المنظومة التبريزية في العقيدة الصحيحة السنية

عبد القاهر التبريزي

المنظومة التبريزية في العقيدة الصحيحة السنّية شرح وتوثيق مرزوق بن هيّاس آل مرزوق الزهراني الأستاذ المشارك في قسم علوم الحديث بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالمدينة النبوية طبع على نفقة فاعل خير نسال الله لنا وله القبول وجزيل الثواب الطبعة الأولى 1426 هـ ــــ 2005 م

المنظومة التبريزية في العقيدة الصحيحة السنّية شرح وتوثيق مرزوق بن هيّاس آل مرزوق الزهراني الأستاذ المشارك في قسم علوم الحديث بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالمدينة النبوية طبع على نفقة فاعل خير نسال الله لنا وله القبول وجزيل الثواب الطبعة الأولى 1426 هـ - 2005 م

بسم الله الرحمن الرحيم

ح: مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني، 1425 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر. الزهراني، مرزوق بن هياس آل مرزوق. المنظومة التبريزية في العقيدة الصحيحة السنية / مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني، المدينة المنورة، 1425 هـ ردمك × 895 - 46 - 9960 1 - العقيدة الإسلامية أ. ديوي 240 6558/ 1425 رقم الإيداع: 6558/ 1425 ردمك × - 895 - 46 - 9960 الطبعة الأولى: ص: 95 21×14، 1426 هـ 2005 م الناشر: المؤلف.

المقدمة

المقدمة الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، حمدا يدوم ولا ينقطع، يكافئ فضل ربنا ومزيد نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد: فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة هو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، والْبعث بعد الْموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمانِ بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه الْعزيز، وبما وصفه به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، فهم المؤمنون بِأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) فَلا ينفون عنه ما وصف بِه نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون فِي أسماء الله وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفات الله - عز وجل - بصفات خلقه، لأنه سبحانه: لا سمي لَه، ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقَاس بِخلقه سبحانه وتعالى، فهو أعلم ¬

(1) من الآية (11) من سورة الشورى.

بنفسه وبِما خلق، وهو خالق كل شيء، وبيّن سبحانه أنه ليس كمثله شيء، ومن أصدق قيلا، وأحسن حديثا، وهم يؤمنون بأن رسله صادقون مصدقون، فيما أخبروا به عن الله - عز وجل -، لم يختلفوا في ذلك، ولم يقولوا على الله ما لا يعلمون، ومن وصف الله - عز وجل - بغير ذلك فقد ضل عن الحق، فالله يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) فَسبّح نفسه عما وصفه بِه المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين، لسلامة ما قَالوه من النقصِ والعيب، وهو سبحانه قَد جمع فيما وصف وسمّى بِه نفسه بين النفيِ والإثبات، فَلا عدول لأَهل السنة والجماعة عما جاء بِه الْمرسلون، فَإِنه الصراط المستقيم، صراط الذين أَنعم الله عليهِم من النبِيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، المنهل العذب، الصافي النقي، لا يشوبه كدر، ولا يعلوه قتر، وما من غلو وقع في الدين إلا كان سببه بدعة، نشأت من فكر أو خيال، أو هوى ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ) أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور ¬

(¬1) الآيات (180 - 182) من سورة الصافّات ..

محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (¬1) فعلى كل مسلم أن يجرد الإتباع لله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، {قُلْ إِنْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2) وأن يتجرد من أي متبوع سوى الله ورسوله، هذا ما كان عليه أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم - طيلة حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى سار أصحابه على المنهج النبوي، حذو القذة بالقذة، حتى ظهرت الفتنة، وما نتج عنها من ظهور بعض الفرق التي شقت وحدة المسلمين في المعبود والمتبوع والمنهج، لكن أهل السنة والجماعة ثبتوا على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - من التمسك بالكتاب والسنة، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬3). ¬

(¬1) انظر (المستدرك على الصحيحين 1/ 174). (¬2) الآية (31) من سورة آل عمران. (¬3) من الآية (21) من سورة الحديد.

ترجمة الناظم

ترجمة الناظم نسبه: عبد القاهر بن محمد (¬1) بن عبد الواحد بن محمد بن إبراهيم بن موسى، جمال الدين، أبو محمد وأبو بكر، التبريزي، ثم الحراني، الخطيب، القاضي، الشافعي (¬2). نسبته: التبريزي: نسبة إلى تبريز، أشهر مدن أذربيجان، كانت مدينة عامرة حسناء، ذات أسوار محكمة بالآجر والجص، وفي وسطها عدة أنهار جارية، والبساتين محيطة بها، وعمارتها بالآجر الأحمر المنقوش والجص، على غاية الإحكام، وكانت تبريز قرية حتى نزلها الرواد الأزدي، المتغلب على أذربيجان في أيام المتوكل، ثم إن الوجناء ابن الرواد بنى بها هو وإخوته قصورا، وحصنها بسور فنزلها الناس معه، عصمها الله من التتار سنة (618) ثمان عشرة وستمائة من الهجرة، بسبب ما بذل أهلها للصلح، وقد خرج منها جماعة وافرة من أهل ¬

(¬1) عند الذهبي: ابن عبد الواحد، ولعله نسبه لجده. (¬2) الدرر 3/ 7، ومعجم الشيوخ 2/ 408، والدليل الشافي 1/ 423، فوات الوفيات 2/ 367.

ولادته

العلم (¬1) الحراني: نسبة إلى حران، بلدة من الجزيرة، وحران بطن من همدان، كان بها جماعة من الفضلاء والعلماء، وهي من ديار ربيعة أو مضر، ظهر بها الصابئة وهم الحرانيون المذكورون في كتب الملل والنحل (¬2). الشافعي: نسبة إلى إمام المذهب محمد بن إدريس بن شافع القرشي (¬3). القاضي: نسبة إلى القضاء بين الناس والحكومة، وأول من عرف بهذه النسبة سلمان بن ربيعة الباهلي، وهو أول قاض استقضي بالكوفة، فمكث بها أربعين يوما لا يأتيه خصم (¬4). ولادته: ولد بحران (15/ 8/648) نصف شعبان سنة ثمان وأربعين وستمائة من الهجرة. سعيه في طلب العلم: أصله من بخارى، ومولده بحران، ومنشؤه واشتغاله بد مشق (¬5). ¬

(¬1) معجم البلدان 2/ 13. (¬2) الأنساب 2/ 240، بتصرف و 4/ 96. (¬3) الأنساب 9/ 297، 2/ 105، 8/ 67، وانظر: ترجمة 1. (¬4) الأنساب 10/ 487، 25، 6/ 89. (¬5) معجم الشيوخ 2/ 409، والدرر 3/ 8.

من أشهر شيوخه

من أشهر شيوخه: تاج الدين الفزاري: عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع بن ضياء، أبو إسحاق (¬1) والنجم الموغاني: نسبة إلى موغان، هكذا يقول أهلها بالغين المعجمة، وهي موقان: ولاية بأذر بيجان، فيها قرى ومروج كثيرة، أكثر أهلها من التركمان، وهي بين إربيل وتبريز في الجبال (¬2) وقد تفقه على هذين الشيخين، وقرأ القرآن على الزواوي (¬3): محمد بن سليمان بن سومر، أبو عبد الله، البربري، قاضي القضاة، جمال الدين، المالكي (¬4) ومجد الدين الظهير، سمع منه القصيدة البائية، التي أولها: كل حي إلى الممات ذهابه. حالته الاجتماعية: حكى عنه الذهبي وغيره: أن أمه ماتت وهي ابنة عشرين سنة، وأن أباه قدم به دمشق وهو ابن ست، وكان تاجرا ذا مال، فمات فكفله عمه عبد الخالق، ¬

(¬1) ذيل التقييد 2/ 79. (¬2) معجم البلدان 5/ 225. (¬3) الدرر 2/ 8. (¬4) معجم الشيوخ 2/ 194، وذيل التقييد 1/ 128، والدرر 4/ 68، وانظر (برنامج الوادي آشي: 142، والوافي بالوفيات 3/ 137 - 137، والبداية والنهاية 14/ 87، والنجوم الزاهرة 9/ 239، والشذرات 6/ 44).

من تلاميذه

ورجع به إلى حران، وباع أملاكه بثمانين ألفا، وردَ به عمه إلى دمشق، فقال له يوما: امض بنا نتفرج، فخلا به عمه وخنقه حتى غشي عليه، فرماه في حفرة وطمّ عليه التراب، ظنا منه أنه قد مات، فعل هذا طمعا في ما ورث من أبيه من مال، فمر بعد ذلك شخص جلس يبول فرأى المدر يتحرك بتحرك رجليه، فاستخرجه، فقام يعدو إلى الماء من شدة العطش فشرب، وتوجه إلى بعض أقاربه من النساء، فأقام عندها مختفيا، حتى بلغ وحفظ القرآن، فمرّ يوما فإذا بعمه، فقال: هاه جمال الدين امش بنا؟ ! ! ، فلم يكلمه، ثم رآه مرة أخرى بالجامع، فغاب منه، وتوجه عمه إلى اليمن، فأقام بها، بعد أن أخذ مال ابن أخيه، والعجب أن التبريزي لم يطالب عمه بشيء، ولم يعاتبه على فعلته الشنعاء عندما رآه، وهذا ينبئ عن أدب وخير وبركة فيه، وهو ما ظهر عليه، فقد تفقه على الشيخ تاج الدين الفزاري، والنجم الموغاني، وكان قاضيا مشهورا، وخطيبا بليغا (¬1). من تلاميذه: الذهبي: قال: أنشدنا القاضي عبد القاهر لنفسه، سنة (704) أربع وسبعمائة من الهجرة: ¬

(¬1) الدرر 2/ 8، وفي فوات الوفيات 2/ 367 - 368، أتم مما في الدرر.

مكانته العلمية

كم بين بان الأجرع ورامية ولعلع ... من قلب صب موجع سكران وجد لا يعي (¬1). إلى تمام المنظومة التي نحن بصدد شرحها. مكانته العلمية: كان عارفا باللغة، خبيرا بالأحكام، قوي المشاركة، له نظم رائق ومحاسن كثيرة. عقيدته: قال الحافظ ابن حجر: قرأت بخط البدر النابلسي، كان عالما فاضلا، على معتقد السلف، وقال الذهبي: عزله القزويني لكونه أثبت ولم يتأول (¬2)، فسار التبريزي إلى مصر فولاه ابن جماعة نيابة دمياط. وهذا مؤيد بقصيدته هذه، وأنه على منهج السلف في الاعتقاد، ولذلك عزله القزويني الأشعري؛ لأنه لم يتأول الاستواء. ذِكر بعض صفاته: كان مليح الصورة، أبيض مستدير اللحية، فصيح العبارة، فاخر البزة (¬3). ¬

(¬1) معجم الشيوخ 2/ 409. (¬2) الاستواء. (¬3) الدرر 2/ 8.

مناصبه

مناصبه: ناب في القضاء عن الزرعي في صفد: مدينة في جبال عاملة من جبال لبنان المطلة على حمص (¬1)، وكان قد ناب في عجلون: من مدن الشام اليوم - ولم أقف على من وصفها - وسلمية: بليدة في ناحية البرية، من أعمال حماة، بينهما مسيرة يومين في ذلك الوقت، وفي تسميتها قصة: أنه لما نزل العذاب بالمؤتفكة، وهي قريبة منها، رحم الله منهم مائة نفس فنجوا، فانتزحوا إلى موقعها، فعمروا وسكنوا، فسمي الموقع "سلم مائة" ثم حرف الناس بعد ذلك اسمها فقالوا: "سلمية" بالتخفيف، ثم إن صالح بن علي بن عباس اتخذها منزلا، وبنى هو وولده الأبنية فيها ونزلوها، وبها محاريب سبعة، يقال: تحتها قبور التابعين، وفي طريقها إلى حمص قبر النعمان بن بشير، نسب إليها جماعة من العلماء (¬2) ثم ولي في الآخر قضاء دمياط: مدينة بين تنيس ومصر، بينها وبين تنيس نصف نهار ذلك الوقت، تقع على زاوية بين البحر الأبيض المتوسط ونهر النيل، ومن شمالها يصب النيل في البحر، لها سور عليه محارس ورباطات، طيبة الهواء، ثغر من ثغور الإسلام، ذكر فيها رواية تتعلق بفتحها على يد عمر بن الخطاب، بها حرف وصناعات ¬

(¬1) معجم البلدان 3/ 412. (¬2) معجم البلدان 3/ 240 ..

مؤلفاته

عالية الجودة، ومن أجودها عمل ثياب الشَّرَب الفائق، وهي ثياب رفيعة ذات قيمة عالية، تقدر بثلاثمائة دينار للثوب الواحد، ولم يكن مشغولا بالذهب، وقيل: إنه في سنة (398) ثلاثمائة وثمانية وتسعين من الهجرة، بيع حلتان دمياطيتان بثلاثة آلاف دينار، وهذا مما لم يسمع بمثله ببلد، في ذلك الزمان، وكان الوالي عليها عنبسة بن إسحاق الضبي أيام المتوكل، سنة (238) ثمان وثلاثين ومائتين من الهجرة، وفي يوم عرفة من هذه السنة هاجمها الروم فملكوها وما فيها، وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال وأهل الذمة، وعلى أثر ذلك أمر المتوكل ببناء حصن دمياط، فبقيت في أيدي المسلمين إلى أن كان شهر ذي القعدة سنة (614) أربع عشرة وستمائة من الهجرة، عهد الملك العادل أبي بكر بن أيوب هاجمها الإفرنج، فهذا شيء من قديم تاريخ هذه المدينة العريقة، في جمهورية مصر العربية اليوم (¬1). مؤلفاته: أنشأ خطبا سماها تحفة الألباء، وهي على حروف المعجم، في مجلد، ونظم في وقعة التتار بشقحب (¬2): كانت بقيادة ابن تيمية في أول رمضان سنة (702) ثنتين وسبعمائة من الهجرة، وحصل للناس شدة عظيمة وظهر فيها من كرامات الشيخ وإجابة دعائه وعظيم جهاده وفرط شجاعته ونهاية كرمه ونصحه للإسلام وغير ذلك ما يتجاوز الوصف (¬3)، - قصيدة أولها: الله أكبر جاء ¬

(¬1) معجم الشيوخ 2/ 409، والدر 3/ 8، ومعجم البدان 2/ 472 - 475. (¬2) موضع قرب دمشق، وهي قرية صغرة قبلي دمشق على تخوم أرض حوران تبعد عن دمشق 37 كيلو مترا. وشقحب تقع تحت جبل غباغب وهي قرية في أول عمل حوران، انظر: تاج العروس (1/ 324) ومعجم البلدان (4/ 184) والسلوك (1/ 932). (¬3) توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية نونية ابن القيم (2/ 8).

وفاته

النصر والظفر، ومن شعره في قلعة صفد لما حاصرها الظاهر بيبرس: ترى منجنيقا يذهب العقل حسه ... إذا بات في أقطارها الناس رصدا إذا ما أراها السهم منه ركوعه ... يخر له أعلى الشراريف سجدا (¬1). وفاته: مات بدمياط في جمادى الآخرة سنة (740) أربعين وسبعمائة من الهجرة، وله (92) ثنتين وتسعين سنة (¬2). ¬

(¬1) الدرر 2/ 8 - 9. (¬2) الدرر 2/ 9.

[المنظومة]

قال الناظم عبد القاهر بن عبد الواحد التبريزي رحمه الله، مجزوء الرجز: 1 - كم بين بان الأجرع ورامية ولعلع ... من قلب صب موجع سكران وجد لا يعي 2 - تراه ما بين الحلل جريح أسياف المقل ... فارفق به ولا تسل عن قلبه المضيع 3 - ود الحمى فأخلصا إذ حقه قد حصحصا ... فوده أن يخلصا من الحضيض الأوضع 4 - إلى المقام الأول ومعهد الأنس الحلي ... والمربع السامي العلي سقيا له من مربع 5 - رحلت عن ذاك الفضا لا باختياري والرضا ... فيا زمانا قد مضى إن عاد ماض فارجع 6 - واركع إذا الليل دجى ركوع خوف ورجا ... وعدّ في سفن النجا إلى الفضاء الأوسع

7 - عليك بالتهجد وقم طويلا واسجد ... وبت نديم الفرقد واشرب كؤوس الأدمع 8 - قف عند حكم المصحف من غير ما تحرف ... ولا تخض وقعت في أقوال أهل البدع 9 - فإنه كلامه أعيى الورى نظامه ... وبهرت أحكامه الغر جميع الشيع 10 - منه كما جاء بدا وكن به معتضدا ... ولا تجادل أحدا في آية وارتدع 11 - ولا تؤل ما ورد لله من سمع ويد ... وقل هو الله أحد قول امرئ متبع 12 - وأنه عز وجل كلم موسى ذا الوجل ... لما تجلى للجبل جهرا كلاما مسمع 13 - أصغى إليه فوعى بأذنه ما سمعا ... ثم أجاب مسرعا جواب ثبت أروع (¬1) ¬

(¬1) أي ملهم (النهاية 2/ 277).

14 - ولا توافق من غوى وقل بأن ذا القوى ... حقا على العرش استوى كما أراد فاسمع 15 - وهو تعالى في السما عال ومعنا أينما ... بغير كيف لا كما يخطر للمبتدع 16 - من قاسه من البشر بخلقه فقد كفر ... وقد أطاع ونصر أمر الهوى المتبع 17 - ويلاه من وزن العمل وبحره عندي وشل (¬1) ... قد غاض (¬2) طاميه وقل فما ترى من منبع 18 - واعترضت جهنم ونارها تضطرم ... وكب فيها المجرم وقيل يا نار ابلعي 19 - وجنة الفردوس قد تزخرفت لمن عبد ... وقام ليلا وسجد في طمره المرقع ¬

(¬1) أي قليل (النهاية 5/ 189). (¬2) أي غار ونقص (النهاية 3/ 401).

20 - ونهدت أبكارها واطردت أنهارها ... وغردت أطيارها في كل غصن مونع (¬1) 21 - يا من له تبتلي في كل ليل أليل ... ومن إليه موئلي دون الورى ومفزع 22 - صل على خير البشر من كل أنثى وذكر ... محمد وجه القمر ذي الجانب الممنع ¬

(¬1) مصدر ينع ينيع، أي أدرك النضج (النهاية 5/ 303).

شرح المنظومة

شرح المنظومة 1 - كم بين بان الأجرع ورامية ولعلع ... من قلب صب موجع سكران وجد لا يعي بدأ الناظم رحمه الله هذه المنظومة بما درج عليه الكثيرون من الشعراء قبل الإسلام وبعده من طرق باب الغزل، وأرى أن فيه براعة استهلال، واستجلاب لنظر الحاضر وسمعه في آن واحد، فإن الناظر إلى غيرك قد لا يكون سامعا لك، فالنظر يصرف السمع في الغالب إلى المنظور، وإن سمع شيئا آخر، فضبطه لما سمع، قد يكون خفيفا، ويضاف إلى هذا زيادة استشراف السماع لما يتلو من القول، وهو أقوى في الضبط، وأوعى للسمع، وقد سلك هذا الصحابي كعب بن زهير في قصيدته والتي استهلها بقوله: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البيت إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول والتي يقال إنه أنشدها في المسجد النبوي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كساه بردته، وقيل إن معاوية طلبها منه بعشرة آلاف

درهم، فأبى وقال: ما كنت لأوثر بها أحدا، فلما مات باعها الورثة على معاوية بعشرين ألف درهم. كم بين بان الأجرع، ورامية، ولعلع: ليس المراد الاستفهام، بل المراد الإخبار بكثرة هذا النوع من القلوب، والبان شجر مستقيم الأغصان طويلها كثيرا ما تغنى به الشعراء، والأجرع: هو علم على موضع باليمامة (¬1) ورامية: إما أن تكون رامن: بليدة بينها وبين همذان سبعة فراسخ، وهي من بلاد إيران اليوم، أو أنها رامة: منزل في طريق البصرة إلى مكة، وهي آخر بلاد بني تميم، وبين رامة وبين البصرة اثنتا عشرة مرحلة، أو رامة: من قرى بيت المقدس بها مقام إبراهيم - عليه السلام -، وهو الأقرب في نظري (¬2) ولعلع: موضع على طريق الحاج من البصرة، بينه وبين أقر ثلاثون ميلا (¬3). من قلب صب موجع سكران وجد لا يعي: أي من قلوب كثيرة أصابها العشق الشديد، فالصب: هو العاشق، والصبابة غاية العشق، ولذلك قال: موجع، أي أصابه ¬

(¬1) معجم البلدان 1/ 102. (¬2) معجم البلدان 3/ 17، 18. (¬3) معجم البلدان 3/ 18.

الألم من شدة الوله، وأرّقه ما نزل به من ذلك (¬1) حتى أصبح شبيها بمن ولغ المسكر المحرم فأفقده صوابه، وإن كان ذلك من حرام، لكن سكر المشبه هنا من نوع آخر، وهو فقدان الوعي من ولع شديد بشيء مباح، كما هو معلوم من غاية هذه المنظومة، والوجد: الحب الشديد، ومنه ما ورد في حديث ابن عمر، وعيينة بن حصن: "والله ما بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد" (¬2). 2 - تراه ما بين الحلل جريح أسياف المقل ... فارفق به ولا تسل عن قلبه المضيّع تراه ما بين الحلل جريح أسياف المقل: أي: تنظر إليه في حلل بهيجة، تدل على مكانة كريمة، وملك وغنى، والحلل مفردها حلة: وهي الفاخر من الثياب، وكانوا لا يسمون اللباس حلة إلا إذا اشتمل على إزار ورداء من نوع واحد، وهي أنواع بحسب العادات والأعراف، مما هو لباس العظماء، من الأغنياء وغيرهم (¬3)، فإذا كان هذا حاله، وهو مع ذلك مضرّج جريح، صرعه ما حل به من طعن المقل، جمع مقلة: وهي الحدقة: الناظر من العين، لكنه هنا أراد العين (¬4)، ¬

(¬1) لسان العرب 1/ 518. (¬2) النهاية 5/ 156. (¬3) النهاية 1/ 432. (¬4) النهاية 4/ 348، ولسان العرب 11، 627.

بلحظها وجمالها، ولم يرد جزءا منها، وقد شبه اللحظ منها بالأسياف الشديدة المضاء والفتك. فارفق به ولا تسل عن قلبه المضيّع: لأن من كان هذا حاله يرفل في حلل، وهو في الوقت ذاته صريع مضرّج، فالأدعى لحاله أن تزيد الشفقة به، فما أوصله إلى هذه الحال إلا أمر جلل، شبه بمن يفقد قلبه، وما حال من فقد قلبه يا ترى؟ ! ! . 3 - ود الحمى فأخلصا إذ حقه قد حصحصا ... فوده أن يخلصا من الحضيض الأوضع ودّ الحمى فأخلصا إذ حقه قد حصحصا: أي أخلص الود لأهل الحي، والود: المحبة الخالصة (¬1)، ولا يكون الود إلا في مداخل الخير، ولذلك أكد، خلوص الود للحمى قدرا لمن حل به ممن عشق، وقد كان حق هذا الحي قد وجب، ولا مفر من إخلاص الود له فقد نزل به محبوبه، وقد سمى الحي حمى تشبيها بالحمى المصان الممنوع، سواء كان ماديا كأحمية الديار، أو معنويا كما ورد في حديث الإفك من قوله: "أحمي سمعي وبصري" ¬

(¬1) النهاية 5/ 164، ولسان العرب 3/ 453.

أي أمنعهما من أن أنسب إليهما ما لم يدركاه، وبه أصونهما من العذاب (¬1). فوده أن يخلصا من الحضيض الأوضع: أي مرغوبه ومقصوده من هذا الحب أن يكون نظيفا نقيا من الأدران التي تنزل بصاحبها إلى الحضيض: وهو قرار الشيء وأسفله، وأراد الصفات الموغلة المهانة والضعة (¬2) وهنا يبرز مراد الناظم من هذه المقدمة الغزلية، وهو غزل في المكارم والعلا، وليس طلبا للشهوة والهوى. 4 - إلى المقام الأول ومعهد الأنس الحلي ... والمربع السامي العلي سقيا له من مربع إلى المقام الأول ومعهد الأنس الحلي: لعل الناظم حنّ إلى مرابع الآباء والأجداد من بلاد الإسلام، بخارى من أعظم مدن ما وراء النهر، وقد خرج منها علماء في كل فن يجاوزون الحد، من أبرزهم أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح، وقد فتحت بخارى مرتين: الأولى في عهد معاوية - رضي الله عنه -، سنة (55) خمس وخمسين من الهجرة، بقيادة سعيد بن عثمان بن عفان، والثانية سنة (87) سبع وثمانين من الهجرة، ¬

(¬1) لسان العرب 14/ 199. (¬2) النهاية 1/ 400، ولسان العرب 7/ 136.

بقيادة قتيبة بن مسلم (¬1) أو إلى حران مسقط رأسه، ومقر نشأته ولذلك وقع في النفس كبير، وحران بلدة من الجزيرة، نسبت إلى حران بطن من همدان، كان بها جماعة من الفضلاء والعلماء، وهي من ديار ربيعة أو مضر، ظهر بها الصابئة وهم الحرانيون المذكورون في كتب الملل والنحل (¬2) ولا أظنه أراد سوى الأولى، ولا يبعد حنينه لمسقط رأسه، وما في البيت من كلمات توحي بجواز الأمرين. والمربع السامي العلي سقيا له من مربع: المربع مكان الإقامة، والربع هو المنزل، والدار بعينها، والوطن متى كان، وبأي مكان كان، ومنه قول رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: (وهل ترك لنا عقيل من ربع؟ وفي رواية: من رباع) وهي المنزل ودار الإقامة (¬3) وقد وصفه بالسمو والعلو في المكارم، والصفات الحسنة، لأنه لا يوصف بذلك سواها، وطلب السقيا والغيث للمرابع، من أحسن الدعاء لما يتبع ذلك من خير وحسن وجمال تكتسي به المرابع من الديار. ¬

(¬1) الأنساب 2/ 100، ومعجم البلدان 1/ 353 - 255. (¬2) الأنساب 2/ 240، 4/ 96، ومعجم البلدان 2/ 235. (¬3) لسان العرب 8/ 102

5 - رحلت عن ذاك الفضا لا باختياري والرضا ... فيا زمانا قد مضى إن عاد ماض فارجع رحلت عن ذاك الفضا لا باختياري والرضا: أي: انتقل عن مرابعه وديار نشأته، بسبب ما قضى الله من صروف الحياة، فالقدر نافذ بغير اختيار من العبد، لكنه قد يؤول به إلى الخير إما في دنياه أو في آخرته. فيا زمانا قد مضى إن عاد ماض فارجع: فيه إشارة إلى أن ما مضى لا يعود، وإن تمنى المتمني، فكأن الناظم يقول: أتمنى عودة الأيام التي عشتها في تلك المرابع، ولما لم يكن ذلك حاصلا، عدل عنه إلى ما هو واقع من عدم الرجوع، للرد على ما تتمناه نفسه بأن الماضي لا يعود، وذلك آكد في يأسها، وأقوى في إقناعها. 6 - واركع إذا الليل دجى ركوع خوف ورجا ... وعدّ في سفن النجا إلى الفضاء الأوسع هنا يكشف الناظم رحمه الله عن مراده من تلك الأمنية العديمة التحقق، فالزمان الماضي لا يعود، لا كلا ولا جزءا، وهذا يستدعي الحرص الشديد على استثمار الوقت فيما ينفع، وإلى ما تجب العناية به في استثمار

المبحث الأول المحافظة على النوافل

الوقت، ما فيه طاعة لله ورسوله، فإنه غراس الآخرة، وهو غراس لا تجنى ثماره إلا في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ومن أسباب السلامة حمل النفس على الطاعات وأعمال الخير، وتزكيتها من الشرور والآثام، فقد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها. وقد تضمنت هذه المنظومة مباحث مهمة في عبادة واعتقاد المسلم، يجب أن يجعلها ركائز في أعماله وتصرفاته، وكل شؤون حياته: المبحث الأول المحافظة على النوافل يقول الناظم رحمه الله: واركع إذا الليل دجى ركوع خوف ورجا: تجاوز الناظم رحمه الله التوجيه والإرشاد إلى المحافظة على الفرائض إيماء منه إلى أن الفرائض أمر مفروغ من وجوب المحافظة عليها، وذلك أدنى الكمال من فرّط في شيء منه هلك والعياذ بالله، أخرج البخاري من حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - يقول: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن

الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خمس صلوات في اليوم والليلة) فقال: هل علي غيرها؟ قال: (لا إلا أن تطوع) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وصيام رمضان) قال هل علي غيره؟ قال: (لا إلا أن تطوع) قال: وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: (لا إلا أن تطوع). قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفلح إن صدق) (¬1) هذا الرجل أقسم أنه لا يزيد على ذلك ولا ينقص، فلم يعنفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل ألزم - صلى الله عليه وسلم - فلاحه بصدقه في عدم النقصان، لأنه أدنى الكمال، ولم يلزمه بالتطوع لأنه زيادة طاعة على الفرض، ولذلك سمي نفلا، فكأن الناظم يقول نحن متفقون على وجوب المحافظة على أدنى الكمال، ولكني أدعو إلى الكمال نفسه، وهو الزيادة على الفرض، ثم بدأ مرة أخرى بالتوجيه إلى الكمال في أعمال النوافل، إيماء منه إلى أن أدنى الكمال في النوافل هو المحافظة على السنن الراتبة، وهي ركعتين قبل صلاة الفجر، لقول عائشة رضي الله عنها: (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم -، على شيء من النوافل، أشد منه تعاهدا على ركعتي الفجر) (¬2) وقولها: "كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ¬

(¬1) البخاري حديث (46). (¬2) أخرجه البخاري حديث (1116) ..

ركعتين، ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين" (¬1) وما ورد في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الظهر سجدتين، وبعدها سجدتين، وبعد المغرب سجدتين، وبعد العشاء سجدتين، وبعد الجمعة سجدتين، فأما المغرب والعشاء والجمعة، فصليت مع النبي في بيته" (¬2) وقد عبر بالسجدتين وهو يعني ركعتين، فيكون المجموع (12) ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة، وهو ما ورد في حديث أم حبيبة أنها تقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بني له بهن بيت في الجنة) قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة. وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة. وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس (¬3). وهذا هو الكمال في الرواتب، وأدنى الكمال في النوافل، أما الكمال في النوافل فهو الإتيان بمزيد على هذا، وهو كمال نسبي يتفاوت من شخص لآخر، على قدر ما ينال ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (730). (¬2) أخرجه مسلم حديث (729). (¬3) أخرجه مسلم حديث (728).

من جهد وحرص على ما وجه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، ومن ذلك الحرص على صلاة الضحى، والتي تسمى صلاة الأوابين، وأقلها ركعتان، وأكملها ثمان، وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلاها أربعا ويزيد ما شاء، وفي حديث أم هاني: أنه صلى ثمان ركعات (¬1) فكأن الناظم رحمه الله يقول: أنا وأنتم متفقون على المحافظة على السنن الراتبة، ولكن هلموا إلى المزيد مما هو أكمل، وذلك ما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورد في حديث عائشة رضي الله عنها، عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تطوعه فقالت: "كان يصلي من الليل تسع ركعات. فيهن الوتر، وكان يصلي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ وهو قائم، ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعدا، ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر، صلى ركعتين" (¬2) وهذا ما عناه الناظم رحمه الله بقوله: واركع إذا الليل دجى ركوع خوف ورجا: فإنه إرشاد منه إلى هذا العمل الجليل الذي حرّص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، لما فيه من الخير والصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، ومن فضل الله على هذه الأمة أنه تعالى يقبل منهم العمل الصالح القليل، ويعطي عليه ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (336). (¬2) أخرجه مسلم حديث (730).

المبحث الثاني الخوف والرجاء

الأجر الكثير، ولم يوجب عليهم كثير من الطاعات سواء كانت بدنية أو مالية، وإنما ندب إلى ذلك على لسان عبده ورسوله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وسواء التزم ما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو زاد في قيامه فذلك خير لا ينكر استنادا إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل؟ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى) (¬1). المبحث الثاني الخوف والرجاء واركع إذا الليل دجى ركوع خوف ورجا: هذا من مباحث العقيدة لبيان أن المسلم يدور أمره في الحياة بين الخوف والرجاء، وهو في كل شؤون الحياة الدينية والدنيوية يعمل بناء على هذه القاعدة العقدية العظيمة، فإن وقع منه عمل صالح استبشر ورجا الثواب من الله - عز وجل -، وإن وقع في معصية اشتد ندمه على ما فعل خوفا من عقاب الله - عز وجل -، فالجمع بين الخوف والرجاء من ¬

(¬1) أخرجه البخاري، حديث (472).

الخوف

الواجبات الشرعية، لتلازمهما في كمال التوحيد، كتلازم الشهادتين في الإيمان بالله ورسوله، وهذا منهج أهل السنة والجماعة، داعين إليه متمسكين به إلى قيام الساعة. الخوف: هو من العبادات القلبية التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فهو القائل سبحانه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1) وهو ينقسم إلى قسمين: 1 - الخوف الطبعي، أو الجبلّي: وهو الخوف الذي أوجده الله في نفس الإنسان بحكم الطبع البشري، فهذا لا حرج على المسلم من أن يخاف من عدوه، أومن مؤذيات كالحيات والعقارب ونحوها، أو من السباع، أومن نار، أو أي شيء فيه أذى وهلاك، فإن ذلك أمر جبلّي، لا عيب في وجوده، ولا مانع من الأخذ بالأسباب المنجية منه بإذن الله تعالى، ومن هذا القبيل خوف نبي الله موسى - عليه السلام -، قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً ¬

(¬1) الآية (175) من سورة آل عمران.

مُوسَى} طه: 67 (¬1) لم يعنفه الرب سبحانه، بل قال: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (¬2) وقد ذكر الله - عز وجل - هذا النوع من الخوف وأنه يحدث للمؤمنين ابتلاء وتمحيصا قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (¬3) وقال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬4) وذكره تعالى في وصف المنافقين فقال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ¬

(¬1) الآية (67) من سورة طه. (¬2) الآية (68) من سورة طه. (¬3) الآية (155) من سورة البقرة. (¬4) الآية (23) من سورة المائدة.

2 - الخوف الشرعي: ينقسم إلى قسمين

الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (¬1) وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬2) إذن هذا النوع خوف جبلي في الإنسان المؤمن وغيره على حدّ سواء، بل يتعدى الإنسان إلى الدواب بكل أشكالها، حتى الأسد مثلا يخاف من صياده ولو قاوم. 2 - الخوف الشرعي: ينقسم إلى قسمين: أ - خوف شرعي مأمور به: وهو ما كان على نحو قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ¬

(¬1) الآية (19) من سورة الأحزاب .. (¬2) الآية (83) من سورة النساء.

ب - خوف شرعي منهي عنه

لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (¬1) وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬2) وقوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (¬3) وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (¬4) فهذا النوع من الخوف مطلوب شرعا، وهو عبادة لله، يعين على فعل الخير، ويمنع من الوقوع في الشر. ب - خوف شرعي منهي عنه: وهو الخوف الذي لا يجوز أن يكون إلا من الله وحده لا شريك له، ومن وقع فيه فسبب ذلك الشرك بالله - عز وجل -، وهو ما يقع وله تعلق بالاعتقاد، فيكون في قلب الإنسان الخوف من أي شيء ¬

(¬1) الآية (51) من سورة الأنعام. (¬2) الآية (50) من سورة النحل. (¬3) الآية (37) من سورة النور. (¬4) الآية (37) من سورة الذاريات.

كان أنه ينفع ويضر من دون الله - عز وجل -، فيعمل أعمالا يتقرب بها إليه خوفا من أن يصيبه بمكروه، وسواء كان المخوف منه من الإنس أو الجن أو غير ذلك من المخلوقات، فإنه من الشرك الذي حرم الله الجنة على أهله، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (¬1) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬2) ونفي المغفرة يقتضي عدم دخول الجنة، فمن أفرد الرب سبحانه، بالخوف في أمر النفع والضر فقد حقق التوحيد لقوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬3) لأن أمر الله تعالى لعباده بعدم الخوف من الشيطان وأوليائه، هو أمربأحد أفراد التوحيد وهو الخوف منه دون سواه، وهو ¬

(¬1) من الآية (72) من سورة المائدة. (¬2) الآية (48) من سورة النساء. (¬3) من الآية (175) من سورة آل عمران.

في نفس الأمر نهي عن أحد أفراد الشرك، كالخوف من الشيطان وأوليائه، وقوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1) هذا دليل على أن الخوف عبادة يجب أن يوحد الله تعالى بها، على حد قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله عنه -: (يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وان اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (¬2) ولذلك أثنى الله على بعض عباده فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ¬

(¬1) من الآية (175) من سورة آل عمران .. (¬2) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

الرجاء

وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1) ومنه ما كان على نحو قول الله تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬2) وقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} (¬3). الرجاء: الأصل فيه قول الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬4)، وقوله سبحانه تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ ¬

(¬1) الآية (54) من سورة المائدة. (¬2) الآية (50) من سورة النور. (¬3) الآية (53) من سورة المدثر. (¬4) الآية (53) من سورة الزمر.

رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} (¬1) وقول الله سبحانه تعالى: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (¬2) هذا التوجيه الرباني إلى عدم القنوط واليأس من روح الله تربية للمؤمنين على أن رحمة الله واسعة، منبها على أن ملازمة القنوط واليأس لا تكون إلا من الكافرين، الذين لم يعرفوا رحمة الله ولا فضله وإحسانه، فوقعوا في هذه الصفة الذميمة، فنتج عن أمنهم من مكر الله سبحانه، عدم خوفهم من الله - عز وجل -، وقد حذر الله من ذلك فقال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (¬3) ولا يتم الخوف والخشية إلا لمن عرف الله - عز وجل -، ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (¬4). ¬

(¬1) الآية (56) من سورة الحجر. (¬2) الآية (87) من سورة يوسف. (¬3) الآية (99) من سورة الأعراف. (¬4) من الآية (28) من سورة فاطر.

وقد يرد سؤال بناء على هذا الترغيب من الله - عز وجل - في الرجاء، فيقال: أيهما أولى بالمسلم تغليب الخوف أم الرجاء؟ . والجواب أن الإنسان لا يخلو من إحدى ثلاث: 1 - إما أن يكون من الصالحين المسارعين إلى فعل الطاعات، وهو في صحة وعافية، فهذا يتساوى في حقه الخوف والرجاء، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر، فالرجاء في حقه قائم باعتباره صاحب طاعة، وعمل صالح، وهو من أهل السلامة والعافية، وكذلك الخوف قائم باعتبار الحذر من سوء العاقبة، أو الخاتمة. 2 - وإما أن يكون العكس، قلة الطاعة، وضعف المبادرة إلى الخيرات، فهذا يغلّب جانب الخوف، فيجب أن يخاف أن يدركه الأجل وهو على حال تؤول به إلى سوء الخاتمة، وتغليب الخوف يجعله يترك العصيان، ويبادر بالتوبة، وإن كان الرجاء قائم في حقه لكنه أضعف من الخوف. 3 - وإما أن يكون في حال صحة متردية، وضعف مستمر، فيجب عليه أن يغلّب الرجاء، وإن كان الخوف في حقه قائما لكنه أضعف من الرجاء، لما ورد في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام، يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله - عز وجل -) (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (2877).

وعدِّ في سفن النجا إلى الفضاء الأوسع: أي: أدخل واركب مطية تنجيك من الهلاك، وقد شبه الناظم رحمه الله الطاعات فرضا ونفلا، شبّهها بالسفن التي تعبر بمن امتطاها الأنهار والبحار والمحيطات، وقد أوردها الناظم بلفظ الجمع دون المفرد إيماء إلى أن كل طاعة يجريها العبد قاصدا بها وجه الله - عز وجل -، فهي سفينة نجاة في حد ذاتها، لكنها لا تغني عن المجموع المطلوب منها قدر الوسع والطاقة، فهي في الحقيقة سفن في سفينة واحدة، هي العمل بالكتاب والسنة، ولا تكون الطاعات منجية إلا إذا كانت مبنية على عقيدة صحيحة، بهذا يصل المسلم إلى الفضاء الأوسع، وهو الدار الآخرة، والمراد الجنة وما فيها من الرحابة والسعة، والنعيم صفة لها، ولا يقال ذلك للنار أجارنا الله منها، لأنها موصوفة بدار الجحيم والعذاب الأليم، وذلك من الضيق وليس من السعة في شيء.

المبحث الثالث الترغيب في الطاعات

المبحث الثالث الترغيب في الطاعات 7 - عليك بالتهجد وقم طويلا واسجد ... وبت نديم الفرقد واشرب كؤوس الأدمع هذا توكيد لما ذكر في البيت السابق، من الإرشاد إلى ملازمة الطاعات فرضا ونفلا، على نحو ما أوضحنا، والتهجد: هو من الأضداد يطلق على السهر والنوم، لكن التهجد إذا أطلق فالمراد به قيام الليل، والمتهجدون المصلون بالليل (¬1) وقد ندب الناظم رحمه الله إلى الطول في القيام والسجود، وعنى بطول القيام طول القراءة، وبطول السجود طول التسبيح والدعاء، وهذا عمل حسن، فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنه غير واجب والاقتصار على المستطاع هو الكمال، ومن خفف فلا بأس، ومن أعظم ما يحصل لصاحب هذا العمل أن صلاته مشهودة من ملائكة الرحمة، وقد ورد ذلك في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك ¬

(¬1) انظر (النهاية 5/ 44).

أفضل) (¬1) وما ورد من أن في الليل ساعة لا يوافقها مسلم إلا أعطي ما سأل، ورد ذلك في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن في الليل لساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة) (¬2) ولا ريب أن هذه الساعة هي ما ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له) (¬3). وبت نديم الفرقد واشرب كؤوس الأدمع: توجيه من الناظم رحمه الله إلى أن يكون المسلم حريصا على الطاعات، كثير الخشية من الله - عز وجل -، فالخشية أخص من الخوف، وهي جالبة لدمع العين، ومن دمعت عينه من خشية الله حماها الله من النار، لما ورد في حديث ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: (عينانِ لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيلِ الله) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم حديث (755). (¬2) أخرجه مسلم حديث (757). (¬3) أخرجه مسلم حديث (758). (¬4) أخرجه الترمذي حديث (1690).

المبحث الرابع الحث على التمسك بالكتاب والسنة

المبحث الرابع الحث على التمسك بالكتاب والسنة 8 - قف عند حكم المصحف من غير ما تحرف ... ولا تخض وقعت في أقوال أهل البدع هذا البيت فيه توجيه عام إلى التزام نهج الكتاب والسنة، ونهي عن مجاوزة ذلك، لأن من جاوز ذلك فقد اتبع الرأي، ومن اتبع الرأي وقع في الهوى، وذلك يفضي به إلى الابتداع، أو الاقتداء بمن سبقه من أهل البدع والأهواء، ويكون ممن قال فيهم الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (¬1). قف عند حكم المصحف من غير ما تحرف: نبه الناظم رحمه الله إلى الوقوف عند كلام الله - عز وجل -، والذي عبر عنه بالمصحف، وهو الكلام المتلو من المصحف الذي حواه، وجمع فيه، من فعل أبي بكر، ثم ¬

(¬1) الآيتان (103، 104) من سورة الكهف.

عثمان، رضي الله عنهما، واشتهرت التسمية بالمصحف من فعل عثمان - رضي الله عنه - إذ جمع ما كان من القرآن في اللخاف والعسب، والرقاع، وصدور الرجال، وجعله في كتاب واحد سماه المصحف، بعث منه إلى كل مصر بنسخة، فحفظ الله بهذا العمل كلامه العزيز، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) وقول الناظم هذا هو عمل بقول الله - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬2) وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3) ولم يصرح الناظم بالوقوف عند القول من السنة الصحيحة لأن ذلك داخل في الوقوف عند قول المصحف، وهو قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ ¬

(¬1) الآية (9) من سورة الحجر. (¬2) من الآية (103) من سورة آل عمران. (¬3) الآية (65) من سورة النساء.

اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1) وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2) وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (¬3) وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4) والوقوف عند قول المصحف، معناه التدبر والفهم لمقصود الرب سبحانه وتعالى، عملا بقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ¬

(¬1) من الآية (7) من سورة الحشر. (¬2) من الآية (63) من سورة النور. (¬3) الآية (36) من سورة الأحزاب .. (¬4) الآية (31) من سورة آل عمران.

} (¬1) ويجب أن يكون هذا التدبر بفهم صحيح في إطار صحيح، بعيدا عن الغلو الذي هو الإفراط، وعن التساهل الذي هو التفريط، والحرص على ما بينهما وهو التوسط، منهج الإسلام، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬2) شهداء على الناس، الذين أفرطوا، والذين فرّطوا، ويشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وسطية هذه الأمة، فلا تحريف ولا تبديل في الإسلام الدين الحق، ففيه الكمال والعدل والرأفة والرحمة، وفي هذا المعنى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فبماذا تعهد الينا يا رسول الله؟ ، قال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي، فانه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين ¬

(¬1) الآية (24) من سورة محمد. (¬2) من الآية (143) من سورة البقرة.

المهديين، عضوا عليها بالنواجذ) (¬1) وفي رواية ابن ماجه: (وعظنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقلنا: يا رَسُول الله، إِنَّ هَذهِ لموعظة مودع، فما تعهد إلَيْنَا؟ قَالَ: قد تركتكم على البيضاء. ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هلك. مِن يعش منكم فيسرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم مِن سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. عضوا عليها بالنواجذ. وعليكم بالطاعة. وإن عبداً حبشياً. فإنما المؤمِن كالجمل الأنف، حيثما قيد انقاد) (¬2) وهذا هو العمل بالكتاب والسنة، ومن زعم غير ذلك فقد ركب مركبا صعبا من الزلل والمهالك، وهذا ما عناه الناظم رحمه الله بقوله: ولا تخض وقعت في أقوال أهل البدع: وهو تحذير من الناظم رحمه الله تعالى، لأن ذلك يفضي إلى الهلاك كما قال تعالى حكاية عن الذين يطلقون ألسنتهم بكل قول من غير وعي لخطورة ما يقولون: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، انظر رقم (2816). (¬2) حديث (43) وهو من أدلة اللالكائي (شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/ 82).

قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (¬1) وقوله تعالى: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (¬2) والخطر في الحقيقة ليس محدقا بهؤلاء فحسب، بل ينال الذين يجلسون معهم، ويسمعون كلامهم، ولا ينكرون عليهم، فإنهم مثلهم في الإثم والعقوبة، كما قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (¬3) والخوض يشمل هذا وغيره من محاولة التفلسف، والتزام الجدل لرد ما هو حق بالنص من الكتاب أو السنة أو منهما معا، أو تأويل الشيء على غير وجهه مع الزعم بأن هذا مراد الله ورسوله، أو مما يقال في المجالس لإضحاك الناس، وهو من سخط الله ورسوله، ولذلك حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصاد الألسنة كما ورد في حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ¬

(¬1) الآية (65) من سورة التوبة. (¬2) الآية (45) من سورة المدثر. (¬3) الآية (140) من سورة النساء ..

قال: (كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال: ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1) ثم قال: ألا أخبركم برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه: قلت: بلى يا رسول الله قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله، قلت بلى يا رسول الله، قال: فأخذ بلسانه، قال: كف عليك هذا. فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على ¬

(¬1) الآيتان (16، 17) من سورة السجدة.

المبحث الخامس صفة الكلام

مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم) (¬1) فالخوض شامل لكل مفسدة، فلنطهر ألسنتنا من هذا الداء الوبيل. المبحث الخامس صفة الكلام 9 - فإنه كلامه أعيى الورى نظامه ... وبهرت أحكامه الغرّ جميع الشيع أورد الناظم رحمه الله هذا البيت لوصف القرآن الكريم كلام الرب سبحانه وتعالى، وما فيه من كمال الأسلوب، وعدالة المنهج والحكم، فهو أعدل الكلام وأصدقه وأجمله وأبلغه وأحلاه، بهر أرباب الفصاحة، وملّاك البلاغة، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬2) وقد روي في وصفه قول علي - رضي الله عنه -: أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه ¬

(¬1) أخرجه الترمذي حديث (2749) وقال: حسن صحيح. (¬2) الآية (42) من سورة فصلت.

الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (¬1) من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) (¬2). فإنه كلامه أعيى الورى نظامه: أي القرآن الكريم، هو كلام الله - عز وجل - منزل غير مخلوق، ومن زعم أنه مخلوق فقد وقع في الضلال، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فالله - عز وجل - يتكلم، ويقول، ويتحدث، وينادي، كلامه بصوت وحرف، والقرآن كلامه، مُنَزَّلٌ غير مخلوق، وكلام الله صفة ذاتية فعلية: ذاتية باعتبار الأصل، وفعلية باعتبار الآحاد، ومرد هذا القول عند أهل السنة والجماعة هو كتاب الله يقول الله تعالى: ¬

(¬1) الآيتان (1، 2) من سورة الجن. (¬2) أخرجه الترمذي (3070) وفي إسناده كلام، ومعناه صحيح.

{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬1) وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬2) وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (¬3)، وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬4) وقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (¬5) وما ورد في المحاجة بين آدم ¬

(¬1) من الآية (164) من سورة النساء. (¬2) الآية (30) من سورة القصص. (¬3) الآية (109) من سورة الكهف. (¬4) الآية (6) من سورة التوبة. (¬5) منالآية (87) من سورة النساء.

وموسى عليهما السلام، من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (احتجَّ آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي أخرجت ذريتك من الجنة؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق؟ فحجَّ آدم موسى) (¬1) وما ورد في حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) (¬2) وما ورد في الصحيحين من قول عائشة رضي الله عنها في شأن الإفك: لَشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمرٍ يتلى، ومثل هذا كثير. وبهرت أحكامه الغرّ جميع الشيع: أشار الناظم رحمه الله إلى ما فيه من الإعجاز، وأنه لا يجارى، وقد تحدى به الرب سبحانه وتعالى أرباب الفصاحة والبلاغة من العرب، الذين سبقوا كل الأمم في ميدان الإعجاز اللغوي والبلاغي، أنزله الله تعالى بلسانهم وبالأحرف التي يتكون منها كلامهم، وغاية ما قالوا فيه إنه مفترى، فقال تعالى متحديا لهم: {أَمْ ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (7077) واحتج به اللالكائي (شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/ 250) .. (¬2) أخرجه البخاري حديث (6165).

يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1) فالقرآن مجموع سوره (114) مائة وأربع عشرة سورة، تحداهم رب العزة والجلال، هم وكل من يقدر على معاونتهم على أن يأتوا بعشر سور يفترونها من عند أنفسهم، شريطة أن تماثل القران في إحكامه وإعجازه، وأنى لهم ذلك، فقال تعالى لهم زيادة في التحدي وقد عجزوا عن الإتيان بعشر سور مفتريات: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬2) فثبت عجزهم هم ومن استطاعوا الاستعانة بهم، وكذلك شهداؤهم، عجزوا جميعا عن إتيانهم بسورة واحدة يفترونها، وتماثل أقل سور القرآن، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} بل هم عاجزون عن ¬

(¬1) الآية (13) من سورة هود. (¬2) من الآية (23) من سورة البقرة.

محاكاة بعض آية واحدة منه كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬1) وإذا ثبت عجزهم عن أقل القليل فهم عن المثل أعجز وأقعد، ولذلك قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬2) أعيى الورى، وبهر كل الشيع، لأنه صادر عن الخالق سبحانه وتعالى ومتسحيل أن يصدر عن المخلوق ما يماثله، أو يحاكيه. 10 - منه كما جاء بدا وكن به معتضدا ... ولا تجادل أحدا في آية وارتدع هذا توكيد لما تقدم من القول في كلام الله - عز وجل -، مِن الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق، منه بدأَ، وإليه يعود، وأَن الله تكلم به حقيقة، وأَن هذا القرآن الذي أَنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيرِه، ولا يجوز إطلاق القَول بأَنه حكاية عن كلام الله، أَو عبارة عنه، بل إِذا قَرأَه الناس أَو كتبوه في ¬

(¬1) من الآية (179) من سورة البقرة. (¬2) الآية (88) من سورة الإسراء ..

المصاحف؛ لَم يخرج بذلك عن أَن يكون كلام الله تعالى حقيقَة، فَإِن الكلام إِنما يضاف حقيقة إِلى من قَاله مبتدئا، لا إلى من قَاله مبلغا مؤديا، وهو كلام الله، حروفه، ومعانيه، ولَيس كلام الله الْحروف دون المعاني، ولا المعانِي دون الحروف، ولذلك وجب الاعتصام به، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬1). ولا تجادل أحدا في آية وارتدع: هذا توجيه إلى أن ما مضى من القول يقتضي التسليم المطلق لكلام الله - عز وجل -، جملة وتفصيلا، وأنه لا مجال للمراء في شيء منه ولو آية واحدة، ومن فعل ذلك فقد خالف نهج أهل السنة والجماعة. ¬

(¬1) من الآية (103) من سورة آل عمران.

المبحث السادس القول في الأسماء والصفات

المبحث السادس القول في الأسماء والصفات 11 - ولا تؤل ما ورد لله من سمع ويد ... وقل هو الله أحد قول امرئ متبع يشير الناظم رحمه الله تعالى إلى أن لله - عز وجل - أسماء وصفات، تليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه، وهو القائل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1) وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (¬2) وقال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬3)، ¬

(¬1) الآية (18) من سورة الأعراف. (¬2) الآية (110) من سورة الإسراء. (¬3) الآية (8) من سورة طه.

وقال سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1) هذه الآيات تثبت أن لله الأسماء الحسنى، وأن من يلحد في أسمائه تعالى بتأويل أو تحريف أو تعطيل، أو غير ذلك مما لا يليق بالرب سبحانه وتعالى سيجزيهم الله بما كانوا يعملون، ولا ريب أن من يلحد في الأسماء يلحد في الصفات، فكان أهل السنة والجماعة ألزم للحق وأبعد عن الباطل، ومنه الإلحاد في الأسماء والصفات، فمن أول أي صفة من صفات الله تعالى بغير مدلولها اللغوي، فقد ألحد، وقال إما بالتجسيم، أو بالتعطيل، بل هي على الحقيقة اللغوية، وعلى ما يليق بجلال الله تعالى وكماله، إثبات بغير تمثيل، وتنزيه بدون تعطيل، ومن أثبت بتمثيل فقد شبه الخالق بالمخلوق، ومن نزه بنفي شيء من الصفات فقد عطل، وجعل الرب عدما، ومن هنا صدق من قال: المشبهة يعبدون صنما، والمعطلة يعبدون عدما، فالقاعدة التي بنى عليها أهل السنة والجماعة القول في الأسماء والصفات قوله تعالى في كتابه العزيز: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ ¬

(¬1) الآية (24) من سورة الحشر ..

شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1) فالموصوف بهذه الصفات، والنعوت، والأفعال، والعلو، والعظمة، والحفظ، والعزة، والحكمة، والملك، والحمد، والمغفرة، والرحمة، والكلام، والمشيئة، والولاية، وإحياء الموتى، والقدرة التامة الشاملة، والحكم بين عباده، وكونه فاطر السموات والأرض، وهو السميع البصير، وغير ذلك من الصفات المعلومة في الكتاب والسنة، الموصوف بها جميعا هو الذي ليس كمثله شيء، لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله وثبوتها له على وجه الكمال الذي لا يماثله فيه شيء، وهو الله - عز وجل - وحده لا شريك له، فإن مِنهج أهل السنة والجماعة الإيمانِ بِما وصف الله بِهِ نفسه في كتابِه العزِيزِ، وبِما وصفه بِه رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، من غيرِ تحرِيف ولا تعطِيل، ومِن غيرِ تكيِيف ولا تمثِيل، ولا ينفون عنه ما وصف بِه نفسه، ولا يحرِفون الكلِم عن مواضعه، ولاَ يلحدون في أَسماء الله وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بِصفات خلقه، لأنّه سبحانه: لا سمِي له، ولا كفء له، ولا نِد له، ولا يقاس بِخلقه سبحانه وتعالى، وكل ما ورد الأسماء والصفات هو على الحقيقة، وعلى ما يليق بجلال الله وعظمته، ومبنى ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ¬

(¬1) من الآية (11) من سورة الشورى ..

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1) وسُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وهذا هو الاتباع، وما سواه ابتداع. 12 - وإنه عز وجل كلم موسى ذا الوجل ... لما تجلى للجبل جهرا كلاما مسمع هذا توكيد من الناظم رحمه الله لما أورد في البيت التاسع، وهو المبحث الخامس، صفة الكلام، وقد تم الكلام عليه، ومنه: إن الله - عز وجل - يتكلم، ويقول، ويتحدث، وينادي، كلامه بصوت وحرف، والقرآن كلامه، مُنَزَّل غير مخلوق، وكلام الله صفة ذاتية فعلية: ذاتية باعتبار الأصل، وفعلية باعتبار الآحاد، ومرد هذا القول عند أهل السنة والجماعة هو كتاب الله يقول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬2) وقوله ¬

(¬1) من الآية (11) من سورة الشورى. (¬2) من الآية (164) من سورة النساء.

تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1) وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (¬2)، وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬3) وقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (¬4) والكلام صفة من صفات الله - عز وجل - على الحقيقة، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وليس من إضافة المخلوق إلى الخالق، ومن زعم ذلك فقد وقع في بدعة عظيمة، تفضي به إلى القول بخلق القرآن، ¬

(¬1) الآية (30) من سورة القصص. (¬2) الآية (109) من سورة الكهف. (¬3) الآية (6) من سورة التوبة. (¬4) من الآية (87) من سورة النساء.

والقرآن كلام الله تعالى، وهو صفته وصفات الله - عز وجل - ليست مخلوقة، وليست إضافة الكلام إليه تعالى إضافة وصف، بل إضافة صفة على الحقيقة، ومن زعم غير هذا فقد وقع في بدعة عظيمة، وهي القول بالحلول ووحدة الوجود، وقد سدد الله تعالى في الأمرين أهل السنة والجماعة فقالوا: بقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1) وأثبتوا لله تعالى الأسماء والصفات على الحقيقة، وعلى ما يليق بجلال الله وعظمته، بلا كيف ولا تمثيل. 13 - أصغى إليه فوعى بأذنه ما سمعا ... ثم أجاب مسرعا جواب ثبت أروع مراد الناظم من هذا القول أن الله تعالى كلّم موسى بصوت مسموع، سمعه موسى، بأذنه ووعى كلام ربه - عز وجل -، ونتيجة لذلك أجاب دون تردد في أن من كلمه هو ربه سبحانه وتعالى، وأسرع في تنفيذ ما كلف به من رسالة إلى فرعون وقومه. ¬

(¬1) من الآية (11) من سورة الشورى ..

المبحث السابع الاستواء على العرش

المبحث السابع الاستواء على العرش 14 - ولا توافق من غوى وقل بأن ذا القوى ... حقا على العرش استوى كما أراد فاسمع يشير الناظم رحمه الله في هذا البيت إلى أن غير أهل السنة والجماعة قد ضل في تفسير معنى الاستواء على العرش، وتأولوا الآية الكريمة على معنى يخالف ما هو الصحيح، ويلزمهم كما أثبتوا لله السمع والبصر، أن يقولوا في صفات الله الأخر، أنها على الحقيقة، وعلى ما يليق بجلال الله تعالى وكماله، فليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه استوى على العرش ورد ذلك في سبعة مواضع من كتاب الله العزيز منها قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ

رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1) وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (¬2) وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (¬3) وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬4) كل هذا عند أهل السنة والجماعة معناه الاستواء الحقيقي، على قاعدة: الاستواء معلوم والكيف مجهول، لأن الله تعالى قال عن نفسه: {لَيْسَ ¬

(¬1) الآية (54) من سورة الأعراف. (¬2) الآية (3) من سورة يونس. (¬3) الآية (2) من سورة الرعد. (¬4) الآية (5) من سورة طه ..

المبحث الثامن إثبات العلو والمعية

كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1)، وهذا منهج أهل السنة والجماعة، أن معاني صفات الله - عز وجل - الثابتة بالكتاب أو السنة، أو بهما، هي على الحقيقة، لا مجاز فيها ولا يجوز تأويلها، فألفاظها معلومة المعاني، وحقيقتها مجهولة الكيف (¬2). المبحث الثامن إثبات العلو والمعية 15 ـــ وهو تعالى في السما عال ومعنا أينما ... بغير كيف لا كما يخطر للمبتدع هذا هو الحق الذي جاء به كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أعلم من الله بنفسه؟ ! ، ولا أحد أعلم بالله من رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (¬3) وقال تعالى: {بَلْ ¬

(¬1) من الآية (11) من سورة الشورى. (¬2) انظر (الاعتقاد للبيهقي: 41 - 45). (¬3) من الآية (55) من سورة آل عمران.

رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (¬1) وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬2) وقال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (¬3) وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (¬4) فهذه الآيات من كتاب الله - عز وجل - تثبت بم لا يدع مجالا للشك أن الله - عز وجل - عال فوق خلقه، وقد ذكر الله تعالى عن نفسه أنه استوى على العرش، وذلك في آيات من كتابه العزيز منها: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ ¬

(¬1) من الآية (158) من سورة النساء. (¬2) من الآية (10) من سورة فاطر. (¬3) الآيتان (36، 37) من سورة غافر. (¬4) الآيتان (16، 17) من سورة الملك.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1) وثبت أن العرش فوق السماء السابعة بما لا يعلمه إلا الله تعالى، كما ورد في حديث الإسراء الطويل، ومنه قوله في صعود رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -: (. . . . وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى: ربِّ لم أظنَّ أن ترفع عليَّ أحدا، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه: خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى. . . .) (¬2) وحديث الجارية التي أتى بها سيدها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: (أين الله؟ ، قالت: في السماء، قال: من أنا؟ ، قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها، فإنها مؤمنة) (¬3) وحديث النزول وفيه (ينزِل ربنا إلى السماءِ الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل ¬

(¬1) الآية (54) من سورة الأعراف. (¬2) أخرجه البخاري حديث (7079). (¬3) أخرجه مسلم حديث (537).

الآخرِ، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسأَلني فأُعطيه، من يستغفرني فأَغفر له؟ ) (¬1) وفي آية الكرسي {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬2) أنه العلي بذاته فوق جميع خلقه، فلا يستطيع أحد منهم أن يدنو منه، وأنه العظيم عن مماثلة أو مشابهة المخلوقين، ولا خالق سواه سبحانه وتعالى، وقد آمن أهل السنة والجماعة بما أخبر الله - عز وجل - به في كتابه، وتواتر نقله عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأجمعوا على أنه سبحانه فوق السماوات على عرشه، عليُّ على خلقه، فأصبح ذلك من المعلوم في الاعتقاد بالاضطرار من الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وقبلت هذا الفطر السليمة، حتى غير المسلمين يعتقدون أن الله في السماء، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام عظيم في هذا (¬3) ولما سئل أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ ! ! ، قال: قد كفر، لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬4) والسماء قبلة الدعاء، وقد اتفق الناس على أنه على كل شيء سبحانه، بمعنى أنه قاهر ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) من الآية (255) من سورة البقرة. (¬3) انظر (درء تعارض العقل والنقل 2/ 59، 7/ 27، والفتاوى 4/ 45). (¬4) الآية (5) من سورة طه ..

له، قادر عليه، متصرف فيه، فهو الأعلى بجميع معاني العلو: علو الذات، وعلو القدرة على كل شيء، وعلو الغلبة والقهر لكل شيء، سبحانه وحده لا شريك له، تنزه عن كل عيب، ونقص، فله الكمال المطلق سبحانه، ولا يجوز تأويل الفوقية بغير معناها الحقيقي، ومن قال بغير هذا فقد ضل، كمن زعم أنه بذاته فوق العالم، وبذاته في كل مكان، وهذا القول الباطل يلزم عليه من الفساد ما ينزه الله تعالى عنه (¬1). أما المعية: فلا خلاف بين أهل السنة والجماعة أن الله مع عباده أينما كانوا، قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬2) وقال تعالى: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (¬3) وقال تعالى: {إِنَّ ¬

(¬1) انظر (شرح العقيدة الطحاوية: 260، 261، 262، 263). (¬2) الآية (249) من سورة البقرة. (¬3) الآية (40) من سورة التوبة.

اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (¬1) وقال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬2) وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬3) وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4)، هذه الآيات من كتاب الله ¬

(¬1) الآية (128) من سورة النحل. (¬2) الآية (46) من سورة طه. (¬3) الآية (4) من سورة الحديد. (¬4) الآية (7) من سورة المجادلة.

- عز وجل - تثبت معية الله لخلقه وهو فوق عرشه بائن منهم سبحانه وتعالى، وهي تنقسم إلى قسمين: 1 - معية عامة لكل البشر، يعلم أحوالهم وأسرارهم، لا يخفى عليه منها شيء سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (¬1) وقال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬2) وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3) وهذا الاستعمال للفظ المعية في هذه الآيات يقتضي أنه سبحانه معهم أينما كانوا، بعلمه وسمعه وبصره، يعلم ما هم عاملون، وهي معية عامة لكل الخلق، المؤمن وغيره. ¬

(¬1) من الآية (7) من سورة المجادلة. (¬2) من الآية (4) من سورة الحديد. (¬3) الآية (7) من سورة المجادلة.

2 - معية خاصة: وهي معية التوفيق والنصر والتأييد، وهذه خاصة بالمؤمنين، لا ينالها سواهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (¬1) وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا ¬

(¬1) الآية (12) من سورة المائدة.

فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (¬1) وقال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2)، وقال تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬3)، وقال تعالى: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (¬4) وقال تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ ¬

(¬1) الآية (12) من سورة الأنفال. (¬2) الآية (40) من سورة التوبة. (¬3) الآية (46) من سورة طه. (¬4) الآية (15) من سورة الشعراء.

أَعْمَالَكُمْ} (¬1) وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬2) وقال أبو بكر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهما في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما) (¬3). فالله سبحانه فوق عرشه بائن من خلقه، وهو معهم بعلمه وسمعه وبصره أين ما كانوا، وبتوفيقه ونصره وتأييده كذلك، وكل صفة ذكرت له سبحانه وتعالى فهي على ما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، بغير كيف نعلمه، ولا تمثيل نتوهّمه، فمن مثّل فقد وقع في التجسيم، وشبّه صفات الخالق بصفات المخلوق، وهذا من أبطل الباطل، وقد دخل عليه هذا الباطل من محاولة تكييف صفات الله تعالى، وتصور أنها كصفات المخلوق سواء بسواء، وجهل أن العلم بكيفية الصفات فرع عن العلم ¬

(¬1) الآية (35) من سورة محمد. (¬2) الآية (4) من سورة الحديد. (¬3) أخرجه البخاري حديث (3453).

بكيفية الذات، نعم عرف ذات الإنسان وكيفيتها، فثبتت له معرفة صفاته، لكنه لم يعرف ذات الرب سبحانه وتعالى، فأنى له العلم بكيفية الصفات، وقد كفى الله تعالى عباده هذا العناء فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1)، فلماذا الخروج عن المنهج القويم، إلى القول بالتجسيم، أو الفرار منه إلى ما هو أقبح وهو القول بالتعطيل، وهو ما خطر للمبتدع ولو اعتصم بالكتاب والسنة لكان في عافية من ذلك. 16 - من قاسه من البشر بخلقه فقد كفر ... وقد أطاع ونصر أمر الهوى المتبع هذا توكيد من الناظم رحمه الله على ما ذكر في البيت السابق، وأنه تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين في أي صفة من صفاته، وأن هذا منهج أهل السنة والجماعة، وأن من سلك غيره، ممن زعم أن الله في كل مكان، أو لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، فقد ضل، وعميت بصيرته عن الحق، وأنهم لم يتدبروا كلام الله - عز وجل -، فالله لا يلحقه نقص ولا عيب، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (¬2). ¬

(¬1) من الآية (11) من سورة الشورى. (¬2) أنظر (شرح العقيدة الطحاوية: 176 - 183).

المبحث التاسع التذكير بيوم الحساب

المبحث التاسع التذكير بيوم الحساب 17 - ويلاه من وزن العمل وبحره عندي وشل ... قد غاض طاميه وقل فما ترى من منبع هذا تذكير من الناظم بما يحصى من عمل الإنسان خيره وشر، وبذلك اليوم الموعود الذي تنصب فيه الموازين، ولا يجد الإنسان سوى ما قدمت يداه، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (¬1)، وتنصب الموازين لمجازات الناس على أعمالهم، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ¬

(¬1) الآية (39، 40) من سورة النجم. (¬2) الآية (47) من سورة الأنبياء.

الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} (¬1) وقال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (¬2)، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬3)، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} (¬4)، والميزان حقيقي محسوس، له كفتان توزن فيه الأعمال، وهي محسوسة أيضا ولها ثقل، وقد ثبت ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله سيخلّص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ ، أظلمك كتبتي الحافظون؟ ، ¬

(¬1) الآيتان (8، 9) من سورة الأعراف. (¬2) الآية (103) من سورة المؤمنون. (¬3) الآيتان (7، 8) من سورة الزلزلة. (¬4) الآيتان (6 - 9) من سورة القارعة.

يقول: لا يا رب فيقول: أفلك عذر؟ ، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة ما هذه السجلات؟ فقال: فانك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء) (¬1) ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لما ضحك الصحابة من دقة ساقي عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد) (¬3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ما من شئٍ أثقل في الميزان من حسن الخلق) (¬4) وقد ختم الإمام البخاري ¬

(¬1) أخرجه الترمذي حديث (2776) وقال: حسن غريب، وانظر (شرح العقيدة الطحاوية: 410 - 411). (¬2) أخرجه البخاري حديث (4452)، والآية (105) من سورة الكهف. (¬3) أخرجه أحمد. (¬4) أخرجه أبو داود حديث (4799).

كتابه الجامع الصحيح بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده). فما ورد في الكتاب والسنة من وصف هذا الموقف المهول يجعل كل إنسان يؤمن بالله واليوم الآخر، يحسب له الحسابات الدقيقة، سيما والإنسان ضعيف بطبعه، كثير الملل، ميال إلى اللهو ونسيان الآخرة، فعمل الخير بحر لا ساحل له، والشر كذلك، وليس لدى الإنسان من عمل الخير إلا شيء قليل في مقابل عنايته بدنياه الفانية، وغفلته عن يوم وزن العمل، فيجد أنه فرّط في التزود من بحور الخير العظيمة التي يسرها له الرب في الدنيا، وجعلها سهلة في متناول كل من أراد ذلك، لكن الإنسان اشتغل بعناء الدنيا ومكاسبها الصعبة المنال، سريعة الغدر والزوال، فجاء بعمل قليل زهيد، ولو أراد تصحيح الخطأ وتعديل المسار، ما وجد إلى ذلك سبيلا، فقد جف في هذا اليوم مجرى كل عمل خير أو شر، وتوقفت المنابع، ولم يبق سوى الحصاد، ولا مطمع حينئذ إلا في عفو الله وكرمه، ومغفرته وواسع رحمته، وإلا هلك الهالكون والعياذ بالله.

المبحث العاشر الإيمان بالجنة والنار

المبحث العاشر الإيمان بالجنة والنار 18 - واعترضت جهنم ونارها تضطرم ... وكب فيها المجرم وقيل يا نار ابلعي منهج أهل السنة والجماعة الإيمان بوجود الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان، وقد خلقت الجنة لعباد الله المتقين قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1)، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ ¬

(¬1) الآية (133) من سورة آل عمران.

الْعَظِيمِ} (¬1) وكذلك النار خلقها الله لعباده العاصين، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (¬3)، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإسراء: (ثم انطلق بي، حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) (¬4)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش، فما منعني أن أدخله يا ابن الخطاب، إلا ما أعلم من غيرتك). قال: وعليك أغار يا رسول الله؟ ) (¬5) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم، حتى لقد رأيتنى أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني جعلت أقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها ابن لحي، وهو الذي ¬

(¬1) الآية (21) من سورة الحديد. (¬2) الآية (24) من سورة البقرة. (¬3) الآية (131) من سورة آل عمران. (¬4) أخرجه البخاري (342). (¬5) أخرجه البخاري حديث (6621).

سيّب السوائب) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمد بيده! لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ ! ، قال: رأيت الجنة والنار) (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبرائيل إلى الجنة، فقال انظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها فنظر إليها، وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، قال: فو عزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفّت بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال فرجع إليها فإذا هي قد حفّت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعزتك لقد خفّت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها فرجع إليها، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها) (¬3) هذا مما ورد في الكتاب والسنة، وهو من الأدلة الصحيحة الصريحة على أن ¬

(¬1) أخرجه مسلم في حديث (901) .. (¬2) أخرجه مسلم حديث (426). (¬3) أخرجه الترمذي حديث (2685) وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه بقية أصحاب السنن، وأحمد في المسند، وأصله عند مسلم حديث (2822).

الجنة والنار مخلوقتان موجودتان، وليس كما زعم البعض أنها ستخلق فيما بعد. وفي هذا البيت يصف الناظم رحمه الله جهنم، وحال من أهلكه عمله، وفارقته رحمة الله - عز وجل -، فجهنم في يوم نصب الموازين ومحاسبة العباد المؤمن والكافر، والفاسق والفاجر، تكون معترضة بين المحشر والجنة، منصوب عليها الصراط، أدق من الشعرة، وأحد من السيف، كما ورد من قول أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (إن ناسا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، قال: هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة، صحوا ليس معها سحاب؟ ، وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر، صحوا ليس فيها سحاب؟ ، قالوا: لا، يا رسول الله، قال: ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: ليتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغير أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ ، قالوا: كنا نعبد عزير بن الله، فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ ، قالوا: عطشنا، يا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم: ألا تردون؟ ، فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا، فيتساقطون في النار،

ثم يدعى النصارى، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ ، قالوا: كنا نعبد المسيح بن الله، فيقال لهم: كذبتم. ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ ، فيقولون: عطشنا، يا ربنا فاسقنا، قال فيشار إليهم: ألا تردون؟ ، فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون؟ ، تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا! فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئا "مرتين أو ثلاثا" حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ ، فيقولون: نعم. فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا، ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم، قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ ، قال دحض مزلة، فيه خطاطيف وكلاليب وحسك، - تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: السعدان - فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاود

الخيل، والركاب، فناج مسلّم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنين من النار، فو الذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد منا شدة لله، في استقصاء الحق، من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا، كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا، ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا، لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا، لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها خيرا) وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا

عَظِيمًا} (¬1)، فيقول الله - عز وجل -: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط، قد عادوا حمما، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض؟ ، فقالوا: يا رسول الله، كأنك كنت ترعى بالبادية، قال "فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم، يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله، الذين أدخلهم الله الجنة، بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا، أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا، أي شيء أفضل من هذا؟ ، فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا) (¬2)، فالنار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وهي لكل عتل جوّاظ مستكبر، وهي عذاب الله تعالى، يعذب بها من يشاء من عباده، نستجير بالله من غضبه وعذابه. ¬

(¬1) الآية (40) من سورة النساء .. (¬2) أخرجه مسلم حديث (302).

19 - وجنة الفردوس قد تزخرفت لمن عبد ... وقام ليلا وسجد في طمره المرقع وهذا من الناظم رحمه الله تذكير بوصف الجنة، فإن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا يخطر على قلب بشر، مما أعد الله فيها من النعيم لعباده المؤمنين، الذين عبدوه، وقاموا في طاعته ليلا ونهارا، ودعوه ورجوا رحمته سرا وجهارا، في بعد عن شهوات الدنيا وملذاتها، من مأكل ومشرب، وملبس ومركب، مستشرفين للدار الآخرة وما أعد الله في الجنة من الراحة والنعيم الدائم، الذي لا يحول ولا يزول. 20 - ونهدت أبكارها واطردت أنهارها ... وغردت أطيارها في كل غصن مونع وفي هذا البيت يذكر الناظم رحمه الله بما أعد الله لعباده في الجنة من الحور، فمنهن الكواعب الأبكار، كما قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا} (¬1) وأنهن في غاية من الحسن والجمال {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي ¬

(¬1) الآية (37) من سورة الواقعة.

الْخِيَامِ} (¬1) لا يتمتع بهن أحد سواهم، قصر الطرف منهن على من خلقن من أجلهم، فلا يرين حسنا في غيرهم، ولا يتمنين سواهم، {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} (¬2) هن أزواجهم، قال تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (¬3)، وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (¬4)، هكذا جزاهم ربهم لقاء صبرهم على طاعته في الدنيا، بأن يكونوا مع أزواجهم {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (¬5). هكذا جزاهم ربهم لقاء صبرهم على طاعته في الدنيا، بأن يكونوا مع أزواجهم {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) ¬

(¬1) الآية (72) من سورة الرحمن. (¬2) الآية (48) من سورة الصافات، ومن ص: الآية (52) من الرحمن الآية (56). (¬3) الآية (20) من سورة الطور. (¬4) الآيتان (22، 23) من سورة الواقعة. (¬5) الآيات (28 - 34) من سورة الواقعة.

وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} (¬1) 21 - يا من له تبتلي في كل ليل أليل ... ومن إليه موئلي دون الورى ومفزع هذا التوجه الصحيح في الدعاء من الناظم رحمه الله هو منهج أهل السنة والجماعة، فالله وحده المسئول، عملا بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬2). وعمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد وجه ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، إحفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وان اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم ¬

(¬1) الآيات (28 - 34) من سورة الواقعة. (¬2) الآية (186) من سورة البقرة.

يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (¬1) مسيرا بأحد الأوقات التي هي من مظان إجابة الدعاء، وهو ما ورد من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن في الليل لساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة) (¬2)، وهذا هو النهج الصحيح، لا ما يقع فيه الكثيرون من الناس من الرجوع إلى بعض الصالحين وقد ماتوا، فيستعينون بهم على قضاء حوائجهم، ولا يجديهم ذلك شيئا، لأنه خلاف المنهج الصحيح. 22 - صل على خير البشر من كل أنثى وذكر ... محمد وجه القمر ذي الجانب الممنع وهذا من أعظم الدعاء حرص عليه الناظم رحمه الله عملا بالكتاب والسنة قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا) (¬4) وقد سأل ¬

(¬1) (¬2) أخرجه مسلم حديث (757). (¬3) الآية (56) من سورة الأحزاب. (¬4) أخرجه مسلم حديث (384).

الصحابة - رضي الله عنهم - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) (¬1) وقد منح الله رسوله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، من الكمال البشري، في الدين والخلق والخلق، ما لم يمنح غيره - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كان الأنبياء أكمل الخلق وأفضلهم، والرسل أكمل من الأنبياء وأفضل، أولوا العزم وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أكمل من الرسل، ورسول الله محمد هو صاحب المقام المحمود، ينفع الله بشفاعته الخلق، فيأذن سبحانه بفصل الحساب، اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2) هذا ما يسر الله تعالى لنا بحثه، فله الحمد والشكر علي توفيقه، وأسأله - عز وجل - أن يجعله عملا متقبلا، تثقّل به موازين حسناتي في يوم لا ينفع فيه ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (3189). (¬2) الآيات (180 - 182) من سورة الصافات ..

مال ولا بنون، وأن ينفع به من طالعه، ومن نصح وصحح وأرشد إلى خير، وتم في يوم الأربعاء 6/ 9/ 1425 هـ بالمدينة النبوية حرسها الله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

§1/1