أن يستقي من حوضه أحد. 3 هو قس بن ساعدة الأيادي أحد خطباء العرب الأعلام في العصر الجاهلي، وقد ضرب به المثل في الفصاحة.

"وباقل"1 المشتهر بالعي، وغيرهم. اختبار: 1- عرف الاستعارة، وبين معنى كونها تحقيقية حسا أو عقلا، مع التمثيل، ومن أي نوع قولنا: اللهم جنبنا الطريق المعوج؟ علل لما تقول. 2- بين وجه كون الاستعارة مجازا لغويا، اشرح ذلك شرحا تاما، مع التمثيل. 3- كيف صح إجراء الاستعارة في علم الشخص، مع أن مدلوله جزئي, والاستعارة إنما تعتمد التشبيه والادعاء، وذلك يقتضي عموم المشبه به، بين ذلك بوضوح مع التمثيل. 4- بم تفارق الاستعارة الكذب، مع أن كلا منهما لا يطابق الواقع. تمرينات منوعة: 1- مثل لما يأتي: استعارة معناها متحقق عقلا. استعارة مدلولها الوضعي شخصي، مع إجراء الاستعارة فيه. 2- قال الشاعر: لا تعجبوا من بلي غلالته ... قد زر أزراره على القمر وضح الاستعارة فيه بإجرائها إجراء تفصيليا. 3- أي التعبير أبلغ: خالد أسد، أم أقبل الأسد، والمراد خالد، بين وجه الأبلغية فيما تختار.

_ 1 هو رجل من إياد كان شديد العي في النطق حتى كان مضرب المثل فيه, اتفق له أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما، فقيل له: بكم اشتريته؟ ففتح كفيه, وفرق بين أصابعه وأخرج لسانه ليشير بذلك إلى العدد المذكور فانفلت الظبي منه، فضرب به المثل في الفهامة والعي.

تقسيم الاستعارة

تقسيم الاستعارة: للاستعارة تقسيمات شتى تختلف باختلاف الاعتبارات. تقسيمها باعتبار الطرفين: تنقسم الاستعارة باعتبار اجتماع طرفيها، وعدم اجتماعهما إلى وفاقية وعنادية. فالوفاقية: ما يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد لما بين الطرفين من الوفاق كما في قولك: "فلان أحيته الموعظة" أي: هدته -شبهت الهداية بمعنى الدلالة على الطريق القويم "بالإحياء" بمعنى جعل الشيء حيا، بجامع ما يترتب على كل من الفوائد، ثم استعير- بعد تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به, لفظ "الإحياء" للهداية، ثم اشتق من الإحياء: "أحيا" بمعنى "هدى" على ما سيأتي بيانه في الاستعارة التبعية. "والحياة والهداية" مما يتأتى اجتماعهما في شيء, وإذن فاستعارة "الإحياء للهداية" وفاقية. والعنادية: ما لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد، لما بين الطرفين من التعاند كاستعارة اسم المعدوم للموجود عديم الفائدة، في نحو قولك: "رأيت ميتا يتحدث" تريد: جاهلا1؛ استعير لفظ "الميت" للجاهل، بعد التشبيه والادعاء, على ما ذكرنا في المثال قبله. "والجهل والموت" مما لا يجتمعان في شيء واحد إذ إن الميت لا يوصف بالجهل، فهي إذن استعارة عنادية, ومنه قول الشاعر: فلم أر وجها ضاحكا قبل وجهها ... ولم أر قبلي ميتا يتكلم ومثله استعارة اسم الموجود للمعدوم ذي الآثار الخالدة2 إذ يمتنع بداهة اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد.

_ 1 فهو مشارك للمعدوم في عدم الجدوى منه, ومثل الجاهل العاجز فالعجز والجهل يحط كلاهما من قدر الإنسان الحي. 2 فيكون مشاركا للموجود في ذلك.

وقد اجتمعت الوفاقية، والعنادية في قول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} ، على معنى: أو من كان ضالا فهديناه، فقد استعير في الأول: "الميت الضال"، وهما لا يجتمعان، إذ لا يوصف الميت بالضلال فالاستعارة عنادية, واستعير ثانيا "الإحياء للهداية" -كما سبق- "والحياة والهداية" مما يجتمعان، فالاستعارة وفائية, ومن العنادية تتفرع الاستعارتان: التهكمية والتمليحية: وهما ما نزل فيهما التضاد، أو التناقض منزلة التناسب، واستعمل اللفظ في ضد معناه، أو في نقيضه، إبرازا للخسيس في صورة الشريف، قصدا إلى الهزء والسخرية، أو التمليح والتظرف -على سبق بيانه في باب التشبيه- وذلك كأن يطلق لفظ "الكريم" على البخيل، وكإطلاق لفظ "أسد" على الجبان في نحو قولك: "زارني اليوم كريم" تريد رجلا بخيلا، ونحو قولك: "رأيت أسدا على فرس" تريد رجلا جبانا, فقد نزل أولا "البخل" منزلة الكرم، ونزل ثانيا "الجبن" منزلة الشجاعة -على ما سبق- في بحث التشبيه، ثم شبه البخيل بالكريم، والجبان بالأسد، ووجه الشبه في الأول: "الجود" وفي الثاني "الشجاعة" وإن كان الجود في البخيل، والشجاعة في الجبان تنزيليين ثم استعير لفظ الكريم للبخيل, واسم الأسد للجبان. ثم إن كان الغرض الحامل على استعمال اللفظ في ضد معناه: التهكم والهزء بالمقول فيه كانت الاستعارة "تهكمية"، وإن كان القصد الحامل: بسط السامعين، وإزالة السآمة عنهم، بتصوير القبيح في صورة الحسن، كانت الاستعارة "تمليحية"، ولا يخفى عدم تأتي اجتماع "البخل والكرم" أو "الجبن والشجاعة" في شيء واحد، فكلتاهما إذن من قبل الاستعارة العنادية. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} نزل التضاد بين التبشير

والإنذار منزلة التناسب بينهما، ثم شبه الإنذار بالتبشير في إدخال السرور إلى النفس، وإن كان تنزيليا في المشبه، ثم استعير اسم البشارة للإنذار بعد تناسي التشبيه والادعاء، ثم اشتق من البشارة بمعنى الإنذار "بشر" بمعنى "أنذر" على سبيل الاستعارة التهكمية؛ وهي عنادية لأن التبشير والإنذار مما لا يجتمعان في شيء واحد, ومثله كذلك قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} نزل التضاد بين "الهداية" التي هي الدلالة بلطف، وبين الأخذ بمجامع الشيء بقهر وعنف منزلة التناسب، ثم شبه الأخذ العنيف بالهداية، بجامع ما يترتب على كل من الخير، وإن كان تنزيليا في المشبه، ثم استعير لفظ "الهداية" للآخذ بالقسر والعنف، واشتق منه: "اهدوهم" بمعنى: جروهم بشدة وعنف على سبيل الاستعارة التهكمية، وهي عنادية لعدم تأتي اجتماع اللطف والعنف في شيء واحد، وهكذا. تقسيم الاستعارة باعتبار الجامع: الجامع: هو ما قصد اجتماع الطرفين فيه، وهو ما يسمى في التشبيه: وجه شبه، وإنما سمي جامعا لأنه جمع المشبه مع أفراد المشبه به تحت مفهومه، وأدخله في جنسه ادعاء. وهو لا بد أن يكون في المستعار منه أقوى؛ لأن الاستعارة مبنية على المبالغة في التشبيه، والمبالغة فيه تستوجب إلحاق المشبه بما هو أكمل منه في وجه المشبه -بخلاف الحال في التشبيه- كما علمت. وللاستعارة باعتبار الجامع تقسيمان: التقسيم الأول: تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار قسمين: داخلة، وغير داخلة. فالداخلة: ما يكون الجامع فيها داخلا في مفهوم الطرفين, المستعار له والمستعار منه: بأن يكون جزءًا من مفهوميهما كما في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا}

أي: فرقناهم: شبه تفريق الجماعة: بالتقطيع، بجامع "إزالة الاجتماع في كل"، ثم استعير لفظ التقطيع للتفريق، ثم اشتق منه "قطع" بمعنى فرق, والجامع المذكور داخل في مفهوم التقطيع إذ إنه موضوع لإزالة الاجتماع في الأشياء المتماسكة، وداخل كذلك في مفهوم تفريق الجماعة؛ لأنه موضوع لإزالة الاجتماع في الأشياء غير المتماسكة. وبديهي أن إزالة الاجتماع في التقطيع أشد وأقوى كما هو الشرط في الجامع. وغير الداخلة: ما يكون الجامع فيها غير داخل في مفهوم الطرفين، بأن كان خارجا عن مفهوم كل منهما، أو كان داخلا في مفهوم المستعار له دون المستعار منه، أو العكس. فالأول: كما في قولك: "رأيت دررا في السماء"، و"أبصرت شمسا داخل غرفة، ووردت بحرا يعطي" فالجامع في الأول التألق واللمعان وفي الثاني الوضاءة والإشراق، وفي الثالث الإفاضة، وكلها عوارض غير داخلة في مفهومي الطرفين. والثاني: كما في الحديث "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه: كلما سمع هيعة طار إليها" 1 شبه العدو الذي هو قطع المسافة بسرعة في الأرض. بالطيران الذي هو قطع المسافة في الهواء بالجناح، ثم استعير الطيران للعدو، ثم اشتق من الطيران "طار" بمعنى عدا -والجامع بينهما قطع المسافة بسرعة وهو داخل في مفهوم العدو، دون الطيران، فليست السرعة داخلة في مفهومه، إنما هي لازمة له في الأكثر. ومثله قول امرأة من بني الحرث ترثي قتيلا:

_ 1 "العنان" بكسر العين اللجام، و"الهيعة" الصيحة يفزع منها من هاع يهيع إذ جبن يقول: خير الناس رجل مستعد للجهاد في سبيل الله كلما سمع صيحة الحب والدعوة لها أسرع إليها وخاض غمارها.

لو يشا طار بها ذو ميعة ... لاحق الآطال نهد ذو خصل1 تقول: لو أنه أراد النجاة لفاز بها، فقد كان تحته فرس قوي، جلد، ولكنه آثر أن يموت كريما على أن يحيا هزيلا بتحمله عار الهزيمة. والشاهد في استعارة الطيران للعدو على نحو ما تقدم. والثالث: كاستعارة العدو للطيران عكس ما قبله. التقسيم الثاني: تنقسم الاستعارة باعتبار الجامع أيضا قسمين: عامية، خاصية. فالعامية: وهي المبتذلة, ما وضح فيها الجامع، بحيث يدركه العامة كإطلاق "الأسد" على الرجل الجريء، فإن الجامع، وهو الجرأة، أمر واضح، في متناول مدارك عامة الناس لاشتهار الأسد بها. وسميت مبتذلة لكونها في طوق كل إنسان. والخاصية: وهي الغريبة: ما لا يدرك الجامع فيها إلا من ارتفع عن طبقة العامة، كما في قول يزيد بن مسلمة يصف فرسا له، بأنه مؤدب إذا نزل عنه. وألقى عنانه في قربوس سرجه، لا يبرح مكانه حتى يعود: وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك الشكيم إلى انصراف الزائر2

_ 1 الميعة نشاط الشباب، و"الآطال" جمع أطل بكسرة أو بكسرتين الخاصرة, ولاحق الآطال ضامرها وهو من دواعي النشاط وخفة الحركة، و"النهد" بفتح النون الفرس الجميل الجسم و"الخصل" جمع خصلة، وهي اللفيقة من الشعر، أي: ذوي شعر متدل. 2 "احتبى" من الاحتباء وهو أن يشد الرجل ركبتيه إلى بطنه بنحو ثوب يمتد من جانبيه إلى ظهره، و"القربوس" بفتح القاف والراء مقدم السرج، و"العنان" بكسر العين اللجام، و"الشكيم" الحديدة المعترضة في فم الفرس، و"علكها" لاكها ومضغها، وقد أراد بالزائر نفسه.

فقد شبه هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج. بهيئة الثوب في موقعه من ركبتي المحتبي ثم استعار لفظ "الاحتباء" لهذه الهيئة1, فهذه الاستعارة غريبة لما في الجامع من كثرة الاعتبارات الموجبة لصعوبة إدراكه، وبعده عن الأذهان, فضلا عن كونها على نمط غير مألوف. لا يقع في كلامهم إلا نادرا, ذلك أن الانتقال إلى معنى "الاحتباء" وهو ألا يجمع الرجل ركبتيه منضمتين إلى بطنه بنحو ثوب ممتد من الركبتين إلى الظهر عند استحضار إلقاء العنان على القربوس، في غاية الندرة، لما بين المعنيين من البعد2. وقد يكون منشأ الغرابة: ما فيها من طرافة، ولطف مأخذ كما في قول طفيل الغنوي: وجعلت كوري فوق ناجبة ... يقتات شحم سنامها الرحل3 يقول: إن شحم سنام الناقة تضاءل وضمر لطول عهد الرحل به، وكأن الرحل كان يقتات منه. يصف نفسه بكسرة الأسفار. والشاهد فيه: أنه استعار "الاقتيات" لإذابة شحم السنام -ولا شك أن في التعبير بالاقتيات في جانب الشحم- وهو مما يقتات به نوع لطف وطرافة، يشعر به صاحب الذوق البلاغي، ومما زاده طرافة ولطفا إسناده إلى "الرحل" إسنادا مجازيا، من إسناد الفعل إلى سببه. وقد يتصرف في الاستعارة العامية بما يخرجها من الابتذال إلى الغرابة: بأن يضم إليها تجوز لطيف، اقتضته الحال، كما في قول كثير عزة:

_ 1 لأن جمع القربوس مضموما إلى فم الفرس, بالعنان ممتدا من القربوس إلى جانبي الفم يشبه هيئة الاحتباء, وهو جمع ركبتي المحتبي منضمتين إلى بطنه بنحو ثوب ممتد من الركبتين إلى الظهر. 2 إذ إن أحدهما من وادي الركوب، والآخر من وادي العقود. 3 "الكور" بضم الكاف رحل البعير، والناجبة الناقة السريعة، والاقتيات اتخاذ القوت، والسنام الجزء المرتفع من ظهر الناقة.

ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح وشدت على دهم المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح1 يقول: لما فرغنا من أداء النسك، وقضينا أيام منى، واستلمنا الأركان، وشددنا الرحال، ومضى الناس, لا ينظر الغادي منهم الرائح، شوقا للعودة إلى أوطانهم, ابتدأنا في الحديث آخذين بأطرافه وفنونه، شأن الرفاق في السفر، قد شملتهم الغبطة، لما وفقوا إليه من أداء الفريضة, بينما سارت المطي في الأباطح سيرا حثيثا، في لين وسلاسة، أشبه الأشياء بسيلان الماء. وهذه الأبيات الثلاثة, مع ما فيها من روعة المطلع، وعذوبة الجرس, لا ترى فيها معنى دقيقا, ولا تصويرا أنيقا، سوى ما تراه في الشطر الثاني من البيت الأخير، حيث شبه سير المطي في الأباطح سيرا حثيثا، في لين وسلاسة: بسيلان الماء فيها، ثم استعير سيلان الماء للسير اللين السلس، واشتق منه: "سالت" بمعنى: سارت حثيثا في لين وسلاسة -والجامع بين الطرفين سرعة السير مع سلاسة فهذه الاستعارة- كما ترى, عامية يدركها الخاصة والعامة. غير أنه تصرف فيها بما جعلها غريبة، لا يدركها إلا الخواص. ذلك أنه: بعد أن استعير فعل السيلان لسير الإبل الحثيث السلس، حتى أفاد كأن سيولا جرت في تلك الأباطح. أسند بعد ذلك الفعل المستعار، وهو "سالت"

_ 1 الشاهد في البيت الأخير "والأطراف" جمع طرف بكسر الطاء بمعى الكريم، والمراد كرائم الأحاديث أو جمع طرف بالتحريك بمعنى الناحية، والمراد فنون الأحاديث و"الأباطح" وهو مسيل الماء فبه دقائق الحصا.

إلى الأباطح، دون المطي الذي كان حقه أن يسند الفعل إليه، فأفاد هذا الإسناد، أن الأباطح امتلأت بالإبل إلى حد يخيل للناظر. أن الأباطح هي التي تسيل, إذ إن نسبة فعل الحال إلى المحال، تشعر بشيوع الحال في المحل، وكأن كل مكان من هذه الأباطح سائر. ومما زاد الاستعارة دقة وغرابة: أنه أدخل الأعناق في السير، إذ جرها بباء الملابسة، المقتضية لملابسة الفعل لها؛ لأن السرعة والبطء يظهران -غالبا- في أعناق الإبل: وإذن فقد أضاف الشاعر إلى الاستعارة المذكورة مجازا عقليا آخر, فالأول مصرح به وهو إسناد الفعل إلى الأباطح, والثاني مقدر، وهو إسناده إلى الأعناق؛ لأن الواقع: أن الدابة تستعين في سيرها بهز الأعناق، فكأن الأعناق أيضا تسير. ومثل بيت كثير تماما، قول ابن المعتز: سالت عليه شعاب1 الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير يقول: تسارع إليه أنصاره ملبين بوجوه مشرقة متهللة, حين دعاهم إليه. يريد أنه مطاع في حبه، لا يدعوهم لخطب جلل إلا أتوا إليه مسرعين متزاحمين حتى كأنهم السيل ينحدر من كل جانب، فيطفح به الوادي. وقد تصرف في البيت على غرار ما قبله، مما جعل الاستعارة تمتنع بعد ابتذال، وتعتز بعد ضعة. تقسيم الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع: تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار ستة أقسام -ذلك: أن المستعار منه، والمستعار له، إما حسيان، أو عقليان. أو المستعار منه حسي. والمستعار له عقلي أو العكس. والجامع في الثلاثة الأخيرة عقلي لا غير, لما سبق في مبحث التشبيه:

_ 1 جمع شعب بكسر الشين، وهو الطريق في الجبل.

من أن وجه الشبه وهو المسمى هنا بالجامع, لا بد أن يقوم بالطرفين, فإذا كان كلاهما، أو أحدهما عقليا, وجب أن يكون الجامع عقليا؛ لأن الحسي لا يقوم بغير حسي -كما علمت- أما القسم الأول, وهو ما كان الطرفان فيه حسيين فصوره ثلاث؛ لأن الجامع حينئذ- إما حسي أو عقلي، أو مختلف, وبذلك تكون الأقسام ستة, وهاكها: 1- استعارة محسوس لمحسوس، والجامع حسي كما في قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا 1 لَهُ خُوَارٌ} فالمستعار منه ولد البقرة, والمستعار له الحيوان المخلوق من حلي القبط التي سبكتها نار السامري2 عندما ألقى فيها التربة التي أخذها من موطئ فرس جبريل عليه السلام3, والطرفان حسيان -كما ترى- والجامع حسي كذلك، وهو الشكل والخوار، فإن ذلك الحيوان كان على شكل ولد البقرة، وله صوت كصوته. ومثله قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} . فالمستعار منه حركة الماء على الوجه الخاص، والمستعار له الحركة والاختلاط الناشئان عن الحيرة والارتباك، والجامع بينهما ما يشاهد في كل: من الحركة الشديدة والاضطراب، والجميع حسي4, كما ترى.

_ 1 أي: بدنا ذا لحم ودم، وقد نصب بدلا من عجل، و"له خوار" أي: له صوت البقر, شبه الصورة التي سبكتها نار السامري بابن البقرة بجامع الشكل والصورة ثم استعير: لفظ المشبه به وهو العجل للمشبه الذي هو الصورة المسبوكة من النار، وقرينة الاستعارة قوله: {جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} إذ لا يقال للبقر الحقيقي. أنه جسد له صوت البقر. 2 هو موسى السامري وكان رجلا حدادا في زمن موسى عليه السلام. 3 لهذه المسألة قصة ليس هنا محلها. 4 شبه تزاحمهم وتدافعهم بتلاطم الأمواج بجامع ما يشاهد، في كل من الاضطراب ثم استعير لفظ المشبه به وهو تلاطم الأمواج للمشبه الذي هو التزاحم والتدافع، ثم اشتق منه "يموج"، بمعنى يتزاحم ويتدافع.

من ذلك قول الشاعر: بكت لؤلؤًا رطبا ففاضت مدامعي ... عقيقا فصار الكل في نحرها عقدا فقد استعار اللؤلؤ للدمع، بجامع الصفاء والتألق، والجميع حسي كذلك. 2- استعارة محسوس لمحسوس والجامع عقلي كما في قوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} والشاهد في "نسلخ" فالمستعار منه كشط الجلد، وسلخه عن الشاة ونحوها, والمستعار له إزالة ضوء النهار وانتزاعه عن مكان الليل, كلاهما حسي1, والجامع بينهما عقلي وهو ترتب أمر على آخر, ففي المستعار منه ترتب ظهور اللحم على سلخ الجلد، وفي المستعار له ترتب على ظهور ظلمة الليل على محو ضوء النهار2, ولهذا صح قوله بعد: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} لأن الواقع عقيب إزالة الضوء هو الإظلام. 3- استعارة محسوس لمحسوس، والجامع مختلف, بعضه حسي، وبعضه عقلي كما في قولك: "رأيت بدرا يتحدث" تريد إنسانا كالبدر في حسن الطلعة، ونباهة الشأن. فالأول حسي، والآخر عقلي. 4- استعارة معقول لمعقول كما تقول: "أحيتني الموعظة" على معنى: هدتني, فالمستعار منه "الإحياء" والمستعار له الهداية، وكلاهما عقلي, والجامع بينهما: ما يترتب على كل من الفوائد، وهو عقلي كذلك. 5- استعارة محسوس لمعقول كما في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ

_ 1 أي: باعتبار متعلقيهما، "الجلد والضوء" وإلا فإن كلا من كشط الجلد, وإزالة الضوء أمر عقلي لأنهما معنيان مصدريان، والمعنى المصدر لا وجود له خارجا، فلا يكون محسوسا. 2 بيان ذلك أن الظلمة هي الأصل والنور طارئ عليها يسيرها بضوئه, فإذا غربت الشمس فقد سلخ النهار عن الليل, كما يسلخ الجلد عن الشاة، فظهور الظلمة بعد ذهاب ضوء النهار بمثابة ظهور المسلوخ بعد سلخ إهابه عنه.

النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فالمستعار منه "الظلمات والنور، وهما حسيان، والمستعار له "الضلال والهدى" وهما عقليان، والجامع في الأول عدم الاهتداء، وفي الثاني الاهتداء، وهما عقليان أيضا، والاستعارة فيهما لا تحتاج إلى بيان. 6- استعارة معقول لمحسوس كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي: لما كثر الماء, فالمستعار منه التكبر والتعالي، وهو عقلي، والمستعار له كثرة الماء، وهو حسي والجامع بينهما الخروج عن حد الاعتدال1، وهو عقلي, ومثله قوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} أي: شديدة، حتى جاوزت الحد, استعار "العتو" وهو عقلي لشدة الريح المفسدة، وهي حسية باعتبار متعلقها2, والجامع عقلي، وهو مجاوزة الحد. تقسيم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار: تنقسم الاستعارة بهذا الاعتبار إلى قسمين: أصلية وتبعية. فالأصلية: ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس غير مشتق والمراد به: ما يصدق على كثيرين, سواء كان صدقه على الكثيرين حقيقة, أو تأويلا, وسواء كان اسم عين, أو ذات كالأسد، أو اسم معنى كالضرب والقتل. فمثال اسم الجنس الحقيقي، وهو اسم عين لفظ "بحر" من نحو قولك: "رأيت بحرا يتحدث" تريد: رجلا عالما فحلا, فقد استعير لفظ "بحر" للرجل

_ 1 شبه كثرة الماء كثرة جاوزت الحد بالتكبر المعبر عنه بالطغيان، ثم استعير اسم المشبه به وهو الطغيان للمشبه الذي هو كثرة الماء، ثم اشتق من الطغيان "طغى" بمعنى كثر كثرة جاوزت الحد وهكذا يقال في أشباه ذلك من كل ما كان فيه لفظ المشبه به مشتقا كما سيأتي بيانه بعد. 2 أي: لا باعتبار ذاتها إذ هي معنى مصدري والمعاني المصدرية كما قلنا لا وجود لها خارجا, وإجراء الاستعارة فيها أن يقال: شبه الريح في هبوبها بالعتو والقسوة، ثم استعيد "العتو" لشدة هبوب الريح، ثم اشتق منه "عاتية" بمعنى شديدة

العالم استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار اسم جنس حقيقة. ومثال اسم الجنس التأويلي, وهو اسم عين أيضا لفظ "سحبان" ونحوه: من كل علم اشتهر مدلوله بنوع من الوصف، كما تقول: "رأيت سحبان يخطب" تريد رجلا فصيحا مفوها، استعير فيه كذلك لفظ "سحبان للرجل الفصيح استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار اسم جنس تأويلا1. ومثال اسم الجنس: وهو اسم معنى قولك: "آلمني قتل علي أخاه"، تريد: إذلاله. فقد استعير فيه "القتل" للإذلال استعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار، وهو "القتل" اسم جنس معنى, وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه الإذلال بالقتل بجامع شدة الألم، ثم استعير لفظ "القتل" لمعنى الإذلال. وهكذا يقال في أمثال ذلك. وسمي هذا القسم: استعارة أصلية، نسبة إلى الأصل, بمعنى الكثير الغالب -ولا شك أنها أكثر وجودا في الكلام من التبعية الآتية بعد- أو نسبة إلى الأصل بمعنى ما أنبني عليه غيره، ولا ريب أنها أصل للتبعية لبنائها عليه, على ما سيأتي بيانه قريبا. والتبعية: ما كان اللفظ المستعار فيها فعلا، أو اسما مشتقا، أو حرفا. وإليك بيان كل. الاستعارة في الفعل: الفعل له "مادة" هي حروفه الدالة على الحدث, وله "صيغة" وهي الهيئة الدالة على الزمان، كما في صيغتي الماضي والمضارع, والاستعارة في الفعل، باعتبار مادته: غيرها باعتبار صيغته.

_ 1 تقدم معنى التأويل فيه.

فمثالها في الفعل، باعتبار مادته قولك: "نطقت حالك بكذا"، أي: دلت- فالنطق- كما هو معلوم- وصف للإنسان لا للحال، وإنما توصف الحال بالدلالة. وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الدلالة الواضحة بالنطق في إيضاح المعنى، ثم ادعى "مبالغة" أن الدلالة داخلة في نطاق النطق. وفرد من أفراده، ثم استعير النطق للدلالة الواضحة، فصار النطق بمعنى الدلالة الواضحة1، ثم اشتق من النطق بهذا المعنى: "نطقت" بمعنى "دلت" على سبيل الاستعارة التبعية.. وقس على هذا. ومثالها في الفعل، باعتبار صيغته قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فمن المعلوم أن أمر الله لم يأت بعد، وإنما سيأتي بدليل قوله: "فلا تستعجلوه, فكان سياق الكلام أن يقال: "يأتي أمر الله" بصيغة المضارع، لكنه عبر بصيغة الماضي تجوزا. وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه الإتيان في المستقبل بالإتيان في الماضي في تحقق الوقوع، ثم ادعى أن الإتيان في المستقبل داخل في جنس الإتيان في الماضي، ثم استعير لفظ "الإتيان في الماضي" للإتيان في المستقبل، فصار الإتيان في الماضي، بمعنى الإتيان في المستقبل، ثم اشتق من الإتيان بهذا المعنى، "أتى" بمعنى "يأتي" على سبيل الاستعارة التبعية, وهكذا يقال في أمثال ما ذكر. وكما تستعمل: صيغة الماضي في المستقبل -كما مثلنا- تستعمل صيغة المضارع في الماضي كما في قوله تعالى حكاية لقول إبراهيم عليه السلام لولده إسماعيل: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} . فالرؤيا المذكورة وقعت -لا محالة- فكان سياق الكلام أن يقال: إني رأيت في المنام.

_ 1 وإن أطلق النطق على الدلالة لا باعتبار التشبيه بل باعتبار أن الدلالة لازمة له كان مجازا مرسلا وقد عرفت فيما سبق: أنه لا امتناع في أن يكون اللفظ الواحد بالنسبة للمعنى الواحد استعارة ومجازا مرسلا باعتبار العلاقتين كما تقدم في المشفر والمرسن.

لكنه عبر بصيغة المضارع تجوزا، قصدا إلى استحضار تلك الصورة العجيبة، هي صورة أب، يهم بذبح ابنه، دون ذنب جناه. الاستعارة في المشتقات: مثالها في اسم الفاعل قولك: "جليل أعمالك ناطق بكمالك" أي: دال عليه ففي "ناطق" استعارة تبعية. وإجراؤها أن يقال فيها على غرار ما قيل في نطقت الحال بكذا، غير أن المشتق من النطق هنا: "ناطق" بمعنى دال, ومثله قولك: "حكم على قاتلك بالسجن" أي: ضاربك ضربا أليما، وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شب الضرب الأليم، بالقتل: بجامع الألم الأليم، ثم استعير بعد التشبيه والادعاء لفظ "القتل" للضرب الأليم، فصار "القتل" بمعنى الضرب الأليم، ثم اشتق من القتل بهذا المعنى، "قاتل" بمعنى ضارب ضربا مبرحا، على سبيل الاستعارة التبعية. ومثالها في اسم المفعول قولك: "رفع مقتولك أمره إلى الحاكم": تريد مضروبك ضربا أليما, وإجراء الاستعارة فيه على نحو ما تقدم, غير أن المشتق هنا اسم مفعول. ومثالها في أفعل التفضيل قول الشاعر العربي: ولئن نطقت بشكر برك مفصحا ... فلسان حالي بالشكاية أنطق شبهت الدلالة بالنطق، على نحو ما سبق ثم اشتق من النطق بمعنى الدلالة "أنطق" اسم تفضيل بمعنى "أدل" على سبيل الاستعارة التبعية، وهكذا يقال في سائر المشتقات، فليس يعوزك القياس. وإنما كانت الاستعارة في الفعل وفي سائر المشتقات "تبعية" لجريانها فيها تبعا لجريانها في مصادرها كما رأيت, فتشبيه الدلالة بالنطق مثلا يتبعه تشبيه "دل" "بنطق" واستعارة النطق للدلالة، يتبعه استعارة "نطق لدل", ذلك أن الفعل

مشتق من المصدر، فكل تصرف يجري في المصدر يجري نظيره في الفعل، وفي سائر المشتقات. وإنما اعتبر التشبيه والاستعارة في المصدر قبل اعتبارهما في الفعل، وفي سائر المشتقات؛ لأن المصدر هو المعنى القائم بالذات، فهو المقصود الجدير بأن يعتبر فيه التشبيه والاستعارة أولا هذا هو التحقيق. الاستعارة في الحرف: مثالها قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . اعلم أن لام العلة موضوعة لترتيب ما بعدها على ما قبلها: ترتب العلة على المعلول كما تقول "جئت إلى مصر لأرتشف العلم من مناهلها" فإن ارتشاف العلم مترتب على المجيء، وعلة باعثة عليه. إذا علمت هذا علمت أن "اللام" في الآية المذكورة مستعملة في غير ما وضعت له؛ لأن ما بعدها -وإن كان مترتبا على ما قبلها- ليس علة باعثة, ذلك أن آل فرعون لم يلتقطوا موسى ليكون لهم عدوا وحزنا، وإنما التقطوه ليكون لهم حبيبا، يملأ رحباهم بهجة وسرورا. ومذهب الجمهور في إجراء الاستعارة في مثل هذا: أنهم يعقدون التشبيه في متعلق معنى الحرف1، فيقولون في الآية المذكورة: شبه مطلق ترتب علة واقعية "كالعداوة والحزن" على الالتقاط, بمطلق ترتب علة حقيقية عليه "كالمحبة والسرور" بجامع مطلق ترتب شيء على شيء، فسرى التشبيه من الكليين إلى جزئياتهما، ثم استعيرت

_ 1 المراد بمتعلق معنى الحرف: المعنى الكلي الذي يستلزمه المعنى الجزئي للحرف فلفظ "في" مثلا موضوع لمعنى جزئي هو الظرفية الخاصة في قولك الماء في الكوز، وهذا المعنى الجزئي يتعلق بمعنى كلي هو مطلق ظرفية شيء في شيء، ومعنى تعلقه به: استلزامه له إذ الخاص يستلزم العام, ولام العلة كذلك موضوعة لمعنى جزئي هو ترتيب علة خاصة على معلول خاص كما في نحو جئت لأتلقى العلم. وهذا المعنى الجزئي يتعلق بمعنى كلي هو مطلق ترتيب شيء على شيء وهكذا.

-بناء على التشبيه الحاصل بالسراية- "اللام" الموضوعة لجزئي من جزئيات المشبه به1 لجزئي من جزئيات المشبه2 على سبيل الاستعارة التبعية. ومثل الآية المذكورة قولهم: "محمود في غبطة" فإن لفظ "في" موضوعة لتلبس الظرف بالمظروف الحقيقيين كما تقول: "الماء في الجرة" فالحرف المذكور إذن مستعمل في غير ما وضع له؛ لأن مجروره لا يصلح للظرفية الحقيقية وإجراء الاستعارة فيه على مذهبهم أن يقال: شبه مطلق تلبس شيء لا يصلح للظرفية "كالغبطة" في المثال المذكور بشيء آخر, فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، ثم استعير لفظ "في" من أحد جزئيات المشبه به لأحد جزئيات المشبه، على سبيل الاستعارة التبعية ... وهكذا. وصفوة القول: في الاستعارة التبعية: أن يقال: إن كانت الاستعارة في الفعل أو شبهه، بقدر التشبيه أولا في معنى المصدر. ثم ينقل المصدر إلى غير معناه الأصلي، ثم يشتق منه ما وقعت الاستعارة فيه: من فعل أو وصف، فتكون الاستعارة فيهما حينئذ تابعة للاستعارة في المصدر بلا خلاف. وإن كانت الاستعارة في الحرف، فعلى مذهب الجمهور، في الرأي الراجح منه، يقدر التشبيه، "أولا" في متعلق معنى الحرف, ثم يقدر "ثانيا" من طريق السراية, في جزئية, ثم يستعار الحرف للمعنى المراد، فتكون الاستعارة في الحرف حينئذ تابعة لتشبيهين: أحدهما في متعلق معنى الحرف، والثاني في جزئيه, ولا يعوزك بعد هذا تطبيق الاستعارة على ما يعرض عليك من أمثلة في المشتقات أو الحروف.

_ 1 هو ترتب المحبة والسرور المتعلقين بموسى عليه السلام على الالتقاط. 2 هو ترتب العداوة والحزن المتعلقين أيضا بموسى عليه السلام على الالتقاط.

قرينة التبعية

قرينة التبعية: هي: في الفعل وسائر المشتقات مرجعها -غالبا- إلى: 1- الفاعل: بأن يكون إسناد الفعل إليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد بالفعل: معنى يناسب الفاعل كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ونحو: "نطقت الحال بكذا" فالطغيان بمعناه الحقيقي يستحيل صدوره من الماء, كما أن النطق بمعناه الأصلي لا يتأتى صدوره من "الحال" إذ هما من شئون الإنسان، فدل ذلك على أن المراد "بالطغيان". معنى يصح إسناده إلى الماء، وهو الكثرة التي جاوزت الحد, وأن المراد: "بالنطق": ما يصح نسبته إلى "الحال"، وهو الدلالة الواضحة, ففي كل من "طغى ونطق" استعارة تبعية، قرينتها "الماء" في الأول و"الحال" في الثاني، وكلاهما فاعل: 2- نائب الفاعل: بأن يكون إسناد الفعل إليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد بالفعل معنى يناسب نائب الفاعل كما في قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} فالضرب وهو نصب الشيء من شأن الخيام، لا من شأن الذلة والمسكنة: إذ هما أمران معنويان، فدل ذلك على أن المراد "بالضرب" معنى يناسبهما، وهو "الحكم" ويكون المعنى حينئذ: حكم عليهم بالذلة والمسكنة, ففي "ضرب" حينئذ استعارة تبعية، قرينتها لفظا "الذلة"، "والمسكنة", وكلاهما نائب فاعل1. 3- المفعول بأن يكون تسلط العامل عليه غير صحيح، فيدل ذلك على أن المراد منه: معنى يناسب المفعول. من ذلك قول ابن المعتز يمدح والده: جمع الحق لنا في إمام ... قتل البخل وأحيا السماحا

_ 1 شبه الحكم على الشيء بنصب الخيام عليه بجامع الاشتمال في كل، ثم استعير ضرب الخيام للحكم، واشتق منه، "ضرب" بمعنى حكم على سبيل الاستعارة التبعية.

"فالقتل والإحياء" بمعناهما الحقيقي لا يقعان إلا على ذي روح، "والبخل والسماح" ليسا من ذوات الروح، فدل ذلك على أن المراد "بالقتل": معنى يناسب البخل، وهو الإزالة، وأن المراد "بالإحياء": معنى يناسب الجود، وهو "الإكثار"، وكأنه يقول: أزال البخل، وأكثر السماح1 ففي كل من "قتل" وأحيا" استعارة تبعية. قرينتها "البخل" في الأول و"السماح" في الثاني وكلاهما مفعول. وقد تكون القرينة المفعول الثاني، كما في قول القطامي من قصيدة: نقريهمو لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كان زراد2 يقول: "نطعنهم طعنات نافذات، تقد الدروع، وتشق الضلوع, والشاهد: قوله: "نقريهمو" فهو استعارة تبعية تهكمية، قرينتها قوله: "لهذميات" وهو المفعول الثاني "لنقري", ذلك أن "القرى" في الأصل: تقديم الطعام للضيف, فلا يصح إيقاعه بهذا المعنى على "اللهذميات" التي هي الطعنات النافذات، أو الأسنة الماضيات, فعلم: أن المراد "بالقرى" معنى يناسب هذه الطعنات أو الأسنة، وهذا المعنى هو تقديمها إلى الأعداء عند اللقا وكأنه يقول: نقدم إليهم لهذميات نقد بها ... إلخ. وقد تكون القرينة المفعولين معا، كما في قول الحريري:

_ 1 شبه أولا إزالة البخل بالقتل بجامع ما يترتب على كل من العدم، ثم استعير القتل للإزالة واشتق منه قتل بمعنى أزال وشبه ثانيا الإكثار من الشيء بإحيائه بجامع شيوع المنفعة، ثم استعير "الإحياء" للإكثار، واشتق من "الإحياء" بمعنى الإكثار "أحيا" بمعنى أكثر على سبيل الاستعارة في الموضوعين. 2 "نقريهمو" من القرى على زنة "إلى"، وهو تقديم الطعام إلى الضيف، و"اللهذميات" جمع لهذمية وهي الطعنة الواسعة نسبة إلى لهذم وهو السنان القاطع. و"القد" القطع و"خاط" بمعنى قدر على التضمين ولهذا عدى "بعلي"، و"الزراد" صانع الزرد بفتح الراء وهو الدرع, شبه تقديم الطعنات أو الأسنة عند اللقاء بالقرى بجامع أن كلا تقديم ما يصل من خارج إلى داخل، ثم استعير القرى لتقديم الطعنات أو الأسنة على سبيل الاستعارة التبعية.

وأقرى المسامع أما نطقت ... بيانا يقود الحرون الشموسا1 يصف نفسه بسحر البيان وعذوبة المنطق، فيقول: وأقدم إلى المسامع بيانا يكبح بسحره وعذوبته جماح النفوس الصوادف, والشاهد قوله: "وأقرى المسامع بيانا" فإن في "أقرى" استعارة تبعية، قرينتها تعلق القرى بكل من "المسامع والبيان" ذلك أن "القرى" كما قدمنا -تقديم الطعام إلى الضيف، فلا يصح إيقاعه بهذا المعنى على المسامع والبيان، فعلم من هذا: أن المراد به: معنى يناسبهما، وهو التقديم والإلقاء. 4- المجرور بأن يكون تعلق الفعل بالمجرور غير مناسب، فيدل ذلك على أن المراد به: معنى يناسب ذلك المجرور- كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} فالتبشير إخبار بما يسر, فلا يناسب تعلقه "بالعذاب" فيعلم من هذا أن المراد بالتبشير: معنى يناسب العذاب، وهو الإنذار، أي: الإخبار بما يسيء, وإذن ففي قوله: "بشرهم" استعار تبعية تهكمية، قرينتها مجرور الحرف2, ومثهل قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} فإن الهداية هي الدلالة بلطف، وهذا المعنى لا يناسب تعلقه "بالجحيم" فالمراد إذن معنى يناسبه: وهو الجر بعنف لا هوادة فيه، وإذن ففي قوله: "فاهدوهم" استعارة تبعية تهكمية كذلك, قرينتها مجرور الحرف كسابقتها. وقد تكون القرينة غير ما ذكرنا كما في قوله تعالى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} على أن يكون "مرقد" اسم مكان، بمعنى القبر، ليكون استعارة تبعية, شبه الموت بالرقود: بجامع فقد الإحساس، ثم استعير لفظ "الرقود" لمعنى "الموت"، ثم اشتق منه "مرقد" اسم مكان، بمعنى مكان الموت أي: القبر، على سبيل الاستعارة

_ 1 "أقرى" مضارع قرى, و"الحرون" من الخيل ما لا ينقاد لصاحبه والشموس مثله يقال: حرن الفرس وشمس إذ منع ظهره. 2 نزل التضاد بين التبشير والإنذار منزلة التناسب بينهما, على ما سبق في باب التشبيه، ثم شبه الإنذار بالتبشير في أن كلا إخبار بما يسر، ثم استعير التبشير للإنذار، واشتق منه "بشر" بمعنى أنذر على سبيل الاستعارة التبعية التهكمية.

التبعية, والقرينة كون هذا الكلام صادرا من الموتى يوم البعث، مع ضميمة قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} وكما تقولون: قتلت عمرا "إذا ضربته ضربا موجعا" فإن القرينة فيه على أن المراد بالقتل: الضرب الأليم حالية. تقسيم الاستعارة باعتبار الملائم: تنقسم الاستعارة باعتبار ذكر الملائم لأحد الطرفين، وعدم ذكره إلى مرشحة، ومجردة، ومطلقة. فالمرشحة: ما قرنت بما يلائم المستعار منه، وهو المشبه به, سواء كان ذلك الملائم صفة نحوية، أو معنوية، أو كان تفريعا1. فمثال الترشيح بالصفة النحوية، قولك: "رأيت أسدا حاد الأظفار، متنقش اللبدة، رهب الزئير", وقولك: "رأيت بحرا بعيد الغور، لا ساحل له", فقد استعير في الأول "الأسد" للرجل الجريء، ثم وصف المستعار منه بما يلائمه: من حدة الأظفار، وانتفاش اللبدة، ورهبة الزئير ترشيحا للاستعارة, واستعير في الثاني "البحر" للعالم الجليل، ثم وصف المستعار منه بما يلائمه: من بعد الغور، وانتفاء الساحل ترشيحا للاستعارة كذلك- وكلا الترشيحين وصف نحوي- والقرينة في المثالين حالية. ومثال الترشيح بالصفة المعنوية قول الشاعر: ينازعني "ردائي" عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمر بن بكر

_ 1 الفارق بين الصفة والتفريع أن: الملائم إن كان من بقية الكلام الذي فيه الاستعارة فهو صفة، وإن كان كلاما مستقلا جيء به بعد الكلام الذي فيه الاستعارة مبنيا عليه كان تفريعا, والعبرة بالاعتبار والقصد، فنحو قولك: "رأيت أسدا يرمي" يصح أن يكون صفة وأن يكون تفريعا.

لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر1 يقول: ينازعني عبد عمرو سيفي الذي أقي به نفسي وعرضي، ثم التفت قائلا: تمهل فسأقسم بيني وبينك، فأحتفظ لنفسي بقائمه الذي بيدي، وأعطيك أنت صدره، فهو يهدده بالقتل, والشاهد فيه: أنه استعار الرداء للسيف, تشبيه السيف به، في أن كلا وقاية حفظ. فالرداء يحفظ السوأة، والسيف يحفظ الحمى، ثم وصف الرداء الذي هو المستعار منه بما يلائمه من الاعتبار، إذ هو لف الرأس بنحو ثوب ترشيحا للاستعارة -والقرينة حالية كذلك. ومثال الترشيح بالتفريع قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 2, استعير الاشتراء للاختيار والإيثار، ثم فرع عليه ما يلائم المستعار منه، وهو "نفي الربح في التجارة" ترشيحا للاستعارة, وقرينتها ثبوت الاشتراء بمعناه الحقيقي. ويسمى هذا القسم "استعارة مرشحة" لأن الترشيح معناه: التقوية، وذكر ملائم المشبه به يبعدها عن الحقيقة، ويقوي فيها دعوى الاتحاد التي هي مبنى الاستعارة. والمجردة: ما قرنت بما يلائم المستعار له، وهو المشبه, سواء كان الملائم صفة نحوية، أو معنوية، أو تفريعا. فمثال التجريد بالصفة النحوية، قول أبي عبادة البحتري:

_ 1 "رويدك" اسم فعل بمعنى أمهل، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، "ودونك" اسم فعل بمعنى خذ، والاعتجار لف الرأس بنحو ثوب، وأراد بالشطر الذي ملكت يمينه: قاتم سيفه، وبالشطر الآخر: صدر السيف. 2 شبه إيثار الباطل على الحق بالاشتراء بجامع استبدال شيء مرغوب عنه بشيء مرغوب فيه، ثم استعير الاشتراء للإيثار، ثم اشتق من الاشتراء بمعنى الإيثار اشتروا بمعنى "آثروه" واختاروا استعارة تبعية.

يؤدون التحية من بعيد ... إلى قمر من الإيوان باد1 استعار القمر للإنسان الجميل، ثم وصف المستعار له بما يلائمه: من كونه مطلا من الإيوان تجريدا للاستعارة, وقرينتها قوله: يؤدون التحية من بعيد "والتجريد وصف نحوي, كما ترى. ومثال التجريد بالصفة المعنوية قول كثير عزة: غمر الرداء ذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال2 يقول: إنه كثير العطاء واسع البذل، إذا ابتسم لطالبي معروفه تمكنت رقاب المال من أيديهم، وتعذر انفكاكها، كالرهن الحبيس في يد المرتهن، وقد عجز الراهن عن استرداده, والشاهد فيه: استعارة الرداء للعطاء بعد تشبيه العطاء به في أن كلا وقاية حفظ وصيانة, فالمال يصون العرض، والرداء يصون السوأة، ثم وصف المستعار له الذي هو "العطاء" بما يلائمه "وهو الغمر"3 تجريدا للاستعارة، وهو -كما ترى- وصف معنوي وقرينتها تتمة الكلام: من تبسم الممدوح، وحبس رقاب أمواله في أيدي العفاة. ومثال التجريد بالتفريع قولهم: "رأيت غضنفرا في حومة الوغى، فلجأت إلى ظل رمحه" استعير الغضنفر للرجل المقدام بقرينة قوله: "في حومة الوغى" ثم فرع عليه بما يلائم المستعار له: من اللجوء إلى ظل رمحه تجريدا للاستعارة. ..

_ 1 "الإيوان" اسم لبناء ضخم ومنه إيوان كسرى. 2 "الغمر" في الأصل الماء الكثير, واستعمل هنا بمعنى كثير العطاء مجازا، ومن هنا يعلم أن لا مائع من أن يكون الملائم متجوزا فيه. وفي قوله "تبسم ضاحكا" وصف للممدوح بالبشر والطلاقة وذلك أمارة الارتياح للبذل، وقوله: "غلقت" من غلق الرهن في يد المرتهن إذا لم يقدر الراهن على فكه لعجزه عن أداء الدين. و"الضحكة" بفتح الضاد وسكون الحاء المرة من الضحك، ويريد برقاق المال: أصوله. 3 هذا إذا كان من غمر الماء إذا كثر, أما إذا كان من قولهم: ثوب غامر أي: واسع فضفاض فهو ترشيح.

وسمي هذ القسم: "استعارة مجردة" لتجردها عما يقوي فيها دعوى الاتحاد، ولا شك أن ذكر ما يلائم المستعار له يقربها من المعنى الحقيقي، ويضعف فيها دعوى الاتحاد بين الطرفين. وقد اجتمع الترشيح والتجريد في قول الشاعر: رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلدي وهو القلب جارح استعار السهم للنظر بجامع شدة التأثير، وريشه، ترشيح لأنه من ملائمات المستعار منه ومن قولهم: راش السهم إذا ألصق عليه الريش، ليكون أحكم في الرماية "والكحل" تجريد لأنه من ملائمات المستعار له, وبهذا الاعتبار تكون قرينة الاستعارة حالية, فإذا اعتبر "الكحل" قرينة كان "ريشه" ترشيحا، واعتبرت الاستعارة حينئذ مرشحة. ومما ينبغي أن يعلم: أن اعتبار الترشيح والتجريد، إنما يكون بعد تمام الاستعارة وهي إنما تتم باستيفاء قرينتها, فقولك مثلا: "رأيت سحابا يعطي" استعارة، لا ترشيح فيها ولا تجريد لعدم اقترانها بما يلائم أحد الطرفين, وأما قولك: "يعطي" فهو قرينة الاستعارة، فلا يعتبر تجريدا وإن كان من ملائمات المستعار له، ولو أن القرينة في هذا المثال حالية، لكان قولك: "يعطي" تجريدا للاستعارة لملاءمته للمستعار له. والمطلقة: ما لم تقترن بشيء من ملائمات أحد الطرفين، كما تقول: "ظمئي إلى لقائك شديد"، استعير الظمأ للشوق، بقرينة قولك: إلى لقائك، فالاستعارة مطلقة لعدم اقترانها بشيء يلائم أحد الطرفين. وسمي هذا القسم: "استعارة مطلقة" لإطلاقها عن التقييد بما يلائم أحد طرفي الاستعارة, كما رأيت. قالوا: ومن قبيل المطلقة: ما اجتمع فيه ترشيح وتجريد وتساويا؛ لأنهما باجتماعهما يتعارضان فيتساقطان، وكأن لا ترشيح ولا تجريد، كما في قول الشاعر السابق: "رمتني بسهم ريشه" إلخ، على اعتبار أن القرينة فيه حالية, فإذا زاد أحدهما على الآخر رجح جانبه.

موازنة بين الاستعارات الثلاث: الاستعارة المرشحة كما قلنا: ما ذكر فيها ما يلائم المستعار منه "أي: المشبه به", وهذا مما يزيد الاستعارة قوة مبالغة, ذلك أن مبنى الاستعارة كما علمت على تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه هو المشبه به عينه، لا شيء سواه, والترشيح الذي هو ذكر ملائم المشبه به: إمعان في هذا التناسي وغلو في دعوى الاتحاد، وكأن ليس هناك استعارة، بل ولا تشبيه، حتى إنك لتجد الشاعر أو الناثر, يمعن في إنكارهما، ويخيل للسامع: أن الأمر محمول على حقيقته، لا تجوز فيه. ألا ترى إلى قول أبي تمام: ويصعد حتى يظن الجهول1 ... بأن له حاجة في السماء استعار لفظ "الصعود" الذي هو العلو الحسي المكاني: لعلو المرتبة، ثم بنى كلامه على أنه صعود حسي حقيقة، إمعانا منه في تناسي التشبيه، وفي إنكار أن هناك استعارة فذكر ما يلائم الصعود الحسي: من ظن الجهول بحقائق الأشياء: أن له حاجة ينشدها في السماء, ولولا أنه قصد أن يتناسى الاستعارة, ويصر على إنكارها إصرارا، وأنه جعل الممدوح صاعدا في السماء صعودا حسيا مشاهدا -ما كان لهذا الكلام وجه- ومثله قول أبي الطيب السابق: ولم أر قبلي من مشى البحر نحوه ... ولا رجلا قامت تعانقه الأسد فنفيه أن يرى "البحر" يمشي إلى إنسان "وأن يرى الأسود تعانق رجلا مبني على أنه أراد: المعنى الحقيقي لهما مبالغة, إذ لم يعهد أن يسعى البحر نحو إنسان، أو أن تعانقه الأسود, فكل ذلك بمني على الإمعان في تناسي التشبيه، والغلو في إنكار الاستعارة, يؤيد ذلك قول ابن العميد يصف غلاما قام يظلله من حر الشمس.

_ 1 إن في التعبير "بالجهول" فضل مبالغة في المدح لما فيه من الإشارة إلى أن هذا الوصف إنما هو في ظن الجهول لنقصان عقله, أما العاقل فيعرف أن لا حاجة له في السماء لاتصافه بسائر الكمالات, فإفراطه في العلو إنما هو لمجرد التعالي على الأنداد.

قامت تظللني من الشمس ... نفس أعز علي من نفسي قامت تظللني ومن عجب ... شمس تظللني من الشمس1 وقول الشاعر السابق2: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر3 ففي الأول: استعار "الشمس" للإنسان ذي الوجه المشرق, وفي الثاني استعار "القمر" لهذا الإنسان, ثم تناسى التشبيه، وتناسى الاستعارة، وبنى الكلام على أن الشمس والقمر حقيقيان, ولولا أن ابن العميد ادعى لغلامه معنى الشمس الحقيقية: لما كان للتعجب معنى، إذ ليس بدعا أن يظل إنسان حسن الوجه إنسانا آخر، ويقيه بشخصه وهج الشمس, كذلك لولا أن أبا الحسن جعل صاحبه قمرا حقيقيا: لما كان ثم وجه للنهي عن التعجب من الكتان إنما يسرع إليه البلى حين يلابس القمر الحقيقي -كما يقولون- لا حين يلابس إنسانا بلغ الغاية في الحسن. وإذا كان هذا شأن المرشحة كانت جديرة أن تحتل المكان الأول بين أختيها. ويلي المرشحة في القوة: الاستعارة "المطلقة": إذ هي التي لا يذكر فيها شيء يلائم أحد الطرفين -كما عرفت، فهي- وإن خلت مما يقوي تناسي التشبيه، ويدعم دعوى الاتحاد: من ذكر ما يلائم المشبه به ليس فيها ما ينافيهما: من

_ 1 ضمن التظليل معنى المنع فعداه "بمن" أي: تمنعني من حر الشمس، وأنث الفعل مراعاة لتأنيث اللفظ. 2 هو الشريف أبو الحسن يتصل نسبه بعلي بن أبي طالب وهو شاعر مفلق. 3 البلى "الفناء" والغلالة بكسر الغين شعار يلبس تحت الثوب، و"زر" بمعنى شد.

ذكر ما يلائم المشبه -وإذا كان هذا حالها- كانت خليفة أن تحتل مكانا وسطا بين أختيها. ومن هنا يبدو واضحا: أن الاستعارة المجردة في المرتبة الدنيا لاشتمالها على ما يلائم المشبه، إذ هو يتعارض مع ما تقتضيه الاستعارة: من تناسي التشبيه، ودعوى الاتحاد، قضاء لحق المبالغة. اختبار: 1- عرف كلا من الاستعارة الوفاقية والعنادية ومثل لكل، مع إجراء الاستعارة فيما تمثل به. ومن أي قبيل قولهم: كان ميتا فأحييناه. 2- أجر الاستعارة في قولهم: قابلني اليوم قس بن ساعدة، يريدون: "رجلا عييا" وبم تسمي هذا النوع من الاستعارة؟ 3- عرف الجامع وافرق بينه وبين وجه الشبه في التشبيه. ثم قسم الاستعارة باعتباره، وعرف كل قسم، ثم أجر الاستعارة في الحديث الشريف: "خير الناس ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها" ومن أي القسمين هذه الاستعارة. 4- عرف الاستعارة الخاصة، ومثل لها, مع بيان موضع الغرابة فيهما. 5- ما وجه غرابة استعارة "سيلان الماء لسير الإبل" في قول الشاعر: "وسالت بأعناق المطي الأباطح"، مع ما نراه من سذاجتها؟ 6- قسم الاستعارة باعتبار حسية الطرفين وعقليتهما، ومثل لكل بمثال، ومن أي قبيل قوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ؟ 7- قسم الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار، وعرف كل قسم، ومثل له، وكيف صحت الاستعارة في نحو: زارني اليوم بأقل، تريد رجلا عييا، مع اشتراط أن يكون المستعار منه كليا، ثم أجر الاستعارة في نحو: "قتل على خصمه". أي: أذله، مع بيان نوع الاستعارة في المثال.

8- بين وجه كون الاستعارة في المشتقات تبعية، ووضح ذلك في مثال، ثم بين نوع الاستعارة، مع إجرائها في قولهم: فلان في بسطة من العيش, مع بيان علة تسميتها تبعية في الحرف. 9- بين مناط قرينة التبعية، مع التمثيل، ومع بيان قرينة الاستعارة في قوله: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} . 10- قسم الاستعارة باعتبار ذكر الملائم، وعرف كل قسم، ومثل له مع بيان علة التسمية في كل منها، وهل من التجريد لفظ "يتصدق" من نحو: رأيت بحرا يتصدق؟ 11- كيف كانت المرشحة أبلغ من أختيها، وأي الأختين أبلغ من الأخرى، وجه ما تقول مع التمثيل. تمرينات منوعة: 1- أجر الاستعارة وبين نوعها وقرينتها فيما يأتي: نزلت على حاتم، تريد: رجلا بخيلا، فبشرهم بعذاب أليم. اشتعل الرأس شيبا، يقول الشاعر يصف تشتيت المهزومين: نثرتهم فوق الأحيدب نثرة ... كما نثرت فوق العروس الدراهم 2- بين في الاستعارات الآتية: الطرفين والجامع بينهما: تلك آية بينة تخرج متدبرها من العمى إلى الإبصار، دخلنا حديقة فرشقتنا ألحاظها، وابتسمت لقدومنا ثغورها، يابن القمرين أقبل: تعلمت الكرم من سحاب لا يكف، ومعين لا ينضب. فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد 3- بين في التشبيهات الآتية وجه الشبه، ثم حولها إلى استعارات مبينا نوع كل استعارة وقرينتها: في هذه الخميلة أزهار كأنها الكواكب، وفوق الأغصان كروان

تحاكي القيان. سكبت دمعا كحبات الجمان: قوم إذا نهضوا لنجدة صارخ ... ركبوا الجياد كأنهم رياح وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق له خال على صفحات خد ... كنقطة عنبر في صحن مرمر 4- مثل لما يأتي استعارة عنادية تهكمية، استعارة داخلية طرفاها عقليان. استعارة خاصية، مع بيان وجه الغرابة فيها, استعارة أحد طرفيها حسي والآخر عقلي، استعارة تبعية قرينتها المفعول. استعارة مجردة، وأخرى مرشحة بوصف معنوي. 5- علام استشهد بما يأتي؟ فبشرهم بعذاب أليم. نقريهم لهذميات نقد بها ما كان خاط عليهم كل زراد {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . جمع الحق لنا في إمام ... قتل البخل وأحيا السماحا غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... علقت لضحكته رقاب المال

المجاز المركب: قلنا -فيما سبق- أن المجاز على نوعين: مفرد ومركب، وقد فرغنا من الكلام في المفرد، وهاك بيان المجاز المركب. تعريفه: هو ما ذهب إليه أعلام البيان, اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصل، تشبيه تمثيل مبالغة. ومقتضى هذا التعريف: أن المجاز المركب عندهم لا يجري في غير الاستعارة, غير أن القياس لا يمنع أن يجري في غيرها، كالجمل الخبرية المقصود بها: معنى إنشائي كما في قول الشاعر: مضت الليالي البيض في زمن الصبا ... وأتى المشيب بكل يوم أسود وإذن فمقتضى القياس: أن يعرف المجاز المركب: بأنه اللفظ المركب المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي. مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي -وهو- باعتبار هذه العلاقة نوعان: 1- مجاز مركب علاقته المشابهة, ويسمى: "تمثيلا"1، واستعارة تمثيلية. 2- مجاز مركب علاقته غير المشابهة, ويسمى مجازا مركبا مرسلا.

_ 1 إذا أطلق لفظ التمثيل انصرف إلى الاستعارة التمثيلية، فإذا أريد التشبيه ذو الوجه المركب قيل تشبيه التمثيل، أو تشبيه تمثيلي.

الاستعارة التمثيلية

الاستعارة التمثيلية: هي اللفظ المركب المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. كما تقدم في التشبيهات المركبة، أي: في الهيئات المنتزعة من أمور متعددة، إذا استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه.

كما تقول وأنت تنظر إلى الشمس. أرى مرآة في يد شلاء، تريد هذا الجرم الخاص, فقد شبهت هيئة الشمس السابق ذكرها: بهيئة المرآة في كف أشل، بجامع الهيئة الحاصلة في كل، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه، على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة الحالية. وكما تخبر عن إنسان يحاول أمرا لا يحصل منه على غاية: "رأيت من يرقم على الماء"، فهذا المركب غير مستعمل في معناه الوضعي، إذ إن المحدث عنه لا يرقم على الماء ولكن حاله وهو يعالج أمرا لا نتيجة له: تشبه حال من يرقم على الماء فصح استعمال هذا المركب في الرجل المذكور لتشابه الحالين. من ذلك ما كتبه الوليد بن يزيد، حين بويع بالخلافة إلى مروان بن محمد وقد بلغه توقفه عن البيعة له: "أما بعد: فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى1" وحقيقة الكلام: إني أراك متحيرا في أمرك، مترددا فيه, وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة تردده في قبول البيعة بين الإقدام والإحجام بهيئة رجل قام ليذهب إلى جهة, فتارة يعقد النية على الذهاب فيقدم رجلا، وتارة يعدل، فيؤخرها ثانيا. والجامع: الهيئة الحاصلة بين إقدام تارة، وإحجام أخرى, ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه استعارة تمثيلية, والقرينة حالية، إذ إن المتردد المذكور لا يقدم رجلا ولا يؤخرها فحاله على غير ما يدل عليه التركيب وضعا. وكما نقول فيمن يعمل الحيلة، فيرفق بصاحبه، ويلاطفه حتى يميله إلى ما يريد: "ما زال يفتل له في الذروة والغراب، حتى بلغ منه ما أراد", فقد شبه حاله معه: بحال من يأتي للبعير الحرون، فيحكه، ويفتل له الشعر في ذروته وغاربه،

_ 1 قوله: "تقدم رجلا" أي: تارة، ومفعول، ومفعول، "تؤخر" محذوف أي: تلك الرجل المقدمة وقوله: "أخرى صفة لتارة" المحذوفة أي: تارة أخرى, وأصل الكلام إني أراك تقدم رجلا تارة، وتؤخرها تارة أخرى, وتتمة الكلام. فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام.

حتى يسكن ويستأنس, فكل هذا وأشباهه يسمى. تمثيلا، أو استعارة تمثيلية. وإنما سميت الاستعارة في المركب "تمثيلا"لجريان التشبيه فيه بين الهيئات المنتزعة من متعدد، كما في الأمثلة المذكورة، فمعنى التمثيل فيه واضح لكثرة ما اعتبر فيه مما أوجب غرابته, وإذا فشت الاستعارة التمثيلية، وشاع استعمالها باقية على هيئتها. أطلقوا عليها لفظ: المثل: وهو استعارة تمثيلية شاع استعمالها, ويراعى فيه المعنى الذي ورد فيه أولا، فيخاطب به المفرد، والمثنى، والجمع, مذكرا أو مؤنثا، من غير تغيير في العبارة الواردة؛ لأنه -كما قلنا- استعارة تمثيلية، والاستعارة يجب أن تكون لفظ المشبه به المستعمل في المشبه كما في مثال "المتردد" فقد ورد في شخص معين، ثم شاع استعماله حتى صار مثلا يضرب لكل متحير في أمره -مفردا كان أو غير مفرد- مذكرا أو مؤنثا. فيقال لكل واحد مما ذكر: أراك تقدم رجلا إلخ. فينطق به كما ورد. ومثل المثل المذكور قولهم: "الصيف ضيعت اللبن" بكسر تاء الفاعل إذ قد ورد في امرأة فرطت في أمر، ثم طلبته بعد فوات فرصته، ثم شاع استعماله وذاع، حتى صار مثلا يضرب لكل من طلب أمرا، بعد التفريط فيه، وبعد فوات وقته. ومثله قولهم: "اليد لا تصفق وحدها" وهو مثل يضرب لمن يحاول أمرا وحده، فيعجز عنه، تشبيها له بمن يحاول أن يصفق بيد واحدة, وكقولهم: "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن" لمن يعرض له أمر لا يشتهيه، تشبيها له بربان السفينة، تزجيها الرياح إلى غير الوجهة التي يريدها, وهكذا يقال في جميع الأمثال السائرة نثرا ونظما. المجاز المركب المرسل1: هذا هو القسم الثاني من قسمي المجاز المركب.

_ 1 أطلق عليه هذا الاسم قياسا على المجاز المفرد.

وهو اللفظ المركب في غير ما وضع له لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة, كما في الجمل المستعملة في معان لم توضع لها، كالتحسر في قول الشاعر: ذهب الصبا وتولت الأيام ... فعلى الصبا وعلى الزمان سلام فالبيت مستعمل في معنى التحسر على ذهاب الشباب، وتصرم أيامه العذاب، والعلاقة فيه اللزوم، إذ يلزم من الإخبار بفوات الشباب، وانقضاء أيامه النضرات: التحسر والأسى على فواته، بقرينة قوله فعلى الصبا ... إلخ -هكذا قيل- وقيل: إن المعاني المقصودة مستفادة من طريق التلويح والإشارة، واللفظ مستعملا فيها، وهذا الرأي هو ما ارتاح له, وإذا فرغنا من بحث الاستعارة التحقيقية، فهاك:

الاستعارة المكنية

الاستعارة المكنية 1: تعريفها: اختلف فيه -فذهب الخطيب إلى أنها التشبيه المضمر في النفس، المدلول عليه بإثبات لازم المشبه به للمشبه, فالتشبيه فيها غير مصرح بشيء من أركانه سوى المشبه- والدليل على التشبيه حينئذ إثبات ذلك اللازم المختص بالمشبه به للمشبه2 كما في قول الشاعر: وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان يقول: إذا قدر لك أن تكون ملحوظا بعناية الله، فلن يمسك ضر، وكنت بمأمن من كل سوء, والشاهد في لفظ "العناية" فإن فيه استعارةبالكناية, يقال في إجرائها على هذا المذهب: شبهت العناية بإنسان تشبيها مضمرا في النفس، ثم تنوسي التشبيه، وادعي أن المشبه من أفراد المشبه به، ثم أثبت لازم المشبه به وهو "العيون" للمشبه الذي هو "العناية" قصدا إلى المبالغة.

_ 1 وتسمى الاستعارة بالكناية. 2 لأن إثبات لازم الشيء لغيره يدل على أن ذلك الغير مشبه بذلك الشيء ومنزل منزلته، وإلا ما صح أن يثبت له لازمه.

ومثله قول الحجاج في خطبته المشهورة: إني لأرى رءوسا قد أينعت. وحان قطافها إلخ, ففي "رءوسا" استعارة بالكنابة, شبه فيها الرءوس بالثمرات تشبيها مضمرا في النفس، ثم تنوسي التشبيه -على ما سبق- في البيت قبله، ثم ثبت لازم المشبه به، وهو قوله: "أينعت" للمشبه مبالغة، وقوله: "حان قطافها" ترشيح للاستعارة, وعلى هذا القياس. وعلى هذا المذهب خرجت الاستعارة عن أن تكون من أفراد المجاز اللغوي؛ لأنه: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، فهو من عوارض الألفاظ, والاستعارة المكنية على هذا المذهب: هي التشبيه المضمر في النفس، وهو فعل من أفعال المتكلم، وإذن فإطلاق الاستعارة عليها -في رأي الخطيب- مجرد تسمية خالية عن المناسبة1, وأما إطلاق لفظ المكنية عليها فواضح، إذ لم يصرح فيها بالتشبيه، وإنما كنى عنه بذكر لازم المشبه به، وإثباته للمشبه. أما تعريفها -عند الجمهور- فهي لفظ المشبه به، المستعار في النفس للمشبه، والمحذوف المدلول عليه بشيء من لوازمه كما في قول الشاعر السابق، فقد استعير فيه بعد التشبيه لفظ "الإنسان" للعناية. ثم قدر في النفس حذف الشبه به، ودل عليه بذكر بعض خواصه، وهو "العيون" على سبيل الاستعارة بالكناية، ثم أثبت ذلك اللازم للمشبه. وسميت مكنية -على هذا المذهب- لعدم التصريح فيها بالمشبه به، والكناية عنه بذكر بعض خواصه, أما تسميتها "استعارة", على هذا الرأي فأمرها واضح؛ لأنها عندهم: اللفظ المستعار، فهي من أفراد المجاز اللغوي, بخلافها على رأي الخطيب على ما سبق.

_ 1 التمس بعضهم وجها لهذه التسمية هو: أن هذا التشبيه المضمر أشبه الاستعارة من حيث إن فيه ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به. ذلك أنه لما أثبت اللازم للمشبه دل ذلك على أن مريد التشبيه ادعي دخوله في جنس المشبه به حتى استحق خواصه والادعاء المذكور من شأن الاستعارة.

قرينة المكنية: هي عند الخطيب والجمهور: إثبات لازم المشبه به للمشبه كإثبات العيون للعناية في قول الشاعر السابق، وكإثبات الأظفار "للمنية" في قولهم: "أنشبت المنية أظفارها بفلان"، وهذا الإثبات يسمى عند الطرفين: استعارة تخييلية. أما أنه استعارة فلأن اللازم المذكور استعير للمشبه، وأثبت له، بمعنى أنه نقل عما يناسبه، واستعمل مع ما شبه بما يناسبه, وأما أنه "تخييلي" فلأن ذلك اللازم، لما نقل وأثبت: خيل للسامع أن المشبه من جنس المشبه به. ومن هنا يعلم: أن الخطيب يخالف الجمهور في المكنية على ما سبق، ويتفق معهم في قرينتها، إذ هي -عند الطرفين- إثبات لازم المشبه به للمشبه. ومما ذكرنا يتبين لك أمور ثلاثة: الأول: أن قرينة المكنية استعارة تخييلية دائما، إذ هي -كما علمت- إثبات لازم المشبه به للمشبه، وهذا الإثبات يسمى عند الفريقين "تخييلا" وقد علمت وجهه. الثاني: أن المكنية لا تنفك عن التخييلية؛ لأن التخييلية قرينتها، ولا بد للاستعارة من قرينة فهما إذن متلازمتان، لا توجد إحداهما بدون الأخرى. الثالث: أن طرفي الاستعارة التخييلية مستعملان في معنييهما الحقيقيين "فالعيون والعناية" في البيت السابق، كلاهما مستعمل في المعنى الذي وضع له, والتجوز إنما هو في إثبات العيون للعناية، إذ إن العناية لا عيون لها، فهو إذن إثبات الشيء لغير ما هو له، كما في المجاز العقلي في نحو: أنبت الربيع الزرع، فإن كلا من "الإنبات والربيع" مستعمل في المعنى الذي وضع له، والتجوز إنما هو في إسناد الإنبات إلى الربيع، وإنباته له. ثم إن اللازم المراد إثباته للمشبه -منه ما يكون به كما وجه المشبه في المشبه به- ومنه ما يكون به قوامه ووجوده فالأول كما في بيت الهذلي:

وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع1 يقول: إذا حان الأجل عجزت عنده الحيل، إذ لا مرد لقضاء الله, شبه الشاعر في نفسه المنية بالسبع في "الاغتيال" ثم تناسى التشبيه -على ما سبق- ثم أثبت لازم المشبه به للمشبه -ويقال- على رأي القوم بعد إجراء التشبيه: ثم استعير لفظ المشبه به، ثم حذف ورمز له بشيء من لوازمه، وأثبت للمشبه, والشاهد فيه: أن "الاغتيال" الذي هو وجه الشبه، يمكن حصوله بغير "الأظفار" "كالأنياب" مثلا غير أنه بالأظفار يكمل ويتم, والثاني كما في قول الشاعر السابق: ولئن نطقت بشكر برك مفصحا ... فلسان حالي بالشكاية أنطق يقول: إن نطقت بشكرك ليد لك علي، فإنني لأنطق بالشكاية منك؛ لأن ضرك أكثر من نفعك, والشاهد: أن وجه الشبه بين الحال، والإنسان المتكلم هو "الدلالة الواضحة"، وهي لا تتحقق بدون اللسان.

_ 1 "التميمة" خرزة تجعل معاذة وتعلق بأعناق الصبيان صونا لهم عن العين أو الجن في زعمهم.

فصل في شرائط حسن الاستعارة

فصل في شرائط حسن الاستعارة: لا تقع الاستعارة موقعها من الحسن والقبول، إلا إذا توفرت الأمور الآتية بعد: 1- رعاية جهات حسن التشبيه، أي: مراعاة أسباب حسنه؛ لأنها مبنية عليه فهي تابعة له في الحسن والقبح, فإن حسن حسنت، وإن قبح قبحت. فمن جهات حسن التشبيه: أن يكون التشبيه وافيا بالغرض منه, فإن كان الغرض مثلا: تزيين المشبه كوجه أسود، فشبه بمقلة الظبي ذات السواد الجميل، ثم

استعير له لفظها حسنت الاستعارة لوفاء التشبيه بالغرض فإذا شبه الوجه الأسود بالفحم لإفادة معنى التزيين، ثم استعير له لفظه لم تحسن الاستعارة لعدم حسن التشبيه، إذ لم يف بالغرض المقصود. ومن جهات حسن التشبيه: أن يكون وجه الشبه غير مبتذل: بأن يكون غريبا لطيفا, إما لكثرة ما فيه من التفصيل، أو لكونه نادر الحضور في الذهن لعزة وجوده, كما في تشبيه الشمس بمرآة في كف الأشل، أو تشبيه فحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجه الذهب- فإذا استعير لفظ المشبه به للمشبه في المثالين حسنت الاستعارة فيهما، لحسن التشبيه، لما فيه من الدقة بكثرة الاعتبارات في الأول، ولندور حضور صورة المشبه به في الذهن في الثاني, أما استعارة لفظ "الشمس"، للإنسان ذي الوجه المشرق، أو استعارة الورد للخد ذي اللون الأحمر، فليست بذات حسن، لفوات الحسن في التشبيه، بسبب ابتذاله، لوضوح الوجه فيه. ويستثنى من جهات حسن التشبيه شيء واحد، تحسن فيه الاستعارة، وإن لم يحسن التشبيه, وهو أن يقوى الشبه بين الطرفين جدا، حتى إنه ليخيل لك أنهما متحدان, كالشبه بين العلم والنور, أو بين الشبهة والظلمة, ففي هذين المثالين تحسن الاستعارة فتقول: "في قلبي نور" أي: علم, ولا يحسن التشبيه، فلا تقول: "في قلبي علم كالنور"، وتقول: "في قلبي ظلمة" أي: شبهة, ولا يحسن أن تقول: في قلبي شبهة كالظلمة. وإنما قبح التشبيه فيما ذكرنا لقوة الشبه بين الطرفين، حتى كأنهما شيء واحد، فإجراء التشبيه بينهما بمثابة تشبيه الشيء بنفسه، وحسنت فيه الاستعارة لاختفاء شبح التشبيه لفظا. 2- أن يزداد بعدها عن الحقيقة بالترشيح، ولذلك كانت الاستعارة المرشحة أكثر قبولا، وألذ طعما في ذوق البلغاء من أختيها: المجردة، والمطلقة.

3- ألا يشتم فيها رائحة التشبيه لفظا1. بألا يذكر في الكلام لفظ يدل على المشبه كما تقول: "زارنا قمر في منزلنا" فليس في العبارة لفظ صريح يفصح عن المشبه, بخلاف قول الشاعر السابق: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر فإن استعارة "القمر" للإنسان الجميل قليلة الحسن, كما يقولون2 لما فيها من إشمام رائحة التشبيه، بسبب ذكر لفظ دال على المشبه، وهو الضمير في "غلالته"، أو في "أزراره"، وهذا يتنافى مع ما ترمي إليه الاستعارة من تناسي التشبيه، ودعوى اتحاد الطرفين. ومما ينبغي أن يعلم هنا: أن المراد بإشمام التشبيه المشروط نفيه في حسن الاستعارة: ما لا يخرج به الكلام عن نطاق الاستعارة، كما في البيت المذكور ونحوه: مما يذكر فيه المشبه على وجه لا ينبئ عن التشبيه, بخلاف ما لو ذكر فيه المشبه على وجه ينبئ عن التشبيه نحو: "خالد أسد" من كل ما لا يصح فيه الحمل إلا على تقدير التشبيه، أو صرح فيه بوجه الشبه، أو الأداة، فإن مثل هذا الإشمام مبطل للاستعارة، فنفيه شرط لصحتها، لا لحسنها. 4- ألا يكون وجه الشبه خفيا جدا، بحيث لا يدرك بغير تأمل. وإذن فلا يحسن استعارة لفظ "أسد" للرجل الأبخر، وهو ذو الفم المنتن، لخفاء وجه الشبه، إذ إن انتقال الذهن من معنى "الأسد" إلى الرجل: إنما يكون باعتبار المعنى المشهور في الأسد، وهو الجرأة، لا البخر، فاستعار لفظ "الأسد" للأبخر، حينئذ يعد إلغازا وتعمية في المراد, ذلك: أن من شروط حسن الاستعارة- كما عرفت-

_ 1 إنما شرطوا ذلك في اللفظ؛ لأن التشبيه معنى لا بد منه في كل استعارة بواسطة القرينة؛ لأن الاستعارة لفظ أطلق على المشبه بمعونة القرينة، فلا يمكن نفي إشمام التشبيه لفظا ومعنى؛ لأن المعنى على التشبيه قطعا. 2 في نفسي مما يقولون شيء، فإني لأشعر بروعة هذه الاستعارة تملأ جوانب نفسي كلما قرأت هذا البيت أو سمعته.

عدم إشمامها رائحة التشبيه، وذلك مما يبعدها عن الحقيقة، فإذا انضم إلى ذلك خفاء وجه الشبه ازدادت بعدا، فخفيت على الفهم، وصارت إلغازا, ومن هنا يعلم: أن التشبيه أعم محلا، إذ كل ما يتأتى فيه الاستعارة يتأتى فيه التشبيه، من غير عكس لجواز أن يكون وجه الشبه غير جلي، فتصير الاستعارة إلغازا كما في المثال المذكور. هذا: والاستعارة التمثيلية كالتحقيقية في أن حسنها يكون بما ذكرنا من الأمور السابقة، إذ لا فارق بينهما إلا من حيث الإفراد والتركيب, والمكنية كذلك حسنها برعاية جهات حسن التشبيه, والتخييلية قرينة المكنية -كما علمت- فحسنها حينئذ تابع لحسن المكنية.

فصل في المجاز بالحذف والزيادة

فصل في المجاز بالحذف والزيادة: اعلم أن لفظ "مجاز" كما يطلق على الكلمة المنقولة من معناها الأصلي إلى غيره ما سبق، يطلق أيضا على الكلمة المنقولة من حكم إعرابها الأصلي إلى غيره بسبب حذف لفظ أو زيادة. فالأول كما في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، فكل من لفظي "ربك والقرية" مجاز بالحذف1 إذ ليس الكلام محمولا على ظاهره، لاستحالة مجيء الرب سبحانه في الآية الأولى، وللقطع بأن المراد: سؤال أهل القرية، لا سؤال الأبنية في الثانية, وأصل الكلام: وجاء أمر ربك، واسأل أهل القرية، فهما في الأصل مجروران بالإضافة ثم نقلا عن هذا الحكم الإعرابي، بسبب حذف المضاف، وجعل الأول مرفوعا على الفاعلية، والثاني منصوبا على المفعولية. والثاني كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على القول بزيادة الكاف، فقوله: {كَمِثْلِهِ} مجاز بالزيادة، أي: زيادة الكاف؛ لأن المقصود نفي أن يكون شيء مثل الله

_ 1 ويحتمل أن يكون من قبيل المجاز المرسل من إطلاق اسم السبب على المسبب في الأولى، وإطلاق اسم الحال على المحل في الثانية.

سبحانه، لا نفي أن يكون مثل مثله، إذ لا مثل له، حتى ينفي عن ذلك المثل من يكون مثله, فالحكم الإعرابي "لمثل" حينئذ هو النصب؛ لأنه خبر "ليس" ثم نقل عن هذا الحكم، وجعل مجرورا بسبب زيادة الكاف. من هذا البيان يتضح: أن الموصوف بالمجاز في هذا النوع, هو الكلمة التي تغير إعرابها، كما في الأمثلة المذكورة، خلافا لما ذهب إليه السكاكي. فإن كان الحذف أو الزيادة لا يوجب تغييرا في الإعراب، فلا توصف الكلمة بالمجاز, مثال ذلك في الحذف قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} ، فإن أصله: أو كمثل ذوي صيب، فحذف "ذوي" لدلالة قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} عليه، ضرورة أن هذه الضمائر لا بد لها من مرجع, وحذف "مثل" لما دل عليه عطفه على قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . ومثال الزيادة قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ففي مثل هذين المثالين لا توصف الكلمة، "بالمجاز" لعدم تغيير إعرابها, كما رأيت.

أسئلة وتطبيق على المجاز المركب بقسميه

أسئلة وتطبيق على المجاز المركب بقسميه 1- عرف المجاز المركب، وقسمه، ومثل لكل قسم. 2- عرف الاستعارة التمثيلية، وبين وجه تسميتها بهذا الاسم، ومتى تسمى "مثلا", مثل لما تقول. 3- بين أنواع المجاز فيما يأتي: مع السبط في الإجابة: 1- تصرمت منا أويقات الصبا ... ولم نجد من الشيب مهربا

2- إن الأفاعي وإن لانت ملامسها ... عند التقلب في أنيابها العطب 3- وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب 4- وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قل المساعد 5- من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع 6- وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم 7- وليس يصح في الأدهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل 4- أجر الاستعارة التمثيلية فيما يأتي: 1- أتطلب أثرا بعد عين؟ فيمن ترك الشيء ثم طلبه بعد ذهابه. 2- أسمع جعجعة ولا أرى طحنا, فيمن يعد ولا يفي. 3- أرى خالا1، ولا أرى مطرا, لكثير المال، لا يصاب منه خير. 4- تجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها, لمن يصرف نفسه عن خسيس المكاسب. 5- يقول الشاعر: ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخل؟ يضرب لذي المنظر الحسن، ولا خير فيه. 6- رجع بخفي حنين, لمن يعمل عملا، فيخيب فيه.

_ 1 المراد به السحاب.

7- رمية من غير رام, لمن يصدر منه فعل حسن ليس له أهلا. 8- عند الصباح يحمد القوم السرى, لمن تحمل المشقة رجاء الراحة. 9- بالملح نصلح ما نخشى تغيره ... فكيف بالملح إن حلت به الغير يضرب لمن فسدت حاله، ممن هو قدوة لغيره كرجال العلم والدين. 10- وعند جهينة الخبر اليقين, لمن يعرف الشيء على وجهه, ومثله: على الخبير وقعت. جواب السؤال الثالث: 1- في البيت مجاز مرسل مركب من استعمال الخبر في معنى التحسر، علاقته اللزوم، إذ إن الأخبار بتصرم أوقات الصبا يستلزم التحسر على ذهابها، والقرينة حالية, أو أن معنى التحسر مستفاد من طريق التلويح والإشارة. 2- في البيت استعارة تمثيلية: شبه هيئة من يغر الناس ويخدعهم بلينه الظاهري، ثم يعود، فيؤذيهم, بهيئة الأفاعي اللينة الملمس، الشديدة الأذى بجامع هيئة شيء لين المجس، ناعم الملمس، ينطوي على شيء ضار، شديد الضرر، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه. 3- في البيت استعارة تمثيلية, شبه هيئة من علا قومه: بحيث لا يباريه أحد مهما أجهد نفسه: بهيئة الشمس، لا ضريب لها من الكواكب، وإن أجهدت نفسك في البحث عنه، بجامع هيئة الشيء يعلو فيفوق غيره, بحيث لا يطمع في محاكاته، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه. 4- في البيت مجاز مرسل مركب علاقته اللزوم: من استعمال الخبر في معنى

التحسر على فقدان الخلان, أو أن معنى التحسر مستفاد من طريق التلويح والإشارة على ما يبدو لي. 5- في البيت استعارة تمثيلية: شبهت هيئة من علت منزلته إلى حيث لا يتأثر بشيء بهيئة من سكن فوق الشمس: بجامع هيئة الشيء يسمو حتى لا يؤثر فيه، ولا يصل إليه شيء، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه. 6- في البيت مجاز مرسل مركب علاقته الملزومية، إذ إن الاستفهام عن مضمون مثل هذا الكلام يستلزم إنكاره -والقرينة حالية- ويصح أن يكون استعارة تمثيلية، يقال في إجرائها: شبه هيئة من لا يفرق بين الخير والشر، والضار والنافع، ولم يهتد إلى الصواب بعقله: بهيئة من لا يفرق بين النور والظلمة لخلل في بصره. 7- في البيت استعارة تمثيلية: شبه حال من لا يعترف بالفضل لذويه، رغم وضوحه وشهرته, بحال من يحتاج إلى دليل على وجود النهار، بجامع هيئة من يجهل جهلا مطبقا، ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه والقرينة حالية. اختبار: 5- عرف الاستعارة المكنية على المذهبين، ومثل لها، مع إجرائها فيما تمثل به على الرأيين، ثم بين علة تسميتها مكنية على كلا المذهبين: 6- يقولون إن قرينة المكنية استعارة تخييلية، وأنهما متلازمتان، بين علة هذه التسمية، ووجه هذا التلازم. 7- بين نوع طرفي الاستعارة التخييلية، في مثال من عندك. 8- اذكر بالإجمال الأسباب الموجبة لحسن الاستعارة مع التمثيل. 9- ما السر في قبح التشبيه في نحو: في قلبي علم كالنور، وما السر في حسن الاستعارة فيه، وما علة كون الاستعارة في قول الشاعر: قد زر أزراره على القمر، وفي نحو رأيت أسدا، أي: أبحر، قليلة الحسن, اشرح ذلك شرحا وافيا.

مبحث الكناية

مبحث الكناية مدخل ... مبحث الكناية: تعريفها: هي -في اللغة- أن تتكلم بالشيء، وتريد غيره, وهي مصدر كنيت عن كذا بكذا، إذا تركت التصريح به, وبابه رمى يرمي، وورد كنوت بكذا عن كذا، من باب دعا يدعو، وقد أنشد الجوهري: وإني لأكنو عن قدور1 بغيرها ... وأعرب أحيانا بها وأصارح والأول أفصح، بدليل قولهم في المصدر: "كناية" ولم يسمع كناوة. وهي -في الاصطلاح- لفظ أطلق، وأريد به: لازم معناه الحقيقي, مع جواز إرادة هذا المعنى، مع المعنى المراد. ففي التعريف قيدان: 1- إرادة لازم2 المعنى الحقيقي. 2- جواز إرادة هذا المعنى، مع المعنى الكنائي. وبالقيد الأول: يخرج اللفظ الذي أريد به معناه الحقيقي، وهو الحقيقة الصرفة كالأسد، مرادا به, الحيوان المفترس. وبالقيد الثاني يخرج المجاز، إذ لا يجوز فيه إرادة المعنى الحقيقي، مع المعنى المجازي لاشتراطنا في قرينته: أن تكون مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. كما تقول: "كلمني أسد" فلا يجوز هنا أن يراد: الحيوان المفترس؛ لأن فيه قرينة تمنع من ذلك، هي قوله: "كلمني" إذ إن الكلام من شأن الإنسان، لا من شأن الأسود, وهذا هو مدار الفرق بين الكناية والمجاز. ومن هنا يعلم: أن الكناية واسطة بين الحقيقة والمجاز، فهي ليست حقيقة.

_ 1 بفتح القاف اسم امرأة. 2 المراد باللزوم: مطلق ارتباط ولو بعرف لا الزوم العقلي.

اللفظ لم يرد به معناه الحقيقي، بل أريد به لازمه, وليست مجازا؛ لأن المجاز لا بد له -كما قلنا- من قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي -بخلاف الكناية- مثالها قول الشاعر: طويل نجاد السيف شهم كأنما ... يصول -إذا استخدمته بقبيل1 ففي قوله: "طويل نجاد السيف" كناية عن طول القامة, فالمعنى الحقيقي لهذا اللفظ هو أن نجاده طويلة، وليس هذا مرادا، إنما المراد: لازم هذا المعنى، وهو أنه طويل القامة، إذ يلزم -عادة- من طول النجاد: أن تكون القامة طويلة, ويصح مع هذا إرادة المعنى الحقيقي أيضا: بأن يراد المعنيان جميعا, طول النجاد وطول القمة، وإن كان المقصود بالذات: المعنى الكنائي, ومثله قوله: "فلان نظيف اليد" كناية عن نزاهته فالمعنى الحقيقي للفظ: هو أن يده نقية من الأقذار، ولكنه ليس مردا، بل المقصود لازم هذا المعنى، وهو أنه نزيه، لا يفعل ما يلوث شرفه، وتجوز إرادة المعنيين -كما عرفت- ومثله أيضا قولهم: "فلانة نئوم الضحى" كناية عن أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها، ويقوم بشئونها، فالمعنى الحقيقي للفظ: أن المرأة كثيرة النوم إلى الضحى. وليس هذا مرادا، إنما المقصود: ما يلزم هذا المعنى، وهو أنها من ذوات الترف والنعمة، عندها من يقوم بتدبير أمرها، وإصلاح شأنها, وتجوز إرادة المعنيين معا....وهكذا. تنبيه: ليس بلازم في الكناية: أن يكون المعنى الحقيقي للفظ المكني به متحققا في الواقع، إذ يصح أن تقول: "فلان طويل النجاد" كناية عن طول قامته، وإن لم يكن له نجاد، بل تصح الكناية، حتى مع استحالة المعنى الحقيقي كما في قولهم:

_ 1 "النجاد" ما يقع على العاتق من حمائل السيف، وفيه إشعار بأن الممدوح من أرباب السيف و"القبيل" الجماعة, شبه الممدوح، وهو مفرد بالجمع في القوة والمنعة.

"المجد بين برديه" و"الكرم تحت ردائه" كناية عن إثبات المجد والكرم للممدوح، فإن المعنى الحقيقي لكل من العبارتين، وهو: حلول المجد بين البردين، وحلول الكرم تحت الرداء مستحيل الحصول، إذ إن الحلول الحسي بين الأشياء أو تحتها من شأن الأجسام، لا المعاني, وكما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كناية عن الاستيلاء والسيطرة، فالمعنى الحقيقي للاستواء هو الجلوس. وهذا المعنى مستحيل على الله سبحانه. ومن هذا البيان يتبين: أن الشرط في الكناية جواز إرادة المعنى الحقيقي، لا إرادته، لامتناع إرادته فيما ذكرنا.

أقسام الكناية

أقسام الكناية: تنقسم الكناية باعتبار المعنى المكني عنه إلى ثلاثة أقسام: 1- كناية يطلب بها صفة1. 2- كناية يطلب بها موصوف. 3- كناية يطلب بها نسبة صفة إلى موصوف. فالأولى: وهي المطلوب بها صفة, ضابطها: أن يصرح بالموصوف وبالنسبة إليه، ولا يصرح بالصفة المطلوب نسبتها وإثباتها، ولكن يذكر مكانها صفة تستلزمها كما في المثال السابق: "فلان طويل النجاد" كناية عن طول قامته، فقد صرح فيه بالموصوف، وهو "فلان" وصرح بالنسبة إليه، وهي "إسناد طويل النجاد إليه" ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي طول القامة، ولكن ذكر مكانها صفة أخرى تستلزمها، هي طول النجاد, ومثله قولنا السابق: "فلانة نئوم الضحى" كناية عن أنها مترفة من ذوات اليسار. فقد صرح بالموصوف، وهو "فلانة"، وصرح بالنسبة إليها وهي إسناد نوم الضحى إليها، ولم يصرح بالصفة المطلوب نسبتها، وهي كونها مترفة منعمة, لكن ذكر مكانها صفة تستلزمها، هي النوم إلى الضحى

_ 1 المراد بالصفة: المعنى القائم بالغير كطول القامة، والكرم، لا خصوص النعت النحوي.

إذ يلزم من النوم إلى ضحوة النهار: أن يكون هناك من يتولى شئونها، فهي إذن من ذوات النعمة والترف. وهكذا. وهذه الكناية ضربان: قريبة، وبعيدة. فالقريبة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المعنى المقصود بلا واسطة بين المعنى المنتقل عنه، والمنتقل إليه كما في المثال السابق: "فلان طويل النجاد" فإن المطلوب بهذا القول، صفة هي طول القامة -كما بينا- وليس بين طول النجاد، وطول القامة واسطة- وسميت "قريبة" لقصر زمن إدراك المقصود منها، بسبب انتفاء الواسطة. وهي نوعان: واضحة، وخفية. فالواضحة: ما يفهم منها المقصود لأول وهلة لوضوح اللزوم بين المعنى المكني به والمكني عنه كما تقدم في نحو: "فلان طويل النجاد" فإن طول القامة يفهم من طول النجاد، بلا حاجة إلى تأمل، لوضوح اللزوم بين المعنيين ومثله قول العرب: "فلانة بعيدة مهوى القرط" فمهوى القرط هو المسافة بين شحمة الأذن إلى الكتف، وطول هذه المسافة يفهم منه: أن العنق طويل، بلا حاجة إلى تأمل. لوضوح اللزوم بين طول المسافة المذكورة، وطول العنق يقول الشاعر: أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر1 يريد، طويلة الجيد، وهو من محاسن الصفات في المرأة, يدعو على نفسه بالتقاعس والعجز عن الأخذ بالثأر من المعتدين، وبأخذ الدية بدل الدم, إن لم يتزوج على امرأته بأخرى، موصوفة بهذه الصفات.

_ 1 "راعه" أخافه وأفزعه و"الضرة" بفتح الضاد إحدى الزوجين أو الزوجات و"القرط" بضم القاف- ما يعلق في شحمتي الأذن، وقوله: "بعيدة مهوى القرط" كناية عن طول عنقها، و"النشر" الرائحة.

والخفية: ما لا يفهم منها المقصود إلا بعد شيء من التأمل والتفكير لخفاء اللزوم بين المعنى المكني به والمكني عنه, كما تراه في قولهم: "فلان عريض القفا، أو كبير الرأس" كناية عن أنه بليد أبله، فإن عرض القفا بإفراط، أو كبر الرأس كذلك مما يستدل به -في العادة- على البلادة والبلاهة, كما يقولون، وفي العكس دليل الذكاء والنباهة, ألا ترى إلى قول طرفة بن العبد: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد1 فالخشاش صغير الرأس، وقد جعله دليلا على توقد الذهن، إلا أن فهم ذلك منه، أو من عكسه، يتوقف على إعمال فكر وروية؛ لأن اللزوم بين المعنيين، فيه نوع خفاء لا يدركه كل أحد. والبعيدة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المقصود بواسطة, كما تراه في قولهم: "فلان كثير الرماد" كناية عن أنه سمح جواد: فالمطلوب بهذه الكناية صفة هي "الجود" وبين كثرة الرماد، وصفة الجود وسائط عدة، لا بد من مراعاتها للوصول إلى هذه الصفة، فينتقل الذهن أولا من كثرة الرماد إلى كثرة الإحراق، إلى كثرة الطبخ، ثم إلى كثرة الأكلة، ومنها إلى كثرة الأضياف، ومنها إلى صفة الجود, ومثله قول الشاعر: وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل2 فقد كنى عن جوده، وكثرة قراه للأضياف، بجبن الكلب، وهزال الفصيل, إذ ينتقل للذهن من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يدنو من دار صاحبه إلى استمرار ما يوجب نباحه, وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه، ثم ينتقل من

_ 1 "الرجل الضرب" الخفيف اللحم. 2 "الفصيل" ولد الناقة.

هذا إلى كون صاحبه مقصد الداني والقاصي، ومن هذا إلى أنه يقري الأضياف، ومنه إلى صفة الجود, كذلك ينتقل الذهن من هزال الفصيل إلى فقد أمه بنحرها1 ومنه إلى قوة الداعي إلى نحرها لكمال عناية العرب بالنوق، لا سيما المتليات2 منها، ومنه ينتقل الذهن إلى إعدادها للطبخ، ومنه إلى أنه مضياف كريم, ومن هذا النوع قول نصيب: وكلبك آنس بالزائرين ... من الأم بابنتها الزائرة3 وبيان الكناية فيه: أن استئناس الكلب بالزائرين عنوان معرفته بهم؛ لأن الكلب إنما يأنس بمن يعرف، ومعرفته بهم دليل اتصال مشاهدته إياهم ليل نهار، وهذا دليل على أن دار الممدوح محط الرحال، وملتقى الآمال، وهذا يدل على ما أراده الشاعر، من وفور إحسان الممدوح، وسعة جوده. وقد بعدت المسافة بين أنس الكلب بالزائرين، وكرم الممدوح -على ما رأيت- وكون الكلب آنس من الأم مبالغة في استثنائه بالزوار, وهو يستتبع المبالغة في وصف الممدوح بالكرم, ونظير ذلك مع زيادة لطف قول الآخر: يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من حبه وهو أعجم4 فإن حب الكلب للضيف حتى إنه ليكاد يكلمه دليل شدة معرفته به، وهذا دليل كثرة مشاهداته إياه لكثرة تردده على الدار، وذلك دليل وفرة الجود في المزور, ومثله قوله الشاعر: لا أمتع العوذ بالفصال ... ولا أبتاع إلا قريبة الأجل5

_ 1 أو إلى أخذ اللبن منها، إلى تقديمه للضيفان. 2 "المتليات" هي التي تلاها ولدها أي: تبعها. 3 "آنس" اسم تفضيل سهلت همزته. 4 الضمير في "يكاد" عائد على الكلب. 5 "العوذ" بضم العين جمع عائذة، وهي الناقة الحديثة النتاج و"الفصال" جمع فصيل ولد الناقة.

ذلك: أن حرمان العوذ من أن ترى فصالها، وتمتع بها، دليل على أنه ينحر فصالها، ولا يبقيها، وهذا دليل كثرة القرى الدالة على وفرة الجود ابتياعه لما قرب أجلها، دليل أنها لا تبيت عنده حية، ومعنى هذا: أنه ينحرها, وهذا دليل كثرة القرى الدالة على الجود. فكل هذه الأمثلة من الكنايات البعيدة، لوجود الواسطة بين المعنى المكني به والمكني عنه، المقتضي لبعد زمن إدراك المقصور منها. والثانية: وهي الكناية المطلوب بها موصوف ضابطها: أن يصرح بالصفة وبالنسبة، ولا يصرح بالموصوف المطلوب النسبة إليه، ولكن بذكر مكانه أو صفته أو أوصاف تختص به، وتدل عليه، كما في قولك "فلان صفا لي مجمع لبه" كناية عن قلبه، فقد صرح في هذه الكناية بالصفة وهي "مجمع اللب"، وبالنسبة وهي إسناد الصفاء إليها, ولم يصرح بالموصوف المطلوب نسبة الصفاء إليه، وهو القلب، لكن ذكر مكانه وصف خاص به، وهو كونه "مجمع اللب"، فإن القلب -كم يقولون- موضع العقل والتفكير. وهذه الكناية أيضا نوعان: الأول: ما تكون الكناية فيه معنى واحدا, كما في المثال السابق "صفا لي مجمع ليه"، فإن مجمع اللب المكني به عن القلب معنى واحد -كما ترى- وكما في قول الشاعر: الضاربين بكل أبيض مخذم ... والطاعنين مجامع الأضغان1 يصف الشاعر قومه بالبسالة, وحسن البلاء في الحروب، وأن سيوفهم لا تعرف

_ 1 "الأبيض" السيف، و"المخذم" على زنة منبر القاطع، "والأضغان" جمع ضغن وهو الحقد وكل من الضاربين، والطاعنين منصوب على المدح بقدرتهم على النكاية والفتك بأعدائهم.

غير المقاتل جفا, كنى بمجامع الأضغان عن القلوب، وهي معنى واحد: إذ المراد بوحدة المعنى هنا: ألا يكون من أجناس مختلفة وإن كان مثنى أو جمعا, وكون القلب مجمع الضغن وصف خاص به، فلا يحل الضغن في غيره, وقد صرح في هذه الكناية بالصفة، وهي كون القلوب مجامع الأضغان، وبالنسبة الإيقاعية، وهي إيقاع الطعن على هذه المجامع، ولم يصرح بالموصوف المطلوب نسبة إيقاع الطعن عليه، وهو القلوب، ولكن ذكر مكانها وصف خاص بها هو كونها مجامع الأضغان. ومثله قول البحتري من قصيدة يذكر فيها فتكه بذئب: فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد1 يقول: أتبعت طعنة بطعنة، أخفيت بها شباة السيف في القلب الذي هو موطن لكل من هذه الأمور الثلاثة, وذلك وصف خاص به، فصح أن تكون كناية, وإنما لم يكن هنا مجموع معان مختلفة؛ لأنها ثلاث كنايات، لا كناية واحدة لاستقلال كل واحد منها بإفادة المقصود. والثاني: ما تكون الكناية فيه مجموع معان مختلفة، ضم بعضها إلى بعض، فتكون جملتها مختصة بالموصوف، فيتوصل بذكرها إليه, كما يقال في الكناية عن الأسد: روعنا حي، منتفش اللبدة، رهيب الزئير، وكما يقال في الكناية عن الغراب: راعنا مخلوق حديد البصر، شديد الحذر، خفي السفاد، فالكناية في كل من هذين المثالين مجموع هذه الأوصاف، وهو في الأول وصف خاص بالأسد، لا يوجد في سواه، وفي الثاني وصف خاص بالغراب, ومنه قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر} 2 فهو كناية يراد بها موصوف، هو "السفينة" لأن مجموع الأمرين, الألواح والدسر، مشدودا أحدهما إلى الآخر: وصف خاص بالسفينة.

_ 1 "النصل" حديدة السيف. 2 جمع دسار بكسر الدال وهو خيط من ليف تشد به ألواح السفن.

الثالثة: وهي المطلوب بها نسبة -إثباتا أو نفيا- ضابطها أن يصرح بالموصوف وبالصفة ولا يصرح بالنسبة بينهما، ولكن يذكر مكانها نسبة أخرى تستلزمها- مثالها- في الإثبات- قولهم: "المجد بين ثوبيه، والكرم ملء ردائه" كناية عن إثبات المجد والكرم له، فقد صرح في هاتين الكنايتين بالموصوف وهو مدلول الضمير وصرح بالصفة، وهي المجد أو الكرم، ولكن لم يصرح بنسبة المجد أو الكرم إليه، وإنما ذكر مكانها نسبة أخرى، هي نسبة المجد إلى ثوبيه، أو نسبة الكرم إلى ردائه إثباتا. وهي تستلزم نسبة المجد أو الكرم إلى الممدوح: من حيث وجود المجد بين ثوبيه المحيطين به. أو كون الكرم ملء ردائه الخاص به، مع استحالة قيام المجد أو الكرم بنفسه، ووجوب قيامه بمحل صالح له, ومنه قول زياد الأعجم: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج1 كنى عن إثبات هذه الثلاثة للممدوح، بإثباتها لقبة ضربت عليه، فقد صرح بالموصوف وهو "ابن الحشرج" وصرح بالصفة وهي مجموع هذه الأمور المذكورة: من السماحة والمروءة والندى، ولكن لم يصرح بنسبتها إلى الممدوح، وإنما ذكر مكانها نسبة أخرى تستلزمها، هي نسبتها إلى قبة ضربت عليه؛ لأنه إذا أثبت الشيء في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبت له، لما قلنا من استحالة قيام الوصف بنفسه، ووجوب قيامه بمحل صالح له, ومثال الكناية المذكورة في النفي قول الشنفرى الأزدى، يصف امرأة بالعفة والنزاهة: يبيت بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت كنى بالمصراع الأول عن نفي اللوم عنها, فقد صرح بالموصوف، وهو مدلول

_ 1 ابن الحشرج هو عبد الله بن الحشرج كان أميرا على نيسابور يدل على ذلك قوله: في قبة إذ يفهم منه أن الممدوح ممن تضرب لهم القباب وذلك عنوان السيادة.

الضمير في "بيتها" أي: المرأة، وصرح بالصفة، وهي اللوم المنفي في قوله: بمنجاة من اللوم، ولم يصرح بنسبة نفي اللوم عنها، ولكن ذكر مكانها نسبة أخرى، هي نفي اللوم عن بيت يحتويها. وهذا يستلزم نفي اللوم عنها، وعبر بلفظ "يبيت" دون "يظل" لمزيد اختصاص الليل بأفعال الفحش، وارتكاب المآثم. ومثله قولهم: "مثلك لا يبخل" كناية عن نفي البخل عن المخاطب على أبلغ وجه؛ لأنه إذا نفى البخل عمن هو على أخص صفاته، فقد نفى عنه بالطريق الأولى, وهو أبلغ من قولهم: "أنت لا تبخل" "لأنها دعوى غير مدللة -بخلاف الأول- ونظيره قولهم: "العرب لا تخفر الذمم" فهو أبلغ من قولك" أنت لا تخفر الذمم". خاتمة: أطبق علماء هذا الفن على المجاز أبلغ1 من الحقيقة وأن الكناية أبلغ من التصريح وأن الاستعارة أبلغ من التشبيه، والمجاز المرسل والكناية. أما وجه الأبلغية في المجاز والكناية؛ فلأن الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم2 فهو كدعوى الشيء ببينة3، ذلك أنك حين تقول متجوزا: "رأيت أسدا على المنبر" إنما تريد أن تقول: رأيت رجلا مقداما على المنبر، وهذه دعوى قام عليها دليلها، هو

_ 1 المراد بالأبلغية هنا: الأفضلية في الحسن والقبول. 2 أي: فلا يفهم المعنى المراد منهما من اللفظ نفسه بل بواسطة الانتقال من الملزوم إلى اللازم، فلا يفهم معنى "الشجاع" من ذات قولك: رأيت أسدا على فرس، بل بواسطة الانتقال من معنى الحيوان المفترس إلى لازمه، وهو الجرأة, كذلك لا يفهم معنى "طول القامة" من ذات قولك: فلان طويل النجاد، بل بواسطة الانتقال من طول النجاد إلى لازمة الذي هو طول القامة. 3 وجه كونها كالدعوى المشفوعة ببينة. أن تقرر الملزوم يستلزم تقرر اللازم لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم فصار تقرر الملزوم مشعرا باللازم.

إثبات معنى الأسدية له، إذ يلزم من كونه أسدا: أن يكون مقداما جريئا، للزوم الإقدام والجرأة للأسد, وأنك حين تقول مكنيا: "محمد طويل النجاد" إنما تريد أن تقول: محمد طويل القامة، وهي أيضا دعوى قام عليها دليلها هو اتصافه بطول النجاد، إذ يلزم من كونه طويل النجاد: أن تكون قامته طويلة, وكأنك قلت في الأولى: رأيت مقداما على المنبر لأنه أسد، وقلت في الثاني: محمد طويل القامة؛ لأنه طويل النجاد. أما الحقيقة في نحو: "رأيت رجلا مقداما على المنبر" والتصريح في نحو: "محمد طويل القامة" فدعويان لم يقم عليهما دليل، وما كان مؤيدا بدليل أبلغ وآكد مما لم يدعم بدليل، يثبت أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح. ووجه أبلغية الاستعارة على التشبيه: هو أن الاستعارة نوع من المجاز، مبني على دعوى اتحاد المشبه والمشبه به، والتشبيه نوع من الحقيقة، وقد أثبتنا أن المجاز أبلغ من الحقيقة. ووجه أبلغية الاستعارة على المجاز المرسل: ما فيها من دعوى الاتحاد لفظا ومعنى, أما لفظا فلإطلاق لفظ المشبه به على المشبه, وأما معنى فلإدخال المشبه في جنس المشبه به، واعتباره أحد أفراده, بخلاف المجاز المرسل نحو: "امطرت السماء نباتا" فإن فيه دعوى الاتحاد لفظا فقط: من حيث إطلاق اللفظ على المعنى, وأما الاتحاد في المعنى فغير موجود فيه. إذ ليس بين المعنيين "كالماء والنبات" في المثال المذكور تشابه ما، حتى يدعى اتحادهما. ووجه أبلغية الاستعارة على الكناية من وجهين: الأول: أن في الاستعارة جمعا بين كناية واستعارة: من حيث إن فيها انتقالا من الملزوم "كالأسد" إلى اللازم "كالشجاع", كما ينتقل في الكناية من "طول

النجاد" مثلا إلى "طول القامة"، ومن حيث إن فيها استعمال اللفظ. في غير المعنى الموضوع له لعلاقة المشابهة. الثاني: أن الاستعارة مجاز قطعا, بخلاف الكناية ففي مجازيتها خلاف بين علماء البلاغة مبسوط في محله. تنبيه: ليس معنى الأبلغية في هذه الثلاثة: أنها تفيد زيادة في أصل المعنى، لا يفيدها غيرها, إنما المراد: أنها تفيد تأكيدا لإثبات المعنى، لا يوجد في سواها، فليست فضيلة قولنا: "رأيت قمرا" على قولنا: "رأيت وجها لا يقل عن القمر في إشراقه وبهائه": من حيث إن الأول أفاد زيادة في مساواة الوجه المقمر في إشراقه لم يفدها الثاني، إذ إن التركيبين في إفادة هذا المعنى سواء, إنما ميزة الأول على الثاني: من حيث إن الأول أفاد تأكيدا وتقديرا لإثبات معنى المساواة، دون الثاني, لما في التركيب الأول من دعوى الاتحاد، والتعبير عن المشبه بلفظ المشبه به, ودلالة دعوى الاتحاد على معنى المساواة -كما في التركيب الأول- أبلغ من التنصيص على المساواة, كما في التركيب الثاني. كذلك: ليست فضيلة قولنا: "محمد طويل النجاد" على قولنا: محمد طويل القامة: من حيث إن التركيب الأول أفاد زيادة في معنى الطول لم يفدها الثاني، فإن التركيبين في ذلك سواء, إنما فضل الأول على الثاني من ناحية أن الأول أفاد تأكيدا وتقريرا لإثبات معنى الطول، دون الثاني، لما في التركيب الأول من الدعوى المستندة إلى الدليل كما بينا سابقا, ودلالة دعوى الشيء مؤيدة بدليل, كما في التركيب الأول: أبلغ من التنصيص عليه غفلا عن الدليل كما في التركيب الثاني, يدرك ذلك ذو الذوق السليم. هذا. والاستعارة التمثيلية أبلغ أنواع الاستعارة؛ لأنها إنما تكون في الهيئات

المنتزعة من أمور متعددة، فهي كثيرة الاعتبارات والملاحظات، لا يوفق فيها إلا من أوتي حسن روية، وبعد نظر, ويليها في الأبلغية، الاستعارة المكنية لاشتمالها على المجاز العقلي في قرينتها, أما التصريحية ففي المرتبة الثالثة. اختبار: 1- عرف الكناية لغة واصطلاحا، وبين ما احترز عنه في التعريف وهل هي من قبيل الحقيقة، أو من قبيل المجاز، بين ذلك بوضوح مع التمثيل. 2- بين مناط الفرق بينها وبين المجاز وكيف صحت الكناية في قولهم: المجد بين برديه، والكرم تحت ردائه، مع استحالة حصول المعنى الحقيقي. 3- اذكر أقسام الكناية باعتبار المكني عنه، وضابط كل منها، مع التمثيل لكل ما تذكر، ومع تقسيم الكناية المطلوب بها صفة, وتصريف كل قسم, والتمثيل له. 4- إلام تنوع الكناية المطلوب بها موصوف؟ مثل لكل نوع، ثم بين نوع الكناية في البيت الآتي: ودبت له في موضع الحلم علة ... لها كالصلال الرقش شر دبيب1 تمرينات منوعة: 1- ائت من مأثور الكلام بكنايات ثلاث مختلفة الأغراض، مع بيان المعنى الكنائي في كل منها.

_ 1 "الصلال" جمع صل بكسر الصاد ضرب من الحيات لا نجاة من لدغه، و"الرقش" جمع رقشاء، وهي حية ذات نقط سود في بياض.

2- روي أن امرأة وقفت على قيس بن سعد، فقالت: أشكو إليك قلة الفأر في بيتي، فقال: ما أحسن ما روت عن حاجتها، املئوا بيتها خبزا، وسمنا. ويروى: أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك، فقالت: يا أمير المؤمنين: مشت جرذان بيتي على العصى، فقال لها: ألطفت في السؤال، لا جرم. لأردنها تثب وثب الفهود, وملأ بيتها حبا. بين ما في هذين الخبرين: من المعنى الكنائي، مع بيان نوع الكناية فيهما، وهل هما من نوع واحد أو مختلفان. قال الشاعر: أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر يريد أخذت دية: في هذا البيت مجاز وكناية، وضح كلا منهما وبين نوعه. 4- ضع يدك على موضع الكناية، وبين نوعها، واشرحه شرحا وافيا فيما يأتي: 1- لا يرفع الضيف عينا في منازلنا ... إلا إلى ضاحك منا ومبتسم 2- لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل1 3- وإذا الكريم أضاع مطلب أنفه2 ... أو عرسه لكريهة لم يغضب

_ 1 "المقل" جمع مقلة، وهي حدقة العين. 2 "مطلب أنفه" يريد الفرج, ومعنى البيت أن الرجل الذي لا يغار على عرض أمه أو امرأته ولا يحمي حماه لا يغضب بعد ذلك من شيء؛ لأنهما محك الغيرة ومثارها.

4- ولما شربناها ودب دبيبها ... إلى مواطن الأسرار قلت لها قفي1 5- فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير 6- فلان يفترش الثرى، ويتوسد الجنادل. 7- فلان ملء إهابه الكرم، وحشر ردائه الفضيلة.

_ 1 الضمير في شربناها للخمر.

الفهرس

الفهرس: الموضوع الصفحة مقدمة 3 علم البيان 5 مبحث التشبيه 7 منزلة التشبيه من علم البيان 8 تعريف التشبيه 12 أركان التشبيه 16 مباحث التشبيه 17 اختبار 25 تمرينات منوعة 26 مبحث وجه الشبه 30 اختبار وتمرين 34 التقسيم الثاني 36 التقسيم الثالث 37 اختبار 40 المركب الحسي 41 المتعدد الحسي 43 المتعدد العقلي 45 اختبار 52

الموضوع الصفحة التقسيم الرابع 53 التقسيم الخامس 55 اختبار 59 التقسيم السادس وأسباب وضوح وجه الشبه 60 معنى التفصيل في الوجه 63 أوجه التفصيل 64 التشبيه المشروط 68 اختبار 70 تمرينات منوعة 71 أدوات التشبيه 73 تقسيم التشبيه باعتبار الأداة 76 اختبار 78 تمرينات منوعة 79 تمرينات منوعة 81 مراتب التشبيه 82 اختبار 85 مبحث الحقيقة والمجاز 78 اختبار 92 تقسيم المجاز المفرد 93 المجاز المرسل 93 اختبار 101 الاستعارة 103 اختبار 108

الموضوع الصفحة تقسيم الاستعارة 109 قرينة التبعية 125 اختبار 134 المجاز المركب 137 الاستعارة التمثيلية 137 المثل 139 المجاز المركب 139 الاستعارة المكنية 140 فصل في شرائط حسن الاستعارة 143 فصل في المجاز بالحذف 146 أسئلة وتطبيقات 147 مبحث الكناية 151 أقسام الكناية 153 اختبار 163

§1/1