المنار في علوم القرآن مع مدخل في أصول التفسير ومصادره

محمد علي الحسن

تقديم الكتاب

تقديم الكتاب بسم الله الرّحمن الرّحيم إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، حمل الرّسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدّين. وبعد: فقد سخّر ربّ العالمين بكتابه المبين، خاتمة الكتب السّماويّة سبيل حفظه، والاعتناء به، ونشره وتفسيره ونقله وتعليمه، والغوص على أسراره، والعمل بأحكامه، والتخلّق بآدابه مما لم يعهد التّاريخ لغيره مثل هذه العناية والرعاية. وقد نمت في خدمة القرآن الكريم علوم كثيرة، واتّسعت دوحة علوم القرآن في ظلاله، فلم تدع شاردة أو واردة لها صلة بخدمته أو بيان بعض ما يتعلّق به إلّا أحاطت بها ... من وحيه وكيفيّة نزوله، وحفظه وحفّاظه، وجمعه وتدوينه، وشكله وإعجامه، ورسم كلمه، وترتيب آياته وسوره، ومعرفة مكيّه ومدنيّه، وأسباب نزوله، وما كان منه في قرّ شتاء، أو قيظ صيف، في سلم أو حرب، وليل أو نهار ... بما يدهش العقول، حتّى عدّوا حروفه، وبيّنوا قرّاءه وقراءاته، ووجوه إعجازه ... وغير هذا ممّا يطول عدّه وبيانه ... وقد كثرت المصنّفات في علوم القرآن- قديما وحديثا- وتفاوتت مناهجها وحجومها، وتنوّعت أبحاثها، وكثرت مسائلها، وتعدّدت الأقوال فيها، حتّى بدت كالرّياض النّضرة، يجوب فيها نزيلها، فيحار بين زهورها وورودها، وجمال ألوانها. وكان من أحدث ما اطّلعت عليه من تلك الرّياض أصول كتاب «المنار في علوم القرآن» الطّبعة الثّانية للأخ الأستاذ الدكتور محمد علي الحسن، حفظه الله فكان بعض

باقات منسّقة من ورود وأزاهير تلك الرّياض، وثمرات يانعة من أشجارها، اجتهد فيه المؤلف أن يتّخذ أحوج ما يحتاج إليه الطالب في دراسته، ليحيط بما لا غنى له عنه لمعرفة دستور خاتمة الرّسالات ومنهجها، فيحسن فهمه والانتفاع به، ويوفّق إلى صدق تطبيقه، والعمل بأحكامه وآدابه. وقد ضمّ الكتاب باقات متنوعة من تلك الغياض الوارفة، كلّ باقة تمثل فصلا، وكلّ وردة منها ينتظم رصف وريقاتها بحثا، فكان اختيارا شاملا، لم يدع للمطّلع عليه منبتا دون جذور، فقد أخذ بيده إلى أصوله ومراجعه ليكون البيان سبيله إلى التراث العظيم، يقف على مكنوناته ويغوص على درره، ويتخيّر من كنوزه، فجمع هذا الكتاب بين أصالة البحث وحداثته، بأمانة العزو، وحسن العرض والمناقشة والترجيح، بعبارة جزلة وأسلوب سهل، وتلخيص محكم، وتفصيل مرتّب، يساعد القارئ على حسن الفهم والاستيعاب. جزى الله المؤلف خير الجزاء الأستاذ الدكتور محمد عجاج الخطيب رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الإمارات العربية المتحدة وعميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالشارقة حاليا

تمهيد

تمهيد نقصد بعلوم القرآن- كفنّ مدوّن- المباحث التي تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وإعجازه، وجمعه وترتيبه، وناسخه ومنسوخه، وقراءاته ونحو ذلك من الموضوعات التي كانت معروفة للصحابة وإن لم تكن مدونة مكتوبة إنما مسلكهم في تحصيلها الفهم السديد، أو تذوق بيان القرآن وإعجازه، كل هذا كان سليقة وذكاء في القريحة وبتوجيه وبإرشاد من رسولهم الكريم عليه السلام. ثم جاء التابعون وبقيت العلوم تؤخذ بالرواية والتلقين لا بالكتابة والتدوين، حتى كانت بداية التدوين لجزء من علوم القرآن، فقام أمثال سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ليدونوا لنا الروايات التفسيرية المروية عن الصحابة وكبار التابعين، وبذلك كانت أول حركة لتدوين علوم التفسير، ثم جاء الفراء المتوفى سنة 207 هـ فدوّن كتابه معاني القرآن، ويحيى بن سلام ومحمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ وقد دوّن في مقدمة تفسيره أبحاثا في علوم القرآن كبحث الأحرف السبعة، وتوالت بعده كتب التفسير بالمأثور والمعقول والجمع بينها. هذا ما يتعلق بعلوم التفسير أما ما يطلق عليه علوم القرآن، فلم يتناول أحد تدوين هذا العلم ككلّ بل شرحوا أبعاضه وأجزاءه، فعلي ابن المديني شيخ الإمام البخاري (المتوفى في سنة 234 هـ) كتب في أسباب نزول القرآن، وأبو عبيد بن سلّام (المتوفى سنة 224 هـ) كتب الناسخ والمنسوخ، ومن كتّاب علوم القرآن في القرن الرابع الهجري، أبو بكر السّجستاني الذي ألّف في غريب القرآن، وفي القرن الخامس علي بن سعيد الحوفي الذي ألّف في إعراب القرآن. وفي السادس كتب السهيلي في مبهمات القرآن، ثم انهالت التآليف في كلّ فنّ، كالقراءات، وأسباب النزول، والإعجاز، والأمثال، والقرآن وحججه وجدله. ويرى الشيخ الزرقاني أن أول عهد لظهور هذا الاصطلاح هو القرن الرابع الهجري إذ كتب علي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي المتوفى سنة 430 هـ كتابه

بين البرهان والإتقان في علوم القرآن

«البرهان في علوم القرآن»،- وهو بالطبع غير كتاب الزركشي- والموجود منه حاليا خمسة عشر جزءا، ويبدو من طريقته أنه كتاب تفسير، وإن تعرض من خلال تفسيره إلى شذرات في علوم القرآن، التي يظنّ أنه قد تعرض لها بإسهاب في المقدّمة المفقودة من تفسيره مع الأجزاء الخمسة عشر الأولى، ولم يبق بأيدينا إلّا النصف الآخر من الكتاب. وفي القرن السادس كتب ابن الجوزي كتابه «فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن» الذي وصفه السيوطي (بأنه لم يقرأ مثله ولا قريبا منه)، وهو موجود في دار الكتب المصرية وهو كتاب صغير الحجم، فيه مباحث بسيطة كعدّ كلمات القرآن وحروفه، والكتاب قد حققه محمد إبراهيم سليم ونشرته مكتبة السباعي بالرياض. وأرجح أن الذي وصفه لنا السيوطي ما زال مفقودا. وفي القرن السابع ألف علم الدين السخاوي المتوفى سنة 641 هـ كتابه «جمال القراء» وقد حققه زميلنا عبد الكريم الزبيدي ونشر في بيروت. وجاء القرن الثامن فكان كتاب «البرهان في علوم القرآن» للإمام الزركشي ت «794 هـ» وهو من خير كتب علوم القرآن، وكتابه يقع في أربعة مجلدات، وتلاه في القرن الثامن محمد بن سليمان الكافيجي المتوفى سنة 873 هـ غير أن كتابه كما قال السيوطي: (لم يشف غليلا، ولم يهد إلى المقصود سبيلا). وتلاه جلال الدين البلقيني، وكتابه «مواقع العلوم من مواقع النجوم» وقد ضمنه السيوطي المتوفى 911 هـ في كتابه «التحبير في علوم التفسير». وألف كتابه القيم «الإتقان في علوم القرآن» الذي يعتبر عمدة في بابه. بين البرهان والإتقان في علوم القرآن : هذان كتابان من خير الكتب وأوسعها في علوم القرآن، أما البرهان للزركشي فهو السابق للإتقان. وهذا الكتاب يتناول الموضوعات تناولا موسعا شافيا وافيا. وأفاد منه السيوطي كثيرا، وقد استوفى جميع أبوابه وأنواعه ولكنه أوجزها وأضاف إليها أنواعا أخرى وجعلها ثمانين نوعا. وكتابه يعوزه التحقيق الذي يقوم به

حاليا قسم التفسير بجامعة الأزهر، وقد أشرف الأستاذ الدكتور إبراهيم خليفة رئيس القسم على رسالة في تحقيق جزء منه، وهو مزمع على إكماله إن شاء الله. وأخيرا فإن كتب علوم القرآن في هذا العصر كثيرة جدا فلا تخلو كلية من كليات الشريعة وأصول الدين من كتاب يؤلفه مدرسو المادة منفردين أو مجتمعين، وأشهر الكتب «مناهل العرفان في علوم القرآن» للشيخ الزرقاني وهو أوسع هذه الكتب انتشارا مع ما فيه من إعواز إلى التمحيص في كثير من القضايا، ومن هذه الكتب وأكملها قيمة «كتاب البيان في علوم القرآن» للشيخ عبد الوهاب غزلان ولكنه قاصر على بعض الأبحاث كجمع القرآن الذي نال عنايته. ومن أقدم كتب علوم القرآن في بلاد الشام ما ألفه الشيخ د. صبحي الصالح «مباحث في علوم القرآن»، كما ألف الأستاذ الدكتور عدنان زرزور كتابه القيم «علوم القرآن». كما كتب الدكتور إبراهيم خليفة كتابه «منّة المنان في علوم القرآن» و «الوحي» وما زال يكتب في هذا المجال.

الفصل الأول القرآن الكريم

الفصل الأول القرآن الكريم المبحث الأول: معناه. المبحث الثاني: أسماؤه. المبحث الثالث: لغة القرآن. المبحث الرابع: إعجاز القرآن. المبحث الخامس: الترجمة. المبحث السادس: القصة في القرآن.

المبحث الأول تعريف القرآن لغة وشرعا

المبحث الأول تعريف القرآن لغة وشرعا 1 - المعنى اللغوي: أ- يرى بعض علماء اللغة أن كلمة (القرآن) هي مصدر على وزن (فعلان) كالغفران والرجحان والشكران، فهو مهموز اللام من قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، بمعنى تلا يتلو تلاوة، ثم نقل في عرف الشرع من هذا المعنى وجعل علما على مقروء معين، وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر، وقد ورد بهذا المعنى في قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 16 - 18]. وقد روى الشيخان رضي الله عنهما في سبب نزولها ما يفيد هذا المعنى، عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعالج من التنزيل شدّة، فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه، يريد أن يحفظه فأنزل الله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ .. الآية». فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق، وفي لفظ «استمع» فإذا ذهب قرأه كما وعده الله (¬1). فهذا الأثر عن ابن عباس يدل بجلاء ووضوح على المعنى المذكور. وقد روعي في تسميته قرآنا كونه متلوّا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابا كونه مدونا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري. كتاب بدء الوحي. باب كيف كان بدء الوحي ح (5)، ومسلم في صحيحه. كتاب الصلاة، باب الاستماع للقراءة 1/ 330، ح (448) (148). (¬2) النبأ العظيم. لمحمد عبد الله دراز، ص 12، دار القلم- الكويت.

2 - المعنى الشرعي:

ب- وذهب الشافعي ورجح قوله السيوطي إلى أن (القرآن) علم غير مشتق فهو اسم لكتاب الله مثل سائر الكتب السماوية (¬1). 2 - المعنى الشرعي: لقد عرّف علماء الأصول والكلام القرآن بتعريفات كثيرة، وأحسن هذه التعاريف وأقومها قول القائل إنّ القرآن (هو كلام الله المعجز المنزّل على محمد صلّى الله عليه وسلّم المنقول تواترا والمتعبد به تلاوة). فكلام الله المعجز، قد أخرج كلام غير الله، فهو ليس بكلام إنس ولا جنّ ولا ملائكة ولا نبيّ أو رسول، فلا يدخل فيه الحديث القدسيّ ولا الحديث النبويّ. وخرج بقيد- المنزّل على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم- الكتب المنزلة على الرسل من قبله كصحف إبراهيم، والتوراة المنزّلة على موسى، والإنجيل المنزّل على عيسى عليهم السلام. أما القيد- المنقول تواترا- فقد أخرج به كلّ ما قيل إنه قرآن ولم يتواتر، مثل القراءات الشاذة غير المتواترة فإنها رويت على أنها من القرآن إلّا أن نقلها آحادا قد جعلها غير معتبرة، فلا يعتبر من القرآن قراءة ابن مسعود: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات (¬2)، فقد زاد (متتابعات)، ولا قراءته كذلك: (وآتيتم إحداهنّ قنطارا «من ذهب» فلا تأخذوا منه شيئا) بزيادة (من ذهب) (¬3)، أو قراءة ابن عباس: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربّكم «في مواسم الحجّ») (¬4) بزيادة (في مواسم الحج) ولا ¬

_ (¬1) الإتقان في علوم القرآن، 1/ 51. (¬2) النظر الإتقان في علوم القرآن، تحت عنوان: القراءات، وكذلك كتب التفسير في سورة المائدة آية 89. (¬3) انظر تفسير ابن كثير لسورة النساء، الآية 20، 1/ 467. (¬4) انظر الإتقان. تحت بحث القراءات، 1/ 83، وانظر الآية 198 من سورة البقرة.

قراءة من قرأ (والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما) (¬1) بدل أيديهما، فما زيد أو بدّل في هذه القراءات وأمثالها لا يصحّ اعتبارها قرآنا حتى ولا حديثا نبويا لأنّها نسبت إلى قارئها فلا يعدو اعتبارها أكثر من أنها تفسير أو رأي للمثبت لها. أما القيد الأخير- المتعبد به تلاوة- فقد خرج به الحديث القدسي فإنه وإن كان منسوبا إلى الله إلّا أنه غير متعبد بتلاوته كما سنبينه بعد. ¬

_ (¬1) الدر المصون 2/ 523.

المبحث الثاني أسماء القرآن

المبحث الثاني أسماء القرآن صنف أحد العلماء في أسمائه جزءا وذكر نيفا وتسعين اسما وذكر بعضهم أقل من ذلك، قال القاضي أبو المعالي رحمه الله: اعلم أن الله تعالى سمّى القرآن بخمسة وخمسين اسما، وقد ذكر صاحبا البرهان والإتقان وجوها للتسمية ومعانيها، أما الطبري فقد اكتفى بذكر أشهرها مبينا معانيها، من هذه الأسماء: 1 - سماه الله تعالى كتابا فقال: حم 1 تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية: 1 - 2]. والكتاب مصدر كتب يكتب كتابة، وأصلها الجمع، وسمّيت الكتابة لجمعها الحروف فاشتق الكتاب لذلك، لأنه يجمع أنواعا من القصص والأحكام والأخبار على أوجه مخصوصة. 2 - وسماه ذكرا فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9]. وذلك لما فيه من المواعظ والتحذير وأخبار الأمم الماضية، والذكر أيضا يأتي بمعنى الشّرف والفخر لمن آمن بالقرآن وصدّق بآياته، ومنه قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف: 44]، أي: شرف لك ولقومك 3 - وسمّاه فرقانا فقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1]. وذلك لأنه يفرّق بين الحقّ والباطل، والمؤمن والمنافق، والمسلم والكافر، وقيل: لأنه مفروق بعضه عن بعض في النّزول (¬1). أما ابن عباس فكان يقول: الفرقان المخرج. وقال آخرون: الفرقان هو الفرق بين الشيئين والفصل بينهما، وقد يكون ذلك بقضاء واستفتاء وإظهار حجّة وغير ذلك من المعاني المفرقة بين المحق والمبطل، ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 1/ 8.

الفرق بين القرآن والحديث القدسي:

والقرآن إنما سمي فرقانا لفصله بحجّته وأدلته وحدوده وفرائضه وسائر معاني حكمه بين المحق والمبطل، وفرقانه بينهما تبصرة المحق وتخذيله المبطل حكما وقضاء (¬1). 4 - وسماه التنزيل: وقد وردت بذلك آيات كثيرة: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 192 - 193]. وغيرها من الآيات، والتنزيل مصدر سمي به الكلام المنزل من عند الله على رسوله، وتسميته بذلك من قبيل تسمية المفعول بالمصدر، وهو من الأسماء الشائعة على ألسنة العلماء حيث يقولون: ورد في التنزيل، ويعنون القرآن. 5 - وأسماء أخرى، بل صفات كثيرة، منها (مبارك) كما ورد في قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ ... [ص: 29]. و (الحكيم) كما في قوله تعالى: يس 1 وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1 - 2]. و (المجيد) كما في قوله: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1]. وغيرها من الأسماء والصفات ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتابي البرهان والإتقان في علوم القرآن. الفرق بين القرآن والحديث القدسي: قد ينسب الحديث تارة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقال: حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد ينسب إلى القدس فيقال: الحديث القدسي (¬2)، والحديث كما عرّفه العلماء: هو ما نقل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير، فالأقوال التي تصدر عن النبيّ تعتبر من الأحاديث النبوية، فإذا ما نسبت إلى الله عزّ وجلّ سمّاها العلماء أحاديث قدسية، وذلك كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربّه عزّ وجلّ أنه قال: ¬

_ (¬1) التبيان في علوم القرآن ص 122. (¬2) أقدم الكتب في هذا الموضوع مشكاة الأنوار فيما يروى عن الله لمحيي الدين بن العربي والجامع الكبير، للسيوطي، وكذلك الجامع الصغير، وكتاب الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية لعبد الرءوف المناوي، وكتاب أدب الأحاديث القدسية لأحمد الشرباصي.

«يا عبادي: إنّي حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا. يا عبادي: كلّكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي: كلّكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي: كلكم عار إلّا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي: إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي: إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إيّاها فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه» رواه مسلم (¬1). ومثل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه: «أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه» (¬2). والمتأمل في نصوص الأحاديث القدسيّة، يلاحظ وحدة الأسلوب بينها وبين الأحاديث النبويّة، فكلها قد وقع بلفظ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، سواء أكان الحديث نبويّا أم قدسيّا فكلاهما في مرتبة واحدة، وإن كان الحديث القدسيّ منسوبا إلى الذات العلية (¬3). وأن هذه النسبة أيضا لا تجعله في مرتبة القرآن، بل إن بينهما فروقا نوجزها فيما يلي: 1 - أن القرآن الكريم- لفظا ومعنى- من الله عز وجل، أما الحديث القدسيّ فهو كالحديث النبويّ، حتى أجاز العلماء روايته بالمعنى، بخلاف القرآن، لأن روايته بالمعنى تحريف وتبديل له. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم. كتاب البر والصلة والآداب. باب تحريم الظلم 3/ 1994 ح (2577) (55). (¬2) صحيح البخاري. كتاب التوحيد. باب قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح: 15] ح (7505)، صحيح مسلم كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها 3/ 2102 ح (2675) (1)، سنن الترمذي. كتاب الدعوات 5/ 581 ح (3603). (¬3) يطلق بعض العلماء على الأحاديث القدسية الأحاديث الإلهية أو الربانية والكل معزوّ إلى الله أو إلى الربّ عزّ وجلّ.

2 - ولأن القرآن بلفظه ومعناه من الله فقد وقع به التحدي والإعجاز، أما الحديث القدسيّ فلم يقع به التحدي، فهو في ذلك كالحديث النبويّ سواء بسواء. 3 - أن القرآن متعبد بتلاوته فتالي القرآن مثاب على تلاوته عموما، وتلاوته في الصلاة ركن من أركانها فلا تتم الصلاة بغيره: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20]. وهذا بخلاف الحديث القدسي فإنه كالحديث النبويّ لو قرئ في الصلاة بطلت. 4 - كلّ آي القرآن الكريم- آية آية- متواترة، والأحاديث القدسيّة كالأحاديث النبويّة فيها القطعيّ الثبوت (¬1) وأكثرها ظنيّ في ثبوته. بعد كلّ هذا لا يخطرنّ على بالك، أو يدور في خلدك أن الحديث القدسي كالقرآن الكريم؛ لقول الراوي: قال صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه، أو روى الرسول عن ربه عز وجل، فإن هذه الشبهة مردودة وباطلة، وما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا إلّا ضرب من ضروب الأساليب العربية الشائعة الذائعة المستعملة في لسان العرب حين يقولون: كقول الشاعر في قصيدته كذا وكذا، ثم لا يذكرون بيت الشعر لفظا بل يوردون معانيه من غير مراعاة لحرفية الألفاظ ولا الأوزان والقوافي الشعرية، بل إن في القرآن الكريم خير شاهد على ما نقول، فقد قصّ الله عز وجل قصص الأنبياء وجدالهم مع قومهم، ولم يذكر عين ألفاظهم التي استعملوها، بل ذكر مضامينها ومعانيها، مصورا لنا مواقفهم بأفصح الألفاظ وأنصح البيان، قال تعالى في سورة نوح عليه السلام: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً 5 فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً 6 وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً 7 ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً 8 ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً 9 فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً 10 يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً [نوح: 5 - 11]. ¬

_ (¬1) من الأحاديث القدسية المتواترة: «من أذهبت حبيبته فصبر. واحتسب لم أرض له ثوابا إلا الجنة». رواه أربعة عشر صحابيا. نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص 77 لمحمد بن جعفر الكتاني.

فهل هذه الألفاظ القرآنية هي الألفاظ عينها التي قالها نوح عليه السلام؟ أم هي مضمون ومعنى ما قاله وقالوه ... ؟ وهل حين قصّ الله عن غيره من الرسل قصصا هي ألفاظهم عينها؟. اللهم لا لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4]. لقد حكى الله تعالى عن موسى وفرعون وغيرهما مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم، وأسلوب غير أسلوبهم ونسب ذلك لهم (¬1). ¬

_ (¬1) النبأ العظيم، ص 16.

المبحث الثالث لغة القرآن

المبحث الثالث لغة القرآن إن الترابط بين القرآن واللغة ترابط شديد الصّلة، بل ارتباط الصّفة بالموصوف التي لا تنفك عنه بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 196]. فلا غرو إذا قلنا: إن التهجم على اللغة العربية هو تهجم على القرآن، والنيل من اللغة هو نيل من القرآن، والمحاولات والمعاول التي تهدم لغتنا إنما هي معاول هدم لقرآننا وكياننا كلّه. وقد طالعنا طالع سوء من المحدثين يزعم «أن القرآن قد حوى في آياته ألفاظا أعجمية، فهو أعجمي مزيج من لغات شتى ... ». هذا الزعم والادعاء في واقعه ليس بجديد، بل هو دعوى قديمة دحضها القرآن الكريم، واصفا إياها بأنها منطق الذين يلحدن في القرآن، فملحدوا اليوم هم ببغاوات لملحدي الأمس، لذا كان لزاما على من يحمل في جعبته سهاما أن يرميهم بسهمه، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم، وسنحاول بعون الله تعالى أن نعرض لهذه القضية القديمة الحديثة في آن واحد، وأن نرد عليهم بأدلة قاطعة، وبراهين ساطعة، وأن نبين زيف هذه الأفكار الغاشمة وأن نتناول فيه جانبا من الجوانب التي تعنينا في علوم القرآن تاركين الجوانب الأخرى لمن هو أهل لها. هذا الجانب يتناول قضية احتواء القرآن لألفاظ معرّبة عن أصول أعجمية، وهي قضية استحوذت على علمائنا الأقدمين والمحدثين على حدّ سواء، وكانت مثار اهتمامهم، فتعددت فيها الآراء وتضاربت فيها المذاهب ما بين مثبت وناف، والمثبتون قد اختلفوا في حصر هذه الكلمات بين مكثر ومقلّ، فقد حصرها الإمام الغزالي في كلمتين أو ثلاث، وحصرها تاج الدين السبكي بسبعة وعشرين لفظا ونظمها شعرا، وزادها الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني أربعة وعشرين لفظا ونظمها شعرا أيضا، كما زادها الإمام السيوطي بضعة وستين لفظا فتمت أكثر من مائة لفظ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان في علوم القرآن والمتوكلي ومقدمة تفسير ابن جرير ص 3.

وسنرى فيما بعد القول الحقّ في حقيقة هذا الحصر الادعائي. وقبل أن نخوض في مذاهب العلماء في وقوع المعرب في القرآن، هاك بعض هذه الألفاظ: سئل ابن عباس عن قوله تعالى: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر: 51] قال: هو بالعربية الأسد، وبالفارسية جاد، وبالقبطية أريا، وبالحبشية قسورة، وحين سئل ابن عباس عن معنى قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: 2] قال: حوبا بلغة الحبشة، وبالعربية إثما. وعن ابن مسعود أنه فسر لفظ ناشئة في قوله تعالى من سورة المزمل: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] قال: الناشئة هي بالحبشية، وبالعربية قيام الليل، وبما روي عن مجاهد أنه فسر القسط في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] قال: إن القسط بالرومية وبالعربية العدل. وقد أورد السيوطي ما في القرآن عن بعض الألسن، فمما ورد بلسان الحبشة، الأرائك بمعنى السّرر، وأوّاه: المؤمن بمعنى الرحيم، وطوبى اسم للجنة. وبلسان العبرية: مرقوم بمعنى مكتوب، وراعنا وهي كلمة سبّ عند اليهود. وبلسان الروم: فصرهنّ، أي: قطعهن، وطفقا، أي: قصدا، والفردوس بمعنى البستان. وبلسان الفرس: سجيل عن مجاهد: سجيل أولها حجارة وآخرها طين، وسرادق بمعنى الدهليز، والسندس بمعنى دقيق الديباج. وبالنبطية: بأيدي سفرة، أي: بأيدي القراء. وبالسريانية: أسفار بمعنى الكتب، وكلمة شهر ذكر بعض أهل اللغة أنها سريانية كذلك (¬1). وبعد: فهذه كلمات وألفاظ قرآنية قلّت أو كثرت جرى فيها خلاف في ثلاثة آراء نسوقها إليك مع المناقشة والترجيح في نهاية المطاف. ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير ص 6 - 7.

الفريق الأول: وعلى رأسهم الإمام الشافعي الذي شدد النكير على القائلين إن في هذا القرآن غير لغة العرب فأخذ يقيم الحجة بأن القرآن كله عربي، لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]. وقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3]. وقوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195]. يقول الشافعي في رسالته: ومن جماع علم كتاب الله العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب .. فالواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب إلى السلامة له إن شاء الله. فقال قائل منهم: إن في القرآن عربيا وأعجميا، والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه تقليدا له، وتركا للمسألة عن حجّته ومسألة غيره ممن خالفه، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم، ولعلّ من قال: إن في القرآن غير لسان العرب وقبل ذلك منه، ذهب إلى أن من القرآن خاصّا يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيّ، ولكنه لا يذهب منه شيء، على عامتها حتى يكون موجودا فيها من يعرفه، والعلم به عند العرب، كالعلم بالسّنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلا جمع السّنن فلم يذهب منها شيء، فإذا جمع علم عامّة أهل العلم بها أتى على السّنن، وإذا فرق علم كل واحد منهم، ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره (¬1). وأما الطبري فقد قال: إن الذي قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا، من أجل أنهم لم يقولوا: هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاما، ولا كان ذاك ¬

_ (¬1) الرسالة للشافعي، تحقيق أحمد شاكر. ص 41 - 43.

لها منطقا قبل نزول القرآن، ولا كانت بها العرب عارفة قبل مجيء الفرقان، فيكون ذلك قولا لقولنا خلافا، وإنما قال بعضهم: حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا. ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد، فكيف بجنسين منها؟ كما قد وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم، والدينار والدواة، والقلم والقرطاس، وغير ذلك مما يتعب إحصاؤه ويملّ تعداده، لذا كرهنا إطالة الكتابة بذكره، مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى، ولعلّ ذلك كذلك في سائر الألسن التي نجهل منطقها ولا نعرف كلامها. فلو أن قائلا قال- فيما ذكرنا من الأشياء التي عددنا وأخبرنا اتفاقه في اللفظ والمعنى بالفارسية والعربية وما أشبه ذلك، مما سكتنا عن ذكره-: كلّه فارسي لا عربي، أو ذلك كلّه عربي لا فارسي، أو قال: بعضه عربي وبعضه فارسي، أو قال: كان مخرج أصله من عند العرب، فوقع إلى العجم فنطقوا به، أو قال: كان مخرج أصله من عند الفرس فوقع إلى العرب فأعربته، كان مستجهلا، لأن العرب ليست بأولى أن تقول: كان مخرج أصل ذلك منها إلى العجم. ولا العجم بأحق أن تقول: كان مخرج أصل ذلك منها إلى العرب، إذا كان استعمال ذلك بلفظ واحد ومعنى واحد موجودا في الجنسين .. ثم قال: وهذا المعنى الذي قلناه في ذلك هو معنى قول من قال: في القرآن من كل لسان، عندنا بمعنى: أن فيه من كلّ لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرهم من الأمم التي تنطق به نظير ما وضعنا من القول فيما مضى، وذلك أنه غير جائز أن يتوهّم على ذي فطرة صحيحة، مقرّ بكتاب الله، ممن قرأ القرآن وعرف حدود الله، أن يعتقد أنّ بعض القرآن فارسيّ لا عربيّ، وبعضه حبشيّ لا عربيّ بعد ما أخبر الله تعالى أنه جعله قرآنا عربيا (¬1). وقد ذهب فخر الدين الرازيّ المفسّر، والعالم اللغويّ ابن فارس إلى هذا الرأي وأطال الاستشهاد على صحة هذا القول، ومما قاله: «لو كان في القرآن الكريم من ¬

_ (¬1) جامع البيان ص 1/ 7 - 8.

غير لغة العرب شيء لتوهّم متوهّم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان مثله، لأنه أتى بلغات لا يعرفونها (¬1). هذه أدلة الإمام الشافعي ومن معه، ويجدر بالذكر أن هذا الفريق وإن كان يقول: إن جميع ألفاظ القرآن عربية إلا أنه لا ينكر موافقة لسان العرب للسان العجم كما يقول الشافعي، ولا ينكر إذا كان اللفظ قيل تعلما أو نطق به موضوعا، أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلا من لسان العرب، كما يتفق القليل من ألسنة الأعاجم المتباينة في أكثر كلامها مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه (¬2). ويمثل أبو عبيد على ذلك بالمثال التطبيقي فيقول: «وقد يوافق اللفظ اللفظ ويفارقه ومعناهما واحد، أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها، فمن ذلك الإستبرق بالعربية، وهو الغليظ من الديباج، وهو استبره بالفارسية» ثم ختم أبو عبيد كلامه بقوله: «من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم القول» (¬3). يقول أبو بكر الباقلاني: القرآن عربي لا عجمة فيه، فكل كلمة في القرآن استعملها أهل لغة أخرى فيكون أصلها عربيا إنما غيّرها غيرهم تغييرا ما، كما غيّر العبرانيون فقالوا: للإله، لاهوت، وللناسك: ناسوت. أما الفريق الثاني فهو فريق المتساهلين، الذين حكموا بأن القرآن شامل لجميع لغات العالم في زمنهم، استنادا لقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] فالآية حسب زعمهم شاملة وعامّة، لذا قالوا: إن القرآن فيه من كلّ لهجة عربية بل باللغات الشائعة في زمن نزوله ... كالفارسية والرومية والعبرية، لذا فقد تساهلوا وتوسعوا في الألفاظ الوافدة التي استعملها القرآن الكريم ظنّا منهم أنها مزية من مزاياه في عدم التفريط بشموليته لسائر اللهجات واللغات. قال الثعلبي: إنه ليس لغة في الدنيا إلا وهي في القرآن. ¬

_ (¬1) انظر الصاحبي لابن فارس ص 46، والإتقان 178. (¬2) الرسالة للإمام الشافعي ص 44 - 45. (¬3) الصاحبي ص 43 - 44.

ويرى أن وقوع هذه الألفاظ في القرآن إنما يدل على حكمة احتوائه لعلوم الأولين والآخرين، ومن ضمن ذلك إحاطته بجميع اللغات والألسن. مما تقدم يتبين لنا أن هناك خلافا بين الفريقين، هو خلاف حقيقيّ شكليّ، وعلي الرغم من وضوح حقيقة الخلاف إلا أبا عبيد القاسم بن سلّام قد صبغ الخلاف وفاقا. (قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (إنّ القرآن كلّه عربيّ، وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم في أحرف كثيرة من غير لسان العرب مثل: سجّيل ومشكاة واليم والطور وأباريق وإستبرق وغير ذلك، فهؤلاء أعلم بالتأويل من أبي عبيدة، ولكنهم ذهبوا إلى مذهب، وذهب هذا إلى غيره، وكلاهما مصيب إن شاء الله تعالى، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل، فقال أولئك على الأصل ثم لفظت به العرب بألسنتها، فعرّبته فصار عربيا بتعريبها إياه، فهي عربية في هذه الحال أعجمية الأصل) (¬1). وعلق الشيخ الزفزاف فقال: (وهذا الرأي الذي ذكره أبو عبيد، إنما أراد به أن يجعل الخلاف بين الفريقين السابقين لفظيا. والذي يظهر لي أنه ليس كذلك، لأن الإمام الشافعي ومن معه لم يكونوا يجهلون أن العرب إذا تكملت اللفظ الأعجمي يصبح عربيا، ولكنهم كانوا يرون أن القطع بأن هذه الألفاظ أعجمية الأصل لا سبيل إليه. كما يفهم ذلك من القرآن وكما يفهم من كلام القاضي أبي بكر الباقلاني، وهم يرون غلق هذا الباب) (¬2). ثم استدل هذا الفريق أولا: بالآية القرآنية وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4]. ووجه الدلالة في الآية أنّ كلّ رسول مرسل إلى قومه، فيتحدّث بلسانهم والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسل إلى كلّ الأمم فلا بد أن يكون في الكتاب المبعوث إليهم من لسان كلّ قوم إن كان أصله بلغة قومه هو. ¬

_ (¬1) المعرب للجواليقي ص 53. (¬2) القرآن والحديث للشيخ الزفزاف.

ثانيا: ورد في القرآن الكريم أعلام أعجمية وهي كما يقول علماء النحو ممنوعة من الصرف، وعلة ذلك العلمية والعجمة، وإذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس. ثالثا: أما الدليل الأخير فهو القياس كما ذكره ابن جني «إن ما قيس على كلام العرب. فهو من كلام العرب» (¬1). الفريق الثالث: وهو الوسط بين الفريقين فليس بمبالغ ولا متساهل، ذلك أنه أثبت وجود كلمة أعجمية، ولكنها لما عرّبت، أصبحت عربية، فوصف القرآن بأنه عربيّ صحيح، لأن المعرب كالعربي سواء بسواء، وبهذا القول يكون قد وافق فريق المتساهلين، ولكنه يخالفه في الإفراط بالكم من هذه الكلمات إلى درجة إثبات أن القرآن فيه كل اللغات واللهجات، أو على حد تعبيرهم في القرآن من كلّ لسان عربي. أما وجه مخالفة الفريق الثالث للفريق الأول: فإن العرب في جاهليتهم قد استعملوا كلمات أعجمية، ولكنه لاكوها بألسنتهم وأخضعوها لتفعيلاتهم، فأصبحت معربة، فامرؤ القيس استعمل لفظة السجنجل في معلقته المشهورة: مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسّجنجل والسجنجل بمعنى المرآة وهي لفظة معربة (¬2) لم يستعملها العرب من قبل، والتعريب في هذه الألفاظ لا يكون بأخذها كما وردت عن الأعاجم، بل لا بدّ من صياغتها على تفعيلة من التفعيلات العربية، كأفعل وفعل وفاعل وافتعل واستفعل وغيرها، فإن وافقتها أخذ بها. وإلا أنقص أو بدّل حرف منها حتى توافق أوزان التفعيلات، فالتعريب هو صوغ الكلمة الأعجمية صياغة جديدة بالوزن والحروف العربية، وبهذا دخلت الألفاظ الأعجمية إلى اللغة العربية، ولكنها أصبحت عربية حين لاكتها العرب بألسنتها، نعم إننا لا نستطيع أن نجزم أن جميع الألفاظ التي ¬

_ (¬1) الخصائص ج 1، ص 357. (¬2) انظر شرح المعلقات السبع للزوزني.

أوردها بعض العلماء هي ألفاظ أعجمية في الأصل، لأن القطع بهذا يحتاج إلى تتبع اللفظ والتنقلات التي اعتورته حتى نصل إلى منشئه الأصلي. هذا أولا. ثانيا: إن الفريق الأول الذي استدل على عربية القرآن، وأنه ليس فيه كلمة معربة بمعنى أن أصلها أعجمي، ثم نقلت إلى العربية، قد خالفوا سنة التأثير والتأثر بين اللغات، وحكموا أن اللغة العربية قد أثرت في اللغات الأخرى على الدوام والاستمرار، فقد أثرت ولم تتأثر، وأقرضت ولم تستقرض، ويعللون هذه الظاهرة بأحد أمرين كما يقول الشيخ أحمد شاكر (¬1): أولهما: أن العرب من أقدم الأمم، ولغتها من أقدم اللغات وجودا، كانت قبل إبراهيم وإسماعيل، وقبل الكلدانية (¬2) والعبرية (¬3) والسريانية (¬4)، وغيرها، بله الفارسية. وقد ذهب منها الشيء الكثير بذهاب مدنيتهم الأولى قبل التاريخ، فلعل الألفاظ القرآنية، التي يظنّ أن أصلها ليس من لسان العرب، لا يعرف مصدر اشتقاقها، لعلها من بعض ما فقد أصله وبقي الحرف وحده. ثانيهما: اتساع اللغة العربية: يقول الإمام الشافعي: ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي (¬5). ولذا وجدنا ابن عباس، مع علمه الواسع، يخفى عليه معنى «فاطر» فروي عنه أنه قال: «كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أي: بدأتها» (¬6). ¬

_ (¬1) انظر تقديم أحمد شاكر لكتاب الرسالة. (¬2) الكلدانية نسبة إلى الكلدانيين بالضم وهم طائفة من عبدة الكواكب. تاج العروس 2/ 486. (¬3) العبرية والعبرانية لغة اليهود. لسان العرب: عبر. (¬4) السريانية: لغة سواد العراق. المعرب 60. (¬5) الرسالة للإمام الشافعي. (¬6) تفسير ابن كثير لمطلع سورة فاطر.

المناقشة والرد والنقض لهذه الأدلة:

ونظرا لاتساع اللغة العربية فقد رأوا أنها المصدر لتلك اللغات، أو المؤثر والمقرض لتلك اللغات، فقد أعطت ولم تأخذ، وأثّرت ولم تتأثر، وأقرضت ولم تقترض .. إلخ. المناقشة والرد والنقض لهذه الأدلة: 1 - إن قضية أقدمية اللغة العربية غير مسلم بها، والنظريات في الأقدميات لم تستقر على حال، وهي أدلة ظنية، وهناك كلام طويل في لغة آدم عليه السلام، وكلام طويل في توقيفية اللغة ووضعها من البشر، والخلاف في هذه القضية طويل وعريض. ولكن من المسلم به أن اللغات قد عايش بعضها بعضها، واحتك البشر بالبشر فجريا على سنة التأثير والتأثر، جرى الإقراض والاقتراض، واللغة العربية لم تخرج عن هذه السنة، وليست لغة بأولى من لغة في هذه السنة. 2 - أما القول بأن اللغة العربية من أوسع اللغات فلا يحتم ذلك أن تكون دوما هي المؤثر الذي لا يتأثر، والمقرض الذي لا يقترض. مجمل القول أن أقدمية اللغة وسعتها لا تمنعان شيئا مما قلناه، وأقصى ما يمكن قوله: إنها اللغة الأكثر تأثيرا وإقراضا، وهذا الأمر هو الصواب. 3 - أما القول: بأن ابن عباس قد خفي عليه معنى فاطر، فلا ينهض دليلا على ما يقولون؛ لأن خفاء المعاني على العلماء لا يدلّ على سلب أو إيجاب في هذا المقام. وبعد: فيظهر مما تقدم أن القول الراجح هو رأي الفريق الثالث، وهو قول ترجمان القرآن ابن عباس الذي دعا له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ووافقه تلميذه مجاهد وعكرمة، فهم أعلم بالتأويل كما يقول أبو عبيد مخالفا شيخه أبا عبيدة. «فهؤلاء أعلم بالتأويل من أبي عبيدة» (¬1) وقد رويت عنهم أقوال في بيان الأصل الأعجمي لبعض الألفاظ القرآنية، وهذا غير مانع من وضعها بالعربية لأن تعريب ¬

_ (¬1) المعرب للجواليقي ص 53، والمهذب للسيوطي ص 18.

العرب لها جعلها عربية، فهي أعجمية في الابتداء، عربية في الانتهاء، وكما يقول ابن جني: فما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم. قال ابن عطية: فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية. لكن استعملتها العرب وعربتها، فهي عربية بهذا الوجه، فقد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات، وبرحلتي قريش، كسفر «مسافر ابن أبي عمرو» إلى الشام، وكسفر «عمر بن الخطاب» وكسفر «عمرو بن العاص» و «عمارة بن الوليد» إلى أرض الحبشة، وكسفر «الأعشى» إلى الحيرة، وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة، فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيّرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الصحيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحدّ نزل بها القرآن، ثم تابع ابن عطية حديثه فقال ردّا على الطبري: «وما ذهب إليه الطبري رحمه الله من أن اللغتين اتفقتا لفظة لفظة بذلك بعيد، بل إحداهما أصل والأخرى فرع، وليس بأولى من العكس .. » (¬1). إن هذا القول لا يقلل من شأن عربية القرآن لا من قريب ولا من بعيد، بل يدل على مرونتها واتساعها لما هو مستحدث وجديد، وكما قيل، ولنا أن نضيف إليها كلمات لم تكن مستعملة من قبل، ولقد أضاف لها العرب في جاهليتهم وإسلامهم، وصبوا ذلك في قوالبهم، وأصبحت الألفاظ المعرّبة عربية فصيحة. يقول السيوطي: وقد رأيت الجويني ذكر لوقوع المعرّب في القرآن فائدة أخرى فقال: إن قيل: إنّ (إستبرق) ليس بعربي، وغير العربي من الألفاظ دون العربي في الفصاحة والبلاغة، فنقول: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذه اللفظة ويأتوا بلفظة تقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك. فمثلا كلمة (إستبرق) إن أراد الفصيح أن يترك هذا اللفظ ويأتي بلفظ آخر لم يمكنه، لأن ما يقوم مقامه إما لفظ واحد أو ألفاظ متعددة، ولا يجد العربي لفظا واحدا يدلّ عليه، لأن الثياب من ¬

_ (¬1) مقدمة المهذب ص 15 - 18 بتصرف، وقوع المعرب في القرآن للأستاذ محمد السيد.

الحرير عرفها العرب من الفرس، ولم يكن لهم بها عهد، ولا وضع في اللغة العربية للديباج الثخين اسم، وإنما عرّبوا ما سمعوا من العجم، واستغنوا عن الوضع؛ لقلة وجوده عندهم وندرة تلفظهم به. أما إن ذكره بلفظين فأكثر، فإنه يكون قد أخلّ بالبلاغة، لأن ذكر لفظين لمعنى يمكن ذكره بلفظ، هو تطويل، فعلم بهذا أن لفظ (إستبرق) يجب على كلّ فصيح أن يتكلم به في موضعه ولا يجد ما يقوم مقامه، وأيّ فصاحة أبلغ من ألا يوجد غيره مثله؟ (¬1). ويؤكد الرافعيّ هذه الحقيقة إذ يقول: ولذا قال العلماء في تلك الألفاظ المعربة التي اختلطت بالقرآن: إن بلاغتها في نفسها أنه لا يوجد غيرها يغني عنها في مواقعها من نظم الآيات، لا إفرادا ولا تركيبا (¬2). وهو قول يحسن ذكره بعد الذي بيناه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق 231 وقارن ب: البرهان: للزركشي. (¬2) إعجاز القرآن والبلاغة العربية ص 72 - 73.

المبحث الرابع إعجاز القرآن

المبحث الرابع إعجاز القرآن لكلّ رسول معجزة كدليل على نبوّته ورسالته، وأنه مرسل من قبل ربّه، إذ دون ذلك لا تقع حجة الله على الخلق بالإيمان برسله، فمهما سمت أخلاق الرسول وعلت همته، وجادت قريحته، وتوقد ذهنه، وإن اقتعد المكانة الأولى في قومه، فإن كلّ هذا لا يكفي دليلا على أنه مرسل من قبل الله، فلا يمكن للعقل أن يصدّق ويذعن ويعترف بأن هذا رسول إلّا بما يظهره الله على يديه من معجزات، فيخرق له السّنن الكونية، أسبابا ومسببات، إذ المعجزة هي الأمر الخارق للعادة، وهي خارجة عن الأسباب المعروفة، هادمة للنتائج المبتناة على المقدمات، فالنار مثلا حارقة عادة، ولكنها أصبحت بردا وسلاما على سيدنا إبراهيم، فالذي جعلها حارقة على وفق السّنن والقوانين التي نعرفها هو الذي جعلها تكون بردا وسلاما، فكانت بذلك معجزة لإبراهيم عليه السلام ودليلا على نبوته. والمقصود من المعجزة: ليس هو إعجاز الناس لذات الإعجاز، أي لمجرد إيقاعهم في العجز عن الإتيان بمثل المعجزة، بل المقصود: هو الإذعان والإيمان بصاحبها أنه رسول من قبل خالق هذه السنن وهو الله تعالى. لذا فإن الله تعالى قد بعث كلّ رسول إلى قومه، وأظهر على يديه المعجزات التي من شأنها أن تجعل قومه يدركون إدراكا يرفع عنهم كلّ لبس وغموض، أن هذا رسول من عند الله، وليس بمدّع عليه، لذا كانت معجزات كلّ نبيّ ورسول نابعة من بيئته، ومتناسبة مع أحوال قومه، فتأتيهم على وفق ما برعوا فيه حتى يكون ذلك أدعى لإيمانهم، ولإقامة الحجة عليهم، لأن المعجزة لا تحقق الغاية منها إلّا إذا حصل التحدي بها، ولا يتحقق التحدي لأمة من الأمم وهي لا تعرف شيئا عن المتحدّى به. وإن المتتبع لآيات القرآن الكريم، والمتدبر لآياته التي تتحدث عن المعجزات بوجه عامّ لتبرز له كل هذه المعاني التي أشرنا إليها.

فهناك معجزة موسى عليه السلام التي كانت في عصاه، وهي تتلاءم مع قوم برعوا في السّحر، إذ احترفوا السحر حرفة، ويدلنا على معرفة قومه بالسحر، تلك الآيات القرآنية التي تحدثت عن فرعون ودعوته للسحرة في زمنه: وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ [يونس: 79]. وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ 111 يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ [الأعراف: 111 - 112]. وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشعراء: 36 - 37]. واستجاب له السحرة وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ [الأعراف: 113]. لقد وردت مشتقات كلمة سحر، فوردت كلمة ساحر (إفرادا)، والسحرة (جمعا)، ووردت بصيغة اسم الفاعل (ساحر)، واسم الفاعل الموصوف (ساحر عليم)، ووردت بصيغة المبالغة على وزن فعّال (سحّار)، كلّ هذا يشعرنا بما عليه القوم من علم بالسّحر وفنونه، وقوم هذا شأنهم أهل للتحدي الكبير في هذا المجال، وجعلت لهم المكافأة العظمى إن كانوا غالبين. وأيّة مكافأة أعظم من أن يكونوا من المقربين ... من الطاغوت العظيم إلههم فرعون ... لقد استجمعت جميع عناصر التحدي: قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ 115 قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ 116 وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ 117 فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 118 فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ 119 وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ 120 قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ 121 رَبِّ مُوسى وَهارُونَ 122 قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 123 لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ 124 قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الأعراف: 115 - 125]. وهكذا وقع التحدي، وانتهى بإيمان السّحرة أجمعين بالله رب العالمين. وقل مثل ذلك في معجزة عيسى عليه السلام، حين برع قومه في الطب، فجعل المعجزة من جنس ما عرفوا وبرعوا فيه، جعل الله على يد عيسى إحياء الموتى قبل

دفنهم أو بعده، وجعل مسحة من يديه تردّ الأعمى بصيرا، وتبرئ الأكمه والأبرص ويكون سليما، وأية معجزة أعظم من إحياء الموتى، وأعلم الناس إدراكا لهذه المعجزة هم أولئك الذين يعرفون الطّبّ وعلومه، وهم أقدر الناس على التمييز بين إحياء حقيقي أو إحياء مزعوم موهوم، قادرون على معرفة الفارق بين حياة حقيقية بعد موت محقق، أو إغفاءة نتيجة سكرات المرض ثم صحوة منه. وقل مثل ذلك في معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلقد بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم في قوم كان الكلام بضاعتهم، فرسان البلاغة والفصاحة والبيان، الشعر والخطابة البليغة زادهم وشرابهم، قصيدة تجذبهم فتكون وكأنها معبود لهم، فتعلق في الكعبة في أعزّ مكان وتكون من المعلقات، كانت أسواقهم تبادلا وتداولا، يتبادلون بضائعهم ويتداولون أشعارهم. فجاءتهم معجزة من جنس ما عرفوا وألفوا، فتحداهم بالمعروف عندهم والمألوف لديهم. بعد كلّ هذا قد يدور في خلدنا حيرة وتساؤل، كيف ولم لم تؤمن الشعوب والأمم برسالات الرسل عليهم السلام؟ لم بادروهم بالتكذيب والجحود بعد مشاهدة المعجزات البينات؟! أقول إن الإنكار والجحود والكفر قديم قدم الرسالات السماوية، والكافرون هم الأكثر عددا، والذين خلقوا لجهنم هم الكثير من الناس: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179]. وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103]. فهذا نوح عليه السلام، يمكث في قومه ألف عام إلّا قليلا، وهو يدعوهم ليلا ونهارا، سرا وجهارا، ومع ذلك لم يلق إلّا عنادا وجحودا وإصرارا: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً 5 فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً 6 وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً [نوح: 5 - 7]. وكذلك موسى عليه السلام قد أتى قومه بالمعجزات العظام، فعصاه يلقيها فتنقلب ثعبانا، ويضرب بها الصخر فتنفجر منه العيون، ولقد عاينوا ذلك بأعينهم،

وجه الإعجاز القرآني:

ولكن العناد والإصرار هو الدافع لهم للجحود والإنكار، حتى قالوا قولتهم الآثمة: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 55]. وهذا عيسى قد لاقى من قومه صدودا، حتى الحواريين طلبوا منه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فقالوا لعيسى عليه السلام: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 112]. وأجابهم الله بما سألوا: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [المائدة: 115]. وهكذا الشأن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد جاءهم بالمعجزة التي تذعن لها العقول، ولكن لم يؤمن بها إلّا من هداه الله للإيمان، أما أكثر العرب فقد جحدوا بها، واستيقنتها قلوبهم وأبوا إلّا الضلال، فراحوا يقولون كما تحدث عنهم القرآن: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً 90 أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً 91 أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا 92 أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا 93 وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 90 - 94]. وقال الله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7]. وما هذه المواقف وهذا الكفر والإلحاد إلّا نتيجة إدبار واستكبار: ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ 23 فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ 24 إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 23 - 25]. وجه الإعجاز القرآني: يحلو لبعض العلماء أن يرى وجوها كثيرة في إعجاز القرآن، فبعضهم يرى من وجوه الإعجاز إخبار القرآن بالغيب، أو في نظامه التشريعي، أو الاجتماعي، أو علم الجناية، أو علم الاقتصاد، أو الفلك، أو الطب، وغير ذلك من العلوم التي لا تعد

ولا تحصى، ويذهب للتدليل على رأيه بقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38]. وقد ذهب بعضهم إلى كثير من المبالغة فيما يسمى بالإعجاز العلمي، حتى حملوا النصوص القرآنية ما لا تحتمله، وما لا يقبله العقل، في تأويل النصوص تأويلا متعسفا في كثير من الأحيان. ونحن لا ننكر أن القرآن الكريم يتسع للكثير مما هدي إليه البشر، في بعض المجالات كالطب وعلم الفلك وغيرها، وقد توسعت فيه مدارك علماء التفسير فأبرزوا لنا هذه المعاني، ومدى مطابقتها للواقع، ومدى احتمال الآيات القرآنية لمعانيها العلمية، فهذه العلوم تصدق القرآن، ولكنها ليست وجوها في الإعجاز. لهذا فإننا نحصر وجه الإعجاز القرآن في الوجه الذي تحدى به القرآن سائر العرب، نحصره في وجه واحد، ألا وهو لفظ القرآن ونظمه وبيانه، فهو الوجه الذي تحدى الله به العرب قاطبة، منذ نزول القرآن وحتى هذا الزمن، وسيبقى هذا الوجه هو الشاهد على القرآن، بنظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك، فما هو بتحدّ بالإخبار بالغيب المكنون ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهر من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء مما لا يتصل بالنظم والبيان. إن ما في القرآن من مكنونات الغيب، ومن دقائق التشريع، ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المقضي إلى الإعجاز، وإن كل ما فيه يعد دليلا على أنه من عند الله، ولكنه لا يدل على أن نظمه وبيانه مباين لنظم كلام البشر وبيانهم، وإنه بهذه المباينة كلام رب العالمين لا كلام بشر مثلهم (¬1). نعم لقد تحداهم القرآن بداية بالإتيان بمثل هذا القرآن: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88]. وتحداهم أن يأتوا بعشر سور ولو كانت هذه السور مفتريات حسب زعمهم: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13]. ¬

_ (¬1) علوم القرآن، ص 288؛ والكلام من مقدمة للأستاذ محمود شاكر في مقدمة لكتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي.

بل تحداهم بسورة واحدة: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38]. هذه الآيات القرآنية المتحدية للبشرية، بل للإنس والجن معا، إنما تحدتهم، وما زالت تتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن نظما وبيانا، وهذا هو الوجه الذي أعجز العرب سابقا ولا حقا، وهم إذ عجزوا عن الإتيان بمثله فقد انتفى أن يكون القرآن من كلامهم، أو من كلام محمد، لأنه واحد منهم، علاوة على أنه ثبت لنا أحاديث شريفة قالها الرسول صلّى الله عليه وسلّم والقرآن ينزل عليه، وبالمقارنة بين الكلامين نجد البون شاسعا، والفرق بعيدا بعد الفارق بين الخالق والمخلوق. ويجدر بنا أن ننقل إليك كلمة الجاحظ في تجلية هذه الحقيقة إذ يقول: (بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا، وأحكم ما كانت لغة، وأشدّ ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله، وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجّة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حمله على حضهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجّ عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه- إن كان كاذبا- بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديا لهم بها، وتقريعا لعجزهم عنها، تكشف عن نقصهم ما كان مستورا، وظهر منه ما كان خفيا!). «فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة، قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات!! فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر ... ولو تكلّفه (أي لو استطاعه) لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده، ويحامي عليه، ويكايد فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض» (¬1). (فدلّ ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، واستقامة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجاه منهم، وعارض شعراء أصحابه ¬

_ (¬1) الإتقان في علوم القرآن 4/ 5.

الإعجاز العلمي:

وخطباء أمته، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه، من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال. وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب، في الرأي والعقل بطبقات، ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة، والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع، والمزدوج، واللفظ المنصور، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم، فمحال- أكرمك الله- أن يجتمع هؤلاء كلّهم على الغلط في الأمر الظاهر، وهم أشدّ الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، وقد احتاجوا إليه. والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة!! وكما أنه محال أن يطيقوه ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه، ويجدون السبيل إليه، وهم يبذلون أكثر منه) (¬1). الإعجاز العلمي: لقد أوجد المسلمون هذا اللون المعاصر من ألوان التفسير تأكيدا لإعجاز القرآن، أو بابا جديدا من أبوابه، وتأكيدا على عدم معارضة القرآن والإسلام للعلم، حتى قام بعض المفسرين من أمثال طنطاوي جوهري بتفسير آيات الطبيعة في القرآن بحقائق العلم التجريبي ونظرياته، وذهب إلى حشو تفسيره الجواهر- بإجراء المطابقة بين كشوف الغرب العلمية وآيات القرآن الكريم- وتعسف كثيرا في إجراء هذه المطابقة في معظم الأحيان، ووصف كتابه قائلا: «بهذا الكتاب في التفسير وأمثاله سيستيقظ المسلمون سريعا، سيجيء جيل لم تشهد الأرض مثله ... أيها المسلمون هذا هو علم التوحيد في الحقل والجبل والزرع والشجر والثمر والشمس والقمر، لا في الكتب المصنفة المشهورة، هي والله مبعدة عن حكمة الله، ومبعدة عن معرفة آياته» (¬2). ¬

_ (¬1) الإتقان في علوم القرآن 4/ 5. (¬2) تفسير الجواهر 1/ 66 طبع بالقاهرة سنة 1352.

لقد أبعد الشيخ طنطاوي جوهري- رحمة الله- النجعة، ولم يتحقق له ما أمل أو أراد! لقد أصبح التفسير العلمي والإعجاز العلمي، قرينين أو شيئا واحدا في عرف كثير من الدارسين والباحثين، ورأوا فيه ميدانا ملائما للدعوة إلى الإسلام، وإقامة الدليل على أن القرآن وحي يوحى، وأنه تنزيل من حكيم حميد، في الوقت الذي ضعفت سليقة العرب اللغوية، وأضحوا غير قادرين على «تذوق الإعجاز البياني للقرآن الكريم» ... في الوقت الذي عدّ فيه هذا «الإعجاز الجديد» قادرا على مخاطبة العرب وغير العرب، كما يقوى على إدراكه المسلمون وغير المسلمين، بل إن غير المسلمين من الأوروبيين المكتشفين للسنن، وأصحاب التقدم العلمي، يأتون في مقدمة من يعقل عن القرآن هذا الإعجاز، أو بعبارة أدق: هذا السبق العلمي الباهر الذي جاء به القرآن الكريم قبل مئات السنين. والواقع- والقول الحق- أن الإعجاز الحقيقي في هذا الجانب، أعني جانب الحقائق العلمية عن الكون والإنسان التي أشار إليها القرآن الكريم، يكمن في طريقة القرآن في التعبير عن هذه الحقائق، لا فيما سميناه تفسيرا علميا قد نخطئ فيه أو نصيب! لقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحقائق على نحو يفهم خلال العصور! بمعنى أن أسلوب القرآن ونظمه وبيانه- الذي جعلناه مناط الإعجاز فيما سبق- اتسع للتعبير عن هذه الحقائق العلمية على نحو لا يعجز عن خطاب الإنسان في أيّ عصر، ولا يحمله كذلك أكثر مما يطيق، هذا هو وجه الإعجاز الحقيقي في هذه المسألة. وغني عن البيان أنه ليس في مقدور أحد من الثقلين، أن يكتب بهذه الطريقة، أو يجيء بمثل ما جاء به القرآن، وهذا هو السبب في أن القرآن الكريم فهم وفسّر خلال هذه العصور. أما انفراد العصر الحديث- عصر الكشوف العلمية- بهذا اللون من ألوان الفهم، أو ألوان الشرح والتفسير، فيعود إلى أن إدراك المدلول (العلمي) أو الحقيقي للإشارات القرآنية المتعلقة بالطبيعة والإنسان، يتوقف على التجربة والعمل الإنساني، وعلى تطبيق المنهج القرآني في التعامل مع هذه الإشارات والظواهر، أو على الامتثال للأمر القرآني بالنظر والملاحظة والتجربة، وقد قصر المسلمون في الامتثال للمنهج العلمي الذي تضمنه القرآن الكريم ودعا إليه، بوصفه الطريق الصحيح للاكتشاف.

هذا والحديث طويل ودقيق في هذا اللون من ألوان التفسير وبيان الإعجاز، ولكن لن ننهي الحديث قبل أن نلقي الضوء- بإيجاز شديد- على شروط التفسير العلمي: 1 - أقول أول هذه الشروط أن لا يفسّر القرآن إلا باليقينيات العلمية، أو بالحقائق الثابتة التي ارتقت مندرجة الفروض والنظريات العلمية إلى مقام اليقينيات أو «الفعل الواقع القائم» حسب عبارة موريس بوكاي، والذي لا يمكن أن يتطرق إليه التغيير والتبديل (¬1). مثال تطبيقي على ما سبق: قال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [لقمان: 29]. وقال تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: 5]. إن العلم الحديث يجعلنا ندرك بسهولة كيف يتداخل كلّ من الليل والنهار في حركة الأرض حول محورها وحول الشمس الثابتة نسبيا. وربط بهذا تعدد المشارق والمغارب (¬2). قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ [المعارج: 40]. فلا خلاف على جواز تفسير هذه الآيات بما يدل على كروية الأرض، والتي تمثل حقيقة علمية واقعة .. إلخ. 2 - إن حقائق العلم لا تفسير بها المعجزات والأمور الخارقة للعادة التي نصّت عليها الآيات الكريمة نظرا لافتراق «موضوع» هذه الآيات عن آيات الكون والطبيعة وأطوار الخلق، وسائر الآيات التي يمكن الانتفاع بحقائق العلم وثوابته في تفسيرها وشرح معانيها، بل نقول أبعد من ذلك: إن الآيات القرآنية التي تحدثت عن المعجزات والخوارق لا يمكن إقحامها من باب العلم التجريبي أصلا، لأنها إنما ثبتت بمقدار مخالفة السنن والقوانين، فكيف يتأتى تفسيرها من خلال هذه السنن والقوانين. ¬

_ (¬1) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة تأليف موريس بوكاي ص 184 دار المعارف 1977 م. (¬2) دراسة الكتب المقدسة ص 145.

فمثلا معجزة حمل مريم بعيسى عليه السلام ليس لها تفسير علمي، بناء على سنن الحمل والولادة، ولكن هناك من تعسف في تفسير هذه المعجزة، وراح يفسرها تفسيرا علميا حسب زعمه، فقال: إن مريم خنثى، والخنثى له مبيض في جهة، وخصية في الجهة الثانية!! (¬1). ولا يدري القارئ مع هذا التفسير العجيب، كيف تكون مريم وابنها آية للعالمين؟ وما معنى قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران: 59] الآيات الدالة على المعجزة و «الاستثناء» في حمله وولادته. ومثل هذا، أو قريب منه من تحدث عن الكهرباء، وكيف يصعق التيار الكهربائي الأحياء ... في سياق شرحه لقوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً .. [الأعراف: 143]. ويضيف طنطاوي جوهري حديثا عن معجزة موسى التي نصّت عليها الآية الكريمة وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة: 60]. قال: إن الله اختار الحجر ليضربه موسى بعصاه دون غيره ليلفت العقول إلى بدائع خلقه ومعجزاته في الكون، فالحرارة تحول الماء بخارا، والبرد يجمّده وهو بين الصخور فيصدعها. ثم يمضي في تفسيره للآية 12 من سورة سبأ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 12]. يقول طنطاوي في تفسيرها: إن سليمان- عليه السلام- كان له سفر هوائي منظم!! ومن ذلك يتضح أن اختراع الطائرات في هذا العصر قد سبق إليه العصر السليماني، وهذا من معجزات القرآن (¬2). ¬

_ (¬1) الدكتور محمد توفيق صدقي: دروس في سنن الكائنات 1/ 15 ط 1 في مجلة المنار بمصر سنة 1333 هـ. (¬2) تفسير الجواهر 1/ 70.

ومن العجيب حقا هذا القلب للحقائق تحت عنوان التفسير العلمي، أو في سبيل حض المسلمين على الأخذ بأسباب التقدم العلمي. 3 - ومن أصول التفسير المسلّمة أنه لا يجوز تفسير القرآن باصطلاح حادث بعد نزوله؛ لأننا لو فعلنا ذلك لعدنا على معاني القرآن بالتحوير والتبديل، أو بالإبطال والإلغاء؛ فالملائكة المسوّمون الذين قاتلوا مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم بدر لا صلة لهم «بالجنود الذين يهبطون بوساطة الطائرات في الحروب الحالية»، والغواصات التي عمّ استعمالها في جميع البحار لم تكن مستعملة في عصر سليمان عليه السلام، على خلاف (¬1) من استنتج ذلك من قوله تعالى: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص: 37] وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ [الأنبياء: 82] الآية. فلا تكفي كلمة «غواص» أو «يغوصون» في سياق الحديث عن الشياطين!! للزعم بأن الغواصات التي عرفتها الحروب الحديثة كانت معروفة في عصر سليمان! وكأن عالم الشياطين- بوصفه من عالم الغيب- لا معنى له أو لا وجود له في القرآن! وكأن عصر سليمان- على عكس ما يدل عليه التاريخ- عرف هذا التقدم العلمي والسبق في ميدان الاختراع. وأخيرا تحسن الإشارة إلى أن من أبرز الباحثين المعاصرين الذين يسارعون إلى أخذ الآية القرآنية شاهدا على صحة «نظرية» من النظريات العلمية، أو يحاولون تفسير الآية بنظرية من النظريات: عبد الرزاق نوفل، الذي كتب كثيرا من الأعاجيب، ومصطفى محمود في كتابه السقيم: «القرآن محاولة لفهم عصري»، والدكتور جمال الدين الفندي في كتابه «الله والكون» الذي ردّ فيه كثيرا من الأحاديث! ووقع في كثير من المجاز وضروب التأويل. والله تعالى أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) علي فكري «القرآن ينبوع العلوم والفرقان» 1/ 51 ط 1 المطبعة السلفية. (¬2) هذا البحث الإعجاز العلمي من كتاب علوم القرآن للأستاذ الدكتور عدنان زرزور ونقلناه بتصرف يسير.

وجوه فاسدة في إعجاز القرآن (القول بالصرفة)

وجوه فاسدة في إعجاز القرآن (القول بالصّرفة) بعد أن بيّنا وجه الإعجاز الذي تحدّى الله به البشر، نذكر وجها من الوجوه الفاسدة، بل هو من أفسد الأقوال، وهو القول بالصّرفة، والمنسوب إلى أبي إسحاق النّظّام من المعتزلة، والإمام المرتضى من الشيعة، ثم إلى أبي إسحاق الإسفرائيني من أهل السنة، وخلاصة هذا القول أن وجه الإعجاز في القرآن هو الصرفة، أي: أن الله صرف قلوب العرب عن معارضة القرآن فزهّدهم في معارضته، فلم تتعلق إرادتهم ولم تنبعث إليها عزائمهم، فكسلوا وقعدوا رغم توافر البواعث والدواعي. بل زعموا أن عارضا مفاجئا عطّل مواهبهم البيانية وعاق قدرتهم البلاغية. لم يظهر هذا القول إلّا في القرن الثالث الهجري، وكان النّظّام هو أول القائلين به، ولعله استمد مقولته من الفلسفة الهندية عند البرهمية في كتابهم الفيدا، إذ يعتقدون أن ما ورد فيه لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله، لأن براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثله، ولكن خاصتهم يقولون: إن في مقدرتهم أن يأتوا بمثله، ولكنهم ممنوعون من ذلك احتراما له. هذا القول ظاهر العوار لكل ذي عينين، لذا وجدنا الأمة بقضّها وقضيضها، بفرقها ومذاهبها، مجمعة على خلاف هذا، فالمعتزلة وعلى رأسهم الزمخشري قد أبطل مثل هذا القول، والطبرسي الشيعي قد فنّده، وأهل السنة كذلك، فهو مذهب باطل، وإن قال به آحاد من المعتزلة والشيعة وأهل السنة، وقد جوبه بالرفض، ذلك أن تحدّي القرآن وإثبات العجز للناس ليس مقتصرا على عهد النبوة فقط، بل إن هذا التحدّي قائم، وهذا العجز من البشر ثابت إلى قيام الساعة. فمن قال بالصرفة فليحاول هو، وهل يحسّ بشيء من الصرف أو السلب في نفسه؟ إن استعظام العرب لفصاحة القرآن وبلاغته وتعجبهم من ذلك لهو دليل على بطلان الصرفة، فلو كانوا مصروفين عن المعارضة بنوع من الصرف، لكان تعجبهم

للصرف لا للبيان المعجز. ولو كان هناك سلب لعلومهم لكان الفرق بين كلامهم بعد التحدّي وكلامهم قبله كالفرق بين كلامهم بعد التحدّي وبين القرآن، ولما لم يكن كذلك بطل القول بالصرفة (¬1). والعرب لم تفقد عقولها بعد بالتحدي، فإن سلب العلوم ونسيانها في هذه المدة اليسيرة دليل على زوال العقل، ومعلوم بقاء العقول بعد التحدّي كما كانت، بل من تغلّب على نزغات الشيطان، وترك اتباع الهوى في نفسه، وترفع عن الحسد والبغضاء، وآمن بدعوة الحق، ازداد عقله رجاحة وصفاء. وما أحسن ما قاله السيوطي في إبطال القول بالصرفة حيث يقول: «وهذا فاسد بدليل قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88]. فإنها تدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره» (¬2). والإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز، بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله. ثم قال السيوطي: «ولو كانت المعارضة ممكنة. وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا، وإنما يكون بالمنع معجزا، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه» (¬3). ومن الوجوه الفاسدة تلك الأقوال المستحدثة والمبالغة المفرطة في إعجاز القرآن العلمي، في كل كلمة وحرف ورد فيه. فجعلوا من القرآن كتابا في التشريح وكتابا في الفضاء وكتابا في كل فن. ¬

_ (¬1) الفوائد المشوق لابن القيم، ص 252 ومباحث في إعجاز القرآن للدكتور مصطفى مسلم ص 60. (¬2) الإتقان للسيوطي 2/ 118. (¬3) المرجع السابق.

المبحث الخامس ترجمة القرآن

المبحث الخامس ترجمة القرآن يقودنا الحديث عن لغة القرآن وإعجازه إلى حديث عن ترجمة القرآن بلغة غير لغته، إذ مفهوم الترجمة- كما يقول لسان لعرب- هي نقل الكلام بلغة غير لغته، فترجمه وترجم عنه: إذا فسّر كلامه بلسان آخر، كما أن التّرجمان- بالضم والفتح- هو الذي يترجم الكلام، أي: ينقله من لغة إلى أخرى. ويجدر بنا أن ننوه إلى أن الترجمة ضرورة لنا من أجل إبلاغ ديننا الذي لا يتأتى بدونها، وقد مارسها أجدادنا الأوائل بحال من الأحوال، وإن قلّ اعتمادهم عليها في صدر الإسلام الأول، نظرا لإقبال الشعوب غير العربية على تعلّم اللغة العربية التي هي عماد دينهم، فجعل القرآن منهم لسانا عربيا أنساهم في كثير من الأحيان لغاتهم الأصلية، بل نصّب الأعاجم أنفسهم لخدمة العربية، فكان منهم من وضع القواعد والأسس للغة القرآن، وما أفضل ما قاله الإمام ابن حجر: «إن العربيّ هو من تكلّم العربية وإن كان من العجم، والأعجمي هو من تكلّم غير العربية وإن كان من العرب». أقول: إن الأهمية للترجمة قد بدأت تأخذ طريقها، وأحرى بنا أن نعتني بها، لأن البعثات التبشيرية والاستشراقية أصبحت المصدر الوحيد للمعرفة الإسلامية لأولئك الذي يسلمون من غير العرب، أو لأولئك الذين يرغبون في معرفة الإسلام. بعد هذه اللمحة نتحدث عن حكم الترجمة للقرآن، ولا يفوتنا أن ننبه إلى نوعين من الترجمة: ترجمة حرفية وترجمة تفسيرية. ولا خفاء أن الترجمة الحرفية مستحيلة، إذ إبدال حرف أو كلمة منه يخلّ بإعجازه الذي هو سمته، والتي بدونها لا يكون قرآنا، فكيف بإبدال لغته، وعلاوة على ذلك، فإن الألفاظ العربية لها معنيان: معنى أصلي هو المعنى الذي لا اختلاف فيه في كل الألسنة واللغات، ومعنى ثانوي وهو المعنى

الذي يختلف باختلاف اللغات ويتفاوت الناس في فهمه، ويتفاوت المتكلمون في درجة الإجادة فيه. وهاك مثالا يوضح المقصود والمراد من قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء: 29]. فلو ترجمتها ترجمة حرفية ما بلغت المراد منها، لأن المراد: النهي عن البخل والإسراف، ولست ببالغه من ظاهر الألفاظ، أي من الترجمة الحرفية، وإن أردت المعنى والتفسير وترجمته ونقله إلى لغة أخرى لم يستعص عليك ذلك، إذا فهمت- وكان فهمك صوابا- في تعيين المعنى، ولكن عندها لن يكون كلامك قرآنا، ولو كان بلغة القرآن نفسها فأنى يكون للغة غيرها أن نسميها قرآنا؟ لذا قرر العلماء- قديما وحديثا- أن الترجمة الحرفية مستحيلة، ولا يجوز أن تسمى الترجمة قرآنا، ولا أن يسند شيء منها إليه تعالى، فيقال: قال الله: كذا، فإسنادها إليه تعالى كذب وافتراء. أما ترجمة معاني القرآن أو الترجمة التفسيرية، فلا ريب بجوازها، بل قل وجوبها إذا كان لا يتم التبليغ للقرآن إلّا بها، وما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب. يقول شيخ زاده في حاشيته على تفسير البيضاوي وذلك بصدد تفسيره للآية: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158]. وما أنزل إليه عليه الصلاة والسلام بلسان العرب بخاصة، فكيف يخرج به جميع الناس من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان فأجاب عنه بقوله: (وما أرسلنا من رسول إلى الأمم التي اختلفت ألسنتهم إلّا بلغة قومه الذين هو منهم، إذ لا حاجة إلى أن ينزل إلى كلّ قوم كتاب ملتبس بلغة أولئك القوم، لأن ذلك ينوب ويكفي عن التطويل اللازم من ذلك، فإذا أنزل بلسان واحد من الأقوام كان أولى الألسنة لسان قوم الرسول، لأن قومه أقرب الناس إليه، فكان حقّهم عليه أقدم، وكان الأولى أن يدعوهم إلى الحقّ أولا، وينذرهم عن المخالفة والعصيان، حتى إذا فهموا منه، يبينون ما أرسل إليهم، ويترجمون لغيرهم ما فهموه، فتنتشر دعوته بذلك إلى أطراف العالم) (¬1). ¬

_ (¬1). 3/ 124.

حكم قراءة الترجمات القرآنية في الصلاة:

حكم قراءة الترجمات القرآنية في الصلاة: نقول: إن كلمة المجتهدين سواء في عدم جواز الصلاة بالترجمة، إلّا ما روي عن الإمام أبي حنيفة كما سنرى. أما الشافعية فقالوا: (لا تجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب، سواء أمكنته العربية أم عجز عنها). أما الحنابلة فيقولون: (ولا تجزئة القراءة بغير العربية، ولا إبدال لفظ عربي، سواء أحسن القراءة بالعربية أم لم يحسن، ويلزمه التعلّم). وروي مثل ذلك عن المالكية. قال أبو بكر بن العربي- هو من فقهاء المالكية- في تفسير قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت: 44]، قال علماؤنا: وهذا يبطل قول أبي حنيفة بأن ترجمة القرآن بإبدال اللغة العربية منه بالفارسية جائز، لأن الله تعالى قال: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ نفى أن يكون للعجمة إليه طريق- فكيف يصرف إلى ما نفى الله عنه؟. أما ابن حزم فيحكم بفسق من قرأ غير العربية في الصلاة. يقول في محلّاه: (من قرأ أم القرآن أو شيئا منها أو شيئا من القرآن في صلاته مترجما بغير العربية، أو بألفاظ غير الألفاظ التي أنزل الله تعالى، عامدا لذلك، أو قدّم كلمة أو أخّرها، عامدا لذلك، بطلت صلاته، وهو فاسق، لأن الله تعالى قال: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: 2]، وغير العربي ليس عربيا، وإحالة عربية القرآن تحريف لكلام الله، وقد ذمّ الله تعالى من فعلوا ذلك فقال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [المائدة: 13]). أما الحنفية فقد خالفوا جمهور الفقهاء، فقد روي عن أبي حنيفة أنه أجاز قراءة الترجمة في الصلاة سواء أكان عاجزا عن العربية أم قادرا عليها. وروي عن الصاحبين الإمام أبي يوسف ومحمد جواز ذلك للعاجز عن العربية فقط. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: (إن أبا حنيفة الذي عاش أكثر من خمسين سنة في العصر الأموي، قد أدرك الفرس وهم يدخلون في دين الله أفواجا أفواجا، وهم يلوون ألسنتهم بالعربية، لا

يحسنون النطق بها، ولا تستطيع ألسنتهم إخراج الحروف العربية من مخارجها، وإن عرفوا العربية في الجملة، واستطاعوا التفاهم بها بوجه عام، ثم رآهم ينطقون بآي القرآن نطقا غير حسن فرخّص فيها واعتبرها ذكرا لا قرآنا. ويبدو أنه رجع عن هذا القول خوفا من أن يظنّ أن الترجمة قرآن يقوم مقام الأصل العربي، فأجازها للعاجز فقط، واعتبرها ذكرا لا قرآنا كذلك. كما اعتبرها صاحباه على الوضع نفسه) (¬1). ¬

_ (¬1) أبو حنيفة للشيخ محمد أبو زهرة وكشف الأسرار 1/ 25. أما أقوال المذاهب الأخرى فيرجع فيها إلى المجموع في فقه الشافعية وإلى المغني لابن قدامة. وإلى كتاب المحلى لابن حزم.

المبحث السادس القصة في القرآن

المبحث السادس القصة في القرآن لقد تناول القرآن- موضوع القصة- لا كما يتناوله القصاص والأدباء، بل نهج فيه نهجا مختلفا ليحقق الأهداف والمرامي التي يريدها، فقصصه كما يقول الشاطبي لا يراد بها سرد تاريخ الأمم والأنبياء والأشخاص، وإنما المراد منها العظة والعبرة وهو الأعمّ، وبيان الأحكام أحيانا، الذي يرى فيه بعض المجتهدين (أن شرع من قبلنا شرع لنا). وقد ذكر القرآن لنا بعض أهدافه ومراميه والحكمة التي يقصدها: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120]. لذا جاءت القصة القرآنية متناثرة في سور متعددة، لتحقق الغرض الذي سيقت من أجله في كل سورة وردت فيها، إلّا ما ورد استثناء في قصة يوسف عليه السلام، التي وردت كاملة متكاملة غير منقوصة في سورة سمّيت باسمه عليه السلام، أما بقية قصص الأنبياء فقد وردت مشتتة ومجزأة، في مواضع مختلفة من السور؛ لتحقق العبرة والعظة التي سيقت من أجلها في تلك المواضع، وفي ذلك حكمة ربانية قد نعلمها أو لا نعلمها، وقصور علمنا البشري عن إدراك ذلك يجعلنا في حيرة، بل ليقول الذين في قلوبهم مرض ماذا أراد الله بهذا مثلا من هذا السرد القصصي، وهذا التكرار الذي لا داعي له، إذ ما معنى أن يقول عن قصة إبراهيم في سورة الذاريات مثلا: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إلى قوله: فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: 24 - 26]، ويقول في سورة أخرى: أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69] وهلم جرا من الآيات التي تقص طرفا من القصة وقد يأتي في موضع آخر من سورة أخرى بمثل ما ورد في الأولى. وقد راح بعض المفسرين يجمع الأشتات في المواضع المتعددة وكوّن منها جميعا قصة، وكثيرا ما يدخل إليها تلك الإسرائيليات، ليكوّن منها مسلسلا عجيبا،

وقد تجد فيه العجب العجاب الذي تطير منه الألباب، وما علموا أن هذا القصص ليس للتسلية والتاريخ، إنما هو للعبر والاتعاظ وللتنبيه إلى سنن الله في الاجتماع البشري، وبيان مآل الأقوام حين تحيد عن منهاج الله وتسلك سبيل الظلم والضلال. وما علموا أن الذي أضافوه من الغث والسمين، لا يضر ولا ينفع، وكأنهم يرون نوعا من الاستدراك على القرآن وإكمالا للنقص في القصة، وفي هذا وذاك قصور في النظر في محتوى القصص القرآني، لأن الله سبحانه وتعالى حين قص علينا أحسن القصص بالصورة التي وردت في القرآن، قد استوفى الفائدة المرجوة من القصة على الصورة التي وردت من غير زيادة ولا نقص، ولو كان شيئا يهمنا ويفيدنا في زيادة أكثر مما هو مذكور لقصّه لنا، فمثلا حين قصّ علينا قصة أهل الكهف لم يذكر لنا أسماءهم، ولا وصف حالهم في نومهم ويقظتهم، ولا اسم الملك الظالم في زمنهم، ولا اسم كلبهم، ولا مكان كهفهم الذين نزلوا فيه، وإنه وإن كانت النفوس تتشوق لمثل ذلك إشباعا لغريزة حب الاستطلاع، إلا أن هدف ومراد القصص لم يسق لتحقيق شيء من ذلك، ولو كان ذكر ذلك مقصودا لذكره الله لنا، فإن الله ينزه عن إهمال ذكر شيء ينفعنا علمه، بل هو كما قال المفسرون: (هو شيء لا ينفعنا ذكره ولا يضرنا جهله، ولو كان ينفعنا أو يضرنا لذكره الله لنا) (¬1). وإنما كان المفسرون لا يرون كبير بأس في التوسع في ذكر هذه القصص، لأنها لا تتعلق بعقائد أو أحكام، ولكنها من قبيل الاعتبار والعظة، وغرس فضائل الأعمال. قال الإمام أحمد بن حنبل: (إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا) (¬2)، فبالأحرى القصص. وممن توسع في إيراد القصص في التفسير أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعالبي النيسابوري المتوفى سنة سبع وعشرين وأربعمائة صاحب «التفسير الكبير»، وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أصاب جملة من كتب أهل الكتاب، وأدمن ¬

_ (¬1) جامع البيان في تأويل آي القرآن للطبري 7/ 135. (¬2) القول المسدد في الذب عن المسند للإمام أحمد لابن حجر العسقلاني ص 11.

النظر فيها، ورأى فيها عجائب، ووردت عنه أشياء تتعلق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة (¬1). ثم أولع بعض المفسرين المتأخرين بالغرائب والتفصيلات في القصص، لا طائل تحتها، فأوقعهم في كثير من المحاذير، حتى صعب على بعض الناس التفريق بين فهم هؤلاء المفسرين للقرآن وقصصه وبين النصّ القرآني نفسه، وأوضح ما كان ذلك في القصص الإسرائيلي حول الأنبياء وحياتهم. لعل في تفسير الخازن خير شاهد على ذلك. ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ 1/ 41.

الفصل الثاني الوحي

الفصل الثاني الوحي المبحث الأول: تعريف الوحي لغة وشرعا. المبحث الثاني: دليل الوحي. المبحث الثالث: مراتب الوحي.

المبحث الأول تعريف الوحي لغة وشرعا

المبحث الأول تعريف الوحي لغة وشرعا 1 - المعنى اللغوي: الوحي مصدر بمعنى الإشارة السريعة الخفية، يقال: أوحيت إلى فلان، إذا كلمته بسرعة وخفية، وأوحى وأومأ إلى فلان بمعنى أشار، وأوحى الله إليه ألهمه (¬1)، وقد ورد في القرآن الكريم استعمال هذه المعاني، من ذلك: أ- الإلهام الغريزي للحيوان كقوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل: 68]. ب- الوسوسة بالشر سواء أصدرت من إنسان إلى إنسان أم من شيطان، قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112]. وفي السورة نفسها: ... وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ... [الأنعام: 121]. ج- وبمعنى أشار وأومأ ورد قوله تعالى في سورة مريم عن زكريا عليه السلام: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11]. فالوحي هنا لا يجوز أن يكون المراد به الكلام، لأن الكلام كان ممتنعا عليه؛ لقوله تعالى في الآية التي قبلها: ... قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مريم: 10]. ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/ 93، مادة وحي. فالواو والحاء والحرف المعتل: أصل يدل على إلقاء علم إلى غيرك، فالوحي الإشارة، والوحي الكتاب والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان.

2 - المعنى الشرعي:

قال الرازي: والأشبه بالآية هو الإشارة، وهو أن يعرفهم ذلك إما بالإشارة أو برمز مخصوص لقوله تعالى في سورة آل عمران: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً [آل عمران: 41]. والرمز لا يكون كتابة للكلام (¬1). 2 - المعنى الشرعي: عرفه العلماء بتعريفات كثيرة منهم من أسهب. فقال: (الوحي هو أن يعلم الله من اصطفاه من عباده كلّ ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم ولكن بطريقة سرية خفية غير معتادة للبشر). وعرفه الشيخ محمد عبده: (بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه على اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو غير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت، ويفرق بينه وبين الإلهام، أن الإلهام وجدان تستيقنه النفس فتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور). ومنهم الموجز في تعريفه بقوله: (كلام الله المنزل على نبي أنبيائه). كل هذه التعريفات لم تخل من مقال ونقد. وأفضل التعريفات وأحسنها ما قاله ابن حجر في فتح الباري: (الوحي هو الإعلام بالشرع) أو (إعلام الله لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه) (¬2) أو ما روي عن الزهري حين سئل عن الوحي فقال: (الوحي ما يوحي الله إلى نبي من الأنبياء فيثبته في قلبه فيتكلم به ويكتبه وهو كلام الله) (¬3). وبعد: فلا يسعنا بعد أن عرفنا الوحي بمعنييه: اللغوي والشرعي إلا أن نسأل، هل وحي الله تعالى إلى أم موسى ينتسب إلى الحقيقة اللغوية أو إلى الحقيقة الشرعية؟. ¬

_ (¬1) انظر التفسير الكبير، 21/ 190. (¬2) فتح الباري 1/ 9. (¬3) انظر الإتقان في علوم القرآن مبحث الوحي 1/ 14.

ذهب قتادة إلى أن الوحي إلى أم موسى كان بالإلهام الفطري، وممن أيّد ذلك الراغب الأصفهاني، وقد نحا نحوه الحافظ ابن كثير والإمام البيضاوي وغيرهم، كما سار على هذا النهج من بعد طائفة من الكاتبين في علوم القرآن من أهل هذا العصر، منهم الدكتور صبحي الصالح رحمه الله والدكتور عدنان زرزور والدكتور القصبي زلط حين قال ثلاثتهم: إن الوحي إلى أم موسى هو الإلهام الفطري وهو إلى النحل الإلهام الغريزي، ثم قلدهم كثير .. وذهب آخرون- قدماء ومحدثون- منهم الأستاذ الدكتور إبراهيم خليفة إلى أن الوحي هنا بمعناه الشرعي، وناقش وردّ على القائلين بأن الوحي هنا بمعناه اللغوي، وهو الإلهام الفطري، فقال: إن هذا الرأي غير صحيح، وإلا فمن أين لفطرة كائن من كان اعتقاد جازم بأن فلانا سيكون من المرسلين، حتى يتصور ارتكاز مثل هذا الاعتقاد في فطرة أم موسى بالنسبة لولدها عليه السلام حسبما نطقت به الآية الكريمة من سورة القصص: وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]. هكذا وعلى هذا النحو المؤكد بإن واسمية الجملة إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] هذه واحدة. وثانية لا تدنو عن أختها دلالة، وهي تعبيره تعالى عن هاتين البشارتين بالوعد في قوله الكريم: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 13]. فمن أين يصلح أن يقال لمجرد الإلهام، أو حتى لرؤيا منام رآها غير نبيّ كأمّ موسى، مهما تكن درجة رائيها من الصلاح والورع، من أين يصلح أن يقال لشيء من هذا أو ذاك: (وعد). فمن ثمّ استظهر كل من أبي حيان والألوسي (¬1) أن يكون الوحي إلى أم موسى عليه السلام، هو من طريق ملك أرسله الله إليها. ¬

_ (¬1) انظر تفسير البحر المحيط ج 7 ص 105، وروح المعاني للآلوسي ص 45.

ولعل الذي حمل هؤلاء وأولئك من قدماء ومحدثين والقائلين بدعوى الإلهام الفطري في حسباننا، ما هو إلا خشيتهم أن يظن بأم موسى النبوة، مع إجماع المسلمين وغيرهم على عدم نبوتها، بل مع إجماع المسلمين على أن من شرط النبوة الذكورة، انطلاقا من نحو قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 43]. ولكن من أين يقتضي إرسال الملك إلى أحد ضرورة نبوته، أفلا يرون إرساله تعالى جبريل إلى مريم حين تمثل لها بشرا سويا، وكلمها بما ذكر من قصتها في كتابه الكريم. لذا قال بعض المفسرين: إن الله تعالى أرسل إلى أمّ موسى ملكا، ولا يستبعد أيضا أن يكون هذا الوحي إليها كان عن طريق نبيّ في زمانها لم يقصّ علينا القرآن قصّته، وأي ذلك قد كان مما الله أعلم به، فليس لما قاله أهل دعوى الإلهام، ومثلهم أهل دعوى رؤيا المنام وجه البتة فتنبه (¬1). ¬

_ (¬1) منة المنان في علوم القرآن ج 2، ص 151 - 153.

المبحث الثاني دليل الوحي

المبحث الثاني دليل الوحي إن الدليل على أن حقيقة الوحي شرعي لا عقلي، لأنه من الأمور الغيبية التي لا يقع عليها الحسّ، والذين يدللون على الوحي بالأدلة العقلية- ولو بحسن نية- إنما هم واهمون ومخطئون، فإن للعقل دائرته التي لا يتعداها، فهو يسلمنا إلى حقيقة وجود الخالق ويرشدنا إليه، فإذا ما أسلمنا إلى هذه الحقيقة فقد هدانا إلى الإيمان الذي من مقتضياته التسليم بما أخبرنا من أدلة قطعية، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء: 163]. وقال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52]. وقال: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3 - 4]. ويكفي دلالة على حقيقة الوحي إعجاز القرآن، الذي أثبت عقلا أنه منزل من الله على رسوله، وإن من آياته المعجزة ما دلنا على الوحي ومصدره، والنازل به والمنزل عليه، والكيفية والحالة التي نزل بها. أما التدليل على حقيقة الوحي بالأدلة العلمية لتقريبه للعقل فهو مجاف للصواب. لقد ذهب بعض العلماء يفتشون لنا عن المقررات العلمية لإثبات القضايا الغيبية، فوجدوا الدليل الأول في التنويم المغناطيسي، فقالوا: إن الذي كشف هذا هو الدكتور مسمر العالم الألماني في القرن الثامن عشر، وجاهد هو وأتباعه مدى قرن كامل من الزمان في سبيل إثباته، وحمل العلماء على الاعتراف به، وقد نجحوا في ذلك، فاعترف العلماء به علميا بعد أن اختبروا به الآلاف المؤلفة من الخلق، واطمأنوا إلى تجاربه- هكذا يقول صاحب مناهل العرفان- وأخيرا أثبتوا بوساطته ما يأتي: 1 - أن للإنسان عقلا باطنا أرقى من عقله المعتاد كثيرا (¬1). ¬

_ (¬1) إن أراد بهذا الكلام إقناع المسلمين بوقوعه، فإن المسلم يكفيه قول الله، وإن أراد أن يدلل لغير المسلم بهذه الواقعة على إمكانية حدوث الوحي في عالم الواقع فإن هذا الكلام يشككه حين

2 - أن الإنسان النائم في حالة التنويم المغناطيسي يرى ويسمع من بعد شاسع، ويقرأ من وراء حجاب (¬1)، ويخبر عما سيحدث مما لا يوجد في عالم الحس أقل علامة لحدوثه (¬2)، ثم ذكر ما يزيد على ثماني حالات وصفها بأنها حقائق علمية لا مجال للشك فيها. ثم قال: وإننا نضع بين يديك تجربة واحدة من تجارب التنويم المغناطيسي تقرب إليك الوحي كل التقريب، وهذه التجربة رأيتها بعيني وسمعتها بأذني بنادي جمعية الشبان المسلمين، وعلى مرأى ومسمع جمهور مثقف كبير (¬3). ثم بعد أن ساق التجربة قال: (وبهذه التجربة- أيضا- يثبت لي أنا من طريق علمي ما قرب إليّ الوحي علميا، وما جعلني أعلله تعليلا علميا، فالوحي عن طريق الملك عبارة عن اتصال الملك بالرسول يؤثر به الأول في الثاني، ويتأثر فيه الثاني بالأول، وذلك باستعداد خاصّ في كليهما) (¬4). هذا الدليل العلمي الأول. أما الثاني فهو أن العلم الحديث استطاع أن يخترع من العجائب ما نعرفه ونشاهده وننتفع به، مما يسمونه التلفون واللاسلكي والميكروفون والراديو، فهل يعقل بعد قيام هذه المخترعات المادية أن يعجز الإله عن أن يوحي إلى عباده ما شاء عن طرق الملك أو غير الملك؟. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا!! أما الدليل الثالث: فقد قال فيه: استطاع بعض العلماء أيضا أن يملأ بعض الأسطوانات من الجماد الجامد بأصوات وأنغام على وجه يجعله يحاكيه بدقة وإتقان كما هو (بالفونوغراف). ¬

_ يزعم أن العقل الباطني أرقى من عقله الظاهر وبهذا يستطيعون الزعم أن الوحي ظاهرة لا تدل على صدق مدعيها. (¬1) كأنه يرى في حادثة التنويم المغناطيسي حالتين من حالات الوحي حالة الإيحاء وحالة التكليم من وراء الحجاب. (¬2) كلام يشبه الشطحات الصوفية وتخيلات الكهان. (¬3) مناهل العرفان 1/ 59. (¬4) المرجع السابق 1/ 61 - 62.

وأخيرا فقد استدلّ بالدليل الرابع ودخل عالم الحيوان فقال: إننا نشاهد بعض الحيوانات الدنيا تأتي بعجائب بعض الأنظمة والأعمال. وإذا صح هذا في عالم الحيوان فهو يكون أتم من ذلك ما يكون بطريق الوحي ويضرب لك المثل بالحيوان الذي اسمه «أكسيكلوب» (¬1). وهكذا استرسل كما بدا له- صاحب المناهل- في ذكر الدليل تلو الدليل، وأراد أن يدل على صحة رأيه ووجاهته بقوله: إنه قد رأى هذه التجارب بعينه وسمعها بأذنه. فهذا الأمر محسوس ملموس. أقول: هذا التدليل بعيد عن نهج هذا الدّين، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام ما أقنع أهل زمنه إلا بما أرشده الله إليه، أما أن يلتمس لكل حادثة غيبية دليلا حسّيا، أو يدلل على وقوعها أو يقربها إلى الذهن بأدلة ماديّة محسوسة فهذا ما لم يكن، بل حصل العكس فإن أبا بكر الصديق حين حدّثه كفار قريش بقصة الإسراء والمعراج، وأرادوا أن يشككوه في هذه القضايا الغيبية لم يفلحوا في ذلك، وأخذوا منه الجواب الشافعي النابع من الإيمان الصادق، قال: إن قالها- أي محمد صلّى الله عليه وسلم- فقد صدق. إن الاستدلال بالقضايا العلمية على الحقائق الغيبية هو نهج المدرسة العقلية في التفسير، التي أرسى قواعدها الشيخ محمد عبده، الذي فسر قوله تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 3 - 5]. قال ليقرب هذه المعاني القرآنية للعقول الأوروبية: إن الطير الأبابيل: هي الذباب، وفسر (حجارة من سجيل) بميكروب الجدري، كما فسر (الجن) بالميكروب الضار، والملائكة بالميكروب النافع. وهذا تفسير غريب وتأويل بعيد، وقد ردّ عليه صاحب الظلال بكلام مفيد يحسن الرجوع إليه. وقد أعجبني الردّ على ادعاء إثبات الوحي بالتنويم إذ يقول قائل: ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 1/ 61 - 62 هذا القياس أكثر فسادا وأبعد من القياس السابق، فالسابق بين ملك ونبي والإنسان المنوم والمنوم وأما هنا فقياس مع حيوان الأكسيكلوب.

وهل نقف أمام من صعب عليه تصور الوحي، ولم يجد بدّا من التصديق بالإيحاء التي يتم أمامه عن طريق التنويم المغناطيسي الذي ربما كان هو موضوعه في مرة من المرات؟ .. (وهل نحن بحاجة إلى ضرب الأمثلة والشواهد من عالم البشر المادي والمحسوس على شرح حقيقة الوحي، وبيان إمكانية وقوعه. إن الأمر هنا ليجلّ عن هذا وذاك، والقرآن الذي نتلوه الآن شاهد صدق على مصدره، كما أن الأدلة على صدق هذه الظاهرة أكثر من أن تحصى) (¬1). وقول القائل: (وحاولنا ألا نقرب حقائق الغيب العليا بما يعرفه الناس عن التنويم المغناطيسي وتسجيل الأصوات على الأشرطة وإذاعتها أو نقلها عن طريق الهاتف واللاسلكي، وظننا أن لا جدوى من هذه الأشياء وأنها ليست هي طريق الإيمان) (¬2). ¬

_ (¬1) دراسات قرآنية للدكتور عدنان زرزور ص 59. (¬2) مباحث في علوم القرآن ص 47، 48.

المبحث الثالث مراتب الوحي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ومظهر النبي مع تلك المراتب

المبحث الثالث مراتب الوحي إلى النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) ومظهر النبيّ مع تلك المراتب قال ابن القيم (¬1): وكمل الله له من مراتب الوحي مراتب عديدة نذكر من هذه المراتب: أولها: الرّؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلّى الله عليه وسلّم فكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، واستدل السهيليّ وغيره على أن الرؤيا من الوحي، بقول إبراهيم عليه السلام: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102] فدل على أن الوحي يأتيهم مناما كما يأتيهم يقظة، وبرواية ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة النبوة، وغطّه ثلاثا وقرأ عليه أول سورة اقرأ، ثم أتاه وفعل معه يقظة، وفي الصحيح عن عبيد بن عمير (رؤيا الأنبياء وحي وقرأ يبنىّ إنّى أرى ... [الصافات: 102] الآية). ثانيها: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، من ذلك ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ روح القدس نفث في روعي، أنّه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنّ أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته» (¬2). ثالثها: خطاب الملك، حين كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا. ¬

_ (¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية، طبعة مؤسسة الرسالة 1417 هـ/ 1996 م ص 1/ 77 - 79. بتصرف. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في كتابه القناعة والحاكم، وصححه من طرق، ورواه ابن ماجة الطبراني وروح القدس: جبريل، ونفث في روعي: ألقى في قلبي أو خلدي أو عقلي، ومعنى أجملوا في الطلب، أي اطلبوه بطرق الحلال بلا كد ولا حرص ولا تهافت على الحرام.

فقد ثبت أن جبريل كان يأتيه في صورة دحية الكلبي (¬1)، كما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول». زاد أبو عوانة: «وهو أهونه عليه». وفي الصحيح روى عمر بن الخطاب نزول جبريل بهيئة رجل، فعنه رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام ... الحديث. يقول عمر: ثم انطلق، فلبثت مليا، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر أتدري من السائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» رواه مسلم (¬2). رابعها: أن يأتيه جبريل في مثل صلصلة الجرس، وكان أشدّه عليه، وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي سمع عند دويّ كدوي النحل، فسماع الدوي بالنسبة للحاضرين كما شبهه به عمر بن الخطاب، والصلصلة بالنسبة إليه كما شبهه به صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة إلى مقامه، فقد كان شديدا على نفسه حتى إن جبينه ليتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض (¬3). ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضّها (¬4). ¬

_ (¬1) دحية بفتح الدال وكسرها لغتان مشهورتان، وهو بلسان أهل اليمن رئيس الجند، وهو دحية بن خليفة بن فضالة بن فروة الكلبي، شهد المشاهد كلها بعد بدر، وكان دحية جميلا وسيما، وكان إذا قدم لتجارة خرجت الظعن لتراه. تقريب التهذيب ص 200 (¬2) مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان 1/ 36 ح (8) (1). (¬3) رواه البيهقي في الدلائل في حديث عائشة بلفظ «وإن كان ليوحى إليه وهو على رأس ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه» وانظر مسند أحمد 6/ 118 و 6/ 455. (¬4) البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .. ح (4592).

الخامسة: أن يرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الملك جبريل في صورته التي خلق عليها، له ستمائة جناح فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين (¬1) - كما ذكر الله ذلك في سورة النجم في الآية السابعة والآية الثالثة عشرة- الأولى: في الأرض حين سأله أن يريه نفسه فرآه في الأفق الأعلى، قال الحافظ ابن كثير: كانت والنبي بغار حراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي (¬2). والثانية: عند سدرة المنتهى في ليلة الإسراء والمعراج. هذه أشهر المراتب، وهناك مراتب أخرى مختلف فيها، لا نطيل الحديث بذكرها مكتفين بما ذكرناه لك من المشهور. ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم الحديث (177) (287). (¬2) تفسير ابن كثير 4/ 265 سورة النجم.

الفصل الثالث نزول القرآن

الفصل الثالث نزول القرآن تمهيد: نزول القرآن منجما. المبحث الأول: أول وآخر ما نزل من القرآن. المبحث الثاني: نزوله في مكة والمدينة- المكي والمدني. المبحث الثالث: نزوله على سبعة أحرف. المبحث الرابع: القراءات القرآنية. المبحث الخامس: أسباب النزول.

تمهيد نزول القرآن منجما

تمهيد نزول القرآن [منجما] هذا الباب المهم ينبثق عنه فصول ومباحث هي لبّ علوم القرآن، كنزول القرآن منجما، وأول وآخر ما نزل منه، وأسباب النزول، ونزوله بالأحرف والقراءات، ومن قبل نزوله بالوحي ونزوله من السموات، وغيرها، وأبدأ بالحديث عن معنى النزول والمقصود منه. معنى نزول القرآن: نزول القرآن حقيقة. وماهية هذا النزول لا نعلم منها إلا ما أخبرنا عنها العزيز الحكيم في قرآنه الكريم، قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة من الذكر الذي عند ربّ العزّة، حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم جعل جبريل ينزل على محمد بحراء بجواب كلام العباد وأعمالهم» (¬1). والنزول لا يعني أن هناك تغيرا لحق المنزل في القدر أو المنزلة، فالعظيم أو الكريم ينزل المكان ولا تتغيّر منزلته وقدره، لأن التمايز في القدر قد يكون بين اثنين أو شيئين في موضع واحد، وليس بالضرورة أن يكون أحدهما في مكان أعلى من الآخر. ونقول هذا لنفي أي شبهة يمكن أن تلحق القرآن بعد أن نزّله العليّ القدير على عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن القرآن علي في الأرض، وعليّ في السماء، وعليّ أينما كان، ومعنى ذلك أننا لسنا مضطرين لننفي عن القرآن شبهة تغير قدره بنزوله، فنقول: إن نزوله إعلام، وليس نزولا حقيقيا. فالنزول حقيقي على الوجه الذي يليق بالقرآن، من ¬

_ (¬1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 6/ 628.

كيفية نزول القرآن وحكمة تنجيمه:

غير تكييف ولا تمثيل. وقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (¬1). قال الإمام النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء .. ومختصرهما أن أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حقّ على ما يليق بالله تعالى، وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد، ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق (¬2). وقال سماحة الشيخ ابن باز في تعليقه على شرح ابن حجر لصحيح البخاري: « .. والصواب ما قاله السلف الصالح من الإيمان بالنزول وإمرار النصوص كما وردت من إثبات النزول لله سبحانه على الوجه الذي يليق به من غير تكييف ولا تمثيل كسائر صفاته» (¬3). كيفية نزول القرآن وحكمة تنجيمه: نزل الوحي بالقرآن الكريم على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بعضه في أثر بعض، وأرسل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأعوام- كما يقول ابن عباس- وقد تتابع نزول القرآن ثلاثة وعشرين عاما تقريبا، منها ثلاثة عشرة سنة في مكة، وعشر سنوات في المدينة، وكان نزوله مفرقا كما نطق بذلك القرآن الكريم، في أكثر من سورة وآية. ففي سورة الإسراء: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106]، وغيرها من الآيات. 1 - ولا شك أن في نزول القرآن منجما تثبيتا لقلبه صلّى الله عليه وسلّم فتبقى الغبطة تشرح صدره، ويزداد سروره، كلما تجدد لقاؤه بالوحي الإلهي، وهذا واضح وجلي من ¬

_ (¬1) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 3/ 29 ح (1145)، صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (758) (168). (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي 6/ 36. (¬3) فتح الباري 3/ 29 حاشية.

حزنه صلّى الله عليه وسلّم مرة أو مرات، حين تأخر عنه الوحي، فأقسم له مولاه ليطمئنه أنه ما ودعه ربه وما قلاه: وَالضُّحى 1 وَاللَّيْلِ إِذا سَجى 2 ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: 1 - 3]. إن نزول الوحي مرة، ومرات على فترات، يقوي من عزمه، وفيه مزيد العناية والرعاية والتسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، مما يلقاه من هول ومصاعب تتعب نفسه، وهذا واضح وجلي في نزول القصص القرآني، القصة تلو القصة، ليأخذ منها العظة والعبرة، وإن شأنه مع أمته هو شأن الرسل عليهم السلام مع أممهم: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ .. [هود: 120]. فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ .. [الأحقاف: 35]. 2 - من حكمة تنجيمه في النزول تسهيل حفظه وامتثال أوامره وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] على تمهل وتؤده، فيسهل حفظه لنزوله شيئا فشيئا، ووفق طريقة الصحابة الذين كانوا يتعلمون العلم والعمل معا، فهم يحفظون ويتعلمون ويعملون قولا وعملا. 3 - لقد تكون المجتمع الإسلامي الأول عبر المراحل الزمنية المتتابعة والمتعاقبة، حسب الوقائع والأحداث والظروف التي كان يمر بها بين الحين والحين، ولم يتم هذا طفرة واحدة، وهذه سنن المجتمعات التي تقوم على غير طراز سبق. فالمجتمع الإسلامي لم يتم تكوينه وتأسيسه بين عشية وضحاها، وإنما بدأ وتطور واستوى على سوقه عبر السنوات والأعوام، فقد بدأ بتأسيس العقيدة وكرائم الأخلاق، ثم شرع بالتشريع والأحكام في العبادات والمعاملات، ثم بيان الأحكام الدولية بعد تأسيس الدولة، كل هذا يتطلب مراحل زمنية متعاقبة، تنزل فيها الآيات تبعا للأحداث والوقائع المستجدة، لكل مرحلة من المراحل، وبذلك بني المجتمع لبنة لبنة. ولنضرب لذلك مثلا في تحريم الله تعالى للخمر عبر المراحل الزمنية المتعاقبة. فإن الخمر كانت أعجب شراب لدى العرب، وهي عند مدمنيها عادة مكينة صعبة الترك، وقد حاولت أمريكا من عشرات السنوات تحريم الخمر بتشريع واحد حاسم فعجزت، وأصبح تهريبها إلى عشاقها حرفة رائجة لعشرات العصابات، فعاد البرلمان الأمريكي إلى إلغاء الحظر السابق وإباحة الخمر لجمهور السكارى.

والله عز وجل أحكم من أن يفطم عباده عن هذه الآفة بكلمة واحدة، فشرع لهم ما يبعدهم عن الشراب المحرم رويدا رويدا، حتى إذا تمهد الجو للصراحة الكاملة، والعقاب الشديد، أعلن الحكم الذي سبق الإيماء إليه، فاعتبرت الخمر رجسا، واعتبر شاربوها مجرمين، يضربون بالعصي وبالنعال .. !! والآيات التي نزلت في صدد هذا التحريم هي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما .. [البقرة: 219]. وهذه بداية تؤذن بالخطر، فالقاعدة أن ما غلب شرّه خيره ترك، والشرائع العامّة والخاصّة تقوم على هذا الأساس. ونفع الميسر أن كسبه كان يرمى للفقراء، ونفع الخمر يجيء من الاتجار فيها، أو من النشوة الموقوتة التي تعقب تناولها، بيد أن هذه المنافع خفيفة الوزن إذا ما قورنت بالإضرار والآثام التي تصحب السكر والقمار. ثم بعد ذلك نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .. [النساء: 43]. وهذه سياسة عملية واسعة المدى في تحريم الخمر، فإن الصلاة في الإسلام تكتنف الليل والنهار، ومعنى اليقظة التامة عند قربانها: أن الذين ما زالوا يستهينون بالشراب سوف يكفون عنه أغلب يومهم، كالذي تعود تدخين ثلاث علب من السجاير إذا فرض عليه أسلوب من الحرمان يباعد بينه وبين شهوته، فإن عدد ما يحرقه قد يهبط من ستين سيجارة إلى عشر أو ست. وعند ما تبلغ الإرادة هذا الحد من القدرة والتسامي، فإن القرار الأخير بالحرمان يجيء في إبانه المناسب، وفي أحسن الظروف لتنفيذه، ومن ثم لم يمض كبير وقت حتى نزل النصّ الأخير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 90 إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90 - 91]. وبعد مجيء هذا الإرشاد القاطع شقت بواطي الخمر، وكسرت دنانها، ورمي بها في طريق المدينة ... وعلى هذا النحو حرم الربا عبر مراحل زمنية متعاقبة ما كانت لتتم لو نزل القرآن دفعة واحدة كما تقول عائشة: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة

هل للقرآن نزول آخر غير المعروف على النبي صلى الله عليه وسلم؟.

من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا» (¬1). 4 - من الحكم البالغة في نزول القرآن منجما: الدلالة على الإعجاز القرآني وإثبات مصدره والكلام فيها يطول وقد أشرنا إليه سابقا. هل للقرآن نزول آخر غير المعروف على النبي صلّى الله عليه وسلّم؟. لا يرتاب مسلم في أن القرآن الكريم قد أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم منجما حسبما يصدق ذلك الواقع كما حدثناك عنه. ومع ذلك فقد حلا لكثير من العلماء القول بأن للقرآن نزولا آخر، قال الزركشي: «اختلف العلماء في كيفية نزول القرآن على ثلاثة أقوال. 1 - أنه نزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة. 2 - أنه نزل إلى السماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر في ثلاث وعشرين سنة. 3 - أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات. وذهب الزركشي إلى القول الأول، وقال: إنه الأشهر والأصح وإليه ذهب الأكثرون، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ .. [البقرة: 185] وفي سورة الدخان: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] وفي سورة القدر: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]. فقد دلت الآيات الثلاث أن القرآن أنزل في ليلة تسمى ليلة القدر من شهر رمضان. وقد سأل سائل ابن عباس فقال له: إن هذه الآيات أوقعت في قلبه الشكّ، فكيف ينزل القرآن في ليلة القدر. وهذا أنزل في «شوال» وفي «ذي القعدة» وفي «ذي الحجة» وفي كل الشهور. ¬

_ (¬1) نظرات في القرآن ص 230 - 231. صحيح البخاري 6/ 101 باب تأليف القرآن ح (4993).

فقال ابن عباس: «إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام»، يريد أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل مفرقا يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق، وذكر السيوطي عن ابن عباس عدة روايات أخرى تفيد نزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا (¬1)، فهو حديث ورد عنه من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا. وهو وإن كان موقوفا على ابن عباس، إلا أن له حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. لما هو مقرر من أن قول الصحابي- فيما لا مجال للرأي فيه، إذا لم يكن معروفا بالأخذ عن الإسرائيليات- حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التي لا تعرف إلا من المعصوم. أما حكمة إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا قبل إنزاله مفرقا على النبي صلّى الله عليه وسلّم فهي: أن إنزاله مرتين على وجهين مختلفين، مرة جملة واحدة، ومرة أخرى مفرقا فيه من الاحتفال به والعناية بشأنه ما ليس في إنزاله مرة واحدة على وجه واحد، ولا شك أن في المزيد من العناية به تعظيما لشأنه وشأن من نزل عليه، ثم إن وضعه في مكان يسمى ببيت العزة، يدل على إعزازه وتكريمه، ومن لوازم هذا تكريم المنزل عليه، وتفخيم شأنه، هذا شيء يمكن أن يقال في حكمة إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرقا والله تعالى هو العليم بحقيقة السر في ذلك. وقد ذهب إلى هذا الرأي كثير من الأقدمين والمحدثين منهم الشيخ الزرقاني (¬2) والشيخ محمد أبو شهبة ونص عبارته: (ومعلوم: أن هذا لا يقوله «ابن عباس» بمحض الرأي، فهو محمول على سماعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو ممن سمعه من النبي من الصحابة، ومثل هذا له حكم المرفوع، لأن القاعدة عند أئمة الحديث: أن قول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات فيما لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع، وبذلك ثبتت حجية هذه الآثار) (¬3). ¬

_ (¬1) الإتقان في علوم القرآن 1/ 116 - 119. (¬2) مناهل العرفان ج 1 ص 45. (¬3) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص 51.

هذا الرأي لم يلق استحسانا عند بعض العلماء كالشيخ محمد عبده والأستاذ الدكتور إبراهيم خليفة رئيس قسم التفسير بالأزهر. أما الإمام محمد عبده فقال في تفسيره جزء عم: (إن ما جاء من الآثار الدالة على نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، مما لا يصح معه الاعتماد عليه، لعدم تواتر خبره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم- وأنه لا يجوز الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه، وإلا كان اتباعا للظنّ). أما الأستاذ الدكتور إبراهيم خليفة فقال: (أقول أقصى وأعظم ما استمسك به أصحاب هذا القول هو الآثار التي مدار الأمر فيها جميعا على ابن عباس رضي الله عنهما، وأن حق هذه الآثار أن تعطى حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ونحن لا ننازعهم أولا في ثبوت هذه الآثار عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولا ننازعهم ثانيا في توافر أحد الشرطين بالفعل هنا، وهو كون قول الصحابي في أمر ليس للرأي فيه مدخل، فإن تعيين مكان بالذات في السماء، وتسميته ببيت العزة هو حقا أمر من أمور الغيب التي لا يمكن أن تدرك مثلها بالرأي، ولكنا ننازعهم في توافر ثاني الشرطين اللذين لا بد منهما مجتمعين لإعطاء قول الصحابي حكم المرفوع، وهو كون الصحابي لم يعرف بالأخذ من الإسرائيليات حين يكون لقوله صلة مما لدى بني إسرائيل). ولكنا لا نسلم أن ابن عباس لم يعرف بالأخذ من الإسرائيليات بالرغم من نهيه الصريح عن الأخذ بها. أخرج البخاري عنه في كتاب الشهادات قال: (يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي نزل على نبيه صلّى الله عليه وسلّم أحدث الأخبار بالله تقرءونه لم يشب؟ وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدّلوا ما كتب الله، وغيّروا بأيديهم الكتاب، فقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم بعد ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم) (¬1) اه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري. كتاب الشهادات، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها ح (2685).

فإنه رضي الله عنه وعلى الرغم من نهيه الصريح هذا، قد ثبت عنه الأخذ عن بني إسرائيل، إما من منطلق الأمان على نفسه ما لم يأمنه على غيره، وإما ثقة منه أن ما أخذه عنهم مما لا يخفى حاله على من تدبر أمره، وإما رؤية منه أن ما أخذه عنهم لا يتنافى مع شيء مما جاء في الكتاب والسنة، سواء أخطأ في هذه الرؤية أم أصاب، ودليلنا على أنه رضي الله عنه قد ثبت عنه الأخذ من الإسرائيليات أمور: أحدها: ما ذكره غير واحد من الحفاظ عند ترجمتهم لكعب الأحبار الذي هو أحد رءوس المصادر الإسرائيلية من كون ابن عباس رضي الله عنهما هو أحد الرواة عنه، وانظر في تحقيق ذلك على سبيل المثال لا الحصر «تهذيب التهذيب» للحافظ ابن حجر ج 8 ص 438 وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ صفي الدين الخزرجي ص 321. وثاني هذه الأمور التي يتشكل منها دليلنا على ما نقول في هذه القضية المهمة: روايات قد ثبتت عن ابن عباس رضي الله عنهما بالفعل، لا يشك منصف في أنها من الإسرائيليات، ولا نقول إنها من صنف الإسرائيليات الموافقة للكتاب والسنة، ولا حتى من جنس ما لا تعرف له موافقة ولا مخالفة، بل هي من جنس الإسرائيليات الباطلة المنافرة للعقل وصريح النقل، ونكتفي هاهنا بإيراد مثالين- نستميح قارئنا الكريم العذر في تسويد الصفحات بغثاء ما جاء فيها من الرواية عنه رضي الله عنه. وأول هذه المواضع، ما جاء من روايته في شأن شيطان سليمان الذي أخذ خاتمه من إحدى أزواجه، وتملك على ملكه وأقام حيث كان يقيم سليمان، حتى من نسائه عليه السلام، حسبما تفتري هذه الرواية، ولعله يجدر بنا الآن أن نكلك في سوق الرواية والتعقيب عليها إلى قلم الحافظ ابن كثير عليه الرحمة إذ يقول فيما يقول بعد أن ساق قصة ذلك عن غير واحد من التابعين في تفسير القول الكريم من سورة ص وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ [ص: 34]. وهذه كلها من الإسرائيليات، ومن أنكرها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ [ص: 34] قال أراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يدخل الخلاء، فأعطى الجرادة خاتمه، وكانت

الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فأعطته إياه، فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين، فلما خرج سليمان عليه السلام من الخلاء، وقال لها: هاتي خاتمي، قالت: قد أعطيته سليمان، قال: أنا سليمان، قالت: كذبت ما أنت بسليمان، فجعل لا يأتي أحدا يقول له: أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك سليمان عرف أنه من أمر الله عز وجل، قال: وقام الشيطان يحكم بين الناس، فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يرد على سليمان سلطانه، ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان، قال: فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن: أتنكرن من سليمان شيئا، قلن: نعم إنه يأتينا ونحن حيض، ... إلخ (¬1). أما المثال الثاني: فأورده ابن كثير- أيضا- في تفسيره (¬2) ما جاء عنه في شأن الملكين والمرأة التي مسخت فكانت كوكب الزهرة، روى عن ابن عباس من قصة طويلة أن هاروت وماروت هبطا إلى الأرض، وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئا، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمن إدريس عليه السلام، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وأنهما أتيا عليها، فخضعا لها في القول، وراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها عن دينها، فأخرجت لهما صنما فقالت: هذا أعبده، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فغبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها، فراوداها عن نفسها، ففعلت مثل ذلك، فذهبا ثم أتيا عليها، فراوداها عن نفسها، فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا هذا الصنم، وإمّا أن تقتلا هذه النفس، وإمّا أن تشربا هذه الخمر. فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر، فشربا، فأخذت فيهما، فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه، فلما ذهب عنهما السكر، وعلما ما ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 4/ 39. (¬2) المرجع السابق 4/ 144.

وقعا فيه من الخطيئة، أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه، فعجبوا كل العجب، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض فنزل في ذلك وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل فهما يعذبان، وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا، ثم قال: صحيح الإسناد لم يخرجاه (¬1). إن هذه الروايات قد ثبتت عن ابن عباس كما قال ابن كثير، وهي تدل على أخذه بالإسرائيليات كما بينا، لذا ترد هذه الرواية- نزول القرآن إلى السماء الدنيا دفعة واحدة- ولا تعطى حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن من شروطه أن يكون مما لا مجال للرأي فيه، وأن يكون الصحابي ممن لم يأخذ بالإسرائيليات فيما له صلة بالرواية فقط، فإن لم يكن للإسرائيليات صلة فتقبل الرواية. وبهذا يكون القول الراجح في كيفية نزول القرآن: أن القرآن الكريم قد ابتدأ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما على مدار السنوات على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والله أعلم. ¬

_ (¬1) المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوري 2/ 442.

المبحث الأول أول وآخر ما نزل من القرآن

المبحث الأول أول وآخر ما نزل من القرآن ليس من غرضنا في هذا البحث بيان أول ما نزل وآخر ما نزل في موضوعات معينة، إذ إن هذا يحتاج إلى جهد عظيم، بل إلى تكاتف الجهود في إخراج مثل هذه الدراسة الجديرة بكل عناية ورعاية، وقد حاول الشيخ محمد عزة دروزة في كتابه التفسير الحديث الذي جعل محوره العناية بالتتبع التاريخي لنزول القرآن ولكنه إذ قارب من ترتيب السور نزولا إلا أن متابعة الآيات حسب نزولها التاريخي ما زال بينه وبين ذلك بون شاسع. إن مدار البحث في معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل إنما هو البحث عن الرواية والنقل، ولا مجال للعقل فيه إلا بمقدار الجمع أو الترجيح عند اختلاف النقل. أولا: أول ما نزل من القرآن إطلاقا: 1 - أصح الأقوال وأقواها أن أول ما نزل هو الآيات الخمس في صدر سورة العلق، كما روى ذلك الإمام البخاري ومسلم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت (¬1): أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء. فكان يأتي حراء فيتحنث (¬2) فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني (¬3). حتّى بلغ مني الجهد، ثم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري. كتاب بدء الوحي. باب كيف كان بدء الوحي ح (3)، ومسلم في كتاب الإيمان. باب بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 1/ 139 ح (160) (252). (¬2) يتحنث: يتعبد. (¬3) ضمني وعصرني.

أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5]. بهذه الآيات الخمس استهل نزول القرآن ليعلمنا أن العلم والتعلم والكتابة بالقلم هي الوسيلة التي لا وسيلة غيرها لتبليغ هذه الرسالة في مقتبل عمرها، وقد أصبح معلوما بل بدهيا أن هذه الآيات الخمس هي أول ما نزل من القرآن. 2 - القول الثاني: روي عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله أن أول ما نزل هو سورة المدثر، وأسوق إليك هذه الروايات بطولها دون اختصار لسندها ومتنها لحكمة مقصودة قصدها الإمام البخاري من تعداده للطرق واختلاف الرواة. فقد رواه أولا- عن يحيى بن موسى البلخي، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1]. قلت: يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فرأيت شيئا، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، وصبّوا عليّ ماء باردا، قال: فدثروني، وصبوا عليّ ماء باردا، فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1 - 2]» (¬1). ورواه ثانيا- عن محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي وغيره- أي أبو داود الطيالسي- قالا: حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الحديث نفسه (¬2). ¬

_ (¬1) فتح الباري 8/ 676. ح (4922). (¬2) المرجع السابق ح (4923).

ورواه ثالثا- فقال: باب قوله: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الصمد، حدثنا حرب، حدثنا يحيى، قال: سألت أبا سلمة: أيّ القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلت: أنبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله: أيّ القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلت: أنبئت أنه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، قال: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جاورت في حراء، فلما قضيت جواري هبطت، فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، وصبّوا عليّ ماء باردا». «وأنزل عليّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ 2 وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» (¬1). ورواه رابعا- فقال: باب وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، وحدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء، جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجثوت منه رعبا، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني»، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (¬2). ورواه خامسا- فقال: باب وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وحدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن عقيل، قال ابن شهاب: سمعت أبا سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدث عن فترة الوحي: «فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثوت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت: زملوني، زملوني، فزملوني» فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. ¬

_ (¬1) فتح الباري 8/ 676. ح (4924). (¬2) المرجع السابق. ح (4925).

قال أبو سلمة، ثم حمي الوحي وتتابع (¬1). هذا الصنيع الذي نهجه الإمام البخاري في سوقه روايات القصة عجيب، ولعله من أسرار جامعه التي لم يسبر غورها، فالقصة واحدة تدور رواياتها كلها حول موضوع واحد، والسائل في الروايات الثلاث الأولى واحد، وهو يحيى بن أبي كثير، والمسئول فيها واحد، هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، والمجيب فيها واحد، هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما. وفي الرواية الرابعة والخامسة لم يذكر يحيى بن أبي كثير، وإنما ذكر فيهما ابن شهاب الزهري مخبرا عن أبي سلمة بما حدثه به جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد استعصى على الباحثين تأويل هذه الأحاديث المروية عن جابر، فمنهم من أبقاها على التعارض، وجزم بخطإ جابر، كما ذهب إلى ذلك الإمام النووي الذي جازف فحكم على هذه الأحاديث الثابتة في صحيحي البخاري ومسلم بأنها باطلة، ومقام النووي في فضله وعلمه بالسنة النبوية، ودرجات الحديث صحة وضعفا، وورعه وفقهه في الدين كان يقتضيه التريث والتعمق في تطلب مخارج لهذا الحديث، وعدم بت الحكم في بطلان هذه الأحاديث، على أن للحديث مخارج تحميه من مثل هذه الأحكام المتسرعة، ومن العلماء من حاول الجمع بين حديث عائشة وحديث جابر. ومن المحاولات الضعيفة في الجمع بينهما ما قاله الحافظ جلال الدين السيوطي في الإتقان من أن السؤال كان عن نزول سورة كاملة، فبين جابر أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ (¬2). وهذا القول يبطله ما ثبت في الصحيحين أن سورة المدثر لم تنزل بتمامها وكمالها بل نزلت متفرقة حتى قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. أما الكرماني فرد على حديث جابر قائلا: إن جابرا استخرج ذلك باجتهاده وليس من روايته، فيقدم عليه ما روته عائشة. وهذه أقوال لا تستند إلى دليل، ونحن إذا ¬

_ (¬1) المرجع السابق ح (4926). (¬2). 1/ 69.

تأملنا الأحاديث نجد أن الأمر لا يدعو إلى الحيرة والدهشة، فالأحاديث قد قررت الحقائق التالية كما يقول أستاذنا محمد الصادق عرجون: أولا: أن الروايات الثلاث الأولى كانت عن أول ما نزل من القرآن والجواب فيها كان من أبي سلمة بأن أول ما نزل، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وجاءت معارضة يحيى بن أبي كثير لأبي سلمة، بذكره له ما هو متداول عند أهل العلم بأن أول ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، وبيان أبي سلمة بأن جابرا قد قال له مثلما قال، وساق له حديث تجلي جبريل وهو يناديه. ثانيا: أن الرواية الرابعة والخامسة تفيد أن الزهري أخبره أبو سلمة وسمع منه ما حدثه به جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي، وقد جاء فيه «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس بين السماء والأرض». ثالثا: أن جابرا رضي الله عنه لم يتعرض في حديثه إلى نفي أو إثبات أن قرآنا نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل فترة الوحي، ولم يتعرض في حديثه لأبي سلمة لقصة غار حراء قبل فترة الوحي، وما جرى فيها من أحداث كانت معروفة لأهل العلم من جمهور الصحابة، وما نزل فيها من أوائل سورة العلق. ولعل جابرا لم يكن قد وصل إلى علمه شيء من قصة حراء، وما نظن أن أحدا يزعم أن كل صحابي يجب عليه أن يحيط بجميع جزئيات وقائع الوحي. أو لعل جابرا رضي الله عنه كان على علم بقصة الوحي في غار حراء، ولكنه لم يجعلها بمعرض حديثه لأبي سلمة في الجواب عن سؤاله، لأن هذا الحديث كان في مناسبة خاصة، هي عودة الوحي بعد فترة ولا شك أن أول ما نزل حينئذ هو: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ، كما يدل عليه صراحة رواية الزهري بسنديها عن فترة الوحي. وقد حسم ابن حجر العسقلاني هذه المسألة حسما حكيما وموفقا فقال: دل قوله عن «فترة الوحي» وقوله: «الملك الذي جاءني بحراء» على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ، ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، أو ما نزل، ورواية الزهري هذه صحيحة ترفع الإشكال (¬1). ¬

_ (¬1) فتح الباري 1/ 28.

ثم قال في تفسيره سورة اقرأ، ورواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر تدل على أن المراد بالأولية في قوله أول ما نزل سورة المدثر، أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي. 3 - وأما ثالث الأقوال في المسألة فيقول السيوطي رحمه الله في الإتقان: (القول الثالث: سورة الفاتحة، قال في الكشاف: ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن أول سورة نزلت «اقرأ» وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب. قال ابن حجر: والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول. وأما الذي نسبه الزمخشري إلى الأكثر فلم يقل به إلا أقل القليل بالنسبة إلى من قال بالأول. حجة هذا القول ما أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من طريق يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لخديجة: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، والله خشيت أن يكون هذا أمرا»، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فو الله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له، وقالت: اذهب مع محمد إلى ورقة، فانطلقا فقصا عليه، فقال: «إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد. فأنطلق هاربا في الأفق»، فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه: يا محمد قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1 الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى بلغ وَلَا الضَّالِّينَ .. الحديث، هذا مرسل رجاله ثقات. قال البيهقي: إن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر (¬1). أما الحافظ ابن كثير رحمه الله فقد ساق الحديث في كتابه (البداية والنهاية) من رواية البيهقي وأبي نعيم في دلائلهما عن عمرو بن شرحبيل ثم قال: (هذا لفظ البيهقي وهو مرسل وفيه غرابة وهو كون الفاتحة أول ما نزل) (¬2). ¬

_ (¬1) ج 1. ص 94 فما بعدها. (¬2) ج 3. ص 9 فما بعدها.

أقول: كون الحديث مرسلا أمارة كافية على ضعفه وعدم صلوحه للدلالة على أمثال هذه المطالب، لو استقل بنفسه، ولم يعارضه غيره، فكيف وقد عارضه غيره من حديث الشيخين السابق في أوائل هذا المبحث عن عائشة رضي الله عنها، والقاضي بأولية نجم العلق. وبعد: فإنه لا يخفى عليك سقوط محاولة الجمع بينه وبين حديث الصحيحين، والتي حاولها البيهقي، إذ قال في النقل الآنف عنه من نص السيوطي (إن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر). أما أولا- فلأنه إنما تتحمل مئونة الجمع إذا صح الخبر المعارض لما هو مثله في الصحة أو أصح منه، والخبر هنا ضعيف لا وزن له. وأما الثانية- فلأن في متن هذا الخبر شاهد ضعفه بل سقوطه بالكلية، أليس فيه الزعم بخشيته صلّى الله عليه وسلّم بسبب سماعه النداء إذا خلا وحده، بل بانطلاقه عند سماعه النداء هاربا، وأنه لم يثبت له إلا بعد أن نصح له ورقة بالثبات، فكيف يصلح هذا بأي وجه من الوجوه في عقل عاقل بعد ما قد عرف الوحي وتحقق من صدقه وحقيقته، وتمت له النبوة والرسالة جميعا بنزول نجمي العلق والمدثر معا على ما زعم هذا الجامع، فمن ثم كان الصواب كل الصواب في طرح مثل هذا الخبر بالكلية وراء الظهر على مثل ما فعل الإمام النووي عليه الرحمة من إهماله وعدم المبالاة به أصلا، فقال، وصدق فيما قال في شرحه لمسلم: (وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر) (¬1). وعلى الرغم من وضوح الأمر، بحيث لا يشتبه على ذي لب، أن ما بني عليه هذا القول من الشبهة هو بحيث لا يستقيم لا سندا ولا متنا. نقول على الرغم من وضوح الأمر بالنسبة لهذا القول، فإن البعض من أهل هذا العصر، وأعنى بهذا البعض الأستاذ الإمام محمد عبده قد اقتدى بالزمخشري، ولنورد لك الآن قوله بتمامه على ما نقله عنه تلميذه الأخص صاحب المنار والذي لم ير- ¬

_ (¬1) ج 2، ص 208.

على خلاف عادته- موافقة قول أستاذه للصواب، أو قل قد رأى بالفعل مجانبة أستاذه للصواب. فقال رحمه الله في أول تفسير الفاتحة: وأما الأستاذ الإمام فقد رجح أن الفاتحة أول ما نزل على الإطلاق: ولم يستثن قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ونزع في الاستدلال على ذلك منزعا غريبا في حكمة القرآن وفقه الدين فقال ما مثاله: ومن آية ذلك: أن السنة الإلهية في هذا الكون- سواء كان كون إيجاد أو كون تشريع- أن يظهر سبحانه الشيء مجملا ثم يتبعه التفصيل بعد ذلك تدريجيا، وما مثل الهدايات الإلهية إلا مثل البذرة والشجرة العظيمة، فهي في بدايتها مادة حياة تحتوي على جميع أصولها، ثم تنمو بالتدرج حتى تبسق فروعها بعد أن تعظم دوحتها، ثم تجود عليك بثمرها. والفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف، كقولهم إن أسرار القرآن في الفاتحة، وأسرار الفاتحة في البسملة، وأسرار البسملة في الباء، وأسرار الباء في نقطتها، فإن هذا لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عليهم الرضوان، ولا هو معقول في نفسه، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى سلب القرآن خاصته وهي البيان. بعد هذا الكلام المبهم، أخذ الإمام يفسر سورة الفاتحة إلى أن قال: إن سورة الفاتحة مشتملة على ما اشتمل عليه القرآن، فلا بدّ أن تكون هي الأولى في النزول بمكة (¬1). القول الرابع: ما ذكره السيوطي في الإتقان قال: وأخرج الواحدي بإسناده عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وأول سورة نزلت اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وقد ردّ أستاذنا الشيخ عبد الوهاب غزلان على كلام السيوطي قائلا: «ويندفع كلام السيوطي بأن الأحاديث الصحيحة التي روي فيها نزول صدر سورة العلق لم يرد فيها ذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فهو قول ضعيف، ولضعفه أعرض عنه الزركشي، فلم يذكره، ولم يشر إليه، وكذلك لم يذكره النووي في شرح مسلم ولم يشر إليه عند ما ذكر الأقوال في أول ما نزل من القرآن» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تفسير المنار لسورة الفاتحة، ج 1 ص 13، 35 - 38. (¬2) البيان ص 81 وما بعدها، ومنة المنان في علوم القرآن ج 2 ص 353 - 354.

ثانيا: آخر ما نزل من القرآن إطلاقا:

ثانيا: آخر ما نزل من القرآن إطلاقا: لم يرد في آخر ما نزل حديث مرفوع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بل وردت آثار صحيحة عن الصحابة- رضوان الله عليهم-، ونرى أن الجدير من هذه الأقوال ثلاثة وما عدا ذلك فبعيد عن الاعتبار: أما القول الأول: فرواه البخاري (¬1) عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: (آخر آية نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم آية الربا) والمراد بها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: 278]. وروى الإمام أحمد والنسائي والبيهقي عن عمر (أن من آخر ما نزل آية الربا .. ) وهناك زيادة في الرواية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مات ولم يبين لنا آية الربا إشارة إلى قرب وفاته. أما القول الثاني: فما أخرجه النسائي وابن مردويه وابن جرير من طرق مختلفة عن ابن عباس: آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]. أما القول الثالث: فما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن آخر آية نزلت آية الدين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282]. موقف العلماء من هذه الأقوال: يقول أستاذنا الشيخ عبد الوهاب غزلان: هذه الروايات الواردة في آخر ما نزل وهي متعارضة. ومن المعلوم أنه إذا تعارضت الروايات في أمر من الأمور فإما أن يرجح بعضها على بعض، وإما أن يجمع بينهما إن أمكن الجمع بلا تكلّف (¬2). أما الترجيح فيقتضي القول بترجيح ما رواه البخاري في صحيحه أن آية الربا هي آخر ما نزل. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، ح (4544). (¬2) البيان، ص 83.

ومن العلماء من قال بترجيح نزول آية: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281]. وقد ذهب إلى ذلك الزرقاني وقال: إن النفس تستريح لمثل هذا القول لما تحمله هذه الآية في طياتها من الإشارة إلى ختام الوحي والدين، بسبب ما تحث عليه من الاستعداد ليوم الميعاد، وما تنوه به من الرجوع إلى الله، واستيفاء الجزاء العادل من غير غبن ولا ظلم، وذلك كله أنسب بالختام من آيات الأحكام المذكورة في سياقها. وأيد ذلك أيضا أن الروايات قد نصت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عاش بعد نزولها تسع ليال فقط ولم تظفر الآيات الأخرى بهذا التنصيص. أما الجمع بين هذه الروايات فهو المسلك الاسم والأصوب، ما دام الجمع ممكنا، وهو مقدم على الترجيح، لأن في الجمع إعمال الأدلة، وفي الترجيح إهمال لبعضها. لذا فقد سلك الإمام السيوطي هذا الطريق، ونقل ذلك عن الحافظ ابن حجر العسقلاني. قال السيوطي: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا، واتقوا يوما، وآية الدّين لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ولأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما أنزل بأنه آخر وذلك صحيح. هذا القول السديد في آخر ما نزل، وبالتأمل الدقيق في هذه الروايات نجد دلائل قوية مع من ذهب إلى الجمع بين الأقوال، ونجد ضعف حجج المرجحين. أما دلائل الجمع بين الروايات فلما أسلفنا من أن إعمال جميع الأدلة خير من إهمال بعضها، وليس في هذه الروايات ما يناقض بعضه بعضا، حتى نرجح بعضها أو نسقط شيئا منها. وكذلك فإن ابن عباس، الذي صح عنه رواية آخر ما نزل آية الربا، هو نفسه من روى عنه آية وَاتَّقُوا يَوْماً .. ، ولا يعقل أن يناقض نفسه. فالأولى أن نقول بعدم التناقض في أقواله.

أما القول بترجيح آية: وَاتَّقُوا يَوْماً .. ، فإن هذه الرواية وإن ارتاحت النفس إلى أنها آخر ما نزل إلا أنها لا تعدل في سندها رواية آية الربا التي رويت في صحيح البخاري. وغني عن البيان تقديم روايات البخاري على غيره، فلا نقدم رواية وَاتَّقُوا يَوْماً عليها لأنها أضعف سندا، أما دعوى أن آية وَاتَّقُوا يَوْماً ... قد اقترن بها ما يفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعش بعدها إلا تسع ليال فليست هذه قرينة على أنها متأخرة في نزولها على آيتي الربا والدّين، لأن في آية الربا رواية مساندة تقول بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مات ولم يبين لنا آية الربا لقرب وفاته، وفي آية الربا دلالة على أنها آخر ما نزل، حسبما وردت الروايات الصحيحة، وهي مقدمة في صحتها على رواية نزول آية: وَاتَّقُوا يَوْماً ... كما أن الرواية تقول: إن آية الدّين أحدث آية بالعرش، وما كان كذلك يدل على أنها آخر القرآن نزولا، لأن الأحدث نزولا من العرش هو الآخر نزولا إلى الأرض. من أجل كل هذا وغيره نقول: إن آخر ما نزل هو جميع هذه الآيات ويساعد على ذلك ترتيبهما في المصحف بل رأى ابن حجر أنها قصة واحدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 278 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ 279 وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 280 وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 281 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ .. [البقرة: 278 - 282] الآية. إنها حقا قصة واحدة ومجالها المعاملة المالية، لأن الآيات تتحدث عن ربا النسيئة وهو المراد هنا، وإنما يترتب على الدّين، فهي في أمرين، أحدهما متفرع عن الآخر وبهذا يكونان في قصة واحدة. ويؤيد ذلك صنيع البخاري في صحيحه في كتاب التفسير باب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] ثم ذكر حديث ابن عباس (آخر آية نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم آية الربا).

شبهات في آخر ما نزل من القرآن:

يقول الحافظ ابن حجر في شرح الحديث- ورقمه (4555) -: كذا ترجم المصنف بقوله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ أخرج هذا الحديث بهذا اللفظ، ولعله أراد أن يجمع بين قولي ابن عباس، فإنه جاء عنه ذلك من هذا الوجه، وجاء عنه من وجه آخر: آخر آية نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ أخرجه الطبري من طرق عنه، وكذا أخرجه من طرق جماعة من التابعين، وزاد ابن جريج قال: «يقولون: إنه مكث بعدها تسع ليال» ونحوه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وروي عن غيره أقل من ذلك وأكثر، فقيل: إحدى وعشرين، وقيل: سبعا، وطريق الجمع بين القولين أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هي معطوفة عليهن. شبهات في آخر ما نزل من القرآن: وردت روايات عن الصحابة صحيحة، وأخرى ضعيفة في أواخر ما نزل من القرآن وليس في هذه الروايات ما رفع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فتحتمل أن تكون الرواية قالها الصحابي بضرب من الاجتهاد، وتحتمل أن تكون آخر ما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولا يلزم أن يكون آخر ما سمعه هو آخر القرآن نزولا، لأن قول الصحابي في مثل هذا الأمر، يعطي حكم الموقوف، ولا يعطي حكم الرفع، لأن مضمونها لا يتوقف على التلقي والتوقيف، بل يمكن معرفته عن طريق ملازمة الرسول في أيامه الأخيرة. فكلّ يرى أنه سمع من الرسول صلّى الله عليه وسلّم شيئا من القرآن قبل وفاته لم ينزل عليه بعده شيء فيكون آخر ما نزل من القرآن بحسب ظنه واجتهاده، كما في حديث عثمان المشهور «براءة من آخر ما نزل». وكما ورد عن عائشة (أن آخر سورة نزلت المائدة) ومن هذه الآثار ما رواه الشيخان عن البراء بن عازب، أن آخر سورة نزلت براءة، وأخرج مسلم عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1]. وفي هذه الروايات الصحيحة نظر في متنها، والكلام يطول في مناقشة كونها آخر ما نزل، وفي دعوى نزولها كاملة، أو نزول معظمها إذ من المحتم من خلال استقراء

خطأ شائع في ادعاء أن آية اليوم أكملت لكم دينكم هي آخر ما نزل:

الآيات وأسباب نزولها أنها لم تنزل دفعة واحدة، لذا حملت هذه الروايات على أن كل واحد أجاب بما عنده حسب ظنه الذي لا يوافق ظن غيره فيما قاله، أو تحمل هذه الروايات على أن هذه السور القرآنية من أواخر ما نزل ولكنها ليست الآخرية المطلقة. وهناك روايات كثيرة في آخر ما نزل، حمل الكثير منها على أنها آخر ما نزل في موضوع معين، كآية الكلالة حملت على أنها آخر ما ورد في الميراث، وآية: .. إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ .. [المائدة: 90]. حملت على أنها آخر ما نزل في الخمر وهكذا .. خطأ شائع في ادعاء أن آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هي آخر ما نزل: أفردت (¬1) الحديث عن هذه الآية القرآنية للخطأ الشائع الذائع عنها، فإني قد وجدت هذا الخطأ مكررا ومرددا في جميع العالم الإسلامي، خلال تدريسي في الجامعات العربية، كنت أسأل هذا السؤال كمقدمة لمحاضرتي ما آخر ما نزل من القرآن؟ فيرد الجميع: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً .. [المائدة: 3]. إنني أعزو هذه الظاهرة إلى التأليف المتعجل في مادة التربية الإسلامية ونقل الكلام على علاته. وقد كان مصدر المؤلفين جميعا كتاب تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري بك، الذي لم ينقح الأقوال في هذا الموضوع. منشأ هذه الشبهة: أشهر الكتب القديمة في علوم القرآن كتابا البرهان في علوم القرآن للزركشي والإتقان في علوم القرآن للسيوطي. أما الزركشي فأورد الأقوال في آخر ما نزل والتي بلغ بها عشرا ولم يشر إلى آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أنها آخر ما نزل. وأما السيوطي فقد عقب على الأقوال في آخر ما نزل، وقال: من المشكل على ما تقدم قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فإنها نزلت بعرفة، ثم أورد قول السدي وجماعة: لم ينزل بعدها حلال ولا حرام. ¬

_ (¬1) انفرد بهذا المطلب د/ محمد علي الحسن.

وهذا القول على الرغم مما قيل في سنده، إلّا أن ابن جرير قد استشكل عليه فهم السدي ومن وافقه من أن المقصود من إكمال الدين، في هذه الآية، أن جميع الفرائض والأحكام قد تمت قبل نزولها، مع أنه نزل بعدها آية الربا وآية الدين وهما من آيات الأحكام. وقد دفع ابن جرير هذا الإشكال بقوله: (والأولى أن نتأول آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً .. على أن الله أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه حتى حج المسلمون لا يخالطهم المشركون). ثم أيده بما روي عن ابن عباس: (كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت «براءة» نفي المشركون عن البيت الحرام، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين) فمعنى الآية أن المراد بإكمال الدين إكمال سلطانه وسطوته، وإعلاء كلمته وتقوية شوكته، حيث ذل المشركون أما المسلمين، وخضعوا لقول الله تعالى في السورة نفسها «براءة»: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: 9]. فلم يجترئ أحد منهم على مخالفة هذا الحكم. هذا التأويل الذي ذهب إليه السدي، ومن وافقه، لا ينفي أن ينزل بعدها آيات في الحلال والحرام. في الوعظ والتذكير والوعد والوعيد ونحو ذلك. وأخيرا فإن الزعم بأن هذه الآية آخر ما نزل، لم يقل به أحد من السلف فيما أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر جامع البيان في تفسير هذه الآيات من سورة المائدة.

المبحث الثاني المكي والمدني من القرآن المراد بالمكي والمدني:

المبحث الثاني المكي والمدني من القرآن المراد بالمكي والمدني: لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيان في ذلك، لأن المسلمين آنذاك لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان، فهم يشهدون الوحي ومكانه وزمانه، وأسباب نزوله بل ينتظرونه أحيانا لتوضيح مسألة أو للحكم في قضية. إنما وقع الخلاف بين العلماء حين غابت هذه الظروف، وامتد الزمن حول بعض الآيات وبعض السور، وأظهر ما يكون الخلاف في السور المكية وآياتها، لأن حوادث مكة لم تعد واضحة بينة مثل حوادث المدينة. وقد تعددت وجهات النظر حول الأسس والضوابط في تقسيم القرآن الكريم إلى مكي ومدني، فمن العلماء من اعتبر الزمان، ومنهم من اعتبر المكان، ومنهم من راعى توجيه الخطاب. والأول هو المشهور عند أئمة التفسير، بل المجمع عليه، لأنه تقسيم ضابط وحاصر ومطرد، فما نزل من القرآن قبل الهجرة فهو مكي، وإن نزل خارج مكة، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني، وإن نزل خارج المدينة، بل لو نزل في مكة ذاتها. لذا فقد جعلوا سورة النصر مدنية، وقد نزلت في مكة، واعتبروا آية المائدة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 5] مدنية كذلك، وقد نزلت على عرفات قرب مكة. أما من جعل المكان مناطا للتقسيم فقال: ما نزل في مكة فهو مكي، وما نزل في المدينة فهو مدني، ولما كان من الآيات ما نزل خارج مكة وخارج المدينة، فقد وسع هؤلاء الدائرة المكانية فقالوا: ما نزل بمكة وضواحيها كمنى وعرفات والحديبية فهو مكي، وما نزل بالمدينة وضواحيها كبدر وأحد فهو مدني، وعلى الرغم من ذلك بقى هذا التقسيم غير شامل ولا حاصر لكثير من الحالات، إذ إن من الآيات ما نزل في غير مكة والمدينة وضواحيها، كالآيات التي نزلت في بيت المقدس وتبوك وغيرها، مما اضطر بعضهم إلى تقسيمه أربعة أقسام كما قال ابن النقيب في مقدمة تفسيره:

الطريق لمعرفة المكي والمدني:

(المنزل من القرآن أربعة أقسام، مكي ومدني وما بعضه مكي وبعضه مدني، وما ليس بمكي ولا مدني)، أي لم ينزل في مكة ولا في المدينة. ولا يخفى عليك أن هذا التقسيم غير حاصر ولا ضابط ولا مطرد فهو مخل بالمقصود. أما التقسيم الذي نظر فيه إلى توجيه الخطاب، فما وجّه فيه الخطاب لأهل مكة فهو مكي، وما وجّه فيه الخطاب لأهل المدينة فهو مدني، فهو أيضا غير شامل ولا حاصر لجميع الآيات القرآنية، إذ من الآيات ما لم يرد فيها خطاب لأهل مكة ولا لأهل المدينة، كالآيات التي خاطبت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحده، بل من الآيات لم يرد بها الخطاب لأحد من هؤلاء جميعا، كآيات القصص والأخبار، فماذا يمكن أن يقال عن مثل هذه الآيات؟! بل ماذا يقال عن الآيات التي نزلت بعد أن عمّ نور الإسلام المدينة ومكة معا، وأصبح الخطاب موجها للجميع دون استثناء، بل موجها لجميع الخلق بإنسها وجنّها. ويبقى القول الأول هو الصحيح الذي لا محيص عنه لضبطه وحصره وشموله لجميع القرآن، وقد ورد النص الصريح عن الصحابة في اعتبار هذا الرأي، فقد قالوا عن سورة النصر: إنها مدنية، وقالوا عن آية المائدة السابقة الذكر: إنها مدنية كذلك، وهذا القول ينسجم والتقسيم الأول. هذا هو الاصطلاح المعتمد عند جمهور المفسرين وبذلك وافقوا أقوال الصحابة أن سورة الفتح وآية المائدة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ مدنية كذلك لنزولهما بعد الهجرة، وإن هما نزلتا في مكة، وقالوا: إن آيات فرض الصلاة مكية، وإن نزلت في السموات لنزولها قبل الهجرة. الطريق لمعرفة المكي والمدني: يقول الباقلاني: (إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين إذا لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك قول لأنه لم يؤمر به) (¬1). ¬

_ (¬1) الإتقان 1/ 23.

فالصحابة رضوان الله عليهم قد شاهدوا الوحي ونزوله، وقد بلّغهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان ينزل عليه من الآيات، وقد بلغونا بما بلغهم، بل أخبرونا بالمكان والزمان الذي نزلت فيه الآيات، بل بلغت بهم الدقة أن أخبرونا بما نزل منه ليلا أو نهارا، وما نزل منه في سفر أو في حضر، في سهل أو في جبل، بالصيف أو بالشتاء، وما نزل بيت المقدس والجحفة والطائف والحديبية، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (والله الذي لا إله غيره، ما نزلت آية في كتاب الله، إلّا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت) (¬1). وروي مثل ذلك عن وهب بن عبد الله بن أبي الطفيل، قال: شهدت عليا رضي الله عنه يخطب ويقول: (سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء إلّا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلّا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل). فأمر معرفة المكي والمدني سماعي عن الصحابة رضوان الله عليهم لأنهم شاهدوا الوحي ونزوله، وعرفوا مكانه وزمانه، وقولهم في ذلك له حكم المرفوع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن ذلك مما لا مجال للرأي فيه، فإذا صح القول عن الصحابي قبل ولا يعدل عنه إلّا بدليل أقوى يقتضي هذا العدول. وقد ألحق الباقلاني قول التابعي فجعله كقول الصحابي، لأن كبار التابعين قد شاهدوا من شاهد نزول الوحي، ونقلوا إلينا أقوالهم، فإذا ما أخبرونا بأن هذه الآية مكية قبل قولهم، وقد قبل الإمام الشافعي مراسيل كبار التابعين في الحديث، أفلا يقبل إخبارهم بمكان نزول الآيات. سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال: (نزلت في سفح ذلك الجبل)، وأشار إلى سلع، فإخبار عكرمة بذلك لا يكون إلّا إذا سمعه من الصحابة الذين عرفوا هذا المكان، فأخبروه بما رأوا وسمعوا، ولا أدل على ذلك من أن ابن مسعود رضي الله عنه على الرغم من القول الذي نقل عنه في معرفة زمان ومكان النزول، إلّا أن ما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه. كتاب فضائل القرآن. باب القراء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ح (5002).

مميزات المكي والمدني:

روي عنه نزر يسير، وهو إذا لم يكتم علما في معرفته نفع للأمة، فإنه يكون قد علّمه إلى من سمع منه من التابعين رضوان الله عليهم. يبقى القول في بعض الآيات التي اختلف في زمن وموطن نزولها، هذه الآيات قلائل، وقد أمكن معرفتها وفق معايير دقيقة، كالنظر في طابع الآيات المكية والمدنية، ومميزات كل منها ومدى انطباق الآيات عليها، أو بالتتبع التاريخي لسير الدعوة الإسلامية ومقتضيات كل مرحلة، أو قرائن أخرى يعرفها المتمرس في القرآن وعلومه، والله أعلم. مميزات المكي والمدني: تحدثنا عن الطريق الموصلة لمعرفة المكي والمدني، وعرفنا أن السبيل إلى ذلك هو السماع عن الصحابة- رضوان الله عليهم- أو عن كبار التابعين، بيد أن هناك بعض الآيات التي اختلف في مكيتها ومدنيتها مما اضطر العلماء إلى القول فيها بالاجتهاد والقياس، وذلك وفق ضوابط أو قرائن يمكن بوساطتها الحكم عليها، ولدى استقراء الآيات القرآنية وجد أن للمكي ضوابط ومميزات معينة تختلف نوعا ما عن الطابع المدني أبرزها: 1 - أن السور المكية يغلب على آياتها القصر، فسورة المدثر على سبيل المثال عدد آياتها ست وخمسون آية، وجلّ آياتها كلمتان أو ثلاث أو بضع كلمات على الأكثر ولا يستثنى من ذلك إلّا آية واحدة رقم (31): وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31]. أما السور المدينة فنحن نلحظ طول آياتها (¬1)، وإذا قارنا حزبا من الأحزاب القرآنية المكية كالحزب الذي فيه سورة الشعراء، وحزبا مدنيا كالذي فيه سورة الأنفال، نجد فارقا عظيما في عدد آيات الحزب المكي والحزب المدني. ¬

_ (¬1) اقرأ إن شئت أطول آية في القرآن على الإطلاق، وهي آية الدّين (282) في سورة البقرة والتي تبلغ حوالي صفحة من القرآن.

أما السور المدنية فأهم مميزاتها:

فعدد آيات سورة الشعراء المكية (227) آية، بينما سورة الأنفال (75) آية، وبالاستقراء فإن مجموع الآيات المدنية في القرآن لا يزيد على ربع مجموع الآيات المكية ومع ذلك فإننا نجد مساحتها في المصحف تزيد على الآيات المكية زيادة واضحة. 2 - يغلب على السور المكية معالجة قضايا العقيدة، وإقامة الدليل، والدعوة إلى نبذ عبادة الأصنام، وخلع المعتقدات الفاسدة. نلحظ ذلك بوضوح في سورة الأنعام، ويونس والفرقان، والشعراء، والقصص .. 3 - كل سورة ذكرت فيها سجدة فهي مكية، وكذلك القصص إلّا قصة آدم وإبليس المذكورة في البقرة فهي مدنية. 4 - كل سورة ورد فيها لفظ (كلا) مكية وقد ذكر هذا اللفظ ثلاثا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة، وكلها في السور الأخيرة في القرآن كسورة اقرأ والمطففين وغيرهما. 5 - يغلب افتتاح النداء بالآيات المكية ب: يا أيها الناس ويا بني آدم. 6 - كل سورة مبدوءة بأحرف التهجي مكية إلّا البقرة وآل عمران فهما مدنيتان وسورة الرعد فيها خلاف. أما السور المدنية فأهم مميزاتها: 1 - من المعلوم أن المجتمع الإسلامي قد ظهر في المدينة لأول مرة، وقد تعرضت الآيات القرآنية لبناء المجتمع وتأسيسه على أساس الأخوة، لذا نجد أن كل سورة تتحدث عن المهاجرين والأنصار فهي مدنية، كما عنيت الآيات المدنية بفضح المنافقين ومكائدهم، وكشف اليهود وتعريتهم على حقيقتهم، فكل سورة ذكر فيها النفاق فهي مدنية إلّا سورة العنكبوت، فإنها مكية عدا الآيات الإحدى عشر الأولى منها، فإنها مدنية وهي تتحدث عن المنافقين، وهكذا فإن كل سورة يذكر فيها أهل الكتاب من يهود ونصارى فهي مدنية أيضا. 2 - ولما كانت مرحلة ما بعد الهجرة قد تميزت بقيام الدولة الإسلامية، المكلفة بنشر الإسلام، لذا فكل سورة فيها حكم يعالج قضايا التشريع والأحكام، من

عبادات ومعاملات ونظام للأسرة فهي مدنية، وكل سورة فيها ذكر للجهاد وما يترتب عليه من أحكام دولية كحكم الأسرى والغنائم والسلم والمعاهدة فهي مدنية، وقد جاء النفس في هذه الآيات طويلا ليوائم الموضوع الذي تعالجه. 3 - ولما تكوّن المجتمع المؤمن المتميز عن المجتمعات الكافرة ناسب أن يكون النداء الموجّه من الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وقلما نجد نداء موجها لأهل المدينة مصدرا بيا أيها الناس، إلّا إذا كان في موضوع عام يتناول الناس جميعا، وقد جاء ذلك في سبعة مواضع منها: أ- ما جاء في سورة البقرة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21]. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [البقرة: 168]. ب- ما جاء في سورة النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النساء: 1]. وقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء: 133]. ج- ما جاء في سورة الحجرات قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]. د- وأضاف العلماء إلى ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1]. فإنها نزلت ليلا عند السفر لغزوة بني المصطلق، وقد كان ذلك في السنة السادسة للهجرة. وبعد: فإن هذا القول منسوب لابن مسعود: «إن ما ورد فيه النداء القرآني ب يا أَيُّهَا النَّاسُ أنه مكي، وما ورد النداء في السور ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنه مدني (¬1). ¬

_ (¬1) قاله الزركشي في البرهان في علوم القرآن 1/ 189.

وقد وقع معه بعض من لا خبرة له في هذا الشأن في التناقض، وعدم الفهم لحقيقة مراد الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، فردّ على هذا القول بأن متنه مجانب للصواب وأن سنده أشد ضعفا. والواقع أنه رضي الله عنه يريد ما هو من سور القرآن مشتمل على النداء ب يا أَيُّهَا النَّاسُ مع خلو تلك السورة من النداء ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... فهو مكي. وما هو مشتمل على النداء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... مع خلو السورة من النداء ب يا أَيُّهَا النَّاسُ فهو مدني. وحينئذ يكون قد سكت رضي الله عنه عما يكون مشتملا على النداءين مجتمعين كسورة البقرة وسورة النساء وسورة الحج مثلا. وما تكلم عنه هذا الحبر (عبد الله بن مسعود) مضطرد لا كلام في متنه ولا سنده، وما سكت عنه يحتاج إلى بحث في جعل السورة مكية أو مدنية، وذلك بالدليل والقرينة.

المبحث الثالث نزول القرآن على سبعة أحرف

المبحث الثالث نزول القرآن على سبعة أحرف طالما شغل هذا الموضوع العلماء- قديما وحديثا- قال الطبري: إن الأقوال فيه فاقت الثلاثين قولا، وأوصلها بعضهم إلى أربعين ونيف، وكلها لم يخل من مقال، وقد أشبع العلماء الأوائل هذه الأقوال نقدا وتفنيدا، أذكر- على سبيل المثال لا الحصر-: الإمام الطبري في تفسيره جامع البيان، وابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز، والثعالبي في كتابه الجواهر، وابن كثير، والنيسابوري، والقرطبي، وخلائق لا يحصون، كما عني به علماء القراءات كابن الجزري في كتابه النشر في القراءات العشر، وقد قال: إن هذا الموضوع قد شغله ما يزيد على ثلاثين عاما ونيف، ثم قال: إن الله هداه إلى ما يمكن أن يكون صوابا، ومع هذا التواضع العلمي لم يوفق للصواب. وفي عصرنا انساق كثير من العلماء وراء أقوال لا تخلو من ضعف ووهن، وإن تابع بعضهم بعضا، وهم- على جلالة قدرهم- مقلدون لمن سبقهم، فقد استحسن الشيخ عبد العظيم الزرقاني رأي ابن قتيبة وابن الطيب أبي بكر الباقلاني والرازي، ودافع عنه كثيرا وجاء من بعده متأثرا بهذا الرأي. ولكي نعطي هذا المبحث حقه من البيان يجدر بنا أن نسوق أولا الأحاديث الواردة في هذا الموضوع: 1 - عن عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكدت أساروه في الصلاة، فتصبّرت حتى سلّم، فلبّبته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على

حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أرسله، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت»، ثم قال: «اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه» (¬1). 2 - عن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل رجل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرءا فحسّن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قد غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله عزّ وجلّ فرقا، فقال لي: «يا أبيّ أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هوّن على أمتي، فردّ إلي الثانية اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثالثة اقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردّة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهمّ اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي .. » (¬2). 3 - عن أبيّ بن كعب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان عند أضاة بني غفار، قال: فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمتي لا تطيق ذلك» ثم أتاه الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمتي لا تطيق ذلك» ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته إنّ أمتي لا تطيق ذلك» ثم جاء الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري 6/ 100، 3/ 90، 8/ 53، ح (2419) و (4992) و (5041) و (6936) و (7550)، والإمام مسلم 1/ 560 ح (818) (270). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 562، ح (820) (273). (¬3) صحيح مسلم 1/ 260، ح (821) (274).

ما يستفاد من هذه الأحاديث:

4 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده. ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» (¬1). 5 - عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» (¬2). 6 - عن أبي بن كعب قال: لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل فقال: «يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، قال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف» (¬3). ما يستفاد من هذه الأحاديث: 1 - إن الخلاف الواقع بين عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم، إنما هو ناجم عن نطق في هيئات الكلمة القرآنية، كما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكما علّمها لأصحابه رضوان الله عليهم، تأمل قول عمر وهشام في رواية الحديث: قال عمر: إني سمعت هذا- يعني هشاما- يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فالخلاف هو في قراءة الكلمات، ومصدره النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو الذي أقرأ عمر، وهو الذي أقرأ هشاما، وهذه القراءة التي علّمهم إياها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصدرها الوحي، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصوبا لكل واحد منهما ومخبرا أن قراءة الآيات من قبلهما بأنها هكذا أنزلت، وحكم بالصواب لكل قراءة بقوله: «أصبت». فالأحرف في نطق اللفظ، وليس في قراءة القرآن فيما معناه كما يقال، ولا تغيير اللفظ بمرادف. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ح (3219)، وصحيح مسلم 1/ 561 ح (819) (272). (¬2) رواه أحمد في مسنده 5/ 391، والبزار والطبراني وفيه عاصم بن بهدلة قال الهيثمي: وفيه كلام لا يضر، والحديث صحيح. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه 5/ 194 ح (2944)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

قال ابن الجزري: (وأما من يقول: إن بعض الصحابة كابن مسعود كان يجيز القراءة بالمعنى، فقد كذب عليه، إنما قال: نظرت القرّاء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم» (¬1). فلو كانت الأحرف هي القراءة بما معناه أو تبديل الكلمة بمرادف لما صح قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت». 2 - تدلنا هذه الأحاديث بصراحة ووضوح أن المراد بالعدد سبعة هو حقيقة العدد المحصورين بين الثمانية والستة وليس المراد به الكثرة. وقد تاهت أقلام بعض الأقدمين والمحدثين في حقيقة هذا العدد، وقالوا: إن المراد به الكثرة لا تحديد العدد سبعة، وقد ذهب إلى ذلك الأستاذ سعيد الأفغاني عميد كلية الآداب في جامعة دمشق، وقرر ذلك في مقدمته لكتاب (حجة القراءات لأبي زرعة) وهو رأي قد سبق إليه من الأقدمين كالقاضي عياض ومن تبعه (¬2). والذي نراه صوابا هو ما ذكرته الأحاديث السالفة الذكر، وهو أن المراد بالسبعة هو حقيقة العدد وليس المراد به الكثرة، وهذا ما ذهب إليه أكثر الأقدمين والمحدثين. قال ابن الجزري بعد أن ساق كلام الذين يرون أن العدد سبعة يفيد الكثرة، قال: «وهذا جيد لولا أن الحديث يأباه» (¬3)، فالروايات واضحة وصريحة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد راجع جبريل وطلب المزيد حتى بلغ سبعا (¬4)، نعم إن الروايات لا تشير بمجموعها إلى أن المراجعة بلغت ستا، بصريح العبارة، ولكن لفظ الحديث يدل على أن النهاية قد انتهت وثبتت ووصلت إلى العدد سبعة، ومما يفيد هذا ما رواه أبو بكرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة» (¬5). وهل هناك ما هو أوضح من القول: فلم أنزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» (¬6). ¬

_ (¬1) النشر في القراءات العشر تحقيق د. محمد سالم محيسن، الناشر مكتبة القاهرة، 1/ 86. (¬2) حجة القراءات، لأبي زرعة، ص 8 - 9. (¬3) القراءات عند المفسرين، ص 5. والنشر في القراءات العشر 1/ 77. (¬4) سنن النسائي في جامع ما جاء في القرآن 2/ 154. (¬5) النشر في القراءات العشر 1/ 77 وانظر سند أحمد 5/ 41، 51. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه ح (4991)، ومسلم ح (819).

معنى الأحرف السبعة

وهذا الرأي الذي رجحه الأستاذ محيي الدين خليل في بحث مستفيض [كلمتان بين المفسرين والمحدثين وأهل اللغة (سبعة) و (سبعين)]، فقد قرر بعد استعراض شامل وخلص إلى القول: (إننا نجد أن المعاجم اللغوية على كلمة سواء فيما يختص بالسبعين والسبعمائة وهو أنهما تكررتا في القرآن الكريم والحديث الشريف، والعرب تضعهما موضع التضعيف ولا تريد معناهما اللغوي في كثير من الأحيان، ولكن هذه المعاجم لا تلتقي على كلمة سواء فيما يختص بالسبعة «والسبع» رغم تكرارهما في القرآن والحديث ولغة العرب) (¬1). ونحن إذ ما أمعنا النظر في الأحاديث ونصوصها، فإننا نجد أن المراد بالسبعة هو العدد المحصور بين الستة والثمانية، وليس المراد فيها الكثرة في الآحاد. 3 - نلمس من هذه الأحاديث أن نزول القرآن على سبعة أحرف فيه تسهيل وتيسير على الأمة، ويدلنا على ذلك مراجعة النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل بأن يسأل ربه التخفيف والمعافاة، حتى بلغ ما بلغ من الأحرف السبعة. 4 - هذه الأحاديث هي عمدة الكلام حول الأحرف السبعة، وقد اخترنا الصحيح منها بل المتواتر، وقد ضربنا صفحا عن ذكر الأحاديث التي لم تصح سندا، فالحديث عنها لا طائل تحته. هذا ما أردنا التنويه إليه مما يستفاد من الأحاديث، حتى يكون عونا لنا في تحديد المراد فيما بعد. معنى الأحرف السبعة المعنى اللغوي: الأحرف جمع حرف وقد ورد بمعنى كثيرة: حرف الشيء طرفه. والحرف هو أحد حروف التهجي، كالألف حرف، والباء حرف، والحرف يطلق على الوجه، ومنه ¬

_ (¬1) البحث مطبوع ونشره مركز البحوث في جامعة الملك سعود.

المعنى الاصطلاحي للأحرف السبعة:

قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الحج: 11] يعني أنهم عبدوه على وجه الشك لا على اليقين والتسليم لأمره، قال مجاهد: على شك، وهذا علامة على القلق وعدم الثبات كضعف القائم على حرف مضطرب فيه، يكاد يسقط عنه. وقال الحافظ أبو عمرو الداني إن من معاني الأحرف: اللغات، يعني أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات، وقيل: اللغات يعني اللهجات. وعلى هذا فالحرف لغة: (يعني الطرف، وأحد حروف التهجي، والوجه واللغة واللهجة). أما كلمة السبعة، فكما سبق أن قلنا: إن المراد منها حقيقة العدد المحصور بين الستة والثمانية وليس المراد منها المعنى المجازي. المعنى الاصطلاحي للأحرف السبعة: على الرغم من كثرة الأقوال التي تحدد المعنى الاصطلاحي للأحرف السبعة، إلّا أنه يمكن رد كثير منها وفق قاعدة متفق عليها «أن كل قول لا يستند إلى أثر ثابت هو مردود أيضا» مثل قول ابن مسعود المنسوب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والقائل: (كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد، وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم ومتشابه وأمثال» (¬1). فهذا القول لم يصح، فقد أخرجه الحاكم والبيهقي، وليس سنده يصح، ولو صح السند لكان حاسما للنزاع، على أنه قد روي عن ابن مسعود قول خلاف ذلك كما قال الطبري. أو مثل القول: «محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص». كل هذه الأقوال وأمثالها قد ضربنا عنها صفحا ولم نتكلف الرد عليها لعدم استنادها إلى الدليل. وبعد: فنبدأ برأي الطبري الذي استهل به تفسيره الشهير، وقد أطال كثيرا في تحديد المعنى لها وقد وافقه الطحاوي، واستفتح به القرطبي سائر الأقوال- وإن لم يوافقه. ¬

_ (¬1) جامع البيان 1/ 23، قال السيوطي: حديث ابن مسعود أخرجه الحاكم والبيهقي، الإتقان 1/ 48.

وقد تأثر بعض المحدثين بقول الطبري، كما ظهر في كتاب مباحث في علوم القرآن (¬1). لقد فسر الطبري الأحرف السبعة بأنها سبعة أوجه، ولكنها ليست كالأوجه السبعة التي سيأتيك ذكرها بل أوجه سبعة من المعاني المتفقة والألفاظ المختلفة في الكلمة الواحدة نحو هلم وأقبل وأسرع وتعال وعجل وقصدي ونحوي وقربي (¬2). فلك أن تختار أي لفظ من هذه الألفاظ، وهذا معنى التسهيل والتيسير على الأمة، وقد أورد الطبري الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكرة: «كلّها شاف كاف»، إلّا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، على نحو هلم وتعالى وأسرع وأقبل .. إلخ. أو كما روي في حديث أبي بن كعب: (قلت: غفورا رحيما أو قلت: سميعا حكيما أو قلت: عليما حكيما أو قلت: عزيزا حكيما، أي ذلك قلت فإنه كذلك). واستدلوا على هذا القول بقراءات مروية عن أعيان الصحابة، مثل أبي بن كعب، وهو أقرأ الصحابة كما ورد، «أقرؤكم أبي» فقد روي أنه قرأ قوله تعالى: .. مَشَوْا فِيهِ .. [البقرة: 20]، أبدلها بقوله: «مروا فيه، سعوا فيه». وقرأ قوله تعالى في سورة الحديد: .. لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا .. [الحديد: 13]. قال: (أمهلونا، أخرونا، ارقبونا). أما أنس بن مالك فقرأ قوله تعالى في المزمل: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6]. قال: (وأصوب قيلا، فقيل له: أقوم فقال: وأصوب وأهيأ واحد) (¬3). أما ابن مسعود فقد أقرّ رجلا قرأ قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ 43 طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 43 - 44] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر مباحث علوم القرآن، للشيخ مناع القطان. (¬2) جامع البيان 1/ 20. (¬3) جامع البيان 1/ 18، والحديث رواه أبو يعلى والبزار. (¬4) انظر تفسير الآية للطبري والقرطبي.

حين قال طعام الأثيم فقال: (قل: طعام الفاجر) هذا قول الطبري وهو فاسد من وجوه كثيرة: 1 - أن الآثار التي استند إليها في الأحرف السبعة لم يصح منها إلّا ما أوردناه سابقا، أو ما هو قريب من لفظة ومعناه، أما هذه الروايات المروية عن الصحابة فلم تثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. 2 - أن الآثار المروية عن الصحابة، رضوان الله عليهم، على فرض صحتها هي قراءات شاذة لا يعتد بها في الاستشهاد. 3 - لم يعتبر أحد أن هذه القراءات قرآنية، لأنها لم تتواتر وهي قراءات إن صحت على أبعد احتمال، فلا تعدو أن تكون قراءة آحاد مخالفة للسواد، فلا يعتد بها كما قال أبو حيان. 4 - على أن العلماء مع اتفاقهم جميعا دون استثناء، على أنها ليست قرآنا، قد اختلفوا في اعتبارها حديثا وهي على أحسن تقدير تفسير صحابي. 5 - أن القراءة بالمرادف يفتح باب التغيير والتبديل فليس للنبيّ ولا لصحابي أن يبدل اللفظة من بعض هذه الألفاظ من تلقاء نفسه، فإن هذا القرآن المعجز لو حذفت أو أبدلت كلمة منه ثم أدرت لسان العرب كله على أن تأتي بدلها ما استطعت. إن كلمة هلم أو أقبل أو نحوي، لا يمكن أن تسد مسد كلمة تعال لا في اللفظ وتناسقه وسياقه، ولا في أداء المعنى الدقيق لهذه الكلمة. فهل كلمة هلم وأقبل ونحوي وأسرع ... تسد مسد كلمة تعال؟ أو كلمة أقوم مثل: أهيأ وأصوب، أو كلمة «طعام الفاجر» مثل طعام الأثيم .. لقد خاض العلماء في ذلك وكتبوا في تشابه القرآن في آياته بزيادة حرف أو نقص أو بإبدال كلمة مكان كلمة، وقالوا في ذلك عجبا، وبينوا، وبينوا الإعجاز الرباني في الإبدال والنقص والزيادة، فكيف يكون قوله عزيزا حكيما، مثل عليما حكيما ما لم نخلط آية عذاب برحمة أو العكس كما زعموا. قال أبو بكر الباقلاني: (فلا يجوز للناس أن يبدلوا أسماء الله تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف).

إن هذا القول رغم إجلالنا لقائله وهو ابن جرير الطبري إلّا أنا نقول كما قال علماؤنا: هذا الرجل كبير، ولكن الحق أكبر منه، لذا فقد خالفه جماهير العلماء فيما ذهب إليه. ولو أمعن بعض المحدثين فيما اعترض به على ابن جرير لما ذهبوا مذهبه، بل أوقعتهم ثقتهم بهذا المفسر العظيم حين افتتح كتابه بالحديث عن علوم القرآن، وبحث الأحرف السبعة، وأطال الاستدلال، فتوهم هؤلاء بأن رأيه الحق الذي لا بديل له. أما القول الثاني فهو رأي ابن قتيبة وابن الجزري والقاضي الباقلاني ابن الطيب والرازي وابن كثير، وقد قال به كثير من المحدثين كالزرقاني الذي تابعه كثيرون. لقد قال هؤلاء جميعا: إن المراد بالأحرف السبعة أوجه سبعة، وهي لا تخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف (¬1). الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع، وتذكير وتأنيث مثاله قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون: 8] لأمانتهم بالإفراد، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ لأماناتهم بالجمع. الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر مثاله قوله تعالى: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سبأ: 19] «ربنا بعّد بين أسفارنا». الثالث: اختلاف في وجوه الإعراب. مثاله: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة: 3] ورسوله بالضم، ورسوله بالفتح. الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة، مثاله: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل: 3] (والذكر والأنثى) بنقص لفظ وما خلق، ونحو «أوصى» «ووصى» بنقص حرف الهمزة. الخامس: الاختلاف في التقديم والتأخير، مثاله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة: 111] بمعنى قاتل ومقتول، أو «فيقتلون ويقتلون» بمعنى مقتول وقاتل، وكلاهما موعود بالحسنى وبالجنة، ومثاله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] «وجاءت سكرة الحق بالموت». ¬

_ (¬1) النشر في القراءات العشر 1/ 27.

المعنى الثالث: الأحرف السبعة هي لغات سبع متفرقة في القرآن،

السادس: الاختلاف بالإبدال وهو قسمان: إبدال حرف قريب المخرج بحرف قريب مثله وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة: 29] «وطلع منضود». والثاني: إبدال كلمة بكلمة وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] كالصوف المنفوش بدل العهن. السابع: اختلاف اللهجات كالفتح والإمالة والترقيق التفخيم وغير ذلك. وإذا تأملت هذه الأوجه فإنها لا تخلو من نقد، وهي أوجه فيها نظر من نواح كثيرة. فالأمثلة القرآنية هي روايات آحادية لا تثبت قرآنيتها كما يقول أبو حيان: «رواية آحاد مخالفة للسواد فلا يعتد بها» (¬1) فقوله: «وجاءت سكرة الحق بالموت» وقوله: «والذكر والأنثى» بدل «وما خلق الذكر والأنثى» وقوله: «كالصوف المنفوش» بدل «العهن المنفوش» كل ذلك لم يثبت رواية ولم يصح سندا. ثم إن المتأمل لهذه الأوجه لا يلمس وجه الحكمة والتسهيل على الشيخ الكبير والطفل الصغير من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. المعنى الثالث: الأحرف السبعة هي لغات سبع (¬2) متفرقة في القرآن، وهي لغات أحياء من قبائل العرب مختلفة، نزل بها القرآن الكريم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان يأمر كتبة الوحي، وهم من قبائل شتى من قريش وغيرها، بكتابته، وقام عثمان بن عفان وأمر الكتبة حين كتابة القرآن إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش، ومعنى ذلك أن القرآن منه ما قرئ بلغة قريش، ومنه ما قرئ بغيرها كما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا سبب اختلاف الصحابة في قراءة القرآن، فمن سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن على وجه، فإنه يقرأ على هذا الوجه، ومن سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن على وجه آخر، فإنه يقرأ على الوجه الذي سمعه كذلك، وربما سمع أحدهم ما لا يسمعه الآخر فينكر عليه، فحين قرأ هشام الفرقان أنكر عليه عمر ذلك لأنه لم يسمعها من النبي صلّى الله عليه وسلّم على الوجه الذي سمعه هشام. ¬

_ (¬1) تفسير البحر المحيط 8/ 483. (¬2) القرطبي 1/ 38 - 39.

فالأحرف السبعة كلها مسموعة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد نزل بها الوحي. أما إنها لغات سبع، فلما روي عن عثمان، أنه أمر كتبة الوحي إن اختلفوا مع زيد بن ثابت في كتابة شيء من القرآن أن يكتبوه بلغة قريش، لأنها اللغة الشائعة، فهي أحق من غيرها إذا وقع الاختلاف، فلغة قريش إذن معها لغات أخرى. إن تفسير الأحرف السبعة باللغات السبع يلمس فيه وجه التخفيف والتسهيل، فالقبيلة قد تعتاد لهجة معينة يسهل عليها النطق بها، ويصعب عليها النطق بغيرها، وفي نزول القرآن بهذه اللغات، يسهل على أصحاب كل لهجة القراءة القرآنية على نحو ما اعتادت عليه نطقه، ورفع الحرج عن من لم يعتد عليه نطقا، وعلى الأخص الشيوخ والنساء والأطفال، وهذا ما بين وجه الحكمة في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أمتي فيها الشيخ الفاني والعجوز الكبير والغلام». ثم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ .. ». وقد يعترض على هذا القول فأي اللغات السبع تريد والعرب قبائل شتى؟ هل هي قريش وثقيف وهذيل وهوازن وكنانة وتميم أو غيرها؟ وما هو الدليل على تعيين هذه اللغات أو اللهجات السبع التي نزل بها القرآن، علما بأن القبائل العربية كثيرة ولهجاتها لا تعد. أقول: إن الأحرف السبعة هي لغات سبع اشتهرت شهرة بين العرب ولم يعينوا من هم، ولكنها سبعة على أية حال، قد عرفنا لغة قريش على وجه التأكيد، بل منهم من يرى أنها سبع لغات من لغات قريش. أورده النيسابوري في تفسيره قائلا: أكثر العلماء على أنها سبع لغات من لغات قريش، لا تختلف ولا تتضاد، بل هي متفقة المعنى، ثم يقول: وغير جائز عندهم أن يكون في القرآن لغة لا تعرفها قريش. ذلك أن قريشا تجاور البيت، وكانت العرب تأتي إليهم للحج، ويستمعون لغاتهم، ويختارون من كل لغة أحسنها كلاما، واجتمع لهم ذلك العلم بلغة غيرهم (¬1). ¬

_ (¬1) في مقدمة الغرائب للنيسابوري.

أما الألسن فلا حاجة بنا إلى معرفتها، وقد قيل: إن خمسة منها لعجز هوازن، واثنين منها لقريش وخزاعة، روي ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله، وذلك أن الذي روى عنه أن خمسة منها من لسان العجز من هوازن، هو الكلبي عن أبي صالح، وأما الذي روى عنه أن اللسانين الآخرين لسان قريش وخزاعة فهو قتادة، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه (¬1)، فهذه روايات لم يصح سندها فلا يعول عليها، أما رواية الكلبي فهي من أوهى الطرق عن ابن عباس، وهي كما يقول علماء الحديث سلسلة الكذب. أما الرواية عن قتادة فلا تقبل لأنها عنعنة المدلس، قال الطبري: إن قتادة لم يلق ابن عباس ولم يسمع منه (¬2). وعلى كل حال فاللغات السبع لم ترد على سبيل التحديد ولكن لغة قريش واحدة على وجه التأكيد. وقد يعترض على ذلك أيضا أن عمر بن الخطاب قد اختلف مع هشام بن حكيم في قراءة القرآن، وهما قرشيان، ولغتهما واحدة، ولهجتهما واحدة، فالخلاف وقع بينهما وهما من قبيلة واحدة، فلو كان الأمر كما زعمت أن الأحرف هي اللغات لم تصح دعواك. ويجاب عن ذلك: أن قراءة القرآن على لغة قريش لا يعني الاقتصار عليها، فقد يكون هشام بن حكيم القرشي قد سمع القرآن بلغة أو بلهجة أخرى، فلما قرأها باللغة الأخرى استنكرها عمر، لأنه لم يسمعها كما سمعها هشام، بل الأمر كذلك حسب الرواية أن هشام كان يقرؤها على حروف كثيرة كما وردت، على أن هشام لم ينكر على عمر بل الذي وقع منه الإنكار عمر، لأنه لم يسمع القراءة التي قرأها هشام، والتي ربما كانت قراءة إضافية عما قرأها عمر. وبعد: فقد آن لنا أن نتساءل حول إشكال وقضية في نهاية هذا البحث، أما الإشكال فناجم عن الأحرف السبعة والقراءات السبع. وهل هما من المترادفات وإن كل واحد منهما يعني الآخر سواء بسواء، أو هما غير ذلك. ¬

_ (¬1) المزهر، للسيوطي 1/ 210. (¬2) جامع البيان 1/ 66.

فالجواب: إنهما قطعا حقيقتان متغايرتان مختلفتان، وإن تداخلتا تداخلا طفيفا. أما وجه التغاير والاختلاف فالحرف غير القراءة كما بينا، أما وصف الاثنين بالسبعة، فالسبعة الأولى أي الأحرف السبعة ربانية المصدر بعددها، فالقرآن نزل على سبعة أحرف ابتداء، أما السبعة التي هي وصف للقراءات فهي اصطلاح عند علماء القراءات، فابن مجاهد رأى أن أشهر القراء سبعة، وهذا ما أوقع في الإشكال. أما وجه التداخل فهو أن الأحرف السبعة ربانية كما بينا، والقراءات السبع وإن كانت منسوبة إلى القراء السبعة، إلّا أنها ليست من وضعهم بل هم قرءوها كما نزل بها الوحي السماوي فليست القراءات سبع على وجه التحديد، إنما هي اختلاف ألفاظ الوحي كما نطقها النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأخيرا فقد عقد القرطبي فصلا في مقدمة تفسيره وقال: هذه القراءات السبع التي تنسب للقراء السبعة، ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، فالقراءات هي اختيارات أولئك الأئمة السبعة (¬1). قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث «أنزل القرآن على سبعة أحرف» وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة وإنما يظن بعض الجهال (¬2). وبهذا الكلام رفع الإشكال. أما القضية فهي: هل القرآن الكريم الذي بين أيدينا يحوي الأحرف السبعة؟ وهل أمر عثمان بن عفان بكتابة الأحرف السبعة أو أنه أمر بإهمال ستة منها والإبقاء على حرف واحد. قبل الإجابة نبادر أولا بتقرير حقيقة لا مجال للشك فيها عند الفريقين المختلفين في وجود الأحرف السبعة، هذه الحقيقة مسلم بها عند كلا الفريقين، ألا وهي أن القرآن الكريم الذي بين أيدينا اليوم لا نقص فيه ولا زيادة على ما جمعه عثمان بن عفان، وبعث به إلى الأمصار، وإن ما صنعه عثمان كان بإجماع الصحابة رضوان الله ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن 1/ 48. (¬2) اللئالئ الحسان، ص 183.

عليهم، والزاعمون بالنقص لآيات أو سور هم مارقون في دين الله تعالى أينما كانوا وأينما وجدوا. إنما الخلاف بين العلماء في وجود الأحرف السبعة أو عدم وجودها، وهل يشتمل عليها القرآن الكريم الذي بين أيدينا أو لا يشتمل.؟ أقول: إن مرد هذا الخلاف راجع إلى تحديد المراد بالأحرف السبعة. فالقائلون بأنها أوجه سبعة، كما سبق بيانها، والقائلون بأنها سبع لغات من لغات أو لهجات القبائل العربية. هؤلاء جميعا قالوا بوجود الأحرف السبعة في القرآن الكريم، فالأوجه السبعة المذكورة بأمثلتها موجود منها ما هو متواتر في المصاحف المتعددة التي نسخها عثمان وبعث بها إلى الأمصار. وقد احتج هؤلاء بالإجماع من قبل الصحابة على ما فعله عثمان، الذي نسخ القرآن من المصحف عينه، الذي كان موجودا عند حفصة. وهو المصحف عينه الذي كان موجودا عند أبي بكر، وهو عين المصحف الذي كتب أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، والتي عرضها النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتين في رمضان على جبريل عليه السلام. وأما القائلون بأنها سبع لغات، بمثل ما فسرها ابن جرير بأنها مترادفات سبع- اختلاف الألفاظ واتحاد المعنى- فإن هذا الفريق يرى أن الأحرف السبعة غير موجودة في القرآن، وأنقل إليك كلمة ابن جرير الطبري في مقدمة تفسيره معبرا عن وجهة نظره ونظرهم أوضح تعبير. يقول ابن جرير: (والآثار الدالة على أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمة الله عليه، جمع المسلمين- نظرا منه لهم، وإشفاقا منه عليهم، ورأفة منه بهم، حذار الردّة من بعضهم بعد الإسلام، والدخول في الكفر بعد الإيمان، إذ ظهر من بعضهم بمحضره، وفي عصره التكذيب ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، مع سماع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم النهي عن التكذيب بشيء منها، وإخباره إياهم أن المراء فيها كفر- فحملهم رحمة الله عليه، إذ رأى ذلك ظاهرا بينهم في عصره، ولحداثة عهدهم بنزول القرآن، وفراق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياهم بما أمن عليهم معه عظيم البلاء في الدين من تلاوة القرآن- على حرف واحد.

وجمعهم على مصحف واحد وحرف واحد، وخرّق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه، أن يخرقه. فاستوسقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها، طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها) (¬1). ثم يقول: (فلا قراءة اليوم للمسلمين إلّا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية)، وابن جرير بعد هذا الكلام يرد على اعتراض مفترض فيقول: (وكيف جاز لهم ترك قراءة أقر أهموها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمرهم بقراءتها؟) يجيب عن ذلك: (قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة، لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم لوجب أن يكون العلم بكلّ حرف من تلك الأحرف السبعة، عند من تقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر، ويزيل الشك من قرأة الأمة، وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين) (¬2). وقد لاقى رأي الإمام الطبري معارضة قوية عند الأقدمين والمحدثين، وقد تكلم الزرقاني كلاما طويلا في الرد على من قالوا: إن الباقي الآن حرف واحد من السبعة التي نزل بها القرآن، أما الستة الأخرى فقد ذهبت ولم يعد لها وجود البتة، ونسوا أو تناسوا تلك الوجوه المتنوعة القائمة في القرآن على جبهة الدهر إلى اليوم، ثم حاولوا أن يؤيدوا ذلك، فلم يستطيعوا أن يثبتوا للأحرف الستة التي يقولون بضياعها نسخا ولا رفعا، وأسلمهم هذا العجز إلى ورطة أخرى، هي دعوى إجماع الأمة على أن تثبت على حرف واحد، وأن ترفض القراءة بجميع ما عداه من الأحرف الستة، وأنى يكون لهم هذا الإجماع ولا دليل عليه؟ هنالك احتالوا على إثباته بورطة ثالثة، وهي القول بأن استنساخ المصاحف في زمن عثمان رضي الله عنه، كان إجماعا من الأمة على ترك الحروف الستة، والاقتصار على حرف واحد هو الذي نسخ عثمان ¬

_ (¬1) جامع البيان 1/ 21. (¬2) جامع البيان 1/ 22.

المصاحف عليه، وقصارى ما استطاعوا أن يسوغوا به مذهبهم وتورطاتهم هذه، أن الأمة على عهد عثمان رضي الله عنه قد اختلفت في قراءات القرآن إلى حد جعلهم يتنازعون ويترامون بتكفير بعضهم للبعض الآخر، حتى خيفت الفتنة، فرأى الصحابة بقيادة خليفتهم الحكيم عثمان رضي الله عنه، أن يعالجوا المشكلة ويطفئوا الفتنة، وبهذه الطريقة جمع الناس على حرف واحد، ونسخ المصاحف على حرف واحد، وإهمال كلّ ما عداه من الحروف والمصاحف المنسوخة عليها. وهذا- لعمرك- استناد مائل، واحتجاج باطل. فقد تنازع الناس على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أيضا في قراءات القرآن على حروف مختلفة، ومع ذلك أقرّهم الرسول على هذه الحروف المختلفة، وقرّرها فيهم، وحملهم على التسليم بها في أساليب متنوعة، وجعل ذلك هو الحل الوحيد لمشكلتهم، والعلاج الناجع لنزاعهم، وأفهمهم أن تعدد وجوه القراءة إنما هو رحمة من الله بهم، وقرّر في صراحة، وهو يسأل مولاه المزيد من عدد الأحرف، أن الأمة لا تطيق حصرها في مضيق حرف واحد، وقال: «وإن أمتي لا تطيق ذلك» إلى آخر ما عرفت، وأنت خبير بأن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم باقية إلى يوم القيامة، وهي لا تطيق ذلك كما قرّر رسولها المعصوم الرحيم صلوات الله وسلامه عليه، كما نشاهد نحن الآن من أن بعض الألسنة في بعض الشعوب الإسلامية، لا يتيسر لها أن تحسن النطق ببعض الحروف، ولا ببعض اللهجات دون بعض، فكيف يسوغ للصحابة وهم خير القرون، أن يغلقوا باب الرحمة والتخفيف الذي فتحه الله لأمة الإسلام، مخالفين بذلك هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في عمله للتخفيف بطلب تعدد الحروف، وعلاجه للنزاع بين المختلفين بتقرير هذا التعدد للحروف؟. ألا إن هذه ثغرة لا يمكن سدّها، وثلمة يصعب جبرها، وإلّا فكيف يوافق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ضياع ستة أحرف، نزل عليها القرآن دون أن يبقوا عليها مع أنها لم تنسخ ولم ترفع؟ وعلى حين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قرّر بقوله وفعله، أنه لا يجوز لأحد أيّا كان أن يمنع أحدا أيّا كان من القراءة بحرف من السبعة أيّا كان. فقد صوّب قراءة كلّ من المختلفين، وقال لكل: «هكذا أنزلت» وضرب في صدر أبي بن كعب حين استصعب عليه التسليم بهذا الاختلاف في القراءة.

وقصارى القول، أننا نربأ بأصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يكونوا قد وافقوا أو فكروا، فضلا عن أن يتآمروا على ضياع أحرف القرآن الستة دون نسخ لها. وحاشا لعثمان رضي الله عنه، أن يكون قد أقدم على ذلك وتزعمه، وكيف ينسب إليه هذا؟ والمعروف أنه نسخ المصاحف التي جمعت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، قبل أن يدب النزاع في أقطار الإسلام بسبب اختلاف حروف القراءة في القرآن. فكانت تلك الصحف محتملة للأحرف السبعة جميعا، ضرورة أنه لم يحدث وقتئذ من النزاع والشقاق ما يدعو إلى الاقتصار على حرف واحد في رأيهم، ولم يثبت أن الصحابة تركوا من الصحف المجموعة على عهد أبي بكر حرفا واحدا، فضلا عن ستة أحرف، ولو كان ذلك لنقل إلينا متواترا، لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله. ثم كيف يفعل عثمان ذلك، رضي الله عنه ذلك؟ وهو الذي عرف أن علاج الرسول لمثل هذا النوع الذي دبّ في زمانه، كان بجمع الناس وتقريرهم على الأحرف السبعة لا يمنعهم عنها، كلّا ولا بعضا. ثم كيف يفعل عثمان ذلك، وتوافقه الأمة، ويتم الإجماع؟ ثم يكون خلاف في معنى الأحرف السبعة مع قيام هذا الإجماع؟ أي كيف تجمع الأمة على ترك ستة أحرف، وإبقاء حرف واحد، ثم يختلف العلماء في معنى الأحرف السبعة على أربعين قولا، ويكادون يتفقون- رغم خلافهم هذا- على أن الأحرف السبعة باقية، مع أن الإجماع حجة عند المسلمين، وبه ينجلي ظلام الشك عن وجه اليقين. ولنفرض جدلا أن نزاع المسلمين في أقطار الأرض أيام خلافة عثمان رضي الله عنه، قضى عليه أن يجمع المسلمين على حرف واحد في القراءة، فلماذا لم تسمح نفسه الكريمة بإبقاء الستة الأحرف الباقية للتاريخ لا للقراءة؟ مع أن الضرورة تقدر بقدرها، وهذه الستة أحرف لم تنسخ لا تلاوة ولا حكما حتى تذهب بجرة قلم كذلك، ثم يبخل عليها بالبقاء للتاريخ وحده في أعظم مرجع، وأقدس كتاب، وهو القرآن الكريم (¬1). ¬

_ (¬1) مناهل العرفان ص 169 - 170.

المبحث الرابع القراءات القرآنية

المبحث الرابع القراءات القرآنية أولا: تعريف القراءات: معناها اللغوي: القراءات جمع قراءة، وهي مصدر من قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، واسم الفاعل منه قارئ وجمعه قرّاء. ويطلق لفظ قرأ ويراد منه عدة معان: فإذا قلت: قرأت القرآن، معناه لفظت به مجموعا، وأقرأت حاجتك إذا دنت، وقرأت الشيء قرآنا إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض. معناها الاصطلاحي: قال الزركشي: القراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرها (¬1). أما ابن الجزري فعرفها: (بأنها علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله) (¬2). وهذا التعريف اعتمده كثير من المؤلفين في علم القراءات. وهناك من عرف القراءات (بأنها مذهب يذهب إليه المقرئ)، وهو وإن كان مقصوده ما ذهب إليه العلماء: أن مبنى ما ذهب إليه القارئ هو الوحي والسماع، إلّا أن المستشرقين قد جعلوا من مثل هذا التعريف مأربا خبيثا للصيد في الماء العكر، إذ رأوا أن اختلاف القراءات مبناه اختلاف القراء وفق هواهم ومعتقداتهم، وراحوا يقيسون اختلاف الأناجيل على اختلاف الروايات في القراءات (¬3). ¬

_ (¬1) البرهان في علوم القرآن 1/ 318. (¬2) ابن الجزري هو الحافظ أبو الخير الدمشقي توفي سنة 833 هـ. منجد المقرئين ص 3، وما ذكر في النسخة المطبوعة (بعزو الناقلة) تصحيف، والصواب ما أثبت. (¬3) انظر المذاهب الإسلامية لجولد زيهر، ص 53.

نشأة القراءات:

ومع كل الأسف فقد وجدنا ممن شايعهم قد ذهب إلى مثل أقوالهم. ولعلّ في تعريف الزركشي ما يجلي هذه الحقيقة وما يبعده هذه الشبهة، إذ قال عن القراءات واختلافها: إنها اختلاف ألفاظ الوحي ... فهذا التعريف يلقي الضوء على أن مبنى القراءات الوحي النازل من السماء، وقد تبعه علماء القراءات- قديما وحديثا- في تجلية هذه الحقيقة، فجاءوا بتعريفات واضحة وناصعة، فعرّفوا القراءات (بأنها النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبي صلّى الله عليه وسلّم). ومثل هذا التعريف (تلاوة ألفاظ القرآن الكريم كما تلاها المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أو كما علمها أو سمعها منه أصحابه وأقرّهم عليها) (¬1)، وكلها تعريفات قريبة مما ذكره الزركشي، فاختلاف ألفاظ الوحي هي مثل النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبي صلّى الله عليه وسلّم ومثل تلاوة القرآن كما تلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق الله العظيم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3]. نشأة القراءات: هذا العنوان الذي يستعمله كثير من المؤلفين عن حسن قصد، ويؤكده المستشرقون لغرض في نفوسهم، فيه نظر: ذلك أن القراءات المتواترة قرآن لا شك فيه، فقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وملك يوم الدّين بالألف وبدونها، واهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ واهدنا السراط المستقيم، بسينها وصادها، وكل قراءة قرآنية متواترة، كل ذلك قرآن وهو قديم، فلا يقال لقراءة منه: نشأت، لأن ذلك يشعر بالحداثة لبعضها في وقت من الأوقات. لذا أرى أنّ في استعمال المؤلفين المخلصين هذا العنوان تجاوزا- إن صحّ التعبير- وأرى أنّ في استعمال المستشرقين له مقصدا خبيثا، ونحن قد رأينا فيما أومأنا إليه سابقا من تعريف للقراءات بأنها اختلاف ألفاظ الوحي، مما يشير إلى أن القراءة قرآن لا تنفك قرآنيتها عنه ما دامت قد تواترت، فلا يقال لها: ناشئة إلّا إذا قيل للقرآن: ناشئا، وليس الأمر كذلك فقد نزل الوحي بالقراءة فيما ورد في بعض ألفاظه ¬

_ (¬1) انظر القراءات القرآنية تاريخ وتعريف، د. عبد الهادي الفضلي، دار القلم، بيروت، ط 2، 1980، ص 56.

أكثر من قراءة، بل حين بدأ نزول الوحي بدأها بأول كلمة في أول سورة نزلت هي (اقرأ) ففيها قراءتان متواتران: الأولى: هي قراءة الجمهور بهمزة ساكنة. والثانية: قراءة أبي جعفر بحذف الهمزة (اقرا يقرا كسعى يسعى)، وإنّه لأمر يسترعي الانتباه أن تكون أول كلمة في أول سورة نزلت كلمة اقرأ وأن يكون القرآن والقراءات مشتقا من مشتقاتها. بعد هذا التمهيد، أرى أن الحديث عن مصدر القراءات هو الحاسم لكثير من الشبه والأضاليل، التي يتمسك بها المستشرقون، والتي كان لأقوال بعض المفسرين وبعض العلماء قدر غير يسير في الإسهام في مد أولئك الملحدين بشيء من أسباب الضلالة، من غير قصد منهم رحمهم الله لما لم يلزموا جانب الحيطة والحذر، وأقصى غايات الحذر في هذا الأمر الجلل، فقد أمدوا- من حيث لا يشعرون- من في قلبه مرض واستعداد طبيعي لاتخاذ كل شاردة وواردة من القول صيدا ثمينا، وفرصة ذهبية للنيل من مقدسات هذه الأمة وقرآنها. أقول: إن المصدر الوحيد للقراءات، إنما هو الوحي النازل من السماء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، الذي بلّغه بكل دقة، وبكل حركة إلى أصحابه الكرام، فكان يقرئهم إياه كما أنزل، كما روى ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فإذا ما علمهم القرآن، فأتقنوا تلاوته، أحبّ أن يسمعه منهم، توثيقا لما سمعوه عنه. روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ عليّ القرآن»، فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل، قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأت عليه سورة النساء ... حتى إذا جئت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري. كتاب تفسير القرآن. باب «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد. الآية» ح (4582)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظ للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر 1/ 551، ح (800) (247).

قال: «حسبك الآن»، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتعهد أصحابه بتعليم القرآن وحفظه حتى أصبحت صدورهم سجلا لما نزل من الحق، وربما علّم النبي- عليه الصلاة والسلام- بعض أصحابه قراءة لم يسمعها أصحابه الآخرون، فيقرأ بعضهم القرآن على القراءة التي سمعها، ويقرأ آخر على قراءة غيرها سمعها من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيسمع أحدهما الآخر فينكر عليه عدم سماعه لها من الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ففي البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلّم. ثم لبّبته بردائه أو بردائي، فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قلت له: كذبت، فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت» ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ يا عمر» فقرأت، فقال: «هكذا أنزلت». ثم قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه» (¬1). وروى مسلم عن أبيّ بن كعب قال: «كنت في المسجد فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرءا، فحسّن النبي صلّى الله عليه وسلّم شأنهما ... (¬2) الحديث. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري. كتاب فضائل القرآن. باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ح (4992) و (6936)، ومسلم في صحيحه. كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه 1/ 560 ح (818) (270). (¬2) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف 1/ 561 ح (820) (273).

فمن حديث عمر وهشام رضي الله عنهما يتبين لنا أن تعدد القراءات سببه واحد هو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقرأ كلّا منهما على قراءة، وكلتا القراءتين أنزلت من عند الله تعالى. ومن حديث أبيّ بن كعب- رضي الله عنه- أن عدد القراءات ثلاث، وكلها حسّنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنها متلوة من الوحي، جعلها الله من باب التهوين والتسهيل على أمته. يقول الشيخ الزرقاني- رحمه الله-: ثم إن الصحابة- رضوان الله عليهم- قد اختلف أخذهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمنهم من أخذ القرآن عنه بحرف واحد، ومنهم من أخذه عنه بحرفين، ومنهم من زاد، ثم تفرّقوا في البلاد وهم على هذه الحال، فاختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم، وأخذ تابعي التابعين وهلم جرا، حتى وصل الأمر على هذا النحو إلى الأئمة القراء المشهورين، الذين تخصصوا وانقطعوا للقراءات، يضبطونها ويعنون بها وينشرونها (¬1). إذن فالأمر في تعدد القراءات أمر أخذ ونقل من الوحي، فلا يجوز لمسلم أن يعزو أية قراءة لغير ذلك، كما صنع المستشرق (جولد زيهر) وغيره من المستشرقين الذي عزوا القراءات إلى القارئين الذين مارس كل واحد منهم القراءة القرآنية ليصحح القرآن، وأن القارئ يقرأ وفق ما يحتمله الرسم القرآني الخالي من النقط والشكل. يقول جولد زيهر: (وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات- أي في القراءات- إلى خصوصية الخط العربي، الذي يقدم هيكله مقادير صوتية مختلفة، تبعا لاختلاف النقط الموضوعة فوق هذا الهيكل أو تحته، وعدد تلك النقاط، بل كذلك في حالة تساوي المقادير الصوتية يدعو اختلاف الحركات الذي لا يوجد في الكتابة العربية الأصلية ما يحدده، إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وبالتالي إلى اختلاف دلالتها، وإذا فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط، واختلاف الحركات في المحصول الموحّد القالب من الحروف لم يكن منقوطا أصلا، أو لم تتحر الدقة في نقطه أو تحريكه) (¬2). ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 1/ 406. (¬2) مذهب التفسير ص 8.

وقد أرجع الدكتور عبد العال سالم أساس هذا الزعم إلى الزمخشري وقال: إن مصدر الوحي لهذا المستشرق جولد زيهر إنما هو الزمخشري الذي قال بخطإ ابن عامر في قراءته للآية القرآنية (¬1). فقد زعم الزمخشري أن الذي حمل ابن عامر على قراءته أنه رأى في بعض المصاحف (شركائهم) مكتوبا بالياء، والسبب هو الرسم. اهـ. أقول: ونحن إذ نضع في الاحتمال أن يكون للزمخشري أثر في قول زيهر، إلّا أننا نجزم أن مراد كل منهم يختلف عن الآخر، إذ يهدف زيهر للوصول إلى قياس تعدد القراءات على تعدد الأناجيل، وهذه خطيئة ما نظن أن الزمخشري يقع في مثلها. وفي ضوء دراسة هذه الردود يمكن إيجازها في الأمور التالية: أولا: إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب، فإن القراءات وجدت قبل مرحلة تدوين المصاحف وكتابتها، وبعد تدوينها كانت في البداية غير منقوطة ولا مضبوطة الشكل، ومع ذلك كانت القراءات معروفة ومنتشرة وكانوا يقرءون الآيات حسب السماع والرواية لا حسب الرسم والكتابة. ثانيا: لو كانت القراءة تابعة للرسم لصحت كل قراءة يحتملها رسم المصحف، ولكن الأمر على غير ذلك، فإن بعض ما يحتمل الرسم صحيح مثل (فتثبتوا) في قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا .. [النساء: 94] الآية. وبعضه مردود مثل قراءة حماد الرواية (أباه) في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: 114] الآية. وكذلك قراءة: «تستكثرون» في قوله تعالى: قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [الأعراف: 48]. ¬

_ (¬1) أثر القراءات القرآنية في الدراسات النحوية ص 25.

وهذه وتلك قراءة منكرة بالاتفاق، فليست من السبع، ولا الأربع عشرة، ولو كان مجرد الخط والرسم كافيا لاعتمدت. وعلى مثل هذه القراءات المنكرة اعتمد جولد زيهر في الاستدلال على قضيته الباطلة، ودعواه الخبيثة ضد القرآن الكريم. ثالثا: لقد ثبت بالتاريخ الصحيح أننا لا نزال نرى الكثير من المقرئين حتى يومنا هذا، يعطون تلاميذهم بعد أن يتموا حفظه على أيديهم إجازة تتضمن سند التلقي المتصل عنهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن كثيرا من الأسانيد الصحيحة المتصلة مدونة محفوظة في كتب القراءات، فما ينكر هذا إلّا جاهل أو مكابر. كذلك إذا نظرنا إلى الأمصار الإسلامية وجدنا أن كل مصر التزم قراءة قارئ بعينه، مع احتمال رسم المصحف لهذه القراءة، وأن القرّاء انتشروا في هذه الأمصار ليعلموا الناس قراءة القرآن إيمانا منهم بأن رسم المصحف وحده لا يعني شيئا في مجال القراءة، وبخاصة أنه مجرد من النقط والشكل. يقول الشيخ الزرقاني: «لذلك اختار عثمان حفاظا يثق بهم، وأنفذهم إلى الأقطار الإسلامية، واعتبر هذه المصاحف أصولا ثواني، مبالغة في الأمر، وتوثيقا في القرآن، ولجمع كلمة المسلمين، فكان يرسل إلى كل إقليم مصحفه، مع من يوافق قراءته في الأكثر الأغلب، روي أن عثمان- رضي الله عنه- أمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري (¬1). فلو كان الاعتماد على المصحف، لما كلف أمير المؤمنين نفسه بإرسال أولئك القراء إلى تلك الأمصار، وملاحظة أن اختيار القارئ كان موافقا لرسم المصحف المرسل إلى ذلك البلد، وهذا يؤكد أن دعامة القرآن هي التلقي والرواية. وإذا كان للمستشرقين عذرهم في تعصبهم للباطل وحقدهم الدفين ضد الإسلام ومبادئه، فما عذر من جاراهم من المسلمين وقال: بأن القراءات القرآنية منشؤها ¬

_ (¬1) المناهل 1/ 96.

أركان القراءات

الخط العربي حسب رسمها في المصحف العثماني، ومن هؤلاء الدكتور علي عبد الواحد وافي (¬1)، وتبعه في ذلك الدكتور طه حسين في صورة أكثر بشاعة وأشد خطرا، إذ هو ينكر على المعتقد بشرعية القراءات، وأنها ليست من الوحي، وإنما مصدرها اللهجات واللغات. يقول طه حسين: «والحق أنه ليست هذه القراءات السبع من الوحي في قليل ولا كثير، وليس منكرها كافرا ولا فاسقا ولا مغتمزا في دينه، وإنما هي قراءات مصدرها اللهجات واختلافها» (¬2). وقد نهج الدكتور محمد عبد السلام كفافي نهج طه حسين فقال: وهناك سبب قوي لظهور القراءات لأن مصحف عثمان كتب بغير نقط ولا شكل (¬3). والحق الذي لا يمارى فيه، أن القراءات سنة متبعة نقلت بالرواية والمشافهة من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي قرآن لا تنفك عنه، وهي ليست مغايرة له، بل هي ألفاظ مختلفة نزل بها الروح الأمين بعرضات متعددة، ولم تكن القراءات وليدة خط أو رسم أو عدم شكل وضبط لكتاب الله تعالى، ومن يقول بهذا فهو ضال مضل، لسوء نيته وخبث قصده، سواء كان (جولد زيهر) أو من سار على دربه، والذي يمعن النظر في كلام زيهر مثلا يجد له أبعادا وأهدافا، وقد استوفيناه في بحث خاصّ بالقراءات، نشر في مجلة البحوث الإسلامية بالرياض، العدد (35). أركان القراءات يجدر التنويه لأمر، وهو أن ركن القراءة الوحيد، هو صحة السند لا غير، وأن إضافة الركنين الأخيرين لم تأت إلّا في وقت متأخر كما ذكر الأستاذ سعيد الأفغاني في تحقيقه لكتاب حجة القراءات لأبي زرعة، وقد وصف السفاقسي اشتراط غير صحة السند بأنه قول محدث لا يعول عليه. ¬

_ (¬1) فقه اللغة ص 119. (¬2) الأدب الجاهلي ص 96. (¬3) في علوم القرآن ص 107.

1 - صحة السند:

بعد هذا التنويه والتنبيه نقول: إن كان الحديث عن القراءات ومعناها قد كثر فيه الخلاف والاختلاف بين أئمة هذا العلم، فإن الحديث عن أركانها أكثر اختلافا، فبعضهم يشترط لقبول القراءة أركانا ثلاثة، ومنهم من يكتفي بركنين، ومنهم من يقتصر على ركن واحد. والقائلون بالأركان الثلاثة يتفاوتون في الأخذ بكل ركن منها، وسأضع بين يديك هذه الأركان كما نظمها أحد أئمة هذا الشأن شعرا فقال: فكل ما وافق وجه النحو ... وكان للرسم احتمالا يحوي وصح إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل ركن أثبت شذوذه لو أنه في السبعة (¬1) تلك هي الأركان الثلاثة، وسأبدأ بأهمها، بل المجمع على اشتراطه إلا وهو: 1 - صحة السند: هذا أول الأركان المعتبرة، بل هو الذي يستهل به العلماء حديثهم عن أركان القراءات. فابن مجاهد شيخ هذه الصنعة إذ هو أول من سبع السبعة قد قال: (والقراءة التي عليها الناس بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام، هي القراءة التي تلقوها عن أوّليهم تلقّيا، وقام بها في كل مصر من هذه الأمصار رجل ممن أخذ عن التابعين، أجمعت الخاصة والعامة على قراءته، وسلكوا فيها طريقه وتمسّكوا بمذهبه) (¬2)، فلا يمكن اعتبار القراءة القرآنية إلّا إذا كانت قد أخذت بطريق التلقي والمشافهة، وهذا ما يؤكده في موضع آخر حيث يقول: (فهؤلاء سبعة نفر من أهل الحجاز والعراق والشام خلفوا في القراءة التابعين، وأجمعت على قراءتهم العوام من أهل كلّ مصر من هذه الأمصار) (¬3). ¬

_ (¬1) من منظومة ابن الجزري طيبة النشر في القراءات العشر. (¬2) كتاب السبعة، ص 49. (¬3) كتاب السبعة، ص 87.

2 - موافقة القراءة للرسم العثماني:

فابن مجاهد يشترط لقبول القراءة صحة السند، وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء المحققين كابن شنبوذ والإمام أبو الحسن البغدادي وابن خالويه ومكي بن أبي طالب والإمام الكواشي والإمام أبو شامة (¬1). ولم يشذ عن إجماع هؤلاء العلماء، إلّا محمد بن يعقوب المتوفّى سنة 354 هـ. فإنه لم يشترط السند، واكتفى بقبول القراءة بشرطين: موافقة الرسم وموافقة اللغة العربية، وأسقط صحة السند، وفي ذلك يقول ابن الجزري: «وله «أي المذكور» اختيار في القراءة رويناه في الكامل وغيره، رواه عنه أبو الفرج الشنبوذي، ويذكر عنه أنه كان يقول: إن كل قراءة وافقت المصحف ووجها في العربية فالقراءة بها جائزة وإن لم يكن لها سند) (¬2). والحق أن هذه هفوة من الهفوات التي لا يرتضيها شرع ولا عقل، وهي من أفسد الأقوال، فالقراءات قد تزداد وتنقص وفق احتمال موافقتها للغة أو للرسم القرآني، وبالتالي فهي وفق هوى أئمة اللغة واجتهادهم وليس الأمر كذلك. 2 - موافقة القراءة للرسم العثماني: ذهب كثير من العلماء المتأخرين إلى اعتبارهم هذا الشرط، وقد ذكره أبو الفرج الشنبوذي أول الشروط المعتبرة إذ يقول: «إن كل قراءة وافقت رسم المصحف ووجها في العربية فالقراءة بها جائزة». ويفهم مما ورد في «كتاب السبعة في القراءات» عدم اشتراطه إذ يقول: (فمن حملة القرآن المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراءات، العارف باللغات ومعاني الكلمات، البصير بعلم القراءات المنتقد للآثار، فذلك الإمام الذي يفزع إليه حفّاظ القرآن في كل مصر من أمصار المسلمين) (¬3). ¬

_ (¬1) المرشد الوجيز، ص 180. (¬2) غاية النهاية، لابن الجوزي 2/ 124. (¬3) كتاب السبعة، ص 45.

3 - موافقة القراءة للغة:

فهذا الكلام يدلنا على شرطين لا ثالث لهما: وهما صحة السند وموافقة العربية، وأسقط موافقة الرسم، وذهب إلى ذلك الإمام أبو الحسن البغدادي شيخ القراء بالعراق فأسقط موافقة القراءة للرسم العثماني. وقد توسع بعض العلماء في موافقة القراءة للرسم العثماني، فرأى احتمال الموافقة كافيا، بل توسع بعضهم فرأى موافقة القراءة للرسم وحده وإن لم تتواتر. ونحن إذ نرد القراءة التي لم توافق الرسم، إلا أننا لا نقبلها لمجرد موافقتها الرسم. 3 - موافقة القراءة للغة: ابتدأ بذكره صاحب النشر فجعله أول الأركان، وثنّى بذكره مكي بن أبي طالب والإمام الكواشي، وجعله ثاني الشروط بعد صحة السند، وقد قيد كل منهم هذا الشرط بقيد يختلف عن الآخر، فبينما يكتفى الكواشي بشرط موافقة القراءة للغة لأي وجه من الوجوه. نرى مكي بن أبي طالب يشترط أن يكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعا. وذهب أبو الفرج الشنبوذي إلى تأييد رأي الكواشي في التساهل والاكتفاء بموافقة القراءة لأي وجه من الوجوه اللغوية، سواء أكان الوجه فصيحا مجمعا عليه أم كان مختلفا فيه اختلافا لا يضير مثله كما يقولون. نظرة في الأركان: لو تأملنا هذه الأركان لوجدناها أركانا تخضع لاستقراء العلماء واستنباطهم، فمنهم من جعلها ركنا واحدا، ومنهم من جعلها ركنين، مع اختلاف في تحديد الركنين، ومنهم من جعلها ثلاثة أركان وأضاف الموافقة للغة، وفي كل شرط خلاف، ففي السند: من العلماء من ذهب إلى اشتراط التواتر، ومنهم من اشتراط الشهرة، ومنهم من اكتفى بصحة السند ولو نقل آحادا. وفي موافقة الرسم: منهم من اشتراط الموافقة تحقيقا، ومنهم من قبلها ولو تقديرا أو احتمالا، وفي موافقة اللغة كلام استوفيناه في موضعه.

والذي لا شك فيه بل المجمع عليه، هو صحة السند، بل أرى أنه الركن الوحيد الذي ينبغي أن يقتصر عليه، والذي أعنيه بصحة السند ليس مجرد الصحة، بل التواتر، ذلك لأن القرآن كله متواتر، لا يشك في ذلك مسلم من المسلمين، وقراءته يتعبد بتلاوتها المؤمنون، وقراءاته المختلفة لا ضير بالاكتفاء ببعضها، لأنها كلها قرآن، فأرجلكم من قوله تعالى: .. وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ .. [المائدة: 6] قرآن. وأرجلكم بالكسر في الموضع نفسه قرآن، ومالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إن قرأت بهذه القراءة قرآن، وملك يوم الدّين قرآن، إن شئت قرأت بهذه أو بتلك. فالقراءة قرآن يتعبد بتلاوتها فلا بد من تواترها لإثبات قرآنيتها. أما القراءة التي لم تتواتر سندا فلا تعتبر قرآنا مهما أضفت إليها من معايير وشروط، وقد أخطأ من حكم بقرآنيتها إذا وافقت الرسم ووافقت اللغة، وأنزلها منزلة المتواتر في السند. إن التواتر لا يكون إلّا بالسند الذي يرويه جمع عن جمع ... إلخ إذا وضح عندنا صحة اعتبار تواتر السند، فلا ضير علينا في الركنين الأخيرين، لأنه لم يثبت لدينا أن قراءة من القراءات المتواترة قد خالفت الرسم القرآني، أو خالفت العربية. ودع عنك ما يقال إن بعض القراءات القرآنية المتواترة قد خالفت العربية، كما زعموا في قوله تعالى: .. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ .. [النساء: 1]. والأرحام بالكسر أو قراءة فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [البقرة: 54] بالتسكين مخففة فإن كلام النحاة الذين خالفوا كلام القراء لا يستند إلى دليل. أعود لأقول: إن شرط القراءة أو ركنها الوحيد هو صحة السند وتواتره، ولا ثاني له والله أعلم. يقول الأستاذ سعيد الأفغاني: (والشرط الأساسي- كما يظهر للمتأمل- هو الأول، أي: صحة السند، أما الثاني والثالث فالغالب أنهما أضيفا ليتكون من الثلاثة ما ينطبق تمام المطابقة على القراءات العشر المعروفة) (¬1) ثم أضاف: «إن أول وأشهر ¬

_ (¬1) حجة القراءات، ص 12.

أشهر القراء من الصحابة:

من عرف عنه اشتراط الشروط الثلاثة هو (مكي بن أبي طالب) الذي عاش في المائة الخامسة للهجرة حيث قال: (والقراءات الصحيحة ما صح سندها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما صح وجهها في العربية، ووافقت خط المصحف) وشاع هذا القول بعده، حتى تبعه في ذلك بعض المتأخرين، ومشى عليه ابن الجزري في نشره وطيبته .. ، واستنكر الجمهرة ذلك. حتى قال السفاقسي: (وهذا قول محدث لا يعول عليه» (¬1). أشهر القراء من الصحابة: المشهورون من الصحابة هم: عثمان، وعليّ، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، وهؤلاء هم الذين أرسلهم عثمان بالمصاحف إلى الآفاق الإسلامية. أشهر القراء التابعين: بالمدينة المنورة: سعيد بن المسيب، وعروة، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، وأخوه عطاء، وزيد بن أسلم، ومسلم بن جندب، وابن شهاب الزهري، وعبد الرحمن بن هرمز، ومعاذ بن الحارث المشهور بمعاذ القارئ. بمكة المكرمة: عطاء، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، وابن أبي مليكة، وعبيد ابن عمير، وغيرهم. بالبصرة: عامر بن عبد القيس، وأبو العالية، وأبو رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وجابر بن زيد، والحسن، وابن سيرين، وقتادة وغيرهم. بالكوفة: علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة السّلماني، والربيع بن خثيم، والحارث بن قيس، وعمرو بن شرحبيل، وعمرو بن ميمون، وأبو عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وعبيد بن نضلة، وأبو زرعة بن عمرو، وسعيد بن جبير، والنخعي والشعبي. بالشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب مصحف عثمان، وخليد بن سعد صاحب أبي الدرداء وغيرهما. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 12 - 13.

القراءة السبعة وغيرهم:

ثم تفرغ قوم للقراءات يضبطونها ويعنون بها، فكان بالمدينة أبو جعفر يزيد بن القعقاع ثم شيبة بن نصاح ثم نافع بن أبي نعيم. وكان بمكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج ومحمد بن محيصن. وكان بالكوفة: يحيى بن وثاب، وعاصم بن أبي النجود، وسليمان الأعمش ثم حمزة ثم الكسائي. وكان بالبصرة: عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء، وعاصم الجحدري، ثم يعقوب الحضرمي. وكان بالشام: عبد الله بن عامر، وعطية بن قيس الكلابي، وإسماعيل بن عبد الله ابن مهاجر، ثم يحيى بن الحارث الذماري، ثم شريح بن يزيد الحضرمي، وقد لمع في سماء هؤلاء القراء نجوم عدة مهروا في القراءة والضبط حتى صاروا في هذا الباب أئمة يرحل إليهم ويؤخذ عنهم. القراءة السبعة وغيرهم: لا يفوتنا أن نذكر لك القراء السبعة الذين عناهم ابن مجاهد، الذي هو أول من سبّعهم، كما نذكر القرّاء العشرة الذين عناهم ابن الجزري في كتابه النشر في القراءات العشر، ثم نذكر الأربعة المتممين للأربعة عشر. القراء السبعة: 1 - نافع: هو أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني. أخذ القراءة عن أبي جعفر القاري وعن سبعين من التابعين الذين أخذوا عن عبد الله بن عباس، وأبي هريرة، عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالمدينة المنورة، توفي سنة 169 هـ. وأشهر رواته قالون وورش. 2 - ابن كثير: هو أبو محمد أو أبو عبد الله بن كثير الداري، كان إمام الناس في القراءة بمكة. لقي من الصحابة عبد الله بن الزبير وأبا أيوب الأنصاري وأنس بن مالك. وروى عن مجاهد عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقرأ

3 - أبو عمرو البصري:

على عبد الله بن السائب المخزومي، وقرأ عبد الله هذا على أبيّ بن كعب وعمر ابن الخطاب وكلاهما قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتوفي سنة 120 هـ. وأشهر رواته البزي وقنبل. 3 - أبو عمرو البصري: هو أبو عمرو زبان بن العلاء بن عمار البصري. روى عن مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قرأ على جماعة منهم أبو جعفر يزيد بن القعقاع والحسن البصري، وقرأ الحسن على حطان وأبي العالية. وقرأ أبو العالية على عمر بن الخطاب، توفّي أبو عمرو سنة 154 هـ. وأشهر رواته حفص الدوري والسوسي. 4 - ابن عامر الشامي: هو عبد الله اليحصبي يكنى أبا نعيم وأبا عمران، وهو تابعي لقي واثلة بن الأسقع والنعمان بن بشير. وقد أخذ القراءة عن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي عن عثمان بن عفان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: إنه قرأ على عثمان نفسه، توفي بدمشق سنة 118 هـ. وأشهر رواته هشام بن عمار وابن ذكوان. 5 - عاصم الكوفي: هو أبو بكر عاصم بن أبي النجود الأسدي، قرأ على زر بن حبيش على عبد الله بن مسعود، على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقرأ أيضا على أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي معلم الحسن والحسين، وقرأ عبد الرحمن على الإمام علي وأخذ الإمام علي رضي الله عنه قراءته عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، توفي عاصم بالكوفة سنة 127 هـ. وأشهر رواته شعبة وحفص 6 - حمزة الكوفي: هو أبو عمارة حمزة بن حبيب الزيات الكوفي مولى عكرمة بن ربيع التيمي، قرأ على أبي محمد سليمان بن مهران الأعمش على يحيى بن وثاب على زر بن حبيش على عثمان وعلي وابن مسعود على النبي صلّى الله عليه وسلّم، توفي بحلوان سنة 156 هـ. وأشهر رواته خلف بن هشام وخلاد.

7 - الكسائي الكوفي:

7 - الكسائي الكوفي: هو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي النحوي لقب بالكسائي لأنه كان على الدوام لابسا «كساء»، قال أبو بكر الأنباري: اجتمعت في الكسائي أمور: كان أعلم الناس بالنحو، وأوحدهم بالغريب، وكان أعلم الناس بالقرآن، فكانوا يكثرون عليه حتى يضطر أن يجلس على الكرسي ويتلو القرآن من أوله إلى آخره، وهم يسمعون منه ويضبطون عنه، توفي سنة 189 هـ. وأشهر رواته أبو الحارث الليث بن خالد، والدوري حفص بن عمر. تمام القراء العشرة: 8 - أبو جعفر المدني: يزيد بن القعقاع القاري نسبة إلى موضع بالمدينة يسمى «قارا». أخذ عن عبد الله بن عباس وأبي هريرة، عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، توفي سنة 130 هـ. وأشهر رواته عيسى بن وردان وابن جماز. 9 - يعقوب البصري: هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق الحضرمي قرأ على أبي المنذر سلّام بن سليمان الطويل، وقرأ سلّام على عاصم وعلى أبي عمرو، توفي بالبصرة سنة 205 هـ. وأشهر رواته رويس وروح بن عبد المؤمن. 10 - خلف البزار: أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزار البغدادي، قرأ على سليم عن حمزة، وعلى يعقوب بن خليفة الأعشى وعلى أبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري صاحب المفضل الضبي، وعلى أبان العطار، وهم عن عاصم، توفي سنة 229 هـ ببغداد. وأشهر رواته إسحاق الوراق وإدريس الحداد. تمام القراء الأربعة عشر: 11 - الحسن البصري: هو السيد الإمام الحسن بن يسار أبو سعيد البصري الغني بشهرته عن تعريفه توفي سنة 110 هـ. من رواية شجاع عن عيسى الثقفي عنه، ورواية الدوري عن شجاع عن عيسى الثقفي عنه.

12 - ابن محيصن:

12 - ابن محيصن: هو محمد بن عبد الرحمن السهمي المكي مقرئ أهل مكة مع ابن كثير توفي سنة 123 هـ. من روايتي البزي وابن شنبوذ بسندها إلى شبل عنه. 13 - يحيى اليزيدي: هو يحيى بن المبارك بن المغيرة، الإمام أبو محمد العدوي البصري المعروف باليزيدي توفي سنة 202 هـ. من رواية سليمان بن الحكم عنه، ورواية أحمد بن فرح عن الدوري عنه. 14 - الأعمش: سليمان بن مهران الأسدي الكوفي الإمام الجليل كان عالما بالقرآن والحديث توفي سنة 148. من روايتي الشنبوذي والمطوعي بسندها إلى ابن قدامة عنه. هؤلاء الأئمة العظام هم الذين خدموا الأمة والملة، وحافظوا على الكتاب ونسأل الله تعالى أن يغمر الجميع بواسع رحمته وأن يجزيهم أحسن الجزاء على خدماتهم لدين الله وكتابه. حكم ما رواء العشرة: وقع الخلاف في القراءات الأربع بعد العشر، فقيل: إن المسألة ليست مسألة أشخاص ولا أعداد، بل هي قواعد ومبادئ، فأيما قراءة تواترت سندا فهي مقبولة، وإلّا فهي مردودة، لا فرق بين قراءات القراء السبعة والقراء العشرة والقراء الأربعة عشر وغيرهم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر ترجمة القراء في المهذب والنشر وغيرهما.

المبحث الخامس أسباب نزول

المبحث الخامس أسباب نزول لمحة تاريخية سريعة عن هذا العلم يعتبر شيخ البخاري علي ابن المديني (¬1) - رحمه الله- أول من دون كتابا في هذا العلم، وتلاه علماء (¬2) آخرون لم يصلنا شيء من كتبهم، إلّا ما ذكره الواحدي والسيوطي عنهم، وبقي هذا العلم غير مدون ولا مجموع، حتى طالعنا أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي (¬3) - المتوفى سنة 468 - بكتابه المشهور أسباب النزول، وهو خير الكتب المصنفة في هذا الفن، رغم ما فيه من إعواز وأخطاء تاريخية، وروايات ضعيفة ورد أغلبها عن طريق الكلبي، التي هي من أوهى الطرق عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهي طريق سلسلة الكذب كما يطلق عليها علماء الحديث، كما اشتمل كتابه على روايات لا تمت إلى أسباب نزول الآية بصلة. وكان المأمول من العلماء من بعده أن يجردوا كتابه من تلك الأخطاء، وأن يسدوا ما فيه من إعواز، بيد أن الذين أتوا من بعده لم يفعلوا شيئا من ذلك، فإبراهيم الجعبري (¬4) لم يفعل شيئا إلّا تجريد كتابه من الأسانيد التي ذكرها الواحدي، ولم يضف إلى ذلك شيئا يذكر، وقد تحدث في مقدمته قائلا: نزول القرآن على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال، ثم أخذ يسرد كتاب الواحدي سردا لم نحظ منه بتعليق يسير عليه. ¬

_ (¬1) علي ابن المديني شيخ البخاري المتوفى سنة 234 هـ. (¬2) وممن ألف في ذلك أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد القرطبي المتوفى سنة 402 هـ. (¬3) هو أبو الحسن علي بن أحمد النحوي المفسر، توفي سنة 427 هـ. (¬4) هو برهان الدين إبراهيم بن عمر المتوفى سنة 732 هـ، وقد ألف في علوم القرآن «روضة الطرائف في رسم المصاحف»، وشرح الشاطبية في القراءات في كتابه كنز المعاني.

وممن ألف في هذا العلم أبو الفرج- ابن الجوزي- المتوفى سنة 597 هـ. وكتابه «أسباب نزول القرآن»، ثم جاء ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ وكتب كتابه «العجاب في بيان الأسباب» (¬1). ذكر السيوطي أنه مات عنه مسوّدة، وكان يذكرها كثير من العلماء في عداد المفقودات، ولكنها ظهرت أخيرا إلّا أن هذه المسوّدة ليست كاملة، فقد كتب ما يزيد على أربعمائة صفحة من القطع الكبير، ووصل في ذكر أسباب النزول إلى الآية الثامنة والسبعين من سورة النساء، أي حتى قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78]. ومن خلال اطلاعي على المسوّدة وجدتها ليست مثل كتابه فتح الباري، بل سوّد صفحات كثيرة في أشياء لا تمت إلى سبب النزول بصلة، مثل ذكره عن كوكب الزهرة، بأن الزهرة هي امرأة جميلة، ثم حدث ما حدث إلى أن رفعت إلى السماء .. وقد أطال في هجومه على من ضعفوا وردّوا هذه الرواية، والكلام في ذلك يطول ولا مجال لذكره. ثم جاء السيوطي واعدا بأن يكون كتابه «لباب النقول في أسباب النزول» من خير الكتب المصنفة في هذا الشأن، وقال مادحا كتابه: «إنني ألفت فيه- أي في أسباب النزول- كتابا حافلا موجزا محررا لم يؤلف مثله في هذا النوع، سميته «لباب النقول»، لقد أثنى على نفسه بشيء من المبالغة، في حين أن كتاب الواحدي بقي خيرا منه، وكان الأولى به أن يجمع مزاياه. ويكمل ما رآه ناقصا، ويسد ما فيه من إعواز كما قال، وهذا ما جعل محقق الكتاب- الأستاذ سيد صقر- يقول: (اللباب مصنوع من الأسباب). وأخيرا فإن آخر كتب المتقدمين كتاب إرشاد الرحمن في أسباب النزول والمتشابه والتجويد (¬2) لمؤلفه عطية الله بن برهان الأجهوري المتوفى سنة 1170، وهو كتاب ما زال مخطوطا، وقد صنع مثلما صنع السيوطي، ووعد بإخراج كتاب فذّ في هذا المجال، ولكنه لم يصنع شيئا، إلا أنه جمع بين كتابي الواحدي والسيوطي وجرد أسانيدهما. ¬

_ (¬1) مخطوط بالمدينة المنورة- جامعة الإمام محمد بن سعود- والنسخة مصورة عن نسخة مراكش. (¬2) المخطوطة موجودة في المكتبة الأزهرية وهي بحالة متوسطة.

أولا - تعريف أسباب النزول:

أولا- تعريف أسباب النزول: من المسلمات والبدهيات أن من القرآن ما نزل ابتداء، ومنه ما نزل عقب حادثة أو جوابا عن سؤال، وأكثر القرآن نزل ابتداء ليعالج الأوضاع والعادات الفاسدة القائمة آنذاك، فليس لكل آية سبب، وليس كل ما ذكر من الأسباب سببا في الحقيقة، فسبب النزول: (هو الحادثة التي وقعت في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونزل بشأنها قرآن، أو الأسئلة والاستفسارات الموجهة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وجاءت الآيات مجيبة عنها) وأحسن تعريف لذلك ما ذكره السيوطي قائلا: (والذي يتحرر في أسباب النزول أنه ما نزلت الآية أو الآيات مبينة لحكمه أيام وقوعه) ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره سورة الفيل، من أن سببها قصة قدوم الحبشة، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة نوح وعاد وثمود وبناء البيت الحرام، ونحو ذلك، وكذلك ذكره في قوله تعالى: .. وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] سبب اتخاذه خليلا فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى (¬1). فعند النظر في الرواية التي ذكرت أنها سبب النزول يجب أن يتحقق من مزامنة نزول الآية مع حدوث القصة أو الحادثة أو السؤال فإن تزامنت جاز أن تكون سبب نزول وإلّا فلا. ثانيا: الألفاظ الدالة على سبب النزول: جدير بالذكر أن الصحابة رضوان الله عليهم هم الطريق الوحيد لمعرفة أسباب النزول، لأنهم هم الذين عاينوا نزول القرآن، فلا خلاف أنه إذا قال الصحابي سبب نزول الآية كذا، فإن هذا يدل صراحة على السبب دون حاجة إلى بيان، ومثل ذلك إذا أخبر الصحابي عن حادثة أو سؤال وجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ذكر بعد ذلك الآيات عقيب الحادثة، أو إجابة للسؤال فإنه ذلك يعتبر نصا في سبب النزول. ¬

_ (¬1) الإتقان في علوم القرآن 1/ 42، ولباب النقول في أسباب النزول، ص 4.

ومثالا له ما رواه البخاري عن أنس بن مالك قال: قال أبو جهل: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) فنزل قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33 وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الأنفال: 33 - 34] (¬1). وهناك ألفاظ وقرائن تدل على سبيل الرجحان على سبب النزول، كأن ترد الفاء التعقيبية داخلة على مادة نزول الآية بعد سرد حادثة ما، أو بذكر سؤال طرح على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأن يقول: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كذا فنزلت. فهذا يدل على الرجحان، لا على سبيل الجزم، كما رأى ذلك بعض الباحثين لأنني وجدت آثارا كذلك ولم تدل على السبب، ويستوي في ذلك أن يكون السؤال الذي نزلت الآيات بسببه متصلا بأمر مضى كقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف: 83]. أو بأمر حاضر كقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ .. [النساء: 153]. فنزلت في اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى موسى. أو بأمر مستقبل نحو قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها .. [الأعراف: 187]. كما لا ينبغي أن يفهم كل سؤال ورد في القرآن وأجيب عنه، يدل على سبب النزول، فقد ورد لفظ يسألونك في اثني عشر موضعا، ولم يثبت لأكثرها سبب للنزول، وإن حاول بعض المفسرين أن يتمحل لها سببا وأتى بما لا طائل تحته. بقي تحقيق القول فيما إذا قال الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، هل يدل ذلك على سبب؟. نقل السيوطي عن ابن تيمية أنه قال: قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، يردا به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما ¬

_ (¬1) والحديث رواه البخاري في صحيحه (4648) و (4649).

ثالثا: طريق معرفة أسباب النزول:

نقول: عنى بهذه الآية كذا (¬1)، فهي تحمل على التفسير إن ذكر فيها معنى تدل عليه الآية، وتحمل على بيان سبب النزول إن ذكر فيها ما دعا إلى نزولها. مثال ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا .. [النساء: 94]. فإنه إذا قيل: نزلت هذه الآية في نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، مر بهم رجل من سليم، وهو يسوق غنما له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ... الحديث (¬2). فكان ذلك بيانا لسبب نزولها، وإذا قيل: نزلت في معاملة الناس بمقتضى ظواهرهم، كان تفسيرا لها وبيانا لمضمونها، ولغلبة استعمال هذه العبارة في التفسير، قال الزركشي في البرهان: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها. وما أكثر الآيات القرآنية المتضمنة للأحكام، وجعلت هذه الأحكام أسبابا، ومن أراد معرفة ذلك فلينظر إلى تفسير الآيات: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]. وقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122]. ثالثا: طريق معرفة أسباب النزول: يقول الواحدي في مقدمة كتابه: (كل آية لها سبب مقول مروي منقول) (¬3). وعلى هذا فلا يحل القول في أسباب النزول إلّا بالرواية والسماع. ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها وجدّوا في الطّلاب، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في هذا العلم بالنار، لما رواه ابن عباس قال: قال رسول ¬

_ (¬1) مقدمة في أصول التفسير ص 48، تحقيق د. عدنان زرزور، والإتقان 1/ 89. (¬2) ذكره السيوطي في اللباب وقال رواه البخاري ح (4591) والترمذي ح (3030) والحاكم وغيرهم. (¬3) أسباب النزول ص 17.

فوائد أسباب النزول:

الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الحديث إلّا ما علمتم، فإنه من كذب عليّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النار ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار» (¬1). والسلف رحمهم الله كانوا أبعد الغاية احترازا عن القول في نزول الآية، فلا يقبلون إلّا ممن شاهدوا التنزيل، كالصحابة رضوان الله عليهم، فإن قولهم في سبب النزول هو مما لا مجال للرأي فيه، فهو بمثابة المرفوع، فإن صح النقل عنه وجب الأخذ به، وهو كالحديث المسند، أما إذا لم يجزم الصحابي، كأن قال: أحسب هذه الآية نزلت في كذا فلا يعد هذا سببا. أما قول التابعي في سبب النزول إذا نقل أو سمع الصحابي، فيجري فيه من المذاهب ما يجري في الأحاديث المرسلة عند علماء مصطلح الحديث والأصول، أما قولهم بالاجتهاد فلا يصح، قال ابن سيرين: (سألت عبيدة عن آية من القرآن، فقال: اتق الله وقل سدادا ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن) (¬2). وليس لأحد بعد عصر التابعين أن يخترع سببا للنزول. قال الواحدي (¬3): «أما اليوم، فكل أحد يخترع شيئا ويختلق إفكا وكذبا ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية». فوائد أسباب النزول: لا شك أن لمعرفة سبب النزول فوائد لا يستغني عنها أي مفسر لكتاب الله، كما قال الواحدي: ولا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان سبب نزولها، أو كما قال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن (¬4). ¬

_ (¬1) أسباب النزول ص 17. والحديث أخرجه الترمذي (2951). (¬2) أسباب النزول ص 17. (¬3) أسباب النزول ص 17، والإتقان 1/ 31. (¬4) مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية ص 48.

من هذه الفوائد:

من هذه الفوائد: 1 - تخصيص الحكم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. 2 - ومن الفوائد دفع توهم الحصر عما يفيد بظاهره الحصر، وقد مثلوا على ذلك بمثال وهو قول الشافعي كما أورده الزركشي في معنى قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... [الأنعام: 145]. قال: إن الحصر في الآية ليس مرادا، ذلك أن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادّة والمحادّة، جاءت الآية بهذا الحصر الصوري مشادة لهم ومحادة من الله ورسوله، لا قصدا إلى حقيقة الحصر، نازلة منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلّا الحلاوة، والغرض المضادّة لا النفي والإثبات على الحقيقة (¬1). 3 - معرفة أن سبب النزول غير خارج عن حكم الآية، إلّا إذا ورد نص مخصّص لها. وهي من القضايا الأصولية التي ذكرها الآمدي والشاطبي وغيرهم، ودللوا عليها كقاعدة أصولية تتعلق بأسباب النزول، وهذه الفائدة من الأمور المجمع عليها عند من يعتد بقولهم في علم الأصول، وهي صحيحة ولا كلام، بل بدهية أن سبب النزول غير خارج عن حكم الآية. 4 - أن السبب يفيد وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. 5 - ومجمل القول: إن فوائد معرفة أسباب النزول كثيرة ولا غنى عنها، فهي تفيد في فهم النص القرآني بكل أبعاده، فتزيل المشكل، وتوضح المبهم، وتدفع الغموض، وتطرد الشّبه، وترفع الخلاف، فهي أوضح سبيل وأقصره لفهم معاني الآيات التي ورد لها سبب. ¬

_ (¬1) البرهان في علوم القرآن 1/ 31 - 32.

وإضافة إلى ما ذكر تفيد الزمان والمكان الذي نزلت فيه الآية، فتميز المكي من المدني، وتفصل الدعوى في الناسخ والمنسوخ حين يعرف المتقدم من المتأخر، وإلى جانب هذا كله، فإنها تعطي صورة واضحة عن مراحل الدعوة الإسلامية، في سيرها ومعالجتها للأحداث بوسائل مكافئة في كل حالة من الحالات، وهذه فائدة لا تعدلها فائدة لمن تأمل فيها في رسم السياسة الداخلية والخارجية للدولة الإسلامية، عبر مراحلها الزمنية في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. نعم إن علم الأسباب في النزول يبين الفهم الصحيح للآية، ولا يزول الإشكال إلّا بذكره، وقد توافقت كتب علوم القرآن قديما وحديثا على ذكر هذه الأمثلة لتبين أن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ويضبطنا من الوقوع في الزلل. من ذلك ما ورد في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115]. فإننا لو تركنا لظاهر الآية لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة لا سفرا ولا حضرا، وهو خلاف الإجماع، ولكن بمعرفة سبب نزولها يتبين لنا أن هذا المفهوم خاطئ، فقد روي في سبب نزولها أن القبلة عميت على قوم فصلّوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبين خطؤهم، فعذرهم الله بها، فالآية ترفع الحرج عمن صلّى باجتهاده إلى جهة ما يظنها القبلة، فبان له الخطأ بعد ذلك، وكأن الله سبحانه يقول: لا حرج فالجهات كلها لله، وحيثما توجهتم فثم وجه الله (¬1). ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما .. [البقرة: 158]. فقد فهم عروة بن الزبير رضي الله عنه، أن الآية نزلت لبيان عدم فرضية السعي بين الصفا والمروة، فإن عبارة «لا جناح في كذا» لا يستعمل في الدلالة على وجوب الصلاة والزكاة. مثلا «لا جناح في أداء الصلوات الخمس أو في إخراج الزكاة، وإنما تصلح هذه العبارة للتعبير عن الإباحة لأن هذا المعنى هو مدلولها اللغوي»: ¬

_ (¬1) الترمذي 4/ 273، ونيل الأوطار 2/ 75.

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ .. [البقرة: 198]. .. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ... [البقرة: 229] .. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ .. [البقرة: 230]. ومن هنا فهم عروة أن السعي بين الصفا والمروة ليس بفرض، لأن عبارة الآية تدل بمقتضى الاستعمال اللغوي على الإباحة، والإباحة تنافي الوجوب، لأن الإباحة لا إلزام فيها، بخلاف الوجوب. ولولا قوله تعالى: .. مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ .. [البقرة: 158]. لما فهم من الآية أن السعي عمل مرغّب فيه شرعا، فتدل الآية بمجموعها على الترغيب فيه وامتناع وجوبه، ولكن من يقف على سبب نزول الآية يعرف أنها لا تنافي وجوب السعي بين الصفا والمروة، فقد روي أن فريقا من الصحابة تحرجوا من الطواف بهما، لأن أهل الجاهلية كانوا يفعلونه، وكانوا في ترددهم بين الصفا والمروة يتمسحون بصنمين كانا عليهما، فتأثموا من عمل هو من أعمال الجاهلية، وكان يقترن به عمل من أعمال الوثنية فنزلت. وروي أن الأنصار كانوا في الجاهلية يحجون إلى الصنم الذي يقال له مناة، ولا يتحللون من الطواف بهما، لأنه لم يكن ذكر في القرآن في ذلك الوقت. وكان الذي ذكر هو الطواف بالبيت العتيق فنزلت (¬1). ويجمع بين هذه الروايات كلها بأنها نزلت عقب تأثم الجميع، والمعقول أن هذا التأثم إنما وقع منهم قبل أن يسمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا في طلب السعي، وإلّا فحينئذ لا يعقل أن يتأثموا، فجاءت عبارة الآية على ما كان في نفوسهم من التأثم، تبين لهم أن هذا الأمر لا إثم فيه ولا جناح، فالمقصود منه إزالة ما كان في نفوسهم من التأثم لا نفي الوجوب، ولكن عروة لم يعرف سبب النزول ففهم أن الآية تنافي الوجوب. وقد دلت السنّة على وجوبه، وقد عرف عروة من خالته عائشة سبب نزولها، ولمّا عرف اهتدى إلى المقصود منها. ¬

_ (¬1) انظر هذه الروايات في فتح الباري 3/ 315.

حالات تعدد روايات أسباب النزول

وكذلك قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: 4]. فقد أشكل على بعض الأئمة معنى هذا الشرط، حتى قال الظاهرية: إن اليائسة لا عدة عليها إذا لم ترتب، وقد بين سبب النزول المراد من هذا الشرط، فقد أخرج الحاكم عن أبيّ بن كعب أنه لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد النساء، قالوا: قد بقيت عدد لم تذكر، وهي عدد الصغار والكبار فنزلت (¬1). فبين سبب النزول أن المعنى إن ارتبتم في حكمهن فعدتهن ثلاثة أشهر، والذين لم يقفوا على سبب نزول الآية، فهموا أن المعنى إن ارتبتم في حيضهن، فأشكل عليهم معناها، حتى قال بعضهم: بأن اليائسة لا عدة عليها. والأمثلة التي تبين فائدة أسباب النزول كثيرة اكتفينا بالمذكور واقتصرنا على الصحيح منها. وتجدر الإشارة إلى أن معرفة بعض أسباب النزول قد لا يقدم ولا يؤخر في قليل أو كثير كأن تنزل آية في زيد أو عمرو من الناس فالأمر سواء. حالات تعدد روايات أسباب النزول هذا بحث يشتمل على صور كثيرة نبدأ بالصور المتفق عليها ثم نثني بالمختلف فيها. 1 - لا خلاف بين العلماء أنه إذا تعددت أسباب النزول، وكانت رواية صحيحة وأخرى ضعيفة، فإنه يقدم الصحيح على الضعيف. من ذلك ما روي في أسباب نزول سورة: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: 1 - 3]. فقد روى البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشتكى فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلّا قد تركك، فأنزل الله سورة الضحى .. (¬2). ¬

_ (¬1) نقل ذلك السيوطي عن الحاكم. (¬2) رواه البخاري في صحيحه. كتاب تفسير القرآن. سورة (والضحى)، ح (4950).

أما الطبراني فقد روى في سبب نزول السورة، عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها وهي خادمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أن جروا دخل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فدخل تحت السرير فمات، فمكث النبي صلّى الله عليه وسلّم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة ما حدث في بيت رسول الله؟ جبريل لا يأتيني، فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة، فأنزل الله وَالضُّحى وَاللَّيْلِ .. السورة. قال ابن حجر: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة ولكن كونها سبب نزول الآية غريب وفي إسناده من لا يعرف فالمعتمد ما في الصحيح (¬1). 2 - ولا خلاف أيضا إذا كانت الروايات في أسباب النزول صحيحة، وإحداها أرجح من الأخرى بوجه من وجوه الترجيح أخذ بالأرجح وترك المرجوح، مثال ذلك: ما رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال: بعضهم لو سألتموه، فقالوا: حدّثنا عن الروح فقام ساعة ورفع رأسه، فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحي، ثم قال: .. قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] (¬2). أما الترمذي فقد صحح عن ابن عباس قوله: إن قريشا قالت لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الآية (¬3). فالروايتان صحيحتان، ولكن رواية البخاري أصح سندا ودراية، لأن البخاري رواها عمن شاهد القصة وعاينها وهو ابن مسعود، أما الترمذي فروايته لا ترجح على رواية البخاري سندا، وابن عباس الذي رويت عنه الرواية لم يشاهد مثلما شاهد ابن مسعود الذي كان حاضر القصة (¬4). وليست رواية من شاهد كرواية من سمع بها. ¬

_ (¬1) الإتقان 1/ 22. وانظر فتح الباري، كتاب التفسير، سورة الضحى ح (4950). (¬2) انظر صحيح البخاري. كتاب تفسير القرآن. باب (ويسألونك عن الروح) ح (4721). (¬3) سنن الترمذي. كتاب تفسير القرآن 5/ 304 ح (3140). (¬4) انظر البرهان 1/ 30.

3 - يذكر العلماء حالة تساوي روايات النزول في الصحة، ولست أرى لهذا النوع وجودا ولا دليلا، ووجدت في حديثهم اضطرابا، إذ يلجئون في هذه الحالة إلى القول بتداخل هذه الروايات، ويجعلونها سببا واحدا إذا كان زمانها متقاربا، أو يقولون بتعدد نزول الآية مرات متعددة، إذا كان الزمان متباعدا، حتى زعموا أن بعض الآيات قد نزلت ثلاث مرات. أما حالة تداخل الروايتين وجعلهما سببا واحدا، فيمثلون لهذه الحالة بما روي في سبب نزول آيات اللعان، فقد أخرج البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بشريك بن سحماء. فقال النبي: «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال يا رسول الله: (إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فأنزل عليه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور: 6 - 9] (¬1). وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال: اسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا يقتله، أيقتل به؟ أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعاب السائل، فأخبر عاصم عويمرا فقال: والله لآتين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلأسألنّه فأتاه فقال: «إنه قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآنا» الحديث. جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر أيضا، فنزلت في شأنهما معا (¬2). هذا الرأي فيه نظر، إذ المتأمل لنصوص الحديثين يجد القول الحق في أن سبب النزول هو ما روي بشأن هلال بن أمية لوجود قرائن في متن الحديث، فهذان ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ح (4747). (¬2) صحيح البخاري ح (5259) صحيح مسلم 10/ 120 ح (1492)، والإتقان 1/ 95، ومناهل العرفان ص 112.

الحديثان وإن تساويا صحة في السند إلّا أن متن كل منهما يختلف عن الآخر مما جعل بعض العلماء يعتمد أن سبب النزول الوحيد للآية هو ما روي بشأن هلال لوجود قرائن تدل على ذلك. ومن هذه القرائن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أتاه هلال بن أمية- بنفسه- قاذفا زوجته، قال له: «البينة أو حد في ظهرك» لأن الوحي لم ينزل بعد في حكم اللعان، لذا لم يبق إلّا أن يطبق عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم حد القذف، كما ورد في الآية السابقة نزولا لهذه الآية (¬1)، وهذا يلزمه بتطبيق حد القذف عليه، ولم يعفه من ذلك آيات اللعان في حقه. أما في قصة عويمر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سأله عويمر لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم له: «البينة أو حد في ظهرك» بل قال له: «قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا». فلم يتوقف الرسول صلّى الله عليه وسلّم في بيان حكمه. يقول صاحب معاني القرآن: وقد يذكرون حادثة تحققت في تلك الأيام المباركة، واستنبط النبي صلّى الله عليه وسلّم حكمها من آية في ذلك الباب، فتراهم يقولون بعد ذلك: إن الآية نزلت في كذا، وربما قالوا: فأنزل الله قوله كذا، فكأنه إشارة إلى أنه من استنباطه عليه الصلاة والسلام. ولعل هذا ما جعل بعض العلماء يجزم أن قصة هلال بن أمية هي السبب الوحيد لوجود قرينة تدل على ذلك، وينفي أن تكون قصة عويمر سببا. وعلى أية حال، فهذا الخلاف لا يترتب عليه أثر مفيد، فسواء أتداخلت الروايتان وكانتا سببا للنزول، أم كانت قصة هلال بن أمية هي السبب الوحيد، فلا شيء يترتب على ذلك. 4 - أما حالة تعدد الروايات في أسباب النزول التي حكموا فيها بتكرار نزول الآية لتباعد أزمانهما، فيمثلون لهذه الحالة بما أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقف على حمزة حين استشهد، وقد مثل به، فقال: «لأمثلنّ بسبعين ¬

_ (¬1) والآية السابقة هي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: 4].

منهم مكانك». فنزل جبريل والنبي صلّى الله عليه وسلّم واقف بخواتيم سورة النحل وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ .. إلى آخر السورة [النحل: 126 - 128]. وبما أخرجه الترمذي والحاكم عن أبيّ بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، منهم حمزة، فمثلوا بهم. فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ الآية، فظاهر تأخير نزولها إلى يوم فتح مكة، وفي الحديث المتقدم ما يفيد نزولها يوم أحد. وهناك رواية ثالثة بأنها نزلت في مكة قبل الهجرة. قال ابن الحصار: ويجمع بينهما أنها نزلت في مكة قبل الهجرة مع السورة لأنها مكية، ثم ثانيا بأحد، ثم ثالثا يوم الفتح تذكيرا من الله لعباده. كما أن الزركشي قد ذكر نحو قوله إذ يقول: (وقد ينزل الشيء مرّتين تعظيما لشأنه، وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه) (¬1). فهذه الأقوال لا يسندها دليل من الشرع أو العقل، وإذا ناقشنا المثال المذكور فإننا نقول: إن رواية البيهقي فيها مقال، ففي إسنادها «صالح بن بشير المري» وهو ضعيف عند الأئمة، قال البخاري عنه: إنه منكر الحديث، وعلى هذا فرواية الترمذي أصح منها (¬2). قال القرطبي إن نزول هذه الآيات في أحد، مما أطبق عليه جمهور المفسرين ثم قال: إن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السير، وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها في المكي اتصالا حسنا، لأنها تتدرج في الرتب من الذي يدعي ويعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازي على فعله. لكن ما روى الجمهور أثبت .. (¬3). اهـ. القرطبي. ¬

_ (¬1) البرهان في علوم القرآن 1/ 29. (¬2) انظر تفسير ابن كثير لهذه الآية وسنن الترمذي 4/ 362 ح (3129)، مباحث في علوم القرآن، للدكتور القصبي زلط ص 69. (¬3) تفسير القرطبي لسورة النحل 10/ 201.

الفصل الرابع جمع القرآن الكريم

الفصل الرابع جمع القرآن الكريم المبحث الأول: الجمع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. المبحث الثاني: الجمع في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. المبحث الثالث: الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه. المبحث الرابع: ترتيب الآيات والسور القرآنية. المبحث الخامس: رسم المصحف «الرسم القرآني أو العثماني».

تمهيد:

جمع القرآن الكريم تمهيد: المراد بجمع القرآن الكريم حفظه في الصدور وكتابته في السطور، وقد تحقق جمع القرآن بنوعيه حفظا وكتابة في جميع العهود. ففي عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم تواتر حفظه في الصدور، كما تمت كتابته، كلما نزلت آية من الآيات دعا من يكتب. وفي عهد أبي بكر جمع أوراق القرآن وما كتب في مكان واحد. وقد تجوز العلماء في إطلاق جمع القرآن في عهد عثمان الذي أمر بكتابته ونسخه. وما زال جمع القرآن- حفظا وكتابة- محققا وسيبقى كذلك إلى قيام الساعة وصدق الله العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9].

المبحث الأول الجمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

المبحث الأول الجمع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم لقد جمع القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم حفظا وكتابة، أما حفظه في الصدور فقد تجلى في حفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذا القرآن، فقد كان يتشوق ويتلهف لنزول الوحي، فما إن ينزل بالآيات إلّا ويعجل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بحفظها، لذا طمأنه الله سبحانه وأرشده إلى عدم الإسراع والتعجل بالقرآن قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 16 - 19]. وقال تعالى: .. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ .. [طه: 114]. ومن هنا كان صلّى الله عليه وسلّم جامع القرآن في قلبه الشريف، وسيد الحفاظ في عصره المنيف، ومرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القرآن وعلوم القرآن، وكان صلّى الله عليه وسلّم يقرؤه على الناس على مكث، كما أمره مولاه، وكان جبريل يعارضه إياه في كلّ عام مرة، وعارضه إياه في العام الأخير مرتين. قالت عائشة وفاطمة رضي الله عنهما: سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل سنة مرة، وأنه عارضنا العام مرتين، ولا أراه إلّا حضر أجلي» (¬1). أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد أخذ القرآن قلوبهم، فأخذوا يتسابقون في حفظه- أحيوا ليلهم وسمع لبيوتهم في غسق الدجى كدوي النحل بالقرآن. بل عرفت منازلهم من سماع تلاوتهم للقرآن، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، ¬

_ (¬1) مناهل العرفان، 1/ 234. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه ح (3624) ومسلم (2450) (99).

وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» (¬1)، هذا ليلهم، أما نهار الصحابة في المسجد، فكان يسمع لهم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا، ومن هنا كان عدد الحفاظ من الصحابة رضوان الله عليهم كثيرا، أشهرهم الخلفاء الأربعة والعبادلة وعمرو بن العاص وابن الزبير ومعاوية وأمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم سلمة، وغيرهم من المهاجرين، ويكفي أن نعلم من كثرتهم أنه قتل منهم في يوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة مثلهم أي أربعون ومائة (¬2). أما الحفظة من الأنصار فهم كثيرون، أشهرهم: أبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو زيد (وهو قيس بن السكن). يتضح لنا أن الحفاظ كثيرون، وقد زادوا على حد التواتر، ومع ذلك فقد أثار أعداء الإسلام- قديما وحديثا- شبهة مفادها أن الحفظة من الصحابة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. وتمسكوا بأثر رواه البخاري وغيره، وظنوا أن هذا مستمسك لهم، وما هو بذلك؛ وقد رد علماؤنا كيدهم إلى نحورهم. أما الأثر فما ورد في صحيح البخاري عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنه قال: (مات النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) (¬3). فقد زعموا أن هؤلاء الأربعة هم الحفظة ولا أحد غيرهم ظنا منهم أن الحصر في هذا الأثر حصر حقيقي. والواقع أن هذا الحصر نسبي لا حقيقي، ويدلنا على ذلك ما رواه أنس بن مالك نفسه، وقد سأله قتادة عن جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: (أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، (4232)، ومسلم (2499) (166). (¬2) هذه الأسماء قد وردت في أحاديث صحيحة. وانظر: المرشد الوجيز، لأبي شامة، ص 40 - 42. (¬3) صحح البخاري. كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ح (5004). (¬4) صحيح البخاري ح (5003).

فقد ذكر في هذه الرواية أربعة، غير أنه ذكر أبيّ بن كعب بدلا من أبي الدرداء في الرواية الأولى. وهو صادق في كلتا الروايتين، لأنه لا يعقل أن يكذب نفسه، فتعيّن أنه يريد من الحصر الذي أورده الحصر الإضافي، فمرة ذكر أبا الدرداء، ومرة ذكر أبيّ بن كعب، وهذا التوجيه وإن كان بعيدا، إلّا أنه يتعين المصير إليه جمعا بين هاتين الروايتين، وبينهما وبين روايات ذكرت غير هؤلاء. ومن هنا قال المازري: لا يلزم من قول أنس- رضي الله عنه-: (لم يجمعه غيرهم). أن الواقع كذلك في الأمر نفسه، لأنه لا يمكن الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في الأمصار، ولم يتمّ له ذلك إلّا إذا كان قد لقي كل واحد منهم، وأخبر عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا في غاية البعد في العادة (¬1)، وكيف يكون الواقع ما ذكر، وقد جاء في صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خذوا القرآن عن أربعة: عن عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب» (¬2). والأربعة المذكورون منهم اثنان من المهاجرين وهما الأولان، واثنان من الأنصار وهما الأخيران. اهـ. ولعل مراد المازري بهذا نفي الحصر الحقيقي وتوجيه الحصر الإضافي، ويؤكد ذلك حديث آخر رواه ابن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي قال: (جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبيّ بن كعب، وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري). وهناك أجوبة كثيرة عن هذه الشبهة، وقد أجاب الإمام أبو بكر الباقلاني بأجوبة ثمانية، ولكن ابن حجر ضعفها، وغيره فندها. ونكتفي في النهاية بكلمة للمازري حيث يقول: (وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه، فإنا لا نسلّم حمله على ظاهره، سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجم الغفير لم يحفظه كله، أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير. ¬

_ (¬1) فتح الباري 9/ 66 شرح الحديث (5004). (¬2) صحيح البخاري ح (3808).

وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكلّ الكلّ ولو على التوزيع كفى) (¬1). قال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون وقتل في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم في بئر معونة مثل هذا العدد، قال: وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم (¬2). هذا عن جمع القرآن حفظا وتلاوة، أما الجمع بمعنى كتابة القرآن وتدوينه، فلم تكن عناية النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بحفظ القرآن واستظهاره لتمنعهم من توثيق القرآن بكتابته وتدوينه، فقد اتخذ الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أصحابه كتبة للوحي، منهم زيد بن ثابت وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وثابت بن قيس وخالد بن الوليد، إذ كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأمر من حضر منهم بالكتابة لما ينزل عليه من القرآن، فيكتب الكاتب: إما على العسب أو اللخاف أو الرقاع أو قطع الأديم أو عظام الأكتاف والأضلاع (¬3). ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان مجموعا في صحف قال تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [البينة: 2]. أي يقرأ قراطيس مطهرة من الباطل، فيها مكتوبات مستقيمة قاطعة بالحق والعدل. وقال أيضا: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ 11 فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ 12 فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ 13 مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ 14 بِأَيْدِي سَفَرَةٍ 15 كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 11 - 16]. أي أن هذه تذكرة مثبتة في صحف مكرمة عند الله، مرفوعة المقدار منزهة عن أيدي الشياطين، قد كتبت بأيدي كتبة أتقياء، وما كتب بالصحف كان مؤلفا. ¬

_ (¬1) فتح الباري 9/ 66 شرح الحديث (5004). (¬2) الجامع لأحكام القرآن 1/ 57. (¬3) العسب: بضم العين والسين- جمع عسيب- وهو جريد النخل كانوا يكشفون الخوص ويكتبون في الطرف العريض. اللخاف: بكسر اللام جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء: وهي الحجارة الرقيقة، قال الخطابي: صفائح الحجارة، والرقاع، جمع رقعة: وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد. والأديم: الجلد. والأكتاف: جمع كتف، وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم. (انظر القرطبي، 1/ 50).

روي عن ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهم أنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أنزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب، فقال: «ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا» (¬1). وعن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نؤلف القرآن من الرقاع (¬2). خلاصة ما تقدم أن القرآن الكريم قد حفظ في صدور الكثير من الصحابة. وقد كتب القرآن كله، فتحقق جمع القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم حفظا وكتابة في الصدور وفي السطور، سئل محمد بن الحنفية ما ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: (ما ترك إلّا ما بين الدفتين، أي: القرآن). يتضح مما تقدّم أن تواتر القرآن، وقطعيته في الحفظ والرواية دون الكتابة التي لم تتواتر كما هو معروف من أمر كتبة الوحي، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو بعض من يكتب عنده، وربما كتب الواحد والاثنان أو دون العدد الذي يتحقق به التواتر. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 1/ 57، 69، وأبو داود (786)، والترمذي (3086)، والنسائي في «فضائل القرآن» (32)، وقال الحاكم في المستدرك 2/ 230: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (¬2) أخرجه أحمد 5/ 184 و 185، والترمذي (3954)، والحاكم في «المستدرك» 2/ 229 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

المبحث الثاني جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه

المبحث الثاني جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه لم يشعر الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم في حاجة إلى جمع القرآن في كتاب واحد، حتى كثر القتل في الحفّاظ في حروب الردة، فقد استشهد فيها خلق كثير من القرّاء والحفظة، قيل: إنه قتل سبعون وقيل: خمسمائة، وأيا كان فإن عدد القتلى قد هال المسلمين، فخشي عمر بن الخطاب من ذلك على ضياع بعض الصحف ففكر في عرض الأمر على أبي بكر ليقوم بجمع القرآن. روى البخاري أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وفإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ «اشتد» يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنّك رجل شابّ عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتتبّع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل (¬1) من الجبال، ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني، حتى شرح الله ¬

_ (¬1) وقد عينت بعض الروايات الجبل بأنه جبل أحد، فكان رضي الله عنه يرى نقل جبل أحد من مكان إلى مكان أهون عليه من نقل الكتابة من العسب واللخاف والأكتاف والأضلاع والرقاع المختلفة الأجناس والأشكال والألوان إلى كتابتها على شيء متجانس متماثل يسهل جمعه وربطه وحفظه في مكان مناسب، وقد تطلب هذا منه جهدا عظيما في مقارنة المحفوظ بالصدور مع المكتوب في السطور مع طلب الشهادة على كل رقعة أنها كتبت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يحافظ على الرسم القرآني كما هو، جزى الله زيدا أحسن الجزاء وأجزل له الثواب.

كيفية جمع زيد للقرآن (في عهد أبي بكر):

صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ 128 فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 128 - 129]. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر (¬1). كيفية جمع زيد للقرآن (في عهد أبي بكر): يقول زيد نفسه فيما رواه البخاري: (فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال) وهذا يفيد أن طريقة الجمع تعتمد على أمرين: 1 - ما كان محفوظا في صدور الصحابة رضوان الله عليهم. 2 - ما كان مكتوبا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا يقبل المكتوب إلّا بشهادة عدلين. روى ابن أبي داود- في كتاب المصاحف- من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: (قام عمر، فقال من كان تلقى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من القرآن فليأت به) (¬2)، فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق (¬3)، فكان أبو بكر رضي الله عنه أول من جمع القرآن في المصحف). وكان زيد- رضي الله عنه- لا يقبل شيئا مكتوبا حتى يشهد عدلان على أن المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ذكر ذلك صاحب الفتح حيث قال: (وعند ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري. كتاب فضائل القرآن. باب جمع القرآن ح (4986). (¬2) رجاله ثقات مع انقطاعه والحديثان في فتح الباري 9/ 11. (¬3) في المصباح يعني بالورق في الأزمان المتقدمة الجلود الرقاق التي يكتب عليها.

ونقل السيوطي عن السخاوي (¬1) أنه قال: (المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب من الوجوه التي نزل بها القرآن، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) قال أبو شامة: (إنما كان قصدهم أن ينقلوا من عين المكتوب بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم) (¬2). يتضح للمتأمل أن الجدير بالقبول هو أن المراد بالشهادة فيهما، الشهادة على الكتابة بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم لا الشهادة على القرآنية، لأن القرآنية لم تكن موضع شك حتى تحتاج إلى شهادة، لكثرة الحفاظ في ذلك الوقت، بخلاف الكتابة بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن كثيرا من الصحابة كانوا يكتبون القرآن لأنفسهم على حسب ما يتيسر لهم، ولو في غير مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويلاحظ أن ما قاله ابن حجر من أنه يجوز أن يكون قد أريد بالشاهدين الحفظ والكتابة، لا عدلان من الناس يشهدان، هو احتمال في غاية البعد، لأن اللفظ متبادر جدا في هذا المعنى دون ما قصه ابن حجر، والله أعلم. وبعد فلا يفوتنا أن ندفع الشبهة التي تعلق بها المغرضون في الرواية التي أثبت بها زيد كتابة آية لم يثبتها إلّا شاهدان اثنان، وهذا كاف لإثبات عدم التواتر لهذه الآية المفقودة. نقول: إن بعض هذه الروايات منقطع كما يقول علماء الحديث، ولو سلمنا أن هذه الروايات صحيحة، لما ثبتت الدعوى، بل على فرض أن زيدا قد أثبتها منفردا، لم يكن ذلك قادحا في تواتر القرآن، لأن التعويل في توثيق القرآن إنما هو على الرواية، والتلقي طبقة عن طبقة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع تحقيق للتواتر في الرواية دون الكتابة، بل لو لم يكتب أصلا ما قدح في تواتره، حيث نقل سماعا ومشافهة على سبيل التواتر في كل طبقة من طبقات رواته (¬3). ¬

_ (¬1) الإتقان 1/ 238، والبيان ص 179. (¬2) المرشد الوجيز لأبي شامة، ص 57. (¬3) البيان ص 182.

وبعد: هذا معنى جمع القرآن في عهد أبي بكر الذي كان أول من جمع القرآن بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال عليّ رضي الله عنه: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله، ذكر ذلك ابن كثير وقال: إن أبا بكر وضع الصحف التي جمع فيها القرآن بين لوحين (¬1)، ومن الواضح البين أنه لا يمكن أن يجمع القرآن كله مع ترتيب آياته وسوره إذا كانت الأشياء التي كتب عليها مختلفة حجما ونوعا، طولا وعرضا، كما أن عددها لا يحصى، لأن الآيات قد نزلت في مدى ثلاثة وعشرين عاما وفي كل مرة ينزل فيها الوحي يكتب النازل من القرآن على شيء من الأشياء المذكورة سابقا. لذا فقد تمت الكتابة على شيء واحد صالح للبقاء، متماثل في طوله وعرضه، حتى يتأتى جمعه بين اللوحين وربطه بخيط كما في بعض الروايات، هذا الدور الذي قام به زيد بن ثابت، فكان له سبق التنفيذ، ولعمر بن الخطاب سبق الاقتراح، ولأبي بكر الصديق الأمر بذلك، رضي الله عنهم أجمعين. ¬

_ (¬1) فضائل القرآن ص 23.

المبحث الثالث الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه

المبحث الثالث الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه لئن كان جمع أبي بكر للقرآن خوفا من ضياع المكتوب بموت حفظة القرآن، فإن جمع عثمان بن عفان كان خوفا من اختلاف الأمصار في وجوه القراءات، حين قرأه كل مصر بقراءة تختلف عن قراءة مصر آخر، وأدى ذلك إلى تخطئة بعضهم بعضا، وفي قصة حذيفة بن اليمان خير بيان لأسباب الجمع أو النسخ بتعبير أصح. روى الإمام البخاري بسنده عن ابن شهاب، أن أنس بن مالك حدثه، أن حذيفة ابن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصّحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق (¬1). 1 - يتضح مما تقدم أن سبب الجمع والداعي إلى نسخ المصحف، هو منع التماري والاختلاف في القراءات، بسبب تفرق الصحابة في الأمصار، فقد كان كل فريق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في باب نزل القرآن بلغة قريش ح (3506) وباب جمع القرآن ح (4987)، والترمذي (3104). وأذربيجان التي فتحت قبل أربعة عشر قرنا كانت سببا في جمع القرآن.

ما يستفاد من هذه الرواية:

يقرأ بما روي له عن الصحابة في بلده، فيختلف الشامي مع العراقي، والمكي مع المدني، وأظهر بعضهم تكفير بعض، والبراءة منه، وتلاعنوا، فأشفق حذيفة مما رأى منهم، فلما قدم المدينة- فيما ذكر البخاري والترمذي- دخل حذيفة على عثمان قبل أن يدخل إلى بيته، فقال: «أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك» (¬1) وفي هذا خير بيان للباعث على الجمع أو النسخ بتعبير أدق. ما يستفاد من هذه الرواية: 2 - أن عثمان بن عفان قد جعل على رأس القائمين على الجمع زيد بن ثابت، وهو من كتبة الوحي للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي قام بالجمع في عهد أبي بكر، وبخبرته وعدالته وعقله كما وصفه أبو بكر (إنك شابّ عاقل لا نتهمك) بكل هذا أصبح موضعا للثقة، فولاه عثمان الأمر، ولكنه أمر الكتبة إذا اختلفوا في كتابة كلمة أن يكتبوها بلغة قريش كما في كلمة (التابوت والتابوه) (¬2). 3 - أن هذه الرواية مطلقة لم تحدد عدد المصاحف، وهناك رواية حددتها بسبعة، وقيل: أربعة، قال القرطبي: وهو الأكثر (¬3)، ولكن هذا القول يعوزه الدليل وإن ذهب إليه الأكثر، والحديث الذي سقناه سابقا هو أصح ما في هذا الباب، وقد جاء فيه النص هكذا: (فأرسل إلى كل أفق بمصحف) ولا شك أنه أرسل هذه المصاحف لرفع الخلاف في كل أفق. والآفاق المعروفة آنذاك: المدينة التي استبقى فيها نسخة، ومكة والكوفة والبصرة والشام واليمن والبحرين، فهذه آفاق لا شك أنه نال كل أفق منها نسخة، لذا نميل إلى هذا الرأي الصحيح في سنده، والذي يتفق مع المنطق السليم، لأن القضاء على الاختلاف لا يتم إلا بإرسال مصحف إلى كل مصر من الأمصار. ولا شك أن المصاحف التي أرسلها نسخة عن الأصل، فهي نقل لعين ما نقل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما هو. ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 1/ 51. (¬2) المرجع السابق 1/ 54. (¬3) المرجع السابق 1/ 54.

4 - في هذه الرواية أخبار عن حرق عثمان للمصاحف، سواء أكانت صحفا أم مصاحف، وفي عمله جمع للمسلمين على المصحف الموحد الثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وترك ما سواه، لما حوته من قراءات شاذة أو تفسيرات زائدة. ولقد غالى بعض الشيعة في قضية حرق المصاحف، وزعمت ما زعمت، وكان الأحرى بهم أن يقفوا عن هذه المغالاة، وأن يستمعوا إلى قول الإمام علي كرم الله وجهه: فيما ذكره أبو بكر الأنباري عن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: (يا معشر الناس، اتقوا الله، وإيّاكم والغلو في عثمان، وقولكم: حرّاق المصاحف، فو الله ما حرقها إلّا على ملأ منا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم). وعن عمير بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب: (لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان) (¬1). هذا كلام علي- رضي الله عنه- الذي يتشيعون له ويفضلونه على جميع الصحابة، قد ارتضى فعل عثمان وحسنه، وحث الناس على الثناء عليه من أجله، فطعنهم فيه بأمر ارتضاه عليّ يعتبر طعنا منهم في عليّ نفسه. لم يكتف بعض الشيعة بالطعن في عثمان، بل زعموا أن عثمان رضي الله عنه قد أسقط شيئا من القرآن، وحرّف بعض آياته، والمنصف منهم يرفض هذا الزعم كما ورد في كتاب أبي جعفر «الأم»: (إن اعتقادنا في جملة القرآن الذي أوحى به الله تعالى إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم هو كل ما تحتويه دفتا المصحف المتداول بين الناس، وعدد السور المتعارف عليه هو (114) سورة، أما عندنا فسورتا الضحى والشرح تكونان سورة واحدة، وكذلك سورتا الفيل وقريش، وأيضا سورتا الأنفال والتوبة. أما ما ينسب إلينا الاعتقاد في أن القرآن أكثر من هذا فهو كذب). ولقد شهد المستشرقون على قطعية القرآن وثبوته دون تغيير ولا تبديل. يقول جوير: (إن المصحف الذي جمعه- نسخه- عثمان قد تواتر إلينا دون تحريف. ولقد حفظ بعناية شديدة، بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في ¬

_ (¬1) القرطبي 1/ 54.

النسخ التي لا حصر لها، والمتداولة في البلاد الإسلامية، فلم يوجد إلّا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا). ويقول لوبلوا: (إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر) (¬1). أقول: والفضل ما شهدت به الأعداء. ¬

_ (¬1) مدخل إلى القرآن الكريم، للدكتور دراز ص 29، القرآن ونصوصه ص 87 - 88.

المبحث الرابع ترتيب الآيات والسور القرآنية

المبحث الرابع ترتيب الآيات والسور القرآنية أولا: ترتيب الآيات: معنى الآية لغة: 1 - العلامة: ومنه قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 248]. 2 - العبرة ومنه قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا .. [آل عمران: 13]. 3 - المعجزة: ومنه قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة: 211]. 4 - الدليل والبرهان: ومنه قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم: 22]. والمناسبة بين كلّ هذه المعاني اللغوية للآية وبين الآية القرآنية واضحة، فهي من القرآن المعجز، وهي علامة على صدق من جاء بها، وفيها عبرة لمن أراد أن يعتبر بها، وهي من الأمور العجيبة لسمو أسلوبها ومعناها، وفيها معنى الدليل لأنها برهان على ما تضمنته من هداية وعلم (¬1). أما تعريف الآية القرآنية اصطلاحا: (فهي طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وما بعدها). هذا التعريف كما أورده السيوطي ينطبق على الآية كما ينطبق على تعريف السورة، لذا لا بد من إضافة قيد لينحصر التعريف بالآية، فيقال: (هي طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وما بعدها معروفة بالسماع، مندرجة في السورة). ¬

_ (¬1) البيان ص 219.

حكم ترتيب الآيات:

وليس معنى انقطاع الآية عما قبلها وما بعدها، ألا يكون لها تعلق في المعنى بسابقتها أو لاحقتها، إنما المراد أن ما يعدّ آية هو الذي لا يكون جزءا من آية قبله أو آية بعده. حكم ترتيب الآيات: الإجماع معقود على أنه ترتيب الآيات توقيفي نقله السيوطي وقال: ولا شبهة في ذلك، وقال الزركشي: «من غير خلاف بين المسلمين». قال كاتب الوحي زيد بن ثابت: كنا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم نؤلف القرآن في الرقاع (¬1) .. قال البيهقي: والمراد تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال عثمان بن عفان- رضي الله عنه-: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) (¬2). ويكفي ثبوت الترتيب قراءته صلّى الله عليه وسلّم لسور كثيرة بمشهد من الصحابة رضوان الله عليهم ثم نقله للتابعين على مثل ذلك، حتى وصل إلى جيلنا كذلك من غير خلاف على مر العصور. وربما يتوهم متوهم أن الخلاف في عدد الآيات، يعني الخلاف في ترتيبها، فقد روي أن عدد الآيات ستة آلاف آية فقط ومنهم من زادها مائتي آية وأربع آيات، وقيل: وأربع عشرة، وقيل: وتسع عشرة، فهذا الخلاف في العدد لا يعني أبدا الخلاف في الترتيب، ذلك أن سبب اختلاف السلف في عدد الآي ناجم عن وقوف النبي صلّى الله عليه وسلّم على رءوس الآي، فإذا علم محلها وصل للتمام فيحسب السامع حينئذ أنها ليست فاصلة (¬3). ¬

_ (¬1) سلف تخريجه في المبحث الأول من هذا الفصل ص 156. (¬2) سنن الترمذي 5/ 272، ح 3086 مختصرا، وقد سلف تخريجه في المبحث الأول من هذا الفصل ص 156. (¬3) الإتقان 1/ 67.

ثانيا - السور القرآنية:

كما أن بعض السلف يعدّ البسملة آية من كل سورة، وبعضهم لا يعدها، فيكون الفارق في عدد الآيات بمقدار عدد السور إلا واحدة وهي سورة براءة. ثانيا- السور القرآنية: معناها: لفظ السورة مفرد يجمع على سور، كغرفة وغرف، وتطلق لغة على المنزلة من البناء، أي: الصف من صفوفه التي يوضع بعضها فوق بعض، كما تطلق ويراد بها المنزلة الرفيعة، وسمّيت السورة من القرآن بهذا الاسم تشبيها لها بسورة البناء، فإنها قطعة من كتاب الله محكمة مترابطة، يكمل بعضها بعضا في الغرض الذي أنزل من أجله، كما أن المنزلة من البناء قطعة متماسكة يكمل بعضها بعضا، ويتحقق باجتماعها الغرض الذي من أجله أقيم البناء، أو سمّيت بذلك لارتفاعها، لكونها من كلام الله، وعلى كلا التقديرين فالمناسبة حاصلة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي. أما معناها الاصطلاحي فما سبق ذكره (بأنها طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وما بعدها معروفة بالسماع). وسور القرآن تختلف طولا وقصرا، فسورة الكوثر هي أقصر سور القرآن إذ يبلغ عدد آياتها ثلاث آيات، وسورة البقرة أطول سور القرآن، وقد تجاوزت الجزءين، وقد قسم القرآن حسب طول السور وقصرها إلى أربعة أقسام: 1 - السور الطوال: وهي سبع: سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، أما السورة السابعة فقيل: إنها سورة الأنفال والتوبة معا، إذ لم يكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم وقيل: سورة يونس. 2 - المئون: وهي كل سورة تزيد آياتها على مائة. 3 - المثاني: وهي التي تلي المئين أي ما كان عدد آياتها أقل من مائة وسميت بالمثاني لأنها تثنى (أي: تكرر) أكثر مما تثنى الطوال والمئون. 4 المفصل: وهي أواخر القرآن ابتداء من سورة (ق) أو الحجرات وانتهاء بسورة الناس.

حكم ترتيب السور القرآنية

حكم ترتيب السور القرآنية في ترتيب السور ثلاثة آراء: 1 - ترتيب جميع السور توقيفي، ويستدل أصحاب هذا الرأي بقصة معارضة جبريل القرآن على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا يعني أن جبريل كان يقرأ القرآن مرتبا بسوره وآياته. وأقوى أدلة هذا الفريق هو إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على المصحف العثماني وحرقهم لجميع المصاحف المختلفة الترتيب في السور. 2 - ترتيب جميع السور اجتهادي. ويستدلون على ذلك باختلاف مصاحف الصحابة في ترتيب السور، ولو كان الترتيب توقيفيا لما اختلفوا. وكذلك ما روي عن عثمان- رضي الله عنه- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبض ولم يبين للصحابة أمر سورتي الأنفال وبراءة، وكانت الأنفال من أول ما نزل من القرآن وكانت براءة من آخر ما نزل، ولما ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم البيان قال عثمان: كانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتها في السبع الطوال، فهذه القصة تدل على أن ترتيب السور كان أمرا اجتهاديا. 3 - ترتيب بعض السور توقيفي وبعضها الآخر اجتهادي. وقد وصف الزرقاني هذا القول بأنه أمثل الآراء وإليه ذهب فطاحل العلماء (¬1). وأصحاب هذا الرأي وإن اتفقوا على هذا التقسيم إلّا أنهم اختلفوا في مقدار التوقيفي والاجتهادي. وعلى أية حال فإن الذي لا مجال للشك فيه أن كتابة القرآن بترتيبه المعروف في السور والآيات قد أجمعت عليه الأمة، منذ الجمع الأول والثاني وحتى عصرنا الحاضر. لذا نميل إلى الرأي الأول، لأن إجماع الصحابة وإقرارهم كاف للدلالة على توقيف ترتيب السور، ولا نعلم عنهم خلافا، فكفى بذلك دليلا وبرهانا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 1/ 349.

المبحث الخامس رسم المصحف

المبحث الخامس رسم المصحف نقصد برسم المصحف، أو كما يسميه بعض العلماء الرسم العثماني وهما واحد، لأن عثمان- رضي الله عنه- قد كتب المصاحف كما كتبت في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأقرّ كتّاب الوحي على كتابتها بصورتها المعروفة. وقد اختلف العلماء في الرسم فذهب فريق منهم أن الرسم توقيفي. قال ابن المبارك في كتابه الإبريز: قال الدباغ: (ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن العزيز ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الأحرف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول، وما كانت العرب في جاهليتها، ولا أهل الإيمان من سائر الأمم في أديانهم يعرفون ذلك، ولا يهتدون بعقولهم إلى شيء منه، وهو سر من أسراره، خصّ الله كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، فلا يوجد شبه ذلك الرسم لا في التوراة ولا في الإنجيل، ولا في غيرهما من الكتب السماوية. وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز، وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في مائة دون فئة، وإلى سر زيادة الياء في بأييد من قوله تعالى: والسّماء بنيناها بأييد .. [الذاريات: 47]. أم كيف يتوصل إلى سرّ زيادة الألف في «سعوا» في قوله تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [الحج: 51]. وعدم زيادتها في سعو من قوله تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [سبأ: 5]. وإلى سر زيادتها في قوله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ .. [الأعراف: 77]. وحذفها من قوله تعالى: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان: 21].

وإلى سر زيادتها في قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: 237]. وإسقاطها من قوله تعالى: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء: 99]. أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف الألف في بعض الكلمات المتشابهة دون بعض، كحذفه من قرءنا في يوسف والزخرف، وإثباته في سائر المواضع قُرْآناً، وكذا إثبات الألف بعد الواو في سَماواتٍ في سورة فصّلت، وحذفها في غيرها سموت، وكذا في إطلاق بعض التاءات وربطها نحو «رحمة» و «نعمة» و «قرة» و «شجرة» فإنها في بعض المواضع كتبت بالتاء المفتوحة وفي مواضع أخرى كتبت بالهاء ... وكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية) (¬1). وذهب الفريق الثاني: منهم ابن خلدون والباقلاني إلى أن الرسم اصطلاحي واجتهادي لا توقيفي. قال الباقلاني: (وأما الكتابة فلم يفرض النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلّا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه، أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلّا على وجه مخصوص، وحدّ محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدلّ عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية، بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى أحدا عن كتابته. ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك، وإذا كانت خطوط المصحف وكثير من حروفها ¬

_ (¬1) الإبريز ص 57.

مختلفة ومتغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز. فكل رسم دال على الكلمة مقيد بوجه قراءته، تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة كانت. وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنّى له ذلك) (¬1). هذه أقوال الفريقين ويظهر أن القول بتوقيف الرسم هو الأولى بالقبول. قال البيهقي: من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغيّر مما كتبوه شيئا، فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة منّا، فلا ينبغي أن نظنّ بأنفسنا استدراكا عليهم (¬2). نص الإمام مالك على أنه لا توضع المصاحف إلّا على وضع كتابة الإمام يعنى عثمان بن عفان. وقال الإمام أحمد: (تحرم مخالفة خط مصحف عثمان واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك) (¬3). بقي القول في حكم كتابة بعض آيات القرآن استشهادا أو كتابتها على اللوح للتعليم أو غير ذلك مما يكتب في غير المصاحف. أقول: هذا جائز لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أمر كتّابه أن يكتبوا للملوك والرؤساء كانت كتابتهم على رسم الكتابة الاعتيادية، وعلى غير الرسم الذي كانوا يكتبون به المصاحف التي يكتبون فيها القرآن حين نزوله، مع أن المملي واحد والكتّاب هم هم، فالرسم القرآني يجب التزامه في كتابة المصحف وحده دون غيره، ولا يقاس عليه لأنه أمر توقيفي لغير علة فلا يدخله القياس. ¬

_ (¬1) الإبريز ص 59. (¬2) الإتقان 2/ 167. (¬3) المرجع السابق.

شكل المصحف وإعجامه

شكل المصحف وإعجامه الشكل: (هو وضع العلامات التي تدل على ما يعرض للحرف من حركة أو سكون). أما الإعجام: (فخاص ببيان ذات الحرف، وتمييزه عن غيره، ويكون بالنقط كالتاء عليها نقطتان، والياء تحتها نقطتان ونحو ذلك). وجدير بالذكر أن القرآن قد كتب خاليا من الشكل والإعجام، وقد كتبه عثمان بن عفان كذلك، ولم يخش عليه من الالتباس؛ لأن العرب يدركون القرآن بسليقتهم، وكان تلقيهم للقرآن عن طريق الرواية والسماع. وطبيعي أن مخالطة العرب لغيرهم قد أفسدت هذه السليقة السليمة، وبدأ يظهر اللحن رويدا رويدا، وينتشر شيئا فشيئا، حتى بدا لزياد بن أبيه (¬1) والي البصرة أن يضع حدّا لهذه الظاهرة، بعد أن أشار عليه أبو الأسود الدؤلي بعد فزعه عند ما سمع رجلا يقرأ قوله تعالى: .. أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ .. [التوبة: 3]. بجر اللام في «رسوله» بدل رفعها أو نصبها، فعهد زياد لأبي الأسود أن يقوم بهذه المهمة الجليلة، والتي كانت الحاجة إليها أمس وأقوى من الحاجة إلى الإعجام، وذلك أن الخطأ في حركات الحروف أضعاف الخطأ في إعجامها، وكان الشكل في البداية بالنقط، ولمّا أريد وضع الإعجام بالنقط، أصبح الأمر ملتبسا في التمييز بين الشكل والإعجام، فعمدوا إلى تغيير لون النقط، ثم جعل الشكل بالطريقة المعروفة لنا الآن، وبقي الإعجام هو المختص بالنقط، وقيل: إن الذي أمر بالإعجام هو الحجاج بن يوسف. وعلى هذا فالآمر بالشكل والآمر بالإعجام هما واليا العراق، وهم ثقفيان من ثقيف التي طالما استعملهم الأمويون في حكم العراق بالذات، لما عرفوا من شدّتهم في جاهليتهم وإسلامهم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) وقيل: الحسن البصري ويحيى بن يعمر وقيل: نصر بن عاصم الليثي وهؤلاء جميعا من التابعين.

الفصل الخامس من مباحث علوم القرآن

الفصل الخامس من مباحث علوم القرآن المبحث الأول: العام والخاص. المبحث الثاني: المطلق والمقيد. المبحث الثالث: المنطوق والمفهوم. المبحث الرابع: النسخ في القرآن. المبحث الخامس: المحكم والمتشابه في القرآن.

المبحث الأول العام والخاص

المبحث الأول العامّ والخاصّ العامّ: (هو لفظ وضع للدلالة على أفراد غير محصورين على سبيل الاستغراق والشمول)، أو (هو اللفظ الموضوع الذي يستغرق جميع ما يصلح له من أفراد من غير حصر كمّي أو عدديّ). وقد ورد في اللغة صيغ تدل على العموم نوردها مستشهدين بالآيات القرآنية. 1 - اسم الجنس إذا عرف بأل، كقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ .. [النور: 2]. فلفظ الزانية والزاني يدل على العموم، أي: كل زانية وكل زان. 2 - الألفاظ (كل وجميع وأجمع وكافة)، كقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185]. وقوله: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21]. وقوله: .. وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً .. [التوبة: 36]. وقوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: 73]. 3 - لفظ (من) فيمن يعقل سواء أكانت للشرط، كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160]. أم كانت للاستفهام، كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً .. [الحديد: 11]. 4 - لفظ (ما) فيما لا يعقل في الجزاء والاستفهام، كقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6]، أي: كل دابة، وكقوله: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان: 11]، أي: أيّ شيء خلقتم. 5 - النكرة المنفية أو في سياق النفي، كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ .. [البقرة: 255]. فلفظ (إله) نكرة منفية ولفظ (سنة) نكرة في سياق النفي، وكلا اللفظين يدل على العموم.

6 - لفظ الجمع المعرف بالإضافة، كقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: 31]. 7 - الأسماء الموصولة، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: 4]. أما التخصيص (فهو قصر العامّ على بعض أفراده بدليل). والمخصّص قد يكون منفصلا أو متصلا، أو على حدّ تعبير الأصوليين مستقلا أو غير مستقلّ، وقد يكون غير ذلك كما سنرى. والمخصّص المتصل هو نفسه غير مستقل، وهو غير تامّ بنفسه لاعتماده على ما قبله من لفظ العامّ، وهو منحصر في أربعة: 1 - التخصيص بالاستثناء: وهو إخراج ما بعد إلّا أو إحدى أخواتها مما قبلها، كقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106]. فالاستثناء جعل الحكم مقصورا على من كفر راضيا مختارا. 2 - التخصيص بالشرط: أي تعليق الأمر على شرط بإحدى أدوات الشرط، وهي كثيرة، قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 180]. فوجود المال شرط في الوصية، فإن عدم فلا وصية. 3 - التخصيص بالغاية: وألفاظ الغاية: إلى وحتى. مثال (إلى) قوله تعالى: .. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ .. [البقرة: 187]. فإتمام الصيام عامّ، وقد خصّص بدخول الليل، إذ لا يجب فيه الصيام. ومثال (حتى) قوله تعالى: .. وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ .. [البقرة: 196]. 4 - التخصيص بالصفة. مثل قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ .. [النساء: 23] (¬1). ¬

_ (¬1) الربيبة هي بنت الزوجة.

ومعنى ذلك أن الربيبة من المرأة لا تحرم على الرجل إلّا إذا دخل بأمها، فإذا لم يدخل بأمها حلّت له الربيبة. وعلى هذا وضعت القاعدة، الدخول بالأمهات يحرّم البنات، والعقد على البنات يحرّم الأمهات. وقد ألحق بعض الفقهاء بدل بعض من كل، والحال، وجعلوهما مثل التخصيص بالصفة. فبدل بعض من كل، مثل قوله تعالى: .. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا .. [آل عمران: 97]، فلا يجب الحجّ على جميع الناس بل هو خاصّ على المستطيع منهم. أما الحال فمثاله قوله تعالى: .. لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ .. [المائدة: 95]. فحرّم قتل الصيد حالة الإحرام خاصّة، وأباحه في الإحلال منه. أما المخصص المنفصل أو المستقل فيشمل أنواعا كثيرة، فقد يخصّص عموم القرآن آية أو حديث أو إجماع، ومثال تخصيص عموم القرآن بالقرآن قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً .. [البقرة: 234]. فهذه الآية عامّة تدل على أن عدّة كلّ امرأة توفي زوجها عنها هي أربعة أشهر وعشرة أيام، ثم جاءت الآية الكريمة تخصص عمومها: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4]. فجعلت مدة عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي وضع حملها، سواء بلغت المدة أربعة أشهر وعشرة أيام أم لم تبلغ. أما تخصيص السنة للقرآن: فمثاله ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في رجم الزاني المحصن، فهذا مخصّص لآية الجلد في سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ .. [النور: 2]. هذا وفي كتب الأصول أبحاث مستفيضة لمن أراد المزيد.

المبحث الثاني المطلق والمقيد

المبحث الثاني المطلق والمقيّد المطلق: ما دل على فرد شائع غير مقيد لفظا بأي قيد: كتلميذ وحيوان وطائر، فإنها ألفاظ وضع كلّ منها للدلالة على فرد واحد شائع في جنسه، ولئن كانت النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فإنها في سياق الإثبات غالبا ما تدل على الإطلاق. أما المقيّد: (فهو ما دل على فرد مقيد لفظا بقيد ما) (¬1) كحيوان ناطق، وتلميذ مجتهد. متى يحمل المطلق على المقيد: هناك حالات متفق عليها يحمل فيها المطلق على المقيد، وحالات متفق عليها على عدم حمل المطلق على المقيد، وحالات مختلف فيها. اتفقوا على حمل المطلق على المقيد، في حالة اتحاد الموضوع والحكم معا، وخير مثال على هذه الحالة، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: واقع رجل امرأته في رمضان فاستفتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: «هل تجد رقبة؟» قال: لا، قال: «هل تستطيع صيام شهرين؟» قال: لا، قال: «فأطعم ستين مسكينا». رواه البخاري (¬2). ورواه ثانية عن الراوي نفسه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: «وما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟» قال: لا. قال أبو هريرة ثم جلس فأتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعرق فيها تمر- والعرق: المكتل-، فقال: «تصدّق بهذا»، قال: أعلى أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا؟. ¬

_ (¬1) مسلم الثبوت 1/ 360. (¬2) صحيح البخاري. كتاب الحدود، باب من أصاب ذنبا دون الحد، ح (6821).

فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «اذهب فأطعمه أهلك» (¬1). فهذان الحديثان موضوعهما واحد وهو الجماع المتعمد في نهار رمضان، والحكم فيهما واحد؛ إما الإعتاق، وإما الصوم ستين يوما، وإما الإطعام، وقد ذكر الحديث الأول صيام شهرين وأطلقهما من التفريق أو التتابع. أما الحديث الثاني فقد قيد صيام الشهرين بالتتابع، لذا يحمل المطلق على المقيد، فلا يجزئ صيام الشهرين إلّا إذا كانا متتابعين، وإنما قلنا بوجوب حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة، لأن العامل بالحكم المقيد هو عامل بالحكم المطلق، أما العامل بالمطلق فلا يكون عاملا بالمقيد، لذا وجب الجمع بينهما ما دام ذلك ممكنا. أما الحالة الثانية التي اتفق الأصوليون على عدم حمل المطلق على المقيد فيها، فهي حالة اختلاف الموضوع والحكم معا، مثال هذه الحالة: قوله تعالى في كفارة اليمين في حالة عدم استطاعة الحانث في يمينه أن يطعم أو يكسو أو يعتق: .. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ .. [البقرة: 196]. فقد أطلقت الآية الصوم ولم تقيده بالتتابع، لذا يجوز التتابع والتفريق في الصيام. أما قوله تعالى: في كفارة قتل الخطأ: .. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ .. [النساء: 92]. فقيد الصوم بالتتابع، فلا يحمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة لأمرين: أولا: لاختلاف الموضوعين، إذ الآية الأولى في كفارة اليمين والثانية في كفارة قتل الخطأ. وثانيا: لأن الحكمين مختلفان في النصين. وهناك حالات مختلف فيها، كحالة اختلاف الموضوع أو الحكم إن وافق اتحاد أحدهما. والخلاف طويل بين الأصوليين، يطول بنا المقام إن تحدثنا عنه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري. كتاب الصوم. باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدّق عليه فليكفّر. ح (1936).

المبحث الثالث المنطوق والمفهوم

المبحث الثالث المنطوق والمفهوم لا يتأتى لمفسر أو مجتهد أن يفسر أو يفقه شيئا من القرآن إلّا إذا أحاط بآيات القرآن الكريم، وكيفية دلالتها على المعاني، فلا بد من معرفة منطوق القرآن ومفهومه، وسنتحدث عن المنطوق والمفهوم بإيجاز تاركين التفصيل لأمهات كتب الأصول. 1 - المنطوق: عرفه العلماء: (بأنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق) كوجوب غسل الوجه واليدين إلى المرافق، الذي دلت عليه الآية بمنطوقها في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ .. [المائدة: 6]. والمنطوق إذا دل لفظه على تمام معناه، فالدلالة مطابقة كقوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ .. [البقرة: 196]. وإن دل اللفظ على جزء المعنى فهو التضمن، ومثاله: دلالة لفظ الإنسان على ما في معناه من الحيوان، وإن دلّ اللفظ على الحكم بطريق الالتزام فهو دلالة الالتزام كقوله تعالى: .. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ .. [البقرة: 233]. فإن من كلف بالنفقة يجب أن يثبت له نسب المولود. ويجب أن يراعى في دلالة المنطوق بالقرآن، حمل دلالة ألفاظه على المعاني الشرعية، والتي تكفّل الشارع الحكيم ببيانها، فإذا ما ورد في القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .. [البقرة: 183]. وجب تفسير الصوم بمدلوله الشرعي لا اللغوي. فإذا لم يكن للفظ مدلول شرعي وجب أخذ معناه من الحقيقة العرفية في عهده صلّى الله عليه وسلّم فإن تعذر ذلك حمل على المدلول اللغوي.

2 - المفهوم:

2 - المفهوم: عرفه العلماء بأنه: (ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق). فالمعنى المدلول عليه لم يؤخذ من اللفظ المنطوق مباشرة، بل هو مسكوت عنه، وهذا المعنى المستفاد المسكوت عنه إن كان موافقا في الحكم للمعنى المستفاد من المنطوق، فهو مفهوم الموافقة، وإن كان مخالفا للمنطوق فهو مفهوم المخالفة، على هذا فالمفهوم قسمان: القسم الأول: مفهوم الموافقة، أو ما يسمى بفحوى الخطاب أو لحن الخطاب. مثاله قوله تعالى: .. فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما .. [الإسراء: 23]. فالآية تحرّم التأفف والنّهر للوالدين هذا هو منطوقها، وهي تحرّم كذلك الضرب والإيذاء لهما، وإن لم ينطق بهما، إلّا أن هذا المسكوت عنه أولى بالتحريم، وهو مفهوم موافقة، لأن حكم ضرب الوالدين موافق لحكم التأفف والنهر لهما في التحريم، وهذا ما يسميه بعض الفقهاء فحوى الخطاب، وقد يكون مفهوم الموافقة المسكوت عنه مساويا لحكم المنطوق، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً .. [النساء: 10]. فالآية بمنطوقها قد حرّمت أكل أموال اليتامى ظلما، ويفهم منها تحريم إحراق أموال اليتامى إذا كان مما يحرق، وتحريم الركوب إذا كانت مما يركب، فتحريم الحرق أو الركوب وغير ذلك مساو لحكم أكل مال اليتيم. القسم الثاني: مفهوم المخالفة، أو كما يسميه ابن فورك دليل الخطاب: وهو كما عرفه العلماء: «دلالة اللفظ على ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف لما دلّ عليه المنطوق لانتفاء قيد من القيود المعتبرة في الحكم» (¬1). وقد اختلف في أنواع مفهوم المخالفة تبعا للقيود المعتبرة، وأصح الأقوال أنها أربعة أنواع وهي: ¬

_ (¬1) ابن الحاجب مع العضد والسعد، 2/ 172.

1 - مفهوم الصفة: وهو تعليق الحكم بالصفة المفهمة التي تشعر بالعلية فإذا انتفى الوصف انتفى الحكم، مثاله قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا .. [الحجرات: 6]. فالآية بمنطوقها تدل على وجوب التّبيّن إذا كان المخبر فاسقا، ومفهوم المخالفة إذا كان المخبر عدلا وثقة فلا يجب التبيّن بل يقبل قوله وخبره. 2 - مفهوم الشرط: وهو تعليق الحكم على الشيء بكلمة (إن) أو غيرها من أدوات الشرط. فلا خلاف أن المشروط لا يثبت إلّا بثبوت الشرط، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط، فقوله تعالى في سورة الطلاق: .. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ .. [الطلاق: 6]. يدل على وجوب النفقة إذا كانت المرأة حاملا، فإذا لم يتحقق الحمل فلا تجب النفقة لعدم تحقيق الشرط. 3 - مفهوم الغاية: وهو تعليق الحكم بغاية فيكون ما بعدها مخالفا لما قبلها مثاله قوله تعالى: .. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ .. [البقرة: 187]. فمنطوق الآية يفيد وجوب الصيام في النهار إلى ابتداء الليل، أي: المغرب، وهي تدل بمفهومها على عدم وجوب الصوم بعد دخول الليل. وكذلك قوله تعالى: .. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ .. [البقرة: 222]. فمنطوقها النهي عن قرب النساء أيام الحيض إلى أن تطهر، ومفهومه إباحة قربهن بعد طهارتهن. 4 - مفهوم العدد: وهو تعليق الحكم بعدد مخصوص يدل على أن ما عدا ذلك العدد بخلافه ومثاله قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً .. [النور: 4]. ومفهوم المخالفة أنهم إذا أتوا بأربعة شهداء عدول، فإنهم لا يجلدون ثمانين جلدة.

ما لا يعمل به مفهوم المخالفة:

ما لا يعمل به مفهوم المخالفة: 1 - لا يعمل بمفهوم المخالفة للاسم واللقب، فإذا حكمنا على زيد بالقيام، فلا يعنى الحكم على غيره بالقعود وعدم القيام، لأن زيدا علم. ولا يعمل بمفهوم المخالفة لاسم الجنس، فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «في الغنم زكاة» لا ينفي وجوب الزكاة في غير الغنم، لأن الغنم اسم جنس، وقد ذكر علماء الأصول أنواعا أخرى وفيها خلاف طويل. 2 - إذا ورد الشرع بإبطال المفهوم في الأنواع التي يعمل بها والتي سبق ذكرها، كمفهوم الشرط مثلا في قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً .. [النور: 33]. مفهوم الآية أنه يجوز البغاء منهن إذا لم يكرهن أحد، أي إذا لم يردن التحصن، وهذا المفهوم باطل لقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً .. [الإسراء: 32]. وقد يقال: فلماذا ذكر هذا الشرط وهو غير مراد بالآية؟ وهل هذا إلّا إهمال لذكره أو تفريغ لمحتواه، وهو عبث محض؟ نقول: إن ذكر هذا فيه فائدة إذ فيه تقريع وتوبيخ وتقبيح لهذا الفعل بهذه الصورة، حالة الإكراه على الزنا لمن تريد العفاف، فالنهي عن هذه الصورة لا يدل على إباحة ما عداها كالزنا مزاجا وموافقة منها، وإنما حرمت الآية هذه الصورة لما ورد في سبب نزول الآية من إكراه أمية بن خلف لجواريه على الزنا، فشكون ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ .. الآية (¬1). ومثال آخر: قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130]. ¬

_ (¬1) وقد أراد بعض ضعاف النفوس أن يثبت الاعتزاز بالقومية العربية، وقال: إن هذه الآية تدل على إباء وشمم الفتاة العربية، إذ لم تكن تقبل على البغاء إقبالا، وإنما كانت تكره عليه إكراها، وما علم هذا المدعي أن هذه الآية إن دلت على إباء الفتاة العربية إذ لم تأت الزنا إلّا بالإكراه، فهي تدل أيضا على خنوع من يكرههن، وهو من العرب أيضا!

فهذه الآية تدل بمنطوقها وظاهرها على تحريم الربا المضاعف، ويدل مفهومها على إباحة الربا فيما سوى المضاعف، وهو معطل بقوله تعالى: .. وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ .. [البقرة: 279]. هكذا رأس المال دون زيادة أو نقصان، مهما كانت الزيادة ومهما كان النقصان. ويرد هنا السؤال نفسه الذي سبق وقلناه، فلماذا نص الشرع على تحريم الربا المضاعف ما دام المراد تحريم الربا المضاعف وغيره؟ نقول: في تحريم الربا المضاعف نهي وزجر وردع لتلك الصورة الشائنة والشائهة، والاستغلال البشع الذي كان عليه العرب في جاهليتهم، وتصوير لحالهم القبيح، وفيه ما فيه من التقريع والتوبيخ، ما لا يعلمه الجهال الذين يفتون عن جهل بجواز قليل الربا، أو عن علم، ولكنهم ركبوا الهوى، وركنوا إلى مكافئات المرابين وأعوانهم من مردة الحكم المجرمين.

المبحث الرابع التعريف بالنسخ

المبحث الرابع التعريف بالنسخ كتب فيه خلائق لا يحصون، واتفق العلماء على جوازه ووقوعه في القرآن الكريم، ولم ينكره أحد من الأقدمين، إلّا ما روي عن أبي مسلم الأصفهاني- المعتزلي- ووافقه من المتأخرين الإمام محمد عبده وتابعه الشيخ الباقوري والشيخ محمد الغزالي وعبد المتعال محمد الجبري الذي ألف كتابا في إبطال النسخ، وقد تصدى للرد عليهم الدكتور مصطفى زيد في رسالته القيمة، والتي كان موضوعها «النسخ في القرآن الكريم»، وقد أثنى على بحثه الشيخ محمد أبو زهرة، والكتاب يقع في مجلدين، وقد استوعب هذه القضية استيعابا بما لا مزيد عليه. ونحن في هذه العجالة لا نستطيع التعرض لهذه القضية بتمامها، بل سنوجز الكلام بما يفي بالغرض في هذا المقام. معنى النسخ لغة: للنسخ في اللغة ثلاثة معان: أولا- بمعنى الإزالة: ومن ذلك قولهم: نسخت الشمس الظلّ، إذا أزالته، أي: أذهبت الظلّ وحلّت محله، ونسخ الشيب الشباب، إذا أزال سواد الشعر وحلّ محله بياضه، فهنا الإزالة بعوض أو ببدل، وقد تكون الإزالة من غير عوض كقولهم: نسخت الريح الأثر، أي: أزالته ولم تحل مكانه، بل ذهبت هي أيضا، فلم يبق ريح ولا أثر، وبمعنى الإزالة ورد قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها .. [البقرة: 106]. ثانيا- النسخ بمعنى النقل، أي: نقل الشيء من موضع إلى موضع ومن ذلك قولهم: نسخت الكتاب، أي: نقلت ما فيه، ومن هذا المعنى قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29].

معنى النسخ شرعا:

ثالثا- النسخ بمعنى البدل: ذكره ابن منظور عن ابن الأعرابي في لسان العرب فقال: إن النسخ تبديل الشيء من الشيء وهو غيره، والنسخ أيضا نقل الشيء من مكان إلى مكان وهو هو، فهو يفرّق بين التبديل والنقل، في نقل الشيء عينه من مكان إلى آخر دون تغيير. وقد اختلف علماء اللغة في المعنى الحقيقي والمجازي للنسخ، فقال بعضهم: إن الإزالة هي المعنى الحقيقي، والمعاني الأخرى مجازية، ومنهم من عكس، والخلاف يطول استقصاؤه ولا يترتب عليه أثر يذكر. معنى النسخ شرعا: اختلف مؤلفو علوم القرآن والأصول في تعريف النسخ، فمن قائل بأن النسخ «هو إبطال الحكم المستفاد من نص سابق بنص لاحق». ومن قائل: (إنه خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم شرعي سابق). ومن قائل: (هو رفع الحكم الشرعي لخطاب شرعي). وأقوال أخرى لا تخلو من مقال ورشق نبال، وأولى الأقوال وأقربها للصواب أن النسخ (هو رفع الحكم الشّرعي بدليل شرعي متأخر). ما يستفاد من هذا التعريف: 1 - أن يكون الحكم المنسوخ شرعيا، فلا ينطبق ذلك في رفع الأحكام المبتناة على البراءة الأصلية، أو العادات والأعراف الجاهلية، أو الأحكام العقلية، هذا ما يفيده رفع الحكم الشرعي. 2 - أن يكون الناسخ شرعيا كذلك، فالشرع لا ينسخ إلّا بالشرع، فلا يصح أن يكون العقل ناسخا لحكم الشرع، كما هي الحال الآن في آفة المفتونين الذين ينسخون الأحكام الشرعية وفقا لمقتضيات العقل، مؤولين ذلك بالمصالح والمنافع. 3 - أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ، فإذا كان الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت معين كقوله تعالى: .. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ .. [البقرة: 187]. فإن

دليل مشروعية النسخ:

الحكم ينتهي بانتهاء وقته، فلا يقال لهذه الغاية الدالة على انتهاء الحكم: إنها نسخ، وذلك لاتصالها بدليل الحكم الأول، وهكذا يقال في كل حكم مؤجل بأجل، إذ لا يعني انتهاء أجله أنه نسخ. دليل مشروعية النسخ: جاءت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة بيّنة واضحة تدل على جواز النسخ ووقوعه. 1 - أما الكتاب: فقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها .. [البقرة: 106]. وقد فسرها جمهور المفسرين، واستدل بها جمهور الأصوليين، وهي من أقوى الأدلة على جواز النسخ. يقول إمام المفسرين ابن جرير الطبري: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي: ما نبدّل من حكم آية فنغيره، وذلك بأن يحوّل الحلال حراما والحرام حلالا، والمباح محظورا، والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلّا في الأمر والنهي، والحصر والإطلاق، والمنع والإباحة .. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. أما قوله: أَوْ نُنْسِها فمعناه نتركها فلا نبدّلها. وأما قوله: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها فمعناه: نأت بحكم خير لكم من حكم الآية التي نسخناها، ولا شكّ أن الخيرية تتحقق بالنسبة للناس في الدنيا، إذا كان الحكم الجديد أو الناسخ أخفّ من الحكم المنسوخ، وتتحقق أيضا إذا كان فضلا بالنسبة للآخرة حيث إن الثواب أجزل. والدليل الثاني: قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 101]. قال الزمخشري: تبديل الآية مكان الآية هو النسخ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح، والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته، وهذا معنى قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ.

2 - أما السنة: فقد دل قوله صلّى الله عليه وسلّم على جواز النسخ فقد صح الحديث: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها» (¬1). وليس معنى الحديث إلّا القول بجواز زيارتها بعد النهي عن ذلك، والنسخ لا يعني أكثر من ذلك، أن يحوّل الحرام حلالا، والمحظور مباحا على حد قول ابن جرير الطبري. 3 - أما إجماع الصحابة: فقد انعقد على أن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم ناسخة لجميع الشرائع السابقة، وانعقد إجماعهم على نسخ وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث، فإجماعهم على ذلك دليل شرعي على النسخ. 4 - وأما الدليل العقلي: فإن وقوع النسخ بالفعل هو أدلّ دليل على وجوده وعلى جوازه. وعلى الرغم من تضافر الأدلة على النسخ ووقوعه. فإننا وجدنا أن طائفة من المنتمين للإسلام قد أنكروا النسخ، كما أنكرته فرقة الشمعونية والعنانية من اليهود وتابعهم النصارى. يقول ابن كثير: (والذي يحمل على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله، لأنه يحكم ما يشاء، كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه وقع ذلك في كتبه المتقدمة، وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرّم ذلك، وكما أباح لنوح- بعد خروجه من السفينة- أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حلّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر بنو إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل، كيلا يستأصلهم- وبقوا أحياء يذيقون البشرية ألوانا من أحقادهم- ولله في ذلك حكمة وأشياء كثيرة يطول ذكرها، وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه) (¬2). ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجة 1/ 501، ح 1571. (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 151.

المنكرون للنسخ:

المنكرون للنسخ: أنكر أهل الكتاب- اليهود والنصارى- وقوع النسخ وجوازه، وزعموا أن النسخ يستلزم البداء، ومعنى البداء لغة الظهور بعد الخفاء، قالوا: لو جاز النسخ على الله تعالى لكان إما لحكمة ظهرت له بعد أن لم تكن ظاهرة، أو لغير حكمة، وكلا الأمرين باطل، لأن الأول بداء، والثاني عبث، والبداء والعبث لا يجوزان على الله تعالى، إذ كل منهما نقص يتنزه الله أن يوصف به (¬1). ويجاب على هذا الزعم بهذا التساؤل، لماذا لا يكون النسخ لحكمة معلومة لله ولم تكن خافية عليه، أليس هذا هو القول السديد؟ بلى ... ولكن: .. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف: 5]. والعجب أن الرافضة- المرتدة عن الإسلام- قد تجاوزت اليهود في كفرهم. وصدهم عن الإسلام، فاليهود ينكرون النسخ لأنه يستلزم البداء، أما الرافضة فيثبتون النسخ المستلزم للبداء فوصفوا الله- تنزه عن ذلك- بالبداء ونسبوا ذلك إلى أئمة آل البيت زورا وبهتانا. وقالوا: (البداء ديننا ودين آبائنا). وأعجب بعد ذلك من قول أبي مسلم الأصفهاني من متأخري المعتزلة الذي قال بجواز النسخ عقلا، ومنع وقوعه شرعا، واستدل بقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]. وقد حذا حذوه الإمام محمد عبده ومن شايعه من المتأخرين. هؤلاء جميعا لم يحالفهم الصواب، وليس لهم دليل إلّا التحكم العقلي. والحقيقة أننا بحاجة إلى وقفة هادئة متأملة في موضوع نسخ بعض الأحكام في شريعة رسولنا خاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم في فترة نزول القرآن السابقة، خصوصا ونحن ما نزال نتلو هذه الآيات المنسوخة ... إلى جانب أننا مطالبون- بعد عصر التنزيل- بالأحكام النهائية التي آلت إليها الشريعة وثبتت عليها بانتهاء الوحي ووفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فوق ما هو مقرر ومعلوم بالبداهة عند جميع المسلمين، من امتناع وقوع النسخ بعد انقطاع الوحي. ¬

_ (¬1) النسخ في القرآن 2/ 29.

لقد تم النسخ، كما هو معلوم في ظل مبدأ تنجيم القرآن الكريم، أي: نزوله مفرقا على نجوم ودفعات ومراحل مختلفة، بلغت في مجموعها نحوا من ثلاث وعشرين سنة كما أشرنا إلى ذلك، كان لهذا التنجيم فوائده الكثيرة المعروفة، ولكن الفائدة الرئيسة أو الغرض الأساس من هذا التنجيم تكمن في أنه كان هو الوسيلة الربانية لإعداد الفرد المسلم والأمة المسلمة، بوصف هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، لأول مرة في التاريخ من خلال نصوص كتاب ... فإذا كان القرآن الكريم هو الذي صنعها وأخرجها للناس خير أمة، فقد تنزلت آياته الكريمة على مراحل وأوقات وفي مناسبات، لإحكام بناء هذه الأمة الخيرة، أو الأمة الوسط لبنة لبنة، وآية آية، وموقفا إثر موقف على اختلاف الظروف والأحوال، ويختص الجيل القرآني الأول- أو جيل التنزيل إن صح التعبير- فوق ذلك بأنه الجيل الوحيد أو الجيل الأول في تاريخ هذه الأمة الخيرة الذي عبر به القرآن الكريم من أوضاع الجاهلية إلى أحكام الإسلام، وانتقل به من جميع ملابسات الشرك إلى آفاق التوحيد. حتى حقق به القرآن الكريم ذلك «الجيل الأنموذج» أو «الجيل المثال» الذي يحتذى به إلى يوم الدين. هذا الجيل القرآني الفريد الذي ليس له نظير في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ بني الإنسان، كان النسخ بالنسبة إليه واحدا من أعمق وأهم وسائل التربية والإعداد في بناء شخصياته على الصعيد الفردي، وفي مواجهته على الصعيد الجماعي- كأمة ومجتمع- مع الجاهلية العربية وسائر الجاهليات الأخرى في الأمم والشعوب، بل قد يمكننا القول: إن النسخ كان ضرورة لا بد منها لنقل أبناء عصر التنزيل من الجاهلية إلى الإسلام، بدليل أنه جاء مرة نسخا مباشرا، وجاء مرة أخرى على مراحل .. ولكن الذي يهمنا تأكيده هنا، هو أن النسخ الذي عمل عمله في إعداد ذلك الجيل الفريد ... لا معنى لاستمراره ... بل لا يمكن له من أي وجه أن يوجد بعد ذلك العصر، ونحن نتربى الآن بالاقتداء والتأسي بذلك الجيل ... لا بالنسخ الذي ساهم في صنعه هو ... فالتربية بالنسخ- إن صح الشعار أو التعبير- بالنسبة لجيل التنزيل، يقابله بالنسبة لسائر الأجيال الأخرى بعده: التربية بالقدوة أو الاحتذاء بذلك الجيل الذي تمثلت فيه حجة الله على عباده إلى يوم الدين.

طريق معرفته:

وقد نجح جيل الصحابة- رضي الله عنهم- في تقديم أرفع النماذج الإنسانية، في كل مجال ... أما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي قدمت لنا سيرته الشريفة أهم وسائل ذلك الإعداد التاريخي، وألقت ضوءا على فهم مراحله، فقد تجمع في شخصه الكريم كلّ تلك الصفات والجمالات الرفيعة، وبلغ في كل واحد منها شأوا لم يبلغه أحد ممن فرغ له نفسه، سواء أكان من الصحابة أم من غيرهم، فكان بذلك رسول الإنسانية الكامل وملاذها الأخير صلّى الله عليه وسلّم. كان تشريع النسخ إذا جزءا من ذلك الإعداد التاريخي المرحلي، أو وسيلة من وسائله البارزة ... وبعد أن تم هذا الإعداد، الذي قدم لنا الأنموذج أو المثال الأخير كما قلنا، أصبحت الأمة الإسلامية مطالبة بالأحكام الأخيرة في البناء والإعداد، وأصبح النسخ «واقعة تاريخية» لا يمكن ولا يعقل تكرارها مرة أخرى بعد قيام الجيل الأول، وبعد أن تمت عملية الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام بصورة تطبيقية عملية، أعطت أروع الأمثلة وأعمقها على «أن أحكام الإسلام ليست رؤيا مثالية في عالم الخيال ... ولكنها حقيقة حية في دنيا الواقع ... وبذلك البعد الهائل الذي ليس له نظير، حتى كان مثلا يحتذى. نقول: أصبح النسخ واقعة تاريخية لا يعقل تكرارها، كما لم تعد هناك ضرورة لتكرار الجزئيات المرحلية في تربية الشخصية المسلمة والأمة المسلمة ... طريق معرفته: لا يصح القول في النسخ جزافا، فلا يعتمد في النسخ على قول المفسرين، ولا اجتهاد المجتهدين، من غير نقل صريح، لأن النسخ يتضمن رفع حكم، وإثبات حكم تقرر في عهده صلّى الله عليه وسلّم، والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد كما قال ابن الحصار. هذا ما أوقع الكثير من العلماء في الخطأ، فبمجرد ظهور شبهة التعارض يلجئون إلى القول بالنسخ في حين أن الجمع بينهما ممكن، ولا شك أن الجمع هو الأولى من إهمال أحدهما ... بل الجمع بينهما ولو من وجه من الوجوه أولى من

أنواع النسخ:

إهمالهما من كل الوجوه وادعاء النسخ فيهما، لأن النسخ على خلاف الأصل ... وما كان خلاف الأصل لا بد من بيّنة عليه، وإلّا لم تقم به حجة، وهذه الحجة: إما أن ينص اللاحق على أنه ناسخ للسابق لفظا أو دلالة، كما سيأتي ذكره في آيات المناجاة، أو آيات الزنا، أو ما ورد في الحديث الشريف: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها». وإما أن يكون بين النصين تعارض بحيث لا يمكن التوفيق بينهما، فينظر في النصين المتعارضين، فإن كان أحدهما معلوما وقطعيا والآخر مظنونا فالعمل بالمقطوع واجب. وإن كانا معلومين مقطوعا بهما، أو ظنيين في درجة واحدة من القوة، ينظر إلى القرائن، كأن يكون أحدهما متأخرا عن الآخر فيكون المتأخر ناسخا والمتقدم منسوخا. وقد يعرف التاريخ (مثلا) من إسناد الراوي كأن يقول: هذا الحديث في غزوة كذا أو سنة كذا، أو يقول نزلت هذه الآية في مكة والأخرى في المدينة أو نحو ذلك. أما إذا جهل التاريخ فلا نسخ، إذ إن أحدهما ليس بأولى من الآخر بالنسخ، وكل من ادعى غير ذلك فقوله مردود لعدم معرفته التاريخ. أقول: لم أطلع على دليلين قطعيين «أعني قطعي الثبوت وقطعي الدلالة» قد تعارضا من كل الوجوه. أما في الأدلة الظنية التي وقع فيها التعارض، فالقرائن لا تحصى في إعمالها، فنلجأ إليها، وإن تعذرت فالقرائن كثيرة، كذلك في تقديم أحد الدليلين ونسخ أحدهما. أنواع النسخ: جرت عادة علماء التفسير والأصول أن يذكروا للنسخ أنواعا ثلاثة: 1 - نسخ الحكم دون التلاوة. 2 - ونسخ التلاوة دون الحكم. 3 - ونسخ الحكم والتلاوة معا- وقد يكون ولعهم بالتقسيم والتبويب هو الذي شجعهم على اعتماد مثل هذه الأقوال

1 - منسوخ الحكم دون التلاوة:

وذكرها في بطون الكتب. على ما فيها من مخالفة واضحة ونبو صريح عن نظم القرآن وأناقة أسلوبه المعجز، ومخالفات أخرى لا مجال هنا للإشارة إليها (¬1). وهاك الأنواع الثلاثة: 1 - منسوخ الحكم دون التلاوة: هذا النوع الوحيد الجدير بالقبول، لذا فقد اتفق جميع العلماء على وقوعه وجوازه، ولم يشذ عن إجماعهم إلّا من ذكرناه سابقا، ولكن الذين اتفقوا على وقوعه وجوازه قد اختلفوا في عدد الآيات المنسوخة فمنهم المكثر، ومنهم المقتصد، ومنهم المقل، ونحن نرفض قول المفرطين في كثرة دعاوى النسخ التي تجاوزت المئات، وهي أقوال لا يدل عليها فطرة من عقل ولا نقل، ولقد حصر الإمام السيوطي قضايا النسخ في عشرين موضعا، واختصرها المرحوم مصطفى زيد بما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهاك من الأمثلة المتفق عليها (¬2). أ- كان قيام الليل- قبل فرض الصلوات- فرضا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته؛ لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ 1 قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا 2 نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 1 - 4]. فمكث يجتهد بقراءة القرآن حتى نزول قوله تعالى في آخر السورة: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل: 20]. ¬

_ (¬1) علوم القرآن ص 204. (¬2) انظر التشريع الإسلامي فقد ذكر أن في حصر السيوطي نظرا، وانظر كتاب النسخ في القرآن الكريم، ومباحث في علوم القرآن للقصبي زلط.

وبهذا صار التهجد تطوعا من الرسول بعد أن كان واجبا عليه وفي هذا تقول عائشة فيما رواه مسلم عنها: (فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول السورة- تقصد سورة المزمل- فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حولا، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة) (¬1). ب- ومثال آخر على منسوخ الحكم دون التلاوة: ما ذكره المفسرون في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة: 12]. فقد نسخ بقوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [المجادلة: 13]. ج- ومثاله أيضا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .. [النساء: 43]. فهذه الآية قد حرّمت شرب الخمر في أوقات الصلاة، ثم نزل تحريم الخمر قاطعا فقال تعالى: .. إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .. [المائدة: 90]. هذا النوع- منسوخ الحكم دون التلاوة- هو المتفق عليه، ووجوده في القرآن شاهد عيان، فآياته ما زالت تتلى في كلّ وقت وكلّ حين. وفي وجود الآيات وانتفاء التكليف بها فائدة عظيمة، وهذا من تمام الحكمة الربانية أن تبقى الآيات القرآنية التي نسخ حكمها تقرأ بألفاظها إلى يوم الدين، لترى فيها سائر أجيال هذه الأمة كيف تم إعداد جيلها المثالي الأول، وما هي الأحكام المرحلية التي احتاجت إليها الجماعة الإسلامية الأنموذج في أطوار نشأتها وتدرجها، وكيف تم قطع علائقها بالجاهلية. وربطت بأسباب الحياة الإسلامية ¬

_ (¬1) صحيح مسلم. كتاب صلاة المسافرين وقصرها. باب جامع صلاة الليل 1/ 512 مختصرا ح (746) (139).

2 - منسوخ التلاوة دون الحكم:

والدين الجديد الأخير الخالد، وربما أمكننا هنا إيراد كلمة سيدنا عمر رضي الله عنه عند ما قال: (إنه يخشى أن ينقض عرى الإسلام عروة عروة من لم يعرف الجاهلية وأحكامها). وليس من شك في أن استعراض هذه الآيات الكريمة التي نسخ حكمها يقف بنا على طريقة القرآن الكريم في تربية هذه الأمة- بوجه عام- تربية عملية واقعية متحركة، لا تجمد عند بعض الوسائل لا تتخطاها ... ، أو بعبارة أخرى: نحن نأخذ الآن فلسفة هذا الموقف من خلال الحكمة العملية التربوية فيما وراء الحكم المنسوخ لنفيد منه في مخاطبة الناس، وفي محاولة التغيير ... وفي الوقوف على الكثير الكثير من سنن الله عزّ وجلّ في النفس والمجتمع، وفي وسائل الدعوة وطرق الإصلاح، وتقف الآيات المنسوخة في هذا الباب هدى ومعالم بارزة ... كأعمق ما يكون الهدى، وأوضح ما تكون المعالم (¬1). 2 - منسوخ التلاوة دون الحكم: استدل القائلون بجواز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم بما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: (كان فيما أنزل آية الرجم يعني: «الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما البتة» قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله ورجمنا بعده) (¬2). ¬

_ (¬1) علوم القرآن ص 204. (¬2) قال أستاذنا الشيخ محمد الصادق عرجون في كتابه محمد رسول الله: (وقد بينا بيانا شافيا أن ألفاظ ما زعموه آية قرآنية نزلت في وجوب حد الرجم لمن زنى بعد إحصان في رواياتهم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله) لم تكن قط من ألفاظ القرآن ولا ألفاظ الحديث الشريف، فلم يستعملا كلمة (الشيخة) في معنى الإحصان ولا كلمة (الشيخ) في هذا المعنى، وكذلك كلمة (البتة) لم ترد في القرآن الحكيم البتة، لا فيما ثبتت قرآنيته بالتواتر ثم نسخ، ولا فيما أحكم فلم ينسخ منه شيء. هذا وجه إن لم يدلّ صراحة على بطلان الرواية فهو دال على استبعاد نزول آية قرآنية في زعم من رواها قرآنا بألفاظ طرحها القرآن والحديث فلم يستعملاها في المعنى المقصود للرواية، وهذه وجهة لفظية ترجح إلى خصائص القرآن في ألفاظه وملاءمتها في الفصاحة ولطف الأداء، وهي كافية في إلقاء الشك في قرآنية هذا الكلام.

¬

_ ويؤيد ذلك تأييدا واضحا أن الإمام البخاري وهو سيد المحدّثين في صحة سنده ترك هذين اللفظين (الشيخ والشيخة) وطرحهما من روايته عمدا كما قال شارحه الحافظ ابن حجر، وهذا يدل دلالة بينة على أن الإمام البخاري رحمه الله لم ير أن هذين اللفظين (الشيخ والشيخة) من الحديث، ولا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قالهما، لا على أنهما قرآن نزل ثم نسخ ولا على أنهما غير قرآن. قال البخاري ح (6829): حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن الزهري، عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحمل أو الاعتراف- قال سفيان: كذا حفظت- ألا وقد رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمناه بعده. فهذا الحديث وهو من أعلى وأرفع الأسانيد، لم يذكر فيه (الشيخ والشيخة) ومعناه كلّه منصب على إثبات حد الرجم للمحصن، وهو أمر مجمع عليه من الأمة سلفها وخلفها، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلّا طوائف من الخوارج والمعتزلة، فإنهم أنكروا حدّ الرجم، وقالوا: لم يكن الرجم في كتاب الله، وقول عمر: (فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله)، يحتمل أن المراد من إنزال الله إياها وحيه بها إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم وحيا غير قرآني، فتكون فريضة الرجم ثابتة بوحي السنة، ويدل لذلك قول عمر رضي الله عنه: (ألا وإن الرجم حقّ على من زنى وقد أحصن)، بل يجب حمل كلام عمر على هذا الوجه السديد. وهذه الحقّية للرجم لا يلزم أن تكون ثابتة بنص قرآني، بل يكفي فيها أن تكون ثابتة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث صحيح، كما يستفاد ذلك من قوله: «ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه». فالبخاري رحمه الله لم يذكر في روايته الثابتة الصحيحة (الشيخ والشيخة) لأنهما لم تثبتا عنده، لا لأنهما سقطتا من روايته، كما تقوّله عليه بعض من يجري وراء السراب. وإخراج الإسماعيلي لهذا الحديث من طريق الفريابي عن شيخ البخاري علي بن عبد الله وفيه: وقد قرأناها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) لا يلزم البخاري صحة هذه الرواية، ولهذا قال ابن حجر: ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدا، ولكن ابن حجر لم يعلّل لتعمد ترك البخاري لهذين اللفظين، ولم يوجه تعمد البخاري حذفه لهذه الزيادة التي جاء بها من رواية الإسماعيلي من رواية جعفر الفريابي، والظاهر أنها لم تصح عند البخاري، ولذلك تعمد حذف هذين اللفظين. ويؤيد صنيع البخاري في تعمده حذف هذه الزيادة لعدم صحتها عنده أن النسائي أخرج هذا الحديث عن محمد بن منصور، عن سفيان كرواية أبي جعفر الفريابي، أي بزيادة (الشيخ والشيخة) وقد عقب النسائي على ذلك فقال: ما أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث (الشيخ والشيخة)، غير سفيان، وينبغي أن يكون وهم في ذلك، ويؤيد توهيم النسائي لسفيان في ذكر

¬

_ هذه الزيادة قول الحافظ بن حجر: وقد روى الأئمة هذا الحديث من رواية مالك، ويونس ومعمر، وصالح بن كيسان وعقيل وغيرهم من الحفاظ عن الزهري فلم يذكروها- أي الزيادة (الشيخ والشيخة)، ووقوع الزيادة في الموطأ من رواية يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب لا يقاوم عدم ذكرها من رواية الجماعة وفي طليعتهم الإمام مالك رحمه الله. وقول عمر رضي الله عنه: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها في آخر القرآن معارض لما جاء في حديث أبي بن كعب عند النسائي والحاكم من قوله: ولقد كان فيها- أي في سورة الأحزاب- آية الرجم (الشيخ والشيخة) ولو كانت موجودة في سورة الأحزاب فكيف لم يعرفها عمر مكتوبة فيها؟ ويقول: (لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها في آخر القرآن). وفي رواية عنه قد قرأناها: الشيخ والشيخة، وهذا يدل على أن الذين قرءوها جماعة فأنى ذهبت؟ وكيف يخشى عمر بن الخطاب قالة الناس- وهو من هو في قوة الدين، وشدة الشكيمة وصلابة الشوكة ومضاء العزيمة، وشدة البأس- في أمر يجب عليه أن يقوم به ولو كان في ذلك حتفه، وجميع مواقف عمر في الإسلام تشهد بأن هذا بعيد جدا عن خلائقه وأخلاقه وليس في حديث زيد بن ثابت أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الشيخ والشيخة» ما يشعر قط أن هذا قرآن منزل من عند الله، وزيد بن ثابت أكثر كتّاب الوحي لزوما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعظمهم حظا في كتابة وحي القرآن، فلو كان الذي سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرآنا لأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكتبه في المصحف. وفي حديث خالة أمامة بن سهل أنها قالت: لقد أقرأنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آية الرجم، ولم يبين هذا الحديث نص الآية المزعومة، وقد جاء في هذه الرواية زيادة (بما قضيا من اللذة) وهذه زيادة لا وجه لذكرها، لأن قضاء اللذة ليس خاصا بالشيخ والشيخة، فهي زيادة تشير إلى ضعف الرواية، كما أن هذه الزيادة (بما قضيا من اللذة) إلى جانب أنها لفظة لم تعهد في ألفاظ القرآن واستعمالاته، فسبيلها سبيل لفظي (الشيخ والشيخة) كما أنها بعيدة عن مواقعة الأدب اللفظي والمعنوي. وقد روى أبو عبيد القاسم بن سلّام حديث خالة أمامة بن سهل فقال بعد سرد سنده: عن أبي أمامة بن سهل أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آية الرجم: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة. وأبو عبيد صاحب طامات في هذا الموضوع، رواها عنه السيوطي في الإتقان. وفي حديث مروان بن الحكم عند النسائي أنه قال لزيد بن ثابت: ألا نكتبها في المصحف؟ قال زيد رضي الله عنه: لا، ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان، وهذا يفيد أن زيد بن ثابت لم يتحقق عنده أن ما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قول (الشيخ والشيخة) قرآن تجب كتابته في المصحف.

3 - منسوخ التلاوة والحكم معا:

وهذه الرواية إسنادها صحيح، وفي متنها نظر، فقد روي عن عمر قوله: (لولا أن يقول الناس زاد عمر في المصحف لكتبتها)، وهو كلام يوهم أنه لم ينسخ لفظها أيضا، مع أنهم يقولون: إنها منسوخة اللفظ باقية الحكم، ورواية تذكر قيد الزنى بعد ذكر الشيخ والشيخة، ورواية أخرى لا تذكره، ورواية تذكر عبارة «نكالا من الله»، ورواية لا تذكرها، بل رواية البخاري لا تذكر الشيخ والشيخة، وما هكذا تكون نصوص الآيات القرآنية ولو نسخ لفظها. لذا فقد جزم الكمال بعدم الأخذ بالروايات قائلا: (وأما ما نظر به من الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما، فلولا ما علم بالسنة والإجماع لم يثبت به). إن هذا الحديث المروي عن عمر، لا يمكن اعتباره قرآنا بحال من الأحوال، لأن القرآن لا يثبت برواية الآحاد وإن صحت، ذلك لأن القراءات القرآنية لا تثبت قرآنيتها إلّا بالتواتر، وإلّا ردّت وحكم عليها بالشذوذ ولو صحت روايتها آحادا. قال أبو جعفر النحاس: (وإسناد الحديث صحيح، إلّا أنه ليس له حكم القرآن الذي نقله الجماعة، ولكنه سنة ثابتة). ونختم الحديث عن هذا النوع بما قال الدكتور مصطفى زيد: (ومن ثم يبقى منسوخ التلاوة باقي الحكم مجرد فرض، لم يتحقق في واقعة واحدة، ولهذا نرفضه ونرى أنه غير معقول ولا مقبول، فإن القول بأنه سقط شيء من القرآن، أو أنه لم يتواتر فلم يثبت في القرآن قول لا يسنده دليل ويجعل للمغرضين صيدا ثمينا للنيل من القرآن، فرد الروايات أهون من الدخول في المتاهات) (¬1). 3 - منسوخ التلاوة والحكم معا: استدل القائلون بجوازه بما روي عن عائشة: (كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرّمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهنّ فيما يقرأ من القرآن) (¬2). ¬

_ (¬1) علوم القرآن ص 204. (¬2) صحيح مسلم. كتاب الرضاع. باب التحريم بخمس رضعات 2/ 1075 ح 1452.

النسخ بين مصادر التشريع الإسلامي:

وفي هذا النوع من النسخ كلام مثل ما سبق وقلناه عن النوع السابق. قال الزركشي: (الأخبار فيه أخبار الآحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها) (¬1). أما الشيخ محمد علي السائس فقد نقل قول بعض العلماء: بأن حديث عائشة الذي رواه مالك وغيره لا يصح الاستدلال به، لاتفاق الجميع على أنه لا يجوز نسخ تلاوة شيء من القرآن بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا إسقاط شيء منه، وهذا الحديث يفيد أنه سقط شيء من القرآن بعد وفاته ... وهذا هو الخطأ الصراح (¬2). النسخ بين مصادر التشريع الإسلامي: وأعني بالمصادر الكتاب والسنة والإجماع والقياس: أولا: نسخ القرآن بالقرآن قد بينا القول فيه وفي أنواعه: ثانيا: نسخ السنة بالسنة اتفق العلماء على جوازه كذلك، حتى نفاة وقوع النسخ في القرآن ذهبوا إلى القول بهذا النوع، والمثال عليه واضح «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها». ثالثا: نسخ السنة بالقرآن وحوادثه كثيرة، منها: ما ورد في الصحاح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتوجه في الصلاة إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة: 144]. وقد جعل الإمام مسلم في صحيحه بابا سماه «تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة». ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 39. (¬2) تفسير آيات الأحكام 2/ 69.

شبهة مردودة في هذا النوع من النسخ:

شبهة مردودة في هذا النوع من النسخ: لقد ورد في تفسير ابن كثير مثال على هذه الحالة في شروط صلح الحديبية إذ كان من شروطها «على ألا يأتيك أحد منا إلّا رددته إلينا» وفي رواية «من جاءك منا» (¬1). ثم قالوا: إن آية الممتحنة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ .. [الممتحنة: 10]. فأمرت الآية بعدم ردّ النساء، أو على حدّ تعبير بعض المفسرين فنسخ الله في حقّ النساء، ولكن كما يقولون يلزم منه القول بنقض العهد، هكذا قالوا، وزعم المستشرقون ومن في قلبه مرض أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي بدأ بنقض العهد حين نزلت عليه آية الممتحنة المذكورة. والحقّ أنه لا نسخ للسنة بالقرآن في هذه الحادثة، لأن أكثر ما يقال في هذا الأمر وحسب الروايات المذكورة، أنها من باب تخصيص القرآن للسنة، وقد خلت كتب الأصول من التمثيل عليه، ويعتبر هذا من أحسن الأمثلة على تخصيص القرآن للسنة، كما ذكره ابن كثير بل هو المثال الوحيد. أما قول بعض المفسرين أن هذا نسخ فإن هذا على رأي من يقول: إن التخصيص بالمنفصل هو نسخ جزئي في رأي لأحد المجتهدين. والحق أن هذه الآية لم تنسخ، ولم تخصص بالروايات المذكورة، إذ ثبت في صحيح البخاري (على ألا يأتيك رجل منا إلّا رددته إلينا) (¬2) وفي هذه الرواية تفسير لكلمة أحد- الواردة في إحدى الروايات الصحيحة- برجل الواردة في الروايات الأخرى، وعندها لن تكون الآية في حقّ النساء ناسخة ولا مخصصة والله أعلم. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 4/ 214، 372. (¬2) صحيح البخاري. كتاب الشروط. باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ح (2731، 2732).

رابعا: نسخ القرآن بالسنة: أما هذا النوع فقد ذهب الشافعي إلى منعه وعدم جوازه، وذهب جمهور العلماء إلى جواز نسخ القرآن بالسّنّة. وندع المناقشة بين الفريقين والتي لا يترتب عليها أثر، إذ لم نجد فيه واقعة واحدة من وقائع النسخ على هذا النوع، ومن هنا نرى أن الخلاف الذي قام حول جوازه خلاف نظري، يحسمه عدم وقوعه ووجوده. خامسا: أما نسخ الإجماع بالإجماع، فإن الإجماع كما قال الأصوليون: لا ينسخ ولا ينسخ به، إذ لا يتصور أن يحصل إجماع على نسخ نص، إذ لا يصح الإجماع مع وجود النص، كما لا يصح أن ينسخ إجماع إجماعا لعدم صحة أحدهما، والكلام يطول في هذا النوع وفي النسخ بالقياس، وفي كتب الأصول المزيد لمن أراده.

"كلمة أخيرة لا بد منها" [في الفرق بين النسخ والتخصيص والتقييد]

«كلمة أخيرة لا بد منها» [في الفرق بين النسخ والتخصيص والتقييد] 1 - إن الناسخ يأتي على الحكم المنسوخ فيزيله بالكلية، وبعبارة أخرى يبطله ويلغيه ويخرجه عن اعتباره دليلا، أما المخصص فلا يلغي العامّ بالكلية، بل يبقى حكم العام معمولا به، ولكنه لا يستغرق جميع أفراده، بل جزءا منهم، ويبقى العام بعد تخصيصه دليلا ثابتا للحكم فيما أبقاه المخصص. 2 - إن الناسخ لا يأتي إلّا متأخرا عن المنسوخ، أما المخصص فيكون مقارنا للعامّ أو متأخرا عنه وقد يكون مستقلا أو غير مستقل. وبعبارة أخرى منفصلا أو متصلا، بل قد يتقدم عليه في رأي. 3 - النسخ لا يقع في مجال العقائد والأخبار والقصص القرآني، بل يقع في مجال الأحكام، أما التخصيص فمجاله جميع ما تقدم دون استثناء. وفروق أخرى مختلف فيها فلا نذكرها، لنمضي إلى المفارقة بين النسخ والتقييد فنجملها بما يلي: 1 - إن العامل بالناسخ لا يكون عاملا بالمنسوخ قطعا، بينما العامل بالمقيد هو عامل بالمطلق حتما. 2 - من شروط النسخ تأخر الناسخ عن المنسوخ، وليس هذا بلازم في المطلق والمقيد إذ قد يتأخر المقيد عن المطلق أو يلازمه أو يتقدم عليه، وفروق أخرى لم نذكرها. هذه الشروط التي نرى أن من الضرورة معرفتها، ولا يفوتنا أخيرا ذكر قاعدة صلبة في التفريق بين التخصيص والتقييد، وهي أن العامل بالمقيد هو عامل بالمطلق، بينما العامل بالمخصص لا يكون عاملا بالعامّ، فمن صام شهرين متتابعين فقد صام شهرين قطعا، كما بينا في الأمثلة السابقة، أما فيما يتعلق بالعامّ والخاصّ فلا يكون من رجم الزاني المحصن قد عمل بالعامّ بوجه من الوجوه، لعدم وروده أصلا في النصّ العامّ.

المبحث الخامس المحكم والمتشابه

المبحث الخامس المحكم والمتشابه مدلولهما اللغوي: أ- المحكم: تقول العرب: حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى: رددت ومنعت، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم، وحكمة اللجام: هي التي تمنع الفرس عن الاضطراب، وفي حديث النخعي: أحكم اليتيم كما تحكم ولدك، أي: امنعه عن الفساد: قال جرير: أبني حنيفة أحكموا سفاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا أي: امنعوا سفاءكم. وبناء محكم، أي: وثيق يمنع من تعرض له، وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي (¬1)، وقيل: إن إحكام الشيء إصلاحه وإتقانه، وإحكام آيات القرآن إحكامها من خلل يكون فيها، أو يقدر ذو زيغ أن يطعن فيها من قبله (¬2). ب- المتشابه: أما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز بينهما. قال الله تعالى: .. وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً .. [البقرة: 25]. أي: متفق المنظر مختلف الطعوم، وقال تعالى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة: 118]. ومنه يقال: (اشتبه عليه الأمران) إذا لم يفرق بينهما. قال عليه السلام: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات» (¬3). ¬

_ (¬1) التفسير الكبير للرازي 7/ 225، وانظر القاموس المحيط في مادة حكم وكذلك جامع البيان للطبري بتحقيق محمود شاكر 5/ 225 وما بعدها، وتفسير أبي حيان 5/ 200، ط بيروت. (¬2) انظر القاموس المحيط ومناهل العرفان 2/ 166. (¬3) صحيح البخاري. كتاب البيوع. باب الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات ح (2051).

مدلولهما الاصطلاحي:

ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما، سمّي كلّ ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقا لاسم السبب على المسبب. مدلولهما الاصطلاحي: يجدر بنا قبل الحديث عن مدلول المحكم والمتشابه الاصطلاحي، أن نسوق الآيات القرآنية الواردة في هذا الموضوع، فآية تصف القرآن- كل القرآن- بأنه محكم، وآية تصف القرآن- كل القرآن- بأنه متشابه، وآية تصف القرآن بأنه منه المحكم والمتشابه. وبما أننا نعلم أن القرآن منزه عن التناقض، فإننا نجزم أن هذه الآيات لا تناقض فيها، بل لكل آية معنى سديد ودقيق يلحظ بالتأمل والتمحيص والتحقيق. فالآية القرآنية: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ .. [هود: 1]. تفيد إحكام القرآن كله آية آية، وسورة سورة، وتكاد كلمة المفسرين- قديما وحديثا- تجمع على معنى واحد لهذه الآية، وإن اختلفت تعابيرهم، فالطبري والرازي وأبو حيان يقولون: إن معنى أحكمت آياته: نظمت تنظيما رصينا لا نقص ولا خلل فيها كالبناء المحكم، فمعنى أن القرآن كله محكم كونه كلاما حقا، فصيح الألفاظ، صحيح المعاني وكل قول وكلام فالقرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى (¬1). قال الطبري: أحكم الله آياته من الدخل والخلل والباطل. وكذلك نجد المعنى نفسه، بل الألفاظ نفسها عند المفسرين المتأخرين. يقول الجمل في تفسيره الفتوحات الإلهية: (كتاب أحكمت آياته، أي: نظمت نظما متقنا لا يعتريه الخلل بوجه من الوجوه) (¬2). أما القاسمي فقال: (أحكمت آياته نظمت نظما رصينا محكما معجزا لا يعتريه نقص ولا خلل لفظا ومعنى) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير وبحاشيته التفسير البغوي 7/ 236 - 237، ط المنار. (¬2). 2/ 387 طبعة دار الاستقامة القاهرة. (¬3) محاسن التأويل 9/ 3408.

أما الآية الثانية: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً .. [الزمر: 23]. فتفيد أن آيات القرآن يشبه بعضها بعضا في الإحكام والإتقان، فلا يستطيع أحد المفاضلة والتمييز بين آية وأخرى، للتماثل في البلاغة والهداية. قال قتادة: (الآية تشبه الآية والحرف يشبه الحرف) (¬1). أما الآية الثالثة: فقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ .. [آل عمران: 7]. فقد تقابل فيها الإحكام والتشابه، وجعل كلّا منهما وصفا لبعض الآيات دون بعض. هذه الآية هي موضوع حديثنا، وهي تفيد أن القرآن الكريم يشتمل على المحكم والمتشابه معا، وقد اختلف العلماء في تحديد معناهما الاصطلاحي، وسأذكرها دون تعرض للأقوال التي لا تستند إلى دليل، ولا إلى المناقشات التي يطول استقصاؤها، فقد بلغت عند بعض العلماء مئات من الصفحات، ومن أراد معرفتها فليرجع إلى ما كتب فيها من المطولات (¬2). القول الراجح: أن المحكم ما ظهر معناه وانكشف انكشافا يرفع الاحتمال، ومثاله: قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275]. وقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 3]. وقوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38]. وأما المتشابه المقابل للمحكم في هذه الآية: فهو: (ما احتمل أكثر من معنى) فمعرفة المعنى تحتاج فيه إلى التدبر والتأمل، ومن العلماء من يرى أن المتشابه مما استأثر الله بعلمه ولا سبيل لأحد إلى معرفته. ¬

_ (¬1) التفسير الكبير 7/ 167، ط 2 دار الكتب العلمية طهران وكذلك جامع البيان والبحر المحيط في تفسير الآية نفسها. (¬2) متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار تحقيق عدنان زرزور، وانظر المحكم والمتشابه رسالة دكتوراه للأستاذ إبراهيم خليفة.

ويرجع سبب الخلاف بين العلماء إلى تغاير أفهامهم لمعنى الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [آل عمران: 7]. يرى بعض العلماء الوقف على قوله تعالى: .. يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ .. [آل عمران: 7]. والواو في قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، هي واو الاستئناف، والراسخون مبتدأ، وخبره يقولون آمنا به، وعلى هذا القول ينحصر دور الراسخين في القول آمنا به، وردّوا احتمال كون الواو للعطف لاقتضاء ذلك أن نعرب يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالا، مع أنه يستحيل أن تكون حالا من المعطوف عليه، وهو (الله)، والمعطوف (الراسخون) إذ كيف يقول الله معهم آمنا به؟. وقد ذهب إلى هذا المعنى أبيّ بن كعب وابن مسعود بل نسبه الحاكم في مستدركه إلى ابن عباس وقال: إنه كان يقرأ هذه الآية: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. ويقف على لفظ الجلالة (الله). قال الخطابي: وما يعلم تأويل المتشابه إلّا الله وحده منفردا بعلمه. وذهب بعض العلماء إلى عدم الوقف على كلمة الله، فالواو في كلمة (والراسخون) واو العطف واستدلوا على ذلك: 1 - أن الأصل في الواو هو العطف، أما الاستئناف فذلك لا يكون إلّا إذا انتهى الكلام الأول وانتهى معناه، ثم يستأنف بكلام جديد ومعنى جديد، والكلام هنا لم ينته لفظا ولا معنى، فلا تكون الواو للاستئناف، ومما يؤيد ذلك تواتر القراءة، وبها قرأ حفص بعدم الوقوف على لفظ الجلالة. 2 - أما الاعتراض بأن قوله تعالى: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ يكون حالا عن المعطوف والمعطوف عليه، وإن ذلك غير جائز في حق الله، فقد أجابوا عن ذلك بأن قوله تعالى: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ هو حال للمعطوف دون المعطوف عليه، خصوصا إذا

وجدت قرينة تدل على ذلك فإنها تنصرف إلى المعطوف فقط دون المعطوف عليه، كما في قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]. فكلمة صفّا حال تخص المعطوف (والملك) دون المعطوف عليه (ربّك). وكما في قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً .. [الأنبياء: 72]. فإن نافلة حال من يعقوب، أي من المعطوف دون المعطوف عليه. 3 - وأوضح دليل على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل القرآن ما روي عن ابن عباس في هذه الآية أنه كان يقول: (أنا ممن يعلم تأويله) وهو يصدق دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم له: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (¬1). ونسبة هذا القول لابن عباس، أي: العلم بالمتشابه أصح سندا من نسبة القول السابق إليه، أي عدم العلم بالمتشابه. كما روي عن مجاهد أنه كان يقول بمثل قول أستاذه ابن عباس في العلم بالمتشابه. 4 - إن ذكر الراسخين في العلم في هذه الآية كان لمزية عن سائر الناس، وهذه الميزة لا تكون إلّا إذا كان لهم علم بالمتشابه. على أن جملة (يقولون آمنا به) مع ذلك لا يتعين أن تكون حالا، بل يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا، أي: واقعة في جواب سؤال مقدر كأن قائلا قال: (ما حال أولئك الراسخين الذين شرفوا من دون سواهم من الخلق بعلم تأويل المتشابه، هل غرّهم علمهم هذا أم لم يعطوا هذا العلم حقه فأنكروا مقتضاه أم ماذا؟! فكان الجواب: يقولون آمنا به .. إلخ، وعلى هذا التأويل فهم يعلمون كذلك تأويل المتشابه، هذا كله على كون الواو للعطف. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده 4/ 127 ح 2397 ولفظه «اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل» وإسناده صحيح، والحديث في مجمع الزوائد 9/ 267، وعزاه لأحمد والطبراني.

ولبعض الباحثين القائلين بعلم الراسخين بتأويل المتشابه رؤية أخرى، تتمثل في أنه حتى على فرض لزوم الوقف على لفظ الجلالة، وكون الواو للاستئناف، فإن الآية لا تقتضي جهل الراسخين بالتأويل، من منطلق أن المعنى حينئذ يمكن أن يكون في هذه الجملة (وما يعلم تأويله) علما شاملا محيطا غير مكتسب إلّا الله، فلا ينافي ذلك علم غيره بالتأويل لكن لا على هذا الوجه التام المحيط غير المكتسب. فعلى هذا، فالآية تخبر عن الراسخين في العلم بأنهم يقولون: آمنا به، ولم تتعرض إلى علمهم ولا إلى عدم علمهم، فهذه قضية مسكوت عنها في الآية، فكونهم يعلمون أو لا يعلمون مما يحتاج إلى دليل مستقل، وقد وجد من الأحاديث ما يدل على علمهم. مما تقدم يتضح أنه ليس في القرآن متشابه بمعنى الذي لا يفهم معناه، لأن اشتمال القرآن على شيء غير مفهوم يخرجه عن كونه بيانا للناس، وهو خلاف ما أخبر الله به. أما تفسير بعض العلماء للمتشابه بأنه لا يعلم، وأنه مما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وعلم الغيب وغير ذلك فإننا نقول لهم: إننا معكم أن هذا مما لا يعلمه إلّا الله، ونحن نسلم بذلك، ولكن تفسير المشابه بذلك مما لا نسلّمه. وبعد: فإن هذا هو الرأي الذي تستريح إليه النفس لقوة حجته، ونصوع برهانه، أما نسبة القول إلى ابن مسعود وأبيّ فإنها لم تصح في مستدرك الحاكم. كذلك الزعم بأن ابن عباس قال مثل قولهم غير صحيح، بل الأصح أن ابن عباس على خلاف قولهم، وقد تبنى رأيه تلميذه ابن مجاهد الذي قال بقول أستاذه: (أنا ممن يعلم تأويله). ولقد أيد هذا الرأي علماء أفذاذ كالإمام النووي الذي قال بأنه الأصحّ، لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته. كما اختاره ابن قتيبة وقال: (ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم، وهذا غلط من متأوّليه على اللغة والمعنى، ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلّا لينفع عباده ويدل على معنى أراده).

ثم قال: (وهل لأحد أن يقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعرف المتشابه، وإذا جاز أن يعرفه مع قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته فقد علم عليّا التفسير، ودعا لابن عباس فقال: «اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين». وذكر بعد ذلك أنه لم ير المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن، وقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرّوه على التفسير، حتى فسروا الحروف المقطعة في أوائل السور.

منشأ التشابه

منشأ التشابه قلنا: إن المتشابه إنما سمي متشابها لاشتباه معناه على السامع الذي قد يكون منشؤه خفاء في اللفظ أو المعنى، وقد يكون ناشئا عن تركيب الجملة. والخفاء في اللفظ أو المعنى أو التركيب يحدث الاشتباه والالتباس الذي قد يكون منشؤه اللغة، لتردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز والوضوح والإبهام ونحو ذلك. وقد يكون منشأ التشابه عائدا إلى العقل والسمع، وكل ما من شأنه أن يقطع بأن المراد من هذا التشابه أمر غير ظاهر، ولهذا فإن المراد من المتشابهات يجب أن يرجع فيه إلى المحكمات التي جعلها الله بمنزلة (الأم)، أي: الأصل الواحد الجامع الذي ترد إليه المتشابهات. فقوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5]. يرجع في فهمه وتفسيره إلى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]. وقوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [الإسراء: 16] يرجع فيه إلى قوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 28]. هذا هو منشأ التشابه وهذه تطبيقات عليه: قلنا: إن التشابه يكون منشؤه خفاء المعنى في اللفظ، وهذا قد يكون على جهة التساوي، كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ .. [البقرة: 228]. فإن لفظ قرء يحتمل أن يراد به أحد المعنيين المتضادين: إما الحيض أو الطهر. وقد يكون خفاء المعنى من جهة تركيب الجملة كقوله تعالى: .. أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ .. [البقرة: 237]. يحتمل أن يراد به الزوج أو الولي، وقوله: .. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً .. [النساء: 4]. يحتمل الزوج أو الولي أيضا.

وقد يكون خفاء المعنى للفظ لا على جهة التساوي، مثل أن يكون أحد المعاني مرجوحا والآخر راجحا، مثل الآيات المتعلقة بالصفات، وكالحروف التي افتتح الله بها بعض سور القرآن: ق، ن، ص، حم وغيرها. فمن العلماء من قال إنها سرّ استأثر الله بعلمه، ومنهم من فسرها، ولكنهم اختلفوا في معانيها اختلافا كثيرا، فمنهم من رجح أن فواتح السور أسماء للقرآن الكريم ذكره السيوطي وقال: أخرجه عبد الرزاق عن قتادة. ومنهم من قال: هي أسماء لله وقد أقسم الله بها. وذهب الزمخشري إلى استنباط معنى مبناه العقل، وقد استحسنه كثير من العلماء فقالوا في معنى هذه الحروف: إن هذه الحروف المفتتح بها بعض السور، منها تتكون الكلمة، ومن الكلمات تتألف الجمل، ومن الجمل يتألف الكتاب، والقرآن مؤلف من مثلها ولا يخرج عنها، فإن كان باستطاعتكم الإتيان بمثله، فأتوا بذلك، وإن عجزتم فاعلموا أن هذا القرآن من عند الله، ولذلك فقد غلب على السور المفتتحة بالحروف أن يعقب ذلك بيان أن القرآن من عند الله: الم 1 ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ .. [البقرة: 1 - 2]. حم 1 تَنْزِيلُ الْكِتابِ .. [غافر: 1 - 2] (¬1). يس 1 وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1 - 2]. ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1]. ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1]. وللزمخشري كلام طويل استوفاه في مطلع سورة البقرة، ونجد المفسرين يسهبون في معناه عند قوله تعالى: الم 1 ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1 - 2]. وهناك مزاعم لا يعتد بها كالذي تكلم في معنى الحروف واستنبط منها أعمار الأمم وآجالها. ومنهم من استخرج فتوح بيت المقدس في سنة معينة، وقد فندها أبو بكر بن العربي وقال: وقد تحصل لي فيها عشرون قولا وأكثر، ولا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم ولا يصل منها إلى فهم. ¬

_ (¬1) وسورة الجاثية: آيتان: 1 - 2، وسورة الأحقاف: آيتان 1 - 2.

وأخيرا نختتم الكلام عن المتشابه بكلمة موجزة قالها الراغب في المفردات: «إن المتشابه بالجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما. فالأول ضربان: أحدهما: يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته نحو: الأبّ ويزفّون، أو الاشتراك كاليد والعين. وثانيهما: يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ .. [النساء: 3]. وضرب لبسطه نحو: .. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. [الشورى: 42]، لأنه لو قيل: ليس مثله شيء كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام نحو: .. الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الكهف: 1]. والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة. والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب. الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5]. الثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3]. والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو: .. اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ .. [آل عمران: 102]. والرابع: من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو: .. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها .. [البقرة: 189]. ونحو: .. إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ .. [التوبة: 37].

فإن من لا يعرف عاداتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية. الخامس: من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد كشروط الصلاة والنكاح». ثم قال: (وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم) (¬1). وقد علق الزرقاني على هذا التقسيم فقال: وهو كلام جيد غير أن في بعضه شيئا (¬2). ¬

_ (¬1) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني تحقيق صفوان عدنان داودي، دار القلم، دمشق ط 1، 1412 هـ- 1992 م، مادة (شبه) ص 443، 444. (¬2) مناهل العرفان 2/ 176 - 177.

الفصل السادس أصول التفسير ومصادره

الفصل السادس أصول التفسير ومصادره المبحث الأول: معنى التفسير والتأويل. المبحث الثاني: لمحة موجزة عن تاريخ التفسير وتطوره. المبحث الثالث: مصادر التفسير. المبحث الرابع: شروط المفسر. المبحث الخامس: أنواع التفسير.

المبحث الأول معنى التفسير والتأويل

المبحث الأول معنى التفسير والتأويل معناهما اللغوي: أما التفسير: فإن محور كلمة التفسير وتقاليبها المختلفة يدور حول معنى الكشف، فالفسر والسّفر والرفس تتقارب معانيها، يقولون: فسرت الريح الغيم إذا قشطته، والسفر بمعنى الكشف أيضا، ومنه المرأة السافرة، أي: الكاشفة عن وجهها، وأسفر الصبح إذا كشف الظلام، والرفس بمعنى الإزالة وهو نوع من الكشف، وقيل للبول الذي ينظر فيه الطبيب: تفسرة إذ به يكشف الطبيب عن المرض المراد معرفته، وقد استعمل القرآن الكريم كلمة التفسير بمعنى الكشف والبيان كما هو وارد في الآية القرآنية الوحيدة: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان: 33]، أي: بيانا وكشفا. أما التأويل: فمأخوذ من الأول وهو الرجوع والصيرورة، ومنه آلت إليه السلطة، أي: رجعت إليه، وقد وردت في القرآن الكريم فاستعملت مصدرا في قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران: 7]. وقد وردت في آيات قرآنية أخرى، ولم يرد استعمال كلمة التأويل إلا في المقام الذي يعزّ فيه البيان، ويدق فيه الفهم، كالآيات المتشابهات والأحلام والرؤى، والمصير المجهول. معناهما الاصطلاحي: ذهب كثير من العلماء إلى أن التفسير والتأويل بمعنى واحد، قاله أبو عبيد، وقال مجاهد رضي الله عنه: إن العلماء يعلمون تفسيره وتأويله، وهو قول ابن جرير الطبري رحمه الله، حين سمى كتابه «جامع البيان في تأويل آي القرآن»، فنراه يقول في تفسير كل آية: اختلف أهل التأويل، أو القول في تأويل الآية، فهو يساوي بين مدلول كلمة التفسير والتأويل.

وذهب آخرون إلى أن معنى التفسير يخالف معنى التأويل في وجه من الوجوه. قال النيسابوري: قد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه، فهؤلاء يرون أن التفسير يتعلق بما حول النصّ، وما يتبادر إلى الذهن لأول نظرة، أما التأويل فإنه الوصول إلى أعماق النصّ، وهو صرف اللفظ إلى ما يمكن أن يتحمله من معنى، وهناك تعريفات في التفسير والتأويل والفرق بينهما، وقد أطال في ذكرها الأستاذ الذهبي- رحمه الله- وخلص من جميع التعريفات إلى الترجيح فقال: والذي تميل إليه النفس من هذه الأقوال هو أن التفسير «ما كان راجعا إلى الرواية»، والتأويل: «ما كان راجعا إلى الدراية»، وذلك لأن التفسير معناه الكشف والبيان. والكشف عن مراد الله تعالى لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي، وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم. وأما التأويل: فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل. والترجيح يعتمد على الاجتهاد، ويتوصل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب، واستعمالها بحسب السياق ومعرفة الأساليب العربية، واستنباط المعاني، وغير ذلك. قال الزركشي: (وكان السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل، التمييز بين المنقول والمستنبط؛ ليحيل على الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط) (¬1). هذا هو ترجيح أستاذنا الذهبي، وهو ترجيح لم يحالفه الصواب كما يقول الأستاذ الدكتور إبراهيم خليفة: (ما قاله الشيخ- رحمه الله- سواء في التفسير وفي التأويل جميعا غير متجه عندنا، أما التفسير فحتى لو سلمنا له قضية اشتراط الجزم في الكشف عن مراد الله تعالى، فإن ذلك لا يتوقف على كونه من طريق الرواية، بل يمكن أن يتحقق الجزم كذلك من قطع العقل بتعين المعنى، واستحالة إرادة غيره من الكلمة أو الجملة القرآنية، كما في قوله تعالى مثلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]. ¬

_ (¬1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي 1/ 22، وانظر نقله عن الزركشي في البرهان 2/ 172.

وقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 3 وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 3 - 4]. وقوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ .. [البقرة: 165] إلى غير ذلك من الآيات المتكاثرة التي يقطع العقل بتعين معناها ويحيل إرادة غيره. كما يمكن أن يتحقق الجزم أيضا من ظهور المعنى بنفسه، بأن يكون اللفظ نصا فيه لا يحتمل غيره. فما ظنك واشتراط مثل هذا الجزم مما لا يسلم لقائله أصلا، بل إن تيسر لنا في بعض المفردات أو التراكيب فذاك وضح لنا حينئذ القطع بإرادة المعنى من الكلمة أو العبارة، إمّا من الطريق الذي ذكره، أو من الطريق الذي ذكرنا، وإلّا فلنا أن نفسر بغلبة الظن. غاية الأمر أنّا لا نقطع حينئذ بكون المعنى هو المراد لله تعالى، وبالتالي لا نطلق عبارة تفيد مثل ذلك القطع، بل نقول: إنّا لو طبقنا قانون أهل الأصول الذي لا يسع منصفا أن يدافعه، لرأينا أن الطريق الذي ذكره لتحقيق الجزم وهو الرواية لا يمكن أن يحقق الجزم أيضا، اللهم إلّا في حال واحدة هي أن تكون الرواية قطعية الثبوت في نفسها بأن تكون قرآنا، أو حديثا متواترا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو مما وقع عليه الإجماع من الصحابة والتابعين من غير نكير، وما أعز مثل هذه الطلبة، فأما حيث تكون الرواية ظنية الثبوت في نفسها، حتى وإن تلك مما نقل عنه صلّى الله عليه وسلّم بالسند الصحيح، فهيهات هيهات لمثلها أن تحقق الجزم بالمراد، وهذا أمر يكاد يبلغ درجة البدهيات التي لا يسع ذو نصفة في الأصول ولا في الفروع أن يماري فيه. فكان على الشيخ رحمه الله- لو لزم شيئا من الجادة- أن يشترط التواتر إذن في الرواية، مع أنه لعمر الحق لو فعل لضيّق واسعا، وقال بما لم يقل به أحد، لا من السابقين ولا من اللاحقين، فهذا شأنه في التفسير. أما التأويل فما كنا لنسلم له أصلا كذلك، إن كل دراية يجب أن تعد تأويلا، حتى لو كانت مما يقطع به العقل، أو يعينه كون اللفظ نصا لا يحتمل غير معناه بوجه من الوجوه، أو حتى يرجحه كون اللفظ ظاهرا في معناه، ولم تقم قرينة توجب صرفه عن هذا المعنى حتى يصرف عنه، بل الوجه عندنا، ولا نحسبه إلّا عند كل منصف كذلك، أن يعد هذا كله من قبيل التفسير، وأن يقصر التأويل على ما يكون استنباطه من اللفظ مفتقرا إلى مزيد من إعمال الفكرة وإنعام النظرة، أو يكون مما يستعصى

تعريف التفسير كفن مدون:

دركه حتى مع ذلك، وإنما يأتي صاحبه من طريق الفيض وإلهام منزّل القرآن، لا ما يكون إدراكه على طرق التمام غير محتاج إلى بذل شيء من التأمل أصلا (¬1). تعريف التفسير كفن مدون: عرف العلماء الأقدمون التفسير كفن مدون بتعريفات كثيرة منها: ما ذكره الزركشي بأن التفسير: علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصّها وعامّها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها (¬2). أما السيوطي فقال: التفسير (هو علم يبحث فيه عن أحوال الكتاب العزيز، أي: من جهة نزوله وسنده وأدائه وألفاظه، ومعانيه المتعلقة بالألفاظ والمتعلقة بالأحكام وغير ذلك) (¬3). فالمراد بكلمة نزوله: ما يشمل سبب النزول ومكانه وزمانه. والمراد بكلمة ألفاظه: ما يتعلق باللفظ من ناحية كونه حقيقة أو مجازا صحيحا أو معتلا، معربا أو مبنيا. والمراد بمعانيه المتعلقة بألفاظه: ما يشبه الفصل والوصل. والمراد بمعانيه المتعلقة بأحكامه: ما هو من قبيل العموم والخصوص والإحكام والنسخ (¬4). وأجمع التعاريف وأوجزها في تعريف التفسير: (هو علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله بقدر الطاقة البشرية) (¬5). ¬

_ (¬1) مناهج المفسرين ص 21 - 23. (¬2) البرهان في علوم القرآن 2/ 148. (¬3) انظر هامش مفتاح العلوم للسكاكي، ص 21. (¬4) مناهل العرفان 1/ 472. (¬5) دراسات في مناهج المفسرين، ص 31.

المبحث الثاني لمحة موجزة عن تاريخ التفسير وتطوره

المبحث الثاني لمحة موجزة عن تاريخ التفسير وتطوره تاريخ التفسير ومراحل تطوره: [- الدور الأول-] من بداية عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى عصر التدوين، كما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبلاغ كلّف بالتفسير والبيان يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67]. وكلّفه تعالى بالبيان وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]. فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو أول المفسرين للقرآن- كما سيجري بيانه عند حديثنا عن المصدر الثاني من مصادر التفسير (¬1) [- الدور الثاني-] - ثم جاء دور الصحابة في التفسير- وقد استوفيناه عند حديثنا عن المصدر الثالث من مصادر التفسير (¬2). وأشهر المفسرين من الصحابة: 1 - ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم ترجمان القرآن أنت» (¬3). وقد دعا له الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» وقد شهد له الصحابة، فكان عمر يقول: «ذاكم فتى الكهول إن له لسانا سئولا وقلبا عقولا» (¬4). وقال علي في ابن عباس: «إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق لعقله وفطنته» (¬5). ¬

_ (¬1) راجع ص 232. (¬2) راجع ص 239. (¬3) مجمع الزوائد 9/ 276 وانظر سير أعلام النبلاء، طبعة مؤسسة الرسالة 3/ 331 - 359. (¬4) المرجع السابق. (¬5) الإصابة.

وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص: قال: سمعت أبي يقول: «ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا ألب لبا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس» (¬1). وقال ابن عبد البر في الاستيعاب عن أبي وائل: خطبنا ابن عباس وهو على الموسم فافتتح سورة النور، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، ولو سمعته فارس والروم والترك لأسلمت» (¬2). وتفسير ابن عباس من خير التفاسير، إلّا أن الناس قد دسوا ووضعوا عليه الكثير حتى قال الإمام الشافعي: (لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلّا شبيه بمائة حديث) (¬3). وتجدر الإشارة إلى الطرق الصحيحة والضعيفة، حتى نعرف التفسير الثابت من الساقط. فمن أجود الطرق وأصحها عن ابن عباس: أ- عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الهاشمي عن ابن عباس. ب- عن قيس بن مسلم الكوفي، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وهذان الطريقان صحيحان. ج- عن ابن إسحاق صاحب كتاب السيرة عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهذه طريق جيدة، وإسناده حسن. أما أوهى الطرق فهي طريق محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وطريق الضحاك بن مزاحم الهلالي عن ابن عباس منقطع، لأن الضحاك لم يلق ابن عباس. فإذا وجدت رواية عن ابن عباس- وما أكثرها- من هذين الطريقين ردت بلا تردد. وهناك تفسير ينسب إلى ابن عباس وهو (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس) جمعه صاحب القاموس المحيط أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ومن يطلع ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 369. (¬2) تفسير الطبري 1/ 81. (¬3) الإتقان 2/ 322.

2 - علي بن أبي طالب:

عليه يدرك أن ما روي عن ابن عباس في هذا الكتاب يدور على محمد بن مروان السدي الصغير، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهذه الطريق هي من أوهى الطرق كما ذكرنا سابقا، وأنها سلسلة الكذب. 2 - علي بن أبي طالب: وهو أكثر الخلفاء الأربعة تفسيرا للقرآن ورواية للحديث، وذلك لتأخر وفاته عنهم، ولسعة اطلاعه على لغة العرب، ولحاجة الناس إليه في زمانه، وقد عرف- رضي الله عنه- بحدة ذكائه وفصاحة لسانه، وسرعة بديهته، وغزارة علمه، ومعرفته لأسباب النزول. روى معمر عن وهب بن عبد الله بن أبي طفيل قال: شهدت عليا- رضي الله عنه- يخطب ويقول: (سلوني، فو الله ما من آية إلّا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار؟ أفي سهل أم في جبل). وفي رواية عنه قال: (والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت، وأين أنزلت، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سئولا) (¬1). ولكن الذي يؤسف له إنه قد كذب عليه خلق كثير، ودسوا عليه أقوالا لم يقلها ونسبوا إليه أفعالا لم يفعلها، فينبغي أخذ الحيطة والحذر من الأقوال المدسوسة عليه والأفعال المنسوبة إليه. أصح الأسانيد إلى علي رضي الله عنه: أ- ما كان عن طريق هشام عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني عن علي، وهذا السند اعتمده البخاري وغيره. ب- طريق ابن أبي الحسين عن أبي الطفيل عن علي. وهذه طريق صحيحة اعتمدها سفيان بن عيينة في تفسيره. ج- طريق الزهري عن علي زين العابدين عن أبيه الحسين عن أبيه علي (¬2). ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح ص 9. (¬2) مناهل العرفان ص 483.

أما غيرها من الطرق- وهي كثيرة- فهي مكذوبة أو موضوعة. 3 - عبد الله بن مسعود: وهو من الصحابة الذين رحلوا إلى العراق، فكان مرجعهم في تفسير القرآن، وقد كان عالما بأسباب النزول، عارفا بأحوالها، ويكفينا شهادة علي بن أبي طالب حين قالوا له: أخبرنا عن ابن مسعود؟ قال: علم القرآن والسنة (¬1)، ثم انتهى، وكفى بذلك علما. أصح الأسانيد إلى ابن مسعود: أ- طريق الأعمش، عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود. ب- طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود. ج- طريق الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود. وقد اعتمد البخاري هذه الطرق الثلاث في صحيحه (¬2). ¬

_ (¬1) مناهل العرفان ص 483. (¬2) التفسير والمفسرون للذهبي 1/ 88.

- الدور الثالث - - التفسير في عهد التابعين -

- الدور الثالث-- التفسير في عهد التابعين- - مدارس التفسير- 1 - مدرسة مكة: وهم أعلم الناس في التفسير لأنهم أصحاب ابن عباس، ومن هؤلاء التابعين المبدعين: أ- مجاهد بن جبر المتوفى سنة 101 هـ، وهو أوثق تلاميذ ابن عباس، وقد اعتبر الإمام البخاري والشافعي تفسيره حجة، قال النووي رحمه الله: (إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به). بيد أن الرواية عن هذا الإمام قليلة، ويرى بعض العلماء أن مجاهد كان يسأل أهل الكتاب، فيتريث في أخذ أقواله المنسوبة إليهم. ب- عطاء بن أبي رباح المتوفى سنة 114 هـ، وقد شهد له العلماء بعلو كعبه في هذا العلم وبعدالته وتقواه، قال قتادة: (أعلم التابعين أربعة: كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك)، وقال أبو حنيفة: (ما لقيت أحدا أفضل من عطاء). ج- ومن التابعين بمكة سعيد بن جبير المتوفى سنة 95 هـ، وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى سنة 105 هـ، وقد أكثر من التفسير، وطاوس بن كيسان اليماني المتوفى سنة 106 هـ. 2 - مدرسة المدينة: ومن أشهر التابعين المفسرين فيها: أ- أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي (¬1) المتوفى سنة 90 هـ، وهو من رواة أبيّ بن كعب. قرأ القرآن على زيد بن ثابت وابن عباس وقد روى عنه الربيع بن أنس. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 1/ 58، وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 119 وسير أعلام النبلاء 4/ 207.

3 - مدرسة العراق:

ب- محمد بن كعب القرظي المدني ثم الكوفي سنة 118 هـ (¬1). ج- زيد بن أسلم المتوفى سنة 136 هـ، وقد أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد ومالك ابن أنس إمام دار الهجرة (¬2). 3 - مدرسة العراق: وقد تلقى الكثير منهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ومن هؤلاء: أ- مسروق بن الأجدع الكوفي المتوفى سنة 63 هـ. ب- قتادة بن دعامة السدوسي البصري المتوفى سنة 117 هـ، وقد وثقه أئمة الجرح والتعديل كيحيى بن معين. ومن التابعين: أ- أبو سعيد الحسن البصري المتوفى سنة 121 هـ. ب- مرة الهمذاني من الكوفة. هؤلاء هم أشهر التابعين في سائر الأمصار، وعنهم أخذ تابعو التابعين كسفيان ابن عيينة المتوفى سنة 198 هـ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هـ، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هـ، وسفيان الثوري المتوفى سنة 161 هـ، ويزيد بن هارون المتوفى سنة 206 هـ، وروح بن عبادة المتوفى سنة 207 هـ، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني (شيخ البخاري) المتوفى سنة 221 هـ، وإسحاق بن راهويه المتوفى سنة 238 هـ، وآدم بن أبي إياس العسقلاني المتوفى سنة 220 هـ. تدوين التفسير: بقي علم التفسير مفرقا ومنثورا في أحاديث متفرقة، فيروي الصحابي أو التابعي تفسير الآية دون أن يرتب ذلك في باب أو كتاب، ولم يرد إلينا كتاب في التفسير ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ 1/ 54. (¬2) سير أعلام النبلاء 5/ 316.

يفسر لنا القرآن سورة سورة، وآية آية، كما هي مرتبة في المصاحف، أما ما روي أن ابن عباس قد فسر القرآن في تنوير المقباس، فإن هذا لم تصح نسبته إلى ابن عباس، وقد ردّ هذا الزعم ردا علميا صحيحا في رسالة دكتوراه. والذي يروي لنا أن الفراء المتوفى سنة 207 هـ هو أول من قام بتفسير القرآن سورة سورة وآية آية. قال ابن النديم في كتابه الفهرست: (إن عمر بن بكير كتب إلى الفراء أن الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا، أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه فعلت). فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتى أملّ عليكم كتابا في القرآن، وجعل لهم يوما، فلما حضروا خرج إليهم، وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه القراء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب، ففسّرها ثم توفّى- أي استوفى- الكتاب كلّه، يقرأ الرجل ويفسر الفراء. فقال أبو العباس ثعلب: (لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه) (¬1). ¬

_ (¬1) هذا رأي أبي العباس ثعلب وفيه نظر: أما قوله لم يعمل أحد قبله مثله، فهذا رأيه وبما قارنه مع غيره من التفاسير. أما قوله: ولا أحسب أحدا يزيد عليه، فإن حسبانه لم يكن كما توقعه بل وجد الكثير وأول الكتب التي تفوقت عليه تفسير ابن جرير الطبري.

المبحث الثالث مصادر التفسير

المبحث الثالث مصادر التفسير أعني بالمصادر هنا تلك المراجع التي يرجع إليها المفسرون من كتاب أو سنة وأقوال الصحابة وآراء للسلف في تفسيرهم القرآن الكريم، وذلك بغض النظر عن الاتجاه الذي اتجهه كل واحد منهم في تفسيره. المصدر الأول القرآن الكريم ويعتبر أهم مصادر التفسير على الإطلاق، بل هو أحسن وأصح الطرق أن يفسر القرآن بالقرآن، كما قال ابن تيمية (¬1). فإذا أردنا أن نعرف معنى آية فعلينا أن نطلب أول ما نطلب تفسيرها من القرآن نفسه، لأن القائل أحق من غيره في تفسير قوله عقلا، فإذا ما وجدنا وتنازعنا في فهم آية رددناها إلى آية أخرى تفسرها: .. فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .. [النساء: 59]. كيف تتم عملية تفسير القرآن بالقرآن: يشتمل القرآن على المجمل والمبين وعلى المطلق والمقيد. وعلى العامّ والخاصّ، فما أوجز في مكان قد يبسط في مكان آخر، وما جاء مطلقا قد يلحقه التقييد في موضع آخر، وما جاء عاما في آية قد يلحقه التخصيص في آية أخرى. فإذا أردنا أن نفسر آية من كتاب الله، علينا أن نجمع الآيات المتشابهة في الألفاظ أو في المعاني. ¬

_ (¬1) مقدمة في أصول التفسير. ص 93.

نوضح هذا بمثال من سورة الفاتحة بقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4]. فقد ورد تفسيرها في سورة الانفطار: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ 15 وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ 16 وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ 17 ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ 18 يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 15 - 19]. فالله هو مالك يوم الدين، الذي لا يملك فيه أحد شيئا، لأن الأمر كله إليه. وفي سورة الفاتحة أيضا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 6 صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 6 - 7]. وجدنا تفسير صراط الذين أنعم الله عليهم من القرآن نفسه، وذلك في سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ .. [النساء: 69] (¬1). ويقع في الخطأ والغلط من يفسر الآية القرآنية بمدلولها المتبادر إلى الذهن لأول وهلة، دون تأمل وتدبر لمعانيها في القرآن الكريم. انظر إلى من فسر قوله تعالى في سورة الصافات: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ .. [الصافات: 22]. فقال: احشروا الظالمين وزوجاتهم، أي رجالا ونساء. فلو تدبر الألفاظ القرآنية في كلمة الزوج لوجدها قد استعملت في معان ثلاثة (¬2). - فالأزواج بمعنى الحلائل للرجل وامرأته، فذلك كقوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 25]. يعني بالأزواج: الحلائل في الآخرة، أما الأزواج بمعنى امرأة الرجل فقوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ .. [النساء: 12]، أي: زوجاتكم في الدنيا بعد موتهن. - والأزواج بمعنى الأصناف فذلك كقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ .. [يس: 36]، أي: الأصناف من كل صنف من النبت. ¬

_ (¬1) وهذا التفسير لابن عباس والجمهور، انظر «تفسير أبي حيان» 1/ 28. (¬2) الوجوه والنظائر في القرآن الكريم- دراسة وموازنة، ص 351.

أظهر صور تفسير القرآن للقرآن:

- والأزواج يعني القرناء فالزوج هنا يعني القرين أو النظير أو الشبيه، ولا شك في أن هذا هو المعنى المناسب لقوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ .. [الصافات: 22]. أي: احشروا الظالمين وقرناءهم في جهنم، فهذا الأنسب، وهو زيادة في حسرتهم وندامتهم، كما قال بعض المفسرين: يحشر الزناة مع الزناة، وشاربو الخمر مع شاربيها. وبعيد كل البعد، وغريب كل الغرابة، أن يحشر كل ظالم مع زوجته، وإلّا قلنا بحشر فرعون مع زوجته- وشتان بينهما- هو من أهل السعير، وهي من أهل النعيم. ومما يجب على من يفسر القرآن بالقرآن أن يعلم أنّ القرآن لا يختلف بعضه مع بعض، فهذا الوهم يوقعه في الخطأ والاضطراب. مثال ذلك الآيات القرآنية الكثيرة التي تذكر أطوار خلق الإنسان؛ فآية تذكر أن آدم خلق من تراب، ومرة تذكر خلق الإنسان من ماء، ومرة من طين، ومرة من حمأ مسنون، ومرة من صلصال، فلا تعارض بين هذه الآيات، إذ هي تتحدث عن الأطوار التي مر بها خلق الإنسان. أظهر صور تفسير القرآن للقرآن: 1 - لعل أظهر هذه الصور ما تراه في قصص القرآن الكريم، فقد نجد القصة الواحدة قد ذكرت في مواضع متفرقة، وفي سور عديدة، فلنأخذ جزءا يسيرا من قصة إبراهيم التي ذكرت في سور متعددة، ولنتناول قصة ضيوفه عليه السلام، قال تعالى في سورة الذاريات: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ 24 إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ 25 فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ 26 فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ 27 فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً .. [الذاريات: 24 - 28]. وفي سورة هود ذكر الله لنا ما يفسر لنا هذه الآيات: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ 69 فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ 70 وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 69 - 71].

فتدبر هذه الآيات، وانظر كم هي المواطن والمواضع التي فسرتها بأجلى تفسير وأوضح بيان. ومثال قصة إبراهيم ما نقرأه كثيرا عن قصة آدم، في كثير من السور القرآنية، ولا غنى لنا في معرفة القصة بكاملها إلّا بجمع الآيات بعضها مع بعض، حتى تكون عندنا الصورة الشاملة، والتفسير الكامل لهذه القصة القرآنية. 2 - ومن صور تفسير القرآن بالقرآن: ما ذكره السيوطي في تخصيص عام القرآن بالقرآن قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ .. [البقرة: 228]. خصّ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ [الأحزاب: 49]. وبقوله تعالى: .. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ .. [الطلاق: 4]. وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ .. [النور: 2]. خص بقوله تعالى: .. فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ .. [النساء: 25]. 3 - وتقييد مطلق القرآن بالقرآن: مثل قوله تعالى وقد أطلق الشهادة في البيوع: .. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ .. [البقرة: 282]، وقوله: .. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ .. [النساء: 6]. فقد قيد هذا المطلق- وهو الشهادة- بآية أخرى اشترطت العدالة في الشهود: .. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ .. [الطلاق: 2]. ومثال ذلك أيضا إطلاق الآيات ميراث الزوجين، ثم قيدت ميراثهما بقوله تعالى: .. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ .. [النساء: 11]، وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: 12] وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: 12]. 4 - ومن تفسير القرآن بالقرآن: بيان المجمل ومنه قوله تعالى: .. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ .. [الأنعام: 103] فسرتها الآية الكريمة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ 22 إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23].

المصدر الثاني سنة الرسول صلى الله عليه وسلم

عن عكرمة أنه قيل له عند ذكر الرؤية: أليس قد قال الله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ؟ قال: ألست ترى السماء، قال: بلى، قال: أفكلها ترى؟ ومن ذلك قوله تعالى: .. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ .. [المائدة: 1]. فسره قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ .. [المائدة: 3]. 5 - القراءات القرآنية: ذكرنا أهم صور تفسير القرآن بالقرآن، وقد أفردنا صورة مهمة منها ألا وهي القراءات القرآنية والتفسير، والتي تعدّ من تفسير القرآن بالقرآن وذلك بشروط واعتبارات معينة منها: أن كثيرين ممن يتصدون للحديث في مثل هذا النوع حين يضربون له المثال، يعمدون إلى طائفة من القراءات الشاذة، التي لا تصلح في شيء من معايير التحقيق الواجب الأخذ به، ولا سيما في نحو هذا المجال المهم من العلم والدين، أن يعد شيء منها من القرآن أصلا حتى يصلح أن يقال فيه: إنه من تفسير القرآن بالقرآن. نقول: يعمدون إلى طائفة من هذا النوع فيأخذونه مثالا لما هو تفسير قراءة لأخرى، ولو لزموا الجادة وسلكوا السبيل المستبين لأبعدوا هذا النوع مما نحن فيه بالكلية، وسلكوه فيما هو من قبيل التفسير بالسنة، أو بما هو من أقوال الصحابة- رضوان الله عليهم- فإن هذا هو التحقيق الذي لا مرية في صحته لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، على ما اختاره المحقق السيوطي وغيره. المصدر الثاني سنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس في القرآن نفسه ما يبين جميع القرآن، فتفسير القرآن للقرآن قدر يسير، فما بقي من القرآن الذي لم يتناوله بيان القرآن بحاجة إلى بيان، لا تكفي اللغة والعقل إلى بيانه البتّة، فلا يمكن- لغة ولا عقلا- تفصيل المجمل الذي جاء في فرض الصلاة، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ .. [البقرة: 43] لا يمكن فهم المراد منه إلّا بوحي سماوي

عن طريق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلا يمكن للغة ولا لعقل أن يأتي بشيء فضلا عن أن يستقل به، ومن ثم كان لا بد من الرجوع إلى البيان منه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما رجع إليه الصحابة- رضوان الله عليهم- لذا فإنا نؤيد العلماء (¬1)، فيما نقدوا لابن خلدون قوله: (إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه) (¬2). وأقرب دليل على خطأ ابن خلدون ما نشاهده اليوم من الكتب المؤلفة على اختلاف لغاتها، وعجز كثير من أبناء هذه اللغات عن فهم كثير مما جاء فيها بلغتهم، إذ الفهم لا يتوقف على معرفة اللغة وحدها، بل لا بد لمن يفتش عن المعاني ويبحث عنها من أن تكون له موهبة عقلية خاصّة، تتناسب مع درجة الكتاب وقوة تأليفه (¬3). يقول الدكتور سيد أحمد خليل (¬4): إن هذا التعميم من ابن خلدون في مقدمته، فيه شيء من المجازفة التي لا يقرها تاريخ التفسير نفسه، لذا استدرك ابن خلدون بعد هذه العبارة قائلا: إن في القرآن نواحي في حاجة إلى البيان، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يبين المجمل، والناسخ والمنسوخ يعرفه أصحابه فعرفوه، وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منقولا عنه. فهذا إقرار من ابن خلدون بأن فهم اللغة غير كاف لمعرفة تفسير القرآن الكريم، بل لا بد من الرجوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لفهم المعاني الأخرى التي يتعذر معرفتها بدونه صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن ابن خلدون نفسه قد ساق قصة وردت في صحيح الإمام البخاري أن عديّ ابن حاتم لم يفهم قوله تعالى: .. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ .. [البقرة: 187] (¬5). وساق قصته المعروفة. ¬

_ (¬1) من هؤلاء العلماء محمد حسين الذهبي (رحمه الله)، والزميل الأستاذ إبراهيم خليفة، ود. سيد أحمد خليل، أما الأستاذ الدكتور محيي الدين خليل رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الرياض، فقد ذهب إلى رأي صاحب المقدمة ثم رجع عن قوله. (¬2) مقدمة ابن خلدون ص 366 الأميرية. (¬3) دراسات في مناهج المفسرين ص 249. (¬4) انظر: كتابه نشأة التفسير في الكتب المقدسة ص 32، والكتاب طبع بالإسكندرية سنة 1954 م. (¬5) وانظر صحيح البخاري (1916).

القدر الذي بينته السنة من القرآن:

على أن ابن قتيبة وهو سابق لابن خلدون (من علماء القرن الثالث الهجري) قد قال القول السديد في هذه القضية: (إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض) (¬1). بذلك يتبين لنا أن القرآن الكريم تبينه السنة النبوية، ولا يكفي في فهمه إدراك اللغة العربية وحدها. القدر الذي بينته السنّة من القرآن: هذا الموضوع مما تعددت فيه الأقوال واضطربت فيه الأفهام، فقال فريق من العلماء: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يبين إلّا آيات قلائل، هذا القول ساقط من الاعتبار؛ لضعف سنده أولا، ومخالفته لأبسط البدهيات الشرعية والعقلية معا، وفي المقابل لهذا الرأي نسب السيوطي ومحمد حسين الذهبي إلى أن ابن تيمية من الفريق القائل بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فسر كل القرآن، وذلك فهما من كلامه الذي سنورده لك، ونترك القارئ مع الدكتور إبراهيم خليفة وهو يرد على السيوطي والأستاذ الذهبي فهمهما. يقول الدكتور إبراهيم رئيس قسم التفسير في كلية أصول الدين بالأزهر: حسما للخلاف لا بد من ذكر ما قاله ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير: (فصل في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بين لأصحابه معاني القرآن) يجب أن يعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: .. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .. [النحل: 44]. يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السّلمي (¬2): حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن- كعثمان ابن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات ¬

_ (¬1) قال ذلك في رسالته: المسائل والأجوبة، ص 8. (¬2) عبد الرحمن عبد الله بن حبيب الكوفي من كبار التابعين، ثبت لأبيه صحبة، كما قال ابن حجر في تقريب التهذيب.

مناقشة الأدلة التي استشهد بها القائلون بشمول البيان النبوي:

لم يجاوزها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة. وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ في أعيننا. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل: ثمان سنين. ذكره مالك، وذلك أن الله تعالى قال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ .. [ص: 29]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ .. [النساء: 82] (¬1). وقال: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ .. [المؤمنين: 68]. وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن. وكذلك قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]. وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام المقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك. وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فنّ من العلم، كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله تعالى، الذي هو عصمتهم وبه ونجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم وديناهم. انتهى كلام ابن تيمية (¬2). مناقشة الأدلة التي استشهد بها القائلون بشمول البيان النبوي: 1 - لقد استدلوا بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]. فقالوا: إن هذه الآية تفيد بأن على الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يبين جميع ألفاظ القرآن ومعانيه، فكلمة «ما» في قوله تعالى: ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من صيغة العموم، فتشمل جميع ما يندرج تحتها من ألفاظ القرآن ومعانيه، ما لم تقم قرينة على التخصيص ببعض ذلك، ولا قرينة هنا فيجب الحمل على العموم الشامل لجميع الألفاظ والمعاني. ¬

_ (¬1) وسورة محمد: 24. (¬2) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية. تحقيق د. عدنان زرزور ص 35 - 37، وانظر مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 2/ 31: وتفسير القرطبي 1/ 70، وتعليق الشيخ أحمد الشاكر.

نقول لهم: إن القرينة المخصصة للعموم موجودة، فبعد عشرين آية من هذه الآية وفي السورة نفسها ورد قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ .. [النحل: 64]. فلا يتم التفسير الصحيح ولا الفهم السديد إلّا بجمع الآيتين، لأن خير من يفسر القرآن هو القرآن ذاته. فالبيان المطلوب من النبي صلّى الله عليه وسلّم هو توضيح ما خفي على الصحابة، وما استشكلوه واختلفوا فيه، وليس بمطلوب منه صلّى الله عليه وسلّم بيان ما لم يخف، فإن واقع أمر القرآن، وأمر ما نزل بلسانهم، أن فيه كثيرا من البيان، بل بديهة البيان بنفسها بالنسبة لكل ذي حظ من معرفة هذا اللسان، فضلا عن أهله الخلّص، فلا يسيغ بالمنطق مع هذا أن يقوم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببيان هذه الجليات. أما استدلالهم بأن الصحابة كانوا لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتى يتعلموا ما فيها من العلم، فليس في هذا الأثر وجه لاستدلالهم على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسّر لهم جلّ القرآن كلمة كلمة وآية آية، لأن الأثر يحكي ما كان حال العلم وطلبه والاهتمام به والعمل بمقتضاه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد يكون بالرجوع إليه صلّى الله عليه وسلّم، وقد يكون بالرجوع إلى اللغة .. قال القرطبي عن هذا الحديث: إنه حكاية ما كان عليه العلم وطلبه (¬1). وقال المرحوم أحمد شاكر: فهو يحكي ما كان في ذلك العهد النبوي المنير، فليس في الأثر ما يفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسر لهم جميع القرآن. أما الدليل الثالث: فهو أن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله، فإن هذا الدليل العقلي لا يتعارض مع كون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيّن كلّ شيء تحتاجه الأمة، ولم يبين ما هو معروف بالضرورة وباللغة. ولا يمكن أن يشرح ما لا يشكل فهمه ولا يشتبه أمره، فإن طلب شرح مثله ضرب من العبث واستنفاد الوقت والجهد من غير طائل، فيجب أن يتنزه عن ذلك من له أدنى حظ من سلامة العقل وسداد منطقه، فضلا عن الصحابة، عليهم رضوان الله، في سداد رأيهم ووفرة علمهم. ¬

_ (¬1) القرطبي، 1/ 39.

وبعد فلقد آن الأوان لمعرفة مقدار ما فسّره النبي صلّى الله عليه وسلّم من القرآن، بعد أن تبين لنا فساد القول بأنه صلّى الله عليه وسلّم قد فسّر جميع القرآن، بل فساد فهم نسبة هذا القول لابن تيمية، رحمه الله تعالى، وأن الإمام السيوطي وأستاذنا الذهبي لم يحالفهما التوفيق في هذا الفهم السقيم، لذا رأينا السيوطي يتدارك ذلك فيما بعد. كما أن تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم لأكثر القرآن هو قول بعيد عن الواقع، لأن المدون من تفسيره ليس كثيرا بل هو قليل. نعم لو توسع متوسع في معنى البيان، حتى يجعله شاملا للأحكام التي زادتها السنة على ما في القرآن، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم الحمر الأهلية وكلّ ذي ناب من السباع، والقضاء بشاهد ويمين، وغير ذلك، بل يجعله شاملا للسنة بأسرها كما قال الشافعي: كل ما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو مما فهمه من القرآن. أقول: لو توسعنا في معنى البيان- بمثل هذا- لكان مقدار التفسير كثيرا بل يزيد على حجم القرآن. ولكن إن أردنا التفسير بالمعنى المراد عند علماء الحديث، حين دونوا الحديث، وجعلوا فيه بابا للتفسير، فإن التفسير قليل لا يتجاوز المذكور في كتبهم «وهو قليل جدا، بل أصل المرفوع منه في غاية القلة» كما يقول السيوطي (¬1)، الذي وعد عد بسردها في آخر كتاب الإتقان، وقد وفّى هذا الحافظ- رحمه الله- وأوردها بما لا مزيد عليه، حيث أورد جميع تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم الله عليه وسلم الثابت في كتب الصحاح والسنن، وكان نزرا يسيرا وبه لا يصح دعوى أستاذنا الذهبي أن التفسير كان كثيرا. هذا ما انتهى إليه بحثنا في المقدار الذي فسره النبي صلّى الله عليه وسلّم من القرآن، وهو قليل، ولكنه ليس قليلا بالغا من القلة آيات تعد على أصابع اليد الواحدة ثلاث أو أربع آيات، استنادا إلى الحديث المروي عن عائشة «لم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يفسر شيئا من القرآن إلا آيات تعدّ، علمهن إياه جبريل». فإن هذا الحديث منكر، كما قاله غير واحد من الحفاظ وأعلام الجرح والتعديل، لأن من رواته جعفر بن محمد الزبيري ¬

_ (¬1) الإتقان 2/ 179.

قال البخاري: لا يتابع في حديثه. ولقد أورد الطبري هذا الحديث ثم تولى بنفسه بيان فساده حيث قال: إنه ممن لا يعرف في أهل الآثار. من أجل ذلك ضربنا صفحا عن ذكر أدلة القائلين بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفسر من القرآن إلا آيات تعد. بل على حد زعمهم آيات تعد على أصابع اليد الواحدة. بذلك يبقى القول أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فسر من القرآن الشيء القليل، إلى الحد الذي اعترف به شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه بذلك، ونقله عن أحد أفذاذ أئمة السنة ومبرزي أعلامها رواية ودراية، أعني إمام السنة أحمد بن حنبل، إذ يقول شيخ الإسلام في مقدمته في أصول التفسير: (ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم، ولهذا قال الإمام أحمد: «ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير والملاحم والمغازي» ويروي «ليس لها أصل» أي: إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل» اهـ. (¬1) قال شمس الدين الخويني رحمه الله: (وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل .. ) إلخ. ومما يؤيد هذا الرأي: أن المطلع على كتب التفسير بالمأثور، يستطيع أن يرى بيسر وسهولة أن آراء المتحدثين في التفسير من الصحابة تتعدد، وقد تختلف إلى حد التنافر، وعدم إمكان الجمع بينها أصلا، وقل مثل هذا إن لم يكن أكثر منه بالنسبة لآراء التابعين في التفسير، ولا يصح في عقل عاقل أن يقع مثل هذا الاختلاف من الصحابة، ثم من التابعين لو جاء البيان من قبله صلّى الله عليه وسلّم لجميع التنزيل جملة وتفصيلا. ثمّ إنه لو كان بيان من قبله صلّى الله عليه وسلّم لجميع القرآن أو أكثره؛ لكان حفظة العلم وحملة الشريعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، أحرص الناس على نقله لمن بعدهم من التابعين، ولكان لهؤلاء التابعين أيضا مثل هذا الحرص على نقله إلى من بعدهم من أتباع التابعين، وهلم جرا حتى ينقله إلينا ثقاة الحفاظ الجامعين لعلم السنة رواية ودراية، فإن هذا ¬

_ (¬1) مناهج المفسرين ص 227، 231، ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية.

المصدر الثالث أقوال الصحابة

لمن المهمات التي تتوافر الدواعي على نقلها، والعلم بها للقاصي والداني، كيف لا وهو بيان أول مصادر الشريعة، وأعظم أصول الدين، ولو كان هذا ما رأينا مثل هذا الحشد الضخم من التفسير بالرأي الذي نهض به أكابر علماء الأمة وأعلامها، وحفلت به كتبهم، مع إجماع أهل الحل والعقد منها في كل زمان إلى يومنا هذا، على صحة كثير من تفسيرهم ذلك، وعدم النكير على صنيع أصحابه، فلو عرف هؤلاء الأعلام مثل هذا البيان، فما كانت حاجتهم بعده إذا إلى إضاعة الكثير من وقتهم وجهدهم في تصنيف هذه التفاسير، اللهم إلا أن يرضى عاقل لنفسه اتهام أعلام الأمة ونقلة دينها بركوب العبث، ومخالفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخيرا فإن هذا هو رأي أئمة التفسير كالبيضاوي والشوكاني وغيرهم. المصدر الثالث أقوال الصحابة بعد أن بسطنا القول في تفسير القرآن بالقرآن، وفي تفسيره بالسنة جاء أوان القول إذا لم نجد التفسير في القرآن أو في السنة فإن المصدر الثالث في الأهمية هو أقوال الصحابة رضوان الله عليهم. والذي يجب الانتباه إليه التفريق بين أقوال الصحابة، فإن أقوال الصحابة في الأمور التي لا مجال للرأي فيها تعطى حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، كحديث الصحابة عن سبب النزول، هذا هو الشرط الأول في اعتبار قول الصحابي له حكم المرفوع، أما الشرط الثاني فقد نبه إليه علماء الحديث وهو: أن لا يكون من صدر عنه مثل ذلك القول من الصحابة قد عرف بالأخذ عن بني إسرائيل في بعض الأحيان طبعا، وإلّا لم يعط حكم المرفوع؛ لاحتمال أن يكون من منقولاته عنهم (¬1)، وبعبارة أوضح، أن لا يحتمل أن يكون لقوله صلة بما عند بني إسرائيل، تلقى في النفس احتمال أن يكونوا هم الأصل في العلم به. ¬

_ (¬1) انظر نزهة النظم في شرح نخبة الفكر ص 41.

أما إذا قال الصحابي برأيه في القرآن، فينبغي التحاكم إليهم فيما هو بلسانهم، لأن أكثرهم عرب خلّص، ولهم من الفهم السليم والرأي السديد ما ليس لسواهم، فهم لذلك أحقّ من غيرهم في الأخذ بقولهم وفهمهم. وما يجدر ذكره أن أغلب ما ثبت من اختلاف الصحابة، بل السلف في التفسير، هو ما يتبين فيه وجه الصواب، بل مما يمكن فيه الجمع بين الأقوال المختلفة، والأخذ بها جميعا، وكذلك فإن غالب ما ثبت عنهم في ذلك إنما يرجع إلى اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد، على ما بين ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير. فلقد عقد في ذلك فصلا في اختلاف السلف في التفسير وأنه اختلاف تنوع. ولا يفوتنا أن ننبه إلى خطأ من فهم من كلام ابن تيمية، وهو أن كل خلاف الصحابة هو اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد، ثم أخذ يدلل على هذا الكلام. والحقيقة أن كلام ابن تيمية لا يفيد هذا المعنى، وكأن الذي ورطه في هذا الفهم السقيم، هو العنوان الذي وضعه ابن تيمية حيث قال: (فصل في اختلاف السلف وأنه اختلاف تنوع)، ولكنه لو أتم قراءة ما تحت هذا العنوان لوجد الرأي الصحيح والفهم السديد لكلام ابن تيمية، حيث قال بعد سطرين: (وغالب ما يصح عنهم في الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد). لاحظ كلمة غالب، وليس كل، فالاختلاف في غالبه لا جميعه هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، كيف لا وقد وجد اختلاف تضاد بين الصحابة رضوان الله عليهم، بل وقع اختلاف التضاد بين أكبر علمين من الصحابة في التفسير، وهما عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، فقد روي عن عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 13]. قال ابن جرير: عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه بقلبه (¬1) كما روى عن ابن عباس أيضا أنه قال: «أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلّى الله عليه وسلّم (¬2). ¬

_ (¬1) الطبري في تفسير سورة النجم. (¬2) الطبري في تفسير سورة النجم.

موقفنا من اختلاف الصحابة في التفسير:

وقد قال أبو ذر بقول ابن عباس، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل رأيت ربّك؟ قال: «نور أنّى أراه» (¬1) وذهب جميع الصحابة، ابن مسعود وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم في تفسير الآية وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رأى جبريل روى ذلك الإمام البخاري عن ابن مسعود من وجهين: الأول موقوف عليه، والثاني روي عنه مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم (¬2). وقد أورد كثير من المفسرين (¬3) آراء الصحابة في هذه المسألة، ورجحوا قول عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- فيها من أن محمدا رأى جبريل عليه السلام، ودلل ابن القيم على ما قاله ابن مسعود وقد أسهب فيه إسهابا مفيدا يحسن الرجوع إليه. موقفنا من اختلاف الصحابة في التفسير: إذا تقرر لدينا أن الصحابة- رضوان الله عليهم- قد اختلفوا في تفسير بعض الآيات فإنه ينبغي النظر في هذا الخلاف: - فإذا كان الاختلاف في القول مرويا عن صحابي واحد، فالقول فيه ما قاله صاحب البرهان رحمه الله: «فأما إذا لم يكن الجمع بأي من قوليه، فالمتأخر من ¬

_ (¬1) صحيح مسلم ح (178) (291). (¬2) صحيح البخاري، ح (4856) و (4857). (¬3) اطلعت على ما يقارب ثلاثين كتابا من كتب التفسير فوجدتهم قد أجمعوا على أن المراد من الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رأى جبريل، ومن هذه الكتب التي أوردت هذا الرأي: 1 - كتاب زاد السير لابن الجوزي. 2 - كتاب مفاتيح الغيب للفخر الرازي 28/ 290. 3 - الكشاف للزمخشري 4/ 420. 4 - البحر المحيط ج 8/ 156. 5 - الجلالين وغيرهم.

المصدر الرابع الرأي أو الاجتهاد

القولين عن الشخص الواحد مقدم عنه إن استويا في الصحة، وإلّا فالصحيح هو المقدم» (¬1). مثاله ما روي عن ابن عباس في جواز نكاح المتعة ثم رجوعه عنه. - وأما إن كان ذلك مرويا عن أكثر من واحد، قدم منه ما كان عن رءوس القوم وأكابرهم من أمثال ابن عباس رضي الله عنهما في التفسير، وزيد بن ثابت في الفرائض، وأبيّ بن كعب في القراءات، وهلم جرا، ذلك أن منطق العقل أن الخطأ من هؤلاء أقل بكثير من خطأ من دونهم. - وأما إذا لم يكن الخلاف مطلقا، بل كان الإجماع فلا شك أنه يحرم الخروج عن إجماعهم، لأن إجماعهم على أمر له قوة الدليل من القرآن والسنة. المصدر الرابع الرأي أو الاجتهاد أخّرت ذكر هذا المصدر للخلاف في اعتباره مصدرا من مصادر التفسير، ولأنه المصدر الأخير الذي يرجع إليه حين لا نجد للآية تفسيرا في المصادر السابقة. وأطلقت على هذا المصدر الرأي أو الاجتهاد، لأن المقصود من الرأي ليس مجرد الرأي، وإنما المقصود هو الاجتهاد، إذ التفسير بالرأي لون من ألوان الاجتهاد. إن الخلاف في التفسير بالرأي قد وقع بين الأقدمين والمحدثين، وقد حاول المحدثون أن يجعلوا الخلاف شكليا، كما قال أستاذنا الذهبي: «إن الخلاف لفظي لا حقيقي» ووافقه الأستاذ فائد، ومن قبلهما قال الشيخ الزرقاني رحمه الله- مثل قولهما- ويمكن أن يجعل الخلاف لفظيا (¬2). ¬

_ (¬1) ج 2/ 183. (¬2) المناهل ج 1 ص 526.

أدلة المجيزين للتفسير بالرأي:

ويبدو أن أصحاب هذا الرأي لم يحالفهم الصواب في الجمع بين القولين، فجعلوا الخلاف لفظيا لا حقيقيا، مع أن الخلاف على ما سيظهر لك جوهري، وهاك أقوال المجيزين والمانعين للتفسير بالرأي. أدلة المجيزين للتفسير بالرأي: 1 - من القرآن: قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24]. قالوا: إن تدبر القرآن يكون بفهمه ومعرفة تفسيره، وذلك عن طريق العقل والاجتهاد بالرأي، وقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83]. يدل على أن أهل الاستنباط والاجتهاد هم الذين يعملون معاني القرآن، بما وهبهم الله من قوة الاستنباط. 2 - أن القول بمنع التفسير بالرأي مساو للقول بمنع الاجتهاد وهذا القول مردود بداهة. 3 - اختلاف الصحابة في الأقوال- طبعا في بعض الأحيان- يدل دلالة واضحة على جواز التفسير بالرأي، إذ لولا ذلك لاتفقت تفاسيرهم. 4 - دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل، فلو كان التأويل كل التأويل من التنزيل والسماع والنقل، لما كان لدعائه صلّى الله عليه وسلّم فائدة في تخصيصه بالدعاء. أما أدلة المانعين فقد استدلوا: أولا: من القرآن الكريم قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]. قالوا: إن هذه الآية حصرت البيان والتفسير بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فليس لأحد غيره أن يفسّر القرآن برأيه. ثانيا: من السنة: ما رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» (¬1) وما رواه الترمذي أيضا وأبو داود ¬

_ (¬1) باب التفسير في سنن الترمذي 2/ 157، ح (2951).

عن جندب بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (¬1). ثالثا: الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين منها: قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «أيّ سماء تظلني، وأيّ أرض تقلني، إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد الله تعالى؟». ومن التابعين قول الشعبي: «ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي». وكان سعيد بن المسيب كبير التابعين إذ سئل عن الحرام والحلال تكلم، وإذا سئل عن تفسير آية من آيات القرآن سكت كأن لم يسمع شيئا. وجملة القول عند المانعين، أن التفسير بالرأي قول على الله بغير علم، وهو إثم وحرام لا يجوز ارتكابه. وقد ردّ المجيزون على كل دليل استدلوا به، وهذا مجمل الرّد بإيجاز: أما الدليل الأول وهو استدلالهم بالقرآن، فهو مردود، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإن بيّن القرآن إلا أنه لم يبيّن جميع القرآن، بل بيّن ما هو بحاجة إلى بيان كما بيناه لك سابقا. أما الحديثان، فالأول منهما: محمول على القول بالرأي فيما لا يعلم إلا عن طريق السمع، أو فيمن يفسر القرآن حسب هواه، ولأنه تفسير بغير ما أراد الله، كما ثبت في الأثر، أما الحديث الثاني المروي عن جندب: فإن من رواته سهيل بن أبي الحزم، وقد طعن فيه أئمة الحديث البخاري والنسائي وأبو حاتم الذي قال فيه: ليس بالقوي، وقد ضعفه ابن معين والإمام أحمد وقال: روى أحاديث منكرة (¬2). أما الدليل الثالث: فإن ما روي عن هؤلاء من إحجام عن التفسير بالرأي، مبناه الحذر والحيطة لا الحظر والحرمة. وبعد: فإن المتأمل في أدلة الفريقين يرى بوضوح أن الخلاف بينهما ليس لفظيا بل هو كما قال الأقدمون: إن المذهبين فيهما غلو وتقصير، وهما على طرفي نقيض ¬

_ (¬1) المرجع السابق ح (2952). (¬2) انظر تهذيب التهذيب 4/ 261، وميزان الاعتدال 1/ 432.

كما قال الإمام المحقق الألوسي: «وأما التفسير بالرأي فالشائع المنع عنه». ثم بعد أن ساق أقوال المانعين قال: ولا دليل في ذلك. نعم إن عبارة المانعين للتفسير بالرأي صريحة في منع كل تفسير بالرأي، وهي ناصعة في جلاء لا يعتوره أدنى شائبة من غموض أو التواء، على أنه حتى لو بلغ صاحب الرأي ما بلغ من علم واجتهاد وسعة أدب، فليس له أن يفسر القرآن برأيه، وإنما عليه أن يقتصر على المأثور فحسب، فهل بعد هذا نقول: إن الخلاف بينهم لفظي؟ وإن مراد المجيزين للتفسير بالرأي إنما يريدون الرأي المحمود، وإن مراد المانعين للتفسير بالرأي إنما هو الرأي المذموم؟ كلا إن المانعين للتفسير بالرأي يمنعونه ولو صدر عن العلماء؛ وكل فريق يعزز رأيه ويرد على الآخر: فكيف يقال: إن المنع للرأي المذموم، والجواز للرأي المحمود؟ إن المانعين للرأي لا يقصدون الرأي المذموم فحسب، إذ إن هذا بدهي من البدهيات التي يسلم لهم بها المجيزون، وإنما يقصدون المنع من التفسير بالرأي على عمومه وشموله، محموده ومذمومه، صحيحه وسقيمه، فالقائل بالقرآن برأيه وإن أصاب فقد أخطأ، فالمصيب مخطئ، فما بالك بالمخطئ. هل بعد هذه الصراحة صراحة في قصدهم الواضح، من تحريم التفسير بالرأي، بجميع أشكاله وألوانه. لهذا كله، فإن الحق الذي نقول به: إن الخلاف حقيقي لا أثر فيه للفظية، لذا كان لزاما علينا أن نسلك طريق الترجيح الذي لا محيص عنه فنقول: إن أدلة المجيزين للتفسير بالرأي أقوى حجة، والواقع العملي الثابت عن سيرة الصحابة والتابعين يدل عليه، فإن الذين رويت عنهم الأخبار بالامتناع عن التفسير بالرأي، قد ثبت عنهم التفسير بالاجتهاد والتفسير بالرأي، وما اختلاف التفاسير وتنوعها، واختلاف التفاسير عن الصحابة والتابعين إلا دليل ناصع على أن مصدر هذا الخلاف إنما هو تباين الآراء النابع عن اجتهادهم. وتبقى أدلة المنع محصورة فيما لا يجوز أن يفسر به القرآن بالرأي، في المجال الذي ليس له أن يقول فيه قولا إلّا نقلا أو سماعا، هذا ما نميل إليه، أما أن نجمع بين

المصادر المعتلة في التفسير الإسرائيليات

الرأيين بتحريم الرأي المذموم، وجواز الرأي المحمود، فما نظن أن الخلاف واقع في شيء من ذلك؛ لأن التفسير بالرأي المذموم ليس مورد خلاف بين العقلاء والعلماء، لأن كلمة المجيزين والمانعين سواء في رفضه، لذا لم يبق الخلاف إلّا في جواز التفسير بالرأي أو منعه عموما. المصادر المعتلة في التفسير الإسرائيليات هذا العنوان لا نريد به ما روي عن أبناء إسرائيل (يعقوب) عليه السلام بخاصة، بل هو من باب التغليب على ما يشمل طائفتي اليهود والنصارى من بني إسرائيل، ويطلق على جميع الثقافة الدينية للطائفتين اليهودية والنصرانية، وهو ليس من باب تغليب الثقافة اليهودية على النصرانية، كما قال أستاذنا الذهبي مسندا قوله إلى أن ظاهر لفظ الإسرائيليات يدلّ على اللون اليهودي خاصّة، وأن الجانب اليهودي هو الذي اشتهر أمره، فكثر النقل عنه، وذلك لكثرة أهله وظهور أمره، وشدة اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام إلى أن بسط رواقه على كثير من بلاد العالم (¬1). هذا كلام أستاذنا الذهبي وهو غير مسلّم به، لأن جميع الثقافة الدينية اليهودية باستثناء الكفر بعيسى، هي بالضرورة ثقافة نصرانية، كذلك يدين بها النصارى تماما، كما تدين اليهود، حتى إنهم ليسمون ما عند اليهود (العهد القديم)، ويسمون ما لديهم من الأناجيل الأربعة والرسائل (العهد الجديد) ويطلقون على جميع العهدين (الكتاب المقدس). وإنما قلنا عنوان بني إسرائيل ما يشمل اليهود والنصارى، ولم نخص به اليهود لأن عيسى عليه السلام مرسل إلى بني إسرائيل، كما أرسل موسى بنص القرآن، قال تعالى في وصفه عليه السلام: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران: 49] (¬2). ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 165. (¬2) انظر مناهج المفسرين ص 320.

كيف تسربت الإسرائيليات إلى التفسير:

كيف تسربت الإسرائيليات إلى التفسير: تناول القرآن الكريم بعض الموضوعات، كقصص الأنبياء والأمم بصورة مجملة، مقتصرا على مواضع العظة والاعتبار، دون تفصيل للجزئيات، فلا يعنى في قصة أهل الكف مثلا بأسمائهم، ولا باسم كلبهم وأنه قطمير، ولا باسم الملك الظالم في زمنهم، ولا بمكان وجودهم، ولا بهيئاتهم حين أفاقوا من سباتهم ونومهم، بعد ما يزيد على ثلاثة قرون، كل هذه الأمور وأمثالها قد نجد لها تفصيلا في التوراة والإنجيل، وهي من الأمور التي يجوز روايتها إذا كانت لا تخالف شريعتنا، فلا عجب إذا رأينا بعض الصحابة يسأل من أسلم من أهل الكتاب، من أمثال كعب الأحبار وعبد الله بن سلام وتميم الداري، وهكذا بدأ تسرّب الإسرائيليات في وقت مبكر في عهد الصحابة، ثم نشط هذا التسرب في عهد التابعين، فكانوا يسألون المتقدمين، ويسألون المسلمين من أهل الكتاب في زمنهم، من أمثال وهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ولعل تفسير مقاتل بن سليمان هو من أصدق الظواهر في الاعتماد على الإسرائيليات في عهد التابعين، فمن قرأه يجد فيه العجب العجاب مما يصح روايته ومما لا يصح. ثم ولع المتأخرون- بعد عهد التابعين- فحشوا تفاسيرهم بالإسرائيليات، بل الخرافات وأخص القصص القرآني، وما أورده من الخيالات التي لا يقرها شرع ولا عقل. ويبدو أن هذه الظاهرة قد بدأت تخبو وتختفي من كتب التفسير المعاصرة فقد بدّد العلم كثيرا من الخيالات والأوهام، وأصبحت التفاسير نقية من شوائب الإسرائيليات، إلا في تفسير من في قلوبهم مرض وضغينة للإسلام. حكم التفسير بالإسرائيليات تنقسم الإسرائيليات باعتبار حكم الإسلام فيها إلى ثلاثة أقسام: 1 - ما وافق الشرع. 2 - ما خالف الشرع. 3 - ما سكت عنه الشرع.

وقد ذهب إلى هذا التقسيم الحافظ ابن كثير، وبيّن الحكم الشرعي في كل نوع فقال: إن الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد وهي على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه فذاك المرفوض. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل. فهذا لا نؤمن به ولا نكذبه ويجوز حكايته، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني. ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب أهل الكهف، ولون كلبهم وعددهم. وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلّم الله عنها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ودنياهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز (¬1). بهذا التقسيم الدقيق والتحقيق البالغ من ابن كثير، نستطيع أن نفهم الأحاديث الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشأن الإسرائيليات، فقد روى البخاري عن ابن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (¬2). فهذا الحديث يتعلق بما وافق شرعنا. أما ما روي عن عمر أنه كان يقرأ في التوراة فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم فهذا محمول على ما خالف شرعنا. أما ما سكت شرعنا عنه، فلا هو من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا» (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير. ج 1 ص 4. (¬2) انظر صحيح البخاري في كتاب الأنبياء ح (3461)، وقد أخرجه أحمد (2/ 159، 202 والترمذي ح (2669). (¬3) الحديث لا تصدقوا أهل الكتاب. أخرجه البخاري في كتاب التفسير ح (4485).

قال العلامة العيني في شرح الحديث: يعني إذا كان ما يخبرونكم به محتملا، لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه، أو كذبا فتصدقوه فتقعوا في الحرج. وقد أحسن الخطابي في شرحه لهذا الحديث وللأحاديث السابقة إذ يقول: «لم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه، وهذا الحديث، أي: لا تصدقوا ولا تكذبوا ... أصل في وجوب التوقف عما يشكّك في الأمور، فلا يقضي عليه بصحة أو بطلان، ولا بتحليل ولا تحريم، وقد أمرنا أن نؤمن بالكتب المنزلة على الأنبياء- عليهم السلام- إلّا أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم صحيح ما يحكونه عن تلك الكتب من سقيمه، فنتوقف فلا نصدقهم، لئلا نكون شركاء معهم فيما حرفوه منه، ولا نكذبهم فلعله يكون صحيحا، فنكون منكرين لما أمرنا أن نؤمن به». وهذا النوع هو أكثر الأنواع التي رويت في التفسير كما قال ابن كثير، وقد ازداد شيئا فشيئا، بدأ من عهد الصحابة والتابعين وكان كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام من أكثر أهل زمانهم رواية لها؛ لعلمهم بالكتاب، ثم تضخمت بعدهم القصص والأخبار حتى أصبحت مصدرا من مصادر التفسير.

المبحث الرابع شروط المفسر

المبحث الرابع شروط المفسر لا ريب أن من أراد أن يتصدى لتفسير القرآن فعليه استجماع الشروط المعتبرة، حتى يكون أهلا لبيان مراد الله، ومن أولى بدهيات الشروط: صحة اعتقاد المفسر، حتى يمكن الركون إلى تفسيره، فلا يطمأن إلى كلام الملاحدة والمبتدعة، مهما سمت علومهم، لأنهم يبغون الفتنة، كدأب الباطنية وغلاة الرافضة وأهل البدع- قديما وحديثا-؛ لأن مقصودهم هو ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله بما يوافق ضلالهم. وهناك من العلوم التي يجب توافرها في المفسر، حتى يتسنى له تفسير كتاب الله عزّ وجلّ، وقد بلغ بها السيوطي خمسة عشر علما، نستطيع أن نضعها في بضعة علوم أساسية. أولا: علوم اللغة العربية: هذا من أولى الضرورات التي يجب أن يتحلى بها كلّ قاصد لتفسير كتاب الله، الذي من أهم صفاته أنه بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195] قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: 2]. لذا قال الإمام مجاهد- شيخ المفسرين التابعين: «لا يحلّ لأحد يؤمن بالله وباليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب». وقال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: (لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلّا جعلته نكالا) (¬1). ومن أهم علوم اللغة العربية: أ- علوم النحو: يتغير معنى الكلام حسب موقعه الإعرابي، فينتقل المعنى من الكفر إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى الكفر بتغير حركة الإعراب فيه، وهذا معنى ما أخرجه أبو عبيد عن ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في الشعب عن مالك.

ب - علم الصرف:

الحسن: أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن النطق ويقيم بها قراءته، قال: (حسن فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيى بوجهها فيهلك فيها) (¬1). والقرآن الكريم قد نزل بأفصح لغات العرب، وكلام الله تعالى، حاكم ومهيمن، على القواعد العربية، فعلامات الإعراب وقواعده مستنبطة من لسان العرب، وقد وضعت في عصر متأخر بعد نزول القرآن، لذا فلا يلتفت إلى كلام بعض علماء اللغة والمفسرين الذين يستبعدون بعض القراءات القرآنية، لاعتقادهم أنها مخالفة للقواعد العربية. مثل ما قاله الزمخشري وغيره في قراءة متواترة من سورة النساء: .. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ .. [النساء: 1]. وبالكسر والأرحام، فقد لغا في ذلك قلة من المفسرين في توجيه هذه القراءة وغيرها، وقد انبرى لهم الإمام أبو حيان في الرد عليهم في تفسيره البحر المحيط، ولسنا هنا بصدد الحديث عنها. ب- علم الصرف: علم الصرف به تعرف الأبنية والصيغ، وقد نص عليه ابن فارس قائلا: (من فاته علمه فاته المعظم، لأنا نقول «وجد» كلمة مبهمة، فإذا صرفناها اتضحت، فقلنا في المال: «وجدا» (¬2) وفي الضالة «وجدانا» وفي الغضب «موجدة» وفي الحزن «وجدا») (¬3). وانظر إلى اختلاف المعنى من العدل إلى عكسه الجور لاختلاف التصريف في الآيتين التاليتين: في سورة الحجرات: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9]. بمعنى اعدلوا. وفي سورة الجن: وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن: 15]. فالقاسطون بمعنى الجائرون الظالمون. ومن جهل هذا العلم فإنه يقع في البدع والخطأ، ومن ذلك ما قاله الزمخشري في الزمخشري في الكشاف: ومن بدع التفاسير أن الإمام في قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] ¬

_ (¬1) انظر السيوطي في الإتقان. (¬2) مثلثة الواو. (¬3) انظر المجمل لابن فارس (وجد).

ج - الاشتقاق:

جمع أمّ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم، لئلا يفتضح أولاد الزنا، قال: وليت شعري أيهما أبدع، أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟! يعني أن الأم لا تجمع على إمام، وهذا كلام من لا يعرف الصناعة ولا لغة العرب، ثم قال: وهذا خطأ أوجبه جهله بالتصريف، فإن الأم لا تجمع على إمام بل أمهات (¬1). ج- الاشتقاق: لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما، كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح؟ (¬2). فإذا كان من السياحة، فتكون تسمية عيسى بالمسيح لكثرة سياحته، وإذا كان من المسح تكون تسميته؛ لأنه كان لا يمسح على ذي عاهة إلّا برأ بإذن الله. د- علوم البلاغة: بأقسامها الثلاثة: المعاني- البيان- البديع، لأنه يعرف بعلم المعاني خواص تراكيب الكلام، من حيث إفادتها المعنى، ويعرف بعلم البيان خواص تلك التراكيب من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، ويعرف بالبديع وجوه تحسين الكلام (¬3). وهذه العلوم يستعان بها في إدراك الإعجاز القرآني، بصورتها العجيبة التي أعجزت الخلق من الإنس والجن عن الإتيان بمثله. وأكثر كتب التفسير اهتماما بذلك كتاب الكشاف للزمخشري الذي يقول: (من حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع ¬

_ (¬1) انظر تفسير الزمخشري في هذه الآية 71 من سورة الإسراء، وقد نقل العبارة صاحب البرهان، 2/ 297. (¬2) الإتقان، 2/ 181. (¬3) المرجع السابق، 2/ 181.

ثانيا: علم أصول الفقه:

به التحدي سليما من القادح). وقد اعتنى في كتابه بالنواحي البلاغية. كيف لا وهو واضع كتاب أساس البلاغة؟! ثانيا: علم أصول الفقه: إذ به يعرف وجه الاستدلال في استنباط الأحكام، وقد بين لنا ابن قيم الجوزية بعض القواعد الأصولية، التي تتعلق بتفسير القرآن وذلك في كتابه بدائع الفوائد (¬1). ولقد وجدنا كثيرا من المفسرين المشهورين قد برعوا في علم أصول الفقه، كما برعوا في التفسير على حد سواء، منهم: 1 - أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص المتوفى سنة 370 هـ، وتفسير (أحكام القرآن)، وكتابه في الأصول مشهور باسمه (أصول الجصاص). 2 - فخر الدين الرازي والمتوفى سنة 606 هـ، وتفسيره (مفاتيح الغيب)، أما كتابه بالأصول فهو من أشهر الكتب الأصولية (المحصول في علم الأصول). 3 - ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ، له تفسير وكتابه في الأصول (المسوّدة في أصول الفقه)، لآل تيمية أي هو وأبوه وجدّه. 4 - القاضي ناصر الدين البيضاوي الشيرازي المتوفى سنة 791 هـ، له تفسير معروف (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) وكتابه في الأصول (مناهج الوصول إلى علم الأصول). 5 - جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، وكتابه في التفسير (الدر المنثور)، وقد ساهم في التفسير الشهير بتفسير الجلالين. وكتابه في الأصول معروف باسم (الأشباه والنظائر). 6 - محمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ، وتفسيره (فتح القدير) وكتابه في الأصول (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول). ¬

_ (¬1) من كتابه بدائع الفوائد وهو مطبوع.

ثالثا: علم أصول الدين ويطلق عليه علم الكلام:

مما تقدم يتضح لنا أهمية هذا العلم لكل من يتصدى لتفسير كتاب الله، بل لكل مجتهد يريد استنباط الأحكام من آيات القرآن، وخير الكتب في هذا العلم، (الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، والموافقات للإمام الشاطبي، وما ذكرناه لك إرشاد الفحول للشوكاني). ثالثا: علم أصول الدين ويطلق عليه علم الكلام: وهو علم لا بد من توافره لكل مفسر، حتى لا يقع في الخطأ والزلل، فلا بد من إدراك العقيدة الصحيحة، والنظر إلى آيات القرآن من وجهة نظر صحيحة عن الكون والإنسان والحياة، فإن ذلك يساعده في فهم الآيات فهما صحيحا، ولا بد من معرفة الأصول الاعتقادية- ما يجب في حق الله وما يستحيل عليه، وما يجب في حق الرسل- عليهم السلام- وما يستحيل عليهم. يقول أبو حيان: (وقد صنف علماء الإسلام- من سائر الطوائف- في هذا كتبا كثيرة، وهو علم صعب، إذ المزلة فيه، والعياذ بالله، مفض إلى الخسران في الدنيا والآخرة) (¬1). رابعا: علوم القرآن: هناك مباحث في علوم القرآن لا بد من معرفتها، حتى يتسنى للمفسر أن يدرك القرآن إدراكا صحيحا، ودونها يتعثر فهمه، بل يقع في الضلال والإشكال، ومن هذه العلوم القرآنية: أ- علم القراءات: لأن به يعرف كيفية النطق، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض، فلا شك أن المعاني والتفاسير تختلف باختلاف الألفاظ زيادة أو نقصا، وتختلف باختلاف تغير حركة الألفاظ، أو إتيان بلفظ بدل لفظ، وذلك بتواتر أو آحاد، ويؤخذ هذا من علم القراءات. ¬

_ (¬1) البحر المحيط، لأبي حيان في 1/ 7.

ب - أسباب النزول:

وقد صنف العلماء في هذا العلم الجليل كتبا لا تعد ولا تحصى، ويرى أبو حيان أن من أحسنها كتاب الإقناع في القراءات السبع، لأبي جعفر بن الباذش، وفي القراءات العشر كتاب المصابيح لأبي الكرم الشهرزوري (¬1). ويعتبر كتاب ابن الجزري (النشر في القراءات العشر) من خير الكتب المصنفة والمطبوعة في هذا العلم. وقد رأينا أن كثيرا من المفسرين يتعرضون للقراءات القرآنية الواردة في الآيات القرآنية، وعلى سبيل المثال الإمام الطبري، وابن كثير، والزمخشري وصاحب البحر المحيط، بل رأينا كثيرا منهم قد ألف كتبا في علم القراءات، مثل ابن جرير الطبري، ومثل الكواشي (¬2) المفسر الذي ألف كتاب المواقف في القراءة ويجدر بالذكر أن هذا الموضوع لا يأخذ إلّا شفاها عن أهل هذا العلم؛ ليعرف كيفية النطق الصحيح بالقرآن. ب- أسباب النزول: ارجع إلى ما كتبناه في أسباب النزول (¬3). ج- الناسخ والمنسوخ: يروى أن علي بن أبي طالب مرّ بقاصّ في مسجد، وهو يحدث الناس، فسأله أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت. ولعلك أدركت أهمية الموضوع في ما سبق وذكرناه لك (¬4). د- علم القصص: ذلك أن القرآن يذكر القصة الواحدة في مواضع عديدة من السور القرآنية، فما يجمله في مواضع، قد يفصله في سور أخرى، يعين على فهم مجملها. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) الإمام الكواشي وصاحب تفسير. تبصرة المتذكر وتذكرة المتبصر، وقد توفى سنة 680 هـ. (¬3) ص 134. (¬4) سبق ذكره في بحث النسخ ص 185.

خامسا: العلم بالأحاديث النبوية المفسرة للآيات القرآنية.

خامسا: العلم بالأحاديث النبوية المفسرة للآيات القرآنية. سادسا: العلم بتفسير الصحابي: سلف تفصيله في مصادر التفسير (¬1). هذه أهم العلوم فيمن فسر دون معرفتها فقد ضل، وهناك علوم أخرى كعلم الموهبة. والامتلاء من العلوم العديدة والمفيدة، للاقتدار على تحصيل التفسير، فإنه كما قال ابن أبي الدنيا عن تفسير القرآن (ما يستنبطونه بحر لا ساحل له) ولكن ما ذكرناه كالآلة للمفسر لا يكون مفسرا إلّا بتحصيلها، ويحسن بنا أن نذكر لك ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا في تخصيص بعض العلوم التي يحتاج إليها المفسر، فإن فيها إيضاحا وإضافة مفيدة لما ذكرناه لك. قال رحمه الله: (للتفسير مراتب أدناه أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشر، ويجذبها إلى الخير، وهذه هي التي قلنا إنها متيسرة لكل أحد: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]. وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلّا بأمور: أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة، التي أودعها القرآن بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان، ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد، ومن ذلك لفظ التأويل اشتهر بمعنى التفسير مطلقا، أو على وجه الخصوص، ولكنه جاء في القرآن بمعان أخرى كقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53]. فما هذا التأويل؟ يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة ليفرق بينهما وبين ما ورد في الكتاب، فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى. ¬

_ (¬1) ص 239.

فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه، بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية، فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه، وقد قالوا: إن القرآن يفسر بعضه بعضا، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته. ثانيها: الأساليب، فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطن لنكته ومحاسنه، والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه. نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله كله على وجه الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة، ويحتاج في هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب (المعاني والبيان) ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب. ترون في كتب العربية أن العرب كانوا مسددين في النطق، يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع، أتحسبون أن ذلك كان طبيعيا لهم؟ كلّا وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة، ولذلك صار أبناء العرب أشدّ عجمة من العجم عند ما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعيا ذاتيا لما فقدوه في مدة خمسين سنة بعد الهجرة. ثالثها: علم أحوال البشر، فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب، وبين فيه ما لم يبين في غيره، بيّن فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعهم، والسنن الإلهية في البشر، وقص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسننه فيها، فلا بد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوة وضعف، وعزّ وذلّ، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالم الكبير، علويه وسفليه، ويحتاج هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه. قال الأستاذ الإمام: أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ .. [البقرة: 213].

وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا، وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها، وهل كانت نافعة أو ضارة، وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم. أجمل القرآن الكلام عن الأمم وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السموات والأرض وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمالي صادر عمن أحاط بكل شيء علما، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا بما حواه من علم وحكمة. رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن، فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي، أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم، لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث به لهدايتهم وإسعادهم، وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة أو ما يقرب منها، إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه؟ هل يكتفى من علماء القرآن- دعاة الدين والمناضلين ضد التقليد- بأن يقولوا تقليدا لغيرهم: إن الناس كانوا على باطل، وإن القرآن دحض أباطيلهم في الجملة؟ كلا. وأقول الآن: يروى عن عمر أنه قال: (إن جهل الناس بأحوال الجاهلية هو الذي يخشى أن ينقض عرى الإسلام عروة عروة) اهـ. والمراد: أن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله، يجهل تأثير هدايته وعناية الله بجعله مغيرا لأحوال البشر، ومخرجا لهم من الظلمات إلى النور، ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي، كما ترى بعض الذي يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو؛ لأنه من ضروريات الحياة عندهم، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر، وتأثير تلك الآداب ومن أين جاءت.

خامسها: العلم بسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وما كانوا عليه من علم وعمل، وتصرف في الشئون دنيويها وأخرويها. اهـ (¬1). هذه عبارة الأستاذ الشيخ رشيد رضا بنصها، وفيها تركيز وإدماج لبعض ما قلناه من قبل، وفيها شرح وإيضاح لبعض آخر منه، وهي تلقي ضوءا على ما تقدم. وتوضح بعض ما فيه من إيجاز. ¬

_ (¬1) تفسير المنار، 1/ 21 - 24.

المبحث الخامس أنواع التفسير

المبحث الخامس أنواع التفسير يقسم العلماء التفسير إلى نوعين رئيسين وهما: التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي أو الدراية، ومنهم من يضيف إليه التفسير الإشاري، كنوع ثالث وهو خارج عن اعتباره تفسيرا لأمور كثيرة سنراها فيما بعد. أولا: التفسير بالمأثور هو كل تفسير يعتمد على المصادر التفسيرية: القرآن والسنّة وأقوال الصحابة- رضوان الله عليهم- ومنهم من يضيف أقوال التابعين، وخير ما يمثل هذا اللون من التفسير هو الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، وهناك من يعتبر تفسير ابن جرير الطبري وابن كثير من التفسير بالمأثور وفي هذا نظر: لما يحويه ابن جرير وابن كثير من اجتهادات وتوجيهات وترجيحات تعتمد على الدراية والرأي والاجتهاد، فالكتابان مصدران عظيمان للتفسير بالمأثور ولكنها لا يخلوان من التفسير بالرأي. ويجدر التنبيه إلى أن اعتبار تفسير القرآن بالقرآن من التفسير بالمأثور فيه نظر، لإطلاق الأثر على التفسير القرآني، والأثر كما هو معروف يطلق على ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة والتابعين، ولكن لا بد من استدراك أن اعتبار تفسير القرآن للقرآن من التفسير بالمأثور هو من باب الاصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح. أشهر المفسرين في التفسير بالمأثور: 1 - الطبري (224 - 310 هـ). هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، الإمام الجليل والمجتهد المطلق، صاحب التصانيف المشهورة، رحل من بلده طبرستان في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فسمع بمصر والشام والعراق، ثم استقر ببغداد إلى أن مات فيها.

مكانته العلمية:

مكانته العلمية: كان ابن جرير أحد الأئمة الأعلام، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه أحد من أهل عصره، فهو حافظ لكتاب الله، عارف بمعانيه، فقيه في أحكامه، عالم بالسنن وطرقها، مميز بين الناسخ والمنسوخ منها، عارف بأقوال الصحابة والتابعين، عالم بمواضع اختلاف الأئمة من قبله، عارف بأيام الناس وأخبارهم، ومن العلوم التي قد برع فيها: علم القراءات وعلم التفسير وعلم الحديث وعلم الفقه وعلم التاريخ، فقد ألف في القراءات كتابه القراءات، وفي التفسير كتاب جامع البيان عن تأويل آي القرآن، وفي التاريخ كتاب تاريخ الأمم والملوك وكتاب تاريخ الرجال من الصحابة والتابعين، وفي الفقه كتاب اختلاف العلماء، وكتاب أحكام شرائع الإسلام وهذا الأخير كتاب ألف على ما أداه إليه اجتهاده. ومعظم هذه الكتب قد اختفى منذ زمن، ولم يحظ بالشهرة منها سوى كتابيه في التفسير والتاريخ. ويعتبر ابن جرير أبا للتفسير، ويعتبر أيضا من الأئمة المجتهدين. يقول ابن خلكان: إنه كان من الأئمة المجتهدين، لم يقلد أحدا. وقد قالوا: إن له مذهبا معروفا، وإن أصحابه ينتحلون مذهبه، ويقال لهم: الجريرية. لكن هذا المذهب لم يبق إلى زماننا هذا، فقد اندثر منذ زمن. وقد كان شافعيا قبل أن ينفرد بمذهب خاصّ به، فقد قال السيوطي في طبقات المفسرين: وكان أولا شافعيا، ثم انفرد بمذهب مستقل، وأقاويل واختيارات، وله أتباع ومقلدون، وله في الأصول والفروع كتب كثيرة (¬1). اهـ. طريقته في التفسير: يعتبر تفسير ابن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها، قال عنه السيوطي: «وكتابه- يعني تفسير ابن جرير- أجل التفاسير وأعظمها فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط، فهو يفوق بذلك تفاسير الأقدمين» (¬2)، ¬

_ (¬1) ص 3. (¬2) الإتقان 2/ 190.

وقال النووي: «أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري» (¬1) وتفسيره الذي بين أيدينا ما هو إلا مختصر تفسيره الأصلي على ما يبدو. قال ابن السبكي في طبقاته الكبرى: «إن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا ربما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا الله ماتت الهمم فاختصره في نحو ما اختصر التفسير» (¬2) اهـ. وكتاب ابن جرير في التفسير من أقدم التفاسير التي وصلت إلينا. وما سبقه من المحاولات التفسيرية ذهبت بمرور الزمن، ولم يصل إلينا شيء منها سوى ما وصل إلينا منها في ثنايا كتب التفاسير الأخرى ومنها تفسير ابن جرير. وتظهر طريقة ابن جرير في تفسيره في عدة نقاط وهي: 1 - إنكاره التفسير بمجرد الرأي. 2 - اعتناؤه بالأسانيد. 3 - تقديره للإجماع. 4 - ذكره القراءات. 5 - نقله من الإسرائيليات. 6 - انصرافه عما لا فائدة فيه. 7 - احتكامه إلى المعروف من كلام العرب. 8 - رجوعه إلى الشعر القديم. 9 - اهتمامه بالمذاهب النحوية. 10 - معالجته للأحكام الفقهية. 11 - خوضه في مسائل الكلام. وسنذكر الأمثلة على طريقته في التفسير: ¬

_ (¬1) الإتقان 2/ 190. (¬2) ج 2 ص 137.

فمثال إنكاره التفسير بالرأي قوله عند تفسير قوله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف: 49]. بعد ذكر أقوال السلف فيها، مع توجيهه للأقوال، وتعرضه للقراءات، فيقول ما نصه: « ... وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل، ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب، يوجه معنى قوله: «وفيه يعصرون» إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه من العصر، والعصرة التي بمعنى المنجاة، من قول أبي زبيد الطائي: صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود أي: المقهور، ومن قول لبيد: فبات وأسرى القوم آخر ليلهم ... وما كان وقّافا بغير معصّر وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه، خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين» (¬1). أما اعتناؤه بالأسانيد فيظهر ذلك واضحا في تفسيره، لأنه يذكر الروايات بأسانيدها، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف، ومع ذلك فابن جرير يقف من السند أحيانا موقف الناقد البصير، فيوثق الرواة ويجرحهم، ويرد الروايات التي لا يثق بصحتها، ومثال ذلك تفسيره لقوله تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف: 94] فيقول ما نصه: «روي عن عكرمة في ذلك- يعني في ضم سين (سدّا) وفتحها- ما حدثنا به أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال حدثنا: حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة، قال: ما كان من صنعة بني آدم فهو السّد يعني بفتح السين، وما كان من صنع الله فهو السّد، ثم يعقب على هذا السند فيقول: «وأما ما ذكر عن عكرمة في ذلك فإن الذي نقل ذلك عن أيوب هارون وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه» (¬2) اهـ. ومثال تقديره للإجماع تفسيره لقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] فيقول ما نصه: «فإن قال قائل: فأي النكاحين عنى الله بقوله: ¬

_ (¬1) جامع البيان ج 12 ص 138. (¬2) جامع البيان ج 16 ص 13.

فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ؟ النكاح الذي هو جماع؟ أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟ قيل: كلاهما، وذلك أن المرأة إذا نكحت رجلا نكاح تزويج، ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها، ولم يجامعها حتى يطلقها، لم تحل للأول، لإجماع الأمة جميعا ... » (¬1). أما ذكر القراءات في تفسيره، فإنه يذكر القراءات وينزلها على المعاني المختلفة، وكثيرا ما يردّ القراءات التي لا تعتمد على الأئمة الذين يعتبرون عنده وعند علماء القراءات حجة، والتي تقوم على أصول مضطربة، فمثلا عند قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً [الأنبياء: 81] يذكر أن عامّة قراء الأمصار قرءوا (الريح) بالنصب على أنها مفعول لسخرنا المحذوف، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ (الريح) بالرفع على أنها مبتدأ ثم يقول: والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليه. وجدير بالذكر أن ابن جرير كان من علماء القراءات المشهورين، وله كتاب في ذلك في ثمانية عشر مجلدا ولكنه ضاع مع الزمن، ولم يصل إلينا ككثير من مؤلفاته. وابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار مأخوذة من القصص الإسرائيلي، يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار، وهب بن منبه وابن جريج والسدي ويتعقبها بالنقد، لكن تفسيره ما زال بحاجة إلى النقد الفاحص الشامل احتياج كثير من كتب التفسير الأخرى إلى ذلك النقد. ويحتكم ابن جرير في مواضع كثيرة من تفسيره إلى كلام العرب وشعرهم، كتفسيره لقوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] فيقول: «قال أبو جعفر: والأنداد جمع ند، والند: العدل والمثل، كما قال حسان بن ثابت: أتهجوه ولست له بندّ ... فشرّكما لخيركما الفداء يعني بقوله: لست له بند: لست له بمثل ولا عدل، وكل شيء كان نظيرا لشيء وشبيها فهو له ند» (¬2). أما اهتمام ابن جرير بالمذاهب النحوية فيظهر ذلك واضحا في تفسيره، ويذكر أقوال الكوفيين والبصريين ويوجه الأقوال ويستشهد بالنحو على ما يقول. ¬

_ (¬1) جامع البيان ج 2 ص 290 - 291. (¬2) جامع البيان ج 1 ص 125.

2 - ابن عطية الأندلسي:

ويعالج ابن جرير الكثير من الأحكام الفقهية كثيرا في تفسيره، ويذكر أقوال العلماء ومذاهبهم، ويخلص من ذلك برأي يختاره لنفسه. ويرجحه بالأدلة، وهذا ليس بغريب، لأن ابن جرير- كما ذكرنا- مجتهد له مذهب خاص به، عالم في مذاهب العلماء وأقوالهم. وترى ابن جرير يخوض في تفسيره في مسائل الكلام كثيرا، مما يدل على أنه كان عالما في مسائل العقيدة، فتراه يستشهد بالآية على مسألة في العقيدة، وتراه يناقش مسألة أخرى ويرد على المعتزلة كثيرا في تفسيره وعلى القدرية، ويصفهم بالغباء فيما يذهبون إليه من الأقوال الغريبة، وذلك واضح في تفسيره خصوصا عند تفسيره لآيات الصفات. 2 - ابن عطية الأندلسي (¬1): هو القاضي عبد الحق بن عطية الأندلسي الغرناطي المالكي. ولد بغرناطة سنة 480 هـ ونشأ فيها، وتربى في كنف أبيه القاضي الحافظ الذي أحاطه بأسباب العناية والرعاية، مما كان سببا في تكون شخصيته العلمية. كان منذ صغره طموحا متطلعا، وقد لازمه هذا الطموح حتى برزت مواهبه، وعم إنتاجه وغدا شخصية علمية يشار إليها بالبنان. ويحدثنا الفتح بن خاقان عن صفات ابن عطية التي أورثته علوا في الرتبة وعظمة في المكانة، قال: «سابق الأمجاد في السؤدد جاهدا، حتى تناول الكواكب قاعدا» (¬2). مكانته العلمية: قال لسان الدين ابن الخطيب: «كان ابن عطية فقيها عالما بالتفسير، والأحكام والحديث والفقه والنحو والأدب واللغة، له نظم ونثر، ولي القضاء (بالمرية) من حواضر الأندلس وكان غاية في الدهاء والذكاء» (¬3). ¬

_ (¬1) ترجمته: ابن بشكوال، الصلة: 2/ 386، والضبي، بغية الملتمس ص 389. النباهي: تاريخ قضاة الأندلس ص 109، وابن الخطيب، الإحاطة 3/ 531. الداودي: طبقات المفسرين 1/ 260. (¬2) ابن خاقان، قلائد العقيان 2/ 217. (¬3) ابن الخطيب 3/ 539.

منهجه في التفسير:

قال السيوطي: «عبد الحق بن عطية هو الإمام الكبير قدوة المفسرين وعدّة من أساطين النحاة وشيوخهم» (¬1). وعده ابن فرحون من أعيان مذهب الإمام مالك فترجم له وذكر مناقبه (¬2). منهجه في التفسير: كان ابن عطية بذكر الآية الكريمة ثم يفسرها بعبارة سهلة، بعيدة عن الغموض والاحتمال، ويورد التفسير بالمأثور في غير إكثار. ويعرض الأقوال ويناقشها مع الرد أحيانا، وكان كثير الاستشهاد بالشعر للدلالة على المعاني، محتكما إلى اللغة العربية عند إرادة بعض المقاصد، كثير الاهتمام بالمسائل النحوية، وكان يتعرض للقراءات، مستعملها وشاذها ويوجهها، كما كان يتحرى الصحة في الأحاديث بعيدا عن الإسرائيليات، كل ذلك في غاية الإيجاز، وحذف فضول القول (¬3). ولقد أقام ابن عطية منهجه في التفسير على أهم الأصول التالية: 1 - جمعه بين التفسير بالمأثور والرأي. 2 - اللغة العربية والنحو. 3 - القراءات. 4 - عرض الأحكام الفقهية. 5 - ردّه للإسرائيليات. التفسير بالمأثور والرأي- عند ابن عطية: لقد عنى ابن عطية بالتفسير بالمأثور، سواء ما تعلق منه بتفسير القرآن بالقرآن، أو تفسير القرآن بالحديث، أو بأقوال الصحابة والتابعين .. لكنه درج في تفسيره هذا ¬

_ (¬1) السيوطي، طبقات المفسرين ص 60، وبغية الوعاة ص 295. (¬2) ابن فرحون، الديباج المذهب 2/ 57. (¬3) يمكن الوقوف على هذا في مقدمة تفسيره: المحرر الوجيز المقدمة ص 30.

ومن أمثلة التفسير بالمأثور عنده:

بعدم التقيد بالأسانيد كابن جرير الطبري التزاما مع منهجه الذي رسمه لنفسه في مقدمة تفسيره وهو (الإيجاز). أما التفسير بالرأي فشرطه ألا يتهجم الإنسان على كتاب الله تعالى فيفسره برأيه وهواه، دون حصوله على علوم التفسير: من لغة ونحو وأصول، ويتأول ابن عطية الأحاديث الواردة في النهي عن التفسير بالرأي، ويقول: بأن ذلك محمول على مغيبات القرآن وتفسير مجمله وذلك لا سبيل له إلّا بتوفيق من الله عز وجل (¬1). وأجاب أيضا عن تحرج السلف الصالح- الصحابة والتابعين- من التفسير بالرأي فقال: «إن ذلك الإحجام كان تورعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم، أو أن توقفهم كان في مشكل القرآن خوفا من أن يكون تفسيرهم في تلك الحالة قد لا يوافق مراد الله تعالى» (¬2). ومن أمثلة التفسير بالمأثور عنده: تفسير القرآن بالقرآن: تفسير معنى الهداية الواردة في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6]. بما ورد معناها في آيات أخرى. قال ابن عطية: «والهداية في اللغة: الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5]. وقال: وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء من ذلك قوله تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7]. أي: داع. وقد جاء الهدى بمعنى الإلهام من ذلك قوله: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50]. ¬

_ (¬1) ابن عطية، المحرر الوجيز 1/ 120 - 121. (¬2) مقدمة التفسير لابن عطية ص 30.

ومثال تفسير القرآن بالحديث:

ومثال تفسير القرآن بالحديث: عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ [آل عمران: 96]. « ... قال القاضي أبو محمد ويؤيد هذا التأويل ما قال: أبو ذر- رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال: «المسجد الحرام» قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى» قلت: كم بينهما قال: «أربعون سنة» (¬1). والحديث أخرجه البخاري في صحيحه باب أي مسجد وضع في الأرض (¬2). وأما أمثلة التفسير بأقوال الصحابة فيمكن الوقوف عليها في تفسيره (¬3). وأما التفسير بالرأي فمثاله عند تفسير قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: 64]. فبعد أن استعرض معاني كلمة سواء، وأقوال العلماء في تفسيرها، قال: (والذي أقوله في لفظة «سواء»: إنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضوع، وهو أنه دعاهم إلى معان، جميع الناس فيها مستوون، صغيرهم وكبيرهم، وقد كانت سيرة المدعوّين أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا، فلم يكونوا على استواء حال، فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه .. ) (¬4). لقد أولى ابن عطية عناية فائقة باللغة والنحو، فعرض لأصل الألفاظ واشتقاقها وبيان معانيها وأوجه الإعراب فيها، وكثيرا ما كان ينقل آراء النحويين من البصريين والكوفيين، وقد يتعرض لها بالترجيح والتصحيح أو بالرد والتضعيف، وأكثر من الشواهد الشعرية في أغراض مختلفة ومقاصد متعددة. ¬

_ (¬1) ابن عطية، المحرر الوجيز 3/ 163. (¬2) صحيح البخاري (3366). (¬3) المحرر الوجيز 2/ 160، 3/ 118. (¬4) ابن عطية 3/ 114.

اهتمامه بالقراءات:

اهتمامه بالقراءات: وخلاصته استعرض القراءات المتواترة في اللفظ القرآني، وتوجيهها على المعاني مع بيان الشاذ منها والتنبيه عليه، ومثاله عند تفسير قوله تعالى: الم 1 اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران: 1 - 2]. قال ابن عطية: «وقرأ الجمهور- الم الله- بفتح الميم والألف ساقطة، وروي عن عاصم أنه سكّن الميم ثم قطع الألف، وروى الأولى حفص، وروى الثانية أبو بكر، وذكرها الفراء عن عاصم، وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة «الم» بكسر الميم للالتقاء، وذلك لأن الياء تمنع من ذلك، والصواب الفتح وهي قراءة جمهور الناس. عرضه للأحكام الشرعية: ومسلكه في ذلك أنه كان يذكر آراء المالكية في المسألة الفقهية، وينوه كثيرا برأي مالك، وفي بعض الأحيان يعرض لآراء المذاهب الأخرى الحنفية والشافعية والحنابلة ولكن في إيجاز. ومما هو جدير بالملاحظة أن ابن عطية كان يتحرى الدقة العلمية في النقل فيقول: «وهذا قول مالك وجميع أصحابه فيما علمت». وكان يعرض لأدلة الأحكام، ومن ثم يرجح آراء الفقهاء، أو يرد ما يحتاج إلى رد (¬1). وخلاصة القول: أن ابن عطية وقف من مسألة الأحكام الفقهية في تفسيره موقف العالم البصير بمسائل الأحكام، الواقف على دقائقه وأصوله، دونما تعصب أو ميل، وفي غير إسراف أو استفاضة. ردّه للإسرائيليات: يؤكد ابن عطية في غير موضع من تفسيره، أن الإسرائيليات لا تنهض في نفسها لتكون أساسا في تفسير الآيات، لأنها قائمة على الأباطيل والخيالات، ضعيفة ¬

_ (¬1) انظر 3/ 167، 4/ 132.

قيمة تفسير ابن عطية:

الإسناد تفتقر إلى النقل الصحيح، فضلا عن أن هذه المرويات الإسرائيلية تؤدي إلى زعزعة الثقة في المقصود من النصوص القرآنية، وفساد الاعتقاد بمراميها وأهدافها، وبذا فإنه يرى ضرورة الإضراب عن هذا القصص الإسرائيلي إلّا ما اقتضت الضرورة للاستعانة به على بيان المقصود من الآيات، وقد أكد هذا الموقف في مقدمة تفسيره فقال: «وقصدت فيه أن يكون جامعا وجيزا محررا، لا أذكر من القصص إلّا ما لا تنفك الآية إلّا به» (¬1). ومن أمثلة ما ردّه ابن عطية عن الإسرائيليات: 1 - عند تفسير قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [البقرة: 259]. قال ابن عطية: وروى في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث الله عليهم بخت نصر البابلي، فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس، فخربه، فلما ذهب عنه جاء «أرمياء» فوقف على المدينة معتبرا فقال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله تعالى وكان معه حمار- وقد ربطه بحبل جديد، وكان معه سلة فيها تين وهو طعامه- وقيل: تين وعنب، وكان معه ركوة من خمر، وقيل: من عصير، وقيل: قلة ماء هي شرابه- وبقي ميتا مائة عام- فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره، وروي أنه بلي دون الحمار- وأن الحمار بقي حيا مربوطا وتفرقت أوصاله دون «عزير»، وروى أن الله بعث إلى تلك القرية من عمّرها، وردّ إليها جماعة من إسرائيل ... وهكذا كله ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية (¬2). قيمة تفسير ابن عطية: قال لسان الدين ابن الخطيب: «عبد الحق بن عطية .. ألف تفسيره- فأحسن فيه وأبدع، وطار بحسن نيته كل «مطار» (¬3). ¬

_ (¬1) ابن عطية، المحرر الوجيز 1/ 31. (¬2) ابن عطية؟؟؟ / 292. (¬3) ابن الخطيب، الإحاطة 3/ 539.

3 - السمرقندي: ( ... - 373 هـ):

أما ابن تيمية فقد وصفه أنه بعيد عن البدع، وأتبع للسنة والجماعة، فقال: «تفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري وأصح نقلا وبحثا، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعلّه أرجح هذه التفاسير لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها» (¬1). وشهد له الإمام السيوطي فقال: «لقد أحسن ابن عطية في تفسيره وأبدع حتى طار صيته، وصار كتابه أصدق شاهد بأمانته في العربية وغيرها» (¬2). وكانت وفاته رحمه الله عام (546 هـ). 3 - السمرقندي: ( ... - 373 هـ): هو أبو الليث، نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي، الفقيه الحنفي، المعروف بإمام الهدى، المتفقة على أبي جعفر الهندواني المشتهر بكثرة الأقوال المفيدة، والتصانيف المشهورة. ومن أهم تصانيفه تفسير القرآن المسمى ببحر العلوم، وكتاب النوازل في الفقه، وخزانة الفقه، وتنبيه الغافلين، والبستان، المتوفى سنة 373 هـ وقيل: 375 هـ (¬3). طريقته في التفسير: قال في كشف الظنون: «تفسير أبي الليث، نصر بن محمد الفقيه السمرقندي الحنفي، وهو كتاب لطيف مشهور مفيد، خرج أحاديثه الشيخ زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفى سنة 854 هـ» (¬4). ¬

_ (¬1) ابن تيمية، مقدمته في أصول التفسير ص 57. (¬2) السيوطي: بغية الوعاة ص 295. وانظر أيضا مقالات أخرى لابن عطية، ابن خلدون، المقدمة ص 439، محمد الفاضل بن عاشور، التفسير ورجاله ص 376 وما بعدها. (¬3) طبقات المفسرين للداودي ص 327. (¬4) كشف الظنون 1/ 234.

4 - الثعلبي: ( ... - 427 هـ).

وتفسيره (بحر العلوم) مخطوط في ثلاث مجلدات كبار، وموجود بدار الكتب المصرية، وتوجد منه نسختان مخطوطتان بمكتبة الأزهر واحدة في مجلدين والأخرى في ثلاثة مجلدات. وقد قدم السمرقندي تفسيره بباب في الحث على طلب التفسير. وبيان فضله، واستشهد على ذلك بروايات عن السلف، رواها بإسناده إليهم، ثم بيّن أنه لا يجوز لأحد أن يفسر القرآن برأيه من ذات نفسه ما لم يتعلم أو يعرف وجوه اللغة وأحوال التنزيل، واستدل على حرمة التفسير بمجرد الرأي بأقوال رواها عن السلف بإسناده إليهم أيضا، ثم بين أن الرجل إذا لم يعلم وجوه اللغة وأحوال التنزيل فليتعلم التفسير ويتكلف بحفظه، ولا بأس بذلك على سبيل الحكاية ... وبعد أن فرغ من المقدمة بدأ بالتفسير. والسمرقندي يفسر القرآن بالمأثور عن السلف، فيسوق الروايات عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم في التفسير، ولكنه لا يذكر إسناده إلى من يروي عنهم إلا نادرا، ثم إنه لا يتعقب الروايات المختلفة ولا يرجح بينها- كما يفعل ابن جرير- إلا نادرا، وهو يعرض للقراءات لكن بقدر (¬1). كما أنه يحتكم إلى اللغة أحيانا، ويشرح القرآن بالقرآن إن وجدت آية شارحة لأخرى، ويروي القصص القرآني ولكن بقلة ودون تعقيب، ومن الجدير بالذكر أنه يذكر بعض الإشكالات على ظاهر النص ثم يجيب عنها، ثم يعرض ما يوهم الاختلاف والتناقض في القرآن ويزيل هذا الإيهام. أي أن الكتاب مفيد في ذاته، وجامع للتفسير بالرواية والتفسير بالدراية لكن الرواية تغلب الدراية فيه ولهذا يعد من كتب التفسير بالمأثور. 4 - الثعلبي: ( ... - 427 هـ). هو أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المقرئ المفسر، كان حافظا واعظا، رأسا في التفسير والعربية، متين الديانة، قال ابن خلكان: «كان أوحد زمانه في علم التفسير، وصنف التفسير الكبير الذي فاق غيره من التفاسير» (¬2) وقال ¬

_ (¬1) انظر تفسير الآية 124 من سورة البقرة. (¬2) وفيات الأعيان 1/ 37 - 38.

التعريف بتفسيره"الكشف والبيان عن تفسير القرآن" وطريقته في التفسير:

ياقوت في معجم الأدباء: «أبو إسحاق الثعلبي المقرئ، المفسر، الواعظ، الأديب، الثقة، الحافظ، صاحب التصانيف الجليلة: من التفسير الحاوي أنواع الفرائد من المعاني والإشارات، وكلمات أرباب الحقائق، ووجوه الإعراب والقراءات .. » (¬1) وله من المؤلفات كتاب العرائس في قصص الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، ونقل السمعاني عن بعض العلماء أنه يقال له: الثعلبي والثعالبي، وهو لقب له وليس بنسب، وذكره عبد الغفار الفارسي في كتاب سياق تاريخ نيسابور وأثنى عليه وقال: هو صحيح النقل موثوق به. حدث عن أبي طاهر بن خزيمة، والإمام أبي بكر بن مهران المقرئ، وعنه أخذ الواحدي التفسير وأثنى عليه، وكان كثير الحديث كثير الشيوخ، ولكن من العلماء من يرى أنه لا يوثق به، ولا يصح نقله، وسيأتي ذلك عند الحديث عن تفسيره. وتوفي رحمه الله سنة 427 هـ. التعريف بتفسيره «الكشف والبيان عن تفسير القرآن» وطريقته في التفسير: بدأ الثعلبي تفسيره بمقدمة أوضح فيها منهجه وطريقته التي سلكها في التفسير، فذكر اختلافه منذ الصغر إلى العلماء، واجتهاده في الاقتباس من علم التفسير الذي هو أساس الدين ورأس العلوم الشرعية، وقد صنف مفسري القرآن على فرق على طرق مختلفة: 1 - فرقة أهل البدع والأهواء، وعد منهم الجبائي والرماني. 2 - وفرقة من ألفوا فأحسنوا، إلا أنهم خلطوا أباطيل المبتدعين بأقاويل السلف الصالحين، وعد منهم أبا بكر القفال. 3 - وفرقة اقتصر أصحابها على الرواية والنقل دون الدراية والنقد، وعد منهم أبا يعقوب الحنظلي. 4 - وفرقة حذفت الإسناد الذي هو الركن والعماد، ونقلت من الصحف والدفاتر، وحررت على هوى الخواطر، وذكرت الغث والسمين، والواهي والمتين. قال: وليسوا في عداد العلماء، فصنت الكتاب عن ذكرهم. ¬

_ (¬1) معجم الأدباء 5/ 37.

5 - وفرقة حازوا قصب السبق، في جودة التصنيف والحذق، غير أنهم طوّلوا في كتبهم بالمعادات، وكثرة الطرق والروايات وعد منهم ابن جرير الطبري. 6 - وفرقة جردت التفسير دون الأحكام، وبيان الحلال والحرام، والحل عن الغوامض والمشكلات، والرد على أهل الزيغ والشبهات، كمشايخ السلف الماضين، كمجاهد والسدي والكلبي .. ثم بين أنه لم يعثر في كتب من تقدمه على كتاب جامع مهذب يعتمد عليه، ثم ذكر ما كان من رغبة الناس إليه في إخراج كتاب في تفسير القرآن وإجابته لمطلوبهم، رعاية منه لحقوقهم، وتقربا به إلى الله ... ووصف كتابه بأنه شامل، مهذب، ملخص، مفهوم، منظوم، مستخرج من زهاء مائة كتاب مجموعات مسموعات، سوى ما التقطه من الأجزاء والتعليقات وما تلقفه من المشايخ الأثبات .. ثم قال: وخرجت فيه الكلام على أربعة عشر نحوا: البسائط والمقدمات، والعدد والتنزلات، والعربية واللغات، والإعراب والموازنات، والتفسير والتأويلات، والمعاني والجهات، والغوامض والمشكلات، والأحكام والفقهيات، والحكم والإشارات، والفضائل والكرامات، والأخبار والمتعلقات، أدرجتها في أثناء الكتاب بحذف الأبواب وسميته: كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن ... ثم ذكر في أول الكتاب أسانيده إلى من يروي عنهم التفسير من علماء السلف واكتفى بذلك ولم يذكرها خلال الكتاب، كما ذكر أسانيده إلى مصنفات أهل عصره، وكتب الغريب والمشكل والقراءات، ثم ذكر بابا في فضائل القرآن وأهله، وبابا في معنى التفسير والتأويل ثم شرع في التفسير. وتفسيره (الكشف والبيان) مخطوط بمكتبة الأزهر لكنه غير كامل موجود في أربعة مجلدات ضخام ينتهي آخرها بأواخر سورة الفرقان والباقي مفقود. وقد قام المؤلف بالتفسير بما جاء عن السلف مع اختصاره للأسانيد، اكتفاء بذكرها في مقدمة الكتاب، وإنه يخوض في المسائل النحوية بتوسع ظاهر كتوسعه على «نعم وبئس» في القرآن الكريم، ويقوم بشرح الكلمات اللغوية وأصولها وتصاريفها، ويستشهد بالشعر على ما يقول كتحليله لكلمة (ينعق) في قوله تعالى:

موقفه من الإسرائيليات:

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً .. [البقرة: 171]. ثم إنه يتوسع في الكلام عن الأحكام الفقهية عند ما يتناول آية من آيات الأحكام، فيذكر الأقوال والخلافات والأدلة إلى درجة يخرج فيها عن مراد الآية، كتفسيره لقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] تجده يفيض في الكلام عما يفعل بتركة الميت بعد موته، ثم يذكر جملة الورثة ونصيب كل وارث منهم، ثم يقول بعد هذا: فصل في بساط الآية، وفيه يتكلم عن نظام الميراث في الجاهلية قبل مبعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم. موقفه من الإسرائيليات: يمتاز هذا التفسير بالتوسع الكبير في ذكر الإسرائيليات دون تعقب من مؤلفه بشيء من ذلك، أو دون تنبيه إلى ما فيه من استبعاد وغرابة، وهذا يظهر أن الثعلبي كان مولعا بالأخبار والقصص إلى درجة كبيرة، وهو قد ألف كتابا في قصص الأنبياء كقصة أصحاب الكهف وروايته عن السدي ووهب وكعب الأحبار وإتيانه بما لا يعقل من قصتهم. وجدير بالذكر أن الثعلبي لم يتحر الصحة في كل ما ينقل عن السلف، وقد لاحظ عليه السيوطي في الإتقان أنه يكثر الرواية عن السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬1). والثعلبي يذكر في تفسيره الكثير من الأحاديث الموضوعة خصوصا في فضائل السور، فهو يذكر في نهاية كل سورة حديثا أو اثنين في فضائلها، وهذا يدل على أن الثعلبي لم يكن له باع في معرفة صحيح الأخبار من سقيمها. وهذا كله (كثرة الإسرائيليات والإتيان بالأحاديث الموضوعة .. ) قد أتى على الثعلبي باللوم والنقد له ولكتابه. يقول ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير: «والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب ¬

_ (¬1) الإتقان في علوم القرآن 2/ 189.

5 - ابن كثير: (700 - 774 هـ):

التفسير من صحيح وضعيف وموضوع» (¬1) وقال الكتاني في الرسالة المستطرفة عند الكلام عن الواحدي المفسر: «ولم يكن له ولا لشيخه الثعلبي كبير بضاعة في الحديث، بل في تفسيرهما- وخصوصا الثعلبي- أحاديث موضوعة وقصص باطلة» (¬2). والحق كذلك أنه قليل بضاعة في الحديث، بل لا يكاد الثعلبي يميز بين الحديث الموضوع من غير الموضوع، وإلا لما روى أحاديث الشيعة الموضوعة على علي وعلى أهل البيت، وغيرها مما اشتهر وضعه. والعجيب من الثعلبي أنه يعيب كل كتب التفسير الأخرى حتى كتاب الطبري، وادعى في مقدمته أنه لم يعثر على كتاب جامع مهذب يعتمد عليه، ولكنه لم يستطع أن ينتج هذا الجامع المهذب كما وصف كتابه في المقدمة. 5 - ابن كثير: (700 - 774 هـ): هو الإمام الجليل الحافظ، عماد الدين، أبو الفداء، إسماعيل بن عمرو بن كثير ابن ضوء بن كثير بن زرع البصري ثم الدمشقي الفقيه الشافعي، قدم دمشق وله سبع سنين مع أخيه بعد موت أبيه، سمع من ابن الشحنة، والآمدي، وابن عساكر، كما لازم المزي وقرأ عليه تهذيب الكمال، وصاهره، وأخذ عن ابن تيمية، وفتن بحبه، وامتحن بسببه، واتبعه في كثير من آرائه. كان مولده سنة 700 هـ أو بعدها بقليل وتوفي في شعبان سنة 774 هـ ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية، وكان قد كف بصره في آخر عمره. مكانته العلمية: كان ابن كثير على مبلغ كبير من العلم، وقد شهد له العلماء بسعة علمه، وغزارة مادته، خصوصا في التفسير والحديث والتاريخ، قال عنه ابن حجر: «اشتغل بالحديث ¬

_ (¬1) ص 19. (¬2) ص 59.

التعريف بتفسيره (تفسير القرآن العظيم) وطريقته فيه:

مطالعة في متونه ورجاله، وجمع التفسير، وشرع في كتاب كبير في الأحكام لم يكمل، وجمع التاريخ الذي سماه البداية والنهاية، وعمل طبقات الشافعية، وشرع في شرح البخاري ... وكان كثير الاستحضار حسن المفاكهة، وسارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته، ولم يكن على طريق المحدثين في تحصيل العوالي، وتمييز العالي من النازل، ونحو ذلك من فنونهم، وإنما هو من محدثي الفقهاء، وقد اختصر مع ذلك كتاب ابن الصلاح وله فيه فوائد» وقال عنه الذهبي في المعجم المختص: «الإمام المفتي المحدث البارع، فقيه متفنن، محدث متقن، مفسر نقال، وله تصانيف مفيدة» وقال ابن حبيب فيه: «زعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنف، وحدث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه في البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير» وقال فيه أحد تلاميذه ابن حجر: «أحفظ من أدركناه لمتون الحديث، وأعرفهم بجرحها ورجالها، وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي عليه إلا واستفدت منه». التعريف بتفسيره (تفسير القرآن العظيم) وطريقته فيه: تفسير ابن كثير من أشهر ما دوّن في التفسير بالمأثور، ويعتبر في هذه الناحية الكتاب الثاني بعد كتاب ابن جرير، اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف، ففسر فيه كلام الله تعالى بالأحاديث والآثار مسندة إلى أصحابها، مع الكلام عما يحتاج إليه جرحا وتعديلا، وتفسيره مطبوع في أربعة أجزاء كبار، وصدرت أخيرا طبعة محققة في ثمانية أجزاء (¬1). وقد قدم له مؤلفه بمقدمة طويلة هامة، تعرض فيها لكثير من الأمور التي لها تعلق واتصال بالقرآن وتفسيره، ولكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية، الذي ذكره في مقدمته في أصول التفسير. ¬

_ (¬1) صدرت الطبعة المحققة الطبعة الأولى 1418 هـ- 1997 م، عن دار طيبة للنشر والتوزيع، تحقيق سامي بن محمد السلامة.

موقفه من الإسرائيليات:

أما طريقة مؤلفه في التفسير فإنه يذكر الآية، ثم يفسرها بعبارة سهلة موجزة، وإن أمكن توضيح الآية بآية أخرى ذكرها، وقارن بين الآيتين، حتى يتبين المعنى ويظهر المراد، وهو شديد العناية بهذا النوع من التفسير الذي يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، وهذا الكتاب أكثر ما عرف من كتب التفسير سردا للآيات المتناسبة في المعنى الواحد. ثم بعد أن يفرغ من هذا كله، يشرع في سرد الأحاديث المرفوعة التي تتعلق بالآية، ويبين ما يحتج به وما لا يحتج به منها، ثم يردف هذا بأقوال الصحابة والتابعين ومن يليهم من علماء السلف. ونجد ابن كثير يرجح بعض الأقوال على بعض، ويضعف بعض الروايات، ويصحح بعضا آخر منها، ويعدل بعض الرواة ويجرح بعضا آخر، وهذا يرجع إلى ما كان عليه من المعرفة بفنون الحديث وأحوال الرجال. وكثيرا ما نجد ابن كثير ينقل من تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وتفسير ابن عطية، وغيرهم ممن تقدمه. موقفه من الإسرائيليات: ما يمتاز به ابن كثير في تفسيره أنه ينبه إلى ما فيه من الإسرائيليات، ويحذر منها على وجه الإجمال تارة، وعلى وجه التعيين والبيان لبعض منكراتها تارة أخرى. ومثال ذلك تفسيره لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .. [البقرة: 67] إلى آخر الآيات نراه يقص لنا قصة طويلة وغريبة عن طلبهم للبقرة المخصوصة، وعن وجودهم لها عند رجل من بني إسرائيل كان من أبر الناس بأبيه ... إلخ، ويروي كل ما قيل في ذلك عن بعض علماء السلف ... ثم بعد أن يفرغ من هذا كله يقول ما نصه: «وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم فيها اختلاف، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها ولكن لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا. والله أعلم» (¬1). ¬

_ (¬1) ج 1 ص 108 - 110.

6 - الثعالبي: ( ... - 876 هـ).

أما المناقشات الفقهية فإن ابن كثير يذكر أقوال العلماء وأدلتهم عند ما يشرح آية من آيات الأحكام، وإن شئت أن ترى مثالا لذلك فارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185] فإنه ذكر أربع مسائل تتعلق بهذه الآية، وذكر أقوال العلماء فيها، وأدلتهم على ما ذهبوا إليه. وهكذا سائر الآيات كآيات الطلاق والمواريث ... إلخ. وبالجملة، فإن هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور وقد شهد له بعض العلماء، فقال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ، والزرقاني في شرح المواهب: إنه لم يؤلف على نمطه مثله (¬1). 6 - الثعالبي: ( ... - 876 هـ). مؤلف الجواهر الحسان في تفسير القرآن، هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف، الثعالبي، الجزائري، المغربي، المالكي، العالم العامل، الزاهد الورع، ولي الله الصالح العارف بالله، كان من أولياء الله المعرضين عن الدنيا وأهلها، ومن خيار عباد الله الصالحين قال ابن سلامة البكري: كان شيخنا الثعالبي رجلا صالحا، زاهدا عالما، عارفا، وليا من أكابر الأولياء، وبالجملة فقد اتفق الناس على صلاحه وإمامته، وأثنى عليه جماعة من شيوخه بالعلم والدين والصلاح، كالإمام الأبيّ، والولي العراقي، وغيرهما. وقد عرّف هو بنفسه في مواضع من كتبه، وبيّن أنه رحل من الجزائر لطلب العلم في آخر القرن الثامن، فدخل بجاية ثم تونس، ثم رحل إلى مصر ثم رجع إلى تونس، ويقول هو: لم يكن بتونس يومئذ من يفوتني في علم الحديث، إذا تكلمت أنصتوا وقبلوا ما أرويه، تواضعا منهم وإنصافا، واعترافا بالحق، وكان بعض المغاربة يقول لي لما قدمت من المشرق: أنت آية في علم الحديث، وذكر كل شيوخه الذين سمع منهم في تلك البلاد. وكان إماما علامة مصنفا، خلف للناس كتبا كثيرة نافعة، منها: الجواهر الحسان في تفسير القرآن، وكتاب الذهب الإبريز في غرائب القرآن العزيز، وتحفة الإخوان في ¬

_ (¬1) الرسالة المستطرفة، الكتاني ص 146.

التعريف بتفسيره (الجواهر الحسان) وطريقته فيه:

إعراب بعض آيات القرآن، وكتاب جامع الأمهات في أحكام العبادات، وغير ذلك من الكتب النافعة في نواح علمية مختلفة. وتوفي سنة 876 هـ أو في أواخر التي قبلها على نحو تسعين سنة، ودفن بمدينة الجزائر. رحمه الله ورضي عنه. التعريف بتفسيره (الجواهر الحسان) وطريقته فيه: لقد عرف الثعالبي تفسيره في مقدمته حيث قال: «فإني قد جمعت لنفسي ولك في هذا المختصر ما أرجو أن يقر الله به عيني وعينك في الدارين، فقد ضمنته بحمد الله المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية، وزدته فوائد جمة، من غيره من كتب الأئمة، وثقات أعلام هذه الأمة، حسبما رأيته أو رويته عن الأثبات، وذلك قريب من مائة تأليف، وما فيها تأليف إلا وهو لإمام مشهور بالدين ومعدود في المحققين، وكل ما نقلت فيه عن المفسرين شيئا فمن تأليفه نقلت، وعلى لفظ صاحبه عولت، ولم أنقل شيئا من ذلك بالمعنى خوف الوقوع في الزلل، وإنما هي عبارات وألفاظ لمن أعزوها إليه، وما انفردت بنقله عن الطبري، فمن اختصار الشيخ أبي عبد الله محمد ابن عبد الله بن أحمد اللخمي النحوي لتفسير الطبري نقلت، لأنه اعتنى بتهذيبه». ثم يبين رموز الكتاب فيقول: «وكل ما في آخره انتهى، فليس هو من كلام ابن عطية، بل ذلك مما انفردت بنقله عن غيره، ومن أشكل عليه لفظ في هذا المختصر فليراجع الأمهات المنقول عنها فليصلحه منها، ولا يصلحه برأيه وبديهة عقله فيقع في الزلل من حيث لا يشعر. وجعلت علامة التاء لنفسي بدلا من قلت، ومن شاء كتبها قلت، وأما العين فلابن عطية. وما نقلته من الإعراب من غير ابن عطية فمن الصفاقسي مختصر أبي حيان غالبا، وجعلت الصاد علامة عليه، وربما نقلت عن غيره معزوا لمن عنه نقلت. وكل ما نقلته عن أبي حيان- وإنما نقلي له بواسطة الصفاقسي- أقول: قال الصفاقسي، وجعلت علامة ما زدته على أبي حيان (م) وما يتفق لي إن أمكن فعلامته (قلت)». وبالجملة فحيث أطلق فالكلام لأبي حيان. ثم قال: «وما نقلته من الأحاديث الصحاح والحسان من غير البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي في باب الأذكار والدعوات، فأكثره من النووي وسلاح المؤمن. وفي الترغيب والترهيب، وأحوال

الآخرة، فمعظمه من التذكرة للقرطبي والعاقبة لعبد الحق. وربما زدت زيادة كثيرة من مصابيح البغوي وغيره، كما سنقف إن شاء الله تعالى على ذلك معزوا لمحاله. وبالجملة فكتابي هذا محشو بنفائس الحكم، وجواهر السنن الصحيحة والحسان، المأثورة عن سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وسميته بالجواهر الحسان في تفسير القرآن .. » ثم نقل كثيرا مما جاء في مقدمة تفسير ابن عطية، فذكر بابا في فضل القرآن، وبابا في فضل تفسير القرآن وإعرابه، وفصلا فيما قيل في الكلام فيه، والجرأة عليه، ومراتب المفسرين، وفصلا في اختلاف الناس في معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» وفصلا في ذكر الألفاظ التي في القرآن مما للغات العجم بها تعلق، وبابا في تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية ... ثم شرع في التفسير وفي كل ما تقدم يعتمد على ابن عطية وينقل عنه. وفي خاتمة التفسير يقول: «وقد أودعته بحمد الله جزيلا من الدرر، وقد استوعبت بحمد الله مهمات ابن عطية، وأسقطت كثيرا من التكرار وما كان من الشواذ في غاية الوهي، وزدت من غيره جواهر ونفائس لا يستغنى عنها، مميزة معزوة لمحالها، منقولة بألفاظها، وتوخيت في جميع ذلك الصدق والصواب». يتضح من كلام الثعالبي أن تفسيره مختصر لتفسير ابن عطية، مع زيادة نقول نقلها الثعالبي عمن سبقه من المفسرين، أي ليس له بعد الجمع والترتيب إلا عمل قليل، وأثر فكري ضئيل. والثعالبي يتعرض للقراءات أحيانا، ويدخل في الصناعة النحوية ناقلا عمن ذكره ومن عند نفسه، ويستشهد في بعض المواضع بالشعر العربي على المعنى الذي يذكره، وهو إذ يذكر الروايات المأثورة في التفسير يذكرها دون سنده إلى من يروي عنه، ويذكر الثعالبي بعض الروايات الإسرائيلية، ولكنه يتعقب ما يذكره بما يفيد عدم صحته أو على الأقل بما يفيد عدم القطع بصحته، مثال ذلك تفسيره لقوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ [النمل: 20] نجده يذكر بعض الأخبار الإسرائيلية ثم يقول بعد الفراغ منها «والله أعلم بما صح من ذلك». وجملة القول، فإن الكتاب مفيد، جامع لخلاصات كتب مفيدة، وليس فيه ما في غيره من الحشو المخل، والاستطراد الممل.

7 - السيوطي: (849 - 911 هـ):

7 - السيوطي: (849 - 911 هـ): هو الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الشافعي، المسند المحقق، صاحب المؤلفات الفائقة النافعة. ولد في رجب سنة 849 هـ وتوفي والده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر، وأسند وصايته إلى جماعة، منهم الكمال بن الهمام، فقرره في وظيفة الشيخونية ولحظه بنظره، وختم القرآن وله من العمر ثمان سنين، وحفظ كثيرا من المتون، وأخذ عن شيوخ كثيرين، عدهم تلميذه الداودي فبلغ بهم واحدا وخمسين، كما عد مؤلفاته فبلغ بها ما يزيد على الخمس مائة مؤلف وشهرة مؤلفاته تغني عن ذكرها، فقد اشتهر شرقا وغربا ورزقت قبول الناس. وكان السيوطي آية في سرعة التأليف حتى قال تلميذه الداودي: عاينت الشيخ وقد كتب في يوم واحد ثلاثة كراريس تأليفا وتحريرا. وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه رجالا، وغريبا، ومتنا، وسندا، واستنباطا للأحكام. ولقد أخبر عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث، قال: ولو وجدت أكثر لحفظت، ولما بلغ الأربعين سنة تجرد للعبادة، وانقطع إلى الله تعالى، وأعرض عن الدنيا وأهلها، وترك الإفتاء والتدريس، واعتذر عن ذلك في مؤلف سماه بالتنفيس، وأقام في روضة المقياس ولم يتحول عنها إلى أن مات، وله مناقب وكرامات كثيرة، وله شعر كثير جيد، أغلبه في الفوائد العلمية، والأحكام الشرعية. وتوفي في سحر ليلة الجمعة التاسع عشر من جمادى الأولى سنة 911 هـ في منزله بروضة المقياس، فرضي الله عنه وأرضاه (¬1). التعريف بتفسيره (الدر المنثور في التفسير المأثور): عرّف الجلال السيوطي نفسه هذا التفسير، وبيّن الحامل له على تأليفه، في آخر كتابه (الإتقان) ومقدمة (الدر المنثور) نفسه، فقال في آخر (الإتقان): «وقد جمعت كتابا مسندا فيه تفاسير النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيه بضعة عشر الف حديث، ما بين مرفوع وموقوف، وقد تم ولله الحمد في أربعة مجلدات، وسميته (ترجمان القرآن)» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في شذرات الذهب ج 8 ص 51 - 55. (¬2) ج 2 ص 183.

منهجه في التفسير:

وقال في مقدمة الدر المنثور: « ... وبعد، فلما ألفت كتاب ترجمان القرآن- وهو التفسير المسند عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وتم بحمد الله في مجلدات، فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرجة منها واردات (¬1)، رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله، ورغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث دون الإسناد وتطويله، فلخصت منه هذا المختصر، مقتصرا فيه على متن الأثر، مصدرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر، وسميته بالدر المنثور في التفسير المأثور .. » (¬2). منهجه في التفسير: يقول السيوطي في آخر الإتقان: «وقد شرعت في تفسير جامع لجميع ما يحتاج إليه من التفاسير المنقولة، والأقوال المعقولة، والاستنباطات والإشارات، والأعاريب واللغات، ونكت البلاغة ومحاسن البدائع وغير ذلك، بحيث لا يحتاج معه إلى غيره أصلا، وسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين، وهو الذي جعلت هذا الكتاب- أي الإتقان- مقدمة له» (¬3). ومن هذه العبارة يتبين لنا أن كتاب (مجمع البحرين ومطلع البدرين) يشبه في منهجه وطريقته- إلى حد كبير- تفسير ابن جرير الطبري ولكن لا ندري إذا كان السيوطي قد أتم هذا التفسير أم لا، ويظهر لنا أنه لا صلة بينه وبين كتاب الدر المنثور، ذلك لأن الدر المنثور لا يتعرض فيه السيوطي مطلقا لما ذكره من منهجه في مجمع البحرين ومطلع البدرين، فلا استنباط ولا إعراب، ولا نكات بلاغية، ولا محسنات بديعية، ولا شيء مما ذكر أنه سيعرض له في مجمع البحرين ومطلع البدرين، وكل ما فيه هو سرد الروايات عن السلف دون تعقّب، فلا يعدّل ولا يجرّح، ولا يضعّف ولا يصحّح، فهو كتاب جامع فقط لما يروى عن السلف في التفسير، أخذه السيوطي من البخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وأحمد، وأبي داود، ¬

_ (¬1) أي طرقا كثيرة. (¬2) ج 1 ص 2. (¬3) ج 2 ص 190.

ثانيا - التفسير بالرأي والدراية

وابن جرير، وابن أبي حاتم وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وغيره ممن تقدمه ودوّن التفسير. والسيوطي رجل مغرم بالجمع وكثرة الرواية، وهو مع جلالة قدره، ومعرفته بالحديث وعلله، لم يتحرّ الصحة فيما جمع في هذا التفسير، وإنما خلط فيه بين الصحيح والعليل، فالكتاب يحتاج إلى تصفية حتى يتميز لنا غثه من سمينه، وهو مطبوع في ستة مجلدات، ومتداول بين أهل العلم. ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى أن كتاب الدر المنثور، هو الكتاب الوحيد الذي اقتصر على التفسير المأثور بين هذه الكتب التي تكلمنا عنها فلم يخلط بالروايات التي نقلها شيئا من عمل الرأي كما فعل غيره. وإنما اعتبرنا كل هذه الكتب من كتب التفسير المأثور، نظرا لما امتازت به عما عداها من الإكثار في النقل، والاعتماد على الرواية، وما كان وراء ذلك من محاولات تفسيرية عقلية، أو استطرادات إلى نواح تتصل بالتفسير، فذلك أمر يكون ثانويا بالنسبة لما جاء فيها من روايات عن السلف في التفسير. ثانيا- التفسير بالرأي والدراية هو تفسير القرآن بحسب اجتهاد المفسرين ومعارفهم في اللغة والأصول غيرها. وجلّ كتب التفسير من هذا النوع مثل الكشاف للزمخشري، وتفسير البيضاوي والنسفي والقرطبي. أهم كتب التفسير بالرأي: لئن اعتبر العلماء تفسير ابن جرير بأنه أمّا في التفسير بالمأثور، فإن تفسير الزمخشري أمّا في التفسير بالرأي، مع خلاف في الاتجاه المذهبي لكل منهما. 1 - أما الزمخشري فهو فارس اللغة والبلاغة، وقد وضع بذورا في التفسير بالرأي، كان لها الأثر الواضح والبصمات الظاهرة في كثير من المفسرين، الرازي، والبيضاوي، وأبي السعود، والنسفي، وأبي حيان الذي وصف الزمخشري بأنه

1 - الزمخشري (467 - 538 هـ):

أوتي من علوم القرآن بأوفر حظ، على الرغم من هجومه وهجوم المفسرين على اعتزالياته التي تعصب لها بشكل عجيب، متجاوزا كل قواعد اللغة والبلاغة، بل خلع الأدب وراء انحرافاته ونزعاته. 1 - الزمخشري (467 - 538 هـ): هو أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي، الإمام الحنفي المعتزلي، الملقب بجار الله. ولد في رجب سنة 467 هـ بزمخشر، قرية من قرى خوارزم، وقدم بغداد، ولقي الكبار وأخذ عنهم، دخل خراسان مرارا عديدة. وما دخل بلدا إلا واجتمع عليه أهلها وتتلمذوا له، وما ناظر أحدا إلا وسلم له واعترف به، ولقد عظم صيته وطار ذكره حتى صار إمام عصره من غير مدافعة. وليس عجيبا أن يحظى الزمخشري بكل هذا وهو الإمام الكبير في التفسير، والحديث، والنحو، واللغة والأدب، وصاحب التصانيف البديعة في شتى العلوم، ومن أجلّ مصنفاته: كتابه في تفسير القرآن العزيز الذي لم يصنف قبله مثله المسمى (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل)، والمحاجاة في المسائل النحوية، والمفرد والمركب في العربية، والفائق في تفسير الحديث، وأساس البلاغة في اللغة، والمفصل في النحو، ورءوس المسائل في الفقه ... وغيرها كثير. قال صاحب وفيات الأعيان: «كان الزمخشري معتزلي الاعتقاد، متظاهرا باعتزاله، حتى نقل عنه: أنه إذا كان قصد صاحبا له واستأذن عليه في الدخول يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له: أبو القاسم المعتزلي بالباب. وأول ما صنف كتاب الكشاف كتب استفتاح الخطبة «الحمد لله الذي خلق القرآن» فيقال: إنه قيل له: متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس ولا يرغب أحد فيه، فغيره بقوله: «الحمد لله الذي جعل القرآن» وجعل عندهم بمعنى خلق، والبحث في ذلك يطول. وفي كثير من النسخ «الحمد لله الذي أنزل القرآن» وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنف». وكانت وفاة الزمخشري رحمه الله ليلة عرفة سنة 538 هـ بجرجانية خوارزم بعد رجوعه من مكة، ورثاه بعضهم بأبيات من جملتها:

التعريف بتفسيره (الكشاف) وطريقته فيه:

فأرض مكة ندّى الدمع مقلتها ... حزنا لفرقة جار الله محمود التعريف بتفسيره (الكشاف) وطريقته فيه: الكشاف- بصرف النظر عما فيه من الاعتزال- تفسير لم يسبق مؤلفه إليه، لما أبان فيه من وجوه الإعجاز في غير ما آية من القرآن، ولما أظهر فيه من جمال النظم القرآني وبلاغته، وليس كالزمخشري من يستطيع أن يكشف لنا عن جمال القرآن وسحر بلاغته، لما برع فيه من المعرفة بكثير من العلوم. لا سيما ما برز فيه من الإلمام بلغة العرب، والمعرفة بأشعارهم. وما امتاز به من الإحاطة بعلوم البلاغة والبيان والإعراب والأدب، ولقد أضفى هذا النبوغ العلمي والأدبي على تفسير الكشاف ثوبا جميلا، لفت إليه أنظار العلماء وعلق به قلوب المفسرين. هذا وقد أحسّ الزمخشري إحساسا قويا بضرورة الإلمام بعلمي المعاني والبيان قبل كل شيء، لمن يريد أن يفسر كتاب الله عز وجل، وجهر بذلك في مقدمة الكشاف فقال: « ... ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سبكها، علم التفسير، الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم- كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن- فالفقيه وإن برّز على الأقران في علم الفتوى والأحكام، والمتكلم وإن بزّ أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرّية (¬1) أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما: علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله، بعد أن يكون آخذا من سائر ¬

_ (¬1) القرّية: بكسر القاف وتشديد الراء المسكورة، أحد فصحاء العرب، واسمه أيوب والقرية اسم أمه.

اهتمام الزمخشري بالناحية البلاغية للقرآن:

العلوم بحظ، جامعا بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زماننا ورجع إليه، وردّ وردّ عليه، فارسا في علم الإعراب، مقدما في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها، يقظان النفس، دراكا للمحة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لا كزا جاسيا، ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتاضا غير ريض بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقة ووقع في مداحضه ومزالقه». ولما علم الزمخشري أن كتابه قد تحلى بهذه الأوصاف قال متحدثا بنعمة الله: إن التفاسير في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثل كشافي إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافي وإذا كان الزمخشري قد اعتز بكشافه، وبلغ إعجابه به إلى حدّ يقول فيه ما قال من تقريظ له، وإطراء عليه، فإنا نعذره في ذلك ولا نلومه عليه، فالكتاب وحد في بابه، وعلم شامخ في نظر علماء التفسير وطلابه، ولقد اعترف له خصومه بالبراعة وحسن الصناعة، وإن أخذوا عليه بعض المآخذ التي يرجع أغلبها إلى ما فيه من ناحية الاعتزال. اهتمام الزمخشري بالناحية البلاغية للقرآن: عند ما يلقي الإنسان نظرة فاحصة على العمل التفسيري الذي قام به العلامة الزمخشري في كشافه، يظهر لنا من أول وهلة أن المبدأ الغالب عليه في جهوده التفسيرية، كان في تبيين ما في القرآن من الثروة البلاغية التي كان لها كبير الأثر في عجز العرب عن معارضته والإتيان بأقصر سورة من مثله، والذي يقرأ ما أورده الزمخشري عند تفسيره لكثير من الآيات من ضروب الاستعارات والمجازات، والأشكال البلاغية الأخرى، يرى أن الزمخشري كان يحرص كل الحرص على أن يبرز في حلة بديعة جمال أسلوبه وكمال نظمه، وإنما لا نكاد نقطع- إذا استعرضنا كتب التفسير وتأملنا مبلغ عنايتها باستخراج ما يحتويه القرآن من ثروة بلاغية في المعاني

والبيان- بأنه لا يوجد تفسير أوسع مجالا في جهوده في هذا الصدد من تفسير الزمخشري. ولقد كانت لعناية الزمخشري بهذه الناحية في تفسيره من الأثر بين المفسرين، وبين مواطنيه من المشارقة ما هو واضح بيّن. أما أثره بين المفسرين فإن كل من جاء بعده منهم- حتى من أهل السنة- استفادوا من تفسيره فوائد كثيرة كانوا لا يلتفتوا إليها لولاه، فأوردوا في تفسيرهم ما ساقه الزمخشري في كشافه من ضروب الاستعارات والمجازات والأشكال البلاغية الأخرى، واعتمدوا ما نبّه عليه الزمخشري من نكات بلاغية، تكشف عما دقّ من براعة نظم القرآن وحسن أسلوبه. ثم إنا نستعرض هذه الروح البلاغية التي تسود في تفسير الزمخشري فنشهدها واضحة من أول الأمر عند ما تكلم عن قوله تعالى من أول سورة البقرة: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] فبعد أن ذكر كل الاحتمالات التي تجوز في محل هذه الجملة من الإعراب، نبّه على أن الواجب على مفسر كلام الله تعالى أن يلتفت للمعاني ويحافظ عليها، ويجعل الألفاظ تبعا لها، فقال ما نصه: « ... والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا وأن يقال: إن قوله: الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، ذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية ولا رَيْبَ فِيهِ ثالثة وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ، رابعة، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة، وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ... وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة، بيان ذلك، أنه نبّه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرا لجهة التحدي، وشدا من أعضاده، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة ... ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله ... ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السري، من نكتة

مبدأ الزمخشري في التفسير عند ما يصادم النص القرآني مذهبه:

ذات جزالة، ففي الأولى: الحذف، والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه، وفي الثانية: ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة: ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة: الحذف، وضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هاد، وإيراده منكرا، والإيجاز في ذكر المتقين. زادنا الله اطلاعا على أسرار كلامه، وتبيينا لنكت تنزيله، وتوفيقا للعمل بما فيه» (¬1). مبدأ الزمخشري في التفسير عند ما يصادم النص القرآني مذهبه: والمبدأ الذي يسير عليه الزمخشري في تفسيره ويعتمد عليه عند ما تصادمه آية تخالف مذهبه وعقيدته، هو حمل الآيات المتشابهة على الآيات المحكمة، وهذا المبدأ قد وجده الزمخشري في قوله تعالى من سورة آل عمران: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] (فالمحكمات) هي التي أحكمت عباراتها، بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه (والمتشابهات) هي المتشابهات المحتملات. (وأم الكتاب) هي أصله الذي يحمل عليه المتشابه، ويرد إليه، ويفسر به (¬2). على هذا التفسير جرى الزمخشري في كشافه عند ما تعرض لهذه الآية، وهو تفسير لا غبار عليه، كما أن هذا المبدأ: أعني مبدأ حمل الآيات المتشابهات على الآيات المحكمات، مبدأ سليم يقول به غير الزمخشري أيضا من علماء أهل السنة، ولكن الذي لا نسلمه للزمخشري هو تطبيقه لهذا المبدأ على الآيات التي تصادمه، فإذا مر بآية تعارض مذهبه، وآية أخرى في موضوعها تشهد له بظاهرها، نراه يدعي الاشتباه في الأولى والإحكام في الثانية، ثم يحمل الأولى على الثانية، وبهذا يرضي هواه المذهبي، وعقيدته الاعتزالية. وقد مثّل الزمخشري لحمل المتشابه على المحكم ورده إليه بقوله تعالى في الآية (103) من سورة الأنعام لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وقوله في الآيتين ¬

_ (¬1) الكشاف ج 1 ص 92 - 94. (¬2) الكشاف ج 1 ص 294.

انتصاره لعقائد المعتزلة:

(22، 23) من سورة القيامة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ 22 إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فهو يرى أن الآية الأولى محكمة والآية الثانية متشابهة، وعليه فيجب أن تكون الآية الثانية متفقة مع الآية الأولى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بحملها عليها، وردها إليها. انتصاره لعقائد المعتزلة: إن الزمخشري لينتصر لمذهبه الاعتزالي، ويؤيده بكل ما يملك من قوة الحجة وسلطان الدليل، وإنا لنلمس هذا التعصب الظاهر في كثير من النصوص، وهو يحرص كل الحرص على أن يأخذ من الآيات القرآنية ما يشهد لمذهبه، وعلى أن يتأول ما كان منها معارضا له. انتصاره لرأي المعتزلة في أصحاب الكبائر: فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء: 93] نجده يجعل لهذه الآية أهمية كبيرة في نصرة مذهبه، ويتيه بها على خصومه من أهل السنة، ويندد بهم حيث يقولون بجواز مغفرة الذنب وإن لم يتب منه صاحبه، وبأن صاحب الكبيرة لا يخلد في النار، فيقول مستغلا هذه الفرصة المواتية للاستهزاء من خصومه السنيين: «هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ، ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلا، وفي الحديث: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم» وفيه «لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه» وفيه «إن هذا الإنسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيانه» وفيه: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله» والعجب من قوم يقرءون هذه الآية ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، وقول ابن عباس بمنع التوبة، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير

انتصاره لمذهب المعتزلة في الحسن والقبح العقليين:

توبة أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] ثم ذكر الله سبحانه وتعالى التوبة في قتل الخطأ، لما عسى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ، فيه حسم للأطماع وأي حسم، ولكن لا حياة لمن تنادي، فإن قلت: هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل وهو تناول قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ أي قاتل كان، من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل، فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله» (¬1). انتصاره لمذهب المعتزلة في الحسن والقبح العقليين: ولما كان الزمخشري يقول بمبدإ المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين، كان لا بد له أن يتخلص من ظاهر هذين النصين المنافيين لمذهبه، وهما: قوله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] وقوله: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا .. [الإسراء: 15] فنراه في الأولى يستشعر معارضة ظاهر الآية لهذا المبدأ فيسأل هذا السؤال: «كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرف أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ ثم يجيب هو عن هذا السؤال فيقول: (قلت): الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد، مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف، وتعليم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة، وتتميما لإلزام الحجة، لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة، وينبهنا لما وجب الانتباه له» (¬2). وقد تركنا الكلام على النص الثاني خوف التطويل. حملة الزمخشري على أهل السنة: هذا، وإن المتتبع لما في الكشاف من الجدل المذهبي، ليجد أن الزمخشري قد مزجه في الغالب بشيء من المبالغة في السخرية والاستهزاء بأهل السنة، فهو لا يكاد ¬

_ (¬1) الكشاف ج 1 ص 381. (¬2) الكشاف ج 1 ص 398.

موقف الزمخشري من المسائل الفقهية:

يدع فرصة تمر دون أن يحقرهم ويرميهم بالأوصاف المقذعة، فتارة يسميهم المجبرة وأخرى يسميهم الحشوية، وثالثة يسميهم المشبهة، وأحيانا يسميهم القدرية، تلك التسمية التي أطلقها أهل السنة على منكري القدر، فرماهم بها الزمخشري لأنهم يؤمنون بالقدر، كما جعل حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي حكم فيه على القدرية أنهم مجوس هذه الأمة منصبا عليهم، وذلك حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى في الآية السابعة عشرة من سورة فصلت: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلّى الله عليه وسلّم- وكفى به شاهدا- إلا هذه الآية لكفى بها حجة (¬1). موقف الزمخشري من المسائل الفقهية: هذا، وإن الزمخشري- رحمه الله- يتعرض إلى حد ما، ودون توسع، إلى المسائل الفقهية التي تتعلق ببعض الآيات القرآنية وهو معتدل لا يتعصب لمذهبه الحنفي. فعند ما فسر قوله تعالى: .. إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ .. [البقرة: 237] قال: والذي بيده عقدة النكاح الولي، يعني إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة ما رآني، ولا خدمته، ولا استمتع بي، فكيف آخذ منه شيئا؟ أو يعفو الولي الذي يلي عقد نكاحهن، وهو مذهب الشافعي، وقيل: هو الزوج وعفوه أن يسوق إليها المهر كاملا، وهو مذهب أبي حنيفة، والأول ظاهر الصحة (¬2). موقف الزمخشري من الإسرائيليات: ثم إن الزمخشري مقل من ذكر الروايات الإسرائيلية، وما يذكره من ذلك، إما أن يصوره بلفظ (روي) المشعر بضعف الرواية وبعدها عن الصحة، وإما أن يفوض ¬

_ (¬1) الكشاف ج 2 ص 321. (¬2) الكشاف ج 1 ص 272.

2 - الرازي وتفسيره مفاتيح الغيب (543 - 606 هـ):

علمه إلى الله سبحانه، وهذا في الغالب يكون عند ذكره للروايات التي لا يلزم التصديق بها مساس بالدين، وإما أن ينبه على درجة الرواية ومبلغها من الصحة أو الضعف ولو بطريق الإجمال، وهذا في الغالب يكون عند الروايات التي لها مساس بالدين وتعلق به. فعند قوله تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً [القصص: 38] قال: روي أنه لما أمر ببناء الصرح، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيده حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، وكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه يبني، فبعث الله تعالى على جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك، ويروى في هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابه إلى السماء، فأراد الله أن يفتنهم، فردت إليه ملطوخة بالدم، فقال: قد قتلت إله موسى، فعندها بعث إليه جبريل عليه السلام لهدمه والله أعلم بصحته. فهذه القصة صدرها الزمخشري لفظ (روي) المشعر بضعفها، وعقب عليها بقوله (والله أعلم بصحته) مما يدل على أنه متشكك في صحة هذه الرواية، مع أن القصة لا مطعن فيها ولا مغمز من ورائها يلحق بالدين، ولهذا اكتفى الزمخشري بما ذكر في حكمه عليها. 2 - الرازي وتفسيره مفاتيح الغيب (543 - 606 هـ): هو فخر الدين محمد بن عمر بن الخطيب الرازي، عربي قرشي من سلالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ولد في الري، ونشأ في البلاد الأعجمية وعاش فيها، استقرت أسرته في طبرستان، نسب إلى مدينة الري. وكما نسب إليها أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص، وكذلك أبو بكر بن زكريا الرازي عالم الطب والكيمياء.

تنقل الرازي- إمام التفسير- في الري وخراسان وخيوة وبخارى والعراق والشام، ثم سكن أخيرا في هراة في أفغانستان ومات فيها عام 606 هـ. قال ابن خلكان: له اليد البيضاء باللسانين العربي والفارسي، برع في علوم كثيرة: علم التفسير والأصول والفقه والنحو والأدب، والفلسفة والطب والهندسة والفلك، ولكنه رأى أن أعظمها فائدة علوم القرآن والتفسير. منهجه في التفسير: لقد أثّرت علومه المكتسبة في رسم منهجه في التفسير: فعلمه في العلوم الرياضية والفلسفية والفلكية، قد جعلته يسهب في تفسير الآيات على ضوء هذه العلوم، فكثيرا ما نجده يرد على أقوال الفلاسفة والمتكلمين، وفي تفسير الآيات التي تتحدث عن النجوم تراه يتعرض لعلم الهيئة والفلك، وفي تفسير الآيات الكونية يتحدث عن العلوم الكونية بإسهاب لم تشهد له كتب التفسير مثيلا. وفي العلوم الشرعية: هو بحر في الأصول، فقد سبق وألف المحصول في علم الأصول وهذا ما نلحظه أحيانا في شرح قاعدة أصولية، بل يؤيد مذهبه الفقهي بالقواعد الأصولية. وهو عالم في الأدب والبلاغة، لذا نزع إلى إبراز هذا اللون تحت عنوان اللطائف القرآنية. وبالجملة فهو عالم في كل شيء، وضمن كتابه كل شيء، مما جعل بعض العلماء يصف تفسيره: «أن فيه كل شيء إلّا التفسير»، وقد دفع أبو حيان هذا القول وأنصفه قائلا: «جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير». والحق: أن تفسير الفخر فيه التفسير وفيه كل شيء. بقي أن نرد شبهة طالما أشكلت على العلماء قديما وحديثا: قال القاضي ابن شهبة: إن الفخر الرازي لم يتم تفسيره كما قال ذلك ابن خلكان في وفيات الأعيان (¬1). ¬

_ (¬1) شذرات الذهب 5/ 21، وفيات الأعيان 2/ 21.

3 - أبو حيان وتفسيره البحر المحيط:

وقد حكم ابن حجر أن الذي أكمل كتابه هو أحمد بن محمد المخزومي القمولي المتوفى سنة 727 هـ (¬1). ويرى صاحب كشف الظنون أن الرازي قد فسر القرآن إلى سورة الأنبياء (¬2). أما الذهبي فقد أشكل عليه هذا الأمر (¬3) واضطرب في أقواله. أما الشيخ محمد ابن عاشور فقد حسم وجزم ودلل على نسبة كتاب التفسير كاملا إلى الإمام الفخر. ولست بصدد استقصاء ذلك، فمن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب التفسير ورجاله للمؤلف المذكور. 3 - أبو حيان وتفسيره البحر المحيط: هو محمد بن يوسف ابن حيان الأندلسي الغرناطي، ولد بغرناطة سنة 654 هـ يكنى «أبو حيان» ويلقب في المشرق بأثير الدين (¬4). كانت له رحلات حصّل خلالها العلوم المختلفة، بعد أن تلقى أولويات علومه على شيوخ بلده، غادر الأندلس وتنقل في المغرب، ونزل مصر وأخذ عن علمائها، وتقدم في النحو ومسائله، وسمع الحديث في الإسكندرية، وقرأ كتاب سيبويه. أما شيوخه الذين أخذ عنهم في هذه المراكز العلمية المختلفة فيطول المقام بذكرهم، وقد ذكرهم المقري جميعا نقلا عن أبي حيان نفسه وغير واحد من العلماء وأصحاب الطبقات (¬5). مكانته العلمية: لقد أجمع المؤرخون الذين ترجموا لأبي حيان على أنه كان نحوي عصره ومفسره، ولغويه، ومحدثه، ومقرئه، وأديبه. ¬

_ (¬1) الدر الكامنة 1/ 304. (¬2) كشف الظنون 2/ 299. (¬3) التفسير والمفسرون 1/ 292. (¬4) ابن الخطيب، الإحاطة 3/ 43. (¬5) نفح الطيب 3/ 306، والداودي، طبقات المفسرين 2/ 286.

منهجه في تفسير البحر المحيط:

قال الداودي نقلا عن بعض تلاميذه: «لم أره إلّا يسمع أو يشغل أو يكتب أو ينظر في كتاب، وكان عارفا باللغة والنحو والتصريف، فهو الإمام المجتهد المطلق فيهما، خدم هذا الفن أكثر عمره، حتى صار لا يدركه أحد في أقطار الأرض. منهجه في تفسير البحر المحيط: يقع هذا التفسير في ثمان مجلدات ضخمة، ألفه احتسابا لوجه الله تعالى، كما صرح في مقدمته، ما لمخلوق بتأليفه قصدت، ولا غير وجه الله به أردت (¬1). وقد قدم أبو حيان لكتابه بمقدمة قيمة صرح فيها بأن أهم المعارف علم كتاب الله، وأن غيره من العلوم أدوات له، ثم رسم لنا طريقته في تفسيره خطوة خطوة. عنايته باللغة والنحو: إن الباحث في تفسير أبي حيان يلحظ طابع الاهتمام والعناية باللغة والنحو والصرف، ولا عجب في ذلك، فإن ثقافة أبي حيان اللغوية والنحوية الواسعة التي شهد له بها العلماء، هي التي طغت على تفسيره، وجعلته مميزا بين كتب التفسير في طابعه اللغوي. هذا بالإضافة إلى أن البحر المحيط كان آخر تآليفه، الذي عكف عليه بعد أن بلغ أوج نضجه العقلي، وذروة استعداده الفكري، عقب أن استقرت به الحال، وحلت به عصا الترحال في مصر، وعين مدرسا للنحو والتفسير في قبة السلطان الملك المنصور (¬2). والشواهد على اهتمامه في النحو أكثر من أن تحصى، ففي تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26]. قال: واختلف على نصب البعوضة على وجوه سبعة لا نطيل عليك بذكرها. ¬

_ (¬1) المقدمة 1/ 2. (¬2) مقدمة تفسيره 1/ 3.

عنايته بالقراءات المتواترة والشاذة:

ومما هو جدير بالذكر، أن أبا حيان كان كثيرا ما ينقل عن الزمخشري وابن عطية بخاصة في المسائل النحوية، لكنه كان كثيرا ما يتعقبهما وينقدهما، ولكثرة هذه التعقيبات قام تلميذه تاج الدين أحمد بن عبد القادر باختصار البحر المحيط في كتاب أسماه (الدر اللقيط من البحر المحيط)، اقتصر في معظمه على ردوده على ابن عطية والزمخشري. عنايته بالقراءات المتواترة والشاذة: لقد ركز أبو حيان على علم القراءات باعتبارها أداة يحتاجها المفسر في تفسيره، وركيزة يقوم عليها تفسير كتاب الله عز وجل لإظهار معانيه العظيمة، وما يشتمل عليه من دقيق الألفاظ وتناسبها، لقد صرح بذلك في مقدمة تفسيره، وهو يوضح ما يحتاجه المفسر إذا هو أقدم على هذه المهمة الخطيرة فقال: «الوجه السابع: اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص، أو تغيير حركة، أو إتيان لفظ بدل لفظ، وذلك بتواتر وآحاد، ويؤخذ هذا الوجه من علم القراءات» (¬1). لذلك، فإننا نجده، إلى جانب اهتمامه بالعلوم اللغوية والنحوية، يبدي اهتماما بالغا بالقراءات المتواترة ويعتبرها في درجة واردة ومستنكرا الترجيح. قال أبو حيان: (وهذا الترجيح الذي يذكره بين القراءتين لا ينبغي، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية وثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية فلا يمكن ترجيح قراءة على قراءة» (¬2). أما موقفه من الشاذ فإنه يتلخص في تضعيفها وردها والتنبيه عليها. اهتمامه بالأحكام الفقهية: لقد عرض أبو حيان للمسائل والأحكام الفقهية ولكن بقدر، فكان يذكر الأحكام الواردة في بعض الآيات، دون ذكر أدلة الأحكام، أو مناقشتها، أو ردها، أو ¬

_ (¬1) أبو حيان، البحر المحيط 1/ 7. (¬2) أبو حيان 2/ 265.

موقفه من الإسرائيليات والرد على الفرق:

ترجيحها، وإن كان ينوه بذلك أحيانا، على أنه كان يحيل القارئ لينظر هذه الأدلة والحجج في كتب الفقه ومصنفاته (¬1). موقفه من الإسرائيليات والرد على الفرق: لقد أدرك أبو حيان خطر الروايات الإسرائيلية، لأنها لا تقوم على سند صحيح، ولم يوافقها نص من الكتاب ولا من السنة الصحيحة، فسلك في كتابه البحر المحيط مسلكا عني فيه بالتنبيه على الكثير منها، والإشارة إلى ضعفها وفسادها، وحذر القارئ من الاغترار بها وتصديقها، ودعا إلى تركها. صرح بذلك في مقدمة تفسيره، فقال: «إن الحكايات التي لا تتناسب والتواريخ الإسرائيلية لا ينبغي ذكرها في علم التفسير» (¬2). فقد ضرب صفحا عن الإسرائيليات، مشيرا إلى بطلانها وتفاهتها، وكان أحيانا يذكرها بإيجاز ثم يتصدى لها بالرد مظهرا زيفها، مشيرا إلى ما تقوم عليه من خرافات وأباطيل، لا تتفق مع العقل السليم والنظر السديد، فضلا عن أنها تتنافى مع العقيدة وعصمة الأنبياء، ثم ينوه في آخر الأمر إلى أن سبب ذكرها هو التحذير منها، وعدم الوقوع في شراكها، والأدلة كثيرة على هذا الموقف، ففي تفسيره قوله تعالى: .. وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ .. [البقرة: 102]. ردّ ما أثير حول الملكين وما جرى بينهما، وما إلى ذلك من القصص فقال: «وقد ذكر المفسرون قصصا فيما يعرض من المحاورة بين الملكين، وبين من جاء ليتعلم منهما، ومن تلك القصص: أنهما يأمران بأن يبول في تنور، فاختلفوا في الإيمان الذي يخرج منه أيرى فارسا مقنعا حتى يغيب في السماء، أم نورا خرج من رماد يسطع حتى يدخل السماء، أو طائرا خرج من بين ثيابه وطار نحو السماء، وفسروا ذلك الخارج بأنه الإيمان، وهذا كله شيء لا يصح البتة، فلذلك لخصنا منه شيئا وإن كان لا يصح حتى لا نخلي كتابنا مما ذكر» (¬3). ¬

_ (¬1) أبو حيان، البحر المحيط 1/ 4. (¬2) أبو حيان، البحر المحيط 1/ 5. (¬3) أبو حيان، البحر المحيط 1/ 133.

رده على الفرق الإسلامية:

المثال الثاني: وهو مما أضرب عنه وأسقطه، لأنه يتنافى مع عصمة الأنبياء عند تفسير قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: 21]. قال أبو حيان: «وذكر المفسرون في هذه القصة أقوالا لا تتناسب مع مناصب الأنبياء فضربنا عن ذكرها صفحا وتكلمنا على ألفاظ الآية» (¬1). هذا ومع شدة حذر أبي حيان تجاه الإسرائيليات والاحتياط من مغبة الوقوع فيها، إلّا أن تفسيره لم يخل منها، وهذا يعني أنه نقلها عن غيره من المفسرين، أو غفل عن ردها، أو تضعيفها (¬2). رده على الفرق الإسلامية: إن أبا حيان يمثل الاتجاه السلفي، ويثبت عقيدة أهل السنة والجماعة في نفي الشبه والمكان والجسمية. ففي قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64]، قال: «معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة ولا يشبّه بشيء من خلقه، ولا يكيف ولا يتحيّز وكل هذا مقرر في علم أصول الدين» (¬3). ومما رد به على الفرق أيضا، وأثبت عقيدة أهل السنة والجماعة، عند تفسير قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [البقرة: 26]. قال: «وأهل السنة يعتقدون أن الله مريد بإرادة واحدة أزلية موجودة بذاته، والقدرية والمعتزلة والنجارية والجهمية وبعض الرافضة نفوا الصفات التي أثبتها أهل السنة (¬4). ¬

_ (¬1) أبو حيان، البحر المحيط 4/ 57، 7/ 291، 8/ 289. (¬2) أبو حيان، البحر المحيط 1/ 207. 5/ 279. (¬3) أبو حيان، البحر المحيط 3/ 523، وانظر أيضا تفسيره للاستواء 4/ 307. (¬4) أبو حيان، البحر المحيط 1/ 124. ينظر أيضا الرد على المعتزلة والتشنيع عليهم 1/ 254، 4/ 382 - 383.

ثالثا: التفسير الإشاري

رحم الله أبا حيان فقد دافع في كتابه عن الإسلام، وما رأيت مفسرا أعظم منه في دفاعه عن القراءات القرآنية، ولا أعظم منه في رده على المفسرين من الفرق الأخرى كالزمخشري وغيره جزاه الله خيرا. ثالثا: التفسير الإشاري هو تأويل القرآن بغير معناه الظاهري الذي يدل عليه، مثل تفسير كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء الذين يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها ولكن القرآن لا يدل عليها (¬1). فهذا لا يحق أن يسمى تفسيرا وهو خطأ في الدليل وإن كان المدلول صحيحا. قال الزركشي: كلام الصوفية في تفسير القرآن ليس بتفسير، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة، كقول بعضهم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة: 123] إن المراد النفس. يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هي القرب، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه (¬2). واعلم أن تفسير الألفاظ القرآنية بغير ظواهرها لا يخلو من حالين: 1 - إذا كان العدول عن ظاهر اللفظ لمعان باطلة كالذي يدعيه أهل الباطل من باطنية وغيرها هو إلحاد، ولعله المراد من قول ابن الصلاح في فتواه، إنه كفر لأنه خطأ في الدليل والمدلول معا. 2 - وإذا كان العدول عن ظاهر اللفظ ولكن إلى معنى صحيح في ذاته فلا يصح تسميته تفسيرا، لأن التفسير هو إمعان النظر في مراد الله من هذا اللفظ، وما لا يحمله اللفظ لا يعد تفسيرا بحال من الأحوال، لأنه سلب للفظ القرآن لما دل عليه وأريد به. ولعل هذا مراد الذي وصف تفسير الرازي أنه ليس بتفسير، لما رآه من أقوال للصوفية أحيانا، ولعلماء أهل الكلام تارة أخرى. ¬

_ (¬1) الإتقان 2/ 228. (¬2) انظر البرهان 2/ 170، ومناهل العرفان 2/ 78.

كتب التفسير الإشاري:

كتب التفسير الإشاري: نضرب صفحا عن كتب التفسير الإشاري، التي ادعى أصحابها بأنها تفسير وهي كفر بواح، كتفاسير الباطنية القديمة والحديثة على حد سواء، وهي تفاسير تتهجم على مراد الله بغير علم. أما كتب التفسير الإشاري، التي تنحو أحيانا إلى تفسير إشاري لبعض الآيات، وهم لا يرون التفسير الظاهر للفظ وإنما يضيفون إليه معان أخرى، قد تكون صحيحة أحيانا، وخاطئة في أحيان أخرى، وهاك الكتب التي نعنيها ونذكر لك أشهرها: 1 - النيسابوري: وهو تفسير مختصر لتفسير الرازي الذي لا يخلو من تفاسير الصوفية ومواجيدهم، حمّله كثيرا من التفسير الإشاري، والنيسابوري يفسر الآية وفي ختام تفسيره لا ينسى أن يذكر لك بصريح العبارة قول أهل الإشارة ثم يسوق المعنى الإشاري، فمثلا عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً يقول: التأويل (ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني، وهو الجهاد الأكبر «موتوا قبل أن تموتوا») ثم يمضي في تفسير الآيات المتعلقة بوصف البقرة (¬1). 2 - تفسير التستري: هو تفسير محمد بن سهل بن عبد الله التستري المتوفى سنة 383 هـ، ليس للتستري عمل كامل في التفسير، ولكن أغلب تفسيره مواجيد صوفية وشطحات خيالية، اكتفى بما استهل به تفسيره، فقد فسر البسملة تفسيرا إشاريا فقال: الباء في البسملة بهاء الله، والسين سناء الله عز وجل، والميم مجد الله عز وجل و (الله) هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه، حرف مكنى غيب، وسر من سر إلى سر، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة. ثم يمضي في تفسيره الغريب العجيب (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تفسيره في سورة البقرة. (¬2) طبع تفسيره بمصر في 312 صفحة.

3 - تفسير الفتوحات المكية لابن عربي:

3 - تفسير الفتوحات المكية لابن عربي: محيي الدين بن عربي الصوفي المتوفى بدمشق سنة 638 هـ، وهو غير ابن العربي الأندلسي صاحب أعظم تفسير في آيات الأحكام. وقد افتتح ابن عربي الصوفي المشهور بحديث نسبه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع». ثم قال: (وفهمت منه، أي من الحديث أن الظهر هو التفسير، والبطن هو التأويل، والحد ما يتناهى إليه المفهوم من معنى الكلام، والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام). وقد فسر ابن عربي .. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .. [البقرة: 67]، بمثل تفسير التستري الذي سقناه لك قبل سطور. كما فسر قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ [الأنبياء: 81] أي سخرنا لسليمان العقل العملي، والمتمكن على عرش النفس في الصدر، ريح الهوى عاصِفَةً في هبوبها تَجْرِي بِأَمْرِهِ مطيعة له إِلَى الْأَرْضِ أرض البدن المتدرب بالطاعة والأدب .. إلخ. 4 - الألوسي: هو العلامة شهاب الدين محمد الألوسي البغدادي المتوفى سنة 1270 هـ وتفسيره روح المعاني يقع في ثلاثين مجلدا وهو من أوسع كتب التفسير، فيه التفسير بالمأثور والمعقول والإشاري، ومن التفسير الإشاري في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 55]. قال: ومن مقام الإشارة: وإذ قلتم يا موسى القلب، لن نؤمن الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان، فأخذتكم صاعقة الموت الذي هو الفناء في التجلي الذاتي، وأنتم تراقبون أو تشاهدون، ثم بعثناكم بالحياة الحقيقية، والبقاء بعد الفناء، ... لخ.

نصيحة خالصة:

نصيحة خالصة: بيد أن هذا التفسير الإشاري كما ترى، جاء كله على هذا النمط دون أن يتعرض لبيان المعاني الوضعية للنصوص القرآنية. وهنا الخطر كل الخطر. فإنه يخاف على مطالعه أن يفهم أن هذه المعاني الإشارية، هي مراد الخالق إلى خلقه في الهداية إلى تعاليم الإسلام، والإرشاد إلى حقائق هذا الدين الذي ارتضاه لهم. ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر، فدخل في روعهم أن الكتاب والسنّة، بل الإسلام كله، ما هو إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات. وزعموا أن الأمر ما هو إلّا تخيلات، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح، فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية، كتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والأدهى من ذلك أنهم يتخيّلون ويخيّلون إلى الناس، أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية، واتصلوا بالله اتصالا أسقط عنهم التكاليف، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب، ما داموا في زعمهم مع ربّ الأرباب. وهذا- لعمر الله- هو المصاب العظيم، الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام، كي يهدموا التشريع من أصوله، ويأتوا بنيانه من قواعده: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة: 32]. فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذّرهم الوقوع في هذه الشباك، ونشير عليهم أن ينفضوا أيديهم من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية، ولا يعوّلوا على أشباهها، مما ورد في كلام القوم في الكتب الصوفية. لأنها كلها أذواق ومواجيد، خارجة عن حدود الضبط والتقييد. وكثيرا ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة والحق بالباطل. وإذا تجردت من ذلك فقلما يظهر منها مراد القائل. وإذا ظهر فقد يكون من الكفريّات الفاحشة، التي نستبعد صدورها من العلماء بل من صادقي عامة المسلمين. والتي نرى الطعن فيها بالدس والوضع، أقرب وأسلم من الطعن فيمن عزيت إليه بالكفر والفسق.

رابعا: التفسير الفقهي لآيات الأحكام

فالأحرى بالفطن العاقل، أن ينأى بنفسه عن هذه المزالق، وأن يفرّ بدينه من هذه الشبهات. وأمامه في الكتاب والسنة وشروحهما على قوانين الشريعة واللغة رياض وجنات: .. قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ .. [البقرة: 61]. قال صلّى الله عليه وسلّم: «فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» (¬1). وقال صلّى الله عليه وسلّم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (¬2) وبالله تعالى توفيقي وتوفيقك. نسأله تعالى: أن يخرجنا من ظلمات الأوهام، وأن يحققنا بحقائق الدين وتعاليم الإسلام، آمين (¬3). رابعا: التفسير الفقهي لآيات الأحكام لم يعرف هذا اللون من ألوان التفسير إلّا حين ساد التعصب المذهبي، فقد ألّف أصحاب المذاهب تفاسير متخصصة بآيات الأحكام، وإليك أهمها: أولا: أحكام القرآن للجصاص (305 - 370 هـ): هذا الكتاب من تفاسير الأحناف، وقد ألفه أبو بكر الرازي، والذي اشتهر بلقبه الجصاص، بل اشتهر تفسيره بأحكام الجصاص، وتفسيره مخطوط بمكتبة الأزهر، وقد طبع مرات كثيرة، ويقع في ثلاث مجلدات. منهجه في التفسير: حصر تفسيره في آيات الأحكام وبوبها تبويبا فقهيا، وعرض للأحكام الفقهية المستنبطة من آيات الأحكام، وتعصب لمذهب الحنفية، ورمى المذاهب الأخرى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (52) و (2051) ومسلم (1599). (¬2) حديث صحيح رواه أحمد 1/ 200، والترمذي (2518)، والنسائي 8/ 327. وانظر جامع العلوم والحكم، طبعة مؤسسة الرسالة 1/ 287 ففيه تمام تخريجه. (¬3) مناهل العرفان ص 585.

ثانيا: أحكام القرآن لإلكيا الهراسي الشافعي (450 - 540 هـ):

بأقذع العبارات وخصّ الشافعي بالاتهام «فقد بان أن ما قاله الشافعي وما سلمه له السائل كلام فارغ لا معنى تحته» (¬1). ثانيا: أحكام القرآن لإلكيا الهراسي الشافعي (450 - 540 هـ): هو عماد الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري أصله من خراسان، خرج إلى بغداد ودرّس فيها. أما منهجه في التفسير فهو كمنهج الجصاص غير أنه يتعصب للشافعيّة، وقد حمل على الجصاص، فسخر منه ورد عليه مقتصا للإمام الشافعي. وقد بقي تفسيره مخطوطا في دار الكتب المصرية حتى طبع أخيرا في المملكة العربية السعودية. ثالثا: أحكام القرآن، لابن العربي: هو الإمام العلامة الحافظ الفقيه القاضي محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي الإشبيلي- أبو بكر الشهير بابن العربي المالكي. ولد في إشبيلية سنة (468 هـ) تلقى العلوم ببلده وصار قاضيا فنفع الله به لصرامته، وشدة نفوذ أحكامه، ورد المظالم إلى أهلها (¬2). مكانته العلمية: لقد جمع أبو بكر علوما كثيرة، أفادها من رحلاته، وتنقلاته بين مراكز العلم وحواضره في المشرق والأندلس، فكانت له الصدارة في الفقه والأصول ومسائل الخلاف، واتسع في رواية الحديث، وتبحر في التفسير إلى جانب براعته في اللغة والأدب- وقد شهد له بذلك العلماء. ¬

_ (¬1). 2/ 143 من كتابه أحكام القرآن للجصاص. (¬2) انظر ابن فرحون، الديباج المذهب 2/ 252. والداودي، طبقات المفسرين 2/ 162، والذهبي، تذكرة الحفاظ 4/ 1294، والمقري، نفح الطيب 2/ 233.

مؤلفاته:

قال الحجازي: «لو لم ينسب إلى إشبيلية إلّا هذا العالم الجليل، لكان لها به من الفخر ما يرجع عنه الطرف وهو كليل» (¬1). مؤلفاته: صنف ابن العربي كتبا كثيرة في التفسير والحديث والفقه والأصول وأهمها: في التفسير: 1 - «أنوار الفجر في تفسير القرآن»، وقيل: إنه ألفه في عشرين سنة ويقع في ثمانين ألف ورقة، وقيل: إن هذا التفسير يقع في ثمانين مجلدا. 2 - أحكام القرآن، وهو مطبوع متداول يقع في أربعة أجزاء. 3 - القانون في تفسير القرآن. وله كتب كثيرة في الحديث والعقيدة والفقه والأصول واللغة والنحو والتاريخ وغير ذلك. كتاب أحكام القرآن يعد من مصادر التفسير الفقهي بخاصة عند المالكية، وهذا الطابع الذي تميز به هذا الكتاب يدركه القارئ لأول وهلة، فإنه لا تخلو صفحة من صفحاته من قضية شرعية أو مسألة فقهية. أما طريقته في التفسير فقد كان يعرض لكل سورة من سور القرآن الكريم ثم يقسمها إلى مسائل، وغالب هذه المسائل فقهية، فمثلا يقول: سورة الفاتحة: فيها سبع آيات، الأولى فيها مسألتان ... الآية الرابعة والخامسة في سبع مسائل، وهكذا حتى ينتهي من السورة. ومن خلال هذا الأسلوب كان يعرض إلى المعنى التفصيلي والإجمالي أحيانا، فيتناول الوضع اللغوي للألفاظ والمفردات والمعنى البلاغي أحيانا، وعلوم القرآن مثل أسباب النزول، والمكي والمدني والقراءات وغيرها. ثم الاستنباط الفقهي، ¬

_ (¬1) ابن سعيد المغربي: في حلي المغرب 1/ 254.

ظاهرة التعصب للمالكية عند ابن العربي:

والدليل الأصولي، وكثيرا ما كان يعرض للفقه المقارن، ومسائل الخلاف وغيرها من المصادر وأدوات الترجيح، بخاصة المصادر المالكية التي تبدو واضحة بجانب معظم المسائل الفقهية الراجحة عنده (¬1). ظاهرة التعصب للمالكية عند ابن العربي: وتبدو هذه الظاهرة واضحة في كتابه أحكام القرآن، وأمثلتها كثيرة يمكن الوقوف عليها في مواضع متعددة من كتابه، ومن ذلك على سبيل المثال: عند تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6]. يقول ابن العربي: «المسألة الثانية والأربعون في تحقيق معنى لم يتفطن له أحد، حاشى مالك بن أنس لعظيم إمامته، وسعة درايته، وثاقب فطنته» (¬2). ولقد بلغت هذه الظاهرة عند ابن العربي ذروتها، بحيث جعلته يرمي مخالفيه بالتهم، ويغلظ عليهم بما لا يليق وجلالة قدرهم ومكانتهم في الشريعة، لقد أغلظ القول على أبي حنيفة، رضي الله عنه، ووصفه بالضعف في الرأي والفقه، والخلط بين السفه والرشد. قال في تفسير قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء: 43]. قال: المسألة الثامنة والعشرون: قوله: «ماء»، قال أبو حنيفة: هذا نفي نكرة وهو يعم لغة فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير لانطلاق الاسم عليه. قلنا: استنوق الجمل؛ لأنه سيستدل أصحاب أبي حنيفة باللغات، ويقولون على ألسنة العرب، وهم ينبذونها في أكثر المسائل بالعراء!» (¬3). ¬

_ (¬1) ابن العربي، أحكام القرآن 1/ 281، 2/ 531. (¬2) أحكام القرآن 2/ 582. (¬3) المرجع السابق 1/ 446.

إنصافه لمخالفيه أحيانا:

وفي موضع آخر يقول: «من غريب الأمر أن أبا حنيفة، قال: الحجر على الحر باطل، واحتج بقوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء: 92] ولم يفرق بين السفيه والرشيد وهذا فقه ضعيف. كما لم يسلم منه الشافعي والطبري رحمهما الله. إنصافه لمخالفيه أحيانا: وإذا كانت ظاهرة التعصب لمذهب المالكية تبدو واضحة جلية على ابن العربي، إلّا أنه لم يغفل عن مخالفيه أحيانا، حيث ينصفهم ويقف بجانبهم، إن كان الدليل يؤيدهم ويعزز آرائهم، بل إنه لم يكن ليغفر زلة المالكية إن جانبوا الصواب ونأوا عنه. ومن أمثلة الإنصاف عنده: قوله في مسألة طهارة فضل الوضوء والجنابة: «وهذا يدل على أن الماء الفاضل عند الوضوء والجنابة طاهر، لا على طهارة الماء المستعمل كما توهم علماؤنا، وهذا خطأ فاحش فتأملوه» (¬1). موقفه من الإسرائيليات: ويتخلص موقفه في رد معظم المرويات الإسرائيلية، واعتبارها ساقطة لا أصل لها، لأنها لا تقوم على دليل، بل إنها تفتقر إلى الصحة فلا يعوّل عليها، لذا فإننا نجده يتعقبها ويرفضها، ويقيم الدليل على بطلانها وتهافتها. قال ابن العربي: «وفي الإسرائيليات كثير ليس لها ثبات ولا عليها يعول من له قلب» (¬2). ¬

_ (¬1). 3/ 1419 ينظر أيضا 4/ 1838. (¬2) ابن العربي أحكام القرآن ص 820.

رابعا: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي

رابعا: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج القرطبي المالكي المذهب، لم تشر المصادر التاريخية إلى السنة التي ولد فيها، بينما تتفق على تاريخ وفاته التي كانت سنة 671 هـ. وهو من العلماء العاملين، الزاهدين في الدنيا، المتصفين بالخلال الحميدة والصفات المجيدة. مكانته العلمية: قال ابن فرحون: «كان من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة» (¬1). مؤلفاته: ذكر ابن فرحون المالكي مؤلفاته فقال: 1 - «كتاب التفسير». 2 - «جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السّنّة وآي الفرقان، وهو من أجل التفاسير وأعظمها نفعا». 3 - و «الكتاب الأسنى في أسماء الله الحسنى». 4 - «التذكرة بأمور الآخرة». 5 - «قمع الحرص بالزهد والقناعة وذلّ السؤال بالكتب والشفاعة» (¬2). ¬

_ (¬1) ابن فرحون، الديباج المذهب 2/ 308. (¬2) الديباج 2/ 308.

منهجه في التفسير:

منهجه في التفسير: لقد بين الإمام القرطبي- في مقدمة تفسيره- منهجه في التفسير، فبين أولا دوافعه لتفسير القرآن، ثم طريقته ومنهجه ثم شروطه في التفسير. يقول في مقدمته: «فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجمع علوم الشرع، الذي استقل بالسّنّة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ فيه قوتي، بأن أكتب تعليقا وجيزا يتضمن نكتا من التفسير واللغات والقراءات والإعراب، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعا بين معانيها، ومبينا ما أشكل منها بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف» (¬1). أما شروطه التي التزم بها في تفسيره فقال فيه: «وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله، وكثيرا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما، لا يعرف من أخرجه إلّا من اطلع على كتب الحديث، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائرا، لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم. فلا يقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام، ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب، وأضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، إلّا ما لا بد منه، وما لا غنى عنه للتبين، واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام بمسائل تفسر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كلّ آية تتضمن حكما أو حكمين، فما زاد من مسائل أبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير والغريب والحكم، إن لم تتضمن كما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل ... وهكذا إلى آخر الكتاب، وسميته بالجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمنه من السّنّة وأحكام الفرقان. اهـ (¬2). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن 1/ 3. (¬2) الجامع الأحكام القرآن 1/ 3.

منهجه في التفسير الأخذ بالمأثور والرأي:

ويعقب ابن فرحون على منهجه هذا في التفسير فيقول: «وهو لا يتعصب لمذهبه المالكي بل يعيش مع الدليل حتى يصل إلى ما يرى أنه الصواب أيّا كان قائله» (¬1). أما موقفه من الإسرائيليات فقد كان يرفضها ولا يتعرض لها غير أن كتابه لم يخل منها. يتضح مما تقدم أن منهج القرطبي يقوم على الأسس التالية: 1 - التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي. 2 - اعتماده واحتكامه إلى اللغة. 3 - موقفه من القراءات المتواترة والشاذة. 4 - الرد على الفرق الأخرى. 5 - العناية التامة بالأحكام الفقهية. 6 - موقفه من الإسرائيليات. 7 - عدم تعصبه المذهبي ووقوفه مع الدليل. منهجه في التفسير الأخذ بالمأثور والرأي: يرجع القرطبي في تفسيره إلى التفسير بالمأثور ففي قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ 7 فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً [الانشقاق: 7 - 8]. فسر الحساب اليسير بأنه الذي لا مناقشة فيه ثم قال: «كذا روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حوسب يوم القيامة عذب»، قالت: فقلت: يا رسول الله أليس قد قال الله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ 7 فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً [الانشقاق: 7 - 8]. فقال: «ليس ذاك الحساب إنما ذلك العرض. من نوقش الحساب يوم القيامة عذب». أخرجه البخاري ومسلم (¬2). ¬

_ (¬1) الديباج المذهب 2/ 52. (¬2) صحيح البخاري (103)، ومسلم (2876) (79).

موقفه من القراءات المتواترة والشاذة:

فإذا صح الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخذ به، وإذا ما ورد التفسير عن الصحابة والتابعين حاول أن يجمع بينها إن أمكن، وإلّا رجح أحد الأقوال بالدليل، بل يردها إذا كانت متعارضة، مثال ذلك ما أورده القرطبي في تفسير قوله تعالى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النبأ: 23]. فقد نقل عن عمر وأبي هريرة أن الحقب ثمانون سنة، ونقل عن الحسن أنه سبعون ألف سنة، ونقل أقوالا كثيرة، ثم عقب في نهايتها بقوله: قلت: هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما المعنى ما ذكرنا أولا، أي: لابثين فيها أزمانا ودهورا، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، وهكذا أبد الآبدين من غير انقطاع، هذا منهجه في التفسير بالمأثور. أما منهجه في التفسير بالرأي فقد أجازه بعد أن ناقش أدلة القائلين بالمنع. موقفه من القراءات المتواترة والشاذة: نحن نعلم أن كل قراءة متواترة هي من القرآن، ولكن المفسرين قد وقفوا من القراءات القرآنية مواقف شتى، فمنهم من طعن في تلك القراءات المتواترة، كالطبري والزمخشري، ومنهم من رجّح قراءة على قراءة، ومنهم من سلك المسلك السليم، فلم يطعن ولم يرجح بل ساوى بينهما. ولقد سلك القرطبي مسلك المرجحين في القراءات كما في قراءة ملك يوم الدين ومالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بعد أن ساق أدلة المرجحين لمالك على ملك أو العكس، قال القرطبي: وقد احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ، لأن فيه زيادة حرف فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ «ملك»، قلت: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك، وفيها من المعنى ما ليس بمالك على علمنا والله أعلم (¬1). ونحن نرى أن ترجيح القرطبي ليس سليما، فقد أفتى العلماء بأن السلامة عند أهل الدين إذا صحت القراءتان أن لا يقال: إحداهما أجود، لأنهما جميعا عن النبي ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 1/ 140 وما بعدها.

احتكامه إلى اللغة والنحو:

صلّى الله عليه وسلّم فيأثم من قال ذلك، وهناك فتاوى أخرى نرى أن السلامة في الفتوى المذكورة والله أعلم. ومهما يكن فإن موقف الترجيح يبقى أهون من الطعن أو الانتقاص من القراءة الأخرى، فهو لا يسقط أي قراءة، ويسلم في النهاية أن القراءتين حسنتان. أما موقفه من القراءات الشاذة، فإنه يوردها ويبين وجهها اللغوي والتفسيري والفقهي، كما في قراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات). والقرطبي يرفض الاستدلال بذلك على أنها قرآن، ويرى أنها ضرب من ضروب التفسير. احتكامه إلى اللغة والنحو: يشترط القرطبي على المفسر معرفة اللغة، ويستدل على ذلك بالحديث الشريف «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه» (¬1). ومنها ما روي عن ابن مسعود أنه قال: «جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات وأعربوه فإنه عربي» (¬2). والمقصود هنا من إعراب القرآن هو تفسير ألفاظه وتوضيح معانيه وبيان غريبه. اهتمامه بالأحكام الفقهية والأصول: لا نجد تفسيرا شاملا للقرآن كله يخصّ تفسير آيات الأحكام بالاهتمام والعناية مثل تفسير القرطبي، الذي جعل من آيات الأحكام عنوانا لكتابه «الجامع للأحكام القرآن»، بل لا عجب أن رأينا كتابه شاملا لجميع التفاسير، التي أفردت الأحكام الفقهية بالتفسير والاهتمام دون بقية الآيات، فلقد جاء القرطبي متأخرا عنهم، فجمع كتبهم على اختلاف مذاهبهم الفقهية، وإن كان يقتصر أحيانا على آراء الإمام مالك. ¬

_ (¬1) مجمع الزوائد 7/ 163. (¬2) انظر الإتقان 1/ 141.

ظاهرة التعصب المذهبي:

ويمكن تلخيص موقف القرطبي ومسلكه في بيانه للأحكام الفقهية على النحو التالي: 1 - عرض لمسائل الأحكام الفقهية على مذهب الإمام مالك، وهو مذهبه دون رد أو تعقيب في غالب الأحيان، كأنّه يشير إلى رضاه وقبوله عن ذلك. 2 - عرضه لآراء المذاهب الفقهية، الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرها، ثم يورد أدلة كل فريق ويناقشها، ثم يرجح الدليل الأقوى. وهو ما يسمى بالفقه المقارن. ظاهرة التعصب المذهبي: تنعدم هذه الظاهرة عند القرطبي، فقد كان يرجح من المذاهب ما يجد الصواب والحق بجانبه، وإن كان مخالفا لمذهبه، بل كان يخرج على مذهبه معارضا له، منصفا لغيره، متوخيا الدقة في النقل والتحرير، والأمثلة كثيرة، نختار منها ما ورد في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: 158]. يرجح القرطبي ما ذهب إليه الشافعي، وهو ركنية السعي بين الصفا والمروة ... فبعد أن استعرض أقوال الأئمة المجتهدين وأدلتهم في المسألة قال: «والصحيح ما ذهب إليه الشافعي، رحمه الله تعالى، لما ذكرنا وقوله عليه السّلام: «خذوا عني مناسككم» فصار بيانا لمجمل الحج، فالواجب أن يكون فرضا، كبيانه لعدد الركعات» (¬1). هذا وقد خرج القرطبي عن مذهب الإمام مالك في بعض القضايا وقال: «والقول بالخروج إن شاء الله أصح للسنة الثابتة في ذلك» (¬2). رحم الله القرطبي وأحسن مثوبته في دفاعه عن الإسلام والذود عنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

_ (¬1) انظر الصفدي الوافي بالوفيات 2/ 122. (¬2) ابن فرحون. الديباج المذهب 2/ 308.

§1/1