الممتع في شرح المقنع ت ابن دهيش ط 3

ابن المُنجَى، أبو البركات

مقدمة المحقق

الممتع في شرح المقنع تصنيف زين الدين المنجى بن عثمان بن أسعد ابن المنجى التنوخي الحنبلي (631 - 695 هـ) الجزء الأول دراسة وتحقيق د. عبدالملك بن عبدالله بن دهيش

جميع الحقوق محفوظة للمحقق د. عبدالملك بن دهيش الطبعة الأولى 1417 هـ، 1997 م الطبعة الثانية 1418 هـ، 1997 م الطبعة الثالثة 1422 هـ، 2002 م يطلب من مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة

مقدمة الطبعة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثالثة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد لقي كتاب "الممتع في شرح المقنع" للعلامة ابن المنجى الحنبلي -ولله الحمد والمنة- قبولاً لدى العلماء وطلاب العلم الشريف. ويعود ذلك إلى سهولة عبارة المصنف، وحسن تقسيم المصنف للمسائل، مما يجعل الكتاب قريباً إلى الناس. ويسرنا أن نقدم الطبعة الثالثة للكتاب بعد نفاد طبعتيه الأولى والثانية. وتتميز هذه الطبعة بما يلي: 1 - إعادة النظر في بعض المواطن من الكتاب، والرجوع إلى الأصول الخطية والمراجع الحنبلية لتصويبها. 2 - إعادة تقسيم الكتاب وجعله في أجزاء أربعة وذلك ليسهل الرجوع إليه. نسأل الله أن يسدد أعمالنا. وأن يتقبل منا هذا العمل قبولاً حسناً. إنه أكرم مسؤول. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين. آمين. مكة المكرمة .................. كتبه ............... عبد الملك بن عبد الله بن دهيش .................. 1/ 1/1422 هـ

صفحة فارغة

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، وأتباعه إلى يوم الدين. وبعد: فإن كتاب «المقنع» للإمام موفق الدين ابن قدامة (ت 620 هـ) قد حظي بمنزلة عظيمة عند الفقهاء الحنابلة، وقد انكب عليه طلبة العلم حفظاً ودرسا ومذاكرة. كما اعتنى به الفقهاء وألفوا المصنفات حوله: فمن شارح وواضع حاشية عليه ومختصر وناظم وجامع له مع كتب أخرى. وكان من أوائل من قام بشرحه، العلامة الشيخ زين الدين المنجى بن عثمان ابن أسعد ابن المنجى (ت 695 هـ). والذي ينحدر من أسرة علمية عريقة في العلم وفي خدمة المذهب الحنبلي. حيث تولت أسرة بيت المنجى مشيخة المدرسة المسمارية في دمشق. وذلك بدءا من الشيخ أسعد ابن المنجى جَدُّ المصنف. وانتهاء بقاضي القضاة علاء الدين ابن المصنف. وقد تناول ابن المنجى «المقنع» عبارة عبارة شارحاً إياها شرحاً وافياً في عبارة سهلة، وسبك بديع. ذاكراً الروايات والأوجه، مدللاً لكل رواية أو وجه بالأدلة العقلية والنقلية. ذاكراً آراء الأصحاب في كل مسألة. ونرى الإمام ابن المنجى يتميز في كتابه بسوق الأدلة العقلية لكل رأي أكثر مما نجده عند غيره. ثم يعقبه بالأدلة النقلية من الكتاب والسنة مخرجاً إياها من الكتب المشهورة. ثم يوجهها.

وقد كان كتاب «الممتع» مصدراً مهماً لمن أتى بعده من علماء الحنابلة. نذكر منهم العلامة المبدع أبا الحسن المرداوي (ت 885 هـ) في كتابه الكبير «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» حيث عده من جملة مصادره. وقد قمت بعمل دراسة للكتاب، وقد جاءت هذه الدراسة في مباحث ستة: المبحث الأول: حياة المؤلف. المبحث الثاني: ترجمة لمؤلف «المقنع» العلامة موفق الدين ابن قدامة. المبحث الثالث: أهمية كتاب «الممتع». المبحث الرابع: منهج ابن المنجى في كتابه «الممتع». المبحث الخامس: موارد ابن المنجى في كتابه «الممتع». المبحث السادس: النسخ الخطية للكتاب. نسأل الله أن يسدد أعمالنا. وأن يتقبل منا هذا العمل قبولاً حسنا. إنه أكرم مسؤول. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين. آمين. مكة المكرمة .................. كتبه ............... عبدالملك بن عبدالله بن دهيش .................. 1/ 7/1417 هـ

المبحث الأول حياة المؤلف

المبحث الأول حياة المؤلف زين الدين المنجى بن عثمان ابن المنجى

صفحة فارغة

حياة المؤلف

حياة المؤلف: زين الدين المنجى بن عثمان ابن المنجى (¬1) زين الدين المنجى بن عثمان بن أسعد بن المنجى بن بركات التنوخي الحنبلي (631 - 695 هـ) (¬2). اسمه ونسبه زين الدين المنجى بن عثمان بن أسعد بن المنجى بن بركات بن المؤمل التنوخي، المعري الأصل، الدمشقي، الحنبلي، أبو البركات. مولده ولد في عاشر ذي القعدة سنة 631 هـ لأسرة علمية عريقة، ونشأ وترعرع وتربى في كنف والده الصدر عز الدين أبي عمر عثمان. ¬

_ (¬1) اختلفت النسخ في رسم اسم «المنجى» ففي ببعضها ورد بالألف المقصورة، وفي أخرى ورد بالألف الممدودة. والصحيح رسمها بالألف المقصورة ر القاموس. مادة «نجا». (¬2) مصادر ترجمته: الأعلام للزِّرِكْلي 7: 291، البداية والنهاية لابن كثير 13: 345، تاريخ الإسلام للذهبي 34: 183 - 184 وفي 21: 252 - 253، الدارس في تاريخ المدارس للنعيمي. 2: 73، الدر المنضد في ذكر أصحاب الإمام أحمد. 1: 437 - 438، الدليل الشافي على المنهل الصافي لابن تغري بردي: 2: 743، ذيل طبقات الحنابلة 2: 332 - 333، شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح عبدالحي بن العماد الحنبلي (ت 1089 هـ). وقد وردت فيه ترجمة مقتضبة للمصنف. 5: 433، لحظ الألحاظ لابن فهد المكي ص: 92، مختصر طبقات الحنابلة 129، المدخل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل لابن بدران الدمشقي (ت 1346 هـ) ص: 211، معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة، وفيه ترجمة مختصرة عنه () 12: 7 - 8، مفاتيح الفقه الحنبلي: تأليف الدكتور سالم علي الثقفي. 2: 130، المقصد الأرشد: 3: 41، المنهج الأحمد 406، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 7: 77، هدية العارفين. 2: 472، الوافي للصفدي 26: 77 - 78.

أسرته

أسرته: لم يجتمع لأسرةٍ من الفضل والعلم وخدمة المذهب الحنبلي ما اجتمع لأسرة بيت المنجى في عصرهم، فقد تولى أبناؤها القضاء والتدريس والإفتاء، كما أنهم تعاقبوا على مشيخة المدرسة المسمارية التي بناها الشيخ مسمار الهلالي الحوراني المقرئ (¬1) (ت 546 هـ) لوجيه الدين أسعد بن المنجى وجعلها وقفاً عليه وعلى ذريته (¬2). وصنفوا التصانيف النافعة. فجده الإمام العلامة شيخ الحنابلة وجيه الدين أبو المعالي أسعد بن المنجى بن أبي المنجى بركات بن المؤمل. ولد سنه تسع عشرة وخمسمائة. تفقه في دمشق على شرف الإسلام عبدالوهاب ابن أبي الفرج الحنبلي، ثم رحل إلى بغداد فتفقه على الشيخ عبدالقادر الجيلي، والشيخ أحمد الحربي. وسمع من أبي الفضل الأُرموي، وأنوشتكين الرَّضواني، وأبي جعفر أحمد ابن محمد العباسي، وسمع بدمشق من نصر بن مقاتل، وطائفة. روى عنه الشيخ موفق الدين ابن قدامة، وابن خليل، والضياءُ، والحافظ المُنذري، والشهاب القوصي، وابن أبي عمر، والفخر ابن البخاري، وجماعة. وله شعر جيد، ومعرفة تامة، وجَلالة وافرة. وله تصانيف، منها: كتاب «الخلاصة» في الفقه في مجلد، وكتاب «العمدة» في الفقه أصغر منه، وكتاب «النهاية في شرح الهداية» في بضعة عشر مجلدا. وولي قضاء حَرّان في دولة الملك نور الدين. توفي في جمادى الآخرة سنة ست وستمائة (¬3). ¬

_ (¬1) ر الدارس 2: 114. (¬2) سير أعلام النبلاء للذهبي 21: 437. (¬3) ر الذيل على طبقات الحنابلة: 2: 49 - 50، والمنهج الأحمد: 322، ومختصره: 93، والمقصد الأرشد: 1: 279، وسير أعلام النبلاء: 21: 436 - 437، والعبر: 5: 17، والقلائد الجوهرية: 2: 421، وشذرات الذهب: 5: 18، والنجوم الزاهرة: 6: 99.

ووالده العلامة الشيخ عز الدين أبو الفتح عثمان بن أسعد. ولد في محرم سنة سبع وستين وخمسمائة. سمع بمصر من البوصيري ويعقوب بن الطفيل، وببغداد من ابن بوش وابن سكينة وغيره. وسمع منه الحافظ ابن الحاجب وابن الحلوانية وولداه وجيه الدين وزين الدين والحسن بن الخلال. وكان فقيها فاضلا معدلا، ودرس بالمسمارية نيابة عن أخيه. وكان تاجرا ذا مال وثروة. توفي في مستهل ذي الحجة سنة واحد وأربعين وستمائة (¬1). وعمه العلامة شمس الدين أبو الفتوح عمر بن أسعد. ولد بحران سنة سبع وخمسين وخمسمائة. نشأ بها وتفقه على والده وسمع من عبدالوهاب بن أبي حبة وقدم دمشق فسمع بها من القاضي أبي سعد بن أبي عصرون وغيره، ورحل إلى العراق وخراسان، وسمع ببغداد، واشتغل بالخلاف على المحبر الشافعي، وأفتى ودرس، وكان عارفا بالقضاء بصيرا بالشروط والحكومات والمسائل الغامضات صدرا نبيلا، وولي قضاء حران قديما واستوطن دمشق، ودرس بالمسمارية، وحدث عنه البِرْزالي وابن العديم وغيرهما، وأجاز لابن الشيرازي. توفي في سابع عشر ربيع الآخر سنة واحد وأربعين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون (¬2). ¬

_ (¬1) ذيل طبقات الحنابة 2: 226، شذرات الذهب 5: 211 - 212. (¬2) شذرات الذهب 5: 210 - 211.

نشأته وطلبه للعلم

وأما عن أولاده فقد خلّف كلاًّ من قاضي القضاة علاء الدين، وشرف الدين. وقد وليا بعده المدرسة المسمارية (¬1). أما علاء الدين: فهو قاضي القضاة أبو الحسن علي بن المنجّى التنوخي. ولد ليلة النصف من شعبان سنة سبع وسبعين وستمائة. سمع من الفخر علي، وطائفة فأكثر، ودرَّس في الصدرية والمسمارية، وولي القضاء. وكان خيّراً عفيفاً زاهداً (¬2). وأما شرف الدين: فهو أبو عبدالله محمد بن زين الدين المنجّى التنوخي. ولد سنة خمس وسبعين وستمائة. سمع الحديث، ودرس، وأفتى. ودرس في المسمارية. وتوفي ليلة الاثنين رابع شوال سنة أربع وعشرين وسبعمائة (¬3). نشأته وطلبه للعلم: لا تسعفنا المصادر بمعلومات مفصلة عن صباه وشبابه، إلا من الواضح أنه تلقى العلم على يد والده عز الدين، ونهل من علومه وآدابه، وكذلك من علماء عصره الذين خلفوا شيخ الحنابلة الكبير الإمام الموفق ابن قدامة (ت 620 هـ). وقد سمع من السخاوي صحيح مسلم (¬4)، وسمع من التاج القرطبي والرشيد بن مسلمة والقرطبي وجماعة. وتفقه على أصحاب جده أبو المعالي أسعد بن المنجى وأصحاب الشيخ موفق الدين. وقرأ الأصول على كمال الدين التفليسي. وقرأ النحو على ابن مالك (¬5). ¬

_ (¬1) البداية والنهاية 7: 345. الدارس 2: 73. (¬2) ترجمه الذهبي في معجم الشيوخ 2: 59 - 60، وابن رجب في الذيل على الطبقات 2: 447، وابن حجر في الدرر الكامنة 3: 209، وابن كثير في البداية والنهاية 14: 200. (¬3) له ترجمة في معجم الشيوخ للذهبي 2: 289 - 290، وذيل الطبقات لابن رجب 2: 377، والبداية والنهاية 14: 101، والدرر الكامنة 5: 35. (¬4) الوافي 26: 76 أ. (¬5) شذرات الذهب 5: 433، وذيل طبقات الحنابلة 2: 332، والوافي 26: 77 ب.

مصنفاته

«وسمع الحديث وتفقه، فبرع في فنون من العلم كثيرة من الأصول والفروع والعربية والتفسير وغير ذلك». وقد نبغ في الفقه الحنبلي وانتهت إليه رياسة المذهب، وتولى مشيخة المدرسة المسمارية في دمشق. مصنفاته الممتع في شرح المقنع. وهو الكتاب الذي نقوم بتحقيقه، وسوف يأتي الحديث عنه. شرح المحصول، ولم يكمله، واختصر نصفه. تفسير القرآن الكريم في مجلدات، وهو كبير، لكنه لم يبيضه، وألقاه جميعاً دروساً. وله تعاليق كثيرة ومسودات في الفقه والأصول لم يبيّضها (¬1). أخلاقه وثناء العلماء عليه قال الإمام الذهبي: «كان معروفا بالذكاء، وصحة الذهن، وجودة المناظرة، وطول النفس في البحث» (¬2). وقال ابن كثير: «كان قد جُمع له بين حسن السمت والديانة والعلم والوجاهة وصحة الذهن والعقيدة والمناظرة وكثرة الصدقة، ولم يزل يواظب على الجامع للاشتغال متبرعا» (¬3). وقال البِرْازلي: «كان عالما بفنون شتى: من الفقه، والأصلين، والنحو. وله يد في التفسير ... واجتمع له العلم والدين، والمال والجاه وحسن الهيئة. ¬

_ (¬1) الذيل لابن رجب 2: 332، والمدخل لابن بدران ص: 211، وهدية العارفين 2: 472 والوافي 26: 78 أ. (¬2) ذيل طبقات الحنابلة 2: 333. (¬3) البداية والنهاية 7: 345.

تلاميذه

وكان صحيح الذهن، جيد المناظرة صبورا فيها. وله بر وصدقة وكان ملازما للإقراء بجامع دمشق من غير معلوم» (¬1). وسئل الشيخ جمال الدين بن مالك أن يشرح ألفيته في النحو؟ فقال: ابن المنجى يشرحها لكم (¬2). وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: كانت له أوراد صالحة من صلاة وذكر. وله إيثار كثير وبر. يفطر عنده الفقراء في بعض الليالي. وفي شهر رمضان كله. وكان حسن الأخلاق (¬3). تلاميذه: درّس الشيخ زين الدين بالحنبلية والصدرية وكان شيخ المسمارية، وأخذ عنه الفقه ابن تيمية، والشيخ شمس الدين بن الفخر البعلي، والشيخ تقي الزريراني، وابن أبي الفتح. وحدث وسمع منه ابن العطار، والمزي، والبِرْزَالي (¬4). وفاته: توفي يوم الخميس رابع شعبان سنة خمس وتسعين وستمائة بدمشق (¬5). وتوفيت زوجته أم محمد ست البهاء بنت الصدر الخُجندي ليلة الجمعة خامس الشهر، وصُلي عليهما معا عقيب صلاة الجمعة بجامع دمشق، ودفنا بتربة بيت المنجى بسفح قاسيون. رحمهما الله تعالى (¬6). ¬

_ (¬1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 333. (¬2) المصدر السابق. والوافي 26: 78 أ. (¬3) ذيل طبقات الحنابلة 2: 333. (¬4) ذيل طبقات الحنابلة 2: 333، وشذرات الذهب 5: 433. (¬5) ذكره في النجوم الزاهرة (7: 77) في وفيات أربع وتسعين. وذكر الصفدي في (الوافي 26: 77 ب) وابن تغري بردي في (الدليل الشافي 2: 743) أنه توفي سنة ست وتسعين. (¬6) ذيل طبقات الحنابلة 2: 333.

المبحث الثاني ترجمة الإمام مو فق الدين ابن قدامة

المبحث الثاني ترجمة الإمام مو فق الدين ابن قدامة صاحب «المقنع»

صفحة فارغة

اسمه ونسبه

الإمام موفق الدين ابن قدامة (541 - 620 هـ) (¬1) اسمه ونسبه: شيخ الاسلام موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قُدامة بن مِقدام بن نصر المقدسيُّ الجَمَّاعيليُّ الصالحي الحنبلي (¬2). ينتهي نسبه إلى الإمام سالم ابن عبدالله بن عمر الفقيه المدني. مولده ونشأته: ولد بجَمَّاعيل من عمل نابلس بفلسطين في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمس مئة. ونشأ فيها نشأته الأولى، وكانت فلسطين قد توطدت فيها دعائم الإسلام بهزيمة الصليبيين على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله. وكان تام القامة، أبيض، مشرق الوجه، أدعج، كأن النور يخرج من وجهه لِحُسنه، واسع الجبين، طويل اللحية، قائم الأنف، مقرون الحاجبين، صغير الرأس، لطيف اليدين والقدمين، نحيف الجسم، مُمَتّعاً بحواسه (¬3). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: البداية والنهاية: 13: 99 - 101، التكملة للمنذري 3: 107، التقييد لابن نقطة: 2: 78، التاج المكلل للقِنَّوْجي 229 - 231، التكملة لوفيات النقلة: 3: 107، ذيل طبقات الحنابلة: 2: 132 - 149، ذيل الروضتين لأبي شامة 139 - 142، سير أعلام النبلاء: 22: 165 - 173، شذرات الذهب: 5: 88 - 92، العبر: 5: 79، فوات الوفيات: 2: 158 - 159، معجم البلدان 2: 113 - 114، المختصر المحتاج إليه 6: 134 - 135، دول الإسلام 2: 39، مرآة الزمان 8: 627 - 630، مختصر المنهج الأحمد: 101، مختصر طبقات الحنابلة: 45، مختصر ذيل طبقات الحنابلة: 56، مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي 2: 627 - 630، معجم البلدان 2: 160، المقصد الأرشد: 2: 15، المنهج الأحمد: 350، النجوم الزاهرة: 6: 256، كما أن الحافظ ضياء الدين المقدسي أفرد ترجمة للشيخ في جزئين. وكذلك أفردها الحافظ الذهبي (). (¬2) المصدر السابق 2: 133. (¬3) سير أعلام النبلاء 22: 166 - 167.

طلبه للعلم ورحلاته

وكان والد الموفق الإمام أبو العباس أحمد بن محمد بن قدامة رئيس هذا البيت المبارك. والشجرة الطيبة الطاهرة. وهو من أهل العلم والفضل والصلاح والزهد. وكان خطيب جمّاعيل. هاجر إلى دمشق مع أخيه الشيخ أبي عمر وابن خالتهما الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد الجماعيلي وابن أختهما الضياء صاحب المختارة وبنوهم وذووهم. وله عشر سنين. ونزلوا هناك في مسجد يعرف بمسجد أبي صالح ظاهر الباب الشرقي. ثم انتقلوا بعد سنتين إلى سفح قاسيون من صالحية دمشق التي عناها ابن قاضي الجبل بقوله: الصالحية جنة ... والصالحون بها أقاموا فعلى الديار وأهلها ... مني التحية والسلام وأنشأوا لهم حياً في سفحه، وأصبحت لهم فيها مكانة مرموقة في العلم والإمامة والصلاح. فقصدهم طلبة العلم من فلسطين وغيرها وانضموا إلى حلقتهم. وكان الموفق في هذه المدة مشتغلاً بحفظ القرآن، ومبادئ العلوم، ومتون فقه المذهب. ومنها مختصر الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين الخرقي المتوفى بدمشق سنة 334 هـ. طلبه للعلم ورحلاته: ولما بلغ الإمام الموفق العشرين من عمره رحل إلى مدينة السلام بغداد. موطن الأئمة الكرام والعلماء الأعلام لطلب العلم الشريف. وصحبه في هذه الرحلة الإمام الحافظ عبد الغني، فنزلا في مدرسة الإمام الشيخ عبدالقادر الجيلاني (¬1)، فلقيا منه ¬

_ (¬1) هو الشيخ عبدالقادر بن أبي صالح موسى بن عبدالله الجيلي البغدادي. ولد بكيلان سنة 471، ورحل إلى بغداد شابا، فسمع بها الحديث من أبي غالب بن الباقلاني، وجعفر السراج، وأبي بكر بن سوسن، وابن بيان، وأبي طالب بن يوسف، وابن خشيش، وأبي الزيني، وتفقه على القاضي أبي سعد المخرامي، وأبي الخطاب الكَلْوَذاني. وقيل: إنه قرأ أيضا على ابن عقيل، والقاضي أبي الحسين، وبرع في المذهب والخلاف والأصول، وغير ذلك. قال عنه ابن السمعاني: إمام الحنابلة وشيخهم في عصره. فقيه صالح. ر ذيل طبقات الحنابلة 1: 291، والنجوم الزاهرة 5: 371، وطبقات الشعراني 1: 108 - 114، وفوات الوفيات 2: 2، والكامل 11: 121.

مشايخه

غاية الإكرام والعناية التامة. ولكنه رحمه الله ما فتئ أن مات، ولم يدركا من أيامه سوى أربعين يوماً (¬1). وكان الموفق يقرأ على الشيخ عبد القادر في «متن أبي القاسم الخرقي». والحافظ يقرأ في «الهداية» لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكَلْوَذاني. وبعد موت الشيخ عبد القادر انتقلا إلى رباط النَّعّال. ولزم الموفق فقيه العراق ناصح الإسلام أبا الفتح نصر بن فتيان الشهير بابن المَنِّي. وقد أقاما أربع سنين في بغداد. ورحل إلى بغداد مرة أخرى سنة سبع وستين ومعه الشيخ العماد وأقاما سنة (¬2). وحج سنة أربع وسبعين وخمسمائة ولقي بمكة إمام الحنابلة بالحرم المكي العلامة الحافظ أبا محمد المبارك بن علي الطباخ البغدادي نزيل مكة المكرمة المتوفى سنة 575 هـ فسمع منه. قال الناصح ابن الحنبلي: ورجع [بعد حجه] مع وفد العراق إلى بغداد وأقام بها. واشتغلنا جميعا على الشيخ أبي الفتح. ثم رجع إلى دمشق واشتغل بتصنيف كتاب المغني في شرح الخرقي (¬3). مشايخه: عبدالقادر الجيلاني. هبة الله بن الحسن الدقاق. أبو الفتح بن البَطّي. أبو زُرْعة بن طاهر. أحمد بن المُقرّب. ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء 22: 166. (¬2) سير أعلام النبلاء 22: 168. (¬3) شذرات الذهب 5: 88.

تلاميذه

ابن تاج القراء. مَعْمر بن الفاخر. أحمد بن محمد الرَّحبي. حَيْدرة بن عمر العلوي. عبدالواحد بن الحُسين البارزي. خديجة النَّهروانية. نفيسة البزَّارة. شُهْدة الكاتبة. المبارك بن محمد البادَرائي. محمد بن محمد بن السَّكن. أبو شُجاع محمد بن الحسين المادَرائي. أبو حنيفة محمد بن عبيد الله الخَطيبي. يحيى بن ثابت. وتلا بحرف نافع على أبي الحسن البطائحي، وبحرف أبي عَمرو على أستاذه أبي الفتح المَنّي. وسمع بدمشق من أبي المكارم بن هلال، وعدة. وبالمَوْصِل من خطيبها أبي الفضل الطوسي. وبمكة من المبارك بن الطباخ. تلاميذه: البهاء عبدالرحمن. الجمال أبو موسى ابن الحافظ. ابن نُقطة. ابن خليل. الضياء. أبو شامة. ابن النجار.

ثناء العلماء عليه

ابن عبد الدائم. الجمال ابن الصيرفي. العز إبراهيم بن عبدالله. الفخر علي. التقي ابن الواسطي. الشمس ابن الكمال. التاج عبدالخالق. العماد بن بَدْران. العز إسماعيل بن الفراء. العز أحمد ابن العماد. أبو الفهم ابن التميس. يوسف الغسولي. زينب بنت الواسطي. آخرهم موتاً التقي أحمد بن مؤمن يروي عنه بالحضور أحاديث. ثناء العلماء عليه: قال ابن النجار: كان إمام الحنابلة بجامع دمشق، وكان ثِقة حُجة نبيلاً، غزير الفضل، نزهاً، ورعاً عابداً، على قانون السلف، عليه النور والوقار، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه (¬1). وقال أبو عمرو ابن الصلاح: ما رأيت مثل الشيخ الموفق (¬2). وقال أبو شامة: كان شيخ الحنابلة موفق الدين إماماً من أئمة المسلمين وعلماً من أعلام الدين في العلم والعمل (¬3). ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء 22: 167. ذيل طبقات الحنابلة 2: 133 - 134. (¬2) شذرات الذهب 5: 90. ذيل طبقات الحنابلة 2: 137. (¬3) شذرات الذهب 5: 88.

بلوغه درجة الاجتهاد

وقال سبط ابن الجوزي: كان إماماً في فنون، ولم يكن في زمانه -بعد أخيه أبي عمر والعماد- أزهد ولا أورع منه. وكان كثير الحياء. عزوفاً عن الدنيا وأهلها. هيناً ليناً متواضعاً. محباً للمساكين حسن الأخلاق. جواداً سخياً. من رآه كأنه رأى بعض الصحابة. وكأنما النور يخرج من وجهه. كثير العبادة. يقرأ كل يوم وليلة سُبعاً من القرآن. ولا يصلي ركعتي السنة في الغالب إلا في بيته. اتباعاً للسنة. وكان يحضر مجالسي دائماً في جامع دمشق وقاسيون (¬1). وقد مدحه الشيخ يحيى الصرصري، في جملة القصيدة الطويلة اللامية (¬2): وفي عصرنا كان الموفق حجة ... على فقهه، بثبت الأصول محولي كفى الخلق بالكافي، وأقنع طالبا ... بمقنع فقه عن كتاب مطول وأغنى بمغني الفقه من كان باحثا ... وعمدته من يعتمدها يحصل وروضته ذات الأصول كروضة ... أماست بها الأزهار أنفاس شمأل تدل على المنطوق أوفى دلالة ... وتحمل في المفهوم أحسن محمل بلوغه درجة الاجتهاد: قال الضياء المقدسي: وسمعت أبا بكر محمد بن معالي بن غَنيمة يقول: ما أعرف أحداً في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق (¬3). عبادته: قال الضياء المقدسي: كان يصلي بخشوع، ولا يكاد يُصلي سنة الفجر والعشاءين إلا في بيته. وكان يصلي بين العشاءين أربعا بـ «السجدة»، و «يس»، و «الدخان»، و «تبارك». لا يكاد يخل بهن. ويقوم السَّحَر بسُبع، وربما رفع صوته، وكان حَسن الصوت (¬4). ¬

_ (¬1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 134. (¬2) ذيل طبقات الحنابلة 2: 140 - 141. (¬3) سير أعلام النبلاء 22: 169. شذرات الذهب 5: 88. ذيل طبقات الحنابلة 2: 136. (¬4) سير أعلام النبلاء 22: 171.

أولاده

أولاده: قال الضياء: وجاءه من بنت عمته مريم: المجد عيسى، ومحمد، ويحيى، وصفية، وفاطمة. وماتوا جميعا في حياته. ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولدين، ثم ماتا وانقطع نسله. ثم تسرى بجارية، ثم بأخرى. ثم تزوج امرأة يقال لها عِزّية فماتت قبله (¬1). مصنفاته: قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: صنف الشيخ الموفق -رحمه الله- التصانيف الكثيرة الحسنة في المذهب. فروعا وأصولا. وفي الحديث، واللغة، والزهد، والرقائق. وتصانيفه في أصول الدين في غاية الحسن. أكثرها على طريقة أئمة المحدثين. مشحونة بالأحاديث والآثار وبالأسانيد. قال الحافظ الضياء: رأيت الإمام أحمد بن حنبل في النوم وألقى عليّ مسألة في الفقه. فقلت: هذه في الخرقي. فقال: ما قصّر صاحبكم الموفق في شرح الخرقي (¬2). وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المحلّى والمجلّى، وكتاب المغني للشيخ موفق الدين بن قدامة في جودتها وتحقيق ما فيها (¬3). وعنه أيضا أنه قال: لم تطب نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة المغني (¬4). وفيما يلي نذكر ما وقفنا عليه من كتب الإمام الموفق. 1. الاستبصار في نسب الأنصار. مجلد. ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء 22: 172. (¬2) ذيل طبقات الحنابلة 2: 140. (¬3) المرجع السابق. شذرات الذهب 5: 91. (¬4) المرجعان السابقان.

2. الاعتقاد. جزء. 3. البرهان في مسألة القرآن. جزء. 4. التبيين في نسب القرشيين. مجلد. 5. تحفة الأحباب في بيان حكم الأذناب. 6. التوابين. جزآن. وطبع بدار البيان العربي بدمشق سنة 1969 م، بتحقيق عبدالقادر الأرناؤوط. 7. ذم التأويل. جزء. وطبع ضمن مجموع بمطبعة كردستان العلمية بمصر سنة 1329 هـ. 8. ذم الوسواس. جزء. 9. رسالة إلى الشيخ فخر الدين ابن تيمية في عدم تخليد أهل البدع في النار. 10. كتاب الرقة والبكاء. جزآن. 11. رسالة في التصوف. 12. روضة الناظر وجنة المناظر. وهو كتاب في مجلد متوسط، رتبه على ثمانية أبواب، عدد أبواب الجنة. وطبع في السلفية بمصر سنة 1342 هـ، كما طبع بدمشق في مجلدين مع شرح ابن بدران الدمشقي. 13. العمدة. مجلد صغير. 14. فضائل الصحابة. جزآن. 15. فضل العشر. جزء. 16. فضل عاشوراء. جزء. 17. القدر. جزآن. 18. قنعة الأريب في الغريب. مجلد صغير. 19. الكافي.

شعره

قال ابن قدامة في مقدمته: «توسطت فيه بين الإطالة والاختصار وأومأت إلى أدلة مسائله مع الاقتصار، وعزيت أحاديثه إلى كتب أئمة الأمصار. ليكون الكتاب كافيا في فنه عما سواه». (¬1) طبع في أربعة مجلدات بتحقيق الأستاذ زهير الشاويش. سنة 1399 هـ 1979 م. المكتب الاسلامي. بيروت. 20. كتاب المتحابين في الله. جزآن. 21. مختصر العلل للخلال. مجلد ضخم. 22. مختصر الهداية. جزء. 23. مسألة تحريم النظر في كتب أهل الكلام. 24. مسأله العلو. 25. مشيخة شيوخه. جزء. 26. المغني شرح مختصر الخرقي. طبع مع الشرح الكبير، في مطبعة المنار بمصر في اثني عشر مجلدا. وطبع مستقلا بمطبعة المنار في تسعة أجزاء. 27. المقنع. جزء. طبع بمطعبة المنار في مصر سنة 1322 هـ، في جزأين. ثم طبع بالمطبعة السلفية بمصر. 28. مناسك الحج. جزء. 29. منهاج القاصدين في فضائل الخلفاء الراشدين. 30. وصيته. شعره: للشيخ موفق الدين نظم كثير حسن. وقيل: إن له قصيدة في عويص اللغة طويلة. وله مقطعات من الشعر. فمنها قوله: أتغفل يابن أحمد والمنايا ... شوارع تخترمنك عن قريب أغرك أن تخطيك الرزايا ... فكم للموت من سهم مصيب؟ ¬

_ (¬1) الكافي 1: 1 - 2.

كؤوس الموت دائرة علينا ... وما للمرء بد من نصيب إلى كم تجعل التسويف دأبا ... أما يكفيك إنذار المشيب؟ أما يكفيك أنك كل حين ... تمرُّ بغير خلٍّ أو حبيب؟ كأنك قد لحقت بهم قريبا ... ولا يغنيك إفراط النحيب قال سبط ابن الجوزي: وأنشدني الموفق لنفسه: أبعد بياض الشعر أعمِّر مسكنا ... سوى القبر؟ إني إن فعلت لأحمق يخبرني شيبي بأني ميت ... وشيكا، وينعاني إلي، فيصدق تخرق عمري كل يوم وليلة ... فهل مستطيع رَفْق ما يتخرق كأني بجسمي فوق نعشي ممددا ... فمن ساكت أو معول يتحرق إذا سئلوا عني أجابوا وأعولوا ... وأدمعهم تنهل: هذا الموفق وغيبت في صدع من الأرض ضيق ... وأودعت لحدا فوقه الصخر مطبق ويحثو علي الترب أوثق صاحب ... ويسلمني للقبر من هو مشفق فيارب كن لي مؤنسا يوم وحشتي ... فإني لما أنزلته لمصدق وما ضرني إني إلى الله صائر ... ومن هو من أهلي أبر وأرفق قال أبو شامة: ونقلت من خطه: لا تجلسن بباب من ... يأبى عليك دخول داره ويقول حاجاتي إليـ ... ـه يعوقها إن أداره واتركه واقصد ربها ... تُقضى وربُّ الدار كاره (¬1) وفاته: توفي يوم السبت يوم عيد الفطر سنة عشرين وست مئة، وصُلِّي عليه من الغد. وحمل إلى سفح قاسيون. فدفن به. وكان جمع عظيم لم ير مثله (¬2). ¬

_ (¬1) ذيل طبقات الحنابلة 2: 141 - 142. (¬2) ذيل طبقات الحنابلة 2: 142.

رثاؤه

قال وكنا بجبل بني هلال. فرأينا على قاسيون ليلة العيد ضوءا عظيما. فظننا أن دمشق قد احترقت. وخرج أهل القرية ينظرون إليه. فوصل الخبر بوفاة الموفق يوم العيد (¬1). وقال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: حكى إسماعيل بن حماد الكاتب البغدادي قال: رأيت ليلة عيد الفطر كأن مصحف عثمان قد رفع من جامع دمشق إلى السماء. فلحقني غم شديد. فتوفي الموفق يوم العيد (¬2). ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى (¬3). رثاؤه: رثاه الشيخ صلاح الدين أبو عيسى موسى بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي في قصيدة له (¬4): لم يبق لي بعد الموفق رغبة ... في العيش، إن العيش سم منقع صدر الزمان وعينه وطرازه ... ركن الأنام الزاهد المتورع بحر العلوم أبو الفضائل كلها ... شمل الشريعة بعده لا يجمع كان ابن أحمد في مقام محمد ... إن هالهم أمر إليه يفزعوا فيبين مشكله، ويوضح سره ... ويذب عن دين الإله ويدفع ببصيرة يجلو الظلام ضياؤها ... يبدي العجائب، نورها يتشعشع فاليوم قد أضحى الزمان وأهله ... غرضا لكل بلية تتنوع والعلم قد أمسى كأن بواكيا ... تبكي عليه وحبله يتقطع وتعطلت تلك المجالس، وانقضت ... تلك المحافل، ليتها لو ترجع هيهات بعدك يا موفق! يرتجى ... للناس خير، أو مقال يسمع لله درك كم لشخصك من يد ... بيضاء في كل الفضائل ترتع ¬

_ (¬1) المرجع السابق 2: 142 - 143. شذرات الذهب 5: 92. (¬2) المرجع السابق. (¬3) البداية والنهاية 13: 100. (¬4) ذيل طبقات الحنابلة 2: 143 - 144.

قد كنت عبدا طائعا لا تنثني ... عن باب ربك في العبادة توسع كم ليلة أحييتها وعمرتها ... والله ينظر والخلائق هجع تتلو كتاب الله في جنح الدجى ... كزبور داود النبي ترجع لو كان يمكن من فدائك رخصة ... لفدتك أفئدة عليك تقطع هذه خلاصة لترجمة الإمام موفق الدين بن قدامة رحمه الله.

المبحث الثالث أهمية كتاب الممتع في شرح المقنع

المبحث الثالث أهمية كتاب الممتع في شرح المقنع

صفحة فارغة

أهمية كتاب الممتع في شرح المقنع ترجع قيمة كتاب «الممتع» لمكانة وشهرة كتاب «المقنع» للإمام الموفق ابن قدامة (ت 620 هـ) والذي يعتبر بحق قطب رحى الفقه الحنبلي. سارت بتصانيفه الركبان، وانكب عليها طلبة العلم حفظاً واشتغالا، ودرساً ومذاكرة. ودارت حولها تصانيف العلماء الحنابلة الذين أتوا بعده ما بين مختصر وشرح ونظم وحاشية ودمج مع كتب أخرى وشرح لها. وفيما يلي نستعرض شروح المقنع والتصانيف عليه مرتبة حسب وفيات أصحابها: 1. شرح الإمام عبدالرحمن بن إبراهيم السعدي (ت 624 هـ). قال العلامة شيخ الإسلام أحمد بن نصر الله البغدادي ثم المصري: وشرحه للمقنع محقق. وهو عندي في ثلاث مجلدات كبار. 2. زوائد الكافي والمحرر على المقنع للشيخ عبدالرحمن بن عبيدان الحنبلي (ت 630 هـ). 3. الشرح الكبير للشيخ عبد الرحمن بن الإمام أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، ابن أخي ابن قدامة (ت 682 هـ). قال في خطبته: «اعتمدت في جمعه على كتاب المغني وذكرت فيه من غيره مالم أجده فيه من الفروع والوجوه والروايات، ولم أترك من كتاب المغني إلا شيئا يسيرا من الأدلة، وعزوت من الأحاديث ما لم يعز مما أمكنني عزوه» (¬1). وطريقته فيه: أنه يذكر المسألة من المقنع، فيجعلها كالترجمة، ثم يذكر مذهب الموافق فيها والمخالف لها، ويذكر ما لكل من دليله، ثم يستدل ويعلل للمختار، ويزيف دليل المخالف، فمسلكه مسلك الاجتهاد إلا أنه مقيد في مذهب الإمام أحمد (¬2). ¬

_ (¬1) الشرح الكبير 1: 4. (¬2) المدخل لابن بدران ص: 435.

وقد سمى هذا الشرح بـ «الشافي»، واشتهر باسم «الشرح الكبير». طبع مع المغني في اثني عشر مجلدا بمبطعة المنار بمصر. 4. الممتع في شرح المقنع للإمام المنجى بن عثمان التنوخي (ت 695 هـ). وهذا الكتاب الذي نحن بصدد إخراجه، وسوف يأتي الحديث عنه بالتفصيل. 5. المنظومة الدالية في نظم المقنع للعلامة شمس الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالقوي بن بدران المقدسي المرداوي (ت 699 هـ). 6. المطلع على أبواب المقنع للعلامة اللغوي شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي (ت 709 هـ). وقد أجاد في مباحث اللغة، ونقل في كتابه فوائد منها دلت على رسوخ قدمه في اللغة والأدب، وكثيرا ما يذكر فيه مقالا لشيخه الإمام محمد بن مالك المشهور. غير أنه رتبه على أبواب الكتاب لا على حروف المعجم، ثم ذيله بتراجم الأعلام المذكورين في المقنع. فهو كـ «المُغْرِب» للحنيفة، و «المصباح» للشافعية (¬1). وقد اختصر «المطلع» ابن أبي الفتح عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد بن أبي بكر بن إسماعيل شرف الدين الزريرتي البغدادي الفقيه (ت 741 هـ) (¬2). 7. شرح الحارثي للشيخ سعد الدين أبو محمد مسعود بن أحمد الحارثي البغدادي (ت 711 هـ). وشرحه هذا شرحاً لقطعة من كتاب «المقنع في الفقه». قال الحافظ ابن رجب: «من العارية إلى آخر الوصايا» (¬3). وجاء في مقدمة الإنصاف للمرداوي: «ومما نقلت منه من الشروح ... وقطعة من الحارثي من العارية إلى الوصايا عليه» (¬4). ¬

_ (¬1) المدخل لابن بدران ص: 436 - 437. (¬2) ذيل الطبقات 2: 435. (¬3) ذيل الطبقات 2: 363. (¬4) الانصاف 1: 15.

8. كفاية المستقنع لأدلة المقنع لأبي المحاسن يوسف بن محمد المقدسي (ت 719 هـ). توجد منه نسخة بدار الكتب المصرية برقم (11 فقه حنبلي). وله كتاب أسماه «الانتصار» في الحديث بوبّه على أبواب «المقنع»، وله حواشٍ أيضا على «المقنع» (¬1). 9. المطّلع على أبواب المقنع للشيخ زين الدين عبدالرحمن بن محمود بن عبيد البعلي (ت 734 هـ). وله شرح قطعة من أول المقنع، كما جمع زوائد «المحرر» على «المقنع» (¬2). 10. زوائد الكافي والمحرر على المقنع لابن عبيدان (ت 734 هـ). 11. شرح ابن مفلح شمس الراميني (ت 762 هـ). ويقع في نحو ثلاثين مجلدا، وله حاشية أيضا على «المقنع» (¬3). 12. تصحيح الخلاف المطلق لمحمد بن عبد القادر بن عثمان بن عبدالرحمن بن عبد المنعم الجعفري النابلسي (ت 797 هـ). (¬4) 13. شرح ابن مفلح (ت 803 هـ). إبراهيم بن محمد بن مفلح، تقي الدين ابن العلامة شمس الدين، ويعرف كأبيه بابن مفلح (¬5). 14. شرح عز الدين المقدسي (ت 820 هـ). 15. التنقيح المشبع لابن مغلي (ت 828 هـ). 16. المبدع شرح المقنع للشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد الأكمل بن عبدالله ابن محمد بن مفلح (ت 884 هـ). ¬

_ (¬1) الجوهر المنضد ص: 177. وتوقع محققه الدكتور عبدالرحمن العثيمين أن يكون كتاب «الانتصار» هو «كفاية المستقنع لأدلة المقنع». (¬2) ذيل طبقات الحنابلة 2: 421. (¬3) النجوم الزاهرة 11: 16، والدرر الكامنة 5: 30. (¬4) شذرات الذهب 6: 349، والدرر الكامنة 4: 138. (¬5) شذرات الذهب 7: 22، والسحب الوابلة 1: 67.

قال في خطبته: وكنت قرأت كتاب «المقنع» ... وهو من أجلها تصنيفا، وأجملها ترصيفا، وأغزرها علما، وأعظمها تحريرا، وأحسنها ترتيبا وتقريرا (¬1). وقد شرحه في أربع مجلدات ضخام، مزج المتن بالشرح، ولم يتعرض به لمذاهب المخالفين، إلا نادرا، ومال فيه إلى التحقيق وضم الفروع، سالكا مسلك المجتهدين في المذهب (¬2). 17. الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لأبي الحسن علي بن سليمان المرداوي (ت 885 هـ). وطريقته فيه: أنه يذكر في المسألة أقوال الأصحاب، ثم يجعل المختار ما قاله الأكثر منهم، سالكا في ذلك مسلك ابن قاضي عجلون في تصحيحه لمنهاج النووي وغيره من كتب التصحيح. واستقصى فيه ما أطلقه الموفق في المقنع من مسائل الخلاف من غير ترجيح فبين المرداوي في الإنصاف الصحيح من المذهب والمشهور والمعمول عليه والمنصور. 18. التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع، للمرداوي (ت 885 هـ). اقتضبه من كتابه «الإنصاف». وصحح فيه ما أطلقه الشيخ الموفق في «المقنع» من الروايتين أو الروايات، ومن الوجهين أو الأوجه، وقيّد ما أخلّ به من شرط، وفسر ما فيه من إبهام في حكم أو لفظ، واستثنى من عموم ألفاظه ما هو مستثنى على المذهب، حتى خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما هو مفيد للإطلاق، وكمّل على بعض فروع مسائله ما هو مرتبط بها، وزاد عليه مسائل محررة مصححة، فصار تصحيحاً لغالب ما في المطولات. وأما ما قطع به الشيخ في المقنع من الحكم، أو قدمه، أو صححه، أو ذكر أنه المذهب وكان موافقاً للصحيح ومفهومه مخالفاً لمنطوقه: فإنه لم يتعرض إليه غالباً. ¬

_ (¬1) المبدع 1: 18. (¬2) المدخل لابن بدران ص: 435.

19. تصحيح الخلاف المطلق في المقنع للشيخ عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن الزين بن الشمس العليمي (ت 928 هـ) (¬1). 20. التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح للشيخ شهاب الدين أحمد بن أحمد العلوي الشويكي المقدسي (ت 939 هـ). طبع سنة 1371 هـ 1952 م في مطبعة السنة المحمدية. 21. زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ شرف الدين موسى بن أحمد الحَجّاوي المقدسي (ت 968 هـ). قال في مقدمته: أما بعد فهذا مختصر في الفقه من مقنع الإمام الموفق أبي محمد على قول واحد، وهو الراجح في مذهب أحمد، وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع، وزدت على مثله يعتمد (¬2). وقد طبع طبعات عديدة مفردا ومع شرحه «الروض المربع» للشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (ت 1051 هـ). 22. منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات للإمام تقي الدين محمد ابن أحمد بن عبدالعزيز بن علي الفتوحي الحنبلي الشهير بابن النجار (ت 972 هـ). قال ابن النجار: جمعت فيه بين «المقنع» و «التنقيح المشبع» الذي هو تصحيح عليه، وزدت على مسائلهما ما ظهر لي أنه من المحتاج إليه (¬3). طبع في مجلدين على نفقة الأمير أحمد بن علي آل ثاني. مكتبة دار العروبة. القاهرة. وقد شرحه مؤلفه في كتاب سماه «معونة أولي النهى شرح المنتهى». قال ابن النجار: لكنني لما بالغت في اختصار ألفاظه، صارت ألفاظه، على وجوه غير آيس [أي مستخرج] معانيه كالنقاب فاحتاجت إلى شرح يبرزها لمن يريد ¬

_ (¬1) السحب الوابلة 2: 518. (¬2) زاد المستقنع ص: 3. (¬3) معونة أولي النهى 1: 148.

إبرازها من الطلاب والخطاب، فتصديت لكتاب يشرحه شرحاً يبين حقائقه ويوضح معانيه ودقائقه (¬1). وقد يسر الله لي تحقيقه وإخراجه في تسع مجلدات ضخام في عام 1416 هـ / 1995 م. نشر: مكتبة النهضة. مكة المكرمة. كما شرحه العلامة منصور البهوتي (ت 1051 هـ)، وهو شرح مطبوع في ثلاثة مجلدات. ¬

_ (¬1) معونة أولي النهى 1: 149.

المبحث الرابع منهجه في كتاب الممتع

المبحث الرابع منهجه في كتاب الممتع

صفحة فارغة

منهجه في كتاب الممتع قال المصنف في خطبته: «ولما رأيت همم المشتغلين بمذهب الإمام المبجل، أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه متوفرة على حفظ الكتاب المسمى بـ «المقنع» تأليف الشيخ الإمام، العالم العلامة، شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد عبدالله المقدسي: أحببت أن أشرحه، وأبين مراده وأوضحه، وأذكر دليل كل حكم، وأصححه». من خلال العبارة السابقة نستطيع أن نوضح منهج ابن المنجى في كتابه «الممتع»، والذي أجمله فيما يلي: شَرْحُ عبارة «المقنع»، وتبيين مراد الموفّق. ذكر أدلة أحكام المسائل التي ذكرها الموفّق في «المقنع». تصحيح الروايات والأوجه. وفيما يلي تفصيل لهذا المنهج: أولا: شرح عبارة «المقنع»: سبق وأن ذكرنا أن ابن المنجى قرأ النحو على إمام النحاة في عصره جمال الدين ابن مالك (¬1)، كما ذكرنا أن ابن مالك سُئِل أن يشرح ألفيته في النحو؟ فقال: ابن المنجى يشرحها لكم (¬2). وهذا يدل على تمكنه من العربية، وقدرته على شرح ألفاظها وإدراك مراميها، ومعرفة غريبها، والإحاطة بمقاصدها. هذه المقدرة التي شده له بها علاّمة عصره ابن مالك. وطريقته في شرح «المقنع» كما رأيناها من خلال دراستنا لهذا الكتاب أنه يذكر المسألة منه كالترجمة، ويشرحها بعبارات سهلة، وأسلوب رصين، شارحا ¬

_ (¬1) ر ص: 12. (¬2) ر ص: 13.

غريب الكلمات، مبيناً مراد المصنف، مقرباً ألفاظه، محققاً لآرائه. مما جعل «الممتع» ممتعا لمطالعه. ثانيا: ذكر أدلة الأحكام: أكثر المصنف رحمة الله عليه من سوق الأدلة النقلية والعقلية عند شرحه المسائل، مع عزو الأحاديث إلى المصادر المشهورة من كتب السنة. ثالثا: تصحيح المسائل والروايات: من المعلوم أن الموفق في كتابه «المقنع» أطلق الروايات والأوجه في المسائل من غير ترجيح، وقد اعتنى ابن المنجى في كتابه «الممتع» عناية كبيرة بتصحيح الروايات والأوجه، ونقل تصحيح الأصحاب إن وجد، ونرى هذا جليا من خلال المسائل الواردة في ثنايا الكتاب. وقد سلك مسلكا آخر في تصحيح الروايات والأوجه، وذلك بحمل إحدى الروايتين أو الوجهين على حالة، والأخرى على حالة أخرى، مثال ذلك: قال الشارح (1: 422) عند قول المصنف: (ثم يرفع رأسه مكبراً ويقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إلا أن يشق عليه فيعتمد بالأرض. وعنه: أنه يجلس جلسة الاستراحة على قدميه وإليتيه ثم ينهض). قال بعد ما ذكر الروايتين في جلسة الاستراحة في الصلاة: وقيل: اختلاف الروايتين يرجع إلى اختلاف حالتين؛ فحيث قال: يجلس إذا كان المصلي ضعيفاً. وحيث قال: لا يجلس أراد إذا كان قوياً. اهـ. وبهذا يعتبر «الممتع» مرجعا لمعرفة الروايات والأوجه الراجحة. ومن خلال تتبع منهج ابن المنجى في كتابه «الممتع»، يمكن إضافة الأمور التالية على منهجه: اعتنى الشارح بتصويب وتصحيح وتقييد عبارة الموفق في «المقنع»، وقد نقل في بعض الأحيان إذن الموفق بإدخال بعض التعديلات على «المقنع». مثال ذلك: قال الشارح في باب الغسل من كتاب الطهارة (1: 223) عند قول المصنف (وفي الولادة وجهان) -أي في وجوب الغسل- قال: ولا بد أن يُلحظ أن

الولادة عرية عن الدم لأنها إذا لم تكن كذلك يكون نفاسًا موجبًا للغسل بلا خلاف لما تقدم. ولذلك ألحق بعض من أذن له المصنف رحمه الله في الإصلاح: العارية عن الدم. ليخرج الولادة التي معها دم عن الخلاف المذكور. وقال في باب النية من كتاب الصلاة (1: 405) عند قول المصنف: (وإن انتقل من فرض إلى فرض بطلت الصلاتان). قال: وفي قول المصنف رحمه الله: بطلت الصلاتان نظر فإن الثانية لا توصف بالبطلان لكن توصف بعدم الصحة. قارن الشارح بين آراء الموفق في المقنع وآرائه في كتابيه «المغني»، و «الكافي»، ونقل تعليلاته من كلا الكتابين، وناقشه إن اقتضى الأمر ذلك. مثال ذلك: قال في فصل الاستطاعة من كتاب المناسك (2: 314) تعليقا على قول المصنف (الشرط الخامس: الاستطاعة. وهو: أن يملك زاداً وراحلة صالحة لمثله بآلتها الصالحة لمثله، أو ما يقدر به على تحصيل ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وقضاء دينه ومؤونته ومؤونة عياله على الدوام). قال: وأما قول المصنف رحمه الله: على الدوام ففيه نظر وذلك أنه ذكر في المغني والكافي نفقة العيال. وقال فيهما: إلى أن يعود. وكذلك قال سائر الأصحاب. وطريق التصحيح أن يحمل قوله هنا على ذلك، ويمكن أن يحمل ذلك على ظاهره ويكون قد قصد النفقة عليه وعلى عياله في ذهابه وعوده وما بعد ذلك. فإن أبا الخطاب وغيره ذكر نفقة العيال إلى أن يعود. ثم قال: وأن يكون له إذا عاد ما يكفيه من صناعة أو تجارة أو عقار. إلا أن ظاهر كلامه في المغني يقتضي عدم اشتراط ذلك لأنه ذكر نفقة العيال والمسكن والخادم وعلل ذلك. ثم قال: وذكر أبو الخطاب أن من شرط وجوب الحج عليه أن يكون له إذا رجع ما يكفيه من تجارة أو عقار أو نحو ذلك. لم يتعرض الشارح لغير مذهب الإمام أحمد بل اقتصر على ذكر مذهب الإمام أحمد في المسائل، وكذلك ذكر آراء شيوخ المذهب. يلاحظ أن الشارح ترك بعض المسائل من غير تحرير، وقد اخترمته المنية قبل إتمامها، وهي مسائل قليلة جدا لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، نذكر منها: قوله في باب عقد الذمة من كتاب الجهاد (2: 626) تعليقا على حديث الزهري

«أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب». قال: وأما ما روى الزهري. ثم تُرك بعدها بياض في بعض النسخ، وفي نسخة أخرى لم يترك فراغ بل ذكر المسألة بعدها مباشرة. المصطلحات الفقهية: ساق الشارح رحمه الله عدداً من المصطلحات والألفاظ، وفيما يلي عرض لهذه الألفاظ وبيان لمدلولاتها والمقصود منها: الرواية: هي الحكم المروي عن الإمام أحمد رضي الله عنه في المسألة (¬1). النص: هو الصريح في الحكم بما لا يحتمل غيره (¬2). وعنه: هو عبارة عن رواية عن الإمام، والضمير فيه له، وإن لم يتقدم له ذكره، لكونه معلوما (¬3). الوجه: هو قول بعض الأصحاب وتخريجه، إن كان مأخوذاً من قواعد الإمام أحمد أو إيمائه أو دليله أو تعليله أو سياق كلامه وقوته. وإن كان مأخوذاً من نصوص أحمد ومخرجاً منها فذلك روايات مخرجة له ومنقولة من نصوصه إلى ما يشابهها من المسائل إن قلنا أن ما قيس على كلامه مذهب له. وإن قلنا: لا. فهي أوجه لمن خرجها وقاسها. فإن خرّج من نص ونقله إلى مسألة فيها نص يخالف ما خرّج فيها صار فيها رواية منصوصة ورواية مخرجة منقولة من نصه إذا قلنا المخرج من نصه مذهبه. وإن قلنا: لا. ففيها رواية أحمد ووجه لمن خرجه. وإن لم يكن فيها وجه يخالف القول المخرج من نصه في غيرها فهو وجه لمن خرّجه. فإن خالفه غيره من الأصحاب في الحكم دون طريق التخريج ففيها للمخرج ولمن خالفه في الحكم وجهان، وإن جهلنا مستندها فليس لأحدهما قولاً مخرجاً للإمام ولا مذهباً له. ¬

_ (¬1) المطلع ص: 460. (¬2) الإنصاف 1: 9. (¬3) المطلع ص: 460.

ومن قال من الأصحاب عن مسألة: فيها رواية واحدة: أراد نص الإمام، ومن قال: فيها روايتان: فإحداهما بنص والأخرى بإيماء أو تخريج من نص آخر له أو نص جُهل منكره. ومن قال: فيها وجهان: أراد عدم نصه عليهما، سواء جهل مستنده أو علمه. ولم يجعله مذهباً لأحمد. فلا يعمل إلا بأصح الوجهين وأرجحهما، سواء وقعا معاً أو لا، من واحد أو أكثر، سواء علم التاريخ أو جهل (¬1). الاحتمال: هو أن الحكم المذكور قابل لأن يقال فيه بخلافه (¬2)، ويكون لدليل مرجوح بالنسبة إلى ما خالفه، أو دليلٍ مساوٍ له (¬3). والاحتمال في معنى الوجه، إلا أن الوجه مجزوم بالفتيا به، والاحتمال تبيين أن ذلك صالح لكونه وجهاً (¬4). التخريج: هو نقل حكم مسألة إلى ما يشابهها والتسوية بينهما فيه (¬5). ظاهر المذهب: هو المشهور في المذهب (¬6)؛ كنقض الوضوء بأكل لحم الجزور. ولا يكاد يطلق إلا على مافيه خلاف عن الإمام أحمد (¬7). ¬

_ (¬1) معونة أولي النهى 9: 584، والمطلع ص: 460. (¬2) المطلع ص: 460. (¬3) معونة أولي النهى 9: 584. (¬4) المطلع ص: 461. (¬5) المطلع ص: 461، والإنصاف 1: 6، ومعونة أولي النهى 9: 585. (¬6) الإنصاف 1: 7. (¬7) المطلع ص: 461.

صفحة فارغة

المبحث الخامس موارده في كتاب الممتع

المبحث الخامس موارده في كتاب الممتع

صفحة فارغة

موارده في كتاب الممتع: الإرشاد في الفروع الحنبلية لابن أبي موسى (345 ـ 428 هـ) محمد بن أحمد بن حمد بن عيسى بن أحمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن عبدالله بن معبد بن عبدالمطلب الهاشمي، أبو علي، وأبو موسى، من القضاة. كان عالي القدر، سامي الذكر، له القدم العالي، والحظ الوافر (¬1). الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ) القاسم بن سلاّم الهروي الأزدي الخزاعي، بالولاء، الخراساني البغدادي، أبو عبيد. من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه. من أهل هراة، ولد وتعلم بها. وكان مؤدِّبا. ورحل إلى بغداد فولي القضاء بطرطوس 18 سنة ورحل إلى مصر، وحج فتوفي بمكة. وصنف الكتب في كل فن من العلوم والآداب واللغة والتفسير والحديث والفقه وغير ذلك. ومن مؤلفاته: كتابه هذا «الأموال». وهو من أمهات كتب الأموال في الإسلام. يقول في القفطي: «وكتابه الأموال من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده»، و «فضائل القرآن» و «غريب الحديث»، و «الغريب المصنّف»، و «الأمثال»، وغير ذلك وأكثر مؤلفاته مطبوعة. كما أن كتب ومصنفات أبو عبيد من الأهمية لدرجة أن كل ممن يشتغل بالتراث لابد مستفيد منها، حيث صنف في جميع الفنون تقريباً (¬2). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة للفراء: 368، والمنتظم: 8: 93، وطبقات الفقهاء للشيرازي: 147، والنجوم الزاهرة: 5: 26، والمنهج الأحمد: 2: 95 ـ 98، وشذرات الذهب: 3: 238، وانظر المدخل لابن بدران: 417. (¬2) مصادر ترجمته: طبقات ابن سعد 7: 355، وطبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1: 259، ومعجم الأدباء: 16: 4، وتاريخ بغداد: 12: 403، ووفيات الأعيان: 3: 225، وإنباه الرواة: 3: 12، وبغية الوعاة: 2: 253، وطبقات النحويين واللغويين: 217، ونزهة الألباء: 109، وتهذيب التهذيب: 8: 315، وتذكرة الحفاظ: 2: 417، وسير أعلام النبلاء 10: 490، ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1: 141، وطبقات المفسرين للداودي: 2: 34، وطبقات القراء لابن الجزري: 2: 17، وصفة الصفوة: 4: 103، وطبقات الشافعية للسبكي: 2: 153، وشذرات الذهب: 2: 54.

الانتصار لأبي الخطاب الكَلْوَذاني (432 ـ 510 هـ) محفُوظ بن أحمد بن الحسن الكَلْوَذاني، البغدادي، الأزجي الحنبلي (أبو الخطاب). فقيه، أصولي، متكلم فرضي، أديب، ناظم. سمع الكثير وتفقه ودرس على القاضي أبي يعلى، وهو أحد الأئمة في المذهب، وقرأ الفرائض، ودرس، وحدث وأفتى، وناظر. توفي ببغداد ودفن بالقرب من الإمام أحمد. صنف الكثير من الكتب، ومن تصانيفه كتابه هذا: «الانتصار في المسائل الكبار». ذكر فيه أفراد المسائل الكبار من الخلاف بين الأئمة؛ وينتصر فيه لمذهب الإمام أحمد، مع ذكر ما استدل به أصحاب كل إمام لنصرة إمامه وهدمه، ومثله مفردات القاضي أبي يعلى الصغير، ومفردات الإمام أبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي. وقد طبع هذا الكتاب مؤخراً ونشر بمكتبة العبيكان بالرياض بتحقيق د. عوض بن رجاء العوفي وآخرين. ذكر ابن المنجى في موارده كتباً أخرى لأبي الخطاب الكلوذاني هي: - رؤوس المسائل. - الهداية. - التهذيب في الفرائض والوصايا. وسيأتي التعريف بها إن شاء الله في مواضعهما (¬1). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة: 1: 116، ومختصره: 13، والمنهج الأحمد: 2: 233، والمقصد الأرشد: 3: 25، والمنتظم: 9: 190 ـ 193، وسير أعلام النبلاء: 19: 347، تذكرة الحفاظ: 4: 56، والكامل: 1: 524، واللباب: 3: 107، مرآة الزمان: 8: 41، والعبر: 4: 21، والبداية: 12: 180، والنجوم الزاهرة: 5: 212، وشذرات الذهب: 4: 27. وانظر: المدخل لابن بدران: 419، 453.

الأوسط لابن المنذر (241 - 318 هـ) محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابوري، الإمام الحافظ الثقة. له المؤلفات النافعة التي تدل على غزارة علمه، وسعة اطلاعه. وقد اتفق العلماء على أن كتبه التي صنفها في اختلاف العلماء، لم يصنف أحد مثلها، وأن كل كتاب أُلّف في اختلاف الفقهاء كَلٌّ عليها، وأنها قد بلغت الغاية في التحقيق، وأن اعتماد علماء الطوائف كلها في نقل المذاهب ومعرفتها على كتبه (¬1). تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (391 - 463) أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي، الحافظ أبو بكر، كان مهيبا وقورا ثقة حجة. صنف قريبا من مائة مصنف (¬2). التاريخ الكبير للبخاري (194 ـ 256 هـ) سيأتي التعريف به عند ذكر كتابه «صحيح البخاري» ص: 57. التذكرة لابن عقيل (431 ـ 513 هـ) هو: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري، الحنبلي. الإمام، الفقيه الأصولي المقرئ الواعظ، أحد المجتهدين صاحب المؤلفات الكثيرة. قال عنه ابن حجر في لسان الميزان: «كان معتزليا ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك، وصحت توبته ثم صنف في الرد عليهم، وقد أثنى عليه أهل عصره، ومن بعدهم». اعتمد ابن المنجى في كثير من مصادره على مؤلفات ابن عقيل، فإضافة إلى كتابه: «التذكرة» اعتمد على كتب أخرى له وهي: ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: طبقات الفقهاء للشيرازي 108، وتذكرة الحفاظ 3: 4، وسير أعلام النبلاء 14: 490، والوافي بالوفيات 1: 336، ووفيات الأعيان 4: 207، وشذرات الذهب 2: 280، وطبقات الشافعية للسبكي 3: 102. (¬2) مصادر ترجمته: المنتظم 8: 270 - 265، واللباب 1: 453 - 454، والكامل 10: 68، والوفيات 1: 92 - 93، وتذكرة الحفاظ 3: 135 - 146، والعبر 2: 314 - 315 وطبقات الشافعية للسبكي 3: 12 - 16، وطبقات الشافعية للإسنوي 1: 201 - 203، والنجوم الزاهرة 5: 87 - 88.

الفصول. المفردات. وسنُعَرِّف بهذه الكتب إن شاء الله في مواضعها من هذا البحث (¬1). تفسير قتادة (61 - 118 هـ) قتادة بن دِعامة بن قتادة أبو الخطاب السدوسي البصري. محدث مفسر. قال الإمام أحمد: قتادة أحفظ أهل البصرة (¬2). التنبيه لأبي بكر غلام الخلال (-363 هـ) عبدالعزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد ابن معروف البغوي. أبو بكر غلام الخلال: مفسر، ثقة في الحديث. من أعيان الحنابلة من أهل بغداد. كان تلميذا لأبي بكر الخلال. فلقب به. من كتبه «الشافي» و «المقنع» كبيران جدا في الفقه. و «تفسير القرآن» و «الخلاف مع الشافعي». و «زاد المسافر» و «التنبيه» و «مختصر السنة» (¬3). التهذيب في الفرائض والوصايا لأبي الخطاب الكلوذاني (432 ـ 510 هـ) وردت ترجمته عند ذكر كتابه: «الانتصار» ص: 48 من هذا المبحث. الجامع للخلال ( ... ـ 311 هـ) أحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر المعروف بـ «الخلال» البغدادي، الفقيه. جمع مذهب الإمام أحمد وصنفه، وكان واسع العلم، شديد الاعتناء ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: سير أعلام النبلاء 19: 443، والبداية والنهاية: 12: 184، والكامل في التاريخ: 8: 291، وطبقات القراء لابن الجزري: 1: 556، ولسان الميزان: 4: 243، والمنهج الأحمد: 2: 215 ـ 232، وذيل طبقات ابن رجب: 1: 142 ـ 165، وشذرات الذهب: 4: 35 ـ 40. (¬2) مصادر ترجمته: وفيات الأعيان 1: 427، وسير أعلام النبلاء 5: 269، وتذكرة الحفاظ 1: 115. (¬3) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة 2: 119 - 127، ومختصره للنابلسي 334، والبداية والنهاية 11: 278، وسير أعلام النبلاء 16: 143، وتاريخ بغداد 10: 459، والنجوم الزاهرة 4: 106، والمنهج الأحمد 2: 56.

بالآثار. من كتبه: الجامع، والعلل والسنة، والطبقات، وتفسير الغريب، والأدب، وأخلاق أحمد. وكان شيوخ المذهب يشهدون له بالفضل والتقدم (¬1). الجامع للترمذي (209 - 279 هـ) محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي الحافظ، صاحب الجامع وغيره من المصنفات، أحد الأئمة الحفاظ المبرزين. أدرك كثيرا من قدماء الشيوخ وسمع منهم. قال الترمذي: «صنفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم» (¬2). الجامع الكبير لأبي يعلى الفراء (380 ـ 458 هـ) محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، الشيخ الإمام علامة الزمان، قاضي القضاة أبي يعلى كان عالم زمانه، وفريد عصره وأوانه. كان له في الأصول والفروع القدم العالي، وفي شرف الدين والدنيا المحل السامي. له التصانيف الفائقة التي لم يسبق إلى مثلها والتي منها: «التعليقة الكبيرة في الخلاف، وإبطال تأويل الصفات، والعدة في أصول الفقه، والمجرد في فقه الإمام أحمد، وتفضيل الغني على الفقير ... وغير ذلك». وكتاب الجامع الكبير قطعة من الطهارة وبعض الصلاة والنكاح والخلع والوليمة والطلاق (¬3). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: الطبقات: 2: 12، ومختصره: 295، والمنهج الأحمد: 2: 8، ومختصره: 39، والمقصد الأرشد: 1: 166، وتاريخ بغداد: 5: 112، وطبقات الفقهاء: 171، والمنتظم: 6: 174، وسير أعلام النبلاء: 14: 297، وتذكرة الحفاظ: 3: 785، والعبر: 2: 148، والوافي بالوفيات: 8: 99، والبداية والنهاية: 11: 148، والنجوم الزاهرة: 3: 209، وغاية النهاية: 1: 133، وطبقات الحفاظ: 329، وشذرات الذهب: 2: 261. (¬2) مصادر ترجمته: تهذيب التهذيب 9: 387 - 389، وميزان الاعتدال 3: 117، وتذكرة الحفاظ 2: 187 - 188، وسير أعلام النبلاء 13: 270، ووفيات الأعيان 1: 612 - 613، والكامل لابن الأثير 7: 164 - 165، والنجوم الزاهرة 3: 81 - 82، وشذرات الذهب 2: 174 - 175، كشف الظنون 1: 375. (¬3) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة: 2: 193، ومختصره: 377، والمنهج الأحمد: 2: 128، ومختصره: 49، ومناقب الإمام أحمد: 627، ومختصره: 71، والمقصد الأرشد: 2: 395، والمنتظم: 8: 243، وسير أعلام النبلاء: 18: 89، والوافي بالوفيات: 3: 7، والبداية والنهاية: 12: 94، والشذرات: 3: 306.

الخلاصة لأبي المعالي أسعد بن منجى (519 ـ 606 هـ) سبقت ترجمته في المبحث الأول ص: 10. وكتاب الخلاصة يقع في مجلد. رؤوس المسائل لأبي الخطاب الكلوذاني (432 ـ 510 هـ) وردت ترجمته عند ذكر كتابه: «الانتصار» ص: 48. وكتاب رؤوس المسائل هذا يسمى: «الخلاف الصغير»، وهناك كتاباً آخر لأبي الخطاب بعنوان: «الخلاف الكبير» ويسمى: «الانتصار». والخلاف الصغير هذا، أو رؤوس المسائل قال عنه الشيخ مجد الدين ابن تيمية: «ما ذكره فيه هو ظاهر المذهب». الرسالة للإمام أحمد بن حنبل (164 - 241 هـ) أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني: إمام أهل السنة، صاحب المذهب، وأحد الأئمة الأربعة، امتحن في مسألة القول بخلق القرآن، وسجن ثمانية عشر شهراً لماّ لم يجب إلى هذه الفتنة، له عدد من المصنفات، منها: «المسند»، و «المناسك»، و «التفسير» و «التاريخ»، وغيرها من الكتب. صنف ابن الجوزي «مناقب الإمام أحمد بن حنبل» (¬1). زوائد المسند للإمام عبدالله بن أحمد (213 ـ 290 هـ) أبو عبدالرحمن، عبدالله بن أحمد بن حنبل، الإمام الحجة، الحافظ العمدة، الذهلي الشيباني البغدادي. أحد الأعلام. كان ثبتاً فهماً ثقة. شيوخه يزيدون على الأربعمائة، روى عن أبيه: المسند، والتفسير، والزهد، والتاريخ، والعلل، والسنة، والمسائل. وغير ذلك. جمع وصنف ورتب مسند أبيه وهذبه بعض التهذيب، وزاد فيه أحاديث كثيرة عن مشايخه، وهذا هو المقصود «بزوائد المسند» (¬2). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 354 - 355، والتاريخ الصغير للبخاري 2: 375، وطبقات الحنابلة 4: 20، وتاريخ بغداد 4: 412 - 423، ووفيات الأعيان 1: 17، وتذكرة الحفاظ 2: 431 - 432، وسير أعلام النبلاء 11: 177 - 358 والبداية والنهاية 10: 325 - 343، وشذرات الذهب 2: 96 - 89. (¬2) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة: 1: 180، ومختصره: 131، والمنهج الأحمد 1: 249، ومختصره: 13، ومناقب الإمام أحمد: 383، والمقصد الأرشد: 2: 5، والجرح والتعديل: 5: 7، وتاريخ بغداد: 2: 86، والمنتظم: 6: 39، وتذكرة الحفاظ: 2: 665، والعبر: 2: 86، وسير أعلام النبلاء: 13: 516، والبداية والنهاية: 11: 96، والوافي بالوفيات: 17: 24، وغاية النهاية: 1: 408، وتهذيب التهذيب: 5: 141، وطبقات الحفاظ: 288.

السنن للأثرم ( ... ـ 261 هـ) الإمام أحمد بن محمد بن هانئ الإسكافي الطائي الأثرم (أبو بكر)، الحافظ، المحدث، الفقيه، صاحب الإمام أحمد بن حنبل، روى عنه وتفقه عليه وسأله عن المسائل والعلل. قال عنه الخلال: «كان معه تيقظ عجيب جداً». وقال ابن معين: «كأن أحد أبوي الأثرم جني». له عدة تصانيف منها: السنن في الفقه على مذهب الإمام أحمد حنبل (¬1). السنن لأبي بكر النجاد ( ... -348 هـ) أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل، أبو بكر النجاد: شيخ العلماء ببغداد في عصره. من حفاظ الحديث. كانت له في جامع المنصور يوم الجمعة حلقتان: الأولى قبل الصلاة، للفتوى على مذهب الإمام أحمد؛ والثانية بعد الصلاة لإملاء الحديث. ويكثر الناس حتى يغلق بابان من أبواب الجامع مما يلي حلقته. وكف بصره في أواخر عمره. له بالإضافة إلى كتاب «السنن» كتاب «الخلاف» نحو مائتي جزء (¬2). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة: 1: 66، ومختصره: 37، والمنهج الأحمد: 1: 218، والمقصد الأرشد: 1: 161، والجرح والتعديل: 2: 72، وتاريخ بغداد: 5: 110 ـ 112، وتذكرة الحفاظ: 2: 135 ـ 136، وسير أعلام النبلاء: 13: 623، والبداية والنهاية: 11: 108، وتهذيب التهذيب: 1: 78، وتهذيب الكمال: 1: 476، وطبقات الحفاظ: 256، وشذرات الذهب: 2: 141 ـ 142. (¬2) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة 2: 7، مناقب الإمام أحمد 512، وميزان الاعتدال 1: 48، وتاريخ بغداد 4: 189، والبداية والنهاية 11: 234، وشذرات الذهب 2: 376، وسير أعلام النبلاء 15: 502.

سنن أبي داود (202 ـ 275 هـ) الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمران الأزدي السجستاني. إمام أهل الحديث في زمانه. أصله من سجستان، رحل رحلة كبيرة وتوفي بالبصرة. وله عدة مصنفات، من تصانيفه كتابه هذا «السنن» جمع فيه (4800) حديث انتخبها من خمسمائة ألف حديث، وأثنى عليه العلماء كثيراً، فقد قال فيه ابن الأعرابي: «لو أن رجلاً لم يكن عنده شيء من كتب العلم إلا المصحف الذي فيه كلام الله تعالى، ثم كتاب أبي داود لم يحتج معهما إلى شيء من العلم البتة». وقال أبو سليمان الخطابي عن السنن: «كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله» (¬1). سنن ابن ماجة (209 ـ 273 هـ) محمد بن يزيد بن عبدالله، أبو عبدالله ابن ماجه القزويني، الربعي. أحد الأئمة الأعلام، حافظ الإسلام التقي الثبت، المحدث الواعي، المتقن لعلوم الحديث، والمشارك في التفسير والتاريخ. وتعد سنن ابن ماجه أحد المصادر المعتبرة. وهو كتاب مطبوع مشهور متداول، من أحسن المراجع تبويباً وترتيباً، وهو سادس الكتب الحديثية عند أكثر أهل العلم (¬2). السنن للدارقطني (306 ـ 385 هـ) علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار بن عبدالله البغدادي، أبو الحسن الدارقطني. شيخ الإسلام، حافظ الزمان، إمام عصره في الحديث، وأول من صنف في القراءات وعقد لها أبواباً. ولد بدار القطن (من أحياء بغداد) ورحل إلى مصر، وتوفي ببغداد. ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة: 118، وتذكرة الحفاظ: 2: 188 - 190، وسير أعلام النبلاء 13: 203، وتهذيب ابن عساكر: 6: 246، وتاريخ بغداد: 9: 55، وابن خلكان: 1: 214. (¬2) مصادر ترجمته: المنتظم: 5: 90، ووفيات الأعيان: 4: 279، وتهذيب التهذيب: 9: 530، وتذكرة الحفاظ: 2: 189، وسير أعلام النبلاء: 13: 277، والوافي بالوفيات: 5: 220، والبداية والنهاية: 11: 52، والنجوم الزاهرة: 3: 70، وطبقات الحفاظ: 278، وطبقات المفسرين: 2: 372، وشذرات الذهب: 2: 164.

من تصانيفه كتاب: «السنن» وهو كتاب قيم جليل مطبوع، و «العلل الواردة في الأحاديث النبوية»، و «المجتبى من السنن المأثورة»، و «المؤتلف والمختلف» .. وغير ذلك (¬1). السنن لسعيد بن منصور ( ... ـ 227 هـ) سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني المكي، أصل أبويه من مرو، ولكنه ولد في جوزجان، وشب في بلخ، ثم استقر في مكة، ومن أساتذته مالك، وسفيان بن عيينة، وحدث عنه مسلم، وأبو داود وغيرهم. كان محدثاً ثقة من المتقنين الأثبات، وكتابه السنن موجود منه قطعة من الجزء الثالث، وطبعت في الدار السلفية بالهند بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في مجلدين. كما قام الدكتور سعد بن عبدالله آل حميّد بإخراج قطعة أخرى منه. وطبعت في دار الصميعي. الرياض (¬2). السنن الكبرى للبيهقي (384 - 458 هـ) أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي: الإمام الحافظ. كتب الحديث وحفظه من صباه، وتفقه وبرع وأخذ في الأصول، وصنف ما لم يسبقه أحد في ألف جزء. جمع بين علم الحديث والفقه وبيان علل الحديث ووجه الجمع بين الحديث. له «السنن الكبرى»، و «معرفة آثار السنن»، و «وشعب الإيمان»، و «دلائل النبوة»، وغير ذلك (¬3). شرح السنة للبغوي ( ... -516 هـ) الحسين بن مسعود أبو محمد الفراء البغوي: الإمام المفسر المتقن، والمحدث الجليل، والفقيه البارع محيي السنة. ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: وفيات الأعيان: 1: 331، واللباب: 1: 404، وغاية النهاية: 1: 558، وتاريخ بغداد: 12: 34، وطبقات الشافعية: 2: 310، وسير أعلام النبلاء 16: 449. (¬2) مصادر ترجمته: الطبقات لابن سعد: 5: 502، والتاريخ الكبير للبخاري: 2: 1: 516، والجرح والتعديل: 2: 1: 68، وميزان الاعتدال: 1: 391، وتذكرة الحفاظ: 416، وسير أعلام النبلاء 10: 586، وتهذيب التهذيب: 4: 89، وشذرات الذهب: 2: 62، وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1: 195. (¬3) مصادر ترجمته: شذرات الذهب 3: 304، وطبقات الشافعية 3: 3، والمنتظم 8: 242، وابن خلكان 1: 20.

له عدد من المصنفات، منه «التهذيب» في فقه الشافعي، و «مصابيح السنة»، و «معالم التنزيل» في التفسير (¬1). الشرح الكبير لعبدالرحمن بن قدامة (597 ـ 682 هـ) سبق التعريف به في المبحث الثالث عند الحديث عن أهيمة كتاب الممتع ص: 31. شرح الهداية للمجد ابن تيمية (590 ـ 652 هـ) عبد السلام بن عبدالله بن أبي القاسم بن عبدالله الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحراني الحنبلي (مجد الدين أبو البركات). تفقه في صغره على عمه الخطيب فخر الدين، وسمع الكثير ورحل إلى البلاد، وبرع في الحديث والفقه وغيره، ودرس وأفتى وانتفع به الطلبة. له مصنفات عدة، منها أحاديث التفسير، والأحكام الكبرى، والمنتقى، والمحرر، وكتابه هذا اسمه: «منتهى الغاية في شرح الهداية» بيض بعضها في أربع مجلدات كبار إلى أوائل الحج، وزاد فيه ولده ثم حفيده (¬2). الصَّحَاح للجوهري (ت 393 هـ) إسماعيل بن حماد الجوهري، أبو نصر. أول من حاول الطيران، ومات في سبيله. لغوي من الأئمة. صنع جناحين من خشب وربطهما بحبل وصعد سطح داره، ونادى في الناس، لقد صنعت ما لم أسبق إليه وسأطير الساعة فازدحم أهل نيسابور ينظرون إليه فتأبط الجناحين ونهض بهما، فخانه اختراعه فسقط على الأرض قتيلاً. له بعض المؤلفات لعل أشهرها كتابه هذا «الصحاح» وهو كتاب مطبوع ومتداول (¬3). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: وفيات الأعيان 1: 177، وسير أعلام النبلاء 9: 439 - 443، وتذكرة الحفاظ 4: 52 - 53، والوافي بالوفيات 13: 26، وطبقات الشافعية للسبكي 4: 48 - 49، والبداية والنهاية 12: 193. (¬2) مصادر ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة: 2: 249، ومختصره: 73، والمنهج الأحمد: 382، ومختصره: 116، والمقصد الأرشد: 2: 162، والعبر: 5: 212، وطبقات المفسرين للداودي: 1: 297، وفوات الوفيات: 2: 323، والنجوم الزاهرة: 7: 33، وسير أعلام النبلاء: 23: 291، وغاية النهاية: 1: 385، والمنهل الصافي: 1: 412، والبداية والنهاية: 13: 185، وشذرات الذهب: 5: 257 ـ 259. (¬3) مصادر ترجمته: معجم الأدباء: 2: 269، والنجوم الزاهرة: 4: 207، ولسان الميزان: 1: 400، وأنباء الرواة: 1: 194، ونزهة الألباء: 18، ويتيمة الدهر: 4: 289، وشذرات الذهب: 3: 142، وبغية الوعاة: 1: 446.

صحيح البخاري (194 ـ 256 هـ) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، حبر الإسلام، الحافظ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. سمع من نحو ألف شيخ، ولد ونشأ وتوفي ببخارى، صنف الكثير من الكتب ومنها: «الجامع الصحيح» المعروف بصحيح البخاري، وهو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، حيث اشترط المؤلف والتزم على نفسه أن يذكر الأحاديث الصحيحة فقط. وهو أول من وضع في الإسلام كتاباً على هذا النحو (¬1). صحيح مسلم (206 - 261 هـ) الإمام الحافظ الحجة مسلم بن الحجاج بن مسلم ابو الحسين القشيري النيسابوري: إمام أهل الحديث. أجمعوا على جلالته وإمامته وعلو مرتبته. صنف الصحيح الذي لا يوجد في كتاب قبله ولا بعده من حسن الترتيب وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة ولا نقصان. قال ابن الصلاح: اتفقت الأمة على أن ما اتفق البخاري ومسلم على صحته فهو حق صدق (¬2). الضعفاء الكبير للعقيلي ( ... -322 هـ) محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي المكي، أبو جعفر: الحافظ الإمام. كان مقيما بالحرمين. قال مسلمة بن القاسم: كان العقيلي جليل القدر عظيم الخطر ما رأيت مثله. وكان كثير التصانيف (¬3). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة: 1: 271 ـ 279، وتاريخ بغداد: 2: 4 ـ 36، والوفيات: 1: 455، وسير أعلام النبلاء 12: 391، وتذكرة الحفاظ: 2: 122، وتهذيب التهذيب: 9: 47، وطبقات الشافعية: 2: 2. (¬2) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة 1: 337، وسير أعلام النبلاء 12: 557، والمنهج الأحمد 1: 146. (¬3) مصادر ترجمته: تذكرة الحفاظ 3: 833، وسير أعلام النبلاء 15: 236، والوافي بالوفيات 4: 235.

العلل لابن أبي حاتم (240 - 327 هـ) عبدالرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس التميمي الحنظلي: الإمام الحافظ ابن الحافظ، شيخ الإسلام. أخذ علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال. صنف في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار. من مصنفاته: «التفسير» و «الجرح والتعديل» و «الرد على الجهمية» و «علل الحديث» و «المسند» وغير ذلك. كان أبوه يقول: ومن يقوى على عبادة عبدالرحمن، لا أعرف لعبد الرحمن ذنباً (¬1). العلل للدارقطني (306 ـ 385 هـ) تقدم التعريف به عند كتابه «السنن» ص: 54. غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام (154 ـ 224 هـ) تقدم التعريف به عند ذكر كتابه: «الأموال» برقم (2) وهو كتاب مشهور متداول. طبع بدائرة المعارف الهندية سنة 1384 هـ. قال عنه أبو عبيد: «مكثت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأضعها في موضعها من الكتاب، فأبيت ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة». غريب الحديث لأبي محمد ابن قتيبة (213 ـ 276 هـ) عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدِّينَوري، أبو محمد. من أئمة الأدب، ومن المصنفين المكثرين. ولد ببغداد، وسكن الكوفة. ثم ولي قضاء الدينور مدة فنسب إليها، وتوفي ببغداد. له مؤلفات عديدة أكثرها مطبوع. منها: «تأويل مختلف الحديث»، و «أدب الكاتب»، و «المعارف»، و «المعاني» و «عيون الأخبار»، و «الشعر والشعراء» ... وغير ذلك الكثير. وكتابه «الغريب» طبع في جزأين في الهند، وحققه الدكتور عبدالله الجبوري، وطبع في وزارة الأوقاف ببغداد عام 1977 م في ثلاث مجلدات، وتوجد ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة 2: 55، والمنهج الأحمد 2: 17.

منه أجزاء مخطوطة في المكتبة الظاهرية بدمشق، ويوجد منه بمكتبة شستر بتي تحت رقم 3494 المجلد الثاني مخطوطاً منسوخاً سنة 279 هـ ببغداد (¬1). غريب الحديث لقطرب ( ... -206 هـ) محمد بن المستنير بن أحمد أبو علي: نحوي، عالم بالأدب واللغة، كان يرى رأي المعتزلة النظامية، وهو أول من وضع «المثلث» في اللغة. له «معاني القرآن» و «النوادر» و «الأزمنة» و «الأضداد» (¬2). الفصول لأبي الوفاء ابن عقيل (431 ـ 513 هـ) سبق التعريف به عند ذكر كتابه: «التذكرة» ص: 49. الفوائد لتمام (330 - 414 هـ) تمام بن محمد بن عبدالله بن جعفر أبو القاسم البجلي الرازي: من حفاظ الحديث، كان محدث دمشق في عصره، وكتابه الفوائد يقع في ثلاثين جزءاً (¬3). قضاة البصرة لعمر بن شَبَّه (172 ـ 262 هـ) واسمه: زيد بن عَبيدة بن ربطه النميري البصري، أبو زيد. شاعر، راوية، مؤرخ، حافظ للحديث. من أهل البصرة، توفي بسامراء. له مصنفات عدة منها: «النسب» و «وأخبار بني غمير» و «أخبار المدينة» و «تاريخ البصرة» و «تاريخ أمراء الكوفة» و «أمراء البصرة» و «أمراء المدينة» و «أمراء مكة» وغير ذلك من المصنفات (¬4). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: وفيات الأعيان: 1: 314، وتاريخ بغداد: 10: 170، والمنتظم: 5: 102، وإنباه الرواة: 2: 143، والبداية والنهاية: 11: 48، ونزهة الألباء: 272، وبغية الوعاة: 291، وشذرات الذهب: 2: 196، ومرآت الجنان: 2: 191، وتهذيب الأسماء واللغات: 2: 281، واللباب: 2: 242، وتذكرة الحفاظ: 2: 185، وسير أعلام النبلاء 13: 296، ولسان الميزان: 3: 357، والنجوم الزاهرة: 3: 75. (¬2) مصادر ترجمته: وفيات الأعيان 6: 494، وتاريخ بغداد 3: 298، وبغية الوعاة 104، وشذرات الذهب 2: 15. (¬3) مصادر ترجمته: سير أعلام النبلاء 17: 289، وشذرات الذهب 3: 200. (¬4) مصادر ترجمته: إرشاد الأريب: 6/ 48، وتهذيب التهذيب: 7/ 460، والوفيات: 1/ 378، وبغية الوعاة: 361.

الكافي لابن قدامة (-620 هـ) سبقت ترجمة الموفق ابن قدامة ضمن المبحث الثاني من هذه الدراسة ص: 15. وقد طبع كتاب الكافي عدة مرات. كتاب حرب ( ... -280 هـ) حرب بن إسماعيل بن خلف الحَنْظلي الكِرْماني، أبو محمد وقيل أبو عبدلله. نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة. قال ابن يعلى: كان حرب فقيه البلد، وكان السلطان قد جعله على أمر الحكم (¬1). كتاب الآجري ( ... -360 هـ) محمد بن الحسين بن عبدالله أبو بكر الآجري: فقيه شافعي، محدث، له تصانيف كثيرة، أحصاها محقق كتاب «أخلاق حملة القرآن» فبلغت واحدا وأربعين مصنفا، أشهرها كتاب «الشريعة» و «الأربعين الآجرية». وقد ذكر ابن المنجى في كتابه «الممتع» حديثا، وعزاه إلى الآجري ولم يحدد اسم الكتاب (¬2). الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي (427 هـ) أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق: مفسر من أهل نيسابور. له اشتغال بالتاريخ. من مصنفاته الأخرى «عرائس المجالس» في قصص الأنبياء. وهو مطبوع (¬3). المترجم لأبي إسحاق الجوزجاني (ت 259 هـ) إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي الجوزجاني، أبو إسحاق، محدث الشام وأحد الحفاظ المصنفين المخرجين الثقات، نسبته إلى جوزجان من كور بلخ بخراسان، ومولده فيها، رحل إلى مكة، ثم إلى البصرة، ثم الرملة، وأقام في كل منها مدة، ونزل دمشق فسكنها إلى أن مات. ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: تهذيب تاريخ دمشق 44: 101 - 103، وطبقات الحنابلة 1: 145، ومختصره 103، والمنهج الأحمد 1: 394، وسير أعلام النبلاء 13: 244، وشذرات الذهب 2: 176. (¬2) مصادر ترجمته: وفيات الأعيان 1: 488، وسير أعلام النبلاء 16: 133، والنجوم الزاهرة 4: 60، وتاريخ بغداد 2: 243. (¬3) مصادر ترجمته: اللباب 1: 194، وابن خلكان 1: 22، وإنباء الرواة 1: 119، وسير أعلام النبلاء 17: 435، والبداية والنهاية 12: 40.

ذكره أبو بكر الخلال فقال: «جليل جداً، كان أحمد بن حنبل يكاتبه ويكرمه إكراماً شديداً». له كتاب في الجرح والتعديل، وكتاب في الضعفاء. وكتابه هذا «المترجم» قال عنه ابن كثير: «وفيه علوم غزيرة وفوائد كثيرة» (¬1). المجرد في فقه الإمام أحمد للقاضي أبي يعلى (380 ـ 458 هـ) سبقت التعريف به عند ذكر كتابه «الجامع الكبير» رقم (11). المختصر لأبي المعالي أسعد بن المنجى (519 ـ 606 هـ) سبقت ترجمته في المبحث الأول ص: 10. المسائل لصالح بن الإمام أحمد بن حنبل (203 - 265 هـ) صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل أبو الفضل، أكبر أولاد الإمام أحمد، كان سخيا صدوقا ثقة، وقد روى عن أبيه، وقد ولي قضاء طرسوس وأصفهان (¬2). المستوعب لمحمد بن عبدالله السامُرِّي ( ... -610 هـ) محمد بن عبدالله بن الحسين السامري أبو عبدالله نصير الدين، الفقيه الفرضي، ويعرف بابن سُنَيْنة. برع في الفقه والفرائض. وصنف فيهما تصانيف مشهورة منها: كتاب «المستوعب» و «الفروق»، وكتاب «البستان» في الفرائض (¬3). المسند للإمام أحمد بن حنبل (164 - 241 هـ) سبقت ترجمته عند ذكر كتابه «الرسالة» رقم (14). المسند لأبي دواد الطيالسي (133 - 204 هـ) سليمان بن دواد بن الجارود، أبو داود الطيالسي. من كبار حفاظ الحديث. قال: أسرد ثلاثين ألف حديث ولا فخر (¬4). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة: 1: 98، والمنهج الأحمد: 1: 271، ومعجم البلدان: 3: 167، والبداية والنهاية: 11: 31، وتهذيب ابن عساكر: 2: 31، وتذكرة الحفاظ: 2: 117، وتهذيب التهذيب: 1: 181، وشذرات الذهب: 2: 139. (¬2) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة 1: 173 - 175، وسير أعلام النبلاء 12: 529. (¬3) مصادر ترجمته: الوافي بالوفيات 3: 351، وذيل طبقات الحنابلة 2: 121. (¬4) مصادر ترجمته: تاريخ بغداد 9: 24، واللباب 2: 96.

المسند لابن شاهين (297 - 385 هـ) عمر بن أحمد بن عثمان ابن شاهين أبو حفص البغدادي الواعظ المحدث المفسر. له: «التفسير الكبير» و «ناسخ الحديث ومنسوخه»، و «تاريخ أسماء الثقات»، و «التاريخ»، وغيرها من المصنفات (¬1). المسند للحميدي ( ... -219 هـ) عبدالله بن الزبير بن عيسى القرشي الحميدي الأسدي أبو بكر، تفقه بالشافعي، وذهب معه إلى مصر. قال أحمد بن حنبل: الحميدي عندنا إمام جليل (¬2). مسند الشافعي (150 - 204 هـ) محمد بن إدريس بن العباس الشافعي القرشي أبو عبدالله. صاحب المذهب. قال الإمام أحمد بن حنبل: ما أحد مس محبرة ولا قلما إلا وللشافعي في عنقه منَّة. له مصنفات أشهرها: «الرسالة» في الأصول، و «الأم» في الفروع. وكتاب المسند هذا يحوي أحاديث سمعها أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم المتفى سنة 346 هـ من الربيع بن سليمان المرادي المؤذن المتوفى سنة 270 هـ في ضمن كتب الأم وغيرها التي سمعها مباشرة من الإمام الشافعي رضي الله عنه -غير أحاديث سمعها بواسطة البويطي-. وقد دوّن هذه الأحاديث أبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر النيسابوري المتوفى سنة 340 هـ صاحب الأصم، وكان جمعه لتلك الأحاديث لشيخه بطلبه. وقيل: إن جمعه كان لنفسه لا لشيخه. ويقال: إن الجامِعَ هو الأصمّ نفسُه. والله أعلم (¬3). وقد رتب المسند على أبواب الفقه مع شرحه إلى نصفه الشيخ محمد عابد السندي المتوفى سنة 1257 هـ (¬4). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: البداية والنهاية 11: 265، وتذكرة الحفاظ 3: 987 - 990، وتاريخ بغداد 11: 265، وسير أعلام النبلاء 16: 431. (¬2) مصادر ترجمته: طبقات الشيرازي ص: 99، ومناقب الشافعي 2: 326، وطبقات السبكي 2: 140، وسير أعلام النبلاء 10: 616. (¬3) مقدمة ترتيب مسند الإمام الشافعي ص: 6. (¬4) مصادر ترجمته: تاريخ بغداد 2: 56 - 73، وطبقات الحنابلة 1: 280 - 284، والوفيات 1: 447، وتذكرة الحفاظ 2: 362، وسير أعلام النبلاء 10: 5، والبداية والنهاية 10: 251، وتهذيب التهذيب 9: 25.

معالم السنن للخطابي (319 - 388 هـ) حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي أبو سليمان، المحدث الرحّال، صاحب التصانيف، له «غريب الحديث»، و «معالم السنن»، و «أعلام السنن»، و «العزلة»، و «الغنية عن الكلام وأهله»، وغير ذلك من المؤلفات (¬1). المعجم الصغير للطبراني ( ... -360 هـ) سليمان بن أحمد بن ايوب بن مطير اللخمي الطبراني أبو القاسم: كان أحمد الأئمة والحفاظ في علم الحديث. وله مصنفات كثيرة، منها «المعجم الكبير» و «الأوسط» و «الصغير»، و «كتاب الأوائل» و «الأحاديث الطوال» وغير ذلك (¬2). المعجم الكبير للطبراني ( ... -360 هـ) سبقت ترجمته في المورد السابق. المغني لابن قدامة (541 - 620 هـ) سبقت ترجمة الموفق ابن قدامة ضمن المبحث الثاني ص: 15. وقد ورد ذكره أيضا عند الشارح باسم: «المغني الجديد». المغني القديم لابن قدامة. وورد ذكر اسمه أيضا عند الشارح باسم: «المغني الأول». المفردات لابن عقيل (431 ـ 513 هـ) سبق التعريف به عند كتابه: «التذكرة» ص: 49، وله أيضاً أكثر من كتاب في مبحثنا هذا. وكتاب «المفردات» هذا كتاب في الفقه. المقنع لابن قدامة. سبقت ترجمة الموفق ابن قدامة ضمن المبحث الثاني ص: 15. ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: وفيات الأعيان 1: 166، وسير أعلام النبلاء 17: 23. (¬2) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة 2: 49، والمنتظم 7: 54، وسير أعلام النبلاء 16: 119، والمنهج الأحمد 2: 46.

المناسك لحنبل ( ... -273 هـ) حنبل بن إسحاق بن حنبل، ابن عم الإمام أحمد. سمع المسند كاملا مع ولدي الإمام أحمد منه. له بالإضافة إلى كتاب «المناسك» و «المسائل» و «التاريخ» (¬1). الموطأ للإمام مالك بن أنس (95 - 179 هـ) مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري إمام دار الهجرة وعالم المدينة، وصاحب المذهب. قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالكٌ النجم (¬2). النهاية في شرح الهداية لأبي المعالي أسعد بن منجى (519 ـ 606 هـ) تقدمت ترجمته في المبحث الأول ص: 10. وكتابه: «النهاية» يقع في بضعة عشر مجلداً. الهداية لأبي الخطاب (432 ـ 510 هـ) سبق التعريف به عند ذكر كتابه «الانتصار» ص: 48. الوظائف لأبي موسى المديني ( ... -581 هـ) محمد بن عمر بن أحمد الأصبهاني المديني أبو موسى: من حفاظ الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) مصادر ترجمته: طبقات الحنابلة 1: 143، والمنتظم 5: 89، وسير أعلام النبلاء 13: 51، والمنهج الأحمد 1: 166. (¬2) مصادر ترجمته: وفيات الأعيان 1: 439، وسير أعلام النبلاء 8: 48، وتهذيب التهذيب 10: 5. (¬3) مصادر ترجمته: وفيات الأعيان 1: 486، وسير أعلام النبلاء 21: 152، وطبقات الشافعية 4: 90.

المبحث السادس النسخ الخطية للكتاب

المبحث السادس النسخ الخطية للكتاب

صفحة فارغة

وصف النسخ الخطية للكتاب

وصف النسخ الخطية للكتاب وقفت على ست نسخ خطية للكتاب، وكلها نسخ غير كاملة، وفيما يلي وصفها: النسخة الأولى: مصورة نسخة المكتبة الظاهرية، ويبدو أن هذه النسخة مكتوبة ضمن ثمانية مجلدات، والموجود منها أربعة مجلدات فقط، ومسطرتها 16 سطرا، كلمات كل سطر 11 كلمة، ورمزت لها بنسخة (أ): الجزء الثالث: يبتدئ من كتاب الشركة إلى آخر باب السبق. في 47 لوحة. تاريخ النسخ 8 جمادى الآخرة عام 780 هـ، وفي لوحة العنوان كتب عليها «ملك بفضل الله العلي، أحمد بن المنجا التنوخي الحنبلي». وفي آخره: «آخر الجزء الثالث من تجزئة المصنف رحمه الله تعالى وأثابه الجنة بمنه وفضله، يتلو في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى كتاب العارية، وذلك في ثمان ليال خلت من شهر جمادى الآخرة سنة ثمانين وسبعمائة، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم». الجزء الرابع: يبتدئ من كتاب العارية إلى آخر كتاب الوصايا. وعدد لوحاته 145 لوحة. وجاء في آخره ما نصه: «آخر الجزء .... من الممتع في شرح المقنع. يتلى إن شاء الله في الذي يليه كتاب الفرائض». الجزء الخامس: يبتدئ من كتاب الفرائض إلى آخر كتاب العتق. وعدد لوحاته 94 لوحة. وجاء في آخره ما نصه: «آخر الجزء الخامس من الممتع في شرح المقنع. قوبلت مقابلة حسنة جيدة. وبالله التوفيق».

الجزء السابع: يبتدئ من أول كتاب الجنايات إلى قوله: «ولو نسي التسمية على القولين لم يحل في ظاهر المذهب» من كتاب الصيد. وعدد لوحاته 192 لوحة. النسخة الثانية: مصورة نسخة ثانية من المكتبة الظاهرية، ويوجد منها الجزء الأول فقط، وهو محفوظ برقم: 2712، ويبتدئ من أول الكتاب حتى نهاية كتاب الاعتكاف. ومسطرته 21 سطر و 17 كلمة في السطر. وعدد لوحاته 234 ورقة، وهو بخط نسخي. وجاء في لوحة الغلاف تملك هذا نصه: «الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله. عُدّ من كتب أفقر الأنام الفقير محمد كمال الدين بن الشيخ محمد اللؤلؤي الشافعي. غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. آمين». وهي نسخة قيمة، فقد قوبلت بأصل المؤلف، حيث ورد في هامش ورقة 26 أ: بلغ مقابلةً بأصل المؤلف. وورد في هامش ورقة 36 أ: بلغ مقابلة. ورمزت لها بنسخة (ب). النسخة الثالثة: مصورة نسخة مكتبة أحمد الثالث في تركيا. وهذه النسخة أصلها نسخة الشيخ الإمام أبو عبدالله محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي. ويلاحظ أن هذه النسخة تختلف عن النسخ الأخرى في سوق المادة العلمية للكتاب، حيث تم إعادة ترتيب صور المسألة الواحدة، وترقيمها في بعض الأحيان. وكذلك تقديم وتأخير الفقرات. واستبدال بعض التعاريف بأخرى. إلا أن المادة العلمية للكتاب واحدة ومتفقة. وفيما يلي نسوق مثالاً على هذا الاختلاف: قال الشارح رحمه الله تعالى عند قول المصنف: (وهي ثلاثة أقسام: ماء طهور. وهو: الباقي على أصل خلقته، وما تغير بمكثه أو بطاهر لا يمكن صونه عنه كالطحلب وورق الشجر، أو لا يخالطه كالعود والكافور والدهن، أو ما أصله الماء كالملح البحري. وما تروح بريح منتنة إلى جانبه أو سُخّن بالشمس أو بطاهر فهذا كله طاهر مطهر يرفع الأحداث ويزيل الأنجاس غير مكروه الاستعمال). قال:

وأما كون الطهور هو الباقي على أصل خلقته ... إلى آخره؛ فلما يأتي ذكره في مواضعه. وأما كون الباقي على أصل خلقته كماء السماء وذوب الثلج والبرد وماء البحر والبئر والعيون والأنهار وما أشبه ذلك طهور: أما ماء السماء؛ فلما تقدم من قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، وقوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}. وأما ذوب الثلج والبرد؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم طهرني بالثلج والبرد» رواه مسلم. وأما ماء البحر؛ فقوله عليه السلام: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأما ماء البئر؛ فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من بئر بُضاعة» رواه النسائي. وأما ماء العيون والأنهار؛ فلأن مائهما كماء البئر. وأما كون ما تغير بمكثه طهورًا فلأنه تغير في مقره أشبه الجاري على المعادن. و«لأن عليًا رضي الله عنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بماء آجن في دَرَقَته فغسل به وجهه». وروي «أنه توضأ من غدير كأن ماءه نقاعة الحنا». ولأن ذلك لا يسلبه اسم الماء المطلق أشبه الباقي على أصل خلقته. وأما كون ما تغير بطاهر لا يمكن صون الماء عنه كالطحلب وورق الشجر طهورًا؛ فلأنه يشق الاحتراز منه، ولا يسلبه اسم الماء ولا معناه أشبه المتغير بمكثه. وأما كون ما تغير بطاهر لا يخالطه كالعود والكافور والدهن طهورًا؛ فلأنه تغيرٌ عن مجاورة أشبه ما لو تغير بمجاورة جيفة إلى قربة. وأما كون ما تغير بما أصله الماء كالملح البحري طهورًا؛ فلأن المتغير به منعقد من الماء أشبه ذوب الثلج. وأما كون ما تغير بريح منتنة إلى جانبه طهورًا؛ فلأنه تغيرٌ عن مجاورة لا مخالطة. وأما كون ما سخن بالشمس أو بطاهر طهورًا؛ فلأن السخونة صفة خلق عليها الماء أشبه ما لو برّده. انتهى. قارن هذا بما جاء في نسخة الشيخ البعلي حيث قال: إذا تقرر هذا فالماء الطهور أقسام:

أحدها: الباقي على أصل خلقته كماء السماء وذوب الثلج والبرد وماء البحر والبئر والعيون والأنهار وما أشبه ذلك: أما طهورية ماء السماء؛ فلما تقدم من قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، وقوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}. وأما طهورية ذوب الثلج والبرد فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم طهرني بالثلج والبرد» رواه مسلم. وأما طهورية ماء البحر؛ فلقوله عليه السلام: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأما طهورية ماء البئر فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من بئر بُضاعة» رواه النسائي. وأما طهورية ماء العيون والأنهار؛ فلأن مائهما كماء البئر. وثانيها: ما تغير بمكثه طهورًا لأنه تغير في مقره أشبه الجاري على المعادن. و«لأن عليًا رضي الله عنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بماء آجن في دَرَقَته فغسل به وجهه». وروي «أنه توضأ من غديرٍ كأن ماءه نقاعة الحنا». ولأن ذلك لا يسلبه اسم الماء المطلق أشبه الباقي على أصل خلقته. وثالثها: ما تغير بطاهر لا يمكن صون الماء عنه كالطحلب وورق الشجر لأنه يشق الاحتراز منه، ولا يسلبه اسم الماء ولا معناه أشبه المتغير بمكثه. ورابعها: ما تغير بطاهر لا يخالطه كالعود والكافور والدهن لأنه تغيرٌ عن مجاورة أشبه ما لو تغير بمجاورة جيفة إلى قربة. وخامسها: ما تغير بما أصله الماء كالملح البحري لأن المتغير به منعقد من الماء أشبه ذوب الثلج. وسادسها: ما تغير بريح منتنة إلى جانبه لأنه تغيرٌ عن مجاورة لا مخالطة. وسابعها: ما سخن بالشمس أو بطاهر لأن السخونة صفة خلق عليها الماء أشبه ما لو برده. انتهى. لذلك فقد استفدنا من هذه النسخة في المقابلة فقط، اللهم إلا في المواضع التي لم نجدها في النسخ الأخرى فقد اعتبرناها أصلا. ورمزت لها بنسخة (ج).

وهي من مخطوطات القرن التاسع بقلم نسخي نفيس بخط محمد بن عبدالوهاب، عن نسخة أبي الفتح البعلي. تقع في ثلاثة أجزاء ويوجد منها الجزء الأول والثاني فقط. * الجزء الأول ويبتدئ بأول الكتاب وينتهي بنهاية كتاب الجهاد. وهو محفوظ برقم: 1112. ومسطرته 25 سطر. ومقاسه 17×25 سم. وعدد لوحاته 304. وقد ذكر في آخر هذا الجزء: أنهاه كاتبه العبد الفقير إلى رحمة ربه سبحانه وتعالى محمد بن عبدالوهاب غفر الله له ولوالديه. والحمد لله أولاً وآخراً. هذا الجزء والذي بعده أصلهما بخط الشيخ الإمام أبي عبدالله محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي، وحواشيهما بخط الشيخ الإمام شمس الدين ابن عبدالهادي. في هامش الأصل المذكور. * الجزء الثاني ويبتدئ بكتاب البيع وينتهي بآخر كتاب الفرائض. وجاء في آخره ما نصه: «آخر المجلد الثاني من شرح المقنع، والحمد لله أولاً وآخراً. آخر الجزء الثاني يتلوه في الثالث كتاب العتق». النسخة الرابعة: مصورة نسخة أخرى من مكتبة أحمد الثالث في تركيا. تقع في أربعة أجزاء، ويوجد منها الجزء الرابع فقط. وهو محفوظ برقم 1134/ 2. ويرجع تاريخ نسخه إلى القرن الثامن، وهو بخط نسخي نفيس، ومسطرته 23 سطر، ومقاسه 16×25.5 سم، وعدد لوحاته 257. ويبتدئ بكتاب الجنايات وينتهي بآخر كتاب الإقرار في الدعاوى. وهو آخر الكتاب. ورمزت لها بنسخة (د). النسخة الخامسة: مصورة نسخة تشستربيتي، دبلن، إيرلندا. مسطرتها 23 سطر و 13 كلمة في السطر، ومقاسها 25×18.8، وعدد لوحاتها 263 لوحة. وهي بخط نسخي جيد.

يوجد منها الجزء الثاني فقط، ويبتدئ بأول كتاب الجهاد إلى نهاية فصلٌ في الجمع بين الوصية بالأجزاء والأنصباء من كتاب الوصايا. ورمزت لها بنسخة (هـ). النسخة السادسة: مصورة نسخة أخرى من مكتبة تشستربيتي، دبلن، إيرلندا. مسطرتها 25 سطر و 13 كلمة في السطر، ومقاسها 26×18، وعدد لوحاتها 118 ورقة، وهي بخط نسخي. يوجد منها الجزء الثاني. يبتدئ بكتاب الجهاد، وينتهي بقوله: قال: «كسب الحجام خبيث». من باب الإجارة. ورمزت لها بنسخة (و) (¬1). ¬

_ (¬1) ولا زال جزء من الكتاب مفقوداً لم نقف عليه حتى الآن، ويشمل الجزء المفقود الكتب التالية: كتاب الطلاق، كتاب الرجعة، كتاب الإيلاء، كتاب الظهار، كتاب اللعان، كتاب العدد، كتاب الرضاع، كتاب النفقات. على أن تثبت في الطبعات القادمة بإذن الله في حالة العثور عليها.

نماذج من المخطوطات

نماذج من المخطوطات صورة صفحة العنوان من الجزء الخامس من نسخة المكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ (أ) صورة الصفحة الأولى من الجزء الخامس من نسخة المكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ (أ) صورة صفحة العنوان من النسخة الثانية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ (ب) صورة الصفحة الأولى من النسخة الثانية للمكتبة الظاهرية والمرموز لها بـ (ب) صورة صفحة العنوان من الجزء الأول من نسخة مكتبة أحمد الثالث والمرموز لها بـ (ج) صورة الصفحة الأولى من الجزء الأول من نسخة مكتبة أحمد الثالث والمرموز لها بـ (ج) صورة الصفحة الأولى من الجزء الثالث من النسخة الثانية لمكتبة أحمد الثالث والمرموز لها بـ (د) صورة صفحة العنوان من الجزء الثاني من نسخة مكتبة تشستربيتي والمرموز لها بـ (هـ) صورة الصفحة الأولى من الجزء الثاني من نسخة مكتبة تشستربيتي والمرموز لها بـ (هـ) صورة صفحة العنوان من الجزء الثاني من النسخة الثانية لمكتبة تشستربيتي والمرموز لها بـ (و) صورة الصفحة الأولى من الجزء الثاني من النسخة الثانية لمكتبة تشستربيتي والمرموز لها بـ (و)

الممتع في شرح المقنع تصنيف زين الدين المنجى بن عثمان بن أسعد ابن المنجى التنوخي الحنبلي 631 - 695 هـ النص المحقق

مقدمة المصنف

بسم الله الرحمن الرحيم [مقدمة المصنف] وعليه نتوكل وبه نستعين. الحمد لله العظيم سلطانه، العميم إحسانه، الظاهر امتنانه، الباهر برهانه. أحمده حمد من تساوى في الإخلاص إسراره وإعلانه، وأصلي على نبيه المصطفى الذي تمهدت بشرعه قواعد الدين وأركانه، وعلى آله وأصحابه الذين هم أنصار الهدى وأعوانه. أما بعد. فإن أجل العلوم خطرًا، وأحلاها أثرًا، وأرجحها فضيلة، وأنجحها وسيلة، وأسعدها جدًا، وأجدها سعدًا، وأشرفها موضعًا، وألطفها موقعًا: علمُ الشرع الشريف ومعرفة أحكامه، والاطلاع على سر حلاله وحرامه. فمن طلب أن يَبْرُز في إظهاره، ويشتغل فهمه في إيراده وإصداره، ليكون على ذلك واقفًا، وبتفسير غوامضه وحل مشكلاته عارفًا، وبما أوتيه منه عاملاً: تعينت مساعدته على مَطالبه ومَغازيه ومُعاضدته على تذكار لفظه ومعانيه. ولما رأيت همم المشتغلين بمذهب الإمام المبجل، أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه متوفرة على حفظ الكتاب المسمى بـ «المقنع» تأليف الشيخ الإمام، العالم العلامة، شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد عبدالله المقدسي: أحببت أن أشرحه، وأبين مراده وأوضحه، وأذكر دليل كل حكم وأصححه. فنسأل الله أن يسلمنا من الزلل، وأن يجعل علمنا مقرونًا بالعمل.

قال الشيخ الإمام العالم المصنف رحمه الله: (الحمد لله المحمود على كل حال، الدائم الباقي بلا زوال، الموجِد خلقه على غير مثال، العالمِ بعدد القطر وأمواج البحر وذرات الرمال، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا تحت أطباق الجبال، عالمِ الغيب والشهادة الكبير المتعال، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى وآله خير آل، صلاة دائمة بالغدو والآصال). أما الحمد فهو ضد الذم. وهو أعم من الشكر؛ لأنه يكون لمبتدئ النعمة ولغيره، والشكر لمبتدئ النعمة فقط. وقيل: هما سواء. وأما المحمود على كل حال فمعناه أنه سبحانه محمود في حالتي الشدة والرخاء. وأما الدائم الباقي بلا زوال فصفات لله سبحانه وتعالى. ومعانيهما ظاهرة. وأما الموجد خلقه على غير مثال فبيان لكمال قدرته؛ لأن صانعًا ما إذا أوجد شيئًا ما لابُدّ له من مثال. ما خلا الله تعالى. فإنه لكمال قدرته يوجد الأشياء على غير مثال. وأما العالم بعدد القطر وأمواج البحر وذرات الرمال فبيان لإحاطة علمه بكل شيء. قال الله تعالى: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [سبأ: 3]. وأما عالم الغيب والشهادة فمعناه أنه سبحانه يعلم ما غاب عن العيون مما لم يعاين ولم يشاهد. وقيل: هما السر والعلانية. وأما الكبير فهو: العظمة. وأما المتعال فهو: المنزّه عن صفات المخلوقين. وأما الصلاة على سيدنا محمد فطلب للرحمة من الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.

وأما المصطفى فهو: الخالص من الخلق. وأما الآل فهم: كل تقي من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: هم أهله فقط. وأما الصلاة الدائمة فهي: المتصلة التي لا تنقطع. وأما الغدو والآصال فهما: البكرة والعشي. قال المصنف رحمه الله: (أما بعد. فهذا كتاب في الفقه على مذهب الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه، اجتهدت في جمعه وترتيبه، وإيجازه وتقريبه، وسطًا بين القصير والطويل، وجامعًا لأكثر الأحكام عريَّة عن الدليل والتعليل، ليكثر علمه، ويقل حجمه، ويسهل حفظه وفهمه، ويكون مقنعًا لحافظيه، نافعًا للناظر فيه. والله سبحانه المسئول أن يبلغنا أملنا، ويصلح قولنا وعملنا، ويجعل سعينا مقربًا إليه ونافعًا لديه برحمته). أما قول المصنف رحمه الله: أما بعد فمعناه أما بعد حمد لله. فلما حذف المضاف إليه بنى بعد على الضم. وأما قوله: فهذا كتاب فهو إشارة إلى الكتاب المؤلف المسمى بـ «المقنع». فإن قيل: كيف جازت الإشارة إليه قبل تأليفه؟ قيل: عن ذلك جوابان: أحدهما: أن الإشارة كانت إلى كتاب مصورٍ في الذهن؛ لأن من عزم على تأليف كتاب صوّره في ذهنه. وثانيهما: أنه يحتمل أن المصنف رحمه الله عمل الخطبة بعد فراغه من تأليف الكتاب المذكور. وأما قوله: في الفقه فبيان لاختصاص الكتاب المؤلف بالمسائل الشرعية. والفقه في اللغة: الفهم. وفي الشرع: هو عبارة عن العلم أو الظن بجملة كثيرة من الأحكام الشرعية الفرعية بالنظر والاستدلال. وشرح ذلك كله مستوفًى في شرحي من أصول الفقه.

وأما قوله: على مذهب أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني فبيان لأن الفقه المذكور في الكتاب المشار إليه منسوب إلى الإمام المذكور. والمذهب الطريق. يقال: ذهب مذهبًا حقًا وذَهابًا وذهوبًا. وجمعه: مذاهب. وأما قوله: اجتهدت في جمعه وترتيبه وإيجازه وتقريبه. فمعناه: أنه بالغ في ذلك وحرص عليه طاقته. ولقد أجاد فيما صنع، وأحسن فيما جمع، ورتب فأسجع، وأوجز فأقنع، وقرب فأبدع، فجعل الله نصيبه من ثمرات الجنة أحسن ما أينع. وأما قوله: وسطًا بين القصير والطويل فيحتمل أنه منصوب لجمعه أي اجتهدت في جمعه وسطًا. ويحتمل أنه منصوب بفعل مقدر تقديره وجعلته. وأما قوله: وجامعًا لأكثر الأحكام فمعطوف على وسطًا. وأما قوله: عرية عن الدليل والتعليل فمعناه أن المذكور في الكتاب الأحكام دون دلائلها وتعاليلها. وأما قوله: ليكثر علمه ويقل حجمه ويسهل حفظه وفهمه ويكون مقنعًا لحافظيه نافعًا للناظر فيه. فمعناه أن العلل الحاملة على جمعه وجعله وسطًا وجامعًا: كثرة علمه وقلة حجمه وسهولة حفظه وفهمه وكونه مقنعًا لمن يحفظه نافعًا لمن ينظر فيه. وأما قوله: والله سبحانه المسئول أن يبلغنا ... إلى آخره: فدعاء نسأل الله إجابته وأن يفعل ذلك بنا أيضًا، ويعقبنا سلامته.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة: لا بد من تعريف كل واحد من الكتاب والطهارة لأن تعريف المركب موقوف على تعريف كل واحد من مفرداته. أما تعريف الكتاب. فالكتاب: مأخوذ من الجمع. ومنه كتبت البغلة إذا جمعت بين شُفريْها بحلقة. فالكتاب إذًا هو الجامع. وأحكام الطهارة مجموعة فيه فكأنه جمعها. فحسُن لذلك إطلاق لفظ الكتاب عليه. وأما الطهارة ففي اللغة: هي النظافة والنزاهة عن الأقذار. وفي الشرع: عبارة عن استعمال الماء الطهور أو بدله في أعضاء مخصوصة على وجه مخصوص. وسنبين ذلك بعد إن شاء الله تعالى. وقيل: عن رفع ما يمنع الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب. فإذا عرف كل واحد من الكتاب والطهارة فمعنى كتاب الطهارة: الجامع لأحكام الطهارة.

باب المياه

باب المياه المياه جمع ماء. فإن قيل: الماء اسم جنس، وأسماء الأجناس لا تجمع. قيل: أسماء الأجناس تجمع إذا اختلفت أنواعها. والماء هنا متنوع لانقسامه إلى طهور، وطاهر غير مطهر، ونجس. قال المصنف رحمه الله: (وهي ثلاثة أقسام: ماء طهور. وهو: الباقي على أصل خلقته، وما تغير بمكثه أو بطاهر لا يمكن صونه عنه كالطحلب وورق الشجر، أو لا يخالطه كالعود والكافور والدهن، أو ما أصله الماء كالملح البحري. وما تروح بريح منتنة إلى جانبه أو سُخّن بالشمس أو بطاهر فهذا كله طاهر مطهر يرفع الأحداث ويزيل الأنجاس غير مكروه الاستعمال). أما كون المياه ثلاثة أقسام فلانقسامها إلى طهور، وطاهر غير مطهر، ونجس. فإن قيل: ما الحجة في ذلك؟ قيل: الماء لا يخلو إما أن يجوز الوضوء به أو لا. فإن جاز فهو الطاهر غير المطهر وإن لم يجز فهو النجس. وأما قول المصنف رحمه الله: ماء طهور فمعناه أحد الأقسام ماء طهور. وقدمه على قسيميه لرجحانه على الثاني بالطهورية، وعلى الثالث بالطهورية والطاهرية. والطهور عندنا من الأسماء المتعدية (¬1) أي اسم لما يتطهر به. قال الله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [الفرقان: 48]، وقال: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} [الأنفال: 11]. ¬

_ (¬1) في ب: المعتدية.

فإن قيل: لا فرق بين الطاهر والطهور لأن العرب لا تفرق بين فاعل وفعول في التعدي واللزوم؛ كقاعد وقَعود وضارب وضَروب. وإذا كان كذلك فالطاهر غير متعد فالطهور مثله. ولأن طهورًا لو كان متعديًا لما وقع هذا الإطلاق حقيقة إلا بعد وجود التطهير؛ كالقتول لا يطلق حقيقة إلا بعد وجود القتل، والضروب لا يطلق حقيقة إلا بعد وجود الضرب. ولأن الطهور لو كان متعديًا لتكرر (¬1) فعل التطهر به. قيل: يدل على الفرق بينهما الكتاب والسنة. أما الكتاب فما تقدم. وأما السنة فما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن ماء البحر. قال: هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ولو كان الطهور هو الطاهر لما امتن الله على عباده بماء السماء، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مجيبًا عن السؤال؛ لأنهم علموا طاهريته. وإنما سألوا عن طهوريته وتعدي فعله إليهم. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي -فذكر منهن-: وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» (¬3) رواه البخاري. وجه الحجة أنه لو تساوى فاعل وفعول لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر فضلية لأن الطهارة ثابتة لسائر الأنبياء. ¬

_ (¬1) في ب: بالتكرر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (83) 1: 21 كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر. وأخرجه الترمذي في جامعه (69) 1: 100 أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور. وأخرجه النسائي في سننه (59) 1: 50 كتاب الطهارة، باب ماء البحر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (386) 1: 136 كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر. كلهم عن أبي هريرة. وقد نقل الترمذي عن البخاري تصحيحه هذا الحديث. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (427) 1: 168 أبواب المساجد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً». وأخرجه مسلم في صحيحه (521) 1: 370 كتاب المساجد ومواضع الصلاة. كلاهما من حديث جابر.

ثم القول بأن لا فرق بينهما عند العرب لا يصح لأن فعولا عندهم آكد. ولم يكن تأكيد الطهور بتكرار فعله فجعل تأكيده بتعدي فعله إلى غيره. وأما القول بأنه لو تعدى لتكرر فعله فعنه جوابان: أحدهما: أن التعدي صفة لجنس الماء وجنس الماء يتكرر فعله للتطهير، وكذلك الماء الكثير. والثاني: أن الماء اليسير يتكرر منه فعل التطهر قبل الانفصال لأنه ينتقل من محل إلى آخر. وأما كون الطهور هو الباقي على أصل خلقته ... إلى آخره فلما يأتي ذكره في مواضعه. وأما كون الباقي على أصل خلقته كماء السماء وذوب الثلج والبرد وماء البحر والبئر والعيون والأنهار وما أشبه ذلك طهور: أما ماء السماء فلما تقدم من قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [الفرقان: 48]، وقوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} [الأنفال: 11]. وأما ذوب الثلج والبرد فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم طهرني بالثلج والبرد» (¬1) رواه مسلم. وأما ماء البحر فلقوله عليه السلام: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأما ماء البئر فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من بئر بُضاعة» (¬3) رواه النسائي. وأما ماء العيون والأنهار؛ فلأن مائهما كماء البئر. وأما كون ما تغير بمكثه طهورًا؛ فلأنه تغير في مقره أشبه الجاري على المعادن. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (476) 1: 346 كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (¬2) سبق تخريجه ص 94. (¬3) أخرجه النسائي في سننه (327) 1: 174 كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة. وأخرجه أحمد في مسنده (10735) ط إحياء التراث. كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري.

و «لأن عليًا رضي الله عنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بماء آجن في دَرَقَته فغسل به وجهه» (¬1). وروي «أنه توضأ من غدير كأن ماءه نقاعة الحنا» (¬2). ولأن ذلك لا يسلبه اسم الماء المطلق أشبه الباقي على أصل خلقته. وأما كون ما تغير بطاهر لا يمكن صون الماء عنه كالطحلب وورق الشجر طهورًا؛ فلأنه يشق الاحتراز منه، ولا يسلبه اسم الماء ولا معناه أشبه المتغير بمكثه. وأما كون ما تغير بطاهر لا يخالطه كالعود والكافور والدهن طهورًا؛ فلأنه تغيرٌ عن مجاورة أشبه ما لو تغير بمجاورة جيفة إلى قربة. وأما كون ما تغير بما أصله الماء كالملح البحري طهورًا؛ فلأن المتغير به منعقد من الماء أشبه ذوب الثلج. وأما كون ما تغير بريح منتنة إلى جانبه طهورًا؛ فلأنه تغيرٌ عن مجاورة لا مخالطة. وأما كون ما سخن بالشمس أو بطاهر طهورًا؛ فلأن السخونة صفة خلق عليها الماء أشبه ما لو برده. أما كون ما ذكر كله طاهرًا مطهرًا يرفع الأحداث ويزيل الأنجاس غير مكروهة الاستعمال: أما كونه طاهرًا؛ فلأنه طهور لما تقدم. وكل طهور طاهر. وأما كونه طهورًا فلما تقدم. وأما كونه يرفع الأحداث؛ فلأن ذلك شأن الطهور. وأما كونه يزيل الأنجاس؛ فلأن كل ما رفع الحدث أزال النجس. و«لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عُمَيس أن تغسل دم الحيض بالماء» (¬3). وأما كونه غير مكروه الاستعمال: أما ما عدا المسخن فلا خلاف. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 269 كتاب الطهارة، باب طهارة الماء بنتن بلا حرام خالطه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5430) 5: 2174 كتاب الطب باب السحر. وأخرجه أحمد في مسنده (24392) 6: 63. (¬3) لم أقف عليه هكذا، وقد روت أسماء بنت أبي بكر قالت: «جاءت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع؟ قال: تحُتُّه، ثم تقرُصه بالماء، وتنضحه، وتُصلي فيه». ر ص: 253.

وأما المسخن فلما تقدم من أن السخونة صفة خلق عليها الماء أشبه ما لو برَّده. و«لأن ابن عباس رضي الله عنهما دخل حمام الجحفة» (¬1). ولأن الكراهة تستدعي دليلاً ولم يوجد. فإن قيل: فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه قال لعائشة رضي الله عنها وقد سخنت ماء في الشمس: لا تفعلي. فإنه يورث البرص» (¬2) رواه الدارقطني. وعن أنس أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تغتسلوا بالماء الذي سخن بالشمس فإنه يعدي من البرص» (¬3) رواه العقيلي. قيل: الحديثان غير صحيحين. ويعضد ذلك إجماع أهل الطب على أن ذلك لا أثر له في البرص وأنه لو أثر لما اختلفا بالقصد وعدمه. ولما اختص بتسخينه في الأواني المنطبعة دون غيرها. قال: (وإن سخن بنجاسة فهل يكره استعماله؟ على روايتين). أما كون ما ذُكر يكره على روايةٍ؛ فلأنه يحتمل أن تصل إليه النجاسة فيتنجس. وإذا لم يحكم بذلك فلا أقل من الكراهة. وأما كونه لا يكره على روايةٍ؛ فلأن الأصل عدم ذلك. ولا بد أن يلحظ أن تسخين الماء بنجاسة له صور: إحداها: أن يكون يسيرًا ويحتمل أن تصل إليه النجاسة وأن لا تصل فهذا فيه الخلاف المذكور وعليه ما ذكر. وثانيها: أن يكون كثيرًا فهذا طهور غير مكروه الاستعمال لأنه يدفع الخبث عن نفسه وأسوأ ما يُقّدَّر وصول النجاسة إليه. وذلك لا أثر له في الماء الكثير إلا أن يغيره. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 63 كتاب الحج، باب دخول الحمام في الإحرام وحك الرأس والجسد. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (2) 1: 38 كتاب الطهارة، باب الماء المسخن. وقال الدارقطني: غريب جدا، خالد بن إسماعيل -أحد رواة الحديث- متروك. (¬3) أخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير 2: 176. وقال: ليس في الماء المشمّس شيء يصح مسند، إنما يروى فيه شيء عن عمر رضي الله عنه.

وثالثها: أن يكون الماء يسيرًا ويعلم وصول النجاسة إليه فهذا ينجس لأن الماء اليسير ينجس بمخالطة النجاسة. ورابعها: أن يكون يسيرًا ويعلم عدم وصول النجاسة إليه فهذا طهور غير مكروه الاستعمال لأنه لا سبب يقتضي الكراهة. وفيه وجه أنه يكره؛ لأن المتصاعد من النجاسة لطيف فربما وصل ولم يشعر به.

فصل في الماء الطاهر غير المطهر

فصل [في الماء الطاهر غير المطهر] قال المصنف رحمه الله: (القسم الثاني: ماء طاهر غير مطهر. وهو: ما خالطه طاهر فغيّر اسمه، أو غلب على أجزائه، أو طبخ فيه. فإن غيّر أحد أوصافه: لونه أو طعمه أو ريحه، أو استعمل في رفع حدث، أو طهارة مشروعة كالتجديد وغسل الجمعة، أو غَمَس فيه يدَه قائمٌ من نوم الليل قبل غسلها ثلاثًا فهل يسلب طهوريته؟ على روايتين). أما كون القسم الثاني من أقسام المياه ماء طاهرًا غير مطهر فلما تقدم في كون المياه ثلاثة أقسام. وأما كونه هو ما خالطه طاهر ... إلى آخره فلما يأتي ذكره في مواضعه. وهو على ضربين: أحدهما: متفق على طهارته وعدم تطهيره. وهو أنواع: أحدها: ماء خالطه طاهر فغيّر اسمه. مثل: إن جعله صبغًا أو خبزًا فهذا طاهر غير مطهر؛ لأنه زال عنه اسم الماء أشبه الخل. وثانيها: ماء خالطه طاهر فغلب على أجزائه. فهذا أيضًا طاهر غير مطهر؛ لأن المخالط إذا غلب يجب أن يكون الحكم له، والمخالط طاهر غير مطهر فوجب كون الماء مثله. ولأن المخالط إذا غلب على أجزاء الماء زال معه الماء لأنه حينئذ لا يُطلب منه الإرواء. وإذا كان كذلك فقد سلب الماء خاصيته التي خلق لها فوجب سلب الطهورية عنه. وثالثها: ماء طبخ فيه طاهر. مثل: الباقلاء والحمص ونحو ذلك. فهذا طاهر غير مطهر؛ لأنه صار طبيخًا وزال عنه مقصود الماء من الإرواء. أشبه ما لو صار خبزًا.

فإن قيل: الطبخ إن اعتبر فيه تغيّر الاسم أو غلبة الأجزاء كان كالنوعين قبله. فلا حاجة إلى ذكره، وإن لم يعتبر فيه ذلك (¬1) دخل فيه ما لو سلق في ماء بيض فإنه يسمى طبيخًا؛ بدليل ما لو حلف ليطبخن قدرًا بكيلجة ملح ولا يجد طعمه. فإنهم قالوا: يسلق فيها بيضًا. وطبيخ ما ذكر لا يسلب طهورية (¬2) الماء. قيل: المراد الطبخ المعتاد. وما ذكر نادر فلا يحمل الكلام عليه. على أن قوله طبخ فيه لا عموم له. الضرب الثاني: مختلف فيه. وهو أنواع: أحدها: ماء خالطه طاهر فغير أحد أوصافه المذكورة. وفيه روايتان: إحداهما أنه طاهر غير مطهر؛ لأنه غيّر صفته. أشبه ماء الباقلاء المغلي. والرواية الثانية: أنه طاهر مطهر؛ لقول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6]. وهذا ماء فلا يجوز التيمم معه. ومثله «قوله عليه السلام لأبي ذر: التراب كافيك ما لم تجد الماء» (¬3). ولأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم والظاهر تغيّر الماء فيها. ولأنه طهور خالطه طاهر لم يسلبه اسم الماء ولا رقته ولا جريانه أشبه المتغير بالدهن. والأولى أصح؛ لما تقدم. ولأن الماء له صفتان الطهورية والطهارية. والمخالف له على نوعين مخالف في صفته وهو النجاسة فإذا تغير به سلبه الصفتين جميعًا. والثاني: مخالف له في إحدى صفتيه فإذا تغير به وجب أن يسلبه ما خالفه فيه. والآية والخبر مطلقان والمطلق من الأسماء ينصرف إلى المطلق من المسميات. والماء المطلق هو غير المضاف إلى قيد مخصص به. وهذا ماء يصح أن يقيد. فيقال: ماء زعفران ونحوه. ثم هما مخصوصان بماء الباقلاء المغلي فيخصصان بما ذكر قياسًا عليه. ¬

_ (¬1) في ج التغيير. (¬2) في ب: طعمه. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 179 كتاب الطهارة، باب فرض الغسل.

والمخالط إن لم يسلبه اسم الماء فقد سلبه الإطلاق. والقياس على المتغير بالدهن لا يصح لأنه تغير عن مجاورة بخلاف ما ذكر فإنه متغير عن مخالطة. وثانيها: ماء استعمل في رفع حدث. وفيه أيضًا روايتان: إحداهما: أنه طاهر غير مطهر: أما كونه طاهرًا فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صب على جابر من وَضوئه» (¬1). وأما كونه غير مطهر؛ فلأنه زال عنه إطلاق اسم الماء أشبه المتغير بالزعفران. والثانية: أنه طهور؛ لأنه ماء طاهر لاقى أعضاءً طاهرة أشبه ما لو تبرد به. والأولى أصح في المذهب؛ لما تقدم. ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسافرون وتضيق بهم المياه فكانوا يستعملون ما معهم من الماء استعمال إتلاف وإراقة. ولو جاز استعماله ثانيا لامتنعوا من إراقته واستعملوه ثانيًا. ولم ينقل عن أحد منهم حفظ الماء المستعمل وادخاره للوضوء. وثالثها: ماء استعمل في طهارة مستحبة كالتجديد وغسل الجمعة وما أشبههما. وفيه أيضًا روايتان: إحداهما: أنه طهور؛ لأنه ماء ما استعمل في نجاسة ولا أزيل به مانع من الصلاة فوجب بقاؤه على ما كان عليه. والثانية: أنه غير مطهر؛ لأنه استعمل في طهارة مشروعة أشبه المستعمل في رفع الحدث. ورابعها: ماء غَمَس فيه يده قائم من نوم الليل قبل غسلها ثلاثًا. وفيه أيضًا روايتان مبنيتان على وجوب غسل يد القائم من نوم الليل، وفيه روايتان: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5327) 5: 2139 كتاب المرضى، باب عيادة المغمى عليه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1617) 3: 1236 كتاب الفرائض، باب ميراث الكلالة.

إحداهما: يجب؛ لقوله عليه السلام: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء. فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» (¬1). وفي لفظ: «فلا يغمس يده في وَضوئه حتى يغسلها ثلاثًا» (¬2). رواه مسلم. أمر والأمر للوجوب، ونهى والنهي للتحريم. والثانية: لا يجب غسل يده؛ لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]. ولم يذكر غسل اليدين. والحديث محمول على الاستحباب بدليل أنه علل بوهم النجاسة. قال: (وإن أزيلت به النجاسة فانفصل متغيرًا أو قبل زوالها فهو نجس، وإن انفصل غير متغير بعد زوالها فهو طاهر إن كان المحل أرضًا. وإن كان غير الأرض فهو طاهر في أصح الوجهين. وهل يكون طهورًا؟ على وجهين). أما كون الماء المزال به النجاسة نجسًا إذا انفصل متغيرًا؛ فلأن التغيير بالنجاسة يوجب التنجيس؛ لقوله عليه السلام: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه وطعمه وريحه» (¬3). والواو هنا بمعنى أو كقوله تعالى: {من كان عدوًا لله وملائكته ... الآية} [البقرة: 98]. وأما كونه نجسًا إذا انفصل قبل الحكم بزوال النجاسة مثل أن ينفصل في السادسة من ولوغ الكلب ونحو ذلك؛ فلأنه ملاق لنجاسة لم يطهرها فكان نجسًا كما لو وردت عليه. وأما كونه طاهرًا إذا انفصل غير متغير بعد زوال النجاسة إن كان المحل أرضًا فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يُصب على بول الأعرابي ذنوبًا من ماء» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (160) 1: 72 كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترًا. وأخرجه مسلم في صحيحه (278) 1: 233 كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا. كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه مسلم في الموضع السابق. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (521) 1: 174 كتاب الطهارة باب الحياض. عن أبي أمامة. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (219) 1: 89 كتاب الوضوء، باب يهريق الماء عل البول. وأخرجه مسلم في صحيحه (284) 1: 236 كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد ...

ولولا أنه يطهُرُ لكان تكثيرًا للنجاسة. وأما كونه طاهرًا إذا انفصل غير متغير بعد زوالها إن كان المحل غير أرض. مثل أن ينفصل في السابعة من ولوغ الكلب في قصعة أو نحوها في أصح الوجهين فبالقياس على المنفصل عن الأرض. ولأن البلل الباقي بعضُ المنفصل وهو طاهر فكان حكمُه حكمَه. وأما كونه نجسًا في وجهٍ؛ فلأنه ماء يسير لاقى نجاسة فوجب أن ينجس كما لو وردت عليه. وأما كونه طهورًا على وجهين فأصلهما المستعْمَل في رفع الحدث. وقد مضى توجيههما (¬1). قال: (وإن خلت بالطهارة منه امرأة فهو طهور. ولا يجوز للرجل الطهارة به في ظاهر المذهب). أما كون الماء الذي خلت به امرأة طهورًا؛ فلأنه كان طهورًا ولم يوجد ما يسلبه ذلك فوجب بقاؤه على ما كان عليه. وأما كون الرجل لا يجوز له الطهارة به في ظاهر المذهب فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة» (¬2) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن. وأما كونه يجوز في روايةٍ فلما روى مسلم «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بفضل ميمونة» (¬3). ¬

_ (¬1) ر ص: 101. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (82) 1: 21 كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك. وأخرجه الترمذي في جامعه (64) 1: 93 أبواب الطهارة، باب ما جاء في كراهية فضل طهور المرأة. وأخرجه النسائي في سننه (343) 1: 179 كتاب المياه، باب النهي عن فضل وضوء المرأة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (373) 1: 132 كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك. وأخرجه أحمد في مسنده (17898) 4: 213. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (323) 1: 257 كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة وغسل الرجل والمرأة في إناء.

ولأنه ماء طهور جاز للمرأة الطهارة به فجاز للرجل. أشبه فضل الرجل. إذا علم مأخذ الروايتين فالواجب حمل النهي على إذا ما خلت المرأة بالماء، وحمل اغتساله - صلى الله عليه وسلم - من فضلة ميمونة على أنه شاهدها أو اغتسلا جميعًا جمعًا بين الأحاديث. فإن قيل: ما معنى الخلوة؟ قيل: فيها أوجه: أحدها: أن لا يشاهدها رجل. قاله القاضي. وثانيها: هي ما تكون خالية به في النكاح. قاله الشريف. وثالثها: هي أن لا يشاركها في الوضوء أحد. فإن قيل: فما فائدة تخصيص الرجل بالذكر. قيل: اختصاصه بالحكم المذكور فيجوز إذن للمرأة الطهارة لأن تخصيص الرجل بالنهي يدل على جوازه للمرأة وهو تعبد لا يعقل معناه حتى يتعدى. فيجب قصره على مَوْرِد النصّ. وقيل: لا يجوز للمرأة أيضًا بالقياس عليه.

فصل الماء النجس

فصل [الماء النجس] قال المصنف رحمه الله: (القسم الثالث: ماء نجس. وهو: ما تغير بمخالطة النجاسة. فإن لم يتغير وهو يسير فهل ينجس؟ على روايتين. وإن كان كثيرًا فهو طاهر. إلا أن تكون النجاسة بولاً أو عذرة مائعة ففيه روايتان: إحداهما لا ينجس، والأخرى: ينجس. إلا أن يكون مما لا يمكن نزحه لكثرته فلا ينجس). أما كون القسم الثالث ماء نجسًا فلما تقدم في كون المياه ثلاثة أقسام. وأما كون الماء النجس هو ما تغير بمخالطة النجاسة فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه وطعمه وريحه» (¬1). وقد تقدم معنى الواو. ولأن تغيره لظهور النجاسة فيه والحكم للظاهر. وأما كون ما لم يتغير بمخالطة النجاسة إذا كان يسيرًا وهو ما دون القلتين ينجس على روايةٍ؛ فلأن قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» (¬2) يدل بمفهومه على أن ما دون القلتين يحمل الخبث. و«لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب» (¬3). والظاهر عدم تغيره. وأما كونه لا ينجس على روايةٍ فلعموم قوله: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه ... الحديث» (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 102. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (517) 1: 172 كتاب الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس. وأخرجه أحمد في مسنده (4803) 2: 48. (¬3) سيأتي تخريجه من حديث أبي هريرة في باب إزالة النجاسة ص: 254. (¬4) سبق تخريجه ص: 102.

والأولى أصح؛ لأن الجمع بين الحديثين أولى. فيجب حمل قوله: «الماء طهور» على الكثير. فإن قيل: فلِمَ يَنْجُس القليل إذا تغير إن لم يتناوله الحديث؟ قيل: بالقياس على الكثير بل بطريق الأولى لأنه إذا نجس الدافع عن نفسه فأولى أن ينجس غير الدافع. ولأنه [إذا] (¬1) نجس بمجرد الملاقاة وإن لم يتغير؛ فلأن ينجس بالتغير بطريق الأولى. وأما كون الماء الكثير إذا كانت النجاسة المخالطة له غير بول آدمي أو عذرته: الماء يعد طاهرًا فلما تقدم من قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» (¬2). ومن قوله عليه السلام: «الماء طهور لا ينجسه شيء ... الحديث» (¬3). وأما كونه لا ينجس إذا كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة وكان الماء الكثير مما يمكن نزحه على روايةٍ فلعموم الحديثين المتقدمين. وأما كونه ينجس على روايةٍ فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» (¬4) متفق عليه. والأولى أصح؛ لأن خبر البول لا بد من تخصيصه فيخص بخبر القلتين (¬5). ولأن البول كغيره من النجاسات في سائر الأحكام فكذلك في تنجيس الماء. وأما كونه لا ينجس رواية واحدة إذا كان مما لا يمكن نزحه؛ فلأن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - ينصرف إلى ما كان بأرضه في عهده من (¬6) آبار المدينة. ولأن نجاسه ذلك بما ذكر تؤدي إلى الحرج والمشقة. وذلك منتف شرعًا. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) سبق تخريجه ص: 105. (¬3) سبق تخريجه ص: 102. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (236) 1: 94 كتاب الوضوء باب البول في الماء الدائم. وأخرجه مسلم في صحيحه (283) 1: 236 كتاب الطهارة باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد. (¬5) سبق ذكره وتخريجه ص: 105. (¬6) في ب في.

قال: (وإذا انضم إلى الماء النجس ماء طاهر كثير طهّره إن لم يبق فيه تغيّر). أما كون ما ذكر يطهّر الماء النجس؛ فلأن الماء الطهور الكثير يدفع النجاسة عن نفسه فيدفعها عن غيره. وأما قول المصنف رحمه الله: ماء طاهر المراد به الطهور لأن غير الطهور لا يدفع النجاسة عن نفسه؛ فلأن لا يدفعها عن غيره بطريق الأولى. وقوله: كثير فيه تنبيه على أنه يشترط في تطهير ما ذكر بكثرة الماء المضموم؛ لأن اليسير لا يطهر لما يأتي. وقوله: إن لم يبق فيه تغيّر فيه تنبيه على أنه يشترط في تطهير ما ذكر زوال التغيّر؛ لأن التغيّر ينجس الكثير. فإن قيل: ما صفة هذا الضم؟ قيل: أن يجري الماء الكثير من ساقية أو أن يصبه دلوًا فدلوًا. ولا يعتبر صبه دفعة واحدة للمشقة. قال: (وإن كان الماء النجس كثيرًا فزال تغيّره بنفسه أو بنزح بقي بعده كثير طهر). أما كون الماء الكثير إذا زال تغيّره بنفسه يطهر؛ فلأن العلة في تنجيسه التغيّر. فإذا زال زال التنجيس ضرورة زوال الحكم عند زوال علته. وأما كونه إذا زال تغيره بالنزح يطهر فلما ذكر. وأما قول المصنف رحمه الله: بنزح بقي بعده كثير فبيان لاشتراط بقاء الماء كثيرًا بعد نزحه؛ لأن القليل الموجب لتنجيسه أمران: الملاقاة والتغير فإذا زال أحد السببين الذي هو التغير لا يلزم دفع التنجيس لبقاء سببه الآخر. قال: (وإن كُوثر بماء يسير أو بغير الماء فأزال التغيّر لم يطهر، ويتخرج أن يطهر). أما كون ما كُوثر بماء يسير لا يطهر على المذهب؛ فلأن ذلك لا يدفع الخبث عن نفسه؛ فلأن لا يدفع عن غيره بطريق الأولى. وأما كون ما كُوثر بغير الماء كالتراب والخل لا يطهر على المذهب؛ فلأن الماء اليسير إذا لم يطهّر مع كونه مطهرًا في الجملة؛ فلأن لا يطهّر غيرَه بطريق الأولى.

قال ابن عقيل: التراب ونحوه لا يُطَهّر لأنه لا يزيل التغيّر وإنما يستره. وأما كون ما كُوثر بماء يسير أو بطاهر يتخرج أن يطهر؛ فلأن علة التنجيس التغيّر وقد زال فوجب زوال التنجيس كما لو زال التغيّر بالمكاثرة. قال: (والكثير ما بلغ قلتين، واليسير ما دونهما وهما خمسمائة رطل بالعراقي. وعنه أربعمائة. وهل ذلك تقريب أو تحديد؟ على وجهين). أما كون الكثير ما بلغ قلتين. وهما تثنية قلة. وهي الجرّة. وسميت بذلك لأنها تُقَلُّ. أي تحمل. ومنه قوله تعالى: {حتى إذا أَقَلَّت سحابًا ثِقَالاً} [الأعراف: 57]. أي حملت. واليسير ما دونهما؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرّق بين القلتين وما دونهما حيث قال: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» (¬1). فوجب جعل ما لم يحمل الخبث كثيرا لدفعه الخبث وما دونه يسيرًا لعدم دفعه ذلك. وأما كون القلتين خمسمائة رطلٍ بالعراقي على المذهب؛ فلأنه يروى عن ابن جريج أنه قال: «رأيت قِلال هَجَر وكانت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئًا» (¬2). فالاحتياط أن يُجْعل الشيء نصفًا. والقربة مائة بإجماع فتكون القلتان خمسمائة رطل بالعراقي. والرطل العراقي وزنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا فيكون القنطار بالرطل الدمشقي أحد وعشرين رطلاً وثلث رطل. فتكون القلتان على هذا مائة رطل وستة أرطال وثلثي رطل. كذا ذكر المصنف رحمه الله في المغني القديم وعزاه إلى أبي عبيد (¬3). وذكر في المغني الجديد أن الرطل العراقي مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم. فتكون القلتان على هذا مائة رطل وسبعة أرطال وأوقية وخمسة أسباع أوقية. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 105. (¬2) ذكره البيهقي في السنن الكبرى 1: 263 كتاب الطهارة، باب: قدر القلتين. (¬3) ر الأموال لأبي عبيد ص: 466.

وأما كونهما أربعمائة على روايةٍ فلما روي عن ابن جريج ويحيى بن عُقيل: أن القلة تأخذ قربتين. وقِربُ الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل. فعلى هذا تكون القلتان خمسة وثمانين وثلث رطل بالدمشقي على الأول. وعلى ما في المغني الجديد تكون القلتان خمسة وثمانين وثلث رطل وأربعة أسباع أوقية. وأما كون ذلك تقريبًا على وجهٍ؛ فلأن الشيء إنما جعل نصفًا احتياطًا والغالب استعماله دون النصف. وأما كونه تحديدًا على وجه؛ فلأن ما جعل احتياطًا يصير واجبًا كغسل جزء من الرأس مع الوجه. فإن قيل: الخلاف في التقريب والتحديد راجع إلى خمسمائة أو إلى أربعمائة أو إليهما. قيل: ظاهر هنا رجوعه إليهما، وظاهر كلامه في المغني رجوعه إلى خمسمائة؛ لأنه قال فيه: اختلف أصحابنا هل القلتان خمسمائة رطل تحديدًا أو تقريبًا؟ فخص الخلاف بخمسائة. والأشبه ذلك إن قيل القربة مائة بإجماع لأنه لا ترديد في كون القلتين قربتين وإنما الترديد في الزائد عليهما. وإن قيل: القربة مائة تقريبًا حسن مجيء الخلاف في التقريب والتحديد في الروايتين المتقدم ذكرهما. فإن قيل: ما الصحيح منهما؟ قيل: التقريب عند المصنف رحمه الله، والتحديد عن أبي الحسن الآمدي. وذكره المصنف في المغني. إذا علم ذلك. ففائدة الخلاف لو نقصتا رطلاً أو نحوه فوقع فيها نجاسة فعلى القول بالتقريب هو طاهر؛ لأنه نقص يسير لا أثر له، وعلى القول بالتحديد هو نجس لأنه ما نقص عن قلتين. قال: (وإذا شك في نجاسة الماء أو كان نجسًا فشك في طهارته بنى على اليقين). أما كون من شك في نجاسة الماء بعد طهارته بنى على اليقين؛ فلأن طهارته متيقنة والمتيقن لا يزول بالشك. ولأن اليقين راجح على ما يطرأ عليه من الشك.

وأما كون من شك في طهارة الماء بعد نجاسته بنى على اليقين فلما ذكر قبل. قال: (وإن اشتبه الماء الطاهر بالنجس لم يتحر فيهما على الصحيح من المذهب ويتيمم. وهل يشترط إراقتهما أو خلطهما؟ على روايتين). أما كون من اشتبه عليه الماء الطهور - وهو المراد بقول المصنف رحمه الله الطاهر - بالنجس لم يتحر فيهما فلما يأتي ذكره في صوره، وهي ثلاث صور: إحداها: أن يكثر عدد النجس على عدد الطهور. الثانية: أن يستويا. الثالثة: أن يكثر عدد الطهور على النجس. فالأولتان لا خلاف في المذهب أنه لا يتحرى فيهما. أما كونهما لا خلاف فيهما؛ فلأن المصنف رحمه الله صرح في المغني بذلك فيجب حمل كلامه هاهنا على الصورة الثالثة ويكون من باب إطلاق اللفظ المتواطئ إذا أريد به بعض محاله وهذا مجاز سائغ. وأما كونه لا يتحرى فيهما؛ فلأنه اشتبه عليه المباح بالمحظور في موضع لا تبيحه الضرورة فلم يجز التحري كما لو اشتبهت أخته بأجنبية. وأما كونه لا يتحرى في الصورة الثالثة فلما ذكر في الصورتين. قيل: وحكي عن أبي علي النجاد أنه يتحرى فيهما؛ لأنه إذا كثر عدد الطهور على النجس يغلب على الظن إصابة الطهور. وإلى ذلك الوجه أشار المصنف رحمه الله بقوله: على الصحيح من المذهب. والأول أصح لما تقدم. وأما غلبة الظن إصابة الطهور فلا أثر له؛ كما لو اختلطت أخته بأجنبيات، والميتة بمذكيات. وأما كونه يتيمم إذا لم يتحر في الصور الثلاث؛ فلأن ذلك شأن عادم الماء لدخوله تحت قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6]. وأما كون إراقتهما أو خلطهما يشترط على روايةٍ فليتحقق عدم الماء الطهور حسًا وشرعًا.

وأما كون ذلك لا يشترط على روايةٍ؛ فلأنه ممنوع من استعمالهما شرعًا، والممنوع منه شرعًا كالمعدوم حقيقة دليله الجريح. قال: (وإن اشتبه طاهر بطهور توضأ من كل واحد منهما وصلى صلاة واحدة). أما كون من اشتبه عليه طاهر بطهور يتوضأ من كل واحد منهما؛ فلأنه أمكنه تأدية فرضه بيقين فلزمه ذلك كما لو نسي صلاةً من خمس لا يَعلم عينها. وأما كونه يصلي صلاة واحدة؛ فلأنه إذا توضأ من كل واحد ثم صلى صلاة واحدة علم أنه صلى متوضئًا بماء طهور قطعًا. قال: (وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس وزاد صلاة). أما كون من ذكر يصلي في كل ثوب صلاة بعدد النجس؛ فلأنه لا يمكنه تأدية فرضه بيقين بدون ذلك فلزمه فعله لما تقدم. وأما كونه يزيد صلاة؛ فلأنه إذا فعل ذلك علم أنه صلى في ثوب طاهر قطعًا.

باب الآنية

باب الآنية: قال المصنف رحمه الله: (كل إناء طاهر مباح اتخاذه واستعماله ولو كان ثمينًا كالجوهر ونحوه إلا آنية الذهب والفضة والمضبب بهما فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها على الرجال والنساء. فإن توضأ منهما فهل تصح طهارته؟ على وجهين. إلا أن تكون الضبة يسيرة من الفضة كتشعيب القدح (¬1) فلا بأس بها إذا لم يباشرها بالاستعمال). أما كون كل إناء طاهر ليس ذهبًا ولا فضة ولا مضببًا بأحدهما يباح اتخاذه؛ فلأنه يباح استعماله لما يأتي، وما يباح استعماله يباح اتخاذه. دليله الثياب المباح استعمالها. وأما كونه يباح استعماله؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من جفنة، ومن تور من صفر، ومن تور من حجارة، ومن إداوة، وقربة. فيثبت الحكم فيما ذكر لفعله، وفيما بقي من الصور لأنه في معناه. وأما قول المصنف رحمه الله: ولو كان ثمينًا فتنبيه على أنه لا فرق في ذلك بين الإناء الثمين كالجوهر والبلور وغير الثمين؛ لأن العلة المحرمة للذهب والفضة مفقودة في الثمين؛ لأن الثمين لا يعرفه إلا الخواص من الناس فلا يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء. وأما كون آنية الذهب والفضة يحرم اتخاذها؛ فلأنه (¬2) يحرم استعمالها لما يأتي، وما يحرم استعماله يحرم اتخاذه. دليله الطنبور. ¬

_ (¬1) في المقنع زيادة: ونحوه. (¬2) في ب: فأنه.

وأما كونها يحرم استعمالها فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (¬1). وقال عليه السلام: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يُجَرْجِرُ في بطنه نار جهنم» (¬2) متفق عليهما. فتوعّد على ذلك النار. وذلك دليل الحرمة. ولأن فيه سرفًا وخيلاء وكسرًا لقلوب الفقراء. فإن قيل: الحديث المتقدم إنما دليله حرمة الأكل والشرب. قيل: الشيء إذا خرج مخرج الغالب لا يتقيد الحكم به. ومنه قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} [البقرة: 283]؛ لأن الرهن يصح في الحضر وذِكْر السفر خرج مخرج الغالب. وأما كون المضبب بالذهب أو بالفضة يحرم اتخاذه واستعماله ما لم تكن الضبة يسيرة من فضة؛ فلأن علة تحريم الذهب والفضة هي الخيلاء وكسر قلوب الفقراء وهي موجودة في المضبب المذكور فوجب ثبوت حكمهما فيه. وأما قول المصنف رحمه الله: على الرجال والنساء فتنبيه على أنه لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء لعموم الأحاديث. وأما كون الوضوء من الآنية المذكورة المحرم استعمالها يصح على وجه؛ فلأن الوضوء جريان الماء على الأعضاء وليس ذلك بمعصية. وأما كونه لا يصح على وجه؛ فلأن ذلك استعمال المعصية في العبادة أشبه الصلاة في الدار المغصوبة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5110) 5: 2069 كتاب الأطعمة، باب: الأكل في إناء مفضض. وأخرجه مسلم في صحيحه (2067) 3: 1638 كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة ... عن حذيفة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5311) 5: 2133 كتاب الأشربة، باب: آنية الفضة. وأخرجه مسلم في صحيحه (2065) 3: 1634 كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة ... عن أم سلمة رضي الله عنها.

والأول أصح؛ لأن استعمال الماء في الوضوء يكون بعد فعله المعصية بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة فإن نفس العبادة واقعة معصية وذلك لا يجامع الطاعة فلزم انتفاء كونها عبادة. وأما كون الضبة اليسيرة من فضة لا بأس بها فـ «لأن قدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة» (¬1) رواه البخاري. ولأن الخيلاء وكسر قلوب الفقراء مفقود في ذلك. وفي تقييد المصنف رحمه الله الضبة بكونها يسيرة من فضة إشعار (¬2) بأمرين: أحدهما: أنه يشترط فيما ذكر ذلك. وهو صحيح لأن مقتضى الدليل حرمة المضبب مطلقًا. تُرك العمل به فيما ضبته يسيرة من فضة للحديث المذكور فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وثانيهما: أنه لا يشترط غير ذلك. فعلى هذا لا يشترط أن تكون الضبة لحاجة. وصرح به في المغني. ووجهه أنها ضبة يسيرة لا خيلاء فيها ولا كسر. وقال أبو الخطاب: لا بد من الحاجة لأن الرخصة وردت في الحاجة فيجب قصر الحكم عليها. فإن قال قائل: قول المصنف رحمه الله لا بأس بها إذا لم يباشرها بالاستعمال يدل على وجود البأس عند وجود المباشرة والبأس ظاهر في التحريم والأمر ليس كذلك. قيل: مراده نفي الكراهة إذا لم يباشرها وهو عند المباشرة مكروه الاستعمال لأنه يكون شاربًا على فضة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2942) 3: 1131 أبواب الخمس، باب: ما ذُكر من درع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصاه ... عن أنس رضي الله عنه. (¬2) في ب: إشعاراً.

قال: (وثياب الكفار وأوانيهم طاهرة مباحة الاستعمال ما لم تعلم نجاستها. وعنه: ما ولي عوراتهم كالسراويل ونحوه لا يصلى فيه. وعنه: أن من لا تحل ذبيحتهم لا يستعمل ما استعملوه من آنيتهم إلا بعد غسله، ولا يؤكل من طعامهم إلا الفاكهة ونحوها). أما كون ثياب الكفار وأوانيهم طاهرة مباحة الاستعمال ما لم تعلم نجاستها على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5]. و«لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يلبسون من نسج الكفار». و«أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند يهودي خبزًا وإهالةٍ سَنِخة» (¬1) رواه الإمام أحمد. و«توضأ عمر رضي الله من جرة نصرانية» (¬2). وأما كون ما ولي عوراتهم كالسراويل ونحوه لا يصلى فيه على روايةٍ؛ فلأن الغالب نجاسته. وأما كون من لا تحل ذبيحته كالمجوس وعبدة الأوثان لا يستعمل ما استعملوه من آنيتهم إلا بعد غسله على روايةٍ؛ فلأنها تتنجس بذبيحتهم ضرورة كونها ميتة. وأما كونهم لا يؤكل من طعامهم غير الفاكهة ونحوها؛ فلأنه يتنجس بتنجس آنيتهم (¬3). وأما كونهم يؤكل من طعامهم الفاكهة ونحوها؛ فلأن الظاهر سلامتها من النجاسة. فإن قيل: من يتعبد بالنجاسة كبعض النصارى ما حكمه؟ قيل: حكم من لا تحل ذبيحته لا شتراكهما في التنجيس. ويعضده ما روى أبو ثعلبة قال: «قلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (13887) 3: 270. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 32 كتاب الطهارة، باب التطهر في أواني المشركين إذا لم يعلم نجاسة. (¬3) في ب: بآنيتهم.

آنيتهم؟ فقال: لا تأكلوا بها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها ثم كلوا فيها» (¬1) متفق عليه. فإن قيل: هذا يدل على النجاسة في أهل الكتاب كلهم. قيل: يجب حمله على أهل الكتاب الذين يتعبدون بالنجاسة كبعض النصارى جمعًا بينه وبين قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5] وبين فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) وفعل عمر (¬3). قال: (ولا يطهر جلد الميتة بالدباغ، وهل يجوز استعماله في اليابسات بعد الدبغ؟ على روايتين. وعنه: يطهر منها جلد ما كان طاهرًا في حال الحياة، ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة). أما كون جلد الميتة لا يطهر بالدباغ على الصحيح في المذهب فلما روي عن عبدالله بن عُكيم قال: «قرئ علينا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض جهينة -وأنا غلام شاب- أن لا تَنتفعُوا من الميتةِ بإهَابٍ ولا عَصَب» (¬4). قال أحمد: ما أصلح إسناده. ولأنه جزء من الميتة ينجس بالموت فلم يطهر بالدبغ كاللحم. فعلى هذه الرواية هل يجوز استعماله في اليابسات بعد الدبغ؟ على روايتين: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5161) 5: 2087 كتاب الذبائح والصيد، باب صيد القوس. وأخرجه مسلم في صحيحه (1930) 3: 1532 كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة. (¬2) ر ص: 115. (¬3) ر ص: 115. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4128) 4: 67 كتاب اللباس، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1729) 4: 222 كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت. وأخرجه أحمد في مسنده (18766) 4: 310. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وليس العمل على هذا عند أكثر أهل العلم.

إحداهما: لا يجوز لعموم قوله: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» (¬1). والثانية: يجوز لقوله: «فهلا أخذوا إهابها فانتفعوا به» (¬2). فإن قيل: هذا يعم الانتفاع بعد الدبغ وقبله فلِم خص الانتفاع ببعد الدبغ؟ قيل: قد روي «فدبغوه فانتفعوا به» (¬3) والمطلق يحمل على المقيد فيجب أن لا يجوز الانتفاع به قبل الدبغ لما تقدم من حديث ابن عكيم السالم عن معارضة حديث ميمونة. فإن قيل: الاختلاف جار في كل جلد دبغ. قيل: لا بل في كل جلد اختلف في طهارته بالدبغ فأما الجلد الذي لا يطهر بالدبغ قولاً واحدًا كجلد الكلب والحنزير فلا يجوز استعماله في اليابسات رواية واحدة. وأما كون جلد ما كان طاهرًا في الحياة يطهر بالدباغ على روايةٍ؛ فلأن ذلك ينقسم إلى مأكولٍ كالشاة ونحوها فيجب أن يطهر بالدبغ؛ لقوله عليه السلام في حديث ميمونة: «هلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به» (¬4). وإلى غير مأكول كالبغل والحمار فيجب أن يطهر بالدبغ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «دباغ الأديم ذكاته» (¬5). أي يطيبه من قولهم رائحة ذكية أي طيبة. ولأنه حيوان طاهر فطهر بالدباغ قياسًا على جلد الشاة. ولأن الحيوان كان طاهرًا في الحياة وإنما ينجس بالموت لأنه يجمع الرطوبات والعفونات. والدباغ يُذهب ذلك فيجب أن يعود إلى ما كان عليه من الطهارة. وإنما لم يطهر إذا كان نجسًا في الحياة؛ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن افتراش جلود السباع» (¬6). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) سيأتي تخريجه من حديث ميمونة. (¬3) سيأتي تخريجه في الحديث التالي. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (363) 1: 277 كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 21 كتاب الطهارة، باب اشتراط الدباغ في طهارة جلد ما لا يؤكل لحمه وإن ذكي. (¬6) أخرجه الترمذي في جامعه (17623) 4: 241 كتاب اللباس، باب ما جاء في النهي عن جلود السباع.

ولأن قوله عليه السلام: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» (¬1) عام خولف في جلد الشاة وما في معناه لما تقدم. فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما كون جلد غير المأكول لا يطهر بالذكاة فلعموم نهيه عليه السلام عن افتراش جلود السباع. ولأنه ذبح غير مشروع فيجب أن يكون كعدمه. قال: (ولبن الميتة وأنفحتها نجس (¬2) في ظاهر المذهب. وعظمها وقرنها وظفرها نجس، وصوفها وشعرها وريشها طاهر). أما كون لبن الميتة وأنفحتها نجسًا في ظاهر المذهب؛ فلأن كل واحد منهما مائع في وعاء نجس فكان نجسًا كما لو وقع في إناء نجس. وأما كونهما طاهرين على روايةٍ؛ فلأن الصحابة رضي الله عنهم أكلوا الجبن لما دخلوا المدائن. وهو يعمل بالأنفحة وذبائحهم ميتة. فإن قيل: ما ذكر يدل على طهارة الأنفحة فما بال اللبن؟ قيل: هو في معناها. وقال بعض أصحابنا: لا خلاف في نجاسة اللبن كذلك. والخلاف المذكور في الأنفحة لما ذكر. والأصح نجاستهما لما تقدم. وأما أكل الصحابة جبن المجوس فقد قيل ما كان أهل المدائن يتولون الذبح. بل كان اليهود جزّاريهم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 116. (¬2) في المقنع: نجسة.

وأما كون عظمها وقرنها وظفرها نجسًا؛ فلأنه جزء من الميتة بدليل قوله تعالى: {من يحيي العظام وهي رميم? قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} [يس: 78 - 79]. وما يُحْيى فهو ميت. ولأنها توجد فيها أمارة الإحساس والألم. وعن الإمام أحمد أن ذلك طاهر لما روى ثوبان «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: اشتر لفاطمة سوارًا من عاج» (¬1) رواه أبو داود. والأول أصح. والجواب عن هذا أنه مطعون فيه. وعلى تقدير الصحة المراد به الذَّبْل. قاله ابن قتيبة والأصمعي. وأما كون صوفها وشعرها وريشها طاهرًا؛ فلأنه لا روح فيه ولا يحله الموت لأن الحيوان لا يألم بأخذه. وعن الإمام أحمد أنه نجس؛ لأنه نمى بنماء الحيوان أشبه بعض أعضائه. وقد روي «ادفنوا الأظفار والشعر والدم فإنها ميتة» (¬2). والصحيح الأول لما ذكر. والحديث منكر. والنماء ليس دليل الحياة بدليل النبات. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4213) 4: 87 كتاب الترجل، باب ما جاء في الانتفاع بالعاج. وأخرجه أحمد في مسنده (21858) ط إحياء التراث. وفيهما: «سوارين من عاج». (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 23 كتاب الطهارة، باب المنع من الانتفاع بشعر الميتة. وأخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير 2: 279 كلاهما من طريق عبدالله بن عبدالعزيز بن أبي رواد عن أبيه عن نافع عن ابن عمر. قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف. قد روي في دفن الظفر والشعر أحاديث أسانيدها ضعاف. وقال العقيلي في عبدالله بن عبدالعزيز: أحاديثه مناكير غير محفوظة، وليس ممن يقيم الحديث.

باب الاستنجاء

باب الاستنجاء: [الاستنجاء] (¬1): استعمال الماء أو الأحجار في محل النَّجْوِ. والمتبادر إلى الفهم عرفًا أن الاستنجاء استعمال الماء، والاستجمار استعمال الحجار. قال المصنف رحمه الله: (يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث الرجس النجس الشيطان الرجيم). أما كون من أراد دخول الخلاء يستحب له أن يقول: بسم الله فلما روى علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سَتْرُ ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الخلاء أن يقول: بسم الله» (¬2) رواه ابن ماجة. وأما كونه يستحب له أن يقول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث فلما روى أنس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخُبْثِ والخَبائِث» (¬3) متفق عليه. قال أبو عبيد: الخُبْث بسكون الباء الشر، والخبائث الشياطين. وقال الخطابي: الخُبُث بضم الباء جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة. استعاذ من ذكران الجن وإناثهم. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (606) 2: 503 أبواب الصلاة، باب ما ذكر من التسمية عند دخول الخلاء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (297) 1: 109 كتاب الطهارة، باب مايقول الرجل إذا دخل الخلاء. قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بذا القوي. قلت: وقد صحح المناوي هذا الحديث. وقال أحمد شاكر: نذهب إلى أنه حديث حسن إن لم يكن صحيحًا وقد ترجمنا رواته، وبينا أنهم ثقات. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5963) 5: 2330 كتاب الدعوات، باب: الدعاء عند الخلاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (375) 1: 283 كتاب الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.

وأما كونه يستحب له أن يقول: أعوذ بالله من الرجس النجس الشيطان الرجيم فلما روي عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الشيطان الرجيم» (¬1) رواه ابن ماجة. قال: (ولا يدخله بشيء فيه ذكرُ الله تعالى. ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج. ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض. ويعتمد على رجله اليسرى ولا يتكلم ولا يلبث فوق حاجته). أما كون من دخل الخلاء لا يدخله بشيء فيه ذكرُ الله تعالى فلما روى أنس قال: «كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم يضعه إذا دخل الخلاء» (¬2). «لأن فيه محمد رسول الله: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر» (¬3). ولأن في ذلك تعظيمًا لله عز وجل. وأما كونه يقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج؛ فلأن ذلك على الضد من دخول المسجد. وأما كونه لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض فلما روى أبو هريرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد حاجته لا يرفع ثوبه حتى يدنوَ من الأرض» (¬4) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (299) 1: 109 كتاب الطهارة، باب مايقول الرجل إذا دخل الخلاء. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (19) 1: 5 كتاب الطهارة، باب الخاتم يكون فيه ذكر الله. وأخرجه الترمذي في جامعه عن طريق همام (1746) 4: 229 كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الخاتم. وأخرجه النسائي في سننه (5213) 8: 178 كتاب الزينة نزع الخاتم عند دخول الخلاء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (303) 1: 110 عن طريق همام. كتاب الطهارة، باب ذكر الله عز وجل على الخلاء والخاتم في الخلاء. قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد عن الزهري عن أنس والوهم فيه من همام ولم يروه إلا همام. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وفي زوائد ابن ماجة: هو متفق على تضعيفه. والحديث بهذا اللفظ غير ثابت. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1745) 4: 229 كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الخاتم وقال: هذا حديث حسن غريب. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 95 كتاب الطهارة، باب وضع الخاتم عند دخول الخلاء. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (14) 1: 4 كتاب الطهارة، باب كيف التكشف عند الحاجة. عن ابن عمر، ولم أره عنده عن أبي هريرة كما ذكر المصنف.

ولأن ذلك أستر له فكان فعله أولى. وأما كونه يعتمد على رجله السرى فلما روى سراقة بن مالك قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى» (¬1) رواه الطبراني في المعجم. ولأنه أسهل لخروج الخارج. وأما كونه لا يتكلم فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم عليه رجل وهو يبول فلم يرد عليه حتى توضأ. ثم قال: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» (¬2) رواه مسلم. وأما كونه لا يلبث فوق حاجته؛ فلأنه يقال أنه يدمي الكبد ويأخذ منه الباسور. قال: (وإذا خرج قال: غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني). أما كون الخارج من الخلاء يقول: غفرانك فلما روت عائشة «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك» (¬3) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وأما كونه يقول الحمد لله إلى آخره؛ فلأن في لفظ قال: «غفرانك. الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» (¬4) رواه ابن ماجة. قال: (وإن كان في الفضاء أبعد واستتر، وارتاد مكانًا رخوًا). أما كون من كان في الفضاء يُبْعد فلما روى المغيرة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب [المذهب] أبعد» (¬5) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6605) 6: 136 من حديث رجل لم يسم عن سراقة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 96 كتاب الطهارة، باب تغطية الرأس عند دخول الخلاء. قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 206: وفيه رجل لم يسمى. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (370) 1: 281 كتاب الحيض، باب التيمم. وأخرجه أبو داود في سننه (16) 1: 5 كتاب الطهارة باب أي رد السلام وهو يبول. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (7) 1: 12 أبواب الطهارة، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (301) 1: 110 كتاب الطهارة، باب مايقول إذا خرج من الخلاء. من رواية إسماعيل بن مسلم، وقد ضعفه الأكثر. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1) 1: 1 كتاب الطهارة، باب التخلي عند قضاء الحاجة.

وأما كونه يستتر فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبًا من رمل فليستدبره» (¬1) رواه أحمد وأبو داود. وأما [كونه] (¬2) يرتاد مكانًا رخوًا -ومعناه أن يهيء لبوله مكانًا فيه رخاوة- فلما روى أبو موسى الأشعري قال: «كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم. فأراد أن يبول فأتى دمثًا في أصل جدار فبال. ثم قال: إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله [موضعا]» (¬3) رواه أحمد وأبو داود. والدمث: المكان السهل. ولأن المكان الصلب يَرُدّ عليه النجاسة. قال: (ولا يبول في شق، ولا سِرب، ولا طريق، ولا ظل نافع، ولا تحت شجرة مثمرة. ولا يستقبل الشمس، ولا القمر). أما كون من تقدم ذكره لا يبول في شق ولا سرب وهما جحر الحيوان فلما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبال في الجُحر» (¬4) رواه أحمد وأبو داود. ولأنه لا يأمن أن يخرج منه حيوان ينجسه، أو يؤذيه، أو يكون مسكنًا للجن. ويروى «أن سعد بن عبادة بال في جحرٍ بالشام فسقط ميتًا ثم سُمع هاتف يقول: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (35) 1: 9 كتاب الطهارة باب الاستتار في الخلاء. عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد في مسنده 2: 371. قال ابن حجر: ومداره على أبي سعد الحبراني الحمصي. وفيه اختلاف. وقيل: إنه صحابي. ولا يصح. والراوي عنه حصين الحبراوي. وهو مجهول. وقال أبو زرعة: شيخ. وذكره ابن حبان في الثقات. التلخيص 1: 180. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3) 1: 1 كتاب الطهارة، باب الرجل يتبوأ لبوله. وأخرجه أحمد في مسنده (19497) 4: 399. (¬4) روى قتادة عن عبدالله بن سرجس قال: «نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبال في الجحر. قالوا لقتادة: ما يكره من البول في الجحر؟ قال: يقال أنها مساكن الجن» أخرجه أبو داود في سننه (29) 1: 8 كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الجحر. وأخرجه أحمد في مسنده (20794) 5: 82.

نحن قتلنا سيد الْـ ... ـخزرج سعدَ بنَ عبادة فرميناهُ بسهمين ... فلم نُخْط فؤاده» (¬1) وأما كونه لا يبول في طريق ولا ظل نافع فلما روى معاذ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل» (¬2) رواه أبو داود. ولما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا اللاعنين. قالوا: وما اللاعنان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، وظلهم» (¬3) رواه مسلم. فإن قيل: الحديثان يدلان على المنع من البول في الظل فلم يشترط كونه نافعًا. قيل: في الحديث الثاني إشعار بذلك لأنه أضاف الظل إلى الناس. ولأن الظل متى لم يكن نافعًا كظل البرية ينتفي كونه سببًا للعن فينتفي المنع لزوال علته. ولأن المنع من البول في الظل من أجل إبقاء انتفاع الناس لأنه مناسب فإذا لم يكن منتفَعًا به يجب أن لا يثبت المنع لأن الحكم يزول بزوال علته. وأما كونه لا يبول تحت شجرة مثمرة فلئلا تتنجس الثمرة. وأما كونه لا يستقبل الشمس ولا القمر؛ فلأن في ذلك استتارًا. وهو مطلوب في نظر الشرع. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (5359 - 5360) 6: 16. وأخرجه ابن سعد 3: 2: 145، وفي أسد الغابة 2: 358، والاستيعاب 4: 159، وسير أعلام النبلاء 1: 277. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (26) 1: 7 كتاب الطهارة، باب المواضع التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البول فيها. وأخرجه ابن ماجة في سننه (328) 1: 119 كتاب الطهارة، باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (269) 1: 226 كتاب الطهارة، باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال.

ولأن في عدم استقبالهما تكريمًا لهما. قال: (ولا يجوز أن يستقبل القبلة في الفضاء. وفي استدبارها فيه واستقبالها في البنيان روايتان). أما كون من تقدم ذكره لا يجوز له أن يستقبل القبلة بغائط ولا بول في الفضاء فلما روى أبو أيوب قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله» (¬1) متفق عليه. وأما كونه لا يجوز له أن يستدبر القبلة بذلك في الفضاء في روايةٍ فلما ذكر في الحديث المذكور. وأما كونه يجوز له أن يستدبرها في روايةٍ فلما روى ابن عمر قال: «رقيت على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة» (¬2) متفق عليه. وأما كونه لا يجوز له أن يستقبل القبلة بذلك في البنيان في روايةٍ فلما ذكر في حديث أبي أيوب من قوله: «فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله» (¬3). وأما كونه يجوز ذلك في البنيان في روايةٍ فلما روى جابر قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها» (¬4) رواه الإمام أحمد والترمذي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (386) 1: 154 أبواب القبلة، باب: قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق. وأخرجه مسلم في صحيحه (264) 1: 224 كتاب الطهارة، باب الاستطابة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2935) 3: 1130 أبواب الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وأخرجه مسلم في صحيحه (266) 1: 225 كتاب الطهارة، باب الاستطابة. (¬3) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (13) 1: 4 كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك. وأخرجه الترمذي في جامعه (9) 1: 15 أبواب الطهارة، باب ما جاء من الرخصة في ذلك. وأخرجه ابن ماجة في سننه (325) 1: 117 كتاب الطهارة وسننها، باب الرخصة في الكنيف وإباحته دون الصحاري. وأخرجه أحمد في مسنده (14458) ط إحياء التراث.

والصحيح في المذهب أنه لا يجوز ذلك في الفضاء ويجوز في البنيان: أما كونه لا يجوز في الفضاء فلدخول ذلك في حديث أبي أيوب. وأما كونه يجوز في البنيان: أما الاستدبار فلحديث ابن عمر. فإن قيل: قد احتج بذلك على الاستدبار في الفضاء. قيل: إذا جاز ذلك في الفضاء جاز في البنيان بطريق الأولى. على أنه يحتمل أن يراد به البنيان. وكذلك احتج به بعض الأصحاب عليه. وأما الاستقبال فلما روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذُكر له أن قومًا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم. فقال: أَوَقَد فعلوها! استقبلوا بمقعدتي القبلة» (¬1) رواه أحمد وابن ماجة. وعن مروان قال: «رأيت ابن عمر أناخ راحلته. وجلس يبول إليها. فقلت: أبا عبدالرحمن! أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى. إنما نهي عن هذا في الصحراء أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس» (¬2) رواه أبو داود. وأما كون هذه الرواية هي الصحيحة فبالنقل والدليل: أما النقل فذِكْره عن واحد من أصحابنا، وأما الدليل؛ فلأن الأحاديث المتقدمة يمكن الجمع بينها عليها. بخلاف غيرها لأن دليلها راجح على غيرها. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (324) 1: 117 كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك في الكنيف وإباحته دون الصحاري. وأخرجه أحمد في مسنده (25107) 6: 137. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (11) 1: 3 كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (60) 1: 35 كتاب الوضوء، باب ذكر الخبر المفسر. وأخرجه الحاكم في المستدرك 1: 54. وقال: على شرط البخاري.

أما كون الجمع يمكن؛ فلأن حديث أبي أيوب يحمل على الفضاء، وباقي الأحاديث تحمل على البنيان. وأما كون دليلها راجحًا؛ فلأن كل واحد من حديث ابن عمر على تقدير إرادة البنيان به، وحديث عائشة، ومروان الأصفر يدل بخصوصه. وحديث أبي أيوب يدل بعمومه والخاص مقدم عليه (¬1). قال: (فإذا فرغ مسح بيده اليسرى من أصل ذكره إلى رأسه، ثم ينتره ثلاثًا). أما كون من فرغ من حاجته يمسح بيده اليسرى؛ فلأن اليسرى معدة للاستنجاء؛ لما روت عائشة قالت: «كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره وطعامه، ويده اليسرى لخلائه وما كان به من أذى» (¬2). وأما كون المسح من أصل ذكره إلى رأسه فلئلا يبقى شيء من البلل في ذلك المحل. وأما كونه ينتره ثلاثًا فلما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثًا» (¬3) رواه ابن ماجة. قال: (ولا يمس فرجه بيمينه ولا يستجمر بها، فإن فعل أجزأه). أما كون من تقدم ذكره لا يمس فرجه بيمينه فلما روى أبو قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يمس أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول» (¬4) متفق عليه. فإن قيل: المنع من مس الفرج بيمينه مختص بحالة البول؛ لأن النهي مختص به. ¬

_ (¬1) في ب: علي. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (33) 1: 9 كتاب الطهارة، باب كراهية مس الذكر باليمين في الاستبراء. وأخرجه أحمد في مسنده (24793) ط إحياء التراث. نحوه. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (326) 1: 118 كتاب الطهارة، باب الاستبراء بعد البول. وأخرجه أحمد في مسنده (19020) 4: 347. وأخرجه أبو داود في كتاب المراسيل ص 117.كلهم عن عيسى بن يزداد عن أبيه. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (152) 1: 69 كتاب الوضوء، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين. وأخرجه مسلم في صحيحه (267) 1: 225 كتاب الطهارة، باب النهي عن الاستنجاء باليمين.

قيل: هو كذلك وإنما لم يذكره المصنف لدلالة الحال عليه لأن الكلام مسوق في الفاعل للحاجة. وأما كونه لا يستجمر بيمينه؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يمسح بيمينه» (¬1) متفق عليه. ولما روى سلمان قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجي أحدنا بيمينه» (¬2) رواه مسلم. وأما كون من فعل ذلك أجزأه؛ فلأن النهي عن ذلك نهي تأديب لا نهي تحريم. قال: (ثم يتحول عن موضعه. ثم يستجمر. ثم يستنجي بالماء. ويُجْزئه أحدهما إلا أن يعدو الخارج موضع العادة فلا يجزئ إلا الماء). أما كون من تقدم ذكره يتحول عن موضع البول فلئلا تصيب النجاسة يده. وأما كونه يستجمر ثم يستنجي بالماء فلقول عائشة: «مرن أزواجكن أن يغسلوا عنهم أثر الغائط والبول فإني أستحييهم وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله» (¬3) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. ولأنه أبلغ في الإنقاء وأنظف؛ لأن الحجر يزيل غير النجاسة فلا تباشرها يده، والماء يزيل أثرها. وأما كونه يجزئه أحدهما إذا لم يعد الخارج موضع العادة: فأما (¬4) الماء؛ فلأن أنسًا قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته أحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء يستنجي به» (¬5) متفق عليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (262) 1: 223 كتاب الطهارة، باب الاستطابة. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (19) 1: 30 أبواب الطهارة، باب ما جاء في الاستنجاء بالماء. وأخرجه النسائي سننه (46) 1: 42 كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء. وأخرجه أحمد في مسنده (24683) 6: 95. (¬4) في ب: وأما. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (151) 1: 69 كتاب الوضوء، باب: حَمل العنزة مع الماء في الاستنجاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (271) 1: 227 كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء من التبرز.

وأما الحجارة فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئ عنه» (¬1) رواه أبو داود. وأما كونه لا يجزئه غير الماء إذا كان الخارج قد تعدى موضع العادة مثل أن تقع النجاسة على الصفحتين، أو تجاوز معظم الحشفة؛ فلأن المسح بالأحجار للمشقة الحاصلة بتكرار الغائط والبول فإذا تعدى ذلك إلى ما ذُكر كان ذلك نادرًا فلم يجز فيه المسح لانتفاء المشقة. قال: (ويجوز الاستجمار بكل طاهر يُنَقّي؛ كالحجر والخشب والخرق، إلا الروث والطعام والعظام وما له حرمة وما يتصل بحيوان). أما كون الاستجمار يجوز بكل طاهر يُنَقّي غير المستثنى؛ فلأن في بعض ألفاظ الحديث: «فليذهب بثلاثة أحجار أو بثلاث أعواد أو ثلاث حثيات من تراب» (¬2) رواه الدارقطني، وقال: روي مرفوعًا والصحيح أنه مرسل. و«لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الاستطابة فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع» (¬3). فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن الرجيع. وعن الإمام أحمد أنه يختص الحجر لقوله: «فليذهب بثلاثة أحجار» (¬4). والصحيح الأول لمشاركة غير الحجر في الإزالة. وأما كونه لا يجوز بالروث والعظام فلقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن» (¬5) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (40) 1: 10 كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة. وأخرجه أحمد في مسنده (24815) 6: 108. كلاهما عن عائشة. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (12) 1: 57 كتاب الطهارة، باب الاستنجاء. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (41) 1: 11 كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة، عن خزيمة بن ثابت. (¬4) سبق تخريجه قبل قليل. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (450) 1: 332 كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن. من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

و «نهى أن يستنجى بروث أو بعظم وقال: إنهما لا يطهران» (¬1) رواه الدارقطني. وقال: إسناده صحيح. وأما كونه لا يجوز بالطعام؛ فلأنه - صلى الله عليه وسلم - علل المنع من العظم بأنه زاد الجن فزادنا أولى. وأما كونه لا يجوز بما له حرمة -والمراد ما فيه ذكر الله ونحوه- فلما فيه من هتك الحرمة. ولأنه نُهي عن تلويث المساجد بالنجاسة لأنها مواضع الذكر فنفس الذكر أولى. وأما كونه لا يجوز بما يتصل بحيوان كيده ورجله وصوفه ونحو ذلك؛ فلأن الحيوان له حرمة ولهذا منعنا مالكه من إطعامه النجاسة. قال: (ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات إما بحجر ذي شعب أو ثلاثة، فإن لم ينق بها زاد حتى ينقي. ويقطع على وتر). أما كون أقل من ثلاث مسحات لا يجوز فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فليذهب معه بثلاثة أحجار» (¬2) رواه أبو داود. ولقول سلمان: «نهانا - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار» (¬3) رواه مسلم. وأما كون الحجر ذي الشعب الثلاث كالأحجار الثلاثة؛ فلأن الغرض عدد المسحات لا الأحجار؛ بدليل التعدية إلى ما في معنى الحجارة. وقال أبو بكر: لا بد من ثلاثة أحجار اتباعًا للفظ الحديث. وأما كون من لم ينق بالثلاث يزيد حتى ينقي؛ فلأن الغرض إزالة النجاسة فيجب التكرار إلى أن تزول. وأما كونه يقطع على وتر فلقوله عليه السلام: «من استجمر فليوتر» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (9) 1: 56 كتاب الطهارة، باب الاستنجاء. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) سبق تخريجه ص 129. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (262) 1: 224 كتاب الطهارة، باب الاستطابة. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (159) 1: 71 كتاب الوضوء، باب الاستنثار في الوضوء. وأخرجه مسلم في صحيحه (237) 1: 212 كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار.

قال: (ويجب الاستنجاء من كل خارج إلا الريح). أما كون الاستنجاء يجب من كل خارج سوى الريح فلقوله تعالى: {والرجز فاهجر} [المدثر: 5]؛ لأنه يعم كل مكان ومحل من ثوب وبدن. ولقوله عليه السلام: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه» (¬1) رواه أبو داود. أمر. والأمر للوجوب. وقال: إنها تجزئ. ولفظ الإجزاء ظاهر فيما يجب. وعلى أي صفة حصل الإنقاء أجزأه. والسنة أن يمر حجرًا من مقدم الصفحة اليمنى إلى مؤخرها ثم يديره على اليسرى حتى يرجع به إلى المكان الذي بدأ منه. ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك. ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَلا يجد أحدكم ثلاثة أحجار: حجرين للصفحتين، وحجر للمسربة» (¬2) رواه الدارقطني. وقال: إسناده حسن. والمسربة: مجرى الغائط. مأخوذ من سرب الماء. وذهب الشريف أبو جعفر إلى أنه يعم بكل حجر جميع المحل وإلا فيكون (¬3) توقيعًا لا تكرارًا. واختاره ابن عقيل. وحمل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه يبدأ بالصفحة [ثم يعم، ثم بالصفحة] (¬4) الأخرى، ثم يعم، ثم بالمسربة، ثم يعم. وأما كونه لا يجب من الريح فلما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من استنجى من الريح فليس منا» (¬5) رواه الطبراني في معجمه الصغير. ولأن الغسل إنما وجب لإزالة النجاسة ولا نجاسة من الريح. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 129. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (10) 1: 56 كتاب الطهارة، باب الاستنجاء. (¬3) في ب وإلا فلا يكون. (¬4) زيادة من ج. (¬5) أخرجه ابن عدي في الكامل 1: 196. ولم أره في معجم الطبراني الصغير.

قال: (فإن توضأ قبله فهل يصح وضوؤه؟ على روايتين). أما كون من توضأ قبل الاستنجاء لا يصح وضوؤه على روايةٍ؛ فلأنه طهارة عن حدث [فلم يصح قبل الاستنجاء كالتيمم، وأما الصحة على روايةٍ؛ فلأنها نجاسة] (¬1) فلم يشترط تقدم إزالة النجاسة المذكورة عليه كالتي على ساقه. قال القاضي: هذه الرواية هي الصحيحة. قال: (فإن تيمم قبله خُرّج على الروايتين، وقيل: لا يصح وجهًا واحدًا). أما كون من تيمم يخرج على روايتي الوضوء؛ فلأن التيمم فرعه والفرع يبنى على الأصل. وأما كونه لا يصح فيه وجهًا واحدًا ذكره القاضي؛ فلأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يبيح الصلاة فإذا لم تحصل به الإباحة لا يصح كالتيمم قبل الوقت. فإن قيل: ما حكم النجاسة على البدن؟ قيل: حكم نجاسة الفرج لاشتراكهما في النجاسة. وقيل: بينهما فرق وهو الأشبه لأن نجاسة الفرج سبب وجوب التيمم فجاز أن يكون بقاؤها مانعًا منه بخلاف غيرها من النجاسات. ¬

_ (¬1) ساقط من ب.

باب السواك وسنة الوضوء

باب السواك وسنة الوضوء قال المصنف رحمه الله: (السواك مسنون في جميع الأوقات إلا للصائم بعد الزوال فلا يستحب). أما كون السواك مسنونًا في جميع الأوقات غير المستثنى فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» (¬1) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو للبخاري تعليقًا. وقوله عليه السلام: «عشر من الفطرة. وعد من ذلك: السواك» (¬2) رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي. وأما كونه لا يستحب للصائم بعد الزوال؛ فلأن السواك إنما يستحب لإزالة ما على الأسنان، وذلك مطلوب العدم في حق الصائم الذي زالت شمس يومه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» (¬3) متفق عليه. ورواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 2: 682 كتاب الصوم، باب السواك الرطب واليابس للصائم. وأخرجه النسائي في سننه (5) 1: 10 كتاب الطهارة، باب الترغيب في السواك. وأخرجه ابن ماجة في سننه (289) 1: 106 كتاب الطهارة، باب السواك. وأخرجه أحمد في مسنده (24249) 6: 47. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (135) 1: 70.كتاب الوضوء، باب فضل السواك وتطهير الفم به. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (261) 1: 223 كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة. وأخرجه الترمذي في جامعه (2757) 5: 91 كتاب الأدب، باب ما جاء في تقليم الأظفار. وأخرجه النسائي في سننه (5041) 8: 127 كتاب الزينة، من السنن الفطرة. وأخرجه أحمد في مسنده (25104) 6: 137. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1805) 2: 673 كتاب الصوم، باب: هل يقول إني صائم إذا شُتم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1151) 1: 807 كتاب الصيام، باب فضل الصيام. وأخرجه الترمذي في جامعه (764) 3: 17 كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل الصوم.

فإن قيل: الحديث لا تقييد فيه. فلم قُيد ببعد الزوال؟ قيل: لأن الرائحة إنما تصير غالبًا في مثل ذلك الوقت فوجب اختصاص الحكم به. فإن قيل: إذا لم يستحب ذلك فهل يكره؟ قيل: فيه روايتان: إحداهما: يكره؛ لما روى حباب بن المنذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانتا نورًا بين عينيه يوم القيامة» (¬1) رواه الخطيب، وضعفه ابن معين. ولما تقدم من قوله: «لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» (¬2). والثانية: لا يكره؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من خير خصال الصائم السواك» (¬3) رواه ابن ماجة. وقال عامر بن ربيعة: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» (¬4) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن. والأولى أصح. وتحمل الأحاديث في سواك الصائم على أنه قبل الزوال جمعًا بينها. قال: (ويتأكد استحبابه في ثلاثة مواضع: عند الصلاة، والانتباه من النوم، وتغير رائحة الفم). أما كون السواك يتأكد استحبابه عند الصلاة فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (¬5) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 5: 89. وأخرجه الدارقطني في سننه (7) 2: 204 كتاب الصيام، باب السواك للصائم. (¬2) سبق تخريجه ص 133. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (1677) 1: 536 كتاب الصيام، باب ما جاء في السواك والكحل للصائم. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2364) 2: 307 كتاب الصوم، باب السواك للصائم. وأخرجه الترمذي في جامعه (725) 3: 17 كتاب الصوم، باب ما جاء في السواك للصائم. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (847) 1: 303 كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (252) 1: 220 كتاب الطهارة، باب السواك.

وأما كونه يتأكد عند الانتباه من النوم فلما روى حذيفة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك» (¬1) متفق عليه. ولقول عائشة رضي الله عنها «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرقد من ليل أو نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ» (¬2) رواه أحمد وأبو داود. وأما كونه يتأكد إذا تغيرت رائحة فمه؛ فلأن السواك شُرع في الأصل لتنظيف الفم. قال: (ويستاك بعود لين ينقي الفم ولا يجرحه ولا يضره ولا يتفتت فيه). أما كون المتسوك يستاك بعود لين ينقي الفم كالأراك ونحوه فـ «لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستاك بالأراك» (¬3). وأما كون العود لينًا؛ فلأن اليابس يؤدي إلى جرحه. وأما كونه لا يجرحه؛ فلأنه إذا كان مما يجرحه أدى لما ينجس فمه فيعود على مقصود السواك بالنقض لأنه شُرع للتنظيف والتنجيس يناقضه. وأما كونه لا يضره؛ فلأن الضرر منتف شرعًا. فإن قيل: ما الذي يضره؟ قيل: عود الريحان لأنه قيل يحرك عرق الجذام. والرمان لأنه قيل يضر بلحم الفم. وأما كونه لا يتفتت باقيه؛ فلأنه إذا تفتت لم يحصل لما على الأسنان ما يزيله (¬4) فلا يحصل مقصوده. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1085) 1: 382 أبواب التهجد، باب طول القيام في صلاة الليل. وأخرجه مسلم في صحيحه (255) 1: 220 كتاب الطهارة، باب السواك. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (57) 1: 15 كتاب الطهارة، باب السواك لمن قام من الليل. وأخرجه أحمد في مسنده (25312) 6: 160. (¬3) لم أقف عليه هكذا. وقد روى أبو خيرة الصباحي قال: «كنت في الوفد، فزودنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأراك، وقال: استاكوا بهذا». أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (235) 8: 28. كتاب الكنى. (¬4) كذا في الأصول.

قال: (فإن استاك بأصبعه أو بخرقة فهل يصيب السنة؟ على وجهين). أما كون المتسوك بما ذكر يصيب السنة على وجه؛ فلأنه يحصل به الإنقاء بحسب الإمكان. وأما كونه لا يصيبها على الآخر؛ فلأنه لم يرد الشرع بذلك. قال: (ويستاك عرضًا، ويدهن غبًا، ويكتحل وترًا). أما كون من ذكر يستاك كما ذكر فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «استاكوا عرضًا واكتحلوا وترًا وادهنوا غبًا» (¬1). وأما معنى كونه يستاك عرضًا أن (¬2) يستاك من ثناياه إلى أضراسه. فإن استاك من أطراف أسنانه إلى عمودها كره لأنه ربما أدمى اللثة. وأما معنى كونه يدهن غبًا فأن يدهن يومًا بعد يوم. وأما معنى كونه يكتحل وترًا. فقيل: أن يكتحل في كل عين ثلاثة. وقيل: ثلاثة في اليمنى واثنين في اليسرى. قال: (ويجب الختان ما لم يخفه على نفسه). أما كون الختان يجب ما لم يخفه على نفسه فـ «لأن إبراهيم صلوات الله عليه اختتن بعد أن أتت عليه ثمانون سنة» (¬3) متفق عليه إلا العدد فإنه للبخاري فقط. وقال تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} [النحل: 123]. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا، وقد روى بهز بن حكيم قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضا». أخرجه الطبراني في الكبير (1242) 2: 47. وعن عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا شربتم فاشربوا مصًّا، وإذا استكتم فاستاكوا عرضا». أخرجه أبو داود في المراسيل ص: 73. كتاب الطهارة. (¬2) في ب: فإن. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (3178) 3: 1224 كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا}. وأخرجه مسلم في صحيحه (2370) 4: 1839 كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -.

وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن رجلاً أتاه فقال: أسلمت. فقال: ألقِ عنك شعر الكفر واختتن» (¬1) رواه الإمام أحمد وأبو داود. فإن قيل: الوجوب هنا عام في الرجال والنساء، أو مختص بالرجال؟ قيل: كلام المصنف هنا يحتمل التعميم لأن النساء يدخلن في مثل ما تقدم. ويحتمل التخصيص. وفي المذهب في ذلك روايتان: إحداهما: التعميم لأن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء ما لم يقم دليل على تخصيصه. والرواية الثانية: أنه يختص بالرجال لأن المعنى الذي شُرع من أجله الختان في الرجل أشد من المرأة لأن الرجل إذا لم يختتن تبقى الجلدة مدلاة على الكَمَرة. فلا يطهر ما تحتها من النجاسة. بخلاف المرأة. فإن قيل: ما معنى الختان؟ قيل: هو في حق الرجل قطع جلدة غاشية للحشفة. وفي حق المرأة قطع بعض جلدة عالية مشرفة على الفرج تشبه عرف الديك. وأما كونه لا يجب إذا خافه على نفسه؛ فلأن المحافظة على النفس أولى من المحافظة على الختان. ولأنه متى تعارض حق النفس وواجب كان العمل بما يحفظ النفس متعينًا. دليله من معه ما يحتاج إلى شربه، ومن جُبّر بعظم نجس يخاف من قلعه الموت، وغير ذلك من المسائل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (356) 1: 98 كتاب الطهارة، باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل. وأخرجه أحمد في مسنده (15469) 3: 415.

قال: (ويكره القزع. ويتيامن في سواكه، وطهوره، وانتعاله، ودخوله المسجد). أما كون القزع -وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه- يكره فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القَزَعِ» (¬1). وقال: «ليحلقه كله أو ليدعه كله» (¬2) رواه أبو داود. وأما كون المتسوك والمتطهر والمتنعل وداخل المسجد يتيامن في ذلك كله فلقول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيامن في طهوره، وسواكه، وتنعله، وترجله، وفي شأنه كله» (¬3) متفق عليه. قال: (وسنن الوضوء عشر: السواك، والتسمية، وعنه أنها واجبة مع الذكر، وغسل الكفين إلا أن يكون قائمًا من نوم الليل ففي وجوبه روايتان. والبداءة بالمضمضة والاستنشاق، والمبالغة فيهما إلا أن يكون صائمًا، وتخليل اللحية، وتخليل الأصابع، والتيامن، وأخذ ماء جديد للأذنين، والغسلة الثانية والثالثة). أما كون السواك من سنن الوضوء فلقول عائشة: «كنا نُعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة آنية مخمرة من الليل: إناء لطهوره، وإناء لسواكه، وإناء لشرابه» (¬4) رواه ابن ماجة. وأما كون التسمية من سننه؛ فلأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (¬5) رواه أبو داود. أدنى (¬6) أحواله دلالته على ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5577) 5: 2214 كتاب اللباس، باب القزع. وأخرجه مسلم في صحيحه (2120) 3: 1675 كتاب اللباس والزينة، باب كراهة القزع. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4195) 4: 83 كتاب الترجل، باب في الذؤابة. بلفظ: «احلقوه كله أو اتركوه كله». (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (166) 1: 74 كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل. وأخرجه مسلم في صحيحه (268) 1: 226 كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (361) 1: 129 كتاب الطهارة وسننها، باب تغطية الإناء. قال في الزوائد: ضعيف. لاتفاقهم على ضعف حريش بن الخريت. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (101) 1: 25 كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء. وأخرجه أحمد في مسنده (9408) 2: 418. وأخرجه ابن ماجة في سننه (399) 1: 140 كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية في الوضوء. (¬6) في ب: أنى.

وإنما لم يجب لأن الله تعالى قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] ولم يذكر التسمية. و«لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: توضأ كما أمرك الله» (¬1) ووصفه ولم يذكر التسمية. وأما كونها واجبة مع الذكر على روايةٍ فلظاهر ما تقدم من الحديث. وإنما لم تجب مع عدم الذكر لأن السهو عذر فلا تجب معه للمشقة والحرج. وروي عن الإمام أحمد أنها واجبة مطلقًا. وصححها بعض الأصحاب لظاهر ما تقدم من الحديث. وأما كون غسل الكفين ثلاثًا إذا لم يقم من نوم الليل من سننه؛ «فلأن عثمان رضي الله عنه وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات» (¬2). وأما كون غسلهما إذا كان قائمًا من نوم الليل في وجوبه روايتان؛ فلأن ظاهر الأمر في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثًا قبل أن يدخلهما الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده» (¬3) متفق عليه إلا قوله: «ثلاثًا» فإنه لمسلم فقط. يدل على الوجوب. وظاهر (¬4) قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... الآية} [المائدة: 6] يدل على عدمه لأنه لم يذكر غسل الكفين. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (861) 1: 228 كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. وأخرجه الترمذي في جامعه (302) 2: 100 أبواب الصلاة، باب ما جاء في وصف الصلاة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (158) 1: 71 كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً. وأخرجه مسلم في صحيحه (226) 1: 205 كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله. (¬3) سبق تخريجه ص: 102. (¬4) في ب: فظاهر.

والأمر في الحديث للاستحباب لأنه علّل فيه بوهم النجاسة وذلك لا يوجب الغسل. وأما كون البداءة بالمضمضة والاستنشاق من سننه؛ فلأن أكثر من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنه بدأ المضمضة والاستنشاق» (¬1). وأما كون المبالغة فيهما إذا لم يكن صائمًا من سننه: أما في الاستنشاق «فلقوله - صلى الله عليه وسلم - للقيط بن صبرة: وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (¬2) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وأما في المضمضة؛ فلأنها في معنى الاستنشاق. ومعنى المبالغة في المضمضة: إدارة الماء في أقاصي الفم. ولا يجعله وجورًا. وفي الاستنشاق: اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف. ولا يجعله سعوطًا. وأما كون تخليل اللحية من سننه فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلل لحيته» (¬3) رواه الترمذي وصححه. وروى أنس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفًا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته. وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل» (¬4) رواه أبو داود. وأدنى أحوال الأمر الاستحباب. ¬

_ (¬1) كذا في حديث عبدالله بن زيد وعثمان وغيرهما. وسوف يأتي تخريجها. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (142) 1: 35 كتاب الطهارة، باب في الاستنثار. وأخرجه النسائي في سننه (87) 1: 66 كتاب الطهارة، المبالغة في الإستنشاق. وأخرجه الترمذي في جامعه (788) 3: 17 كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية مبالغة الإستنشاق للصائم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (407) 1: 142 كتاب الطهارة، المبالغة في الاستنشاق والاستنثار. وأخرجه أحمد في مسنده (17879) 4: 211. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (31) 1: 46 أبواب الطهارة، باب ما جاء في تخليل اللحية. وأخرجه ابن ماجة في سننه (430) 1: 148 كتاب الطهارة، باب ما جاء في تخليل اللحية. نحوه بلفظ: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فخلل لحيته». (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (145) 1: 36 كتاب الطهارة، باب تخليل اللحية.

وأما كون تخليل الأصابع من سننه؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك» (¬1) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. فإن قيل: بأي إصبع يخلل أصابع الرجلين؟ قيل: بخنصره؛ لما روى المستورد بن شداد قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره» (¬2) رواه أبو داود. ولأن الخنصر ألطف الأصابع وأصابع الرجلين تَلْتَفّ بعضها على بعض. ويبدأ في تخليل اليمنى من خنصرها وفي اليسرى من إبهامها لأن ذلك عين كل واحدة منهما. وأما كون التيامن من سننه فلما تقدم من حديث عائشة (¬3). وأما كون أخذ ماء جديد للأذنين من سننه؛ فلأنهما كالعضو المنفرد. وإنما هما من الرأس على وجه التبع. وأما كون الغسلة الثانية والثالثة من سننه فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين. وقال: هذا وضوءٌ من توضأه كان له كفلان من الأجر. وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا وقال: هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي» (¬4) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (39) 1: 57 أبواب الطهارة، باب ما جاء في تخليل الأصابع. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (148) 1: 37 كتاب الطهارة، باب غسل الرجلين. وأخرجه الترمذي في جامعه (40) 1: 57 أبواب الطهارة، باب ما جاء في تخليل الأصابع. (¬3) سبق ذكره ص: 138. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (420) 1: 145 كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً.

باب فرض الوضوء وصفته

باب فرض الوضوء وصفته: الوضوء: بالضم اسم للفعل وبالفتح اسم للماء. قاله ابن الأنباري. وقيل بالفتح اسم للفعل أيضًا. قال المصنف رحمه الله: (وفروضه ستة: غسل الوجه، والفم، والأنف منه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، وترتيبه على ما ذكر الله تعالى، والموالاة على إحدى الروايتين. وهو (¬1) أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله). أما كون فروض الوضوء ستة؛ فلأنها غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين وترتيب ذلك وموالاته. وسيأتي دليل ذلك كله في مواضعه. وأما كون غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين من فروضه فلقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين} [المائدة: 6]. و«لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه وغسل رجليه. وقال: هذا وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة» (¬2). فإن قيل {وأرجلِكم} معطوف على {برءوسِكم} وذلك دليل جواز المسح لا وجوب الغسل. قيل: قد قرئ {وأرْجُلَكم} بالفتح عطفًا على {وجوهَكُم وأيديَكُم}. ويؤيد ذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: «ويل للأعقاب من النار» (¬3). ¬

_ (¬1) في المقنع: وهي. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (420) 1: 145 كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (60) 1: 33 كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (240) 1: 213 كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما.

وقول عائشة رضي الله عنها: «لأن يُقطعا أحب إليّ من أن أمسح القدمين» (¬1). و«قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل ترك موضع ظفر من قدمه: ارجع فأحسن وضوءك» (¬2). وإنما عطف الأرجل على الممسوح على القراءة المشهورة لأنها في مظنة الإسراف في الماء فنبه بعطفها على الممسوح على تقليل الماء. وأما كون الفم والأنف من الوجه؛ فلأنهما في حكم الظاهر بدليل أحكام يأتي ذكرها في المضمضة والاستنشاق في صفة الوضوء. وأما كون ترتيب الوضوء على ما ذكر الله تعالى من فروضه على المذهب؛ فلأن الله تعالى أدخل الممسوح بين المغسولات وقَطَع النظير عن النظير. والفصحاء لا يفعلون ذلك إلا لفائدة. ولا نعلم فائدة سوى الترتيب. وأما كونه من سننه لا من فروضه على روايةٍ: أما الأول فلما فيه من الكمال والخروج من الخلاف. وأما الثاني؛ فلأن الله تعالى ذكر الأعضاء المنصوص عليها بالواو التي للجمع المطلق. والأول أصح لما ذكرنا. و«لأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ. وقال: هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به» (¬3). فنقول ذلك للوضوء إن كان مرتبًا فهو المطلوب وإن كان منكسًا كان التنكيس شرطًا وهو خلاف الإجماع فوجب أن يكون مرتبًا. ¬

_ (¬1) ذكره ابن حجر في تلخيصه وقال: هو باطل عنها. وقال ابن حبان: محمد بن مهاجر -أحد رواة الحديث- كان يضع الحديث. التلخيص 1: 279 - 280. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (243) 1: 215 كتاب الطهارة، باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (419) 1: 145 كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثا.

وقول المصنف رحمه الله: على ما ذكر الله معناه أن يغسل الوجه ثم اليدين ثم يمسح برأسه ثم يغسل الرجلين لأن الله تعالى هكذا ذَكَر. وأما كون الموالاة من فروضه على المذهب فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وفي رجله لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره بإعادة الوضوء والصلاة» (¬1) رواه أحمد وأبو داود. ولو كانت الموالاة ليست فرضًا لأجزأه غسل اللمعة. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والى بين غسل أعضائه وأمر بالتأسّي به. وأما كونها من سننه لا من فروضه على روايةٍ: أما الأول فلما ذكر في الترتيب. وأما الثاني؛ فلأن الفرض الغسل للآية وقد أتى به. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه توضأ فترك مسح خفيه حتى دخل المسجد فدعي لجنازة فمسح عليهما وصلى» (¬2). وقول المصنف رحمه الله: وهو أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله فبيان لمعنى الموالاة. والعبرة في نشاف العضو بالزمان المعتدل لا بالزمان البارد لأن نشاف العضو لا يحصل إلا بعد مدة، ولا بالزمان الحار لأن نشاف العضو يحصل بسرعة. قال: (والنية شرط لطهارة الحدث كلها، وهي: أن يقصد رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها). أما كون النية شرطًا لطهارة الحدث كلها فلقوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى» (¬3) متفق عليه. فإن قيل: ما وجه الحجة من ذلك؟ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (175) 1: 45 كتاب الطهارة، باب تفريق الوضوء. وأخرجه أحمد في مسنده (15532) 3: 424. (¬2) أخرجه الشافعي في الأم 1: 31. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1) 1: 3 بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه مسلم في صحيحه (1907) 3: 1515 كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنية».

قيل: وجهها أنه نفى العمل وهو موجود فيكون ظاهرًا في نفي المشروعية لأنه أقرب إلى نفي الحقيقة. ويمكن أن يقال النفي داخل على الحقيقة الشرعية لأنه داخل على عمل شرعي وبدون النية لا وجود للعمل الشرعي. وقول المصنف رحمه الله: وهي أن يقصد رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها بيان لمعنى النية. فإن قيل: ما محلها؟ قيل: القلب. فإن قيل: إذا قصد رفع الحدث لا شبهة فيه فَلِمَ يكون كذلك إذا قصد الطهارة لما لا يباح إلا بالطهارة كالصلاة والطواف وشبههما؟ قيل: لأن ذلك يستلزم رفع الحدث ضرورة أن صحة ذلك لا يجتمع معه. قال: (فإن نوى ما تسن له الطهارة أو التجديد فهل يرتفع حدثه؟ على روايتين). أما كون ما يسن له الطهارة كقراءة القرآن واللبث في المسجد يرتفع حدثه على روايةٍ؛ فلأنه نوى المسنون فيجب أن يحصل ولا يحصل إلا بارتفاع الحدث. وأما كونه لا يرتفع على روايةٍ؛ فلأن القراءة وشبهها يصح مع الحدث فلا يستدعي ذلك رفع الحدث. وأما كون من نوى تجديد وضوءه يرتفع حدثه ففيه روايتان أيضًا وجههما ما ذكر فيمن نوى ما يسن. قال: (وإن نوى غسلاً مسنونًا فهل يجزئ عن الواجب؟ على وجهين). أما كون نية الغسل المسنون كغسل الجمعة أو العيدين أو ما أشبههما يجزئ عن الغسل الواجب كغسل الجنابة أو الحيض أو ما أشبههما ففيه وجهان مُخَرجان على الروايتين في رفع حدث من نوى التجديد. وقد تقدم ذكرهما وتعليلهما قبل. وأما مراد المصنف رحمه الله بقوله: فهل يجزئ؟ على وجهين. فهو أنه هل يرتفع عنه الغسل الواجب؟ على وجهين.

قال: (وإن اجتمعت أحداث توجب الوضوء أو الغسل فنوى بطهارته أحدها فهل يرتفع سائرها؟ على وجهين). أما كون سائر الأحداث يرتفع بما ذكر على وجه؛ فلأن الحدث غير متعدد بل هو عبارة عن المنع من الصلاة وقد قصد رفع سبب من أسبابه فيجب أن يرتفع الحدث. وأما كونه لا يرتفع به على وجه؛ فلأن ذلك غير منوي فلم يرتفع لقوله: «إنما الأعمال بالنيات» (¬1). فإن قيل: السائر هنا بمعنى الكل أو الباقي. قيل: بمعنى الباقي؛ لأن المنوي لا خلاف في ارتفاعه لأنه منوي. فإن قيل: ما فائدة ارتفاعه؟ قيل: فائدته أنه لو نوى بعد ذلك رفع الحدث من باقي الأسباب ارتفع حدثه على الوجهين معًا. قال: (ويجب تقديم النية على أول واجبات الطهارة، ويستحب تقديمها على مسنوناتها، واستصحاب ذكرها في جميعها، وإن استصحب حكمها أجزأه). أما كون تقديم النية على أول واجبات الطهارة يجب فلئلا يخلو واجب عن نية. وأما كون تقديمها على مسنوناتها يستحب فلتشمل مسنون الطهارة ومفروضها. وأما كون استصحاب حكمها ومعناه أن ينوي المتطهر في أول الطهارة ولا ينوي قطع النية بجزئ؛ فلأن النية في أول الطهارة تشمل جميع أجزائها فأجزأ استصحاب حكمها كالصوم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق.

فصل في صفة الوضوء

فصل [في صفة الوضوء] قال المصنف رحمه الله: (وصفة الوضوء: أن ينوي، ثم يسمي، ويغسل يديه ثلاثًا، ثم يتمضمض، ويستنشق ثلاثًا من غرفة وإن شاء من ثلاث وإن شاء من ست وهما واجبان في الطهارتين، وعنه أن الاستنشاق وحده واجب، وعنه أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى). أما كون صفة الوضوء أن ينوي إلى آخره فلما تقدم وما يأتي من الأدلة الدالة على وجوب ذلك ومسنونيته. أما النية فلما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الأعمال بالنيات» (¬1). وقوله: «لا عمل إلا بنية» (¬2). وأما التسمية فلما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (¬3). وأما غسل اليدين ثلاثًا والمضمضة والاستنشاق ثلاثًا ثلاثًا؛ فلأن أكثر من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر «أنه غسل يديه ومضمض واستنشق ثلاثًا» (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 188. (¬2) لم أجده هكذا. وأخرج البيهقي في السنن الكبرى عن أنس: «إنه لا عمل لمن لا نية له». 1: 41 كتاب الطهارة، باب الاستياك بالأصابع. (¬3) سبق تخريجه ص: 183. (¬4) عن حمران بن أبان قال: «رأيت عثمان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما .. الحديث». أخرجه أبو داود في سننه (106) 1: 26 كتاب الطهارة، باب صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعن أبي علقمة «أن عثمان دعا بماء فأفرغ بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما إلى الكوعين. قال: ثم مضمض واستنشق ثلاثا». أخرجه أبو داود في سننه (109) 1: 27 كتاب الطهارة، باب صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وأما كون المضمضة والاستنشاق من غرفةٍ، وإن شاء من ثلاث، وإن شاء من ست؛ فلأن الكل مروي: أما الغرفة؛ فلأن في حديث عبدالله بن زيد «أنه - صلى الله عليه وسلم - مضمض واستنشق من كف واحدة ثلاثًا» (¬1). وأما الثلاث؛ فلأن في بعض ألفاظ الحديث المتفق عليه: «أدخل يده الإناء فمضمض واستنشق ثلاثًا بثلاث غرفات» (¬2). وأما الست ففي حديث جد طلحة بن مصرف قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفصل بين المضمضة والاستنشاق» (¬3) رواه أبو داود. ووضوءه كان ثلاثًا ثلاثًا فلزم كونهما من ست. وأما كونهما واجبين في طهارتي الحدث والجنابة على المذهب: أما في الطهارة من الحدث فلقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] وهما داخلان في حكم الوجه؛ لأن لهما حكم الظاهر لأن الصائم يفطر بوصول القيء إليهما. ولا يفطر بوضع الماء فيهما، ولا يحد بوضع الخمر فيهما، ولا يحصل الرضاع المحرم بوصول اللبن إليهما، ويجب غسلهما من النجاسة فيدخلان في عموم الآية. وأما في طهارة (¬4) الجنابة فبطريق الأولى لأنهما يجب فيهما غسل ما تحت الشعور الكثيفة بخلاف طهارة الحدث. وأما كون الاستنشاق وحده واجبًا على روايةٍ: أما في طهارة الحدث فلما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر» (¬5) متفق عليه. وأما في طهارة الجنابة فلما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (235) 1: 210 كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (189) 1: 82 كتاب الوضوء، باب مسح الرأس مرة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (139) 1: 34 كتاب الطهارة، باب في الفرق بين المضمضة والاستنشاق. (¬4) في ب: وأما طهارة في. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (160) 1: 72 كتاب الوضوء، باب الاستجمار وتراً. وأخرجه مسلم في صحيحه (237) 1: 212 كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار.

وأما كونهما واجبين في الكبرى دون الصغرى على روايةٍ: أما وجوبهما في الكبرى وهي الطهارة من الجنابة؛ فلأن الطهارة من ذلك يعم جميع البدن ويجب فيهما غسل ما تحت الشعور الكثيفة وما تحت الخفين. وأما عدم وجوبهما في الصغرى وهي طهارة الوضوء؛ فلأن الله تعالى لم يذكرهما في الأعضاء المنصوص عليهما. قال: (ثم يغسل وجهه ثلاثًا من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللَّحْيَيْن والذقن طولاً مع ما استرسل من اللحية ومن الأذن إلى الأذن عرضًا). أما كون من تقدم ذكره يغسل وجهه فلما تقدم أول الباب. وأما كونه يغسله ثلاثًا؛ فلأن أكثر من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر «أنه غسل وجهه ثلاثًا» (¬1). وأما كون الغسل من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللّحْيَيْن والذقن لهؤلاء؛ فلأن ذلك كله من الوجه لحصول المواجهة به. والمعتبر في منابت الشعر المعتاد. ولا عبرة بالأذرع. وهو: الذي شعره نابت في أعلا جبهته. ولا بالأصلع. وهو: الذي انحسر شعر رأسه عن مقدمه. وأما قول المصنف رحمه الله: مع ما استرسل من اللحية فمعناه أنه يجب غسل المسترسل من اللحية. وفي ذلك روايتان: إحداهما: أنه يجب كما ذكره المصنف رحمه الله لأنه شعر نابت في محل الفرض أشبه الحاجب. ولأن الشعر المذكور يحصل به المواجهة. فوجب غسله كالبشرة. والرواية الثانية: لا يجب؛ لأنه نازل عن محل الفرض أشبه الذؤابة. وأما كون الغسل من الأذن إلى الأذن عرضًا؛ فلأن ذلك كله من الوجه لحصول المواجهة به. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (162) 1: 72 كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء. وأخرجه مسلم في صحيحه (236) 1: 211 كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. كلاهما من حديث عثمان رضي الله عنه.

قال: (فإن كان فيه شعر خفيف يصف البشرة وجب غسلها معه، وإن كان يسترها أجزأه غسل ظاهره. ويستحب تخليله). أما كون غسل الشعر الذي يصف البشرة يجب مع غسل البشرة؛ فلأن المواجهة تحصل بهما. ولأن الشعر الذي يصف البشرة غير ساتر لما تحته فوجب أن لا يسقط فرض المحل قياسًا على الخف المخرق. وأما كون غسل ظاهر الشعر الساتر للبشرة يجزئ؛ فلأن الله تعالى أمر بغسل الوجه والشعر المذكور تحصل المواجهة به لا بما تحته فوجب تعلق الحكم به لا بما تحته. و«لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثيف اللحية عظيم الهامة» (¬1) وثبت أنه توضأ مرة (¬2) والمرة لا يصل فيها الماء إلى ما تحت الشعر من البشرة. ولأن الشعر المذكور شعر يستتر ما تحته فوجب أن ينتقل الفرض إليه قياسًا على شعر الرأس. وأما كون تخليل الشعر المذكور يستحب فلما تقدم في سنن الوضوء (¬3). قال: (ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثًا ويدخل المرفقين في الغسل). أما كون من تقدم ذكره يغسل يديه إلى المرفقين فلقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (1122) 1: 134. (¬2) روى ابن عباس قال: «توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة». أخرجه البخاري في صحيحه (156) 1: 70 كتاب الوضوء، باب الوضوء مرة مرة. وأخرجه أبو داود في سننه (138) 1: 34 كتاب الطهارة، باب الوضوء مرة مرة. وأخرجه الترمذي في جامعه (42) 1: 60 أبواب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مرة مرة. وأخرجه النسائي في سننه (101) 1: 73 كتاب الطهارة، مسح الأذنين. (¬3) ص: 140.

وأما كونه يغسلهما ثلاثًا؛ فلأن أكثر من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه غسل يديه ثلاثًا (¬1). وأما كونه يدخل المرفقين في الغسل؛ فلأن جابرًا قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أمَرَّ الماء على مرفقيه» (¬2) رواه الدارقطني. وفعله - صلى الله عليه وسلم - مبين لكلام الله. وإلى تَرِدُ وما بعدها داخل كقوله: كقرأت القرآن من أوله إلى آخره، وترد وما بعدها غير داخل؛ كقولك: سرت من بغداد إلى الكوفة. وإذا كان كذلك وجب أن تكون المرافق هنا داخلة لبيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأن الحدث (¬3) متيقن. وقد شك في زواله بدون غسل المرفقين فوجب أن يجب غسلهما لأن التيقن لا يزول إلا بمثله. قال: (ثم يمسح رأسه: فيبدأ بيديه من مقدم رأسه. ثم يمرهما إلى قفاه. ثم يردهما إلى مقدمه. ويجب مسح جميعه مع الأذنين. وعنه يجزئ مسح أكثره. ولا يستحب تكراره، وعنه يستحب). أما كون من تقدم ذكره يمسح رأسه فلقوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6]. وأما كونه يبدأ بيديه من مقدم رأسه ويمرهما إلى قفاه ويردهما إلى مقدمه؛ فلأن عبدالله بن زيد قال في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ثم مسح رأسه بيديه. فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة. وفي روايةٍ: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) كذا في حديث عبدالله بن زيد وعثمان وعلي وغيرهم، وقد سبق تخريجها. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (15) 1: 83 كتاب الطهارة، باب وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.وفي إسناده ابن عقيل، قال الدارقطني: ليس بقوي. (¬3) في ب: حدث. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (183) 1: 80 كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كُله. وأخرجه مسلم في صحيحه (235) 1: 211 كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه أبو داود في سننه (118) 1: 29 كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه الترمذي في جامعه (32) 1: 47 أبواب الطهارة، باب ما جاء في مسح الرأس أنه يبدأ بمقدم الرأس إلى مؤخره. وأخرجه النسائي في سننه (98) 1: 71 كتاب الطهارة، باب صفة مسح الراس. وأخرجه ابن ماجة في سننه (434) 1: 149 كتاب الطهارة، باب ما جاء في مسح الرأس. وأخرجه أحمد في مسنده (16475) 4: 39.

وأما كونه يجب عليه مسح جميعه على المذهب؛ فلأن الباء في قوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6] ليست للتبعيض. قال ابن برهان: من زعم أن الباء للتبعيض فقد جاء أهلَ العربية بما لا يعرفونه. وإذا لم تكن للتبعيض تعين كونها للإلصاق وذلك يوجب مسح الجميع. وأما كونه يجزئه مسح الأكثر على روايةٍ؛ فلأن الكل قد يطلق ويراد به الأكثر كما يقال: جاء العسكر. إذا جاء أكثره. وعن الإمام أحمد يجزئ المرأة مسح مقدمة رأسها بخلاف الرجل؛ «لأن عائشة رضي الله عنها كانت تمسح مقدم رأسها». وعنه: يجزئهما مسح البعض؛ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح بناصيته وعمامته» (¬1) رواه مسلم. والأول أصح لما تقدم. ولأن الإجماع منعقد على الاستيعاب في التيمم في قوله: {فامسحوا بوجوهكم} [المائدة: 6] فليكن الباقي قوله: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6] كذلك. وإما إطلاق الكل وإرادة الأكثر فمجاز. والأصل الحقيقة. وأما مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - بناصيته وعمامته فلا حجة فيه لأن مسح العمامة جائز عندنا. وإذا ظهرت ناصيته مسح عليها وعلى باقي العمامة فلا يكون ذلك مسحًا لبعض الرأس لأن مسح العمامة ناب عن مسح باقي الرأس فيكون الرأس جميعه ممسوحًا. وأما كونه يمسح جميعه مع الأذنين؛ فلأنهما منه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الأذنان من الرأس» (¬2) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (274) 1: 230 كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (134) 1: 33 كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه ابن ماجة في سننه (444) 1: 152 كتاب الطهارة، باب الأذنان من الرأس.

وروت الرُّبَيِّع «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وصدغيه وأذنيه مسحة واحدة» (¬1) رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. وأما كون المسح لا يستحب تكراره على المذهب؛ فلأن أكثر من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر «أنه مسح مرة واحدة» (¬2). ولأنه ممسوح في طهارة أشبه التيمم. وأما كونه يستحب على روايةٍ فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثًا ثلاثًا» (¬3) رواه الإمام أحمد. وروى أبو داود عن عثمان «أنه غسل ذراعيه ثلاثًا، ومسح برأسه ثلاثًا. ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل هذا» (¬4). ولأنه أصل في الطهارة أشبه الغسل. قال: (ثم يغسل رجليه ثلاثًا إلى الكعبين، ويدخلهما في الغسل. ويخلل أصابعه). أما كون من تقدم ذكره يغسل رجليه فلما تقدم من قوله تعالى: {وأرجلَكم}. وأما كونه يغسلهما ثلاثًا؛ فلأن أكثر من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر «أنه غسلهما ثلاثًا» (¬5). وأما كونه يُدخل الكعبين في الغسل فلما تقدم في المرفقين وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للأعقاب من النار» (¬6). وأما كونه يخلل أصابعه فلما تقدم في سنن الوضوء (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (34) 1: 48 أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مسح الرأس مرة. (¬2) كما في حديث الرُّبَيِّع السابق. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (44) 1: 63 أبواب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء ثلاثًا ثلاثًا. وأخرجه أحمد في مسنده (1344) 1: 156. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (110) 1: 27 كتاب الطهارة، باب صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (158) 1: 71 كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً. (¬6) سبق تخريجه ص: 142. (¬7) ص: 140.

قال: (وإن كان أقطع غَسَلَ ما بقي من محل الفرض فإن لم يبق شيء سقط). أما كون من تقدم ذكره يغسل ما بقي بعد القطع من محل الفرض فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬1). وأما كون الغسل يسقط إذا لم يبق من محل الفرض شيء فلفوات المحل. قال: (ثم يرفع نظره إلى السماء، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وتباح معونته وتنشيف أعضائه ولا يستحب). أما كون من فرغ مِن وضوءه يرفع نظره إلى السماء ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله إلى آخره فلما روى عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توضأ فأحسن وضوءه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» (¬2) رواه مسلم. وروى أبو داود: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع نظره إلى السماء وقال ... الحديث إلى آخره» (¬3). وأما كون معونة المتطهر؛ مثل أن يغرف ماء الغسل أو الوضوء إليه، أو يحمله شخص له، أو يصب عليه: يباح؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُحمل له الماء ويصب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6858) 6: 2658 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه مسلم في صحيحه (1337) 4: 1830 كتاب الفضائل، باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - .. كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (234) 1: 209 كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء. ورواه الترمذي وزاد فيه: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» (55) 1: 77 أبواب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (170) 1: 44 كتاب الطهارة، باب ما يقول الرجل إذا توضأ. وأخرجه أحمد في مسنده (121) 1: 20.

عليه. قال أنس: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينطلق في حاجته فآتيه أنا وغلام نحوي بإداوة ماء يستنجي به» (¬1) متفق على معناه. وفي روايةٍ المغيرة: «أنه جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ» (¬2). [متفق عليه. وعن صفوان بن عسال قال: «صببت على النبي - صلى الله عليه وسلم - الماء في السفر والحضر في الوضوء» (¬3). رواه ابن ماجة] (¬4). وأما كون تنشيف أعضائه يباح فلما روى قيس بن سعد قال: «أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزلنا. فأمر له سعد بغسل فاغتسل به. ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها» (¬5) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن الإمام أحمد يكره ذلك لما روت ميمونة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل فأتته بالمنديل فلم يردها وجعل ينفض الماء بيده» (¬6) متفق عليه. وأما كون ذلك لا يستحب؛ فلأنه إزالة لأثر العبادة فلم يستحب كإزالة دم الشهيد. ولأنه لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المداومة عليه ولو كان أفضل لداوم عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (151) 1: 69 كتاب الوضوء، باب حَمل العنزة مع الماء في الاستنجاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (271) 1: 227 كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء من التبرز. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (180) 1: 78 كتاب الوضوء، باب الرجل يُوضئ صاحبه. وأخرجه مسلم في صحيحه (274) 1: 227 كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء من التبرز. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (391) 1: 138 كتاب الطهارة، باب الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه. (¬4) ساقط من ب. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (5185) 4: 347 كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان. وأخرجه ابن ماجة في سننه (466) 1: 158 كتاب الطهارة، باب المنديل بعد الوضوء وبعد الغسل. وأخرجه أحمد في مسنده (15513) 3: 421. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (270) 1: 106 كتاب الغسل، باب من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده ولم يعد غسل مواضع الوضوء. وأخرجه مسلم في صحيحه (317) 1: 254 كتاب الحيض، باب صة غسل الجنابة.

باب مسح الخفين

باب مسح الخفين قال المصنف رحمه الله: (يجوز المسح على الخفين، والجرموقين، والجوربين، والعمامة، والجبائر. وفي المسح على القلانس وخمر النساء المدارة تحت حلوقهن روايتان). أما كون المسح على الخفين يجوز فلما روى جرير قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه» (¬1) متفق عليه. قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. ولأن الحاجة تدعو إلى لبس الخف وتلحق المشقة بنزعه فجاز المسح عليه كالجبائر. وأما كونه على الجرموقين يجوز فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على موق» (¬2). والجرموق: خف واسع يلبس فوق الخف في البلاد الباردة وهو بالفارسية موق فعرب. وأما كونه على الجوربين يجوز فلما روى المغيرة بن شعبة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الجوربين والنعلين» (¬3) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (380) 1: 151 أبواب الصلاة في الثياب، باب الصلاة في الخفاف. وأخرجه مسلم في صحيحه (272) 1: 227 كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين. (¬2) أخرج أحمد في مسنده عن بلال قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الموقين والخمار». (23963) 6: 5. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (159) 1: 1 كتاب الطهارة، باب المسح على الجوربين. وأخرجه الترمذي في جامعه (99) 1: 67 أبواب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين وأخرجه أحمد في مسنده (18231) 4: 52.

وهذا يدل على أن النعل لم يكن عليهما لأنه لو كان كذلك لم يذكر النعلين. كما لا يقال: مسحت الخف ونعله. ولأن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم مسحوا عليهما ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعًا. ولا بد أن يلحظ أن لجواز المسح على ذلك شرطين: أحدهما: أن يكون صفيقًا لا يبدو منه شيء من القدم. والثاني: أن يمكن متابعة المشي فيه. وأما كونه على العمامة يجوز فلما روى المغيرة قال: «توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسح على الخفين والعمامة» (¬1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى بلال رضي الله عنه «مسح رسول [الله]- صلى الله عليه وسلم - على الخفين» (¬2) رواه مسلم. وروي أيضًا عنه أنه قال: «امسحوا على الخفين والخمار» (¬3) رواه أحمد. وروي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشًا وأمرهم أن يمسحوا على المشاوذ» (¬4). قال أبو عبيد: المشاوذ العمائم. وأما كونه على الجبائر يجوز فلما روى جابر قال: «خرجنا في سفر فأصاب رجل منا حجر فشجه في رأسه. ثم احتلم. فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فقال: قتلوه قتلهم الله. ألا سألوا إذا لم يعلموا. إنما شفاء العي السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه. ثم يمسح عليه، ويغسل سائر جسده» (¬5) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (100) 1: 170 أبواب الطهارة، باب المسح على العمامة. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (275) 1: 231 كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (23954) 6: 14. (¬4) أخرجه البغوي في شرح السنة 1: 452 كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين عن ثوبان. وأخرج نحوه أبو داود عن ثوبان قال: «بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين». (146) 1: 36 كتاب الطهارة، باب المسح على العمامة. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (336) 1: 93 كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم. وأخرجه الدارقطني في سننه (3) 1: 189 كتاب الطهارة، باب جواز التيمم لصاحب الجراح ... وعلقه البخاري في صحيحه بمعناه، ولفظه: «ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم وتلا {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف». 1: 132 كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض.

فهذا في الكبرى ففي الصغرى بطريق الأولى. وروي «أن عليًا رضي الله لما انكسرت زنده يوم أحد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسح عليه» (¬1). ولأنه قول ابن عمر رضي الله عنهما ولم يعرف له مخالف فكان إجماعًا. وأما كونه على القلانس يجوز في روايةٍ فلما روي عن عمر أنه قال: «إن شاء حسر عن رأسه وإن شاء مسح على قلنسوته» (¬2) رواه الأثرم. وعن أبي موسى الأشعري «أنه خرج من الخلاء فمسح على قَلنسوته» (¬3) رواه حرب. ولأنه ملبوس معتاد. أشبه العمامة. وأما كونه لا يجوز عليها في روايةٍ؛ فلأنه لا مشقة في نزعها فلم يجز المسح عليها كالكلتة. وأما كونه على خمر النساء المدارة تحت حلوقهن يجوز في روايةٍ فلما روي «أن أم سلمة رضي الله عنها كانت تمسح على الخمار» (¬4) رواه ابن المنذر. ولأنه ساتر للرأس معتاد للمرأة أشبه العمامة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (657) 1: 215 كتاب الطهارة، باب المسح على الجبائر. وأخرجه الدارقطني في سننه (3) 1: 226 - 227 كتاب الطهارة، باب جواز المسح على الجبائر. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (225) 1: 29 كتاب الطهارات، من كان يرى المسح على العمامة. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط 1: 467 ذكر اختلاف أهل العلم في المسح على العمامة. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (221) 1: 29 كتاب الطهارات، من كان يرى المسح على العمامة. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط 1: 468 ذكر اختلاف أهل العلم في المسح على العمامة. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (223) 1: 29 كتاب الطهارات، من كان يرى المسح على العمامة. وأخرجه ابن المنذر في الأوسط 1: 468 ذكر اختلاف أهل العلم في المسح على العمامة.

وأما كونه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأنه لا يشق المسح من تحته ولا تدعو الحاجة إليه أشبه الوقاية. قال: (ومن شرطه أن يُلبس الجميع بعد كمال الطهارة، إلا الجبيرة على إحدى الروايتين). أما كون المسح من شرطه أن يلبس الجميع غير الجبيرة بعد كمال الطهارة [على] (¬1) المذهب؛ فلما روى المغيرة بن شعبة قال: «كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه. فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما» (¬2) متفق عليه. وروي في بعض ألفاظ الحديث: «دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتين» (¬3) علل جواز الترك بإدخالهما في حال كون كل واحدة طاهرة. وفي روايةٍ: «أيمسح أحدنا على الخفين؟ قال: نعم إذا أدخلهما وهما طاهران» (¬4) رواه الحميدي في مسنده. وفي روايةٍ: «رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة إذا تطهر فلبس خفيه يمسح عليهما» (¬5) رواه الأثرم. ولأن ما ذكر يشترط له أصل الطهارة لما يأتي فاشترط له كمالها كالصلاة ومس المصحف. والمراد بكمال الطهارة الفراغ منها فلو توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه وغسل إحدى رجليه ثم لبس إحدى الخفين ثم غسل الأخرى ولبس الآخر لم يكن محصلاً كمال الطهارة. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5463) 5: 2185 كتاب اللباس، باب لبس جبة الصوف في الغزو. وأخرجه مسلم في صحيحه (274) 1: 230 كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (151) 1: 38 كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين. (¬4) أخرجه الحميدي في مسنده 2: 335. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 281 كتاب الطهارة، باب رخصة المسح لمن لبس الخفين على الطهارة.

وأما كون ذلك ليس من شرطه على روايةٍ لأن حدثه حصل بعد كمال الطهارة واللبس فجاز المسح كما لو نزع الخف الأول ثم لبسه. وفي اشتراط كمال الطهارة إشعار باشتراط أصلها. ولا خلاف فيه عند الإمام أحمد فيما عدا الجبيرة لما تقدم من حديث المغيرة (¬1). وأما كون المسح على الجبيرة لا يشترط له ذلك؛ فلأن اشتراط ذلك يؤدي إلى عدم استعمال رخصة المسح عليها غالبًا لأن الجرح وشبهه يقع فجأة أو في وقت لا يعلم الماسح وقوعه فيه. وعن الإمام أحمد يشترط له الطهارة كالخف. والأول أصح لما تقدم. وقياسه على الخف لا يصح لما ذكر من الفرق. فإن قيل: قول المصنف رحمه الله على إحدى الروايتين إلى ماذا يعود. قيل: إلى ما عدا الجبيرة من الممسوح كما تقدم شرحه، ويحتمل أن يعود إلى الجبيرة. وفيه وإن قرب منها بُعْدٌ من وجهين: أحدهما: أن الخلاف فيها ليس مختصًا بالكمال. وثانيهما: أن الخلاف فيما عداها أشهر من الخلاف فيها. قال: (ويمسح المقيم يومًا وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن إلا الجبيرة فإنه يمسح عليها إلى حَلِّها). أما كون المقيم يمسح يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن في غير الجبيرة فلما روى شريح بن هانئ قال: «سألت عليًا رضي الله عنه عن المسح فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة» (¬2) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) ص: 159. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (276) 1: 232 كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين. وأخرجه النسائي في سننه (129) 1: 84 كتاب الطهارة، التوقيت في المسح على الخفين للمقيم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (552) 1: 183 كتاب الطهارة، باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر. وأخرجه أحمد في مسنده (748) 1: 96.

وأما كونه يمسح على الجبيرة إلى حَلها؛ فلأنه مسحٌ جاز للضرورة فيقدر بقدرها. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأما المسح على الجبيرة فغير مؤقت. ويشترط أن لا يتجاوز بالشد موضع الحاجة؛ لأن ذلك للضرورة فتقيد بموضعها. قال: (وابتداء المدة من الحدث بعد اللبس وعنه من المسح بعده). أما ابتداء مدة المسح من الحدث بعد اللبس على المذهب؛ فلأنه وقت يجوز له المسح فيه فكان أول مدة المسح منه. ولأن المسح عبادة فاعتبر وقتها من وقت جواز فعلها كالصلاة. فعلى هذه لو تطهر وقت الظهر ولبس الخف ثم أحدث وقت العصر ثم توضأ ومسح وقت المغرب يمسح إلى وقت العصر الذي أحدث في مثله. وأما كونه من المسح بعد اللُّبس على روايةٍ فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يمسح المقيم يومًا وليلة» (¬2). فقدره بالمسح فيجب أن يكون ابتداؤه من ابتداء المسح. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «امسح إلى مثل ساعتك التي مسحت» (¬3) رواه الخلال. فعلى هذه يمسح في الصورة المتقدمة إلى وقت المغرب. والأول هو الصحيح؛ لما تقدم. ولأن في حديث صفوان بن عسال: «من الحدث إلى الحدث» (¬4). ولبس الخف جعل مانعًا من سريان الحدث إلى الرجل نفيًا للحرج وإنما يصير مانعًا بعد الحدث لا بعد المسح. ¬

_ (¬1) ر ص: 199. (¬2) تقدم تخريجه ص: 201. (¬3) أخرجه ابن المنذر في الأوسط 1: 443 ولفظه: «يمسح إلى الساعة التي توضأ فيها». وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 276 كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين، ولفظه: «يمسحُ الرجل على خفيه إلى ساعتها من يومها وليلتها». (¬4) سيأتي تخريج حديث صفوان ص: 207. ولم أر اللفظ الذي ذكره المصنف.

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يمسح المقيم» وقول عمر: «امسح إلى مثل ساعتك» فالمراد استباحة المسح دون فعله. قال: (ومن مسح مسافرًا ثم أقام أتم مسح مقيم، وإن مسح مقيمًا ثم سافر أو شك في ابتدائه أتم مسح مقيم. وعنه يتم مسح مسافر. ومن أحدث ثم سافر قبل المسح أتم مسح مسافر). أما كون من مسح مسافرًا ثم أقام يتم مسح مقيم؛ فلأن المسح عبادة وجد أحد طرفيها في الحضر فكان الاعتبار لحكم الحضر كالصلاة. وأما كون من مسح مقيمًا ثم سافر يتم مسح مقيم على روايةٍ فلما ذكر قبل. وأما كونه يتم مسح مسافر على روايةٍ فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن» (¬1) وهذا مسافر. ولأنه سافر قبل استكمال مدة المسح أشبه ما إذا سافر بعد الحدث. والأولى أولى لما تقدم. وأما كون من شك هل ابتدأ المسح في الحضر أو السفر؟ فيه ما ذكر؛ فلأنه يجري فيه ذلك. فعلى الرواية الأولى يمسح مسح مقيم لأنه لا يجوز له المسح مع الشك في إباحته لتكون طهارته صحيحة بيقين لأن الأصل وجوب الغسل فلا يعدل إلى المسح إلا بتحقق. وعلى الرواية الثانية: يتم مسح مسافر لأنه لو تيقن أنه ابتدأ المسح في الحضر يمسح مسح مسافر؛ فلأن يمسح مسح مسافر مع الشك بطريق الأولى. وأما كون من أحدث ثم سافر قبل المسح يتم مسح مسافر فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن» (¬2). وهذا مسافر. ولأنه ما شَرع في طرف العبادة في الحضر فلم يُغَلّب الحضر لعدم ذلك. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 201. (¬2) سبق تخريجه ص: 201.

قال: (ولا يجوز المسح إلا على ما يستر محل الفرض، ويثبت بنفسه. فإن كان فيه خرق يبدو منه بعض القدم، أو كان واسعًا يُرى منه الكعب، أو الجورب خفيفًا يصف القدم أو يسقط منه (¬1)، أو شد لفائف لم يجز المسح) (¬2). أما كون المسح لا يجوز على ما لا يستر محل الفرض؛ فلأن حكم ما ظهر الغسل وحكم ما استتر المسح فإذا اجتمعا غلب الغسل كما لو خلع أحد خفيه. فعلى هذا لا فرق في الساتر بين أن يكون جلودًا أو لبودًا (¬3) أو خشبًا أو زجاجًا أو حديدًا؛ لاشتراك الكل في المعنى المبيح للمسح. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز في الحديد والزجاج وشبههما لأنه غير معتاد ولا يشق نزعه بخلاف الجلود وشبهها. وأما كونه لا يجوز على ما لا يثبت بنفسه وهو ما إذا لبسه ولم يربطه لا يقف في رجله ولا ينعطف إذا مشى في حوائجه وعند الحط والترحال؛ فلأن الرخصة وردت في الخف وما ذكر ليس في معناه ولا يتعدى إليه. وأما كونه يجوز على ما يستر محل الفرض ويثبت بنفسه؛ فلأنه في معنى الخف فيجب إلحاقه به. وأما كون ما فيه خرق يبدو منه بعض القدم لا يجوز المسح عليه؛ فلأن ستر جميع محل الفرض شرط لجواز المسح لما تقدم ولم يوجد. وأما كون الخف الواسع الذي يرى منه الكعب لا يجوز المسح عليه؛ فلأن الستر يجب من أعلا الخف كما يجب من باقي جهاته لاشتراك الكل في المعنى الذي لأجله وجب الستر. وأما كون الجورب الخفيف الذي يصف القدم لا يجوز المسح عليه؛ فلأنه ليس ساترًا لمحل الفرض. وقد تقدم أنه شرط لجواز المسح. ¬

_ (¬1) في المقنع: أو يسقط منه إذا مشى. (¬2) في المقنع: المسح عليه. (¬3) في ب: لبولدًا.

وأما كون الذي يسقط من الرجل أو اللفائف المشدودة لا يجوز المسح عليه؛ فلأن كون الممسوح عليه مما يثبت بنفسه شرط ولم يوجد. قال: (وإن لبس خفًا فلم يحدث حتى لبس عليه آخر جاز المسح عليه). أما كون المسح على ما ذكر يجوز؛ فلأنه خف ساتر لمحل الفرض يمكن متابعة المشي فيه أشبه المتفرد. وأما قول المصنف رحمه الله: فلم يحدث ففيه إشعار بأنه لو أحدث ثم لبس آخر لا يجوز المسح عليه وهو صحيح صرح به في المغني وغيره من الأصحاب في كتبهم. ووجهه أنه إذا أحدث ثم لبس آخر لم يكن بد من المسح على الذي قبله ليكون الثاني ملبوسًا على طهارة وإذا كان كذلك لم يجز المسح عليه لأن حكم المسح قد تعلق بالتحتاني فلم يجز على غيره. قال: (ويمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه. فيضع يده على الأصابع ثم يمسح إلى ساقه). أما كون الماسح يمسح أعلا الخف دون أسفله وعقبه فلقول علي رضي الله عنه: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه. وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين على ظاهرهما» (¬1) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وعن عمر رضي الله عنه قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالمسح على ظاهر الخفين إذا لبسهما وهما طاهران» (¬2) رواه الخلال بإسناده. وأما كون المسح كما ذكر المصنف رحمه الله فلما روى المغيرة بن شعبة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بال في الماء. ثم توضأ ومسح على الخفين. فوضع يده اليمنى على خفه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (162) 1: 42 كتاب الطهارة، باب كيف المسح. وأخرجه الترمذي في جامعه (98) 1: 165 أبواب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الخفين ظاهرهما. ولفظه: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين على ظاهرهما» عن المغيرة بن شعبة. وأخرجه أحمد في مسنده (387) 1: 54. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 292 كتاب الطهارة، باب الاقتصار بالمسح على ظاهر الخفين.

الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر. ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة. حتى كأني أنظر إلى آثار أصابعه على الخفين» (¬1) رواه الخلال أيضًا. وهذه الصفة مستحبة وكيف مسح أعلا الخف جاز. قال: (ويجوز المسح على العمامة المحنكة إذا كانت ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه). أما كون المسح على العمامة يجوز فلما تقدم أول الباب (¬2). وأما ما يشترط لجواز المسح عليها فشرطان: أحدهما: أن تكون محنكة «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط». قال أبو عبيد: الاقتعاط: أن لا يكون تحت الحنك منها شيء. وإذا كانت منهيًا عنها لم يستبح بها المسح؛ لأنه من الرخص. والثاني: أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه كالأذنين ومقدم الرأس وما أشبه ذلك. أما اشتراط الستر في غير المستثنى فلما تقدم في الخف. وأما عدم اشتراطه في المستثنى؛ فلأن اعتبار الستر فيه يشق ويؤدي إلى عدم استعمال الرخصة بخلاف الخف. قال: (ولا يجوز على غير المحنكة إلا أن تكون ذات ذؤابة فيجوز في أحد الوجهين). أما كون المسح على عمامة غير محنكة ولا ذؤابة لها لا يجوز فلما تقدم. وأما كونه على العمامة التي لها ذؤابة وهي غير محنكة لا يجوز في وجه فلعموم ما تقدم من النهي. وأما كونه يجوز في وجه؛ فلأنها إذا صار لها ذؤابة لا تشبه عمائم أهل الذمة. وإنما نهي عن الاقتعاط لذلك. فلا يكون منهيًا عنها فيجوز المسح. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 292 كتاب الطهارة، باب الاقتصار بالمسح على ظاهر الخفين. (¬2) ص: 199.

قال: (ويجزئه مسح أكثرها. وقيل: لا يجوز إلا مسح جميعها). أما كون مسح أكثر العمامة يجزئ؛ فلأن حكم الأكثر يعطى حكم الكل. وأما كونه لا يجوز إلا مسح جميعها؛ فلأن المسح على العمامة بدل عن المسح على الرأس فوجب أن ينتقل حكم المبدل إليه. فإن قيل: الخف مسحه بدل عن غسل الرجل ولا يجب مسح جميعه. قيل: الفرق بينهما أن البدل في العمامة من جنس المبدل بخلاف البدل في الخف. وقال القاضي: يجزئ البعض قياسًا على الخف. ويختص ذلك بأكوارها وهو دوائرها. فإن مسح وسطها ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه لأنه بدل موضع يجزئ مسحه. والثاني: لا يجزئه كما لو مسح أسفل الخف. والصحيح وجوب استيعاب العمامة كما أن الصحيح وجوب استيعاب الرأس لأن مقتضى الدليل مشابهة البدل المبدل. تُرك العمل به في الخف لمعنى هو مفقود في العمامة فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. ولأن المشابهة بين البدل والمبدل في العمامة يمكن تحققها بخلاف الخف؛ لأن العمامة الواجب فيها المسح بدلاً ومبدلاً والخف الواجب فيه المسح بدلاً والغسل مبدلاً. قال: (ويمسح على جميع الجبيرة إذا لم تتجاوز قدر الحاجة). أما كون الجبيرة يمسح على جميعها؛ فلأنه مسح ضرورة ولا ضرر في مسح جميع الجبيرة فوجب الاستيعاب قياسًا على التيمم. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا لم تتجاوز قدر الحاجة فشرط في جواز المسح لأنه موضع حاجة فيقيد بقدرها. قال: (ومتى ظهر قدم الماسح أو رأسه أو انقضت مدة المسح استأنف الطهارة. وعنه يجزئه مسح رأسه وغسل قدميه). أما كون الماسح إذا ظهر قدمه أو رأسه يستأنف الطهارة على المذهب؛ فلأن فرض ما انكشف الغسل. وإنما الخف أو العمامة منع من سريان الحدث فإذا زال سرى الحدث إلى الرجل أو الرأس. والحدث لا يتبعض فبطلت الطهارة من أصلها.

وأما كونه يجزئه مسح رأسه إن كان الممسوح عمامة، وغسل قدميه إن كان خفًا على روايةٍ؛ فلأن مسح الممسوح ناب عما تحته فإذا ظهر بطل فيما ناب عنه فقط كالتيمم. وأما كونه إذا انقضت مدة المسح يستأنف. ففيه أيضًا روايتان وجههما ما مر. فإن قيل: ما أصل ذلك؟ قيل: هذا الاختلاف يلتفت إلى أن المسح هل يرفع الحدث عن الرجل؟ فإن قلنا: لا يرتفع فقد ارتفع عن الوجه واليدين والرأس فبقي الرجلان فيكفيه غسلهما، وإن قلنا لا يرتفع فبالخلع عاد. والحدث لا يتبعض فيجب استئناف الوضوء. وقيل: منشأ الخلاف جواز التفريق؛ فإن جاز أجزأه غسل رجليه ومسح رأسه، وإلا أعاد الوضوء لفوات شرطه وهي الموالاة. والصحيح الأول عند المحققين لأن الخلاف واقع في المسألتين مطلقًا سواء كان عقيب الوضوء أو بعد مضي زمان يحصل به التفريق. قال: (ولا مدخل لحائل في الطهارة الكبرى إلا الجبيرة). أما كونه لا مدخل لحائل في الطهارة الكبرى غير الجبيرة فلما روى صفوان «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ننزع خفافنا إذا كنا سفًرا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة» (¬1) الحديث مختصر أخرجه الترمذي. وأما كون الجبيرة لها مدخل في الطهارة الكبرى فلحديث جابر في صاحب الشجة (¬2). ولأنه مسح للضرورة فيقدر بقدرها. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (96) 1: 159 أبواب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم. وأخرجه النسائي في سننه (126) 1: 84 كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (478) 1: 161 كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم. (¬2) سبق ذكره وتخريجه ص: 199.

باب نواقض الوضوء

باب نواقض الوضوء قال المصنف رحمه الله: (وهي ثمانية: الخارج من السبيلين قليلاً كان أو كثيرًا نادرًا أو معتادًا). أما كون نواقض الوضوء ثمانية؛ فلأن الناقض يكون تارة خارجًا من السبيلين، وتارة خروج النجاسات من سائر البدن، وتارة زوال العقل، وتارة مس الذكر، وتارة مس بشرته بشرة أنثى لشهوة، وتارة غسل ميت، وتارة أكل لحم جزور، وتارة الردة عن الإسلام. وأما كون الخارج من السبيلين المعتاد كالبول والغائط والوذي والمذي والريح من نواقض الوضوء فلقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [المائدة: 6]. ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولكن من غائط وبول ونوم» (¬1). و«قوله - صلى الله عليه وسلم - في المذي: يغسل ذكره ويتوضأ» (¬2). [وقوله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3): «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» (¬4). وأما كون ذلك كذلك قليلاً كان أو كثيرًا فلعموم ما تقدم. وأما كون الخارج من السبيلين النادر كالدم والدود والشعر والحصا من ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (96) 1: 159 أبواب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم. وأخرجه النسائي في سننه (127) 1: 83 كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (303) 1: 247 كتاب الحيض، باب المذي. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (137) 1: 64 كتاب الوضوء، باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن. وأخرجه مسلم في صحيحه (361) 1: 276 كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك.

نواقض الوضوء؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المستحاضة تتوضأ عند كل صلاة» (¬1) رواه أبو داود. ودمها غير معتاد. وأما كون ذلك كذلك قليلاً كان أو كثيرًا فكالخارج المعتاد. قال: (الثاني: خروج النجاسات من سائر البدن. فإن كانت غائطًا أو بولاً نقض قليلها، وإن كانت غيرهما لم ينقض إلا كثيرها. وهو ما فحش في النفس، وحكي عنه أن قليلها ينقض). أما كون خروج قليل الغائط والبول من غير السبيلين ينقض الوضوء فلما تقدم من عموم قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [المائدة: 6]، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولكن من غائط أو بول أو نوم» (¬2). ولأن ذلك خارج معتاد أشبه الخارج من المخرج. وأما كون خروج قليل النجاسات من سائر البدن غير الغائط والبول كالدم والصديد والقيح لا ينقض الوضوء على المذهب؛ فلأن مفهوم «قول ابن عباس في الدم: إذا كان فاحشًا فعليه الإعادة» (¬3) يدل عليه. قال أحمد رضي الله عنه: عِدّة من الصحابة تكلموا فيه. ابن عمر عصر بيده فخرج الدم فصلى ولم يتوضأ (¬4). وابن أبي أوفى عصر دملاً. وذكر غيرهما ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة فكان إجماعًا. وأما كونه ينقض على روايةٍ فقياس على الغائط. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (297) 1: 80 كتاب الطهارة، باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر. نحوه عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «في المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي والوضوء عند كل صلاة». وأخرجه الترمذي في جامعه (126) 1: 220 أبواب الطهارة، باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، مثل لفظ أبي داود. (¬2) سبق تخريجه ص: 168. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 405 كتاب الطهارة، باب ما يجب غسله من الدم. (¬4) سيأتي تخريجه ص: 262.

والأول أصح؛ لما تقدم. وأما كون خروج كثير ذلك ينقض؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث فاطمة: «أنه دم عرق فتوضئي لكل صلاة» (¬1) رواه الترمذي. ولأنها نجاسة خارجة من البدن أشبه الخارج من السبيل. وأما كون الكثير الناقض للوضوء هو ما فحش في النفس دون غيره؛ فلأن ابن عباس قال: هو ما فحش في نفسك. وعن الإمام أحمد: هو شبر في شبر. وعنه: ما يرفعه الأصابع العشر. والأول هو ظاهر المذهب. قال الخلال: الذي استقر عليه مذهبه - يعني الإمام أحمد رضي الله عنه - أنه - أي أن الكثير - قدر ما يستقبحه كل إنسان في نفسه. وقال ابن عقيل: إنما يعتبر ما يفحش في نفوس أوساط الناس لا المبتذلين ولا الموسوسين كما يعتبر في اللقطة فيما لا تتبعه همة (¬2) نفوس أوساط الناس غير ذي الشرف وأهل الدناءة. قال: (الثالث: زوال العقل إلا النوم اليسير جالسًا أو قائمًا. وعنه أن نوم الراكع والساجد لا ينقض يسيره). أما كون زوال العقل بغير النوم من نواقض الوضوء؛ فلأن زائل العقل لا يشعر بخروج الخارج. ولأن زوال العقل بالنوم ينقض لما يأتي؛ فلأن ينقض بغيره بطريق الأولى لأن زواله بغير النوم أشد من زواله بالنوم لأن زائل العقل بغير النوم لا ينتبه إذا نُبّه بخلاف زائل العقل بالنوم فإنه إذا نُبه انتبه. وأما كون زواله بالنوم الكثير من نواقض الوضوء؛ فلأن مقتضى الدليل نقض الوضوء بزوال العقل مطلقًا لما تقدم. تُرك العمل به في النوم اليسير لما يأتي فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (129) 1: 229 أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة، أنها تغتسل عند كل صلاة. (¬2) في ب: الهمة.

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ» (¬1) رواه أبو داود. ولأن النوم مظنة للحدث فقام مقامه كسائر المظان. وأما كون (¬2) نوم المضطجع من نواقض الوضوء فلعموم ما تقدم. ولأن المحل يكون منفتحًا حال اضطجاعه. وأما كون يسير نوم الجالس لا ينقض فـ «لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينتظرون العشاء، فينامون قعودًا ثم يصلون ولا يتوضؤون» (¬3) رواه مسلم. ولأن النوم إنما نقض لأنه مظنة لخروج الريح من غير أن يعلم به ولا يحصل ذلك هنا لأن محل الحدث مُنضمٌ. وأما كون يسير نوم القائم لا ينقض؛ فلأنه في معنى الجالس لاشتراكهما في انضمام محل الحدث. وأما كون يسير نوم الراكع والساجد ينقض على المذهب فلعموم الحديث المتقدم. وأما كونه لا ينقض على روايةٍ؛ فلأن حالهما حال من أحوال الصلاة أشبه الجالس. والأول أولى لما تقدم. وقياسهما على الجالس لا يصح لأن محل الحدث فيهما منفتح بخلاف الجالس. فإن قيل: ما اليسير غير الناقض؟ قيل: المرجع فيه إلى العرف لأنه لا حد له في الشرع فرجع فيه إلى العرف كالقبض والحِرز. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (203) 1: 52 كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم. ولفظه: «وِكَاءُ السَّةِ العَيْنَانِ، فمن نامَ فَليتوضَّأ». وأخرجه ابن ماجة في سننه (477) 1: 161 كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم. (¬2) في ب: كونه. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (376) 1: 284 كتاب الحيض، باب الدليل على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء.

قال: (الرابع: مس الذكر بيده ببطن (¬1) كفه أو بظهره). أما كون مس الذكر من نواقض الوضوء فلما روت بسرة بنت صفوان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» (¬2) قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وأما كون مس الذكر ينقض ببطن الكف أو بظهره فلشمول الحديث لذلك. وعن الإمام أحمد لا ينقض مسه بظاهر الكف لأن اللمس غالبًا إنما يستعمل بباطن الكف. ولا فرق بين ذكره وذكر غيره في النقض لأن نصه على نقضه بمس ذكره مع إباحة مسه تنبيه على النقض بمس ذكر غيره مع كونه معصية بل بطريق الأولى. وفي بعض الألفاظ: «من مس الذكر فليتوضأ» (¬3). ولا بين كون الممسوس صغيرًا أو كبيرًا حيًا أو ميتًا. ولا بين كون اللامس عامدًا أو ساهيًا أو صغيرًا أو كبيرًا. ولا بين رأس الذكر وأصله لشمول الاسم لذلك كله. وعن الإمام أحمد في السهو أنه لا ينقض لأنه معفو عنه. وأن النقض مختص برأس الذكر دون أصله لأنه مظنة الشهوة غالبًا. قال: (ولا ينقض مسه بذراعه. وفي مس الذكر المقطوع وجهان). أما كون مس الذكر بالذراع لا ينقض؛ فلأن الحكم المعلق على مطلق اليد في الشرع يحمل على الكوع دليله السارق. وعن أحمد رضي الله عنه ينقض لأنه من يده. ¬

_ (¬1) في المقنع: بيده أو ببطن. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (82) 1: 126 أبواب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (479) 1: 161 كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر. وأخرجه أحمد في مسنده (27333) 6: 406. وأخرجه مالك في الموطأ (58) 1: 63 كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الفرج. وأخرجه الشافعي في مسنده (87) 1: 34، كتاب الطهارة، باب في نواقض الوضوء. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (181) 1: 46 كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (479) 1: 161 كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر.

والأول أصح لما ذكر. وأما كون مس الذكر المقطوع ينقض في وجه فلبقاء الاسم. وأما كونه لا ينقض في وجه فلذهاب الحرمة والشهوة أشبه فرج البهيمة. قال: (وإذا لمس قبل الخنثى المشكل وذكره انتقض وضوؤه. وإن مس أحدهما لم ينتقض إلا أن يمس الرجل ذكره لشهوة). أما كون من لمس قبل الخنثى المشكل وذكره ينتقض وضوؤه؛ فلأن لمس الفرج هنا متيقن لأن الخنثى إن كان ذكرًا فقد لمس ذكره وإن كان أنثى فقد مس فرجها. وأما كون من لمس أحدهما غير المستثنى لاينتقض وضوؤه فلاحتمال أن يكون غير فرج فلا ينتقض الوضوء مع قيام الاحتمال. وأما كون الرجل إذا لمس ذكر الخنثى لشهوة ينتقض وضوؤه؛ فلأن الخنثى إن كان رجلاً فقد لمس ذكرًا وإن كان امرأة فقد لمس الرجل امرأة لشهوة. هذا تعليل كلام المصنف رحمه الله. واعلم أنه إذا لمس أحدهما ينتقض في روايةٍ أخرى لم يذكرها المصنف هنا. وهي أن تلمس المرأة قُبُلَه لشهوة؛ لأن الخنثى إن كان امرأة فقد لمست المرأة فرج امرأة، وإن كان رجلاً فقد لمسته لشهوة. صرح به صاحب المجرد فيه. قال: (وفي مس الدبر ومس المرأة فرجها روايتان. وعنه لا ينقض مس الفرج بحال). أما كون مس الدبر ينقض في روايةٍ فلعموم قوله: «من مس ذكره فليتوضأ» (¬1). وقياسًا على الذكر. وأما كونه لا ينقض في روايةٍ؛ فلأنه لم يرد فيه نص صريح. وقوله: «من مس فرجه» المراد به الذكر لأن المشهور من الحديث: «من مس ذكره فليتوضأ» والمطلق يجب حمله على المقيد. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 172.

وأما كون مس المرأة فرجها ينقض في روايةٍ فلما روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ» (¬1). ولما تقدم من عموم قوله: «من مس فرجه فليتوضأ» (¬2). ولأنه أحد الفرجين أشبه الآخر. وأما كونه لا ينقض في روايةٍ فلما تقدم من أن المطلق يحمل على المقيد. والحديث ضعيف. وأما كون مس الفرج لا ينقض بحال على روايةٍ فلما روى قيس بن طلق عن أبيه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يمس ذكره وهو في الصلاة. فقال: هل هو إلا بضعة منك» (¬1) رواه أبو داود. والأول أصح لما تقدم من حديث بنت صفوان (¬2). وعن زيد بن خالد الجهني قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه حتى لا يكون بينه وبينه حجاب ولا ستر فليتوضأ وضوءه للصلاة» (¬4) رواه الدارقطني. وأما حديث قيس بن طلق فضعيف. وعلى تقدير صحته هو منسوخ؛ لأنه كان في أول الهجرة، وما روي في النقض متأخر عن ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (7076) 2: 223. (¬2) سبق تخريجه ص: 172. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (182) 1: 46 كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك. وأخرجه الترمذي في جامعه (85) 1: 131 كتاب الطهارة، باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر نحوه. وأخرجه النسائي في سننه (165) 1: 101 كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من ذلك. وأخرجه ابن ماجة في سننه (483) 1: 163 كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، نحوه. قال الترمذي: هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب. (¬4) سبق تخريه ص: 172. (¬5) أخرجه أحمد في مسنده 5: 194. وذكره الترمذي في جامعه 1: 128. (¬6) أخرجه الدارقطني في سننه (6) 1: 147 كتاب الطهارة، باب ما وري في لمس القبل والدبر ...

قال: (الخامس: أن تمس بشرته بشرة أنثى لشهوة. وعنه لا ينقض. وعنه ينقض لمسها بكل حال. ولا ينقض لمس الشعر والسن والظفر والأمرد. وفي نقض وضوء الملموس روايتان). أما كون مس بشرة الرجل بشرة أنثى لشهوة من نواقض الوضوء على المذهب فلما يأتي. وأما كونه لا ينقض بحال على روايةٍ فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبّل امرأة من نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ» (¬1) رواه أبو داود. وأما كونه ينقض بكل حال على روايةٍ فلقوله تعالى: {أو لمستم النساء} [المائدة: 6] قراءة ابن مسعود. والأول هو الصحيح لأن فيه جمعًا بين القرآن الكريم وبين فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. فتحمل الآية على السهو، ويحمل فعله على أنه كان لغير شهوة. ولا فرق في هذا اللمس بين الأجنبية وذات المحرم. والصغيرة والكبيرة. والحية والميتة لعموم الآية ووجود العلة. واختار الشريف أبو جعفر وابن عقيل أن لمس الميتة لا ينقض لأنها ليست محلاً للشهوة فهي كالرجل. وهذا اللمس مختص بالعضو المتصل؛ لأن المنفصل خرج أن يكون محلاً للشهوة. وأما كون لمس الشعر والسن والظفر لا ينقض؛ فلأن ذلك ينفصل عن المرأة حال السلامة أشبه الدمع والعرق. ولأنه لا يقع على المرأة الطلاق بإضافته إليه، ولا الظِّهار فكذلك لا ينقض الوضوء. وأما لمس الأمرد لا ينقض فلعدم تناول الآية له. ولأنه ليس محلاً للشهوة شرعًا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (179) 1: 46 كتاب الطهارة، باب الوضوء من القبلة. وأخرجه الترمذي في جامعه (86) 1: 133 أبواب الطهارة، باب ما جاء في ترك الوضوء من القبلة. وأخرجه النسائي في سننه (170) 1: 104 كتاب الطهارة، ترك الوضوء من القبلة.

وأما كون وضوء الملموس ينقض في روايةٍ فقياسًا على اللامس. وأما كونه لا ينقض في روايةٍ فلعموم تناول الآية لذلك. وقياسه على اللامس لا يصح لأن الحدث في حقه أدعى منه حق الملموس. قال: (السادس: غسل الميت. السابع: أكل لحم الجزور لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «توضأوا من لحوم الإبل ولا توضأوا من لحوم الغنم» (¬1). فإن شرب من لبنها فعلى روايتين. وإن أكل من كبدها أو طحالها فعلى وجهين). أما كون غسل الميت من نواقض الوضوء فـ «لأن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء». وعن أبي هريرة قال: «أقل ما فيه الوضوء». ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعًا. ولأن الغالب أنه لا يسلم أن تقع يده على فرجه فكانت مظنة ذلك قائمة مقام حقيقته كالنوم. وأما كون أكل لحم الجزور من نواقض الوضوء فلما ذكر المصنف من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «توضأوا من لحوم الإبل ولا توضأوا من لحوم الغنم» رواه الإمام أحمد. ولا فرق في النقض به بين كونه نيًا أو مطبوخًا أو مشويًا. ولا بين كون الآكل عالمًا أو جاهلاً لعموم الحديث. فإن قيل: فقد روى جابر «كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مسته النار» (¬2) رواه النسائي. قيل: لا دلالة في ذلك إلا على نسخ وجوب الوضوء مما مسته النار لأجل كونه ممسوسًا بالنار. ونحن نقول به ولذلك ينتقض الوضوء بأكل لحم الجزور نيًا. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (497) 1: 166 كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (192) 1: 49 كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما مست النار. وأخرجه الترمذي في جامعه (80) 1: 116 أبواب الطهارة، باب ما جاء في ترك الوضوء مما غيرت النار. وأخرجه النسائي في سننه (185) 1: 108 كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما غيرت النار. وأخرجه ابن ماجة في سننه (489) 1: 164 كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك.

وعن الإمام أحمد رحمه الله أن من لم يعلم بالحديث لا ينتقض وضوؤه لعذره. وعنه: لا ينقض بحال؛ لقوله عليه السلام: «الوضوء مما يخرج لا مما يدخل» (¬1) رواه الدارقطني. ولأنه مأكول أشبه لحم الغنم. والصحيح الأول لما ذكرنا. ولأن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: لا. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم» (¬2) رواه مسلم. والأحاديث في هذا صحيحة كثيرة. فإن قيل: المراد بالوضوء غسل اليدين لأن الوضوء المقرون بالأكل يراد به الغسل ولذلك حمل عليه «أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء قبل الطعام وبعده» (¬3). قيل: هذا التأويل غير صحيح من وجوه أربعة: أحدها: أنه حمل للأمر على الاستحباب وهو ظاهر في الوجوب. الثاني: أنه حمل للوضوء الوارد من الشرع على غير موضوعه الشرعي. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 1: 151 كتاب الطهارة، باب في الوضوء من الخارج من البدن. وفي إسناده الفضيل بن المختار وهو ضعيف جدا، وفيه شعبة مولى ابن عباس، وهو ضعيف ر. تخليص الحبير 1: 207 - 208. وأخرج البيهقي في السنن الكبرى عن أبي ظبيان عن ابن عباس «أنه ذكر عنده الوضوء من الطعام -قال الأعمش: مرة- والحجامة للصائم. فقال: إنما الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل». 4: 261 كتاب الصيام، باب الإفطار بالطعام وبغير الطعام. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (360) 1: 275 كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل. وأخرجه أبو داود في سننه (184) 1: 47 كتاب الطهارة، باب الوضوء من لحوم الإبل. وأخرجه الترمذي في جامعه (81) 1: 122 كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل. وأخرجه ابن ماجة في سننه (494) 1: 166 كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل. وأخرجه أحمد في مسنده (18700) 4: 304. قال الترمذي: قال إسحاق: صح في هذا الباب حديثان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث البراء، وحديث جابر. وهو قول أحمد وإسحاق. اهـ. (¬3) عن سلمان، قال: «قرأت في التوراة أن بَركة الطعام الوضوءُ قبله، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده». أخرجه أبو داود في سننه (3761) 3: 345 كتاب الأطعمة، باب في غسل اليد قبل الطعام. وأخرجه الترمذي في جامعه (1846) 4: 281 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الوضوء قبل الطعام وبعده.

الثالث: أنه جمع بين ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين ما نهى عنه فـ «إنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء من لحم الإبل ونهى عنه من لحم الغنم» والخصم يقول يستحب فيهما. الرابع: أن السائل سأل عن الوضوء من لحم الإبل والصلاة في مباركها، والوضوء المقترن بالصلاة لا يفهم منه غير الوضوء الشرعي. وأما كون الشرب من لبنها ينقض على روايةٍ فلما روي عن أسيد بن حضير «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ألبان الإبل. فقال: توضؤا من ألبانها» (¬1) رواه الإمام أحمد رضي الله عنه وابن ماجة. وأما كونه لا ينقض على روايةٍ؛ فلأن الحديث الصحيح إنما ورد في اللحم فيجب الاقتصار عليه. وأما كون الأكل من كبدها أو طحالها ينقض على وجه؛ فلأن ذلك من جملة الجزور فإطلاق لفظ اللحم تناوله بدليل أن الله تعالى لما حرم لحم الخنزير تناول ذلك جميع أجزائه. وأما كونه لا ينقض على وجه؛ فلأنه لم يرد فيه نص ولا هو في معنى ما نص عليه فوجب بقاؤه على ما كان عليه. فإن قيل: ما حكم دهنها وسنامها ومرقها وسائر أجزائها. قيل: حكم كبدها لاشتراك ذلك كله فيما ذكر قبل. قال: (الثامن: الردة عن الإسلام). أما كون الردة وهي الإتيان بما يخرج به عن الإسلام من نطق أو اعتقاد أو شك من نواقض الوضوء فلقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65]. والوضوء عمل وهو باق حكمًا يبطل بجميع مبطلات الوضوء. ولأنه عبادة فأفسدته الردة كالصلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (496) 1: 166 كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل. وأخرجه أحمد في مسنده (19120) 4: 352. قال البوصيري: إسناده ضعيف لضعف حجاج بن أرطأة وتدليسه. وقد خالفه غيره.

ولأن الردة حدث بدليل قول ابن عباس: «الحدث حدثان حدث اللسان وحدث الفرج وأشدهما حدث اللسان». فيفسد الوضوء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (¬1) متفق عليه. قال: (ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على اليقين. فإن تيقنهما وشك في السابق منهما نظر في حاله قبلهما فإن [كان] (¬2) متطهرًا فهو محدث، وإن كان محدثًا فهو متطهر). أما كون من تيقن الطهارة وشك في الحدث يبني على اليقين وهو الطهارة هنا فلما روى عبدالله بن زيد «شكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة. قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» (¬3) متفق عليه. ولأن اليقين لا يزول بالشك. وأما كون من تيقن الحدث وشك في الطهارة يبني على اليقين وهو الحدث هنا فلما تقدم من أن اليقين لا يزول بالشك. ولأنه إذا بنى من تيقن الطهارة وشك في الحدث على اليقين؛ فلأن يبني من تيقن الحدث وشك في الطهارة على اليقين بطريق الأولى. وأما كون من تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق منهما محدثًا إذا كان قبلهما متطهرًا؛ فلأنه تيقن الحدث بعد طهارته الأولى وشك في الطهارة الثانية هل كانت بعد الحدث أو قبله فلا يزول عن اليقين بالشك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6554) 6: 2551 كتاب الحيل، باب في الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (225) 1: 204 كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة. (¬2) زيادة من المقنع. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (137) 1: 64 كتاب الوضوء، باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن. وأخرجه مسلم في صحيحه (361) 1: 276 كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك.

وأما كونه متطهرًا إذا كان قبلهما محدثًا؛ فلأنه تيقن بعد حدثه الأول طهارة وشك هل كان الحدث الآخر قبل طهارته أو بعدها؟ فلا يزول عن اليقين بالشك. قال: (ومن أحدث حرم (¬1) عليه الصلاة، والطواف، ومس المصحف). أما كون من أحدث يحرم عليه الصلاة فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (¬2). وأما كونه يحرم عليه الطواف فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام» (¬3) رواه الشافعي في مسنده. وأما كونه يحرم عليه مس المصحف فلقول الله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79]. ولقوله عليه السلام: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» (¬4) رواه الأثرم. ¬

_ (¬1) في المقنع: حرمت. (¬2) سبق تخريجه ص: 218. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (960) 3: 293 كتاب الحج، باب ما جاء في الكلام في الطواف. وأخرجه الحاكم في مستدركه 2: 267 كلاهما عن ابن عباس. وأخرجه الشافعي في مسنده عن ابن عمر 1: 348 كتاب الحج، باب: فيما يلزم الحاج بعد دخول مكة. ولفظه: «أقلوا الكلام في الطواف، فإنما أنتم في الصلاة». وقد أطال الكلام عليه الحافظ ابن حجر في تلخيصه 1: 225 - 227. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (6) 1: 122 - 123 كتاب الطهارة، باب نهي المحدث عن مس القرآن. وأخرجه الحاكم في المعرفة 3: 485. والطبراني في الكبير (3135) 3: 205. كلهم عن حكيم بن حزام، وفي إسناده سويد أبو حاتم، وهو ضعيف. ر تلخيص الحبير 1: 227.

باب الغسل

باب الغَسل قال أبو محمد بن بري: الغسل بفتح الغين. قال المصنف رحمه الله: (وموجِباته سبعة: خروج المني الدافق بلذة. فإن خرج لغير ذلك لم يوجب). أما كون موجبات الغسل سبعة؛ فلأن موجِبَه تارة يكون خروج المني، وتارة يكون التقاء الختانين، وتارة إسلام الكافر، وتارة الموت، وتارة الحيض، وتارة النفاس، وتارة الولادة. أما كون خروج المني الدافق بلذة من موجِباته فلقوله تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} [المائدة: 6]، وقوله: {ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء: 43]. وقوله عليه السلام: «إذا فضخت الماء فاغتسل» (¬1) رواه أبو داود. وأما كونه لا يوجب إذا خرج لغير ذلك؛ مثل أن يخرج لغير لذة، أو يضرب ظهره فيسبق المني، أو يسيل منه لاسترخاء في أوعيته فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف المني الموجب للغسل بكونه غليظًا أبيض» (¬2) كما يأتي وعلق الغسل على فضخه. والفضح: خروجه على وجه الشدة. ولأنه خرج على غير المعتاد فلم يوجب الغسل كما لو (¬3) خرج من غير المخرج المعتاد. فإن قيل: ما صفة المني؟ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (206) 1: 53 كتاب الطهارة، باب في المذي .... وأخرجه النسائي في سننه (193) 1: 111 كتاب الطهارة، الغسل من المني. وأخرجه أحمد في مسنده (870) ط إحياء التراث. (¬2) سيأتي تخريجه في الحديث التالي. (¬3) ساقط من ب.

قيل: مني الرجل ماء ثخين أبيض له رائحة كرائحة العجين تشتد الشهوة عند خروجه ويعقبه فتور. ومني المرأة ماء رقيق أصفر رائحته تشبه رائحة بيضٍ منتن؛ لما روى أنس «أن أم سُليم سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل. فقال - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأت ذلك فأنزلت فعليها الغسل. فقالت أم سُليم: أَوَيكون ذلك. قال: نعم. ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر. فأيهما سبق أو علا أشبهه الولد» (¬1) رواه مسلم. قال: (وإن أحس بانتقاله فأمسك ذكره فلم يخرج فعلى روايتين. فإن خرج بعد الغسل، أو خرجت بقية المني لم يجب الغسل. وعنه يجب. وعنه يجب إذا خرج قبل البول دون ما بعده). أما كون من أحس بانتقال منيه فأمسك ذكره فلم يخرج يجب عليه الغسل على روايةٍ فلقوله تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} [المائدة: 6]. لأن الجنابة مشتقة من المجانبة والمباعدة ولذلك فسر قوله تعالى: {والجار الجنب} [النساء: 36] بالبعيد في النسب. وقيل: بالبعيد في الدين. وهذا المني قد جانب محله فصاحِبُه جنب فيدخل تحت قوله تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} [المائدة: 6]. وأما كونه لا يجب عليه على روايةٍ؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الاغتسال على رؤية المني في قوله: «نعم إذا رأت الماء» (¬2). وعلقه على الفضخ في قوله: «إذا فضخت الماء فاغتسل» (¬3). ولم يوجد واحد منهما. ولأن الشهوة بمجردها لا توجب الغسل لأنها أحد وصفي العلة. والأولى هي الصحيحة في المذهب لما ذكر. ولأن المني المذكور في حكم المني المفضوخ. وأما كونه لا يجب عليه الغسل إذا خرج بعد الغسل مطلقًا على المذهب؛ فلأنها جنابة واحدة فلم يجب بها غسلاً كما لو خرج الماء دفعة واحدة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (311) 1: 250 كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المنيّ منها. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) سبق تخريجه ص: 220.

وأما كونه يجب عليه على روايةٍ؛ فلأن الاعتبار بخروجه وقد وجد. وأما كونه إن خرج قبل البول يجب عليه على روايةٍ؛ فلأن خروجه يكون لشهوة. وكونه إن خرج بعده لا يجب عليه عليها؛ فلأنه يكون بغير دفق وشهوة ولا يعقبه فتور فلم يجب الغسل لفقدان صفة المني الموجِب. وأما كون من أمنى فاغتسل ثم خرجت بقية منيه لا يجب عليه الغسل ففيه الروايات الثلاث ودليلها ما مر قبل. قال: (الثاني: التقاء الختانين. وهو: تغييب الحشفة في الفرج قبلاً كان أو دبرًا من آدمي أو بهيمة حي أو ميت). أما كون التقاء الختانين من موجبات الغسل فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل» (¬1) رواه مسلم. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو تغييب الحشفة في الفرج فتفسير لالتقاء الختانين لأن ختان الرجل موضع القطع وختان المرأة مستعل على ختان المرأة في أعلا الجلد فإذا غابت الحشفة تحاذيا والتحاذي يطلق عليه الالتقاء ومنه التقاء الفارسان إذا تحاذيا. وأما كون الدبر كالقبل والبهيمة كالآدمي والميت كالحي في إيجاب الغسل بتغييب الحشفة فلاشتراك الكل في تغييب الحشفة الموجب للغسل. ولأن التغييب المذكور في الدبر والبهيمة والميتة إيلاج في فرج فأوجب الغسل كالآدمية الحية. قال: (الثالث: إسلام الكافر أصليًا كان أو مرتدًا. وقال أبو بكر: لا غسل عليه). أما كون إسلام الكافر من موجبات الغسل على المذهب فلما روى قيس بن عاصم قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل بماء وسدر» (¬2) رواه أبو داود والنسائي. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (349) 1: 271 كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (355) 1: 98 كتاب الطهارة، باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل. وأخرجه الترمذي في جامعه (605) 2: 502 أبواب الصلاة، باب ما ذكر في الاغتسال عندما يسلم الرجل. وأخرجه النسائي في سننه (188) 1: 109 كتاب الطهارة، ذكر ما يوجب الغسل وما لا يوجبه. وأخرجه أحمد في مسنده (20634) 5: 61. قال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والعمل عليه عند أهل العلم.

وظاهر أمره الإيجاب. وأما كون المرتد كالأصلي فلاستواءهما في المعنى الذي وجب له الغسل وهو الإسلام فلا فرق بين أن يغتسل الكافر قبل إسلامه أو لا يغتسل. ولا بين من أجنب حال كفره أو لم يجنب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالغسل من غير استفصال. ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال. وأما كون الكافر إذا أسلم لا غسل عليه على قول أبي بكر؛ فلأن العدد الكثير والجمهور الغفير أسلموا زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلو أمر كل واحد بالغسل لنقل نقلاً متواترًا. قال: (والرابع: الموت. والخامس: الحيض. والسادس: النفاس. وفي الولادة وجهان). أما كون الموت من موجِبات الغسل؛ فلأن غَسل الميت مأمور به لما يأتي. ولو لم يجب بالموت لما أُمر به. والغسل المذكور تعبد لا عن حدث ولا عن نجس لأنه لو كان عن حدث لم يرتفع مع بقاء سببه كالحائض لا تغتسل من جريان الدم، ولو كان عن نجس لم يطهر مع بقاء سبب التنجيس وهو الموت وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنجسوا موتاكم؛ المؤمن طاهر حال حياته وبعد وفاته» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في مستدركه 1: 542 كتاب الجنائز. وقال: صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه الدارقطني في سننه 2: 70 كتاب الجنائز، باب المسلم ليس بنجس.

وأما كون الحيض من موجِباته؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالغسل من الحيض في أحاديث كثيرة فقال لفاطمة بنت قيس: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي» (¬1) متفق عليه. وأمر به في حديث أم سلمة (¬2) وحديث عدي عن أبيه عن جده (¬3) رواه أبو داود والترمذي. وأمر به أم حبيبة (¬4) وسهلة بنت سهيل (¬5) وغيرهما. وقد قيل في قوله تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهن ... الآية} [البقرة: 222] منع الزوج من وطئها قبل الغسل وذلك يدل على وجوبه عليها لأنها يجب عليها الوطء لزوجها فيجب عليها الغسل لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجبٌ. وأما كون النفاس من موجباته؛ فلأنه دم حيض اجتمع فوجب أن يعطى حكم الحيض. وأما كون الولادة من موجباته في وجه؛ فلأن الولد مخلوق أصله المني أشبه المني. ولأنه يُستبرأ به الرحم أشبه الحيض. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (319) 1: 124 كتاب الحيض، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض ... وأخرجه مسلم في صحيحه (334) 1: 264 كتاب الحيض، باب المستحاضة. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (357) 1: 183 كتاب الحيض، باب ذكر الأقراء. (¬3) عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «في المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة». أخرجه أبو داود في سننه (297) 1: 80 كتاب الطهارة، باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر. وأخرجه الترمذي في جامعه (126) 1: 220 أبواب الطهارة، باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (625) 1: 204 كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (274) 1: 71 كتاب الطهارة، باب في المرأة تستحاض. وأخرجه النسائي في سننه (355) 1: 182 - 183 كتاب الحيض، باب المرأة يكون لها أيام معلومة ... وأخرجه أحمد في مسنده 6: 293، 320، 322، 323. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (295) 1: 79 كتاب الطهارة، باب من قال تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهما غسلا. وقد ورد اسمها في الأصول سهلة بنت سعد، وهو وهم.

وأما كونه ليس من موجباته في وجه وهو الصحيح؛ فلأنه مني استحال وخرج على غير الوجه المعتاد أشبه العلقة. ولا بد أن يلحظ أن الولادة عرية عن الدم لأنها إذا لم تكن كذلك يكون نفاسًا موجبًا للغسل بلا خلاف لما تقدم. ولذلك ألحق بعض من أذن له المصنف رحمه الله في الإصلاح: العارية عن الدم ليخرج الولادة التي معها دم عن الخلاف المذكور. قال: (ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة آية فصاعدًا. وفي بعض آية روايتان). أما كون من لزمه الغسل يحرم عليه قراءة آية فصاعدًا فلما روى علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه لم يكن يحجبه أو يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة» (¬1) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وروى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن» (¬2) رواه أبو داود. وأما كونه يحرم عليه قراءة بعض آية في روايةٍ فلعموم الأحاديث. وأما كونه لا يحرم عليه في روايةٍ؛ فلأنه لا يحصل الإعجاز بذلك ولا يجزئ في الخطبة. ولأنه لا يُمنع الجنب من قول: {الحمد لله} [الفاتحة: 2] بالاتفاق. وهي نصف آية، ولا من قول: {بسم الله} [الفاتحة: 1]. وهي بعض آية. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (229) 1: 59 كتاب الطهارة، باب في الجنب يقرأ القرآن. وأخرجه الترمذي في جامعه، أبواب الطهارة (146) 1: 273 أبواب الطهارة، باب ما جاء في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً. بلفظ مختلف. وأخرجه النسائي في سننه (265) 1: 144 كتاب الطهارة، باب حجب الجنب من قراءة القرآن. وأخرجه ابن ماجة في سننه (594) 1: 195 كتاب الطهارة، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (131) 1: 236 أبواب الطهارة، باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن. نحوه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (596) 1: 196 كتاب الطهارة، باب ما جاء في في قراءة القرآن على غير طهارة. نحوه. ولم أره عند أبي داود.

قال: (ويجوز له العبور في المسجد، ويحرم عليه اللبث فيه إلا أن يتوضأ). أما كون من لزمه الغسل يجوز له العبور في المسجد؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا جنبًا إلا عابري سبيل} [النساء: 43]. و«لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: ناوليني الخمرة من المسجد. قالت: إني حائض. قال: إن حيضتك ليست في يدك» (¬1) متفق عليه. وعن جابر: «كنا نمر في المسجد ونحن جنب». ولا بد أن يُلحظ في المرور المذكور العذر فإن لم يكن عذرٌ لم يجز لأن له مندوحة عنه. وأما كونه يحرم عليه اللبث في المسجد إذا لم يتوضأ؛ فلأن الله تعالى قال: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء: 43]. ولأن عائشة روت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» (¬2) رواه أبو داود. فإن قيل: المنهي عنه في الآية قربان الصلاة فما وجه الاحتجاج به على تحريم اللبث في المسجد؟ قيل: المراد بالصلاة موضعها لأن الصلاة حقيقة لا يعبر فيها فحيث نَهى عن قربانها واستثنى عابر السبيل عُلم أن المراد الموضع لا الصلاة. وأما كونه لا يحرم عليه ذلك إذا توضأ فلما روى زيد بن أسلم «كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدثون في المسجد على غير وضوء. وكان الرجل يكون جنبًا فيتوضأ ثم يدخل فيتحدث» (¬3) رواه حنبل بن إسحاق صاحب أحمد. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (298) 1: 244 كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها. ولم أره عند البخاري. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (232) 1: 60 كتاب الطهارة، باب في الجنب يدخل المسجد. (¬3) لم أقف عليه، وقد أخرج ابن أبي شيبة قريبا منه عن زيد بن أسلم قال: «كان الرجل منهم يجنب ثم يدخل المسجد فيحدث فيه». (1557) 1: 135 كتاب الطهارات، الجنب يمر في المسجد قبل أن يغتسل.

وهذا إشارة إلى جميعهم، وتكرار الفعل منهم، وكونه معلومًا عندهم فيكون إجماعًا يُخص به العموم المتقدم. وعن عطاء بن يسار قال: «رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مُجنِبون إذا توضؤا وضوء الصلاة» (¬1) رواه سعيد بن منصور في سننه. ولأنه إذا توضأ خف حكم الحدث أشبه المتيمم عند عدم الماء. ودليل خفة حدثه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء لمن أراد النوم وهو جنب» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (646) 4: 1275 (طبعة آل حميد). (¬2) عن ابن عمر، «أن عمر بن الخطاب: سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيرقد أحدُنا وهو جُنُب? قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جُنُب». أخرجه البخاري في صحيحه (283) 1: 109 كتاب الغُسل، باب نوم الجُنُب.

فصل في الأغسال المستحبة

فصل [في الأغسال المستحبة] قال المصنف رحمه الله: (والأغسال المستحبة ثلاثة عشر غسلاً: للجمعة، والعيدين، والاستسقاء، والكسوف، ومن غسل الميت، والمجنون، والمغمى عليه إذا أفاقا من غير احتلام، وغسل المستحاضة لكل صلاة، والغسل للإحرام، ودخول مكة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والطواف). أما كون الغسل للجمعة من الأغسال المستحبة فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من توضأ للجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» (¬1) رواه أحمد والترمذي والنسائي. والضمير في فبها عائد إلى السنة أي فبالسنة أخذ، ونعمت يعني الخُلّة. وعن الإمام أحمد أنه واجب لقوله عليه السلام: «إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل» (¬2) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. ولقوله عليه السلام: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (¬3) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (497) 2: 369 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة. وأخرجه النسائي في سننه (1380) 3: 94 كتاب الجمعة، باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة. وأخرجه أحمد في مسنده (20176) 5: 16. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (340) 1: 94 كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة. وأخرجه الترمذي في جامعه (492) 2: 364 أبواب الطهارة، باب ما جاء في الإغتسال يوم الجمعة. وأخرجه النسائي في سننه (1376) 3: 93 كتاب الجمعة، باب الأمر بالغسل يوم الجمعة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1088) 1: 346 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة. وأخرجه أحمد في مسنده (5142) 2: 53. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (855) 1: 305 كتاب الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم. وأخرجه مسلم في صحيحه (846) 2: 580 كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال وبيان ما أمروا به.

والصحيح الأول. والأمر في الثاني محمول على الاستحباب بدليل ما تقدم. و«لأن عثمان رضي الله عنه أتى الجمعة ولم يغتسل» (¬1). وأما قوله: واجب فقد قيل كان واجبًا ثم نسخ. وقيل: أطلق الواجب على ذلك لتأكد الاستحباب كما يقول: حقك واجب علي. وأما كون الغسل للعيدين من الأغسال المستحبة فـ «لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم الفطر ويوم النحر» (¬2) رواه ابن ماجة. و«لأن عليًا وابن عمر رضي الله عنهما كانا يأمران بالغسل لهما» (¬3). ولأن صلاة العيد صلاة وقت شرط لها الجماعة أشبهت الجمعة. فإن قيل: ما وقته؟ قيل: وقت غسل الجمعة. وقيل: يجوز قبل طلوع الفجر بخلاف الجمعة. والفرق بينهما أن وقت العيد ضيق فلو لم يجز إلا بعد طلوع الفجر لتطرق الفوات إلى كثير من الناس بخلاف الجمعة فإن وقتها واسع فلا يؤدي عدم الجواز قبل الفجر إلى ذلك. وأما كون الغسل للاستسقاء والكسوف من الأغسال المستحبة؛ فلأن الصلاة لكل واحد منهما يسن لها الاجتماع فيسن لها الغسل كالجمعة. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 294 كتاب الطهارة، باب الدلالة على أن الغسل يوم الجمعة سنة اختيار. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1316) 1: 417 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الإغتسال في العيدين، وفي إسناده يوسف بن خالد، قال عنه ابن معين: كذاب، خبيث، زنديق، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث، أفاد ذلك البوصيري في زوائده. (¬3) أما أثر علي فقد أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 278 كتاب صلاة العيدين، باب: غسل العيدين. وأما أثر ابن عمر فقد أخرجه مالك في موطئه (2) 1: 160 كتاب العيدين، باب: العمل في غسل العيدين ... عن نافع أن عبدالله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر، قبل أن يغدو إلى المصلى. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 278 كتاب صلاة العيدين، باب: غسل العيدين.

وأما كون الغسل من غسل الميت منها فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من غسل ميتًا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ» (¬1) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن. وروي عن علي وأبي هريرة (¬2) رضي الله عنهما أنهما قالا: «من غسل ميتًا فليغتسل» (¬3). وأدنى أحوال ذلك الاستحباب. وأما كون الغسل للمجنون والمغمى عليه إذا أفاقا من غير احتلام منها: أما المجنون؛ فلأنه يستحب للمغمى عليه لما يأتي؛ فلأن يستحب للمجنون بطريق الأولى. وأما المغمى عليه فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغمي عليه فاغتسل» (¬4) متفق عليه. ولأنه مختلف في وجوبه وأدنى أحواله الاستحباب. وأما كون غسل المستحاضة لكل صلاة منها فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المستحاضة بالغسل فكانت تغتسل لكل صلاة» (¬5) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2749) 3: 201 كتاب الجنائز، باب الغسل من غسل الميت. وأخرجه الترمذي في جامعه (993) 3: 318 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1463) 1: 470 كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت. وأخرجه أحمد في مسنده (9863) 2: 454. (¬2) في ب: وأبو هريرة. (¬3) أما أثر علي فقد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11149) 2: 470 كتاب الجنائز، من قال على غاسل الميت غسل. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 305 كتاب الطهارة، باب الغسل من غسل الميت. بمثل لفظ المصنف. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (424) 1: 33 بلفظ: كان علي إذا غسل ميتا اغتسل. وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11152) 2: 470 كتاب الجنائز، من قال على غاسل الميت غسل. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 303 كتاب الطهارة، باب الغسل من غسل الميت. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (655) 1: 243 كتاب الجماعة والإمامة، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به. وأخرجه مسلم في صحيحه (418) 1: 311 كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (321) 1: 124 كتاب الحيض، باب عرق الاستحاضة. وأخرجه مسلم في صحيحه (334) 1: 264 كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها.

ولأنه يجوز انقطاع الدم المختص بالحيض حينئذ. ولأن فيه تخفيفًا لحدثها لما تقدم في الجنب. وأما كون الغسل للإحرام منها فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل وتهل» (¬1) رواه مسلم. فإن قيل: إنما أمرها بذلك لما هي فيه من النفاس وهذا المعنى مفقود في كل محرم. قيل: ليس الأمر كذلك. وإنما أمرها به للإحرام لأن حدث النفاس مستمر والغسل لا يؤثر فيه. فعلى هذا يستحب في حق كل محرم لاشتراك الكل في الإحرام. ويعضد ذلك «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإحرامه واغتسل» (¬2) رواه الترمذي. وعن عائشة «أنه كان إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأُشنان» (¬3) رواه البخاري. وأما كون الغسل لدخول مكة منها فلما روى ابن عمر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات حتى صلى الصبح واغتسل ثم دخل مكة» (¬4) رواه مسلم بمعناه. وأما كون الغسل للوقوف بعرفة منها فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم عرفة» (¬5) رواه ابن ماجة. وروى مالك في الموطأ «أن ابن عمر كان يغتسل إذا راح إلى عرفة» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1210) 2: 869 كتاب الحج، باب إحرام النفساء ... (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (830) 3: 192 كتاب الحج، باب ما جاء في الإغتسال عند الإحرام. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (23350) 6: 78. وأخرجه الدارقطني في سننه 2: 226 كتاب الحج، ولم أره عند البخاري. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1478) 2: 562 كتاب الحج، باب الإهلال مستقبل القبلة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1259) 2: 919 كتاب الحج، باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة، والاغتسال لدخولها. (¬5) أخرجه ابن ماجة في سننه (1316) 1: 417 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الاغتسال في العيدين. (¬6) أخرجه مالك في موطئه (3) 1: 264 كتاب الحج، باب الغسل للإهلال.

وأما كون الغسل للمبيت بمزدلفة ورمي الجمار والطواف منها؛ فلأنها مواضع يجتمع لها الناس ويزدحمون ويعرقون فيؤذي بعضهم بعضًا بالعرق والرائحة فاستحب فيها الغسل تنظيفًا وتخفيفًا كالجمعة.

فصل في صفة الغسل

فصل في صفة الغسل قال المصنف رحمه الله: (وهو ضربان: كامل يأتى فيه بعشرة أشياء: النية، والتسمية، وغسل يديه ثلاثًا، وغسل ما به من أذى، والوضوء، ويحثي على رأسه ثلاثًا يروي بها أصول الشعر، ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثًا، ويبدأ بشقه الأيمن، ويدلك بدنه بيديه، وينتقل من موضعه فيغسل قدميه. ومجزئ وهو: أن يغسل ما به من أذى وينوي ويعم بدنه بالغسل). أما كون الغسل ضربين كاملاً ومجزءًا؛ فلأنه تارة يشتمل على فروضه وسننه ويسمى كاملاً لرجحانه على غيره، وتارة على فروضه فقط ويسمى مجزءًا لحصول الإجزاء به. وأما كون الكامل ما يُؤتى فيه بالأشياء المذكورة؛ فلأن كل واحد منها إما واجب وإما مسنون: أما النية فواجبة لما يأتي في المجزئ، وأما التسمية فواجبة أو مسنونة على الاختلاف المذكور في الوضوء لكن الغسل آكد من الوضوء وقد جاء فيه: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (¬1). وأما غسل يديه ثلاثًا؛ فلأن في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل للجنابة غسل يديه ثلاثًا» (¬2) متفق عليه. وأما غسل ما به من أذى والمراد به ما على فرجه من نجاسة أو مني أو نحو ذلك؛ فلأن في حديث ميمونة: «ثم غسل فرجه» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (101) 1: 25 كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (399) 1: 140 كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية في الوضوء. وأخرجه أحمد في مسنده (9408) 2: 418. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (269) 1: 105 كتاب الغسل، باب تخليل الشعر ... وأخرجه مسلم في صحيحه (316) 1: 253 كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (256) 1: 102 كتاب الغسل، باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة. وأخرجه مسلم في صحيحه (317) 1: 254 كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة.

وأما الوضوء؛ فلأن في حديث عائشة المتقدم: «وتوضأ وضوءه للصلاة» (¬1). وفي حديث ميمونة: «ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه» (¬2). وأما حثي الماء على رأسه ثلاثًا وغسل سائر جسده؛ فلأن في حديث عائشة المتقدم: «حتى إذا ظن أنه قد روى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات. ثم غسل سائر جسده» (¬3) متفق عليه. وفي حديث ميمونة: «ثم أفاض على رأسه. ثم غسل جسده» (¬4). وأما تروية أصول الشعر؛ فلأن ذلك مما لا بد منه لقوله عليه السلام: «إن تحت كل شعرة جنابة. فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة» (¬5) رواه أبو داود. وإذا كان لا بد منه استحال أن يكون الغسل كاملاً بدونه. وأما البدائة بشقه الأيمن؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يعجبه التيمن في تنعله وتَرَجُّلِه وطَهوره وفي شأنه كله» (¬6) متفق عليه. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «كان إذا اغتسل للجنابة بدأ بشقه الأيمن ثم الأيسر» (¬7). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 232. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (263) 1: 104 كتاب الغسل، باب من أفرغ بيمينه على شماله في الغسل. (¬3) سبق تخريجه ص: 232. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (270) 1: 106 كتاب الغسل، باب من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده ولم يعد غسل مواضع الوضوء. وأخرجه مسلم في صحيحه (316) 1: 253 كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (248) 1: 65 كتاب الطهارة، باب الغسل من الجنابة. وأخرجه الترمذي في جامعه 1: 71 كتاب الطهارة، باب ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة. وأخرجه ابن ماجة في سننه 1: 196 كتاب الطهارة، باب تحت كل شعرة جنابة. وفي إسناده الحارث بن وجيه الراسبي. قال فيه أبو داود بعد ذكر الحديث: الحارث بن وجيه حديثه منكر وهو ضعيف. وقال الترمذي: حديث الحارث بن وجيه حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وهو شيخ ليس بذاك. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (166) 1: 74 كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل. وأخرجه مسلم في صحيحه (268) 1: 226 كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (255) 1: 102 كتاب الغسل، باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل. وأخرجه مسلم في صحيحه (318) 1: 255 كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة.

وأما دلك بدنه [بيديه] (¬1) فلئلا يبقى موضع من بدنه غير مغسول. وأما الانتقال من موضع غسله وغسل قدميه؛ فلأن في حديث ميمونة: «ثم تنحى فغسل رجليه» (¬2). وأما كون المجزئ أن يغسل ما به من أذى وينوي ويعم بدنه بالغسل؛ فلأن ذلك كله واجب. أما غسل ما به من أذى -والمراد به ما تقدم-؛ فلأن ذلك: إما نجس، وإما مانع من وصول الماء إلى ما تحته مما يجب غسله. وأما النية؛ فلأن الله تعالى قال: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5]. ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى» (¬3). وقال عليه السلام: «لا عمل إلا بنية» (¬4). وأما تعميم البدن بالغسل؛ فلأنه لا يقع اسم الغسل بدون إصابة الماء لجميع البدن. ولم يذكر المصنف رحمه الله التسمية وذلك يدل على عدم وجوبها عنده. ونص في المغني أن أمرها في الغسل أخف؛ لأن حديث التسمية في الوضوء إنما يتناول بصريحه الوضوء لا غير. وغير المصنف رحمه الله يختار وجوبها فيهما. فعلى هذا لا بد من التسمية في المجزئ. ونص على ذكرها فيه أبو الخطاب. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) سبق تخريج حديث ميمونة ص: 233. (¬3) سبق تخريجه ص: 188. (¬4) سبق تخريجه ص: 147.

قال: (ويتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع. فإن أسبغ بدونهما أجزأه). أما كون المتوضئ يتوضأ بالمد والمغتسل يغتسل بالصاع فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغسله الصاع من الجنابة ويوضؤه المد» (¬1) رواه مسلم. فإن قيل: ما قدر الصاع والمد؟ قيل: الصاع خمسة أرطال وثلث؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لكعب بن عجرة: «أطعم ستة مساكين فَرَقًا من طعام» (¬2). قال أبو عبيد: لا خلاف بين الناس أعلم أن الفَرَق ثلاثة آصع، والفَرَق ستة عشر رطلاً. فثبت أن الصاع خمسة أرطال وثلث. وروي «أن أبا يوسف دخل المدينة وسألهم عن الصاع. فقالوا: خمسة أرطال وثلث. فطالبهم بالحجة. فقالوا: غدًا. فجاء من الغد سبعون شيخًا كل واحد منهم آخذ صاعه تحت ردائه. فقال: صاعي ورثته عن أبي وورثه أبي عن جدي حتى انتهوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فرجع أبو يوسف عن قوله» (¬3). وهذا إسناد متواتر يفيد القطع. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المكيال مكيال المدينة» (¬4). والمد ربع الصاع. فوزنه على ما ذكر رطل وثلث. وأما كون الإسباغ. ومعناه: أن يعم جميع الأعضاء بالماء بحيث يجري عليها يجزئ؛ فلأن هذا هو الغسل. فإذا أتى به فقد أتى بما أمر به. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (326) 1: 258 كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3927) 4: 1527 كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية. وأخرجه مسلم في صحيحه (1201) 2: 861 كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ... (¬3) انظر القصة في الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص: 63 - 64. والأموال ص: 463. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3340) 3: 246 كتاب البيوع، باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المكيال مكيال أهل المدينة». وأخرجه النسائي في سننه (2520) 5: 54 كتاب الزكاة، كم الصاع.

وقد روي عن عائشة رضي الله عنها «أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبًا من ذلك» (¬1) رواه مسلم. قال: (وإذا اغتسل ينوي الطهارتين أجزأ عنهما. وعنه لا يجزئه حتى يتوضأ (¬2». أما كون الغسل المذكور يجزئ عنه وعن الوضوء على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا جنبًا إلا عابري سبيل ... الآية} [النساء: 43] جعل الاغتسال نهاية المنع من الصلاة فيجب أنه إذا اغتسل تجوز له الصلاة. ولأنهما عبادتان فوجب أن تدخل الصغرى في الكبرى كما تدخل العمرة في الحج. وأما كونه لا يجزئه حتى يتوضأ على روايةٍ فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ لما اغتسل للجنابة» (¬3). وأُمرنا باتباعه. ولأن الحدث والجنابة وجدا منه فوجب لهما طهارتان كما لو كانا منفردين. ولأن الترتيب شرط في رفع الحدث الأصغر [على الصحيح] (¬4) ولم يوجد. قال: (ويستحب للجنب إذا أراد النوم (¬5) أو الأكل أو الوطء ثانيًا أن يغسل فرجه ويتوضأ). أما كون الجنب يستحب له أن يغسل فرجه في جميع ما ذكر فلإزالة ما عليه من الأذى. وأما كونه يستحب له أن يتوضأ إذا أراد النوم فلما روى ابن عمر «أن عمر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم. إذا توضأ أحدكم فليرقد» (¬6) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (321) 1: 256 كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة ... (¬2) في المقنع: يتوضأ عنهما. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (277) 1: 108 كتاب الغسل، باب التستر في الغسل عند الناس. وأخرجه مسلم في صحيحه (317) 1: 254 كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة. (¬4) زيادة من ج. (¬5) ساقط من (ب). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (283) 1: 109 كتاب الغسل، باب نوم الجنب. وأخرجه مسلم في صحيحه (306) 1: 248 كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له ...

وإنما لم يجب عليه ذلك لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب ولا يمس ماء» (¬1) رواه الترمذي. ويجب حمل الأول على الاستحباب وحمل هذا على الجواز لما فيه من الجمع بينهما. وأما كونه يستحب له ذلك إذا أراد الأكل فلما روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ. يعني وهو جنب» (¬2) رواه أبو داود. وأما كونه يستحب له ذلك إذا أراد الوطء ثانيًا فلما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ» (¬3) رواه مسلم. وإنما لم يجب عليه ذلك لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت له حاجة إلى أهله أتاهم ثم يعود ولا يمس ماء» (¬4) رواه أحمد. والحمل كما تقدم لما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (228) 1: 58 كتاب الطهارة، باب في الجنب يؤخر الغسل. وأخرجه الترمذي في جامعه (118) 1: 202 أبواب الطهارة، باب ما جاء في الجنب ينام قبل أن يغتسل. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (222) 1: 57 كتاب الطهارة، باب الجنب يأكل. وأخرجه مسلم في صحيحه (305) 1: 248 كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له ... ، بلفظ: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة». (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (308) 1: 249 كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له ... (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (24822) 6: 109.

باب التيمم

باب التيمم التيمم في اللغة: القصد. قال الله تعالى: {ولا تَيَمّموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267] أي ولا تقصدوا الخبيث منه تنفقون. وقال امرؤ القيس: تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضَارِجٍ ...... يَفِيء عليها الظِلُّ عَرْمَضها طَامِي أي قصدت العين المذكورة. وفي الشرع: عبارة عن مسح الوجه واليدين بشيء من الصعيد على وجه مخصوص بنية مخصوصة. وهو جائز بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6]. وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «جعلت لي الأرض مسجدًا وترابها طهورًا» (¬4) رواه مسلم. قال المصنف رحمه الله: (وهو بدل لا يجوز إلا بشرطين: أحدهما: دخول الوقت. فلا يجوز لفرضٍ قبل وقته، ولا لنفلٍ في وقت النهي عنه). أما كون التيمم بدلاً والمراد عن الماء؛ فلأنه مرتب عليه ويجب فعله عند عدمه ولا يجوز عند وجوده لغير عذر وذلك شأن البدل. وأما كونه لا يجوز إلا بشرطين فلما يأتي ذكره فيهما. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (522) 1: 371 كتاب المساجد، باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه. عن حذيفة.

وأما كون أحدهما دخول الوقت؛ فلأن التيمم طهارة ضرورة فاشترط فيها دخول الوقت كطهارة المستحاضة. أو يقال: تيمم في وقت [هو] (¬1) مستغنٍ عنه أشبه التيمم عند وجود الماء. فعلى هذا لا يجوز لفرض قبل وقته لانتفاء شرطه، ولا لنفل في وقت النهي عنه لأن وقت النهي ليس وقتًا للنافلة أشبه التيمم لفرضٍ قبل وقته. قال: (الثاني: العجز عن استعمال الماء لعدمه، أو لضرر في استعماله من جرح، أو برد شديد، أو مرض يخشى زيادته، أو تطاوله، أو عطش يخافه على نفسه، أو رفيقه، أو بهيمته، أو خشية على نفسه، أو ماله في طلبه، أو تعذره إلا بزيادة كثيرة على ثمن مثله، أو ثمن يعجز عن أدائه). أما كون ثاني شرطي التيمم العجز عن استعمال الماء كما ذُكر؛ فلأن غير العاجز المذكور يجد الماء على وجهٍ لا يضره [استعماله] (¬2) فلا يدخل في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6] ولا في سائر الأدلة الآتي ذكرها في مواضعها. وأما قول المصنف رحمه الله: لعدمه أو لضرر في استعماله فبيان لتنويع العجز. وذلك يكون تارة لعدمه. والأصل فيه ما تقدم من الآية والخبر، وفي حديث آخر: «التراب كافيك ما لم تجد الماء» (¬3). وتارة لضرر في استعماله. وهو أنواع أيضًا: أحدها: أن يكون من جرح. والأصل فيه قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. وما روى جابر قال: «خرجنا في سفر. فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه. فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل. فمات. فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بذلك. فقال: قتلوه قتلهم الله. ألا سألوا إذا لم يعلموا. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر ويعصب على جرحه. ثم يمسح عليه. ويغسل سائر جسده» (¬4) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) زيادة من ج. (¬3) سبق تخريجه ص: 100. (¬4) سبق تخريجه ص: 157.

وثانيها: أن يكون من برد شديد. والأصل فيه ما روى عمرو بن العاص قال: «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل. فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك. فتيممت وصليت مع أصحابي الصبح. فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: يا عمرو! أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال. ثم قلت: سمعت الله تعالى يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئًا» (¬1) رواه أبو داود. وثالثها: أن يكون من مرض. والأصل فيه قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6]، وقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. ولأنه إذا جاز لشدة البرد؛ فلأن يجوز للمرض بطريق الأولى. ويشترط للمرض المجوز أن يخشى تطاوله أو زيادته؛ لأن من لا يخشى ذلك لا يخاف الضرر. والتيمم للمرض يلحظ فيه خوف الضرر، [ولا ضرر في الماء مع ذلك كله] (¬2). وعن الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يجوز التيمم إلا لمن خاف التلف كما إذا جبر زنده بعظم نجس. والأول أولى؛ لأن مقتضى الآية الأولى جواز التيمم للمريض مطلقًا. تُرك العمل به فيمن لا يخشى ما تقدم ذكره، [وفيمن مرضه يسير، وفيمن يمكنه استعمال الماء المسخن] (¬3) لما تقدم فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاها. ورابعها: أن يكون من عطش يخافه على نفسه. والأصل فيه أنه خائف على نفسه باستعمال الماء فجاز له التيمم كالمريض. وخامسها: أن يكون ذلك من عطش يخافه على رفيقه. والأصل فيه أنه يجب عليه بذله إذا خاف تلفه فجاز التيمم كما لو خاف على نفسه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (334) 1: 92 كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم. وأخرجه أحمد في مسنده (17356) ط إحياء التراث. (¬2) زيادة من ج. (¬3) زيادة من ج.

وسادسها: أن يكون ذلك من عطش يخاف على بهيمته. والأصل فيه أن للروح حرمة. ولذلك يجب عليه سقيها. فإذا خاف عليها العطش ترك لها ما معه من الماء وتيمم كما يفعل ذلك مع نفسه. وسابعها: أن يكون ذلك خشية على نفسه أو ماله إن طلب المال. والأصل في ذلك أن في طلبه ضررًا والضرر منفي شرعًا. وثامنها: أن يكون ذلك لتعذره إلا بزيادة كثيرة على ثمن مثله. والأصل في ذلك أن الزيادة على ثمن المثل تجعل الموجود حسًا معدومًا شرعًا. دليله الرقبة في الكفارات. وتاسعها: أن يكون ذلك لتعذره إلا بثمن يعجز عن أدائه. والأصل فيه أن العجز عن الثمن يبيح الانتقال إلى البدل. دليله العجز عن ثمن الرقبة في الكفارة. قال: (فإن كان بعض بدنه جريحًا تيمم له وغسل الباقي. وإن وجد ماء يكفي بعض بدنه لزمه استعماله وتيمم للباقي إن كان جنبًا. وإن كان محدثًا فهل يلزمه استعماله؟ على وجهين). أما كون من بعض بدنه جريح يتيمم لجرحه ويغسل الباقي؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث جابر المتقدم: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه، ويغسل سائر جسده» (¬1). فإن قيل: الحديث يدل على الجمع بين المسح والتيمم، ولم يذكر المصنف رحمه الله المسح. قيل: فيه روايتان: إحداهما: يجب الجمع لما ذكر من الحديث. والثانية: لا يجب لأنه جمع بين بدل ومبدل. وذلك لا يجب كالصيام والإطعام. والحديث محمول على جواز المسح بعد ذلك ولذلك ذكره بثم المقتضية للتراخي. ¬

_ (¬1) سبق ذكره في الحديث قبل السابق.

وأما كون من وَجد ما يكفي بعض بدنه يلزمه استعمال ذلك إن كان جنبًا؛ فلأنه قدر على استعمال بعض الواجب فلزمه لقوله عليه السلام: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬1) رواه البخاري. ولأن العجز عن إيصال الماء إلى البعض لا يقتضي سقوطه عن إيصاله إلى الباقي قياسًا على عادم بعض أعضائه. وأما كونه يتيمم للباقي؛ فلأنه عادم لماءٍ يغسله به فلزمه التيمم له لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6]. فعلى هذا يجب أن يقدم استعمال الماء على التيمم ليكون عند التيمم عادمًا للماء. وأما كونه يلزمه استعماله إن كان محدثًا على وجه فلعموم الأدلة المذكورة في الجنب، وقياسًا على الجنب. وأما كونه لا يلزمه على وجه؛ فلأن الموالاة من فروض الوضوء في الصحيح من المذهب فإذا غسل بعض الأعضاء دون بعض لم يفد شيئًا بخلاف الجنب. قال: (ومن عدم الماء لزمه طلبه في رحله وما قرب منه. وإن دل عليه قريبًا لزمه قصده. وعنه لا يجب الطلب. وإن نسي الماء بموضع يمكنه استعماله وتيمم لم يجزئه). أما كون من عدم الماء يلزمه طلبه على المذهب؛ فلأن الله تعالى أباح التيمم بشرط عدم الوجدان. ولا يقال لم يجد إلا لمن طلب. ولأنه بدل فلم يجز العدول إليه قبل الطلب للمبدل كالصيام في الظِّهار. وأما كونه لا يلزمه طلبه على روايةٍ؛ فلأن كل عبادة تعلق وجوبها بوجود شرط لم يلزمه طلب ذلك الشرط كالمال في الحج والزكاة. ولأنه غير عالم بوجوده أشبه ما لو طلب فلم يجد. والأول أصح؛ لما تقدم. ولأن الماء شرط لصحة الصلاة فلزم الاجتهاد في طلبه عند إعوازه كالقبلة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 154.

وأما كونه يطلب ذلك في رحله وما قرب منه؛ فلأن ذلك هو الموضع الذي يطلب فيه الماء عادة. والمراد بما قرب الميل والميلان والثلاث. نص عليه الإمام أحمد. وأما كونه يلزمه قصده إذا دله عليه قريبًا ثقة؛ فلأنه قادر على استعمال شرط العبادة بقطع مسافة قريبة فلزمه ذلك كغيره من الشروط. وأما كون من نسي الماء بموضع يمكنه استعماله إذا تيمم لا يجزئه؛ فلأن النسيان لا يخرجه عن كونه واجدًا، وشرط إباحة التيمم عدم الوجدان. ولأنها ضرورة تجب مع الذكر فلم تسقط بالنسيان كالحدث. قال: (ويجوز التيمم لجميع الأحداث، وللنجاسة على جرح تضره إزالتها. فإن تيمم للنجاسة لعدم الماء وصلى فلا إعادة عليه إلا عند أبي الخطاب). أما كون التيمم لجميع الأحداث يجوز: أما للحدث الأكبر وهو الجنابة؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6]. والملامسة الجماع. ولأن عمران بن حصين روى «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم. فقال: يا فلان! ما منعك أن تصلي مع القوم؟ فقال: أصابتني جنابة ولا ماء. فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك» (¬1) متفق عليه. وفي حديث عمار «أنه لما أجنب تمعَّك في التراب. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إنما كان يكفيك أن تقول هكذا. ثم ضرب بيديه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفيه» (¬2). وأما الحدث الأصغر وهو الوضوء فلما تقدم من قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [المائدة: 6]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (337) 1: 131 كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء. وأخرجه مسلم في صحيحه (682) 1: 476 كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (340) 1: 133 كتاب التيمم، باب التيمم ضربة. وأخرجه مسلم في صحيحه (368) 1: 279 كتاب الحيض، باب التيمم.

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين» (¬1) رواه أبو داود. ولأنه إذا جاز للحدث الأكبر؛ فلأن يجوز للحدث الأصغر بطريق الأولى. وأما النجاسة على جرح يضره إزالتها؛ فلأنه يمنع من الصلاة معها فجاز أن يتيمم لها عند العجز عن استعمال الماء كالحدث. ولأن ذلك يدخل في قوله عليه السلام: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين» (¬2) رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث صحيح. وأما كون من تيمم للنجاسة لعدم الماء وصلى لا إعادة عليه عند غير أبي الخطاب؛ فلأنه وجب عليه طهارة ناب عنها التيمم فلم تجب الإعادة عليه كطهارة الحدث. وأما كونه عليه الإعادة عند أبي الخطاب؛ فلأن النجاسة عذر نادر غير دائم فوجبت الإعادة معه عليه كعادم الماء والتراب. ولأنه صلى بالنجاسة فوجبت عليه الإعادة كما لو تيمم. قال: (وإن تيمم في الحضر خوفًا من البرد وصلى ففي وجوب الإعادة روايتان). أما كون الإعادة تجب فيما ذكر على روايةٍ؛ فلأنه عذر نادر فوجبت الإعادة معه كنسيان الطهارة. وأما كونها لا تجب على روايةٍ فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر عمرو بن العاصي بالإعادة» (¬3) مع أنه عذر نادر ولو وجبت لأمره. وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (332) 1: 90 كتاب الطهارة، باب الجنب يتيمم. وأخرجه الترمذي في جامعه (124) 1: 211 أبواب الطهارة، باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء. كلاهما من حديث أبي ذر. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) سبق ذكره وتخريجه ص: 240.

قال: (ولو عدم الماء والتراب صلى على حسب حاله. وفي الإعادة روايتان). أما كون من عدم ما ذكر يصلي على حسب حاله فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬1). ولأن من عدم الماء والتراب عدم شرط الصلاة ولم يبق له بدل وذلك يوجب الصلاة على حسب الحال؛ لما روت عائشة «أنها استعارت من أسماء قلادة. فهلكت. فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجالاً في طلبها. فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء. فصلوا. فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت آية التيمم» (¬2) متفق عليه. وأما كونه يعيد في روايةٍ؛ فلأن الخلل في الصلاة إذا كان لعذر نادر لا يشق تسقط به الإعادة لأنه يمكنه تدارك الخلل مع عدم المشقة. وأما كونه لا يعيد في روايةٍ فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر الذين بعثهم بالإعادة» (¬3). قال: (ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد. فإن خالطه ذو غبار لا يجوز التيمم به كالجص ونحوه فهو كالماء إذا خالطته الطاهرات). أما كون التيمم لا يجوز إلا بتراب طاهر؛ فلأن الله تعالى قال: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} [المائدة: 6]. قال ابن عباس: «الصعيد تراب الحرث، والطيب الطاهر» (¬4). ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وترابها طهورًا» (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 154. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (329) 1: 128 كتاب التيمم، باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا. وأخرجه مسلم في صحيحه (367) 1: 279 كتاب الحيض، باب التيمم. (¬3) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬4) أخرج ابن أبي شيبة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال: «أطيب الصعيد الحرث وأرض الحرث». 1: 161. وأخرج البيهقي مثله في السنن الكبرى 1: 214 كتاب الطهارة، باب الدليل على أن الصعيد الطيب هو التراب. (¬5) سبق تخريجه ص: 238.

فإن قيل: الآية والخبر يدلان على جواز التيمم بالتراب الطاهر فما وجه كونه لا يجوز بغيره؟ قيل: الآية مسوقة لبيان ما يجوز فعله عوضًا عن الماء وذلك يفيد ما ذكر. ولأن الخبر يدل على اختصاص التراب بالجواز لأنه ذكره فيما فضّله الله به على سائر الأنبياء فلو جاز بغيره أيضًا لذكره لأن فيه ازياد فضيلة. وأما كونه لا يجوز بتراب لا غبار له يعلق باليد؛ فلأن الله تعالى قال: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6]. وما لا غبار له يعلق باليد لا يمسح بشيء منه. وأما كونه ما خالطه ذو غبار لا يجوز التيمم به كالجص ونحوه كالماء إذا خالطته الطاهرات؛ فلأنه طهور خالطه غير طهور أشبه الماء إذا خالطه غيره من الطاهرات. فإن قيل: ما معنى قول المصنف رحمه الله: فهو كالماء إذا خالطته الطاهرات. قيل: معناه أن المخالط إن غلبت أجزاؤه على أجزاء التراب أو غيّرتها لم يجز التيمم به كالماء إذا خالطته الطاهرات فغلبت على أجزائه أو غيّرته لأن كل واحد من الغلبة والتغيّر يمنع من استعمال الماء وهو الأصل؛ فلأن يمنع من استعمال التراب وهو بدله بطريق الأولى.

فصل [فرائض التيمم] قال المصنف رحمه الله: (وفرائض التيمم أربعة: مسح وجهه، ويديه إلى كوعيه، والترتيب، والموالاة على إحدى الروايتين). أما كون فرائض التيمم أربعة؛ فلأنها مسح جميع وجهه، ويديه إلى كوعيه، وترتيب ذلك، والموالاة فيه. وسيأتي ذكر دليل ذلك في مواضعه. وأما كون مسح الوجه واليدين من فرائضه فلقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6]. وأما كون المسح بجميع الوجه واليدين إلى الكوعين؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح جميع وجهه ويديه إذا تيمم لأن في حديث عمار «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح اليمين على الشمال وظاهر كفيه ووجهه» (¬1). وأما كون مسح اليدين إلى الكوعين لا غير فللحديث المتقدم. ولأن المسح حكم علق على مطلق اليد فلم يدخل فيه الذراع كقطع يد السارق [ومس الفرج] (¬2). وأما كون الترتيب والموالاة من فرائضه على الخلاف؛ فلأن التيمم بدل عن الوضوء فوجب أن يثبت فيه ما يثبت في الأصل بالقياس عليه. قال: (ويجب تعيين النية لما يتيمم له من حدث أو غيره. فإن نوى جميعها جاز، وإن نوى أحدها لم يجزئه عن الآخر، وإن نوى نفلاً، أو أطلق النية للصلاة لم يصل إلا نفلاً). أما كون تعيين النية لما يتيمم له من حدث أو غيره يجب؛ فلأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يبيح الصلاة فلم يكن بد من التعيين تقوية لضعفه. ¬

_ (¬1) سبق تخريج حديث عمار ص: 205. (¬2) زيادة من ج.

فإن قيل: ما صفة التعيين؟ قيل: أن ينوي استباحة الصلاة من الجنابة والحدث إن كان جنبًا محدثًا، أو من الجنابة إن كان جنبًا، أو من الحدث إن كان محدثًا، أو ما أشبه ذلك. وأما كون من نوى الجميع يجوز له ذلك والمراد به أنه يجزئه؛ فلأن كل واحد يدخل في العموم فيكون منويًا. وأما كون من نوى أحدها مثل أن ينوي الجنابة أو الحدث الأصغر لا يجزئه عن الآخر؛ فلأن البعض غير منوي فيدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عمل إلا بنية» (¬1). وأما كون من نوى نفلاً لا يصلي به إلا نفلاً؛ فلأن غير النفل غير منوي لا صريحًا ولا بطريق التضمين. وأما كون من أطلق النية للصلاة لا يصلي إلا نفلاً؛ فلأن تعيين النية شرط ولم يوجد في الفرض وإنما أبيح النفل لأنه أقل ما يحمل عليه الإطلاق. قال: (وإن نوى فرضًا فله فعله، والجمع بين الصلاتين، وقضاء الفوائت، والتنفل إلى آخر الوقت). أما كون من نوى الفرض له فعله؛ فلأنه منوي. وأما كونه له الجمع بين الصلاتين؛ فلأنهما في حكم صلاة واحدة. وأما كونه له قضاء الفوائت؛ فلأن تيممه باق إلى خروج الوقت ولم يوجد ما يبطله. وأما كونه له التنفل إلى آخر الوقت؛ فلأنه إذا جاز له قضاء الفوائت؛ فلأن يجوز له التنفل بطريق الأولى؛ لأن النفل أخف من ذلك. قال: (ويبطل التيمم بخروج الوقت، ووجود الماء، ومبطلات الوضوء). أما كون التيمم يبطل بخروج الوقت فلقول علي رضي الله عنه: «التيمم لكل صلاة» (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 147. (¬2) أخرجه ابن المنذر في الأوسط 2: 57. وأخرجه الدارقطني في سننه (2) 1: 184 كتاب الطهارة، باب التيمم ...

و «كان ابن عمر يتيمم لكل صلاة» (¬1). ولأن التيمم طهارة ضرورة فتقيدت بالوقت كطهارة المستحاضة. وأما كونه يبطل بوجود الماء؛ فلأن مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك» (¬2) يدل على أنه ليس بوضوء عند وجود الماء. وأما كونه يبطل بمبطلات الوضوء؛ فلأنها تبطل المبدل؛ فلأن يبطل البدل بطريق الأولى. قال: (وإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه ثم خلعه لم يبطل تيممه. وقال أصحابنا: يبطل). أما كون التيمم لا يبطل بخلع المتيمم ما يجوز له المسح عليه. وهو اختيار المصنف رحمه الله؛ فلأن التيمم طهارة لم يمسح على الملبوس فيها فلم يبطل بالخلع كالملبوس على غير طهارة. وأما كونه يبطل بذلك على قول الأصحاب؛ فلأنه من مبطلات الوضوء والمبطل للوضوء مبطل للتيمم لما تقدم. قال: (وإن وجد الماء بعد الصلاة لم تجب إعادتها، وإن وجده فيها بطلت. وعنه لا تبطل). أما كون من وجد الماء بعد الصلاة لا تجب عليه إعادة الصلاة فلما روى عطاء بن يسار قال: «خرج رجلان في سفر. فحضرت الصلاة وليس معهما ماء. فتيمما صعيدًا طيبًا. فصليا. ثم وجدا الماء في الوقت. فأعاد أحدهما الوضوء ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المنذر في الأوسط 2: 57. وأخرجه الدارقطني في سننه (4) 1: 184 كتاب الطهارة، باب التيمم ... وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 221 كتاب الطهارة، باب التيمم لكل فريضة. من قول ابن عمر. قال البيهقي: إسناده صحيح. وقال ابن التركماني: فيه عامر الأحول عن نافع، وعامر ضعفه ابن عيينة وابن حنبل، وفي سماعه من نافع نظر. وقال ابن حزم: والرواية عنه عن ابن عمر لا تصح. اهـ (¬2) سبق تخريجه ص: 206.

والصلاة ولم يعد الآخر. ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له. فقال للذي لم يعد: أجزأتك صلاتك، وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين» (¬1) رواه أبو داود. ولأنه أدى صلاته بطهارة صحيحة أشبه ما لو أداها بالماء. وأما كون من وجد الماء تبطل صلاته في روايةٍ فلعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك» (¬2). وأما كونه لا يبطل في روايةٍ؛ فلأنه شَرَع في المقصود أشبه المكفِّر إذا قدر على الإعتاق بعد شروعه في الصيام. والأولى أصح في المذهب؛ لأنه يروى عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه قال: كنت أقول يمضي. ثم تدبرت الأحاديث فإذا أكثرها أنه يخرج. وهذا يدل على رجوعه عن الرواية الثانية. قال: (ويستحب تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء. فإن تيمم وصلى في أول الوقت أجزأه). أما كون من يرجو وجود الماء يستحب له تأخير التيمم؛ فلأن الطهارة بالماء فريضة والصلاة في أول الوقت فضيلة، وانتظار الفريضة أولى. وأما كونه إذا تيمم وصلى في أول الوقت يجزئه فلما تقدم من حديث عطاء بن يسار (¬3). قال: (والسنة في التيمم أن ينوي، ويسمي، ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع على التراب ضربة واحدة. فيمسح وجهه بباطن أصابعه، وكفيه براحتيه. وقال القاضي: المسنون ضربتان يمسح بإحداهما وجهه وبالأخرى يديه إلى المرفقين. فيضع بطون أصابع اليسرى على ظهر أصابع اليمنى، ويمرها إلى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (338) 1: 93 كتاب الطهارة، باب في المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي في الوقت. وأخرجه الدارمي في سننه (747) 1: 137 كتاب الصلاة. باب التيمم. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق ذكره وتخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

مرفقه. ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمرها عليه، ويمر إبهام اليسرى على ظهر إبهام اليمنى، ويمسح اليسرى باليمنى كذلك، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل الأصابع). أما كون السنة في التيمم أن تكون الصفة المذكورة أولاً (¬1) على المذهب؛ فلأن في حديث عمار «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب ضربة واحدة ثم الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه» (¬2) متفق عليه. وأما كون المسنون أن تكون على الصفة الثانية على قول القاضي؛ فلأن التيمم بدل فإذا أشبه مبدله في كمال اليد كان أولى. ولأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» (¬3). وحديث عمار محمول على المجزئ جمعًا بين الحديثين. وأما كون المتيمم يضرب بيديه مفرجتي الأصابع فليدخل الغبار فيما بينهما. وأما كونه يمسح إحدى الراحتين بالأخرى فلِيُمِرّ التراب بذلك بعد الضرب. وأما تخليل (¬4) الأصابع؛ فلأنه كالتخليل في الوضوء. قال: (ومن حبس في المصر صلى بالتيمم ولا إعادة عليه). أما كون من حبس في المصر يصلي بالتيمم؛ فلأنه عاجز عن الماء أشبه المسافر. وأما كونه لا إعادة عليه؛ فلأنه أدى فريضة بالبدل فلم يكن عليه إعادة كالمسافر. قال: (ولا يجوز لواجد الماء التيمم خوفًا من فوات المكتوبة ولا الجنازة. وعنه يجوز للجنازة). أما كون واجد الماء لا يجوز له التيمم خوفًا من فوات المكتوبة؛ فلأن الله تعالى إنما أباح التيمم عند عدم الماء، وهذا واجد للماء. ¬

_ (¬1) في ب: أو. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 207 كتاب الطهارة، باب كيف التيمم. عن جابر. (¬4) في ب: وأما كونه تخليل.

وأما كونه لا يجوز له ذلك خوفا من فوات الجنازة على روايةٍ فلما مر قبل. وأما كونه يجوز (¬1) على روايةٍ؛ فلأنه لا يمكن استدراكها بخلاف غيرها. قال: (وإن اجتمع (¬2) جنب وميت ومن عليها غسل حيض فبذل ما يكفي أحدهم لأَوْلاَهم به فهو للميت. وعنه أنه للحي. وأيهما يقدم؟ فيه وجهان). أما كون ما ذكره للميت على الرواية الأولى؛ فلأن غسله خاتمة طهارته وصاحباه يرجعان إلى الماء ويغتسلان. وأما كونه للحي على الرواية الأخرى؛ فلأنه متعبد بالغسل مع وجود الماء وهو واجد والميت قد سقط عنه الفرض بالموت. وأما كون الحائض تقدم على الجنب في أحد الوجهين؛ فلأن غسلها آكد وتستبيح بغسلها ما يستبيحه الجنب وزيادة جواز الوطء. وأما كون الجنب يقدم عليها في الوجه الآخر؛ فلأن غسله ثابت بتصريح القرآن بخلاف غسل الحيض. ¬

_ (¬1) في ب: لا يجوز. وهو وهم. (¬2) كذا في المقنع، وفي ب: اجتنب.

باب إزالة النجاسة

باب إزالة النجاسة قال المصنف رحمه الله: (لا تجوز إزالتها بغير الماء. وعنه ما يدل على أنها تزال بكل مائع طاهر مزيل كالخل ونحوه) (¬1). أما كون إزالة النجاسة لا تجوز بغير الماء كالخل والمري والنبيذ وماء الورد والمعتصر من الشجر وما أشبه ذلك على المذهب فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما في دم الحيض يصيب الثوب-: «حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء» (¬2) متفق عليه. أمر بالغسل بالماء، وأمره للوجوب. ولأن إزالة النجاسة طهارة شرعية فلم يجز بغير الماء كطهارة الحدث. وأما كونها تزال بكل مائع طاهر مزيل على روايةٍ؛ فلأن الغرض إزالة النجاسة فإذا زالت يجب أن تطهر. وفي تقييد ذلك بالمائع احتراز عن غير المائع فإن ذلك لا يزيل شيئًا، وبالطاهر عن النجس لأن النجس إذا ضم إلى النجس لا يفيد طهارة، وبالمزيل عما لا يزيل لأن الغرض الإزالة ولا يحصل إلا بالمزيل. ¬

_ (¬1) في المقنع: طاهر مزيل للعين والأثر كالخل وماء الورد وماء الشجر ونحوه. (¬2) عن أسماء قالت: «جاءت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع؟ قال: تحُتُه، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتُصلي فيه». أخرجه البخاري في صحيحه (225) 1: 91 كتاب الوضوء، باب غَسل الدم. واللفظ له. وأخرجه مسلم في صحيحه (291) 1: 240 كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم ... نحو لفظ البخاري. وأخرجه أبو داود في سننه (361) كتاب الطهارة بلفظ: «إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء». وأخرجه الترمذي في جامعه (138) كتاب الطهارة بلفظ: «حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم رشيه». وأخرجه النسائي في سننه (293) كتاب الطهارة بلفظ: «حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه». وأخرجه ابن ماجة (229) 1: 206 كتاب الطهارة، باب ما جاء في دم الحيض يصيب الثوب. بلفظ: «اقرصيه واغسليه».

وقول المصنف رحمه الله: كالخل ونحوه تعداد لما تزال به النجاسة. والمراد بنحوه ما تقدم ذكره في المري إلى آخره. وكل شيء اجتمع فيه الصفات المذكورة تحصل [به] (¬1) الإزالة. قال: (ويجب غسل نجاسة الكلب والخنزير سبعًا إحداهن بالتراب. فإن جعل مكانه أشنانًا أو نحوه فعلى وجهين) (¬2). أما كون غسل نجاسة الكلب يجب سبعًا إحداهن بالتراب فلما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا» (¬3). وفي لفظ لمسلم: «أولاهن بالتراب» (¬4). وعن أحمد يجب غسله سبعًا وواحدة بالتراب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعًا وعفروه الثامن بالتراب» (¬5). والأول أصح لأن الحديث الثاني عد النبي - صلى الله عليه وسلم - التراب ثامنة لكونه من غير جنس الماء. والأولى جعل التراب في الأولى ليكون الماء بعده فينظف. وأما الأشنان ونحوه كالصابون إذا جعل مكان التراب لا يقوم مقامه على وجه؛ فلأنه تطهير ورد من الشرع التراب فيه فلم يقم غيره مقامه كالتراب في التيمم. وأما كونه يقوم مقامه على وجهٍ؛ فلأن نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه في التنظيف وذلك موجود فيما ذكر. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) في المقنع: أو نحوه فهل يصح؟ على وجهين. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (170) 1: 75 كتاب الوضوء، باب: الماء الذي يُغسل به شعر الإنسان. بلفظ: «إذا شرب ... ». وأخرجه مسلم في صحيحه (279) 1: 243 كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب. (¬4) أخرجه مسلم في الموضع السابق. ولفظه: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب». وقد أخرجه أبو داود (71) كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الكلب. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (280) 1: 235 كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب. عن ابن المغفل.

وقال بعض أصحابنا: يقوم مع عدم التراب ومع إفساد التراب للمغسول لأن كل واحد منهما موضع حاجة. وأما كون غسل نجاسة الخنزير تجب سبعًا إحداهن بالتراب؛ فلأنه منصوص على حرمته في القرآن مجمع عليه وليس منتفعًا به بوجه فكان أولى بذلك من الكلب. فإن قيل: ما حكم المتولد منهما أو من أحدهما؟ قيل: حكم الكلب تغليبًا للنجاسة المغلظة واحتياطًا في إزالة النجاسات. ولا فرق بين ولوغ الكلب والخنزير والمتولد المذكور وبين رجيع ذلك ودمه وبوله وعرقه أو وضع يده أو رجله أو شيء من أجزائه لأنه إذا نص على الفم مع أنه أشرف شيء من أجزائه فغيره أولى. ولأن الولوغ يكثر ويشق غسله فإذا نص على وجوب الغسل فيه ففيما يقل يكون بطريق الأولى. قال: (وفي سائر النجاسات ثلاث روايات: إحداهن: يجب غسلها سبعًا، وهل يشترط التراب؟ على وجهين. والثانية: ثلاثًا. والثالثة: تكاثر بالماء من غير عدد كالنجاسات كلها إذا كانت على الأرض). أما كون سائر النجاسات إذا كانت على الأرض يجب غسلها سبعًا في روايةٍ؛ فلقول ابن عمر: «أُمرنا بغسل الأنجاس سبعًا». وهذا عام. والصحابي إذا قال: أُمرنا ينصرف إلى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولأن السبع واجبة في الكلب مع الاختلاف في نجاسته فللمتفق على نجاسته أولى. ويكون نصه في الكلب تنبيهًا بالأدنى على الأعلى. فعلى هذه الرواية هل يشترط التراب؟ على وجهين: أحدهما: يشترط كالكلب. والثاني: لا يشترط قياسًا على النجاسة على الأرض.

و «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أسماء بالتراب لما أمرها بغسل الثوب من دم الحيض» (¬1). وأما كونها يجب غسلها ثلاثًا في روايةٍ؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فلأنه لا يدري أين باتت يده» (¬2). أمر بالثلاث وعلل بوهم النجاسة ولا يرفع وهمها إلا ما يرفع حقيقتها. وأما كونه يكاثر بالماء من غير عدد في روايةٍ فقياسًا على النجاسة على الأرض و«لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أسماء بعدد» (¬3). وروي أن ابن عمر قال: «كان غسل الثوب من النجاسة سبع مرات فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل حتى جعل الغسل من البول مرة» (¬4) رواه أبو داود. وأما كون النجاسات كلها إذا كانت على الأرض تكاثر بالماء من غير عدد فـ «لأن أعرابيًا بال في المسجد فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء فأهريق عليه» (¬5) متفق عليه. ولو لم تطهر بذلك لكان تكثيرًا للنجاسة. ولأن الأرض مصاب الفضلات ومطارح الأقذار فلو اعتبر في غسلها العدد لشق ذلك على الناس وحرجوا منه. وذلك منتف شرعًا. والمراد بالمكاثرة أن يصب الماء على النجاسة حتى يذهب عينها ولونها. ¬

_ (¬1) حديث أسماء سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (247) 1: 64 - 65 كتاب الطهارة، باب الغسل من الجنابة. وأخرجه أحمد في مسنده (5850) 2: 109. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 179 كتاب الطهارة، باب فرض الغسل ... (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (219) 1: 89 كتاب الوضوء، باب يهريق الماء عل البول. وأخرجه مسلم في صحيحه (284) 1: 236 كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد ... كلاهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

قال: (ولا تطهر الأرض النجسة بشمس ولا بريح) (¬1). أما كون الأرض النجسة لا تطهر بالشمس؛ فلأن ذلك لا يثبت إلا بالشرع ولم يرد به. و«لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل بول الأعرابي» (¬2). ولو كانت الشمس تطهر لاكتفى بها. ولأن الأرض النجسة محل نجس فلم يطهر بالجفاف كالثوب المجفف بالشمس. وأما كونها لا تطهر بالريح فلما ذكر في الشمس. قال: (ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها. فإن خللت لم تطهر. وقيل: تطهر). أما كون شيء من النجاسات غير الخمرة لا يطهر بالاستحالة نحو أن يلقى [خنزير] (¬3) في ملاحة فيصير ملحًا، [أو] (¬4) في نار فيصير رمادًا، وما أشبه ذلك؛ فلأن ذلك أجزاء النجاسة فكان نجسًا كالدبس النجس إذا طبخ فصار ناطفًا. ولأن نجاسة ذلك لعينه بخلاف الخمرة فإن نجاستها لمعنى يزول بالانقلاب. وأما كون الخمرة إذا انقلبت بنفسها تطهر؛ فلأن نجاستها لشدتها المسكرة وقد زالت من غير نجاسة خلفتها فوجب أن تطهر كالماء الذي ينجس بالتغيير إذا زال تغيره. وأما كونها إذا خللت لا تطهر على المذهب فلما روي: «أن أبا طلحة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرًا. فقال: أهرقها. قال: أفلا أخللها. قال: لا» (¬5) من المسند رواه الترمذي. ولو جاز التخليل لم ينهه عنه. فإن قيل: ما صفة تخليلها؟ ¬

_ (¬1) في المقنع: ولا ريح. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) زيادة من ج. (¬4) مثل السابق. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (1293) 3: 588 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع الخمر. وأخرجه أحمد في مسنده (12210) 3: 119.

قيل: أن يلقى فيها ملح أو ما أشبه ذلك. واختلف فيما إذا نقلت (¬1) من شمس إلى فيء وبعكس ذلك فقيل: هو تخليل. وقيل: ليس بتخليل. وأما كونها تطهر على قولٍ فلزوال علة التحريم أشبه ما إذا تخللت بنفسها. قال: (ولا تطهر الأدهان النجسة (¬2). وقال أبو الخطاب: يطهر بالغسل منها ما يتأتى غسله. وإذا خفي موضع النجاسة لزمه غسل ما يتيقن به إزالتها). أما كون الأدهان النجسة التي لا يتأتى غسلها لا تطهر بالغسل؛ فلأن المطهر الغسل ولا يتأتى ذلك فيما ذكر. وأما كون [ما] (¬3) يتأتى غسله كالزيت ونحوه لا يطهر بالغسل أيضًا على المذهب فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإراقة السمن الذي وقعت فيه فأرة» (¬4). ولو كان إلى تطهيره طريق لما أمر بإراقته لأنه يكون إتلافًا للمال. وأما كونه يطهر على قول أبي الخطاب؛ فلأن تطهيره ممكن أشبه الثوب. فإن قيل: ما صفة غسله. قيل: أن يترك في إناء له بِزالٌ في أسفله. ثم يصب عليه الماء. ويخاض به. ثم يفتح البِزال فينزل الماء إلى آخره. ثم يُسد. وأما كون من خفي عليه موضع النجاسة يلزمه غسل ما يتيقن به إزالة النجاسة؛ فلأن بذلك يحصل تأدية فرضه بيقين فلزمه. وكما لو نسي صلاةً من يوم لا يعلم عينها. فإن قيل: لو نظر على ثوب عليه نجاسة ماذا يلزمه. قيل: غسل ما يقع نظره عليه وهو لا بسه دون ما خلفه. وكذا لو رأى النجاسة في أحد كميه بعينه لزمه غسله دون سائر الثوب. ¬

_ (¬1) في ب: انقلب. (¬2) في المقنع زيادة: بالغَسل. (¬3) زيادة من ج. (¬4) أخرج البخاري في صحيحه عن ميمونة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن. فقال: ألقوها وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم». (233) 1: 93 كتاب الوضوء، باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء.

قال: (ويجزئ في بول الغلام الذي لم يأكل الطعام: النضحُ). أما كون بول الغلام المذكور يجزئ فيه النضح؛ لما روت أم قيس بنت محصن الأسدية قالت: «دخلت بابن لي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل الطعام. فبال على ثوبه. فدعى بماء فرشه عليه» (¬1) متفق عليه. وفي لفظ: «فأجلسه على حجره. فبال على ثوبه. فدعى بماء فنضحه ولم يغسله» (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي. فبال على ثوبه. فدعى بماء فأتبعه بوله ولم يغسله» (¬3) متفق عليه (¬4). وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بول الغلام ينضح عليه، وبول الجارية يغسل» (¬5) رواه أحمد. والمراد بقول المصنف رحمه الله: لم يأكل الطعام عدم أكله له بشهوة لا عدم أكله بالكلية؛ لأن الصبي أول ما يولد يحنك بتمر أو نحوه. «وقد فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحسين رضي الله عنه» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5368) 5: 2155 كتاب الطب، باب السعوط بالقُسط الهندي والبحري. وأخرجه مسلم في صحيحه (287) 4: 1734 كتاب السلام، باب: التدواي بالعود الهندي. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (221) 1: 90 كتاب الوضوء، باب بول الصبيان. وأخرجه مسلم في صحيحه (287) 1: 238 كتاب الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (220) 1: 89 كتاب الوضوء، باب بول الصبيان. وأخرجه مسلم في صحيحه (286) 1: 237 كتاب الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله. (¬4) في ب عليهما. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (377) 1: 102 كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب. بلفظ: «إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر». وأخرجه الترمذي في جامعه (610) 2: 509 أبواب الصلاة، باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (525) 1: 174 كتاب الطهارة، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم. نحو حديث أبي داود. وأخرجه أحمد في مسنده (563) 1: 76. (¬6) سيأتي ذكره وتخريجه بعد قليل.

والمراد بالنضح: رش الماء على موضع البول حتى يغمره. ولا يشترط فيه عصر ولا قرص ولا عدد ولا أن يجري الماء عن موضع النجاسة. وتقييد المصنف رحمه الله البول بكونه بول غلام لم يأكل الطعام مشعر بأمرين: أحدهما: أن بول الغلام الذي أكل يُغسل. وهو صحيح صرح به في غير مقنعه. وذكره غيره من الأصحاب. ووجهه أن مقتضى الدليل غسل كل نجاسة. تُرك في بول الغلام الذي لم يأكل الطعام للحديث. فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. ولأنه إذا أكل لشهوة وصار ذلك غذاء له استحال استحالة شديدة. بخلاف أكله قبل ذلك. وثانيهما: أن بول الجارية يغسل. وهو صحيح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل» (¬1) رواه الإمام أحمد رضي الله عنه. وروي «أن الحسين بال على إزار النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقالت أم الفضل بنت الحارث: أعطني إزارك لأغسله. فقال: إنما يغسل بول الجارية، ويصب على بول الغلام» (¬2) رواه أحمد. وذكر بعض أصحابنا بينهما فرقًا. قال: بول الجارية لا يعسر التحرز منه ولا يتعدى مكانه. بخلاف الصبي فإنه لا يزال مُحْبَنْطِيًا (¬3) ويخرج بوله بقوة فيصيب من بَعُد عنه وذلك يكثر ويصعب التحرز منه. فلو كُلّف الشخص غسله لشق ولذلك أن الغلام إذا بلغ حدًا يشتهي به الطعام قعد على مقعدته وجب غسل بوله لأنه حينئذ يمكن التحرز منه. قال: (وإذا تنجس أسفل الخف أو الحذاء وجب غسله. وعنه يجزئ دلكه بالأرض. وعنه يغسل من البول والغائط ويدلك من غيرهما). أما كون أسفل الخف أو الحذاء يجب غسله إذا تنجس على روايةٍ؛ فلأنه محلٌّ تنجس فوجب غسله. قياسًا على سائر المحالّ إذا تنجست. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (26916) 6: 339. (¬3) أي منتفخ البطن. القاموس المحيط، مادة حبط.

وأما كونه يجزئ دلكه بالأرض على روايةٍ فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب» (¬1) رواه أبو داود. وأما كونه يُغسل من البول والغائط ويدلك من غيرهما على روايةٍ: أما غسله من البول والغائط؛ فلأنهما أغلظ وأفحش من غيرهما. وأما دلكه من غيرهما؛ فلأن ذلك يشق غسله في كل وقت، وليست في الغلظ والفحش كذلك فعفي عنه دفعًا للمشقة السالمة عن معارضة المبالغة في الفحش والغلظ. فإن قيل: ما حكم ذلك بعد الدلك في الطهارة أو العفو عنه مع نجاسته؟ قيل: حكم أثر الاستجمار. قال: (ولا يعفى عن يسير شيء من النجاسات إلا الدم وما تولد منه من القيح والصديد وأثر الاستنجاء. وعنه في المذي والقيء وريق البغل والحمار وسباع البهائم والطير وعرقها وبول الخفاش والنبيذ والمني: أنه كالدم. وعنه في المذي: أنه يجزئ فيه النضح). أما كون شيء من النجاسات غير المستثنى لا يعفى عن يسيره على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {وثيابك فطهر? والرجز فاهجر} [المدثر: 4 - 5]. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه مر بقبرين. فقال: إنهما ليعذبان. وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستبرأ من البول» (¬2) وفي لفظ: «لا يستنزه» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (386) 1: 105 كتاب الطهارة، باب في الأذى يصيب النعل. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (215) 1: 1: 88 كتاب الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله. وأخرجه مسلم في صحيحه (292) 1: 240 كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ... (¬3) أخرجه مسلم في الموضع السابق. وأخرجه أبو داود في سننه (20) 1: 6 كتاب الطهارة، باب الاستبراء من البول.

وإذا كان كذلك في البول ففي غيره بطريق الأولى لأنه لا يشق التحرز منه بخلاف البول. وأما كون الدم يعفى عن يسيره فلما روت عائشة قالت: «كان يكون لإحدانا الدرع: فيه تحيض وفيه تصيبها الجنابة. ثم ترى فيه قطرة من دم فَتَقْصَعُهُ بريقها» (¬1). وفي لفظ: «بلته بريقها ثم قَصعَتْهُ بظفرها» (¬2). والريق لا يُطَهِّر. وهو إخبار عن دوام الفعل. ومثل هذا لا يخفى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يكون ذلك إلا عن أمره. و«لأن ابن عمر رضي الله عنه كان يسجد فيخرج يديه فيضعهما على الأرض وهما يقطران دمًا من شقاق يديه». و«عصر بُثْرة فخرج منها شيء من دم فمسحه بيديه ولم يغسله (¬3») (¬4). ولأنه يشق التحرز منه فعفي عنه كأثر الاستجمار. واليسير والكثير هنا كهما في نقض الوضوء وقد مر. وأما كون ما تولد من الدم ومن القيح والصديد يعفى عن يسيره؛ فلأنهما متولدان من الدم. والعفو عنهما أولى لاختلاف العلماء في نجاستهما. والدم المتولد منه المعفو عنه هو ما كان من حيوان طاهر. أما دم الحيوان النجس كالكلب والخنزير وشبههما والمتولد من ذلك الدم فلا يعفى عن شيء منه لأنه (¬5) اكتسب حكم التغليظ لملاقاته لحم الحيوان النجس. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (364) 1: 100 كتاب الطهارة، باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (358) 1: 98 كتاب الطهارة، باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها. وأخرجه البخاري في صحيحه (306) 1: 118 كتاب الحيض، باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه. بلفظ: «ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها فقصعته بظفرها». (¬3) في ج: ولم يتوضأ. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 141 كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من خروج الدم من غير مخرج الحدث. وعلقه البخاري في صحيحه 1: 76 كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المَخْرجين. (¬5) في ب: لا

وأما كون أثر الاستنجاء والمراد به الاستجمار يعفى عنه؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الأحجار: «أنها تجزئ» (¬1). ولو كان الباقي في المحل غير معفو عنه لما كانت مجزئة. وأما كون المذي يعفى عن يسيره في روايةٍ؛ فلأنه يخرج من الشاب كثيرًا فيشق التحرز منه. وأما كون القيء يعفى عن يسيره في روايةٍ؛ فلأنه خارج من غير السبيل أشبه الدم. وأما كون ريق البغل والحمار يعفى عن يسيره في روايةٍ فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب البغل والحمار» (¬2). والظاهر أنه لا يسلم من ريقهما. ولأن ذلك يشق التحرز منه. وأما كون ريق سباع البهائم والطير وعرقها يعفى عن يسيره في روايةٍ فللاختلاف في نجاسته. واعلم أن سباع البهائم عام يدخل فيه الكلب والخنزير والمتولد منهما. وليس ذلك مرادًا من العموم؛ لأن ريق ذلك وعرقه اكتسب حكم التغليظ من الكلب والخنزير والمتولد منهما. وأما كون بول الخفاش يعفى عن يسيره في روايةٍ؛ فلأنه لو لم يعف عنه لما أمكن الصلاة في بعض المساجد. وأما كون النبيذ يعفى عن يسيره في روايةٍ؛ فلأنه اختلف في نجاسته. وأما كون المني يعفى عن يسيره إذا قيل بنجاسته في روايةٍ؛ فلأنه مختلف في نجاسته. وإذا قيل بطهارته فلا فرق بين القليل والكثير. قال: (ولا ينجس الآدمي بالموت ولا ما لا نفس له سائلة كالذباب وغيره). أما كون الآدمي لا ينجس بالموت فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن لا ينجس» (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 129. (¬2) سوف يأتي ذكر حديث جابر بن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب حمارا مُعْرَوْرَى، أي عريانا. ص: 231. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (281) 1: 109 كتاب الغسل، باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره. وأخرجه مسلم في صحيحه (371) 1: 282 كتاب الحيض، باب الدليل على أن المسلم لا ينجس. كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقال عليه السلام: «لا تنجسوا موتاكم إن المسلم ليس بنجس حيًا ولا ميتًا» (¬1) رواه الدارقطني. ولأنه آدمي فلم ينجس بالموت كالشهيد. وفارق بقية الحيوانات لحرمته. ولا فرق بين المسلم والكافر فيما ذكر؛ لاستوائهما في الآدمية. ولأنهما استويا حالة الحياة فكذلك بعد الممات. وعن الإمام أحمد: أنه ينجس قياسًا على سائر ما ينجس بالموت. وأما كون ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه. فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء» (¬2) رواه البخاري. أمر بمقله فلو تنجس بالموت لما أمر به لأن الظاهر موته بمقله لا سيما إذا كان الطعام حارًا فلو تنجس بالموت لكان ذلك تنجيسًا للطعام والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بذلك. فإذا لم يَنجس الذباب بالموت لم ينجس سائر ما لا نفس له سائلة؛ لأن الكل مشترك معنى فوجب أن يشترك حكمًا. وأما قول المصنف رحمه الله: كالذباب فتمثيل لما لا نفس له سائلة. قال: (وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه طاهر. وعنه أنه نجس). أما كون بول ما يؤكل لحمه طاهرًا على المذهب فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر العُرَنِيّين بشرب أبوال الإبل» (¬3). ولو كانت نجسة لما أمر بشربها. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 70 كتاب الجنائز، باب المسلم ليس بنجس. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5445) 5: 2180 كتاب الطب، باب إذا وقع الذباب في الإناء. (¬3) حديث العرنيين متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه قال: «قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون». أخرجه البخاري في صحيحه (231) 1: 92 كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1671) 3: 1296 - 1297 كتاب القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين.

فإن قيل: أمر به؛ لأن التداوي بالنجس يجوز. قيل: لا يجوز ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» (¬1). وعلى تقدير التسليم لا ينبغي حمل الحديث عليه لأنه لو كان للتداوي لا للطهارة لأمرهم بغسل أفواههم وأيديهم لأجل الصلاة وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. فلما لم يأمرهم بالغسل علم أن الأمر بالشرب للطهارة. وروى البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا بأس ببول ما أُكل لحمه» (¬2). وروى جابر عليه السلام أنه قال: «ما أُكل لحمه فلا بأس ببوله» (¬3) رواهما الدارقطني. ولأنه متحلل معتاد من حيوان يؤكل لحمه أشبه اللبن. وأما كون روثه طاهرًا على المذهب فـ «لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في مرابض الغنم» (¬4) قبل المسجد. وهي لا تخلو من أبعارها. ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه يصلون على الأوطية ولم ينقل عنهم تنظيفها. ولأنه متحلل معتاد من حيوان يؤكل لحمه أشبه البول واللبن. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (1388) 2: 334 - 335. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 5 كتاب الضحايا، باب النهي عن التداوي بالمسكر. وذكره البخاري في صحيحه تعليقا عن ابن مسعود 5: 2129 كتاب الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل. وله شاهد عند مسلم عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها. فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء». (1984) 3: 1573 كتاب الأشربة، باب: تحريم التداوي بالخمر. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (3) 1: 128 باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه والحكم في بول ما يؤكل لحمه. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (4) الموضع السابق. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (419) 1: 166 أبواب المساجد، باب الصلاة في مرابض الغنم. وأخرجه مسلم في صحيحه (524) 1: 374 كتاب المساجد، باب ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وأما كون منيه طاهرًا على المذهب؛ فلأنه إذا حكم بطهارة بوله وروثه؛ فلأن يحكم بطهارة منيّه بطريق الأولى. وأما كون بوله وروثه نجسًا على روايةٍ؛ فلأنه رجيع أشبه رجيع غير مأكول اللحم. وأما كون منيه نجسًا على روايةٍ؛ فلأن طهارته بالقياس على طهارة البول والروث فإذا حكم بنجاستهما وجب الحكم بنجاسته لانتفاء الحكم في المقيس عليه، ولثبوت التنجيس فيه. قال: (ومني الآدمي طاهر. وعنه أنه نجس، ويجزئ فرك يابسه. وفي رطوبة فرج المرأة روايتان). أما كون مني الآدمي طاهرًا على المذهب فلقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشرًا} [الفرقان: 54]. أطلق عليه اسم الماء فوجب أن يطلق عليه حكمه في الطهارة. ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم يذهب. فيصلي فيه» (¬1) رواه مسلم. ولو كان نجسًا لم يَطهر بالفرك كالعَذِرَة. وقال ابن عباس: «امسحه عنك بإذخرة أو خرقة. ولا تغسله إنما هو كالبصاق والمخاط» (¬2). ورواه الدارقطني مرفوعًا. ولأنه بدء خلق آدمي فكان طاهرًا كالطين. وأما كونه نجسًا على روايةٍ؛ فلأنه مستحيل من الدم أشبه القيح والصديد. ولأنه خارج لشهوة أشبه المذي. وأما كونه يجزئ فرك يابسه على هذه الرواية فلقول عائشة رضي الله عنها: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يابسًا وأغسله إذا كان رطبًا» (¬3) رواه الدارقطني. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (289) 1: 239 كتاب الطهارة، باب حكم المني. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 1: 124 كتاب الطهارة، باب: ما ورد في طهارة المني وحكمه رطباً ويابساً. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (3) 1: 125 الموضع السابق.

و «لأنه نزل بعائشة ضيف فأمرت له بملحفة صفراء ينام فيها. فاحتلم. فاستحيا أن يرسل بها وفيها أثر الاحتلام. فغمسها في الماء. ثم أرسلها. فقالت عائشة رضي الله عنها: لِمَ أفسد علينا ثوبنا. إنما كان يكفيه أن يفركه بأصابعه. وربما فركته من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصابعي» (¬1) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وتقييد الإجزاء بكون المني يابسًا مشعر بأنه إذا كان رطبًا لا بد من غسله. وهو صحيح لوجوه: الأول: أن المجزئ الفرك وذلك لا يتأتى في الرطب. الثاني: أن المحل نجس فلم يكن بد من تطهيره. الثالث: أن الآثار وردت بغسله. منها: ما تقدم من قول عائشة: «وأغسله إذا كان رطبًا» (¬2). ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها: «كنت أغسل المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم يخرج فيصلي فيه. وأنا أنظر إلى البقع فيه من أثر الغسل» (¬3) متفق عليه. فإن قيل: إجزاء الفرك عام في كل مني أم لا؟ قيل: لا. بل هو مختص بمني الرجل؛ لأن أحمد نص على أنه لا يجزئ فرك مني المرأة لأنه رقيق. وإنما أجزأ فرك مني الرجل لأنه غليظ فيؤثر الفرك فيه تخفيفًا بخلاف مني المرأة. وأما كون رطوبة فرج المرأة نجسة في روايةٍ؛ فلأنها لا تخلو من مذي. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (116) 1: 198 أبواب الطهارة، باب ما جاء في المني يصيب الثوب. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (228) 1: 91 كتاب الوضوء، باب غَسل المني وفركه ... وأخرجه مسلم في صحيحه (289) 1: 239 كتاب الطهارة، باب حكم المني.

وأما كونها طاهرة في روايةٍ -وهي الصحيحة- لما ذكر في طهارة المني المستدل عليه بفرك مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان مني جماع لا مني غيره ضرورة أن الأنبياء لا يحتلمون. قال: (وسباع البهائم، والطير، والبغل، والحمار الأهلي نجسة. وعنه أنها طاهرة). أما كون سباع البهائم كالأسد والنمر وغير ذلك نجسة على روايةٍ فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الماء وما ينوبه من السباع. فقال: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء» (¬1). فمفهومه أنه ينجس إذا لم يبلغهما. وإنما ينجس أن لو كان الذي نابه نجسًا. ولأنه حيوان حرم أكله يمكن التحرز منه فكان نجسًا كالكلب. وأما كونها طاهرة على روايةٍ فلما روى أبو سعيد الخدري «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحِياض التي بين مكة والمدينة. تردها الكلاب والسباع والحمر. فقال: لها ما أخذت في أفواهها، ولنا ما غَبَرَ طَهور» (¬2) رواه ابن ماجة. و«لأن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاصي مرا بحوض فقال عمرو: يا صاحب الحوض! ترد على حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا. فإنا نرد عليها وترد علينا» (¬3) رواه مالك في الموطأ. وأما كون جوارح الطير كالعقاب والنسر ونحو ذلك نجسة على روايةٍ، وطاهرة على روايةٍ؛ فلأنها تساوي سباع البهائم معنى فكذا يجب أن يكون حكمًا. وأما كون كل واحد من البغل والحمار الأهلي نجسًا على روايةٍ فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر «إنها رجس» (¬4) متفق عليه. ولما ذكرنا في السباع. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (519) 1: 173 كتاب الطهارة، باب الحياض. (¬3) أخرجه مالك في موطئه (14) 1: 51 كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (5208) 5: 2103 كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية. وأخرجه مسلم في صحيحه (1940) 3: 1540 كتاب الصيد، باب تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية.

وأما كونه طاهرًا على روايةٍ فلما روى جابر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أنتوضأ بما أفضلته الحمر؟ قال: نعم. وبما أفضلت السباع كلها» (¬1) رواه الشافعي في مسنده. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يركب الحمار والبغل. و «ركب يومًا حمارًا مُعْرَوْرَى في الحر» (¬2) أي عريانًا. ذكره البخاري. والظاهر أنه لا يسلم من عرقه. وكان أصحابه عليه السلام يقتنون البغال والحمير ويصحبونها في أسفارهم. فلو كانت نجسة لبين لهم نجاستها. ولأنه لا يمكن التحرز منها للمشقة أشبها الهر. ولأنه يجوز بيعهما أشبها مأكول اللحم. قال: (وسؤر الهر (¬3) وما دونها في الخلقة طاهر). أما كون سؤر الهر طاهرًا فلما روت كبشة بنت كعب بن مالك قالت: «دخل عليّ أبو قتادة. فسكبت له وضوءًا. فجاءت هرة فأصغى لها الإناء حتى شربت. فرآني أنظر إليه. فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قلت: نعم. قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس. إنها من الطوافين عليكم والطوافات» (¬4) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (40) 1: 22 كتاب الطهارة، باب في المياه. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (965) 2: 664 كتاب الجنائز، باب ركوب المصلي على الجنازة إذا انصرف من حديث جابر بن سمرة قال: «أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرس مُعْرَوْرَى فركبه ... ». ولم أره عند البخاري. (¬3) في المقنع: الهرة. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (75) 1: 19 - 20 كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة. وأخرجه الترمذي في جامعه (92) 1: 153 أبواب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة. وقال: هذا أحسن شيء روي في هذا الباب. وأخرجه النسائي في سننه (68) 1: 55 كتاب الطهارة، سؤر الهرة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (367) 1: 131 كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك.

وأما كون سؤر ما دون الهر في الخلقة كالفأرة ونحوها طاهرًا؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل طهارة الهر بكونها من الطوافين والطوافات وذلك موجود فيما دونها لكونه مما يطوف علينا. ولأنه لا يمكن التحرز منه أشبه الهر.

باب الحيض

باب الحيض قال المصنف رحمه الله: (وهو دم طبيعة وجِبِلَّة. ويمنع عشرة أشياء: فعل الصلاة، ووجوبها، وفعل الصيام، وقراءة القرآن، ومس المصحف، واللبث في المسجد، والطواف، والوطء في الفرج، وسنة الطلاق، والاعتداد بالأشهر، ويوجب الغسل، والبلوغ، والاعتداد (¬1) به). أما قول المصنف رحمه الله: وهو دم طبيعة وجبلة فبيان لمعنى الحيض. وأما كون الحيض يمنع فعل الصلاة فـ «لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش: دعي الصلاة أيام أقرائك» (¬2) متفق عليه. وأما كونه يمنع وجوبها فلقول عائشة رضي الله عنها: «كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (¬3) متفق عليه. وأما كونه يمنع فعل الصوم فلقول عائشة رضي الله عنها: «إن كان ليكون علي الصوم من رمضان. فما أستطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان» (¬4) متفق عليه. يعني صومًا أفطر به بالحيض. ¬

_ (¬1) في ب: والاعتاد. وما أثبتناه من المقنع. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (319) 1: كتاب الحيض. ولفظه: «عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال لا إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي». وأخرجه مسلم في صحيحه (333) 1: 262 كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها. ولفظه: «فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي». وأما اللفظ الذي ساقه المصنف فقد أخرجه الدارقطني في سننه (36) 1: 212 كتاب الحيض. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (315) 1: 122 كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (335) 1: 265 كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة. واللفظ له. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1849) 2: 689 كتاب الصوم، باب متى يُقضى قضاء رمضان. وأخرجه مسلم في صحيحه (1146) 2: 802 كتاب الصيام، باب قضاء رمضان في شعبان.

ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل؟ قلن: بلى» (¬1) رواه البخاري. وأما كونه يمنع قراءة القرآن فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن» (¬2) رواه الترمذي. وأما كونه يمنع مس المصحف فلقول الله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79]. وأما كونه يمنع اللبث في المسجد فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» (¬3) رواه أبو داود. وأما كونه يمنع الطواف فلما روت عائشة قالت: «قدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بالصفا والمروة. فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: افعلي ما يفعل الحاج غير أنك لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» (¬4) متفق عليه. وأما كونه يمنع الوطء في الفرج فلقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222]. وأما كونه يمنع سنة الطلاق؛ فلأنه يحرم طلاق المدخول بها لما فيه من تطويل العدة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (298) 1: 116 كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم. من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في صحيحه (80) 1: 87 كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقصان الطاعات ... من حديث ابن عمر. بلفظ: «وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان». (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (131) 1: 236، أبواب الطهارة، باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن. وأخرجه ابن ماجة في سننه (596) 1: 196 كتاب الطهارة، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة. ولفظه: «لا يقرأ القرآن الجنبُ ولا الحائض». كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (232) 1: 60 كتاب الطهارة، باب في الجنب يدخل المسجد. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1567) 2: 594 كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 873 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ...

وأما كونه يمنع الاعتداد بالأشهر؛ فلأن الحائض يجب عليها الاعتداد بالأقراء لما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما كونه يوجب الغسل فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «دعي الصلاة أيام أقرائك التي كنت تحيضين فيها. ثم اغتسلي وصلي» (¬1) متفق عليه. وأما كونه يوجب البلوغ؛ فلأن حيض المرأة يحصل به البلوغ لما يأتي في المحجور عليه. وأما كونه يوجب الاعتداد به فلقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228]. قال: (والنفاس مثله إلا في الاعتداد). أما كون النفاس مثل الحيض في الأحكام المذكورة غير الاعتداد؛ فلأنه دم حيض اجتمع ثم خرج دفعة واحدة. ولأنه دم يمنع فرض الصلاة أشبه الحيض. وأما كونه لا يوجب الاعتداد بخلاف الحيض؛ فلأن عدة النفساء تنقضي بوضع الحمل. قال: (وإذا (¬2) انقطع الدم أبيح فعل الصيام والطلاق ولم يبح غيرهما حتى تغتسل). أما كون من انقطع دم حيضها يباح لها فعل الصيام؛ فلأنها حينئذ كالجنب، والجنب يباح له ذلك؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم» (¬3) متفق عليه. وأما كونها يباح طلاقها فلزوال تطويل العدة التي هي علة تحريمه في الحيض. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. من حديث عائشة. (¬2) في المقنع: فإذا. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1825) 2: 679 كتاب الصوم، باب الصائم يصبح جنباً. وأخرجه مسلم في صحيحه (1109) 2: 780 كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب.

وأما كون غير فعل الصيام والطلاق لا يباح حتى تغتسل؛ فلأن المانع من ذلك زمن الحيض موجود زمن الانقطاع قبل الغسل فوجب بقاء ما كان [على ما كان] (¬1) عملاً بالمقتضى واستصحابًا للحال. قال: (ويجوز أن يستمتع (¬2) من الحائض بما دون الفرج. فإن وطئها في الفرج فعليه نصف دينار كفارة. وعنه: ليس عليه إلا التوبة). أما كون الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج يجوز فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» (¬3) رواه مسلم. ولأن وطء الفرج إنما مُنع من الأذى ويختص المنع بموضع الأذى. وأما كون من وطئها في الفرج عليه نصف دينار كفارة على روايةٍ فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو بنصف دينار» (¬4) رواه أبو داود والنسائي. وأما كونه ليس عليه إلا التوبة على روايةٍ؛ فلأن الحديث المذكور قيل ليس بصحيح. ولذلك قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لو صح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كنا أخذنا به. ولأنه وطء نُهي عنه لأجل الأذى فلم تجب فيه كفارة قياسًا على الوطء في الدبر. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) في المقنع: ويجوز الاستمتاع. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (302) 1: 246 كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجة في سنه (644) 1: 211 كتاب الطهارة، باب ما جاء في مؤاكلة الحائض وسؤرها. ولفظه: «إلا الجماع». (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (264) 1: 69 كتاب الطهارة، باب في إتيان الحائض. وأخرجه الترمذي في جامعه (136) 1: 244 أبواب الطهارة، باب ما جاء في الكفارة في ذلك. وأخرجه النسائي في سننه (370) 1: 188 كتاب الحيض والاستحاضة، ذكر ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضها مع علمه بنهي الله. وأخرجه أحمد في مسنده (2595) 1: 286. وهذا الحديث قد روي بأسانيد كثيرة وألفاظ مختلفة وله نحوًا من خمسين طريقًا أو أكثر أشار إليها الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على الترمذي.

وأما كونه عليه التوبة؛ فلأنه وطء محرم فلم يكن بد من التوبة كغيره من المحرمات. قال: (وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين. وأكثره خمسون سنة. وعنه ستون في نساء العرب. والحامل لا تحيض). أما كون أقل سنٍّ تحيض المرأة تسع سنين؛ فلأنه لم يثبت في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة» (¬1). وأما كون أكثره خمسين سنة على المذهب فلقول عائشة رضي الله عنها: «إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت عن حد الحيض». وأما كونه ستين سنة في نساء العرب على روايةٍ؛ فلأن المرجع في ذلك إلى الوجود. وقد وجد في نساء العرب حيض معتاد. أخبر به ثقات عن أنفسهن بعد الخمسين. ولأن ما كان فيه الحد معتبرًا ولم يوجد له في الشرع حد: يرجع فيه إلى العادات. وأما كون الحامل لا تحيض فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله عمر عن طلاق ابنه امرأته وهي حائض. قال: مره فليراجعها. ثم ليطلقها طاهرًا، أو حاملاً» (¬2) متفق عليه. فإن قيل: ما الحجة في ذلك؟ قيل: الحجة فيه أنه جعل الحمل علمًا على دم الحيض كما جعل الطهر علمًا عليه. ¬

_ (¬1) ذكره الترمذي في جامعه معلقا 1: 288 كتاب النكاح، باب ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 318 كتاب الحيض، باب السن التي وجدت المرأة تحيض فيها. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4954) 5: 2011 كتاب الطلاق، باب إذا طلقت الحائض يعتد بذلك الطلاق. وأخرجه مسلم في صحيحه (1471) 2: 1095، كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ... ولم يقل البخاري: أو حاملا.

و «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في سبايا أوطاس: لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض حيضة» (¬1) رواه الإمام أحمد. جعل وجود الحيض علمًا على براءة الرحم. ولأنه زمان لا يعتاد فيه الحيض غالبًا فلم يكن ما تراه من الدم حيضًا كالآيسة. قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: إنما يَعرف النساء الحمل بانقطاع الدم. قال: (وأقل الحيض يوم وليلة. وعنه يوم. وأكثره خمسة عشر يومًا. وعنه سبعة عشر. وغالبه: ست أو سبع). أما كون أقل الحيض يومًا وليلة على المذهب؛ فلأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: «أقل الحيض يوم وليلة» (¬2). وأما كونه يومًا على روايةٍ؛ فلأن الشرع علق على الحيض أحكامًا ولم يبين قدره فعلم أنه رده إلى العرف كالقبض والحِرز. وقد وجد حيض معتاد يومًا ولم يوجد أقل منه. قال عطاء: «رأيت من تحيض يومًا، ومن تحيض خمسة عشر يومًا» (¬3). وأما كون أكثره خمسة عشر يومًا على المذهب؛ فلأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: «ما زاد على خمسة عشر فهو استحاضة» (¬4). ولأن في قوله: «تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي» (¬5) رواه البخاري. إشارة إلى هذا. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (11244) 3: 28. (¬2) قال ابن حجر: كأنه يشير إلى ما ذكره البخاري تعليقا (1: 123 - 124 كتاب الحيض، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض) عن علي وشريح: أنهما جوزا ثلاث حيض في شهر. تلخيص الحبير 1: 304. (¬3) ذكر البخاري في صحيحه تعليقاً عن عطاء: الحيض يوم إلى خمس عشرة. 1: 124 كتاب الحيض، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض ... (¬4) قال ابن حجر: هذا اللفظ لم أجده عن علي، لكنه يخرج من قصة علي وشريح. تلخيص الحبير 1: 305. وسوف يأتي ذكر قصة علي وشريح قريبا. (¬5) قال ابن حجر: لا أصل له بهذا اللفظ. تلخيص الحبير 1: 287. وقد أخرج الشيخان قريبا منه. وقد تقدم ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونه سبعة عشر على روايةٍ؛ فلأن أقل الطهر إذا كان ثلاثة عشر كان أكثر الحيض سبعة عشر ضرورة أن الشهر يجمع طهرًا وحيضًا. وأما كون غالبه ستًا أو سبعًا فـ «لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش: تحيضي في علم الله ستًا أو سبعًا. ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين يومًا أو ثلاثة وعشرين يومًا كما تحيض النساء. وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن» (¬1). رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. قال: (وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يومًا. وقيل خمسة عشر يومًا. ولا حد لأكثره). أما كون أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يومًا على المذهب فلما روي عن علي رضي الله عنه «أنه سئل عن امرأة ادعت انقضاء عدتها في شهر. فقال لشريح: قل فيها. فقال: إن جاءت ببطانة من أهلها يشهدان أنها حاضت في شهر ثلاث حيضات تترك الصلاة فيها، وإلا فهي كاذبة. فقال علي رضي الله عنه: قالون. يعني جيد» (¬2). وهذا اتفاق منهما على إمكان ثلاث حيضات في شهر ولا يمكن ذلك إلا بما قلنا في أقل الحيض وأقل الطهر. وأما كونه خمسة عشر على قولٍ فلما تقدم من قوله: «تمكث إحداكن شطر عمرها ... الحديث» (¬3). وأما كون الطهر لا حد لأكثره؛ فلأنه قد وجد من لا تحيض أصلاً. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (128) 1: 221 أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 418 كتاب العدد، باب تصديق المرأة فيما يمكن فيه انقضاء عدتها. وقد ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 1: 123 كتاب الحيض، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض ... (¬3) سبق تخريجه ص: 238.

فصل [في المبتدأة] قال المصنف رحمه الله: (والمبتدأة تجلس يومًا وليلة ثم تغتسل وتصلي. فإن انقطع دمها لأكثره فما دون اغتسلت عند انقطاعه. وتفعل ذلك ثلاثًا. فإن كان في الثلاث على قدر واحدٍ صار عادة، وانتقلت إليه، وأعادت ما صامته من الفرض (¬1). وعنه يصير عادة بمرتين). أما كون المبتدأة وهي التي أول ما ترى الدم تجلس أي تدع الصلاة والصوم؛ فلأن دم الحيض دم طبيعة وجبلة وعادة، ودم الفساد (¬2) دم عارض لمرض ونحوه. والأصل عدم العارض. وأما كون ذلك يومًا وليلة؛ فلأنه أول الحيض على المذهب. ومفهوم ذلك أنها لا تجلس أكثر من ذلك وهو صحيح على المذهب لأن الصلاة في ذمتها بيقين وقد شكّت في الزائد على أقل الحيض فلا يترك اليقين بالشك. وأما كونها تغتسل بعد اليوم والليلة؛ فلأنه آخر حيضها حكمًا أشبه آخر حيضها حسًا. وأما كونها تصلي بعد ذلك؛ فلأن المانع من الصلاة الحيض وعدم الغسل وقد انتفى كل واحد منهما: أما الحيض؛ فلأنه حكم بانقضائه لما تقدم. وأما عدم الغسل فلوجود الغسل حقيقة. وأما كونها تغتسل عند انقطاع دمها إذا انقطع لأكثر الحيض فما دون؛ فلأنه يحتمل أن ذلك آخر حيضها فلا تكون طاهرة بيقين إلا بالغسل حينئذ. وأما كونها تفعل ذلك ثلاثًا أي مثل جلوسها يومًا وليلة وغسلها عند آخر ذلك. ثم غسلها عند انقطاع الدم؛ فلأن العادة لا تثبت إلا بتكرار الدم ثلاث ¬

_ (¬1) في المقنع: من الفرض فيه. (¬2) في ب: فساد.

مرات على المذهب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دعي الصلاة أيام أقرائك» (¬1). والأقراء جمعٌ أقله ثلاثة. ولأن ما اعتبر فيه التكرار اعتبر فيه الثلاث كالأقراء في عدة الحرة، والشهور، وخيار المصراة، ومهلة المرتد، وتعليم الكلب في الوجه الصحيح. فعلى هذا إن تكرر في الثلاث على قدر واحد صار ذلك عادة لتكرره ثلاثًا وإلا فلا لما ذكرنا. وإن تكرر مختلفًا مثل أن يكون في الشهر الأول عشرة وفي الثاني اثني عشر وفي الثالث ثلاثة عشر فالعشرة متكررة ثلاثًا فهي عادة وما عدا ذلك ليس بعادة إلا أن يتكرر بعد ذلك. وفي الجملة كل دم تكرر ثلاثًا صار عادة ما لم يجاوز أكثر الحيض وما لا فلا، مختلفًا كان أو متفقًا. وأما كون الدم إذا تكرر مرتين صار عادة على روايةٍ؛ فلأن العادة مأخوذة من المعاودة وذلك يحصل بمرتين. فلا يختلف المذهب أنها لا تثبت بمرة لما ذكرنا من الاشتقاق. [فإن قيل: لم خص المصنف رحمه الله جلوس المبتدأة باليوم والليلة؟ قيل: لأن ذلك أقل الحيض على رواية. ولعلها هي المختارة بدليل أنه قدمها. ولأن دليل الثانية يمكن حمله على اليوم والليلة لجواز إطلاق اليوم وإرادة الليلة؛ لأن الليل في العدد قد يدخل تبعا] (¬2). وأما كون من صار دمها عادة تنتقل إليه أي تجلسه كما تقدم؛ فلأن المعتادة يجب عليها أن تجلس زمن العادة لقوله عليه السلام: «دعي الصلاة أيام أقرائك» (¬3). ولما يأتي في المستحاضة المعتادة بعد. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) زيادة من ج. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونها تعيد ما صامته من الفرض في الزمن الذي قبل الحكم بالعادة؛ فلأن بتكرره ثلاثًا عُلم أن الدم في ذلك الزمن كان دم الحيض فعلم أن الصوم فيه غير صحيح فيجب إعادته لأن الحيض لا يُسقِط وجوب الصوم بدليل ما تقدم من حديث عائشة (¬1). قال: (وإن جاوز أكثر الحيض فهي مستحاضة: فإن كان دمها متميزًا بعضه ثخين أسود منتن، وبعضه رقيق أحمر. فحيضها زمن الدم الأسود وما عداه استحاضة. وإن لم يكن متميزًا قعدت من كل شهر غالب الحيض. وعنه: أقله. وعنه: أكثره. وعنه عادة نسائها كأمها وأختها وعمتها وخالتها. وذكر أبو الخطاب في المبتدأة أول ما ترى الدم الروايات الأربع). أما كون المبتدأة إذا جاوز دمها أكثر الحيض مستحاضة؛ فلأن عليًا رضي الله عنه قال: «ما زاد على خمسة عشر يومًا فهو استحاضة» (¬2). ولما تقدم من أن أكثر الحيض خمسة عشر. فإن قيل: دم المرأة على كم ضرب؟ قيل: على ثلاثة: أحدها: دم يسمى دم فساد. وهو المرئي أقل من يوم وليلة. وثانيها: دم يسمى حيضًا. وهو ما كان في العادة والتمييز أو ما أشبههما مما تُمنع فيه من الصلاة والصوم ونحوهما. وثالثها: دم يسمى استحاضة. وهو ما اتصل بالحيض وجاوزه. والمرأة لها فرجان: داخل بمنزلة الدبر. منه الحيض، وخارج كالإليتين. منه الاستحاضة. وأما كون حيض المستحاضة إذا كان دمها متميزًا كما ذكر المصنف رحمه الله من الدم الأسود فلما روي «أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله! إني ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

أستحاض فلا أطهر. أفأدع الصلاة؟ قال: إن ذلك عرق ليس بالحيضة. فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة. فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم» (¬1) متفق عليه. يعني بإقباله سواده ونتنه وإدباره رقته وحمرته. وفي لفظ قال لها: «إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف. فأمسكي عن الصلاة. فإذا كان الآخر فتوضئي. إنما هو عرق» (¬2) رواه النسائي. وقال ابن عباس: «ما رأت الدم البحراني فإنها تدع الصلاة. إنها والله إن ترى الدم بعد أيام حيضها إلا كغسالة ماء اللحم» (¬3). ولا بد أن يُلحظ في ذلك كون الدم الأسود يصلح أن يكون حيضًا بأن يكون لا ينقص عن أقل الحيض ولا يزيد على أكثره لأنه متى نقص عن ذلك أو زاد عنه لا يصلح أن يكون حيضًا. وأما كون ما عداه استحاضة فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث فاطمة: إن ذلك عرق وليس بالحيضة» (¬4). فإن قيل: ما حكم المرأة في زمن استحاضتها؟ قيل: حكم الطاهرات تصوم وتصلي؛ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث فاطمة: فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة. فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» (¬5) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (314) 1: 122 كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره. وأخرجه مسلم في صحيحه (333) 1: 262 كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (286) 1: 75 كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة. وأخرجه النسائي في سننه (215) 1: 123 كتاب الطهارة، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 325 كتاب الحيض، باب المستحاضة إذا كانت مميزة. (¬3) أخرج ابن أبي شيبة نحوه في مصنفه عن أنس بن سيرين قال: «استحيضت امرأة من آل أنس فأمروني فسألت ابن عباس فقال: أما ما رأت الدم البحراني فلا تصلي. وإذا رأت الطهر ولو ساعة من النهار فلتغتسل ولتصلي». 1: 128. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 340 كتاب الحيض، باب المرأة تحيض يوما وتطهر يوماً. مثله. وذكره أبو داود تعليقاً 1: 75 كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة. (¬4) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وفي لفظ للنسائي: «فإذا كان دم الحيض فأمسكي عن الصلاة. فإذا كان الآخر فتوضئي. إنما هو عرق» (¬1). وأما كونها إذا لم يكن دمهًا متميزًا تقعد من كل شهر غالبه ستًا أو سبعًا على المذهب فلما روي «أن حمنة بنت جحش قالت: يا رسول الله! إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة. قد منعتني الصوم والصلاة. فقال: تحيضي في علم الله ستًا أو سبعًا. ثم اغتسلي ... مختصر» (¬2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وأما كونها تقعد أوله على روايةٍ فلما ذكرنا في المبتدأة. وأما كونها تقعد أكثره على روايةٍ؛ فلأنه دم في زمن يصلح أن يكون حيضًا فكان حيضًا قياسًا على دم المبتدأة أول ما تراه. ولأن الأصل عدم كونه دم فساد. وأما كونها تقعد عادة نسائها كأمها وأختها وعمتها وخالتها على روايةٍ؛ فلأن الغالب شبهها بهن. وقياسًا على المهر. وأما كون المبتدأة أول ما ترى الدم [فيها] (¬3) الروايات الأربع على ما ذكره أبو الخطاب؛ فلأنها تساوي ما تقدم ذكره معنى فكذا يجب أن يكون حكمًا. قال: (وإن استحيضت المعتادة رجعت إلى عادتها وإن كانت مميزة. وعنه يُقدَّم التمييز. وهو اختيار الخرقي). أما كون المستحاضة المعتادة التي لا تمييز لها ترجع إلى عادتها فـ «لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة: لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 243. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (128) 1: 221 أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد. (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (274) 1: 71 كتاب الطهارة، باب من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (623) 1: 204 كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة. ولم أره عند الشيخين.

وروي «أن سودة استحيضت فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مضت أيامها اغتسلت وصلت» (¬1). ولأن الحيض يتعلق به أحكام وأيام فجاز أن يُرجع إلى الأيام عند إعواز الدم كالعدة. وأما كون المعتادة التي لها تمييز ترجع إلى عادتها على المذهب؛ فلأن اعتبار العادة متفق عليه والتمييز مختلف فيه. وأما كونه يُقدم التمييز على روايةٍ - وهو اختيار الخرقي -؛ فلأنه اجتهاد، والعادة تقليد والاجتهاد مقدم على التقليد. والأول أصح لما تقدم. ولأن الرجوع في التمييز إلى لون الدم. ونحن نرى ألوان الدماء التي في العروق تختلف اختلافًا بيّنًا. وقد تبطل دلالة التمييز إذا نقص عن أقل الحيض أو زاد على أكثره. بخلاف العادة. ولأن الأحاديث الدالة على العادة تقتضي العموم مميزة كانت أو غير مميزة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل السائلة ولم يسألها عن ذلك. فإن قيل: حديث فاطمة يدل على اعتبار التمييز من غير استفصال عن العادة ولا سؤال عنها. قيل: حديث فاطمة قد روي من طريق متفق عليه أنه ردها إلى العادة فيتعارضان. ثم على تقدير التسليم بأنه ردها إلى التمييز تكون أخبرته أنها لا عادة لها، أو علم ذلك بقرينة. ثم يلزم من تقدير التمييز إشكال هو أنها إذا كانت عادتها خمسة من أول كل شهر ثم استحيضت فرأت عشرة أيام أسود وباقي الشهر أحمر أو أصفر فعلى تقدير التمييز تترك الصلاة عشرة أيام وفي ذلك إسقاط العبادة عنها في خمسة أيام. ¬

_ (¬1) ذكره أبو داود تعليقاً 1: 73 كتاب الطهارة، باب في المرأة تستحاض. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 335 كتاب الحيض، باب المعتادة لا تميز بين الدمين. وأخرجه الطبراني في الأوسط 2: ل 288.

قال: (وإن نسيت العادة عملت بالتمييز. فإن لم يكن لها تمييز جلست غالب الحيض في كل شهر. وعنه أقله. وقيل فيها الروايات الأربع). أما كون من نسيت العادة تعمل بالتمييز؛ فلأن التمييز حينئذ دليل لا معارض له فوجب العمل به كدم المبتدأة. وأما كون من لها تمييز تجلس غالب الحيض على المذهب فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تحيضي في علم الله ستًا أو سبعًا» (¬1). ولأن الظاهر أن ذلك حيضها لأن ذلك غالب عادة النساء. وأما كونها تجلس أقله على روايةٍ فقياسًا على المبتدأة. وأما كونها فيها الروايات الأربع المتقدم ذكرهن على قول بعض الأصحاب فلما تقدم في المبتدأة (¬2). قال: (وإن علمت عدد أيامها ونسيت موضعها جلستها من أول كل شهر في أحد الوجهين. وفي الآخر: تجلسها بالتحري. وكذلك الحكم في كل موضع حيض من لا عادة لها ولا تمييز). أما كون من علمت عدد أيامها ونسيت موضعها تجلسها من أول كل شهر في وجه فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تحيضي في علم الله ستًا أو سبعًا. ثم اغتسلي وصلي ثلاثا وعشرين» (¬3). جعل حيضها من أوله، والصلاة في بقيته. وأما كونها تجلسها بالتحري أي بالاجتهاد في وجهٍ؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردها إلى الاجتهاد في العدد بين الست والسبع (¬4) فكذلك في الوقت. وأما كون الحكم في كل موضع حيض من لا عادة لها ولا تمييز كالحكم في موضع من علمت عدد أيامها ونسيت موضعها؛ فلأن من لا عادة لها ولا تمييز تشارك من ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (287) 1: 76 كتاب الطهارة، باب: من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (27514) 6: 439. (¬2) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬4) في ب وسبع.

نسيت موضع حيضها في تعدد الجلوس في زمن محقق فوجب أن يثبت لها ما ثبت لها لأن الاشتراك يوجب المساواة. قال: (وإن علمت أيامها في وقتٍ من الشهر كنصفه الأول جلستها فيه إما من أوله [أو بالتحري] (¬1) على اختلاف الوجهين). أما كون من علمت أيامها في وقتٍ من الشهر كما مثّل المصنف رحمه الله تجلسها فيه؛ فلأن ما عداه طهر بيقين. وأما كونها تجلسها من أوله أو بالتحري ففيه الوجهان المتقدم ذكرهما وتوجيههما في من نسيت موضع أيام حيضها. قال: (وإن علمت موضع حيضها ونسيت عدده جلست فيه غالب الحيض أو أقله على اختلاف الروايتين). أما كون من علمت حيضها ونسيت عدده تجلس فيه غالب الحيض على روايةٍ فلما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «تحيضي في علم الله ستًا أو سبعًا» (¬2). وأما كونها تجلس أقله على روايةٍ؛ فلأن العبادة في ذمتها بيقين وما زاد على أقله مشكوك فيه ولا يزول عن اليقين بالشك. قال: (وإن تغيرت العادة بزيادة أو تقدم أو تأخر أو انتقال فالمذهب أنها لا تلتفت إلى ما خرج عن العادة حتى يتكرر ثلاثًا أو مرتين على اختلاف الروايتين. وعندي أنها تصير إليه من غير تكرار). أما كون من تغيرت عادتها بما ذُكر لا يلتفت إلى ما خرج عن العادة على المذهب حتى يتكرر كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن العادة لا تثبت إلا بذلك فلم يلتفت إلى [ما] (¬3) خرج عنها ضرورة أنه غير معتاد. فإن قيل: ما معنى تغيّر العادة بذلك؟ ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) ساقط من ب.

قيل: تغيرها بالزيادة أن تكون عادتها مثلاً خمسة من كل شهر فتصير ستة أو سبعة أو شبه ذلك، وتغيرها بالتقدم أن يكون حيضها في أول الشهر خمسة فيصير يومًا من الشهر الذي قبله وأربعة من الشهر الذي كانت تحيض فيه، وتغيرها بالتأخر أن يكون حيضها خمسة من أول الشهر فتصير خمسة من ثانيه، وتغيرها بالانتقال أن يكون حيضها الخمسة الأولة فتصير الخمسة الثانية. وأما كونها تصير إليه من غير تكرار عند المصنف رحمه الله. وهي رواية عن الإمام أحمد. ذكرها صاحب المستوعب فيه: فـ «لأن النساء كن يرسلن بالدرجة فيها الشيء من الصفرة إلى عائشة رضي الله عنها فتقول: لا تعجلن حتى ترين القَصَّةَ البيضاء» (¬1). ولأن ظاهر الأخبار يدل على أن النساء كن يَعددن ما يرينه من الدم حيضًا من غير اعتبار عادة. ولأنا رجعنا في أكثر أحكام الحيض إلى العرف، والعرف أن الحيضة تتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص. ولأن في اعتبار العادة على الوجه المذكور أولاً إخلاء لبعض المنتقلات عن الحيض بالكلية مع رؤيتها [الدم] (¬2) على صفته، وهذا لا سبيل إليه. قال: (وإن طهرت في أثناء عادتها اغتسلت وصلت. فإن عاودها الدم في العادة فهل تلتفت إليه؟ على روايتين). أما كون من طهرت في أثناء عادتها تغتسل؛ فلأن ابن عباس قال: «لا يحل لها ما رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل» (¬3). وأما كونها تصلي؛ فلأنها طاهرة فيلزمها الصلاة كسائر الطاهرات. وأما كونها تلتفت إلى الدم الذي يعاودها في العادة على روايةٍ؛ فلأنه دم في العادة فكان حيضًا كما لو اتصل. ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في صحيحه تعليقًا 1: 121 كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره. وأخرجه مالك في موطئه 1: 59. (¬2) زيادة من ج. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 340 كتاب الحيض، باب المرأة تحيض يوماً وتطهر يوماً.

وأما كونها لا تلتفت إليه على روايةٍ؛ فلأنه جاء بعد طهر فلم يكن حيضًا بغير تكرار كالخارج عن العادة. قال: (والصفرة والكدرة في أيام الحيض من الحيض). أما كون الصفرة في أيام الحيض من الحيض؛ فلما تقدم من «أن النساء كن يرسلن بالدرجة فيها الشيء من الصفرة إلى عائشة، فتقول: لا تعجلن حتى ترين القَصَّةَ البيضاء» (¬1). فإن قيل: ما القَصَّة؟ قيل: قال الإمام أحمد رحمه الله: القصة البيضاء ما ابيض يتبع الحيضة. وأما كون الكدرة في أيام الحيض من الحيض؛ فلأنها في معنى الصفرة. [ولأنه في زمن العادة أشبه الأسود] (¬2). قال: (ومن كانت ترى يومًا دمًا ويومًا طهرًا فإنها تضم الدم إلى (¬3) الدم فيكون حيضًا والباقي طهرًا إلا أن يجاوز أكثر الحيض فتكون مستحاضة). أما كون من كانت ترى ما ذكر تضم الدم إلى الدم والطهر إلى الطهر إذا لم يجاوز مجموعها أكثر الحيض؛ فلأنه لا سبيل إلى جعل كل واحد من الدم حيضة ضرورة أن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يومًا أو خمسة عشر على الخلاف وإذا لم يكن سبيل إلى ذلك تعين الضم. وأما كون الدم المضموم بعضه إلى بعض حيضًا؛ فلأنه دم في زمن يصلح أن يكون فيه حيضًا فكان حيضًا كما لو لم يفصل بينه طهرًا. وأما كون الباقي طهرًا؛ فلأنه طهر حقيقة فكذلك حكمًا. وأما كونها مستحاضة إذا جاوز مجموعهما أكثر الحيض فلما تقدم من قول علي رضي الله عنه (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق. (¬2) زيادة من ج. (¬3) في المقنع: على. (¬4) وهو قوله: ما زاد على خمسة عشر فهو استحاضة. ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في المستحاضة] قال المصنف رحمه الله: (والمستحاضة تغسل فرجها وتعصبه وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي ما شاءت من الصلوات. وكذلك من به سلس البول والمذي والريح والجريح الذي لا يرقأ دمه والرعاف الدائم). أما كون المستحاضة تغسل فرجها فلإزالة ما عليه من الدم. وأما كونها تعصبه فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحمنة بنت جحش حين شكت إليه كثرة الدم: أنعت لك الكرسف - يعني القطن - تحشي به المحل. قالت: إنه أشد من ذلك. قال: تلجمي» (¬1). وقال في حديث أم سلمة: «فلتستثفر بثوب ثم لتصل فيه» (¬2). وأما كونها تتوضأ لوقت كل صلاة فـ «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت أبي حبيش: توضئي لوقت كل صلاة وصلي» (¬3). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فإن قيل في بعض ألفاظ الحديث: «توضئي لوقت كل صلاة» (¬4). قيل: ذلك مطلق وما تقدم مقيد والمطلق يجب حمله على المقيد لما تقدم ذكره غير مرة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (128) 1: 221 أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة: أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (274) 1: 71 كتاب الطهارة، باب من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (623) 1: 204، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (125) 1: 217 أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة. ولفظه: «وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت». (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (298) 1: 80 كتاب الطهارة، باب من قال: تغتسل من طهر إلى طهر.

ولأنها طهارة عذر وضرورة فتقيدت بالوقت لأنه موضع الضرورة بخلاف ما قبله. فإن قيل: إن خرج منها الدم بعد الوضوء. قيل: إن خرج لتفريط في الشدّ أعادت الوضوء لأنه حدثٌ أمكن التحرز منه، وإن خرج لغير تفريط فلا شيء عليها؛ لما روت عائشة قالت: «اعتكفتْ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي» (¬1) رواه البخاري. ولأنه لا يمكن التحرز منه فسقط. وأما كونها تصلي ما شاءت من الصلوات؛ فلأنها متطهرة أشبهت المتيمم. ولا بد أن يُلحظ في ذلك بقاء الوقت. فإن خرج وقت الصلاة الذي توضأت المستحاضة فيه لم يكن لها أن تصلي شيئًا لأن طهارتها تبطل بخروج الوقت لما تقدم من أنها طهارة ضرورة. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «توضئي لوقت كل صلاة» (¬2). ولا بد أن يُلحظ استمرار دمها فإن انقطع دمها بعد أن توضأت فإن كان عادتها انقطاعه في وقت لا تتسع للصلاة لم تؤثر لأنه يمكن الصلاة فيه، وإن لم يكن لها عادة أو كان عادتها انقطاعه مدة طويلة لزمها استئناف الوضوء، وإن كان في الصلاة بطلت لأن العفو عن الوضوء ضرورة جريان الدم فيزول بزواله. وأما كون من به سلس البول والمذي والريح والجريح الذي لا يرقأ دمه والرعاف الدائم كالمستحاضة في الطهارة المذكورة؛ فلأن هؤلاء شاركوا المستحاضة في أعذارهم المذكورة فأعطوا حكمها. فإن قيل: ما لا يمكن عصبه. قيل: يصلي صاحبه بحسب حاله «لأن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب دمًا» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1932) 2: 716 كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف المستحاضة. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (6) 1: 406 كتاب الصلاة، باب صلاة النساء جماعة وموقف إمامهن.

قال: (وهل يباح وطء المستحاضة في الفرج من غير خوف العنت؟ على روايتين). أما كون وطء المستحاضة في الفرج من غير خوف العنت لا يباح على روايةٍ؛ فلأن الوطء في الحيض إنما منع منه لكونه أذى وهو موجود هاهنا. وأما كونه يباح على روايةٍ فـ «لأن حمنة كان يجامعها زوجها وهي مستحاضة» (¬1) رواه أبو داود. وكذلك روي عن أم حبيبة (¬2). ولأنها في حكم الطاهرات في جميع الأحكام فكذلك في هذا. وتقيد المصنف رحمه الله الخلاف بغير خوف العنت مشعر بأنه إذا خاف العنت أبيح له الوطء بلا خلاف في المذهب. وهو صحيح؛ لأن عدم جوازه مع خوفه العنت مفضٍ إلى وقوعه في الزنا وذلك محذور. ولأن بعض الأشياء محرم الفعل وخوف العنت يبيحه. دليله تزوج الأمة فكذلك يجب أن يكون هاهنا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (310) 1: 83 كتاب الطهارة، باب المستحاضة يغشاها زوجها. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (309) الموضع السابق.

فصل [في النفاس] قال المصنف رحمه الله: (وأكثر النفاس أربعون يومًا. ولا حد لأقله. أيَّ وقت رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي. ويستحب أن لا يقربها في الفرج حتى تتم الأربعين). أما كون أكثر النفاس أربعين يومًا فلما روت أم سلمة قالت: «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين يومًا أو أربعين ليلة. وكنا نطلي وجوهنا بالوَرْسِ من الكلف» (¬1) رواه أبو داود والترمذي. وقال: أجمع أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين من بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي. والأحاديث في هذا ضعيفة. أثبتها ما ذكر هنا. وينبغي أن يجعل مستند هذا الحكم ما وجد في أعصار المتقدمين. وقد روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت للنفساء أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك» (¬2). وأما كونه لا حد لأقله؛ فلأنه لم يرد في الشرع تحديده فرجع فيه إلى العرف وقد وجد قليل وكثير. وقد روي «أن امرأة ولدت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تر دمًا فسميت ذات الجفاف» وروي «ذات الجفوف» (¬3) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (311) 1: 83 كتاب الطهارة، باب ما جاء في وقت النفساء. وأخرجه الترمذي في جامعه (139) 1: 256 أبواب الطهارة، باب ما جاء في كم تمكث النفساء؟ . (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 343 كتاب الحيض، باب النفاس. (¬3) ذكر البخاري في التاريخ الكبير عن موسى بن إسماعيل عن سهم مولى بني سليم «أن مولاته أم يوسف ولدت بمكة فلم تر دما. فلقيت عائشة. فقالت: أنت امرأة طهرك الله. فلما نفرت رأت». 4: 194. وأخرج البيهقي هذا الأثر 2: 343 كتاب الحيض، باب النفاس. من طريق البخاري. ولم أره عند أبي داود.

وأما كون النفساء طاهرًا أيَّ وقت رأت الطهر فلانقطاع دم النفاس. وكما لو انقطع دم الحائض في عادتها. وأما كونها تغتسل عند رؤيتها الطهر فللحكم بانقضاء نِفاسها. وأما كونها تصلي فلما ذكر. وروى أبو أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا طهرت المرأة حين تضع صلت». وقال علي رضي الله عنه: «لا يحل للنفساء إذا رأت الطهر إلا أن تصلي» (¬1). وأما كونها يستحب أن لا يقربها زوجها في الفرج حتى تتم الأربعين؛ فلأنه لا يأمن عود الدم في الوطء أو بعده فيكون واطئًا في نفاس. فإن قيل: إذا لم يستحب فهل يكره؟ قيل: روايتان: إحداهما: يكره؛ لذلك. و«لأن عثمان بن أبي العاص أتته امرأته قبل الأربعين. فقال: لا تقربيني حتى تتمي الأربعين» (¬2). والثانية: لا يكره لأنها حُكم بطهارتها فلم يكره قياسًا على سائر الطاهرات. قال: (فإن (¬3) انقطع دمها في مدة الأربعين ثم عاد فيها فهو نفاس. وعنه أنه مشكوك فيه تصوم وتصلي وتقضي الصوم المفروض). أما كون الدم المذكور نفاسًا على المذهب؛ فلأنه دم في زمن النفاس فكان نفاسًا كما لو اتصل. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 342 كتاب الحيض، باب النفاس. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج الدارقطني في السنن عن عثمان بن أبي العاص «أنه كان يقول لنسائه: لا تشوفن لي دون الأربعين، ولا تجاوزن الأربعين». كتاب الحيض (67) 1: 220. وعنه (68): «أنه قال لامرأته لما تعلت من نفاسها وتزينت: ألم أخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نعتزل النفساء أربعين ليلة». (¬3) في المقنع: وإذا.

وأما كونه مشكوكًا فيه على روايةٍ فلتعارض الأدلة في كونه نفاسًا أم لا. وأما كون من انقطع دمها فيما ذكر ثم عاد فيه تصوم وتصلي على الرواية المذكورة؛ فلأن النفاس المشكوك فيه كالحيض المشكوك. والحيض المشكوك فيه حكمه حكم الطهر والمرأة في حال طهرها تصوم وتصلي فكذلك هنا لأن حكمها حكمه. ولأن وجوب العبادة في زمنها متيقن وقد شك في كون هذا الدم نفاسًا فلا تعدل عن اليقين بالشك. وأما كونها تقضي الصوم المفروض؛ فلأنه يحتمل أن يكون نفاسًا فلا يصح الصوم فيه. فإن قيل: فما الفرق بين هذا وبين الدم الزائد على الست أو السبع في حق الناسية إذ لا يجب عليها قضاء ما صامته فيه مع الشك. قيل: الفرق بينهما أن غالب عادات النساء حيض ست أو سبع وما زاد نادر. والغالب من النفاس أربعون يومًا وما نقص نادر. ولأن الحيض يتكرر فيشق القضاء بخلاف النفاس. قال: (وإن ولدت توأمين فأول النفاس من الأول وآخره منه. وعنه أنه من الأخير. والأول أصح). أما كون أول نفاس من ذلك من الأول؛ فلأنه دم يعقبه ولادة فكان أوله من الأول كما لو لم تأت بالآخر. وأما كون آخره منه على روايةٍ فلما ذكر. وأما كون آخره من الثاني على روايةٍ؛ فلأن كل واحد منهما سبب للمدة فلما اجتمعا اعتبر أوله من الأول وآخره من الأخير كما لو وطئت في العدة. وأما كون الأول أصح؛ فلأن الولد الثاني تبع الأول فلم يعتبر في آخر النفاس كأوله.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة الصلاة في اللغة: الدعاء. قال الله تعالى: {وَصَلِّ عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم} [التوبة: 103] أي ادع لهم إن دعاءك سكن لهم. وفي الشرع: عبارة عن الأفعال المخصوصة المشتملة على الأذكار والدعاء. وسميت في الشرع صلاة لاشتمالها على الدعاء. وقيل: لرفع الصَّلاَ في الركوع. والصَّلاَ مَغْرِز الذنب من الفرس. وقيل: سميت صلاة لما فيها من الخشوع. يقال: صليت العود بالنار إذا لينته. فالمصلي يلين ويخشع. والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {أقيموا الصلاة} [الأنعام: 72]، وقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا} [النساء: 103] أي مؤقتاً. وأما السنة؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» (¬1) متفق عليه. وأما الإجماع فأجمع المسلمون على وجوب الصلوات الخمس في اليوم والليلة. قال المصنف رحمه الله: (وهي واجبة على كل مسلم بالغ عاقل إلا الحائض والنفساء). أما كون الصلاة واجبة على كل مسلم بالغ عاقل ليس حائضاً ولا نفساء فلدخوله فيما تقدم من الكتاب والسنة والإجماع. وأما كونها غير واجبة على الحائض؛ فلقوله عليه السلام: «أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل» (¬2) رواه البخاري. ولقول عائشة رضي الله عنها: «كنا نؤمر بقضاء [الصوم ولا نؤمر بقضاء] (¬3) الصلاة» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (8) 1: 12 كتاب الإيمان، باب الإيمان. وأخرجه مسلم في صحيحه (16) 1: 45 كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإيمان. كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (298) 1: 116 كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (315) 1: 122 كتاب الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (335) 1: 265 كتاب الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة. واللفظ له.

وأما كونها غير واجبة على النفساء؛ فلأن حكمها حكم الحائض في غير ذلك. فكذلك في هذا. وتقييد المصنف رحمه الله وجوب الصلاة بما ذكر مشعر بعدم وجوبها على كافر وصبي ومجنون. وسيأتي ذلك مصرحاً به إن شاء الله تعالى. قال: (وتجب على النائم، ومن زال عقله بسكر، أو إغماء، أو شرب دواء). أما كون الصلاة تجب على النائم؛ فلأنه يجب عليه قضاؤها إذا استوعب وقت الأداء بالنوم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو أنسيها فليصلها إذا ذكرها» (¬1) متفق عليه. أمر والأمر للوجوب. وإذا كان القضاء واجباً اقتضى تعلق الخطاب بالنائم لأنه لو لم يكن كذلك لما وجب القضاء بدليل المجنون. وأما كونها تجب على من زال عقله بسكر؛ فلأن سكره معصية فلا يناسب إسقاط الواجب عنه. ولأن حكمه حكم الصاحي في الطلاق والإقرار والحد بالقذف ونحو ذلك. فكذلك يجب أن يكون حكمُه حكمَه في وجوب الصلاة. وأما كونها تجب على المغمى عليه فـ «لأن عماراً روي أنه غشي عليه ثلاثاً. ثم أفاق فقال: هل صليت؟ قالوا: ما صليت منذ ثلاث. فقال: أعطوني وضوءاً فأعطوه. فتوضأ ثم صلى تلك الثلاثة» (¬2). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 292 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وقد روى عبدالرزاق «أن عمار بن ياسر رُمي فأغمي عليه في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء فأفاق نصف الليل. فصلى الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء». (4156) 2: 479 - 480. كتاب الصلاة، باب: صلاة المريض على الدابة وصلاة المغمى عليه. وأخرجه ابن شيبة في مصنفه (6583) 2: 71 كتاب الصلوات، ما يعيد المغمى عليه من الصلاة. نحوه. وأخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 81 كتاب الصلاة، باب: الرجل يغمى عليه وقد جاء وقت الصلاة هل يقضي أم لا؟ وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 388 كتاب الطهارة، باب: المغمى عليه يفيق بعد ذهاب الوقتين فلا يكون عليه قضاؤهما. كلهم عن السدي عن يزيد مولى عمار. قال صاحب التعليق المغني 1: 81 - 82: قوله: عن السدي، هو إسماعيل بن عبدالرحمن السدي، كان يحيى بن معين يضعفه، وكان يحيى بن سعيد، وعبدالرحمن بن مهدي لا يريان به بأسا، ولم يحتج به البخاري. وشيخه يزيد مولى عمار مجهول. والحديث رواه البيهقي في المعرفة، وقال: قال الشافعي: هذا ليس بثابت عن عمار، ولو ثبت فمحمول على الاستحباب. وقال ابن التركماني (1: 387): سكت -أي البيهقي- عنه، وسنده ضعيف.

وروى أبو مجلز: «أن سمرة بن جندب قال: المغمى عليه يترك الصلاة. يصلي مع كل صلاة مثلها. قال: قال عمران: زعم. ولكن ليصليهن جميعاً» (¬1) رواهما الأثرم. وجه الحجة: أن ما ذكر فعل الصحابة وقولهم ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعاً. ولأن الإغماء لا يؤثر في إسقاط فرض الصيام فلا يؤثر في إسقاط الصلاة كالنوم. وأما من زال عقله بشرب دواء فقد أطلق المصنف رحمه الله القول فيه بوجوب الصلاة عليه. وقال في المغني: ينظر فيه فإن كان -يعني شُربُ الدواءِ- محرماً لم تسقط عنه الفرائض بذلك كما لو شرب مسكراً، وإن كان مباحاً له شربه سقط عنه فرض الصلاة كما لو زال بجنون. ثم قال: ويتوجه أن لا يسقط كما لو زال بالإغماء. قال: (ولا تجب على كافر ولا مجنون. ولا تصح منهما. وإذا صلى الكافر حكم بإسلامه). أما كون الصلاة لا تجب على كافر؛ فلأنها لو وجبت عليه في حال كفره لوجب عليه قضاؤها في حال السلامة لأن وجوب الأداء يقتضي وجوب القضاء واللازم منتف لقول الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]. ولأنه قد أسلم كثير في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده فلم يُؤمروا بقضاء. ولأن في إيجاب القضاء تنفيراً لهم عن الإسلام فعفي عنه. ولا فرق بين الأصلي والمرتد فيما ذكر لاستوائهما في ذلك. وعن الإمام أحمد يجب على المرتد قضاء ما ترك حال ردته؛ لأنه اعتقد وجوبها وأمكنه التسبُّبَ إلى أدائها أشبه المسلم. والأول المذهب؛ لأن الدليل الدال على إسقاط العبادة في حق الأصلي موجود في حق المرتد فوجب أن يثبت له حكمه عملاً بالمقتضي الشامل لهما. وأما كونها لا تجب على مجنون؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: ذكر منهم المجنون حتى يُفيق» (¬2) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6584) 1: 71 كتاب الصلوات، ما يعيد المغمى عليه من الصلاة. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1423) 4: 32 كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد. ولفظه: عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل». وأخرجه النسائي في سننه عن عائشة ولفظه: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق». (3432) 6: 156 كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2041) 1: 658 كتاب الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغير والنائم. مثل حديث عائشة.

ولأن مدته تطول غالباً فعفي عنه لما في إيجاب القضاء المتكرر من الضرر المنتفي شرعاً. وأما كونها لا تصح من كافر ولا مجنون؛ فلأن من شرط صحتها النية وهي لا تصح من كافر ولا تقع من مجنون. ولأن صحة الصلاة تقتضي دخول الجنة غالباً وذلك معلوم الانتفاء مع الكفر. ولأن السكران ممنوع من فعل الصلاة لزوال عقله فكذلك المجنون لاشتراكهما في الزوال بل أولى لأن المجنون لا يدرك شيئاً بخلاف السكران فإنه قد يدرك بعض الأشياء. وأما كون الكافر إذا صلى حكم بإسلامه؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا: فهو منا. له ما لنا وعليه ما علينا» (¬1). ولأن الصلاة عبادة تختص شرعنا أشبهت الشهادة. وسواء في ذلك صلاته في دار الحرب أو في دار الإسلام. جماعة أو فرادى؛ لعموم ما ذكر. قال: (ولا تجب على صبي. وعنه تجب على من بلغ عشراً). أما كون الصلاة لا تجب على صبي لم يبلغ عشراً فلا خلاف فيه عند الإمام أحمد؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ ... الحديث» (¬2). وأما كونها لا تجب على من بلغ عشراً ولم يبلغ على المذهب؛ فلما ذكر. وأما كونها تجب عليه على روايةٍ؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة لسبع واضربوه عليها لعشر» (¬3). والضرب لا يكون إلا لترك واجب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (385) 1: 153 أبواب القبلة، باب فضل استقبال القبلة. وفيه: «فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم» بدل قوله: «فهو منا له ما لنا وعليه ما علينا». (¬2) سبق تخريجه ص: 258. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (494) 1: 133 كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (407) 2: 259 أبواب الصلاة، باب: ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، ولفظه: «علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر». وأخرجه أحمد في مسنده (6689) 2: 180.

والصحيح الأول؛ لما ذكر من الحديث. والضرب للتمرين. قال: (ويؤمر بها لسبع ويضرب على تركها لعشر [فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها لزمه إعادتها). أما أمر الصبي بالصلاة لسبع وضربه عليها لعشر] (¬1) فللحديث المذكور قبل. وأما كون من بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها يلزمه إعادتها؛ فلأن الأولى (¬2) وقعت نفلاً. وببلوغه في الوقت صارت الصلاة واجبة عليه فلم تجزئه عن الفرض كما لو نوى نفلاً في صلاة مفروضة. قال: (ولا يجوز لمن وجبت عليه الصلاة تأخيرها عن وقتها إلا لمن ينوي الجمع أو لمشتغل بشرطها). أما كون من وجبت عليه الصلاة لا يجوز له تأخيرها عن وقتها لغير المستثنى؛ فلأن الصلاة يجب إيقاعها في الوقت فإذا خرج الوقت ولم يأت بها كان تاركاً للواجب مخالفاً للأمر. والتارك للواجب المخالف للأمر عاصٍ مستحق للعقاب. وأما كون من ينوي الجمع يجوز له تأخيرها عن وقتها فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الأولى في الجمع فيصليها في وقت الثانية» (¬3). وسيأتي ذلك مبيناً في باب الجمع (¬4). ولأن وقت الصلاتين يصير وقتاً لكل واحدة منهما. فإن قيل: فإذا كان كذلك فلا حاجة إلى استثناء من ينوي الجمع لأن الاستثناء له إنما هو من التأخير عن آخر الوقت. فإذا كان الوقتان وقتاً لهما لم يحتج إلى ذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) في ب: أولى. (¬3) كما في حديث معاذ بن جبل، وسوف يأتي ذكره ص: 512. (¬4) ر ص: 512 ..

قيل: لما كان وقت كل صلاة معلوماً تبادر الذهن عند قولنا عن وقتها إليه. وذلك يحتاج معه إلى الاستثناء لأن من ينوي الجمع يجوز أن يؤخر الصلاة عن آخر ذلك الوقت المتبادر إلى الذهن. وأما كون المشتغل بشرط الصلاة يجوز له تأخيرها عن وقتها؛ فلأنه لا يجوز له الدخول في الصلاة مع عدم شرطها. فكيف يوصف الدخول بالوجوب؛ لأن قولنا لا يجوز له التأخير ينافيه قولنا يجب عليه الدخول. إذا علم ذلك ففي جواز التأخير للمشتغل بالشرط نظر. وذلك من وجهين: أحدهما: أنه لم ينقله أحد من الأصحاب ممن تقدم المصنف رحمه الله ممن نعلمه. بل نقلوا المسألة المتقدم ذكرها واستثنوا من نوى الجمع لا غير. ذكر ذلك أبو الخطاب في هدايته وصاحب النهاية فيها وفي خلاصته. وثانيهما: أن ذلك يدخل فيه من أخر الصلاة عمداً حتى بقي من الوقت مقدار الصلاة. ولا وجه لجواز التأخير له. قال: (ومن جحد وجوبها كفر. فإن تركها تهاوناً لا جحوداً دعي إلى فعلها، فإن أبى حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتله. وعنه: لا يجب حتى يترك ثلاثاً ويَضيق وقت الرابعة. ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل بالسيف. وهل يقتل حداً أو لكفره؟ على روايتين). أما كون من جحد وجوب الصلاة يكفر؛ فلأنه كذب الله تعالى في خبره. وأما كون من تركها تهاوناً لا جحوداً يُدعى إلى فعلها فلاحتمال أنه تركها لعذر يعتقد سقوطها بمثله كالمرض ونحوه. وأما كون من تركها تهاوناً ودعي إلى فعلها وأبى يجب قتله في الجملة؛ فلأن الصلاة آكد من الزكاة. وقد أجمع الصحابة على وجوب قتل مانعها؛ فلأن يجب قتل تارك الصلاة بطريق الأولى. وأما كونه يجب قتله إذا تضايق وقت الثانية على المذهب؛ فلأنه إذا لم يجب قتله بالأولى في وقتها لإمكان فعلها فيه ولا إذا خرج وقتها لأنها صارت فائتة -والفائتة لا يقتل بها لأن وقتها موسع في بعض المذاهب- تعين وجوب قتله إذا ضاق وقت الثانية عن فعلها لأنه يُعلم أنه قد عزم على ترك الصلاة.

وأما كونه لا يجب قتله حتى يترك ثلاثاً ويَضيق وقت الرابعة على روايةٍ؛ فلأنه قد يترك الصلاة والصلاتين والثلاث لشبهة. فإذا ترك الرابعة علم أنه عزم على ترك الصلاة بالكلية. وأما كونه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام فبالقياس على المرتد. وأما كونه يقتل إن لم يتب فكالمرتد إذا لم يتب، وكمانع الزكاة إذا لم يؤدها. وأما كونه يقتل بالسيف؛ فلأنه قتلٌ واجب فكان بالسيف كالقصاص. وأما كونه يقتل حداً على روايةٍ فبالقياس على الزاني المحصن. وأما كونه يقتل لكفره فلقول الله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} إلى قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة: 5]. وقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه الذمة» (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» (¬2) رواه مسلم. ولأن الصلاة من دعائم الإسلام لا يدخلها نيابة نفس ولا مال فيكون تاركها كافراً كالشهادتين. وهذه الرواية هي ظاهر المذهب لما ذكر. والأولى اختيار المصنف رحمه الله؛ لما ذكر. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له» (¬3) من المسند. والكافر لا يدخل تحت مشيئته. ولأنها فعل واجب فلم يكفر تاركها المعتقد لوجوبها كالحج. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (4034) 2: 1339 كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء. وأخرجه أحمد في مسنده (27402) 6: 421. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (82) 1: 88 كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1420) 2: 62 كتاب الصلاة، باب فيمن لم يوتر. وأخرجه النسائي في سننه (461) 1: 230 كتاب الصلاة، باب المحافظة على الصلوات الخمس. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1401) 1: 449 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس والمحافظة عليها. وأخرجه أحمد في مسنده (22745) 5: 316، كلهم عن عبادة بن الصامت بألفاظ متقاربة.

باب الأذان والإقامة

باب الأذان والإقامة الأذان (¬1) في اللغة: الإعلام. قال الله تعالى: {وأذان من الله ورسوله} [التوبة: 3] أي وإعلام. وقال تعالى: {فقل آذنتكم على سواء} [الأنبياء: 109] أي أعلمتكم فاستوينا في العلم. قال الشاعر (¬2): آذَنَتْنَا بِبَيْنِها أسماءُ ... رب ثاوٍ يَمَلُّ منه الثَّواءُ وقال الحطيئة (¬3): أَلاَ إنّ ليْلى آذَنَتْ بِقُفُولٍ ... وما آذَنَتْ ذا حَاجَةَ برَحِيلِ وفي الشرع: [هو] (¬4) الإعلام بدخول الوقت للصلاة. يقال: أذّن يُؤذن أذاناً وتأذيناً أي أعلم الناس بدخول الوقت للصلاة. وشُدد للمبالغة والتكثير؛ لأن المؤذن يكرر الشهادتين. والإقامة في اللغة: الإدامة. ومنه قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} [البقرة: 3] أي ويديمون فعلها. وفي الشرع هنا: إعلام الحاضرين بقيام الصلاة ليقوموا فيصطفوا. والأصل في الأذان قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]، ، وقوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعبا} [المائدة: 58]، ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه» (¬5) رواه البخاري. ¬

_ (¬1) سقط عنوان الباب من ب. (¬2) ديوانه بتحقيق: د. أميل بديع يعقوب، ص 19. (¬3) ديوانه بشرح ابن السكيت والسكري والسجستاني، تحقيق: نعمان أمين طه، ص 5. (¬4) زيادة من ج. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (624) 1: 233 كتاب الجماعة والإمامة، باب الصف الأول. وأخرجه مسلم في صحيحه (437) 1: 325 كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال المصنف رحمه الله: (وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها. للرجال دون النساء). أما كون الأذان والإقامة مشروعين للصلوات الخمس للرجال؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُؤذن له للصلوات الخمس وتقام سفراً وحضراً. وأما كونهما غير مشروعين في غير الصلوات الخمس؛ فلأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما كونهما غير مشروعين للنساء؛ فلأنهما مشروعان للإعلام. يسن فيهما رفع الصوت ورفع الصوت مكروه للنساء لأن صوتهن عورة. وقد روى النجاد بإسناده عن أسماء قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ... مختصر» (¬1). قال: (وهما فرض على الكفاية. إن اتفق أهل بلد على تركهما قاتلهم الإمام). أما كون الأذان فرضاً على الكفاية؛ فلما روى مالك بن الحويرث قال: «أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأقمنا عنده عشرين يوماً. وكان رحيماً رفيقاً. فظن أننا قد اشتقنا إلى أهلنا. فقال: ارجعوا إلى أهلكم. وليؤذن أحدكم وليؤمكم أكبركم» (¬2) متفق عليه. أمر أحدهم بالأذان فظاهر الأمر الوجوب فيكون ذلك فرضاً على الكفاية للإجماع على أنه ليس فرضاً على الأعيان. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 408 ذكر جماع أبواب الأذان والإقامة، باب ليس على النساء أذان ولا إقامة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (653) 1: 242 كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم. وأخرجه مسلم في صحيحه (674) 1: 465 كتاب المساجد، باب من أحق بالإقامة.

وقد روى أبو الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ثلاثة لا يُؤذن ولا يُقام فيهم إلا استحوذ عليهم الشيطان» (¬1) رواه البخاري. ولأن الأذان من شعائر الإسلام أشبه الجهاد. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليه سفراً وحضراً ولو كان ذلك غير واجب لبين حكمه بالترك ولو مرة. وأما كون الإقامة فرضاً على الكفاية؛ فلأنها كأذان معنى فوجب أن تكون كالأذان حكماً. وعن الإمام أحمد أنها سنة؛ لما روى الأثرم بإسناده عن علقمة والأسود قالا: «دخلنا على عبدالله فقام فصلى بلا أذان ولا إقامة» (¬2). و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته: إذا أدركتَ الصلاة فأحسن الوضوء. ثم استقبل القبلة فكبر» (¬3). ولم يأمره بأذان ولا إقامة. والصحيح الأول لما ذكر. وحديث المسيء يدل على أن الأذان والإقامة ليسا ركناً ولا شرطا لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين له الأركان والشرائط ونحن نقول به. وذلك لا ينفي كونهما فرضين على الكفاية. فإن قيل: ذلك يختص أهل البلدان أم يعم البلدان والقرى والصحراء جماعة وفرادى؟ قيل: يختص أهل البلدان. ذكره القاضي؛ لأنها هي المواضع التي يقصد فيها شعائر الإسلام غالباً. وتختص الجماعة بذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (547) 1: 150 كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة، ولفظه: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية». وأخرجه النسائي في سننه (847) 2: 106 كتاب الإمامة، التشديد في ترك الجماعة، نحوه. وأخرجه أحمد في مسنده (21758) 5: 196، نحوه. ولم أره عند البخاري. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 406 ذكر جماع أبواب الأذان والإقامة، باب الاكتفاء بأذان الجماعة وإقامتهم. (¬3) حديث المسيء في صلاته: أخرجه البخاري في صحيحه (724) 1: 263 كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، في الحضر والسفر. وأخرجه مسلم في صحيحه (397) 1: 298 كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... ، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقيل: يعم ما ذكر. وهو الصحيح من المذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له ويقام سفراً وحضراً. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد الخدري: إذا كنت في غنمك أو في باديتك فأذّنت بالصلاة فارفع صوتك فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» (¬1) رواه البخاري. ويكفي أذان واحد لجميع أهل البلد الصغير والمحلة الكبيرة إذا كان يسمعهم جميعهم؛ لأن الغرض إسماعهم. وذلك حاصل بما ذكر. وأما كون الإمام يُقاتل أهل بلد اتفقوا على تركهم الأذان والإقامة؛ فلأنهم تركوا ما هو من شعائر الإسلام الظاهرة. فكان للإمام أن يقاتلهم؛ كما لو تركوا الجهاد. وظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أن ما ذكر مرتب على القول بفرضهما على الكفاية لأنه قال: وهما فرض على الكفاية إن اتفق أهل بلد. وهو ظاهر كلامه في المغني أيضاً؛ لأنه حكى أنهما فرض كفاية. ثم قال: فعلى هذا إذا قام به قوم سقط عن الباقين. فإن اتفق أهل بلد على تركهما قاتلهم الإمام. فعلى هذا يكون قتال الإمام لهم لتركهم الواجب كقتال مانعي الزكاة. وقال صاحب النهاية فيها: سواء قلنا أنهما سنة أو واجب متى اتفق أهل بلد على تركهما قاتلهم الإمام لأنهما من أعلام الدين الظاهرة فلا يرخص في تعطيلهما لأن الشعائر المستمرة الظاهرة في الشريعة لو خلا منها قطرٌ لتبادر الخلق بالإنكار والاستنكار. قال: (ولا يجوز أخذ الأجرة عليهما في أظهر الروايتين. فإن لم يوجد متطوع بهما رَزق الإمامُ من بيت المال من يقوم بهما). أما كون أخذ الأجرة على الأذان لا يجوز في أظهر الروايتين؛ فلما روى عثمان بن أبي العاص أنه قال: «إن آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» (¬2). قال الترمذي: حديث حسن. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (584) 1: 221 كتاب الأذان، باب رفع الصوت بالنداء. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (531) 1: 146 كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين. وأخرجه الترمذي في جامعه (209) 1: 409 أبوب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن أجراً. وأخرجه أحمد في مسنده (16314) 4: 21.

ولأنه يقع قربة لفاعله أشبه الإمامة. وأما كونه يجوز على روايةٍ؛ فلأن فعله عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه [فجاز أخذ الأجرة عليه] (¬1) كسائر الأعمال. والأولى أصح؛ لأن دليل الثانية قياس مع وجود النص وذلك فاسد. وأما كون أخذ الأجرة على الإقامة لا يجوز ففيه الروايتان المذكورتان لأنها كالأذان معنى فكذا يجب أن تكون حكماً. وأما كون الإمام يَرزق من بيت المال من يقوم بهما إذا لم يوجد متطوع بهما؛ فلأن الحاجة داعية إليه فجاز إعطاء الرزق عليه كالجهاد. وتقييد المصنف رحمه الله رزق الإمام بعدم وجدان متطوع مشعر بأنه إذا وجد متطوع بهما لم يرزقه من بيت المال. وهو صحيح لأن بيت المال مُرْصَدٌ للمصلحة ولا مصلحة في الرزق مع وجدان المتطوع فلا يفعل لعدم المصلحة. قال: (وينبغي أن يكون المؤذن صَيِّتاً أميناً عالماً بالأوقات). أما كون المؤذن ينبغي أن يكون صيتاً فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدالله: ألقه على بلال فإنه أندى صوتاً» (¬2). ولأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان. وأما كونه ينبغي أن يكون أميناً؛ فلأنه يحتاج إلى ذلك لكونه يُؤمَن على الأوقات، وعلى الكف عن النظر إلى الجيران. وأما كونه ينبغي أن يكون عالماً بالأوقات فليتمكن من الأذان في أول الأوقات. قال: (فإن تشاح فيه نفسان قدم أفضلهما في ذلك. ثم أفضلهما في دينه وعقله. ثم من يختاره الجيران، فإن استويا أقرع بينهما). أما كون أفضل المؤذنيْن في ذلك -أي في الصوت والأمانة والعلم بالأوقات- يقدم إذا تشاحا؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم بلالاً على عبدالله لكونه أندى صوتاً منه» (¬3). والأمران الآخران في معناه. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) سوف يأتي تخريجه ص: 269 من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه. (¬3) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق.

وأما كون أفضلهما في دينه وعقله يقدم؛ فلأنه إذا قدم بالأفضل في الصوت؛ فلأن يقدم بالأفضل في ذلك بطريق الأولى؛ لأن مراعاة الدين والعقل أولى من مراعاة الصوت لأن ضرر فقد الدين أو العقل شديد؛ لأنه يتعدى إلى رؤية الجيران وغير ذلك بخلاف ضرر فَقْدِ حسن الصوت؛ فلأنه لا يؤدي إلى ذلك. وأما كون من يختاره الجيران يقدم بعد ما تقدم ذكره؛ فلأنهم أعلم بمن يبلغهم صوته ولا ينظر إلى حريمهم ويكف عن عوراتهم فاعتبر اختيارهم ورجح به كالإمامة. وأما كونهما يقرع بينهما إذا استويا؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه» (¬1) متفق عليه. و«لأنه لما تشاح الناس يوم القادسية في الأذان فاختصموا إلى سعد أقرع بينهم» (¬2). فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله يقتضي تقديم من يختاره الجيران على القرعة. قيل: في ذلك روايتان. إحداهما: هو كذلك؛ لما ذكر قبل. والثانية: يقدم من خرجت له القرعة لأن القرعة تزيل الإبهام وتجعل من خرجت له كالمستحق المتعين. قال: (والأذان خمس عشرة كلمة. لا ترجيع فيه. والإقامة إحدى عشرة كلمة. فإن رجع في الأذان أو ثنى الإقامة فلا بأس. ويقول في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم مرتين). أما كون الأذان خمس عشرة كلمة، والإقامة إحدى عشرة كلمة؛ فلما روى عبدالله بن زيد قال: «لما أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يُعمل لجمع الناس للصلاة وهو كاره لموافقة النصارى. طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً. فقلت له: يا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (590) 1: 222 كتاب الأذان، باب الاستهمام في الأذان. وأخرجه مسلم في صحيحه (437) 1: 325 كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 428 - 429 كتاب الصلاة، باب الاستهام على الأذان. وعلقه البخاري في صحيحه 1: 222 كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان. ولفظه: ويذكر: أن أقواماً اختلفوا في الأذان، فأقرع بينهم سعد.

عبدالله! ألا تبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة. فقال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك. فقلت له: بلى. قال: تقول: الله أكبر الله أكبر. الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله. حي على الصلاة حي على الصلاة. حي على الفلاح حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. ثم استأخر عني غير بعيد. قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله. حي على الصلاة حي على الفلاح. قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت. قال: إنها رؤيا حق إن شاء الله. فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت. فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك. قال: فجعلت أُلقيه عليه ويؤذن به. فسمع عمر ذلك وهو في بيته. فخرج يجر رداءه. فقال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لقد رأيتُ مثل الذي رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله» (¬1) رواه أبو داود. وذكر الترمذي آخره بهذا الطريق. وقال: حديث عبدالله بن زيد حديث حسن صحيح. فإن قيل: ما معنى هذه (¬2) الكلمات؟ . قيل: معنى حي على الصلاة أقبلوا إلى الصلاة. وقيل: أسرعوا. ومعنى الفلاح البقاء لأن المصلي يدخل الجنة إن شاء الله فيبقى فيها ويخلد. وقيل: هو الرشد والخير. وطَالِبُهُما مفلح لأنه يصير إلى الفلاح. وقيل: هو إدراك الطلب والظفَر. وأما كون الأذان لا ترجيع فيه. وهو: أن يُكرر لفظ الشهادتين يَخفض بهما صوته. ثم يرفعه؛ فلأن أذان عبدالله لا ترجيع فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (499) 1: 135 كتاب الصلاة، باب كيف الأذان. وأخرجه الترمذي في جامعه (189) 1: 385 أبواب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان. وأخرجه أحمد في مسنده (16524) 4: 43. (¬2) في ب: هذا.

وأما كون المؤذن إذا رجَّع في الأذان لا بأس فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان مُرَجّعاً» (¬1). رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قيل لأحمد رحمة الله عليه: حديث أبي محذورة بعد فتح مكة. قال: أليس قد رَجَع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأقر بلالاً على أذانه. أشار الإمام أحمد رحمة الله عليه إلى ترجيح أذان بلال من حيث إنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أذانه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما كونه إذا ثنى الإقامة. وهو: أن يقيم كما يؤذن بزيادة قد قامت الصلاة مرتين لا بأس؛ فلأن في حديث عبدالله بن زيد في بعض طرقه «أنه أقام مثل أذانه» (¬2) رواه أبو داود. وأما قول المصنف رحمه الله: فلا بأس؛ فمشعر بأن الأولى أن لا يرجع الأذان ولا يثني الإقامة. وهو صحيح لأن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك في أذانه ولا في إقامته. وفي الحديث: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» (¬3) متفق عليه. وروى ابن عمر [قال] (¬4): «كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين والإقامة واحدة. غير أن المؤذن كان إذا قال: قد قامت الصلاة قالها مرتين» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (191) 1: 366 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (506) 1: 138 كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، ولفظه: « ... فأذن ثم قعد قعدة ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة». وأخرجه أحمد في مسنده 5: 246. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 420 - 421 كتاب الصلاة، باب ما روي في تثنية الأذان والإقامة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (582) 1: 220 كتاب الأذان، باب الإقامة واحدة. وأخرجه مسلم في صحيحه (378) 1: 286 كتاب الصلاة، باب الأمر يشفع الأذان. (¬4) زيادة من ج. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (510) 1: 141 كتاب الصلاة، باب في الإقامة. وأخرجه النسائي في سننه (668) 2: 20 كتاب الأذان، كيف الإقامة. وأخرجه أحمد في مسنده (5569) 2: 85.

وأما كونه يقول في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم مرتين؛ فلما روى أبو محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن كان في أذان الصبح قلت: الصلاة خير من النوم مرتين» (¬1) رواه النسائي. قال: (ويستحب أن يَتَرَسَّلَ في الأذان. ويحدر الإقامة (¬2). ويؤذن قائماً متطهراً على موضع عال مستقبل القبلة. فإذا بلغ الحيعلة التفت يميناً وشمالاً ولم يستدر. ويجعل أصبعيه في أذنيه. ويتولاهما معاً. ويقيم في موضع أذانه إلا أن يشق عليه). أما كون المؤذن يستحب أن يَتَرَسّل في الأذان -وهو التمهل والتأني. من قولهم جاء فلان على رِسْله- وأن يحدر الإقامة وهو الإسراع؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر» (¬3). رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث غريب. وأما كونه يستحب أن يؤذن قائماً؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: قم فأذن» (¬4). ولأنه أبلغ في الإسماع. وأما كونه يستحب أن يؤذن متطهراً؛ فلأن أبا هريرة قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» (¬5). وروي مرفوعاً. أخرجه الترمذي. وأما كونه يستحب أن يؤذن على موضع عال؛ فلأنه أبلغ في الإعلام. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (500) 1: 136 كتاب الصلاة، باب كيف الأذان. وأخرجه النسائي في سننه (647) 2: 13 كتاب الأذان، التثويب في أذان الفجر. (¬2) في المقنع: ويحدر في الإقامة. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (195) 1: 373 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الترسل في الأذان. قال الترمذي: حديث جابر هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عبد المنعم وهو إسناد مجهول وعبد المنعم شيخ بصري. ولم أره عند أبي داود. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (570) 1: 214 كتاب مواقيت الصلاة، باب الأذان بعد ذهاب الوقت. وأخرجه مسلم في صحيحه (377) 1: 285 كتاب الصلاة، باب بدء الأذان. بلفظ: «يا بلال! قم. فناد بالصلاة». (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (200) مرفوعاً، وفي (201) موقوفاً 1: 389 أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الأذان بغير وضوء. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 397 مرفوعاً. قال الترمذي: وهذا -أي الموقوف- أصح من الحديث الأول -أي المرفوع-. ثم قال: والزهري لم يسمع من أبي هريرة. وقال البيهقي: والصحيح رواية يونس وغيره عن الزهري قال: قال أبو هريرة.

وأما كونه يستحب أن يؤذن مستقبل القبلة فاقتداء بمؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأنه دعاء إلى جهة القبلة فاقتضى أن يكون من (¬1) سنته التوجه إليها. وأما كونه يستحب أن يلتفت إذا بلغ الحيعلة يميناً وشمالاً ولا يستدبر القبلة؛ فلما روى أبو جحيفة قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له حمراء من أدم. فأذن بلال فجعلت أتتبع فاه يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة حي على الفلاح» (¬2) متفق عليه. وفي لفظ: «ولم يستدر» (¬3) رواه أبو داود. وأما كونه يستحب أن يجعل أصبعيه في أذنيه؛ فلأن في حديث أبي جحيفة: «وأصبعاه في أذنيه» (¬4) رواه الترمذي. وأما كونه يستحب أن يتولى الأذان والإقامة معاً؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخا صداء أذّن ومن أذّن فهو يقيم» (¬5) من المسند. ولأنهما فصلان من الذكر يندبان للصلاة فاستحب أن يتولاهما واحد كالخطبتين. وأما كونه يستحب أن يقيم في موضع أذانه إذا لم يشق عليه؛ فلأن الإقامة مشروعة للإعلام فشرعت في موضع الأذان ليكون أبلغ. ولأنه فصل باق من الذكر يتقدم عليه فصل من جنسه فكان محلهما واحد كالخطبتين. فإن قيل: المراد بالإقامة في موضع الأذان عدم التأخر عنه مطلقاً أم لا. قيل: التأخر عنه باليسير غير البعيد لا يخل بالسنة لأن في حديث عبدالله بن زيد «فاستأخر غير بعيد» (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (608) 1: 227 كتاب الأذان، باب هل يتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا؟ . وأخرجه مسلم في صحيحه (503) 1: 360 كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (520) 1: 143 كتاب الصلاة، باب في المؤذن يستدير في أذانه. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (197) 1: 375 أبواب الصلاة، باب ما جاء في إدخال الإصبع في الأذن عند الأذان، وقال: حسن صحيح وعليه العمل عند أهل العلم يستحبون أن يدخل المؤذن أصبعيه في أذنيه في الأذان. وأخرجه أحمد في مسنده (18781) 4: 308. (¬5) سوف يأتي تخريجه ص: 274 من حديث زياد بن الحارث الصدائي. (¬6) حديث عبدالله بن زيد سبق تخريجه ص: 269 ولم أقف على هذا اللفظ.

وأما كونه لا يستحب ذلك إذا شق عليه مثل أن يكون في منارة أو شبهها؛ فلأن فيه تفويتاً للركعة الأولى. قال: (ولا يصح الأذان إلا مرتباً متوالياً. فإن نكسه أو فرق بينه بسكوت طويل أو كلام كثير أو محرم لم يعتد به). أما كون الأذان لا يصح إلا مرتباً متوالياً؛ فلأنه [لا يعلم أنه أذان بدونهما. ولأنه] (¬1) شرع في الأصل مرتباً متوالياً وعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا محذورة مرتباً متوالياً. وأما كونه لا يعتد به إذا نكسه وهو أن يجعل آخره أوله وأوله آخره أو نحو ذلك، أو فرق بينه بسكوت طويل أو كلام كثير؛ فلما ذكر من أنه لا يعلم أنه أذان مع ذلك. وأما كونه لا يعتد به إذا فرق بينه بكلام محرم وإن قل كالقذف والسب؛ فلأنه فعل يخرجه عن أهلية الأذان أشبه الردة. قال: (ولا يجوز قبل دخول الوقت (¬2) إلا الفجر فإنه يؤذن لها بعد نصف الليل. ويستحب أن يجلس بعد أذان المغرب جلسة خفيفة ثم يقيم). أما كون الأذان لا يجوز قبل دخول الوقت في غير الفجر؛ فلأن الأذان شرع للإعلام بالوقت فلو جاز قبل الوقت لذهب مقصوده. وأما كونه يجوز في الفجر قبل ذلك؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» (¬3) متفق عليه. وهذا يدل على دوام ذلك. فإن قيل: هذا يدل على الجواز لكن بشرط كونهما مؤذنين كمؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: كونهما مؤذنين ليس بشرط. بدليل ما روى زياد بن الحارث الصدائي قال: «لما كان أذان الصبح أمرني النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت. فجعلت أقول: أقيم يا رسول ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) في المقنع: ولا يجوز إلا بعد دخول الوقت. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (595) 1: 224 كتاب الأذان، باب الأذان بعد الفجر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1092) 1: 768 كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم ... ، كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

الله! فجعل ينظر إلى ناحية المشرق. ويقول: لا. حتى إذا طلع الفجر نزل فبرز. ثم انصرف إلي وقد تلاحق أصحابه فتوضأ فأراد بلال أن يقيم ... الحديث» (¬1). رواه الترمذي. ولأن الفجرَ وقتُها وقت نوم الناس فجاز تقديم الأذان ليتأهبوا. ويحتمل أن فيهم من احتلم أو جامع فينتبه ليغتسل فيدرك الصلاة في أول وقتها. وأما كون الجواز المذكور يختص بعد نصف الليل؛ فلأن الليل إذا تنصف ترجح جانب الفجر. والمستحب أن لا يكون بين الأذان وطلوع الفجر إلا شيء قليل «لأنه كان بين أذان بلال وبين أذان ابن أم مكتوم قدر ما ينزل هذا ويطلع هذا» (¬2). ويستحب أن يكون مؤذنان: أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر عند طلوعه اقتداء بمؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليحصل الإعلام من أحدهما بقرب الوقت، ومن الآخر بدخول الوقت. وأما كون المؤذن يستحب أن يجلس بعد أذان المغرب جلسة خفيفة ثم يقيم؛ فلما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جلوس المؤذن بين الأذان والإقامة في المغرب سنة» (¬3) رواه تمام في الفوائد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (514) 1: 142 كتاب الصلاة، باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر. وأخرجه الترمذي في جامعه (199) 1: 383 أبواب الصلاة، باب ما جاء أن من أذن فهو يقيم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (717) 1: 237 كتاب الأذان والسنة فيها، باب السنة في الأذان. وأخرجه أحمد في مسنده (17572) 4: 169. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1092) 2: 768 كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ... ولفظه: «ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا». وأخرجه أحمد في مسنده (24214) 6: 44، مثله. (¬3) أخرجه تمام في فوائده (265) 1: 293. قال المناوي: فيه هشيم بن بشير أورده الذهبي في الضعفاء. وقال: ثقة يدلس وهو في الزهري لين. فيض القدير 3: 350. وقال في تيسير الوصول: إسناده لين. 1: 487. وأخرجه الديلمي في فردوس الأخبار 2: 175 ولفظه: «جلوس الإمام بين الأذان والإقامة من السنة».

قال: (ومن جمع بين صلاتين أو قضى فوائت أذّن وأقام للأولى ثم أقام لكل صلاة بعدها). أما كون من جمع بين صلاتين يؤذن ويقيم للأولى ثم يقيم؛ فلما روى جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما -أي بين المغرب والعشاء- بجَمْع بأذان وإقامتين» (¬1). وأما كون من قضى فوائت يؤذن ويقيم للأولى ثم يقيم لكل صلاة بعدها فـ «لأن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله. فأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى الظهر. ثم أمره فأقام وصلى العصر. ثم أمره فأقام وصلى المغرب. ثم أمره فأقام فصلى العشاء» (¬2) رواه أحمد. قال: (وهل يجزئ أذان المميز للبالغين؟ على روايتين). أما إجزاء أذان المميز على روايةٍ. ومعناه: أنه يعتد به؛ فلأنه ذَكَرٌ تصح صلاته أشبه البالغ. وروى ابن المنذر بإسناده عن عبدالله بن أنس قال: «كان عمومتي يأمروني أن أؤذن لهم وأنا غلام لم أحتلم وأنس بن مالك شاهد فلم ينكر ذلك عليهم». وهذا مما يظهر ولا يخفى فيكون كالإجماع. وأما عدم إجزائه على روايةٍ؛ فلأنه لا يقبل خبره فلم يصح الإعلام بأذانه. قال: (وهل يعتد بأذان الفاسق والملحن؟ على وجهين). أما كون أذان الفاسق لا يعتد به على وجهٍ؛ فلأنه لا يقبل خبره. ولأنه قد روي في الحديث: «وليؤذن لكم خياركم» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (179) 1: 337 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ. وأخرجه النسائي في سننه (622) 1: 297 كتاب الصلاة، باب كيف يقضي الفائت من الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (3555) 1: 375. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 403 كتاب الصلاة، باب الأذان والإقامة للجمع بين صلوات فائتات. وللحديث شاهد عند الشافعي في كتاب الأم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه 1: 75. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (590) 1: 161 كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (726) 1: 240 كتاب الأذان والسنة فيها، باب فضل الأذان وثواب المؤذنين. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 426 كتاب الصلاة، باب لا يؤذن إلا عدل ثقة ... من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ولأنه يستحب أن يؤذن على موضع عال فإذا لم يكن عدلاً فلا يؤمن منه النظر إلى العورات. وأما كونه يعتد به على وجهٍ؛ فلأنه أذان رجل مكلف فاعتد به كأذان العدل. وأما كون الأذان الملحن وهو الأذان الذي فيه تمديد لا يعتد به على وجهٍ؛ فلما روى ابن عباس قال: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فلا تؤذن» (¬1) رواه الدارقطني. ولأنه يخرج الكلام عن حد الإفهام. وأما كونه يعتد به على وجهٍ؛ فلأن المقصود الإعلام وهو يحصل به أشبه غير الملحن. قال: (ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول إلا في الحيعلة فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويقول بعد فراغه: اللهم! رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد). أما كون من سمع المؤذن يستحب له أن يقول كما يقول في غير الحيعلة؛ فلما روى أبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول» (¬2) متفق عليه. وأما كونه يستحب له أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله في الحيعلة؛ فلما روى عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر. فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (11) 1: 239، كتاب الصلاة، باب ذكر الإقامة واختلاف الروايات فيها. وأخرجه ابن الجوزي في كتاب الموضوعات 2: 82 باب الأذان سَمْح. ثم نقل عن ابن حبان أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسحاق -أحد رواة الحديث- لا يحل الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (586) 1: 221 كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي. وأخرجه مسلم في صحيحه (384) 1: 288 كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة.

فقال: أشهد أن محمداً رسول الله. ثم قال: حي على الصلاة. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي على الفلاح. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله أكبر الله أكبر. فقال: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة» (¬1) رواه مسلم. وأما كونه يستحب له أن يقول بعد فراغه: اللهم! رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد؛ فلما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم! رب هذه الدعوة التامة وذكر إلى قوله: الذي وعدته. حلت له الشفاعة يوم القيامة» (¬2) رواه البخاري. ولم يذكر الدرجة الرفيعة، ولم يُعَرّف المقام ولا المحمود. ورواه غيره معرفاً لهما. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (385) 1: 289 كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (589) 1: 222 كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء. وأخرجه النسائي في سننه (680) 2: 27 كتاب الأذان، باب الدعاء عند الأذان.

باب شروط الصلاة

باب شروط الصلاة الشروط: جمع شرط. والشرط في اللغة: ما يلزم من وجوده وجود المشروط. وفي الشرع: ما يلزم من عدمه عدمه؛ كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة. وسمي الشرط شرطاً لأنه علامة على المشروط. ومنه: أشراط الساعة أي علاماتها. قال المصنف رحمه الله: (وهي ما يجب لها قبلها. وهي ست: أولها: دخول الوقت. والثاني: الطهارة من الحدث). أما قول المصنف رحمه الله: وهي ما تجب لها قبلها؛ فبيان لمعنى شروط الصلاة. وسميت شروط الصلاة شروطاً لأنها متقدمة على الصلاة وسابقة لها وأعلام عليها. وأما كون الشروط ستة؛ فلأنها دخول الوقت، والطهارة، وستر العورة، واجتناب النجاسات، واستقبال القبلة، والنية. وأما كون ذلك كله شروطاً للصلاة: أما دخول الوقت؛ فلأن عمر رضي الله عنه قال: «والصلاة لها وقت شرطه الله (¬1) لا تصلح إلا به» (¬2). [وأما الوقت فيأتي بيانه إن شاء الله] (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) رواه ابن حزم في المحلى 2: 239 من طريق إبراهيم بن المنذر الحزامي عن عمه الضحاك بن عثمان أن عمر بن الخطاب قال في خطبته في الجابية: «ألا وإن الصلاة لها وقت ... » قال الشيخ أحمد شاكر: الأثر منقطع لأن الضحاك لم يدرك عمر. (¬3) زيادة من ج.

وأما [اشتراط] (¬1) الطهارة من الحدث؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (¬2) متفق عليه. قال: (والصلوات المفروضات خمس: الظهر وهي الأولى. ووقتها من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله (¬3) بعد الذي زالت عليه الشمس). أما كون الصلوات المفروضات خمساً؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة» (¬4). وفي حديث الأعرابي «أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره بذلك: هل عليّ غيرها؟ قال: لا [إلا أن تطوع] (¬5») (¬6). وأما كون الظهر الأولى؛ فلأن جبريل بدأ بها حين بيّن للنبي صلى الله عليه وسلم الوقت (¬7). ولأن أبا برزة الأسلمي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس -يعني حين تزول-» (¬8) متفق عليه. وأما كون وقتها من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله؛ فلما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمّني جبريل عند البيت مرتين. فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك. ثم صلى بي في المرة الآخرة حين صار ظل كل شيء مثله. وقال: الوقت ما بين هذين» (¬9) في حديث طويل. قال الترمذي: هو حديث حسن. ¬

_ (¬1) مثل السابق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6554) 6: 2551 كتاب الحيل، باب في الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (225) 1: 204 كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة. (¬3) في ب: كل مثليه. وما أثبتناه من المقنع. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1420) 2: 62 كتاب الوتر، باب فيمن لم يوتر. (¬5) زيادة من ج. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (46) 1: 25 كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام. وأخرجه مسلم في صحيحه (11) 1: 40 كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام. (¬7) سوف يأتي ذكر حديث جبريل لاحقاً. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه (522) 1: 201 كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت العصر. وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة (618) 1: 432 كتاب المساجد، باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر. ولفظه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الظهر إذا دحضت الشمس». (¬9) أخرجه أبو داود في سننه (393) 1: 107 كتاب الصلاة، باب في المواقيت. وأخرجه الترمذي في جامعه (149) 1: 278 أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة.

ويعرف الزوال بطول الظل بعد تناهي قصره. وأما كون الظل المذكور بعد الذي زالت عليه الشمس؛ فلأن الشمس تزول في بعض الأوقات وبعض الأمكنة وللشيء ظل فلم يكن بد من اعتباره. قال: (والأفضل تعجيلها إلا في شدة الحر والغيم لمن يصلي جماعة). أما كون الأفضل تعجيل الظهر في غير الحالتين المذكورتين؛ فلحديث أبي برزة المتقدم. ولقول عائشة: «ما رأيت أحداً أشد تعجيلاً للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من أبي بكر ولا من عمر رضي الله عنهما» (¬1). قال الترمذي: هذا حديث حسن. وأما كون الأفضل في شدة الحر تأخيرها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة. فإن شدة الحر من فيح جهنم» (¬2) متفق عليه. فإن قيل: الأمر بالإبراد رخصة أم سنة. قيل: الأرجح أنه سنة؛ لأنه أمر به، وأدنى مراتب الأمر الاستحباب؛ فلأن شدة الحر تمنع الخشوع. فجرى مجرى حضور الطعام [والشراب] (¬3) وبه حاجة إليه. ذكر ذلك صاحب النهاية فيها. وصرح المصنف رحمه الله في المغني والكافي أنه مستحب لما تقدم. فإن قيل: الإبراد يستحب في الجمعة كالظهر. قيل: لا؛ لما روى سلمة بن الأكوع «كنا نُجَمِّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (155) 1: 292 أبواب الصلاة، باب ما جاء في التعجيل بالظهر. وأخرجه أحمد في مسنده (24517) ط إحياء التراث. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (512) 1: 199 كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر. وأخرجه مسلم في صحيحه (615) 1: 430 كتاب المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر ... ، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) زيادة من ج. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (3935) 4: 1529 كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية. وأخرجه مسلم في صحيحه (860) 2: 589 كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس.

ولأنه لم ينقل تأخيرها بل تعجيلها. فروى سهل بن سعد: «ما كنا نقيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة» (¬1) رواه البخاري. ولأن السنة المباكرة (¬2) إليها واجتماع الناس لها قبل الزوال فلو شرع [تأخيرها] (¬3) لتأذى الناس بحر المسجد. وأما كون الأفضل في الغيم تأخيرها؛ فلأنه لا يؤمن مع التعجيل عدم مصادفة الوقت حقيقة؛ لأن الدخول في الصلاة يجوز إذا غلب على الظن دخول الوقت فإذا كان غيم وصلى بناء على غلبة الظن ربما صادف في الباطن عدم الوقت. وقول المصنف رحمه الله: لمن يصلي جماعة؛ يحتمل أن يعود إلى شدة الحر والغيم جميعاً. فعلى هذا يكون عدم أفضلية التعجيل في شدة الحر والغيم مشروطاً بكون المصلي يصلي جماعة. ولم أر ذلك لغيره ولا له في غير مقنعه. إلا أنه نقل في المغني عن القاضي أنه قال: يستحب تأخير الظهر والمغرب في الغيم. وأنه علل ذلك بأنه وقت يخاف منه العوارض والموانع من المطر والريح والبرد فتلحق المشقة في الخروج لكل صلاة. وفي تأخير الأولى من صلاتي الجمع وتقديم الثانية دفع لهذه المشقة. فعلى هذا يكون التأخير للغيم مشروطاً بحضور الجماعة؛ لأن المعنى لا يحصل إلا بذلك. ولا تكون علة التأخير في الغيم إلا من عدم إصابة الوقت في الحقيقة. ويحتمل أن يعود يعني قوله: لمن يصلي جماعة إلى شدة الحر فقط ويكون الغيم لا حظ له في ذلك. وفيه بُعْد لتوسط أجنبي بين الحكم وشرطه إلا أن ذلك موافق لنقل الأصحاب ونقل المصنف رحمه الله في سائر مصنفاته. وإنما اشترطت الصلاة جماعة في عدم أفضلية التعجيل؛ لأن في التعجيل السعي في الشمس وشدة الحر وذلك مشقة في حق من يصلي جماعة لا في حق غيره. وظاهر كلام المصنف رحمه الله: أنه لا يشرط غير ما ذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (897) 1: 318 كتاب الجمعة، باب قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (859) 2: 588 كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس. (¬2) في ب: المباركة. (¬3) زيادة من ج.

وضم القاضي إلى شدة الحر وصلاة الجماعة في المسجد: أن يكون في البلاد الحارة كبغداد ونحوها؛ لأن التأخير إنما استحب لينكسر الحر ويتسع فيء الحيطان فيكثر السعي إلى الجماعات وذلك مفقود في من فقد منه شرط من هذه الثلاثة. فعلى هذا من يصلي في بيته جماعة، أو فرادى، أو في مسجدٍ بفنائه، أو يكون ببلد ليس بحار كالشام ونحوه فالأفضل تعجيلها له بكل حال لزوال المقتضي للتأخير. وقد روي عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه كان يؤخرها في مسجده. ولم تكن هذه الصفة. فعلى هذا لا فرق بين البلد الحار وغيره ولا بين مَنِ المسجد بفنائه ومن يصلي في بيته ومن غير ذلك وهو الصحيح لأنه داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتد الحر فأبردوا» (¬1). قال: (ثم العصر وهي الوسطى. ووقتها من خروج وقت الظهر إلى اصفرار الشمس. وعنه إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه. ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الضرورة إلى غروب الشمس. وتعجيلها أفضل بكل حال). أما قول المصنف رحمه الله: ثم العصر؛ فمعناه أنها تلي الظهر بمهلة. ويلزم أن تكون الثانية؛ لأنه قد ثبت أن الظهر هي الأولى فلزم أن تكون العصر هي الثانية. وأما كونها الوسطى؛ فلما روى علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً» (¬2) متفق عليه. وأما كون أول وقتها من خروج وقت الظهر؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: «وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله» (¬3). وأما كون آخره إلى اصفرار الشمس على روايةٍ؛ فلما روى عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» (¬4) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 280. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3885) 4: 1509 كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب. وأخرجه مسلم في صحيحه (627) 1: 437 كتاب المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. (¬3) سبق حديث جبريل ص: 279. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (612) 1: 427 كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس.

وأما كونه إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه على روايةٍ؛ فلأن في حديث جبريل المتقدم «ثم صلى بي العصر في المرة الأخرى حين صار ظل كل شيء مثليه» (¬1). وأما كون وقت الاختيار يذهب؛ فلأن مقتضى حديثي عمرو وجبريل المتقدم ذكرهما ذهاب الوقت بعد ما ذكر فيهما. تُرك العمل به في الإدراك قبل غيبوبة الشمس لما يأتي (¬2) فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما كون وقت الضرورة يبقى إلى غروب الشمس؛ فلما يأتي من حديث أبي هريرة. فإن قيل: ما المعنيّ بوقت الاختيار ووقت الضرورة؟ قيل: وقت الاختيار هو الذي تقع الصلاة فيه أداء. فلا إثم على فاعلها فيه. ووقت الضرورة هو الذي تقع الصلاة فيه أداء ويأثم فاعلها بالتأخير إليه لغير عذر. أما كون الصلاة في وقت الاختيار تقع أداء؛ فلأنها تقع في وقت الضرورة أداء لما يأتي؛ فلأن تقع أداء في وقت الاختيار بطريق الأولى. وأما كون فاعلها فيه لا إثم عليه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يفعلونها فيه. وأما كون الصلاة في وقت الضرورة تقع أداء؛ فلما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته» (¬3) متفق عليه. وفي لفظ للنسائي «فقد أدركها» (¬4). وأما كون فاعلها فيه يأثم؛ فلما روى أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين. يجلس ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 279. (¬2) وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته». (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (554) 1: 211 كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (608) 1: 424 كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) أخرجه النسائي في سننه (551) 1: 273 كتاب المواقيت، باب من أدرك ركعة من صلاة الصبح.

أحدكم حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرني شيطان أو على قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر اسم الله فيها إلا قليلاً» (¬1) متفق عليه. ولو لم يأثم بتأخيرها لما ذُمّ عليه، ولما جعله علامة النفاق. وأما كون تعجيلها أفضل بكل حال؛ فلما روى أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر فيذهب أحدنا إلى العوالي والشمس مرتفعة. قال الزهري: والعوالي على ميلين أو ثلاثة. وأحسبه قال: وأربعة» (¬2) متفق عليه. وروى رافع بن خديج «كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ثم ينحر الجزور فَيُقَسّم عشرة أقسام ثم يطبخ فيأكل لحماً نضيجاً قبل أن تغيب الشمس» (¬3) متفق عليه. قال: (ثم المغرب. وهي الوتر. ووقتها من مغيب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر. والأفضل تعجيلها إلا ليلة جَمْع لمن قصدها). أما قول المصنف رحمه الله: ثم المغرب؛ فعلى نحو ما تقدم في العصر. وأما كونها الوتر؛ فلأنها ثلاث ركعات. وليس مراده الوتر المشهور بل أنها وتر لما ذُكر من العدد. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (622) 1: 434 كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالعصر. بلفظ: « ... تلك صلاة المنافق. يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً». وأخرجه أبو داود في سننه (413) 1: 112 كتاب الصلاة، باب في وقت صلاة العصر. بمثل لفظ المصنف. وأخرجه الترمذي في جامعه (160) 1: 301 أبواب الصلاة، باب ما جاء في تعجيل العصر. وأخرجه النسائي في سننه (511) 1: 254 كتاب المواقيت، باب التشديد في تأخير العصر. ولفظهما مثل مسلم. وأخرجه مالك في الموطأ (46) 1: 192 كتاب القرآن، باب النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر. بمثل لفظ المصنف. وأصله عند البخاري في مواقيت الصلاة، باب وقت العصر (524) 1: 202. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (525) 1: 202 كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت العصر. وأخرجه مسلم في صحيحه (621) 1: 433 كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالعصر. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2353) 2: 880 كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض. وأخرجه مسلم في صحيحه (625) 1: 435 كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالعصر.

وأما كون وقتها من مغيب الشمس إلى مغيب الشفق؛ فلما روى بريدة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً فأقام المغرب حين غابت الشمس. ثم صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق (¬1») (¬2) [رواه مسلم. وأما كون الشفق الحمرة] (¬3)؛ فلما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفق الحمرة. فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة» (¬4) رواه الدارقطني. وروى جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق» (¬5). وبالإجماع لا يجوز قبل غيبوبة الأحمر فثبت أنه صلاها قبل الأبيض وبعد الأحمر. وأما كون الأفضل تعجيلها في غير ليلة جَمْع لمن قصدها فـ «لأن جبريل أمّ النبي صلى الله عليه وسلم في اليومين في أول الوقت» (¬6). وأقل أحوال ذلك تأكد الاستحباب. وأما كون الأفضل تأخيرها ليلة جَمْع (¬7) لمن قصدها؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخرها إلى مزدلفة» (¬8). وكذلك أصحابه. ولأن ليلة جُمَع يكون المحرم مشتغلاً بالنفير والمسير إلى مزدلفة فلو كان التعجيل أفضل لاستحب النزول والصلاة في طريقه وذلك مشقة تناسب إسقاط الوجوب فضلاً عن الفضيلة. ¬

_ (¬1) في ب: الشفق الأحمر. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (613) 1: 428 كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (3) 1: 269 كتاب الصلاة، باب في صفة المغرب والصبح. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (395) 1: 108 كتاب الصلاة، باب في المواقيت. ولفظه: « ... حين غاب الشفق فأقام العشاء». وأخرجه أحمد في مسنده (14784) 3: 352. ولفظه « ... حين غيبوبة الشفق. ثم صلى العشاء». (¬6) سبق تخريجه ص: 279. (¬7) ساقط من ب. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه (1588) 2: 601 كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة. ولفظه: «دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يُسبغ الوضوء فقلت له: الصلاة؟ فقال: الصلاة أمامك. فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما». وأخرجه مسلم في صحيحه (1280) 2: 935 كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة. نحوه.

وقول المصنف رحمه الله: لمن قصدها معناه أن التأخير أفضل للحاج؛ لأنه هو الذي (¬1) يقصدها لا لغيره؛ لأن غير الحاج لا يحتاج إلى نزول، ولا هو مشتغل بسير إلى مكان يخاف فيه فواته أو زحمة فيه أو نحو ذلك، وذلك يقتضي اختصاص الحاج به. ولأن الحجة في ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكانوا حجاجاً فلا يتعدى إلى غير حاج؛ لعدم وجود المعنى فيه. قال: (ثم العشاء. ووقتها من مغيب الشفق إلى ثلث الليل (¬2). وعنه نصفه. ثم يذهب وقت الاختيار. ويبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثاني. وهو: البياض المعترض في المشرق ولا ظلمة بعده. وتأخيرها أفضل ما لم يشق). أما قول المصنف رحمه الله: ثم العشاء؛ فعلى نحو ما تقدم في العصر والمغرب. وأما كون وقتها من مغيب الشفق إلى ثلث الليل على روايةٍ؛ فلما روى بريدة «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق. وصلاها في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل» (¬3). وحديث ابن عباس في صلاة جبريل مثله (¬4). وأما كون آخره إلى نصفه على روايةٍ؛ فلما روى عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وقت العشاء إلى نصف الليل» (¬5) رواه مسلم. وأما كون وقت الاختيار يذهب؛ فلأن ما تقدم من الحديث يدل على ذهاب الوقت بالكلية. تُرك العمل به في وقت الضرورة لما يأتي فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) في المقنع: الشفق الأحمر إلى ثلث الليل الأول. (¬3) سبق تخريجه ص: 285. (¬4) سبق تخريجه ص: 279. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (612) 1: 427 كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس.

وأما كون وقت الضرورة يبقى إلى طلوع الفجر الثاني؛ فلأن ما بعد الثلث أو النصف وقت للوتر وهي من توابع العشاء فاقتضى أن يكون وقتاً للعشاء لأن التابع إنما يصلى في وقت المتبوع كركعتي الفجر. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تفوت صلاة حتى يدخل وقت أخرى». ولأن الحديث الصحيح ورد في الفجر والعصر فليكن هذا مثله لعدم الفرق. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو البياض المعترض [في المشرق] (¬1) ولا ظلمة بعده؛ فبيان لمعنى الفجر الثاني؛ لأن الفجر فجران: كاذب وهو بياض مستدق مستطيل كذنب السَّرْحان، وصادق وهو ما ذكر. وسيأتي نحو ذلك. وأما كون تأخيرها أفضل إذا لم يشق على المأمومين ذلك؛ فلما روى بريدة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحب أن يؤخر من العشاء التي (¬2) تدعونها العتمة» (¬3). وفي حديث جابر: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروها إلى ثلث الليل أو نصفه» (¬4) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأما كون تعجيلها أفضل إذا شق ذلك عليهم فلأجل المشقة اللاحقة بالتأخير ولهذا «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها أحياناً وأحياناً: إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطأوا أخّر» (¬5). قال: (ثم الفجر. ووقتها من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس. والأفضل تعجيلها. وعنه إن أسفر المأمومون فالأفضل الإسفار). أما قول المصنف رحمه الله: ثم الفجر؛ فعلى نحو ما تقدم. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (522) 1: 201 كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت العصر، عن أبي برزة. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (167) 1: 310 أبواب الصلاة، باب ما جاء في تأخير صلاة العشاء الآخرة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال: وفي الباب عن جابر بن سمرة وجابر بن عبدالله ... (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (535) 1: 205 كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب. وأخرجه مسلم في صحيحه (646) 1: 446 كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها ...

وأما كون أول وقتها من طلوع الفجر؛ فلما روى بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه أمر بلالاً فأقام الفجر حين طلع (¬1) الفجر» (¬2). وفي حديث ابن عباس في حديث جبريل (¬3) مثله. وأما كون الفجر هو الفجر الثاني؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَغُرَّنكم الفجر المستطيل كلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير» (¬4). والصلاة لا تجوز في وقتٍ يجوز فيه الأكل؛ لأن زيد بن ثابت قال: «تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قمنا إلى الصلاة. قال: قلت كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية» (¬5). ولو جاز الأكل بعد ذلك لأخره؛ لأن السحور تأخيره أفضل. وأما كون آخره طلوع الشمس؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح» (¬6). وأما كون تعجيلها أفضل على المذهب فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر ويشهد معه نساء من المؤمنات مُتلفعات بمروطهن ثم ينصرفن [إلى بيوتهن] (¬7) ما يُعرفن من الغلس» (¬8) متفق عليه. وأما كونه إن أسفر المأمومون فالأفضل الإسفار على روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ إلى اليمن قال: إذا كان الشتاء فصل الصبح في أول الوقت. ثم أطل ¬

_ (¬1) في ب: طلوع. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (613) 1: 428 كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس. (¬3) سبق تخريجه ص: 279. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1094) 2: 770 كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ... (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (1821) 2: 678 كتاب الصوم، باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1097) 2: 771 كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (¬6) سيأتي تخريجه من حديث أبي هريرة الآتي. (¬7) زيادة من ج. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه (553) 1: 210 كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر. وأخرجه مسلم في صحيحه (645) 1: 446 كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها ...

القراءة [قدر ما يطيق الناس ولا تملهم] (¬1). وإذا كان في الصيف فأسفر بالصبح. فإن الليل طويل. والناس ينامون» (¬2). ولأنه نوع تأخير فكان مشروعاً لأجل المأموم كانتظار الداخل في الركوع. ولأن التأخير يفضل لوجود الفضيلة؛ فلأن يفضل لأجل الجماعة -وهي واجبة- بطريق الأولى. قال: (ومن أدرك تكبيرة الإحرام من صلاةٍ في وقتها فقد أدركها. ومن شك في دخول الوقت لم يصل حتى يغلب على ظنه دخوله. فإن أخبره بذلك مخبر عن يقين قُبل قوله. وإن كان عن ظن لم يقبله). أما كون من أدرك تكبيرة الإحرام من صلاة في وقتها فقد أدركها؛ فلما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته» (¬3) متفق عليه. وفي روايةٍ النسائي: «فقد أدركها» (¬4). ولأن الإدراك إذا تعلق به حكم في الصلاة استوى فيه الركعة وما دونها؛ كإدراك المسافر صلاة المقيم، والمأموم صلاة الإمام. وأما كون من شك في دخول الوقت لم يصل؛ فلأن دخوله شرط لصحتها ولم يوجد. وأما قول المصنف رحمه الله: حتى يغلب على ظنه دخوله؛ فتنبيه على أن ذلك يحصل بغلبة الظن كما يحصل باليقين؛ لأن الشرع أقام الظن مقام اليقين في مواضع فكذلك هاهنا. ولذلك كانت الصحابة رضوان عليهم يبنون أمر الفطر في الصيام على الظن. ويحصل اليقين للعالم بالمواقيت ودقائق الساعات وتسيير الكواكب إذا لم يكن في السماء علة ولا مانع. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) رواه البغوي في شرح السنة بلفظ أطول من هذا 2: 199. وفي إسناده المنهال بن الجراح وهو ضعيف. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (554) 1: 211 كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (608) 1: 424 كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة. (¬4) أخرجه النسائي في سننه (550) 1: 273 كتاب المواقيت، باب من أدرك ركعة من صلاة الصبح.

ويحصل غلبة الظن للعالم بما ذكر مع وجود المانع، وللجاهل بالمواقيت، والأعمى، والمحبوس في مطمورة إذا كان أحدهم صاحب صنعة وقدر الوقت بعمل معلوم أو قراءة معلومة أو ما أشبه ذلك. وأما كون المصلي يقبل قول من أخبره بالوقت عن يقين؛ فلأن خبره مع الثقة يفيد غلبة الظن والعمل بغلبة الظن واجب. وأما كونه لا يقبل قول من أخبره بذلك عن ظن؛ فلأنه قادر على الاجتهاد بنفسه وتحصيل مثل ظنه فلم يجز له قبول قول غيره كالمجتهد إذا أخبره مجتهد آخر عن حكم شرعي. وبهذا فارق اليقين لأنه لا يمكنه تحصيل اليقين وإن اجتهد. قال: (ومتى اجتهد وصلى فبان أنه وافق الوقت أو ما بعده أجزأه. وإن وافق قبله لم يجزئه). أما كون من اجتهد وصلى تجزئه صلاته إذا وافق الوقت؛ فلأن الصلاة وقعت الموقع؛ لأنه أدى ما خوطب به وفرض عليه. وأما كونه يجزئه إذا وافق ما بعده؛ فلأن الصلاة تقع بعد الوقت قضاء وهو مسقط للفرض ومجزئ عنه. وأما كونه لا يجزئه إذا وافق قبله؛ فلأن المخاطبة بالصلاة وجدت بعد ذلك. وإن قيل: إذا اجتهد في القبلة فأخطأ قلتم لا إعادة ولو اجتهد في الوقت فأخطأ قلتم عليه الإعادة فما الفرق؟ قبل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن المجتهد في القبلة أدى الصلاة بعد أن وجبت وفي الوقت أداها قبل وجوبها ثم تجدد سبب الوجوب. الثاني: أن تحصيل اليقين في الوقت ممكن، وتحصيل اليقين في القبلة غير ممكن.

قال: (ومن أدرك من الوقت قدر تكبيرة ثم جُن أو حاضت المرأة لزمه القضاء. وإن بلغ صبي أو أسلم كافر أو أفاق مجنون أو طهرت حائض قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة لزمهم الصبح. وإن كان ذلك قبل غروب الشمس لزمهم الظهر والعصر. وإن كان قبل طلوع الفجر لزمهم المغرب والعشاء). أما كون من أدرك من الوقت قدر تكبيرة الإحرام ثم جن أو حاضت المرأة يلزمه القضاء؛ فلأن الصلاة تجب بأول الوقت لقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] أَمَر بالصلاة في أول الوقت. والأمر للوجوب. ووجوب الأداء يقتضي وجوب القضاء. فعلى هذا لا يشترط مضي زمان يمكن فعلها. وقال ابن بطة: يشترط ذلك لوجوب القضاء كما لو طرأ العذر قبل دخول الوقت. والأول أصح؛ لما ذكر. ولأنها صلاة واجبة فوجب قضاؤها كما لو أمكن أداؤها. والفرق بين ذلك وبين طريان العذر قبل الوقت أن الصلاة لم تجب ثَمّ بخلاف هاهنا. وأما كون الصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم، والمجنون إذا أفاق، والحائض إذا طهرت قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة يلزمهم الصبح؛ فلأنهم أدركوا جزءاً من وقتها أشبه ما لو أدركوا أول وقتها. وأما كونهم يلزمهم العصر إذا كان ذلك قبل غروب الشمس، والعشاء إذا كان قبل طلوع الفجر؛ فلما ذكر في الصبح. وأما كونهم يلزمهم الظهر إذا كان ذلك قبل غروب الشمس، والمغرب إذا كان ذلك قبل طلوع الفجر؛ فلأن وقت العصر والعشاء وقت للظهر والمغرب حال العذر وهي حالة الجمع للمسافر والمريض والممطور فيكون مدركا جزءاً من وقت الظهر والمغرب في حال فلزمته. أشبه ما لو أدرك جزءاً من وقتها في كل حال.

قال: (ومن فاتته صلاة لزمه قضاؤها على الفور مرتباً. قلّتْ أو كثُرت. فإن خشي فوات الحاضرة أو نسي الترتيب سقط وجوبه). أما كون من فاتته صلاة يلزمه (¬1) قضاؤها على الفور؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نام عن صلاة أو أنسيها فليصليها إذا ذكرها» (¬2) متفق عليه. ولمسلم: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» (¬3). أمر بالصلاة عند الذكر والأمر للوجوب. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته الظهر والعصر والمغرب والعشاء يوم الخندق فصلاها عقب ذكره» (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬5). ولأن فعله صلى الله عليه وسلم بياناً لقوله: {أقيموا الصلاة} [الأنعام: 72]. وأما كونه يلزمه قضاؤها مرتباً؛ فلأن القضاء يحكي الأداء، والأداء مرتب فكذا ما يحكيه. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب لما قضى» (¬6) وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬7). وأما قول المصنف رحمه الله: قلّت أو كثرت؛ فإشارة إلى أن كثرة الفوائت لا تُسقط الترتيب؛ لأن الترتيب واجب فلم يسقط بالكثرة، [وكما لو نسي صلاة يوم. ولأنه ترتيب في صلوات فلم يسقط بالكثرة] (¬8) كترتيب الركوع على السجود. ¬

_ (¬1) في ب: يلزمها. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (572) 1: 215 كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (684) 1: 477 كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) أخرجه مسلم في الموضع السابق. (¬4) سبق تخريجه ص: 275. (¬5) سيأتي تخريجه ص: 396. (¬6) وذلك يوم الخندق حين قضى أربع صلوات. وقد سبق ذكر الحديث وتخريجه ص: 275. (¬7) سيأتي تخريجه ص: 396. (¬8) ساقط من ب.

وأما كون من خشي فوات الحاضرة يسقط وجوب الترتيب عنه؛ فلأن الحاضرة آكد بدليل أنه يُقتل بتركها بخلاف الفائتة. ولئلا تصير الحاضرة فائتة. وفيه رواية: أنه لا يسقط الترتيب قياساً على ما إذا لم يخش فوات الحاضرة. والأول أصح؛ لما تقدم. وأما كون من نسي الترتيب يسقط وجوبه عنه؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» (¬1) رواه النسائي. والمراد بقول المصنف رحمه الله: أو نسي الترتيب؛ أنه نسي الفائتة حتى صلى الحاضرة، لا إن نسي الترتيب في الفوائت؛ لأن ذلك لا يسقط الترتيب على الصحيح. فإن قيل: المراد بقولك: حتى صلى (¬2) الحاضرة الشروع فيها أو الفراغ منها. قيل: الفراغ منها. فإن قيل: فإذا ذكر في الحاضرة فما الحكم؟ قيل: يتمها ثم يقضي الفائتة ثم يصلي الحاضرة. نص عليه الإمام أحمد في المأموم. والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل مع الإمام. فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام» (¬3). وروي موقوفاً على ابن عمر (¬4). وألحق بالمأموم الإمام والمنفرد لأنهما في معناه. وعن الإمام أحمد رحمة الله عليه: أن المنفرد يقطع صلاته ويقضي الفائتة. ونقل عنه في الإمام ينصرف ويستأنف المأمومون. قال أبو بكر: لم ينقلها غير حرب. ¬

_ (¬1) لم أره بهذا اللفظ. وقد أخرجه ابن ماجة في سننه (2043) 1: 659 كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، بلفظ: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وفي الباب عن أبي هريرة وأبي ذر. ولم أره في النسائي. (¬2) في ب: الصلاة. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 221 كتاب الصلاة، باب من ذكر صلاة وهو في أخرى. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (2) 1: 421 كتاب الصلاة، باب الرجل يذكر صلاة وهو في أخرى.

ونقل عنه في المأموم أنه يقطع. وجه القطع في الثلاثة أنه ترتيب واجب فوجب اشتراطه لصحة الصلاة كترتيب المجموعتين. والأول هو ظاهر المذهب؛ لما ذكر من الحديث. ومساواةِ غير المأمومِ المأمومَ (¬1). وينبغي أن يكون مضي الإمام مبنياً على (¬2) اقتداء المفترض بالمتنفل. فإنا حيث قلنا يمضي يكون متنفلاً لأن المضي ليس بواجب. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) ساقط من ب.

باب ستر العورة

باب ستر العورة قال المصنف رحمه الله: (وهو الشرط الثالث. وسترها عن النظر بما لا يصف البشرة واجب). أما كون ستر العورة الشرط الثالث؛ فلأنه يلي الثاني. وأما كونه شرطاً لصحة الصلاة؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (¬1) رواه أبو داود [والترمذي وابن ماجة] (¬2). وأما كون سترها عن النظر واجباً؛ فلأن الله تعالى قال: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]. وقد اتفقت (¬3) الأمة على أن غير اللباس لا يجب زينة. فثبت وجوب الستر باللباس. وروى سلمة بن الأكوع قال: «قلت: يا رسول الله! إني أكون في الصيف وليس عليّ إلا قميص واحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رده عليك أو اربطه بشوكة» (¬4). فإن قيل: الآية المذكورة نزلت بسبب شيء خاص. قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (641) 1: 173 كتاب الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار. وأخرجه الترمذي في جامعه (377) 2: 215 أبواب الصلاة، باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار. وأخرجه ابن ماجة في سننه (655) 1: 215 كتاب الطهارة، باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار. كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها. وأعله الدارقطني بالوقف وقال: إن وقفه أشبه، وأعله الحاكم بالإرسال. انظر التلخيص 1: 279. (¬2) زيادة من ج. (¬3) في ب: اتفق. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (632) 1: 170 كتاب الصلاة، باب في الرجل يصلي في قميص واحد. وأخرجه النسائي (765) 2: 70 كتاب القبلة، الصلاة في قميص واحد.

وأما كون الستر الواجب الستر بما لا يصف البشرة؛ فلأن الستر لا يحصل بدون ذلك. قال: (وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة. وعنه أنها الفرجان). أما كون عورة الرجل ما بين السرة والركبة على المذهب؛ فلما روى علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبرز فخذك. ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت» (¬1) رواه الإمام أحمد رضي الله عنه. وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل فخذه خارجة. فقال: غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته» (¬2) رواه الإمام أحمد. وروي «أنه قال لجرهد: غط فخذك. فإن الفخذ عورة» (¬3) رواه الإمام أحمد. وأما كونها الفرجين على روايةٍ؛ فلما روى أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي صلى الله عليه وسلم» (¬4) رواه البخاري. وروت عائشة «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته كاشفاً عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على ذلك [ثم استأذن عمر فأذن له وهو على ذلك] (¬5») (¬6). ولو كانت عورة لما كشفها. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4015) 4: 40 كتاب الحمام، باب النهي عن التعري. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1460) 1: 469 كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت. وأخرجه أحمد في مسنده (1248) 1: 146. وأخرجه الدارقطني في سننه (4) 1: 225 كتاب الحيض، باب في بيان العورة والفخذ منها. وأخرجه الحاكم في المستدرك (7362) 4: 200 كتاب اللباس. قال أبو داود: هذا الحديث فيه نكارة. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (2493) 1: 275. وأخرجه الحاكم في المستدرك (7363) 4: 200 كتاب اللباس. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (15960) 3: 479. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (364) 1: 145 أبواب الصلاة في الثياب، باب ما يذكر في الفخذ. وأخرجه مسلم في صحيحه (1365) 2: 1043 كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها. (¬5) زيادة من ج. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه (2401) 4: 1866 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في مسنده (24375) 6: 62.

وأما كون عورة الأمة ما بين السرة والركبة فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا زوج أحدكم أمته عبده فلا ينظر إلى شيء من عورته فإن ما تحت السرة إلى ركبته عورة. يريد الأمة» (¬1) رواه الدارقطني. وعن الإمام أحمد أن عورتها جميع بدنها إلا ما يظهر منها غالباً كالرأس. واليدين إلى المرفقين. والرجلين إلى الكعبين؛ لأنه لا يظهر منها غالباً أشبه ما تحت السرة. ولم أجد في كتب الأصحاب مصرحاً بأن عورة الأمة الفرجان في روايةٍ. وقد فرع صاحب النهاية فيها فروعاً يقتضي أن هذه الرواية عامة في الرجل والأمة. وهو ظاهر إطلاق أصحابنا. وفيه نظر. قال: (والحرة كلها عورة إلا الوجه. وفي الكفين روايتان). أما كون الحرة كلها عورة إلا الوجه والكفين؛ «فلقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31] قال ابن عباس: وجهها وكفيها» (¬2). ولأنه يحرم ستر الوجه والكفين في الإحرام ولو كانا من العورة ما حرم. وروت أم سلمة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: تصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ فقال: نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها» (¬3) رواه الدارقطني وأبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4114) 4: 64 كتاب اللباس، باب في قوله عز وجل: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}. وأخرجه الدارقطني في سننه (2) 1: 230 كتاب الصلاة، باب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها، وحد العورة التي يجب سترها. كلاهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وفيه: «وإذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة، فإن ما تحت السرة إلى الركبة من العورة». (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 225 كتاب الصلاة، باب عورة المرأة الحرة. عن ابن عباس رضي الله عنه. وفي 2: 226 كتاب الصلاة، باب عورة المرأة الحرة. عن عائشة رضي الله عنها. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (640) 1: 173 كتاب الصلاة، باب في كم تصلي المرأة. وأخرجه الدارقطني في سننه (16) 2: 62 كتاب العيدين، باب صفة صلاة الخوف وأقسامها. وأخرجه الحاكم في المستدرك (915) 1: 380 كتاب الصلاة. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.

وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء. فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً، قالت: فإذاً تنكشف أقدامهن. قال: يرخين ذراعاً لا يزدن عليه» (¬1) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأما كون الكفين عورةً على روايةٍ فقياساً (¬2) على القدمين. والأول أصح لما تقدم. قال: (وأم الولد والمعتق بعضها كالأمة. وعنه كالحرة). أما كون عورة أم الولد كالأمة على روايةٍ فلثبوت أحكام الإماء فيها سوى نقل الملك وما يراد له. وأما كون عورة المعتق بعضها كذلك فلعدم كمال الحرية. وأما كون عورة أم الولد كالحرة على روايةٍ؛ فلأنها قد انعقد فيها سبب الحرية انعقاداً لا يمكن بطلانه أشبهت الحرة. وأما كون عورة المعتق بعضها كذلك؛ فلأنها اجتمع فيها تحريم وتحليل فغلب جانب التحريم. فإن قيل: ما الصحيح من الروايتين المذكورتين؟ قيل: الصحيح في أم الولد أنها كالأمة لمساواتها لها في أكثر الأحكام، وفي المعتق بعضها أنها كالحرة لتحقق الحرية في بعضها. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1731) 4: 223 كتاب اللباس، باب ما جاء في جر ذيول النساء. وأخرجه النسائي في سننه (5337) 8: 209 كتاب الزينة، ذيول النساء. وأخرجه أحمد في مسنده (26723) 6: 315. (¬2) في ب: فقياس.

قال: (ويستحب للرجل أن يصلي في ثوبين. فإن اقتصر على ستر العورة أجزأه إذا كان على عاتقه شيء من اللباس. وقال القاضي: يجزئه ستر العورة في النفل دون الفرض). أما كون الرجل يستحب له أن يصلي في ثوبين؛ فلما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو قال: قال عمر: «إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما. فإن لم يكن له إلا ثوب واحد فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود» (¬1) رواه أبو داود. وأما كونه يجزئه الاقتصار على ستر العورة إذا كان على عاتقه شيء من اللباس؛ فلأن ما عدا ذلك من الستر غير واجب فلم يكن الإجزاء متوقفاً عليه. ضرورة أن العهدة تزول بفعل الواجب. وكلام المصنف رحمه الله مشعر بأن الاقتصار على ستر العورة في الصلاة لا يجزئ. وهو صحيح؛ لأن المصلي عندنا (¬2) يجب أن يضع على عاتقه شيئاً من اللباس مع ستر عورته ولا تصح صلاته بدون ذلك؛ لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» (¬3) متفق عليه. نهى والنهي يقتضي التحريمَ وفسادَ المنهي عنه. وأما كونه لا فرق بين الفرض والنفل -ذلك على قول غير القاضي- فلعموم الحديث. ولأن النفل صلاة فاشترط فيه ما يشترط في الفرض بالقياس عليه. وأما كونه يجزئه ستر العورة في النفل دون الفرض على قول القاضي؛ فلأن النفل مبناه التخفيف. ولذلك يسامح فيه بترك القيام والاستقبال في السفر للراكب والماشي فجاز أن يسامح فيه بهذا القدر. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (635) 1: 172 كتاب الصلاة، باب من قال يتزر به. وأخرجه أحمد في مسنده (6320) ط إحياء التراث. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 236 كتاب الصلاة، باب ما يستحب للرجل أن يصلي فيه من الثياب. (¬2) زيادة من ج. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (352) 1: 141 كتاب الصلاة، باب إذا صلى في الثوب الواحد ... وأخرجه مسلم في صحيحه (516) 1: 368 كتاب الصلاة، باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه.

وهذا القول الذي عزاه المصنف رحمه الله إلى القاضي -وهو منصوص الإمام أحمد- ذكره في المغني وصاحب النهاية فيها. والمساواة بين الفرض والنفل ظاهر كلام الخرقي. فله أن يقول المسامحة في النفل بترك القيام والاستقبال؛ لأن اشتراطهما يفضي إلى تقليل النافلة ضرورة أن المسافر في مظنة التعب والنصب واشتباه القبلة وليس هذا المعنى موجوداً في اشتراط ستر المنكبين؛ لأن سترهما لا يشق ولا يفضي اشتراط ذلك إلى تقليل النافلة فوجب المساواة عملاً بالعموم والأصل المقتضي للتساوي السالم كل (¬1) واحد منهما عن المعارض. وللإمام أحمد أن يقول: الأصل عدم وجوب ستر المنكبين. تُرك الأصل في الفرض لأنه مراد من الحديث قطعاً. فوجب أن لا يترك في النفل لوجوه: أحدها: أنه يلزم الترك بالأصل بالكلية. وثانيها: أنه قد ظهر في الجملة الفرق بين الفرض والنفل فلم يلزم من الترك في الفرض الترك في النفل. وثالثها: أن الفرض آكد فناسب انفراده بذلك. قال: (ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وملحفة. وإن اقتصرت على ستر عورتها: أجزأ). أما كون المرأة يستحب لها أن تصلي فيما ذكر فلما روي عن عمر أنه قال: «تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار» (¬2). فإن قيل: ما الدرع والخمار والملحفة؟ قيل: قال الإمام أحمد: الدرع هو شبه القميص لكنه سابغ يغطي قدميها. وقيل: هو اسم لقميص المرأة السابغ. والخمار: شيء تغطي به المرأة رأسها وشعرها وعنقها. والملحفة: شيء يلتحف بها من فوق الدرع. والحكمة في ذلك: المبالغة في سترها لأنها جميعها عورة إلا الوجه. وفي الكفين خلاف. ¬

_ (¬1) في ب: لكل. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 234 كتاب الصلاة، باب الترغيب في أن تكف ثيابها ...

وأما كونها إذا اقتصرت على ستر عورتها يجزئ فلما روت أم سلمة قالت: «يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم تصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ فقال: نعم. إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها» (¬1) رواه أبو داود. وقد روي «أن أم سلمة وميمونة كانتا تصليان في درع وخمار ليس عليهما إزار» (¬2) رواه مالك. قال: (وإذا انكشف من العورة يسير لا يفحش في النظر لم تبطل صلاته. وإن فحش بطلت). أما كون من انكشف من عورته يسير لا يفحش في النظر لا تبطل صلاته؛ فلما روى أيوب عن عمرو بن سلمة قال: «انطلق أبي وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه. فعلمهم الصلاة. وقال: يؤمكم أقرؤكم. فكنت أقرأهم. فقدموني فكنت أؤمهم وعليّ بردة لي صفراء صغيرة. فكنت إذا سجدت انكشفت عني. فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورة قارئكم. فاشتروا لي قميصاً عمانياً. فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به» (¬3) رواه أبو داود. وفي لفظ آخر: «فكنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق. وكنت إذا سجدت خرجت منها إستي» (¬4). ومثل هذا الظاهر أنه اشتهر ولم ينكر ولا بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكره. ولو كان مبطلاً للصلاة لأنكره ولبلغنا ذلك. ولأن ثياب الفقراء لا تخلو من خرق، وثياب الأغنياء لا تخلو [من] (¬5) فتق. والاحتراز من ذلك يشق ويعسر فعفي عنه كيسير الدم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 297. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (36) و (37) 1: 134 - 135 كتاب صلاة الجماعة، باب الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (585) 1: 159 كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة. وأخرجه البخاري في صحيحه (4051) 4: 1564 كتاب المغازي، باب من شهد الفتح. نحوه. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (586) 1: 160 كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة. (¬5) ساقط من ب.

وأما كونها تبطل إذا انكشف ما يفحش؛ فلأن مقتضى الدليل بطلان الصلاة بكشف شيء من العورة ضرورة كون سترها شرطاً لصحة الصلاة. تُرك العمل به في اليسير غير الفاحش للحديث، وللمشقة. فيبقى فيما عداه على مقتضاه. فإن قيل: ما الفاحش وغير الفاحش؟ قيل: المرجع في ذلك إلى العرف. والعرف يختلف بالعورة المخففة والمغلظة. فقد لا يفحش قدر من الفخذين لو انكشف، ويفحش مثله في الفرجين. ولا فرق بين الفرجين وغيرهما لأن ذلك في الحديث المحتج به على ذلك وهو قوله: «خرجت منها إستي» (¬1). ولأن المشقة المتقدمة موجودة في الفرجين فوجب أن يعفى عن اليسير منهما دفعاً للمشقة. واليسير المعفو عنه هو ما لا يفحش. صرح به المصنف رحمه الله في المغني وغيره من الأصحاب. وظاهر كلامه هاهنا أن الذي لا يبطل يسير موصوف بعدم الفحش. وليس الأمر كذلك لأن ذلك يقتضي أن لنا يسيراً موصوفاً بالفحش. ووصف الشيء بصفة يقتضي تجدد فائدة لولاها. وكان الجيد أن يقال: وإذا انكشف من العورة يسير وهو ما لا يفحش كما قال أبو الخطاب. أو يقتصر على يسير كما قال الخرقي. ثم الشارح يبين ما لا يفحش كما فعل المصنف رحمه الله في المغني. قال: (ومن صلى في ثوب حرير أو مغصوب لم تصح صلاته. وعنه تصح مع التحريم). أما كون من صلى في ثوب حرير أو مغصوب لا تصح صلاته على المذهب؛ فلأن لبسهما حرام وقد استعملهما في شرط العبادة فلم تصح كالصلاة في الدار المغصوبة. وأما كونها تصح على روايةٍ مع التحريم؛ فلأن التحريم لا يختص الصلاة، والنهي لا يعود إليها فوجب أن يصح؛ كما لو غسل ثوبه من النجاسة بماء مغصوب، أو صلى وعليه عمامة مغصوبة، أو حرير، أو في يده خاتم ذهب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريباً.

قال: (ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه وأعاد على المنصوص. ويتخرج أن لا يعيد بناء على من صلى في موضع نجس لا يمكنه الخروج منه. فإنه قال: لا إعادة عليه). أما كون من لم يجد إلا ثوباً نجساً يصلي فيه؛ فلأن السترة آكد من إزالة النجاسة؛ لأنها (¬1) تجب في الصلاة وخارجها بخلاف إزالة النجاسة. ولأن السترة متفق على اشتراطها والطهارة مختلف فيها وتسقط مع العجز عن إزالتها ومع الجهل والنسيان بخلاف السترة. وأما كونه يعيد ما صلى على المنصوص؛ فلأن الطهارة من النجاسة شرط وقد فاته. وأما كونه يتخرج أن لا يعيد بناء على من صلى في موضع نجس لا يمكنه الخروج منه؛ فلأن طهارة المكان لما كانت شرطاً وحكم بعدم الإعادة مع فقدها اقتضى الدليل أن يُخَرّج في الصلاة في الثوب النجس لمن لا يقدر على غيره مثله. وهذا هو الصحيح إن شاء الله لأنه شرط عجز عنه فسقط كالسترة والاستقبال. بل أولى فإن السترة آكد بدليل تقديمها على هذا الشرط. قال: (ومن لم يجد إلا ما يستر عورته سترها. فإن لم يكف جميعها ستر الفرجين. فإن لم يكفهما جميعاً ستر أيهما شاء. والأولى ستر الدبر على ظاهر كلامه، وقيل: القبل أولى). أما كون من لم يجد إلا ما يستر عورته يسترها؛ فلأن سترها آكد من ستر غيرها بدليل أنه واجب في الصلاة وفي خارج الصلاة. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأن سترها مقدم على ستر جميع بدنه وعلى منكبيه، مع أن وضع اللباس عليهما أو على أحدهما واجب في الصلاة عندنا وهو صحيح؛ لما تقدم من تأكيد ستر العورة على ستر غيرها. وقال القاضي: من لم يجد إلا ما يستر عورته أو منكبيه ستر منكبيه وصلى جالساً لأن الحديث في ستر المنكبين أصح منه في ستر الفخذين، والقيام له بدل وستر المنكبين لا بدل له. ¬

_ (¬1) في ب: لا.

قال ابن عقيل: هذا عندي محمول على سترة يتسع أن يتركها على كتفيه ويسدلها من ورائه يستر دبره. والقبل مستور بضم فخذيه عليه فيحصل ستر الجميع. والأول أصح؛ لأن العورة أغلظ في الحكم لما تقدم. ولأنها يجب سترها في الفرض والنفل. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان الثوب واسعاً فالتحف به، وإذا كان ضيقاً فاتزر به» (¬1). ولأن ستر العورة متفق على وجوبه يشترط فيه حقيقة الستر وتعميمه مع القدرة بخلاف المنكبين فيجب تقديم ستر العورة عليهما. وأما كونه يستر الفرجين إذا لم تكف (¬2) السترة جميع العورة؛ فلأنهما عورة بلا خلاف بخلاف باقيها. ولأنهما أفحش لاختصاصهما باسم العورة. والعرف يشهد بفحشهما زيادة على ما عداهما. وأما كونه يستر أيهما شاء إذا لم يكفهما جميعاً؛ فلأن كلاً متفق على كونه عورة. وأما كون ستر الدبر أولى على ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأنه أفحش، ويبدو في الركوع والسجود. وأما كون القبل أولى على قول؛ فلأنه يستقبل به القبلة وهو مستعل. والدبر يستتر بضم الإليتين، ولا يستقبل به القبلة. قال: (وإن بُذلت له سترة لزمه قبولها إذا كانت عاريّة). أما كون من بذلت له سترة عارية يلزمه قبولها؛ فلأنه قدر على ستر عورته بما لا مِنَّةَ عليه فيه أشبه ما لو بذل له ماء للوضوء. وأما كون لزوم القبول مقيداً بكون السترة عارية فتنبيه على أنها إذا كانت غير عَارية كالهبة لا يلزمه قبولها. وهو صحيح صرح به المصنف وغيره لأن في قبول الهبة مِنَّةَ فلم يلزمه نفياً للضرر اللاحق به من المنة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (354) 1: 142 أبواب الصلاة في الثياب، باب إذا كان الثوب ضيقاً. وأخرجه مسلم في صحيحه (3010) 4: 2306 كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل ... (¬2) ساقط من ب.

قال: (فإن عدم بكل حال صلى جالساً يومئ إيماء. فإن صلى قائماً جاز. وعنه أنه يصلي قائماً ويسجد بالأرض). أما كون مَن عدم السترة بكل حال يصلي جالساً يومئ بالركوع والسجود؛ فلأنه يروى عن ابن عمر «أنه قال في قوم انكسرت لهم مراكبهم فخرجوا عراة: يصلون جلوساً يُومِئون إيماء برؤوسهم» (¬1) رواه الخلال. ولم ينقل خلافه. وأما كونه إذا صلى قائماً يجوز فلما فيه من المحافظة على القيام. ومفهوم كلام المصنف رحمه الله أن صلاة من ذكر جالساً يومئ إيماء أوفى من صلاته قائماً. وهو صحيح لأن جلوسه فيه ستر لعورته والجلوس قائم مقام القيام. ولو صلى قائماً لسقط الستر إلى غير بدل. ولأن ستر العورة آكد من القيام بدليل سقوطه في النافلة. ولأن الستر يجب في الصلاة وخارجها بخلاف القيام. فإن قيل: الستر لا يحصل وإنما يحصل بعضه (¬2) فلا يفي ذلك بترك القيام. قيل: إذا قيل: العورة الفرجان فقد حصل الستر، وإن قيل: العورة ما بين السرة والركبة فقد حصل ستر آكدهما وجوباً وأفحشهما في النظر فكان أولى. وأما كونه يصلي قائماً ويسجد بالأرض على روايةٍ؛ فلأن في ذلك محافظة على ثلاثة أركان وفي الصلاة جالساً محافظة على بعض شرط. قال: (وإن وجد السترة قريبة منه في أثناء الصلاة ستر وبنى، وإن كانت بعيدة ستر وابتدأ). أما كون من وجد السترة قريبة منه في أثناء صلاته يستتر ويبني على ما صلى؛ فلأن الستر شرط أمكنه فعله في الصلاة من غير عمل كبير فجاز له فعله. والبناء على صلاته قياساً على استدارة أهل قباء إلى القبلة. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج عبدالرزاق في مصنفه (4564) 2: 583 كتاب الصلاة، باب صلاة العريان. عن معمر عن قتادة: «إذا خرج ناس من البحر عراة فأمهم أحدهم صلوا قعوداً وكان إمامهم معهم في الصف ويومئون إيماء، قال معمر: وإن كان على أحدهم ثوب أمهم قائماً ويقوم في الصف، وهم خلفه قعوداً صفاً واحداً». (¬2) في ب: به.

وأما كونه يستتر ويبدأ إذا كانت السترة بعيدة؛ فلأن الستر لا بد منه ضرورة كونه شرطاً لصحة الصلاة، والستر مع بعد السترة فيه عمل كثير، والعمل الكثير مبطل للصلاة؛ لما يأتي إن شاء الله تعالى (¬1). قال: (ويصلي العراة جماعة، وإمامهم في وسطهم. فإن كانوا رجالاً ونساء صلى كل نوع لأنفسهم. وإن كانوا في ضيق صلى الرجال واستدبرهم النساء. ثم صلى النساء واستدبرهن الرجال). أما كون العراة يصلون جماعة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الرجل في الجمع يفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة» (¬2) [متفق عليه] (¬3). وهذا عام في كل مصل عار ولابس. وأما كون إمامهم في وسطهم؛ فلأن ذلك أستر لهم وأغض لأبصارهم. وأما كون كل نوع يصلون لأنفسهم إذا كانوا رجالاً ونساء فلئلا يرى بعضهم بعضاً. وأما كون الرجال يصلون ويستدبرهم النساء ثم النساء ويستدبرهن الرجال إذا كانوا في ضيق؛ فلأن في (¬4) ذلك تحصيلاً للجماعة مع عدم رؤية الرجال النساء وبالعكس. قال: (ويكره في الصلاة السدل. وهو: أن يطرح على كتفيه ثوباً ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الآخر. واشتمال الصماء. وهو: أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره. وعنه يكره وإن كان عليه غيره). أما كون السدل في الصلاة يكره؛ فلأن أبا هريرة روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة» (¬5) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) ر ص: 404. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (619) 1: 231 كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (650) 1: 450 كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة ... وأخرجه الترمذي في جامعه (215) 1: 420 أبواب الصلاة، باب ما جاء في فضل الجماعة. وأخرجه النسائي في سننه (837) 2: 103 كتاب الإمامة، فضل الجماعة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (789) 1: 259 كتاب المساجد والجماعات، باب فضل الصلاة في جماعة. وأخرجه أحمد في مسنده (5921) 2: 112. (¬3) زيادة من ج. (¬4) زيادة من ج. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (643) 1: 174 كتاب الصلاة، باب ما جاء في السدل في الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (378) 2: 217 أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية السدل في الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (7921) 2: 295.

وأما كون صفته كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن السدل في اللغة: إرخاء الثوب. قاله الجوهري. فإذا وضعه على كتفيه ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى حصل إرخاؤه فيحصل معنى السدل. وإذا وضعه على كتفيه ورد أحد طرفيه على الكتف الأخرى لم يحصل إرخاؤه فلا يحصل معنى السدل. وأما كون اشتمال الصماء يكره؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبستين: اشتمال الصماء، وأن يحتبي الرجل بثوب ليس [بين فرجه وبين السماء شيء» (¬1). رواه البخاري. وأما كون صفته: أن يضطبع بثوب ليس] (¬2) عليه غيره على المذهب؛ فلأن أبا عبيد قال: اشتمال الصماء عند العرب أن يلتحف الرجل بثوب يخلل به جسده كله ولا يرفع منه جانباً يخرج منه يده. كأنه يذهب إلى أنه لعله يصيبه شيء يريد الاحتراس منه (¬3) فلا يقدر عليه. وفسره الفقهاء بأن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيبدو منه فرجه، والفقهاء أعلم بالتأويل. والنهي على هذا يكون للتحريم وتفسد الصلاة معه. وأما كونه يكره وإن كان عليه غيره على روايةٍ؛ فلما تقدم من قول أبي عبيد أولاً. ولأن اشتمال الصماء إنما سميت اللبسة به لأن اللابس يسد على بدنه المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي ليس فيها صدع. وهذا المعنى موجود في اللبسة المتقدمة وإن كان عليه غيرها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5482) 5: 2191 كتاب اللباس، باب اشتمال الصماء. وأخرجه مسلم في صحيحه (2099) 3: 1661 كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن اشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد. (¬2) ساقط من ب. (¬3) ساقط من ب.

فعلى هذا يكون الحديث شاملاً لهذه الصورة ويكون النهي للتنزيه؛ لأنه يمنع من إكمال الركوع والسجود؛ لأنه يلتحف به ويخرج يديه من تلقاء صدره. قال: (ويكره تغطية الوجه، والتلثم على الفم والأنف، وكف الكم، وشد الوسط بما يشبه شد الزنار، وإسبال شيء من ثيابه خيلاء). أما كون تغطية الوجه في الصلاة يكره؛ فلأنها عبادة لها تحليل وتحريم فشرع لها كشف الوجه كالإحرام. وأما كون التلثم على الفم فيها يكره؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة» (¬1) رواه أبو داود. ولأن فيه تعويقاً عن تحقيق الحروف، ومنعاً من إكمال ركن الصلاة. وأما كون التلثم على الأنف فيها يكره؛ فلأن ابن عمر كرهه (¬2). وفي الأنف رواية أخرى: أنه لا يكره التلثم عليه؛ لأن تخصيص الفم بالنهي يدل على نفيه عما عداه. وأما كون كف الكم فيها يكره؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف شعراً ولا ثوباً» (¬3) متفق عليه. وأما كون شد الوسط بما يشبه شد الزنار يكره؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب. وقال: لا تشتملوا اشتمال اليهود» (¬4) رواه أبو داود. وعن الإمام أحمد: لا يكره ذلك. قال: أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يصلي أحدكم إلا وهو محتزم» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (643) 1: 174 كتاب الصلاة، باب ما جاء في السدل في الصلاة. (¬2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (4062) 2: 455 كتاب الصلاة، باب الرجل يصلي وهو متلثم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (783) 1: 281 كتاب صفة الصلاة، باب لا يكف ثوبه في الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (490) 1: 354 كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود ... كلاهما من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (635) 1: 172 كتاب الصلاة، باب من قال يتزر به، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬5) أخرجه أحمد في مسنده (9911) 2: 458.

وتقييد كراهية شد الوسط بما يشبه شد الزنار مشعر بأن شد الوسط بما لا يشبه شد الزنار (¬1) كالمنطقة وشد القَباء والميزر لا يكره لأن المعنى الذي كره له شد الوسط بما يشبه شد الزنار التشبه بأهل الكتاب وذلك مفقود فيما ذكر. وأما كون إسبال شيء من ثيابه خيلاء يكره؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» (¬2) متفق عليه. ¬

_ (¬1) في ب: بما يشبه الزنار. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5447) 5: 2181 كتاب اللباس، باب من جر إزاره من غير خيلاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (2085) 3: 1651 كتاب اللباس والزينة، باب تحريم جر الثوب خيلاء. كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

فصل [في اللباس] قال المصنف رحمه الله: (ولا يجوز لبس ما فيه صورة حيوان في أحد الوجهين). أما كون لبس ما ذكر لا يجوز في وجه؛ فلأن الإنسان ممنوع من جعل ذلك في بيته لما روى أبو طلحة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة» (¬1) متفق عليه. و«لأنه عليه السلام رأى في بيته ستراً عليه تصاوير فأمر بقطعه» (¬2). فلأن يمنع من جعله عليه بطريق الأولى. وأما كونه يجوز في وجه؛ فلأن زيد بن خالد روى الحديث المتقدم عن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره: «في ثوب» (¬3) متفق عليه. فعلى هذه الرواية يكون فعل ذلك مكروهاً؛ لأنه مختلف في حرمته. قال: (ولا يجوز للرجل لبس ثياب الحرير، أو ما غالبه الحرير، ولا افتراشه إلا من ضرورة. فإن استوى هو وما نسج معه فعلى وجهين). أما كون الرجل لا يجوز له لبس الحرير من غير ضرورة؛ فلما روى أبو موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حُرِّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأُحل لإناثهم» (¬4) أخرجه أبو داود والترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (3144) 3: 1206 كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ... وأخرجه مسلم في صحيحه (2106) 3: 1665 كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1999) 2: 742 كتاب البيوع، باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء. وأخرجه مسلم في صحيحه (2107) 3: 1667 كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان ... (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5613) 5: 2222 كتاب اللباس، باب من كره القعود على الصور. وأخرجه مسلم في صحيحه (2106) 3: 1665 كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان ... (¬4) أخرج أبو داود في سننه (4057) 4: 50 كتاب اللباس، باب في الحرير للنساء. بلفظ: «عن علي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه وأخذ ذهباً فجعله في شماله ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي». وأخرجه الترمذي في جامعه (1720) 4: 217 كتاب اللباس، باب ما جاء في الحرير والذهب. واللفظ له. وأخرجه النسائي في سننه (5148) 8: 161 كتاب الزينة، تحريم الذهب على الرجال.

وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» (¬1) متفق عليه. وأما كونه لا يجوز له افتراش الحرير من غير ضرورة؛ فلما روى حذيفة قال: «نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة. وأن نأكل فيها. وأن نلبس الحرير والديباج. وأن نجلس عليه» (¬2) رواه البخاري. وأما كونه لا يجوز له لبس ما غالبه الحرير ولا افتراشه من غير ضرورة؛ فلأن الغالب يعطى حكم الكل في كثير من الأحكام فليكن هاهنا كذلك. ولأن المعنى الذي حُرم الكل من أجله الخيلاء وكسر قلوب الفقراء وذلك موجود فيما غالبه كذلك. وأما كونه يجوز له لبس الحرير وما غالبه الحرير وافتراشه مع الضرورة؛ فلأن الضرورة تبيح المحرم دليله أكل الميتة. وأما كون الحرير إذا استوى هو وما نسج معه لا يجوز على وجهٍ؛ فلأن النصف كثير. ولأنه لا يطلق على ما نسج معه من الكتان والقطن قطن ولا كتان. وأما كونه يجوز على وجهٍ؛ فلأن ابن عباس قال: «إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير» (¬3). تُرك العمل به فيما غالبه الحرير لإعطاء الغالب حكم الكل فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5310) 5: 2133 كتاب الأشربة، باب آنية الفضة. وأخرجه مسلم في صحيحه (2069) 3: 1641 كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5499) 5: 2195 كتاب اللباس، باب افتراش الحرير. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4055) 4: 49 كتاب اللباس، باب الرخصة في العلم وخيط الحرير. وأخرجه أحمد في مسنده (2858) 1: 313. والمُصْمَت: هو الذي يكون جميعه من حرير ولا قطن فيه.

قال: (ويحرم لبس (¬1) المنسوج بالذهب، والمموه به. فإن استحال لونه فعلى وجهين). أما كون المنسوج بالذهب والمموه به يحرم؛ فلما تقدم من الحديث. ولا فرق في الذهب بين خالصه ومشوبه والمنفرد والمختلط بخلاف الحرير لأن الذهب يظهر قليله وكثيره، ويغلب لونه على لون ما اختلط به ويَعرف نَفَاسَتَه الخاص، والعام والتفاخر بقليله يضاهي التفاخر بكثير الحرير. وأما كونه إذا استحال لونه يحرم على وجهٍ فلعموم النهي في الذهب. وأما كونه لا يحرم على وجهٍ فلزوال المعنى المحرم من الخيلاء وكسر قلوب الفقراء. قال: (وإن لبس الحرير لمرض أو حكة أو في الحرب أو ألبسه للصبي فعلى روايتين). أما كون من لبس الحرير لمرض أو حكة لا يحرم عليه على روايةٍ؛ فلما روي «أن عبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكوا القمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما» (¬2) متفق عليه. وأما كونه يحرم عليه على روايةٍ؛ فلعموم النصوص المحرمة. والحديث المذكور قبل يحتمل أن يكون ذلك خاصاً بالصحابيين. والأولى أصح؛ لما تقدم. والأصل عدم تخصيصهما. وأما لبسه في الحرب فإن كان للغازي حاجة إليه مثل أن يجعله بطانة لسيفٍ أو درع ونحوه أبيح للحاجة. قال الإمام أحمد: كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب، وفي سيف عمرو بن حنيف مسمار من ذهب. وقيل: سهل بن حنيف. وروي «أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبيعة من ذهب وزنها ثمانية مثاقيل». وروي «أنه كان نعله وقبيعته من فضة وكان بينهما حِلَق من فضة» (¬3). ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5501) 5: 2196 كتاب اللباس، باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة. وأخرجه مسلم في صحيحه (2076) 3: 1647 كتاب اللباس، باب: إباحة لبس الحرير للرجل، إذا كان به حكة أو نحوها. وأخرجه النسائي في سننه (5310) 8: 202 كتاب الزينة، الرخصة في لبس الحرير. (¬3) أخرجه النسائي في سننه (5374) 8: 219 كتاب الزينة، حلية السيف.

والمعنيّ بالحاجة ما هو محتاج إليه في نفسه وإن قام غيره مقامه لا عدم وجود غيره؛ لأن ما ذكرنا بهذه المثابة. وإن لم تكن حاجة ففيه روايتان. إحداهما: لا يحرم؛ لأن المنع للخيلاء. وهي مطلوبة في الحرب غير مذمومة. والثانية: يحرم؛ لعموم الخبر. وظاهر كلام أحمد رحمه الله إباحته لما ذكر. ولأنه روي أنه كان لعروة يَلْمَق (¬1) من ديباج بطانته من سندس يلبسه في الحرب. وقيل: الروايتان في الحاجة وعدمها. وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا. وأما كون مَنْ ألبس الحرير الصبي لا يحرم عليه على روايةٍ؛ فلأن تحريم ذلك على الرجل لما فيه من الفخر والخيلاء وذلك مفقود في الصبي؛ لأنه يُخاف عليه ذلك. وأما كونه يحرم عليه على روايةٍ فكما يحرم عليه أن يَسقيه الخمر. قال: (ويباح حشو الجباب والفرش به. ويحتمل أن يحرم). أما كون حشو ما ذكر بالحرير يباح على المذهب؛ فلأنه ليس فيه خيلاء. وأما كونه يحتمل أن يحرم؛ فلعموم النهي. قال: (ويباح العَلَم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون. وقال أبو بكر: يباح وإن كان مذهباً. وكذلك الرقاع ولبنة الجيب وسجف الفراء). أما كون العلم الحرير إذا كان أربع أصابع فما دون يباح؛ فلما روى عمر أنه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أصابع أو أربع أصابع» (¬2) رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) اليلمق: أصله يلمه. فارسي معرب يعني: القباء. انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي ص 1201. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (2069) 3: 1644 كتاب اللباس والزينة، باب يحرم استعمال إناء الذهب والفضة ... وأخرجه أبو داود في سننه (4042) 4: 47 كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الحرير. وأخرجه الترمذي في جامعه (1721) 4: 217 كتاب اللباس، باب ما جاء في الحرير والذهب.

وأما كون العَلَم المذهب لا يباح وإن قل على المذهب؛ فلأن قليله ككثير الحرير لما تقدم. وأما كونه يباح على قول أبي بكر فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً» (¬1). وتفسيره الشيء اليسير مفرقاً. وأما كون الرقاع ولبنة الجيب وسجف الفراء كالعَلَم؛ فلأن ذلك كله مساو للعَلَم معنًى فوجب أن يساويه حكماً. قال: (ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر). أما كون الرجل يكره له لبس المزعفر فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجال عن التزعفر» (¬2) متفق عليه. وأما كونه يكره له لبس المعصفر فلما روي عن علي رضي الله عنه قال: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لباس المعصفر» (¬3) رواه مسلم. وحكمه عليه حكمه على الكل لقوله صلى الله عليه وسلم: «حكمي على الواحد حكمي على الكل» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4239) 4: 93 كتاب الخاتم، باب ما جاء في الذهب للنساء. وأخرجه النسائي في سننه (5150) 8: 161 كتاب الزينة، تحريم الذهب على الرجال. وأخرجه أحمد في مسنده (16947) 4: 98. كلهم عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5508) 5: 2198 كتاب اللباس، باب التزعفر للرجال. وأخرجه مسلم في صحيحه (2101) 3: 1663 كتاب اللباس، باب نهي الرجل عن التزعفر. كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (2078) 3: 1648 كتاب اللباس، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر. (¬4) قال الزركشي في كتابه المعتبر (ص: 157) عند تخريجه لحديث: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» قال: لا يعرف بهذا اللفظ ولكن معناه ثابت أخرجه الترمذي في جامعه (1597) 4: 151 كتاب السير، باب ما جاء في بيعة النساء. بلفظ: «إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامراة واحدة». وأخرجه النسائي في سننه (4181) 7: 149 كتاب البيعة، بيعة النساء. بلفظ: «إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة».

باب اجتناب النجاسات

باب اجتناب النجاسات قال المصنف رحمه الله: (وهو الشرط الرابع. فمتى لاقى ببدنه أو ثوبه نجاسة غير معفو عنها أو حملها لم تصح صلاته). أما كون اجتناب النجاسات الشرط الرابع؛ فلأنه يلي الثالث. وأما كونه شرطاً لصحة الصلاة؛ فلأن اجتناب دم الحيض شرط لصحتها لما روت أسماء بنت أبي بكر قالت: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب. فقال: اقرصيه. ثم صلي فيه» (¬1). وفي لفظ قالت: «سمعت امرأة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر أتصلي فيه؟ فقال: تنظر فإن رأت فيه دماً فلتقرصه بشيء من ماء ولتصل فيه» (¬2) رواه أبو داود. وغيره من النجاسات في معناه فوجب (¬3) أن يساويه في ذلك. وفي كون اجتناب النجاسات شرطاً لصحة الصلاة إشعار بوجوب اجتنابها. وهو صحيح لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4]. قال ابن سيرين: هو الغسل بالماء. وقوله عليه السلام: «تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (361) 1: 99 كتاب الطهارة، باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 13 كتاب الطهارة، باب إزالة النجاسات بالماء دون سائر المائعات. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (360) 1: 99 كتاب الطهارة، باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (7) 1: 128 كتاب الطهارة، باب نجاسة البول. عن أبي هريرة. قال الدارقطني: الصواب أنه مرسل. وله شاهد عنه بلفظ: «أكثر عذاب القبر من البول». وأخرجه ابن ماجة في سننه (348) 1: 125 كتاب الطهارة، باب: التشديد في البول. وأخرجه أحمد في مسنده 2: 326، 388. وأخرجه الدارقطني في الموضع السابق. وقال: صحيح. وفي زوائد ابن ماجة: إسناده صحيح. قال ابن حجر: وفي الباب حديث ابن عباس أخرجه عبد بن حميد في مسنده والحاكم والطبراني بنحوه. وإسناده حسن. انظر: التلخيص 1: 106.

وقوله عليه السلام وقد مر بقبرين: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول» (¬1) متفق عليه. وما وجب العذاب من أجله فاجتنابه واجب. فإن قيل: الذي يجب اجتناب النجاسات فيه ويشترط لصحة الصلاة ماذا؟ قيل: في ثوب المصلي وبدنه وموضع صلاته: أما في ثوبه؛ فلما تقدم. وأما في بدنه؛ فلأنه إذا وجب اجتناب ذلك في ثوبه واشتُرط لصحة الصلاة وهو منفصل عنه؛ فلأن يجب ذلك في بدنه ويشترط لصحة الصلاة وهو متصل به بطريق الأولى. وأما في موضع صلاته؛ فلأن الصلاة لا يمكن فعلها إلا في مكان فهو بالصلاة أَمَسّ من الثوب فإذا وجبت طهارة الثوب واشترطت لصحة الصلاة؛ فلأن يجب طهارة الموضع ويشترط لصحتها بطريق الأولى. ولأن موضع الصلاة يجب أن يكون حلالاً؛ فلأن يجب أن يكون طاهراً بطريق الأولى. وأما كون من لاقى ببدنه أو ثوبه نجاسة غير معفو عنها لا تصح صلاته؛ فلأن الملاقي لبدنه أو ثوبه موضع الصلاة واجتناب النجاسات فيه شرط لصحة الصلاة ولم يوجد. وأما كون من حملها لا تصح صلاته؛ فلأن الحامل غير مجتنبٍ للنجاسات واجتنابها شرط لما تقدم. وإنما اشترط فيما ذكر كون النجاسة غير معفو عنها لأن المعفو عنه لا أثر له. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (213) 1: 88 كتاب الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله. وأخرجه مسلم في صحيحه (292) 1: 241 كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه.

قال: (وإن طين الأرض النجسة أو بسط عليها شيئاً طاهراً صحت الصلاة عليها مع الكراهة. وقيل: لا تصح). أما كون الصلاة على ما ذكر تصح على المذهب فلوجود الحيلولة. وأما كون الصحة مع الكراهة؛ فلأن المصلي يعتمد في صلاته على النجاسة. وأما كونها لا تصح على قول؛ فلأن العلو تابع للقرار. أشبه الصلاة على القبر وسطح الحش. وذكر ابن عقيل في المسألة روايتين. فعلى قولنا بالصحة وهو الصحيح يشترط في الحائل أن يكون صفيقاً. فإن كان خفيفاً أو مهلهلاً فعنه وجهان: أصحهما المنع؛ لأن المقصود منع المسيس والملاقاة ولم يوجد لعدم الحيلولة. ويشترط أن تكون النجاسة يابسة. فإن كانت رطبة ولم تنفذ فعنه تصح لعدم نفوذها. وعنه: لا تصح؛ للاتحاد والاتصال. واختارها ابن أبي موسى. وإن تعدت لم تصح الصلاة؛ لأنه غير مجتنب للنجاسة بثوبه. قال: (وإن صلى على مكان طاهر من بساط طرفه نجس صحت صلاته إلا أن يكون متعلقاً (¬1) به بحيث ينجر معه إذا مشى فلا تصح). أما كون من صلى على ما ذكر مع عدم تعلقه به تصح صلاته؛ فلأنه ليس بحامل للنجاسة ولا مصل عليها. وإنما اتصل بمصلاه نجاسة فهو كما لو صلى على بقعة طاهرة متصلة ببقعة نجسة. وأما كونها لا تصح إذا كان المصلى عليه متعلقاً به بحيث ينجر معه إذا مشى؛ فلأنه مستتبع لما فيه نجاسة فهو كما لو حملها. فإن قيل: ما صورة هذه المسألة؟ قيل: صورتها أن يصلي على (¬2) منديل أو بساط وبعض ذلك على كتفه أو متعلق به وفي طرفه نجاسة. ¬

_ (¬1) في ب: متعلقة. (¬2) ساقط من ب.

ومما يلحق بهذه الصورة في المنع أن يكون المصلي في وسطه أو في يده حبل مشدود بحيوان نجس كالكلب، أو بشيء فيه نجاسة كالسفينة الصغيرة وغير ذلك؛ لأن ما ذكر ينجر معه إذا مشى فهو مستتبع له أشبه ما لو حمله. وتقييد المنع في المتعلق به بأن يكون بحيث ينجر معه إذا مشى مشعر بأنه إذا لم يكن كذلك كالبساط الكبير أن الصلاة تصح. وهو صحيح لأن علة عدم الصحة شَبَهُهُ بالحامل لكون المصلي مستتبعاً لذلك. وهذا المعنى مفقود فيما ذكر. ومثله في الحكم أن يكون المشدود إلى المصلي حيواناً لا ينجر معه كالأسد، أو شيئاً لا يمكنه جره كالسفينة العظيمة. قال: (ومتى وَجد عليه نجاسة لا يعلم هل كانت في الصلاة أو لا؟ فصلاته صحيحة. فإن علم أنها كانت في الصلاة لكنه جهلها أو أنسيها فعلى روايتين). أما كون صلاة من وَجد عليه نجاسة لا يعلم هل كانت عليه في الصلاة أو لا صحيحة؛ فلأن الأصل عدم كونها فيها فلا تبطل بالشك. وأما كونها صحيحة إذا علم أنها كانت عليه في الصلاة لكنه جهلها على روايةٍ؛ فلما روى أبو سعيد قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه. فوضعهما عن يساره. فخلع الناس نعالهم. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته. قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال: إن جبريل أخبرني أن فيهما قذراً» (¬1) رواه أبو داود. ولو كانت الطهارة شرطاً مع الجهل للزم استئناف الصلاة. وأما كونها غير صحيحة على روايةٍ؛ فلأن اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة فلم تسقط مع الجهل كطهارة الحدث. والأولى أصح؛ لما ذكر قبل. والقياس على الحدث لا يصح؛ لأن الطهارة من الحدث آكد؛ لأنه (¬2) لا يعفى عن يسيرها ويختص بالبدن دون غيره. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (650) 1: 175 كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل. وأخرجه أحمد في مسنده (10769) ط إحياء التراث. (¬2) زيادة من ج.

وأما كون صلاة من علم أنها كانت عليه في الصلاة لكنه أنسيها على روايتين؛ فلأن الناسي أخو الجاهل. قال: (وإذا جُبّر ساقه بعظم نجس فجَبر لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر، وإن لم يخف لزمه). أما كون من جُبّر ساقه بما ذكر فجَبر لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر. والمراد خوف الضرر بفوات نفس أو عضو أو مرض؛ فلأن حراسة النفس وأطرافها من الضرر واجب وهو أهم من رعاية شرط الصلاة. ولهذا يحبس الماء للعطش. ولا يلزمه شراء سترة، ولا ماء للوضوء بزيادة تجحف بماله فإذا جاز ترك شرط مجمع عليه لحفظ ماله فترك شرط مختلف فيه لأجل بدنه بطريق الأولى. وقيل: يلزمه قلعه إلا أن يخاف تلف نفسه لأن من جبر (¬1) ساقه بعظم نجس عاص والعاصي يؤاخذ بإزالة فعله. وأما كونه يلزمه فعله إذا لم يخف ذلك؛ فلأنه أمكنه تحصيل شرط الصلاة من غير ضرر فلزمه؛ لما تقدم من الأدلة الدالة على الاشتراط والوجوب السالمة عن معارضة الضرر. قال: (وإن سقط سنه فعادها (¬2) بحرارتها فثبتت فهي طاهرة. وعنه أنها نجسة حكمها حكم العظم النجس إذا جبر به ساقه). أما كون السن المعادة بعد سقوطها طاهرة إذا ثبتت على المذهب؛ فلأنها بإيصالها صار لها حكم الأصل الذي لم يسقط وذلك طاهر. فلتكن هذه مثله. وأما كونها نجسة على روايةٍ؛ فلأنها أبينت من حي فلتكن نجسة لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أبين من حي فهو ميت» (¬3). ¬

_ (¬1) في ب: لأنه يجبر. (¬2) في ج: وإن سقطت سنه فأعادها. (¬3) لم أقف عليه هكذا، وقد أخرج أبو داود نحوه عن أبي واقد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة». (2858) 3: 111 كتاب الصيد، باب في صيد قطع منه قطعة وأخرجه ابن ماجة في سننه (3216) 2: 1072 كتاب الصيد، باب ما قطع من البهيمة وهي حية. وأخرجه أحمد في مسنده (21953) 5: 218.

وأما كون حكمها على القول بنجاستها حكم العظم النجس إذا جبر به ساقه؛ فلأنها على هذه الرواية عظم نجس فوجب أن يساوي العظم النجس في الأصل ضرورة تساويهما حينئذ في أصل النجاسة. قال: (ولا تصح الصلاة في المقبرة، والحمام، والحش، وأعطان الإبل التي تقيم فيها وتأوي إليها، والموضع المغصوب. وعنه تصح مع التحريم. وقال بعض أصحابنا: حكم المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق وأسطحتها كذلك). أما كون الصلاة في المقبرة والحمام لا تصح على الصحيح من المذهب؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» (¬1) رواه أبو داود. وأما كونها في الحش لا تصح؛ فلأن احتمال النجاسة فيه أكثر من المقبرة والحمام فالمنع من الصلاة فيهما تنبيه على المنع من الصلاة فيه. وأما كونها في أعطان الإبل لا تصح؛ فلما روى جابر بن سمرة «أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا» (¬2) رواه مسلم. وأما كون أعطان الإبل هي التي تقيم فيها وتأوي إليها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأعطان مقابلة مراح الغنم حين قال: «صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في مبارك الإبل» (¬3). والمراح: هو الذي يراح إليه ويستراح فيه فكذلك الأعطان. وأما كون الصلاة في الموضع المغصوب لا تصح؛ فلأن قيامه وقعوده ولبثه فيه محرم منهي عنه فلم تقع عبادة كالصلاة في زمن الحيض. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (492) 1: 132 كتاب الصلاة، باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (360) 1: 275 كتاب الحيض، باب الوضوء من لحم الإبل. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (497) 1: 166 كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل. وفيه: «ولا تصلوا في معاطن الإبل». وأخرجه أحمد في مسنده (21011) 5: 102. نحوه.

وكلام المصنف رحمه الله في كون الصلاة في الموضع المغصوب لا تصح يقتضي التعميم سواء كانت جمعة أو غيرها. وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على صحة الجمعة في الموضع المغصوب؛ لأنها تختص بموضع معين. والمنع من الصحة يفضي إلى تعطيلها. ولذلك جاز فعلها خلف الخوارج وأهل البدع والفجور. بخلاف باقي الصوات. فعلى هذا يجب تخصيص كلام المصنف رحمه الله هنا بالصلوات المفروضات والنوافل وما أشبه ذلك مما ليس بجمعة. وأما كون الصلاة فيما ذكر تصح على روايةٍ: أما فيما عدا الموضع المغصوب؛ فلأن الصلاة في ذلك كله كالصلاة في الموضع المغصوب لاشتراكهما في النهي. وسيأتي دليل صحتها فيه فيما بعد. فيجب أن تصح فيما ذكر لاشتراكهما فيما ذكر. وأما في الموضع المغصوب؛ فلأنه لم ينقل عن أحد من السلف والخلف أنهم أمروا الظلمة بإعادة ما صلوا في المواضع المغصوبة ولو لم يصح لأمروهم بذلك. ولأن النهي لمعنى في غير الصلاة أشبه المصلي وفي يده خاتم من ذهب. وأما قول المصنف رحمه الله: مع التحريم؛ فتنبيه على أن تحريم الصلاة في المواضع المذكورة لا خلاف فيه وإن اختلف في الصحة؛ لأن النهي ورد وظاهره التحريم. وأما كون حكم المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق حكم المقبرة على قول بعض الأصحاب فلما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبع مواطن لا تجوز الصلاة فيها: ظهر بيت الله، والمقبرة (¬1)، والمزبلة، والمجزرة، والحمام، وعطن الإبل، ومحجة الطريق» (¬2) رواه ابن ماجة. ولأن المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق مظان للنجاسة أشبهت الحش والحمام. وظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى هنا أن الصلاة في المواضع الثلاثة صحيحة عنده. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (346) 2: 177 أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية ما يصلى إليه وفيه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (747) 1: 246 كتاب المساجد، باب المواضع التي تكره فيها الصلاة.

وقال في المغني: هو قول أكثر أهل العلم. وعلله بأن قوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً» (¬1) صحيح متفق عليه. استثني منه المقبرة والحمام والمعاطن للأحاديث الواردة فيها فيبقى فيما عداها على العموم. ثم قال: حديث المواضع السبعة رواه العمري وزيد بن جبيرة وقد تكلم فيهما من قبل حفظهما. فإن قيل: ما المراد بالمواضع المذكورة؟ قيل: المجزرة هي موضع ذبح البهائم، والمزبلة: هي التي تجمع فيها الزبل، وقارعة الطريق: هي الطريق الجادة المسلوكة السابلة. وليس المراد كل طريق لأنه لا يخلو موضع من المشي فيه. ولأن قارعة الطريق إنما سميت بذلك لكثرة قرع الأقدام لها وذلك مفقود في كل طريق. وأما كون حكم أسطحة ما ذكر حكم المقبرة؛ فلأن سطح الشيء له حكم أسفله؛ لأن الجنب يُمْنع من اللبث على سطح المسجد. والضمير في قوله: وأسطحتها يحتمل عوده إلى المواضع الثلاثة المذكورة. قيل: ويحتمل عوده إلى جميع مواضع النهي. وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله في المغني. لأنه نقل عن القاضي أنه علل المنع من الصلاة على ساباط شيء على طريق نافذ بأن العلو تابع للقرار فيثبت فيه حكمه. ثم قال: وعُدي الحكم إلى جميع أسطحة مواضع النهي. وقال صاحب النهاية بعد ذكره المسألة المذكورة: وطرد القاضي هذا (¬2) في المواطن كلها. وظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أن حكم الأسطحة ليس حكم القرار. وصرح به في المغني فقال: الأولى قصر الحكم على ما يتناوله النهي فلا يتعداه إلى سطح ولا ما سواه؛ لأنه لا يتناوله ولا يُتخيل فيه معنى. ولو علل بالتبعية لم يمنع من الصلاة على الساباط الذي على النهر لكون القرار لا يمنع من الصلاة عليه في سفينة. ولكان ينبغي أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (328) 1: 128 كتاب التيمم. وأخرجه مسلم في صحيحه (523) 1: 371 كتاب المساجد. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) زيادة من ج.

تصح الصلاة على ما حاذى ميمنة الطريق وميسرتها من الساباط لكونه لا يمنع من الصلاة في قرار ذلك. قال: (وتصح الصلاة إليها إلا المقبرة والحش في قول ابن حامد). أما كون الصلاة إلى المواضع المذكورة ما خلا المقبرة والحش تصح؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجداً. فحيث ما أدركتك الصلاة فصل» (¬1). خص منه ما تقدم قبل. فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما كونها إلى المقبرة والحش يصح على المذهب؛ لما تقدم. وأما كونها لا تصح على قول ابن حامد؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (¬2). والحش في معنى القبور؛ لأن المنع من الصلاة فيه ثبت بطريق التنبيه فكذا الصلاة إليه. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أن المنع على قول ابن حامد مختص بالمقبرة والحش. وقال القاضي: في هذا -يعني المنع إلى المقبرة والحش- تنبيه على نظائره من المواضع المنهي عن الصلاة فيها. وفي كلام القاضي نظر؛ لأن النهي عنده في المواضع المنهي عنها تعبد فكيف يعدي ذلك إلى غيرها؟ ومن شرط التعدية فهم المعنى. قال: (ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا على ظهرها. وتصح النافلة إذا كان بين يديه شيء منها). أما كون صلاة (¬3) الفريضة لا تصح في الكعبة ولا على ظهرها؛ فلقوله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144] أي نحوه وجهته. والمصلي في الكعبة أو على ظهرها غير مستقبل جهتها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (972) 2: 668 كتاب الجنائز، النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه. وأخرجه أبو داود في سننه (3229) 3: 217 كتاب الجنائز، باب في كراهية القعود على القبر. وأخرجه الترمذي في جامعه (1050) 3: 367 كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية المشي على القبور والجلوس عليها والصلاة إليها. (¬3) في ب: الصلاة.

ولأن المصلي فيها يستدبر منها ما يصلح أن يكون قبلة مع القدرة وذلك يبطل الفرض. والمصلي عليها ليس مصلياً إليها وقد أمر بالصلاة إليها. وأما كون النافلة تصح في الكعبة؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها ركعتين» (¬1) متفق عليه. ولأن النافلة دخلها التخفيف بدليل جواز ترك الاستقبال في السفر. وأما كونها تصح على ظهرها؛ فلأن ما تصح الصلاة في أسفله تصح على ظهره. دليله سائر المواضع. واشترط المصنف رحمه الله في صحة النافلة أن يكون بين يدي المصلي شيء من الكعبة ليكون مستقبلاً بعضها. فعلى هذا لو صلى إلى جهة الباب أو على ظهرها ولا شيء بين يديه لم تصح لانتفاء شرط الصحة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1521) 2: 579 كتاب الحج، باب إغلاق البيت ويصلي في أي نواحي البيت. وأخرجه مسلم في صحيحه (1329) 2: 967 كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج.

باب استقبال القبلة

باب استقبال القبلة قال المصنف رحمه الله: (وهو الشرط الخامس لصحة الصلاة إلا في حال العجز عنه. والنافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير. وهل يجوز التنفل للماشي؟ على روايتين. فإن أمكنه افتتاح الصلاة إلى القبلة فهل يلزمه ذلك؟ على روايتين). أما كون استقبال القبلة الشرط الخامس؛ فلأنه يلي الرابع. وأما كونه شرطاً لصحة الصلاة في غير المستثنى؛ فلأن الله تعالى قال: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144] أي نحوه. كما أنشدوا: ألا من مُبلغ عنا رسولاً ... وهل تُغْني الرسالة شَطْر عمرو أي نحو عمرو. وروي عن البراء قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً. ثم إنه وُجِّه إلى الكعبة. فمر رجل كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من الأنصار. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وُجّه إلى الكعبة. فانحرفوا إلى الكعبة» (¬1) أخرجه النسائي. وأما كونه لا يشترط في حال العجز كالمصلوب يصلي على حسب حاله؛ فلأنه فرضٌ عجز عنه. أشبه القيام. وكالصلاة في حال المسايفة. وسيأتي ذكر ذلك في فصل صلاة الخوف إن شاء الله تعالى (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (489) 1: 243 كتاب الصلاة، باب فرض القبلة. وأصله عند البخاري في الإيمان، باب حسن إسلام المرء (41) 1: 24. (¬2) ص: 518.

وأما كونه لا يشترط في صلاة النافلة على الراحلة في السفر؛ فلما روى ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه. يومئ برأسه. وكان يوتر على بعيره» (¬1) متفق عليه. و«كان يصلي على حماره» (¬2) رواه أبو داود. واعلم أن غرض المصنف رحمه الله هنا بيان عدم اشتراط استقبال القبلة في النافلة في الجملة فأما تفصيل ذلك فالراحلة على ضربين: أحدهما: ما يحتاج فيها إلى حفظ الراكب نفسه بفخذيه وساقيه كراحلة السرج والقتب فهذه يباح لراكبها ترك الاستقبال في جميع صلاته. ويومئ بالركوع والسجود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يركب. وعلى مثل هذه الحالة كان يتنفل. الثاني: ما لا يحتاج فيها إلى حفظ الراكب نفسه كالهودج والمحمل ونحوهما. فهذا إن أمكن راكبها الاستقبال في جميع الصلاة والركوع والسجود على ما هو عليه لزمه ذلك لأنه ممكن غير مشق. وقال أبو الحسن الآمدي: لا يلزمه ذلك؛ لأن الرخصة إذا كانت عامة تعم من وجدت في حقه المشقة ومن لم يوجد. ولأن في ذلك إضراراً بدابته لتنقله وحركته. فلم يلزمه قياساً على راكب السرج. ويحتمل أن يكون غرض المصنف رحمه الله هنا بيان عدم اشتراط استقبال القبلة في النافلة على كل راحلة كمذهب الآمدي. وظاهر إطلاقه يؤيد ذلك. وأما كون ما تقدم ذكره في السفر الطويل والقصير؛ فلأن تجويز ذلك إنما كان تخفيفاً في التطوع كيلا يؤدي إلى تقليله وقطعه. وهذا المعنى موجود في القصير فوجب إلحاقه بالطويل ومساواته له في الجواز. وأما كون التنفل للماشي يجوز على روايةٍ؛ فلأن الإفضاء إلى التقليل والقطع موجود فيه أشبه الراكب. فإن قيل: الراكب كالماشي مطلقاً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1047) 1: 371 أبواب تقصير الصلاة، باب ينزل للمكتوبة. وأخرجه مسلم في صحيحه (700) 1: 486 كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1226) 2: 9 كتاب صلاة السفر، باب التطوع على الراحلة والوتر. وأخرجه أحمد في مسنده (11719) 3: 73.

قيل: لا. بل مثله في جواز ترك الاستقبال. أما جواز الإيماء بالركوع والسجود فليس له ذلك. ويلزمه الركوع والسجود على الأرض مستقبلاً؛ لإمكان ذلك. بخلاف الراكب فإن له أن يومئ بهما. وقال أبو الحسن الآمدي: لا يلزمه ذلك بل يومئ بهما كالراكب لأنها حالة أبيح فيها ترك الاستقبال فلم يجب عليه الركوع والسجود كالراكب. وأما كونه لا يجوز له ذلك على روايةٍ. وهو ظاهر كلام الخرقي؛ فلأن الرخصة وردت في الراكب، والماشي بخلافه لأنه يأتي في الصلاة بعمل كثير. وأما كون مَن أمكنه افتتاح الصلاة إلى القبلة يلزمه ذلك على روايةٍ؛ فلأنه قادر عليه فلزمه كما لو قدر عليه في جميع الصلاة من غير مشقة. وأما كونه لا يلزمه ذلك على روايةٍ؛ فلأنه جزء من أجزاء الصلاة فلم يلزمه كبقية أجزائها، [والحديث يحمل على الندب] (¬1). واعلم أن الضمير في قول المصنف رحمه الله: فإن أمكنه؛ يجب عوده إلى الراكب لا إلى الماشي ولا إليه وإلى الراكب، مع أن في عوده إلى الراكب أيضاً نظرٌ: أما كونه لا يعود إلى الماشي وحده ولا إليه وإلى الراكب؛ فلأن الماشي يلزمه استقبال القبلة حال افتتاح الصلاة إذا أمكنه ذلك على روايةٍ واحدة ذكر ذلك صاحب النهاية. وحكى المصنف رحمه الله في المغني أنه يلزمه الاستقبال ولم يحك خلافه. ولم يحك صاحب المستوعب ولا غيره ممن طالعت تصنيفه مع إمعان المطالعة والمبالغة من أجل تصحيح كلام المصنف رحمه الله هنا غير ذلك. وأما كون عوده إلى الراكب وحده فيه نظر؛ فلأن الروايتين المذكورتين في الاستقبال حال الافتتاح إنما هما في حال المسايفة: أما النافلة في السفر على الراحلة فإنه ينظر فيها: فإن كانت مقطورة [أو لا تطيع راكبها في انفتالها لم يلزمه الاستقبال؛ لأنه لا يمكنه إلا بمشقة. وإن كانت غير مقطورة] (¬2) وتطيعه فالمذهب أنه يلزمه الاستقبال حال الافتتاح ذكره صاحب النهاية فيها وقدمه المصنف في المغني. واحتجا عليه بأن النبي ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) ساقط من ب.

صلى الله عليه وسلم «كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجهة ركابه» (¬1) رواه أبو داود. وأما عدم لزوم الاستقبال حال الافتتاح فهو مُخَرّج على صلاة الخوف. ذكره المصنف رحمه الله في المغني وصاحب النهاية فيها. ولم يحكه واحد منهما رواية. ولم أعلمه لأحد من الأصحاب. ويمكن أن يتعذر عن إطلاق المصنف رحمه الله الروايتين إذا أراد بذلك الراكب بأن المخرج على روايةٍ قد يطلق عليه رواية نظراً إلى أنه مأخوذ منها. أو يقال بأن المصنف رحمه الله اطلع على روايةٍ لم يطلع عليها غيره ولم ينقلها إلا في مقنعه وفيه بُعْدٌ. وصرح في الكافي بأن في الاستقبال إذا كان سهلاً وجهين. قال: (والفرض في القبلة إصابة العين لمن قرب منها. وإصابة الجبهة لمن بعد عنها). أما كون الفرض في القبلة إصابة العين لمن قرب من الكعبة فلا خلاف فيه. ووجهه أنه قادر على التوجه إلى عين الكعبة قطعاً فلم يجز العدول عنه والتوجه إليها ظناً. والمراد بمن قرب المشاهِدُ لها ومن كان بمكة من أهلها أو ناشئاً بها من وراء حائل محدث كالجدران: أما المشاهد لها؛ فلأنه قادر على إصابة العين من غير مشقة البتة. وأما من كان من وراء حائل ممن ذكر؛ فلأنه قادر على إصابة العين بأسباب موصلة إلى ذلك قطعاً على وجه السهولة واليسر فلزمه ذلك كمن صلى بحضرة الكعبة وبينه وبينها رجل قائم أو ستر معلق فإنه يلزمه أن يتسبب إلى أن يعلم عين الكعبة فكذلك هاهنا. وأما كون الفرض فيها إصابة الجهة لمن بَعُد عنها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (¬2). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. تُرك العمل به (¬3) في حق من قرب لما تقدم فيبقى فيما عداه على مقتضاه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1225) 2: 9 كتاب الصلاة، باب التطوع على الراحلة. وأخرجه أحمد في مسنده (13131) 3: 203. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (344) 2: 171 أبواب الصلاة، باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1011) 1: 323 كتاب إقامة الصلاة، باب القبلة. (¬3) زيادة من ج.

ولأن الإجماع منعقد على صحة صلاة المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة ولا يمكن أن يصيب العين إلا أحدهما. وظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أنه لا فرق فيمن بَعُد بين من كان قريباً من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبين من لم يكن. ووجهه عموم ما تقدم. وقال أبو الخطاب: حكم من قرب من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حكم من قرب من الكعبة. وصرح به المصنف رحمه الله في المغني. ووجهه أن قبلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة قطعاً لأنه لا يقر على الخطأ. ويمكن أن يجاب عنه بأن الفرض إذا كان الجهة لم يكن نصب القبلة إلى غير العين خطأ. وفي قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144] دليل على أن الفرض الجهة؛ لأن الشطر قد فسر بالنحو. والنحو الجهة لا العين. ويعضده قوله عليه السلام: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (¬1). قال: (فإن أمكنه ذلك بخبر ثقة عن يقين أو استدلال بمحاريب المسلمين لزمه العمل به. وإن وجد محاريب لا يعلم هل هي للمسلمين أو لا؟ لم يلتفت إليها). أما كون من أمكنه معرفة القبلة بخبر ثقة عن يقين يلزمه العمل به؛ فلأن الخبر كالنص فلزم قبوله. ولم يجز العدول عنه إلى الاجتهاد معه كالحاكم إذا وجد النص. وأما كون من أمكنه ذلك باستدلالٍ بمحاريب المسلمين يلزمه ذلك؛ فلأن أهل الخبرة والمعرفة بنوها على الصحة. فجرى ذلك مجرى الخبر عن يقين. وفي تقييد المصنف رحمه الله خبر الثقة بكونه عن يقين إشعار بأنه إذا أخبره عن اجتهاد لا يجوز له العمل بقوله. وهو صحيح. صرح به صاحب الهداية فيها. ووجهه أن العالم لا يجوز له العمل باجتهاد غيره فكذا هذا. وأما كون من وَجد محاريب لا يعلم هل هي للمسلمين أو لا؟ لا يلتفت إليها فلاحتمال كونها لغير المسلمين. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق.

قال: (وإن اشتبهت عليه في السفر اجتهد في طلبها بالدلائل، وأثبتُها القطب إذا جعله وراء ظهره كان مستقبلاً للقبلة). أما كون من اشتبهت عليه القبلة في السفر ولم يمكنه معرفتها بخبر ثقة عن يقين أو استدلال بمحاريب المسلمين يجتهد في طلبها بالدلائل إذا كان عالماً بها؛ فلأن له طريقاً إلى معرفتها بالاجتهاد فلزمه ذلك كالعالم بالحادثة. والمجتهد في القبلة هو العالم بأدلتها سواء كان عالماً بأحكام الشرع أو لم يكن. فإن كل من علم أدلة شيء كان من أهل الاجتهاد فيه وإن جهل غيره. فإن قيل: من دخل وقت الصلاة عليه وهو غير عارف بالقبلة ولا بدلائلها ما يصنع؟ قيل: إن أمكنه تعلم ذلك لزمه. فإن ضاق الوقت قبل التعلم جاز أن يقلد كتعلم الفاتحة يجب مع السعة، ويجزئ غيرها مع الضيق. وهل يجب على من يريد السفر تعلم ذلك؟ قال قوم: يجب. وهو متجه. ويحتمل أن لا يجب لأن جهة القبلة مما يندر التباسه، والمكلف يجب عليه تعلم ما يعم لا ما يندر. فإن قيل: ما دلائل القبلة؟ قيل: أمور: أحدها النجوم. قال الله تعالى: {وبالنجم هم يهتدون} [النحل: 16]. وقال تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} [الأنعام: 97]. وباقيها يأتي ذكره. وأما كون أثبت أدلة القبلة القطب؛ فلأنه لا يزول عن مكانه ويمكن كل واحد معرفته غالباً. فإن قيل: ما صفته؟ قيل: هو نجم خفي حوله أنجم دائرة كفراشة الرحى أحد طرفيها الفرقدان وفي الآخر الجدي وبين ذلك أنجم صغار ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل. تدور هذه الفراشة حول القطب دور الرحى حول قطبها في كل يوم وليلة دورة. وحول الفراشة بنات نعش وهي سبعة أنجم متفرقة مضيئة. وأما كونه إذا جعله المصلي وراء ظهره يكون مستقبلاً للقبلة؛ فلأنه قد أخبر بذلك ثقات عن يقين.

ولا بد أن يلحظ في ذلك كون المصلي في الشام لأن ذلك إنما يكون كذلك في البلاد الشامية. وقيل: أنه ينحرف في دمشق وما قاربها إلى الشرق قليلاً. فإن قيل: لو استدبر الفرقدين أو الجدي. قيل: يكون مستقبلاً للجهة. قال: (والشمس والقمر ومنازلهما وما يقترن بها ويقاربها كلها تطلع من المشرق وتغرب في المغرب عن يمين المصلي. والرياح الجنوب تهب مستقبلة لبطن كتف المصلى اليسرى مارة إلى يمينه، والشمال مقابلتها تهب إلى مهب الجنوب. والدبور تهب مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن. والصبا مقابلتها تهب إلى مهبها). أما كون الشمس والقمر ومنازلهما وما يقترن بها ويقاربها من دلائل القبلة؛ فلأنها تطلع في الجملة من المشرق وتغرب في المغرب لكن الشمس تطلع من المشرق عن يسار المصلي وتغرب في المغرب عن يمينه. وأما القمر فيبدو أول ليلة الشهر هلالاً في المغرب عن يمين المصلي. ثم يتأخر كل ليلة نحو المشرق منزلاً حتى يكون ليلة السابع وقت المغرب في القبلة مائلاً عنها قليلاً إلى المغرب. ثم يطلع ليلة الرابع عشر من المشرق قبل غروب الشمس بدراً تاماً. وليلة إحدى وعشرين يكون في قبلة المصلي أو قريباً منها وقت الفجر. وليلة ثمان وعشرين يبدو عند الفجر كالهلال من المشرق. وتختلف مطالعه بحسب اختلاف منازله. وأما المنازل فثمانية وعشرون منزلاً وهي: السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والدباغ، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، الصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلح، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المقدم، والفرع المؤخر، وبطن الحوت. وصورة ذلك مذكورة في الكتب المطولة. وأما كون الرياح من دلائل القبلة؛ فلأن العرب يعرفونها ويستدلون بها على القبلة.

والرياح التي ذكرها المصنف رحمه الله دلائل قبلة العراق. وأما قبلة الشام فهي مشرقة عن قبلة العراق. فيكون مهب الجنوب لأهل الشام قبلة. وهو من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس في الشتاء. والشمال: مقابلتها تهب من ظهر المصلي لأن مهبها من القطب إلى مغرب الشمس في الصيف. قال الأصمعي: وليس في الرياح ما له دري غيرها وهو ما تسقيه إلى حائط أو شجرة. والصبا تهب من يسرة المصلي المتوجه إلى قبلة الشام لأن مهبها من مطلع الشمس في الصيف إلى مطلع العتوق. قاله الفراء. والدبور: مقابلتها. وربما تدور هذه الرياح بين الحيطان والجبال فلا تعتبر إذاً. قال: (وإذا اختلف اجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه. ويتبع الجاهل والأعمى أوثقهما في نفسه). أما كون من اختلف اجتهادهما لا يتبع أحدهما صاحبه؛ فلأن فرض كل واحد منهما (¬1) ما يؤديه إليه اجتهاده فلا يجوز له أن يقلد صاحبه وإن كان أعلم منه؛ كالعالمين المختلفين في الحادثة. ولا فرق بين من اجتهد فأداه اجتهاده إلى جهة، وبين من لم يجتهد مع كونه أهلاً للاجتهاد؛ لأن الأهل أمكنه الاجتهاد فلزمه كالحاكم. ولا بين أن يكون الوقت متسعاً أو ضيقاً لما ذكر. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه يقلد مع الضيق. وأشار إلى قول أحمد فيمن هو في مدينة فتحرى وصلى إلى غير القبلة يعيد لأن عليه أن يسأل. فجعل فرضه السؤال. وهذا لا دلالة فيه على ما ذكر. بل فيه دلالة على أن المجتهد في المصر لا يجتهد؛ لأنه يمكنه التوصل إلى القبلة بطريق الخبر عن يقين أو بطريق الاستدلال بالمحاريب. وأما كون كل واحدٍ من الجاهل والأعمى يتبع أوثقهما في نفسه؛ فلأن الصواب إليه أقرب. ¬

_ (¬1) زيادة من ج.

والمراد بأوثقهما في نفسه أعلمهما عنده وأصدقهما قولاً وأشدهما تحرياً لدينه. فعلى هذا لو قلد المفضول لم يصح. وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأنه ترك ما يغلب على ظنه أن الصواب فيه. فلم يتسع له ذلك كالمجتهد إذا ترك اجتهاده. قال: (وإذا صلى البصير في حضر فأخطأ أو صلى الأعمى بلا دليل أعادا. فإن لم يجد الأعمى من يقلده صلى. وفي الإعادة وجهان. وقال ابن حامد: إن أخطأ أعاد. وإن أصاب فعلى وجهين). أما كون البصير إذا صلى في الحضر فأخطأ يعيد؛ فلأنه إنما عذر في الخطأ في السفر لأنه مظنة الاشتباه وعدم الأدلة الموصلة إلى الإصابة يقيناً. بخلاف الحضر فإنه يمكنه التوصل إلى ذلك بالخبر عن يقين وبالاستدلال بالمحاريب. وتقييد الإعادة بالخطأ مشعر بأنه إذا أصاب لم يعد. وهو صحيح؛ لأنه مأمور بالصلاة إلى القبلة وقد وجدت. وقيل: يعيد مع الإصابة؛ لأنه ترك فرضه وهو السؤال. والغالب عليه عدم الإصابة فوجب عليه الإعادة ولو أصاب لأنه ترك فرضه مع أنه يغلب على الظن عدم إصابته. ولوجوب الإعادة عليه أخطأ أو أصاب أطلق المصنف رحمه الله الحكم المذكور. وأما كون الأعمى الذي لا يجد من يقلده يصلي؛ فلأن فرض السؤال يسقط بعدم المسؤول. ولأنه لو لم يصل لأدى ذلك إلى خلو الوقت عن صلاة في الجملة. وذلك لا يجوز. دليله من عدم الماء والتراب. وأما كونه يعيد أخطأ أو أصاب في وجهٍ؛ فلأنه مع عدم الدليل صلى شاكاً في تأدية فرضه فوجب عليه الإعادة وإن أصاب أشبه واجد الدليل إذا صلى بلا سؤاله. وأما كونه لا يعيد أخطأ أو أصاب في وجهٍ؛ فلأنه قد أتى بما في وسعه وما كلف به فلم تجب الإعادة عليه كالمجتهد. وأما كونه إن أخطأ أعاد وجهاً واحداً في قول ابن حامد؛ فلأنه اجتمع فيه أمران الصلاة بغير دليل وعدم الإصابة، وإن أصاب على وجهين؛ فلأن النظر إلى أن المقصود إصابة القبلة وقد وجد يقتضي أن لا يعيد. فإن قيل: فرضه السؤال ولم يوجد.

قيل: فرض السؤال يسقط بعدم المسؤول. وبه يظهر الفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا صلى مع وجود الدليل ولم يسأله. والنظر إلى أن العبادة جعلت في الوقت على نوع من الخلل يقتضي أن يعيد لما في ذلك من الاستدراك لما حصل من الخلل. ويعضد ذلك وجوب الإعادة على من صلى عادماً للماء والتراب على إحدى الروايتين. قال: (ومن صلى بالاجتهاد ثم علم أنه قد أخطأ القبلة فلا إعادة عليه. وإن أراد صلاة أخرى اجتهد لها. فإن تغير اجتهاده عمل بالثاني ولم يعد ما صلى بالأول). أما كون من صلى بالاجتهاد ثم علم أنه أخطأ القبلة لا إعادة عليه؛ فلما روى عبدالله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة. فلم ندر أين القبلة. فصلى كل رجل منا على حياله. فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {فأينما تولوا ... الآية} [البقرة: 115]» (¬1) رواه ابن ماجة والترمذي من حديث أشعث السمان. وفيه ضعف. ولأن عدم العلم عذر في ترك الاستقبال بدليل «أن أهل قباء لما أُخبروا بتحول القبلة لم يبتدئوا الصلاة» (¬2). وأما كونه إذا أراد صلاة أخرى يجتهد لها مرة أخرى؛ فلأنها واقعة جديدة فيستدعي اجتهاداً جديداً كطالب الماء في التيمم. وأما كونه يعمل بالثاني إذا تغير اجتهاده؛ فلأنه ترجح في ظنه. والعمل بالراجح متعين. وأما كونه لا يعيد ما صلى بالأول؛ فلأنه لو وجبت الإعادة لكان نقضاً للاجتهاد بالاجتهاد. وذلك غير جائز لعدم تناهيه. ولأنه لا يعيد مع يقين الخطأ فمع عدم اليقين بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (345) 2: 176 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1020) 1: 326 كتاب إقامة الصلاة، باب من يصلي لغير القبلة وهو لا يعلم. قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4218) 4: 1632 كتاب التفسير باب: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها}. وأخرجه مسلم في صحيحه (526) 1: 375 كتاب المساجد، باب تحويل القبلة.

باب النية

باب النية النية: العزم والقصد. يقال: نوى فلان كذا إذا قصده وعزم عليه. ومحل النية القلب. والتلفظ ليس بشرط؛ لأن الغرض جعل العبادة لله وذلك حاصل بالنية. لكن يستحب أن يَتلفظ بما نواه؛ لأن فيه تأكيد النية. فلو نوى صلاة وسبق لسانه إلى غيرها لم يضر؛ لأن الشرط النية وهي حاصلة. قال المصنف رحمه الله: (وهي الشرط السادس للصلاة على كل حال). أما كون النية الشرط السادس؛ فلأنه يلي الخامس. وأما كونها شرطاً لصحة الصلاة؛ فلأن الله تعالى قال: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى» (¬1). ولأن الصلاة قربة محضة فاشترطت لها النية كالصوم. وأما قول المصنف رحمه الله: على كل حال؛ فمعناه والله أعلم أنها شرط مع العلم والجهل والذكر والنسيان وغير ذلك. ووجهه عموم ما تقدم. ولأن مسلوب القصد في أي حالٍ كان شبيه بالمجنون فلم تصح عبادته بالقياس عليه. قال: (ويجب أن ينوي الصلاة بعينها إن كانت معينة وإلا أجزأته نية الصلاة). أما كون المصلي يجب عليه أن ينوي الصلاة بعينها إن كانت معينة كالظهر والعصر والوتر والضحى وما أشبه ذلك؛ فلأنها لا تُمَيَّز عن غيرها إلا بذلك. وأما كونه يجزئه نية الصلاة في غير المعينة كالنافلة المطلقة؛ فلأنه إذا نوى الصلاة دخل في نيته مطلق الصلاة. ضرورة أن المطلق لا بد من وجوده في مسمى الصلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1) 1: 3 باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1907) 3: 1515 كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية».

قال: (وهل تشترط نية القضاء في الفائتة ونية الفرضية في الفرض؟ على وجهين). أما كون نية القضاء في الفائتة تشترط على وجهٍ فلتتميز. وأما كونها لا تشترط على وجهٍ؛ فلأنه لو تحرى في الوقت فصلى فبان بعد الوقت أجزأته صلاته وفاقاً. وهو قضاء لم ينوه. وأما كون نية الفرضية في الفرض يشترط على وجهٍ وهو قول ابن حامد؛ فلأن الظهر مثلاً قد لا يكون فرضاً كظهر الصبي ومن أعاد الجماعة. وأما كونها لا تشترط على وجهٍ؛ فلأن ظُهْر هذا لا يكون إلا فرضاً. قال: (ويأتي بالنية عند تكبيرة الإحرام. فإن تقدمت قبل ذلك بالزمن اليسير جاز). أما كون المصلي يأتي بالنية عند تكبيرة الإحرام؛ فلأنها أول الصلاة. ومحل النية من كل عبادة أولها فكذا الصلاة. وأما كون تقديمها قبل ذلك بالزمن اليسير يجوز؛ فلأنها عبادة يشترط لها النية فجاز تقديمها عليها كالصوم. ولأن اشتراط المقارنة يشق وذلك منفي شرعاً. قال: (ويجب أن يستصحب حكمها إلى آخر الصلاة. فإن قطعها في أثنائها بطلت الصلاة. وإن تردد في قطعها فعلى وجهين). أما كون المصلي يجب عليه أن يستصحب حكم النية إلى آخر الصلاة؛ فلأن مقتضى الدليل وجوب النية في كلها. لكن لما شق ذلك وجب الاستصحاب. ضرورة أنه لو لم يستصحب النية لم تكن بقية الصلاة صحيحة لأنها غير منوية قصداً ولا حكماً. ولأن كل عبادة يشترط لها النية يشترط استصحابها. دليله الصوم. والمراد بالاستصحاب أنه إذا نوى العبادة لا ينوي قطعها بعد ذلك. وأما كونه إذا قطع نية الصلاة في أثنائها تبطل؛ فلأن الاستصحاب شرط لما تقدم وقد فات فيلزم بطلان الصلاة. ضرورة فوات الشيء لفوات شرطه. ولأنه قطع نية الصلاة قبل إتمامها أشبه ما لو سلم ونوى به الخروج منها.

وأما كونه إذا تردد في قطعها تبطل صلاته على وجهٍ؛ فلأن التردد ينافي الجزم المشترط. دليله المسلم إذا شك في الإسلام. وأما كونها لا تبطل على وجهٍ؛ فلأنه لم يوجد قطع ولا تغيير. قال: (وإن أحرم بفرض فبان قبل وقته انقلب نفلاً. وإن أحرم به في وقته ثم قلبه نفلاً جاز. ويحتمل أن لا يجوز إلا لعذر مثل أن يحرم منفرداً فيريد الصلاة في جماعة). أما كون من أحرم بفرض فبان قبل وقته انقلب نفلاً؛ فلأنه تعجيلٌ لعبادةٍ بدنية قبل وجوبها ووجود سببها وتحقق شرطها فلغت نية الفرضية. وصار كما لو صام شعبان معتقداً أنه رمضان بنية الفرض. وأما كون من أحرم به في وقته ثم قلبه نفلاً يجوز على المذهب؛ فلأن نية النفل تضمنتها نية الفرضية. وأما كونه يحتمل أن لا يجوز مع عدم العذر؛ فلأنه ما نوى ذلك عند الإحرام، ولا تضمن انتقاله مصلحة فيكون فعله عبثاً وذلك منهي عنه. وأما كونه يجوز مع العذر المذكور؛ فلأنه ينتقل إلى أفضل من حاله وذلك مطلوب في نظر الشرع. قال: (وإن انتقل من فرض إلى فرض بطلت الصلاتان). أما كون الأولى تبطل؛ فلأنه قطع نيتها وأعرض عنها، واستدامة النية شرط لما تقدم. وأما كون الثانية لا تصح؛ فلأن ابتداء النية وتعيينها لا بد منها ولم يوجد ذلك عند الإحرام. وفي قول المصنف رحمه الله: بطلت الصلاتان؛ نظر، فإن الثانية لا توصف بالبطلان لكن توصف بعدم الصحة.

قال: (ومن شرط الجماعة أن ينوي الإمام والمأموم حالهما. فإن أحرم منفرداً ثم نوى الائتمام لم يصح في أصح الروايتين. وإن نوى الإمامة صح في النفل ولم يصح في الفرض، ويحتمل أن يصح وهو أصح عندي). أما كون الجماعة من شرطها أن ينوي الإمام والمأموم حالهما؛ فلأن الجماعة إنما انعقدت بالنية فيعتبر وجودها منهما. فلو نوى كل واحد الإمامة أو المأمومية لم يصح لعدم المأموم في الأولى والإمام في الثانية. وأما كون من أحرم منفرداً ثم نوى الائتمام لا يصح على روايةٍ؛ فلأنه لم ينو الائتمام في ابتداء الصلاة وذلك شرط. وأما كونه يصح على روايةٍ؛ فلأنه يجوز أن يجعل نفسه إماماً لما يأتي فجاز أن يجعلها مأموماً بالقياس عليه. وأما كونه إذا نوى الإمامة في النفل يصح؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي في التهجد فجاء ابن عباس فأحرم معه وصلى به النبي صلى الله عليه وسلم» (¬1) متفق عليه. وأما كونه إذا نواها في الفرض لا يصح على المذهب؛ فلأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة. أشبه ما لو أحرم في يوم الجمعة بعد الخطبة وكمال العدد ثم انفضوا فأحرم بالظهر ثم تكامل العدد وهو في الصلاة فنوى الجمعة. وأما كونه يحتمل أن يصح؛ فلأن الفرض في معنى النفل. وأما كون ذلك أصح عند المصنف رحمه الله؛ فلأنه قد ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن ابتداء النية للإمامة ليست شرطاً في النفل وذلك مقتضٍ لعدم اشتراطها في الفرض؛ لأن الأصل أن ما ثبت في النفل يثبت في الفرض ما لم يقم دليل على تخصيصه، ولم يقم. قال: (فإن أحرم مأموماً ثم نوى الانفراد لعذر جاز. وإن كان لغير عذر لم يجز في إحدى الروايتين). أما كون من أحرم مأموماً ثم نوى الانفراد في أثناء صلاته لعذر يجوز فـ «لأن معاذاً رضي الله عنه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يأتي قومه فيصلي بهم. فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة فصلى معه. ثم انصرف إلى قومه فصلى بهم. فافتتح سورة البقرة. ففارقه رجل فأتم صلاته. فقالوا له: نافقت! فقال: ما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (181) 1: 78 كتاب الوضوء، باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره. وأخرجه مسلم في صحيحه (763) 1: 525 كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.

نافقت. ولكن لآتِيَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُخْبِره. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وذكر ذلك له. فقال صلى الله عليه وسلم: أفتان أنت يا معاذ مرتين ... مختصر» (¬1) متفق عليه. ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة. وفي بعض ألفاظه: «يا رسول الله! إنا أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا» (¬2). إشارة إلى التعب والنصب. والعذر المجوز هنا ما يجوز به ترك الجماعة. وكعذر من يلحقه مشقة من كبر أو ضعف أو تعب أو [فوات رفقة و] (¬3) نحو ذلك. وأما كونه إذا نوى ذلك لغير عذر لا يجوز في روايةٍ؛ فلقوله عليه السلام: «لا تختلفوا على أئمتكم» (¬4). ولأنه ترك متابعة إمامه وانتقل من الأعلى إلى الأدنى لغير عذر. أشبه ما لو نقلها إلى النفل أو ترك المتابعة من غير نية الانفراد. وأما كونه يجوز في روايةٍ؛ فبالقياس على المنفرد. قال: (وإن نوى الإمامة لاستخلاف الإمام له إذا سبقه الحدث صح في ظاهر المذهب). أما كون ما ذكر يصح في ظاهر المذهب؛ فـ «لأن عمر رضي الله عنه لما طُعِن أخذ بيد عبدالرحمن بن عوف فقدمه واستخلفه فما عاب ذلك عائب» (¬5). وكان ذلك بمحضر من الصحابة وغيرهم فيكون ذلك إجماعاً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (673) 1: 249 كتاب الجماعة والإمامة، باب من شكا إمامه إذا طول. وأخرجه مسلم في صحيحه (465) 1: 339 كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء. (¬2) أخرجه مسلم في الموضع السابق. (¬3) زيادة من ج. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (689) 1: 253 كتاب الجماعة والإمامة، باب إقامة الصف من تمام الصلاة. ولفظه: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ... ». وأخرجه مسلم في صحيحه (414) 1: 309 كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام. مثل لفظ البخاري. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (3497) 3: 1353 كتاب المناقب، فضائل الصحابة، باب قصة البيع والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه. من حديث عمرو بن ميمون. وفيه قصة مقتل عمر رضي الله عنه.

وأما كونه لا يصح على روايةٍ - وقول المصنف رحمه الله: في ظاهر المذهب مشعر به؛ لأنه مشعر بالخلاف وخرج به في المغني ونقله عن الإمام أحمد رحمة الله عليه -؛ فلأن شرط صحة الصلاة فُقد في أثنائها فوجب بطلانها كما لو تعمد الحدث. والأول هو المذهب؛ لما تقدم. قال: (وإن سبق اثنان ببعض الصلاة فائتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما فعلى وجهين. وإن كان لغير عذر لم يصح). أما كون فعل ما ذكر لعذر يصح على وجهٍ؛ فلأن المأموم منتقل إلى مثل حاله، والإمام منتقل من كونه مأموماً لتكميل الصلاة في جماعة وذلك أفضل من الانفراد في حقهما. وأما كونه لا يصح على وجهٍ؛ فلأن كل واحد منهما يثبت له حكم الانفراد بسلام إمامه فصار كالمنفرد ابتداء. وأما كونه لغير عذر لا يصح؛ فلأن مقتضى الدليل أن لا يصح مطلقاً لإحداثه في أثناء صلاته ما لم يكن في أولها. تُرك العمل به في موضع العذر على وجهٍ لمكان العذر فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. قال: (وإن أحرم إماماً لغيبة إمام الحي. ثم حضر في أثناء الصلاة. فأحرم بهم وبنى على صلاة خليفته وصار الإمام مأموماً، فهل يصح؟ على وجهين). أما كون ما ذكر يصح على وجهٍ؛ فلما روى سهل بن سعد قال: «ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم. فحانت الصلاة. فصلى أبو بكر. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة. فخلص حتى وقف في الصف وتقدم [النبي صلى الله عليه وسلم] (¬1) فصلى ثم انصرف» (¬2) متفق عليه. وأما كونه لا يصح على وجهٍ؛ فلأنه لا حاجة إلى ذلك. وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون خاصاً به؛ لأن أحداً لا يساويه. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (652) 1: 242 كتاب الجماعة والإمامة، باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الآخر أو لم يتأخر. وأخرجه مسلم في صحيحه (421) 1: 316 كتاب الصلاة، باب تقديم الجاعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم.

باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة قال المصنف رحمه الله: (السنة أن يقوم إلى الصلاة إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة. ثم يسوي الإمام الصفوف). أما كون السنة أن يقوم المصلي إلى الصلاة إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، لما روى ابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا قال بلال: قد قامت الصلاة نهض» (¬1). ولأن في ذلك تصديقاً للمؤذن. وأما كون السنة أن يسوي الإمام الصفوف بعد ذلك؛ فلما روى أنس قال: «أقيمت الصلاة. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه. فقال: أقيموا صفوفكم وتراصّوا. فإني أراكم وراء ظهري» (¬2) رواه البخاري. وقال عليه السلام: «سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة» (¬3) متفق عليه. قال: (ثم يقول: الله أكبر لا يجزئه غيرها. فإن لم يحسنها لزمه تعلمها. فإن خشي فوات الوقت كبر بلغته). أما كون المصلي يقول: الله أكبر؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا قام ¬

_ (¬1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 5 وعزاه إلى الطبراني في الكبير من طريق حجاج بن فروخ وقال: وهو ضعيف جداً. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (687) 1: 253 كتاب الجماعة والإمامة، باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (690) 1: 254 كتاب الجماعة والإمامة، باب إقامة الصف من تمام الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (433) 1: 324 كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها ...

إلى الصلاة اعتدل قائماً ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه. ثم قال: الله أكبر» (¬1) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث صحيح. وأما كونه لا يجزئه غيرها؛ فلما روى رفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء (¬2) مواضعه. ثم يستقبل القبلة ويقول: الله أكبر» (¬3). و«قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: إذا قمت إلى الصلاة فكبر» (¬4) متفق عليه. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر بذلك. ولم ينقل عنه العدول إلى غيره حتى فارق الدنيا. وقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬5). وأما كونه يلزمه تعلمها إذا لم يحسنها؛ فلأنها ركن من أركان الصلاة قادر عليه فلزمه تعلمه كالفاتحة. وأما كونه يكبر بلغته إذا خشي فوات الوقت؛ فلأنه عجز عن اللفظ فلزمه الإتيان بمعناه كلفظة النكاح. وقال بعض أصحابنا: لا يكبر بغير العربية كالقراءة. فعلى هذا يكون حكمه حكم الأخرس. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (730) 1: 194 كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (304) 2: 105 أبواب الصلاة، باب منه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1061) 1: 337 كتاب إقامة الصلاة، باب إتمام الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (23269) 5: 424. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (857) 1: 226 كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. وأخرجه الطبراني في الكبير (4526) 5: 38 نحوه. (¬4) سبق تخريجه ص: 265. (¬5) سيأتي تخريجه ص: 396.

قال: (ويجهر الإمام بالتكبير كله. ويسر غيره به وبالقراءة بقدر ما يسمع نفسه). أما كون الإمام يجهر بالتكبير كله؛ فلأن فيه إسماعاً لمن خلفه. وذلك مطلوب لما فيه من متابعة المأمومين لإمامهم. ولأنه ذكر مشروع في الصلاة فسن للإمام الجهر به كالقراءة. وأما كون غيره وهو المأموم والمنفرد يسر به؛ فلأن الجهر في حق (¬1) الإمام شرع لما فيه من إبلاغ المأموم. وهذا المعنى مفقود هنا. ولأن جهر المأموم يشوش على الجماعة ويؤدي إلى اختلاط أصوات بعضهم ببعض وإحداث وسوسة لبعضهم. وعدم ذلك كله مطلوب، فكذلك عدم ما يؤدي إليه. ولا بد أن يلحظ في الحكم المذكور أنه مختص بعدم الحاجة مثل أن يكون صوت الإمام يسمعه كل المأمومين فإن كان بحيث يسمع بعضهم دون بعض فالمستحب لبعضهم أن يرفع صوته بالتكبير ليسمع من خلفه؛ لما روى جابر قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه. فإذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر لِيُسْمِعنا» (¬2) متفق عليه. وأما كون غير الإمام يسر بالقراءة؛ فلأن جهر الإمام بذلك لإسماع المأموم وذلك مفقود في حق غيره. ولأن جهر المأموم يؤدي إلى المحذور المتقدم ذكره في الجهر بالتكبير ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لي أُنَازَعُ القُرآن» (¬3). ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (680) 1: 251 كتاب الجماعة والإمامة، باب من أسمع الناس تكبير الإمام. من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه مسلم في صحيحه (413) 1: 309 كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (826) 1: 218 كتاب الصلاة، باب من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام. وأخرجه الترمذي في جامعه (312) 2: 118 أبواب الصلاة، باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة. وأخرجه النسائي في سننه (919) 2: 140 كتاب الافتتاح، ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر به. وأخرجه ابن ماجة في سننه (848) 1: 276 كتاب إقامة الصلاة، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا. وأخرجه أحمد في مسنده (10323) 2: 487. وأخرجه مالك في الموطأ (44) 1: 94 كتاب الصلاة، باب ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر فيه.

ولا بد أن يلحظ في مسنونية إسرار المأموم بالقراءة أن لا يكون ذلك في حال جهر الإمام؛ لأن حال جهره لا يسن للمأموم الإسرار لأنه يسن له الإنصات. والجمع بين مسنونية الإسرار والإنصات متناقض. وأما قول المصنف رحمه الله: بقدر ما يُسْمع نفسه؛ فليس بقيد في مسنونية ذلك؛ لأنه لو رفع صوته بحيث يسمع من يليه فقط لكان ذلك مسراً آتياً بالمقصود. بل مراده أنه لا يجزئه أقل من ذلك في موضع يجب عليه القراءة. صرح به في المغني وعلله بأنه لا يكون كلاماً بدون الصوت. والصوت ما يتأتى سماعه وأقرب السامعين إليه نفسه. فإن قيل: هلا حمل قوله ويسر غيره به على أن ذلك هو الواجب لا المسنون. ويكون قوله بقدر ما يسمع نفسه على ظاهره. قيل: منع منه وجهان: أحدهما: أنه عطفه على ويجهر الإمام وذلك مسنون فليكن هذا مثله. والثاني: أن الإسرار إلى هذه الغاية ليس واجباً؛ لأنه لو أتى بما فوق ذلك جاز حتى لو جهر به لكان آتياً بالواجب. قال: (ويرفع يديه مع ابتداء التكبير. ممدودة الأصابع. مضموماً بعضها إلى بعض إلى حذو منكبيه، أو إلى فروع أذنيه). أما كون المصلي يرفع يديه مع ابتداء التكبير؛ [فلما روى أبو داود بإسناده عن عبدالجبار بن وائل بن حجر قال: حدثني بعض أهل بيتي عن أبي أنه حدثهم «أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير» (¬1) رواه أحمد] (¬2). ولأن (¬3) ابتداء التكبير أول الشروع في العبادة والرفع أول هيئاتها. ولأن الرفع هيئة للتكبير فينبغي أن يكون ابتداؤها مع ابتدائه وانتهاؤها مع انتهائه. وأما كون يديه ممدودة الأصابع؛ فلأن أبا هريرة روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الصلاة رفع يديه مَداً» (¬4) رواه الترمذي. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (725) 1: 193 كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (18868) 4: 316. (¬2) ساقط من ب. (¬3) في ب: ؛ فلأن. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (753) 1: 200 كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع. وأخرجه الترمذي في جامعه (240) 2: 6 أبواب الصلاة، باب ما جاء في نشر الأصابع عند التكبير.

وأما كون الأصابع مضموماً بعضها إلى بعض؛ فلأن ذلك أصل خلقتها. وأما كونُ رافعِ يديه مخيراً في رفعهما إلى حذو منكبيه؛ فلما روى ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه» (¬1) متفق عليه. وأما رفعهما إلى فروع أذنيه؛ فلأن وائل بن حجر ومالك بن الحويرث روياه (¬2). رواه مسلم. فإن قيل: أيها أولى؟ قيل: الرفع إلى حذو المنكبين؛ لأن رواته أكثر وأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ثم يضع كف يده اليمنى على كوع اليسرى. ويجعلهما تحت سرته). أما كون المصلي يضع كف يده اليمنى على كوع اليسرى؛ فلما روى وائل بن حجر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد» (¬3). وأما كونه يجعلهما تحت سرته؛ فلأن علياً قال: «من السنة وضع اليمنى على الشمال تحت السرة» (¬4) رواه الإمام أحمد وأبو داود. وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أحمد أنه يجعلهما تحت صدره؛ [لأن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فوضع يديه على صدره] (¬5) إحداهما (¬6) على الأخرى» (¬7). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 359. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (401) 1: 301 كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام ... عن وائل بن حجر. وفي (391) 1: 293 كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين ... من حديث مالك بن الحويرث. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (727) 1: 193 كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (18890) 4: 318. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (756) 1: 201 كتاب الصلاة، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة ولفظه: «السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة». وأخرجه أحمد في مسنده (875) 1: 110. (¬5) ساقط من ب. (¬6) في ج: أحدهما. (¬7) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (479) 1: 243 كتاب الصلاة، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة قبل افتتاح القراءة. بلفظ: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره». وفي إسناده: مُؤمّل بن إسماعيل البصري، وهو صدوق سيء الحفظ كما جاء في التقريب ص: 555.

وعن أحمد يخير في ذلك؛ لأن كلاً فيه حديث. قال: (وينظر إلى موضع سجوده. ثم يقول: سبحانك اللهم! وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). أما كون المصلي ينظر إلى موضع سجوده؛ فلما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة لم ينظر إلا إلى موضع سجوده». ولأنه أبلغ في الخشوع فكان أولى. وأما كونه يقول: سبحانك اللهم! وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك؛ فلما روى عمر بن الخطاب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر. وقال: سبحانك اللهم! وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» (¬1) رواه الدارقطني. وروت عائشة نحوه (¬2). رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي. وروى أبو سعيد الخدري نحوه (¬3). أخرجه النسائي والترمذي. وأما كونه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فلقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98]. [وعن ابن المنذر رضي الله عنه قال: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»] (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (6) 1: 299 كتاب الصلاة، باب دعاء الاستفتاح بعد التكبير. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (776) 1: 206 كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك. وأخرجه الترمذي في جامعه (243) 2: 11 أبواب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (806) 1: 265 كتاب إقامة الصلاة، باب افتتاح الصلاة. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (242) 2: 9 أبواب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة. وأخرجه النسائي في سننه (900) 2: 132 كتاب الإفتتاح. نوع آخر من الذكر بين افتتاح الصلاة وبين القراءة. (¬4) ساقط من ب.

وقال المصنف رحمه الله في المغني يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم لما روى أبو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» (¬1) رواه الترمذي. ثم قال: هذا -يعني حديث أبي سعيد- أشهر حديث في الباب. وقال: هو متضمن للزيادة والأخذ بالزيادة أولى. قال: (ثم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وليست من الفاتحة. وعنه: أنها منها. ولا يجهر بشيء من ذلك). أما كون المصلي يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم؛ فلما روى نُعيم بن المجمر قال: «صليت وراء أبي هريرة. فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قرأ بأم الكتاب. وقال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2) رواه النسائي. وروى ابن المنذر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة: بسم الله الرحمن الرحيم» (¬3). وأما كونها ليست من الفاتحة على المذهب؛ فلما روى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي. ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: حمدني عبدي ... الحديث» (¬4) رواه مسلم. ولو كانت بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة لَعَدّها ولبدأ بها. ولما تحقق التنصيف لأن آيات الثناء تكون أربعاً ونصفاً وآيات الدعاء اثنتين ونصفاً. وعلى أنها ليست آية يتحقق ذلك. وأما كونها منها على روايةٍ؛ فلما روي عن أم سلمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة: بسم الله الرحمن الرحيم. وعدها آية» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (242) 2: 9 أبواب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (905) 2: 134 كتاب الافتتاح، قراءة بسم الله الرحمن الرحيم. (¬3) سوف يأتي ذكره عن أم سلمة. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (395) 1: 296 كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة ... (¬5) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (493) 1: 248 كتاب الصلاة، باب: ذكر الدليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب.

وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأتم الحمد فاقرؤا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم الكتاب. وإنها السبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم آية منها» (¬1). ولأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أثبتوها في أول كل سورة في المصاحف إلا براءة. ولم يُثبت بين الدفتين سوى القرآن. وأما كونه لا يجهر بشيء من ذلك أي من الاستفتاح والتعوذ وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم: أما الاستفتاح والتعوذ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر بشيء من ذلك وإنما «جهر عمر بالاستفتاح ليعلم الناس» (¬2). وأما بسم الله الرحمن الرحيم؛ فلما روى أنس قال: «صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين. لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءةٍ ولا آخرها» (¬3) رواه مسلم. وفي المتفق عليه لأنس: «فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» (¬4). وفي المسند: «كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» (¬5). وفي لفظ لابن شاهين: «فكلهم يخفي بسم الله الرحمن الرحيم». وفي لفظ آخر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم وأبا بكر وعمر». قال: (ثم يقرأ الفاتحة. وفيها إحدى عشْرة تشديدة. فإن ترك ترتيبها أو تشديدة منها أو قطعها بذكر كثير أو سكوت طويل لزمه استئنافها). أما كون المصلي يقرأ الفاتحة فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها». وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (36) 1: 312 كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة ... (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (17) 1: 301 كتاب الصلاة، باب دعاء الاستفتاح بعد التكبير. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (399) 1: 299 كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (710) 1: 259 كتاب صفة الصلاة، باب ما يقول بعد التكبير. وأخرجه مسلم في صحيحه (399) 1: 299 كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة. (¬5) أخرجه أحمد في مسنده (12868) 3: 179. (¬6) سيأتي تخريجه ص: 396.

وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (¬1) متفق عليه. وفي لفظ: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (¬2). رواه الدارقطني. وقال: إسناده صحيح. وأما كون الفاتحة فيها إحدى عشرة تشديدة فبالنقل عن أئمة القراءة. وهذا على الرواية الصحيحة. وعلى أن البسملة منها فيها أربع عشْرة تشديدة. وأما كون من ترك ترتيبها يلزمه استئنافها؛ فلأن القرآن معجز والإعجاز متعلق بالنظم والترتيب. ولأنه عليه السلام قال: «صلوا كما عُلِّمْتم» (¬3). ولأنها ركن فلم يجز تنكيسها كتكبيرة الإحرام. وأما كون من ترك تشديدة منها يلزمه استئنافها؛ فلأن الحرف المشدد بحرفين. ومن ترك حرفاً من الفاتحة لم يقرأ الفاتحة لأن المركب ينعدم بعدم جزء من أجزائه. وقال القاضي في الجامع: إن الصلاة لا تبطل بترك تشديدة لأنها غير ثابتة في المصحف وإنما هي صفة للحرف ويسمى تاركها قارئاً بخلاف الحرف. ولا يختلف المذهب في أنه إذا لينها ولم يحققها على الكمال لم يُعد الصلاة؛ لأن ذلك لا يحيل المعنى. وأما كون من قطعها بذكر كثير أو سكوت طويل يلزمه استئنافها؛ فلأنه يعد معرضاً عن الفاتحة بذلك. واعلم أن تحقيق الكلام في قطع الفاتحة على أضرب: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (723) 1: 263 كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر. وأخرجه مسلم في صحيحه (394) 1: 295 كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (17) 1: 321 كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة أم الكتاب في الصلاة وخلف الإمام. (¬3) لم أجده هكذا، وفي معناه حديث مالك بن الحويرث: «صلوا كما رأيتموني أصلي». وسيأتي تخريجه ص: 396.

أحدها: قطعٌ بذكر مشروع. كالمأموم يشرع في القراءة لبعده عن إمامه فيفرغ الإمام من الفاتحة فيسمع المأموم في أثناء قراءته آمين فيؤمن. وكمن سمع آية رحمة فسأل. أو انتهى الإمام إلى سجدة فسجد المأموم في أثناء قراءته. أو كمن غلط فخرج منها إلى غيرها أو فتح على إمامه فهذا كله لا يبطل الفاتحة؛ لأنه لا يعد معرضاً عنها. الثاني: قطعٌ بذكرٍ غير مشروع كالتهليل والتسبيح وقراءةٍ في أثناء الفاتحة. فقال القاضي: قليل ذلك وكثيره مبطل. والصحيح أن الكثير مبطل لما ذكره المصنف رحمه الله لأنه بذلك يعد معرضاً. دون القليل. والثالث: قطعٌ بسكوت طويل غير مشروع. فهذا مبطل لما ذكر. وسواء كان باختيارٍ أو مانع من غفلة أو أرتج عليه: فإن كان يسيراً جرت به العادة لم يقطع قراءتها سواء نوى قطعها أو لم ينو؛ لأنه يسير فعفي عنه. وقال القاضي: يكون قطعاً مع النية لتحقق الإعراض. ولو نوى قطع القراءة حال قراءته لم تنقطع لأن فعله مخالف لنيته. الرابعة: قطعٌ بسكوت طويل مشروع كالمأموم يَشرع في القراءة. ثم يسمع قراءة الإمام فينصت. ثم يتمها بعد فراغ إمامه. فهذا لا يقطع الفاتحة لأنه مشروع فلم يقطع كالذكر. ويتخرج على هذا من سكت لمانع من غفلة أو أرتج عليه لمكان العذر. قال: (فإذا قال: {ولا الضالين}. قال: آمين. يجهر بها الإمام والمأموم في صلاة الجهر). أما كون المصلي يقول: آمين عقيب {ولا الضالين}؛ فلأن ذلك مشروع في حق الإمام والمأموم والمنفرد. أما في حق الإمام؛ فلما روى وائل بن حجر قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {ولا الضالين} [الفاتحة: 7] فقال: آمين. مد بها صوته» (¬1) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وأما في حق المأموم؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمّن الإمام فأمنوا. فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له» (¬2) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (248) 2: 27 أبواب الصلاة، باب ما جاء في التأمين. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (747) 1: 270 كتاب صفة الصلاة، باب جهر الإمام بالتأمين. وأخرجه مسلم في صحيحه (410) 1: 307 كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين. كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما في حق المنفرد؛ فلأنه لا بد من إعطائه حكم أحدهما. وأما كونه يجهر بذلك في صلاة الجهر؛ فلأنه مشروع لكل من يُشرع له الجهر فيها «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من قراءة أم الكتاب رفع صوته وقال: آمين» (¬1) رواه الدارقطني. وقال: إسناد حسن. و«كان عليه السلام إذا أمَّنَ أمَّنَ مَن خَلفه حتى كأن للمسجد ضَجَّة» (¬2). وروي: «لجة» (¬3). ولأن التأمين تابع للقراءة فيسن الجهر به كالقراءة. وآمين تمد وتقصر. ومعناه: اللهم! استجب لي. قاله الحسن. وقيل: هو اسم من أسماء الله عز وجل. قال: (فإن لم يحسن الفاتحة وضاق الوقت عن تعلمها قرأ قدرها في عدد الحروف. وقيل: في عدد الآيات من غيرها. فإن لم يحسن إلا آية واحدة كررها بقدرها). أما كون المصلي يقرأ قدر الفاتحة في عدد الحروف إذا لم يحسنها وضاق الوقت عن تعلمها على الأول؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات» (¬4). ولأن ذلك بمثابة الآيات في منع المحدث من اللمس. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (7) 1: 335 كتاب الصلاة، باب التأمين في الصلاة بعد فاتحة الكتاب والجهر بها. وأخرجه الحاكم في المستدرك: 1: 223. وأخرجه ابن حبان في صحيحه: (الإحسان 3147). (¬2) أخرج ابن ماجة في سننه (853) 1: 278 كتاب إقامة الصلاة والسنة، باب الجهر بآمين. من حديث أبي هريرة. بلفظ: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد». قال في الزوائد: في إسناده أبو عبدالله، لا يعرف. وبشر ضعفه أحمد. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات. والحديث رواه ابن حبان في صحيحه بسند آخر. (¬3) أخرجه الشافعي في مسنده (230) 1: 82 باب صفة الصلاة. (¬4) أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة 1: 565. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 163 من حديث ابن مسعود مرفوعاً وعزاه إلى الطبراني في الأوسط. قال: وفيه نهشل وهو متروك.

وأما كونه يقرأ قدرها في عدد الآيات على قولٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم عد الفاتحة سبعاً» (¬1). وقال الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} [الحجر: 87]. فعلى الأول لو قرأ أقل من سبع آيات عدد حروف ذلك عدد حروف الفاتحة أجزأ؛ لحصول ما وجب اعتباره. وعلى الثاني لو قرأ سبع آيات لا تبلغ حروفها حروف الفاتحة أجزأ أيضاً؛ لما تقدم. وقيل: يعتبر عدد الآي. وفي اعتبار الحروف مع ذلك وجهان توجيههما ما تقدم. وفي قول المصنف رحمه الله: قرأ؛ إشعار بأن المصلي إذا كان يحسن غير الفاتحة من القرآن لا يجزئه إلا قرآن. وهو صحيح؛ لما روى رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر. فإن كان معك قرآن فاقرأ به. وإلا فاحمد الله وكبره وهلله» (¬2) رواه الترمذي. ولأن القرآن من جنس الفاتحة فكان أولى من الذِّكر. وأما كونه إذا لم يحسن إلا آية يكررها بقدرها؛ فلأنها أولى من غيرها. فإن قيل: ما مراد المصنف رحمه الله من الآية؟ قيل: يحتمل أنه أراد من الفاتحة. وفيه وجهان: أحدهما: أنه يكررها. ولا يقرؤها مرة ثم يعدل إلى قراءة غيرها لأن الآية منها أقرب شبهاً إلى بقية الفاتحة من غيرها. ¬

_ (¬1) عن أبي سعيد بن المعلى قال: «كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ثم قال لي: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته». أخرجه البخاري في صحيحه (4204) 4: 1623 كتاب التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (861) 1: 228 كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. وأخرجه الترمذي في جامعه (302) 2: 100 أبواب الصلاة، باب ما جاء في وصف الصلاة.

وثانيهما: أنه يقرؤها مرة، ويعدل إلى غيرها؛ لأنه إذا قرأها مرة فقد أسقط فرضها فيجب أن لا يعيدها. كمن وجد بعض ما يكفيه لغسله فإنه يجب عليه استعماله، ويعدل إلى البدل في الباقي. ويحتمل أنه أراد من غير الفاتحة وفيه وجهان: أحدهما: أنه فيه الخلاف المتقدم. والثاني: لا؛ لأن العدول إلى الذِّكر وجعله بدلاً إنما يتحقق عند العجز عن الإتيان بشيء من القرآن؛ لقوله: «فإن كان معك قرآن فاقرأ به» (¬1). ولأن البدل في الصورة الأولى من جنس المبدل بخلاف الصورة الثانية. قال: (فإن لم يحسن شيئاً من القرآن لم يجز أن يترجم عنه بلغة أخرى. ولزمه أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). أما كون من لم يحسن شيئاً من القرآن لا يجوز له أن يترجم عنه بلغة أخرى أي بلغة غير عربية؛ فلأن الله تعالى قال: {بلسانٍ عربي مبين} [الشعراء: 195]. وقال: {قرآناً عربياً} [يوسف: 2]. ولأن القرآن معجزة لفظه ومعناه. فإذا غُيِّر خرج عن نظمه ولم يكن قرآناً ولا مثله. وأما كونه يلزمه أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ [فـ «لأن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني فقال قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله] (¬2») (¬3) رواه أبو داود. فإن قيل: لم اعتُبر فيمن لم يحسن الفاتحة المثلية في الآيات أو في الحروف ولم يعتبر ذلك هنا؟ قيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على ذلك. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (832) 1: 220 كتاب الصلاة، باب ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة. وأخرجه أحمد في مسنده (18631) ط إحياء التراث. كلاهما من حديث عبدالله بن أبي أوفى.

ولأن هذا بدل من غير الجنس فلم تشترط المثلية كالتيمم. بخلاف ما ذكر. قال: (فإن لم يحسن إلا بعض ذلك كرره بقدره. فإن لم يحسن شيئاً من الذكر وقف بقدر القراءة). أما كون من لم يحسن إلا بعض ما ذُكر يكرره بقدر كله؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬1). وكما لو لم يحسن إلا آية واحدة. وأما كون من لم يحسن شيئاً من الذكر يقف بقدر القراءة؛ فلأن الوقوف بقدر قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة وهو قادر عليه فلزمه كسائر الأركان. قال: (ثم يقرأ بعد الفاتحة سورة: تكون في الصبح من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره، وفي الباقي من أوساطه. ويجهر الإمام بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء). أما كون المصلي يقرأ بعد الفاتحة سورة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يفعل لما روى أبو قتادة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين. وكان يقرأ في الركعتين الأوليين من العصر بفاتحة الكتاب وسورتين. وفي الظهر في الركعتين الأخيرتين بأم الكتاب» (¬2) متفق عليه. وأما كون السورة في الصبح من طوال المفصل وفي المغرب من قصاره وفي الباقي من أوساطه؛ فـ «لأن عمر كتب إلى أبي موسى (¬3) أن اقرأ في الصبح بطوال المفصل , ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6858) 6: 2658 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1337) 2: 975 كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر. وأخرجه النسائي في سننه (2619) 5: 110 كتاب مناسك الحج، باب وجوب الحج. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2) 1: 3 المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (743) 1: 269 كتاب صفة الصلاة، باب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب. وأخرجه مسلم في صحيحه (451) 1: 333 كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر. (¬3) في الأصول: ابن أبي موسى.

واقرأ في الظهر بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل» (¬1) رواه أبو حفص (¬2). ولأن الصبح قصيرة ووقتها واسع فحسن تطويلها. والمغربُ وقتها ضيق فحسن تقصيرها، وبقية الصلوات سعة الوقت يقتضي التطويل، وكمال عددها يقتضي التقصير فاقتضت التسوية بينهما التوسط. وأما كون الإمام يجهر بالقراءة في الصبح والأوليين من المغرب والعشاء؛ فلأن على ذلك درج السلف والخلف فهو إجماع. وقال عليه السلام: «صلاة النهار عجماء إلا الجمعة والعيدين» (¬3). قال: (وإن قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان لم تصح صلاته. وعنه تصح). أما كون صلاة من قرأ بما ذكر لا تصح على المذهب؛ فلأنه مأمور بقراءة القرآن في الصلاة. والقرآن ما ثبت بطريق مقطوع به وهو التواتر. وقراءةٌ ليست في مصحف عثمان -كقراءة ابن مسعود- ليست متواترة. بل أجمعت الصحابة على خلاف ذلك. وأما كونها تصح على روايةٍ؛ فلأنها قراءة مأثورة. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» (¬4) رواه البخاري (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الترمذي تعليقاً في أبواب الصلاة، ورواه مفرقا في أبواب ثلاثة: باب ما جاء في القراءة في صلاة الصبح 2: 110 بالجملة الأولى. وفي باب: ما جاء في القراءة في الظهر والعصر ص: 111 بالجملة الثانية. وفي باب: ما جاء في القراءة في الظهر والعصر ص: 111 بالجملة الثالثة. وأخرج عبدالرزاق في مصنفه (2672) 2: 104 باب ما يقرأ في الصلاة عن الحسن وغيره قال: «كتب عمر إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بوسط المفصل، وفي الصبح بطوال المفصل». (¬2) في ب: أبو جعفر. (¬3) نقل النووي في المجموع عن الدارقطني وغيره من الحفاظ أنهم قالوا: هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرو عنه. وإنما قول بعض الفقهاء، ونقل عن الشيخ أبي حامد أنه سأل عنه أبا الحسن الدارقطني فقال: لا أعرفه عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحاً ولا فاسداً. المجموع 3: 43. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (138) 1: 49 المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أحمد في مسنده (4255) 1: 445. وهو ليس عند البخاري. (¬5) في ج: رواه الإمام.

وكان سعيد بن جبير يصلي بقراءة عبدالله. قال: (ثم يرفع يديه. ويركع مكبراً: فيضع يديه على ركبتيه، ويمد ظهره مستوياً، ويجعل رأسه حيال ظهره لا يرفعه ولا يخفضه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه). أما كون المصلي يرفع يديه في الركوع؛ فلأن ابن عمر روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا ركع» (¬1) متفق عليه. وروى مالك بن الحويرث قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع» (¬2) متفق عليه. وأما كونه يركع؛ فلقوله تعالى: {اركعوا} [الحج: 77]، و «قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: ثم اركع» (¬3). وأما كونه يكبر حال ركوعه؛ فلما روى أبو هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة كبر حين يقوم. ثم يكبر حين يركع ... الحديث» (¬4) متفق عليه. وأما كونه يضع يديه على ركبيته؛ فلأن ابن المنذر قال: «ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يديه على ركبتيه في الركوع وفعله عمر وعلي وابن عمر». وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص: «ركعت فجعلت يدي بين ركبتي فنهاني أبي. وقال: كنا نفعل هذا فنهينا عنه. وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب» (¬5) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (706) 1: 258 كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين. وأخرجه مسلم في صحيحه (390) 1: 292 كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (704) 1: 258 كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع. وأخرجه مسلم في صحيحه (391) 1: 293 كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع ... (¬3) سبق تخريجه ص: 265. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (756) 1: 272 كتاب صفة الصلاة، باب التكبير إذا قام من السجود. وأخرجه مسلم في صحيحه (392) 1: 293 كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (757) 1: 273 كتاب صفة الصلاة، باب وضع الأكف على الركب في الركوع. وأخرجه مسلم في صحيحه (535) 1: 380 كتاب المساجد، باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع ونسخ التطبيق. وأخرجه أبو داود في سننه (867) 1: 229 كتاب الصلاة، باب تفريع أبواب الركوع والسجود. وأخرجه النسائي في سننه (1032) 2: 185 كتاب التطبيق، نسخ ذلك. وأخرجه ابن ماجة في سننه (873) 1: 283 كتاب إقامة الصلاة، باب وضع اليدين على الركبتين. وأخرجه أحمد في مسنده (1576) 1: 182.

وأما كونه يمد ظهره مستوياً؛ فلما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع لو كان على ظهره قدح ماء ما تحرك لاستواء ظهره» (¬1). وأما كونه يجعل رأسه حيال ظهره لا يرفعه ولا يخفضه؛ فلأن أبا حميد الساعدي ذكر في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم «رأيته إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هَصَرَ ظهره» (¬2) أي جذبه إلى بطنه. وفي لفظ: «ثم اعتدل فلم يصوب ولم يُقْنِع» (¬3). وقالت عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك» (¬4) رواه مسلم. وأما كونه يجافي مرفقيه عن جنبيه؛ فلما روى أبو حميد «أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه على ركبتيه كأنه قابضهما ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (872) 1: 283 كتاب إقامة الصلاة، باب الركوع في الصلاة. ولفظه: عن راشد قال: سمعت وابصة بن معبد يقول: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي. فكان إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر». وأخرجه أحمد في مسنده (997) 1: 123. بلفظ: «عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع لو وضع قدح من ماء على ظهره لن يهراق». (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (794) 1: 284 كتاب صفة الصلاة، باب سنة الجلوس في التشهد. وأخرجه أبو داود في سننه (731) 1: 195 كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (730) 1: 194 كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (304) 2: 105 أبواب الصلاة، باب منه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1061) 1: 337 كتاب إقامة الصلاة، باب إتمام الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (23269) 5: 424. يُقْنِع: أي لم يرفع رأسه حتى يكون أعلى من ظهره، من قولهم: أقنع رأسه إذا نصبه. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (498) 1: 357 كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة ... (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (734) 1: 196 كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (260) 2: 45 أبواب الصلاة، باب ما جاء أنه يجافي يديه عن جنبيه في الركوع.

قال: (وقدر الإجزاء الانحناء بحيث يمكنه مس ركبتيه). أما كون قدر الإجزاء الانحناء المذكور؛ فلأنه لا يسمى راكعاً بدون ذلك. والمراد بمس ركبتيه مس يديه ركبتيه. ويجب بحيث يمكنه مسهما براحتيه ولا يكتفي برؤوس أصابعه. قال صاحب النهاية فيها في: فصلٌ في الركوع: وله صنفان واجب ومستحب فالواجب الانحناء إلى أن يبلغ راحتاه إلى ركبتيه. فإذا فعل ذلك واطمأن أجزأ وإن لم يضعهما على ركبتيه. وفي حديث المسيء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك» (¬1). قال: (ويقول: سبحان ربي العظيم ثلاثاً. وهو أدنى الكمال). أما كون المصلي يقول سبحان ربي العظيم؛ فلما روى عقبة بن عامر: «لما نزلت: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74] قال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم» (¬2) رواه الإمام أحمد. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم» (¬3) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأما كون ذلك ثلاثاً وأنه أدنى الكمال؛ فلما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم. وذلك أدناه» (¬4). أخرجه أبو داود. ¬

_ (¬1) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (869) 1: 230 كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده. وأخرجه ابن ماجة في سننه (887) 1: 287 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب التسبيح في الركوع والسجود. وأخرجه أحمد في مسنده (17450) 4: 155. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (262) 2: 48 أبواب الصلاة، باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه. (886) 1: 234 كتاب الصلاة، باب مقدار الركوع والسجود. وأخرجه الترمذي في جامعه (261) 2: 46 أبواب الصلاة، باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود. وأخرجه ابن ماجة في سننه (890) 1: 287 كتاب إقامة الصلاة، باب التسبيح في الركوع والسجود. قال أبو داود: هذا مرسل. عون لم يدرك عبد الله. وقال الترمذي: حديث ابن مسعود ليس إسناده بمتصل. عون لم يلق ابن مسعود والعمل على هذا عند أهل العلم، يستحبون أن لا ينقص الرجل في الركوع والسجود من ثلاث تسبيحات.

والمراد أدنى الكمال لأنه لا يجوز أن يكون أدنى الواجب. ضرورة أن الواجب مرة. فلم يبقى إلا أدنى الكمال. قال: (ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده. ويرفع يديه. فإذا قام قال: ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد). أما كون المصلي يرفع رأسه؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: «ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» (¬1) رواه البخاري. وأما كونه يقول: سمع الله لمن حمده حال رفعه؛ فلأن في حديث أبي هريرة «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع. ويقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد» (¬2). وأما كونه يرفع يديه في الرفع من الركوع فإن في حديث أبي حميد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه» (¬3). وفي حديث ابن عمر المتفق عليه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة كبر ورفع يديه حذو منكبيه. وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك» (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (756) 1: 272 كتاب صفة الصلاة، باب التكبير إذا قام من السجود. وأخرجه مسلم في صحيحه (392) 1: 293 كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (730) 1: 194 كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (304) 2: 105 أبواب الصلاة، باب منه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1061) 1: 337 كتاب إقامة الصلاة، باب إتمام الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (23269) 5: 424. (¬4) أخرجه البخاري في صححيه (702) 1: 257 كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء. وأخرجه مسلم في صحيحه (390) 1: 292 كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، وفي الرفع من الركوع، وأنه لا يفعله إذا رفع من السجود.

وموضع الرفع للإمام إذا رفع رأسه. يجعل ابتداء رفع اليدين مع ابتداء رفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده لأنه حين الانتقال فشرع فيه الرفع كحال الركوع. قال أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم قال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه» (¬1). وعن أحمد أنه لا يرفع حتى يستتم قائماً؛ لأن في بعض ألفاظ حديث ابن عمر: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وبعد ما يرفع رأسه» (¬2). ولأنه رفع فلا يشرع في غير حال القيام كتكبيرة الإحرام والركوع. والأول أولى؛ لأن ظاهر حديث ابن عمر المتفق عليه يدل عليه لأن قوله: «وإذا رفع رأسه رفعهما» يقتضي المعية [كقوله: «وإذا كبر للركوع»] (¬3). وأما المأموم فيبتدؤه عند رفع رأسه رواية واحدة. وكذلك المنفرد إن لم يشرع له قول: ربنا ولك الحمد؛ لأنه ليس في حقهما ذكر بعد الاعتدال. والرفع إنما جعل للذكر بخلاف الإمام فإن له ذكراً حال قيامه وذكراً وهو قائم. وأما كونه إذا قام يقول: ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعدُ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك ويأمر به فروى أبو هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع ويقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد» (¬4). وعن أبي سعيد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد» (¬5) متفق عليهما. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قبل الحديث السابق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (705) 1: 258 كتاب صفة الصلاة، باب إلى أين يرفع يديه. وأخرجه مسلم في صحيحه (390) 1: 292 كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، وفي الرفع من الركوع، وأنه لا يفعله إذا رفع من السجود. (¬3) زيادة من ج. (¬4) سبق تخريجه ص: 359. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (477) 1: 347 كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. ولم أره في البخاري.

قال: (فإن كان مأموماً لم يزد على ربنا ولك الحمد إلا عند أبي الخطاب). أما كون المأموم لا يزيد على قول: ربنا ولك الحمد على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المأموم بالتحميد» (¬1) واقتصر عليه فلو كانت الزيادة على ذلك مشروعة لأمره به. وأما كونه يزيد على ذلك عند أبي الخطاب والمراد قول: ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد؛ فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬2). ولأنه ذكر مشروع للإمام فشرع للمأموم بالقياس عليه. وأما التسميع فقال المصنف رحمه الله في المغني: لا أعلم خلافاً في المذهب أنه لا يشرع له لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم! ربنا ولك الحمد» (¬3). ولو كان مشروعاً لأمره به. ولأن الفاء للتعقيب فيقتضي أن يلي قول الإمام: سمع الله لمن حمده قول المأموم: ربنا ولك الحمد. وذلك يمنعه من قول: سمع الله لمن حمده. قال: (ثم يكبر ويخر ساجداً ولا يرفع يديه، فيضع ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه. ويكون على أطراف أصابعه). أما كون المصلي يكبر للسجود؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل رفع وخفض» (¬4). وأما كونه يخر ساجداً؛ فلقوله تعالى: {واسجدوا} [الحج: 77]. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخر ساجداً» (¬5)، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (763) 1: 274 كتاب صفة الصلاة، باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد. وأخرجه مسلم في صحيحه (409) 1: 306 كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين. (¬2) سيأتي تخريجه ص: 396. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (699) 1: 257 كتاب صفة الصلاة، باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (411) 1: 308 كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (253) 2: 33 أبواب الصلاة، باب ما جاء في التكبير عند الركوع والسجود. وأخرجه النسائي في سننه (1083) 2: 205 باب التطبيق، باب التكبير للسجود. وأخرجه أحمد في مسنده (4224) 1: 443. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (304) 2: 105 أبواب الصلاة، باب منه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1061) 1: 337 كتاب إقامة الصلاة، باب إتمام الصلاة. (¬6) سيأتي تخريجه ص: 396.

وأما كونه يرفع يديه حال سجوده؛ فلأن ابن عمر قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع. وكان لا يفعل ذلك في السجود» (¬1) متفق عليه. وأما كونه يضع ركبتيه قبل يديه إذا سجد؛ فلما روى وائل بن حجر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه. وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» (¬2) رواه أبو داود والترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب. وعن أحمد أنه يضع يديه قبل ركبتيه؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل ركبتيه. ولا ينزل كما ينزل البعير» (¬3) رواه النسائي. والأول أصح. قال الخطابي: حديث وائل بن حجر أصح من حديث أبي هريرة وبتقدير مساواته له في الصحة هو منسوخ؛ لما روي عن أبي سعيد: «كنا نضع اليدين قبل الركبتين [فأمرنا بوضع الركبتين] (¬4) قبل اليدين» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (703) 1: 258 كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع. وأخرجه مسلم في صحيحه (390) 1: 292 كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع ... (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (838) 1: 222 كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه. وأخرجه الترمذي في جامعه (268) 2: 56 أبواب الصلاة، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود. وأخرجه النسائي في سننه (1154) 2: 234 باب التطبيق، باب رفع اليدين عن الأرض قبل الركبتين. وأخرجه ابن ماجة في سننه (882) 1: 286 كتاب إقامة الصلاة، باب السجود. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (840) 1: 222 كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه. وأخرجه النسائي في سننه في سننه (1091) 2: 207 باب التطبيق، باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده. (¬4) ساقط من ب. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 100 كتاب الصلاة، باب من قال: يضع يديه قبل ركبتيه. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (628) 1: 319 كتاب الصلاة، باب ذكر الدليل على أن الأمر بوضع اليدين قبل الركبتين عند السجود منسوخ ... وقد عزاه المصنف إلى أبي سعيد والصواب: سعد ابن أبي وقاص كما في سنن البيهقي وصحيح ابن خزيمة وغيره من المصادر التي أوردت الحديث. وإسناده ضعيف: يحيى بن سلمة بن كُهيل متروك الحديث كما في التقريب. قال فيه البخاري: في حديثه مناكير. وقال النسائي: في الضعفاء والمتروكين.

وأما كونه يضع جبهته وأنفه بعد ذلك؛ فلما روى أبو حميد الساعدي قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد أمكن جبهته وأنفه من الأرض» (¬1). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث صحيح. وأما كونه يكون على أطراف أصابعه؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت بالسجود على سبعة أعظم. وذكر من ذلك: أطراف القدمين» (¬2). قال: (والسجود على هذه الأعضاء واجب إلا الأنف على إحدى الروايتين). أما كون السجود على هذه الأعضاء غير الأنف واجباً؛ فلما روى ابن عباس قال: «أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يَسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعراً ولا ثوباً: الجبهة، واليدين، والركبتين، والرجلين» (¬3). وفي لفظ آخر: «أُمرنا أن نسجد على سبعة أعظم» (¬4) متفق عليهما. والأمر للوجوب. وأما كون السجود على الأنف واجباً على روايةٍ؛ فلما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت بالسجود على سبعة أعظم: الجبهة وأشار بيده إلى أنفه» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (734) 1: 196 كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (270) 2: 59 أبواب الصلاة، باب ما جاء في السجود على الجبهة والأنف. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (779) 1: 280 كتاب صفة الصلاة، باب السجود علىالأنف، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم في صحيحه (490) 1: 354 كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود ... (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (776) 1: 280 كتاب صفة الصلاة، باب السجود على سبعة أعظم. وأخرجه مسلم في صحيحه (490) 1: 354 كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود ... (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (777) 1: 280 كتاب صفة الصلاة، باب السجود على سبعة أعظم. وأخرجه مسلم في الموضع السابق. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (779) 1: 280 كتاب صفة الصلاة، باب السجود على الأنف. وأخرجه مسلم في الموضع السابق.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أهله تصلي ولا تضع أنفها بالأرض. فقال: يا هذه! ضعي أنفك بالأرض. فإنه لا صلاة لمن لم يضع أنفه بالأرض مع جبهته في الصلاة» (¬1) رواه الدارقطني. وأما كونه غير واجب على روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسجود على سبعة أعظم ليس فيها الأنف» (¬2). رواه تمام في فوائده. والأولى هي الصحيحة في المذهب؛ لما تقدم. قال: (ولا يجب عليه مباشرة المصلى بشيء منها إلا الجبهة على إحدى الروايتين). أما كون المصلي لا يجب عليه مباشرة المصلى بالقدمين؛ فللإجماع على صحة صلاة لابس الخفين. وأما كونه لا يجب عليه مباشرته بالركبتين؛ فلأنهما متصلتان (¬3) بالعورة. وعورةٌ عند قوم فلا يليق كشفهما فضلاً عن وجوبه. وأما كونه لا يجب عليه مباشرته باليدين؛ فلما روى ابن ماجة عن ثابت بن صامت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد بني عبد الأشهل وعليه كساء ملتف به يضع يديه عليه يقيه من برد الحصى» (¬4). وفي لفظ: «فلم يخرج يديه من ثوبيه» (¬5). وأما كونه لا يجب عليه مباشرته بالجبهة على روايةٍ؛ فبالقياس على سائر الأعضاء. فعلى هذا لو سجد على كور عمامته أو كمه أو ذيله صحت صلاته لما تقدم. وروى أنس قال: «كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود» (¬6) رواه البخاري. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 1: 348 كتاب الصلاة، باب وجوب وضع الجبهة والأنف. (¬2) لم أقف عليه في القسم المطبوع من فوائد تمام. (¬3) في ب: متصلان. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (1032) 1: 329 كتاب إقامة الصلاة، باب السجود على الثياب في الحر والبرد. (¬5) لم أقف على هذا اللفظ. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (378) 1: 151 أبواب الصلاة في الثياب، باب السجود على الثوب في شدة الحر. وأخرجه مسلم في صحيحه (620) 1: 433 كتاب المساجد، باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر. بلفظ: «كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه».

وقال الحسن: «كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويده في كمه» (¬1). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سجد على كَوْر العمامة» (¬2). رواه ابن أبي حاتم من طرق كلها ضعيفة. وأما كونه يجب عليه مباشرته بها على روايةٍ؛ فلما روي عن حباب قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأَكُفِّنا فلم يُشْكِنا» (¬3). رواه مسلم. ولأنه (¬4) سجد على ما هو حامل له أشبه إذا سجد على يديه. والأولى أصح. والجواب عن الحديث أنه قيل: إنهم طلبوا تسقيف المسجد فلم يجبهم، أو أنهم طلبوا منه الرخصة لهم في ترك السجود عليها ولذلك لم يعمل به في الأكف. قال: (ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، ويضع يديه حذو منكبيه، ويفرق بين ركبتيه، ويقول: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً). أما كون المصلي يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويأمر به». ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 1: 151 أبواب الصلاة في الثياب، باب السجود على الثوب في شدة الحر. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في علل الحديث (535) 1: 187، من حديث أنس رضي الله عنه. قال أبو حاتم: هذا حديث منكر. الكَوْرُ: لَوْثُ العمامة، يعني إدارتها على الرأس، وقد كورتها تكويراً. وقال النضر: كل دارة من العمامة كَوْر، وكل دَور كور، وتكوير العمامة كورها، وكارَ العمامة على الرأس يَكْوُرُها كوراً: لاثَها عليه وأدارها. اللسان مادة (كور). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (619) 1: 433 كتاب المساجد، باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر. وأخرجه النسائي في سننه (497) 1: 247 كتاب المواقيت، أول وقت الظهر. وأخرجه أحمد في مسنده (21090) 5: 108. (¬4) في ب: ولا.

قال أحمد في رسالته: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا سجد لو مرت بهيمة تحت ذراعيه لنفدت» (¬1). وذلك لشدة مبالغته في رفع عضديه. ورواه أبو داود أيضاً. وفي حديث أبي حميد «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سجد جافى عضديه عن جنبيه» (¬2). وفي لفظ للبخاري: «فإذا سجد سجد غير مفترش ولا قابضهما» (¬3). وأما كونه يضع يديه حذو منكبيه؛ فلأن في حديث أبي حميد «أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه حذاء منكبيه» (¬4) رواه أبو داود. فإن قيل: ما صفة وضعهما؟ قيل: أن يضع راحتيه على الأرض معتمداً عليهما منشورة مضمومة الأصابع. بخلاف وضع ذلك على الركبتين لوجهين: الأول: أنه في الركوع بالتفريق يتمكن فيأمن السقوط، وفي السجود لا يحتاج إلى ذلك. الثاني: أنه إذا ضمها في السجود استقبل بها القبلة بخلاف ما لو فرقها، وفي الركوع لا يستقبل بها القبلة فرقها أو ضمها. وأما كونه يفرق بين ركبتيه؛ فلأن في حديث أبي حميد «كان صلى الله عليه وسلم إذا سجد فرج بين فخذيه» (¬5) رواه أبو داود. وأما كونه يقول: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً؛ فلما روى عقبة بن عامر قال: «لما نزل {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] قال -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم-: اجعلوها في سجودكم» (¬6) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (898) 1: 236 كتاب الصلاة، باب صفة السجود. بلفظ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى بين يديه، حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر تحت يديه مرت». (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (900) 1: 237 كتاب الصلاة، باب صفة السجود. من حديث أحمر بن جزء رضي الله عنه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (794) 1: 284 كتاب صفة الصلاة، باب سنة الجلوس في التشهد. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (734) 1: 196 كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (270) 2: 59 أبواب الصلاة، باب ما جاء في السجود على الجبهة والأنف. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (735) 1: 196 كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة. (¬6) سبق تخريجه ص: 358.

وروى حذيفة بن اليمان «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا سجد: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات» (¬1) رواه الأثرم وأبو داود. ولم يقل: ثلاث مرات. قال: (ثم يرفع رأسه مكبراً. ويجلس مفترشاً: يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها، وينصب اليمنى. ثم يقول: رب اغفر لي ثلاثاً). أما كون المصلي يرفع رأسه من السجود إلى الجلوس؛ فلأن الجلوس واجب لما يأتي ولا يمكن ذلك إلا بالرفع. وأما كونه يكبر في حال رفعه؛ فلما تقدم من «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل رفع وخفض» (¬2). وأما كونه يجلس بعد رفع رأسه؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: «ثم اجلس حتى تطمئن جالساً» (¬3) رواه البخاري. وأما كون جلوسه مفترشاً. ومعناه: أن يثني رجله اليسرى ويبسطها ويجلس عليها وينصب اليمنى ويخرجها من تحته ويجعل بطون أصابعها على الأرض؛ فلأن في حديث أبي حميد: «ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها» (¬4). وفي حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى» (¬5) رواه مسلم. وأما كونه يقول: رب اغفر لي ثلاثاً فقياساً على سائر الأذكار. وقال الخرقي: يقولها مرتين لما روى حذيفة «أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي رب اغفر لي» (¬6) رواه النسائي. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (874) 1: 231 كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده. (¬2) سبق تخريجه ص: 361. (¬3) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (963) 1: 252 كتاب الصلاة، باب من ذكر التورك في الرابعة. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (498) 1: 357 كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة ... (¬6) أخرجه النسائي في سننه (1145) 2: 230 كتاب التطبيق، باب الدعاء بين السجدتين.

قال: (ثم يسجد الثانية كالأولى. ثم يرفع رأسه مكبراً ويقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إلا أن يشق عليه فيعتمد بالأرض. وعنه: أنه يجلس جلسة الاستراحة على قدميه وإليتيه ثم ينهض). أما كون المصلي يسجد الثانية كالأولى؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل كذلك (¬1). وأما كونه يرفع رأسه من السجود إلى القيام؛ فلأن القيام إلى الثانية متعين ولا يمكن إلا بالرفع. وأما كونه يكبر في حال الرفع؛ فلما تقدم من «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل رفع وخفض» (¬2). وأما كونه يقوم إلى الثانية من غير جلوس على المذهب؛ فلأن وائل بن حجر قال: «كان يعني النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجود استوى قائماً» (¬3). ولأنه قول ابن عمر وابن مسعود وابن عباس ولم يعرف لهم مخالف. وأما كونه يجلس جلسة الاستراحة على روايةٍ؛ فلما روى مالك بن الحويرث «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض» (¬4). قال البخاري: وذكره أبو حميد في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وهو حديث حسن. وأما كون جلوسه على هذه الرواية على قدميه وإليتيه مفضياً بهما إلى الأرض؛ فلأنه لو جلس مفترشاً لم يأمن السهو. والأول أصح. قال الإمام أحمد: أكثر الأحاديث على هذا. وقال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم (¬5). وقيل: اختلاف الروايتين يرجع إلى اختلاف حالتين فحيث قال: يجلس إذا كان المصلي ضعيفاً. وحيث قال: لا يجلس أراد إذا كان قوياً. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (304) 2: 105 أبواب الصلاة، باب منه. (¬2) سبق تخريجه ص: 361. (¬3) ذكره الحافظ في التلخيص وعزاه إلى مسند البزار 1: 276. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (645) 1: 239 كتاب الجماعة والإمامة، باب من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬5) ذكره الترمذي عقب حديث أبي هريرة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه». قال: حديث أبي هريرة العمل عليه عند أهل العلم يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قديمه. اهـ جامع الترمذي 2: 80.

وأما كونه إذا قام من غير جلوس وكان ممن لا يشق عليه الاعتماد على ركبتيه يقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه ولا يعتمد بالأرض؛ فلأن الاعتماد على الأرض يلزم منه رفع الركبتين قبل اليدين وذلك خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن وائل بن حجر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» (¬1) رواه أبو داود. وأما كونه إذا قام من غير جلوس وكان ممن يشق عليه الاعتماد على ركبتيه يعتمد بالأرض؛ فلقول علي رضي الله عنه: «إن من السنة في الصلاة المكتوبة إذا نهض في الركعتين الأوليين أن لا يعتمد بيديه على الأرض إلا أن يكون شيخاً كبيراً لا يستطيع» (¬2) رواه الأثرم. قال: (ثم يصلي الثانية كذلك إلا في تكبيرة الإحرام والاستفتاح. وفي الاستعاذة روايتان). أما كون المصلي يصلي الثانية كالأولى فيما عدا المستثنى؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» (¬3). وأما كونه لا يكبر تكبيرة الإحرام ولا يستفتح؛ فلما روى أبو هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت» (¬4) رواه مسلم. ولأن تكبيرة الإحرام والاستفتاح يرادان لافتتاح الصلاة وذلك مفقود في الثانية. وأما كونه لا يستعيذ على روايةٍ؛ فلما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (838) 1: 222 كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه. وأخرجه الترمذي في جامعه (268) 2: 56 أبواب الصلاة، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود. وأخرجه النسائي في سننه (1154) 2: 234 باب التطبيق، باب رفع اليدين عن الأرض قبل الركبتين. وأخرجه ابن ماجة في سننه (882) 1: 286 كتاب إقامة الصلاة، باب السجود. قال الترمذي: حديث حسن غريب والعمل عليه عند أكثر أهل العلم. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 136 كتاب الصلاة، باب الاعتماد بيديه على الأرض إذا نهض ... (¬3) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (599) 1: 419 كتاب المساجد، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة.

وأما كونه يستعيذ على روايةٍ؛ فلقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98]. والأولى أصح (¬1)؛ لما ذكر من الحديث. ولأن الصلاة جملة واحدة فالقراءة فيها كلها كالقراءة الواحدة. ولهذا اعتبر الترتيب في الركعتين، وكره التنكيس فيهما. قال: (ثم يجلس مفترشاً. ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى يقبض منها الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى ويشير بالسبابة في تشهده مراراً. ويبسط اليسرى على فخذه اليسرى). أما كون المصلي يجلس مفترشاً؛ فلأن في حديث أبي حميد: «وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على (¬2) مقعدته» (¬3) رواه البخاري. وأما كونه يضع يده اليمنى على فخذه اليمنى يقبض منها الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى ويشير بالسبابة في تشهده مراراً ويبسط اليسرى على فخذه اليسرى؛ فلما روى وائل بن حجر «أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع مرفقه الأيمن على فخذه الأيمن. ثم عقد من أصابعه الخنصر والتي تليها. وحلق حلقة بأصبعه الوسطى على الإبهام. ورفع السبابة يشير بها. ووضع مرفقه الأيسر على فخذه الأيسر» (¬4). قال: (ثم يتشهد فيقول: التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. هذا التشهد الأول). أما كون المصلي يتشهد كما قال المصنف رحمه الله؛ فلما روى ابن مسعود قال: «علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (794) 1: 284 كتاب صفة الصلاة، باب سنة الجلوس في التشهد. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (726) 1: 193 كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (18870) 4: 316.

وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» (¬1) متفق عليه. قال الترمذي: هذا أصح حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد. فلذلك اختاره الإمام أحمد. فإن قيل: ما يجب من ذلك؟ قيل: قال ابن حامد: رأيت جماعة من أصحابنا يقولون: لو ترك واواً أو حرفاً أعاد الصلاة. وقد روي عن الإمام أحمد: أنه إذا قال: وأن محمداً عبده ورسوله ولم يذكر وأشهد قال: أرجو أن يجزئه. فعلى هذا لو ترك لفظاً لا يَسقط المعنى بتركه تصح صلاته. وقد قال أحمد: إن تشهد بغير تشهد ابن مسعود مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كتشهد ابن عباس وغيره جاز. قال القاضي: ومقتضى هذا أنه متى أخل بلفظة ساقطة في بعض التشهدات صح تشهده. فعلى هذا يجوز أن يقال: أقل ما يجزئ في التشهد: التحيات لله. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، والشهادتان بالله ورسوله. لأن ذلك لم يسقط شيء منه في جميع ألفاظ الحديث. وما زاد سقط في بعض دون بعض. وأما قول المصنف رحمه الله: هذا التشهد الأول؛ فمعناه أنه لا يزيد على هذا في التشهد الأول؛ لما روى ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في الركعتين كأنما يجلس على الرَّضْف (¬2») (¬3) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5910) 5: 2311 كتاب الاستئذان، باب الأخذ باليدين. وأخرجه مسلم في صحيحه (402) 1: 302 كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (290) 2: 83 أبواب الصلاة، باب منه أيضاً. (¬2) في الأصل: الوضوء. وما أثبته لفظ الحديث عند أبي داود وغيره. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (995) 1: 261 كتاب الصلاة، باب في تخفيف القعود. وأخرجه الترمذي في جامعه (366) 2: 203 أبواب الصلاة، باب ما جاء في مقدار القعود في الركعتين الأوليين. وأخرجه النسائي في سننه (1176) 2: 242 باب التطبيق، باب التخفيف في التشهد الأول. والرَّضف: هو الحجارة المحمّاة على النار.

ولو شرع فيه أكثر من ذلك ما كان الأمر كذلك. قال: (ثم يقول: اللهم! صل على محمد (¬1) وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد [وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد] (¬2). وإن شاء قال: كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وكما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم). أما كون المصلي يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلأنه مأمور به وسيأتي بعدُ صفته. وأما كونه يصلي عليه بما شاء من القول الأول والثاني؛ فلأن كلاً مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما الأول؛ فلما روى كعب بن عجرة قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال قولوا: اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» (¬3) متفق عليه. وأما الثاني؛ فلأن الترمذي روى في حديث كعب بن عجرة وصححه وقال فيه: «اللهم! صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» (¬4). ¬

_ (¬1) في ج: سيدنا محمد. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5996) 5: 2338 كتاب الدعوات باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (406) 1: 305 كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (483) 2: 352 أبواب الصلاة، باب ما جاء في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (ويستحب أن يتعوذ فيقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال. وإن دعا بما ورد في الأخبار فلا بأس). أما كون المصلي يستحب له أن يتعوذ فيقول ما ذكر؛ فلما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: عذابِ النار، وعذابِ القبر، وفتنةِ المحيا والممات، وفتنةِ المسيح الدجال» (¬1) متفق عليه (¬2). وأما كونه لا بأس أن يتعوذ بما ورد في الأخبار؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثم ليتخير من المسألة ما شاء» (¬3). خرج من ذلك غيرُ [ما في] (¬4) الأخبار لما يأتي فيبقى ما (¬5) في الأخبار على مقتضاه. والمراد بما ورد في الأخبار ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة أو عن التابعين لا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط؛ لأن عموم قوله: «ثم ليتخير من المسألة ما شاء» (¬6) وعموم قوله: «ثم ليتخير من الدعاء ما أعجبه» (¬7) يوجب دخول ما ورد عن الصحابة والتابعين. ولذلك ذهب الإمام أحمد إلى حديث ابن مسعود في الدعاء بعد التشهد وهو موقوف عليه. وهو ما روى عمير بن سعد قال: سمعت عبدالله يقول: «إذا جلس أحدكم في صلاته ذكر التشهد. ثم ليقل: اللهم! إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم. وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم! إني أسألك من خير ما سألك عبادك الصالحون وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبادك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1311) 1: 463 كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر. وأخرجه مسلم في صحيحه (588) 1: 412 كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (402) 1: 301 كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة. (¬4) ساقط من ب. (¬5) ساقط من ب. (¬6) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (800) 1: 287 كتاب صفة الصلاة، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب. ولفظه: «ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو».

الصالحون {ربنا آتنا في الدنيا حسنة ... الآية} [البقرة: 201] {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيآتنا -إلى قوله-: إنك لا تخلف الميعاد} [آل عمران: 193 - 194]» (¬1). وكلام المصنف رحمه الله: مشعر بأنه لا يدعو بغير ما ورد من الأخبار المذكورة وهو صحيح. فعلى هذا لا يدعو بملاذّ الدنيا. مثل أن يقول: اللهم! ارزقني زوجة حسناء وطعاماً طيباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (¬2) رواه مسلم. قال: (ثم يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله. وعن يساره كذلك. فإن لم يقل ورحمة الله لم يجزئه. وقال القاضي: يجزئه. ونص عليه أحمد في صلاة الجنازة). أما كون المصلي يسلم عن يمينه على الصفة المذكورة وعن يساره كذلك؛ فلما روى ابن مسعود وابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله» (¬3) رواه مسلم. وأما كونه إذا لم يقل ورحمة الله لا يجزئه على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك. وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬4). ولأنه سلام شرع فيه ذكر الرحمة فلم يجزئه بدونها كالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3025) 1: 264 كتاب الصلاة، ما يقال بعد التشهد مما رخص فيه. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (537) 1: 381 كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة، من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه. (¬3) لم أجده في صحيح مسلم بهذا اللفظ. وقد أخرجه كلفظ المؤلف أبو داود في سننه (996) 1: 261 كتاب الصلاة، باب في السلام. وأخرجه الترمذي في جامعه (295) 2: 89 أبواب الصلاة، باب ما جاء في التسليم في الصلاة. وأخرجه النسائي في سننه (1325) 3: 11 كتاب السهو، كيف السلام على الشمال. كلهم عن ابن مسعود. و (1320) 3: 62 كيف السلام على اليمين. عن ابن عمر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (916) 1: 296 كتاب إقامة الصلاة، باب التسليم. عن عمار بن ياسر. وأخرجه أحمد في مسنده (3699) 1: 390. عن ابن مسعود. (¬4) سيأتي تخريجه ص: 396.

وأما كونه يجزئه على قول القاضي؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحليلها التسليم» (¬1). وهو حاصل بدون ذكر الرحمة. وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: «السلام عليكم». وأما قول المصنف رحمه الله: ونص عليه أحمد في صلاة الجنازة؛ فتأنيس لقول القاضي من حيث إنها صلاة مفروضة ونص الإمام فيها على الاقتصار على السلام من غير ذكر الرحمة. قال: (وينوي بسلامه الخروج من الصلاة. فإن لم ينو جاز. وقال ابن حامد: تبطل صلاته). أما كون المصلي ينوي بسلامه الخروج من الصلاة؛ فلتكون النية شاملة لطرفي الصلاة. وأما كونه إذا لم ينو ذلك يجوز على المذهب؛ فلأن نية الصلاة قد شملت جميعها والسلام من جملتها. ولأنها عبادة فلم تجب النية للخروج منها كسائر العبادات. وأما كون صلاته تبطل على قول ابن حامد؛ فلأن السلام أحد طرفي الصلاة فلم تصح مع عدم النية فيه كالآخر. قال: (وإن كان في مغرب أو رباعية نهض مكبراً إذا فرغ من التشهد الأول. وصلى الثالثة والرابعة مثل الثانية إلا أنه لا يجهر ولا يقرأ شيئاً بعد الفاتحة). أما كون المصلي ينهض مكبراً إذا فرغ فيما ذكر؛ فلما تقدم في القيام إلى الثانية. وأما كونه يصلي الثالثة والرابعة مثل الثانية في غير المستثنى؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء: «ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (618) 1: 165 كتاب الصلاة، باب الإمام يحدث بعد ما يرفع رأسه من آخر الركعة. وأخرجه الترمذي في جامعه (3) 1: 8 أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور. كلاهما من حديث علي رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (276) 1: 101 كتاب الطهارة، باب مفتاح الصلاة الطهور. (¬2) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265.

وأما كونه لا يجهر في ذلك؛ فلأنه لم ينقل أنه عليه السلام كان يجهر في الأخيرتين. وأما كونه لا يقرأ شيئاً بعد الفاتحة فيها؛ فلما روى أبو قتادة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بأم الكتاب وسورتين. وفي الركعتين الأخيرتين بأم الكتاب» (¬1) متفق عليه. قال: (ثم يجلس في التشهد الثاني متوركاً يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى ويخرجها عن يمينه ويجعل إليتيه على الأرض). أما كون المصلي يجلس متوركاً في التشهد الثاني؛ فلأن في حديث أبي حميد في صفة صلاة النبي عليه السلام: «حتى إذا كانت الركعة التي يقضي فيها صلاته أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركاً» (¬2). وفي رواية البخاري: «أخر رجله اليسرى وجلس متوركاً على شقه الأيسر» (¬3). وأما كونه يفرش رجله إلى آخره؛ فلأن ذلك صفة التورك. وفي حديث أبي حميد في بعض رواياته: «فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة» (¬4) رواه أبو داود. وفي لفظ: «جلس على إليتيه ونصب قدمه اليمنى». ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 354. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (730) 1: 194 كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (304) 2: 105 أبواب الصلاة، باب منه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1061) 1: 337 كتاب إقامة الصلاة، باب إتمام الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (23269) 5: 424. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (963) 1: 252 كتاب الصلاة، باب من ذكر التورك في الرابعة. باللفظ الذي أورده المؤلف. وقد أخرجه البخاري في صحيحه (794) 1: 284 كتاب الصلاة، باب سنة الجلوس في التشهد. بلفظ: «وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته». (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (965) 1: 253 كتاب الصلاة، باب من ذكر التورك في الرابعة.

قال: (والمرأة كالرجل في ذلك كله إلا أنها تجمع نفسها في الركوع والسجود وتجلس متربعة أو تسدل رجليها فتجعلهما في جانب يمينها. وهل يسن لها رفع اليدين؟ على روايتين). أما كون المرأة كالرجل فيما عدا المستثنى؛ فلأنها تدخل تحت الخطاب. وأما كونها تجمع نفسها في حالتي الركوع والسجود؛ فلأن ذلك (¬1) أستر لها. وهو المطلوب في المرأة لأنها عورة. وأما كونها تجلس متربعة أو سادلة رجليها في جانب يمينها؛ فلما تقدم من أن المرأة مطلوب سترها. وفي الحديث «أن ابن عمر رضي الله عنه كان يأمر النساء أن يتربعن في الصلاة» (¬2). وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: «إذا صلت المرأة فَلْتَحْفِز ولتضم فخذيها» (¬3). وأما كونها يسن لها رفع اليدين على روايةٍ؛ فـ «لأن أم الدرداء وحفصة بنت سيرين كانتا ترفعان أيديهما» (¬4) رواه الخلال. ولأن من شرع له التكبير شرع له الرفع لأنه هيئة له. ولأن الأصل مساواة المرأة الرجل. وذلك مشروع له فلتكن مثله. وأما كونها لا يسن لها ذلك على روايةٍ؛ فلما في تركه من المبالغة في الستر المطلوب. ولأن المرأة يستحب لها أن تجمع نفسها وتترك التجافي. فكذا لا ترفع. ¬

_ (¬1) في ب: فلأن في ذلك. (¬2) أخرجه أحمد في المسائل رواية عبدالله 1: 263 - 264 وفيه: «نساءه» بدل النساء. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2777) 1: 242 كتاب الصلاة، المرأة كيف تكون في سجودها. وفيه: «إذا سجدت» بدل: «إذا صلت». وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 325 كتاب الصلاة، باب ما يستحب للمرأة من ترك التجافي في الركوع والسجود. بلفظ: «إذا سجدت المرأة فلتضم فخذيها». (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2470) 1: 216 كتاب الصلاة، باب: في المرأة إذا افتتحت الصلاة إلى أين ترفع يديها، عن عبد ربه بن زيتون قال: «رأيت أم الدرداء ترفع كفيها حذو منكبيها حين تفتتح الصلاة فإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده رفعت يديها قالت: اللهم ربنا لك الحمد». وأخرج عن عاصم الأحول (2475) قال: «رأيت حفصة بنت سيرين كبرت في الصلاة وأومأت حذو ثدييها».

فصل [في مكروهات الصلاة] قال المصنف رحمه الله: (ويكره الالتفات في الصلاة، ورفع بصره إلى السماء، وافتراش الذراعين في السجود، والإقعاء في الجلوس. وهو: أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه. وعنه أنه سنة). أما كون المصلي يكره له الالتفات في الصلاة؛ فلما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الرجل» (¬1) متفق عليه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزالُ الله مقبلاً على العبدِ وهو في صلاته ما لم يلتفت. فإذا التفت انصرفَ عنه» (¬2) رواه أبو داود. ولا بد أن يلحظ في هذا الالتفات المكروه أن يكون لغير حاجة. فإن كان لحاجة وكان بطرفه دون لَيّ عنقه لم يكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه «أنه كان يصلي وهو يلتفت إلى الشعب يحرس» (¬3) رواه أبو داود. وروى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتفت يميناً وشمالاً ولا يَلْوِي عنقه» (¬4) رواه النسائي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (718) 1: 261 كتاب صفة الصلاة، باب الالتفات في الصلاة. ولم أجده في صحيح مسلم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (909) 1: 239 كتاب الصلاة، باب الالتفات في الصلاة. وأخرجه النسائي في سننه (1195) 3: 8 كتاب السهو، باب التشديد في الالتفات في الصلاة. كلاهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (916) 1: 241 كتاب الصلاة، باب الرخصة في ذلك. (¬4) أخرجه النسائي في سننه (1201) 3: 9 كتاب السهو، باب الرخصة في الالتفات في الصلاة يميناً وشمالاً. وأخرجه الترمذي في جامعه (587) 2: 482 أبواب الصلاة، باب ما ذكر في الالتفات في الصلاة. ولفظه: «كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً ولا يلوي عنقه خلف ظهره».

وأما كونه يكره له رفع بصره إلى السماء؛ فلقوله عليه السلام: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم. فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن أو لتخطفن أبصارهم» (¬1) رواه البخاري. ولأنه يمنع الخشوع. وأما كونه يكره له افتراش الذراعين في السجود؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع» (¬2) متفق عليه. وأما كونه يكره له الإقعاء في الجلوس في الصلاة على المذهب؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قال لعلي: يا علي! أُحِبُّ لكَ ما أُحِبُّ لنفسي، وأكرهُ لك ما أكره لنفسي. لا تُقْعِ بين السجدتين» (¬3) رواه الترمذي. وعن أنس قال: «قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رفعت رأسك من السجود فلا تُقْعِ كما يُقْعِي الكلب» (¬4) رواه أحمد. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَنهى عن عُقْبَةِ الشيطان» (¬5) متفق عليه. وأما كونه سنة على روايةٍ؛ فلأن العبادلة كانوا يفعلونه ابن عمر وابن عباس وابن الزبير. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (717) 1: 261 كتاب صفة الصلاة، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (788) 1: 283 كتاب صفة الصلاة، باب لا يفترش ذراعيه في السجود. بلفظ: «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب». وأخرجه مسلم في صحيحه (498) 1: 357 كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختم به ... واللفظ له. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (282) 2: 72 أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الإقعاء في السجود. وأخرجه ابن ماجة في سننه (894) 1: 289 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الجلوس بين السجدتين. مختصراً. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (896) 1: 289 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الجلوس بين السجدتين. واللفظ له. وأخرجه أحمد في مسنده (8091) 2: 311. من حديث أبي هريرة. بلفظ: « ... ونهاني عن نقرة كنقرة الديك وإقعاء كإقعاء الكلب ... ». وفي (13462) 3: 233. عن أنس بن مالك بلفظ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقعاء والتورك في الصلاة». (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (498) 1: 357 كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختم به ... ولم أجده في صحيح البخاري.

وعن طاووس قال: «قلت لابن عباس في الإقعاء على القدمين قال: هي سنة نبيك» (¬1) رواه مسلم. والأول أصح؛ لما تقدم من الأحاديث. وهي أولى بالتقديم؛ لأنها أصح وأكثر رواة. ولأنها مستندة إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه؛ فبيان لمعنى الإقعاء. قال أبو عبيد: هذا عند الفقهاء وأهل الحديث. وعند العرب أن ينصب قدميه معاً على الأرض ويجلس على إليتيه. مثل إقعاء السبع والكلب ولا يعلم أحداً استحب هذه الصفة. قال: (ويكره أن يصلي وهو حاقن، أو بحضرة طعام تتوق نفسه إليه). أما كون المصلي يكره له أن يصلي وهو حاقن؛ فلقوله عليه السلام: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (¬2) رواه مسلم. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل وهو زناء» (¬3) أي حاقن. قاله أبو عبيد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن يصلي الرجل وبه طوف» (¬4). قال قطرب: الطوف الحدث من الغائط والبول. وأما كونه يكره له أن يصلي بحضرة طعام تتوق نفسه إليه؛ فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (536) 1: 380 كتاب المساجد، باب جواز الإقعاء على العقبين. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (560) 1: 393 كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال ... (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (617) 1: 202 كتاب الطهارة، باب ما جاء في النهي للحاقن أن يصلي. ولفظه: عن أبي أمامة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل وهو حاقن». وذكره البغوي في شرح السنة غير مسند 3: 360 بلفظ: «لا يصلين أحدكم وهو زناء». (¬4) ذكره أبو عبيد في غريب الحديث 1: 149. (¬5) سبق تخريجه قريباً.

وفي آخر: «إذا حضر العَشاء والمغرب فابدأوا بالعَشاء قبل أن تصلوا المغرب» (¬1) رواه مسلم. فإن قيل: ليس في الحديث توقان نفس المصلي إلى الطعام فلم اشترطه المصنف رحمه الله؟ قيل: لأن النهي عن ذلك لُحِظَ فيه منع الطعام الخشوع واقتضاؤه السرعة من أجله وذلك يستدعي توقان النفس إليه. قال: (ويكره العبث، والتخصر، والتروح، وفرقعة الأصابع، وتشبيكها). أما كون المصلي يكره له العبث؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث في صلاته. فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» (¬2). وأما كونه يكره له التخصر؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل مختصراً» (¬3) رواه مسلم. ولأنه يمنع الخضوع والخشوع. ويمنع من وضع اليمين على الشمال. وأما كونه يكره له التروح؛ فلأنه من العبث. وأما كونه يكره له فرقعة الأصابع؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: «لا تُفَقِّعْ أصابعكَ وأنت في الصلاة» (¬4) رواه ابن ماجة. وأما كونه يكره له تشبيك الأصابع؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد شَبَّكَ أصابعه في الصلاة فَفَرَّجَ بين أصابعه» (¬5) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (557) 1: 392 كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال ... (¬2) أخرجه الحكيم الترمذي في نوادره 1: 692 عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: لو خشع قلبه لخشعت جوارحه». قال الحافظ العراقي: أخرجه الترمذي الحكيم بسند ضعيف، وقيل أنه من قول سعيد بن المسيب. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف وفيه رجل لم يسم، انظر: إحياء علوم الدين 1: 151. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1162) 1: 408 أبواب العمل في الصلاة، باب الخصر في الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (545) 1: 387 كتاب المساجد، باب كراهة الاختصار في الصلاة. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (965) 1: 310 كتاب إقامة الصلاة، باب ما يكره في الصلاة. قال البوصيري في الزوائد: في إسناده الحارث الأعور وهو ضعيف. (¬5) أخرجه ابن ماجة في سننه (967) 1: 310 كتاب إقامة الصلاة، باب ما يكره في الصلاة.

قال: (وله رد المار بين يديه. وعد الآي. والتسبيح. وقتل الحية والعقرب والقملة. ولبس الثوب والعمامة. ما لم يُطل. فإن طال الفعل في الصلاة أبطلها عمداً كان أو سهواً إلا أن يفعله متفرقاً). أما كون المصلي له رد المار بين يديه؛ فلما روى أبو سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه. فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان» (¬1) متفق عليه. وظاهر كلام المصنف رحمه الله: أن له رد المار سواء كان بين يديه سترة فمر دونها أو لم يكن بين يديه سترة فمر قريباً منه بحيث لو مشى إليه ودفعه لم تفسد صلاته. وصرح به في الكافي لأنه موضع سجوده أشبه من نَصَبَ سترة. ولأن المراد بنصب السترة الإعلام بأنه في الصلاة وفي الدفع إعلام صريح. وقيل: رد المار مختص بمن بين (¬2) يديه سترة؛ لأن من لم ينصب سترة مقصر. وظاهر الحديث يدل على ذلك لأنه شرط في الرد السترة. وهذا الرد إنما يكون إذا كان للمار سبيل غير ذلك فإن لم (¬3) يجد سبيلاً لازدحام الناس ونحوه لم يشرع الرد ولا يكره المرور. وأما كونه له عد الآي والتسبيح في الصلاة؛ فلما روى أنس قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد الآي بأصابعه عد الأعراب في الصلاة» (¬4). ولأنه عدد مشروع في الصلاة فجاز كعدد الركعات في حق من ينسى ويسهو. وأما كونه له قتل الحية والعقرب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب» (¬5) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (487) 1: 191 أبواب سترة المصلي، باب يرد المصلى من مر بين يديه. وأخرجه مسلم في صحيحه (505) 1: 362 كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي. (¬2) ساقط من ب. (¬3) ساقط من ب. (¬4) لم أجده هكذا. وقد أخرج أبو داود في سننه عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيمينه» (1502) 2: 81 كتاب الوتر، باب التسبيح بالحصى. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (921) 1: 242 كتاب الصلاة، باب العمل في الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (390) 2: 233 أبواب الصلاة، باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما كونه له قتل القملة في الصلاة؛ فـ «لأن عمر وأنساً وابن مسعود كانوا يقتلون القمل في الصلاة». قال القاضي: التغافل عنه أولى. وأما كونه له (¬1) لبس الثوب والعمامة؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم التحف إزاره وهو في الصلاة» (¬2). ولأنه عمل يسير أشبه حمل أُمامة (¬3)، وفتح الباب لعائشة (¬4). وأما كون الفعل إذا طال ولم يكن متفرقاً يُبطل الصلاة؛ فلأنه يقطع الموالاة ويمنع متابعة الأذكار ويذهب الخشوع في الصلاة. وإذا رآه الناظر من بعيد يغلب على ظنه أن فاعله ليس في صلاة وكل ذلك ينافي الصلاة فأبطلها كما لو قطعها. وأما كونه إذا طال وكان متفرقاً لا يبطلها؛ فلأنه بالنظر إلى كل مرة فعل غير طويل أشبه ما لو اقتصر عليه. وأما كون السهو كالعمد في ذلك كله؛ فلأن المبطل قطع الموالاة وإذهاب الخشوع وغلبة ظن من رآه أنه ليس في صلاة وذلك كله موجود في السهو كالعمد. فإن قيل: لو تكلم ساهياً ففي بطلان الصلاة روايتان ولو فعل ساهياً بطل قولاً واحداً. قيل: الأقوال أخف من الأفعال ولهذا بطلت الصلاة بتكرار السجود قولاً واحداً دون تكرار الفاتحة. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (401) 1: 301 كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام ... بلفظ: «رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر ثم التحف بثوبه ... ». (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (494) 1: 193 أبواب سترة المصلي، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (543) 1: 385 كتاب المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (922) 1: 242 كتاب الصلاة، باب العمل في الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (25544) 6: 183.

قال: (ويكره تكرار الفاتحة. والجمع بين سور في الفرض. ولا يكره في النفل). أما كون تكرار الفاتحة يكره؛ فلأنه اختلف في كون ذلك مبطلاً فأدنى أحواله أن يكون مكروهاً. وأما كون الجمع بين سورٍ في الفرض يكره؛ فلأنه خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة. وعن أحمد لا يكره جمع ذلك في الفرض. وهي الصحيحة؛ لما روى الخلال بإسناده عن عبدالله بن سفيان قال: «قلت لعائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع السور في ركعة. قالت: المفصل» (¬1). وبإسناده عن ابن عمر «أنه كان يقرأ في المكتوبة بالسورتين في ركعة» (¬2). وروي «أن رجلاً من الأنصار كان يؤمهم فكان يقرأ قبل كل سورة {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ فقال: إني أحبها. قال: حبك إياها أدخلك الجنة» (¬3) رواه البخاري. وأما كون الجمع بين سور في النفل لا يكره؛ فلما تقدم من الأحاديث. ولأن عثمان رضي الله عنه «كان يختم القرآن في ركعة» (¬4). و«فعل الجمع ابن عمر» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (25729) 6: 204. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (26) 1: 89 كتاب الصلاة، باب القراءة في المغرب والعشاء. وأخرجه أحمد في مسنده (4610) 2: 13 ولفظه عن نافع قال: «ربما أمنا ابن عمر بالسورتين والثلاث في الفريضة». (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (741) 1: 268 كتاب صفة الصلاة، باب الجمع بين السورتين في الركعة ... من حديث أنس رضي الله عنه. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 1: 368 عن عبدالرحمن بن عثمان قال: «قمت خلف المقام وأنا أريد أن لا يغلبني عليه أحد تلك الليلة فإذا رجل يغمزني من خلفي فلم ألتفت. ثم غمزني فالتفت فإذا عثمان بن عفان فتنحيت وتقدم فقرأ القرآن في ركعة ثم انصرف». (¬5) سبق تخريجه قريباً.

قال: (ولا يكره قراءة أواخر السور وأوساطها. وعنه يكره). أما كون ما ذكر لا يكره على روايةٍ؛ فلأن أبا سعيد قال: «أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر» (¬1) رواه أبو داود. وعن عبدالله بن مسعود «أنه كان يقرأ في الآخرة من صلاة الصبح آخر آل عمران وآخر الفرقان» رواه الخلال. قال الحسن: «غزوت مع ثلاثمائة من الصحابة فكان أحدهم يقرأ إذا أم أصحابه بخاتم البقرة وبخاتم الفرقان وبخاتم الحشر وكان لا ينكر بعضهم عن بعض». وأما كونه يكره على روايةٍ؛ فلأن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يقرأ السورة كاملةً» (¬2) والعدول عن فعله مكروه. قال عليه السلام: «أعط لكل سورة حظها» (¬3) ومن حظها تمامها. والأولى هي الصحيحة في المذهب؛ لما تقدم. قال: (وله أن يَفتح على الإمام إذا أُرْتج عليه. وإذا نابه شيء مثل سهو إمامه أو استئذان إنسان عليه سبح إن كان رجلاً. وإن كانت امرأة صفحت ببطن كفها على ظهر الأخرى). أما كون المصلي له أن يفتح على إمامه إذا أرتج عليه. ومعناه: أن يرد عليه إذا غلط؛ فلما روى ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة. فقرأ فيها. فلُبس عليه. فلما انصرف قال لأبي: صليت معنا؟ قال: نعم. قال: فما منعك» (¬4) رواه أبو داود. قال الخطابي: إسناد جيد. و«ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية. فقيل له: يا رسول الله! آية كذا وكذا تركتها. قال: فهلا أَذْكَرْتَنيِها» (¬5) رواه أبو داود. وقال ابن عقيل: إن كان الغلط في غير الفاتحة لا يرد؛ لأن ما زاد على الفاتحة قرائته غير واجبة. والأول أولى؛ لعموم ما تقدم من الآثار. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (818) 1: 216 كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب. (¬2) في ب: كملاً. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (20609) 5: 59. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (907) 1: 238 كتاب الصلاة، باب الفتح على الإمام في الصلاة. (¬5) أخرجه أبو داود في الموضع السابق.

وأما كون الرجل يسبح والمرأة تصفح إذا ناب المصلي شيء مما (¬1) تقدم ذكره؛ فلقوله عليه السلام: «من نابه شيء في صلاته فليسبح الرجال ولتصفق النساء» (¬2) متفق عليه. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» (¬3) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال: (وإن بدره البصاق بصق في ثوبه. وإن كان في غير المسجد جاز أن يبصق عن يساره أو تحت قدمه). أما كون من بدره البصاق يبصق في ثوبه؛ فلما فيه من صيانة المسجد عن البصاق فيه. وقد روى أبو هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد. فأقبل على الناس فقال: ما بال أحدكم يقوم فيستقبل ربه فَيَتَنَخَّعُ أمامه؟ أيحب أن يُستقبلَ فَيُتّنَخَّعَ في وجهه» (¬4). وفي حديث آخر: «إذا تنخع أحدكم فليتنخعْ عن يساره أو تحت قدمه فإن لم يجد فليقل هكذا. ووصف القاسم: فتفل في ثوبه ومسح بعضه على بعض» (¬5) رواه مسلم. وأما كونه يبصق عن يساره أو تحت قدمه إذا كان في غير المسجد؛ فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه». ¬

_ (¬1) في ب: ما. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6767) 6: 2629 كتاب الأحكام، باب الإمام يأتي قوماً فيصلح بينهم. وأخرجه مسلم في صحيحه (421) 1: 316 كتاب الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم. كلاهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (369) 2: 205 أبواب الصلاة، باب ما جاء أن التسبيح للرجال والتصفيق للنساء. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (550) 1: 389 كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (407) 1: 161 كتاب المساجد، باب إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه. وأخرجه مسلم في الموضع السابق.

قال: (ويستحب أن يصلي إلى سترة مثل أَخِرَة الرحل. فإن لم يجد خَطَّ خطاً. فإذا مر من ورائها شيء لم يكره. وإن لم يكن سترة فمر بين يديه الكلب الأسود البهيم بطلت صلاته. وفي المرأة والحمار روايتان). أما كون المصلي يستحب له أن يصلي إلى سترة مع القدرة عليها؛ فلقوله عليه السلام: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها» (¬1) رواه الأثرم. قال سهل: «كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ممر الشاة» (¬2) متفق عليه. وأما كون السترة مثل أَخِرَة الرحل؛ فلقوله عليه السلام: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل أَخِرَة الرحل فليصل ولا يبالي ما مر وراء ذلك» (¬3) رواه مسلم. فإن قيل: ما قدر أَخِرَة الرحل؟ قيل: ذراع. وقيل: عظم الذراع. فإن قيل: لو كان المصلي بمكة؟ قيل: لا يكره الصلاة فيها إلى غير سترة ولا يضر ما مر بين يديه؛ لأن المطلب قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيال الحجر والناس يمرون بين يديه» (¬4). و«كان ابن الزبير يصلي والطواف بينه وبين القبلة. تمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر. ثم يضع جبهته في موضع قدمها» (¬5). وأما كون من لم يجد سترة يخط خطاً؛ فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً. فإن لم يجد فلينصب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (698) 1: 186 كتاب الصلاة، باب ما يؤمر المصلي أن يدرأ عن الممر بين يديه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (954) 1: 307 كتاب إقامة الصلاة، باب ادرأ ما استطعت. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 272 جماع أبواب ما يجوز من العمل في الصلاة، باب الدنو من السترة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6903) 6: 2672 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم ... وأخرجه مسلم في صحيحه (509) 1: 364 كتاب الصلاة، باب دنو المصلي من السترة. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (510) 1: 365 كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2016) 2: 211 كتاب المناسك، باب في مكة. وأخرجه أحمد في مسنده (27283) 6: 399. بنحوه. (¬5) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (2386) 2: 35 باب لا يقطع الصلاة شيء بمكة.

عصاً. فإن لم يكن معه عصاً فليخط خطاً. ثم لا يضره ما مر أمامه» (¬1) رواه أبو داود. فإن قيل: ما صفة الخط؟ قيل: عند الإمام أحمد مثل الهلال. ولو جعله طولاً جاز؛ لأن الغرض إشعار المار بأنه مصل وذلك حاصل في الطول. وأما كونه لا يضر ما مر وراء السترة والخط؛ فلما تقدم من الحديثين قبل. وأما كون صلاته تبطل إذا لم يكن سترة فمر بين يديه الكلب الأسود البهيم؛ فلما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقطع صلاة المرء الكلب والمرأة والحمار» (¬2) رواه مسلم. والكلب البهيم (¬3): الذي لا يخالط لونه آخر. وإنما خص بذلك؛ لأنه شيطان. وقد قال عليه السلام: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها. فاقتلوا منها كل أسود بهيم. وإنه شيطان» (¬4). وأما كونها تبطل إذا مر بين يديه المرأة والحمار في روايةٍ؛ فلما تقدم من الحديث. وأما كونها لا تبطل في روايةٍ؛ فلأن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (689) 1: 183 كتاب الصلاة، باب الخط إذا لم يجد عصاً. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (511) 1: 365 كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي. (¬3) في ج: والكلب الأسود البهيم. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2845) 3: 108 كتاب الصيد، باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره. وأخرجه الترمذي في جامعه (1489) 4: 80 كتاب الأحكام والفوائد، باب ما جاء من أمسك كلباً ما ينقص من أجره. وأخرجه النسائي في سننه (4280) 7: 185 كتاب الصيد والذبائح، صفة الكلاب التي أمر بقتلها. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3205) 2: 1069 كتاب الصيد، باب النهي عن اقتناء الكلب إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية. وأخرجه أحمد في مسنده (20567) 5: 54. وليس عندهم: وإنه شيطان. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (377) 1: 150 أبواب الصلاة في الثياب، باب الصلاة على الفراش. وأخرجه مسلم في صحيحه (512) 1: 366 كتاب الصلاة، باب الاعتراض بين يدي المصلي.

ولأن ابن عباس رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي. فنزلت عن الحمار وتركته أمام الصف فما بالى» (¬1) متفق عليهما. وقد قيل: ليس في حديث عائشة حجة لأن المار غير اللابث. وكذلك حديث ابن عباس لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. قال: (ويجوز له النظر في المصحف. وإذا مرت به آية رحمة أن يسألها وآية عذاب أن يستعيذ منها. وعنه يكره ذلك في الفرض). أما كون المصلي يجوز له النظر في المصحف؛ فلأنه ليس بعمل كثير. وسئل الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف. فقال: كان خيارنا يقرؤون في المصاحف. قال ابن حامد: الفرض والنفل في ذلك سواء. وقال القاضي: يكره في الفرض وفي النفل إذا كان حافظاً لأنه يَذْهب بالخشوع وإنما سومح به في النفل مع عدم الحفظ لأنه موضع حاجة. وأما كونه إذا مرت به آية رحمة يجوز أن يسألها وإذا مرت به آية عذاب يجوز أن يستعيذ منها من غير كراهة نفلاً كانت الصلاة أو فرضاً على المذهب؛ فلما روى حذيفة قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة. فقلت: يركع عند المائة. ثم مضى. فقلت: يصلي بها في ركعة. فمضى. ثم افتتح آل عمران. ثم النساء. يقرأ مترسلاً. إذا مر بآية فيها تسبيح سبح. وإذا مر بسؤال سأل. وإذا مر بتعوذ تعوذ ... مختصر» (¬2) رواه مسلم. وأما كونه يكره ذلك في الفرض على روايةٍ؛ فلأن ذلك دعاء ليس بمشروع أشبه الأفعال التي لم تشرع. وفارق ذلك النافلة من حيث إنها سومح فيها بأشياء بخلاف الفريضة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (823) 1: 294 كتاب صفة الصلاة، باب وضوء الصبيان ... ولفظه: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أقبلت راكباً على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزتُ الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررتُ بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليَّ أحد». وأخرجه مسلم في صحيحه (504) 1: 361 كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود. بنحوه. (¬2) أخرجه مسلم (772) 1: 536 كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل.

وظاهر قول المصنف رحمه الله: وعنه يكره ذلك في الفرض؛ شمول هذه الرواية النظر في المصحف. ولم أجد بذلك رواية عن الإمام أحمد. ولكن ذلك قول القاضي. إلا أنه ضم إليه أنه يكره أيضاً في النفل مع الحفظ. وقد تقدم أيضاً بيانه.

فصل [في أركان الصلاة] قال المصنف رحمه الله: (أركان الصلاة اثنا عشر: القيام، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال عنه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة في هذه الأفعال، والتشهد الأخير، والجلوس له، والتسمية الأولى، والترتيب. من ترك شيئاً منها عمداً بطلت صلاته). أما كون القيام من أركان الصلاة؛ فلقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238]. و«قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: صل قائماً» (¬1). والقيام المعتبر أن يستوي قائماً على حَدٍّ. أو لا ينحني بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه. فإن انحنى بحيث يمكنه مس ركبتيه بيده أو اعتمد على شيء لم يجزئه. وأما كون تكبيرة الإحرام من أركانها؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «تحريمها التكبير» (¬2). رواه أبو داود. ولما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه. ثم يستقبل القبلة ويقول: الله أكبر» (¬3). ولقوله عليه السلام للمسيء: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1066) 1: 376 أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (618) 1: 165 كتاب الصلاة، باب الإمام يحدث بعد ما يرفع رأسه من آخر الركعة. وأخرجه الترمذي في جامعه (3) 1: 8 أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور. كلاهما من حديث علي رضي الله عنه. (¬3) سبق تخريجه ص: 342. (¬4) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265.

ويجب أن يأتي بجميع تكبيرة الإحرام وهو قائم لقوله عليه السلام للمسيء: «إذا قمت فكبر» (¬1). أمر بالتكبير حال القيام. وأما كون قراءة الفاتحة من أركانها؛ فلما روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (¬2) متفق عليه. وفي لفظٍ للدارقطني: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (¬3). وقال: إسناده صحيح. وعن أحمد أنها تجب في الأوليين دون الأخيرتين؛ لما روي عن علي أنه قال: «اقرأ في الأوليين وسبح في الأخيرتين» (¬4). ولأنها لو وجبت في الأخيرتين لسن الجهر بها في بعض الصلوات كالأوليين. وعنه: لا تتعين بل الواجب قراءة شيء (¬5) من القرآن. وقد تقدم ذلك. والصحيح أن الفاتحة ركن في كل ركعة؛ لما روى عبادة قبل (¬6). وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (¬7). وعنه وعن عبادة قالا: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة» (¬8). ¬

_ (¬1) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (723) 1: 263 كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر. وأخرجه مسلم في صحيحه (394) 1: 295 كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (17) 1: 321 كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة أم الكتاب في الصلاة وخلف الإمام. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3742) 1: 327 كتاب الصلاة، من كان يقول: يسبح في الأخريين ولا يقرأ. (¬5) ساقط من ب. (¬6) سبق تخريج حديث عبادة قبل قليل. (¬7) أخرجه ابن ماجة في سننه (839) 1: 274 كتاب إقامة الصلاة، باب القراءة خلف الإمام. وأخرجه أحمد في مسنده (11011) 3: 3. (¬8) قال ابن الجوزي في التحقيق: روى أصحابنا من حديث عبادة عن أبي سعيد قالا. فذكر الحديث. ثم قال: وما عرفت هذا الحديث. قال ابن حجر: وعزاه غيره إلى رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي وهو صاحب الإمام أحمد. التلخيص 1: 232.

ويجب أن يقرأها وهو قائم فلو أتى بحرف منها وهو في حد الراكع لم يجزئه لأنه لم يأت به وهو قائم. وأما كون الركوع من أركانها؛ فلقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا} [الحج: 77]. و«لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء: ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» (¬1). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركع (¬2). وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬3). وأما كون الاعتدال من أركانها؛ فلما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها ظهره في الركوع والسجود» (¬4) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث صحيح. و«لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء: ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» (¬5). وأما كون الجلوس بين السجدتين من أركانها؛ فلما روت عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعداً» (¬6) رواه مسلم. وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬7). و«لقوله عليه السلام للمسيء: ثم ارفع حتى تطمئن جالساً» (¬8). ¬

_ (¬1) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265. (¬2) ساقط من ب. (¬3) سيأتي تخريجه ص: 396. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (855) 1: 225 كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. وأخرجه الترمذي في جامعه (265) 2: 51 أبواب الصلاة، باب ما جاء فيمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. وأخرجه النسائي في سننه (1111) 2: 214 باب التطبيق، باب إقامة الصلب في السجود. وأخرجه ابن ماجة في سننه (870) 1: 282 كتاب إقامة الصلاة، باب الركوع في الصلاة. (¬5) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه (498) 1: 357 كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختم به ... (¬7) سيأتي تخريجه ص: 396. (¬8) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265.

وأما كون الطمأنينة في هذه الأفعال من أركانها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها المسيء في جميع الأفعال المذكورة. وأما كون التشهد الأخير والجلوس له من أركانها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ودام على فعله في الصلاة. ولم يُنقل تركه. وأمر بالتشهد وكان يعلمه كما يعلم السورة من القرآن. وقال ابن مسعود: «كنا قبل أن يفرض علينا التشهد نقول: السلام على الله قبل عباده. السلام على جبريل. السلام على ميكائيل. السلام على فلان. فسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إن الله هو السلام. فلا تقولوا: السلام على الله. ولكن قولوا: التحيات ... » (¬1) وذكر التشهد الذي لابن مسعود. وفي بعض ألفاظ حديث ابن مسعود: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» (¬2) رواه أبو داود. وأما كون التسليمة الأولى من أركانها؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «تحليلها التسليم» (¬3). ولأنه أحد طرفي الصلاة فكان فيه نطق واجب كالأولى. وأما كون الترتيب من أركانها؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ثم اركع ثم ارفع ... الحديث» (¬4). ذكره بحرف ثم وهي الترتيب فيكون الترتيب مأموراً به. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مرتباً. وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬5). وأما كون صلاة من ترك من الأركان شيئاً تبطل؛ فلأن المسيء في صلاته لما ترك الطمأنينة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع فصل فإنك لم تصل» (¬6). أمره بالإعادة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (800) 1: 287 كتاب صفة الصلاة، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب. وأخرجه مسلم في صحيحه (402) 1: 301 كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (856) 1: 226 كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. (¬3) سبق تخريجه ص: 375. (¬4) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265. (¬5) سيأتي تخريجه ص: 396. (¬6) سبق تخريج حديث المسي في صلاته ص: 265.

ولو كانت صحيحة لما وجبت عليه الإعادة، ونفى كونه مصلياً وسأله أن يعلمه فعلمه هذه الأفعال. فدل على أنه لا يكون مصلياً بدونها. فإن قيل: لم قيد المصنف رحمه الله ترك الركن بالعمد؟ قيل: لأن تركه سهواً له موضع يأتي ذكره فيه مبيناً إن شاء الله تعالى (¬1). قال: (وواجباتها تسعة: التكبير غير تكبيرة الإحرام، والتسميع، والتحميد في الرفع من الركوع، والتسبيح في الركوع، والسجود مرة مرة، وسؤال المغفرة بين السجدتين مرة، والتشهد الأول، والجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في موضعها، والتسليمة الثانية في روايةٍ. من ترك منها شيئاً عمداً بطلت صلاته. ومن تركه سهواً سجد للسهو. وعنه أن هذه سنن لا تبطل الصلاة بتركها). أما كون التكبير غير تكبيرة الإحرام من واجبات الصلاة على المذهب؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا» (¬2) حديث حسن. أمر بالتكبير وأمره للوجوب. وروى أبو هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة كبر حين يقوم. ثم يكبر حين يركع. ثم يكبر حين يسجد. ثم يكبر حين حين يرفع رأسه. ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها. ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس» (¬3). ¬

_ (¬1) راجع فصل النقص في الصلاة ص: 412. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (371) 1: 149 كتاب الصلاة، باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب. وأخرجه مسلم في صحيحه (411) 1: 308 كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام. وأخرجه أبو داود في سننه (603) 1: 164 كتاب الصلاة، باب الإمام يصلي من قعود. وأخرجه النسائي في سننه (921) 2: 141 كتاب الافتتاح، تأويل قوله عز وجل: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}. وأخرجه ابن ماجة في سننه (846) 1: 276 كتاب إقامة الصلاة، باب إذا قرأ الإمام فانصتوا. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (756) 1: 272 كتاب صفة الصلاة، باب التكبير إذا قام من السجود. وأخرجه مسلم في صحيحه (392) 1: 293 كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة.

وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬1) متفق عليه. وأما كون التسميع من واجباتها فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: سمع الله لمن حمده» (¬2). وقال: «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد» (¬3). وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬4). وهذا الوجوب مختص بالإمام والمنفرد؛ لأن قوله عليه السلام: «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا» (¬5) يدل على أنه لا يجب التسميع على المأموم لأنه لو وجب لذكره ولما خص التحميد بالذكر. وأما كون التحميد من واجباتها؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله» (¬6) وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬7). وقال: «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد» (¬8) متفق عليه. وعن الإمام أحمد أن المنفرد لا يحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالتحميد للمأموم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (605) 1: 226 كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة. عن مالك بن الحويرث. وأخرج مسلم حديث مالك في صحيحه (674) 1: 465 كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة. ولكن بدون ذكر هذه الجملة: «صلوا كما رأيتموني أصلي». (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (722) 1: 192 كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (266) 2: 53 أبواب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا رفع رأسه من الركوع. وأخرجه النسائي في سننه (1036) 2: 186 باب التطبيق، باب مواضع الراحتين في الركوع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (878) 1: 284 كتاب إقامة الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (¬3) سيأتي قريباً. (¬4) سبق تخريجه قريباً. (¬5) مثل السابق. (¬6) مثل السابق. (¬7) مثل السابق. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه (699) 1: 257 كتاب صفة الصلاة، باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (411) 1: 308 كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام.

والصحيح الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وأمر بالاقتداء به. ولا يلزم من أمره للمأموم أن لا يكون المنفرد مأموراً من جهة أخرى. وأما كون التسبيح في الركوع والسجود مرة مرة من واجباتها؛ فلما تقدم من حديث عقبة بن عامر (¬1). وأما كون سؤال المغفرة بين السجدتين مرة من واجباتها؛ فلما تقدم من حديث حذيفة (¬2). وأما كون التشهد الأول والجلوس له من واجباتها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وداوم على فعله وأمر به في حديث ابن عباس فقال قولوا: «التحيات لله» (¬3) و «سجد السهو حين نسيه» (¬4). وإنما سقط بالسهو إلى بدل كواجبات الحج تجبر بالدم بخلاف السنن. وأما كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من واجباتها؛ فلأن الله تعالى أمر بالصلاة عليه بقوله: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} [الأحزاب: 56] والأمر للوجوب ولا موضع تجب فيه الصلاة عليه أولى من الصلاة المفروضة. ولأنا أجمعنا على أنه لا تجب خارج الصلاة فيتعين أن تجب في الصلاة. وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة إلا بطهور وبالصلاة عليّ» (¬5). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال «قولوا: اللهم! صل على محمد ... الحديث» (¬6). أمر والأمر للوجوب. فإن قيل: ما الواجب من ذلك؟ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 358. (¬2) سبق تخرجه ص: 367. (¬3) سبق تخريجه من حديث ابن مسعود ص: 371. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (795) 1: 285 كتاب صفة الصلاة، باب من لم ير التشهد الأول واجباً ... بلفظ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم». وأخرجه مسلم في صحيحه (570) 1: 399 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له. (¬5) أخرجه الدارقطني في سننه (4) 1: 355 كتاب الصلاة، باب ذكر وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد. وقال: في إسناده عمرو بن شمر وجابر الجعفي وهما ضعيفان. (¬6) سبق تخريجه ص: 372.

قيل: أقل ما وردت به الأخبار كما قلنا في التحيات؛ لأنها وردت مفسرة للأمر. وقال القاضي: ظاهر كلام الإمام أحمد أن الصلاة الواجبة على النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) فحسبُ تمسكاً بظاهر الآية. وقال المصنف رحمه الله في المغني: إن في الصلاة على الآل وجهان: المذهب أنها لا تجب. ونص صاحب النهاية فيها أن الأولى وجوب ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن كيفية الصلاة المأمور بها وفيها الصلاة على آله. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى صلاة لم يصل فيها عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه» (¬2) رواه الدارقطني. وآل النبي صلى الله عليه وسلم أهل دينه ومن اتبعه؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن آل محمد. فقال: كل تقي» (¬3) أخرجه تمام في فوائده. وقيل: آله أهل بيته. وهم بنو هاشم وبنو المطلب. وأنها منقلبة عن همزة. ولو أبدل آل محمد بأهل محمد. فقال ابن حامد: لا يجزئ؛ لما فيه من مخالفة الأثر وتغير المعنى. وقال القاضي: معناهما واحد ويجزئ. وكذلك لو صغر آل فقال: أهيل. وقول المصنف رحمه الله: في موضعها؛ معناه في التشهد الأخير بعد الشهادتين؛ لأن ذلك هو موضع التشهد عادة. وأما كون التسليمة الثانية في روايةٍ من واجباتها؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله» (¬4). وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬5). ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (6) 1: 355 كتاب الصلاة، باب ذكر وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 152 كتاب الصلاة، باب من زعم أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم أهل دينه عامة. من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ولم أقف عليه في القسم المطبوع من فوائد تمام. (¬4) سبق تخريجه ص: 374. (¬5) سبق تخريجه ص: 396.

ولأنها عبادة شرع لها تحلّلان فكانا واجبين كالحج. ولأنها إحدى التسليمتين فكانت واجبة كالأخرى. وأما كون ما ذكر من التكبير إلى التسليمة الثانية سنناً على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعلم شيئاً من ذلك للمسيء في صلاته. ولأنه لو كان واجباً لما سقط بالسهو كالركن. وأما كون من ترك شيئاً مما تقدم ذكره عمداً بطلت صلاته على الأول؛ فلأن الواجب متوسط بين الركن والسنة فيجب أن يعطى كل واحد منهما شبهاً. وقد أعطي من السنة شبهاً في أن الصلاة لا تبطل بتركه سهواً فوجب أن يعطى من الركن شبهاً في أن الصلاة تبطل بتركه عمداً. وأما كون من تركه سهواً يسجد لسهوه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو لما ترك التشهد الأول (¬1). وقد تقدم ما يدل على وجوبه وسائر الواجبات في معناه. ولأنه لا يمتنع أن تكون للعبادة واجباتٌ تنجبر إذا تركها وأركانٌ لا تصح العبادة بدونها كالحج في واجباته وأركانه. وكلام المصنف رحمه الله مشعر بعدم بطلان الصلاة بترك الواجب سهواً. وهو صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك الجلوس للتشهد الأول سهواً بنى على صلاته. ولأن السجود وقع جبراناً لما وقع من الخلل فوجب أن تصير الصلاة كما لو لم يترك فيها واجباً (¬2). وأما كون من ترك شيئاً من ذلك عمداً لم تبطل صلاته على الرواية الثانية؛ فلأن ترك السنة لا تبطل عبادة من حج عنده (¬3) فكذا الصلاة. والصحيح في المذهب أن جميع ما تقدم غير التسليمة الثانية واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به. وأمره للوجوب. وفَعَلَه. وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬4). ¬

_ (¬1) وذلك فيما رواه عبدالله بن بحينة. وسوف يأتي تخريجه ص: 415. (¬2) في الأصول: واجبٌ. وهو خطأ. (¬3) في ب: وعنده. (¬4) سبق تخريجه ص: 396.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتم صلاةٌ لأحد من الناس حتى يتوضأ -وذكر الحديث إلى قوله-: ثم يكبر ثم يركع حتى تطمئن مفاصله. ثم يقول: الله أكبر ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً. ثم يقول: الله أكبر. ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله. ثم يرفع رأسه فيكبر. فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته» (¬1) رواه أبو داود. وأما حديث المسيء فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه كل الواجبات بدليل أنه لم يعلمه التشهد ولا السلام فيحتمل أنه اقتصر في تعليمه على ما رآه أساء فيه. وأما التسليمة الثانية فقال القاضي: هي أصح. أي الرواية بوجوبها لحديث جابر بن سمرة، ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومداومته عليها. وقال المصنف رحمه الله في المغني: الصحيح أنها سنة؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه كان يسلم تسليمة واحدة» (¬2) وكذلك المهاجرون. وذلك دليل عدم الوجوب. وما روي أنه كان يسلم تسليمتين يحمل على المسنون ليحصل الجمع بين فعليه. قال: (وسنن الأقوال اثنا عشر: الاستفتاح، والتعوذ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وقول آمين، وقراءة السورة، والجهر، والإخفات، وقول ملء السماء بعد التحميد، وما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود، وعلى المرة في سؤال المغفرة، والتعوذ في التشهد الأخير، والقنوت في الوتر. فهذه لا تبطل الصلاة بتركها ولا يجب السجود لها. وهل يشرع؟ على روايتين. وما سوى هذا من سنن الأفعال لا تبطل الصلاة بتركه، ولا يشرع السجود له). أما كون سنن الأفعال الأشياء المذكورة؛ فلما تقدم في مواضعها. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (857) 1: 226 كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. من حديث علي بن يحيى بن خلاد عن عمه. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس (3072) 1: 267 كتاب الصلاة، باب: من كان يسلم تسليمة واحدة.

وأما كون الصلاة لا تبطل بتركها؛ فلأنها غير واجبة فلا تبطل الصلاة بتركها كمسنونات الإحرام والصيام. وأما كون السجود لها لا يجب؛ فلأن ذلك غير واجب فجبره أولى أن لا يكون واجباً. وأما كونه يشرع على روايةٍ؛ فلأن السجود جبران فيشرع ليجبر ما فات. وأما كونه لا يشرع على روايةٍ؛ فلأن المتروك غير واجب فلم يشرع له سجود كسنن الأفعال. وأما كون الصلاة لا تبطل بترك ما سوى هذا من سوى هذا من سنن الأفعال فلما ذكر في سنن الأقوال. وأما كونه لا يشرع السجود له فلكونه غير واجب مع كثرته. فإن قيل: لِمَ لمْ يجر الخلاف هنا في المشروعية كما تقدم في سنن الأقوال؟ قيل: لأن سنن الأفعال كثيرة فلو شرع السجود لها لما خلت صلاة من سجود سهو. وقيل: الخلاف جار في سن الأفعال كالأقوال. فعلى هذا لا فرق. فإن قيل: ما سنن الأفعال؟ قيل: رفع اليدين عند الإحرام، والركوع، والرفع منه، ووضع اليمنى على اليسرى، وجعلها تحت السرة أو الصدر، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومد الظهر، والتسوية بين رأسه وظهره، والتجافي فيه، والبداءة بوضع اليدين قبل الركبتين في النهوض، والتجافي فيه، وفتح أصابع رجليه في السجود وفي الجلوس، ووضع يديه حذو منكبيه مضمومة مستقبلاً بها القبلة، والتورك في التشهد الأخير، والافتراش في الأول وفي سائر الجلوس، ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة بحلقة، والإشارة بالسبابة، ووضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة، والالتفات عن يمينه وشماله في التسليم، والسجود على أنفه، وجلسة الاستراحة في روايةٍ.

باب سجود السهو

باب سجود السهو قال المصنف رحمه الله: (ولا يشرع في العمد. ويشرع للسهو في زيادة ونقص وشك. للنافلة والفرض). أما كون السجود لا يشرع في العمد؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم علق السجود على السهو حيث قال: «إذا سها أحدكم فليسجد» (¬1). وقول الراوي: «سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد» (¬2). [وأما مواضع مشروعية ذلك ففي الزيادة، والنقص، والشك لما يأتي ذكره بعد في مواضعه إن شاء الله تعالى] (¬3). وأما كون ذلك للنافلة والفرض فلعموم الأخبار الواردة في سجود السهو. ولأنهما في معنى واحد في الاحتياج إلى سد الخلل الحاصل بالسهو. قال: (فأما الزيادة فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت الصلاة. وإن كان سهواً سجد له). أما كون من زاد فعلاً من جنس الصلاة كما مثّل المصنف رحمه الله عمداً تبطل صلاته؛ فلأن الزيادة على المنصوص كالنقص. ولو تعمد النقص بطلت صلاته فكذلك إذا تعمد الزيادة. ولأن زيادة ركن يخل بنظم الصلاة ويغير هيئتها فلم تكن صلاة ولا فاعلها مصلياً. ولأنه متى فعل ذلك أخر السلام عن موضعه فيكون قد ترك الواجب عمداً وذلك مبطل لما تقدم. وأما كون من زاد ذلك سهواً يسجد لسهوه؛ فلأن في حديث ابن مسعود: «فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» (¬4) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 420. (¬2) سيأتي تخريجه ص: 423. (¬3) زيادة من ج. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (572) 1: 403 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة ...

ولأن الزيادة سهو فيدخل في قوله عليه السلام: «إذا سها أحدكم فليسجد» (¬1). وقول الصحابي: «سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد» (¬2). ولأن الزيادة نقص في المعنى فشرع السجود له لينجبر النقص. قال: (وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد لها. وإن علم فيها جلس في الحال فتشهد إن لم يكن تشهد وسجد وسلم). أما كون من أدرك ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها يسجد لها؛ فلما روى ابن مسعود قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً. فلما انفتل من الصلاة توشْوش القوم بينهم. فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: يا رسول الله! زيد في الصلاة شيء؟ فقال: لا. قالوا: إنك صليت خمساً. فانفتل فسجد سجدتين ثم سلم. [ثم] (¬3) قال: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون. فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» (¬4) رواه مسلم. وأما كون من علم بالزيادة في الركعة يجلس في حال علمه؛ فلأنه لو لم يجلس لزاد في الصلاة عمداً وذلك مبطل لما تقدم. وأما كونه يتشهد إن لم يكن (¬5) تشهد؛ فلأنه ركن لم يأت به. وأما كونه يسجد؛ فلأن في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود: «فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» (¬6) رواه مسلم. وأما كونه يسلم فلتكمل صلاته. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 420. (¬2) سيأتي تخريجه ص: 423. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (572) 1: 401 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة ... (¬5) ساقط من ب. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه (572) 1: 403 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة ...

قال: (وإن سبح به اثنان لزمه الرجوع. فإن لم يرجع بطلت صلاته وصلاة من اتبعه عالماً. وإن فارقه أو كان جاهلاً لم تبطل). أما كون من سبح به اثنان وهو قد سها يلزمه الرجوع؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى خبر أبي بكر وعمر في خبر ذي اليدين (¬1). ولأنه عليه السلام قال: «إذا نسيت فذكروني» (¬2) يعني بالتسبيح. ولولا أن الإمام يتبع المأموم لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المأموم بالتسبيح. وأما كونه تبطل صلاته إذا لم يرجع؛ فلأنه زاد في الصلاة عمداً. ولأنه ترك الواجب عمداً. وأما كون من اتبعه عالماً بتحريم متابعته تبطل صلاته؛ فلأنه اقتدى بمن يعلم بطلان صلاته. أشبه ما لو اقتدى بمن يعلم حدثه. وأما كون من فارقه لا تبطل صلاته؛ فلأن المأموم يجوز له مفارقة إمامه مع العذر. وهو معذور هنا. وأما كون من اتبعه جاهلاً بتحريم المتابعة لا تبطل صلاته؛ فلأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تابعوه في الخامسة جاهلين ذلك. ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة (¬3). قال: (والعمل المستكثر في العادة من غير جنس الصلاة يُبطلها عمده وسهوه. ولا تبطل باليسير. ولا يشرع له سجود). أما كون العمل المستكثر الموصوف بما ذُكر عمداً كان أو سهواً يُبطل الصلاة؛ فلما تقدم من أن الفاعل لذلك عمداً أو سهواً لا يعد في نظر الناظر إليه أنه مصل (¬4). ¬

_ (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي قال محمد: وأكثر ظني العصر ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فهَابَا أن يُكلماه وخرجَ سَرَعانُ الناس، فقالوا: أقصُرتِ الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذو اليدين، فقال: أنسيتَ أم قصرتْ؟ فقال: لمْ أنْسَ ولم تَقْصُرْ قال: بلى قد نسيتَ. فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم كبر، فسجد مثل سجوده أو أطولَ، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر». أخرجه البخاري في صحيحه (1172) 1: 412 أبواب السهو، باب من يكبر في سجدتي السهو. وأخرجه مسلم في صحيحه (573) 1: 403 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له. كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (392) 1: 156 أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان. (¬3) ر. ص: 403. (¬4) ر. ص: 383.

ولما فيه من قطع الموالاة وذهاب الخشوع. وأما كونها لا تبطل باليسير؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى (¬1) وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع. إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها» (¬2) متفق عليه. وروي «أنه فتح الباب لعائشة وهو في الصلاة» (¬3). فإن قيل: ما اليسير؟ قيل: ما شابَهَ فعل النبي صلى الله عليه وسلم مما روي، والكثير ما زاد على ذلك وعُدَّ كثيراً في العرف. وأما كونه لا يشرع له سجود؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد لحمل أمامة ولا لفتح الباب لعائشة. قال: (وإن أكل أو شرب عمداً بطلت صلاته. قَلّ أو كثر. وإن كان سهواً لم تبطل إذا كان يسيراً). أما كون من أكل أو شرب عمداً تبطل صلاته؛ فلأن ذلك ينافي الصلاة. ولأن ذلك يبطل الصوم الذي لا يبطل بالأفعال؛ فلأن تبطل الصلاة التي تبطل بالأفعال بطريق الأولى. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا فرق بين الفريضة والنافلة لأنه لم يقيد بطلان الصلاة بأحدهما. وفي ذلك روايتان: أحدهما: أنه لا فرق بينهما في ذلك؛ لأن صوم النافلة يبطل بذلك كالفريضة. والثانية: أن النافلة لا تبطل بذلك «لأنه روي عن ابن الزبير وسعيد بن جبير أنهما شربا في صلاة التطوع». ولأنه عمل يسير والنافلة مما سومح بها. أشبه الخطوة والخطوتين. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5650) 5: 2235 كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته. وأخرجه مسلم في صحيحه (543) 1: 385 كتاب المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة. (¬3) سبق تخريجه ص: 383.

وأما كون من أكل أو شرب سهواً لا تبطل صلاته إذا كان ذلك يسيراً؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» (¬1). ولأنه معفو عنه في الصوم فيعفى عنه في الصلاة بالقياس عليه. قال: (وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه كالقراءة في السجود، والقعود والتشهد في القيام، وقراءة السورة في الأخريين لم تبطل الصلاة به (¬2). ولا يجب السجود لسهوه. وهل يشرع؟ على روايتين). أما كون من أتى بقول مشروع في غير موضعه كما مثّل المصنف رحمه الله لا تبطل صلاته؛ فلأنه ذكر مشروع في الصلاة في الجملة وإذا كان ذلك كذلك لم يكن ذلك منافياً لها فلم تبطل به لانتفاء المقتضي له. وأما كونه لا يجب السجود لسهوه؛ فلأنه جبر لما ليس بواجب فأولى أن لا يكون واجباً. وأما كونه لا يشرع السجود له على روايةٍ؛ فلأن الصلاة لا تبطل بعمده أشبه الخطوة والخطوتين. وأما كونه يشرع على روايةٍ؛ فلقوله عليه السلام: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس» (¬3) رواه مسلم. قال: (فإن سلم قبل إتمام صلاته عمداً أبطلها. وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد. فإن طال الفصل أو تكلم لغير مصلحة الصلاة بطلت. وإن تكلم لمصلحتها ففيها ثلاث روايات؛ إحداهن: لا تبطل. والثانية: تبطل. والثالثة: تبطل صلاة المأموم دون الإمام. اختارها الخرقي). أما كون من سلم قبل إتمام صلاته عمداً يُبطلها؛ فلأن الباقي من صلاته إما ركن وإما واجب وكلاهما يبطل الصلاة تركه عمداً. وأما كونه يتمها إذا كان ذلك سهواً ثم ذكر قريباً ويسجد لذلك؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين سلم قبل إتمام صلاته. ثم أتمها وسجد» (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 293. (¬2) ساقط من ب. (¬3) سبق تخريجه ص: 403. (¬4) سبق تخريجه ص: 404.

وأما كونه تبطل صلاته إذا طال الفصل؛ فلتعذر بناء الباقي عليها. وأما كون من تكلم في ذلك لغير مصلحة الصلاة نحو قوله: اسقني ماء تبطل صلاته؛ فلأنه في حكم الصلاة بدليل أن له البناء على ذلك لو لم يتكلم. والكلام في الصلاة يبطلها لقوله عليه السلام: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هي التسبيح والقراءة والتكبير» (¬1) رواه مسلم. فكذا فيما هو حكمها. وأما كون من تكلم في ذلك لمصلحة الصلاة لا تبطل صلاته إماماً كان أو مأموماً في رواية؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا مع التعمد» (¬2). وأما كونها تبطل في روايةٍ؛ فلشمول ما تقدم من الأدلة المقتضية للبطلان لهما. قال الإمام أحمد رحمه الله: لو أن لنا إماماً اليوم تكلم وأجاب المأموم أعاد الصلاة. هذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. واختار هذه الرواية الخلال وقال: عليه استقر المذهب. وأجاب أحمد عن قصة ذي اليدين بأن أبا بكر وعمر تكلما مجيبين للنبي صلى الله عليه وسلم. وكان يلزمهما أن يجيباه. وذو اليدين تكلم في زمن يمكن أن تكون الصلاة فيه قد قصرت وتغيرت. وأما كون صلاة المأموم تبطل دون الإمام في روايةٍ؛ فلأن الإمام قد تعتريه حال يحتاج فيها إلى الكلام. مثل أن ينسى القراءة في ركعة فيذكرها في الثانية. فقد فسدت عليه ركعة. فيحتاج إلى بدلها. وهي في ظن المأمومين خامسة. وليس لهم موافقته. ولا سبيل إلى إعلامهم بغير الكلام. بخلاف المأموم. قال: (وإن تكلم في صلب الصلاة بطلت. وعنه: لا تبطل إذا كان ساهياً أو جاهلاً. ويسجد له). أما كون من تكلم في صلب الصلاة عمداً عالماً بكون الكلام مبطلاً تبطل صلاته؛ فلأن الكلام في الصلاة منهي عنه لما تقدم. ولقول زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة. يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت» (¬3) متفق عليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 374. (¬2) سبق تخريجه ص: 404. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4260) 4: 1648 كتاب التفسير، باب: {وقوموا لله قانتين}. وأخرجه مسلم في صحيحه (539) 1: 383 كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة.

ولمسلم: «ونهينا عن الكلام» (¬1). وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحدث من أمره ما شاء. وأنه قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة» (¬2) رواه أبو داود. وإذا كان الكلام منهياً عنه في الصلاة وجب أن يبطل كالصلاة في مكان نُهي عن الصلاة فيه من مقبرة ونحوها. وأما كون من تكلم في ذلك ساهياً أو جاهلاً بكون الكلام مبطلاً تبطل صلاته على روايةٍ فلعموم ما تقدم. وأما كونها لا تبطل على روايةٍ؛ فلما روى معاوية بن الحكم قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم. فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم ... الحديث» (¬3). ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادةٍ لجهله بكون الكلام مبطلاً. والناسي في معناه. وأما كونه يسجد له فليجبر الخلل الذي حصل في صلاته بالكلام. فإن قيل: لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم معاوية بالسجود؟ قيل: إنما لم يأمره بذلك لأنه كان مأموماً والإمام يتحمل عن المأموم سهوه لما يأتي إن شاء الله تعالى (¬4). فإن قيل: الكلام المعفو عنه بالنسيان والجهل ما هو؟ قيل: اليسير؛ لأن الكثير يُخرج الصلاة عن هيئتها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الموضع السابق. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (924) 1: 243 كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (537) 1: 381 كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة. (¬4) ر ص: 418.

وقيل: الكثير كاليسير لأن ما عفي عن (¬1) يسيره لنسيان أو جهل عفي عن كثيره. دليله: الأكل في الصوم. قال: (وإن قهقه أو نفخ أو انتحب فبان حرفان فهو كالكلام إلا ما كان من (¬2) خشية الله تعالى. وقال أصحابنا في النحنحة مثل ذلك. وقد روي عن أبي عبدالله رحمه الله: أنه كان يتنحنح في صلاته ولا يراها مبطلة للصلاة). أما كون القهقهة التي يأت منها حرفان كالكلام في بطلان الصلاة؛ فلقوله عليه السلام: «القهقهة تنقض الصلاة ولا تنقض الوضوء» (¬3) رواه الدارقطني. ولأنه تعمد في الصلاة ما ينافيها أشبه خطاب الآدمي. وأما كون النفخ كالكلام فيما ذكر؛ فلأن ابن عباس قال: «من نفخ في الصلاة فقد تكلم» (¬4). وروي ذلك أيضاً عن سعيد بن جبير (¬5). وروي أيضاً عن أبي هريرة. إلا أن ابن المنذر قال: لا يثبت عنه. وعن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه قال في موضع آخر (¬6): أكره ولا أقول تقطع الصلاة. ليس هو كلاماً؛ لما روى عبدالله بن عمر قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فلم (¬7) يكد يركع ثم ركع (¬8) فلم يكد ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (58) 1: 173 كتاب الطهارة، باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها. من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. بلفظ: «الضحك ينقض ... ». (¬4) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (3017) 2: 189 كتاب الصلاة، باب النفخ في الصلاة. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6541) 2: 67 كتاب الصلوات، في النفخ في الصلاة. بلفظ: «النفخ في الصلاة كلام». (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6537) 2: 67 كتاب الصلوات، في النفخ في الصلاة. بلفظ: « ... النفخ في الصلاة كلام». (¬6) زيادة من ج. (¬7) ساقط من ب. (¬8) في ب: يركع.

يرفع -وذكر الحديث إلى أن قال-: ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف» (¬1). ولأن ما لا يبطل (¬2) الصلاة إسراره فلم يبطلها إظهاره كالحرف الواحد. [وأما كون] (¬3) النحيب الذي من غير خشية الله كالكلام؛ فلأنه من جنس كلام الآدميين. ولم يفرق المصنف رحمه الله هنا بين ما غلب صاحبه وما لم يغلبه. وقال في المغني وصاحب النهاية فيها: أن النحيب إن غلب صاحبه لم يضره لكونه غير داخل في وسعه. ولم يحكيا فيه خلافاً. وأما كون الذي من خشية الله تعالى ليس كالكلام؛ فلما روى عبدالله بن شداد قال: «سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف» (¬4). وعن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن أبيه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء» (¬5). وقد مدح الله تعالى بذلك فقال: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً} [مريم: 58]. قال المصنف رحمه الله في المغني: ويحتمل [أن ذلك -يعني البكاء لخوف الله تعالى- متى كان عن غير غلبة فسدت -يعني صلاته- ويحملُ] (¬6) ما ذُكر من النصوص وما نُقل عن الإمام على ما إذا غلبه أو إذا لم ينتظم منه حرفان بدليل تقييد الإمام أحمد في روايةِ مهنا البكاء ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1194) 1: 310 كتاب الاستسقاء، باب من قال: يركع ركعتين. وأخرجه النسائي في سننه (1482) 3: 138 كتاب الكسوف، نوع آخر. وأخرجه أحمد في مسنده (6483) 2: 159. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 252 كتاب الصلاة، باب ما جاء في النفخ في موضع السجود. (¬2) في ب: ولا ما يبطل. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3565) 1: 312 كتاب الصلوات، ما يقرأ في صلاة الفجر. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (904) 1: 238 كتاب الصلاة، باب البكاء في الصلاة. وأخرجه النسائي في سننه (1214) 3: 11 كتاب السهو، باب البكاء في الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (16355) 4: 25. (¬6) ساقط من ب.

الذي لا يُفسد بكونه عن غلبة. ولا يلزم من كون البكاء ممدوحاً عليه أن لا يكون مفسداً بدليل أنا أُمرنا بتشميت العاطس ورد السلام وذلك مفسد للصلاة. وأما كون النحنحة على قول أصحابنا مثل القهقهة. أي إن بان منها حرفان فسدت الصلاة؛ فلأن ذلك إذا بان منه حرفان كان كلاماً ويدخل في عموم ما تقدم. وأما قول المصنف رحمه الله: روي عن أبي عبدالله أنه كان يتنحنح في صلاته ولا يراها مبطلة للصلاة، قال المروزي: أتيت أبا عبدالله فتنحنح يعلمني أنه في الصلاة. ويعضده ما روى علي عليه السلام قال: «كانت لي ساعة أدخل فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر. فإن كان في الصلاة تنحنح فكان ذلك إذني. وإن لم يكن في صلاة أذن لي» (¬1). قال القاضي: هذا محمول على أنه حرف واحد. وهذا الذي ذكره القاضي مع فتح الفم بعيد فأما مع طبق الفم فصحيح. ويمكن أن يقال المأتي به من الحروف في النحنحة حروف غير محققة فهي كصوت عُقْلٍ. والأصواتُ العُقْل لا تختلف في السمع. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (1213) 3: 11 كتاب السهو، التنحنح في الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (845) 1: 107.

فصل [النقص في الصلاة] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وأما النقص. فمتى ترك ركناً فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت التي تركه منها. وإن ذكره قبل ذلك عاد فأتى به وبما بعده. فإن لم (¬1) يعد بطلت صلاته. وإن علم بعد السلام فهو كترك ركعة كاملة). وأما كون النقص سهواً يسجد له؛ فلأن في حديث ابن مسعود: «فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» (¬2) رواه مسلم. ولأن النقص سهو فيدخل في قوله عليه السلام: «إذا سها أحدكم فليسجد» (¬3). وقول الصحابي: «سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد» (¬4). ولأنه إذا سجد للزيادة لأنها نقص في المعنى؛ فلأن يسجد في النقص صورة ومعنى بطريق الأولى. وأما كون من ترك ركناً فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى تبطل الركعة التي تركه منها؛ فلأنه لم يمكنه أن يأتي بالركن إلى وقت تلبسه (¬5) بالثانية لنسيانه أشبه المزحوم إذا لم يزل الزحام حتى ركع الإمام في الثانية وذلك مبطل للركعة التي قبلها فكذلك هاهنا. فعلى هذا إن كان الترك من الأولى صارت الثانية أولته والثالثة ثانيته والرابعة ثالثته ويأتي برابعة. وإن كان من الثانية أو الثالثة أو الرابعة فعلى نحو ما تقدم. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) سبق تخريجه ص: 402. (¬3) سيأتي تخريجه ص: 420. (¬4) سيأتي تخريجه ص: 423. (¬5) في ب: تلبس.

وأما كونه يعود إلى ما ذكره فيأتي به إذا ذكره قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى؛ فلأنه أمكنه الإتيان بالركن فلزمه العود إليه والإتيان به كالمزحوم إذا أمكنه الإتيان بالركعة قبل ركوع الإمام في الثانية. وأما كونه يأتي بما بعد ذلك؛ فلأن الترتيب واجب ولا يحصل إلا بذلك. وأما كونه إذا لم يعد تبطل صلاته؛ فلأنه ترك الواجب عمداً. وأما كون ترك ركن كترك ركعة كاملة إذا علم بعد السلام؛ فلأن ذكر ذلك بعد السلام كذكره بعد شروعه في قراءة ركعة تلي تلك الركعة وذلك مبطل للركعة التي قبلها فكذا هاهنا. قال: (وإن نسي أربع سجدات من أربع ركعات وذكر في التشهد سجد سجدة فصحت له ركعة ويأتي بثلاث. وعنه تبطل صلاته). أما كون من نسي ما ذكر يسجد سجدة؛ فلأن الرابعة نقص منها ذلك. وأما كونه يصح له ذلك ركعة؛ فلأن جبرانها حصل قبل الشروع في غيرها. وأما كونه يأتي بثلاث ركعات؛ فلأن كل ركعة من الثلاث التي فعلها تبطل بالشروع في التي تليها فلم يبق له سوى ركعة فيلزمه أن يأتي بكمال الصلاة الرباعية. وفي الحكم بسجوده وصحة ركعته وإتيانه بثلاث ركعات حكم بأن صلاته لم تبطل بالنسيان وإن كثر وهو صحيح على المذهب؛ لأن (¬1) عدم البطلان فيما إذا ترك ركناً من ركعة لمكان النسيان وذلك موجود فيما كَثُر. وأما كونه تبطل صلاته على روايةٍ؛ فلأن من نسي ذلك كله يكون متلاعباً بالصلاة ذاهلاً عنها. ويحتاج إلى (¬2) إلغاء عمل كثير بين تكبيرة الإحرام والركعة المعتد بها أشبه العمل من غير جنس الصلاة. ¬

_ (¬1) في ب: لا. (¬2) ساقط من ب.

قال: (وإن نسي التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً. فإن استتم قائماً لم يرجع. وإن رجع جاز. وإن شرع في القراءة لم يجز له الرجوع. وعليه السجود لذلك كله). أما كون من نسي التشهد الأول ونهض يلزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً؛ فلما روى المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائماً فليجلس ... مختصر» (¬1) رواه أبو داود وابن ماجة. ولأنه أخل بواجب وذكر قبل الشروع في ركن مقصود. فلزم الإتيان به، كما لو لم تفارق إليتاه الأرض. وأما كونه لا يرجع إذا استتم قائماً؛ فلأن تتمة حديث المغيرة: «فإذا استتم قائماً فلا (¬2) يجلس ويسجد سجدتي السهو». وأما كونه إذا رجع يجوز؛ فلأن القيام ركن ليس بمقصود في نفسه بل لغيره وهو القراءة فوجب أن يجوز له الرجوع كما لو لم يستتم (¬3) قائماً. قال المصنف رحمه الله في المغني: ويقوى عندي أنه لا يجوز له الرجوع وهو الصحيح؛ لما تقدم من حديث المغيرة. ولأن القيام ركن. فلم يجز الرجوع بعد الشروع فيه، كالقراءة. وما ذكر من أنه ركن ليس بمقصود فممنوع. وأما كونه لا يجوز له الرجوع إذا شرع في القراءة؛ فلحديث المغيرة المتقدم. ولما روي عن معاوية: «أنه صلى بالناس فقام في الركعتين وعليه جلوس فسبح به الناس فأبى أن يجلس. فلما جلس ليسلم سجد سجدتين وهو جالس. ثم قال: رأيت (¬4) رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا» (¬5) رواه الآجري (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1036) 1: 272 كتاب الصلاة، باب من نسي أن يتشهد وهو جالس. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1208) 1: 381 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن قام من اثنتين ساهياً. (¬2) ساقط من ب. (¬3) في ب: أن يستتم. (¬4) ساقط من ب. (¬5) أخرجه الدارقطني في سننه (4) 1: 375 كتاب الصلاة، باب إدبار الشيطان من سماع الأذان وسجدتي السهو قبل السلام. (¬6) في ب: رواية أخرى.

ولأنه شرع في ركن مقصود فلم يجز له الرجوع منه إلى ما ليس بركن كما لو ركع. وأما كونه عليه السجود لذلك كله؛ فلما تقدم من حديث معاوية. ولما روى ابن بحينة «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس. وقام الناس معه. فلما قضى صلاته وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس. فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم» (¬1) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (795) 1: 285 كتاب صفة الصلاة، باب من لم ير التشهد الأول واجباً. وأخرجه مسلم في صحيحه (570) 1: 399 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له.

فصل [في الشك] قال المصنف رحمه الله: (وأما الشك. فمن شك في عدد الركعات بنى على اليقين. [وعنه يبني على غالب ظنه، وظاهر المذهب أن المنفرد يبني على اليقين] (¬1). والإمام على غالب ظنه. فإن استويا عنده بنى على اليقين). أما كون من شك يسجد؛ فلما يأتي في الأحاديث بعد. ولأن الشاك قد يزيد فعله وقد ينقص وكل واحد منهما موجب لسجود السهو لما تقدم. وأما كونه يبني على اليقين على روايةٍ إماماً كان أو منفرداً؛ فلما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى (¬2) فليبن على اليقين. حتى إذا استيقن أن قد أتم فليسجد سجدتين قبل أن يسلم. فإنه إن كانت صلاته وتراً فقد شفعها وإن كانت شفعاً فإن ذينك يرغمان الشيطان» (¬3) رواه مسلم. ولأن الأصل واجب في ذمته بيقين فلا يزول إلا بيقين. وأما كونه يبني على غالب ظنه على روايةٍ؛ فلما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين» (¬4) متفق عليه. وأما كون المنفرد يبني على اليقين والإمام على غالب ظنه على روايةٍ؛ فلأن الإمام له من ينبهه ويذكره إذا أخطأ الصواب. بخلاف المنفرد. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (571) 1: 400 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (6294) 6: 2456 كتاب الأيمان والنذور، باب: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ... } وأخرجه مسلم في صحيحه (572) 1: 400 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود فيه.

ويجب أن يحمل حديث أبي سعيد على المنفرد وحديث ابن مسعود على الإمام جمعاً بينهما. وأما كون هذه الرواية هي ظاهر المذهب؛ فلأن فيها جمعاً بين الأحاديث، ولما تقدم من الفرق بين الإمام والمنفرد. فإن قيل: الشاك هو الذي استوى عنده طرفا الشيء فكيف يقال: يبني على غالب ظنه؟ قيل: الشك في اللغة مطلق التردد ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك في ثلاث وأربع وأكثر ظنك على الأربع» (¬1). وتفسير الشك باستواء الطرفين اصطلاح حادث أصولي. وأما كون من استوى عنده الأمران المتقدم ذكرهما يبني على اليقين بلا خلاف؛ فلأن اليقين إنما جاز تركه في مسألة غلبة الظن على روايةٍ لمعارضة غلبة الظن فإذا لم يوجد وجب الرجوع إلى اليقين لأنه الأصل وهو سالم عن المعارض. قال: (ومن شك في ترك ركن فهو كتركه. وإن شك في ترك واجب فهل يلزمه السجود؟ على وجهين. وإن شك في زيادة لم يسجد). أما كون من شك في ترك ركن فهو كتركه؛ فلأن الأصل عدم وجود الركن مع الشك فيكون كتركه. وأما كون من شك في ترك واجب يلزمه السجود على وجهٍ؛ فلأن الشك في ترك واجب كتركه لما ذكر من أن الأصل عدمه ومن ترك واجباً يلزمه السجود. وأما كونه لا يلزمه على وجهٍ؛ فلأنه شك في وجوب سجود السهو لأنه تابع لترك الواجب وذلك مشكوك فيه والتابع للمشكوك فيه مشكوك فيه والشيء لا يجب بالشك. وأما كون من شك في زيادة لا يسجد؛ فلأن الأصل عدمها. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه من حديث ابن مسعود (1028) 1: 270 كتاب الصلاة، باب: من قال يتم على أكبر ظنه.

قال: (وليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه فيسجد. فإن لم يسجد الإمام فهل يسجد المأموم؟ على روايتين). أما كون المأموم ليس عليه سجود سهو إذا لم يسه إمامه؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «الأئمة ضمناء» (¬1). معناه والله أعلم ضمناء السهو. ولأن معاوية بن الحكم تكلم في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بسجود سهو (¬2). وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس على من خلف الإمام سهو. فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه» (¬3) رواه الدارقطني. وأما كونه عليه ذلك إذا سها إمامه وسجد؛ فلما تقدم من حديث ابن عمر (¬4). ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به. فإذا سجد فاسجدوا» (¬5). ولأن السجود من تمام الصلاة فلزم المأموم متابعته كغير المسبوق. فإن قيل: إذا قضى المأموم المسبوق ما عليه هل يعيد السجود في آخر صلاته؟ قيل: فيه روايتان: إحداهما: يسجد؛ لأنه لزمه حكم السهو وما فعله مع الإمام لأجل المتابعة فلا يسقط ما لزمه. والثانية: لا يلزمه لأن سجود إمامه قد كملت به الصلاة في حقهما وحصل به الجبران فلا حاجة إلى إعادته كالمأموم إذا سها وحده. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (517) 1: 143 كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت. وأخرجه الترمذي في جامعه (207) 1: 402 أبواب الصلاة، باب ما جاء أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن. كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (981) 1: 314 كتاب إقامة الصلاة، باب ما يجب على الإمام. من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في مسنده (9472) 2: 424. كلهم بلفظ: «الإمام ضامن ... ». وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 430 ذكر جماع أبواب الأذان والإقامة، باب فضل التأذين على الإمامة. بلفظ المؤلف. (¬2) سبق تخريجه ص: 408. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 1: 377 كتاب الصلاة، باب ليس على المقتدي سهو وعليه سهو الإمام من حديث ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما. (¬4) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬5) سبق تخريجه ص: 395.

وأما كون المأموم يسجد إذا لم يسجد الإمام على روايةٍ؛ فلأن صلاة المأموم تنقص بنقصان صلاة الإمام كما تكمل بكمالها فإن لم يجبرها الإمام جبرها المأموم. وأما كونه لا يسجد على روايةٍ؛ فلأن المأموم إنما يسجد تبعاً. فإذا لم يسجد الإمام لم يوجد المقتضي لسجود المأموم. ولا بد أن يلحظ أن ترك الإمام السجود لعذر لأنه لو ترك الواجب عمداً (¬1) قبل السلام لغير عذر بطلت صلاته وصلاة المأموم جميعاً: أما صلاته؛ فلأنه فعل ما أبطل صلاته عمداً أشبه ما لو تكلم عمداً. وأما صلاة المأموم؛ فلأنه اقتدى بمن صلاته باطلة. ¬

_ (¬1) ساقط من ب.

فصل [في سجود السهو] قال المصنف رحمه الله: (وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب، ومحله قبل السلام إلا في السلام قبل إتمام صلاته. وفيما إذا بنى الإمام على غالب ظنه. وعنه أن الجميع قبل السلام. وعنه: ما كان من زيادة فهو بعد السلام وما كان من نقص كان قبله). أما كون سجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجباً؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد الأول وسجد له» (¬1) وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬2). وقد ثبت وجوبه بما تقدم. فيقاس عليه سائر الواجبات لاشتراك الكل في معنى واحد. ولأنه سها فيجب عليه السجود لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سها أحدكم في صلاته فليسجد سجدتين» (¬3). أمر والأمر للوجوب. خُص منه ما إذا سها في سنة أو هيئة لأنه جبران لما ليس بواجب فلا يكون واجباً فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. وأما كون محله قبل السلام إلا في موضعين الذين استثناهما المصنف رحمه الله على المذهب: أما كونه قبل السلام فيما عدا المستثنى؛ فلأن السجود من شأن الصلاة فكان قبل السلام كسائر أجزائها. وأما كونه بعد السلام في المستثنى: أما فيما إذا سلم قبل إتمام صلاته مثل أن يسلم من ركعتين أو من ثلاث؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من ثنتين وسجد بعد السلام في حديث ذي اليدين» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1034) 1: 271 كتاب الصلاة، باب من قام من ثنتين ولم يتشهد. من حديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه. (¬2) سبق تخريجه ص: 396. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (572) 1: 402 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له. وأخرجه أحمد في مسنده (16959) 4: 100. (¬4) سبق تخريجه ص: 404.

و «سلم من ثلاث وسجد بعد السلام في حديث عمران ابن حصين» (¬1). وأما فيما إذا بنى الإمام على غالب ظنه؛ فلأن في (¬2) حديث عبدالله بن مسعود في لفظ البخاري: «فليسجد سجدتين بعد التسليم» (¬3). وأما كون الجميع قبل السلام على روايةٍ فلحديث أبي سعيد المتقدم ولفظه: «فليسجد سجدتين قبل أن يسلم» (¬4). وأما كون ما كان من زيادة فهو بعد السلام وما كان من نقص كان قبله على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في حديث ابن بحينة قبل السلام (¬5) وكان من نقص. والصحيح أن كل سجود سجده النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام فهو بعد السلام وسائر السجود قبله. والذي روي أنه سجد فيه بعد السلام أنه سلم من ثنتين ومن ثلاث وسجد فيها بعد السلام. وحديث ابن مسعود المذكور أمر فيه بالسجود بعد السلام. فعلى هذا الرواية الأولى الصحيحة لموافقتها النصوص. قال: (وإن نسيه قبل السلام قضاه ما لم يطل الفصل أو يخرج من المسجد. وعنه أنه يسجد وإن بعد). أما كون من نسي أن يسجد قبل السلام يقضي ما نسيه ما لم يطل الفصل ولم يخرج من المسجد فليتدارك ما ترك. ولأن مقتضى الترك القضاء. تُرك العمل به فيما إذا طال أو خرج من المسجد لما يأتي. فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. ¬

_ (¬1) عن عمران بن حصين: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول فقال يا رسول الله فذكر له صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال أصدق هذا قالوا نعم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم». أخرجه مسلم في صحيحه (574) 1: 405 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له. (¬2) زيادة من ج. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6294) 6: 2456 كتاب الأيمان والنذور، باب {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ... }. (¬4) سبق تخريجه ص: 416. (¬5) سبق تخريجه ص: 415.

ولا فرق فيما ذكر بين أن يكون تكلم أو لا؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام والكلام» (¬1). وأما كونه لا يسجد إذا بَعُد على المذهب؛ فلأن السجود تكميل للصلاة ومن أحكامها فاعتبر فيه الموالاة [وموضع الصلاة] (¬2) لتصحيح البناء كسائر أركانها. وأما كونه يسجد على روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في حديث ذي اليدين بعد السلام والكلام وخروج السُّرْعان من المسجد» (¬3). وأما كونه لا يسجد إذا خرج من المسجد على المذهب؛ فلأن المسجد محل الصلاة وموضعها فاعتبر لها كمجلس الخيار في الخيار. وأما كونه يسجد على روايةٍ فكما لو كان في المسجد. قال: (ويكفيه لجميع السهو سجدتان إلا أن يختلف محلهما ففيه وجهان). أما كون من سها يكفيه سجدتان لجميع سهوه إذا لم يختلف محلهما؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين سلم (¬4) من ثنتين ناسياً وتكلم ناسياً واستدبر القبلة ومشى ناسياً واكتفى عن الجميع بسجدتين» (¬5). ولأن سجود السهو لما أُخّر عن سببه وجعل محله آخر الصلاة دل ذلك على أنه يجبر ما تقدمه من السهو وإن تعدد. وأما كونه يكفيه سجدتان إذا اختلف محلهما في وجه؛ فلما تقدم. فعلى هذا يسجدهما قبل السلام لأنه آكد. وقيل: الحكم للأسبق لأنه بمجرد وجوده اقتضى السجود وما بعده تابع له فلو زاد ركوعاً في الركعة الرابعة سهواً وكان سلم من ثلاث خرج في ذلك الوجهان المذكوران لأن زيادة الركوع يقتضي السجود قبل السلام. والسلام من نقصان يقتضي بعده على الرواية الصحيحة. ولو زاد الركوع في الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة ثم سلم من ثلاث سجد قبل السلام وجهاً واحداً وعلى هذا فَقِسْ. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (572) 1: 402 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له. (¬2) زيادة من ج. (¬3) سبق تخريجه ص: 404. (¬4) ساقط من ب. (¬5) سبق تخريجه ص: 404.

وأما كونه يسجد قبل السلام سجدتين وبعده (¬1) سجدتين في وجهٍ؛ فلأنه اختلف محلهما وأحكامهما. فالذي قبل السلام تركه عمداً مبطل ولا يفتقر إلى تشهد. والذي بعد السلام بخلافه. ولأنها عبادة يدخلها الجبران فيكرر لها السجود كجبران الحج. قال: (ومتى سجد بعد السلام جلس فتشهد ثم سلم، ومن ترك السجود الواجب قبل السلام عمداً بطلت الصلاة. وإن ترك المشروع بعد السلام لم تبطل). أما كون من سجد بعد السلام يجلس فلأجل التشهد الآتي ذكر دليله. وأما كونه يتشهد ثم يسلم؛ فلأن الترمذي وأبا داود رويا في حديث عمران ابن حصين «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسهى فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم» (¬2). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ولأنه سجود بسلام له فكان معه تشهد يعقبه سلام كسجود صُلب الصلاة. وأما كون من ترك السجود الواجب قبل السلام عمداً تبطل صلاته؛ فلأنه أخل بواجب في الصلاة عمداً فبطلت كما لو ترك واجباً غيره. وأما كونه إن ترك المشروع بعد السلام عمداً لا تبطل صلاته؛ فلأنه جبران خارج الصلاة فلم تبطل الصلاة بتركه كجبرانات الحج. وفرقٌ بين الواجب في الصلاة والواجب لها. ألا ترى أن الأذان والجماعة كل واحد منهما واجب للصلاة. ولا تبطل الصلاة بترك شيء من ذلك. وعن أحمد تبطل إذا ترك المشروع بعد السلام عمداً قياساً على المشروع قبل السلام. وقد تقدم الفرق. ¬

_ (¬1) في ب: وبعد. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1039) 1: 273 كتاب الصلاة، باب سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم. وأخرجه الترمذي في جامعه (395) 2: 240 أبواب الصلاة، باب ما جاء في التشهد في سجدتي السهو.

باب صلاة التطوع

باب صلاة التطوع قال المصنف رحمه الله: (وهي أفضل تطوع البدن. وآكدها صلاة الكسوف والاستسقاء). أما كون الصلاة أفضل تطوع البدن؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» (¬1) رواه الإمام أحمد. ولأن الصلاة المفروضة آكد الفروض؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة لوقتها» (¬2). فتطوعها آكد التطوع. ولأن الصلاة تجمع أنواعاً من العبادة: الإخلاص، والقراءة، والركوع، والسجود، ومناجاة الرب، والتوجه إلى القبلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسبيح، والتكبير ... إلى غير ذلك. وأما كون صلاة الكسوف والاستسقاء آكدها؛ فلأنها تشرع لها الجماعة مطلقاً. وذلك دليل التأكيد لما فيه من التشبه بالفرائض. وصلاة الكسوف آكد من صلاة الاستسقاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَدَعْ صلاة الكسوف عند وجود سببها. وكان يستسقي تارة ويترك أخرى. ولذلك قدمها المصنف رحمه الله. قال: (ثم الوتر. وليس بواجب، ووقته ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر). أما قول المصنف رحمه الله: ثم الوتر؛ فمعناه: أنه أفضل تطوع البدن بالصلاة بعد صلاتي الكسوف والاستسقاء. وذلك يقتضي أمرين: أحدهما: تأخيره في الفضيلة عن صلاتي الكسوف والاستسقاء. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (22489) 5: 282، من حديث ثوبان رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (7096) 6: 2740 كتاب التوحيد، باب وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملاً. وأخرجه مسلم في صحيحه (85) 1: 90 كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.

وثانيها: تقديمه على ما عدا ذلك. أما الأول؛ فلما تقدم من مشروعية الجماعة لهما مطلقاً. وذلك غير موجود في الوتر. فإنه وإن شرعت له الجماعة مع التراويح لا تشرع له مع غيرها. بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصله في جماعة مطلقاً. وأما الثاني؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله حضراً وسفراً». ولأن الوتر شرع له الجماعة في الجملة. وقد قيل بوجوبه وهو ثابت بالقول الذي لا يحتمل التخصيص. فإن قيل: الوتر مختلف في وجوبه فينبغي أن يكون أفضل من صلاتي الكسوف والاستسقاء. قيل: وصلاة الكسوف مختلف في وجوبها فلا ترجيح للوتر عليها بذلك. وصلاة الاستسقاء مشروعية الجماعة لها مطلقاً ترجحها على الوتر. وأما كون الوتر ليس بواجب؛ فلما روى أبو أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الوتر حق فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل. ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل. ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» (¬1) رواه أبو داود. علقه على المحبة والواجب لا يعلق عليها. ولأنه يصلى على الراحلة من غير ضرورة. ولا يجوز ذلك في واجب. وأما كون وقته ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر؛ فلما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى زادكم صلاة تصلونها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح: الوتر» (¬2) رواه الإمام أحمد. وقال صلى الله عليه وسلم: «فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» (¬3) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1422) 2: 62 كتاب الوتر، باب كم الوتر. وأخرجه النسائي في سننه (1711) 3: 238 كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب ذكر الاختلاف على الزهري في حديث أبي أيوب في الوتر. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (27271) 6: 397. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (461) 1: 180 أبواب المساجد، باب الحلق والجلوس في المسجد. وأخرجه مسلم في صحيحه (749) 1: 516 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل.

قال: (وأقله ركعة. وأكثره إحدى عشرة ركعة. يسلم من كل ركعتين. ويوتر بواحدة) (¬1). أما كون أقل الوتر ركعة؛ فلما تقدم من حديث أبي أيوب. وأما كون أكثره إحدى عشر ركعة فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ما بين العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة. يسلم من كل ركعتين. ويوتر بواحدة» (¬2) متفق عليه. قال: (وإن أوتر بتسع سرد ثمانية وجلس ولم يسلم ثم صلى التاسعة وتشهد وسلم. وكذلك السبع. وإن أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهن). أما كون من أوتر بتسع أو بسبع يفعل كما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلما روى سعد بن هشام قال: «قلت لعائشة رضي الله عنها: أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: كنا نُعِد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه. فيتسوك ويصلي تسع ركعات لا يجلس إلا في الثامنة. فيذكر الله ويحمده ويدعوه. ثم ينهض ولا يسلم. ثم يقوم فيصلي التاسعة. ثم يقعد فيحمد الله ويذكره ويدعوه. ثم يسلم تسليماً يسمعنا. ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعه الأول» (¬3) رواه مسلم وأبو داود. وفي حديثه: «أوتر بسبع ركعات لم (¬4) يجلس [إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة» (¬5). ¬

_ (¬1) في ج: ويوتر بركعة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1071) 1: 378 أبواب التهجد، باب طول السجود في قيام الليل. بلفظ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعةً ... ». وأخرجه مسلم في صحيحه (736) 1: 508 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم ... واللفظ له. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (746) 1: 513 كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض. وأخرجه أبو داود في سننه (1343) 2: 41 كتاب التطوع، باب في صلاة الليل. (¬4) في ب: لا. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1342) 2: 40 كتاب الصلاة، باب في صلاة الليل.

وأما عدم جلوس من أوتر بخمس] (¬1) إلا في آخرهن؛ فلأن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة (¬2) يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلا في آخرهن» (¬3) متفق عليه. قال: (وأدنى الكمال ثلاث ركعات بتسليمتين. يقرأ في الأولى سبح وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد). أما كون أدنى الكمال ثلاث ركعات؛ فلأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوتر بأقل من ثلاث. وأما كونها بتسليمتين؛ فلما روى ابن عمر «أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوتر. فقال صلى الله عليه وسلم: افصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم» (¬4) رواه الأثرم. وأما كون مصليها يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد؛ فلما روى أبي بن كعب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] و {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] و {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1]» (¬5) رواه أبو داود. قال: (ويقنت فيها بعد الركوع. فيقول: اللهم! إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك. ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكّل عليك. ونُثْني عليك الخير كله. ونشكرك ولا نكفرك. اللهم! إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونَحْفِد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك الجد بالكافرين ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) في ب: ثلاث عشر. وإسقاط لفظ: ركعة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1089) 1: 382 أبواب التهجد، باب كيف كان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. بلفظ: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر». وأخرجه مسلم في صحيحه (737) 1: 508 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل ... (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (19) 2: 35 كتاب الوتر، ما يقرأ في ركعات الوتر والقنوت فيه. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1423) 2: 63 كتاب الوتر، باب ما يقرأ في الوتر. وأخرجه النسائي في سننه (1729) 3: 244 كتاب قيام الليل وتطوع النهار، نوع آخر من القراءة في الوتر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1171) 1: 370 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيما يقرأ في الوتر.

ملحق. اللهم! اهدنا فيمن هديت. وعافنا فيمن عافيت. وتولنا فيمن توليت. وبارك لنا فيما أعطيت. وقِنا شر ما قضيت. إنك تقضي ولا يُقضى عليك. إنه لا يذل من واليت. ولا يَعِزُّ من عاديت. تباركت ربنا وتعاليت. اللهم! إنا نعوذ برضاك من سخطك. وبعفوك من عقوبتك. وبك منك لا نحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك. وهل يمسح وجهه بيديه؟ على روايتين). أما كون من أوتر يقنت في الوتر؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. وأما كونه يقنت بعد الركوع؛ فلما روى أبو هريرة وأنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع» (¬1) رواه مسلم. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه يقنت في الوتر في جميع السنة. وهو ظاهر المذهب لقول علي: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في آخر وتره: اللهم! إني أعوذ بك ... الحديث» (¬2). ولفظ كان للدوام غالباً. ولأنه ذكرٌ مشروع فشرع في جميع السنة كسائر الأذكار. وعن أحمد: لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان؛ لما روى حسن عن عمر «أنه جمع الناس على أبيّ بن كعب. فصلى بهم عشرين ركعة ليلة لا يقنت بهم إلا في النصف الباقي» (¬3) رواه أبو داود. وأما كونه يقول: اللهم! إنا نستعينك ... إلى مُلْحِق. فلما روي عن عمر رضي الله عنه «أنه قنت في صلاة الفجر. فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (675) 1: 467 كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1427) 2: 64 كتاب الوتر، باب القنوت في الوتر. وأخرجه الترمذي في جامعه (3566) 5: 561 كتاب الدعوات، باب في دعاء الوتر. وأخرجه النسائي في سننه (1747) 3: 248 كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1179) 1: 373 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر. وأخرجه أحمد في مسنده (751) 1: 96. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1429) 2: 65 كتاب الوتر، باب القنوت في الوتر.

اللهم! إنا نستعينك إلى قوله: بالكفار ملحق. اللهم! عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك» (¬1). قال ابن قتيبة: الحفد الإسراع في الطاعة. وملحق بكسر الحاء وفتحها، والجد بكسر الجيم ضد اللعب. وأما كونه يقول: اللهم! اهدنا إلى ... تباركت ربنا وتعاليت. فلما روي عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: «علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم! اهدني فيمن هديت ... وذكره بلفظ الإفراد إلى قوله: تباركت ربنا وتعاليت» (¬2) رواه أبو داود والترمذي. وقال: هذا حديث حسن. وإنما قال المصنف رحمه الله: اهدنا بلفظ الجمع لأنه عنى الإمام. والإمام يستحب له أن يشارك معه المأمومين. وأما كونه يقول: اللهم! إنا نعوذ بك ... إلى كما أثنيت على نفسك. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: «اللهم! إني أعوذ برضاك من سخطك ... إلى قوله: كما أثنيت على نفسك» (¬3) رواه الإمام أحمد. وأما كونه يمسح وجهه بيديه على روايةٍ؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعوت الله فادع ببطون كفيك، ولا تدعُ بظهورهما. وإذا فرغت فامسح بهما وجهك» (¬4) رواه أبو داود. وأما كونه لا يستحب على روايةٍ؛ فلأنه عبث لم يصح معه تعبد. فهو كمسح الوجه عند قراءة قوله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء} [الإسراء: 82] والحديث رواية مجهولة. والأولى أولى؛ للحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 210 كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1425) 2: 63 كتاب الوتر، باب القنوت في الوتر. وأخرجه الترمذي في جامعه (464) 2: 328 أبواب الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر. وأخرجه النسائي في سننه (1746) 3: 248 كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1178) 1: 372 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القنوت في الوتر. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (751) 1: 96. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1485) 2: 78 كتاب الوتر، باب الدعاء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3866) 2: 1272 كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء.

و «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا فرفع يديه مسح بهما وجهه» (¬1) رواه أبو داود. إلا أن روايه ابن لهيعة. وهو ضعيف. والعمل بالحديث الضعيف في النوافل أولى من تركه. قال: (ولا يقنت في غير الوتر. إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة. فللإمام خاصة القنوت في صلاة الفجر). أما كون المصلي لا يقنت في غير الوتر إذا لم ينزل بالمسلمين نازلة؛ فلأن الإجماع منعقد على أنه لا يقنت في غير الوتر إلا الصبح. والحجة على المخالف فيها ما روت أم سلمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القنوت في الفجر» (¬2). وروى ابن مسعود وأنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع يدعو على حيٍّ من أحياء العرب. ثم ترك» (¬3) متفق عليه. قال عبدالله بن عمر: «القنوت في الفجر بدعة» (¬4). وروى أبو مالك الأشجعي عن أبيه قال: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقنت. وصليت خلف أبي بكر رضي الله عنه فلم يقنت. وصليت خلف عثمان رضي الله عنه فلم يقنت. ثم (¬5) قال: يا بني! إنها بدعة» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1492) 2: 78 كتاب الوتر، باب الدعاء. وأخرجه أحمد في مسنده (17483) ط إحياء التراث. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1242) 1: 393 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر. وأخرجه الدارقطني في سننه (5) 2: 38 كتاب الصلاة، باب صفة القنوت وبيان موضعه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (3861) 4: 1500 كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة. وأخرجه مسلم في صحيحه (677) 1: 469 كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، إذا نزلت بالمسلمين نازلة. (¬4) لم أقف عليه عن ابن عمر، وقد أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 213 كتاب الصلاة، باب من لم ير القنوت في صلاة الصبح. وأخرجه الدارقطني في سننه (21) 2: 41 كتاب الوتر، باب صفة القنوت وبيان موضعه، كلاهما من حديث ابن عباس. (¬5) ساقط من ب. (¬6) أخرجه الترمذي في جامعه (402) 2: 252 أبواب الصلاة، باب ما جاء في ترك القنوت. وأخرجه النسائي في سننه (1080) 2: 204 باب التطبيق، ترك القنوت. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1241) 1: 393 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر.

قال البخاري: أبو مالك اسمه سعد بن طارق بن الأشيم. له صحبة. وهذا الإسناد صحيح. ولأنها صلاة مفروضة فلم يسن فيها القنوت كسائر الصلوات. وأما كون الإمام يقنت في صلاة الفجر إذا نزل بالمسلمين نازلة؛ فلما روى أبو هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الفجر إذا دعى على قوم أو دعى لقوم» رواه سعيد في سننه. وكلام المصنف رحمه الله مشعر بأمرين: أحدهما: أن ذلك مختص بصلاة الفجر. وهو صحيح لما ذكر من الحديث. وقال أبو الخطاب: يدعو في المغرب والفجر؛ لما روى البراء بن عازب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الصبح والمغرب» (¬1) رواه الترمذي. وثانيهما: أن ذلك مختص بالإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قنت فتعدى الحكم إلى من يقوم مقامه وهو الإمام الأعظم أو نائبه دون غيرهما. قال: (ثم السنن الراتبة. وهي عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. وهما آكدها. قال أبو الخطاب: وأربع قبل العصر. ومن فاته شيء من هذه السنن سُنّ له قضاؤه). أما كون قول المصنف رحمه الله: ثم السنن؛ فمعناه: أن أفضل تطوع البدن بالصلاة بعد صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء وصلاة الوتر السنن الرتبة. وذلك يقتضي أمرين: أحدهما: تأخير السنن الراتبة عن ذلك. وثانيهما: تقديمها على غير ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (678) 1: 470 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة. وأخرجه أبو داود في سننه (1441) 2: 67 كتاب الصلاة، باب القنوت في الصلوات. وأخرجه الترمذي في جامعه (401) 2: 251 أبواب الصلاة، باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر.

أما الأول؛ فلما تقدم ذكره في تقديم الوتر. وأما الثاني؛ فلأنه جاء في فضل السنن الراتبة ما لم يجئ في صلاة التراويح. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليها ولم يداوم على صلاة التراويح. وأما قوله: وهي عشر ركعات ... إلى قوله: قبل الفجر؛ فبيان لعدد السنن الراتبة ولمواضعها. والأصل فيها ما روى ابن عمر قال: «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح كانت ساعة لا يُدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها. حدثتني حفصة: أنه كان إذا أذن المؤذن فطلع الفجر صلى ركعتين» (¬1) متفق عليه. وأما كون ركعتي الفجر آكد السنن الراتبة فلما روت عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على (¬2) شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر» (¬3). ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» (¬4) رواهما مسلم. وأما قول المصنف رحمه الله: قال أبو الخطاب: وأربع قبل العصر؛ فمشعر بأمرين: أحدهما: أنه لا سنة لها قبل العصر عند غير أبي الخطاب. وهو صحيح لأن ذلك ليس مذكوراً في حديث ابن عمر. وثانيهما: أن سنتها أربع عند أبي الخطاب. والأصل في ذلك ما روى علي «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر أربعاً بتسليمتين» (¬5) [رواه الترمذي وحسنه] (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1126) 1: 395 أبواب التطوع، باب الركعتان قبل الظهر. وأخرجه مسلم في صحيحه (729) 1: 504 كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، وبيان عددهن. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (724) 1: 501 كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (725) 1: 501 كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (429) 2: 294 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الأربع قبل العصر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1161) 1: 367 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيما يستحب من التطوع بالنهار. (¬6) زيادة من ج.

ولفظ كان: للدوام غالباً. وقال عليه السلام: «من صلى قبل العصر أربعاً حرم الله لحمه ودمه على النار» (¬1). فإن قيل: ما وقت السنة؟ قيل: وقت السنة التي قبل الصلاة يخرج بفعل الصلاة؛ لأن بذلك تخرج عن القبلية وهي تشرع قبل. والتي بعدها يخرج بخروج الصلاة المفروضة؛ لأنها تابعة لها فإذا خرج وقت المتبوع فالتابع أولى. وأما كون من فاته شيء من السنن المذكورة يسن له قضاؤه؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته سنة الظهر فقضاها» (¬2). ولأن في القضاء تداركاً للفائت. قال: (ثم التراويح. وهي عشرون ركعة. يقوم بها في رمضان في جماعة. ويوتر بعدها في الجماعة. فإن كان له تهجُّد جعل الوتر بعده. فإن أحب متابعة الإمام فأوتر معه قام إذا سلم الإمام فشفعها بأخرى). أما قول المصنف رحمه الله: ثم التراويح؛ فمعناه على نحو ما تقدم. والأصل في تأخيرها عما تقدم ما تقدم، وفي تقديمها على سائر النوافل توقِيتها ومشروعية الجماعة لها. وما ورد في فضلها من قوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬3) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (611) 23: 281 من حديث أم سلمة رضي الله عنها. بلفظ: «من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله بدنه على النار». (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1176) 1: 414 أبواب السهو، باب إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع. وأخرجه مسلم في صحيحه (834) 1: 571 كتاب صلاة المسافرين، باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر. وأخرجه أحمد في مسنده (25545) 6: 183 كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1910) 2: 709 كتاب صلاة التراويح، باب فضل ليلة القدر. وأخرجه مسلم في صحيحه (760) 1: 523 كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.

فإن قيل: صلاة الكسوف فُضلت على غيرها بمشروعية الجماعة فيها. وهو موجود في صلاة التراويح. قيل: العلة المذكورة تقتضي تقديم صلاة التراويح على سائر ما ذكر. وصرح صاحب النهاية بتقديمها حتى على صلاة الكسوف. ولم أجد أحداً من الأصحاب أخر صلاة التروايح غير المصنف رحمه الله. وله أن يقول: مشروعية الجماعة فيها معارضة بمداومة النبي صلى الله عليه وسلم على السنن الراتبة وإذا ظهر تقديم السنن الراتبة ظهر تقديم البواقي عليها لأن المقدم على المقدم مقدم. وأما كون التراويح عشرين ركعة يقوم بها في رمضان في جماعة؛ فلأن السائب بن زيد قال: «لما جمع عمر الناس على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة» (¬1). وأما كون مصليها يوتر بعدها في الجماعة؛ فلما روى مالك عن يزيد بن رومان قال: «كان الناس يقومون في عهد عمر رضي الله عنه بثلاث وعشرين ركعة» (¬2). قال أحمد: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة» (¬3). وأما كونه يجعل الوتر بعد التهجد إذا كان له تهجد؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» (¬4) متفق عليه. وقوله: «إذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 496 كتاب الصلاة، باب: ما روي في عدد ركعات القيام في شهر رمضان. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (5) 1: 114 كتاب الصلاة في رمضان، باب ما جاء في قيام رمضان. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (806) 3: 169 كتاب الصوم، باب ما جاء في قيام شهر رمضان. وأخرجه النسائي في سننه (1605) 3: 202 كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب قيام شهر رمضان. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1327) 1: 420 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في قيام شهر رمضان. وأخرجه أحمد في مسنده (21454) 5: 160. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (953) 1: 340 كتاب الوتر، باب ليجعل آخر صلاته وتراً. وأخرجه مسلم في صحيحه (751) 1: 517 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (946) 1: 338 كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر. وأخرجه مسلم في صحيحه (749) 1: 516 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل. وأخرجه النسائي في سننه (1670) 3: 227 كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف صلاة الليل.

وأما كونه يشفع الوتر بأخرى إذا أحب متابعة الإمام فأوتر معه؛ فلأنها نافلة والمسنون في النوافل أن تكون مثنى. قال: (ويكره التطوع بين التراويح. وفي التعقيب روايتان. وهو أن يَتَطوّع بعد التراويح والوتر في جماعة). أما كون التطوع بين التراويح يكره: أما للإمام فلما فيه من التطويل على المأمومين. وأما للمأموم فلتركه متابعة إمامه. ولأن في ذلك قلة مبالاة بإمامه. وأما كون التعقيب لا يكره في روايةٍ؛ فلأن أنساً قال: «ما ترجعون إلا لخير ترجونه أو لشر تحذرونه». وأما كونه يكره في روايةٍ؛ فلأنه مخالف لأمره صلى الله عليه وسلم في قوله: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» (¬1). وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يَتَطوع ... إلى آخره؛ فبيان لمعنى التعقيب، وظاهره وظاهر كلامه في المغني أن الكراهة مختصة بمن يتطوع بعدهما في جماعة. وقال صاحب النهاية فيها: لا فرق في ذلك بين الجماعة والمنفرد. والأصح أنه لا يكره مطلقاً لما تقدم. وكذلك قال المصنف في المغني: إلا أنه -يعني القول بالكراهة- قول قديم والعمل على ما رواه الجماعة. ويعضده «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس» (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قبل قليل. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1106) 1: 388 أبواب التهجد، باب المداومة على ركعتي الفجر. وأخرجه مسلم في صحيحه (738) 1: 509 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل ... وأخرجه ابن ماجة في سننه (1195) 1: 377 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الركعتين بعد الوتر جالساً.

وهذا الاختلاف يختص بمن يصلي قبل أن ينام. أما التطوع بعد أن ينام فلا يكره قولاً واحداً. ذكره القاضي. قال: (وصلاة الليل أفضل من النهار. وأفضلها وسط الليل. والنصف الأخير أفضل من الأول). أما كون صلاة الليل أفضل من صلاة النهار؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل» (¬1) حديث حسن. وأما كون أفضلها وسط الليل؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في جوف الليل خير من الدنيا وما فيها». ولأن داود عليه السلام كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه. ووصف ابن عباس تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نام حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل. ثم استيقظ فوصف تهجده: ثم أوتر. ثم اضطجع حتى جاء المؤذن. فصلى ركعتين خفيفتين. ثم خرج فصلى الصبح» (¬2) رواه مسلم. وأما كون النصف الأخير أفضل من الأول؛ فلأن الله تعالى قال: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 18]. وروي «أن داود قال: يا جبريل! أي الليل أفضل؟ قال: لا أدري. إلا أن العرش يهتز وقت السحر». و«لأن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير. فيقول: من يدعوني فأستجيب له. من يسألني فأعطيه. من يستغفرني فأغفر له» (¬3) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2429) 2: 323 كتاب الصوم، باب في صوم المحرم. وأخرجه الترمذي في جامعه (438) 2: 301 أبواب الصلاة، باب ما جاء في فضل صلاة الليل. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (763) 1: 526 كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (7056) 6: 2723 كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}. وأخرجه مسلم في صحيحه (758) 1: 521 كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه.

قال: (وصلاة الليل مثنى مثنى. وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس. والأفضل مثنى). أما كون صلاة الليل مثنى مثنى؛ فلما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الليل مثنى مثنى» (¬1) متفق عليه (¬2). وقيل لابن عمر: «ما مثنى مثنى؟ قال: يسلم من كل ركعتين» (¬3). وأما كون التطوع في النهار بأربع لا بأس به؛ فلأن تخصيص الليل بالتثنية دليل على إباحة الزيادة في النهار. وأما كون الأفضل مثنى؛ فلأنه أبعد من السهو. قال: (وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم. ويكون في حال القيام متربعاً). أما كون صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة» (¬4) رواه مسلم. ولا بد أن يلحظ في هذا القدرة لأن مع العجز هما سواء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى قاعداً فله نصف أجر القائم» (¬5) رواه البخاري. وقوله: «ما من أحد كان (¬6) يعمل في صحته عملاً يعجز عنه عند مرضه إلا وكّل الله ملكاً يكتب له ثواب ما عجز عنه» (¬7). ¬

_ (¬1) ر. تخريج حديث: «إذا خشي أحدكم الصبح ... » ص: 434. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (749) 1: 519 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى ... وأخرجه أحمد في مسنده (5459) طبعة إحياء التراث. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (735) 1: 507 كتاب صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائماً وقاعداً وفعل بعض الركعة قائمة وبعضها قاعداً. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (1064) 1: 375 أبواب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد. والزيادة من الصحيح. (¬6) زيادة من ج. (¬7) لم أجده هكذا وقد أخرج أحمد معناه في مسنده (6895) 2: 203 بلفظ: عن عبدالله بن عمرو بن العاصي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إليّ».

وأما كونه في حال القيام يكون متربعاً فليخالف قيامه قعوده. قال: (وأدنى صلاة الضحى ركعتان. وأكثرها ثمان. ووقتها إذا عَلَت الشمس). أما كون أدنى صلاة الضحى ركعتين؛ فلما روى أبو هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» (¬1) متفق عليه. وأما كون أكثرها ثمانياً؛ فلما روت أم هانئ «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة بيتها. وصلى ثماني ركعات. فلم أر صلاة قط أخف منها. غير أنه يتم الركوع والسجود» (¬2) متفق عليه. وأما كون وقتها إذا علت الشمس؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» (¬3) رواه مسلم. قال: (وهل يصح التطوع بركعة؟ على روايتين). أما كون التطوع بركعة يصح على روايةٍ؛ فلأن له نظير في الشرع وهو الوتر. ولعموم قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]. ولأنه مصل عرفاً فيجب أن يكون مصلياً شرعاً. وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأن تنصيصه على كون صلاة (¬4) الليل مثنى يدل بمفهومه على أنه لا يصح دون ذلك. والأولى أصح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1880) 2: 699 كتاب الصوم، باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. وأخرجه مسلم في صحيحه (721) 1: 499 كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1122) 1: 394 أبواب التطوع، باب صلاة الضحى في السفر. وأخرجه مسلم في صحيحه (336) 1: 497 كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى ... (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (748) 1: 515 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الأوابين حين ترمض الفصال. (¬4) ساقط من ب.

فصل [في سجود التلاوة] قال المصنف رحمه الله: (وسجود التلاوة صلاة. وهو سنة للقارئ والمستمع دون السامع). أما كون سجود التلاوة صلاة؛ فلأنه سجود لله تعالى. يقصد به التقرب إلى الله تعالى. له تحريم وتحليل. فكان صلاة كسجود الصلاة. فعلى هذا يشترط له جميع ما يشترط للصلاة من طهارة الحدث والنجاسة في البدن والمكان والثوب وستر العورة واستقبال القبلة والنية لأنه صلاة فاشترط له ذلك؛ لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» (¬1). وقياساً على ذات الركوع. وأما كونه يسن للقارئ والمستمع؛ فلأن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة في غير الصلاة. فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا مكاناً لموضع جبهته» (¬2) متفق عليه. وأما كونه لا يسن للسامع؛ فـ «لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه مر بقاصٍّ فقرأ سجدة ليسجد عثمان معه. فلم يسجد. وقال: إنما السجدة على من استمع» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (224) 1: 204 كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1029) 1: 366 أبواب سجود القرآن، باب من لم يجد موضعاً للسجود من الزحام. وأخرجه مسلم في صحيحه (575) 1: 405 كتاب المساجد، باب سجود التلاوة. (¬3) ذكره البخاري تعليقاً في أبواب سجود القرآن، باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود. 1: 365.

قال: (ويعتبر أن يكون القارئ يصلح إماماً له. فإن لم يسجد القارئ لم يسجد). أما كون القارئ يعتبر أن يكون يصلح إماماً للمستمتع؛ فلأن القارئ إمام للمستمع «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى نفر من أصحابه فقرأ رجل منهم سجدة. ثم نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إنك كنت إمامنا ولو سجدت لسجدنا» (¬1) رواه الشافعي. وإذا كان القارئ إماماً للمستمع اعتبر أن يصلح إماماً له كسائر الأئمة. فعلى هذا لو كان القارئ امرأة والمستمع رجلاً لم يسجد؛ لأنها لا تصلح لإمامة الرجل. وعلى هذا فقس. فإن قيل: لو كان القارئ أمياً أو عاجزاً عن القيام فسجد هل يسجد المستمع غير الأمي والقادر على القيام معه؟ قيل: نعم؛ لأن ذلك ليس بواجب في سجود التلاوة بخلاف الصلاة. وأما كون المستمع لا يسجد إذا لم يسجد القارئ؛ فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنك كنت إمامنا ولو سجدت لسجدنا». ولقوله عليه السلام: «إذا لم يسجد التالي لم يسجد المستمع». قال: (وهو أربع (¬2) عشرة سجدة: في الحج منها اثنتان). أما كون عدد سجود التلاوة أربع عشرة سجدة فلما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وعن الإمام أحمد: أنه خمس عشرة لما روى عمرو بن العاص «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وسجدتان في الحج» (¬3) رواه أبو داود. والصحيح أن سجدة ص ليست من عزائم السجود؛ لما روى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال: سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكراً» (¬4) رواه النسائي. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (359) 1: 122 كتاب الصلاة، باب سجود التلاوة. (¬2) في ب: وأربع. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1401) 2: 58 كتاب سجود القرآن، باب تفريع أبواب السجود وكم سجدة في القرآن. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1057) 1: 335 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب عدد سجود القرآن. (¬4) أخرجه النسائي في سننه (957) 2: 159 كتاب الافتتاح، السجود في ص.

ولأنه روي عن ابن عباس أنه قال: «ليس ص من عَزائمِ السجود» (¬1) رواه أبو داود. وإذا خرجت ص من سجود التلاوة بقي من خمس عشْرة أربع عشْرة. وأما كون الحج فيها من السجدات اثنتان؛ فلما تقدم من حديث عمرو بن العاص. وروى عقبة بن عامر قال: «قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: في الحج سجدتان؟ قال: نعم. ومن لم يسجدها فلا يقرأهما» (¬2) رواه أبو داود. فإن قيل: ما مواضع السجدات؟ قيل: آخر الأعراف بعد قوله: {وله يسجدون} [206]، وفي الرعد بعد قوله: [{بالغدو والآصال} [15]، وفي النحل بعد قوله: {ويفعلون ما يؤمرون} [50]، وفي بني إسرائيل بعد قوله] (¬3): {ويزيدهم خشوعاً} [109]، وفي مريم بعد قوله: {سجداً وبكياً} [58]، وفي الحج الأولى بعد قوله: {إن الله يفعل ما يشاء} [18]، والثانية بعد قوله: {لعلكم تفلحون} [77]، وفي الفرقان بعد: {وزادهم نفورا} [60]، وفي النمل بعد: {العرش العظيم} [26]، وفي الم تنزيل بعد: {وهم لا يستكبرون} [15]، وفي حم السجدة بعد قوله: {وهم لا يسأمون} [38]، وبعد آخر النجم [62]، وفي: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] بعد: {لا يسجدون} [21] وبعد آخر: {اقرأ} [العلق: 19]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1019) 1: 363 أبواب سجود القرآن، باب سجدة ص. وأخرجه أبو داود في سننه (1409) 2: 59 كتاب سجود القرآن، باب السجود في ص. وأخرجه الترمذي في جامعه (577) 2: 469 أبواب الصلاة، باب ما جاء في السجد في ص. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1402) 2: 58 كتاب سجود القرآن، باب تفريع أبواب السجود وكم سجدة في القرآن. وأخرجه الترمذي في جامعه (578) 2: 470 أبواب الصلاة، باب ما جاء في السجدة في الحج. (¬3) ساقط من ب.

قال: (ويكبر إذا سجد وإذا رفع ويجلس (¬1) ويسلم. ولا يتشهد). أما كون من سجد للتلاوة يكبر إذا سجد وإذا رفع؛ فلأن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن. فإذا مر بالسجدة كبر وسجد. وسجدنا معه» (¬2) [رواه أبو داود] (¬3). ولأنه سجود منفرد فشرع التكبير في ابتدائه والرفع منه كسجود السهو بعد السلام. وأما كونه يجلس ويسلم بعد ذلك؛ فلأنها صلاة يشترط لها التكبير فيشترط لها ذلك كالصلاة المسنونة. وعن الإمام أحمد: لا يسلم لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما كونه لا يتشهد؛ فلأن سجود التلاوة صلاة لا ركوع فيها فلم يشرع التشهد فيها كصلاة الجنازة. وقال أبو الخطاب: يتشهد لأنه جلوس بعد سجود يعقبه السلام فشرع التشهد بعده كالصلاة. قال: (وإن سجد في الصلاة رفع يديه. نص عليه. وقال القاضي: لا يرفعهما). أما كون من سجد للتلاوة في الصلاة يرفع يديه على المنصوص؛ فلما روى وائل بن حجر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر إذا خفض. وإذا رفع. ويرفع يديه في التكبير» (¬4). قال الإمام أحمد: هذا يدخل في هذا. وأما كونه لا يرفعهما على قول القاضي؛ فلأن الرفع مسنون في ثلاثة مواضع وليس هذا منها. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إذا سجد» (¬5) في حديث ابن عمر المتفق عليه. فكذا إذا سجد للتلاوة في الصلاة. ¬

_ (¬1) في ب: يجلس. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1413) 2: 60 كتاب سجود القرآن، باب في الرجل يسمع السجدة وهو راكب وفي غير الصلاة. (¬3) زيادة من ج. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (18830) 4: 316. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (702) 1: 257 كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الإفتتاح سواء. وأخرجه مسلم في صحيحه (390) 1: 292 كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام ...

قال: (ولا يستحب للإمام السجود في صلاة لا يجهر فيها. فإن فعل فالمأموم مخير بين اتباعه وتركه). أما كون الإمام لا يستحب له السجود في صلاةٍ لا يجهر فيها إذا قرأ سجدة فلما في ذلك من الالتباس على المأمومين لأنهم يظنوه سها عن الركوع. وقال المصنف رحمه الله في المغني: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم أولى. فإنه روي «أنه صلى الله عليه وسلم سجد في الظهر. ثم قام فركع. فرأى أصحابه أن قرأ سورة السجدة» (¬1) رواه أبو داود. وقوله: لا يستحب للإمام منقول عن بعض أصحابنا. كذا ذكره في المغني. ولم يعزه إلى الإمام. وأما كون المأموم مخير بين اتباع إمامه إذا فعل ذلك وبين تركه على ما ذكره المصنف رحمه الله: أما الاتباع؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا سجد فاسجدوا» (¬2). وأما الترك؛ فلأن الإمام فعل مكروهاً في صلاته فناسب أن لا يُتبع. قال المصنف رحمه الله في المغني: وإذا سجد الإمام سجد المأموم. وقال بعض أصحابنا: هو مخير بين اتباعه وتركه. والأولى اتباعه. فظاهر الأول أنه واجب اتباعه. وهو صحيح لعموم الأدلة في وجوب متابعة الإمام. قال: (ويستحب سجود الشكر عند تجدد النعم، واندفاع النقم. ولا يسجد له في الصلاة). أما كون سجود الشكر يستحب عند تجدد النعم واندفاع النقم فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد. فسأله عبدالرحمن بن عوف عن ذلك. فقال: أتاني جبريل عليه السلام ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (807) 1: 214 كتاب الصلاة، باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر. وأخرجه أحمد في مسنده (5531) ط إحياء التراث. (¬2) سبق تخريجه ص: 395.

فبشرني أن من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشراً. فسجدت لله شكراً» (¬1) رواه الإمام أحمد. وروى أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم بُشِّر بحاجة فخرَّ ساجداً» (¬2). رواه ابن المنذر. [وروى أبو بكرة (¬3) رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه أمر يُسَرُّ به خرَّ ساجداً» (¬4). رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة] (¬5). والدارقطني. و«سجد أبو بكر لما بُشر بفتح اليمامة وقَتْل مسيلمة» (¬6). و«سجد عمر لما بُشر بفتح اليرموك والقادسية» (¬7). و«سجد علي لما وجد ذا الثدية في قتلى النهروان» (¬8). وأما كونه لا يسجد له في الصلاة؛ فلأن سبب السجدة ليس منها. فإن قيل: يشترط لسجود الشكر جميع ما يشترط لسجود التلاوة من الطهارة وسائر شروط الصلاة؟ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (1664) 1: 191. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1392) 1: 445 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر. قال البوصيري في الزوائد: في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. (¬3) في ج: أبو بكر والتصويب من كتب السنة. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2774) 3: 89 كتاب الجهاد، باب في سجود الشكر. وأخرجه الترمذي في جامعه (1578) 4: 141 كتاب السير، باب ما جاء في سجدة الشكر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1394) 1: 446 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر. وأخرجه أحمد في مسنده (20473) 5: 45. وأخرجه الدارقطني في سننه (3) 1: 410 كتاب الصلاة، باب السنة في سجود الشكر. (¬5) ساقط من ب. (¬6) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 371 كتاب الصلاة، باب سجود الشكر. ولفظه: «أن أبا بكر رضي الله عنه لما أتاه فتح اليمامة سجد». وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (8413) 2: 230 كتاب الصلاة، في سجدة الشكر. (¬7) لم أقف عليه. وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى 2: 371 كتاب الصلاة، باب سجود الشكر: «أن عمر رضي الله عنه أتاه فتح أو أبصر رجلاً به زمانة فسجد». وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (8415) 2: 230 كتاب الصلاة، في سجدة الشكر «أن عمر أتاه فتح من قبل اليمامة فسجد». (¬8) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 371 كتاب الصلاة، باب سجود الشكر. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (8424) 2: 230 كتاب الصلاة، في سجدة الشكر.

قيل: نعم لما ذكر فيه.

فصل في أوقات النهي قال المصنف رحمه الله: (وهي خمسة: بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر، وعند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تزول، وإذا تَضَيَّفَت للغروب حتى تغرب. ويجوز قضاء الفرائض فيها). أما قول المصنف رحمه الله: وهي خمسة بعد طلوع الفجر ... إلى حتى تغرب؛ فبيان لأوقات النهي. والأصل فيها ما روى (¬1) عقبة بن عامر: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تَضَيّفُ الشمس للغروب حتى تغرب» (¬2) رواه مسلم. وروى أبو سعيد الخدري [رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال] (¬3): «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» (¬4) متفق عليه. فإن قيل: لفظ الحديث في الفجر والعصر واحد فلم جُعل النهي في الفجر متعلقاً بالوقت وفي العصر بالفعل؟ قيل: وقت النهي في الفجر في إحدى الروايتين متعلق بالفعل فلا فرق، وفي الأخرى بالوقت وهي الصحيحة؛ لأن الفجر اسم للوقت بخلاف العصر. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين» (¬5) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (831) 1: 568 كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (561) 1: 212 كتاب مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس. وأخرجه مسلم في صحيحه (827) 1: 567 كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1278) 2: 25 كتاب التطوع، باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة. وأخرجه الترمذي في جامعه (419) 2: 278 أبواب الصلاة، باب لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين. بلفظ: «لا صلاة بعد الفجر ... ».

فاستثنى ركعتي الفجر وهذا لا يكون استثناء متصلاً إلا إذا أريد بالفجر الوقت. وفي لفظ للدارقطني: «لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا سجدتين» (¬1). وفي لفظ للترمذي: «إلا ركعتي الفجر» (¬2). وأما كون قضاء الفرائض يجوز فيها؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو أنسيها فليصلها إذا ذكرها» (¬3) رواه مسلم. قال: (وتجوز صلاة الجنازة، وركعتا الطواف، وإعادة الجماعة إذا أقيمت وهو في المسجد بعد [طلوع الفجر و] (¬4) العصر. وهل يجوز في الثلاثة الباقية؟ على روايتين). أما كون صلاة الجنازة بعد الفجر والعصر تجوز؛ فلأن وقت النهي فيها يطول فجازت خوفاً على الميت من الفساد. ولأنها من فروض الكفايات أشبهت الفرض. وأما كونها تجوز في الأوقات الباقية على روايةٍ؛ فلشبهها بالفرائض. ولما في ذلك من المبادرة إلى الدفن المطلوبة شرعاً. وأما كونها لا تجوز على روايةٍ؛ فلأنه زمن يسير لا يخشى فساد الميت فيه. وأما كون ركعتي الطواف بعد الفجر والعصر يجوزان؛ فلقوله عليه السلام: «يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة من ليل أو نهار» (¬5) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (2) 1: 246 كتاب الصلاة، باب النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر. (¬2) لم أجده مسنداً عند الترمذي وإنما ذكره تعليقاً على الحديث السابق. (¬3) سبق تخريجه ص: 292 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬4) زيادة من ج. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1894) 2: 180 كتاب المناسك، باب الطواف بعد العصر. وأخرجه الترمذي في جامعه (868) 3: 220 كتاب الحج، باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1254) 1: 398 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت.

ولأنه تابع للطواف. وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة. فإذا جاز فعل المتبوع؛ فلأن يجوز فعل التابع بطريق الأولى. وأما كونهما في الأوقات الباقية يجوزان على روايةٍ؛ فلظاهر الحديث المتقدم. وأما كونهما لا يجوزان على روايةٍ؛ فلعموم النهي عن الصلاة. ولأنه لا يشق تأخير ركعتي الطواف في هذه الأوقات لقصرها بخلاف الوقتين الأولين. وأما كون إعادة الجماعة بعد الفجر يجوز؛ فلما روى يزيد بن الأسود قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر. فلما قضى صلاته إذ هو برجلين لم يصليا معه. فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم قد صلينا في رحالنا. قال: لا تفعلا. إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة» (¬1) رواه أبو داود والترمذي والأثرم. وأما كونها بعد العصر تجوز؛ فلمشاركته لما بعد الفجر في جميع ما تقدم. وأما كونها في الأوقات الباقية تجوز على روايةٍ؛ فبالقياس على ما بعد الفجر. وأما كونها لا تجوز على روايةٍ فلعموم النهي عن الصلاة. قال: (ولا يجوز التطوع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة إلا ما له سبب كتحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، وقضاء السنن الراتبة فإنها على روايتين). أما كون التطوع بغير الصلوات المتقدم ذكرها مما لا سبب له كالنافلة المطلقة لا يجوز في شيء من الأوقات المذكورة؛ فلما تقدم من حديث أبي سعيد وحديث عقبة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (575) 1: 157 كتاب الصلاة، باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم. وأخرجه الترمذي في جامعه (219) 1: 424 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة. وأخرجه النسائي في سننه (858) 2: 112 كتاب الإمامة، إعادة الفجر مع الجماعة لمن صلى وحده.

وأما التطوع الذي له سبب فعلى أضرب: أحدها: صلاة الجنازة وركعتا الطواف وإعادة الجماعة. وقد تقدم ذكر ذلك جميعه. وثانيها: تحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف وقضاء السنن الراتبة وفيها روايتان: إحداهما: لا يجوز في الكل لعموم النهي المتقدم. والثانية: يجوز: أما تحية المسجد؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (¬1) متفق عليه. وأما سجود التلاوة؛ فلأن التلاوة مستحبة في جميع الأوقات والسجود لها مأمور به ومستحب. وأما الكسوف؛ فلقوله عليه السلام: «إذا رأيتموها فصلوا» (¬2). وأما قضاء السنن الراتبة؛ فلما روت أم سلمة قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بعد العصر. فصلى ركعتين. فقلت: يا رسول الله! صليتَ صلاة لم أكن أراك تصليها. فقال: إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر. وإنما قدم وفد بني تميم فشغلوني عنها فهما هاتان الركعتان» (¬3) رواه مسلم. ولما روى قيس بن عمرو قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصلاة الصبح مرتين؟ فقال له الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين قبلهما فصليتهما الآن. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم» (¬4) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1110) 1: 391 أبواب التطوع، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى. وأخرجه مسلم في صحيحه (714) 1: 495 كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحية المسجد بركعتين ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (995) 1: 353 كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس. وأخرجه مسلم في صحيحه (901) 2: 618 كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4112) 4: 1589 كتاب المغازي، باب وفد عبد القيس. وأخرجه مسلم في صحيحه (834) 1: 571 كتاب صلاة المسافرين، باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1267) 2: 22 كتاب التطوع، باب من فاتته متى يقضيها. وأخرجه الترمذي في جامعه (422) 2: 284 أبواب الصلاة، باب ما جاء فيمن تفوته الركعتان قبل الفجر يصليهما بعد صلاة الفجر. نحوه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1152) 1: 364 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة.

وقال أبو الخطاب: الجواز فيما له سبب أصح لما ذكر من الحديث. ولأنها صلاة لها سبب فجاز فعلها كركعتي الطواف. وقال القاضي: الصحيح من الروايتين أن ذلك لا يفعل لعموم النهي. ولأن النهي عن ذلك نهي تحريم يحصل بفعله الإثم. وما ذكر من أدلة ومن الأمر المراد به ندب واستحباب، وترك المندوب أولى من فعل المحظور لما فيه من الاحتياط. والصحيح ما ذهب إليه القاضي لأن حديث تحية المسجد وصلاة الكسوف عام بالنسبة إلى الوقت، وحديث النهي خاصة بالنسبة إليه فوجب تقديمه، وكذا الأمر بسجود التلاوة لما ذكر. ونص المصنف رحمه الله في المغني في صلاة الكسوف: أن النافلة لا تصلى في أوقات النهي سواء كان لها سبب أو لم يكن. ووجهه ما تقدم. وأما حديث أم سلمة فإن تتمته أنها قالت لما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر: أنقضيها إذا فاتتنا؟ فقال: لا» (¬1) رواه مسلم. وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك خاصاً به فلا دلالة إذاً على جواز ما ذكر. وحديث قيس إن دل على الجواز لأنه عليه السلام سكت فما ذكرناه منطوق وهو راجح على دلالة السكوت. ولأن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس» (¬2) رواه الترمذي. ¬

_ (¬1) أصل الحديث في الصحيح كما تقدم ولم أجد هذه التتمة فيه، وقد أخرجها أحمد في مسنده (26720) 6: 315. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (423) 2: 287 أبواب الصلاة، باب ما جاء في إعادتهما بعد طلوع الشمس.

باب صلاة الجماعة

باب صلاة الجماعة قال المصنف رحمه الله: (وهي واجبة للصلوات الخمس على الرجال، لا شرط. وله فعلها في بيته في أصح الروايتين). أما كون الجماعة واجبة للصلوات الخمس على الرجال؛ فلما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده! لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام. ثم أنطلق معي برجال معهم حزم حطب إلى قوم لا يشهدون الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم» (¬1) متفق عليه. وفي قول المصنف رحمه الله: على الرجال؛ إشعار بأنها لا تجب على النساء. وهو صحيح؛ لأن الجماعة من شأنها الخروج إلى المسجد غالباً والمرأة لا يشرع لها ذلك. ولذلك كان صلاتها في بيتها أفضل. وأما كونها ليست شرطاً لصحة الصلاة؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة» (¬2) متفق عليه. ولو كانت الجماعة شرطاً لما صحت صلاة الرجل وحده فضلاً عن أن يكون له فيها فضل. وقال ابن عقيل: هي شرط؛ لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر. قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض لم يقبل الله منه الصلاة التي صلى» (¬3) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (618) 1: 231 كتاب الجماعة والإمامة، باب وجوب صلاة الجماعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (651) 1: 451 كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (619) 1: 231 كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (649) 1: 449 كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة ... (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (551) 1: 151 كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (793) 1: 260 كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، نحوه.

والصحيح الأول لما تقدم. والحديث المروي عن ابن عباس من رواية أبو جناب واسمه يحيى بن أبي حية. قال يحيى القطان: متروك لا أستحل أن أروي عنه. وعلى تقدير صحته لا يلزم من عدم القبول عدم الصحة فإنه قد روي «أن شارب الخمر لا يقبل الله صلاته أربعين يوماً» (¬1). ولو صلى بعد صحوه صحت صلاته. وعلى تقدير دلالته على كون الجماعة شرطاً فما ذكرنا راجح لأن حديثنا صحيح متفق عليه. والعمل بالراجح متعين. وأما كون من وجبت الجماعة عليه له فعلها في بيته في روايةٍ؛ فلقوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان» (¬2) متفق عليه. وقد «صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفرض في بيته وهو مريض» (¬3) رواه البخاري. وأما كونه ليس له ذلك في روايةٍ؛ فلأن حضور المسجد واجب في روايةٍ لقوله عليه السلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (¬4). والأولى أصح لما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1862) 4: 290 كتاب الأشربة، باب ما جاء في شارب الخمر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3377) 2: 1120 كتاب الأشربة، باب من شرب الخمر لم تقبل له صلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (21541) 5: 171. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (328) 1: 128 كتاب التيمم. وأخرجه مسلم في صحيحه (521) 1: 370 كتاب المساجد، باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (772) 1: 277 كتاب صفة الصلاة، باب يهوي بالتكبير حين يسجد. وأخرجه مسلم في صحيحه (411) 1: 308 كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (2) 1: 420 كتاب الصلاة، باب الحث لجار المسجد على الصلاة فيه إلا من عذر.

قال: (ويستحب لأهل الثغر الاجتماع في مسجد واحد. والأفضل لغيرهم الصلاة في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره. ثم ما كان أكثر جماعة. ثم في المسجد العتيق. وهل الأولى قَصْد الأبعد أو الأقرب؟ على روايتين). أما كون أهل الثغر يستحب لهم الاجتماع في مسجد واحد فلما في ذلك من التكاثر في عين العدو، وإعلاء الكلمة، وتعظيم الإسلام، وحصول الهيبة في قلوبهم والرهبة. وأما كون الأفضل لغير أهل الثغر الصلاة في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره؛ فلأن في حضوره تحصيلاً للجماعة وفي عدمه فواتاً لها بخلاف غير ذلك من المواضع. وأما كون الأفضل بعد ذلك ما كان أكثر جماعة؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده. وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل. وما كان أكثر فهو أحب إلى الله» (¬1) من المسند. وأما كون الأفضل بعد ذلك المسجد العتيق؛ فلأن البقعة الحلال من شرائط الصلاة. والمسجد العتيق أقرب إلى القرون المتقدمة. فيكون أقرب إلى الحل. وأما كون الأولى قَصْد الأبعد على روايةٍ فلما فيه من فضيلة السعي وكثرة الخطا والحسنات. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا! أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد ... مختصر» (¬2) [رواه مسلم] (¬3). وأما كون الأولى قصد الأقرب على روايةٍ؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (¬4). ولأن له حق البر والصلة بالجوار فكذلك في حضور جماعته. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (554) 1: 151 كتاب الصلاة، باب في فضل صلاة الجماعة. وأخرجه النسائي في سننه (843) 2: 104 كتاب الإمامة، الجماعة إذا كانوا اثنين. وأخرجه أحمد في مسنده (20507) 5: 140. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (251) 1: 219 كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره. (¬3) زيادة من ج. (¬4) سبق تخريجه قريباً.

قال: (ولا يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه. إلا أن يتأخر لعذر. فإن لم يعلم عذره انتظر وروسل ما لم يُخش خروج الوقت). أما كون أحد لا يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إذا لم يأذن له ولم يتأخر لعذر؛ فلأن التقدم عليه بغير إذن ولا تأخر يسيء الظن به وينفر (¬1) الناس عن إمامته وتبطل فائدة اختصاصه بالتقدم إذ لا فائدة لكونه إمام حي إلا اختصاصه بالتقدم في ذلك المسجد. وأما كونه يؤم فيه قبله إذا أَذِن له أو تأخر لعذر؛ فلأن ما ذكر لا يوجد في ذلك. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى صلح بني عوف. فقدّم الناس (¬2) أبا بكر فصلى» (¬3) فلما رجع لم ينكر لأنه تأخر صلى الله عليه وسلم لعذر. و«فعل ذلك عبدالرحمن بن عوف مرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنتم» (¬4) رواه مسلم. وأما كون الإمام يُنتظر ويُراسل إذا لم يُعلم عذره ما لم يُخش خروج الوقت؛ فلأن الائتمام بإمام الحي سنة وفضيلة فلا يترك مع الإمكان. ولأن في نصب إمام (¬5) سواه افتياتاً عليه وعقداً للقلوب على البغضاء. ¬

_ (¬1) في ب: وينفرد. (¬2) زيادة من ج. (¬3) سبق تخريجه ص: 340. (¬4) عن المغيرة بن شعبة «أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال المغيرة: فتبرّز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ أخذت أُهريق على يديه من الإداوة وغسل يديه ثلاث مرات ثم غسل وجهه ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كما جبته فأدخل يديه في الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثم توضأ على خفيه ثم أقبل. قال المغيرة: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال: أحسنتم أو قال: قد أصبتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها» أخرجه مسلم في صحيحه (274) 1: 317 كتاب الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم. (¬5) في ب: الإمام.

وقد روي أن بلالاً قال: «استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإقامة. فقال: أبرد. ثم استأذنته ثانياً. فقال: أبرد. ثم استأذنته ثالثاً. فقال: أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» (¬1). وفي تقييد الانتظار بعدم خشية خروج الوقت إشعار بأنه إذا خشي خروجه لا يُنتظر. وهو صحيح لئلا تفوت الصلاة وتصير قضاء. قال: (فإن صلى ثم أقيمت الصلاة وهو في المسجد استحب له إعادتها إلا المغرب. وعنه يعيدها ويشفعها برابعة. ولا تكره إعادة الجماعة في غير المساجد الثلاثة). أما كون من صلى ثم أقيمت الصلاة وهو في المسجد يستحب له إعادتها غير المغرب؛ فلما روى يزيد بن الأسود العامري «أن رجلين دخلا المسجد وأقيمت الصلاة. فجلسا في ناحية المسجد لم يصليا. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته دعا بهما. فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: صلينا في رحالنا. قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلا. إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد (¬2) جماعة فصليا. فإنها لكما نافلة» (¬3). وأما كونه يعيد المغرب على روايةٍ؛ فلأنها نافلة والتنفل بالوتر غير مستحب. وأما كونه يعيدها ويشفعها برابعة على روايةٍ؛ فلأن بذلك يخرج التنفل عن أن يكون وتراً. فيحصل الجمع بين إعادة الجماعة وعدم التنفل بالوتر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (514) 1: 199 كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في السفر. وأخرجه مسلم في صحيحه (616) 1: 431 كتاب المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر. (¬2) ساقط من ب. (¬3) سبق تخريجه ص: 448.

وأما كون إعادة الجماعة في غير المساجد الثلاثة لا تكره؛ فلعموم صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» (¬1). ومفهوم كلام المصنف رحمه الله: أنه يكره إعادة الجماعة في المساجد الثلاثة. ونص الإمام أحمد على كراهية ذلك في المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأقصى في معناهما. وإنما كره ذلك في الثلاثة لئلا يتقاعد الناس عن الحضور مع الإمام الراتب. وتعظيماً لهذه المواضع. ولا بد أن يلحظ في الكراهية المذكورة عدم العذر فلو تأخر رجل من غير قصد التأخير لغفلة أو نسيان أو عدم العلم بالوقت فقصد المسجد فوجد الإمام الراتب قد صلى فصلى معه رجل لم يكره؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما دخل الرجل المسجد بعد صلاته: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه» (¬2). قال: (وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. وإن أقيمت وهو في نافلة أتمها إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها. وعنه يتمها). أما كون الصلاة إذا أقيمت لا صلاة إلا المكتوبة؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» (¬3) رواه مسلم. ولأن الاشتغال بالفرض أولى وزمانه أشرف وأكثر ثواباً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (619) 1: 231 كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (650) 1: 450 كتاب المساجد، باب فضل صلاة الجماعة ... (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (574) 1: 157 كتاب الصلاة، باب في الجمع في المسجد مرتين. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (710) 1: 493 كتاب صلاة المسافرين، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن.

ولأن حضور الجماعة واجب فكذلك أجزاؤها. وكما لا يجوز إخراج جزء منها عن الوقت مع الإمكان فكذلك في الجماعة الواجبة. وأما كون المكتوبة إذا أقيمت وهو في نافلة يتمها إذا لم يخش فوات الجماعة؛ فلقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33]. وأما كونه يقطعها إذا خشي فوات الجماعة على المذهب؛ فلأنه انتقال إلى ما هو أفضل منها. وأما كونه يتمها على روايةٍ؛ فلعموم النهي المتقدم. فظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه أراد فوات جميع الصلاة. وقال صاحب النهاية فيها: المراد بالفوات فوات الركعة الأولى. وكلٌّ متجه. قال: (ومن كبر قبل سلام الإمام فقد أدرك الجماعة. ومن أدرك الركوع أدرك الركعة وأجزأته تكبيرة واحدة، والأفضل اثنتان). أما كون من كبرّ قبل سلام الإمام فقد أدرك الجماعة؛ فلأن إدراك الجزء من العبادة بمنزلة إدراك الركعة. دليله ما لو كبر ثم خرج الوقت. ولأن المسافر لو اقتدى بمقيم في مثل ذلك لزمه الإتمام. فكذا تحصل له فضيلة الجماعة.

ولا بد أن يُلحظ في إدراك فضيلة الجماعة بالتكبير قعود المكبر في التشهد الأخير مع الإمام؛ لأنه لو كبر وهو قائم ثم سلم الإمام لم يكن مدركاً فضيلة الجماعة. كما لو كبر المأموم والإمام رافع ثم ركع المأموم فإنه لا يكون مدركاً للركعة. وأما كون من أدرك الركوع أدرك الركعة؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أدركتم الإمام في السجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً. ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة» (¬1) رواه أبو داود. وأما كونه يجزئه تكبيرة واحدة عن تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع؛ فلأنه فِعْل زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهما. ولأنه اجتمع عبادتان من جنس واحد فأجزأ الأكبر عن الأصغر كطواف الزيارة عند الوداع فإنه مجزئ عنه وعن طواف الوداع. وأما كون الأفضل اثنتين؛ فلأنه أتى بالذكر المشروع في الافتتاح والانحناء. ولأنه اختلف في وجوب التكبير للانحناء فإذا أتى بتكبيرتين فقد خرج عن العهدة بيقين. وكان أفضل لتيقن براءته. قال: (وما أدرك مع الإمام فهو آخر صلاته. وما يقضيه أولها. يستفتح له ويتعوذ ويقرأ السورة). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (893) 1: 236 كتاب الصلاة، باب في الرجل يدرك الإمام ساجداً كيف يصنع. نحوه

أما كون ما يدرك المأموم المسبوق مع الإمام آخر صلاته وما يقضيه أولها؛ فلما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» (¬1) متفق عليه. والقضاء: فعل ما فات والذي فات أول الصلاة. وعن الإمام أحمد رحمة الله عليه أن ما يقضيه آخر صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (¬2). والأول أصح لما ذكر. ومعنى الحديث الثاني: فأتموا قضاء لما في ذلك من الجمع بين الحديثين. وأما كونه يستفتح فيما يقضيه ويتعوذ ويقرأ السورة على القول بأنه أول صلاته؛ فلأن ذلك شأن أول الصلاة. وعلى الرواية الأخرى لا يستفتح ولا يتعوذ ولا يقرأ السورة لأن ذلك شأن آخر الصلاة. ¬

_ (¬1) الحديث بهذا اللفظ أخرجه النسائي في سننه (861) 2: 114 كتاب الإمامة، السعي إلى الصلاة. وأخرجه أحمد في مسنده (7209) ط إحياء التراث. وأصله في الصحيحين، ولكن بلفظ: «وما فاتكم فأتموا». وسيأتي تخريجه عندهما. وقد أخرج مسلم نحوه: «صل ما أدركت واقض ما سبقك». (602) 1: 421 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (866) 1: 308 كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (602) 1: 421 كتاب المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة ...

قال: (ولا تجب القراءة على المأموم. ويستحب أن يقرأ في سكتات الإمام، وما لا يجهر فيه، أو لا يسمعه لبعده. فإن لم يسمعه لطرش فعلى وجهين. وهل يستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه الإمام؟ على روايتين). أما كون القراءة لا تجب على المأموم؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» (¬1) [رواه الدارقطني] (¬2). وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يكفيك قراءة الإمام خافتَ أو جهر» (¬3). ولأنه حال جهر الإمام مأمور بالإنصات وذلك ينافي وجوب القراءة عليه. وأما كونه يستحب أن يقرأ في سكتات الإمام وما لا يجهر فيه أو لا يسمعه لبعده؛ فلأن القراءة مشروعة في جميع الصلاة لأنها محل ذلك. وإنما تُرك ذلك في حق المأموم فيما يجهر فيه إمامه لأنه يشوش عليه ويمنعه من سماع القراءة. وهذا المعنى مفقود في هذه المواضع فيبقى على مقتضى الدليل. ولأنه روي في بعض ألفاظ الحديث: «إذا أسررتُ بقرائتي فاقرؤا» (¬4). وأما كونه إذا لم يسمعه لطرش يستحب له القراءة على وجهٍ؛ فلأنه لا يسمع فلا يكون مأموراً بالإنصات فشرع له القراءة كالذي قبله. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 1: 323 كتاب الصلاة، باب ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة. (¬2) زيادة من ج. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (19) 1: 331 الموضع السابق. وقال: عاصم ليس بالقوي، ورفعه وهم. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (32) 1: 333 الموضع السابق. وقال: تفرد به زكريا الوقار، وهو منكر الحديث متروك.

وأما كونه يكره له على وجهٍ؛ فلما فيه من تشويش الصلاة على الإمام وعلى من يُنصت من بقية المأمومين. وأما كونه يستحب له أن يستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه الإمام على روايةٍ؛ فلأن سماعه لقراءة الإمام قامت مقام قراءته بخلاف الاستفتاح والاستعاذة فإن الإمام يسر بهما فيسن قولهما للمأموم لئلا يترك الأصل وما قام مقامه. وأما كونه يكره له ذلك على روايةٍ وهي الصحيحة؛ فلأن الاستفتاح والتعوذ تابعان للقراءة فإذا كره المتبوع كره التابع. قال: (ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرفع ليأتي به بعده. فإن لم يفعل عمداً بطلت صلاته عند أصحابنا إلا القاضي). أما كون من ركع أو سجد قبل إمامه عليه أن يرفع ليأتي به بعده؛ فلأن إتيانه بعده واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به. فإذا ركع فاركعوا. وإذا سجد فاسجدوا» (¬1). أمر بذلك بعد فعل الإمام. وأمره للوجوب. ولا يمكن ذلك إلا بالرفع. وكذلك قال المصنف رحمه الله: ليأتي به بعده. والمراد بالبعدية هنا بعد شروع الإمام في الركن لا بعد فراغه منه. وأما كونه إذا لم يرفع عمداً تبطل صلاته عند أصحابنا غير القاضي؛ فلأنه سابَقَ إمامه في الركوع والسجود (¬2) أشبه ما لو سابقه في السلام. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 395. (¬2) زيادة من ج.

ولأنه متى فعل ذلك متعمداً فقد ارتكب النهي وخالف الأمر. وذلك يقتضي الفساد. ومقتضى هذا التعليل أنه متى سابقه عمداً في ركوع أو سجود أو رفع بطلت صلاته. ونقله ابن عقيل رواية. وذكر المصنف رحمه الله في الكافي: أنه ظاهر كلام الإمام أحمد رحمة الله عليه لأنه قال: لو كان له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب. إشارة منه إلى قوله عليه السلام: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار» (¬1) متفق عليه. وأما كونها لا تبطل عند القاضي؛ فلأنه شارك إمامه في الركن المقصود وإنما فارقه في الانحناء وليس بمقصود لأنه وسيلة إلى المقصود والاتفاق في المقصود مع الافتراق في الوسيلة لا يضر كما لو سابقه في الأقوال. قال: (فإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عمداً فهل تبطل صلاته؟ على وجهين. وإن كان جاهلاً أو ناسياً لم تبطل صلاته. وهل تبطل الركعة؟ على روايتين). أما كون صلاة من ركع ورفع قبل إمامه مع علمه بكونه مبطلاً وعمده كذلك تبطل صلاته على وجهٍ؛ فلأنه سبق بركن كامل وهو معظم الركعة أشبه ما لو سبقه في السلام. وأما كونها لا تبطل على وجهٍ فكما لو ركع أو رفع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (659) 1: 245 كتاب الجماعة والإمامة، باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام. وأخرجه مسلم في صحيحه (427) 1: 320 كتاب الصلاة، باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما.

وأما كون صلاة من فعل ذلك مع جهله أو نسيانه لا تبطل؛ فلأن تحريمه بالصلاة صحيح ولم يوجد ما يبطله لأن فعل الجاهل والناسي يعذران فيه. وأما كون الركعة تبطل على روايةٍ؛ فلأنه لم يجتمع مع إمامه في الركوع [أشبه ما لو أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع. والثانية: لا تبطل لأنه معذور] (¬1) أشبه ما لو أحرم معه ثم ركع الإمام ورفع وهو قائم ظناً أن الإمام لم يركع بعد. قال: (فإن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه بطلت صلاته. إلا الجاهل والناسي تصح صلاتهما وتبطل تلك الركعة). أما كون صلاة غير الجاهل والناسي تبطل؛ فلأن ذلك مسابقة ومفارقة كثيرة. وأما كون صلاة الجاهل والناسي تصح؛ فلصحة تحريمها وعذرهما. وأما كون تلك الركعة تبطل؛ فلأنه لم يتابع إمامه في معظم الركعة. ولأنه إذا سبق إمامه بالركوع وحدَه أبطل؛ لأنه عماد الركعة فهذا بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) ساقط من ب.

قال: (ويستحب للإمام تخفيف الصلاة مع إتمامها. وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية). أما كون الإمام يستحب له التخفيف مع الإتمام؛ فلما روى أنس قال: «ما صليت خلف أحد أخف ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمّ أحدكم فليُخَفِّف. فإن فيهم الضعيف وذا الحاجة» (¬2). ومعنى إتمام الصلاة: أن يفعل أدنى الكمال من التسبيح والقراءة وسائر أجزاء الصلاة. وهذا التخفيف مختص بمن لا تُؤْثِر جماعته التطويل فإن آثرته استحب؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالستين إلى المائة» (¬3)، و «بقاف» (¬4)، و «بالروم» (¬5)، و «بالمؤمنون (¬6») (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (676) 1: 250 كتاب الجماعة والإمامة، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي. وأخرجه مسلم في صحيحه (469) 1: 342 كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (671) 1: 248 كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (467) 1: 341 كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام. وأخرجه أبو داود في سننه (795) 1: 211 كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (236) 1: 461 أبواب الصلاة، باب ما جاء إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف. وأخرجه النسائي في سننه (823) 2: 94 كتاب الإمامة، ما على الإمام من التخفيف. وأخرجه أحمد في مسنده (10311) 2: 486. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (522) 1: 201 كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت العصر. وأخرجه مسلم في صحيحه (461) 1: 338 كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح. كلاهما من حديث أبي برزة الأسلمي. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (457) 1: 336 كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح. عن قطبة بن مالك. (¬5) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (2730) 2: 117 كتاب الصلاة، باب القراءة في صلاة الصبح. عن عبدالملك بن عمير. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (881) 2: 301. من حديث الأغر المزني. (¬6) في ب: وبالمؤمنين. (¬7) أخرجه مسلم في صحيحه (455) 1: 336 كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح. عن عبدالله بن السائب.

وأما كونه يستحب له تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الثانية على النصف مما قرأ به في الركعة الأولى» (¬1). ولأنه إذا طول الأولى لحقه المأمومون ولم يفتهم من صلاة الجماعة شيء. قال: (ولا يستحب انتظار داخل وهو في الركوع في إحدى الروايتين. وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كره منعها. وبيتها خير لها). أما كون الإمام لا يستحب له انتظار الداخل في حال ركوعه في روايةٍ؛ فلأن انتظاره له يؤدي إلى التشريك في العبادة. وأما كونه يستحب له في روايةٍ؛ فلما روى ابن أبي أوفى «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم» (¬2) رواه أبو داود. وروى جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع سمع حساً خلفه لم يرفع حتى لا يسمع حساً». ولأنه نفعٌ للداخل من غير مشقة فشرع كتخفيف الصلاة إذا سمع بكاء الصغير تخفيفاً على أمه. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج مسلم في صحيحه (451) 1: 333 كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر. بلفظ: «عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر. فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة ألم تنزيل - السجدة. وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك. وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر. وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك». (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (802) 1: 212 كتاب الصلاة، باب ما جاء في القراءة في الظهر.

ولا بد أن يلحظ في هذه الرواية عدم مشقة المأمومين فلو شق ذلك عليهم لم يستحب لما تقدم من قوله عليه السلام: «إذا أمَّ أحدكم فليخفّف فإن فيهم الضعيف وذا الحاجة» (¬1). وأما كون المرأة إذا استأذنت إلى المسجد يكره منعها وبيتها خير لها؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ وبيوتُهن خيرٌ لهن» (¬2) رواه الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 464. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (4655) 2: 16، و (5468) 2: 76.

فصل في الإمامة قال المصنف رحمه الله: (السنة أن يَؤم القوم أقرؤهم. ثم أفقههم. ثم أسَنُّهم. ثم أقدمهم هجرة. ثم أشرفهم. ثم أتقاهم. ثم من تقع له القرعة). أما كون السنة أن يؤم القوم أقرؤهم ثم أفقههم؛ فلما روى أبو مسعود البدري (¬1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يؤم القوم أقرؤهم فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة» (¬2). وروى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتمع ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» (¬3) رواهما مسلم. وأما كون السنة أن يؤمهم بعدَ ما ذكر أسنهم؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه: «إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما» (¬4) متفق عليه. وفي بعض الحديث: «وكانت قرائتهما متقاربة» (¬5). ولأن الكبير أخشع في صلاته وأقرب إلى إجابة الدعاء. وقال ابن حامد: أولاهم بعد القراءة والفقه أشرفهم ثم أقدمهم هجرة ثم أكبرهم سناً. ¬

_ (¬1) في ب: سعيد البدري. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (673) 1: 465 كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (672) 1: 464، الموضع السابق. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (605) 1: 226 كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (674) 1: 465 الموضع السابق. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (674) 1: 466 الموضع السابق.

وظاهر كلام الإمام أحمد رحمة الله عليه أنهما إذا استويا في القراءة والفقه فأولاهما أقدمهما هجرة ثم أسنهما؛ لأن تكملة حديث أبي مسعود (¬1): «فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة. فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً» (¬2). وأما كون السنة أن يؤم القوم بعد ما تقدم ذكره أقدمهم هجرة؛ فلما تقدم في حديث أبي مسعود (¬3). ومعنى الأقدم هجرة أن يكون أحدهما أسبق هجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام. وأما كون السنة أن يؤم القوم بعد ذلك أشرفهم؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش» (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: «قدموا قريشاً ولا تَقَدّموها» (¬5). وأما كون السنة أن يؤمهم بعد ذلك أتقاهم؛ فلأنه أقرب إلى الإجابة. وقد جاء: «إذا أمَّ الرجلُ القومَ وفيهم من هو أفضلُ لم يزالوا في سِفَال» (¬6). ذكره الإمام أحمد رحمه الله في رسالته. وأما كون السنة أن يؤمهم بعد ذلك من تقع له القرعة؛ فـ «لأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أقرع بين الناس في التأذين حين تشاحوا فيه» (¬7) والإمامة مثله. ¬

_ (¬1) في ب أبي سعيد. وهو تصحيف. (¬2) سبق تخريجه قبل قليل. (¬3) في ب: أبي سعيد. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (12923) 3: 183 من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (926) 125 من حديث أبي برزة رضي الله عنه. و (2133) 284 من حديث أنس رضي الله. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 121 جماع أبواب صلاة الإمام وصفة الأئمة، باب من قال: يؤمهم ذو نسب إذا استووا في القراءة والفقه. من حديث أنس رضي الله عنه. (¬5) أخرجه الشافعي في مسنده (691) 2: 194 كتاب المناقب. (¬6) ذكره الهيثمي في المجمع 2: 64 باب الإمامة، بلفظ: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أم قوماً وفيهم من هو أقرأ لكتاب الله منه لم يزل في سفال إلى يوم القيامة» وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه الهيثم بن عقاب. قال الأزدي: لا يعرف، قلت: ذكره ابن حبان في الثقات. وأخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير 4: 355 بنحو لفظ الطبراني، وقال: الهيثم بن عقاب مجهول بالنقل. حديثه غير محفوظ، ولا يعرف إلا به. ر ص: 71 من رسالة أحمد. (¬7) سبق تخريجه ص: 268.

ولأن القرعة ترفع النزاع والتشاحن وتقطع الخصام. قال: (وصاحب البيت وإمام المسجد أحق بالإمامة إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان). أما كون صاحب البيت أحق من غيره بالإمامة إذا لم يكن بعضهم من في بيته ذا سلطان؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «صاحب الدار أحق بالدار» (¬1). وقوله: «لا يُؤَمَّنّ الرجل في بيته» (¬2). وأما كون إمام المسجد أحق من غيره بالإمامة إذا لم يكن بعض من في المسجد كذلك؛ فـ «لأن ابن عمر رضي الله عنها كان له مولى يصلي في مسجد. فحضر ابن عمر. فقيل له: تقدم. فقدم مولاه. وقال: أنت أحق بالإمامة في مسجدك» (¬3). ولأن في تقديم غيره افتياتاً على من نصبه وكسراً لقلب (¬4) المولّى. وأما كون السلطان أحق منهما؛ فلأن له ولاية عامة عليهما وعلى غيرهما. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمّ عتبان بن مالك وأنساً في بيوتهما» (¬5). وذكر أبو الخطاب وجهاً أنهما أحق من السلطان لأن مرتبة السلطان لا تنقص بذلك وفيه جبر قلب صاحب (¬6) البيت والإمام الراتب. وزيادة في شرفه. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج الشافعي في مسنده (320) 1: 108 كتاب الصلاة، باب الجماعة وأحكام الإمامة. عن ابن مسعود قال: «من السنة أن لا يؤمهم إلا صاحب البيت». (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (673) 1: 465 كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة. وأخرجه أبو داود في سننه (582) 1: 159 كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة. (¬3) أخرجه الشافعي في مسنده (321) 1: 108 كتاب الصلاة، باب الجماعة وأحكام الإمامة. (¬4) سقط لفظ: لقلب من ب. (¬5) حديث عتبان أخرجه البخاري في صحيحه (804) 1: 288 كتاب صفة الصلاة، باب من لم ير رد السلام على الإمام، واكتفى بتسليم الصلاة. وأما حديث إمامة النبي صلى الله عليه وسلم لأنس فقد أخرجه البخاري في صحيحه (833) 1: 296 كتاب صفة الصلاة، باب صلاة النساء خلف الرجال. وأخرجه مسلم في صحيحه (658) 1: 457 كتاب المساجد، باب جواز الجماعة في النافلة ... (¬6) في ب: لصاحب.

قال: (والحر أولى من العبد. والحاضر أولى من المسافر. والبصير أولى من الأعمى في أحد الوجهين). أما (¬1) كون الحر أولى من العبد؛ فلأن الحر أشرف منه وأكمل في أحكامه. ويصلح لإمامة الجمعة (¬2) والعيد بخلاف العبد. وقول المصنف رحمه الله: [أولى من العبد] (¬3)؛ مشعر بصحة إمامة العبد وهو صحيح؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم» (¬4). و«لأن عائشة رضي الله عنها صلت خلفَ غلام لها» (¬5). و«صلى أبو سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد بأبي ذر وابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم» (¬6) رواه صالح بن الإمام أحمد رحمة الله عليهما في مسائله. ولأنه أهلٌ للأذان فصلح أن يكون إماماً كالحر. وأما كون الحاضر أولى من المسافر؛ فلأنه إذا أم حصل جميع الصلاة في جماعة بخلاف المسافر. وأما كون البصير أولى من الأعمى في وجه؛ فلأنه أقدر على توقي النجاسات واستقبال القبلة باجتهاده. وأما كونهما سواء في وجهٍ قاله القاضي؛ فلأن الأعمى أخشع من البصير فيكون ذلك مقابلاً لتوقي النجاسات. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) مثل السابق. (¬3) مثل السابق. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (673) 1: 465 كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة. (¬5) أخرجه الشافعي في مسنده (314) 1: 106 كتاب الصلاة، باب الجماعة وأحكام الإمامة. عن ابن أبي مليكة «أنهم كانوا يأتون عائشة أم المؤمنين بأعلى الوادي هو وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة رضي الله عنها. وأبو عمرو غلامها يومئذ لم يعتق قال: وكان إمام بني محمد بن أبي بكر وعروة». وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6111) 2: 31 كتاب الصلوات، في إمامة العبد. بنحوه. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6103) 2: 30 كتاب الصلوات، في إمامة العبد. وفيه أبو مسعود وأبو حذيفة بدل ابن مسعود وحذيفة.

قال: (وهل تصح إمامة الفاسق والأقلف؟ على روايتين. وفي إمامة أقطع اليدين وجهان). أما كون إمامة الفاسق لا تصح على روايةٍ؛ فلقوله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} [السجدة: 18]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَؤمن امرأة رجلاً. ولا فاجر مؤمناً إلا أن يقهره سلطان أو يخاف سوطه» (¬1) [رواه ابن ماجة] (¬2). وفي لفظ: «ولا فاسق مؤمناً». وقوله عليه السلام: «انتقدوا أئمتكم نقد الدينار». وأما كونها تصح على روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ فقال: صل الصلاة في وقتها. فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة» (¬3) رواه مسلم. و«كان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي وراء الحجاج» (¬4). «والحسن والحسين رضي الله عنهما يصليان وراء مروان» (¬5). وأما كون إمامة الأقلف لا تصح على روايةٍ؛ فلأنه حامل لنجاسة ظاهرة يمكنه إزالتها بإزالة المانع بالختان. وأما كونها تصح على روايةٍ فلتعذر زوال النجاسة في الحال. والختان مختلف في وجوبه فلم تكن إزالتها واجبة لا محالة. وأما كون إمامة أقطع اليدين لا تصح في وجه فلإخلاله بعضو من أعضاء السجود. وأما كونها تصح في وجه؛ فلأنه لا يخل بركن من أركان الصلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (1081) 1: 343 كتاب إقامة الصلاة، باب في فرض الجمعة. (¬2) زيادة من ج. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (648) 1: 448 كتاب المساجد، باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها ... (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 121 كتاب الصلاة، باب الصلاة خلف من لا يحمد فعله. وأخرجه الشافعي في مسنده (323) 1: 109 كتاب الصلاة، باب الجماعة وأحكام الإمامة. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 122 كتاب الصلاة، باب الصلاة خلف من لا يحمد فعله. وأخرجه الشافعي في مسنده (324) 1: 109 كتاب الصلاة، باب الجماعة وأحكام الإمامة.

وذكر المصنف رحمه الله في المغني هذين الوجهين روايتين. والحكم في أقطع الرجلين أو إحداهما أو إحدى اليدين كالحكم في أقطع اليدين لاتحاد الكل في الإخلال بعضو وعدمه بما هو ركن. قال: (ولا تصح الصلاة خلف كافر، ولا أخرس، ولا من به سلس البول، ولا عاجز عن الركوع والسجود والقعود). أما كون الصلاة لا تصح خلف كافرٍ؛ فلأن الصلاة تفتقر إلى النية وكذا الوضوء. والنية فيهما لا تصح من الكافر. وسواء عَلم بكفره في الصلاة أو بعد الفراغ منها لأن أمارات الكفر لا تخفى غالباً فكأنه إذا لم يَعلم يعد مقصراً. وأما كونها لا تصح خلف أخرس؛ فلأنه مأيوس من قرائته فقد فات ركن من أركان الصلاة على وجهٍ لا يرجى وجوده فلم تصح الصلاة خلفه كالعاجز عن الركوع والسجود. فعلى هذا لا فرق بين كون المأموم أخرس أو ناطقاً لما ذكر من فوات الركن الذي هو القراءة. وذكر المصنف رحمه الله في الكافي أنه يصح إمامة الأخرس بمثله لاستوائهما في فوات الركن. أشبه إمامة الأمي بمثله. وأما كونها لا تصح خلف من به سلس البول؛ فلأن في صلاته خللاً غير مجبور ببدل. ولأنه محدث حامل للنجاسة أشبه ما لو صلى خلف محدث يعلم بحدثه. فإن قيل: فلم صحت صلاته في نفسه؟ قيل: للضرورة. وأما كونها لا تصح خلف عاجز عن الركوع والسجود والقعود؛ فلأنه أخل بركن لا يسامح به في النافلة فلم يجز للقادر عليه الائتمام به كالقارئ بالأمي.

قال: (ولا تصح خلف عاجز عن القيام إلا إمام الحي المرجو زوال علته. ويصلون وراءه جلوساً. فإن صلوا قياماً صحت صلاتهم في أحد الوجهين. وإن ابتدأ بهم الصلاة قائماً ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً). أما كون صلاة القادر على القيام لا تصح خلف عاجز عنه غير إمام الحي المذكور؛ فلأنه عجز عن ركنٍ من أركان الصلاة فلم يصح الاقتداء به كالعاجز عن القراءة. وأما كونها تصح خلف إمام الحي المذكور؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالساً مرتين أو ثلاثاً وصلى الناس خلفه» (¬1). وإنما اشترط في صحة صلاة القائم خلف العاجز عن القيام أن يكون العاجز إمام حي وأن تكون علته مرجوة الزوال لأن مقتضى الدليل أن لا يصح مطلقاً لما تقدم في صلاة القادر على الركوع خلف العاجز عنه. تُرك العمل به فيما ذكر لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وكان موصوفاً فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما كون من وراءه يصلون جلوساً إذا لم يبتدأهم الصلاة قائماً؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به. فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً. وإن صلى جالساً فلا تقوموا وهو جالس كما يفعل أهل فارس بعظمائها» (¬2) رواه مسلم. ولقوله: «وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين» (¬3) متفق عليه. ولأنها حالة قعود للإمام فوجب متابعته كالتشهد. وأما كون صلاتهم تصح إذا صلوا قياماً؛ [فلأن النبي صلى الله عليه وسلم] (¬4) لم يأمرهم بالإعادة. ¬

_ (¬1) عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيته وهو شاك، فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً. فأشار إليهم: أن اجلسوا فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به -إلى أن قال-: وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون». أخرجه البخاري في صحيحه (656) 1: 244 كتاب الجماعة والإمامة، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به. وأخرجه مسلم في صحيحه (412) 1: 309 كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (413) 1: 309 كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام. وأخرجه أبو داود في سننه (602) 1: 163 كتاب الصلاة، باب الإمام يصلي من قعود. (¬3) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق. (¬4) زيادة يقتضيها السياق.

وأما كونها لا تصح في وجهٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالجلوس» وأمره للوجوب. و «نهى عن القيام» والنهي يقتضي الفساد. وقيل: هذان الوجهان روايتان. وأما كونهم يتمون خلفه قياماً إذا ابتدأ بهم الصلاة قائماً ثم اعتل فجلس؛ فـ «لأن أبا بكر ابتدأ بالصحابة الصلاة قائماً. ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأتم الصلاة بهم جالساً. وأتم من خلفه قياماً» (¬1). ولأن القيام هو الأصل فمن بدأ به في الصلاة لزمه في جميعها كمن شرع في صلاة وهو مقيم ثم خرجت به السفينة في أثناء الصلاة فلم يجز له القصر. وفي هذا جمع بين أمره بالقعود وبين إقراره على تركه آخر أمره لأنا حملنا قوله: «وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين» (¬2) ونحو ذلك على ما إذا ابتدأ الصلاة جالساً، وإقرارَه على القيام في آخر أمره على ما إذا ابتدأ الصلاة قائماً ثم اعتل؛ لأن إمامة النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء صلاة أبي بكر كاعتلال أبي بكر رضي الله عنه. ولا شبهة أن ذلك أولى من النسخ لا سيما مع ظهور الفرق بين ابتدائه الصلاة معتلاً وبين اعتلاله في أثنائها. قال: (ولا تصح إمامة المرأة والخنثى للرجال ولا للخناثى. ولا إمامة الصبي لبالغ إلا في النفل على إحدى الروايتين). أما كون إمامة المرأة للرجال لا تصح؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تؤمن امرأة رجلاً» (¬3). ولأن المرأة لا تُؤَذّن للرجال فلا تكون إمامةً لهم كالمجنون. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (681) 1: 251 كتاب الجماعة والإمامة، باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم. وأخرجه مسلم في صحيحه (418) 1: 311 كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس ... (¬2) سبق تخريجه ص: 473. (¬3) سبق تخريجه ص: 471.

ونقل أبو الخطاب عن أصحابنا: أنه (¬1) يجوز أن تكون المرأة إمامة للرجال في التراويح خاصة؛ لما روى عبدالرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت عبدالله بن الحارث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها مؤذناً يُؤذن لها. وأمرها أن تؤم أهل دارها» (¬2) رواه أبو داود. وهذا عام في الرجال والنساء. وظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أنه لا يجوز أن تؤم في ذلك ولا في غيره. وصرح به في المغني. وأجاب عن حديث أم ورقة أن في روايةٍ الدارقطني «أن تؤم بنساء أهل دارها» (¬3). فيحمل المطلق على المقيد. وذكر صاحب النهاية فيها «أن أم ورقة قالت: يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم إني امرأة أصلي بأهل بيتي لأني أحفظ القرآن وهم لا يحفظون. فقال: قدمي الرجال أمامك وقومي فصلي بهم من ورائهم. وقومي مع النساء» وهذا تصريح بإمامة المرأة للرجل لا احتمال فيه ولا إطلاق. فعلى قول المصنف رحمه الله لا كلام فيه (¬4)، وعلى نقل أبي الخطاب: يشترط في المأموم أن يكون ممن يجوز له سماع كلامها. ذكره صاحب النهاية فيها لأن المأموم إذا كان أجنبياً حرم عليه سماع كلامها. والإمام لا مندوحة له عن الكلام إما في التكبير وإما في القراءة. وأما كون إمامة المرأة (¬5) للخناثى لا تصح فلجواز أن يكونوا رجالاً وقد تقدم أنه لا يصح إمامة المرأة للرجال. وأما كون إمامة الخنثى للرجال لا تصح؛ فلجواز كون الإمام امرأة والمأموم رجلاً [وقد تقدم أنه لا يصح أن تكون المرأة إماماً للرجل. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (592) 1: 161 كتاب الصلاة، باب إمامة النساء. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 1: 403 كتاب الصلاة، باب صلاة النساء جماعة وموقف إمامهن. (¬4) ساقط من ب. (¬5) مثل السابق.

وأما عدم جواز صلاة الخنثى بالخنثى؛ فلجواز كون الإمام امرأة والمأموم رجلاً] (¬1). وأما كون إمامة الصبي لبالغ في الفرض لا تصح؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا صبيانكم» (¬2). ولأن الإمامة حالُ كمال والصبي ليس من أهله أشبه المرأة. بل آكد لأنه نقص يمنع التكليف وصحة الإقرار. ولأن الإمام ضامن يتحمل عن المأمومين والصبي ليس من أهل الضمان. وأما كونها تصح في النفل على روايةٍ؛ فلأنها نافلة في حقه فيقتدي به من هو متنفل مثله. وأما كونها لا تصح على روايةٍ؛ فبالقياس على الفرض. والأولى أصح؛ لما تقدم. وقالت عائشة رضي الله عنها: «كنا نأخذ الصبيان من الكُتّاب فيصلوا بنا التراويح. ويعملوا (¬3) لنا الخشكنان». ولأنها أخف حالاً من الفرض يسقط فيها بعض أركان الصلاة من استقبال القبلة والقيام. وذكر أبو الخطاب في صحة إمامة الصبي في الفرض روايةً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «يؤم القوم أقرؤهم. قال عمرو بن سلمة: كنت أقرؤهم وكنت أصلي بهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين» (¬4) رواه أبو داود. وهذا الحديث كان الإمام أحمد يضعفه. قال الخطابي: وعلى تقدير صحته لا يصح الاحتجاج به إلا إذا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأقره [عليه. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (20390) 7: 588 الفصل الثاني في الإمامة وما يتعلق بها. وعزاه إلى الديلمي عن علي. (¬3) في ب: ويعلموا. (¬4) سبق تخريجه ص: 301.

ويمكن الجواب عنه بأن الظاهر من حاله أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عليه فأقره] (¬1). والعمل بالظاهر متعين. قال: (ولا تصح إمامة محدِث ولا نجس يعلم ذلك. فإن جهل هو والمأموم حتى قضوا الصلاة صحت صلاة المأموم وحده). أما كون إمامة المحدث والنجس العالمين بحالهما لا تصح؛ فلأن الطهارة من الحدث والنجس شرط لصحة الصلاة فضلاً عن الإمامة وهو مفقود هنا فلم يصح لفوات الشرط. وأما كون المأموم تصح صلاته إذا جهل هو والإمام (¬2) إلى فراغ صلاته؛ فلما روى البراء بن عازب قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم وليس هو على وضوء فتمت للقوم وأعاد النبي صلى الله عليه وسلم» (¬3). وروى البراء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى الإمام بالقوم وهو على غير وضوء أجزأت صلاة القوم ويعيد» (¬4). وأما قول المصنف رحمه الله: وحده؛ ففيه تنبيه على أن صلاة الإمام لا تصح وهو صحيح. صرح به في المغني وغيره. ووجهه ما تقدم من الحديث في قوله: «وأعاد النبي صلى الله عليه وسلم» وفي قوله: «ويعيد». ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) في ب: الإمام. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 400 كتاب الصلاة، باب إمامة الجنب. وأخرجه الدارقطني في سننه (6) 1: 363 كتاب الصلاة، باب صلاة الإمام وهو جنب أو محدث. من رواية جويبر بن سعيد عن الضحاك بن مزاحم عن البراء. وفيه عيسى بن عبدالله وجويبر ضعيفان. وسنده منقطع لأن الضحاك لم يلق البراء. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (7) 1: 363 كتاب الصلاة، باب صلاة الإمام وهو جنب أو محدث.

قال: (ولا تصح إمامة الأمي. وهو: من لا يحسن الفاتحة أو يدغم حرفاً لا يُدْغَم، أو يبدل حرفاً، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى إلا بمثله. فإن قدر على إصلاح ذلك لم تصح صلاته). أما كون إمامة الأمي بالقارئ لا تصح؛ فلأنه عجز عن ركن من أركان الصلاة أشبه إمامة القاعد بالقائم. ولأن القراءة يتحملها الإمام عن المأموم عندنا وعن المسبوق عند المخالف. والأمي ليس أهلاً للتحمل. وأما كون إمامة الأمي بمثله تصح؛ فلأنهما استويا فصح اقتداء أحدهما بالآخر كالمرأة. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو من لا يحسن الفاتحة .. إلى آخره؛ فبيان للأمي شرعاً. وأما في اللغة: فهو الباقي على أصل خلقته. والمراد بمن لا يحسن الفاتحة من لا يحفظها، وبمن يدغم حرفاً لا يُدْغَم من يدغم حرفاً في غير مثله وغير ما يقاربه في المخرج، وبمن يبدل حرفاً بغيره من يبدل مثلاً القاف بالكاف فيقول: اهدنا الصراط المستكيم، وبمن يلحن لحناً يحيل المعنى [مثل أن يكسر الكاف في إياك، ويضم التاء من أنعمت. وفي تقييد اللحن بتغيير المعنى] (¬1) دليل على أنه لو لحن لحناً لا يحيل المعنى لا يكون أمياً. وهو صحيح وصرح به غير المصنف من أصحابنا لأن المعنى المقصود حاصل وإن أساء في العبادة. ومن اللحن الذي لا يحيل المعنى فتح دال {نعبد} ونون {نستعين} [الفاتحة: 5] وهذه المسامحة مختصة بغير التعمد فإن تعمد ذلك لم تصح صلاته لأنه مستهزئ ومتعد (¬2). وأما كون صلاته في نفسه لا تصح إذا قدر على إصلاح الفاتحة؛ فلأنه ترك ركناً مع القدرة على الإتيان فلم تصح صلاته كما لو ترك الركوع والسجود عمداً. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) في ب: ومعتد.

قال: (وتكره إمامة اللحّان والفأفاء الذي يكرر الفاء، والتمتام الذي يكرر التاء، ومن لا يفصح ببعض الحروف. وأن يؤم نساء أجانب لا رجل معهن، أو قوماً أكثرهم له كارهون). أما كون إمامة اللحّان وهو كثير اللحن، والفأفاء وهو من يكرر الفاء، والتمتام وهو من يكرر التاء، ومن لا يفصح ببعض الحروف كالبدوي الذي لا يفصح بالقاف تكره فلأن (¬1) في قراءتهم نقصاً عن حال الكمال بالنسبة إلى من لا يفعل ذلك فكره لتضمنها النقصان. وقول المصنف رحمه الله: تكره؛ مشعر بصحة إمامتهم وهو صحيح؛ لأنهم يأتون بالحروف الواجبة، وإنما تزداد حركة أو فاء أو تاء وذلك غير مؤثر؛ كتكرير الآية. وأما كون الإمام يكره له أن يؤم نساء أجانب لا رجل معهن؛ فلما فيه من الخلوة بالأجنبيات ومخالطة الوسواس. ولو كانت الخلوة بامرأة واحدة حرمت الخلوة بها. وأما كونه يكره له أن يؤم قوماً أكثرهم له كارهون؛ فلما روى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» (¬2) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ولو استوى الكاره والراضي فوجهان للتعارض. ولو كانت الكراهة لأنه صاحب سنة أو نحو ذلك لم يكره؛ لأن الذنب لهم. قال: (ولا بأس بإمامة ولد الزنا والجندي إذا سَلِم دينهما). أما كون ولد الزنا لا بأس بإمامته إذا سَلِم دينه؛ فلما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤمكم أقرؤكم وإن كان ولد زنا» (¬3). و«صلى التابعون خلف زياد بالبصرة» وهو ممن في نسبه نظر. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (360) 2: 193 أبواب الصلاة، باب ما جاء فيمن أم قوماً وهم له كارهون. (¬3) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (20381) 7: 587 الفصل الثاني في الإمامة وما يتعلق بها. وعزاه إلى ابن حزم في كتاب الأعراب، وإلى الديلمي عن ابن عمر.

وأما كون الجندي لا بأس بإمامته إذا سلم دينه؛ فلدخوله في عموم الأدلة الدالة على صحة الإمامة. ولأن كل واحد [من ولد الزنا] (¬1) والجندي حر عدل تقبل روايته فلم تكره الصلاة خلفه قياساً على غيره. قال: (ويصح ائتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها. ويصح ائتمام المفترض بالمتنفل. ومن يصلي الظهر بمن يصلي العصر في إحدى الروايتين. والأخرى لا تصح فيهما). أما كون ائتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها تصح؛ فلأن الاختلاف ليس في (¬2) النية ولا في التعيين ولكن في الوقت وذلك لا تتوقف صحة الصلاة عليه. بدليل صحة صلاة من ظن خروج الوقت فصلى بنية القضاء ثم بان أن الوقت لم يخرج، وصحة صلاة من ظن بقاء الوقت فصلى بنية الأداء فبان أن الوقت قد خرج. قال الخلال (¬3): يصح ائتمام من يؤدي بمن يقضي رواية واحدة لما ذكر. وقال ابن عقيل: فيه روايتان: إحداهما: تصح لما ذكر. والثانية: لا تصح لنقصان القضاء عن الأداء. فصحة الأداء خلفه نقص لرتبته. ولأن صلاة الائتمام لا بد وأن تكون متضمنة لصلاة المأموم، والقضاء لا يتضمن الأداء. ولا بد أن يلحظ في هذه المسألة اتحاد الصلاة كظهر خلف ظهر وعصر خلف عصر؛ لأن صلاة الظهر خلف عصر سيأتي بعد إن شاء الله تعالى. ولأن الغرض هنا بيان أن اختلاف النية في القضاء والأداء لا يؤثر. ولو قدر في المسألة أنها ظهر خلف عصر لكان الكلام في شيئين: أحدهما: اختلاف النية في القضاء والأداء. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) مثل السابق. (¬3) مثل السابق.

وثانيهما: اختلافها في الظهرية والعصرية. وأما كون ائتمام المفترض بالمتنفل يصح في روايةٍ؛ فبالقياس على المسألة المذكورة قبل. وأما كونه لا يصح في روايةٍ وهي الصحيحة في المذهب قاله ابن عقيل؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» (¬1) ظاهره وإطلاقه يقتضي متابعته ظاهراً وباطناً فإذا اختلفت نيتهما (¬2) كان متابعاً من وجه دون وجه. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تختلفوا على أئمتكم» (¬3). ولأن الفرض أكمل من النفل فإذا اقتدى المفترض بالمتنفل فقد أسقط فضيلة الفريضة حيث جعلها تبعاً لما هو دونها. والأولى أصح عند المصنف رحمه الله «لأن معاذاً كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيصلي بقومه تلك الصلاة» (¬4) متفق عليه. والظاهر من حاله أنه لم يكن يترك الأداء خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال فجاز ائتمام المفترض بالمتنفل كالعكس. وأما كون ائتمام من يصلي (¬5) الظهر بمن يصلي العصر يصح في روايةٍ ولا يصح في روايةٍ؛ فلأن الاختلاف في الصفة كالاختلاف في الموصوف فيجب أن تكون الصحة وعدمها كالذي تقدم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 395. (¬2) في ب: بينهما. (¬3) سبق تخريجه ص: 339. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (673) 1: 249 كتاب الجماعة والإمامة، باب من شكا إمامه إذا طول. وأخرجه مسلم في صحيحه (465) 1: 339 كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء. (¬5) ساقط من ب.

فصل في الموقف قال المصنف رحمه الله: (السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام. فإن [وقفوا] (¬1) قدامه لم تصح. وإن وقفوا معه عن يمينه أو عن جانبه صح). أما كون السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام؛ فلأن الصحابة رضي الله عنهم كذا كانوا يقفون خلف النبي صلى الله عليه وسلم. نقله الخلف عن السلف. وأما كونهم إذا وقفوا قُدّامه لا تصح صلاتهم؛ فلأنه ليس موقفاً لأحد من المأمومين بحال. فلم تصح صلاتهم كما لو صلوا في بيوتهم بصلاة الإمام في المسجد. ولأن الإمام متبوع ومقتدى به والمأموم متبع ومن تقدم إمامه ليس بمتبع. وأما كونهم إذا وقفوا عن يمينه أو جانبيه تصح صلاتهم؛ فـ «لأن ابن مسعود رضي الله عنه صلى بين علقمة والأسود إماماً لهما. فلما فرغ قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل» (¬2) رواه أبو داود. قال: (فإن كان واحداً وقف عن يمينه. وإن وقف خلفه أو عن يساره لم يصح. وإن أم امرأة وقفت خلفه). أما كون الواحد يقف عن يمين الإمام؛ فلما روى ابن عباس قال: «بِتُّ عند خالتي ميمونة. فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل. فقمت عن يساره فأخذ بذؤابة رأسي فأدارني عن يمينه» (¬3) متفق عليه. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (613) 1: 166 كتاب الصلاة، باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون. وأخرجه أحمد في مسنده (3927) 1: 414. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (667) 1: 247 كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم، ثم جاء قوم فأمهم. وأخرجه مسلم في صحيحه (763) 1: 528 كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه. وأخرجه أبو داود في سننه (610) 1: 164 كتاب الصلاة، باب الرجلين يؤم أحدهما صاحبه كيف يقومان. وأخرجه الترمذي في جامعه (232) 1: 451 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي ومعه رجل، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي في سننه (806) 2: 87 كتاب الإمامة، موقف الإمام والمأموم صبي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (973) 1: 312 كتاب إقامة الصلاة، باب الاثنان جماعة. وأخرجه أحمد في مسنده (3389) 1: 360.

وأما كون من وقف خلفه لا تصح صلاته؛ فلما روى وابصة بن معبد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد» (¬1) رواه أبو داود. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لفرد خلف الصف» (¬2) رواه الأثرم. قال الإمام أحمد فيهما: هذا حديث حسن. وأما كون من وقف عن يساره لا تصح صلاته؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس وجابراً لما وقفا عن يساره» (¬3). ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته كما لو وقف قدامه. وأما كون من أمّ امرأة تقف خلفه؛ فلقوله عليه السلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (682) 1: 182 كتاب الصلاة، باب الرجل يصلي وحده خلف الصف. وأخرجه الترمذي في جامعه (231) 1: 448 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1004) 1: 321 كتاب إقامة الصلاة، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده. وأخرجه أحمد في مسنده (18032) 4: 228. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1003) 1: 320 كتاب إقامة الصلاة، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده. وأخرجه أحمد في مسنده (16336) 4: 23. (¬3) أما حديث ابن عباس فقد سبق قريباً. وأما حديث جابر فقد أخرجه مسلم في صحيحه (3010) 4: 2305 كتاب الزهد، باب حديث جابر الطويل. وأخرجه أبو داود في سننه (634) 1: 169 كتاب الصلاة، باب إذا كان الثوب ضيقا يتزر به. (¬4) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه موقوفاً على ابن مسعود (5115) 3: 149 كتاب الصلاة، باب شهود النساء الجماعة.

و «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمّ امرأة وأنساً واليتيم فجعل أنساً واليتيم خلفه والمرأة خلفهما» (¬1). وروى أنس: «أنه أمَّهُ وامرأة عجوزاً -هي أمه أو خالته- فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا» (¬2) رواه مسلم. ولأنها ناقصة عن الرجال فناسب ذلك تأخيرها. قال: (فإن اجتمع أنواع: يقدم الرجال. ثم الصبيان. ثم الخناثى. ثم النساء. وكذلك يفعل في تقديمهم إلى الإمام إذا اجتمعت جنائزهم). أما كون الرجال يتقدم على الصبيان؛ فلقوله عليه السلام: «ليليني أولو الأحلام والنهى» (¬3) رواه مسلم. وأما كون الصبيان يتقدم على الخناثى؛ فلفضل الذكورية على الأنوثية والخنثى يحتمل كونه أنثى. وأما كون الخناثى يتقدم على النساء؛ فلاحتمال كون الخنثى ذكراً. وأما كونهم يفعل بهم في تقديمهم إلى الإمام إذا اجتمعت جنائزهم كذلك؛ فلأن الأموات كالأحياء في كثير من الأحكام فكذلك هاهنا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (822) 1: 294 كتاب صفة الصلاة، باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور وحضورهم الجماعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (658) 1: 457 كتاب المساجد، باب جواز الجماعة في النافلة ... وأخرجه أبو داود في سننه (612) 1: 164 كتاب الصلاة، باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون. وأخرجه الترمذي في جامعه (234) 1: 454 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي ومعه الرجال والنساء. وأخرجه النسائي في سننه (801) 2: 85 كتاب الإمامة، إذا كانوا ثلاثة وامرأة. وأخرجه أحمد في مسنده (12529) 3: 149. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (660) 1: 458 كتاب المساجد، باب جواز الجماعة في النافلة ... (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (432) 1: 323 كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها ...

فعلى هذا إذا اجتمع جنائز من أنواع كرجل وصبي وخنثى وامرأة قدم الرجل لأنه يقدم في الحياة فكذلك في الممات. ولأن الرجل أكمل الأنواع لاجتماع الذكورية والتكليف فيه. ثم الصبي: أما على الخنثى فلما ذكر، وأما على المرأة؛ فلأنه إذا قدم على الخنثى المقدم على المرأة؛ فلأن يقدم على المرأة بطريق الأولى. و«لأن سعيد بن العاص صلى على أمِّ كُلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر ابن الخطاب وخلفه ثمانون من الصحابة. وروي: ثلاثون. منهم: ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وقتادة فوضعوا الغلام مما يلي الإمام. وقالوا: هذا السنة» (¬1) رواه النجاد. ورواه النسائي. ولفظه: عن عمار مولى الحارث بن نوفل قال: «شهدت جنازة امرأة وصبي. فقدم الصبي مما يلي القوم. ووضعت المرأة وراءه. فصلي عليهما وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة. فسألتهم. فقالوا: السنة» (¬2). وذلك ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الخرقي: يقدم النساء على الصبيان لأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال في الجنازة: «يوضع الرجال والصبيان بعد النساء». ولأن المرأة مكلفة فهي أكمل من الصبي وإنما قدم الصبي حياً خوف الفتنة. ثم الخنثى لأنه يحتمل أنه ذكر. قال: (ومن لم يقف معه إلا كافر أو امرأة أو محدث يعلم حدثه فهو فَذٌّ. وكذلك الصبي إلا في النافلة). أما كون من لم يقف معه إلا كافر أو محدث يعلم حدثه فذاً؛ فلأن صلاة الكافر والمحدث العالم بحدثه باطلة فوجودها كعدمها. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (1978) 4: 71 كتاب الجنائز، اجتماع جنائز الرجال والنساء. بدون ذكر العدد. وأخرجه الدارقطني في سننه (13) 2: 79 كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (1977) 4: 71 كتاب الجنائز، اجتماع جنازة صبي وامرأة.

فإن قيل: لو لم يعلم المحدث بحدثه كانت صلاته باطلة أيضاً مع أنه يصح أن يكون صفاً. قيل: مقتضاه أنه لا يصح لكنه لما كان في هذه الحالة يصلح أن يكون إماماً عارض ذلك لأنه إذا صلح أن يكون إماماً؛ فلأن يصلح أن يكون صفاً بطريق الأولى. وأما كون من لم يقف معه إلا امرأة فذاً؛ فلأن مصاففتها مبطلة على قولٍ. ولأن موقف الرجل يقدم على موقف المرأة فإذا صاففها خالف موقفه. ولأنها لا تصافف الإمام وكذلك المأموم. وأما كون من لم يقف معه في الفرض إلا صبي فذاً؛ فلأنه لا تصح إمامته فيها أشبه المرأة [في الفرض] (¬1). على أن المنقول عن الإمام أحمد أنه سئل عن وقوف الصبي مع الرجل في الفرض فتوقف عن الجواب. فذُكر له حديث أنس فقال: ذاك في التطوع. لكن الأصحاب اختلفوا فذهب أكثرهم إلى أن الواقف معه يكون فذاً لما تقدم. وقال ابن عقيل: تصح مصاففته في الفرض لأن صحة الإمامة لا تشترط لصحة المصاففة بدليل الفاسق والأمي مع القارئ، وبدليل العبد والمسافر في الجمعة، والمفترض مع المتنفل. وهذا أصح عندي. وصححه جدي في خلاصته وصاحب المستوعب فيه. وقال فيه (¬2): لو اشترط في صحة المصاففة صحة الإمامة لما صحت مصاففة الأخرس ولا أعلم به قائلاً. وأما كون من لم يقف معه في النافلة إلا صبي غير فذ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم صف أنساً واليتيم وراءه» (¬3). واليتيم من لم يحتلم لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يتم بعد احتلام» (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) مثل السابق. (¬3) سبق تخريجه ص: 484. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2873) 3: 115 كتاب الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم.

وعن الإمام أحمد أن الصبي لا يكون صفاً في النافلة قياساً على الفريضة. والحديث يرده. قال: (ومن جاء فوجد فُرجةً وقف فيها. فإن لم يجد وقف عن يمين الإمام. فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه). أما كون من جاء فوجد فُرجة يقف فيها؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلون على الذين يَصِلون الصفوف» (¬1). والفُرجة: بضم الفاء هي الخلل في الصف. وأما كون من لم يجد فرجة يقف عن يمين الإمام؛ فلأنه موقف الواحد. وأما كون من لم يمكنه ذلك له أن ينبه من يقوم معه فلما في ذلك من حصول من يقف معه. ومفهوم كلام المصنف رحمه الله: أنه ليس له أن يُحدث من يجذب إليه. وصرح به أبو الخطاب. وقال ابن عقيل: جوز أصحابنا جذبه. والأول أصح؛ لما فيه من التصرف في الغير بغير إذنه. قال المصنف في المغني: ولأصحابنا أن يقولوا ليس في جذبه برفق تصرف وإنما هو تنبيه إن خرج وإلا لم يكره. ومثل هذا يسامح فيه أشبه السجود على ظهر الرجل في الزحام. قال: (فإن صلى فذاً ركعة لم تصح. وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل رفع الإمام صحت صلاته. وإن رفع ولم يسجد صحت. وقيل إن علم النهي لم تصح، وإن فعله لغير عذر لم تصح). أما كون من صلى ركعة كاملة فذاً لا تصح صلاته؛ فلما تقدم من حديث وابصة بن معبد (¬2). ومن قوله: «لا صلاة لفرد خلف الصف» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (24631) 6: 89. عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) ر. ص: 483. (¬3) سبق تخريجه ص: 483.

ولأن الركعة في حكم الصلاة في الوتر والحنث في اليمين. ولأن المصلي لها يكون مدركاً للجمعة وزمانها يطول بخلاف ما إذا صلى فذاً بعض ركعة. وأما كون من ركع فذاً ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل رفع الإمام تصح صلاته؛ فلأنه أدرك في الصف ما تُدرك به الركعة. وأما كون من فعل ذلك غير عالم بالنهي وقد رفع الإمام ولم يسجد تصح صلاته؛ فلأنه لم يصل معظم الركعة فذاً أشبه ما لو أدرك الركوع. وأما كون من فعل ذلك عالماً بالنهي تصح صلاته على المذهب؛ فلما ذكر في غير العالم به. وأما كونها لا تصح على قول؛ فلأنه إذا علم النهي فقد ارتكب المنهي عنه عمداً وفاعل ذلك لا يعذر والنهي يقتضي الفساد فلزم بطلان صلاته عملاً بالمقتضي السالم عن معارضة العذر. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أن النهي مختص بما لو دخل في الصف بعد رفع الإمام رأسه. وظاهر كلام صاحب (¬1) النهاية فيها أن النهي يعود إلى من ركع دون الصف ثم دخل الصف قبل رفع الإمام أو قبل سجوده. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «أيكم ركع دون الصف ثم مشى» (¬2) إشارة إلى التعليل بذلك فيعم. فإن قيل: النهي إلى ماذا يعود؟ قيل: على القول بالصحة يكون عائداً إلى التأخير، وعلى القول بالفساد يكون عائداً إلى مثل (¬3) فعل أبي بكرة من ركوعه قبل الصف ومشيته إليه. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (684) 1: 182 كتاب الصلاة، باب الرجل يركع دون الصف. (¬3) زيادة من ج.

وفي قوله: إن علم إشعار بأن الصلاة تصح مع الجهل وهو صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أبا بكرة بالإعادة. وعن أحمد: لا تصح مع الجهل لأنه ركع فذاً فلم تصح كما لو لم يدخل في الصف. وأما كون من ركع دون الصف ثم دخله لغير عذر مثل أن يكون غير خائف فوات الركعة أو عالماً بإطالة الإمام ونحو ذلك لا تصح صلاته؛ فلأن الرخصة وردت في المعذور فلا يلحق به غيره. وقيل: حكمه حكم من خاف الفوات لأن الموقف لا يختلف بخيفة الفوات وعدمه. قال: (وإذا كان المأموم يرى مَن وراء الإمام صحت صلاته إذا اتصلت الصفوف. فإن لم ير من وراءه لم تصح. وعنه تصح إذا كانا في المسجد). أما كون المأموم إذا كان يرى مَن وراء الإمام تصح صلاته إذا اتصلت الصفوف؛ فلانتفاء عدم الرؤية وعدم الاتصال المفسدَين. ولأن المأموم إذا كان شأنه ما ذكر أمكنه الاقتداء بإمامه من غير خلل فوجب أن تصح صلاته كمن صلى في الصف الأول. ولا بد أن يلحظ أن اتصال الصفوف فيمن صلى معه في المسجد غير معتبر. ذكره المصنف في المغني وغيره من الأصحاب. قال أبو الحسن الآمدي: لا خلاف في المذهب أنه لا يعتبر اتصال الصفوف في المسجد. وكلام المصنف رحمه الله مشعر باشتراطه فيجب حمله على ما إذا صلى بصلاة الإمام خارج المسجد. وإنما لم يعتبر الاتصال في المسجد؛ لأن المصلين فيه مع الاقتداء يُعدّون مجتمعين في البعد والقرب.

وإنما اعتبر الاتصال في خارج المسجد؛ لأن المكان ليس معداً للاجتماع فاشترط الاتصال ليحصل ذلك. والاتصال مقدر بالعرف؛ لأنه لا توقيف فيه، وهو تارة يكون بين المأموم وبين إمامه وتارة بينه وبين من ورائه. وأما كون من لم ير من وراء الإمام وهو متصل مع إمامه في المسجد لا تصح صلاته على روايةٍ فلقول عائشة رضي الله عنها لنساءٍ كُنّ في حجرتها: «لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن دونه في حجاب» فعللت النهي بالحجاب وهو موجود هنا. ولأن المتابعة في الأفعال لا تمكن بمجرد التكبير لأنه قد يسهو ويسجد للتلاوة. ولأن الرؤية معتبرة فيمن صلى خارج المسجد وفاقاً على الأصح فليكن هاهنا كذلك بالقياس عليه. وأما كونها تصح على روايةٍ إذا سمع التكبير؛ فلأن المسجد موضع الجماعة فلا تضر عدم الرؤية مع سماع التكبير كمن صلى عن يمين المنبر. والسهو وسجود التلاوة الأصل عدمهما. فإن قيل: ليس في كلام المصنف رحمه الله اشتراط سماع التكبير. قيل: اشترطه في المغني. ولا بد منه لأنه إذا انتفت الرؤية والسماع لم تمكن المتابعة. فإن قيل: الصحيح من الروايتين ماذا؟ قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا وفي المغني الأول. وصرح صاحب النهاية في خلاصته بذلك. وقال ابن عقيل: الأصح الصحة لما تقدم. وأما كون من لم ير مَن وراء الإمام لا تصح صلاته إذا كان خارج المسجد والإمام فيه؛ فلما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم. قال صاحب النهاية فيها: يشترط مشاهدة من وراء الإمام في حق من صلى خارج المسجد بغير خلاف في المذهب نعلمه. ومراده الفرض لأن النفل اختلفت الرواية فيه لأنه سومح فيه ما لم يسامح في غيره. قال القاضي أبو يعلى: الصحيح عندي المنع.

ونُقل عنه فيمن صلى الجمعة خارج المسجد وأبوابه مغلقة قال: أرجو أن لا يكون به بأس. فعلى هذا لا يعتبر في الجمعة مع عدم القدرة عليها لإفضاء الترك إلى تعطيلها بخلاف بقية الصلوات. قال: (ولا يكون الإمام أعلى من المأموم. فإن فعل وكان كثيراً فهل تصح صلاته؟ على وجهين). أما كون الإمام لا يكون في وقوفه أعلى من المأموم فلما روي «أن عمار ابن ياسر رضي الله عنه كان بالمدائن. فأقيمت الصلاة. فتقدم عمار رضي الله عنه فقام على دكان، والناس أسفل منه (¬1). فتقدم حذيفة وأخذ بيده واتبعه عمار حتى أنزله. فلما فرغ من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أمّ الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم؟ قال عمار: فلذلك اتبعتك حين أخذت على يديّ» (¬2) رواه أبو داود. وأما كونه إذا فعل ذلك وكان كثيراً تصح صلاته على وجهٍ؛ فلأن عماراً بنى على صلاته. وأما كونها لا تصح على وجهٍ؛ فلأنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد. قال ابن عقيل: أصح الوجهين البطلان. واشترط المصنف رحمه الله الكثرة في العلو لأن العلو اليسير لا بأس به لأنه لا يحتاج فيه إلى رفع بصره المنهي عنه. والكثير مقدار قامة المأموم. قاله صاحب النهاية فيها. ووجهه أنه حينئذ يحتاج إلى الرفع المنهي عنه. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (598) 1: 163 كتاب الصلاة، باب الإمام يقوم مكاناً أرفع من مكان القوم.

قال: (ويكره للإمام أن يصلي في طاق القبلة، أو أن يتطوع في موضع المكتوبة إلا من حاجة. ويكره للمأمومين الوقوف بين السواري إذا قطعت صفوفهم). أما كون الإمام يُكره له أن يصلي في طاق القبلة من غير حاجة؛ فلأنه يمنع من يقف عن يمينه ويساره مشاهدته والاقتداء به. وأما كونه يكره له أن يتطوع في موضع المكتوبة من غير حاجة؛ فلما روى المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول» (¬1) رواه أبو داود. وفي لفظ: «لا يتطوع الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة بالناس حتى يتحول» (¬2). ولأن في تحويله من مكانه إعلاماً لمن أتى المسجد أنه قد صلى ولا يَنتظر ويطلب جماعة أخرى. وأما كونه لا يكره له ذلك في المسألتين مع الحاجة؛ فلأن الحاجة قد تبيح المحظور؛ فلأن تزيل المكروه بطريق الأولى. ومثال الحاجة في الأولى: أن يكون المسجد ضيقاً. وفي الثانية: أن لا يجد له موضعاً يتحول إليه. وأما كون المأمومين يكره لهم الوقوف بين السواري إذا قطعت صفوفهم؛ فلما روى معاوية بن قرة عن أبيه قال: «كنا نُنهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونُطرد عنها طرداً» (¬3) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (616) 1: 167 كتاب الصلاة، باب الإمام يتطوع في مكانه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1428) 1: 459 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة النافلة حيث تصلي المكتوبة، نحوه. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 189 كتاب الصلاة، باب الإمام يتحول عن مكانه إذا أراد أن يتطوع في المسجد، ولفظه: «أيعجز أحدكم إذا صلى فأراد أن يتطوع أن يتقدم أو يتأخر أو يتحول عن يمينه أو عن يساره». (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (1002) 1: 320 كتاب إقامة الصلاة، باب الصلاة بين السواري في الصف.

وقول المصنف رحمه الله: إذا قطعت صفوفهم؛ تنبيه على اشتراط ذلك في الكراهة؛ لأن الكراهة إنما كانت من أجل القطع. فلم يكن بد من اشتراطه. وشرط بعض أصحابنا: أن يكون عرض السارية ثلاثة أذرع؛ لأن ذلك هو الذي يقطع الصف دون غيره. ولو كان الصف صغيراً قدر ما بين الساريتين لم يكره؛ لأن الصف لا ينقطع بذلك. قال: (ويكره للإمام إطالة القعود بعد الصلاة مستقبل القبلة. فإن كان معه نساء لبث قليلاً لينصرف النساء. وإذا صلت امرأة بنساء قامت وسطهن في الصف). أما كون الإمام يكره له إطالة القعود على الصفة التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ فلأن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم! أنت السلام ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام» (¬1) رواه مسلم وابن ماجة. ولأنه إذا بقي على حاله ربما سها فظن أنه لم يسلم أو ظن غيره أنه في الصلاة. وأما كونه يلبث قليلاً إذا كان معه نساء لينصرفن؛ فلقول أم سلمة: «أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سَلَّمن من المكتوبة قُمْنَ، وثَبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء (¬2) الله، فإذا قام رسول الله قام الرجال. قال الزهري: فنرى أن ذلك لكي يتقدم من ينصرف من النساء» (¬3). رواه البخاري. ولأن الإخلال بذلك يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (592) 1: 414 كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته. وأخرجه ابن ماجة في سننه (924) 1: 298 كتاب إقامة الصلاة، باب ما يقال بعد التسليم. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (802) 1: 287 كتاب صفة الصلاة، باب التسليم. وفي (812) 1: 290 باب مكث الإمام في مصلاه بعد السلام.

وأما كون المرأة تقوم وسط المأمومات إذا صلت بهن؛ فلأن ذلك يروى عن عائشة (¬1) وأم سلمة رضي الله عنهما (¬2). ولأن وقوفها وسطهن أستر لها أشبه إمام العراة. وفي قوله: إذا صلت امرأة بنساء إشعار بأن النساء يصلين جماعة. وقد صرح باستحباب ذلك المصنف وغيره؛ لما تقدم من حديث أم ورقة (¬3)، ولفعل عائشة، وأم سلمة. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (2) 1: 404 كتاب الصلاة، باب صلاة النساء جماعة وموقف إمامهن. ولفظه: «أمتنا عائشة فقامت بينهن في الصلاة المكتوبة». وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 131 كتاب الصلاة، باب المرأة تؤم النساء فتقوم وسطهن. بنحوه. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (5086) 3: 141 كتاب الصلاة، باب المرأة تؤم النساء. بنحوه. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (3) 1: 405 كتاب الصلاة، باب صلاة النساء جماعة وموقف إمامهن. ولفظه: «أمتنا أم سلمة في صلاة العصر فقامت بيننا». وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 131 كتاب الصلاة، باب المرأة تؤم النساء فتقوم وسطهن. بنحوه. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (5082) 3: 140 كتاب الصلاة، باب المرأة تؤم النساء. بنحوه. (¬3) حديث أم ورقة سبق ذكره ص: 475.

فصل [في أعذار ترك الجمعة والجماعة] قال المصنف: (ويعذر في ترك (¬1) الجمعة والجماعة المريض (¬2)، ومن يدافع أحد الأخبثين، أو بحضرة طعام (¬3) هو محتاج إليه، والخائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه أو موت قريبه، أو على نفسه من ضرر أو سلطان أو ملازمة غريم ولا شيء معه، أو من فوات رفقته أو غلبة النعاس، أو الأذى بالمطر والوحل والريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة). أما كون المريض يعذر في ترك الجمعة والجماعة؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مرض تخلف عن المسجد» (¬4). وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر. قالوا: وما العذر؟ يا رسول الله! قال: خوف أو مرض. لم تقبل منه الصلاة التي صلى» (¬5) رواه أبو داود. وأما كون من يدافع الأخبثين أو بحضرة طعام هو محتاج إليه يعذر في ذلك فلما روت عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يصلي أحدكم بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين» (¬6) متفق عليه. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) مثل السابق. (¬3) مثل السابق. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (648) 1: 240 كتاب الجماعة والإمامة، باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة. (¬5) سبق تخريجه ص: 451. (¬6) سبق تخريجه ص: 380 عند مسلم، ولم أجده في البخاري.

وأما كون من يدافع أحدهما يعذر في ذلك؛ فلأنه إنما نهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين، لما في ذلك من ذهاب الخشوع وهو موجود في مدافعة أحدهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يصلي أحدكم وهو زناء» (¬1). أي حاقن. والأخبثان: البول والغائط. وأما كون الخائف من ضياع ماله أو فواته أو ضررٍ فيه أو موت قريبه، أو على نفسه من ضرر أو سلطان أو ملازمة غريم ولا شيء معه، أو من فوات رفقته أو غلبة نعاس يُعذر في ذلك؛ فلما تقدم من قوله: «وما العذر يا رسول الله! قال: خوف أو مرض». ولأن المشقة اللاحقة بذلك أكثر من بَلّ الثياب بالمطر الذي هو عذر بالاتفاق. وأما كون الخائف من الأذى بالمطر أو الوحل يُعذر؛ فلما روي عن ابن عباس «أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت (¬2): أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل حي على الصلاة. وقل: صلوا في بيوتكم. فعل ذلك من هو خير مني إن الجمعة عَزْمَة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحَضِ» (¬3) متفق عليه. وروى ابن عمر رضي الله عنه قال (¬4): «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة المطيرة: صلوا في رحالكم» (¬5) رواه ابن ماجة. وأما كون الخائف من الأذى بالريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة يعذر؛ فلما روى ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر منادياً فيؤذن. ثم يقول على إثر ذلك: ألا إن الصلاة في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة» (¬6) رواه ابن ماجة. وإسناده صحيح. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 380. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (859) 1: 306 كتاب الجمعة، باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر. وأخرجه مسلم في صحيحه (699) 1: 485 كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال في المطر. (¬4) ساقط من ب. (¬5) أخرجه ابن ماجة في سننه (938) 1: 302 كتاب إقامة الصلاة، باب الجماعة في الليلة المطيرة. (¬6) أخرجه ابن ماجة في الموضع السابق (937).

ورواه البخاري ومسلم إلا أن فيه: «في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر» (¬1). والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (606) 1: 227 كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر ... وأخرجه مسلم في صحيحه (697) 1: 484 كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال في المطر.

باب صلاة أهل الأعذار

باب صلاة أهل الأعذار قال المصنف رحمه الله: (ويصلي المريض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صل قائماً. فإن لم تستطع فقاعداً. فإن لم تستطع فعلى جنب» (¬1). فإن صلى على ظهره ورجلاه إلى القبلة صحت صلاته على أحد الوجهين. ويومئ بالركوع والسجود. ويجعل سجوده أخفض من ركوعه. فإن عجز عنه أومأ بطرفه. ولا تسقط الصلاة). أما كون المريض يصلي قائماً إذا استطاع ذلك، وقاعداً إذا لم يستطع، وعلى جنب إذا لم يستطع الصلاة قاعداً؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين ... الحديث. رواه البخاري. ولما روى أنس قال: «سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرس فخُدش أو فجُحش شقه الأيمن. فدخلنا عليه نعوده. فحضرت الصلاة. فصلى قاعداً وصلينا خلفه قعوداً» (¬2) رواه البخاري. فإن قيل: ما المرض الذي يبيح الصلاة قاعداً أو على جنب؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1066) 1: 376 أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب. وأخرجه أبو داود في سننه (952) 1: 250 كتاب الصلاة، باب في صلاة القاعد. وأخرجه الترمذي في جامعه (372) 2: 208 أبواب الصلاة، باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1223) 1: 386 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة المريض. وأخرجه أحمد في مسنده (19730) 4: 426. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1063) 1: 375 أبواب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد.

قيل: هو الذي يزيد المريض أو يبطئ برؤه؛ لأن في إيجاب الصلاة قائماً أو قاعداً مع أحدهما مشقة وحرجاً وهو منتف بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. فعلى هذا لو صلى قاعداً مع القدرة على القيام الذي لا يزيد في مرضه ولا يبطئ برؤه، أو على جنب مع أن القعود كذلك لم تصح صلاته لأنه ترك الركن مع القدرة عليه أشبه من ليس بمريض أصلاً. وأما كون من صلى على ظهره ورجلاه إلى القبلة مع القدرة على الصلاة على جنب تصح صلاته في وجه؛ فلأنه يروى: «فإن لم تستطع فقاعداً. فإن لم تستطع فعلى ظهر» (¬1). ولأنه نوع استقبال أشبه ما إذا صلى على جنب. وأما كونها لا تصح في وجه؛ فلأن في بعض الروايات: «فإن لم تستطع فصل مستلقياً» (¬2). وأما كون المريض يومئ بالركوع والسجود إذا عجز عنها؛ فلأن ذلك بعض الواجب عليه فيدخل في قوله: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬3). وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن لم يستطع السجود أومأ» (¬4). وأما كونه يجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ فلأن تكملة الحديث المذكور: «وجعل السجود أخفض من الركوع» (¬5). ولأن صلاة الصحيح كذلك. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه من حديث علي رضي الله عنه، وليس فيه: «فإن لم تستطع فعلى ظهر». (¬2) عزاها ابن حجر في تلخيص الحبير إلى النسائي، ولم نجدها في السنن الكبرى والصغرى للنسائي. ر تخليص الحبير 1: 407. (¬3) سبق تخريجه ص: 354. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 42 كتاب الوتر، باب صلاة المريض ومن رعف في صلاته كيف يستخلف. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 307 كتاب الصلاة، باب ما روي في كيفية الصلاة على الجنب ... (¬5) هو جزء من الحديث السابق.

وليتميز السجود من الركوع. وأما كون من عجز عن الإيماء بالركوع والسجود برأسه يومئ بطرفه؛ فلأن تكملة الحديث المذكور: «فإن لم يستطع أومأ بطرفه» (¬1). ولأنه قادر على الإيماء بذلك فلزمه الإتيان به كما لو قدر على الإيماء برأسه. وأما كون الصلاة لا تسقط إذا بلغ الحالة المذكورة فلما ذكر في حديث علي. ولأنه قادر على الإتيان بالصلاة على حسب حاله فلم تسقط عنه الصلاة كالقادر على الإيماء برأسه. قال: (فإن قدر على القيام والقعود في أثنائها انتقل إليه وأتمها. ومن قدر على القيام (¬2) وعجز عن الركوع والسجود أومأ بالركوع قائماً والسجود قاعداً). أما كون المصلي قاعداً لمرض ينتقل إلى القيام إذا قدر عليه [في أثناء صلاته؛ فلأن المبيح العجز وقد زال. وأما انتقال المصلي على جَنْبٍ إذا قدر عليه] (¬3)؛ فلأن القعود مع الجَنْب كالقيام مع القعود. وأما كونه يتم الصلاة في الحالين من غير ابتدائها؛ فلأن ما صلى كان العذر (¬4) موجوداً معه وما بقي قد أتى فيه بالواجب فيه. وأما كون من قدر على القيام والقعود وعجز عن الركوع والسجود يومئ بالركوع قائماً والسجود قاعداً؛ فلأن الركوع ينتقل إليه من القيام، والسجود من القعود فتعين أن يومئ بكل واحد منهما من المكان الذي ينتقل منه إليه. قال: (وإذا قال ثقاتٌ من العلماء بالطب للمريض إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك فله ذلك). أما كون المريض له أن يصلي مستلقياً إذا قيل له ذلك؛ فلأن في ذلك وسيلة عافيته وهي مطلوبة شرعاً. ¬

_ (¬1) سبق تخريج حديث علي ولم أقف على هذه التكملة. (¬2) في ب: القيام والقعود. (¬3) ساقط من ب. (¬4) مثل السابق.

وأما قول المصنف رحمه الله: وإذا قال ثقات؛ فظاهره أنه يشترط في ذلك قول ثلاثة لأنه جمع وأقله ثلاثة. وليس بمراد لأن قول الاثنين كاف في ذلك. صرح بذلك المصنف رحمه الله وغيره. وهو صحيح لأن قول الاثنين كاف في كثير من المواضع فكذلك هاهنا. وإنما اشترط المصنف رحمه الله الثقة في ذلك؛ لأنه أمر ديني فاشترط له ذلك كغيره. قال: (ولا تجوز الصلاة في السفينة قاعداً لقادر على القيام). أما كون الصلاة في السفينة لا تجوز قاعداً لقادر على القيام؛ فلأنه قادر على ركن الصلاة فلم يجز له تركه كما لو لم يكن في السفينة. وأما كونها تجوز له إذا لم يقدر على القيام لقصر سقفها وما أشبه ذلك؛ فلأجل العذر. وكذا الخائف الذي لا يمكنه القيام لخوفه. فإن قيل: لو قدر في السفينة على انتصاب يخرج به عن حد الراكع؟ قيل: يلزمه لأن حكمه حكم القيام فيكون واجباً. والخائف ملحق به. قال: (وتجوز صلاة الفرض على الراحلة خشية التأذي بالوحل. وهل يجوز ذلك للمريض؟ على روايتين). أما كون صلاة الفرض على الراحلة خشية التأذي بالوحل يجوز؛ فلأن يعلى ابن أمية روى عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ظهور دوابهم يُومؤون. يجعلون السجود أخفض من الركوع» (¬1) رواه الأثرم والترمذي. وأما كونها تجوز للمريض على روايةٍ؛ فلأن مشقة النزول في المرض أكثر من مشقة المطر. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (411) 2: 266 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر. وأخرجه أحمد في مسنده (17609) 4: 174.

وأما كونها لا تجوز على روايةٍ؛ فـ «لأن ابن عمر رضي الله عنه كان يُنزل مرضاه» (¬1). ولأن الصلاة على الأرض أمكنُ له بخلاف خاشي الوحل. ولو خاف المريض بالنزول ضرراً غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة ونحوه فله الصلاة عليها رواية واحدة؛ لأنه خائف على نفسه أشبه الخائف من عدو. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 7 جماع أبواب استقبال القبلة، باب النزول للمكتوبة.

فصل في قصر الصلاة قال المصنف رحمه الله: (ومن سافر سفراً مباحاً يبلغ ستة عشر فرسخاً فله قصر الرباعية خاصة إلى ركعتين. إذا فارق بيوت قريته أو خيام قومه. وهو أفضل من الإتمام. وإن أتم جاز). أما كون المسافر له القصر في الجملة؛ فلقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يَفتنكم الذين كفروا} [النساء: 101]. فإن قيل: القصر جائز مع الأمن والخوف. والآية تدل على جوازه مع الخوف فقط؟ قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أنه إنما علق القصر على الخوف لفظاً لأن غالب أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الغزو فخرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط. ومنه قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} [البقرة: 283] علق الرهن على السفر وهو جائز في الحضر؛ لأن عدم وجدان الكاتب في السفر أغلب بخلاف الحضر. وثانيهما: أن قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] كلام تام و {إن خفتم} [النساء: 101] كلام مبتدأ؛ لما روى أبو أيوب قال: «نزل: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] هذا القدر. ثم بعد حَوْل سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء: 101]» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير الطبري بطوله في تفسيره عن أبي أيوب عن علي قال: «سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبينا، وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك -إلى قوله-: إن الله أعد للكافرين عذاباً مهينا} فنزلت صلاة الخوف» 9: 126.

ويؤيد جواز القصر في الأمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في الأمن، وأنه روي «أن يعلى بن أمية قال لعمر رضي الله عنه: ما بالنا نقصر وقد أمن الناس؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته» (¬1) رواه مسلم. وأما كونه يشترط أن يكون سفره مباحاً؛ فلأن الترخص ثبت للمسافر إعانة له وتيسيراً. ولا يرد الشرع بذلك في حق من سفره معصية. فإن قيل: لو كان سفره واجباً؟ قيل: هو كالمباح. وإنما اقتصر المصنف رحمه الله على قوله: مباحاً؛ لأن الواجب يسمى مباحاً على قولٍ. أو لأنه إذا جاز في المباح ففي الواجب أولى. والسفر الواجب: كالحج والجهاد ونحوهما. ويُلحق بهذا النوع سفر الطاعة كزيارة الوالدين وذي القرابة من نسب أو رحم، وزيارة الإخوان في الله تعالى، والسفر لطلب العلم، وزيارة المساجد الثلاثة ونحو ذلك؛ لأن جميع ما ذُكر مطلوب شرعاً فجاز القصر فيه؛ لدخوله في عموم الآية. وقياساً على السفر الواجب. والسفر المباح: كالسفر للتجارة والكد على العيال فيه. وسفر المعصية: كسفر الآبق وقاطع الطريق والهارب من دَينٍ عليه وهو موسر ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (686) 1: 479 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافر وقصرها.

والسفر المكروه: كزيارة القبور والمشاهد. ملحق بسفر المعصية لأنه منهي عنه. وأما كونه يشترط أن يكون مسافة ما يقصده لسفره يبلغ ستة عشر فرسخاً؛ فلما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أهل مكة! لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان» (¬1) رواه الدارقطني. فإن قيل: هذا الحديث في رواته إسماعيل بن عياش وهو ضعيف. قال أحمد ويحيى: ليس بشيء. وقال الثوري: هو كذاب. وقد روي أيضاً موقوفاً على ابن عباس. قيل: أحمد مع تضعيفه احتج به وبنى مذهبه عليه. فدل ذلك على أنه صح من طريق أخرى. وأما روايته موقوفاً على ابن عباس فالراوي يسند تارة ويطلق أخرى. فإطلاقه لا يعارض إسناده. فإن قيل: ما الفرسخ؟ قيل: ثلاثة أميال. والميل ألفا خطوة بخطوة البعير، أو اثنا عشر ألف قدم. وذلك مسيرة يومين تقريباً. وأما كونه يشترط أن تكون الصلاة رباعية؛ فلأن الصبح ركعتان فلو قصرت بقيت ركعة ولا نظير لذلك في الفرض، والمغرب وتر النهار فلو قصر منها ركعة لم تبق وتراً. وأما كونه يشترط أن يفارق بيوت قريته إن كان في البنيان أو خيام قومه إن كان في الخيام؛ فلأن الله تعالى جوز القصر لمن ضرب في الأرض وقبل مفارقة ما ذكر لا يسمى ضارباً. ولأن ذلك أحد طرفي السفر فلم يجز له القصر فيه كحالة (¬2) الانتهاء. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 1: 387 كتاب الصلاة، باب قدر المسافة التي تقصر في مثلها صلاة وقدر المدة. (¬2) ساقط من ب.

وأما كون القصر أفضل من الإتمام؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على القصر ولم ينقل عنه الإتمام. قال ابن عمر: «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل. وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل. وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل» (¬1). وأما كون الإتمام يجوز فلما روت عائشة قالت: «يا رسول الله! بأبي أنت وأمي قصرتُ وأتممتُ وأفطرتُ وصمتُ قال: أحسنتِ» (¬2) رواه مسلم. قال: (فإن أحرم في الحضر ثم سافر أو في السفر ثم أقام، أو ذكر صلاة حضر في سفر أو صلاة سفر في حضر، أو ائتم بمقيم أو بمن يشك فيه، أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها، أو لم ينو القصر لزمه أن يتم. وقال أبو بكر: لا يحتاج القصر والجمع إلى نية). أما كون من أحرم في الحضر ثم سافر أو في السفر ثم أقام يلزمه أن يتم؛ فلأنها عبادة اجتمع لها حكم الحضر والسفر فغلب حكم الإتمام كالمسح. ولأن المبتدئ بالصلاة في الحضر لم ينو القصر بل نوى الإتمام فهو متعين بحكم النية. وتُتصور المسألة فيما إذا كان في سفينة واقفة فتجري أو جارية فتقف. وأما كون من ذكر صلاة حضر في سفر يلزمه أن يتم؛ فلأنها وجبت أربعاً وتعين عليه فعلها أربعاً فلم يجز النقصان من عددها مع القدرة كما لو لم يسافر. وأما كون من ذكر صلاة سفر في حضر يلزمه أن يتم؛ فلأن القصر إنما جاز لمشقة السفر فإذا ذكر في الحضر زالت المشقة فيلزمه أن يتم لزوال المقتضي للقصر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1051) 1: 372 أبواب تقصير الصلاة، باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها. وأخرجه مسلم في صحيحه (689) 1: 480 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافر وقصرها. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (1456) 3: 122 كتاب تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة. ولم أره في مسلم.

وأما كون من ائتم بمقيم يلزمه أن يتم؛ فلقوله عليه السلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به ... الحديث» (¬1). وقال ابن عباس: «إن صلينا معكم صلينا أربعاً. وإن صلينا في بيوتنا صلينا ركعتين. ذلك من سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (¬2») (¬3). وأما كون من ائتم بمن يشك في إقامته وسفره يلزمه أن يتم؛ فلأنه شك في سبب الرخصة. والأصل الإتمام فلزمه. وأما كون من أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت مثل أن يقتدي بمقيم فيحدث يلزمه أن يتم؛ فلأنه لزمه الإتمام بالشروع في الأولى لائتمامه بمقيم فإذا فسدت وجب عليه قضاء مثل ما وجب عليه. وأما كون من لم ينو القصر يلزمه أن يتم على المذهب؛ فلأن الإتمام هو الأصل فلا ينصرف إلى القصر إلا بنية. بيان أن الإتمام هو الأصل قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101]. ولأن القصر لو كان هو الأصل لما جاز الإتمام. ولأن القصر حال من أحوال الصلاة فافتقر إلى نية كالإمامة. وأما كون القصر والجمع لا يحتاج إلى نية على قول أبي بكر؛ فلأنه مخير قبل الدخول في الصلاة فكذلك بعده عملاً بالاستصحاب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 395. (¬2) زيادة من ج. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (688) 1: 479 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافر وقصرها. بلفظ: عن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس: «كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين. سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم». وأخرجه أحمد في مسنده (1862) 1: 216. بلفظ: عن موسى بن سلمة قال: «كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا. وإن رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين. قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم».

قال: (ومن له طريقان بعيد وقريب فسلك البعيد. أو ذكر صلاة سفر في آخر فله القصر). أما كون من له طريقان بعيد وقريب فسلك البعيد (¬1) له القصر؛ فلأن المسافة بعيدة. وقال بعض أصحابنا: إن سلك البعيد لغرض صحيح كأمنه وسلامته (¬2) أو سهولته أو كثرة مائه له القصر؛ لأن ذلك مطلوب والمسافة طويلة فكان له القصر كما لو لم يكن له إلا طريق واحد. وإن سلكه لا لغرض صحيح ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك كسلوكه طريقاً له فيه غرض صحيح. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه ليس له إرب صحيح في التزام زيادة المسافة. أشبه ما لو مشى يمنة ويسرة حتى بلغ المسافة المعتبرة. وأما كون من ذكر صلاة سفر في آخر له القصر؛ فلأنها وجبت في السفر وقضيت فيه. أشبه ما لو صلاها في وقتها. قال: (وإذا نوى الإقامة في بلد (¬3) أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر. وإن أقام لقضاء حاجة أو حبس أو لم ينو الإقامة قصر أبداً). أما كون من نوى الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة يتم؛ فلأن القصر إنما جاز للمسافر عملاً بظاهر الآية. فمتى نوى (¬4) الإقامة خرج عن كونه مسافراً فيجب الإتمام. ترك العمل به فيما عدا من نوى إقامة إحدى وعشرين صلاة [فما دون ذلك لما يأتي فيبقى فيما عداه على مقتضاه. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) زيادة من ج. (¬3) في ب: البلد. (¬4) ساقط من ب.

وأما جواز القصر لمن نوى إقامة إحدى وعشرين صلاة] (¬1) يقصر؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن وكان يقصر الصلاة» (¬2). وعن الإمام أحمد يتم إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً» (¬3) رواه أبو داود. فإذا أقام أكثر من أربعة فقد زاد على حد القِلّة فيتم. قال ابن عقيل: هذه الرواية هي المذهب. قال غيره: والأولى هي المشهورة. وهو اختيار الخرقي. فإن قيل: لم قال المصنف فإذا نوى الإقامة في بلد؟ ¬

_ (¬1) مثل السابق. (¬2) قال الحافظ ابن حجر: لم أر هذا في رواية مصرحة بذلك، وإنما هذا مأخوذ من الاستقراء: ففي الصحيحين عن جابر «قدمنا صبح رابعة»، وفي الصحيحين: «أن الوقفة كانت الجمعة»، وإذا كان الرابع يوم الأحد، كان التاسع يوم الجمعة بلا شك، فثبت أن الخروج كان يوم الخميس، وأما القصر فرواه أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة» متفق عليه. ر تلخيص الحبير 2: 93 - 94. قلت: أما حديث جابر فقد أخرجه البخاري في صحيحه (1035) 1: 368 كتاب تقصير الصلاة، باب: كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته؟ . وأخرجه مسلم في صحيحه (1240) كتاب الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج. وأما حديث أنس فقد أخرجه البخاري في صحيحه (1031) 1: 367 كتاب تقصير الصلاة، باب: ما جاء في التقصير ... وأخرجه مسلم في صحيحه (693) 1: 481 كتاب صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (3718) 3: 1431 كتاب فضائل الصحابة، باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه. بلفظ: «ثلاث للمهاجر بعد الصدر». وأخرجه مسلم في صحيحه (1352) 2: 985 كتاب الحج، باب جواز الإقامة بمكة للمهاجر ... واللفظ له. وأخرجه أبو داود في سننه (2022) 2: 213 كتاب المناسك، باب الإقامة بمكة. بلفظ: «للمهاجرين إقامة بعد الصدر ثلاثاً». وأخرجه الترمذي في جامعه (949) 3: 284 كتاب الحج، باب ما جاء أن يمكث المهاجر بمكة بعد الصدر ثلاثاً. وأخرجه النسائي في سننه (1455) 3: 122 كتاب تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة. كلهم عن العلاء الحضرمي.

قيل: لأنه إذا نوى الإقامة بموضع تتعذر فيه الإقامة كالبرية ففيه وجهان: أحدهما: يقصر لأنه لا يمكنه الوفاء بهذه النية فلغت وبقي حكم السفر الأول مستداماً. والثاني: لا يقصر لأنه نوى الإقامة فيكون مقيماً. وأما كون من أقام لقضاء حاجة أو حبس أو لم ينو الإقامة يقصر أبداً؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسع عشرة ليلة يصلي ركعتين» (¬1) رواه البخاري. و«أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول» (¬2). و«أقام أنس بالشام سنتين يقصر» (¬3) رواهما الأثرم. قال أنس: «أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة» (¬4). قال: (والملاح الذي معه أهله وليس له نية الإقامة ببلد ليس له الترخص). أما كون من ذكر ليس له الترخص؛ فلأنه ليس طاعناً عن منزله أشبه المقيم ببلد. ولأنه لو جاز له القصر لقصر أبداً. ولأنه صار السفر عادة له فلا يجد مشقة. والترخص إنما جاز للمشقة. وأما ما يشترط لذلك فأمران: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4047) 4: 1564 كتاب المغازي، باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (5552) 2: 83 عن ثمامة بن شراحيل قال: «خرجت إلى ابن عمر فقلنا: ما صلاة المسافر؟ فقال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثاً قلت: أرأيت إن كنا بذي المجاز قال: وما ذو المجاز؟ قلت: مكاناً نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة قال: يا أيها الرجل كنت بأذربيجان لا أدري قال: أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلونها ركعتين ركعتين ورأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم نصب عيني يصلهما ركعتين ركعتين ثم نزع هذه الآية {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ... } حتى فرغ من الآية. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 152 كتاب الصلاة، باب من قال: يقصر أبداً ما لم يجمع مكثاً. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 152 كتاب الصلاة، باب من قال: يقصر أبداً ما لم يجمع مكثاً، ولفظه: «أن أنساً أقام بالشام مع عبدالملك بن مروان شهرين يصلي صلاة المسافر». (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 152 كتاب الصلاة، باب من قال: يقصر أبداً ما لم يجمع مكثاً.

أحدهما: أن يكون معه أهله. وثانيهما: أن لا ينوي الإقامة ببلد. فإن اختل شرط منهما كان له الترخص لأن عدم جوازه لشبَهِه بالمقيم. وعند انتفاء شرطٍ مما ذكر يخرج عن الشبه فيجب أن يدخل في عموم الأدلة المجوزة للقصر (¬1) السالمة عن معارضة الشبه بالمقيم. وقال القاضي: لا يشترط أن يكون مع الملاح أهله؛ لأن بعدم نيته الإقامة ببلد يشبه المقيم. وليس بجيد لأن الشبه لا يحصل حقيقة إلا بمجموع الأمرين. فإن قيل: المكاري والفيج -وهو الساعي- ما حكمهما؟ قيل: قال القاضي: هما كالملاح لمشاركتهما له في المعنى. وقال المصنف رحمه الله في الكافي: إباحة القصر لهما أظهر لدخولهما في عموم النص. وامتناع قياسهما على الملاح؛ لأنهما لا يمكنهما استصحاب الأهل، ومصالح المنزل في السفر، وزيادة المشقة. ¬

_ (¬1) في ب: الرخص.

فصل في الجمع قال المصنف رحمه الله: (ويجوز الجمع بين الظهر والعصر، والعشاءين في وقت إحداهما لثلاثة أمور: السفر الطويل، والمرض الذي يلحقه بترك الجمع فيه مشقة وضعف، والمطر الذي يبل الثياب. إلا أن جمع المطر يختص العشاءين في أصح الوجهين). أما كون الجمع في السفر الطويل يجوز؛ فلما روى معاذ بن جبل قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً. قلت: ما أراد بذلك؟ قال: أن لا يحرج أمته» (¬1) رواه مسلم وأبو داود والأثرم. ولفظهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً. وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم سار. وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء. وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب» (¬2). وكلام المصنف رحمه الله مشعر بأنه لا يجوز في غير الطويل. وهو صحيح لأنه تأخير للعبادة عن وقتها فاختص بالطويل كالفطر. ولأن دليل الجمع فعل النبي صلى الله عليه وسلم والفعل لا صيغة له وإنما هو قضيةٌ في عين فلا يجوز الجمع إلا في مثل الحال التي جمع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه جمع في سفر قصير. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (706) 1: 490 كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر. وأخرجه أبو داود في سننه (1206) 2: 4 كتاب الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1220) 2: 7، الموضع السابق. وأخرجه الترمذي في جامعه (553) 2: 438 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين.

وأما كونه يجوز للمرض؛ فلما روى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف [ولا مطر». وفي لفظ: «من غير خوف ولا سفر» (¬1) رواهما مسلم. ولا عذر بعدهما سوى المرض. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة وحمنة بنت جحش لما كانتا مستحاضتين بتأخير الظهر وتعجيل العصر وبجمع بينهما بغسل واحد» (¬2). فجَوّز لهما الجمع لأجل الاستحاضة. وهي نوع مرض. والمرض المجوز هو الذي ذكر المصنف رحمه الله لأن دفع المشقة مطلوب. وأما كونه يجوز للمطر بين المغرب والعشاء؛ [لأن أبا سلمة قال: «من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» (¬3) رواه الأثرم] (¬4). وذلك ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. و«كان ابن عمر يجمع بين المغرب والعشاء» (¬5). وأما كون المطر المجوز هو الذي يبل الثياب؛ فلأن المشقة بذلك تحصل. ¬

_ (¬1) أخرجهما مسلم في صحيحه (705) 1: 489 - 490 كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (295) 1: 79 كتاب الطهارة، باب من قال: تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهما غسلاً: عن عائشة «أن سهلة بنت سهيل استحيضت فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل وتغتسل للصبح». وفي (287) 1: 76 كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، من حديث حمنة بنت جحش بلفظ: « ... وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي ... ». (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (5800) 2: 103. (¬4) ساقط من ب. (¬5) أخرجه مالك في الموطأ (5) 1: 137 كتاب قصر الصلاة في السفر، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر، ولفظه: عن نافع «أن عبدالله بن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم». وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 167 كتاب الصلاة، باب الجمع في المطر بين الصلاتين. نحوه.

وأما كون الجمع بين الظهر والعصر لا تجوز في وجهٍ؛ فلأن دليل الجواز في المغرب والعشاء ما تقدم من قول أبي سلمة وفعل ابن عمر ولا دلالة لهما على الظهر والعصر. وأما كونه يجوز في وجه؛ فلأن المطر عذر جَوّز الجمعَ بين العشائين فجوزه بين الظهر والعصر كالسفر والمرض. وأما كون الأول أصح فلاختصاص العشائين بما تقدم. وعدم صحة قياس الظهر والعصر عليهما من حيث أنهما يفعلان في الظلمة بخلاف الظهر والعصر. قال: (وهل يجوز لأجل الوحل، والريح الشديدة الباردة، أو لمن يصلي في بيته، أو في مسجدٍ طريقه تحت ساباط؟ على وجهين). أما كون الجمع لأجل الوحل والريح المذكورة يجوز على وجهٍ؛ فلأنهما عذر في ترك الجمعة والجماعة أشبه المطر. وأما كونه لا يجوز على وجهٍ؛ فلأن مشقتهما دون مشقة المطر فلا يصح قياسهما عليه. وأما كونه يجوز لمن يصلي في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط على وجهٍ؛ فلأن العذر إذا وجد استوى فيه حال وجود المشقة وعدمها كالسفر. ولأن الحاجة العامة إذا وجدت أُثبت الحكم في حق من ليست له حاجة كالسَّلَم، وإباحة اقتناء الكلب للصيد. ولأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في مطر ولم يكن بين حجرة عائشة وبين المسجد شيء. وأما كونه لا يجوز على وجهٍ؛ فلأن الجمع لأجل المشقة فيجب اختصاصه بمن يلحقه. قال: (ويفعل الأرفق به من تأخير الأولى إلى وقت الثانية وتقديم الثانية إليها). أما كون الجامع بين الصلاتين يفعل الأرفق به من تقديم أو تأخير فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله» (¬1) طلباً للأرفق. ¬

_ (¬1) كما في حديث معاذ بن جبل، وقد سبق ذكره ص: 512.

فإن قيل ما المراد بقوله: ويفعل. قيل: المراد أن ذلك أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل الأفضل. وليس مراده بذلك أن فعل الأرفق متعين؛ لأن ذلك ينافي الجمع؛ لأن المطلوب به الرفق وفي تعيين ذلك ضده. فإن قيل: فإن استويا عنده؟ قيل: الأفضل في المرض التأخير وفي المطر التقديم لأن السلف الذين كانوا يجمعون للمطر إنما كانوا يجمعون في وقت الأولى. ولأن التأخير إلى وقت الثانية يفضي إلى لزوم المشقة والخروج في الظلمة ولا يحصل مقصود الرخصة. وربما زال عذر المطر. بخلاف المرض فإن الغالب بقاؤه ولا حاجة له إلى الخروج. قال: (وللجمع في وقت الأولى ثلاثة شروط: نية الجمع عند إحرامها، ويحتمل أن تجزئه النية قبل سلامها. وأن لا يفرق بينهما إلا بقدر الإقامة والوضوء، فإن صلى السنة بينهما بطل الجمع في إحدى الروايتين. وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الصلاتين وسلام الأولى). أما كون نية الجمع من شروطه؛ فلأن الجمع عمل فيدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عمل إلا بنية» (¬1). ولأن ذلك حال من أحوال الصلاة فاعتبر فيه النية كالإمامة والقصر. وأما كونها تشترط عند الإحرام على المذهب؛ فلأن كل عبادة اشترطت فيها النية اشترطت في أولها كنية الصلاة. وأما كونها يحتمل أن تجزئ قبل سلام الأولى؛ فلأن موضع الجمع حين الفراغ من الأولى والشروع في الثانية فإذا لم تتأخر عنه جاز. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 41 كتاب الطهارة، باب الاستياك بالأصابع. عن أنس، ولفظه: «لا عمل لمن لا نية له».

وأما كونه يشترط أن لا يفرق بينهما فرقة طويلة؛ فلأن معنى الجمع المتابعة أو المقارنة فإذا فرق بينهما بذلك لم يحصل ذلك. وإنما لم يشترط أن لا يفرق بينهما فرقة يسيرة لأن اليسير معفو عنه. والمفارقة الطويلة واليسيرة معتبرة بالعرف. وقدّره الأصحاب بالإقامة والوضوء. قال المصنف في المغني: الصحيح أنه غير مقدر بما ذكر لأن ما لم يرد الشرع بتقديره يجب الرجوع فيه إلى العرف كالحِرز والقبض. وأما كون من صلى السنة بينهما يبطل بها الجمع في روايةٍ؛ فلأنه فرق بينهما بالصلاة فبطل بها الجمع كما لو صلى بينهما فرضاً. وأما كونه لا يبطل بها في روايةٍ؛ فلأن السنة تابعة للصلاة فلم يقع الفعل بالأجنبي أشبه الوضوء والإقامة. وأما كونه يشترط أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الصلاتين وسلام الأولى؛ فلأن افتتاح الأولى موضع النية وفراغها وافتتاح الثانية موضع الجمع فوجب وجود العذر في هذه المواضع. قال: (وإن جمع في وقت الثانية كفاه نية الجمع في وقت الأولى ما لم يضق عن فعلها. واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية منهما (¬1) ولا يشترط غير ذلك). أما كون نية الجمع في وقت الأولى ما لم يضق عن فعلها. واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية. ولا يشترط غير ذلك: أما كون نية الجمع في وقت الأولى ما لم يضق عن فعلها يشترط إذا جمع في وقت الثانية؛ فلأنه متى أخرها عن ذلك بغير نية صارت قضاء. وأما كون استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية [فلأن المبيح العذر. فإذا لم يستمر وجب أن لا يباح الجمع لزوال المقتضي للإباحة. فعلى هذا لو كان مريضا فبرئ، أو مسافراً فقدم، أو انقطع المطر قبل دخول وقت الثانية] (¬2) لم يجز له الجمع لزوال المجوز له. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) ساقط من ب.

وأما كون غير ذلك لا يشترط والمراد ما تقدم اشتراطه إذا جمع في الأولى من نية الجمع حال افتتاح الصلاة أو قبل الفراغ منها ووجود العذر حال افتتاحهما وفراغ الأولى وعدم التفريق بينهما؛ فلأن الثانية واقعة في وقتها فهي بكل حال أداء. والأولى معها كصلاة فائتة. وقال بعض أصحابنا: لا يفرق بينهما؛ لأنه إذا فرق بينهما لم يكن مستعملاً للرخصة. والأولى إنما تفعل وقت الثانية على وجه الرخصة.

فصل في صلاة الخوف قال المصنف رحمه الله: (قال الإمام أبو عبدالله رضي الله عنه: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف من خمسة أوجه أو ستة كل ذلك جائز لمن فعله. فمن ذلك: إذا كان العدو في جهة القبلة صف الإمام المسلمين خلفه صفين فصلى بهم جميعاً إلى أن يسجد فيسجد معه الصف الذي يليه، ويحرس الآخر حتى يقوم الإمام إلى الثانية فيسجد ويلحقه. فإذا سجد في الثانية سجد معه الصف الذي حرس وحرس الآخر حتى يجلس في التشهد فيسجد ويلحقه فيتشهد ويسلم بهم). أما كون صلاة الخوف تصح في الجملة؛ فبالكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ... الآية} [النساء: 102]. وأما السنة فثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الخوف» (¬1). وما ثبت في حقه ثبت في حقنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به. بدليل قوله تعالى: {فاتبعوه} [الأنعام: 155]. ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يحتجون بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يُسأل عن المسألة فيجيب بأني أفعلها. ولو اختص بأفعاله لم يكن كذلك. ولأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على صلاة الخوف. ففعلها علي ليلة الهرير (¬2). وصلاها أبو موسى الأشعري (¬3). ¬

_ (¬1) سوف تأتي أحاديث صلاة الخوف عن جابر وخوات بن جبير وغيرهما. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 252 كتاب صلاة الخوف، باب الدليل على ثبوت صلاة الخوف وأنها لم تنسخ. بلفظ: «عن جعفر بن محمد عن أبيه أن علياً رضي الله عنه صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير». (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (8290) 2: 217 كتاب الصلوات، في صلاة الخوف كم هي. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 252 كتاب صلاة الخوف، باب الدليل على ثبوت صلاة الخوف وأنها لم تنسخ.

وصلاها حذيفة وسعيد بن العاص، وكان سعيد أميراً على الجيش بطبرستان (¬1). وأما كون كل وجه من الوجوه الخمسة الآتي ذكرها جائزاً لمن فعله؛ فلما ذكره المصنف رحمه الله قبل. وأما كون الوجه الأول من ذلك؛ فلما روى جابر قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف. فصفنا خلفه صفين والعدو بيننا وبين القبلة. فكبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبرنا جميعاً. ثم ركع وركعنا. ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً. ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحر العدو. فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا. ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم. ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً. ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً. ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى وقام الصف المؤخر في نحر العدو. فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجد. ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً» (¬2) أخرجه مسلم. وأما ما يشترط لصحة الوجه المذكور فظاهر كلام المصنف رحمه الله أن يكون العدو في جهة القبلة لا غير لأنه لم يذكر غيره. واشترط أبو الخطاب مع ذلك شرطين ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1246) 2: 16 كتاب الصلاة، باب من قال: يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون. بلفظ: عن ثعلبة بن زهدم قال: «كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا». وأخرجه النسائي في سننه (1130) 3: 168 كتاب صلاة الخوف. بنحوه. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (8273) 2: 215 كتاب الصلوات، في صلاة الخوف كم هي. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 252 كتاب صلاة الخوف، باب الدليل على ثبوت صلاة الخوف وأنها لم تنسخ. عن سليم بن عبيد السلولي. بنحوه. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (840) 1: 574 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف.

آخرين. وهو: أن لا يخافوا كميناً لهم. وأن يكون في المسلمين كثرة بحيث يحرس بعضهم ويصلي بعض؛ لأن المقصود لا يحصل بدونهما. قال: (الوجه الثاني: إذا كان العدو في غير جهة القبلة جعل طائفة حذاء العدو وطائفة تصلي معه ركعة. فإذا قاموا إلى الثانية ثبت قائماً وأتمت لأنفسها أخرى وسلمت ومضت إلى العدو وجاءت الأخرى فصلت معه الركعة الثانية. فإذا جلس للتشهد أتمت لأنفسها أخرى وتشهدت وسلم بهم). أما كون الوجه الثاني من الوجوه المذكورة؛ فلما روى صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: «أن طائفة صلت معه وطائفة وِجاه العدو [فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً ثم أتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو] (¬1) وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته. ثم ثبت جالساً فأتموا لأنفسهم. ثم سلم بهم» (¬2) متفق عليه. والذي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن أبي حثمة. وأما ما يشترط لهذا الوجه فأمور: أحدها: أن يكون العدو في غير جهة القبلة لأن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات الرقاع كانت كذلك. ولأنه حينئذ يحتاج إلى التفريق لأنهم إذا كانوا في جهة القبلة وعلم أنهم لا يتجاسرون أن يميلوا عليهم ميلة واحدة أمكن استقبالهم فلا حاجة إلى التفريق. وقال المصنف رحمه الله في المغني: أن الأثرم قال: قلت لأحمد: حديث سهل نستعمله مستقبلين كانوا أو مستدبرين؟ قال: نعم. هو أنكى للعدو. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3900) 4: 1513 كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع. وأخرجه مسلم في صحيحه (842) 1: 575 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف.

فعلى هذا لا يشترط أن يكون العدو في غير جهة القبلة؛ [لأن العدو قد يكون في جهة القبلة] (¬1) على وجهٍ لا يمكنه أن يصلي بهم صلاة عسفان لاستتارهم أو لخوف من كمين. فالمنع من هذه الصلاة يفضي إلى تفويتها. وثانيها: أن يكون العدو مباح القتال كقطاع الطريق، ومن بغى على الإمام، ومن قصد دم إنسان، ونحو ذلك؛ لأن قتال محرم القتال معصية لا يبيح قصر الصلاة فكذلك لا يبيح قصر أركانها وتغيير صفاتها. وثالثها: أن يكون العدو لا يؤمن هجومه لقوله تعالى: {ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} [النساء: 102]. أومأ إلى أن المجوز لهذه الصلاة خوف الميل على المسلمين. ولأنه إذا أمن هجومهم لم تدْع الحاجة إلى التفريق فلم يجز. ورابعها: كثرة المصلين لأنهم إذا كانوا قليلين بحيث يكون الذي وجاه العدو أقل من نصف العدو يباح لهم الفرار وحينئذ يتطرق إمكان الأذى إلى المصلين فلم يحصل من الصلاة الحكمة المطلوبة منها فلم يجز لذلك. وخامسها: أن تكون الطائفة ثلاثة فأكثر لأن الله تعالى ذكر الطائفة وأعاد إليها الضمير على سبيل الجمع في قوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم} [النساء: 102]. وأقل الجمع ثلاثة. وقال القاضي: يكره أن يصلي بأقل من ثلاثة. وظاهر هذا عدم اشتراط الثلاثة. ولفظ الطائفة قد يطلق ويراد به الواحد كما في قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة} [التوبة: 122]؛ لأن الإنذار يحصل بواحد. قال: (فإن كانت الصلاة مغرباً صلى بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة. وإن كانت رباعية غير مقصورة صلى بكل طائفة ركعتين وأتمت الأولى بالحمد لله في كل ركعة ¬

_ (¬1) ساقط من ب.

والأخرى تتم بالحمد لله وسورة. وهل تفارقه الأولى في التشهد الأول أو في الثالثة؟ على وجهين). أما كون مصلي المغرب يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة؛ فلأنه إذا لم يكن بد من تفضيل إحدى الطائفتين فالسابقة أولى. ولأنه ينجبر ما فات الثانية بأنها تفعل جميع الصلاة في حكم الإتمام والأولى تفارقه فتأتي ببعض الصلاة في حكم الانفراد. وهذا الذي ذكره المصنف رحمه الله هو الأولى. ولو صلى بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين جاز؛ لأن علياً فعله ليلة الهرير (¬1). ولأنه لم يزد على انتظارين ورد الشارع بهما. وأما كون مصلي الرباعية غير المقصورة يصلي بكل طائفة ركعتين؛ فلأن في ذلك تسوية بين الطائفتين. والمراد بذلك الأولوية كما تقدم في المغرب (¬2). فلو صلى بالأولى ركعة وبالثانية ثلاثاً أو بالعكس صح لما تقدم من أنه لم يزد على انتظارين ورد الشارع بهما. وفي صلاة الإمام بكل طائفة ركعتين إشعار بأمرين: أحدهما: جواز صلاة الخوف للمقيم. وهو صحيح صرح به المصنف رحمه الله في المغني، وصاحب النهاية فيها. ووجهه عموم قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم ... الآية} [النساء: 102]. وثانيهما: أن للمسافر أن يتم فيصلي بكل طائفة ركعتين. وأما كون الأولى تُتِم بالحمد لله في كل ركعة بلا سورة؛ فلأن ما أدركت مع الإمام أول صلاتها وصلاته فإذاً المقضي آخرها والآخر لا يزاد فيه على الحمد لله. وأما كون الأخرى تتم بالحمد لله وسورة فهو مبني على أن ما يقضيه المسبوق أول صلاته. والأول يقرأ فيه الحمد وسورة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 518. (¬2) في ب: المغرم.

وأما كون الأولى تفارقه في التشهد الأول على وجهٍ؛ فلأنه حينئذ يمكنه الانتظار وهو جالس فيحصل للطائفة الثانية جميع الركعة التي شرعت فيها. وأما كونها تفارقه حين يقوم إلى الثانية على وجهٍ؛ فلأن الانتظار في القيام أولى لكثرة ثواب القيام واستحباب تقصير التشهد. وهذه المفارقة المختلف فيها تشمل من صلى مع الإمام المغرب والرباعية. قال: (وإن فرقهم أربعاً فصلى بكل طائفة ركعة صحت (¬1) صلاة الأُولَيين وبطلت صلاة الإمام والأُخْريين إن علمتا بطلان صلاته). أما كون صلاة الأُوليين تصح؛ فلأنها لم يُزَد فيها على انتظارين ورد الشرع بهما. وأما كون صلاة الإمام تبطل؛ فلأنه زاد انتظاراً ثالثاً لم يرد الشرع به فوجب أن تبطل صلاته. أشبه ما لو فعله في غير الخوف. وسواء كان ذلك لحاجة أو لغير حاجة لأن الترخص إنما يصار فيه إلى ما ورد الشرع به. وأما كون صلاة الأُخْريين تبطل إذا علمتا بطلان صلاة الإمام فإنهما اقتديا (¬2) بمن صلاته باطلة مع علمهما بذلك أشبه ما لو صليا خلف محدث يعلمان (¬3) حدثه. قال: (الوجه الثالث: أن يصلي بطائفة ركعة ثم تمضي إلى العدو. وتأتي الأخرى فيصلي بها ركعة ويسلم وحده وتمضي هي. ثم تأتي الأولى فتتم صلاتها). أما كون الوجه الثالث من الوجوه المذكورة؛ فلما روى عبدالله بن عمر قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه: فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو وصلى بالذين معه ركعة. ثم ذهبوا وجاء الآخرون. فصلى بهم ركعة. ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) مثل السابق. (¬3) مثل السابق. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (3904) 4: 1514 كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع. وأخرجه مسلم في صحيحه (839) 1: 574 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف. واللفظ له.

قال: (الوجه الرابع: أن يصلي بكل طائفة صلاة ويسلم بها). أما كون الوجه الرابع من الوجوه المذكورة؛ فلما روى أبو بكرة قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوفٍ؛ الظهر: فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو. فصلى ركعتين ثم سلم. فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم. ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم بهم. فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ولأصحابه ركعتان ركعتان» (¬1). رواه أبو داود. قال: (الوجه الخامس: أن يصلي الرباعية المقصورة تامة. ويصلي معه كل طائفة ركعتين ولا تقضي شيئاً فتكون له تامة ولهم مقصورة). أما كون الوجه الخامس من الوجوه المذكورة؛ فلما روى جابر قال: «أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع فنودي بالصلاة. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين. ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين. فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان» (¬2) متفق عليه. وأما كون الوجه السادس من الوجوه الجائزة ولم يذكره المصنف رحمه الله وهو مذكور في الحديث الآتي ذكره؛ فلما روى ابن عباس قال: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم بذي قَرَد صلاة الخوف والمشركون بينه وبين القبلة: فصف صفاً خلفه وصفاً موازي العدو فصلى بهم ركعة. ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء. فصلى بهم ركعة. ثم سلم بهم. فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ركعتان وكانت لهم ركعة ركعة» (¬3) رواه الأثرم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1248) 2: 17 كتاب صلاة السفر، باب من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين. وأخرجه النسائي في سننه (1551) 3: 178 كتاب صلاة الخوف. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3906) 4: 1515 كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع. وأخرجه مسلم في صحيحه (843) 1: 576 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف. (¬3) أخرجه النسائي في سننه (1533) 3: 169 كتاب صلاة الخوف، باب رفع الإمام يديه عند مسألة أمساك المطر. وأخرجه أحمد في مسنده (3364) 1: 357.

قال المصنف رحمه الله في الكافي: كلام أحمد يقتضي أن يكون هذا من الوجوه الجائزة إلا أن أصحابه قالوا: لا تأثير للخوف في عدد الركعات فدل على أن هذا ليس بمذهبٍ له. قال: (ويستحب أن يحمل معه في الصلاة من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله كالسيف والسكين. ويحتمل أن يجب ذلك). أما كون حمل ما ذكر يستحب؛ فلقوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم} [النساء: 102]. فإن قيل: الأمر للوجوب فلِمَ لَمْ يجب؟ قيل: لأن حمل السلاح يراد لحراسةٍ أو قتال والمصلي لا يتصف بواحدة منهما. ولأنه لو كان واجباً في الصلاة لكان تركه قادحاً في صحتها وهو خلاف الإجماع. وأما كونه يحتمل أن يجب ذلك؛ فلظاهر الأمر.

فصل [في الصلاة إذا اشتد الخوف] قال المصنف رحمه الله: (وإذا اشتد الخوف صلوا رجالاً وركباناً إلى القبلة وغيرها. يومئون إيماء على قدر الطاقة. فإن أمكنهم افتتاح الصلاة إلى القبلة فهل يلزمهم ذلك؟ على روايتين). أما كون من اشتد خوفه والمعنيّ (¬1) بالاشتداد: أن يتواصل الطعن والكرّ والفرّ. ولم يمكن تفريق القوم فرقتين كل طائفة مساوية لنصف العدو، ولا صلاة عسفان يصلون رجالاً وركباناً إلى القبلة وغيرها؛ فلقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو رُكْباناً} [البقرة: 239]. قال ابن عمر في تفسيرها: «مستقبلي القبلة وغير مستقبليها» (¬2). قال نافع: لا أراه قال ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). وأما كونهم يُومئون إيماء؛ فلأنهم يجوز لهم الصلاة ركباناً ومِنْ ضرورته الإيماء. ولأنهم لو تمموا الركوع والسجود في المعارك لكانوا هدفاً لأسلحة الكفار. معرّضين أنفسهم للهلاك. فإن قيل: لم عفي عن أفعالهم من الكرّ والفرّ مع كثرتها؟ قيل: لأنه موضع ضرورة. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4261) 4: 1649 كتاب تفسير القرآن، باب: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ... }. (¬3) ذكر ذلك عن نافع الإمام مالك كما في الموطأ 1: 165 كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الخوف.

ولأن ذلك لو كان مبطلاً لجاز لهم إخلاء الوقت عن الصلاة لعدم إمكان صلاة خالية عن ذلك. ولا يجوز ذلك لأنهم مكلفون تصح طهارتهم فلم يجز لهم إخلاء الوقت عن فعلها كالمريض. وقد روي عن الإمام أحمد: أنه يجوز تأخير الصلاة حال التحام الحرب حتى تضع أوزارها «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخرها يوم الخندق» (¬1). وقد أجيب عن ذلك بوجوه: أحدها: أنه كان قبل نزول آية صلاة الخوف. الثاني: أن يكون أخرها نسياناً. الثالث: أنه لم ينقل أنهم كانوا في حال المسايفة. وأما كونهم يلزمهم افتتاح الصلاة إلى القبلة ففيه روايتان مضى توجيههما في استقبال القبلة. والصحيح أنه لا يجب؛ لأنا إذا أسقطنا القيام وجوزنا العمل الكثير؛ فلأن يجوز ترك (¬2) استقبال القبلة في بعض الصلاة بطريق الأولى. قال: (ومن هرب من عدو هرباً مباحاً أو من سيل أو سبع ونحوه فله أن يصلي كذلك. وهل لطالب العدو الخائف فواته الصلاة كذلك؟ على روايتين). أما كون من هرب ممن ذُكر ونحوه له أن يصلي صلاة الخوف؛ فلأن المجوز لها في الخوف، خوف فوات النفس وهو موجود هاهنا. وأما كون طالب العدو الخائف فواته له الصلاة كذلك على روايةٍ؛ فلما روى عبدالله بن أنيس قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (179) 1: 337 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ. وأخرجه النسائي في سننه (622) 1: 297 كتاب الصلاة، باب كيف يقضي الفائت من الصلاة. وأخرجه أحمد في سننه (11214) 3: 25. وأخرجه الدارمي في سننه (1527) 1: 256 كتاب الصلاة، باب الحبس عن الصلاة. (¬2) ساقط من ب.

عُرَنَة. قال: اذهب فاقتله. فرأيته وحضرتني الصلاة. فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه. فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك لذلك. فقال: إني (¬1) لفي ذلك. فمشيت معه حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى (¬2) برد» (¬3) رواه أبو داود. وظاهر حاله أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأن صلاة الخوف مشروطة بالخوف وهذا غير خائف. قال: (ومن أمن في الصلاة أتم صلاة آمن. ومن ابتدأها آمناً فخاف أتم صلاة الخائف. ومن صلى صلاة الخوف لسوادٍ ظنه عدواً فبان أنه ليس بعدو أو بينه وبينه ما يمنعه فعليه الإعادة). أما كون من أمن في أثناء صلاته يتم صلاة آمن، ومن خاف في أثنائها يتم صلاة خائف؛ فلأن المجوز لصلاة الخوف، الخوف فيُفعل عند وجوده دون عدمه. ولأنها صلاة لعذر فجاز أن يكون بعضها صلاة خائف والبعض صلاة آمن كما لو صلى قائماً ثم عجز أو عاجزاً ثم قدر. وأما كون من صلى صلاة الخوف لسوادٍ ظنه عدواً فبان أنه ليس بعدو أو بينه وبينه ما يمنعه عليه الإعادة؛ فلأنه ترك بعض واجبات الصلاة ظناً منه سقوطها وكان عليه الإعادة كما لو صلى يظن أنه متطهر فبان محدثاً أو نجساً. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) مثل السابق. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1249) 2: 18 كتاب صلاة السفر، باب صلاة الطالب. وأخرجه أحمد في مسنده (15617) ط إحياء التراث، بأطول من هذا.

باب صلاة الجمعة

باب صلاة الجمعة قال المصنف رحمه الله: (وهي واجبة على كل مسلمٍ مكلفٍ ذكرٍ حرٍ مستوطنٍ ببناء ليس بينه وبين موضع الجمعة (¬1) أكثر من فرسخ تقريباً. إذا لم يكن له (¬2) عذر). أما كون صلاة الجمعة واجبة في الجملة؛ فبالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9] أمر بالسعي والأمر للوجوب ولا يجب السعي إلا إلى واجب. ونهى عن البيع ولو لم تكن الجمعة واجبة لم ينه عن البيع. والمراد بالسعي هنا المضي والذهاب لا الإسراع. وقد روي عن عمر رضي الله عنه «أنه كان يقرأ: فامضوا إلى ذكر الله» (¬3). وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيَنتهين أقوام عن وَدْعِهِم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين» (¬4) متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا من عامي هذا. فمن تركها في حياتي أو بعده وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بها أو جحوداً فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في عمره. ألا ولا صلاة له ولا ¬

_ (¬1) في ب: الجمع. (¬2) ساقط من ب. (¬3) ذكره البخاري تعليقاً 4: 1858 كتاب التفسير، باب قوله: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (865) 2: 591 كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة. ولم أره عند البخاري.

زكاة له ولا صوم له ولا حج له ولا بر (¬1) له حتى يتوب. فإن تاب تاب الله عليه» (¬2) رواه ابن ماجة. وأما الإجماع فأجمع المسلمون على وجوب الجمعة. وأما كونها تجب على كلّ مسلم مكلف ذكر حُرّ مستوطن ببناء ليس بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ إذا لم يكن له (¬3) عذر؛ فلأن ما تقدم عام خرج منه غير من ذكر لما يأتي فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. وظاهر ما ذُكر أن الجمعة لا تجب على كافر ولا غير مكلف ولا غير ذكر ولا عبد ولا غير مستوطن ببناء ولا من بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ ولا من له عذر وهو صحيح. أما كونها لا تجب على كافر ولا غير مكلف؛ فلقوله عليه السلام: «الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض» (¬4) رواه أبو داود. ولأن الكافر وغير المكلف لا تجب عليهما الصلوات الخمس؛ فلأن لا تجب عليهما الجمعة بطريق الأولى. وأما كونها لا تجب على غير ذَكَرٍ؛ فلأن المرأة مذكورة في الحديث المتقدم. ولأنها يشرع لها الستر والتحفز وذلك لا يناسب وجوب الجمعة عليها. والخنثى ملحق بها لأنه في معناها. وأما كونها لا تجب على عبد؛ فلأنه مذكور في الحديث المتقدم. ولأنه مشتغل بخدمة سيده. وأما كونها [لا تجب] (¬5) على غير مستوطن؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعرفة يوم الجمعة ولم يصل جمعة». ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1081) 1: 343 كتاب إقامة الصلاة، باب في فرض الجمعة. من حديث جابر. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1067) 1: 280 كتاب الصلاة، باب الجمعة للمملوك والمرأة. (¬5) زيادة يقتضيها السياق.

ولأن في رواية أبي داود في بعض ألفاظه: «إلا خمسة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض أو مسافر». ولأن المسافر ليس من أهل الكمال فلم تجب عليه كالصبي. وأما كون الاستيطان ببناء -والمراد به الإقامة بموضع مبني بما جرت به العادة من خشب أو قصب ونحو ذلك لا يظعن عنه شتاء ولا صيفاً-؛ فلأن العرب كانت حول المدينة في الخيام وبيوت الشعر ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة صلاة الجمعة. وإنما كان البناء بما جرت به العادة لأنه أمر ورد الشرع باشتراطه من غير تعيين له فاعتبرت العادة فيه كالحِرز والقبض. ولأن الجمعة تقام في مواضع مختلفة الأبنية فلو اشترط بناء بعينه لوجب الحكم ببطلان بعضها وليس كذلك لأن الأصل في الأفعال الشرعية التي فعلها المسلمون في بلادهم الإسلامية من غير نكير من بعضهم: الصحة. وإنما كان الموضع لا يظعن فيه صيفاً ولا شتاء لأن بذلك كمال الاستيطان فوجب أن يشترط كأصله. وأما كونها لا تجب على من بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ؛ فلأنه لما لم يمكن اعتبار السماع بنفسه اعتبر بمظنته. والموضع الذي يُسمع النداء منه في الغالب إذا كان المؤذن صيتاً في موضع عالٍ والرياح ساكنة والأصواتُ هادئة والعوارضُ منتفية فرسخ فاعتبر به. وعن أحمد: أنه معتبر بنفس النداء تمسكاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «الجمعة على من سمع النداء» (¬1) رواه أبو داود. والفرسخ أو السماع معتبر في حق من هو خارج البلد، أما من هو في البلد فيجب عليه السعي قَرُب أو بَعُد سمع أو لم يسمع؛ لأن البلد كالشيء الواحد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1056) 1: 278 كتاب الصلاة، باب من تجب عليه الجمعة.

وأما كونها لا تجب على من له عذر؛ فلأن العذر يعذر به في ترك الجمعة لما تقدم في موضعه (¬1). قال: (ولا تجب على مسافرٍ ولا عبدٍ ولا امرأةٍ ولا خنثى. ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به ولم يجز أن يؤم فيها. وعنه في العبد أنها تجب عليه). أما كون الجمعة لا تجب على مسافر ولا امرأة ولا خنثى؛ فلما تقدم ذكره قبل (¬2). وأما كونها لا تجب على عبد على المذهب؛ فلما تقدم أيضاً. وأما كونها تجب عليه على روايةٍ؛ فلأنه مكلف فوجبت عليه كالظهر. ونقل أبو الخطاب عن الإمام أحمد رواية أنها تجب على الصبي بناء على وجوب الصلاة عليه. والصحيح أنها لا تجب عليهما؛ لأنهما استثنيا في حديث أبي داود (¬3). ولأن العبد محبوس على حق سيده أشبه المحبوس على حق. وأما كون من حضر الجمعة ممن ذُكر تجزئه؛ فلأنها إنما سقطت عنهم تخفيفاً عليهم فإذا تحملوا المشقة وصلّوا أجزأهم كالمريض. وأما كونه لا ينعقد به ولا يجوز أن يؤم فيها؛ فلأنه ليس من أهل فرض الجمعة لما فيه من النقص المانع من الوجوب فلم ينعقد به ولم يجز أن يؤم كالمرأة. قال: (ومن سقطت عنه لعذر إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به). أما كون الجمعة تجب على من سقطت عنه لعذر كالمريض ونحوه إذا حضرها؛ فلأن سقوطها عنه كان دفعاً لمشقة السعي فإذا تكلفه وحصل في الجامع زالت المشقة فوجب زوال السقوط لزوال سببه. وأما كونها تنعقد به؛ فلأنه من أهل وجوبها أشبه غير المريض. ¬

_ (¬1) ص: 495. (¬2) ص: 530. (¬3) سبق ذكره ص: 530.

قال: (ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح صلاته. والأفضل لمن لا تجب عليه أن لا يصلي الظهر حتى يصلي الإمام). أما كون من صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لا تصح؛ فلأنه مأمور بالجمعة فلم يصح الظهر لأنه أتى بغير ما أمر به. ولأن الظهر بدل عن (¬1) الجمعة والبدل لا يجوز إلا عند تعذر المبدل. بدليل سائر الأبدال. وأما كون الأفضل لمن لا تجب عليه أن لا يصلي الظهر حتى يصلي الإمام؛ فلأنه يرجى زوال عذره فاستحب له التأخير. ولا بد أن يلحظ في من لا تجب عليه أن لا يكون امرأة؛ لأن المرأة لا يرجى زوال عذرها. وقال أبو بكر: لا يصح ممن تقدم ذكره قياساً على من تجب عليه. وذكر ابن عقيل قول أبي بكر رواية. وصحح الصحة لأنه غير مخاطب بالجمعة أشبه المرأة. قال: (ولا يجوز لمن تلزمه الجمعة السفر في يومها بعد الزوال. ويجوز قبله. وعنه: لا يجوز. وعنه: يجوز للجهاد خاصة). أما كون السفر لمن تلزمه الجمعة بعد الزوال لا يجوز قبل فعلها؛ فلأن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يُصحب في سفره ولا يعان على حاجته» (¬2). رواه الدارقطني. وهذا وعيد وتهديد يدل على التحريم. ولأن الصلاة تجب بأول الوقت، وفعل الجمعة يجب مع الإمام فالسفر مفض إلى تفويتها بخلاف بقية الصلوات. ولأن السفر يشغله عن الجمعة بعد دخول وقتها فلم يجز كالتجارة. ¬

_ (¬1) في ب: على. (¬2) قال ابن حجر: رواه الدارقطني في الأفراد، وفيه ابن لهيعة. التلخيص 2: 132.

وأما كونه يجوز قبل الزوال على المذهب؛ فلما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سافر يوم الجمعة» (¬1). و«رأى عمر رجلاً بهيئة السفر وهو يقول: لولا الجمعة لسافرت. فقال: اخرج فإن الجمعة لا تمنع عن سفر» (¬2). فيجب حمل حديث ابن عمر على ما بعد الزوال. وهذا على ما قبله جمعاً بينهما. وأما كونه لا يجوز على روايةٍ؛ فلأن هذا وقت يلزم من كان على فرسخ السعي إلى الجمعة فوجب أن لا يجوز لمن في البلد السفر بطريق الأولى. ولأنه دخل وقت حرمة الجمعة بدليل الاعتداد بالغسل وأنه يسن التبكير فلم يجز التسبب إلى تفويتها. وأما كونه يجوز للجهاد خاصة على روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم جهز جيش مؤتة يوم الجمعة. ووجه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة وأذن لهم في الخروج قبل الصلاة. فتخلف عنهم عبدالله بن رواحة لصلاة الجمعة. فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما خلّفك؟ فقال: الجمعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لَغَدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها. قال: فراح منطلقاً» (¬3) رواه أحمد. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن الزهري مرسلاً (5113) 1: 443 كتاب الصلاة، من رخص في السفر يوم الجمعة. وعزاه ابن حجر إلى أبي داود في المراسيل عن الزهري، ولم أجده في المراسيل ر. تلخيص الحبير 2: 133. (¬2) أخرجه الشافعي في مسنده (435) 1: 150 كتاب الصلاة، باب: صلاة الجمعة. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (527) 2: 405 أبواب الصلاة، باب ما جاء في السفر يوم الجمعة. وأخرجه أحمد في مسنده (2317) 1: 256.

فصل قال المصنف رحمه الله: (ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط: أحدها: الوقت، وأوله أول وقت صلاة العيد. وقال الخرقي: يجوز فعلها في الساعة السادسة. وآخره آخر وقت الظهر). أما كون صحة الجمعة يشترط لها أربعة شروط؛ فلما يأتي ذكره فيها. وأما كون أحدها الوقت؛ فلأن الجمعة صلاة فكان دخول الوقت من شروط صحتها كسائر الصلوات. وأما كون أوله أول وقت صلاة العيد على المذهب؛ فلما روى وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن عبدالله بن سيدان قال: «شهدت الجمعة مع أبي بكر. فكانت خطبته وصلاته قبل انتصاف النهار. وشهدتها مع عمر رضي الله عنه فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد انتصف النهار. ثم صليتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد زال النهار. فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره» (¬1) رواه الإمام أحمد. وروي عن ابن مسعود «أنه صلى الجمعة ضحى. وقال: إنما عجلت لكم خشية الحر عليكم» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5132) 1: 444 كتاب الصلاة، من كان يقيل بعد الجمعة ويقول: هي أول النهار. وأخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 17 كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة قبل نصف النهار. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5134) 1: 445 كتاب الصلاة، باب: من كان يقيل بعد الجمعة ويقول: هي أول النهار.

وروى سويد بن غفلة قال (¬1): «صلى بنا معاوية الجمعة ضحى» (¬2) رواه الإمام أحمد. ولأن يوم الجمعة يوم عيد فجازت في وقت العيد كالفطر والأضحى (¬3). وأما كون فعلها في الساعة السادسة يجوز على قول الخرقي دون ما تقدم ذكره؛ فلأن الأحاديث الصحيحة الدالة على جواز التقديم مختصة بذلك. منها: ما روى جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس» (¬4) رواه مسلم. وعن سهل بن سعد قال: «ما كنا نقيل ونتغدّى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬5) متفق عليه. قال ابن قتيبة: لا يسمى غداء ولا قائلة ما بعد الزوال. وعن سلمة قال: «كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان فيء» (¬6) متفق عليه. والمذهب (¬7) الأول لأن الأحاديث المذكورة تدل على جوازها قبل الزوال وإذا كان كذلك فقد خالفت الظهر فوجب أن يلتحق بالعيد بدليل ما تقدم من فعل الصحابة. وأما كون آخره آخر وقت الظهر؛ فلأن الجمعة بدل منها أو واقعة موقعها فوجب أن يكون آخر وقتها آخر وقت الظهر لما بينهما من المشابهة. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5135) في الموضع السابق. (¬3) في ب: ولأن وقت صلاته أول وقت الجمعة يوم عيد فكان أول يوم صلاة العيد لاشتراكهما في ذلك. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (858) 2: 588 كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (897) 1: 318 كتاب الجمعة، باب قول الله تعالى {فإذا قضيت الصلاة ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (859) 2: 588 كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (3935) 4: 1529 كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية. (¬7) في ب: أما كون والمذهب.

قال: (فإن خرج وقتها قبل فعلها صلوا ظهراً. وإن خرج وقد صلوا ركعة أتموها جمعة. وإن خرج قبل ركعة فهل يتمونها ظهراً أو يستأنفونها؟ على وجهين). أما كون من خرج وقت الجمعة عليهم قبل فعلها يصلون ظهراً؛ فلأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة» (¬1) يدل بمفهومه على أن من لم يدرك ركعة لم يكن مدركاً للجمعة. فمن لم يَشْرَع بالكلية بطريق الأولى. وأما كونهم يتمونها جمعة إذا خرج وقد صلوا ركعة؛ فلأن الحديث المذكور قبلُ يدل بمنطوقه على ذلك. وقياساً على المسبوق. وعن الإمام أحمد رحمة الله عليه: يشترط إيقاع جميع صلاة الجمعة في الوقت إلا السلام؛ لأن الوقت شرط فيعتبر في جميعها كالوضوء. والأول أصح؛ للحديث. ولقوله عليه السلام: «من أدرك من يوم الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى» (¬2). وأما كونهم يتمونها ظهراً إذا خرج قبل ركعة على وجهٍ؛ فلأنهما صلاتا وقت فجاز بناء إحداهما على الأخرى كصلاة السفر مع الحضر. وأما كونهم يستأنفونها على وجهٍ؛ فلأن الظهر والجمعة صلاتان مختلفتان ليست إحداهما الأخرى ولا بعضها فلم تُبن إحداهما على الأخرى كالظهر والصبح. وكلام المصنف رحمه الله مشعر بعدم إتمامها جمعة. وهو قول أكثر الأصحاب لأن فوات الأكثر قائم مقام فوات الكل. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (1425) 3: 112 كتاب الجمعة، من أدرك ركعة من صلاة الجمعة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1123) 1: 356 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن أدرك من الجمعة ركعة. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1121) 1: 356 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن أدرك من الجمعة ركعة ولفظه: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك من الجمعة ركعة فَلْيصل إليها أخرى».

وقال القاضي وابن حامد: متى أحرم بها في الوقت يتمها جمعة قياساً على سائر الصلوات. والأول أصح؛ لأن مفهوم الحديث المتقدم يدل عليه. والفرق بين الجمعة وبين سائر الصلوات ثابت في كثير من الأحكام فيمتنع معه القياس. قال: (الثاني: أن يكون بقرية يستوطنها أربعون من أهل وجوبها. فلا تجوز إقامتها في غير ذلك). أما كون ثاني شروط صحة الجمعة أن يكون بقرية يستوطنها ما ذُكر: أما كونها بقرية؛ فلأن ذلك شرط لوجوبها؛ فلأن يكون شرطاً لصحتها بطريق الأولى. ولأن قبائل العرب كانت حول المدينة في الخيام وبيوت الشعر ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها. والمراد بالقرية: الموضع المبني بما جرت به العادة قريةً كانت أو بلدة. وإنما صرح المصنف رحمه الله بالقرية تنبيهاً على أن الجمعة يجوز إقامتها في القرى خلافاً لمن اشترط المصر. ويدل على جوازها في القرى «أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قرى عُرينة أن يصلوا الجمعة». و«لأن أسعد بن زرارة جمع بهَزْمِ النبيت» (¬1). وهو موضع قريب من القرية؛ فلأن يجوز في نفس القرية بطريق الأولى. ولأن القرية يستوطنها العدد المعتبر أشبهت المصر. وأما كون القرية يستوطنها العدد المتقدم ذكره؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أهل مكة بإقامتها في عرفات. لا يقال إنما لم يأمرهم لأنهم مسافرون لأن سفرهم دون مسافة ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه من حديث كعب بن مالك قريباً.

القصر. وحكم ذلك حكم الإقامة. وإذا امتنع نسبة عدم إقامتها إلى السفر لم يبق سوى الاستيطان بالموضع. وأما كون العدد أربعين فلما يأتي في موضعه (¬1). وأما كونهم من أهل وجوبها؛ فلما تقدم من أن من لم تجب عليه لغير عذر لا تنعقد به (¬2). وأما من كون إقامتها في غير ذلك لا يجوز؛ فلأن ما ذكر شرط في الإقامة وهو مفقود في غير ذلك فينتفي الجواز لانتفاء شرطه. قال: (ويجوز إقامتها في الأبنية المتفرقة إذا شملها اسم واحد. وفيما قارب البنيان من الصحراء). أما كون إقامة الجمعة في الأبنية المذكورة يجوز؛ فلأنها إما قرية وإما في معنى القرية. وأما كون إقامتها فيما قارب البنيان من الصحراء يجوز؛ فلما روى كعب ابن مالك قال: «أسعد بن زرارة أول من جمّع بنا في هَزْم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات» (¬3). وذلك موضع قريب من البنيان. ولأنه موضع لصلاة العيد فجازت فيه الجمعة كالجامع. ¬

_ (¬1) سيأتي ذكره لاحقاً في الشرط الثالث. (¬2) ص: 532. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1069) 1: 280 كتاب الصلاة، باب الجمعة في القرى. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 177 كتاب الجمعة، باب العدد الذين إذا كانوا في قرية وجبت عليهم الجمعة.

قال: (الثالث: حضور أربعين من أهل القرية في ظاهر المذهب. وعنه تنعقد بثلاثة. فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً. ويحتمل أنهم إن نقصوا قبل ركعة أتموا ظهراً. وإن نقصوا بعد ركعة أتموا جمعة). أما كون ثالث شروط صحة الجمعة حضور أربعين من أهل القرية في ظاهر المذهب فلما يأتي. وأما كونها تنعقد بثلاثة على روايةٍ؛ فلأن ذلك أقلُّ الجمع. وروي عن الإمام أحمد أنها لا تنعقد إلا بخمسين لما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [«على الخمسين جمعة» (¬1). والصحيح في المذهب الأول؛ لما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال] (¬2): «مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة» (¬3) رواه الدارقطني. وقول الصحابي ذلك ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ولأن أسعد بن زرارة لما جمّع كانوا أربعين. وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا اجتمع أربعون رجلاً فعليهم الجمعة». وأما كونهم إذا نقصوا عن العدد المشترط قبل إتمامها يستأنفون ظهراً؛ فلأن العدد المذكور شرطٌ فاعتبر في جميع الصلاة كالطهارة. وأما كونه يحتمل أنهم إن نقصوا قبل ركعة يتمون ظهراً وإن نقصوا بعد ركعة يتمون جمعة؛ فلأن من أصلنا أن الجمعة تدرك بركعة (¬4). فإذا نقصوا وقد صلوا أقل من ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (3) 2: 3 كتاب الجمعة، ذكر العدد في الجمعة. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 3 كتاب الجمعة، ذكر العدد في الجمعة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 177 كتاب الجمعة؛ باب العدد الذين إذا كانوا في قرية وجبت عليهم الجمعة. قال صاحب التعليق المغني على الدارقطني: وفيه: عبدالعزيز بن عبدالرحمن. قال أحمد: اضرب على حديثه، فإنها كذب أو موضوعة، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به، وقال البيهقي: هذا الحديث لا يحتج بمثله. (¬4) في ب: ركعة.

ركعة لم يدركوا الجمعة فيتمون ظهراً. وإن نقصوا وقد صلوا ركعة أدركوا الجمعة فيتمون جمعة كالمسبوق فيهما. والأول أصح؛ لما تقدم ذكره. والفرق بين هذه المسألة وبين المسبوق أن المسبوق أدرك ركعة من جمعة تمت شرائطها وصحت فجاز البناء عليها بخلاف هذه. قال: (ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة. ومن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً إذا كان قد نوى الظهر في قول الخرقي. وقال أبو إسحاق بن شاقلاء: ينوي جمعة ويتمها ظهراً). أما كون من أدرك مع الإمام من الجمعة ركعة يتمها جمعة؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة» (¬1). وأما كون من أدرك أقل من ذلك يتمها ظهراً؛ فلأن قوله عليه السلام: «من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة» (¬2) يدل بمفهومه على أنه لا يدركها بأقل من ذلك. ولأنه روي في بعض الروايات: «من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى. ومن أدرك دونها صلى أربعاً» (¬3). وعن الإمام أحمد: يتمها جمعة. نقلها صاحب المستوعب لقوله عليه السلام: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» (¬4). فوجب أن يقضي ما فاته لحصول ما أدركه. ولأن إدراك آخر الصلاة كإدراك أولها. دليله المسافر إذا اقتدى بمقيم. والصحيح الأول؛ لما تقدم من الحديث. ولقوله: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة» (¬5) متفق عليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 537. (¬2) سبق تخريجه ص: 537. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه موقوفا على ابن مسعود (5332) 1: 461 كتاب الصلاة، من قال: إذا أدرك ركعة من الجمعة صلى إليها أخرى. ولفظه: «من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى، ومن لم يدرك الركوع فليصل أربعا». (¬4) سبق تخريجه ص: 459. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (555) 1: 211 كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الصلاة ركعةً. وأخرجه مسلم في صحيحه (607) 1: 424 كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة.

وأما قوله: «وما فاتكم فاقضوا» (¬1) فقد روي: «فأتموا» (¬2) فإما يتعارضان ويَسْقُطان وإما يحملان على حالتي: القضاء إذا أدركوا ركعة، والإتمام إذا أدركوا دونها. وأما القياس على المسافر إذا اقتدى بمقيم فغير صحيح لأن إدراك المسافر إدراك التزام وإيجاب لأربع. وإدراك المسبوق إدراك إسقاط لأربع. ولأن العدد شرط في الجملة دون الإتمام. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا كان قد نوى الظهر في قول الخرقي؛ فمعناه أن من لم يدرك الجمعة إنما يتمها ظهراً إذا نوى الظهر، فلو نوى الجمعة لم تصح صلاته في قول الخرقي؛ لأن النية قصد يتبع العلم ويوافق الفعل. فالمصلي للظهر لا ينوي جمعة؛ لأنه ينوي غير ما يفعله. وينوي جمعة ويتمها ظهراً في قول إسحاق بن شاقلاء لئلا تخالف نيته نية إمامه. وقال بعض أصحابنا: لا يصليها مع الإمام لأنه إن نوى الظهر خالف نية إمامه وإن نوى جمعة وأتمها ظهراً فقد صحت له الظهر من غير نيتها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 459. (¬2) سبق تخريجه ص: 459.

قال: (ومن أحرم مع الإمام ثم زُحم عن السجود سجد على ظهر إنسان أو رجله. فإن لم يمكنه سجد إذا زال الزحام إلا أن يخاف فوات الثانية فيتابع الإمام فيها وتصير أولاه ويتمها جمعة). أما كون من زُحم عن السجود سجد على ظهر إنسان أو رجله؛ فلقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: «إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه» (¬1) رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور. ولأن الزحام عذر فأباح التصرف في الغير فيما لا ضرر عليه لتأدية واجب عليه كالاستظلال والاستصباح. وقال ابن عقيل: لا يسجد على ظهر غيره لأنه تصرف في الغير بغير إذنه. ولأنه لا يجوز السجود على يد نفسه. وظهر غيره ورجله بطريق الأولى. بل يدني جبهته حتى يقارب موضع سجوده لأن ذلك الذي يمكنه. وأما كون من لم يمكنه السجود كما تقدم ولم يخف فوات الثانية يسجد إذا زال الزحام؛ فلأنه أمكنه تحصيل كمال السجود فلزمه كما لو لم يُزحم. فإن قيل: كيف يجوز له مفارقة الإمام؟ قيل: لا بأس بمفارقة الإمام صورةً مع كونه متابعه حكماً للعذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل من صلى معه صلاة عسفان كذلك. وأما كونه يتابع إمامه إذا خاف فوات الثانية؛ فلقوله عليه السلام: «لا تختلفوا على أئمتكم» (¬2). وقوله عليه السلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا» (¬3). وعن الإمام أحمد رحمة الله عليه: يجب عليه أن يتشاغل بما فاته من السجود؛ لأن إمامه قد سجد فيجب عليه أن يسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا سجد فاسجدوا» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (70) 13. (¬2) سبق تخريجه ص: 339. (¬3) سبق تخريجه ص: 395. (¬4) سبق تخريجه ص: 395.

والأول أصح؛ لئلا تكثر مفارقته للإمام. ولأن الزحام عذر فيكون مسقطاً لمتابعته للإمام في السجود. وأما كون ثانية الإمام تصير أولى المأموم؛ فلأن الأولى لم تحصل به. وأما كونه يتمها جمعة؛ فلأن الجمعة تدرك بركعة وهي موجودة هاهنا. قال: (فإن لم يتابعه عالماً بتحريم ذلك بطلت صلاته. وإن جهل تحريمه فسجد ثم أدرك الإمام في التشهد أتى بركعة أخرى بعد سلامه وصحت جمعته. وعنه يتمها ظهراً). أما كون صلاة المأموم تبطل إذا لم يتابع إمامه عالماً بتحريم مفارقته؛ فلأنه ترك متابعة إمامه عمداً. ومتابعته واجبة لما تقدم من قوله عليه السلام: «لا تختلفوا على أئمتكم فإذا ركع فاركعوا ... الحديث» (¬1). وترك الواجب عمداً يبطل الصلاة وفاقاً. وأما كونها لا تبطل إذا ترك متابعة إمامه جهلاً بتحريمها؛ فلأن الجاهل معذور أشبه الساهي. وأما كون جمعته تصح إذا سجد مع جهله ثم أتى بركعة بعد سلام إمامه على المذهب؛ فلأنه أتى بسجود معتد به. وإذا اعتد له بذلك وهو حكم الإتمام فقد أدرك مع الإمام ركعة والجمعة تدرك بركعة. وأما كونها لا تصح ويتم ما صلى ظهراً على روايةٍ؛ فلأنه لم يدرك مع الإمام ركعة بسجدتيها لأن ما أتى به من السجود لم يتابع إمامه فيه حقيقة وإنما أتى به على وجهِ التدارك فلم يكن مدركاً للجمعة. قال: (الرابع: أن يتقدمها خطبتان: من شرط صحتهما حمد الله تعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله تعالى، وحضور ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 339.

العدد المشترط. وهل يشترط لهما الطهارة وأن يتولاهما من يتولى الصلاة؟ على روايتين). أما كون رابع شروط صحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان: أما الخطبتان؛ فلأن الله تعالى قال: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] أمر بالسعي إلى الذكر فيكون واجباً لأن ما ليس بواجب لا يكون السعي إليه واجباً. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين يقعد بينهما» (¬1) متفق عليه. وقال الله تعالى: {واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 158]. وقالت عائشة رضي الله عنها: «إنما أقرت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة». وأما تقدم الخطبتين على الصلاة؛ فـ «لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب الخطبتين قبل الصلاة» (¬2). وقد أمرنا باتباعه. وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬3). وأما كون الخطبتين من شرط صحتهما حمد الله إلى آخره: أما الحمد؛ فـ «لأن خُطب النبي صلى الله عليه وسلم لم تخل من تحميد». ولقوله عليه السلام: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله تعالى فهو أبتر» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (886) 1: 314 كتاب الجمعة، باب القعدة بين الخُطبتين يوم الجمعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (861) 2: 589 كتاب الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة. (¬2) عن أنس قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل من المنبر فيعرض له الرجل في الحاجة فيقوم معه حتى يقضي حاجته ثم يقوم فيصلي». أخرجه أبو داود في سننه (1120) 1: 292 كتاب الصلاة، باب الإمام يتكلم بعد ما ينزل من المنبر. (¬3) سبق تخريجه ص: 396. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4840) 4: 261 كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1894) 1: 610 كتاب النكاح، باب خطبة النكاح.

وأما الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلما ورد في تفسير قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} [الإنشراح: 4] أنه لا يذكر الله إلا ويذكر الرسول معه (¬1). فكل موضع شرع فيه ذكر الله شرع فيه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما قراءة آية؛ فلأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين والقراءة واجبة فيهما، فكذلك فيما أقيم مقامهما. لا يقال: فيجب قراءة قرآن فيهما؛ لأن اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على غيرها يدل على عدم وجوبها. وأما الوصية بتقوى الله عز وجل؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في خطبته. ولأن ذلك هو المقصود من الخطبة فلا يجوز الإخلال به. وأما حضور العدد المشترط؛ فلأنه ذكرٌ اشترط للصلاة. فاشترط له العدد كتكبير الإحرام. وأما كون الطهارة تشترط للخطبتين على روايةٍ؛ فلأنه ذكر مشروع في صحة الصلاة. فاشترط له الطهارة كتكبيرة الإحرام. وأما كونها لا تشترط على روايةٍ؛ فلأنهما ذكران يتقدمان الصلاة فلم يكن من شرطها الطهارة كالأذان والإقامة. وأما كون أن يتولاهما من يتولى الصلاة يشترط على روايةٍ؛ فلأنهما أقيمتا مقام ركعتين فكما لا يجوز أن يصلي إمامان صلاة واحدة فكذلك الخطبتان والصلاة. وأما كونه لا يشترط على روايةٍ؛ فلأنهما فصلان من الذكر يتقدمان الصلاة أشبها الأذان والإقامة. وهذا الخلاف فيما إذا لم يكن عذر فإن كان لعذر مثل أن يسبق الخطيب الحدث فهو (¬2) مبني على جواز الاستخلاف. وظاهر المذهب جوازه لأنه إذا جاز في صلب الصلاة ففي هذه الصورة أولى. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (651) 2: 183 كتاب التفسير. (¬2) في ب: في.

قال: (ومن سننهما أن يخطب على منبر أو موضع عال. ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم. ثم يجلس إلى فراغ الأذان. يجلس بين الخطبتين. ويخطب قائماً. ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا، ويقصد تلقاء وجهه. ويقصر الخطبة. ويدعو للمسلمين). أما كون الخطبتين من سننهما أن يخطب على منبر إن كان أو على موضع عال إن لم يكن منبراً: أما المنبر؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر. قال سهل ابن سعد: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة سماها سهل: أن مري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليها إذا كلمت الناس» (¬1) متفق عليه. ورواه أبو داود. وأما الموضع العالي إن لم يكن منبر؛ فلأن ذلك في معنى المنبر لاشتراكهما في المبالغة في الإعلام. وأما كونهما من سننهما يسلم الإمام على المأمومين إذا أقبل عليهم؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم» (¬2) رواه ابن ماجة. وأما كونهما من سننهما أن يجلس إلى فراغ الأذان؛ فلأن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ أذان المؤذن ... مختصر» (¬3) رواه أبو داود. ولأن في جلوسه استراحة له من تعب الصعود وبذلك يتمكن من الكلام التمكن التام. وأما كونهما من سننهما أن يجلس بين الخطبتين؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس بينهما. روى ابن عمر «أنه كان يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (875) 1: 310 كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر. وأخرجه مسلم في صحيحه (544) 1: 386 كتاب المساجد، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة. وأخرجه أبو داود في سننه (1080) 1: 283 كتاب الصلاة، باب في اتخاذ المنبر. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1109) 1: 352 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الخطبة يوم الجمعة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1092) 1: 286 كتاب الصلاة، باب الجلوس إذا صعد المنبر. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (886) 1: 314 كتاب الجمعة، باب القعدة بين الخُطبتين يوم الجمعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (861) 2: 589 كتاب الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة.

وإنما لم يجب لأن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم لم يجلسوا منهم المغيرة وأبيّ بن كعب. وروي عن أبي إسحاق قال: «رأيت علياً يخطب على المنبر فلم يجلس حتى فرغ». وذكر ابن عقيل في التذكرة رواية في وجوب الجلسة المذكورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمرنا باتباعه. والأول أصح؛ لما ذكر. ولأنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم تكن واجبة كالأولى. وأما كونهما من سننهما أن يخطب قائماً؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً» (¬1). وإنما لم يجب لأنه ذِكرٌ ليس من شرطه الاستقبال فلم يجب له القيام كالأذان. وعن الإمام أحمد: يجب أن يخطب قائماً «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً». وكذلك الخلفاء بعده. وقال الله تعالى: {فاتبعوه} [الأنعام: 155]. وأما كونهما من سننهما أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصاً؛ فلما روى الحكم بن حزن قال: «وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة فقام متوكئاً [على] (¬2) سيف أو قوس أو عصا ... مختصر» (¬3) رواه أبو داود. ولأن ذلك أمكن له. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (878) 1: 311 كتاب الجمعة، باب الخطبة قائماً. وأخرجه مسلم في صحيحه (861) 2: 589 كتاب الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1096) 1: 287 كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس. وأخرجه أحمد في مسنده (17400) ط إحياء التراث.

وأما كونهما من سننهما أن يقصد تلقاء وجهه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك (¬1). ولأنه أبلغ في إسماع الناس. ولأنه إذا التفت إلى أحد جانبيه أعرض عمن في الجانب الآخر. وأما كونهما من سننهما أن يُقَصّر الخطبة؛ فلما روى عمار قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه. فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة» (¬2) رواه مسلم. وأما كونهما من سننهما أن يدعو للمسلمين؛ فلأن الدعاء لهم مسنون في غير الخطبة ففيها أولى. فإن قيل: الدعاء للسلطان ما حكمه؟ قيل: يسن لأن صلاحه صلاح المسلمين. و«لأن أبا موسى الأشعري كان إذا خطب يدعو لعمر». وقال القاضي: لا يستحب؛ لأنه لم ينقل عن السلف. قال: (ولا يشترط إذن الإمام. وعنه يشترط). أما كون إذن الإمام لا يشترط لصحة الجمعة على روايةٍ فـ «لأن علياً رضي الله عنه صلى بالناس وعثمان رضي الله عنه محصور» (¬3). ولأنها من فرائض الأعيان فلم يعتبر لها إذن الإمام كالظهر. ¬

_ (¬1) عن عبد الله بن مسعود قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا». أخرجه الترمذي في جامعه (509) 2: 383 أبواب الصلاة، باب ما جاء في استقبال الإمام إذا خطب. قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عمر وحديث منصور لا نعرفه إلا من حديث محمد بن الفضل بن عطية ومحمد بن الفضل بن عطية ضعيف ذاهب الحديث عند أصحابنا والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يستحبون استقبال الإمام إذا خطب وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق. قال أبو عيسى: ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (869) 2: 594 كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة. وأخرجه أحمد في مسنده (18343) 4: 263. (¬3) قال الحافظ في الفتح: روى إسماعيل الخطي في تاريخ بغداد من رواية ثعلبة بن يزيد الحماني قال: فلما كان يوم عيد الأضحى جاء علي فصلى بالناس. (ر. فتح الباري 2: 222 طبعة دار الريان).

وأما كونه يشترط على روايةٍ؛ فلأن الجمعة من أعلام الدين الظاهرة التي لا تحصل بالواحد فافتقرت إلى إذن الإمام كالجهاد.

فصل قال المصنف رحمه الله: (وصلاة الجمعة ركعتان. يجهر فيهما بالقراءة. ويستحب أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية بالمنافقين). أما كون صلاة الجمعة ركعتين فقال ابن المنذر: أجمع المسلمون على ذلك. نقله الخلف عن السلف. وقال عمر رضي الله عنه: «صلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وقد خاب من افترى» (¬1) رواه الإمام أحمد وابن ماجة. وأما كونها يجهر فيهما بالقراءة فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر فيهما». نقله الخلف عن السلف. و«لأن الصحابة رووا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة الجمعة والمنافقين» (¬2). وذلك دليل السماع. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة النهار عجماء إلا الجمعة والعيدين». وأما كون الأولى يستحب أن يَقرأ فيها بسورة الجمعة وفي الثانية بالمنافقين؛ فـ «لأن أبا هريرة صلى الجمعة فقرأ بسورة الجمعة وفي الثانية بسورة المنافقين. وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأهما في الجمعة» (¬3) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (1063) 1: 338 كتاب إقامة الصلاة، باب تقصير الصلاة في السفر. وأخرجه أحمد في مسنده (257) 1: 37. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (879) 2: 599 كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في يوم الجمعة. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (877) 2: 597 الموضع السابق.

وقال المصنف في المغني: وإن قرأ في الثانية بالغاشية فحسن «لأن الضحاك ابن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على إثر سورة الجمعة قال: بـ {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1]» (¬1) أخرجه مسلم. وقال: وإن قرأ في الأولى بسبح كان حسناً لأن سمرة بن جندب روى «أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بـ {سبح اسم ربك} [الأعلى: 1] و {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1]» (¬2) رواه أبو داود والنسائي. قال: (وتجوز إقامة الجمعة في موضعين من البلد للحاجة. ولا يجوز مع عدمها. فإن فعلوا فجمعة الإمام هي الصحيحة. فإن استوتا فالثانية باطلة. فإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا معاً). أما كون الجمعة تجوز إقامتها في موضعين من البلد للحاجة؛ مثل: أن يكون البلد كبيراً؛ كبغداد وأصبهان ونحوهما، أو يكون المسجد ضيقاً، أو يخاف الفتنة كالتي بين القبائل؛ فلأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة. فجاز فعلها في موضعين مع الحاجة؛ كصلاة العيد. وقد ثبت «أن علياً كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويخلّف على ضعفةِ الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (878) 2: 598 كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، نحوه. وأخرجه أبو داود في سننه (1122) 1: 293 كتاب الصلاة، باب ما يقرأ به في يوم الجمعة، واللفظ له. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1125) 1: 293 كتاب الصلاة، باب ما يقرأ به يوم الجمعة. وأخرجه النسائي في سننه (1422) 3: 111 كتاب الجمعة، القراءة في صلاة الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من طريق أبي قيس عن هزيل «أن علياً أمر رجلاً يصلي بضعفة الناس في المسجد أربعاً» 3: 310 كتاب صلاة العيدين، باب: الإمام يأمر من يصلي بضعفة الناس العيد في المسجد. وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي قيس قال: أظنه عن هزيل، نحو لفظ البيهقي، وزاد بعد قوله: أربعاً: كصلاة الهجير. (5815) 3: 5 كتاب الصلاة، القوم يصلون في المسجد كم يصلون؟ . وأخرج النسائي في سننه عن ثعلبة بن زهدم «أن علياً استخلف أبا مسعود على الناس فخرج يوم عيد. فقال: يا أيها الناس إنه ليس من السنة أن يصلى قبل الإمام». (1561) 3: 181 كتاب صلاة العيدين، الصلاة قبل الإمام يوم العيد.

ولأنها لو لم تجز إلا في موضع واحد لأدى إلى تعطيلها في حق كثير من الخلق لأن وجوبها على أهل البلد العظيم لا يتقيد بسماع ولا بفرسخ فالبعيد يعجز عن قطع المسافة البعيدة ويصير من يخاف الفتنة معذوراً ومع ضيق المكان تقام الصلاة في الشوارع إلى حد يتعذر البلاغ معه (¬1) لاختلاف الأصوات. ولأن إقامتها في البلاد الكبار في موضعين مع عدم الإنكار يصير كالإجماع على جواز ذلك. وعن الإمام أحمد: لا تقام إلا في موضع واحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقمها إلا في موضع واحد. وكذلك الخلفاء بعده. والأول أصح لما ذكر. وإنما لم يقمها النبي صلى الله عليه وسلم لعدم الحاجة. ولأن أحداً لم يكن ليترك الصلاة خلفه صلى الله عليه وسلم ويصلي خلف غيره. وأما كونها لا تجوز إقامتها في موضعين مع عدم الحاجة؛ فلأنه لا حاجة. والعبادات المغلب فيها (¬2) الاتباع ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الراشدين بعده فعلها في موضعين. وروى ابن عمر رضي الله عنهما: «لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الإمام» (¬3). خص منه إذا كان لحاجة فيبقى فيما عداه حجة. ولأن المقصود من الجمعة إقامة الشعائر وتعظيم الإسلام والتفريق من غير حاجة يخل بذلك. وأما كون جمعة الإمام هي الصحيحة إذا صلي في موضعين مع عدم الحاجة؛ فلأن في الحكم بصحة غيرها افتياتاً على الإمام وتفويتاً لجمعته. ولأن ذلك يفضي إلى أنه متى شاء أربعون أن يفسدوا على أهل البلد صلاتهم أمكنهم ذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) مثل السابق. (¬3) ذكره ابن حجر في التلخيص وعزاه إلى ابن المنذر 2: 112.

وقيل: بل السابقة هي الصحيحة لأنها لم تتقدمها ما يفسدها. وبعدما وقعت صحيحة لا تفسد بما بعدها. والسبق معتبر بالإحرام لأنه متى (¬1) أحرم حرم الاستفتاح بغيرها للغنى عنها. وأما كون الثانية باطلة إذا استويا. والمعنيّ بالاستواء هنا أن تكون كل واحدة منهما بإذن الإمام.؛ فلأن الاستغناء حصل بالأولى مع أن الثانية لا مزية لها. وأما كونهما يبطلان معاً إذا وقعتا معاً أو جهلت الأولى؛ فلأنه لا يمكن تصحيحهما ولا تتعين إحداهما بالصحة فبطلتا كما لو جمع بين أختين. قال: (وإذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزئ بالعيد وصلى ظهراً جاز إلا الإمام). أما كون المأموم إذا اجتزأ فيما ذكر بالعيد عن الجمعة وصلى ظهراً يجوز؛ فلما روى زيد بن أرقم قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم. فصلى العيد ثم رخص في الجمعة. فقال: من شاء أن يصلي فليصلي» (¬2) رواه أبو داود. وأما كون الإمام إذا اجتزأ بالعيد عن الجمعة وصلى ظهراً لا يجوز؛ فلما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان. فمن شاء أجزأه عن الجمعة. وإنا مُجَمِّعون» (¬3) رواه ابن ماجة. ولأن الإمام لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من يريدها. وعن الإمام أحمد رضي الله عنه: لا تجب على الإمام أيضاً «لأن ابن الزبير لم يصلها وكان إماماً» (¬4). ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1070) 1: 281 كتاب الصلاة، باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1310) 1: 416 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1073) 1: 281 كتاب الصلاة، باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1311) 1: 416 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيما إذا اجتمع العيدان في يوم، عن ابن عباس. (¬4) عن وهب بن كيسان قال: «اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصلى ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس فقال: أصاب السنة». أخرجه النسائي في سننه (1592) 3: 194 كتاب صلاة العيدين، الرخصة في التخلف عن الجمعة لمن شهد العيد. وأخرجه أبو داود في سننه (1071) 1: 281 كتاب الصلاة، باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، نحوه.

ولأن الجمعة إذا سقطت عن المأمومين سقطت عن الإمام كالسفر. والأول أصح لما ذكر من الفرق. قال: (وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان. وأكثرها ست ركعات). أما كون أقل السنة بعد الجمعة ركعتين؛ فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين» (¬1) متفق عليه. ولو سن أقل من ذلك لفعله. وأما كون أكثرها ست ركعات؛ فلأن ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بعد الجمعة ركعتين ثم يتقدم فيصلي أربعاً» (¬2). وعن أبي (¬3) عبدالرحمن السلمي قال (¬4): «علمنا عبدالله بن مسعود أن نصلي بعد الجمعة أربعاً. فلما قدم عليّ علّمنا أن نصلي ستاً» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1112) 1: 392 أبواب التطوع، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ولفظه: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد الجمعة ... ». وأخرجه مسلم في صحيحه (882) 2: 601 كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1133) 1: 295 كتاب الصلاة، باب الصلاة بعد الجمعة، عن عطاء «أنه رأى ابن عمر يصلي بعد الجمعة فَيَنْمَازَ عن مصلاه الذي صلى فيه الجمعة قليلاً غير كثير قال: فيركع ركعتين قال: ثم يمشي أنفس من ذلك فيركع أربع ركعات قلت لعطاء: كم رأيت ابن عمر يصنع ذلك؟ قال: مراراً». وأخرجه الترمذي في جامعه (523) 2: 402 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة قبل الجمعة وبعدها، ولفظه: عن عطاء قال: «رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين ثم صلى بعد ذلك أربعاً». (¬3) ساقط من ب. (¬4) مثل السابق. (¬5) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (5525) 3: 247 كتاب الصلاة، باب: الصلاة قبل الجمعة وبعدها. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5367) 1: 464 كتاب الصلاة، من كان يصلي بعد الجمعة ركعتين. وذكره الترمذي في جامعه معلقاً 2: 401 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة قبل الجمعة وبعدها.

ولأنها ظهرٌ مقصورة فينبغي أن يصلي بعدها شيئاً ليكون ذلك عن ركعتين قبلها وركعتين بعدها وركعتين تمامها. وقال المصنف رحمه الله في المغني: المختار أن يصلى أربعاً لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «من كان مصلياً بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً» (¬1) رواه مسلم. فإن قيل: لم يكون الأخذ بهذا الحديث أولى؟ قيل: لوجوه: أحدها: أنه أمر. ودلالة الأمر على تأكيد الشيء أقوى من الفعل. الثاني: أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم. ودلالة الستِّ قول علي. الثالث: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم معتضد بقول صحابي وهو ابن مسعود. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (882) 2: 600 كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة.

فصل [في مستحبات الجمعة] قال المصنف رحمه الله: (ويستحب أن يغتسل للجمعة في يومها، والأفضل فعله عند مُضِيِّه إليها. ويتنظف. ويتطيب. ويلبس أحسن ثيابه. ويبكر إليها ماشياً. ويدنو من الإمام. ويشتغل بالصلاة والذكر. ويقرأ سورة الكهف في يومها. ويكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه). أما كون مصلي الجمعة يستحب له أن يغتسل لها؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى الجمعة فليغتسل» (¬1) متفق عليه. وقد تقدم في الأغسال المستحبة عدم وجوبه والخلاف فيه (¬2). وأما كون الغسل في يوم الجمعة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة» (¬3) أضافه إلى اليوم واليوم من طلوع الفجر لأن ذلك هو اليوم الشرعي. فعلى هذا من اغتسل بعد طلوع الفجر إلى أن يروح إلى الجمعة حصّل الفضيلة. وإن اغتسل قبل طلوع الفجر لم يحصّل الفضيلة المذكورة. وأما كون الأفضل في الغسل فعله عند مضيه إليها؛ فلأنه أبلغ في قطع الرائحة. وأما كونه يستحب له أن يتنظف ويتطيب؛ فلما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغتسلُ رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر. ويدهن من دهنه. ويمس من طيب بيته. ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين. ثم يصلي ما كُتب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (877) 1: 311 كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر. وأخرجه مسلم في صحيحه (844) 1: 576 كتاب الجمعة، باب صلاة الخوف. (¬2) ر كتاب الطهارة، فصل في الأغسال المستحبة. ص: 228. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (868) 1: 308 كتاب الجمعة، باب لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (850) 2: 582 كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة.

له. ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (¬1) رواه البخاري. وأما كونه يستحب له أن يلبس أحسن ثيابه؛ فلأن في بعض ألفاظ الحديث: «ولبس أحسن ثيابه. ثم جاء إلى المسجد» (¬2). وأما كونه يستحب له أن يبكر إليها فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة. ومن راح في [الساعة] (¬3) الثانية فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ... الحديث» (¬4). وأما كونه يستحب له أن يمشي ويدنو من الإمام؛ فلقوله عليه السلام: «من غسّل واغتسل. وبكر وابتكر. ومشى ولم يركب. ودنا من الإمام واستمع. ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها» (¬5) رواه ابن ماجة. وأما كونه يستحب له أن يشتغل بالصلاة والذكر؛ فلما في ذلك من تحصيل الأجر. ولا بد أن يُلحظ في ذلك كونه غير سامع للخطبة لأنه لو كان يسمعها لحرم عليه الكلام لما يأتي. ويتصور ذلك في موضعين: أحدهما: إذا حضر قبل خطبة الإمام. الثاني: أن يكون بعيداً منه بحيث لا يسمع الخطبة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (843) 1: 301 كتاب الجمعة، باب الدهن للجمعة. عن سلمان الفارسي رضي الله عنه. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1097) 1: 349 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (841) 1: 301 كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (850) 1: 582 كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة. (¬5) أخرجه ابن ماجة في سننه (1087) 1: 346 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة.

وأما كونه يستحب له أن يقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة؛ فلأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أو ليلته وُقي فتنة الدجال» (¬1). وأما كونه يستحب له أن يُكثر الدعاء في اليوم المذكور فلعله يوافق ساعة الإجابة فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه» (¬2) متفق عليه. وأما كونه يستحب له أن يكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا من الصلاة عليّ في يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة» (¬3) رواه ابن ماجة. قال: (ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماماً أو يرى فرجة فيتخطى إليها. وعنه يكره). أما كون غير الإمام ومن يرى فرجة لا يتخطى رقاب الناس. والمراد به أنه يكره له ذلك فلما في التخطي من سوء الأدب والتأذي. وقد «رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له: اجلس فقد آنيت وآذيت» (¬4) رواه أحمد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال (¬5): «لأن أصلي بحر رمضاء أحب إليّ من أن أتخطى رقاب الناس» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة 3: 478. ورواه أبو سعيد مرفوعاً بلفظ: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين». أخرجه البيهقي 3: 249 كتاب الجمعة، باب: ما يؤمر به في ليلة الجمعة ويومها ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (893) 1: 316 كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (852) 2: 584 كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (1637) 1: 524 كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (17733) 4: 190. وأخرجه أبو داود في سننه (1118) 1: 292 كتاب الصلاة، باب تخطي رقاب الناس يوم الجمعة. نحوه. (¬5) ساقط من ب. (¬6) أخرجه البيهقي 3: 231 كتاب الجمعة، باب: لا يتخطى رقاب الناس، ولفظه: «لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة خير له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطب جاء يتخطى رقاب الناس».

وأما كون الإمام يتخطى رقاب الناس. والمراد به أنه لا يكره له ذلك؛ فلأن مكانه متعين لا يمكنه الصلاة في غيره. ولا يستحب له التبكير لأنه يُنتظر ولا يَنتظر. وأما كون من يرى فرجة لا يكره له ذلك على روايةٍ؛ فلأن من قعد دونها بتأخره أسقط حقه من الاحترام وفوّت على نفسه الفضيلة فلا يفوتها على غيره. وأما كونه يكره له ذلك على روايةٍ فلما فيه من الأذى لغيره. وعن الإمام أحمد: إن تخطى الواحد والاثنين فلا بأس لأنه يسير. وإن كثر كره لما فيه من الأذى الكثير. قال: (ولا يقيم غيره فيجلس مكانه. إلا من قدم صاحباً له فجلس في موضع يحفظه له. وإن وجد مصلى مفروشاً فهل له رفعه؟ على وجهين). أما كون المصلي لا يقيم غير صاحب له من مكانه فيجلس فيه؛ فلما روى ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُقيم الرجل يعني أخاه من مقعده ويجلس فيه» (¬1) متفق عليه. وأما كونه له أن يقيم صاحباً له جلس في موضع يحفظه له فـ «لأن ابن سيرين كان يفعل ذلك». ولأنه قعد فيه يحفظه له ولا يحصل ذلك إلا بإقامته. وأما كون من (¬2) وجد مصلىً مفروشاً له رفعه على وجهٍ؛ فلأن المفروش لا حرمة له بنفسه والحاضر مسارع مبادر لفضيلة الصلاة فهو أولى من المتأخر. وأما كونه ليس له رفعه؛ فلأنه كالنائب عنه. ولأن في رفعه افتياتاً على صاحبه وتصرفاً في ملكه بغير إذنه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (869) 1: 309 كتاب الجمعة، باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه. وأخرجه مسلم في صحيحه (2177) 3: 1714 كتاب السلام، باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

قال: (ومن قام من موضعه لعارض لحقه ثم عاد إليه فهو أحق به. ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما). أما كون من قام من موضعه لعارض لحقه ثم عاد إليه أحق بموضعه من غيره؛ فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» (¬1) رواه مسلم. وأما كون من دخل والإمام يخطب لا يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما؛ فلما روى جابر بن عبدالله «أن سُليكاً الغطفاني دخل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس فقال: قم فصل ركعتين تجوز فيهما» (¬2) متفق عليه. قال: (ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن كلمه. ويجوز الكلام قبل الخطبة وبعدها. وعنه يجوز فيها). أما كون الكلام والإمام يخطب لا يجوز لغير الإمام وغير من كلمه على المذهب؛ فلقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف: 204] قالت عائشة: «نزلت في الخطبة». ولأن في الخطبة قرآناً. ولما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلتَ لصاحبكَ يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصتْ فقد لغوت» (¬3) متفق عليه. وكلام المصنف رحمه الله يشمل من سمع الخطبة ومن لم يسمع لعموم الحديث. ولأن عثمان رضي الله عنه قال: «أنصتوا فإن حظَّ المنصتِ الذي لم يسمع كحظّ المنصتِ السامع» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (2179) 4: 1715 كتاب السلام، باب إذا قام من مجلسه ثم عاد، فهو أحق به. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (889) 1: 315 كتاب الجمعة، باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين. وأخرجه مسلم في صحيحه (875) 2: 597 كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (892) 1: 316 كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب. وأخرجه مسلم في صحيحه (851) 2: 583 كتاب الجمعة، باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 220 جماع أبواب آداب الخطبة، باب الإنصات للخطبة وإن لم يسمعها.

وأما كونه يجوز على روايةٍ فقياساً على الإمام وعلى من كلمه. فإن قيل على الأول: لو سلم أحد على السامع ماذا يصنع؟ قيل: روي عن الإمام أحمد أنه يحرم الرد لما فيه من تفويت الإنصات. ولأن المسلم أسقط حقه حيث سلم في موضع لا يرد عليه فيه. أشبه ما لو سلم عليه في الصلاة. وروي عنه أنه لا يحرم؛ لأن رد السلام واجب. والخطبة لا تمنع الكلام الواجب بدليل ما لو رأى أعمى يتردى في بئر. وحكم من يسمع همهمة الخطيب حكم من يسمع مفصلاً. ومن لا يسمع شيئاً أصلاً يرد السلام. ولو عطس إنسان فحكم التشميت حكم رد السلام. وأما كونه يجوز للإمام ولمن كلمه فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم سُليكاً وكلمه هو ودخل وهو يخطب فقال: يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم هلك الكراع هلك الشاء فادع الله تعالى أن يسقينا ... وذكر الحديث» (¬1) متفق عليه. وأما كونه قبل الخطبة وبعدها يجوز؛ فلما روى ثعلبة بن مالك «أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر. فإذا سكت المؤذن وقام عمر لم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين. فإذا قامت الصلاة وبرك عمر تكلموا». ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (890) 1: 315 كتاب الجمعة، باب رفع اليدين في الخطبة. وأخرجه مسلم في صحيحه (897) 2: 612 كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء.

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين سمي العيد عيداً لأنه يعود كل سنة. وقيل: لأنه يعود فيه السرور. وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وللأنصار يومان يلعبون فيهما. فقال: ما هذان اليومان؟ فقالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال: إن الله قد أبدلكم خيراً منهما: العيدين الفطرَ والأضحى» (¬1). والأصل فيهما الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]. قيل في التفسير: أنها صلاة العيد. وأما السنة فقد ثبت بالتواتر «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيدين» (¬2). وأما الإجماع فأجمع المسلمون على مشروعيتهما في الجملة. قال المصنف رحمه الله: (وهي فرض على الكفاية. إذا اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام). أما كون صلاة العيد فرضاً على الكفاية؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده يداومون عليها. ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة فكانت فرضاً على الكفاية كالجهاد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1134) 1: 295 كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين. وأخرجه النسائي في سننه (1556) 3: 179 كتاب صلاة العيدين، باب رفع الإمام يديه عند مسألة إمساك المطر. نحوه. (¬2) سوف يأتي سرد أحاديث صلاة العيدين لاحقاً.

وإنما لم تجب على الأعيان؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر للأعرابي خمس صلوات قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا» (¬1). وأما كون الإمام يقاتل أهل بلد اتفقوا على تركها؛ فلأنهم تركوا شيئاً من شعائر الإسلام الظاهرة فشرع للإمام أن يقاتلهم كتركهم الأذان. قال: (وأول وقتها إذا ارتفعت الشمس. وآخره إذا زالت. فإن لم يَعلم بالعيد إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم). أما كون أول وقت صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس؛ فلما روى الحسن «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغدو إلى الأضحى والفطر حين تطلع الشمس فيتم طلوعها. وكان يفتتح الصلاة وقت حضوره». وروي «أنه كان يصلي والشمس على رؤوس الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال». وأما كون آخره إذا زالت؛ فلأنها شاركت الضحى في أول وقتها فكذلك يجب أن تشاركها في آخره. وأما كون الإمام يخرج من الغد ويصلي بالناس صلاة العيد إذا لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال؛ فلما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن ركباً جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس. فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» (¬2). رواه أبو داود. قال: (ويسن تقديم الأضحى وتأخير الفطر. والأكل في الفطر قبل الصلاة. والإمساك في الأضحى حتى يصلي. والغسل والتبكير إليها بعد الصبح ماشياً على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (46) 1: 25 كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام. وأخرجه مسلم في صحيحه (11) 1: 40 كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1157) 1: 300 كتاب الصلاة، باب إذا لم يخرج الإمام للعيد من يومه يخرج من الغد. وأخرجه النسائي في سننه (1557) 3: 180 كتاب صلاة العيدين، باب الخروج إلى العيدين من الغد. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1653) 1: 529 كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال.

أحسن هيئة إلا المعتكف فإنه يخرج في ثياب اعتكافه أو إماماً يتأخر إلى وقت الصلاة. وإذا غدا من طريق رجع في أخرى). أما كون تقديم الأضحى وتأخير الفطر يسن؛ فلما روى عمرو بن حزم «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم الأضحى ويؤخر الفطر» (¬1). ولأن السنة إخراج الفطرة قبل الصلاة ففي تأخير الصلاة توسيع لوقتها. ولا تجوز الأضحية إلا بعد الصلاة ففي تعجيلها مبادرة إلى الأضحية. وأما كون الأكل في الفطر قبل الصلاة والإمساك في الأضحى حتى يصلي يسن؛ فلما روى بريدة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر. ولا يَطعم يوم النحر حتى يصلي» (¬2) رواه الترمذي. وأما كون الغسل يسن فلما ذكر في الأغسال المستحبة. وأما كون التبكير إلى صلاة العيد لغير الإمام يسن فليحصل له الدنو من موضع الإمام وانتظار الصلاة فيكثر ثوابه. وأما كون المشي إليها يسن؛ فلأن علياً رضي الله قال: «من السنةِ أن تأتي العيدَ ماشياً» (¬3) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا، وقد أخرج الشافعي في مسنده عن أبي الحويرث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران أن عجِّل الأضاحي، وأخر الفطر، وذكّر الناس» (342) 1: 152 كتاب الصلاة، باب: صلاة العيدين. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (542) 2: 426 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الأكل يوم الفطر قبل الخروج. نحوه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1756) 1: 558 كتاب الصيام، باب في الأكل يوم الفطر قبل أن يخرج. نحوه. وأخرجه أحمد في مسنده (23033) 5: 352. قال الترمذي: حديث غريب. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (530) 2: 410 أبواب الصلاة، باب ما جاء في المشي يوم العيد. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1296) 1: 411 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الخروج إلى العيد ماشياً. قال الترمذي: هذا حديث حسن والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشياً وأن يأكل شيئاً قبل أن يخرج لصلاة الفطر.

وأما كون حسن الهيئة لغير المعتكف يسن؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر ويعتم في العيدين والجمعة (¬1») (¬2) رواه ابن عبدالبر. وأما كون المعتكف يسن له أن يخرج في ثياب اعتكافه؛ فلأن في ذلك إبقاء لأثر العبادة والنسك. وأما كون الإمام يسن له أن يتأخر إلى وقت الصلاة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يفعل. ولأن الإمام يُنتظر ولا يَنتظر. وأما كون الرجوع من طريق غير التي غدا منها يسن؛ فلأن جابراً قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق» (¬3) رواه البخاري. قال: (وهل من شرطها الاستيطان، وإذن الإمام، والعدد المشترط للجمعة؟ على روايتين). أما كون جميع ذلك من شرط صلاة العيد على روايةٍ؛ فلأنها صلاة بها خطبة راتبة. أشبهت الجمعة. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وافق العيد في حجه ولم يصل. وأما كون شيء من ذلك ليس من شرطها على روايةٍ؛ فلأنها صلاة لم ينقل إليها شيء من فرض. فلم يعتبر فيها شيء من ذلك، كسائر الصلوات. ولأنها تقضى بغير خلاف في المذهب مع عدم هذه الشرائط وما صح في القضاء صح في الأداء. فعلى هذا يجوز إقامتها بغير إذن الإمام ويجوز إقامتها للمسافرين كسائر الصلوات. وإنما لم يقمها النبي صلى الله عليه وسلم في حجه؛ لأنه اشتغل عنها بالمناسك لأنها أهم لأنها فرض عين، وصلاة العيد سنة في حق المسافر. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 280 كتاب صلاة العيدين، باب الزينة للعيد. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (943) 1: 334 كتاب العيدين، باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد.

قال: (وتسن في الصحراء. وتكره في الجامع إلا من عذر). أما كون صلاة العيد تسن في الصحراء؛ فلما روى أبو سعيد الخدري «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في الصحراء وكذلك الخلفاء بعده» (¬1). وأما كونها تكره في الجامع مع عدم العذر؛ فلأنه خلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل الخلفاء بعده. وأما كونها لا تكره في الجامع لعذر من مطر ونحوه؛ فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «أصابنا مطر في يوم عيد فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد» (¬2) رواه أبو داود. قال: (ويبدأ بالصلاة. فيصلي ركعتين: يكبر في الأولى بعد الاستفتاح وقبل التعوذ ستاً. وفي الثانية بعد القيام من السجود خمساً. يرفع يديه مع كل تكبيرة. ويقول: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً. وإن أحب قال غير ذلك). أما كون إمام صلاة العيد يبدأ بالصلاة؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة وقت حضوره» (¬3). وأما كونه يصلي العيد ركعتين؛ فلما روى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) عن أبي سعيد الخدري قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك ... ». أخرجه البخاري في صحيحه (913) 1: 326 كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1160) 1: 301 كتاب الصلاة، باب يصلى بالناس العيد في المسجد إذا كان يوم مطر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1313) 1: 416 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة العيد في المسجد إذا كان مطر. (¬3) كما في حديث أبي سعيد الخدري. وقد سبق ذكره وتخريجه في الحديث قبل السابق. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (921) 1: 327 كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد. وأخرجه مسلم في صحيحه (884) 2: 606 كتاب صلاة العيدين، باب ترك الصلاة، قبل العيد وبعدها، في المصلى.

ولقول عمر رضي الله عنه: «صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى» (¬1) رواه الإمام أحمد في المسند. وأما كونه يكبر في الأولى ستاً وفي الثانية خمساً؛ فلما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع» (¬2) رواه أبو داود. والسابعة في الأولى هي تكبيرة الإحرام وإنما جعلت من السبع لأنها في حال القيام بخلاف تكبيرة القيام فإنها قبله. وأما كون تكبيرة الأولى بعد الاستفتاح؛ فلأن الاستفتاح يراد لابتداء الصلاة فكان في أولها كسائر الصلوات. وأما كونه قبل التعوذ؛ فلما روى أبو سعيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ قبل القراءة» (¬3). ولأنه يراد للقراءة فينبغي أن تتعقبه القراءة. وأما كون المصلي يرفع يديه مع كل تكبيرة؛ فلما روى عمر «أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد» (¬4) رواه الأثرم. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (1566) 3: 183 كتاب صلاة العيدين، عدد صلاة العيدين. وأخرجه ابن ماجة سننه (1063) و (1064) 1: 338 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب تقصير الصلاة في السفر. وليس عندهما: «وقد خاب من افترى». وأخرجه أحمد في مسنده (257) 1: 37. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1149) 1: 299 كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين. (¬3) عن أبي سعيد الخدري قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثاً. ثم يقول: الله أكبر كبيراً ثلاثاً أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ثم يقرأ». أخرجه أبو داود في سننه (775) 1: 206 كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم بحمدك. وأخرجه الترمذي في جامعه (242) 2: 9 أبواب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 293 كتاب صلاة العيدين، باب رفع اليدين في تكبير العيد.

وأما كونه يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً؛ فلأنه متضمن حمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين وذلك مطلوب لما روى عقبة بن عامر قال: «سألت عبدالله بن مسعود عما نقوله بعد تكبيرات العيد فقال: نحمد الله ونثني عليه ونصلي على النبي صلى الله عليه وسلم» (¬1). ولأنها تكبيرات في حال قيام فسن أن يتخللها ذكر؛ لأن المقصود يحصل منه. وأما كونه يقول غير ذلك إذا أحب؛ فلأن الغرض الذكر بين التكبيرات لا ذكر مخصوص. ولذلك لم يرد الشرع بذكر بعينه. قال: (ثم يقرأ بعد الفاتحة في الأولى بسبح وفي الثانية بالغاشية. ويجهر بالقراءة. ويكون بعد التكبير في الركعتين. وعنه يوالي بين القراءتين). أما كون مصلي العيد يقرأ بعد الفاتحة في الأولى من صلاة العيدين بسبح والثانية الغاشية؛ فلما روى النعمان بن بشير قال (¬2): «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين والجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية ... مختصر» (¬3) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 291 كتاب صلاة العيدين، باب يأتي بدعاء الافتتاح عقيب تكبيرة الافتتاح، ولفظه: عن علقمة «أن ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج إليهم الوليد بن عقبة قبل العيد فقال: لهم إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ فقال عبدالله: تبدأ فتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تقرأ وتركع ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك». قال البيهقي: وهذا من قول عبدالله بن مسعود رضى الله عنه موقوف عليه فنتابعه في الوقوف بين كل تكبيرتين للذكر إذ لم يُرْو خلافه عن غيره ونخالفه في عدد التكبيرات وتقديمهن على القراءة في الركعتين جميعاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فعل أهل الحرمين وعمل المسلمين إلى يومنا هذا. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (878) 2: 598 كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة.

ولأن فيها حثاً على الصدقة في قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى? وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 14 - 15]. هكذا فسره سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز. وأما كونها يجهر بالقراءة فيها؛ فلأن الذين نقلوا عنه أنه كان يقرأ بسورةِ كذا سمعوه يقرأ بذلك جهراً. وأما كون قراءته بعد التكبير في الركعتين على المذهب؛ فلما روى كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة وفي الثانية خمساً قبل القراءة» (¬1) رواه الأثرم والترمذي. وقال: هو حديث حسن. وأما كونه يوالي بين القراءتين على روايةٍ؛ فلما روى أبو موسى «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في العيدين تكبيره على الجنازة ويوالي بين القراءتين» (¬2) رواه أبو داود. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التكبير في العيد [سبعاً] قبل القراءة وخمساً بعد القراءة» (¬3) رواه الإمام أحمد. قال: (فإذا سلم خطب خطبتين: يجلس بينهما. يستفتح الأولى بتسع تكبيرات. والثانية بسبع. يحثهم في خطبة الفطر على الصدقة. ويبين لهم ما يخرجون. ويرغبهم في الأضحية في الأضحى. ويبين لهم حكم الأضحية). أما كون الإمام المذكور يخطب خطبتين؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. وأما كونه يجلس بينهما؛ فلما روي عن جابر قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائماً ثم قعد قعدة ثم قام» (¬4) رواه ابن ماجة. ولأنهما كخطبتي الجمعة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (536) 2: 416 أبواب الصلاة، باب ما جاء في التكبير في العيدين. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1277) 1: 407 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1153) 1: 299 كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين. وأخرجه أحمد في مسنده (19235) ط إحياء التراث. وليس عندهما: «ويوالي بين القراءتين». (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (8664) 2: 356. وما بين المعكوفين من المسند. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (1289) 1: 409 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الخطبة في العيدين.

وأما كونه يكبر فيهما؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يفتتح خطبة العيد بالتكبير». وأما كون التكبير تسعاً في الأولى وسبعاً في الثانية؛ فلما روى عبيدالله بن عبدالله بن عتبة أنه قال: «من السنة أن يكبر في الأولى تسعاً وفي الثانية سبعاً» رواه سعيد. وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه. وأما كونه يحثهم في الفطر على الصدقة ويبين لهم ما يخرجون. ويرغبهم في الأضحية في الأضحى ويبين لهم حكم الأضحية فليعلم الجاهل ويذكر العالم. قال: (والتكبيرات الزوائد والذكر بينهما والخطبتان سنة. ولا يتنفل قبل الصلاة ولا بعدها في موضعها). أما كون التكبيرات الزوائد والذكر بينهما سنة؛ فلأن ذلك ذكرٌ بعد تكبيرة الافتتاح وقبل القراءة فكان سنة لا واجباً كالاستفتاح. وأما كون الخطبتين سنة؛ فلأن عبدالله بن السائب قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد. فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس. ومن أحب أن يذهب فليذهب» (¬1) رواه أبو داود وابن ماجة وهو مرسل. ولو كانت الخطبة في العيد واجبة لوجب حضورها واستماعها كخطبة العيد. وأما كون مصلي العيد لا يتنفل قبل الصلاة ولا بعدها؛ فلما تقدم من حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها» (¬2) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1155) 1: 300 كتاب الصلاة، باب الجلوس للخطبة. وأخرجه النسائي في سننه (1571) 3: 185 كتاب صلاة العيدين، التخيير بين الجلوس في الخطبة للعيدين. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1290) 1: 410 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في انتظار الخطبة بعد الصلاة. (¬2) سبق تخريجه ص: 567.

وروي «أن علياً رضي الله عنه رأى قوماً يصلون قبل العيد. فقال: ما كان هذا يُفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). وأما قول المصنف رحمه الله: في موضعها؛ فمعناه من موضع تقام فيه. صرح به أبو الخطاب. قال: (ومن كبر قبل سلام الإمام صلى ما فاته على صفته. وإن فاتته الصلاة استحب أن يقضيها على صفتها. وعنه يقضيها أربعاً. وعنه أنه مخير بين ركعتين وأربع). أما كون من كبر قبل سلام الإمام يصلي ما فاته على صفته؛ فلأن صلاة العيد أصل بنفسها فتدرك بإدراك التشهد كسائر الصلوات. ولعموم قوله عليه السلام: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» (¬2). وأما كون من فاتته الصلاة يستحب له أن يقضيها؛ فليتدارك بذلك ما فاته. وأما كونه يقضيها على صفتها أي على صفة أدائها على روايةٍ؛ فـ «لأن أنساً رضي الله عنه كان إذا لم يحضر العيد مع الناس جمع أهله وولده وصلى بهم ركعتين» (¬3). ولأنها صلاة يتوالى فيها التكبير حال القيام، فإذا فاتت قُضيت على صفتها كصلاة الجنازة على القبر. ولأنه قضاء صلاة فكان على صفتها كسائر الصلوات. وأما كونه يقضيها أربعاً على روايةٍ؛ فـ «لأن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقضيها أربعاً» (¬4). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا، وقد سبق ذكر حديث ثعلبة بن زهدم «أن عليا استخلف أبا مسعود على الناس فخرج يوم عيد فقال يا أيها الناس! إنه ليس من السنة أن يصلى قبل الإمام». ر ص: 552. (¬2) سبق تخريجه ص: 459. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5802) 2: 4 كتاب الصلاة، الرجل تفوته الصلاة في العيد كم يصلي؟ (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في الموضع السابق (5799) ولفظه: «من فاته العيد فليصل أربعا».

قال أحمد: ويقوي هذا عندي ما روي عن علي رضي الله «أنه كان يستخلف على ضعفة الناس من يصلي بهم في المسجد أربعاً» (¬1). ولأنها صلاة شرع لها الجمع والخطبة أشبهت صلاة الجمعة. وأما كونه مخيراً بين ركعتين وأربع على روايةٍ؛ فلعموم أدلة الروايتين قبل. قال: (ويسن التكبير في ليلتي العيدين وفي الأضحى. يكبر عقيب كل فريضة في جماعة. وعنه: أنه يكبر وإن كان وحده من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق إلا المحرم فإنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر). أما كون التكبير يسن في ليلتي العيدين؛ فلقوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]. و«كان علي رضي الله عنه يكبر حتى يسمع أهل الطريق» (¬2). وأما كون التكبير في الأضحى لغير المحرم من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؛ [فلما روى جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم عرفة. ثم أقبل علينا. فقال: الله أكبر. ومد التكبير إلى آخر أيام التشريق» (¬3). رواه الأثرم. وقيل للإمام أحمد رحمه الله: بأي حديث تذهب إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق؟ ] (¬4) قال: بإجماع عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. وأما كون المحرم يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق؛ فلأن المحرم قبل ذلك مشتغل بالتلبية. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 552. (¬2) لم أقف عليه هكذا، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن حنش بن المعتمر «أن عليا يوم أضحى كبّر حتى انتهى إلى العيد». (5624) 1: 488 كتاب الصلاة، في التكبير إذا خرج إلى العيد. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (27) 2: 49 كتاب العيدين. (¬4) ساقط من ب.

وأما كون التكبير المسنون مختصاً بمن يصلي جماعة على المذهب فـ «لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يكبر إذا صلى (¬1) وحده». وقال ابن عباس: «إنما التكبير على من صلى جماعة» رواه ابن المنذر. ولأنه ذكر مختص بوقت العيد فاختص بالجماعة كالخطبة. وأما كونه يسن عقيب الفريضة وإن صلى وحده على روايةٍ؛ فلأنه ذكر مشروع للمسبوق أشبه التسليمة الثانية. قال: (وإن نسي التكبير قضاه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد). أما كون من نسي التكبير يقضيه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد؛ فلأن فيه استدراكاً لما فات وتحصيلاً للمصلحة المسنونة السالمة عن معارضة ما يأتي بعد. وأما كونه لا يقضيه إذا أحدث؛ فلأن الحدث مبطل للصلاة فالتكبير التابع لها بطريق الأولى. وأما كونه لا يقضيه إذا خرج من المسجد؛ فلأن الفصل طال وهي سنة فات محلها. ولأنه ذكر متصل بالصلاة فمنع الخروجُ من المسجد قضاءه كسجود السهو. قال: (وفي التكبير عقيب صلاة العيد وجهان. وصفة التكبير شفعاً: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد). أما كون التكبير عقيب صلاة العيد يسن في وجه. قال ابن عقيل: الأشبه بالمذهب ذلك؛ فلأنها صلاة مفروضة مؤقتة أشبهت الصلاة المفروضة. وأما كونه لا يسن في وجه قال أبو الخطاب: وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمة الله عليه؛ فلأنها ليست فرض عين أشبهت سائر السنن. وأما كون صفة التكبير كما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلأن جابراً روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر اثنتين». ولأن ابن المنذر رواه عن عمر وابن مسعود. ¬

_ (¬1) سقط لفظ: صلى من ب.

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف الخسوف والكسوف واحد. وقيل: الكسوف للشمس والخسوف للقمر. والصلاة لهما سنة. والأصل فيهما قوله تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن} [فصلت: 37]. وجه الدلالة: أنه نهى عن السجود لغير الله ولم يذكر السجود لله عند شيء من الآيات إلا عند ذكر الشمس والقمر فاقتضى ذلك السجود لله عند حدوث معنى في هاتين. وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بفعله. قال المصنف رحمه الله: (وإذا كسفت الشمس أو القمر فَزِع الناس إلى الصلاة جماعة وفرادى بإذن الإمام وغير إذنه). أما كون الناس يفزعون إلى الصلاة إذا كسفت الشمس؛ فلأن عائشة رضي الله عنها روت: «كُسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه وصلى» (¬1). وسيأتي صفتها إن شاء الله تعالى. وأما كونهم يفزعون إذا كسف القمر؛ فلما روى الحسن البصري قال: «كسف القمر وابن عباس بالبصرة فصلى بنا ركعتين وخطبنا». وفي روايةٍ وقال: «إني لم أبتدع هذه الصلاة بدعة وإنما فعلت لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل». ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه بعد قليل.

ولأنه أحد الكسوفين فسن له فزع الناس إلى الصلاة كالآخر. وأما كون الصلاة المذكورة جماعة فلما ذكر قبل. وأما كونها فرادى؛ فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتموها فقوموا فصلوا» (¬1) متفق عليه. ولأنها نافلة ليس من شرطها الاستيطان فلم يشترط لها الجماعة كسائر النوافل. وأما كونها بإذن الإمام وبغير إذنه؛ فلأنها نافلة وإذن الإمام ليس شرطاً في النوافل. قال: (وينادى لها: الصلاة جامعة. ثم يصلي ركعتين: يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة طويلة. ويجهر بالقراءة. ثم يركع ركوعاً طويلاً. ثم يرفع فيسمع ويحمد. ثم يقرأ الفاتحة وسورة. ويطيل وهو دون القيام الأول. ثم يركع فيطيل وهو دون الركوع الأول. ثم يرفع. ثم يسجد سجدتين طويلتين. ثم يقوم إلى الثانية فيفعل مثل ذلك. ثم يتشهد ويسلم). أما كون الصلاة المتقدم ذكرها ينادى لها الصلاة جامعة؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً فنادى: الصلاة جامعة ... مختصر» (¬2) متفق عليه. وأما كون صفتها كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «خُسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج إلى المسجد. فقام فكبر وصف الناس وراءه. فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة. ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً. ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك (¬3) الحمد. ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى. ثم كبر فركع ركوعاً هو أدنى من الركوع الأول. ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. ثم سجد. ثم فعل في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (995) 1: 353 كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس. وأخرجه مسلم في صحيحه (901) 2: 619 كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1016) 1: 361 كتاب الكسوف، باب الجهر بالقراءة في الكسوف. وأخرجه مسلم في صحيحه (901) 2: 620 كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف. (¬3) في ب: لك.

الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات فانجلت الشمس» (¬1) متفق عليه. وأما كون مصليها يجهر بالقراءة فيها؛ فلأن عائشة رضي الله عنها روت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف» (¬2) رواه مسلم. وأما كونه يطيل السجود؛ فلما روى ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فلم يكد يرفع رأسه» (¬3) رواه أبو داود. وفي حديث آخر: «ما سجد سجوداً كان أطول منها» (¬4) رواه البخاري. فإن قيل: لم لم يقدر المصنف رحمه الله طول السورة؟ قيل: نظراً إلى الإطلاق في الحديث حيث قالت: «فاقترأ قراءة طويلة» (¬5). وقدّرها أصحابنا في القيام الأول بالبقرة، وفي الثاني بآل عمران، وفي الثالث بالنساء، وفي الرابع بالمائدة؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام قياماً طويلاً نحو من قراءة سورة البقرة» (¬6). ولأن ابن عباس رضي الله عنهما: «لما صلى بالبصرة قرأ في الأول بالبقرة، وفي الثاني بآل عمران، وفي الثالث بالنساء، وفي الرابع بالمائدة». قال الإمام أحمد رضي الله عنه: أصح حديث في الباب حديث ابن عباس وعائشة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (999) 1: 355 كتاب الكسوف، باب خطبة الإمام في الكسوف. وأخرجه مسلم في صحيحه (901) 2: 619 كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (901) 2: 620 كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1194) 1: 310 كتاب الاستسقاء، باب من قال يركع ركعتين. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1003) 1: 357 كتاب الكسوف، باب طول السجود في الكسوف. (¬5) سبق تخريجه قريباً. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (1004) 1: 357 كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة.

قال: (فإن تجلى الكسوف فيها أتمها خفيفة. وإن تجلى قبلها أو غابت الشمس كاسفة أو طلعت والقمر خاسف لم يصل). أما كون مصلي صلاة الكسوف يتمها خفيفة إذا تجلى الكسوف فيها: أما الإتمام؛ فلئلا يقطع الصلاة وهو منهي عن قطعها بقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33]. وأما التخفيف؛ فلزوال السبب. وأما كونه لا يصليها إذا تجلى الكسوف قبل ذلك؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة حتى تنجلي» (¬1). جعل الانجلاء غاية للصلاة. ولأن المقصود من الصلاة زوال العارض وإعادة النعمة بضوئهما فإذا حصل ذلك حصل مقصود الصلاة. وأما كونه لا يصليها إذا غابت كاسفة أو طلعت والقمر خاسف؛ فلأنه ذهب وقت الانتفاع بهما. قال: (وإن أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع فلا بأس). أما كون من أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات لا بأس؛ فلأن ابن عباس روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ست ركعات وأربع سجدات» (¬2) رواه مسلم. وأما كون من أتى في كل ركعة بأربع لا بأس؛ فلأنه يروى عن علي رضي الله عنه وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (904) 2: 623 كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، من حديث جابر ولفظه: «فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلوا حتى تنجلي». (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (901) 2: 621 كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، عن عائشة. (¬3) عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع والأخرى مثلها». أخرجه مسلم في صحيحه (909) 2: 627 كتاب الكسوف، باب ذكر من قال: إنه ركع ثمان ركعات في أربع سجدات. وأخرجه أبو داود في سننه (1183) 1: 308 كتاب الاستسقاء، باب من قال: أربع ركعات. وأخرجه النسائي في سننه (1468) 3: 129 كتاب الكسوف، باب كيف صلاة الكسوف. وفي لفظ: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات». أخرجه مسلم في صحيحه (908) 2: 627 كتاب الكسوف، باب ذكر من قال إنه ركع ثمان ركعات في أربع سجدات. قال مسلم: وعن علي مثل ذلك.

والمختار الأول؛ لأنه أصح وأشهر. قال: (ولا يصلي لشيء من سائر الآيات إلا الزلزلة الدائمة). أما كونه لا يصلي لشيء من سائر الآيات ما عدا المستثنى؛ فلأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه رضوان الله عليهم فعل ذلك مع أنهم وُجد في زمانهم آيات منها: انشقاق القمر، وهبوب الرياح والصواعق. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا هبت ريح شديدة اصفر لونه. وقال: اللهم! اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» (¬1). وإنما قال ذلك لأن الرياح جعلها الله نعمة فقال: {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} [الروم: 46]. والريح نقمة فقال: {فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً} [الأحزاب: 9]. والمعنى اللهم! اجعل (¬2) ذلك سبب خير ولا تجعله سبب شر. وأما كونه يصلي للزلزلة الدائمة؛ فـ «لأن ابن عباس رضي الله عنه صلى لها بالبصرة». ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علل صلاة الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده. والزلزلة الدائمة أشد تخويفاً فيلحق بالكسوف دون سائر الآيات للشدة. ولأنها من جنس الكسوف؛ لأن منفعة الأرض تحصل بسبب الأرض والشمس بخلاف بقية الآيات. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (11533) 11: 213. وأخرجه الشافعي في مسنده (502) 1: 175 كتاب الصلاة، باب في الدعاء. (¬2) ساقط من ب.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء الاستسقاء: استفعال من السقي وطلب له. والمصلي طالب لذلك. وهي مسنونة. والأصل فيها فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها وكذلك الخلفاء بعده. قال المصنف رحمه الله: (وإذا أجدبت الأرض وقحط المطر فزع الناس إلى الصلاة. وصفتها في موضعها. وأحكامها صفة صلاة العيد). أما كون الناس يفزعون إلى صلاة الاستسقاء؛ فلما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك والخلفاء بعده. وأما كون صفتها في موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد؛ فلأنها في معناها ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: «سنة الاستسقاء سنة العيدين» (¬1). فعلى هذا يسن أن تكون في الصحراء. وأن يصلي ركعتين يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً. وأن يصلي من غير إذن ولا إقامة. وأن يجهر فيها بالقراءة. ويقرأ بعد الفاتحة بسبح وهل أتاك حديث الغاشية ونحو ذلك. أما كونها تسن في الصحراء؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيمها في الصحراء» (¬2). ولأنها يسن لها الاجتماع من أهل القرى والأمصار فشرعت في الصحراء كالعيد. ولأن ذلك أوسع وأرفق بالناس لكثرتهم. ولينظروا ما يبدو من السحاب ويجيء من المطر. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 348 كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدليل على أن السنة في صلاة الاستسقاء السنة في صلاة العيدين. (¬2) روى عبدالله بن زيد قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى يستسقي». أخرجه البخاري في صحيحه (5983) 5: 2335 كتاب الدعوات، باب الدعاء مستقبل القبلة.

وأما كونها تصلى ركعتين يكبر فيها كالعيد؛ فلأن ابن عباس رضي الله عنهما روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين كما يصلي في العيد» (¬1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد روي عن الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يكبر فيها بل يصلي كصلاة التطوع لأن عبدالله بن زيد قال: «استسقى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين» (¬2) رواه البخاري. ولم يذكر التكبير. والأول أصح؛ لأن رواية عبدالله مطلقة مجملة ورواية ابن عباس مبينة مقيدة، والمطلق المجمل يحمل على المقيد المبين. ولأنه روى جعفر بن محمد عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعاً وخمساً» (¬3) رواه الشافعي في مسنده. وأما كونها تصلى من غير أذان ولا إقامة؛ فلما روى أبو هريرة قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ... مختصر» (¬4) رواه الأثرم وابن ماجة. وأما كونها يجهر فيها؛ فلحديث ابن عباس. وروى عبدالله بن زيد: «ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» (¬5) رواه البخاري. وأما كونها يقرأ فيها بسبح وهل أتاك؛ فلحديث ابن عباس. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 583. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (980) 1: 348 كتاب الاستسقاء، باب صلاة الاستسقاء ركعتين. وأخرجه مسلم في صحيحه (894) 2: 611 كتاب صلاة الاستسقاء. (¬3) أخرجه الشافعي في مسنده (457) 1: 157 كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (1268) 1: 403 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء. وأخرجه أحمد في مسنده (8128) ط إحياء التراث. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (978) 1: 347 كتاب الاستسقاء، باب الجهر بالقراءة في الاستسقاء.

وفي حديث عبدالله بن زيد: «ثم صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد وقرأ فيهما ما يقرأ في العيد: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] و {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1]» (¬1) متفق عليه. ورواه ابن قتيبة أيضاً في غريب الحديث. قال: (وإذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم والصيام والصدقة وتركِ التشاحن. ويَعدهم يوماً يخرجون فيه). أما كون الإمام يعظ الناس إذا أراد الخروج؛ فلأنه سبب لرقة قلوبهم ووسيلة إلى امتثالهم ما يقول. وأما كونه يأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم؛ فلأن ذلك من الواجبات. ولأن المعاصي والظلم سبب للقحط. والتقوى سبب للبركات قال الله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض} [الأعراف: 96]. وأما كونه يأمرهم بالصيام؛ فلأن الصوم وسيلة إلى نزول الغيث؛ لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوة الصائم لا ترد» (¬2). ولأن في الصوم كسر الشهوة وحضور القلب والتذلل للرب. وأما كونه يأمرهم بالصدقة؛ فلأنها متضمنة للرحمة المفضية إلى رحمتهم بنزول الغيث. وأما كونه يأمرهم بترك التشاحن؛ فلأن التشاحن ربما منع نزول الخير. ومنه قوله عليه السلام: «خرجتُ لأعلمكم بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت» (¬3). ¬

_ (¬1) حديث عبدالله بن زيد سبق تخريجه. ولم أقف على هذا اللفظ عندهما. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (3598) 5: 578 كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1752) 1: 557 كتاب الصيام، باب في الصائم لا ترد دعوته. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (49) 1: 27 كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

ولأن التشاحن يُخرج غالباً إلى المعصية والبهت. وقد تقدم أن ذلك يُطلب عدمه وأنه سبب للقحط. وأما كونه يَعِدُهُم يوماً ومعناه يعين لهم اليوم الذي يخرج فيه إلى الاستسقاء فليتهيئوا للخروج على الصفة المسنونة. وفي الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً يخرجون فيه» (¬1) رواه أبو داود. قال: (ويتنظف لها. ولا يتطيب. ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً ومعه أهل الدين والصلاح والشيوخ). أما كون الخارج إلى الاستسقاء يتنظف لصلاته. والمراد به أنه يسن له إزالة الرائحة وتقليم الأظفار وما أشبه ذلك لأجل الصلاة فلئلا يؤذي الناس. ولأنه يوم يجتمع له الناس أشبه الجمعة. وأما كونه لا يتطيب؛ فلأن يوم الاستسقاء يوم استكانة وخضوع. وأما كونه يخرج على الصفة المذكورة؛ فلما روى ابن عباس «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متبذلاً متخشعاً متواضعاً متضرعاً حتى أتى المصلى ... مختصر» (¬2) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأما كونه يخرج ومعه أهل الدين والصلاح والشيوخ؛ فلأن ذلك أسرع لإجابتهم. وجاء في الحديث: «إن الله يستحيي أن يرد دعوة ذي الشيبة في الإسلام» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1173) 1: 304 كتاب الاستسقاء، باب رفع اليدين في الاستسقاء. قال أبو داود: هذا حديث غريب، إسناده جيد. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1165) 1: 302 كتاب الصلاة، جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها. وأخرجه الترمذي في جامعه (558) 2: 445 أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء. كلاهما بدون قوله: «متخشعا». وأخرجه ابن ماجة في سننه (1266) 1: 403 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء. (¬3) ذكره البرهان فوري من حديث أنس بلفظ: «إن الله يستحيى من ذي الشيبة أن يسأله فلا يعطيه» وعزاه إلى ابن النجار (42644) 15: 666.

وفي آخر: «إذا بلغ العبد ثمانين سنة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (¬1). قال: (ويجوز خروج الصبيان. وقال ابن حامد: يستحب). أما كون خروج الصبيان يجوز فلا خلاف فيه؛ لأن الرزق مشترك بينهم وبين الرجال. وأما كونه لا يستحب على المذهب؛ فلأنهم غير مكلفين فلم يستحب إخراجهم وإن كان لهم حظ في الرزق كالبهائم. وأما كونه يستحب على قول ابن حامد؛ فلأنه روي: «لولا أطفال رُضّع. وشيوخ ركع. وبهائم رُتّع لصب عليكم العذاب صبا» (¬2). ولأنهم لا ذنوب لهم فيكون دعاؤهم مستجاباً كالمشايخ. والأول أولى؛ لما ذكر. والحديث لا يدل على الاستحباب. وإلا لزام استحباب خروج البهائم. وعدم الذنب مع عدم التكليف لا أثر له بدليل البهيمة. قال: (وإن خرج أهل الذمة لم يمنعوا. ولم يختلطوا بالمسلمين). أما كون أهل الذمة إذا خرجوا إلى الاستسقاء لا يمنعون؛ فلأنه خروج إلى طلب الرزق والله تعالى ضمن أرزاقهم كما ضمن أرزاق المسلمين. وأما كونهم لا يختلطون بالمسلمين؛ فلأنهم كفار عصاة فربما نزل عليهم أذى فعم المسلمين. وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا ¬

_ (¬1) ذكره البرهان فوري من حديث عثمان بلفظ: «وإذا بلغ تسعين سنة قالت الملائكة: أسير الله في أرضه. فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويشفع في أهله» وعزاه إلى الحكيم الترمذي. (42634) 15: 664. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 345 كتاب صلاة الاستسقاء، باب استحباب الخروج بالضعفاء والصبيان والعبيد والعجائز.

منكم خاصة} [الأنفال: 25]. فإذا لم يختلطوا اختص نزول العذاب بهم ولهذا جعلت مقابرهم منفردة عن المسلمين. قال: (فيصلي بهم. ثم يخطب خطبة واحدة يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد. ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به). أما كون الإمام في الاستسقاء يصلي بالناس؛ فلما تقدم ذكره. وأما كونه يخطب خطبة واحدة؛ فلأنه لم ينقل عن النبي عليه السلام أنه خطب في الاستسقاء أكثر من واحدة. وأما كونه يخطب بعد الصلاة؛ فلأن أبا هريرة رضي الله عنه قال: «صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ثم خطبنا ... مختصر» (¬1) رواه الإمام أحمد وابن ماجة. ولأنها صلاة ذات تكبير فكانت خطبتها بعد الصلاة كالعيد. وعن الإمام أحمد: أنه يخطب قبل الصلاة لقول عبدالله بن زيد: «فتوجه إلى القبلة يدعو وحوّل رداءه ثم صلى» (¬2) متفق عليه. وعنه: أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها لأن الجميع مروي. وعنه: لا خطبة لها لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «فلم يخطب خطبتكم هذه. ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع» (¬3) رواه النسائي وابن ماجة. والأول هو الصحيح؛ لما تقدم من حديث أبي هريرة: «صلى ثم خطبنا» (¬4). وثم للترتيب. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (1268) 1: 403 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء. وأخرجه أحمد في مسنده (8128) ط إحياء التراث. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (979) 1: 347 كتاب الاستسقاء، باب كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس. وأخرجه مسلم في صحيحه (894) 2: 611 كتاب صلاة الاستسقاء، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه، في أيام العيد. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (558) 2: 445 أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء. وأخرجه النسائي في سننه (1506) 3: 156 كتاب الاستسقاء، باب الحال التي يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1266) 1: 403 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستسقاء. (¬4) سبق تخريجه قبل قليل.

والجواب عن حديث عبدالله بن زيد أنه ليس فيه تصريح بالخطبة قبل الصلاة. وإنما قال: «دعا». وعن قول ابن عباس: «فلم يخطب خطبتكم هذه» (¬1) أنه نفى الصفة لا أصل الخطبة. والمعنى أنه كان جُلُّ خطبته الدعاء والتضرع والتكبير. وأما كونه يفتتح الخطبة بالتكبير؛ فلأنه يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء كما صنع في العيدين» (¬2). وأما كونه يكثر فيها من الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به مثل قوله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً? يرسل السماء عليكم مدرارا} [نوح: 10 - 11]. وقوله تعالى: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} [هود: 3]؛ فلأن الاستغفار سبب لنزول المطر؛ لما تقدم من الآية. ولأنه يروى عن عمر رضي الله عنه «أنه استسقى فلم يزد على الآيات. فقيل له. فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي ينزل بها الغيث» (¬3). وعن علي رضي الله عنه: «عجبت من يبطئ عنه الرزق ومعه مفاتيحه. قيل: وما مفاتيحه؟ قال: الاستغفار» (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قبل قليل. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1165) 1: 302 كتاب الصلاة، باب: جماع أبواب صلاة الاستسقاء. ولفظه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى متبذلاً، فصلى ركعتين كما يصلي في العيدين». وأخرجه الترمذي في جامعه (558 و 559) 2: 445 أبواب الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء. وأخرجه النسائي في سنننه (1521) 3: 163 كتاب الاستسقاء، باب: كيفية صلاة الاستسقاء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1266) 1: 403 كتاب إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء. وأخرجه أحمد في مسنده (2423) 1: 269. كلهم نحو لفظ أبي داود. (¬3) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى 3: 351 كتاب صلاة الاستسقاء، باب ما يستحب من كثرة الاستغفار في خطبة الاستسقاء. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (8343) 2: 223 كتاب الصلاة، من قال: لا يصلى في الاستسقاء. (¬4) أخرجه البيهقي في الموضع السابق.

قال: (ويرفع يديه فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم! اسقنا غيثاً مُغيثاً هنيئاً مريئاً غَدَقاً مُجَلّلاً سَحاًّ عاماًّ طَبقاً دائماً. اللهم! اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم! سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق. اللهم! إن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك. اللهم! أنبت لنا الزرع وَأَدِرَّ لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأنزل علينا من بركاتك. اللهم! ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك. اللهم! إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً). أما كون المستسقي يسن له أن يرفع يديه في دعاء الاستسقاء؛ فلما روى أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه لشيء من الدعاء إلا في الاستسقاء يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه» (¬1) متفق عليه. وأما كونه يسن له أن يدعو بما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلما روى ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استسقى قال: اللهم! اسقنا غيثاً مُغيثاً هنيئاً مريئاً مَريعاً غَدقاً مُجَلّلاً طبقاً سَحّاً دائماً. اللهم! اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم! إن بالبلاد والعباد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك. اللهم! أنبت لنا الزرع وأَدِرَّ لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأنزل علينا من بركاتك. اللهم! ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك. اللهم! إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (984) 1: 349 كتاب الاستسقاء، باب رفع الإمام يده في الاستسقاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (895) 2: 612 كتاب صلاة الاستسقاء، باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1169) 1: 303 كتاب الاستسقاء، باب رفع اليدين في الاستسقاء، عن جابر بن عبدالله قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم بواكي فقال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل» قال: فأطبقت عليهم السماء. ولم أره بكامله بالنص الذي ساقه المصنف عن ابن عمر.

وروى المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم! سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق ... مختصر» (¬1) رواه الشافعي في مسنده وهو مرسل. فإن قيل: ما معنى هذه الألفاظ؟ قيل: الغيث مصدر. سمي به المطر. والغيث المجيء بإذن الله تعالى. يقال: غاث الله الأرض إذا أَنزل عليها المطر. وإغاثة الله إذا أجاب غُواثه بالضم. والفتح للغين أي أزال شكواه بالمطر. والهنيء: الذي يحصل من غير مشقة. والمريء: السهل النافع. والمرتع: المقيم. من قولك: رتعت بمكان كذا إذا أقمت فيه. وروي مُريعاً وهو فعل من المرع وهو الخصب. ويروى مربعاً من ربعت الإبل إذا رعت. والغدق: الكثير القطر. والمجلل: السحاب الذي يعم الأرض بالمطر. فكنى هنا بالسحاب عن المطر الذي يعم. والطبق: الذي يطبق الأرض. والسح: الغيث والدائم المتصل إلى أن يحصل الخصب. والقانط: الآيس. واللأواء: الشدة. والضنك: الضيق. والجهد: بالضم والفتح المشقة. وقيل: بالفتح البلاء وبالضم الطاقة. والمدرار: الدائم إلى وقت الحاجة. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (499) 1: 173 كتاب الصلاة، باب في الدعاء.

قال: (ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة. ويحول رداءه فيجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. ويفعل الناس كذلك ويتركونه حتى ينزعوا مع ثيابهم). أما كون الإمام يسن له أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة وأن يحول رداءه؛ فلما روى عبدالله بن زيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي. فحوّل إلى الناس ظهره. واستقبل القبلة يدعو. ثم حوّل رداءه» (¬1) رواه البخاري. وأما كونه يجعل الأيمن منه على الأيسر والأيسر على الأيمن؛ فلأن في روايةٍ: «حول رداءه فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، [وجعل عِطافه الأيسر] (¬2) على عاتقه الأيمن» (¬3) رواه أبو داود. قال أبو عبيد: إنما يفعل ذلك لتغير الحال وانتقاله من الجدب إلى الخصب. وأما كون الناس يفعلون ذلك كالإمام؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. وقال الله تعالى: {واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 158]. ولأنه روي: «ثم تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهراً لبطن وتحول الناس معه» (¬4). ولأن ما ثبت في حقه ثبت في حقنا ما لم يقم دليل على تخصيصه. وأما كونهم يترك كل واحد منهم رداءه على حاله حتى ينزعوه مع ثيابهم؛ فلأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحداً من الصحابة رد رداءه إلى الحالة التي كان عليها قبل خلع ثيابه. قال: (ويدعو سراً حال استقبال القبلة. فيقول: اللهم! إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 585. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1163) 1: 302 كتاب الاستسقاء، جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (16030) ط إحياء التراث.

أما كون المستسقي يدعو حال استقبال القبلة؛ فلأن البخاري ذكره في حديث عبدالله بن زيد (¬1). وليجمع بين الدعاء سراً وجهراً كما فعل نوح صلى الله عليه وسلم (¬2). ولقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} [الأعراف: 55]. وأما كونه يقول: اللهم! إنك أمرتنا إلى آخره؛ فلأن في ذلك استنجازاً لما وعد من فضله حيث قال: {إني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186]. قال: (فإن سقوا وإلا عادوا ثانياً وثالثاً. وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله تعالى وسألوه المزيد من فضله). أما كون المستسقين يعودون ثانياً وثالثاً إذا لم يسقوا؛ فلأن الله عز وجل يحب الملحين في الدعاء. ولأن الحاجة داعية إلى ذلك فاستحب ثانياً وثالثاً كالأول. وأما كونهم يشكرون الله ويسألونه المزيد من فضله إذا سقوا (¬3) قبل الخروج؛ فلأنهم إذا فعلوا ذلك زادهم الله من فضله لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7]. وقوله: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]. وظاهر كلام المصنف رحمه الله: أنهم لا يصلون؛ لأن الشكر حقيقة في القول لا الفعل. وإنما لم تستحب الصلاة حينئذ؛ لأن الصلاة تراد لنزول المطر وقد وجد. ولأن التشاغل بغير الصلاة يستحب؛ لما يأتي. ¬

_ (¬1) عن عبدالله بن زيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين». أخرجه البخاري في صحيحه (966) 1: 343 كتاب الاستسقاء، باب تحويل الرداء في الاستسقاء. (¬2) قال الله تعالى: {ثم إني دعوتهم جهاراً? ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً? فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً? يرسل السماء عليكم مدراراً? ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً} [نوح: 8 - 12]. (¬3) ساقط من ب.

ونص المصنف رحمه الله في غير هذا وغيره من الأصحاب على أنهم إن سقوا قبل الخروج يصلوا شاكرين لأن الصلاة شرعت لزوال العارض من الجدب وذلك لا يحصل بمجرد النزول فلذلك تستحب الصلاة ليديم الله عليهم ذلك. ويؤيد قول المصنف رحمه الله أنهم لا يقتصرون على الشكر والدعاء: أن التشاغل بالدعاء عند نزول المطر مستحب؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اطلبوا استجابة الدعاء عند ثلاث: عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول الغيث» (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: صَيِّباً نافعاً» (¬2) رواه البخاري. قال: (وينادى لها الصلاة جامعة. وهل من شرطها إذن الإمام؟ على روايتين). أما كون صلاة الاستسقاء ينادى لها الصلاة جامعة؛ فلقول ابن عباس رضي الله عنه: «سنة الاستسقاء سنة العيد» (¬3). ولأن كل صلاة شرع فيها الجهر والاجتماع والخطبة ولم يسن لها أذان سن لها النداء؛ لما ذكر. وأما كونها ليس من شرطها إذن الإمام على روايةٍ؛ فلأن صلاة الاستسقاء نافلة فلم يكن من شرطها إذن الإمام كبقية النوافل. وأما كونها من شرطها ذلك على روايةٍ؛ فبالقياس على اشتراطه في العيد على روايةٍ. فعلى هذا إذا خرجوا بغير إذن الإمام دعوا وانصرفوا بلا صلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث عائشة بلفظ: «ثلاث ساعات للمرء المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثما: حين يؤذن المؤذن بالصلاة حتى يسكت، وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما، وحين ينزل المطر حتى يسكن» 9: 320. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (985) 1: 349 كتاب الاستسقاء، باب ما يقال إذا أمطرت. وأخرجه أحمد في مسنده (24190) 6: 42. (¬3) سبق تخريجه ص: 580.

قال: (ويستحب أن يقف في أول المطر ويخرج رحله وثيابه ليصيبها). أما كون المستسقي يستحب له أن يقف في أول المطر؛ فلما روى أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر عن لحيته» (¬1) رواه البخاري. ولأنه قريب العهد من الله فاستحب الوقوف فيه ليصيب الواقف فيه من بركته. وأما كونه يستحب له أن يُخرج رحله وثيابه ليصيبها ذلك؛ فلما روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزع ثيابه في أول المطر إلا الإزار يتزر به» (¬2). و«لأن ابن عباس رضي الله عنه كان يأمر غلامه إذا كان المطر في أوله بإخراج رحله وفراشه ليصيبه المطر ويقول: إنه قريب عهد بالله عز وجل». قال: (وإذا زادت المياه فخيف منها استحب أن يقول: اللهم! حوالينا ولا علينا. اللهم! على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ... الآية} [البقرة: 286]). أما كون من خاف من زيادة المياه يستحب له أن يقول: اللهم! حوالينا ... إلى ومنابت الشجر؛ فلما روى أنس رضي الله عنه قال: «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! تهدمت البيوت وتقطعت السبل وهلكت المواشي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم! على ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر. فانجابت عن المدينة انجياب الثوب» (¬3) متفق عليه. وفي حديث آخر: «اللهم! حوالينا ولا علينا» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (891) 1: 315 كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد روى أنس رضي الله عنه قال: «أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر. فقلنا: لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه». أخرجه مسلم في صحيحه (898) 2: 615 كتاب صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (970) 1: 345 كتاب الاستسقاء، باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء. عن أنس. وأخرجه مسلم في صحيحه (897) 2: 612 كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (969) 1: 344 كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء على المنبر.

وأما كونه يستحب له أن يقول: {ربنا ولا تحملنا ... إلى آخر الآية} [البقرة: 286]؛ فلأنه قول لائق بالحال فاستحب قوله كسائر الأقوال اللائقة بمحالّها.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز الجنازة بالفتح والكسر واحد. وقيل: بالفتح الميت، وبالكسر الأعواد التي يحمل عليها. قال المصنف رحمه الله: (يستحب عيادة المريض، وتذكيره التوبة والوصية). أما كون عيادة المريض تستحب؛ فلما روى البراء بن عازب: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وعيادة المرضى» (¬1) رواه البخاري. ولقوله عليه السلام: «عائد المريض في مخرف من مخارف الجنة» (¬2). والمخرف البستان. وقال: «ما من رجل عاد مريضاً مُمْسِياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له [حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة، وإن عاده مُصْبِحاً خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له] (¬3) حتى يمسي» (¬4) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وخريف: فعيل بمعنى مفعول. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1182) 1: 417 كتاب الجنائز، باب الأمر بإتباع الجنائز. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (2568) 4: 1989 كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض. عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عائد المريض في مخرفة الجنة». وأخرجه الترمذي في جامعه (967) 3: 299 كتاب الجنائز، باب ما جاء في عيادة المريض. بنحوه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد في مسنده (22492) 5: 283. بنحوه. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3098) 3: 185 كتاب الجنائز، باب في فضل العيادة على وضوء. وأخرجه الترمذي في جامعه (969) 3: 300 كتاب الجنائز، باب ما جاء في عيادة المريض. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1442) 1: 463 كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضاً.

وأما كون تذكيره التوبة يستحب فلأنها واجبة عليه على كل حال. وهو أحوج إليها في هذه الحال من بقية الأحوال. فإذا ذكره فتاب كان سبباً لحصول مثل هذه التوبة (¬1) العظيمة المخلصة له من الهلكة. وأما كون تذكيره الوصية يستحب؛ فليخرج عن عهدة قوله عليه السلام: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عنده» (¬2) متفق عليه. قال: (وإذا نُزل به تعاهد بَلَّ حلقه بماء أو شراب، وندّى شفتيه بقطنة، ولَقَّنه قول: لا إله إلا الله مرة. ولم يزد على ثلاث إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه بلطف ومداراة. ويقرأ عنده سورة يس ويوجهه إلى القبلة). أما كون متولي حال المريض يستحب له أن يتعاهد بَلَّ حلقه بماء أو شراب ويندي شفتيه بقطنة إذا نزل به. والمراد إذا غلب على الظن موته فلأن ذلك يطفئ من حرارةِ كربه وشدة موته، ويسهل عليه النطق بالشهادة. وأما كونه يستحب له أن يلقنه قول: لا إله إلا الله؛ فلما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقنوا موتاكم (¬3) -أي المحتضر للموت- شهادة أن لا إله إلا الله» (¬4) رواه مسلم. وروى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة» (¬5) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في ج: المثوبة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2587) 3: 1005 كتاب الوصايا، باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم: وصية الرجل مكتوبة عنده. وأخرجه مسلم في صحيحه (1627) 3: 1249 كتاب الوصية، باب العمرى. (¬3) في ب: مواتكم. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (916) 2: 631 كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى: لا إله إلا الله. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3116) 3: 190 كتاب الجنائز، باب في التلقين.

وأما كونه يلقنه مرة فلأن بذلك يخرج عن عهدة حديث أبي سعيد، ويحصل الثواب المذكور في حديث معاذ. وأما كونه لا يستحب له أن يزيد على ثلاث مع عدم كلامه بعد الشهادة فلئلا يضجره. وروي عن عبدالله بن المبارك: «أنه قال لرجل لقّنَه عند موته فأكثر: إذا قلتُ مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم» (¬1). وأما كونه يستحب له أن يعيد تلقينه بعد الكلام فليكون آخر كلامه الشهادة فينال ما ذُكر في حديث معاذ المتقدم. وأما كونه يعيد تلقينه بلطف ومداراة فلأن اللطف والمدارة في كل موضع مطلوب فهاهنا أولى لشدة الحاجة إليه. وأما كونه يستحب له أن يقرأ سورة يس عنده فلقوله عليه السلام: «اقرأوا يس على موتاكم» (¬2) رواه أبو داود وابن ماجة. ولأنه يسهل خروج الروح. وأما كونه يستحب له أن يوجهه إلى القبلة فلما روى عبيد بن عمير عن أبيه وكان له صحبة «أن رجلاً قال: يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم ما الكبائر؟ فقال: هي سبع فذكر منها استحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً» (¬3) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) ذكره الترمذي في الجنائز، باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له عنده 3: 308. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3121) 3: 191 كتاب الجنائز، باب القراءة عند الميت. أخرجه ابن ماجة في سننه (1448) 1: 466 كتاب الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2875) 3: 115 كتاب الوصايا، باب ما جاءفي التشديد في أكل مال اليتيم.

قال: (فإذا مات أغمض عينيه، وشَدَّ لَحْيَيْه، وليّن مفاصله، وخلع ثيابه، وسجاه بثوب يستره، وجعل على بطنه مرآة أو نحوها، ووضعه على سريرِ غُسْله متوجهاً منحدراً نحو رجليه). أما كون من تقدم ذكره يستحب له أن يُغمض عيني المريض إذا مات فلما روت أم سلمة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه. وقال: إن الروح إذا قبض يتبعه البصر ... مختصر» (¬1) رواه مسلم. و«لما حضرت عمر الوفاة قال لابنه عبدالله: إذا رأيت روحي بلغت لهاتي فضع كفك اليمنى على جبهتي واليسرى تحت ذقني وأغمضني». ولأنه إذا لم تغمض عيناه يقبح منظره. ولا يؤمن دخول الهوام فيهما والماء وقت غسله. وأما كونه يستحب له أن يَشُدّ لَحْيَيْه فلما تقدم من قول عمر. ولأنهما لو تركا لقبح منظره وربما دخل في فمه الهوام والماء. وأما كونه يستحب له أن يُلَيِّن مفاصله. ومعناه: أنه يرد ذراعيه إلى عضديه، وعضديه إلى بطنه. ثم يردهما، وساقيه (¬2) إلى فخذيه. ثم فخذيه إلى بطنه. ثم يردهما فلتبقى أعضاؤه المذكورة لينة على الغاسل سهلة في حال غسله. ولأنه لو لم يفعل ذلك لجفت عليه أعضاؤه ولسمج منظره ولم يَتَأتّ (¬3) غسله. وأما كونه يستحب له أن يخلع ثيابه؛ فلئلا يحمى جسده فيسرع إليه الفساد ويتغير. وربما خرجت منه نجاسة فلوثت ثيابه ونجّستها. وأما كونه يستحب له أن يسجيه بثوب يستره؛ فلأن عائشة رضي الله عنها قالت: «سجي النبي صلى الله عليه وسلم بثوب حبرة» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (920) 2: 634 كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر. (¬2) في ب: وساقه. (¬3) في ب: ينال. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (5477) 5: 2189 كتاب اللباس، باب البرود والحبرة والشملة. وأخرجه مسلم في صحيحه (942) 2: 651 كتاب الجنائز، باب تسجية الميت.

ولأنه أعظم في كرامته. وينبغي أن يعطف فاضل الثوب من عند رأسه تحت رأسه، ومن عند رجليه تحت رجليه لئلا يرتفع بالريح. وأما كونه يستحب له أن يجعل مرآة أو نحوها على بطنه؛ فلئلا تنتفخ بطنه. والأصل فيه ما روي عن أنس «أنه مات مولى له عند المغيب. فقال: ضعوا على بطنه شيئاً من حديد» (¬1). وأما كونه يستحب له أن يضعه على سرير غسله فلأنه يُبعد الهوام ويرتفع عن الأرض. وأما كونه يستحب له أن يضعه على ذلك متوجهاً إلى القبلة فلما تقدم من قوله عليه السلام: «قبلتكم أحياء وأمواتاً» (¬2). وأما كونه يستحب له أن يضعه منحدراً نحو رجليه. ومعناه: أن يكون رأسه أعلى من رجليه فلينحدر ماء الغسل فلا يتراجع منه شيء. قال: (ويسارع في قضاء دينه، وتفريق وصيته، وتجهيزه إذا تيقن موته: بانخساف صدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه). أما كون من تقدم ذكره يستحب له أن يسارع في قضاء دين الميت؛ فلما فيه من إبراء الذمة. قال عليه السلام: «نفس الميت معلقة بدَينه حتى يقضى عنه» (¬3). قال الترمذي: هذا حديث حسن. وأما كونه يستحب له أن يسارع في تفريق وصيته فليحصل له أجرها. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 385 كتاب الجنائز، باب ما يستحب من وضع شيء على بطنه ... (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1079) 3: 389 كتاب الجنائز، باب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه».

وأما كونه يستحب له أن يسارع في تجهيزه فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت (¬1) فآذنوني به وعجلوه فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله» (¬2) رواه أبو داود. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا تيقن موته؛ فراجع إلى قضاء الدين وتفريق الوصية والتجهيز؛ لأن الأولين لا ولاية لأحد عليهما إلا بعد الموت. والتجهيز قبل تيقن الموت تفريط. وأما قوله: بانخساف صدغيه ... إلى آخره؛ فتنبيه على العلامات الدالة على الموت المحصلة لليقين في ذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3159) 3: 200 كتاب الجنائز، باب التعجيل بالجنازة وكراهية حبسها.

فصل في غسل الميت قال المصنف رحمه الله: (غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية). أما كون غسل الميت فرض كفاية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فُرض على أمتي غسل موتاها، والصلاة عليها، ودفنها». و«قال لأم عطية ونسوة معها لما ماتت ابنته: اغسلنها» (¬1) متفق عليه. و«قال في المحرم الذي وقصته ناقته: اغسلوه وكفنوه» (¬2). ولأن في تكفينه ستراً له فلم يكن بد من فعله لما يأتي في الكفن (¬3). وأما كون الصلاة عليه فرض كفاية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» (¬4). ولأن الصلاة مذكورة فيما تقدم من قوله عليه السلام: «فرض على أمتي». وأما كون الدفن فرض كفاية فلأنه أيضاً مذكور في الحديث المذكور أولاً (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1204) 1: 425 كتاب الجنائز، باب يلقى شعر المرأة خلفها. وأخرجه مسلم في صحيحه (939) 2: 648 كتاب الجنائز، باب في غسل الميت. (¬2) سيأتي تخريجه من حديث ابن عباس ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (3) 2: 56 كتاب العيدين، باب صفة من تجوز الصلاة معه والصلاة عليه. من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬5) سبق قبل قليل.

قال: (وأولى الناس به وصيّه. ثم أبوه. ثم جده. ثم الأقرب فالأقرب من عصباته. ثم ذوو أرحامه إلا الصلاة عليه فإن الأمير أحق بها بعد وصيه). أما كون وصي الميت أولى الناس بغسله فـ «لأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس» (¬1) فَقُدِّمت بذلك. و«أوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين» فقُدِّم بذلك. ولأنه حقٌ للميت فقُدِّم وصيه على غيره؛ كتفريق ثلثه. وأما كونه أولى الناس بالصلاة عليه فلإجماع الصحابة عليه. روي «أن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب» (¬2). «وابن مسعود أوصى بذلك الزبير» (¬3). «وأبا بكرة أوصى به أبا برزة». «وأم سلمة أوصت به سعيد بن زيد» (¬4). «وعائشة أوصت به أبا هريرة» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10969) 2: 455 كتاب الجنائز، في المرأة تغسل زوجها ألها ذلك. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 397 كتاب الجنائز، باب غسل المرأة زوجها. وأخرج مالك في الموطأ عن عبدالله بن أبي بكر «أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر الصديق حين توفي». (3) 1: 194 كتاب الجنائز، باب غسل الميت. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري قال: «صلى عمر على أبي بكر، وصلى صهيب على عمر» (6364) 3: 471 كتاب الجنائز، باب من أحق بالصلاة على الميت. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6365) 3: 471 كتاب الجنائز، باب من أحق بالصلاة على الميت. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 29 كتاب الجنائز، باب من قال: الوصي بالصلاة عليه أولى إن كان قد أوصى بها إليه. (¬4) أخرجه البيهقي في الموضع السابق. (¬5) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن نافع قال: سمعته يقول: «صليت على عائشة والإمام يومئذ أبو هريرة» (6366) 3: 471 كتاب الجنائز، باب من أحق بالصلاة على الميت.

«وأبا سريحة أوصى به زيد بن أرقم فجاء عمرو بن حُريث ليتقدم وهو أمير الكوفة فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصليَ عليه زيد بن أرقم. فقدم زيداً». ولأنه حقٌ للميت فقدم الوصي فيه كالغسل. وأما كونه أولى الناس بتكفينه ودفنه فلأنهما في معنى الغسل والصلاة فوجب أن يثبت فيهما حكمهما بالقياس عليهما. وأما كون الأب أولى ممن بعده في جميع ما ذكر غير الصلاة فلأنه يشارك الابن في العصوبة ويختص بفضل الحنو والشفقة. وأما كون الجد أولى ممن بعده في ذلك فلمشاركة الأب في المعنى. وأما كون الأقرب فالأقرب من عصباته أولى من ذوي أرحامه فلأن الأقرب من العصبة أولى (¬1) بالميراث فكذا فيما ذكر. فعلى هذا يقدم بعد الأب والجد الابن ثم ابنه وإن نزل. ثم الأخ على ترتيب الميراث. وأما كون ذوي أرحامه أولى من سائر الناس فلما ذُكر في العصبات. وأما كون الأمير أحق بالصلاة على الميت بعد وصيه فلقوله عليه السلام: «لا يُؤَمّنَّ الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» (¬2) رواه مسلم. خرج منه الوصي لما تقدم فيبقى فيما عداه على مقتضاه. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الجنائز. ولم ينقل أنه كان يستأذن العصبات. وروى أبو حازم قال: «شهدت حسيناً حين مات الحسن وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص أمير المدينة ويقول: لولا السنة ما قدمتك» (¬3). وذلك ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) في ب زيادة: فالأقرب أولى. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (673) 1: 465 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6369) 3: 471 كتاب الجنائز، باب من أحق بالصلاة على الميت. وأخرجه الطبراني في الكبير (2912) 3: 136 قال في المجمع: ورجاله موثقون. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 28 كتاب الجنائز، باب من قال: الوالي أحق بالصلاة على الميت من الولي.

وعن عمار مولى بني هاشم قال: «شهدت جنازة أم كُلثوم بنت علي، وزيد بن عمر فصلى عليهما سعيد بن العاص وخلفه ثمانون من الصحابة» (¬1) رواه الإمام أحمد. والمراد بالأمير الإمام. فإن لم يكن فالوالي من قبله. فإن لم يكن فالحاكم. قال: (وغسل المرأة أحق الناس به الأقرب فالأقرب من نسائها. ولكل واحد من الزوجين غسل صاحبه في أصح الروايتين. وكذلك السيد مع سُرِّيَتِه). أما كون غسل المرأة أحق [الناس به] (¬2) الأقرب فالأقرب من نسائها فلأن ذلك قد قُدم به في الرجل وكذا يجب أن يكون في المرأة. فعلى هذا أم المرأة أولى بغسلها لأنها من النساء بمنزلة الأب. ثم جدتها لأنها من النساء بمنزلة الجد. ثم بنتها وإن نزلت لأنها من النساء بمنزلة [الابن وإن نزل. ثم أختها لأنها من النساء بمنزلة] (¬3) الأخ. ثم الأقرب فالأقرب على ترتيب الميراث. وأما كون كل واحد من الزوجين له غسل صاحبه في أصح الروايتين: أما كون الزوج له ذلك في روايةٍ «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: لو مِتِّ قبلي لغسّلتك» (¬4) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3193) 3: 208 كتاب الجنائز، باب إذا حضر جنائز رجال ونساء من يقدم. وأخرجه النسائي في سننه (1978) 4: 71 كتاب الجنائز، اجتماع جنائز الرجال والنساء. وأخرجه الدارقطني في سننه (13) 2: 79 كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6337) 3: 465 كتاب الجنائز، باب كيف الصلاة على الرجال والنساء. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11568) 3: 8 كتاب الجنائز، في جنائز الرجال والنساء ... ولم أره في أحمد. وكلهم لم يذكر العدد. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (1465) 1: 470 كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها.

و «لأن علياً رضي الله عنه غسّل فاطمة رضي الله عنها» (¬1) ولم ينكره منكر فكان إجماعاً. وأما كونه ليس له ذلك في روايةٍ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى رجل ينظر إلى فرج امرأة وابنتها» (¬2). والزوج يجوز له العقد على بنت امرأته إذا ماتت قبل الدخول واستباحة النظر إلى فرجها. فيجب أن يحرم عليه النظر لئلا يكون ناظراً إلى فرج امرأة وابنتها. ولأنها فرقة تبيح أختها وأربعاً سواها فوجب أن يحرم النظر واللمس كالمطلقة قبل الدخول. وأما كون الرواية الأولى هي الصحيحة في المذهب فلما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، وفعل علي رضي الله عنه، وعدم إنكار الصحابة. وأما كون الزوجة لها ذلك في روايةٍ فلأن عائشة رضي الله عنها قالت: «لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غَسّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نِسَاؤه» (¬3). و«لأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس» (¬4). و«غسلت امرأة أبي موسى زوجها» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (12) 2: 79 كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 396 كتاب الجنائز، باب الرجل يغسل امرأته إذا ماتت. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (92) 3: 268 كتاب النكاح، باب المهر. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (16228) 3: 469 كتاب النكاح، الرجل يقع على أم امرأته أو ابنة امرأته ما حال امرأته؟ . كلاهما موقوفان على عبدالله. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3141) 3: 196 كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله. وأخرجه أحمد في مسنده (26349) 6: 267. وأخرجه الشافعي في مسنده (570) 1: 206 صلاة الجنائز وأحكامها. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10976) 2: 456 كتاب الجنائز، في المرأة تغسل زوجها ألها ذلك؟ . وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6119) 3: 409 كتاب الجنائز، باب المرأة تغسل الرجل.

قال ابن المنذر: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على أن للمرأة أن تغسل زوجها. ولأن آثار النكاح من عدة الوفاة والإرث باقية فكذلك الغسل. وأما كونها ليس لها ذلك في روايةٍ فلأن البينونة حصلت بالموت وزالت عصمة النكاح المبيحة للنظر واللمس فوجب أن لا يجوز لها غسل زوجها كالأجنبية. وأما دعوى الإجماع فيبطلها وقوع الخلاف. وأما العدة فهي من آثار الوطء والموت لا من أحكام النكاح. وأما الإرث فإنه يعتمد الزوجية عند الموت لا عند الأخذ بخلاف الغسل فإنه يعتمد حل النظر عند فعله ولا سبب حينئذ يقتضي الحل. وأما كون حكم السيد مع أمته كحكم الزوج مع زوجته فيما ذكر فلأنها فراش له ومملوكة. وحكم الملك في إباحة اللمس والنظر حكم الزوجة حال الحياة. بل بقاء الملك آكد لأنه يجب عليه تكفينها ومؤنة دفنها كما يجب عليه نفقتها وكسوتها حال الحياة بخلاف الزوجة. قال: (وللرجل والمرأة غسل من له دون سبع سنين. وفي ابن السبع وجهان). أما كون كل واحد من الرجل والمرأة له غسل من له دون سبع سنين ذكراً كان أو أنثى فلأن من له دون سبع سنين لا عورة له لما يأتي في النكاح. ولذلك «لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم غسّله النساء». وقال ابن المنذر: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة تغسل الصبي الصغير. وأما كونه له غسل من له سبع في وجهٍ فلأنه فاقد أهليةِ فهم الخطاب وليس محلاً للشهوة فجاز لغير نوعه غسله كالطفل. وأما كونه ليس له ذلك في وجهٍ فلأنه بلغ سناً يحصل له فيه التمييز أشبه من له فوق السبع. وقد نبه الشرع على الفرق بين من له سبع وبين من له دون ذلك حيث أمر الأولياء أن يأمروا ابن السبع بالصلاة فإنه قد جاء في الحديث: «مروهم بالصلاة

لسبع» (¬1). وإذا كان بينهما فرق وجب أن لا يجوز غسل ابن السبع لأن الجواز ثابت فيمن له دون ذلك فلو ثبت الجواز في ابن السبع لم يكن بينهما فرق. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أن من له أكثر من سبع لا يجوز لغير نوعه غسله قولاً واحداً. وهو صحيح صرح به صاحب النهاية فيها لأنه حينئذ يصير محلاً للشهوة، ويحرم النظر إلى عورته المغلظة، ويعتبر تخييره بين أبويه فلم يجز لغير نوعه غسله (¬2) كالبالغ. قال: (وإن مات رجل بين نسوة، أو امرأة بين رجال، أو خنثى مشكل يُمِّم في أصح الروايتين، وفي الأخرى يصب عليه الماء من فوق القميص ولا يمس). أما كون من مات بين غير نوعه ممن ذكر يُيَمم على الصحيح في المذهب فلما روى واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجال» (¬3) أخرجه تمام في فوائده. ولأن النظر واللمس محرم في حق غير [ذي] (¬4) المحرم في حال الحياة فكذلك بعد الممات. وإذا حرم على من ذُكر النظر تعذر غسله له شرعاً ومن تعذر غسله فالتيمم قائم مقامه. وأما كونه يُصب عليه الماء من فوق القميص ولا يمس على روايةٍ فلأنه أمكن الغسل مع ستر ما حرُم النظر إليه. وقد ورد للغسل في القميص أصل وهو «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل فيه» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (494) 1: 133 كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة. (¬2) ساقط من ب. (¬3) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (42232) 15: 574 الباب الثاني في أمور قبل الدفن، الفصل الثاني في الغسل. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 398 كتاب الجنائز، باب المرأة تموت مع الرجال ليس معهم امرأة، عن مكحول مرسلاً. (¬4) ساقط من ب. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3141) 3: 196 كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله. وأخرجه أحمد في مسنده (26349) 6: 267. وأخرجه الشافعي في مسنده (563) 1: 204 باب صلاة الجنائز وأحكامها.

قال: (ولا يُغسل مسلم كافراً ولا يدفنه إلا أن لا يجد من يواريه غيره). أما كون المسلم لا يجوز أن يغسّل الكافر فلقوله تعالى: {لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم} [الممتحنة: 13]. وقوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 51]. وفي غسلهم (¬1) تول لهم. وقال أبو حفص العكبري: يجوز ذلك. وحكاه قولاً لأحمد رضي الله عنه؛ لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عمك الضال قد مات. قال: اذهب فواره» (¬2) رواه أبو داود. واستدل الشافعي رحمه الله عليه بهذا الحديث وزاد فيه: «اذهب فغسله وكفنه وادفنه» (¬3). وأما كونه لا يجوز له أن يدفنه إذا وجد من يواره غيره؛ فلما تقدم في الغسل. ويجوز عند أبي حفص لما تقدم من قوله: «اذهب فواره» ومن قوله: «وادفنه (¬4»). وأما كونه يجوز له ذلك إذا لم يجد من يواره غيره؛ فـ «لأن قتلى بدر أُلقوا في القليب» (¬5). ¬

_ (¬1) في ب: غسله. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3214) 3: 214 كتاب الجنائز، باب الرجل يموت له قرابة مشرك. (¬3) أخرجه الشافعي في مسنده (572) 1: 207 صلاة الجنائز وأحكامها. (¬4) في ب: فادفنه. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (498) 1: 194 أبواب سترة المصلي، باب المرأة تطرح عن المصلى شيئاً من الأذى. وأخرجه مسلم في صحيحه (1794) 3: 1418 كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين.

ولأنه يَتضرر بتركه ويتغير ببقائه. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه إذا لم يجد غيره يقوم بأمره إنما يجوز له مواراته دون غسله. وصرح به صاحب النهاية؛ لأن الحجة في ذلك رمي الكفار في القليب وخوف التأذي ببقائهم وكلاهما مفقود في الغسل. قال: (وإذا أَخذ في غسله سَتر عورته وجرده. وقال القاضي: يغسله في قميص خفيف واسع الكمين). أما كون الغاسل يستر عورة الميت ويجرده على غير قول القاضي؛ فلأن ذلك أمكنُ لتغسيله، وأبلغ في تطهيره. ولأن الحي يستر عورته ويتجرد إذا اغتسل فالميت أولى. ولأنه إذا غُسّل في ثوبه تنجس ثوبه بما يخرج منه. وقد لا يطهر بصب الماء عليه فيتنجس الميت به. وأما كونه يُغسله في قميص خفيف واسع الكمين على قول القاضي فلما روت عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم غُسّل في قميصه» (¬1). وقال سعد بن أبي وقاص: «اصنعوا لي كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2). والأول أولى لما ذكر. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فذلك كان خاصاً به. ألا ترى أنهم قالوا: «نجرده كما نجرد موتانا» (¬3) رواه أبو داود. وقال ابن عبد البر: روي عن عائشة رضي الله عنها من وجه صحيح. وذَكر الحديث بطوله. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3141) 3: 196 كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله. وأخرجه أحمد في مسنده (25774) ط إحياء التراث. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (966) 2: 665 كتاب الجنائز، باب في اللحد ونصب اللبن على الميت. (¬3) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق عن عائشة.

فظاهر هذا أن تجريد الميت فيما عدا العورة كان مستفيضاً فيما بينهم. ومثل هذا لم يكن ليخفى على النبي صلى الله عليه وسلم بل الظاهر أنه كان يأمر به لأنهم كانوا ينتهون إلى أمره في الشرعيات. وأما سعد فإنه قال: «الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليّ اللبن نصباً كما صُنع برسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). قال: (ويُستر الميت عن العيون ولا يحضره إلا من يعين في غسله). أما كون الميت يُستر عن العيون فلأنه ربما كان به عيب يستره في حياته، وربما بدت عورته. قالت عائشة: «غسلنا بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم فأُمِرنا أن نجعل بينها وبين السقف ثوباً». ولأن الآدمي إذا مات صار جميعه بمنزلة العورة في الإكرام والاحترام ولهذا وجب ستره بالكفن. وأما كونه لا يحضره إلا من يعين في غسله فلأنه لا حاجة إلى حضوره بخلاف من يعين الغاسل بصب [الماء] (¬2) ونحوه. قال: (ثم يرفع رأسه برفق إلى قريب من الجلوس، ويعصر بطنه عصراً رفيقاً، ويُكثر صب الماء حينئذ). أما كون الغاسل يرفع رأس الميت إلى قريبٍ من الجلوس ويعصر بطنه حينئذ فليخرج ما في جوفه من فضلة مخافة أن يخرج ذلك بعد الغسل والتكفين فيفسده. وأما كون ذلك برفق فلأن الميت في محل الشفقة والرحمة. وأما كونه يكثر صب الماء حين يعصر بطنه فليذهب بما يخرج ولا تظهر رائحته. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريباً. (¬2) زيادة من ج.

قال: (ثم يلف على يده خرقة فينجيه. ولا يحل مس عورته. ويستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة). أما كون الغاسل يلف على يده خرقة فينجي الميت بها فلأن في ذلك إزالة للنجاسة وطهارة للميت من غير تعدي النجاسة إلى الغاسل. فإن قيل: ما صفة التنجية؟ قيل: أن يلف على يده خرقة ويغسل أحد الفرجين ثم ينحي الخرقة، ويأخذ أخرى ويغسل الفرج الآخر. وذكر القاضي في المجرد أنه يكفي خرقة واحدة للفرجين، والأخرى لبقية بدنه. وهو محمول على أن الخرقة كلما خرج عليها نجاسة غسلها المعاون وأعادها. وإلا فقد ذكر أصحابنا أن كل خرقة يخرج عليها شيء لا يعتد بها. وأما كونه لا يحل مس عورة الميت فلأن رؤيتها حرام فلمسها بطريق الأولى. وأما كونه يستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة فلأنه يأمن معه مس العورة المحرم مسها. قال: (وينوي غسله ويسمي، ويدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه وفي منخريه فينظفهما). أما كون الغاسل ينوي غسل الميت ويسمي في غسله فلأن غسله طهارة يعتد بها فاشترط فيها النية والتسمية كغسل الجنابة. وأما كونه يدخل أصبعيه مبلولتين بالماء كما ذكر المصنف رحمه الله فلأن في ذلك تحصيلاً لإزالة ما على تلك الأعضاء من الأذى. والأصبعان هاهنا السبابة والإبهام. قال: (ويوضئه. ولا يدخل الماء في فيه ولا أنفه). أما كون الغاسل يوضئ الميت فلما روت أم عطية أنها قالت: «لما غسّلنا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» (¬1) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1197) 1: 423 كتاب الجنائز، باب يبدأ بميامن الميت. وأخرجه مسلم في صحيحه (939) 2: 648 كتاب الجنائز، باب في غسل الميت. وأخرجه أبو داود في سننه (3145) 3: 197 كتاب الجنائز، باب كيف غسل الميت. وأخرجه الترمذي في جامعه (990) 3: 315 كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت. وأخرجه النسائي في سننه (1884) 4: 30 كتاب الجنائز، ميامن الميت ومواضع الوضوء منه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1459) 1: 469 كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت. وأخرجه أحمد في مسنده (27341) 6: 408.

وأما كونه لا يُدخل الماء في فيه ولا أنفه إذا وضأه وإن كان ذلك من الوضوء في حق الحي على الصحيح من المذهب فلأنه إذا أدخل الماء فيهما لا يمكنه إخراجه فربما دخل بطنه ثم خرج فأفسد وضوءه. قال: (ويضرب السدر. فيغسل برغوته رأسه ولحيته وسائر بدنه. ثم يغسل شقه الأيمن. ثم الأيسر. ثم يفيض الماء على جميع بدنه. يفعل ذلك ثلاثاً يمر في كل مرة يده. فإن لم ينق بالثلاث أو خرج منه شيء غسله إلى خمس. فإن زاد فإلى سبع. ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً). أما كون الغاسل يضرب السدر فلتحصل له رغوة لأن الرغوة تزيل الدرن، ولا تتعلق بالشعر، وتزول بمجرد مرور الماء. وأما كونه يغسل رأس الميت ولحيته وسائر بدنه «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم: اغسلوه بماء وسدر» (¬1). و«قال للنساء اللواتي غسّلن ابنته: اغسلنها بماء وسدر» (¬2). وقال الخرقي: ويكون في كل المياه شيء من السدر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1753) 2: 656 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب سنة المحرم إذا مات. وأخرجه مسلم في صحيحه (1206) 2: 866 كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1202) 1: 424 كتاب الجنائز، باب كيف الإشعار للميت. وأخرجه مسلم في صحيحه (939) 2: 646 كتاب الجنائز، باب في غسل الميت.

وقال ابن حامد: الذي وَجدتُ عليه أصحابنا أنه يكون في الغسلة وزن درهم ونحوه من السدر فإذا كان كثيراً سلبه التطهير. واختار القاضي وأبو الخطاب أن يغسله أول مرة بثَفَل السدر ثم يغسله بعد ذلك بالماء القراح؛ لأن الإمام أحمد رضي الله عنه شبه غسله بغسل الحياة. ولأن السدر إن كان كثيراً سلبه الطهورية. واليسير لا يؤثر. وينبغي أن يتخذ الغاسل ثلاثة آنية: كبير يجمع فيه الماء الذي يَغسل به الميت يكون بالبُعد منه، وإناءان صغيران يكون أحدهما بيد الغاسل يقلب به والآخر بيد المعاون يغترف به من الكبير ويقلب ما فيه في الذي بيد الغاسل. وإنما كان كذلك والله أعلم ليكون الكبير مصوناً فإذا فسد ما في الصغير من رشاش وغيره كان ما بقي في الكبير كافياً. وأما كونه يبدأ بغسل شقه الأيمن ثم الأيسر فلقوله عليه السلام: «وابدأن بميامنها» (¬1) متفق عليه. ولأن التيامن مسنون في غسل الحي فكذلك في غسل الميت. وأما كونه يفيض الماء على جميع بدن الميت فليعم البدن بالغسل. وأما كونه يفعل ذلك ثلاثاً فلأن في حديث النسوة اللاتي غسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً» (¬2). وأما كونه يمر يده في كل مرة. والمراد على بطنه فلأن فيه إخراجاً لما في بطنه وأمناً من فساد الغسل بما يخرج بعده (¬3). وأما كونه يغسله إل خمس ثم إلى سبع إذا لم يَنْقَ بالثلاث «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنسوة اللاتي غسلن ابنته: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك» (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سيأتي تخريجه في الحديث التالي. (¬3) في ب: بعد. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1200) 1: 424 كتاب الجنائز، باب يجعل الكافور في آخره. وأخرجه مسلم في صحيحه (939) 2: 646 كتاب الجنائز، باب في غسل الميت.

وأما كونه يفعل ذلك إذا خرج منه نجاسة فلأن الخارج ينقض طُهر الحي. ولا طهر للميت سوى الغسل فوجب أن يبطله. ولأن الغسل في حق الميت وجب لزوال العقل وفقد الحواس فجاز أن يبطل بما تبطل به الطهارة الصغرى بخلاف غسل الجنابة. ولأنه وجب غسله بما لا يوجب الغسل فجاز أن يتأكد بوجوبه من الحدث لأنه ليس بممتنع أن يبطل الغسل بما لا يوجب الغسل كخلع الخف لا يوجب غسل الرجل وينقض الطهارة فيها. وقال أبو الخطاب: لا يعاد غسله بل يَغسل موضع النجاسة ويُوضأ لأن حكم الحي كذلك فكذلك الميت. والأول المذهب؛ لما ذكر. وقد تقدم التنبيه على الفرق بين غسل الميت وغسل الحي. ويؤيد إعادة الغسل عموم قوله عليه السلام: «اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك» (¬1). فإن الظاهر أنما قال ذلك من أجل توقع النجاسة. وأما كونه يجعل الكافور في الغسلة الأخيرة فلأن في الحديث المذكور: «واجعلن في الأخيرة كافوراً». وفائدة الكافور أنه يصلب الجسم ويطرد عنه الهوام بريحه. قال: (والماء الحار والخلال والأشنان يستعمل إن احتيج إليه). أما كون ما ذكر يستعمل إن احتيج إليه مثل أن يحتاج إلى الماء الحار لشدة البرد أو لإزالة وسخ لا يزول إلا به. أو إلى الأشنان لكثرة الوسخ. أو إلى الخلال لكون الوسخ لا يخرج إلا به فلأن إزالة الوسخ مطلوبة شرعاً وذلك وسيلة إليه. وأما كونه لا يستعمل إن لم يحتج إليه مثل أن يكون الماء البارد ليس شديد البرد ويكون الحار يرخي بدن الميت ويكون الوسخ يمكن إزالته بغير الخلال كالدلك ونحوه فلأن ذلك لم ترد به السنة مع أنه لا حاجة إليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق.

والمستحب أن يكون الخلال حيث يحتاج إليه من شجرة لينة كالصفصاف ونحوه مما ينقي ولا يجرح. قال: (ويُقص شاربه، ويقلم أظفاره، ولا يسرح شعره ولا لحيته. ويظفر شعر المرأة ثلاثة قرون، ويسدل من ورائها). أما كون الميت يُقص شاربه ويُقلم أظفاره فلأن ذلك تنظيف يسن في الحياة فيسن بعد الموت قياساً على حال الحياة. وينبغي أن يترك ذلك معه في القبر لأنه بعض أجزائه. وأما كونه لا يسرح شعره ولا لحيته فلما روي عن عائشة رضي الله عنها «أنها رأت ميتاً يسرح شعره. فقالت: لم تنصون ميتكم؟ » (¬1) ذكره أبو عبيد في الغريب. وهو مشتق من تسريح الناصية. وروى الأسود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لا يسرح شعر الميت». ولأنه لا يخلو من تمعيط وتقطيع. واختار ابن حامد وأبو الخطاب في بعض تصانيفه التسريح لقوله عليه السلام: «افعلوا بموتاكم كما تصنعون بعرائسكم» (¬2). وأما كون المرأة يظفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل من ورائها؛ فلما روت أم عطية قالت: «ظفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناه من خلفها -تعني ابنة النبي صلى الله عليه وسلم -» (¬3) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في الغريب 2: 352. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6232) 3: 437 كتاب الجنائز، باب شعر الميت وأظفاره. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 390 كتاب الجنائز، باب المريض يأخذ من أظفاره وعانته. (¬2) قال ابن حجر: هذا الحديث ذكره الغزالي في الوسيط بلفظ: «افعلوا بموتاكم ما تفعلون بأحيائكم»، وتعقبه ابن الصلاح بقوله: بحثت عنه فلم أجده ثابتاً، وقال أبو شامة في كتاب السواك: هذا الحديث غير معروف، انتهى. تلخيص الحبير: 2: 218. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1204) 1: 425 كتاب الجنائز، باب يلقي شعر المرأة خلفها. وأخرجه مسلم في صحيحه (939) 2: 647 كتاب الجنائز، باب في غسل الميت.

قال: (ثم ينشفه بثوب. فإن خرج منه شيء بعد السبع حشاه بالقطن. فإن لم يستمسك فبالطين الحر. ثم يغسل المحل ويوضأ. وإن خرج منه شيء بعد وضعه في أكفانه لم يعد إلى الغسل). أما كون الغاسل ينشف الميت بثوب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما غسل وُشِّح (¬1) بثوب». ولأنه إذا لم ينشف تنشتر الرطوبة إلى أكفانه فيفسد بالبلل. وربما عفنت وأدى ذلك إلى فساد الميت. وأما كونه يحشو مخرجه بقطن إذا خرج منه شيء بعد السبع؛ فلأن في ذلك منعاً لخروج النجاسة. ولأن من تكرر خروج النجاسة منه يصير في معنى المستحاضة. وحشو القطن مشروع في حقها فكذلك يشرع فيما هو في معناها. ولم يتعرض المصنف رحمه الله إلى أنه يلجم المحل بالقطن فإن لم يمتنع حشاه. وصرح به أبو الخطاب وصاحب النهاية فيها. وعلله بأن الحشو فيه توسيع المخرج ومباشرة له فلا يفعل إلا إذا اضطر إليه. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأنه لا يعاد الغسل بعد السبع؛ لأنه قال: فإن خرج شيء بعد السبع حشاه بالقطن. وصرح بعدم الإعادة بعد السبع في المغني وصاحب النهاية فيها. وإنما لم يعد ذلك لما فيه من الحرج والمشقة. ولأنه آخر العدد المذكور صريحاً في حديث أم عطية. وأما كون ذلك يحشى بالطين الحر إذا لم يستمسك بالقطن؛ فلأنه أبلغ من القطن؛ لأنه صلب يمسك، ويمنع ما يصل إليه ويتصل به من نفوذ إلى خارج. ومعنى الطين الحر الخالص. وأما كون المحل يغسل فلإزالة النجاسة. ¬

_ (¬1) في ج: وشجوه.

وأما كون الميت يوضأ فلأنه انتقضت طهارته بالخارج فيجب أن يعاد ليكون على وضوء. وأما كونه لا يعاد إلى الغسل إذا خرج منه شيء بعد وضعه في أكفانه فلأنه لو أعيد لاحتيج إلى غسل الأكفان وتجفيفها ويتأخر دفنه وذلك عسر ومخالفة للسنة. ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان الخروج بعد السبع أو بعد الثلاث لأن العلة المذكورة موجودة فيهما. قال: (ويُغسل المحرم بماء وسدر، ولا يُلبس المخيط، ولا يُخمر رأسه، ولا يُقرب طيباً). أما كون المحرم يغسل بماء وسدر فلما روى ابن عباس «أن محرماً وقصت به ناقته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر» (¬1). وأما كونه لا يُلبس [المخيط] (¬2) فلأنه محرم بدليل قوله في تكملة الحديث: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً». ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور: «وكفنوه في ثوبيه». وأما كونه لا يخمر رأسه ولا يقرب طيباً فلأن تكملة الحديث: «ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً» متفق عليه. ولأنه أثر عبادة ورد الشرع باستطابتها فوجب أن يدفن صاحبها على حاله كالشهيد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1753) 2: 656 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب سنة المحرم إذا مات. وأخرجه مسلم في صحيحه (1206) 2: 866 كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات. (¬2) ساقط من ب.

قال: (والشهيد لا يُغسل إلا أن يكون جنباً بل ينزع عنه السلاح والجلود. ويزمل في ثيابه. وإن أحب كفنه بغيرها. ولا يصلى عليه في أصح الروايتين). أما كون الشهيد لا يغسل إذا لم يكن جنباً فلأن ابن عباس رضي الله عنهما روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد أن ينزع عنهم الجلود والحديد ويدفنوا في ثيابهم [بدمائهم] (¬1») (¬2) رواه أبو داود وابن ماجة. وفي حديث جابر: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد. ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد. وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم في ثيابهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم» (¬3) رواه البخاري. وأما كونه يغسل إذا كان جنباً «فلأن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال حنظلة بن الراهب! إني رأيت الملائكة تغسله. قالوا: إنه جامع أهله ثم سمع الهيعة فخرج فقُتل» (¬4). وذلك منهم على سبيل التعليم. ولأنه غسل واجب فلا يسقط بالموت كغسل الجنابة. وأما كونه ينزع عنه السلاح والجلود فلما تقدم في حديث ابن عباس من أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود. وأما كونه يزمل في ثيابه فلأن في حديث ابن عباس: «ويدفنوا في ثيابهم» (¬5). وأما كونه يكفن بغيرها إن أحب من يكفنه ذلك فلما روي «أن صفية ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3134) 3: 195 كتاب الجنائز، باب في الشهيد يغسل. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1515) 1: 485 كتاب الجنائز، باب ما جاءفي الصلاة على الشهداء ودفنهم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1282) 1: 452 كتاب الجنائز، باب من يقدم في اللحد. (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك (4917) 3: 225 كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب حنظلة بن عبدالله. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 15 كتاب الجنائز، باب الجنب يستشهد في المعركة. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن فيهما حمزة فكفنه في أحدهما. وكفن في الآخر رجلاً آخر» (¬1). وأما كونه لا يصلى عليه في روايةٍ فلما تقدم في حديث جابر من «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل قتلى أحد ولم يصل عليهم» (¬2). وأما كونه يصلى عليه في روايةٍ فـ «لأن ابن عباس روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد» (¬3). والأولى أصح لأن حديث ابن عباس لا أصل له عند أصحاب الحديث. وعلى تقدير صحته فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه يمكن الجمع بينه وبين حديث جابر فيحمل حديث ابن عباس على من مات في غير المعترك، أو على أن الصلاة كانت بمعنى الدعاء بخلاف حديث جابر فإنه لا يمكن حمله على ذلك. الثاني: أن حديث جابر راجح من ثلاثة أوجه: أحدها: أن حديث جابر رواه جابر وأنس، وكانا شاهدين أحداً بخلاف ابن عباس. الثاني: أن حديث جابر متفق على بعضه وهو ترك الغسل مختلف في استعمال بعضه فكان أولى مما هو مختلف في استعمال جميعه. الثالث: أن حديث جابر ناقل لحكم الأصل مثبت لحكم متجدد، وخبر ابن عباس مبق لحكم الأصل فكان خبر جابر أولى. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6194) 3: 427 كتاب الجنائز، باب الكفن. عن ابن عباس. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (1513) 1: 485 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم.

قال: (وإن سقط من دابته، أو وجد ميتاً ولا أثر به، أو حمل فأكل أو طال بقاؤه غُسل وصلي عليه). أما كون من سقط من دابته فمات يغسل ويصلى عليه فلأن موته بسبب السقوط أشبه ما لو مات بذلك في غير المعركة. ولأنه مات بغير قتل المشركين أشبه من مات على فراشه. وأما كون من وجد ميتاً ولا أثر به يغسل ويصلى عليه فلأن غسل الميت والصلاة عليه واجبان وإنما تسقطهما الشهادة. وقد شككنا في حصولها. بل الظاهر أنه ليس بقتيل فلا يسقطان بمشكوك. وأما كون من حمل فأكل أو طال بقاؤه يغسل ويصلى عليه فـ «لأن سعد بن معاذ أصابه سهم. فمات بعد ذلك. فغسله النبي صلى الله عليه وسلم وصلى عليه». وكذلك «عتبة بن ربيعة أصاب ساق ربيعة بن الحارث فحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمخ يسيل من ساقه. فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم مات فغسله وصلى عليه». قال: (ومن قُتل مظلوماً فهل يلحق بالشهيد؟ على روايتين). أما كون من ذُكر لا يلحق بالشهيد فيما تقدم ذكره على روايةٍ فـ «لأن عمر وعثمان وعلياً والحسين قتلوا ظلماً وغسلوا وصلي عليهم» (¬1). ولأنه ليس بشهيد المعركة أشبه المبطون. وأما كونه يلحق به على روايةٍ فلقوله عليه السلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن نافع قال: «كان عمر خير الشهداء فغسل وصلي عليه وكفن لأنه عاش بعد طعنه» كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد وغسله (6645) 3: 544. وأخرجه الشافعي في مسنده (564) 1: 204 باب صلاة الجنائز وأحكامها. بنحوه. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 17 كتاب الجنائز، باب المرتث والذي يقتل ظلماً في غير معترك الكفار ... بنحوه. وأخرج عبدالرزاق في مصنفه عن يحيى بن الجزار قال: «غسل علي وكفن وصلي عليه» كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد وغسله (6646) 3: 544. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4772) 4: 246 كتاب السنة، باب في قتال اللصوص. وأخرجه الترمذي في جامعه (1421) 4: 30 كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ولأنه مقتول ظلماً أشبه الشهيد. ولأنه يساوي شهيد المعركة في الشهادة فوجب أن يساويه فيما ذكر بالقياس عليه. قال: (وإذا ولد السقط لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلي عليه). أما كون السقط إذا ولد لأكثر من أربعة الشهر يغسل فلأنه نسمة خرجت منه روح بعد ما كانت فيه أشبه من مات بعد ولادته. ولأنه يصلى عليه لما يأتي فيغسل بالقياس عليه. وأما كونه يصلى عليه فلما روى المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الطفل يصلى عليه» (¬1). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «السقط يصلى عليه» (¬2) رواه أبو داود. وإنما قُيد ذلك بأكثر من أربعة أشهر لأنه في آخر الأربعة ينفخ فيه الروح. بدليل ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يمكث أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة. ثم أربعين يوماً علقة. ثم أربعين يوماً مضغة. ثم ينفخ فيه الروح ويأتيه ملكان فيكتبان رزقه وأجله وشقي هو أو سعيد» (¬3). فإن قيل: الحديثان لا دلالة لهما على ذلك؟ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1031) 3: 349 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الأطفال. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3180) 3: 205 كتاب الجنائز، باب المشي أمام الجنازة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6221) 6: 2433 كتاب القدر، باب في الحوض. وأخرجه مسلم في صحيحه (2643) 4: 2036 كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه ...

قيل: يجب حملهما عليه لأن الغسل والصلاة إنما شرعا على ميت، ومن لم ينفخ فيه الروح لا يوصف بالموت لأنه عبارة عن خروج الروح من الجسد وذلك مفقود فيمن لم ينفخ الروح فيه بعد. قال: (ومن تعذر غسله يمم). أما كون من تعذر غسله (¬1) ييمم؛ فلأن غسل الميت طهارة على البدن فقام التيمم عند العجز عنه مقامه كالجنابة. وأما التعذر فكما إذا خيف تقطع الميت إذا غسل كالمجدور والمحترق ونحوهما. قال: (وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسناً). أما كون الغاسل عليه ستر ما ذكر؛ فلأن ذكر ذلك شَيْنٌ له وذلك لا يجوز في الحي ففي الميت أولى. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من غسل ميتاً وحنطه وكفنه وحمله وصلى عليه ولم يفش عليه ما رآه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (¬2) رواه الإمام أحمد بمعناه. ولا بد أن يلحظ في هذا الستر اختصاصه بأهل السنة. وأما أهل البدع كالرافضي فالمستحب إظهاره لتجتنب طريقته وبدعته. ذكره ابن عقيل. وأما كون الستر مقيداً بكونه ليس بحسن فلأنه لو كان حسناً لاستحب إظهاره لأن فيه ترغيبًا في طريقته والاقتداء بها. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (24954) 6: 122.

فصل في الكفن قال المصنف رحمه الله: (يجب كفن الميت في ماله مقدماً على الدَين وغيره. فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته. إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته). أما كون كفن الميت يجب في ماله؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم: «كفنوه في ثوبيه» (¬1). وقوله في قتلى أحد: «ادفنوهم في ثيابهم بدمائهم» (¬2). ولأن حاجة الميت مقدمة في ماله على ورثته بدليل قضاء دَينه. وأما كونه مقدماً على الدَين فلأن المفلس تقدم كسوته على قضاء الدَين. فكذلك الميت. وأما كونه مقدماً على غير الدَين فلأنه إذا قدم على الدَين فعلى غيره بطريق الأولى. وأما كونه على من تلزمه نفقته غير الزوج إذا لم يكن للميت مال فلأنه تلزمه نفقته حياً لعجزه فلأن يجب عليه كفنه ميتاً بطريق الأولى لأن الميت أشد عجزاً. وأما كون الزوج لا يلزمه كفن امرأته فلأن كسوة الحياة تجب بالزوجية والتمكن من الانتفاع. وقد انقطع ذلك بالموت وتعذر الانتفاع فيمتنع ما يجب بسببه. ودليل الانقطاع إباحة أختها وأربع سواها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (ويستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض يبسط بعضها فوق بعض بعد تجميرها). أما كون تكفين الرجل يستحب في ثلاث لفائف بيض من غير زيادة عليها ولا نقصان فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «كُفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية. ليس فيها قميص ولا عمامة» (¬1) متفق عليه. وأما كونها يبسط بعضها فوق بعض فلأن الحي هكذا يلبس الثياب. وأما كونها تجمر فلأن ذلك مما يصنع بالعرائس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا بموتاكم كما تصنعون بعرائسكم» (¬2). وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً» (¬3) رواه أحمد. ولأن هذا عادة الحي عند غسله وتجديد ثيابه فكذلك الميت. قال: (ثم يوضع عليها مستلقياً، ويجعل الحنوط فيما بينها، ويجعل منه في قطن يجعل منه بين إليتيه، ويشد فوقه خرقة مشقوقة الطرف كالتبان تجمع إليتيه ومثانته، ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده. وإن طيب جميع بدنه كان حسناً). أما كون الميت يوضع على أكفانه مستلقياً فلأنه أمكنُ لإدراجه فيها. وأما كون الحنوط يجعل فيما بينها فلأنه مشروع، ولا يجعل فوق الفوقاني «لأن عمر وابن عمر وأبا هريرة كرهوا ذلك». وعن الصديق أنه قال: «لا تجعلوا على أكفاني حنوطاً». فيتعين أن يكون بينها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1321) 1: 467 كتاب الجنائز، باب موت يوم الاثنين. وأخرجه مسلم في صحيحه (941) 2: 649 كتاب الجنائز، باب في كفن الميت. (¬2) سبق الحديث عنه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (14541) 3: 331.

وأما كون الحنوط يجعل بعضه في قطن فلأن القطن يحتاج إليه في مواضع يأتي ذكرها. وأما كون بعض القطن يجعل بين إليتي الميت فلأن في ذلك منعاً لما يخرج إذا حُمِل وحُرِّك. وأما كون ذلك يشد فوقه خرقة فلئلا يقع القطن. وأما كون الخرقة مشقوقة الطرف فليجمع بين ما ذكر. وصفة ذلك: أن يشق الغاسل طرفيها فيدخلها بين رجليه ويشد أطراف الخرقة بعضها إلى بعض فوق الوركين. والتبان هو السراويل (¬1) بلا أكمام. وأما كون الباقي من القطن يجعل على منافذ وجهه. وهي: عيناه ومنخراه وأذناه وفمه ومواضع سجوده وهي ركبتاه وجبهته ويداه وأطراف قدميه فلأن في جعل ذلك على المنافذ منعاً من دخول الهوام على مواضع السجود تشريفاً لها. وأما كونه إذا طيب جميع بدنه يكون حسناً فـ «لأنه يروى عن أنس أنه لما مات طلي بالمسك من قرنه إلى قدمه» (¬2). و«طلى ابن عمر ميتاً بالمسك» (¬3). قال: (ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر فوقه. ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك). أما كون طرف اللفافة العليا ترد على شق الميت الأيمن، وطرفها الآخر يرد فوقه فلأن ذلك عادة في الأحياء في لبس الأقبية والفَرَجِيّات والأردية. ¬

_ (¬1) في ب: وأما كون التبان فوق السراويل. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبدالله بن مبارك عن حميد عن أنس «أنه جعل في حنوطه صرة من مسك أو مسك فيه شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم» كتاب الجنائز، في المسك في الحنوط من رخص فيه (11031) 2: 460. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11038) 2: 461 كتاب الجنائز، في المسك في الحنوط من رخص فيه.

وأما كون الثانية والثالثة يفعل بهما كالأولى فلأنهما في معناها. قال: (ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه. ثم يعقدها. وتحل العقد في القبر. ولا يخرق الكفن). أما كون ما عند رأس الميت يجعل أكثر مما عند رجليه فلأن كسوة الحي كذلك فكذا الميت. وأما كون الأكفان تعقد فلئلا تنحل. وأما كون العُقد تحل في القبر فلأن المخوف المذكور يزول فيه. وأما كون الكفن لا يخرّق فلما فيه من تقبيح الكفن المأمور بتحسينه. ولأن الحي يقبح أن يَتخذ قميصاً مخرقاً فكذلك الميت. قال: (وإن كُفّن في قميص ومئزر ولفافة جاز. وتكفن المرأة في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين. والواجب من ذلك ثوب يستر جميعه). أما كون الرجل إذا كفن في قميص ومئزر ولفافة يجوز فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَلبس عبدالله بن أبي قميصه لما مات» (¬1) رواه البخاري. وعن عمرو بن العاص «أن الميت يؤزر ويقمص ويلف بالثالثة». وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه كفن في ثلاثة أثواب، ثوبين سحوليين وثوب كان يلبسه» (¬2). ولأن هذا عادة الحي: القميص والسراويل والطيلسان. وأما كون المرأة تكفن في خمسة أثواب فلما روت الثقفية قالت: «[كنت] (¬3) فيمن غسل أمَّ كُلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحِقاء. ثم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2846) 3: 1095 كتاب الجهاد والسير، باب الكسوة للأسارى. (¬2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6184) 3: 425 كتاب الجنائز، باب الكفن. (¬3) ساقط من ب.

الدرع. ثم الخمار. ثم الملحفة. ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر ... مختصر» (¬1) رواه أبو داود. والحِقاء: الإزار. وكذا فسره الإمام أحمد رحمة الله عليه. وأما كون الواجب من ذلك في حق الميت رجلاً كان أو امرأة ثوباً يستر جميعه فلأن ذلك يكفي الحي البارز بين الناس فلأن يكفي الميت المستتر بالأرض بطريق الأولى. ولأن الغرض ستره وذلك يحصل بالثوب الواحد. وقال القاضي: لا يجزئ أقل من ثلاثة لأنه لو جاز واحد لم يجبر الورثة على أكثر منه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3157) 3: 200 كتاب الجنائز، باب في كفن المرأة.

فصل في الصلاة على الميت قال المصنف رحمه الله: (السنة أن يقوم الإمام عند رأس الرجل ووسط المرأة. ويقدم إلى الإمام أفضلهم. ويجعل وسط المرأة حذاء رأس الرجل. وقال القاضي: يسوي بين رؤوسهم). أما كون السنة أن يقوم الإمام عند رأس الرجل ووسط المرأة فلما روى سمرة بن جندب قال: «صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها» (¬1) متفق عليه. وروي «أن أنساً صلى على عبدالله بن عمير (¬2) فقام عند رأسه» (¬3). و«صلى على امرأة فقام عند عجيزتها. فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة! هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي كصلاتك يكبر أربعاً ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم» (¬4). رواه أبو داود وابن ماجة بمعناه. ولأن الرجل يخالف المرأة في موقفها مع الإمام فجاز أن يخالفها هنا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1266) 1: 447 كتاب الجنائز، باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها. وأخرجه مسلم في صحيحه (964) 2: 664 كتاب الجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت للصلاة عليه. (¬2) في ب: عبدالله بن عمر. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 33 كتاب الجنائز، باب الإمام يقف على الرجل عند رأسه وعلى المرأة عند عجيزتها. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3194) 3: 208 كتاب الجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1494) 1: 479 كتاب الجنائز، باب ما جاء في أين يقوم الإمام إذا صلى على الجنازة.

وأما كون أفضلهم يقدم إلى الإمام فلأن الفضيلة يستحق بها التقديم في الإمامة فكذلك هنا. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه على ذلك بكونه كان يقدم في القبر أكثرهم قرآناً (¬1). وأما كون وسط المرأة يجعل حذاء رأس الرجل على المذهب فلما ذكر من أن السنة أن يقف الإمام عند رأس الرجل ووسط المرأة. وأما كونهم يسوي بين رؤوسهم على قول القاضي فـ «لأن أمَّ كُلثوم وابنها صلى عليهما أمير المدينة فسوى بين رؤوسهما» رواه سعيد في سننه. ولأن المرأة تابع لا حكم لها. وروي عن ابن عمر «أنه كان يسوي بين رؤوس الرجال والنساء» (¬2) رواه أبو حفص. ¬

_ (¬1) سبق ذكره من حديث جابر رضي الله عنه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6348) 3: 467 كتاب الجنائز، باب أين توضع المرأة من الرجل.

قال: (ويكبر أربع تكبيرات: يقرأ في الأولى الفاتحة، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية، ويدعو في الثالثة. فيقول: اللهم! اغفر لِحَيِّنا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير. اللهم! من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته منا فتوفه عليهما. اللهم! اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. وأبدله داراً خيراً من داره وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار وأفسح له في قبره ونور له فيه. وإن كان صبياً قال: اللهم! اجعله ذخراً لوالديه وفرطاً وأجراً وشفيعاً مجاباً. اللهم! ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم. ويقف بعد الرابعة قليلاً. ويسلم تسليمة (¬1) واحدة عن يمينه. ويرفع يديه مع كل تكبيرة). أما كون المصلي على الميت يكبر عليه أربعاً فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر على النجاشي أربعاً» (¬2) متفق عليه. و«صلى على قبر امرأة دفنت ليلاً فكبر أربعاً» (¬3). و«كبر على ابنه إبراهيم أربعاً، وكبر على البراء بن معرور أربعاً، وعلى ابن بيضاء أربعاً». فإن قيل: فقد روى زيد بن أرقم «أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر خمساً» (¬4). ¬

_ (¬1) في ب: تسليماً. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1269) 1: 447 كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة أربعاً. وأخرجه مسلم في صحيحه (952) 2: 657 كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة. (¬3) أخرجه الشافعي في مسنده (576) 1: 208 باب صلاة الجنائز وأحكامها. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (957) 2: 659 كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر. وأخرجه أبو داود في سننه (3197) 3: 210 كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1023) 3: 343 كتاب الجنائز، باب ما جاء في التكبير على الجنازة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1505) 1: 482 كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن كبر خمساً.

وروى عبدالله بن مسعود «كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وخمساً وسبعاً فكبروا ما كبر الإمام» (¬1). قيل: إنما اختار إمامنا أحمد الأربع لوجوه ثلاثة: أحدها: أن رواة ذلك أكثر. الثاني: أنه آخر الأمرين فكان ناسخاً لما تقدم. الثالث: أن عمل الصحابة وإجماعهم عليه: أما العمل فـ «لأن أبا بكر كبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً، وكبر عمر رضي الله عنه على أبي بكر أربعاً، وكبر صهيب على عمر أربعاً، وكبر الحسن على علي أربعاً» (¬2). وأما الإجماع فروى النخعي قال: اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته في التكبير على الجنائز: فقال قوم: ثلاثاً، وقوم أربعاً، وقوم خمساً، وقوم سبعاً. فجمع عمر الصحابة رضوان الله عليهم فأجمعوا على أنه يكبر عليه أربعاً. وأما كونه يقرأ في الأولى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية ويدعو للميت في الثالثة فلما روي عن مجاهد قال: «سألت ثمانية عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على الجنازة فكلهم يقول: كبر ثم اقرأ ثم كبر ثم صل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم كبر ثم ادع للميت ثم كبر». ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11450) 2: 496 كتاب الجنائز، من كان يكبر على الجنازة خمساً. عن علقمة بن قيس «أنه قدم من الشام فقال لعبدالله: إني رأيت معاذ بن جبل وأصحابه بالشام يكبرون على الجنائز خمساً فوقتوا لنا وقتاً نتابعكم عليه، فأطرق عبدالله ساعة ثم قال: كبروا ما كبر إمامكم لا وقت ولا عدد». وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6403) 3: 481 كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة. بنحوه. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (5) 2: 71 كتاب الجنائز، باب مكان قبر آدم صلى الله عليه وسلم والتكبير عليه أربعاً. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1423) 1: 542 كتاب الجنائز، كلاهما عن أنس رضي الله عنه.

وأما كونه يقرأ بالفاتحة فلما روى جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الجنازة وقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن» (¬1). فإن قيل: ما صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ قيل: كصفتها في التشهد لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم تلك الصفة حين سألوه عن صفة الصلاة عليه (¬2). وإن أتى بالصلاة على غير تلك الصفة أجزأ لأن القصد مطلق الصلاة. وأما كونه يقول في الدعاء للميت كما ذكره المصنف رحمه الله: أما في حق غير الصبي فلأن ذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما قوله: اللهم! اغفر لِحَيِّنا إلى ... وأنثانا فرواه أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة قال: اللهم! اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا» (¬3) حديث صحيح. وأما قوله: اللهم! من أحييته منا ... إلى فتوفه عليهما فروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وزاد فيه: «اللهم! من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام» (¬4) رواه الترمذي وأبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (578) 1: 209 باب صلاة الجنائز وأحكامها. (¬2) وهو ما روى كعب بن عجرة قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد». أخرجه البخاري في صحيحه (5996) 5: 2338 كتاب الدعوات باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (406) 1: 305 كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1024) 3: 343 كتاب الجنائز، باب ما يقول في الصلاة على الميت. وأخرجه النسائي في سننه (1986) 4: 74 كتاب الجنائز، الدعاء. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3201) 3: 211 كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1498) 1: 480 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة. وأخرجه أحمد في مسنده (8795) 2: 368.

وأما قوله: اللهم! اغفر له ... إلى عذاب النار فرواه عوف بن مالك قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه: اللهم! اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه. وأكرم نُزلَه وأوسع مُدخلَه واغسله بالماء والثلج والبرد. ونقِّه من الخطايا كما نقّيت الثوب الأبيض من الدنس. وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه. وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار. حتى تمنيت أن يكون أنا ذلك الميت» (¬1) رواه مسلم. وأما في حق الصبي فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (¬2) رواه أبو داود. ولأنه لا ذنب له فلم يحتج إلى الاستغفار. والقول المذكور من: اللهم! اجعله ذخراً لوالديه إلى وقه عذاب الجحيم لائق بحاله مناسب لما هو فيه فشرع ذكره مكان الاستغفار كالاستغفار في حق البالغ. والجامع بينهما مناسبة كل واحد منهما حال الميت والدعاء له بما يليق بحاله. وأما كونه يقف بعد الرابعة قليلاً فلأن زيد بن أرقم روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر أربعاً. ثم يقف ما شاء الله فكنت أحسب هذه الوقفة ليكبر آخر الصفوف» رواه الجوزجاني. وكلام المصنف رحمه الله مشعر بأنه لا يشرع بعد الرابعة ذكر. وصرح به في المغني عن الإمام أحمد. وظاهر الحديث المذكور يدل عليه. وحكى المصنف رحمه الله في المغني أيضاً عن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه يدعو لأنه يُروى عن عبدالله بن أبي أوفى «أنه صلى على ابنةٍ له فكبر أربعاً. ووقف بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يدعو. ثم قال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬3) رواه الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (963) 2: 662 كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت في الصلاة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3180) 3: 205 كتاب الجنائز، باب المشي أمام الجنازة. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (19163) 4: 356.

ولأنه قيام في صلاة فكان فيه ذكر مشروع كالذي قبله. وصفته: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قاله أبو الخطاب؛ لأنه لائق بالمحل. وأما كونه يسلم تسليمة واحدة فلما روى عطاء بن السائب «أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على الجنازة تسليمة واحدة (¬1») (¬2). رواه الجوزجاني. وروى أبو هريرة «أنه صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر أربعاً وسلم تسليمة واحدة» (¬3) رواه الدارقطني. ولأنه تسليم من غير تشهد فلم يسن فيه التكرار كالتسليم على المسلم في غير الصلاة. وقال القاضي: الواحدة جائزة. والأفضل اثنتان لما فيه من الخروج من الخلاف. والأول أصح وأحسن لأن الأخبار في ذلك صحيحة فاتباعها والاقتداء بالسلف الصالح أولى. وأما التسليمة الواحدة عن يمينه فلما روى ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فسلم عن يمينه» رواه الإمام أحمد. وأما كونه يرفع يديه مع كل تكبيرة فـ «لأن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه في تكبير الجنازة والعيد» (¬4). ولأن تكبير الجنازة تكبير لا يتصل طرفه بسجود ولا بقعود فسن فيه الرفع كتكبيرة الإحرام. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البيهقي في السن الكبرى 4: 43 كتاب الجنائز، باب ما روي في التحلل من صلاة الجنازة بتسليمة واحدة. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 72 كتاب الجنائز، باب التسليم في الجنازة ... (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 293 كتاب صلاة العيدين، باب رفع اليدين في تكبير العيد.

قال: (والواجب من ذلك القيام والتكبيرات والفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأدنى دعاء للميت والسلام). أما كون الواجب مما تقدم ذكره ما ذكره المصنف رحمه الله هنا: أما التكبيرات فلما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإجماع الصحابة على ما ذكر في موضعه مبيناً. وأما الفاتحة فلما روت أم شريك قالت: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بأم الكتاب» (¬1) رواه ابن ماجة. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها في الأولى» (¬2) وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬3). ولأن صلاة الجنازة صلاة فلم يكن بد من قراءة الفاتحة فيها كالصلاة. وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه» (¬4). وأما الدعاء فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» (¬5) رواه أبو داود. و«لأنه دعا له حين صلى عليه» (¬6). وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬7). [ولأن الدعاء هو المقصود. فلا يجوز الإخلال به. وأما وجوب السلام؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «تحليلها التسليم» (¬8)] (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (1496) 1: 479 كتاب الجنائز، باب ما جاء في القراءة على الجنازة. (¬2) كما سبق ذكره في حديث جابر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (605) 1: 226 كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر ... (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (5) 1: 355 كتاب الطهارة، باب ذكر وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3199) 3: 210 كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1497) 1: 480 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة. كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) سبق ذكر أحاديث الدعاء للميت ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬7) سبق تخريجه قريباً. (¬8) أخرجه أبو داود في سننه (618) 1: 165 كتاب الصلاة، باب الإمام يحدث بعد ما يرفع رأسه من آخر الركعة. وأخرجه الترمذي في جامعه (3) 1: 8 أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور. كلاهما من حديث علي رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (276) 1: 101 كتاب الطهارة وسننها، باب مفتاح الصلاة الطهور. (¬9) ساقط من ب.

ولم يذكر المصنف رحمه الله النية ولا القيام وهما واجبان وفاقاً: أما النية فلقوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى» (¬1). ولقوله عليه السلام: «لا عمل إلا بالنية» (¬2). وأما القيام؛ فلأنها فرض كفاية فيجب فيها القيام كالفريضة. ولقوله عليه السلام: «صل قائماً» (¬3). ولأنه صلى الله عليه وسلم «كان يصلي على الجنازة قائماً» (¬4). وإنما لم يذكرهما المصنف رحمه الله هنا لظهورهما وقصد الاختصار. ولذلك صرح بهما في المغني. وقد ألحق القيامَ بعضُ من أذن له المصنف رحمه الله في الإصلاح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1) 1: 3 بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1907) 3: 1515 كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية ... ». (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 41 كتاب الطهارة، باب الاستياك بالأصابع، ولفظه: «لا عمل لمن لا نية له». (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1066) 1: 376 أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب. (¬4) سبق ذكر حديث سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها. ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن كبر الإمام خمساً كبر بتكبيره. وعنه لا يتابع في زيادة على أربع. وعنه يتابع إلى سبع. ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته. وقال الخرقي: يقضيه متتابعاً فإن سلم ولم يقضه فعلى روايتين). أما كون المأموم يكبر بتكبير إمامه إذا كبر خمساً على روايةٍ فلأن زيد بن أرقم روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبرها» (¬1). ومن المعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم ما فارقوه. وأما كونه لا يتابع في زيادة على أربع على روايةٍ فلما تقدم من إجماع الصحابة على الأربع (¬2). ولأن آخر أمري رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربع. والعمل بالآخر متعين. وأما كونه يتابع إلى سبع على روايةٍ فـ «لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر سبعاً» (¬3). ولا يختلف المذهب أنه لا يتابعه فيما زاد على سبع لأن السنة لم ترد بالزيادة عليها. ولا أنه يُسلم قبل إمامه إذا قلنا لا يتابع إمَامه فيما زاد على الواجب بل يقف حتى يسلم معه لأنها زيادة قول مختلف فيه فلم يجز له مفارقة إمامه إذا اشتغل به كالقنوت في الصبح. فإن قيل: ما الصحيح من الروايات المذكورة؟ قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه يتابع إلى خمس لما تقدم من تكبير زيد بن أرقم على الجنازة خمساً، وقوله: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها» (¬4) لأنه لا تعارض ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11458) 2: 497 كتاب الجنائز، من كان يكبر على الجنازة سبعاً وتسعاً. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 37 كتاب الجنائز، باب ما يستدل به على أن أكثر الصحابة اجتمعوا على أربع ... (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

بينه وبين ما ورد في تكبير الأربع لأن الجمع ممكن وهو أن فعل الأربع على وجهٍ المداومة يدل على الفضيلة وفعل الخمس يدل على الجواز وإذا ثبت جوازه وجب متابعة الإمام فيه. وإنما لم يتابعه إلى سبع لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لم يثبت ثبوته في الأربع (¬1). وقال ابن عقيل: المختار أنه لا يتابع فيما زاد على الأربع لأن إجماع الصحابة ناسخ لما تقدم. فلم يكن فعل الزائد على الأربع مشروعاً. وإذا لم يكن مشروعاً لم يتابعه فيه كما لو قنت الإمام في الركعة الأولى. ولذلك قال مالك رضي الله عنه: «قف حيث وقفت السنة». وأما كون من فاته شيء من التكبير يقضي ما فاته على صفته على المذهب فلقوله عليه السلام: «وما فاتكم فاقضوا» (¬2). ولأن القضاء يحكي الأداء. والمراد بالقضاء على الصفة القضاء بالتكبير والذكر المشروع في محله. وأما كونه يقضي ذلك متتابعاً على قول الخرقي فلأنه ربما رُفِع الميت فتكون صلاة في حالة لا تكون فيها جنازة. وأما كونه إذا سلم ولم يقض ما فاته تصح صلاته على روايةٍ فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «يا رسول الله! إني أصلي على الجنازة ويخفى عليّ بعض التكبير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما سمعت فكبري وما فاتك فلا قضاء عليك». ولأنها تكبيرات متوالية حال القيام فلم يجب قضاء ما فات منها كتكبيرات العيد. وأما كونها لا تصح على روايةٍ فقياساً على سائر الصلوات. ¬

_ (¬1) في ب: الخمس. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (861) 2: 114 كتاب الإمامة، السعي إلى الصلاة.

قال: (ومن فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر إلى شهر. ويصلى على الغائب بالنية. فإن كان في أحد جانبي البلد لم يصل عليه بالنية في أصح الوجهين). أما كون من فاتته الصلاة على الجنازة يصلي على القبر فلما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر منبوذ فأمَّهم وصلوا خلفه. قال الشعبي: قلت لمن أخبرني: من حدثك بهذا؟ قال: ابن عباس» (¬1) رواه البخاري. وروى سهل بن حنيف «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبرِ مسكينة دفنت ليلاً» (¬2). وأما كونه يصلي على القبر إلى شهر فلأن أكثر ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد ما دفنت بشهر» (¬3) رواه الترمذي. قال ابن عقيل: ليس في هذا الحديث دليل على أنه لا يصلي بعد شهر لأن ذلك وقع اتفاقاً. ولعله لو قدم بعد شهر كان يصلي. ويمكن أن يجاب عنه بأن الجواز يعتمد دليلاً وُجد في الشهر فما دون فيبقى فيما عداه على الأصل. وأما كون الغائب يصلى عليه بالنية فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي» (¬4) رواه مسلم. وأما كونه لا يصلي عليه إذا كان في أحد جانبي البلد في وجهٍ فلأنه بُعْدٌ لا يمنع الحضور أشبه ما لو صلى في بيته على جنازة في المسجد. وهذا الوجه لأبي حفص البرمكي. وأما كونه يصلي عليه في وجهٍ فلأن أحد جانبي البلد فيه بُعْدٌ تلحق به المشقة أشبه البلد الآخر. وهذا الوجه لابن حامد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1271) 1: 448 كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن. (¬2) أخرجه الشافعي في مسنده (577) 1: 209 باب صلاة الجنائز وأحكامها. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1038) 3: 356 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على القبر. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (952) 2: 657 كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة.

قال: (ولا يصلي الإمام على الغالّ ولا من قتل نفسه). أما كون الإمام لا يصلي على الغالّ فـ «لأن رجلاً توفي يوم خيبر. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: صلوا على صاحبكم. فتغيرت وجوه القوم. فقال: إن صاحبكم غل من الغنيمة» (¬1) رواه الإمام أحمد. واحتج به. فإن قيل: ما الغال؟ قيل: هو الذي يكتم غنيمته أو بعضها. وأما كونه لا يصلي على من قتل نفسه فلما روى جابر بن سمرة قال: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه» (¬2) رواه مسلم. وفي لفظ: «أن رجلاً قتل نفسه بمشاقص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنا فلا أصلي عليه» (¬3) رواه النسائي. فإن قيل: ما المشاقص؟ قيل: جمع مشقص. وهو سهم له نصل عريض وليس بالطويل. قاله أبو عبيد. وقال الجوهري: هو من النصال ما طال وعرض. قال: (فإن وجد بعض الميت غسل وصلي عليه. وعنه لا يصلى على الجوارح). أما كون ما وجد من الميت يغسل ويصلى عليه على المذهب فـ «لأن رجلاً من المشركين كان لا يميل على جانب من المسلمين إلا كسره فتحامل المسلمون عليه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2710) 3: 68 كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول. وأخرجه النسائي في سننه (1959) 4: 64 كتاب الجنائز، الصلاة على من غل. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2848) 2: 950 كتاب الجهاد، باب الغلول. وأخرجه أحمد في مسنده (17072) 4: 114. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (978) 2: 672 كتاب الجنائز، باب ترك الصلاة على القاتل نفسه. (¬3) أخرجه النسائي في سننه (1964) 4: 66 كتاب الجنائز، ترك الصلاة على من قتل نفسه.

فظفروا به فوجدوا معه خُرجاً فيه رؤوس المسلمين فأمرهم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بتغسيلها وتكفينها والصلاة عليها» (¬1). و«صلى عمر رضي الله عنه على عظامٍ بالشام» (¬2). وأما كون الجوارح لا يصلى عليها على روايةٍ فلأن يد الحي لو قطعت في حياته لم يصل عليها فكذلك جوارح الميت. قال: (فإن اختلط من يصلى عليه بمن لا يصلى عليه صلى على الجميع ينوي من يصلى عليه). أما كون المصلي يصلي على الجميع فلأن الصلاة على المسلم واجبة ولا يمكنه الخروج من العهدة إلا بذلك. وأما كونه ينوي من يُصلى عليه. ومعناه: أن ينوي الصلاة على المسلمين من ذلك الجميع فلأن الصلاة على الكافر لا تجوز فلم يكن بد من نية من يصلى عليه. قال: (ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد. وإن لم يحضره غير النساء صلين عليه). أما كون الصلاة على الميت في المسجد لا بأس بها فلقول عائشة رضي الله عنها: «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن بيضاء إلا في المسجد» (¬3) رواه مسلم. وروي «[أن] (¬4) أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صلي عليهما في المسجد» (¬5) رواه سعيد. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ثور عمن حدثه «أن أبا عبيدة صلى على رؤوس بالشام» (11899) 3: 40 كتاب الجنائز، في الصلاة على العظام وعلى الرؤوس. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 18 كتاب الجنائز، باب ما ورد في غسل بعض الأعضاء إذا وجد مقتولاً ... (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11902) 3: 41 كتاب الجنائز، في الصلاة على العظام وعلى الرؤوس. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (973) 2: 668 كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد. (¬4) ساقط من ب. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11966 - 11968) 3: 47 كتاب الجنائز، في الصلاة على الميت في المسجد من لم ير به بأساً. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 52 كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد.

وكان ذلك بمحضر من الصحابة فكان إجماعاً. ولأنها صلاة فلم تكره في المسجد كسائر الصلوات. وأما كون من لم يحضره غير النساء صلين عليه فلأن الصلاة على الميت فرض كفاية. وذلك لا يسقط بغير فعل أحد. ولا أحد موجود غير النساء فتعين فعله ضرورة الخروج عن عهدة الفرض.

فصل في حمل الميت ودفنه قال المصنف رحمه الله: (يستحب التربيع في حمله. وهو: أن يضع قائمة السرير اليسرى المقدمة على كتفه اليمنى. ثم ينتقل إلى المؤخرة. ثم يضع قائمته اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى. ثم ينتقل إلى المؤخرة. وإن حمل بين العمودين فحسن). أما كون التربيع في حمل الميت يستحب؛ فلقول ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا تبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع ثم ليتطوع بعد أو ليذر فإنه من السنة» (¬1) رواه ابن ماجة وسعيد بن منصور في سننه. وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تبع جنازة فأخذ بجوانبها الأربع غفر الله له أربعين ذنباً كل ذنب منها كبيرة» (¬2). وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يضع ... إلى قوله: المؤخرة الآخرة؛ فبيان لصفة التربيع. وفيها روايتان: إحداهما: أنه كما ذكره هنا. وعلله في المغني بأنه أحد الجانبين فبدئ فيه بالمقدمة كالآخر. وثانيهما: أنه ينتقل من الرجل إلى الرجل ثم يختم بالرأس لأن ابن عمر كذا كان يفعل. فروى النجاد بإسناده «كان ابن عمر يحمل الجنازة من قبل ميامنها: يبدأ باليد. ثم بالرجل. ثم بالرجل الأخرى. ثم باليد» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (1478) 1: 474 كتاب الجنائز، باب ما جاء في شهود الجنائز. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حمل جوانب السرير الأربع كفر الله عنه أربعين كبيرة» 3: 26 كتاب الجنائز، باب حمل السرير. وقد عزاه إلى الطبراني في الأوسط وقال: فيه علي بن أبي سارة وهو ضعيف. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6516) 3: 512 كتاب الجنائز، باب صفة حمل النعش. عن جابر قال: «أخبرني من سمع ابن عمر يقول: أَبدأُ بالميامن، وكان هو يبدأ بيده ثم رجليه». وأخرج عن الأزدي قال: «رأيت ابن عمر في جنازة حمل بجوانب السرير الأربع قال: بدأ بميامنها ثم تنحى عنها، فكان منها بمنزلة مزجر الكلب» (6520) 3: 513. وأخرجه ابن أبي شيبة (11277) 2: 480 كتاب الجنائز، بأي جوانب السرير يبدأ في الحمل. بنحوه.

وأما كون حمله بين العمودين حسناً؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين». [و «حمل سعد بن أبي وقاص عبدالرحمن بن عوف بين العمودين» (¬1). و«حمل عثمان سرير أمه بين العمودين] (¬2) فلم يفارقه حتى وضع». و«حمل أبو هريرة سرير ابن أبي وقاص بين العمودين». و«حمل ابن عمر عبدالرحمن بن أبي بكر بين العمودين» (¬3). فإن قيل: أيهما أفضل؟ قيل: التربيع لأن دليله قول معتضد بقول ابن مسعود وفعل ابن عمر فكان أولى من غيره. ولأن الفعل المذكور يمكن حمله على الجواز والتربيع على الفضيلة لأنه مصرح فيه بالثواب الجزيل وذلك دليل الرجحان. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 20 كتاب الجنازة، باب من حمل الجنازة فوضع السرير على كاهله بين العمودين المقدمين. (¬2) ساقط من ب. (¬3) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن يوسف بن ماهك قال: «رأيت ابن عمر في جنازة واضعاً السرير على كاهله بين العمودين» (11182) 2: 473 كتاب الجنائز، في وضع الرجل عنقه فيما بين عودي السرير.

قال: (ويستحب الإسراع بها. ويكون المشاة أمامها، والركبان خلفها. ولا يجلس من تبعها حتى توضع. وإن جاءت وهو جالس لم يقم لها). أما كون الإسراع بالجنازة يستحب فلقوله صلى الله عليه وسلم: «أسرعوا بالجنازة، [فإن تك صالحة] (¬1) فخيرٌ تُقدمونها إليه. وإن يكن غير ذلك، فشرٌ تَضعونَه عن رِقابكم» (¬2) متفق عليه. وأما كون المشاة أمامها فلما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة» (¬3) رواه الإمام أحمد [وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة] (¬4). وأما كون الركبان خلفها فلما روى المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الراكب خلف الجنازة ... مختصر» (¬5) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. ولأن سير الراكب أمامها يؤذي مُتّبعي الجنازة لأنه موضع المشاة. فإن قيل: قوله عليه السلام: «والماشي حيث شاء منها» (¬6) مشكل لأنه إن حُمل على الجواز لزم أن يكون الراكب لا يجوز له ذلك لأنه عليه السلام فرق بينهما حيث قال: «الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها»، وإن حُمل على الفضيلة لزم المساواة بين أمَام الجنازة وخلفها للماشي. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1252) 1: 442 كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة. وأخرجه مسلم في صحيحه (944) 2: 652 كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3179) 3: 205 كتاب الجنائز، باب المشي أمام الجنازة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1007) 3: 329 كتاب الجنائز، باب ما جاء في المشي أمام الجنازة. وأخرجه النسائي في سننه (1944) 4: 56 كتاب الجنائز، مكان الماشي من الجنازة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1482) 1: 475 كتاب الجنائز، باب ماجاء في المشي أمام الجنازة. وأخرجه أحمد في مسنده (4539) 2: 8. (¬4) زيادة من ج. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (1031) 3: 349 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الأطفال. (¬6) هو تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه.

قيل: يندفع ذلك بأن يحمل على الجواز الخالي عن الكراهة. وذلك لأن الماشي يجوز له المشي كيف شاء من غير كراهة. وأما الراكب فيتجه أن يقال يجوز له ذلك لكنه يكره له أن يكون أمامها لما فيه من إيذاء المشاة بدابته. وأما كون من تبعها لا يجلس حتى توضع فلما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع» (¬1) رواه البخاري. وأما كون الجالس إذا جاءت لا يقوم لها فلقول علي رضي الله عنه: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد» (¬2) رواه مسلم. وهذا ناسخ لما روى مسلم: «إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه» (¬3). قال: (ويُدخل قبره من عند رجل القبر إن كان أسهل عليهم. ولا يسجى القبر إلا أن يكون لامرأة). أما كون الميت يدخل قبره من عند رجل القبر إن كان يَسهل على من يدخله فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سُل من قبل رأسه» (¬4). وإنما يسل من قبل رأسه إذا كان قد أدخل من رجل القبر. فإن قيل: لم اشترط المصنف رحمه الله السهولة؟ قيل: لأن في ضدها مشقة وضرراً وذلك منفي شرعاً. وأما كون القبر لا يسجى إلا أن يكون لامرأة فلما روي عن علي رضي الله عنه: «أنه مر بقوم دفنوا ميتاً وبسطوا على قبره الثوب فجذبه. وقال: إنما يصنع هذا بالنساء» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1248) 1: 441 كتاب الجنائز، باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال ... (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (962) 2: 661 كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنازة. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (958) 2: 660 كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة. (¬4) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6469) 3: 499 كتاب الجنائز، باب من حيث يدخل الميت القبر. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 54 كتاب الجنائز، باب من قال: يسل الميت من قبل رجل القبر. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 54 كتاب الجنائز، باب ما روي في ستر القبر بثوب.

قال: (ويلحد له لحداً. وينصب عليه اللبن نصباً. ولا يدخله خشباً، ولا شيئاً مسته النار). أما كون اللاحد للميت يلحد له لحداً وينصب عليه اللبن نصباً فلقول سعد بن أبي وقاص: «الحدوا لي لحداً وانصبوا عليّ اللبن نصباً كما صُنع برسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1) رواه مسلم. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «اللحد لنا والشق لغيرنا» (¬2) رواه أبو داود. ومعنى اللحد: أنه إذا بلغ الحافر أرض القبر [حفر فيه مما يلي القبلة مكاناً يوضع فيه الميت. ومعنى الشق: أن يحفر في أرض القبر] (¬3) شيئاً يضع الميت فيه ويسقفه عليه بشيء. وأما كونه لا يُدخل القبر خشباً ولا شيئاً مسته النار فلأن إبراهيم قال: «كانوا يستحبون اللَّبِن ويكرهون الخشب والآجر» (¬4). قال: (ويقول الذي يدخله (¬5): بسم الله وعلى ملة رسول الله. ويضعه في لحده على جنبه الأيمن مستقبل القبلة). أما كون من يُدخل الميت قبره يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميت القبر قال: بسم الله وعلى ملة رسول الله» (¬6). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3208) 3: 213 كتاب الجنائز، باب في اللحد. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11769) 3: 27 كتاب الجنائز، في تجصيص القبر والآجر يجعل له. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6386) 3: 477 كتاب الجنائز، باب اللحد. (¬5) في ب: يلحده. (¬6) أخرجه ابن ماجة في سننه (1550) 1: 494 كتاب الجنائز، باب ما جاء في إدخال الميت القبر. وأخرجه أحمد في مسنده (4812) 2: 27.

ويروى: «على سنة رسول الله» (¬1) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وأما كونه يضعه في لحده على جنبه الأيمن مستقبل القبلة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا دُفن. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إذا جعلتموني في اللحد فأفضوا بخدي إلى الأرض». قال: (ويحثو التراب في القبر ثلاث حثيات. ويهال عليه التراب. ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً). أما كون من حضر الدفن يحثو التراب في القبر ثلاثاً فلما روى جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه حثى ثلاث حثيات بيديه جميعاً على الميت» (¬2) رواه الشافعي في مسنده. و«لأن علياً رضي الله عنه حثى على زيد بن المكفف ثلاثاً، وابن عباس حثى على زيد بن ثابت ثلاثاً» (¬3). وينبغي أن يقول عند الأولى: {منها خلقناكم}. وعند الثانية: {وفيها نعيدكم}. وعند الثالثة: {ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55]. وأما كون الميت يهال عليه التراب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فُعل به كذلك قالت عائشة رضي الله عنها: «ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي» (¬4) رواه الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3213) 3: 214 كتاب الجنائز، باب في الدعاء للميت إذا وضع في قبره. وقال: هذا لفظ مسلم. وأخرجه الترمذي في جامعه (1046) 3: 364 كتاب الجنائز، باب ما يقول إذا أدخل الميت القبر. (¬2) أخرجه الشافعي في مسنده (601) 216 باب صلاة الجنائز وأحكامها. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6479 - 6480) 3: 501 كتاب الجنائز، باب حثي التراب. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 410 كتاب الجنائز، باب إهالة التراب في القبر بالمساحي وبالأيدي. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (26392) 6: 274.

وقالت فاطمة رضي الله عنها: «كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب» (¬1) رواه البخاري. وأما كون القبر يرفع عن الأرض قدر شبر فلما روى الساجي «أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض [قدر شبر] (¬2») (¬3). ولأن بذلك يعلم أنه قبر فيتوقى ويُترحم عليه. وأما كونه مسنماً فلما روى سفيان التمار «أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً» (¬4) رواه البخاري. ولأن المسطح يشبه أبنية أهل الدنيا. قال: (ويرش عليه الماء. ولا بأس بتطيينه. ويكره تجصيصه، والبناء، والكتابة عليه، والجلوس والوطء عليه، والاتكاء إليه). أما كون القبر يرش عليه الماء فلما روى أبو رافع «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلَّ سعداً ورش على قبره ماء» (¬5) رواه ابن ماجة. ولأن الماء يُلبدُه. وأما كونه لا بأس بتطيينه فلما روى جعفر بن محمد عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر، وطين بطين أحمر من العرصة» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4193) 4: 1619 كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11744) 3: 25 كتاب الجنائز، فيمن كان يحب أن يرفع القبر. عن إبراهيم. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 410 كتاب الجنائز، باب لا يزاد في القبر على أكثر من ترابه لئلا يرتفع جداً. عن جابر. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1325) 1: 468 كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. (¬5) أخرجه ابن ماجة في سننه (1551) 1: 495 كتاب الجنائز، باب ما جاء في إدخال الميت القبر. (¬6) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 411 كتاب الجنائز، باب لا يزاد في القبر على أكثر من ترابه لئلا يرتفع جداً.

ولأن في تطيينه صيانة له عن الدوس. والحديث الذي فيه النهي عن التطيين محمول على التطيين للتحسين جمعاً بين نهيه وبين تطيين قبره. وأما كونه يكره تجصيصه والبناء والكتابة عليه والجلوس والوطء عليه والاتكاء إليه فلقول جابر: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد إليه» (¬1) رواه مسلم. و[زاد] (¬2) الترمذي: «وأن يكتب عليها وأن توطأ» (¬3). و«رأى عليه السلام عمرو بن حزم متكئاً على قبر. فقال: لا تؤذ صاحب هذا القبر» (¬4) رواه الإمام أحمد. قال: (ولا يدفن فيه اثنان إلا لضرورة. ويقدم الأفضل إلى القبلة. ويجعل بين كل اثنين حاجز من التراب). أما كون القبر لا يدفن فيه اثنان إذا لم تكن ضرورة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَدفن كل ميت في قبر. ثم فعل ذلك بعده السلف والخلف من الصحابة وغيرهم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (970) 2: 667 كتاب الجنائز، النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1052) 3: 368 كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (27915) ط إحياء التراث. وأخرجه الحاكم في المستدرك (6502) 3: 681 كتاب معرفة الصحابة، ذكر عمارة بن حزم الأنصاري رضي الله عنه. الحديث سكت عنه الذهبي في التلخيص، قلت: فيه ابن لهيعة وهو ضعيف.

وأما كونه يدفن فيه ذلك إذا كان ضرورة مثل كثرة الموتى وقلة من يدفنهم وخوف الفساد عليهم فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كثر القتلى يوم أحد كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد» (¬1). وأما كون الأفضل يقدم إلى القبلة «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في قتلى أحد: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد» (¬2). وأما كون حاجز من تراب يجعل بين كل اثنين فليصير كل واحد منفرداً كأنه في قبر منفرد. قال: (وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخذ. وإن كفن بثوب غصب أو بلع مال غيره غرم ذلك من تركته. وقيل ينبش ويؤخذ الكفن ويشق جوفه فيخرج). أما كون القبر ينبش ويؤخذ ما وقع فيه مثل أن ينسى الحفار مسحاته أو من يدفنه خاتمه ونحوه؛ فلما روي عن المغيرة بن شعبة «أنه وضع خاتمه في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: خاتمي. ففتح منه موضع فدخل وأخذه». ولأنه لا ضرر في أخذه ولا هتك لحرمة الميت فجاز إيصاله إلى مستحقه. ولأن في تركه إضاعة للمال المنهي عنها. وأما كون من كفن بثوب غصب أو بلع مال غيره يغرم ذلك من تركته على المذهب فلأن استحقاق العين يسقط عند تعذر الرجوع وينتقل إلى القيمة. والرجوع في العين هنا متعذر شرعاً لأن نبش الميت وشق جوفه مُثلةٌ منهي عنها. وإذا انتقل حق المال إلى القيمة استحق أخذها من التركة كما لو أتلف الميت شيئاً قبل موته. وأما كون الميت ينبش ويؤخذ الكفن ويشق جوفه فيخرج ما فيه على قولٍ فلأن حق صاحبه متعلق بعينه ولم يرض بتركه فكان له ما ذكر كما لو دفن في أرض الغير بغير إذنه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. من حديث جابر رضي الله عنه. (¬2) هو تكملة للحديث السابق.

قال: (وإن ماتت حامل لم يشق بطنها وتسطو عليه القوابل فيخرجنه. ويحتمل أن يشق بطنها إذا غلب على الظن أنه يحيى). أما كون الحامل إذا ماتت لا يشق بطنها على المذهب فلأن الشق مُثْلةٌ متيقنة، وحياة الولد مظنونة موهومة. ثم إنه لو خرج حياً فالغالب المعتاد أنه لا يعيش. وقد احتج الإمام أحمد رحمه الله عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي» (¬1) رواه أبو داود. وأما كون القوابل يسطو على الحمل. ومعناه: أنهن يدخلن أيديهن في رحم الميتة فيخرجنه فلأن في ذلك إبقاء للولد من غير مُثلةٌ بأمه. فإن قيل: قد تقدم أنه لا يعيش غالباً فإذا كان كذلك فلا حاجة إلى أن يسطو عليه القوابل؟ قيل: إنما يفعل ذلك إذا قويت الحركة وظهر انفتاح المخارج وأمارات الولادة وماتت في الطلق. وإلا فلا يتعرض لها. وأما كونه يحتمل أن يشق بطنها إذا غلب على الظن أنه يحيى فلأنه تعارض حق الحي وحق الميت فكان حق الحي أولى. قال: (فإن ماتت ذمية حامل من مسلم دفنت وحدها. ويجعل ظهرها إلى القبلة). أما كون الذمية الحامل من مسلم تدفن وحدها فلأنها إن دفنت في مقابر المسلمين تأذوا بعذابها، وإن دفنت في مقابر أهل الذمة تأذى ولدها المحكوم بإسلامه بعذابهم. وأما كون ظهرها يجعل إلى القبلة فلأن وجه الولد المحكوم بإسلامه إلى ظهرها فإذا جعل ظهرها إلى القبلة كان الولد مستقبلاً للقبلة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3207) 3: 212 كتاب الجنائز، باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان.

قال: (ولا تكره القراءة على القبر في أصح الروايتين). أما كون ما ذُكر لا يكره في الصحيح فلما روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دخل المقابر فقرأ فيها سورة يس خُفف عنهم يومئذ وكان له بعددهم حسنات» (¬1). وروت عائشة رضي الله عنها عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زار قبر والديه أو أحدهما فقرأ عندهما أو عنده سورة يس غفر لهما» (¬2) رواهما أبو بكر صاحب الخلال. وأما كونه يكره في روايةٍ؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر لا يقرأ فيها شيئاً من القرآن. فإن الشيطان يفر من بيت يقرأ فيه سورة البقرة» (¬3). فلو كانت المقبرة يقرأ فيها القرآن لم يكن بينهما فرق. قال: (وأي قربة فعلها وجعلها للميت المسلم: نفعه ذلك). أما كون كل قربة فعلها الإنسان؛ من دعاء واستغفار وأداء واجب وصدقة وصلاة وصوم وحج وقراءة ونحو ذلك وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك: أما الدعاء والاستغفار وأداء الواجب؛ فبالإجماع وقد قال الله تعالى: {والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10]. وقال تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]. ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 14: 289 وعزاه إلى عبدالعزيز صاحب الخلال. (¬2) ذكره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 14: 272 وعزاه إلى أبي بكر الشيخ في الثواب والديلمي وابن النجار والرافع. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (780) 1: 539 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد. وأخرجه الترمذي في جامعه (2877) 5: 157 كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي. وأخرجه أحمد في مسنده (8424) 2: 337. (¬4) عن أم سلمة قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون. ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه». أخرجه مسلم في صحيحه (920) 2: 634 كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر.

وأما الصدقة؛ فلأن سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أينفع أمي إن تصدقت عنها؟ قال: نعم» (¬1) رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة. وأن هشام بن العاص نحر حصته من ذلك خمسين. أفتجزئ عنه؟ فقال: إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصُمت عنه أو تصدقت بلغه ذلك» (¬2). وعن أنس بن مالك «سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نتصدق عن موتانا ونحج فهل يصل إليهم ذلك؟ فقال: إنه ليصل إليهم ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه». وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كان لي أبوان. كنت أبرهما في حياتهما. فكيف لي (¬3) أن أبرهما بعد موتهما؟ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك. وأن تصوم لهما مع صومك. وأن تتصدق لهما مع صدقتك» (¬4). وأما الصلاة فلأنها مذكورة (¬5) في حديث الرجل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2882) 3: 118 كتاب الوصايا، باب ما جاء فيمن مات عن غير وصية يتصدق عنه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2883) 3: 118 كتاب الوصايا، باب ما جاء فيمن مات عن غير وصية يتصدق عنه. وأخرجه أحمد في مسنده (6665) طبعة إحياء التراث. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (12083) 3: 62 كتاب الجنائز، ما يتبع الميت بعد موته. عن الحجاج بن دينار. (¬5) في الأصل: مذكور.

وأما الصوم فلأنه مذكور في حديث عمرو وأنس والرجل. وأما الحج فلأنه مذكور في حديث أنس. ولأن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت (¬1): «إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ فقال: أرأيت إن كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى» (¬2). وأما قراءة القرآن؛ فلما تقدم من أنها لا تكره على القبر. ولأنها قربة أشبهت سائر القرب. وأما نحو ذلك؛ فبالقياس على ما تقدم. فإن قيل: قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39] تنفي ما ذُكر لأنه ليس من سعيه. وقوله تعالى: {لها ما كسبت} [البقرة: 286] كذلك لأنه ليس من كسبه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، وعلمٍ ينتفع به، وولدٍ صالح يدعو له» (¬3) كذلك؛ لأنه ليس أحد الأمور الثلاثة؟ قيل: أما الأول فالجواب عنه من وجوه: أحدها: أن ذلك في صحف إبراهيم وموسى. ولذلك قال عكرمة: هذا في حقهم خاصة بخلاف شرعنا. واستدل على ذلك بحديث الخثعمية (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: فقال. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1442) 2: 551 كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله. وأخرجه مسلم في صحيحه (1334) 2: 973 كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ... (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1631) 3: 1255 كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته. وأخرجه أبو داود في سننه (2880) 3: 117 كتاب الوصايا، باب ما جاء في الصدقة عن الميت. وأخرجه الترمذي في جامعه (1376) 3: 492 كتاب الأحكام، باب في الوقف. وأخرجه أحمد في مسنده (8831) 2: 372. (¬4) سبق ذكره في الحديث قبل السابق.

وثانيها: أنها منسوخة بقوله تعالى: {والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} [الطور: 21]. روى ذلك ابن عباس. وثالثها: أنه مختص بالكافر أي ليس له من الجزاء إلا جزاء سعيه يُوفّاه في الدنيا وماله في الآخرة من نصيب. ذكره الثعلبي في تفسيره. ورابعها: أن معنى {ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39] عدلاً. وله ما سعى وسعى غيره وصلاً. وخامسها: أن اللام بمعنى على. ونحوه قوله تعالى: {أولئك لهم اللعنة} [الرعد: 25] أي عليهم. وقوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة: 196] أي على من لم يكن أهل. وأما الثاني وهو قوله: {لها ما كسبت} [البقرة: 286] فإنما تدل على نفي ما تقدم بالمفهوم. وما تقدم من الأدلة منطوق. والمنطوق راجح على المفهوم. على أن فعل القربة من الغير لا يخلو من نوع كسب ولو مودة الإسلام. وأما الثالث: وهو قوله: «انقطع عمله» فالكلام في عمل غيره لا في عمله. وأما قول المصنف رحمه الله: وجعل ثوابها للميت المسلم؛ فمشعر بأمرين: أحدهما: أنه إذا جعلها للحي لا ينفعه ذلك. ووجهه: أن العجز في الحج ونحوه مصحح للنيابة فليكن ما ذكر كذلك. وقال صاحب النهاية فيها: المنقول عن أحمد أنه لا فرق بين الحي والميت؛ لأن المعنى فيهما واحد. ولعل المصنف رحمه الله إنما ذكر الميت؛ لأن أكثر الأدلة المتقدمة فيه. ولأن حاجته إلى الثواب أكثر من الحي لا أن ذلك شرطٌ فيه.

وثانيهما: أنه إذا جعلها لغير المسلم لا تنفعه. وهو صحيح. وقد تقدم ذلك في حديث عمرو من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أباك لو كان أقر بالتوحيد بلغه ذلك» (¬1). قال: (ويستحب أن يُصلَحَ لأهل الميت طعام يبعث به إليهم، ولا يُصلحون هم طعاماً للناس). أما كون أن يُصْلَحَ لأهل الميت طعام يُبعث إليهم فلقوله عليه السلام: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد جاءهم (¬2) أمر شغلهم» (¬3) رواه الترمذي وابن ماجة وأبو داود. وأما كون أهل الميت لا يُصلحون طعاماً للناس فلأنهم في شغل بمصابهم. ولأنه زيادة عليهم في مصيبتهم. ولما قَدِم جرير على عمر قال: «هل يناح على ميتكم؟ قال: لا. قال: فهل يجتمعون الناس عند الميت ويجعلون الطعام؟ قال: تلك النياحة» (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في ب: جاء. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3132) 3: 195 كتاب الجنائز، باب صنعة الطعام لأهل الميت. وأخرجه الترمذي في جامعه (998) 3: 323 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1610) 1: 514 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11349) 2: 487 كتاب الجنائز، ما قالوا في الإطعام عليه والنياحة.

فصل [في زيارة القبور] قال المصنف رحمه الله: (ويستحب للرجال زيارة القبور. وهل تكره للنساء؟ على روايتين). أما كون زيارة القبور تستحب للرجال فلقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها. فإنها تذكركم الموت» (¬1) رواه مسلم. وأما كونها تكره للنساء على روايةٍ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله زوّارات القبور» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث صحيح. ولأن المرأة قليلة الصبر فلا يؤمن تهيج حزنها برؤية قبور الأحبة فيحملها على فعل ما لا يحل لها فعله بخلاف الرجل. وأما كونها لا تكره على روايةٍ فلعموم ما تقدم. و«لأن عائشة رضي الله زارت قبر أخيها عبدالرحمن» (¬3) رواه الترمذي. قال: (ويقول إذا زارها أو مر بها: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون. ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين. نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم! لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم). أما كون من زار القبور أو مر بها يقول: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، ونسأل الله لنا ولكم العافية فـ «لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1977) 3: 1563 كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث ... (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (320) 2: 136 أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجداً. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1055) 3: 371 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور.

يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر. فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» (¬1) رواه مسلم. وأما كونه يقول: ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين فلأن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك (¬2). وأما كونه يقول: اللهم! لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك (¬3). رواه أحمد. وأما كونه يطلب المغفرة؛ فلأن في حديث آخر: «يغفر الله لنا ولكم» (¬4). قال: (ويستحب تعزية أهل الميت. ويكره الجلوس لها. ويقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك. وفي تعزيته عن كافر: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك. وفي تعزية الكافر بالمسلم: أحسن الله عزاءك وغفر لميتك. وفي تعزيته عن كافر: أخلف الله عليك ولا نقص عددك). أما كون تعزية أهل الميت تستحب فلما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عزى (¬5) مصاباً فله مثل أجره» (¬6) رواه الترمذي وهو غريب. وروى عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مؤمن يُعزِّي أخاه إلا كساهُ الله من حُلَلِ الكرامةِ يومَ القيامة» (¬7) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (975) 2: 671 كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (974) 2: 670 كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (24469) 6: 71. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (1053) 3: 369 كتاب الجنائز، باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر. (¬5) في ب: عز. (¬6) أخرجه الترمذي في جامعه (1073) 3: 385 كتاب الجنائز، باب ما جاء في أجر من عزى مصاباً. (¬7) أخرجه ابن ماجة في سننه (1601) 1: 511 كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عزى مصاباً. قال في الزوائد: في إسناده قيس أبو عمارة، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذهبي في الكاشف: ثقة. وقال البخاري: فيه نظر. وباقي رجاله على شرط مسلم.

وأما كون الجلوس لها يكره فلأنه محدَث. مع ما فيه من تهيج الحزن. وأما كون المعزي يقول: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك في تعزية المسلم بالمسلم. وأعظم الله أجرك وأحسن عزاءك في تعزية المسلم بالكافر. وأحسن الله عزاءك وغفر لميتك في تعزية الكافر بالمسلم. وأخلف الله عليك ولا نقص عددك في تعزية الكافر بالكافر فلأنه لائق بحال الميت والمصاب. وقد ورد شيء في ذلك لم يذكره المصنف رحمه الله هنا وذكره في المغني وهو «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي سُمع صوتٌ من ناحية البيت: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته. إن في الله عَزاءً من كل مصيبة. وخلفاً من كل هالك. ودركاً من كل فائت. فبالله فثقوا وإياه فارجُوا. فإن المصَاب من حُرم الثواب» (¬1) رواه الشافعي. فقيل: إنه الخضر عليه السلام جاء يعزي زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأنه يجوز للمسلم تعزية الكافر. وسئل الإمام أحمد (¬2) رحمة الله عليه عن ذلك فتوقف. وفي ذلك وجه حمله الأصحاب رحمهم الله على جواز عيادته. وفيها روايتان. أما كون التعزية تحمل على العيادة فلأنها في معناها. ولأنه إذا جاز أن يقصده في بيته لعيادته فلا يجوز أن (¬3) يُعزى بطريق الأولى. وأما كون العيادة تجوز في روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهودياً كان يحضر في حوائجه وقال: كيف تجدك» وفي لفظ: «كيف أنت يا يهودي» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (600) 1: 216 كتاب الصلاة، باب صلاة الجنائز وأحكامها. (¬2) ساقط من ب. (¬3) ساقط من ب. (¬4) ذكره الهندي في كنز العمال (25701) 9: 210 حق عيادة المريض.

و «عاد نصرانياً فقال: كيف أنت يا (¬1) نصراني» (¬2). ولأن في ذلك تأليفاً للإسلام. وأما كونها لا تجوز في روايةٍ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدؤهم بالسلام وألجؤهم إلى أضيق الطرق» (¬3). فلأن لا يعاد بطريق الأولى. قال: (ويجوز البكاء على الميت. وأن يجعل المصاب على رأسه ثوباً يعرف به). أما كون البكاء على الميت يجوز فلما روى أنس قال: «شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر. فرأيت عينيه تدمعان» (¬4). و«قَبّل عثمانَ بن مظعون وهو ميت ورفع رأسه وعيناه تهراقان» (¬5). وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم» (¬6) متفق عليه. و«دخل عليه السلام على ابنه إبراهيم وهو يجُودُ بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان. فقال له عبدالرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله! فقال: يا ابن عوف إنها رحمة. ثم أتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع (¬7) والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (¬8) رواه البخاري. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) ذكره الهندي في الموضع السابق. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (5205) 4: 352 كتاب الأدب، باب في السلام على أهل الذمة. وأخرجه الترمذي في جامعه (2700) 5: 60 كتاب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1277) 1: 450 كتاب الجنائز، باب من يدخل قبر المرأة. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3163) 3: 201 كتاب الجنائز، باب في تقبيل الميت. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1456) 1: 468 كتاب الجنائز، باب ما جاء في تقبيل الميت. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (1242) 1: 439 كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض. وأخرجه مسلم في صحيحه (924) 2: 636 كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت. (¬7) ساقط من ب. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه (1241) 1: 439 كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا بك لمحزونون».

وأما كون المصاب يجوز أن يجعل على رأسه ثوباً يعرف به فلأن التعزية سنة وذلك وسيلة إليها. فإذا لم يكن سنة فلا أقل من أن يكون جائزاً. بيان أنه وسيلة إلى التعزية أنه إذا وضع عليه ما يعرف الناس به أنه هو المصاب عرفه الناس فعزَّوه. قال: (ولا يجوز الندب. ولا النياحة. ولا شق الثياب، ولطم الخدود، وما أشبه ذلك). أما كون الندب والنياحة. ومعناهما: أن يقول المصاب: وا رَجُلاه وا سيداه وما أشبه ذلك من تعديد محاسن الميت لا يجوزان فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة» (¬1) متفق عليه. وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة. وعنه عليه السلام: «نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشق جيوب ... مختصر» (¬2). قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن عمر: «ما على نساء بني المغيرة أن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نَقْعٌ، ولا لَقْلَقَة» (¬3). قال أبو عبيد: اللقلقة رفع الصوت، والنَّقْع التراب يوضع على الرأس. وجاء في تفسير قوله تعالى: {ولا يعصينك في معروف} [الممتحنه: 12] أنه النوح. وقالت أم عطية رضي الله عنها: «أَخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة أن لا ننوح» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1234) 1: 436 كتاب الجنائز، باب ما ينهي من الحلق عند المصيبة. وأخرجه مسلم في صحيحه (104) 1: 100 كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود ... (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1005) 3: 328 كتاب الجنائز، باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت. (¬3) ذكره البخاري تعليقاً في صحيحه 1: 434 كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11342) 2: 486 كتاب الجنائز، ما ينهى عنه مما يصنع على الميت من الصياح وشق الجيوب. عن شقيق. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6685) 3: 558 كتاب الجنائز، باب الصبر والبكاء والنياحة. عن أبي وائل. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1244) 1: 440 كتاب الجنائز، باب ما ينهى عن النوح والبكاء والزجر عن ذلك. وأخرجه مسلم في صحيحه (936) 2: 645 كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة.

وأما كون شق الثياب ولطم الخدود وما أشبه ذلك لا يجوز؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعى بدعوى الجاهلية» (¬1) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1232) 1: 435 كتاب الجنائز، باب ليس منا من شق الجيوب. وأخرجه مسلم في صحيحه (103) 1: 99 كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود ...

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة الزكاة في اللغة: النماء والزيادة، يقال: زكا الزرع إذا نمى وزاد. وفي الشرع: عبارة عن حق يجب في المال. وهي واجبة بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43]. وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فَتُرَدّ في فقرائهم» (¬1) متفق عليه. وأما الإجماع؛ فلأن المسلمين أجمعوا في جميع الأعصار على وجوب الصلاة والزكاة، وأجمعت الصحابة على قتال مانعي الزكاة. قال المصنف رحمه الله: (تجب الزكاة في أربعة أصناف من المال: السائمة من بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، والأثمان، وعروض التجارة). أما كون الزكاة تجب في السائمة، وهي: التي تُرعى لا التي تُعلف من بهيمة الأنعام وهي: الإبل والبقر والغنم فلأن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما صاحب إبل أو بقر أو غنم لم يؤد زكاتها إلا بُطح -وفي لفظ: إلا طُرح- يوم القيامة بقاعٍ قَرقرٍ تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها وأخفافها، كلما نَفِدَتْ أخراها عادت عليه أولاها» (¬2). وأما كونها تجب في الخارج من الأرض، وهو: الزرع والثمر والمعدن والركاز: أما في الزرع والثمر فلقوله تعالى: {والنخلَ والزرعَ مختلفاً أُكُلُهُ والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141]. وقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4090) 4: 1580 كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع. وأخرجه مسلم في صحيحه (19) 1: 50 كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (990) 2: 686 كتاب الزكاة، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، عن أبي ذر.

وقوله عليه السلام: «فيما سقت السماء والعيون أو كان (¬1) عثرياً العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر» (¬2) رواه البخاري. وأما في المعدن والركاز فلقوله عليه السلام: «وفي المعدن الصدقة». وقوله: «وفي الركاز الخمس» (¬3). و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ زكاة المعادن القَبَلِيّة من بلال بن الحارث» (¬4) رواه الجوزجاني. وأما كونها تجب في الأثمان، وهي: الذهب والفضة فلقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (¬5)} [التوبة: 34]. وقوله عليه السلام: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم ... مختصر» (¬6) رواه مسلم. وفي حديث أنس: «وفي الرقة ربع العشر» (¬7) رواه البخاري. وأما كونها تجب في عروض التجارة فلقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103]، وقوله: {والذين في أموالهم حق معلوم} [المعارج: 24]، ولما روى سمرة بن جندب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع» (¬8) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1412) 2: 540 كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقي من ماء السماء وبالماء الجاري. (¬3) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3061) 3: 173 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في إقطاع الأرضين. وأخرجه مالك في الموطأ (8) 1: 213 كتاب الزكاة، باب الزكاة في المعادن. (¬5) ساقط من ب. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه (987) 2: 682 كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (1386) 2: 527 كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم. (¬8) أخرجه أبو داود في سننه (1562) 2: 95 كتاب الزكاة، باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة.

قال: (ولا تجب في غير ذلك. وقال أصحابنا: تجب في المتولد بين الوحشي والأهلي، وفي بقر الوحش روايتان). أما قول المصنف رحمه الله: ولا تجب في غير ذلك؛ فمعناه غير ما تقدم ذكره من بهيمة الأنعام والخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة. وأما كون الزكاة لا تجب في ذلك؛ فلما يأتي ذكره في مواضعه. وأما مواضعه فأشياء: أحدها: المتولد بين الوحشي والأهلي، ولا تجب الزكاة في ذلك عند المصنف لأن الإيجاب من الشرع ولم يرد بما يدل على الوجوب، ولا يصح قياسه على شيء مما تقدم. وقال أصحابنا: تجب في ذلك؛ لأنه اجتمع فيه سببان: أحدهما: يوجب والآخر لا يوجب فوجبت الزكاة تغليباً. وثانيها: بقر الوحش، وفي وجوب الزكاة فيها روايتان: إحداهما: لا تجب؛ لما ذكر في المتولد. والثانية: تجب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «خذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً، ومن كل أربعين مسنة» (¬1). ودليل عمومه وتناوله لبقر الوحش جواز استثناء ذلك منه. قال صاحب النهاية فيها: هي المعتمدة في المذهب والمنصورة في الخلاف. ويؤيد الأولى: أن بقر الوحش يفارق البقر الأهلية في الصورة والمقاصد لأنها لا تعد للحرث والسقي ولا تدخل في مطلق الوكالة ولا تجزئ في الهدي والأضحية ويحرم إتلافها والتعرض لها في الحرم. وثالثها: العبيد والخيل والحمير، ولا زكاة في شيء من ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» (¬2) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1576) 2: 101 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة. وأخرجه الترمذي في جامعه (622) 3: 19 كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر. وأخرجه النسائي في سننه (2453) 5: 26 كتاب الزكاة، باب زكاة البقر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1803) 1: 576 كتاب الزكاة، باب صدقة البقر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1395) 2: 532 كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في عبده صدقة. وأخرجه مسلم في صحيحه (982) 2: 675 كتاب الزكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه.

وفي لفظ: «إلا زكاة الفطر في الرقيق» (¬1). وروى أبو عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في الجبهة ولا في النخة ولا في الكُسعة صدقة» (¬2). والجبْهة: الخيل، والنخة: الرقيق (¬3)، والكُسْعَةُ: بضم الكاف الحمير (¬4). ورابعها: المعلوفة من بهيمة الأنعام، ولا زكاة فيها لما يأتي في أول باب زكاة بهيمة الأنعام (¬5). وخامسها: ما عدا ذلك من عقار وثياب وما أشبه ذلك ولا زكاة في شيء من ذلك لما تقدم في المتولد. قال: (ولا تجب إلا بشروط خمسة: الإسلام، والحرية فلا تجب على كافر ولا عبد ولا مكاتب فإن ملّك السيد عبده مالاً وقلنا أنه يملكه فلا زكاة فيه، وإن قلنا لا يملكه فزكاته على سيده). أما كون الزكاة لا تجب إلا بالشروط المذكورة؛ فلما يأتي ذكره في مواضعها. وأما كون الإسلام من شروط وجوب الزكاة؛ فلأن الزكاة تتصف بصفات يمتنع أن يتصف بها الكافر منها: أن الأداء قربة وطاعة والكفر يضاد ذلك. ومنها: أنه طهرة والكافر لا يطهره إلا الإسلام. ومنها: أنه يفتقر إلى النية ولا يصح من الكافر كالصوم. وأما كون الحرية من شروطه فلأن العبد: إما مكاتب، وذلك لا زكاة عليه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا زكاة في مال المكاتب» (¬6). وقال ابن عمر: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وليس في ماله زكاة» (¬7)، ورواه أيضاً مرفوعاً (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1594) 2: 108 كتاب الزكاة، باب صدقة الرقيق. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 118 كتاب الزكاة، باب لا صدقة في الخيل. (¬3) في ج: الحمير. (¬4) في ج: الرقيق. (¬5) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬6) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 108 باب ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق، عن جابر. (¬7) أخرجه مالك في الموطأ (1) 2: 603 كتاب المكاتب، باب القضاء في المكاتب. بلفظ: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء». وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 324 كتاب المكاتب، باب المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. (¬8) رواه ابن قانع عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً وأعله. أفاده الحافظ ابن حجر في تلخيصه 4: 398. وأخرجه أبو داود في سننه (3926) 4: 20 كتاب العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم».

وقال جابر: «ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق» (¬1). ولا يعرف لهم مخالف فكان إجماعاً. ولأن ملكه متزلزل لأنه بفرضية أن يعجز وهو محجور عليه لا (¬2) يرث ولا يورث. وهو مشغول بوفاء نجومه. وإما عبد قن لا مال له وذلك لا زكاة عليه؛ لأنه لا مال له فلا وجه لوجوب الزكاة عليه لأن الزكاة متعلقة بالمال وهو مفقود. وإما عبد قن ملّكه سيده مالاً فإن قلنا أنه يملكه فلا زكاة عليه ولا على السيد: أما عليه فلأن ملكه ضعيف متزلزل متعرض للزوال بأخذ سيده له، وأما على السيد فلأنه إذا لم تجب على العبد الزكاة في ملكه لكونه متزلزلاً فلأن لا تجب على السيد بطريق الأولى. وإن قلنا أنه لا يملكه فزكاته على السيد؛ لأنه ما انتقل عنه، وهو مالك له مستجمع فيه جميع الشرائط المعتبرة أشبه المال الذي لم يملكه العبد أصلاً. قال: (والثالث: ملك نصاب فإن نقص عنه فلا زكاة فيه إلا أن يكون نقصاً يسيراً كالحبة والحبتين). أما كون ملك النصاب من شروط وجوب الزكاة: أما في الإبل فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 109 كتاب الزكاة، باب ليس في مال المكاتب زكاة. (¬2) في ب: ولا. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1558) 2: 94 كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة. وأخرجه الترمذي في جامعه (626) 3: 22 كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب.

وأما في البقر فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً» (¬1). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس فيما دون ثلاثين من البقر شيء» (¬2). وأما في الغنم فلقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها إلا أن يشاء ربها» (¬3) رواه البخاري. وأما في الزرع والثمر فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (¬4») (¬5). وأما في المعدن فلأنه خارج من الأرض تَلحق المؤونة في إخراجه أشبه الزرع والثمر. فإن قيل: الركاز خارج من الأرض ولا يشترط له نصاب؟ قيل: الركاز الواجب فيه ليس بزكاة على قول، ويجب فيه (¬6) الخمس فشبهه بالغنيمة أكثر من الزكاة، والغنيمة لا نصاب لها فكذا ما يشبهها، والمعدن الواجب فيه زكاة ومقداره مقدار زكاة الذهب والفضة فاعتبر فيه النصاب كالذهب والفضة. وأما (¬7) في الذهب فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب صدقة» (¬8) رواه أبو عبيد. وأما في الفضة فلقوله عليه السلام: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» (¬9) متفق عليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) لم أقف عليه مرفوعاً. وقد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه موقوفاً على علي (9939)، وفي (9940) موقوفاً على أبي سعيد الخدري 2: 364. كتاب الزكاة، من قال: إذا كانت البقر دون ثلاثين فليس فيها شيء. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1386) 2: 527 كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم. (¬4) ساقط من ب. (¬5) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬6) ساقط من ب. (¬7) في ب: وما. (¬8) أخرجه أبو عبيد في الأموال (1113) 370 باب فروض زكاة الذهب والورق ... (¬9) أخرجه البخاري في صحيحه (1340) 2: 509 كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز. وأخرجه مسلم في صحيحه (979) 2: 673 كتاب الزكاة.

وقوله في حديث عمرو بن شعيب المتقدم: «وليس فيما دون مائتي درهم صدقة» (¬1). وأما في عروض التجارة فلأن الزكاة تجب في قيمتها وهي إما ذهب أو فضة وكل واحد منهما داخل فيما تقدم. وأما كون النصاب إذا نقص نقصاً غير يسير كالدرهم (¬2) من نصاب الفضة، والدانق من نصاب الذهب لا زكاة فيه فلما تقدم من اشتراط ملك النصاب لوجوب الزكاة. وأما كونه إذا نقص نقصاً يسيراً كالدانق من نصاب الفضة، والحبة والحبتين من نصاب الذهب فلأن الزكاة وجبت مواساة ونقصان ذلك لا يخل بالمواساة. ولأن اليسير لا حكم له في أحكام كثيرة كالعمل اليسير في الصلاة، وانكشاف اليسير من العورة، والعفو عن اليسير من الدم في الصلاة، وفي نقض الوضوء فكذا يعفى عنه هنا. قال: (وتجب فيما زاد على النصاب بالحساب إلا في السائمة). أما كون الزكاة تجب فيما زاد على النصاب بالحساب -في غير السائمة- من الخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة فلعموم قوله: «هاتوا ربع عشور أموالكم» (¬3). وقوله: «وفي الرقة ربع العشر» (¬4). وفي لفظ: «فإذا كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم وما زاد فبحساب ذلك» (¬5) رواه أبو داود. ولأنه لا ضرر في التشقيص في جميع ذلك بخلاف السائمة. ¬

_ (¬1) هو تكملة للحديث قبل السابق. (¬2) في ب: كالدراهم. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1572) 2: 99 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1573) 2: 100 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة.

وأما كونها لا تجب في السائمة فيما زاد بالحساب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب شيئاً في عدد ثم لم يوجب فيما زاد بحسابه ولو وجب في الزائد بحسابه لذكره. ولأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس في الإبل شيء حتى تبلغ خمساً فإذا بلغت خمساً ففيها شاة ولا شيء في زيادتها حتى تبلغ عشراً». وفي آخر: «وإذا زادت الغنم على ثلاثمائة فليس فيما دون المائة شيء حتى تبلغ مائة». وروى أبو عبيد في غريبه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في الأوقاص صدقة» (¬1). وقال: الوقص: ما بين النصابين. وفي حديث معاذ «أنه قيل له: أمرت في الأوقاص بشيء؟ فقال: لا وسأسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: لا» (¬2) رواه الدارقطني. قال: (الرابع: تمام الملك فلا زكاة في دين الكتابة ولا في السائمة الموقوفة ولا في حصة المضارب من الربح قبل القسمة على أحد الوجهين فيهما). أما كون تمام الملك من شروط وجوب الزكاة فلأن الملك الناقص ليس نعمة كاملة والزكاة إنما وجبت في مقابلة النعمة الكاملة. وأما كون دين الكتابة لا زكاة فيه فلأن النعمة فيه ليست كاملة لكون العبد يملك تعجيز نفسه والامتناع من الأداء. وأما كون السائمة الموقوفة لا زكاة فيها على وجه فلأن الملك لا يثبت فيها في وجهٍ ويثبت في آخر ثبوتاً ناقصاً لا يتمكن من التصرف فيه بأنواع التصرفات. وأما كون حصة المضارب قبل القسمة لا زكاة فيها على وجه؛ فلأنها لا تملك على وجه وتملك على آخر ملكاً ضعيفاً لأنها وقاية لرأس المال. وأما كون السائمة الموقوفة فيها زكاة على وجه؛ فلعموم قوله عليه السلام: «في أربعين شاة شاة» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في غريبه 2: 244 عن معاذ بلفظ: «أنه أتي بوقص وهو باليمن فقال: لم يأمرني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء». (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (22) 2: 99 كتاب الزكاة، باب ليس في الخضروات صدقة. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (1807) 1: 578 كتاب الزكاة، باب صدقة الغنم.

وأما كون حصة المضارب فيها زكاة على وجه؛ فلأنها مال من الأموال حال من المانع لوجوب الزكاة فيدخل في عموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في مثل ذلك. فإن قيل: لم ثنّى المصنف رحمه الله الضمير في فيهما؟ قيل: للإشعار بأن الخلاف المذكور هنا إنما هو في السائمة الموقوفة وحصة المضارب قبل القسمة دون دين الكتابة. قال: (ومن كان له دين على مليء من صداق أو غيره زَكّاهُ إذا قبضه لما مضى، وفي الدين على غير المليء والمؤجل والمجحود والمغصوب والضائع روايتان: أحدهما: هو كالدين على المليء. والثاني: لا زكاة فيه. قال الخرقي: واللقطة إذا جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعاً منها). أما كون من له مال على مليء من صداق وغيره يزكيه إذا قبضه لما مضى؛ فلعموم النصوص المتقدم ذكرها. ولأنه مال تام الملك يمكن استيفاؤه فوجبت فيه الزكاة كسائر الأموال. ولا بد أن يلحظ أن المليء بالدين مقر غير مماطل به ولا غاصب له؛ لأنه إذا لم يكن كذلك يكون ما يأتي من الخلاف. وإنما أطلق المصنف رحمه الله ذلك وأوجب في الدين على المليء؛ اكتفاء بما يأتي. وإنما لم يجب أداء الزكاة قبل قبض (¬1) الدين لأن الزكاة تجب مواساة وليس من المواساة إخراج زكاة مال لم يقبضه. وأما كون الدين على غير المليء، والدين المؤجل، والمجحود، والمغصوب، والضائع كالدين على المليء في وجوب الزكاة وعدم وجوب أدائها قبل قبضه على روايةٍ: أما في الوجوب فلعموم الأدلة الدالة على الوجوب في مثل ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: «في أربعين شاة شاة» (¬2) وقوله: «وفي الرقة ربع العشر» (¬3) وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأنه مال تام نظراً إلى الجنس والقدر والحول فوجبت فيه الزكاة كالدين على مليء. ولأنه لم يوجد في ذلك سوى الحيلولة من التصرف وذلك لا يمنع الزكاة كما لو أُسرَ صاحب المال أو كان المال مرهوناً. وأما في عدم وجوب أدائها قبل قبضه فلأنه إذا لم يجب في الدين الحالّ على مليء قبل قبضه فلأن لا يجب في ذلك قبل قبضه بطريق الأولى. وأما كونه لا زكاة فيه أصلاً على روايةٍ فلأنه يروى عن عثمان وابن عمر أنهما قالا: «لا زكاة في مال الضمان»، ولا يعرف لهما مخالف وباقي الصور في معنى ذلك. ولأن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة بدليل أنها لا توجب في العقار وذلك مفقود هنا. فإن قيل: ما مال الضمان؟ قيل: هو المال الموجود الذي لا يعرف مالكه موضعه. وأما قول المصنف رحمه: قال الخرقي: واللقطة إذا جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعاً منها؛ فتأكيد لوجوب الزكاة فيما تقدم، ولذلك قال قال (¬1) الخرقي: بغير واو. ولأن ذلك تصريح في اللقطة حال ضَياعها وتنبيه على الوجوب في بقية الصور. قال: (ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب إلا في المواشي والحبوب في إحدى الروايتين). أما كون مال من (¬2) عليه دين ينقص النصاب إذا كان غير المواشي والحبوب كالأموال الباطنة من الذهب والفضة وعروض التجارة والمستخرج من المعدن لا زكاة ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) ساقط من ب.

فيه فلما روى السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: «هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه وليزك بقية ماله» (¬1) رواه سعيد. قال عثمان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروه فكان إجماعاً. وروى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه». و«لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بأخذ الصدقة من الأغنياء» (¬2) ومن عليه دين فقير بدليل أنه يجوز له أن يأخذ من الصدقة لوفاء دينه. وأما كون مال من عليه دين ينقص النصاب إذا كان المواشي والحبوب والثمار -وتسمى الأموال الظاهرة- لا زكاة فيه في رواية فلما تقدم في الأموال الباطنة. وأما كونه فيه الزكاة في رواية فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث سعاته إلى أرباب الأموال الظاهرة فيأخذون زكاتها على الكره والرضى»، وكذلك الأئمة بعده ولم يسألوا أربابها عن الدين، ولم يكن هو والخلفاء بعده يفعلون ذلك في الأموال الباطنة فوجب حمل كلام عثمان على الأموال الباطنة جمعاً بينه وبين فعل سعاته صلى الله عليه وسلم وفعل الخلفاء بعده. ولأن الأموال الظاهرة تعلق بها أطماع الفقراء، والحاجة إلى تحصينها وحفظها أوفر بخلاف الباطنة. وفي قول المصنف رحمه الله: دين ينقص النصاب؛ إشارة إلى أن الدين الذي يمنع وجوب الزكاة هو الذي ينقص النصاب؛ كمن عليه دين خمسة دراهم وله مائتا درهم، وتنبيه على أنه إذا كان له مثل ما عليه من الدين لا زكاة عليه؛ لأنه إذا منع ما ينقص النصاب به فلأن يمنع ما يقابله بجملته بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (17) 1: 216 كتاب الزكاة، باب الزكاة في الدين. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 148 كتاب الزكاة، باب الدين مع الصدقة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4090) 4: 1580 كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع. وأخرجه مسلم في صحيحه (19) 1: 50 كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.

قال: (والكفارة كالدين في أحد الوجهين). أما كون الكفارة كالدين في منع وجوب الزكاة في وجهٍ فلأنها دين يجب قضاؤه أشبه دين الآدمي يؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دين الله أحق أن يقضى» (¬1). وأما كونها لا تمنع وجوب الزكاة في وجهٍ فلأن الزكاة آكد لتعلقها بالعين على اختلاف. ولأن دين الآدمي تتوجه المطالبة به بخلاف دين الله من الكفارة. ولأن الكفارة بالمال لها بدل وهو الصوم بخلاف الزكاة. قال: (الخامس: مضي الحول شرط إلا في الخارج من الأرض، فإذا استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يتم عليه الحول إلا نتاج السائمة وربح التجارة فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصاباً وإن لم يكن نصاباً فحوله من حين كمل النصاب). أما كون مضي الحول من شروط وجوب الزكاة في غير الخارج من الأرض فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (¬2) رواه الترمذي وابن ماجة. ولأن الزكاة إنما تجب في مال تام فوجب أن يعتبر له الحول ليكمل النماء فيه فيواسي من نمائه. وأما كونه غير شرط في الخارج من الأرض وهو الحبوب والثمار والركاز والمعدن: أما في الحبوب والثمار فلأن الله تعالى أمر بالإيتاء يوم الحصاد فقال: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] وذلك ينفي اعتبار الحول. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1852) 2: 690 كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1148) 2: 804 كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (631) 3: 25 كتاب الزكاة، باب ما جاء لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1792) 1: 571 كتاب الزكاة، باب من استفاد مالاً. قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف حارثة بن محمد، وهو ابن أبي الرَجّال. قال السندي: قلت: لفظه «من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول» رواه ابن عمر مرفوعاً بإسناد فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقال: وهو ضعيف في الحديث كثير الغلط. ضعفه غير واحد. ورواه عنه موقوفاً. وقال: هذا أصح. ورواه غير واحد موقوفاً.

وأما في الركاز والمعدن فلأن الحول يراد لتكامل النماء وبوجودهما يحصل النماء فلم يشترط لهما الحول كالحبوب والثمار. وأما كون المستفاد غير النتاج وربح التجارة كالمستفاد بإرث أو عقد من هبة ونحوها لا زكاة فيه حتى يتم عليه الحول فلأن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (¬1) يدل عليه. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: «ليس في المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» (¬2) رواه الترمذي. وقال: روي موقوفاً على ابن عمر وهو أصح. ولأنه أصلٌ في نفسه تجب الزكاة في عينه فوجب أن لا يعتبر حوله بغيره قياساً على ما لو استفاده ولا مال له. وأما كون نتاج سائمته حوله حول أصله إن كان (¬3) الأصل نصاباً فلقول عمر رضي الله عنه: «اعتد عليهم بالسخلة ولا تأخذها منهم» (¬4) رواه مالك في الموطأ. وعن علي أنه قال: «عد عليهم الصغار والكبار». ولا يعرف لهما مخالف. ولأن الغنم تختلف أوقات ولادتها فإفراد كل سخلة يشق فيجعل تبعاً للأمهات. ولأنها تابعة لها حقيقة في الملك فتتبعها في الحول. وأما كون ربح تجارته في ذلك مثل نتاج سائمته فلأنه مثله في كونه تبعاً للأصل وفي عدم ضبط حوله فوجب أن يلحق به. وأما كون حول ذلك من حين كمل النصاب إذا لم يكن الأصل نصاباً فلأن الأصل لا تجب فيه الزكاة فيما تجب فيه الزكاة لنقصانه عن النصاب فانتفت التبعية قبل الكمال فإذا كمل النصاب اعتبر الحول حينئذ لأنه حينئذ يتحقق فيه التبعية لما وجبت فيه الزكاة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (631) مرفوعاً، و (632) موقوفاً 3: 25 كتاب الزكاة، باب ما جاء لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه مالك في الموطأ (26) 1: 223 كتاب الزكاة، باب ما جاء فيما يعتد به من السخل في الصدقة.

قال: (وإن ملك نصاباً صغاراً انعقد عليه الحول حين ملكه، وعنه: لا ينعقد حتى يبلغ سناً يجزئ مثله في الزكاة). أما كون الحول ينعقد حين ملكه ذلك على المذهب فلأن الصغار إذا حال عليها حول من حين ملكها تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «في أربعين شاة شاة» (¬1) لأن الشاة تقع على الكبير والصغير. ولأن الصغير كالكبير في ذلك لقوله عليه السلام لساعيه: «عد عليهم صغيرها وكبيرها». ولأن أبا بكر رضي الله عنه قال: «لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم» (¬2)، والعَناق: لا تجب في الكبار. وأما كونه لا ينعقد حتى يبلغ سناً يجزئ مثله في الزكاة على روايةٍ فلأن مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرني أن لا آخذ من راضع شيئاً، إنما حقنا في التبيعة والجذعة» (¬3). قال: (ومتى نقص النصاب في بعض الحول أو باعه أو أبدله بغير جنسه انقطع الحول إلا أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة عند قرب وجوبها فلا تسقط، وإن أبدله بنصاب من جنسه بنى على حوله، ويتخرج أن ينقطع). أما كون الحول ينقطع بنقصان النصاب في بعض الحول فلأنه يصدق عليه أنه مال لم يحل عليه الحول لأن الحول على شيء يجب أن يكون حائلاً عليه بكماله. والمراد بنقص النصاب في بعض الحول نقصان النصاب في زمن كبير من الحول فلو كان الزمن يسيراً كالساعة والساعتين لم يؤثر. وذكر المصنف رحمه الله في المغني ذلك ونسبه إلى ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6855) 6: 2657 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (20) 1: 51 كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله. (¬3) لم أجده هكذا. وقد أخرج أبو داود نحوه عن سويد بن غفلة قال: سرت أو قال: أخبرني من سار مع مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن لا تأخذ من راضع لبن» (1579) 2: 102 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة.

أبي بكر وعلله بأن اليسير معفو عنه فلم يؤثر كسائر ما تقدم ذكره في نقصان النصاب من الحبة والحبتين. ولم يفرق أبو بكر بين كون النقص في وسط الحول أو طرفه. وظاهر كلام القاضي أن اليسير في وسط الحول مؤثر. وأما كونه ينقطع إذا باعه أو أبدله بغير جنسه كما لو باع أربعين من الغنم بعشرين ديناراً أو مائتي درهم بثلاثين من البقر ولم يقصد الفرار من الزكاة فلأن كل واحد من المالين لم يحل عليه حول فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (¬1). وأما كونه لا ينقطع الحول إذا قصد بالبيع أو الإبدال الفرار فلأن الله تعالى ذم من تعرض لإسقاط الزكاة فوجب أن لا تسقط. ولأنه قصد الفرار من زكاة فعورض بنقيض قصده كالقاتل. وأما قول المصنف رحمه الله: عند قرب وجوبها؛ فإشارة إلى أن ذلك مظنة قصد الفرار. بخلاف ما إذا باعها في أول الحول أو نصفه فإن المظنة هناك منتفية أو بعيدة. وأما كون من أبدل النصاب بنصاب من جنسه يبني على حوله على المذهب؛ فلأنه نصاب يُضم إليه نماؤه في الحول فبني حول بدله من جنسه على حوله كالعروض. وأما كونه يتخرج أن ينقطع فلأن كل واحد منهما لم يحل عليه الحول. قال: (وإذا تم الحول وجبت الزكاة في عين المال، وعنه: تجب في الذمة). أما كون الزكاة إذا تم الحول تجب في عين المال على المذهب فلقوله عليه السلام: «في كل أربعين شاة شاة» (¬2)، و «فيما سقت السماء العشر» (¬3) وغير ذلك من الألفاظ الواردة بحرف "في" المقتضي للظرفية. وأما كونها تجب في الذمة على روايةٍ فلأنه يجوز إخراجها من غير النصاب أشبه صدقة الفطر. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأنها لو وجبت فيه لامتنع تصرف المالك فيه بدون إذن الفقير، وَلَتَمكن الفقير من إلزامه أداء الزكاة من عين المال، ولسقطت بتلف المال من غير تفريط. قال: (ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء، ولا تسقط بتلف المال، وعنه: أنها تسقط إذا لم يفرط). أما كون وجوب الزكاة لا يعتبر فيه (¬1) إمكان الأداء فلأن الزكاة حق للفقير فلم يعتبر فيه إمكان الأداء كالدين للآدمي فإنه تجب له على من هو عليه أمكنه الأداء أو لا. ولأن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (¬2) يدل بمفهومه على الوجوب بعد الحول أمكن الأداء أو لا. وأما كونها لا تسقط بتلف المال إذا فرط مثل أن يتمكن من الإخراج ولم يفعل فلأنه مفرط متعد بفعله فوجب أن لا يسقط ما وجب عليه كما لو أتلف هذا المال، والجامع بينهما الاشتراك في التعدي. وأما كونها لا تسقط إذا لم يفرط مثل أن لا يجد من يدفع ذلك إليه على المذهب فلأن الزكاة حق آدمي أو مشتملة عليه فلا تسقط بعد وجوبها وإن لم يفرط كدين الآدمي. وأما كونها تسقط على روايةٍ فلأنه معذور حيث لم يجد من يدفع إليه. ولأنه إذا لم يتمكن من الأداء تكون الزكاة في يده أمانة فلم يضمنها كالوديعة وسائر الأمانات. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإذا مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاتهما فعليه زكاة واحدة إن قلنا تجب في العين، وزكاتان إن قلنا تجب في الذمة. إلا ما كان زكاته الغنم من الإبل فإن عليه لكل حول زكاة. وإن كان أكثر من نصاب فعليه زكاة جميعه لكل حول إن قلنا تجب في الذمة وإن قلنا تجب في العين نقص من زكاته كل حول بقدر نقصه بها). أما كون من مضى على نصاب له حولان لم يؤد زكاتهما عليه زكاة واحدة إذا قيل تجب في العين ولم تكن زكاته الغنم من الإبل فلأن المال حينئذ يعتبر ناقصاً عن النصاب لتعلق حق الفقراء بشاة منه فلا يجب فيه للحول الثاني زكاة لنقصانه فلم يبق إلا زكاة الحول الأول. وأما كونه عليه زكاتان إذا قيل الزكاة تجب في الذمة فلأن المال نصاب كامل في الحولين فتجب لكل حول زكاة. وأما كونه عليه لكل حول زكاة فيما إذا كانت زكاته الغنم من الإبل سواء قيل تجب في العين أو في الذمة فلأن الزكاة متى كانت من غير جنس المال لا تجب في العين البتة فإذاً لا ينقص النصاب في الحولين وإذا لم ينقص واحد منهما وجب لكل واحد زكاته لوجود المقتضي للوجوب السالم عن معارضة النقص (¬1). وقال صاحب المستوعب فيه: الحكم في ذلك كالحكم في الأول لأن النقص (¬2) حكمي فلم تعتبر المماثلة فيه. وأما كونه عليه زكاة جميع المال لكل حول إذا كان أكثر من نصاب، وقيل: الزكاة تجب في الذمة فلأن الزكاة إذا وجبت في الذمة لم تتعلق بشيء من المال فإذا حال عليه حولان وجبت زكاة جميعه لكل حول. وأما كونه ينقص من زكاته كل حول بقدر نقصه بها إذا قيل تجب في العين فلأن الزكاة إذا وجبت في العين نقص من المال مقدار الزكاة لتعلقها بالعين فوجب أن لا ¬

_ (¬1) في ب: النص. (¬2) مثل السابق.

تجب فيه زكاة لكونه مستحقاً للفقراء وإذا لم تجب الزكاة في مقدار ذلك وجب أن ينقص من الجميع مقدار زكاة النقص الذي تعلقت به الزكاة. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثاله أن يكون له أربعمائة درهم. فإن قيل: الزكاة تجب في الذمة فالواجب في الحولين عشرون، وإن قيل: تجب في العين فالواجب تسعة عشر درهماً ونصف درهم وربع درهم؛ لأنه تعلق قدر الواجب في الحول الأول بالمال في الحول الثاني فينقص عشرة ويبقى ثلاثمائة وتسعون درهماً زكاتها ما تقدم. فإن قيل: قول المصنف رحمه الله يدل على أن النقص يعم الحولين لأنه قال: كل حول؟ [قيل: مراده] (¬1) بعد الأول لأن الأول لما حال لم يكن قبل ذلك وجب شيء حتى ينقص بقدره على القول بالوجوب في العين. قال: (وإذا مات من عليه الزكاة أخذت من تركته، فإن كان عليه دين اقتسموا بالحصص). أما كون من مات وعليه الزكاة يؤخذ من تركته فلقوله صلى الله عليه وسلم: «فدين الله أحق بالقضاء» (¬2). ولأنه حق واجب تصح الوصية به فلم يسقط بالموت كدين الآدمي. وأما كون مستحق الزكاة والدين يقتسمون بالحصص فلأن كل واحد من الزكاة والدين واجب فوجب أن تقسم التركة بين مستحقيها كدين الآدميين (¬3). فعلى هذا لو كانت الزكاة خمسة دراهم والدين عشرين قسمت التركة بينهما أخماساً. فإن قيل: القول المذكور عام فيما إذا قيل الزكاة تجب في الذمة أو في العين؟ ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1852) 2: 690 كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1148) 2: 804 كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت. (¬3) في ب: آدميين.

قيل: في المسألة غير الذي ذكره المصنف رحمه الله هنا وجهان: أحدهما: تقدم الزكاة على الدين ومستندها تعلقها بالعين لأنها إذا تعلقت بالعين صارت بمنزلة صاحب الدين الذي له به رهن وصاحب الدين الذي لا رهن له، ومتى اجتمع شخصان أحدهما له رهن والآخر لا رهن له ولم تف التركة بدينهما فإنه يقدم دين من له رهن. والوجه الثاني: يقدم دين الآدمي لأن حقه مبني على الشح بخلاف حق الله تعالى. ويمكن الجواب عن هذا أيضاً بأن الزكاة حق آدمي أو مشتملة على حق آدمي.

باب زكاة بهيمة الأنعام

باب زكاة بهيمة الأنعام قال المصنف رحمه الله: (ولا تجب إلا في السائمة منها، وهي: التي ترعى في أكثر الحول). أما كون الزكاة لا تجب في غير السائمة من الإبل والغنم فلأن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: «في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون، وفي سائمة الغنم في كل أربعين شاة» (¬1) يدل عليه لأنه عليه السلام ذكر السوم فيهما وذكره يدل على نفي الوجوب في غير السائمة منهما وإلا وقع لغواً وكلام الشرع منزه عن ذلك. ولأن المعلوفة لا تقتنى للنماء فلم يجب فيها شيء كثياب البذلة. وأما كونها لا تجب في غير السائمة من البقر فلأن ورود ذلك في الإبل والغنم [يدل على اعتباره في البقر لأنها في معناها] (¬2). ولأن منطوق الحديثين المتقدم ذكرهما يدل عليه. وأما كونها تجب في السائمة من البقر فلما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى (¬3). وأما قول المصنف رحمه الله: وهي التي ترعى في أكثر الحول؛ فبيان للسائمة من غيرها. وإنما اعتبر رعيُ أكثر الحول لأن أكثر الشيء يقوم مقام كله في كثير من الأحكام الشرعية وكذلك هاهنا. ولأن اعتبار السوم في جميع الحول يمنع وجوب الزكاة بالكلية. قال: (وهي ثلاثة أنواع: أحدها: الإبل؛ فلا زكاة فيها حتى تبلغ خمساً فتجب فيها شاة، فإن أخرج بعيراً لم يجزئه، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة (¬4) ثلاث ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1386) 2: 527 كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم. (¬2) ساقط من ب. (¬3) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) في ب: خمس عشر.

شياه، وفي العشرين أربع شياه، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، وهي التي لها سنة، فإن عدمها أجزأه ابن لبون، وهو: الذي له سنتان، فإن عدمه أيضاً لزمه بنت مخاض. وفي ست وثلاثين بنت لبون، وفي ست وأربعين حقة، وهي: التي لها ثلاث سنين، وفي إحدى وستين جذعة، وهي: التي لها أربع سنين، وفي ست وسبعين ابنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى عشرين ومائة. فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون. ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة). أما كون بهيمة الأنعام ثلاثة أنواع فلأنها إبل وبقر وغنم. وأما كون الإبل منها لا زكاة فيها حتى تبلغ خمساً فلما تقدم في اشتراط النصاب لوجوب الزكاة من قوله عليه السلام: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» (¬1). ومن قوله: «ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة» (¬2) أخرجه البخاري. وأما كون الخمس تجب فيها شاة فلأن تكملة الحديث المذكور قبل: «فإذا بلغت خمساً ففيها شاة» (¬3). والشاة الواجبة في الإبل ما لها ستة أشهر إن كانت من الضأن فإن كانت من المعز فما لها سنة لأنها هي الشاة التي يُعلق بها حكم الشرع وتعتبر في سائر موارده المطلقة. ويعتبر كونها في صفة الإبل ففي السمان الكرام شاة سمينة كريمة وفي اللئام الهزال لئيمة هزيلة لأن الإبل سببها فاعتبر أن تكون على صفتها، فإن كانت الإبل مراضاً لم يجز إخراج المريضة لأن المخرج من غير جنسها وليس كله مراضاً فينزل منزلة اجتماع الصحاح والمراض وذلك لا يجزئ فيه إلا الصحيحة، ولا يجزئ الذكر كالمخرجة عن الغنم، ويحتمل أن يجزئ لأنها شاة مطلقة فيدخل فيها الذكر كالأضحية، فإن عَدِمَ الشاة في ماله لزمه شراؤها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1386) 2: 527 كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم. (¬3) تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه.

وقال أبو بكر: يجزئه عشرة دراهم لأنها بدل شاة الجبران. ولا يصح لأن هذا إخراج قيمة فلم يجزئه كما في الشاة المخرجة عن الغنم، وليست الدراهم في الجبران بدلاً بدليل إجزائها مع وجود الشاة. وأما كون البعير لا يجزئ عن الشاة فلأن الواجب شاة والمخرج غيرها فوجب أن يبقى في عُهدة الواجب. لا يقال ذلك أكمل من الواجب فيجب أن يجزئ كما لو أخرج بنت لبون عن بنت مخاض لأن المخرِج لبنت لبون مخرج للواجب وزيادة لأنه من جنس الواجب بخلاف البعير فإنه مخرج من غير جنسه، ولذلك من وجب عليه خمسة دراهم لو أخرج عنها عرضاً قيمته أكثر من ذلك لا يجزئه عن الواجب عليه على الصحيح. فإن قيل: لم لا يخرج هنا خلاف؟ قيل: إذا قيل بجواز إخراج القيمة يجزئ البعير عن الشاة. وأما كون العشر من الإبل فيها شاتان، والخمس عشر (¬1) فيها ثلاث شياه، والعشرين فيها أربع شياه، فلأن في حديث أبي بكر: «في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة» (¬2). وأما كون الإبل إذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض إلى آخره فلأن تكملة الحديث المذكور: «فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض، فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل، فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة» (¬3) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في ب: وخمس العشر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1386) 2: 527 كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم. وأخرجه أبو داود في سننه (1567) 2: 96 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة. (¬3) سبق تخريجه في الحديث السابق.

وأما كون بنت مخاض هي ما لها سنة وبنت لبون هي ما لها سنتان والحقة هي ما لها ثلاث سنين والجذعة هي ما لها أربع سنين فلما روى أبو داود قال: سمعته من الرياشي وأبي هاشم وغيرهما ومن كتاب النضر بن شميل ومن كتاب أبي عبيدة وربما ذكر أحدهم الكلمة قالوا: «يسمى الحُوار، ثم الفصيل إذا فصل، ثم تكون بنت مخاض لسنة إلى تمام سنتين، فإذا دخلت في الثالثة فهي بنت لبون فإذا تمت لها ثلاث سنين فهي حقة إلى تمام أربع سنين لأنها استحقت أن تركب ويحمل عليها الفحل فإذا طعنت في الخامسة فهي جذعة» (¬1). وأما كون من عدم بنت مخاض وابن لبون يلزمه بنت مخاض فلأنهما لو (¬2) استويا في الوجود لم يجزئه إلا بنت مخاض فكذلك إذا استويا في العدم. ولأن الشارع إنما نقل من بنت مخاض إلى ابن لبون إذا لم يكن في ماله بنت مخاض للسهولة وعدم كلفة الشراء فإذا لم يكن في ماله أيضاً ابن لبون وتعين الشراء وجب شراء بنت مخاض لأنها الأصل. فإن قيل: لم سميت بنت مخاض وبنت لبون والحقة بذلك؟ قيل: أما بنت مخاض فسميت بذلك؛ لأن أمها ماخض أي حامل بغيرها قد حان ولادتها وليس ذلك شرطاً في الإجزاء وإنما سميت به تعريفاً لغالب حالها. وأما بنت لبون فإنما سميت بذلك؛ لأن أمها لبون أي ذات لبن. وأما الحقة فإنما سميت بذلك؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل وقد تقدم ذكر ذلك في الحديث (¬3). قال: (فإذا بلغت مائتين فقد اتفق الفرضان فإن شاء أخرج أربع حقاق وإن شاء أخرج خمس بنات لبون، والمنصوص أنه يخرج الحقاق وليس فيما بين الفريضتين شيء). أما كون الفريضتين في المائتين اتفقا فلأنهما أربع خمسينات وخمس أربعينات. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه 2: 106 كتاب الزكاة، باب: تفسير أسنان الإبل. (¬2) ساقط من ب. (¬3) تقدم في الحديث السابق.

وأما كون المخرِج إن شاء أخرج أربع حقاق وإن شاء أخرج خمس بنات لبون على غير المنصوص؛ فلقوله عليه السلام: «فإذا زاد على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة» (¬1). وقد تقدم أن المائتين فيهما أربع خمسينات وخمس أربعينات. وأما كونه يخرج الحقاق على منصوص الإمام أحمد رحمه الله عليه؛ فلأن الحقاق أنفع للمساكين لكثرة منافعها من الدر والنسل والحمل. وحمل بعض الأصحاب كلام الإمام أحمد رحمة الله عليه على الأولوية لا على التعيين لما ذكر من الحديث. ولأن في كتاب الصدقات الذي عند آل عمر: «فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، أيُّ السِّنَّيْنِ وُجِدَت أُخذت» (¬2). وقال ابن عقيل: إن كانت كلها حقاقاً تعينت الحقاق، وإن كانت كلها بنات لبون تعينت بنات اللبون لأن الزكاة سببها النصاب فاعتبرت به. وأما كون ما بين الفريضتين ليس فيه شيء. ومعناه: أن الزكاة تتعلق بالنصاب لا بما زاد؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في خمس من الإبل شاة» (¬3) أوجب الشاة في الخمس فاقتضى أن تكون غير واجبة في الزيادة عليها. وروى أبو عبيد في كتاب الأموال في كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا زادت الغنم على ثلاثمائة فليس فيما دون المائة شيء وإن بلغت تسعاً وتسعين حتى تبلغ مائة» (¬4) فنفى الوجوب عن الزيادة. وفيه أيضاً: «ليس في الإبل شيء حتى تبلغ خمساً فإذا بلغت خمساً ففيها شاة ولا شيء في زيادتها حتى تبلغ عشراً» (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1570) 2: 98 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه أبو عبيد في الأموال (1034) 351 كتاب الصدقة، باب صدقة الغنم وسننها. (¬5) أخرجه أبو عبيد في الأموال (934) 328 كتاب الصدقة، باب فرض صدقة الإبل ...

وروى أبو عبيد في كتاب الغريب (¬1): «ليس في الأوقاص زكاة» (¬2) قال: والوقص ما بين النصابين. وقيل لمعاذ: «أمرت في الأوقاص بشيء؟ قال: لا. وسأسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: لا» (¬3) رواه الدارقطني. قال: (ومن وجبت عليه سن فعدمها أخرج سناً أسفل منها ومعها شاتان أو عشرون درهماً، وإن شاء أخرج أعلا منها وأخذ مثل ذلك من الساعي. فإن عدم السن التي تليها انتقل إلى الأخرى وجبرها بأربع شياه أو أربعين درهماً. وقال أبو الخطاب: لا ينتقل إلا إلى سن تلي الواجب). أما كون من وجبت عليه سن فعدمها يخير بين إخراج أسفل منها ومعها الجبران المتقدم ذكره وبين إخراج أعلا منها وأخذ الجبران المذكور فلأن في كتاب أنس: «ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا ابنة لبون فإنها تقبل بنت لبون ويعطى شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهماً» (¬4). فعلى هذا من وجبت عليه بنت لبون وليست في ماله خُيّر بين إخراج بنت مخاض ومعها شاتان أو عشرون درهماً وبين إخراج حقة وأخذ مثل ذلك. ومن وجبت عليه حقة خير بين إخراج بنت لبون ومعها ما ذكر وبين إخراج جذعة وأخذ مثل ذلك. وليس لمن وجبت عليه جذعة أن يخرج الثنية ويأخذ من الساعي مثل الجبران لأن ذلك ليس مذكوراً في الحديث. وأما كون من عدم السن التي تلي الواجب مع السن الواجبة كمن وجبت عليه حقة وليست في ماله هي ولا ابنة لبون يجوز له الإخراج مع الجبران بأربع شياه أو ¬

_ (¬1) في ب: وروى عبيد في الغريب. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1385) 2: 527 كتاب الزكاة، باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده.

أربعين درهماً على المذهب فلأن الشارع جوز له الانتقال إلى الذي يليه وجوز الانتقال من الذي يليه إلى ما يليه إذا كان هو الفرض، وهنا (¬1) لو (¬2) كان الذي يليه موجوداً أجزأ فإذا كان معدوماً جاز العدول إلى ما يليه. وقال أبو الخطاب: لا ينتقل إلا إلى سن يلي الواجب لأنه لم يرد النص فيه. قال صاحب النهاية فيها: هذا ظاهر المذهب. قال: (ولا مدخل للجبران في غير الإبل). أما عدم دخول الجبران في غير الإبل من البقر والغنم فلأن النص ورد في الإبل خاصة فيجب الاقتصار عليه. فعلى هذا من وجب عليه تبيع وليس في ماله وعنده مسنة فله دفعها بزيادتها فإن طلب الجبران لم يكن له ذلك كما ذكرنا. وأما دخوله في الإبل فلما تقدم في الحديث المذكور. ¬

_ (¬1) في ب: هنا. (¬2) سقط من هنا لوحتان من نسخة ب. وقد اعتمدنا نسخة ج.

فصل [في زكاة البقر] قال المصنف رحمه الله: (النوع الثاني: البقر. ولا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين فيجب فيها تبيع أو تبيعة وهي التي لها سنة، وفي أربعين مسنة وهي التي لها سنتان، وفي الستين تبيعان، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة). أما وجوب الزكاة في البقر؛ فقد تقدم حكماً ودليلاً (¬1). وأما عدم وجوب شيء فيما لم يبلغ ثلاثين؛ فلما تقدم من اشتراط النصاب لوجوب الزكاة (¬2). وأما وجوب التبيع والتبيعة إلى آخره؛ فلما روى معاذ رضي الله عنه قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعاً، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين تبيعاً ومسنة، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعاً، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع، وأمرنى أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئاً إلا أن تبلغ مسنة أو جذعاً» (¬3). رواه الإمام أحمد. قال: (ولا يجزئ الذكر في الزكاة في غير هذا إلا ابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها، إلا أن يكون النصاب كله ذكوراً فيجزئ الذكور في الغنم وجهاً واحداً، وفي الإبل والبقر في أحد الوجهين). أما عدم إجزاء الذكر في غير ما ذكر؛ فلأن الأنثى أفضل لما فيها من الدر والنسل. وقد نص الشارع على اعتبار الأنثى في الإبل وفي الأربعين من البقر. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (21836) 5: 240.

وأما إجزاء ابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها؛ فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون ذكر» (¬1). ومن أن سنه يمتنع به من صغار السباع ويرعى الشجر ويرد الماء بنفسه. وأما إجزاء التبيع مكان التبيعة وهو المراد بالإشارة في قول المصنف رحمه الله: في غير هذا؛ فلما تقدم من قوله في حديث معاذ: «من كل ثلاثين تبيعاً» (¬2). ولأن التبيع أكثر لحماً فيعادل ذلك الأنوثة. وأما إجزاء الذكر في الغنم الذكور كلها وجهاً واحداً؛ فلأن الزكاة وجبت مواساة، وذلك يقتضي الإخراج من الجنس. وأما الإبل والبقر ففيها وجهان: أحدهما: يجزئ لما ذكر. والوجه الآخر: لا يجزئ لأن الشارع نص على الأنثى وهي أفضل ففي العدول عن الأنثى عدول عن المنصوص. وقال المصنف في الكافي: يجزئ ذكر البقر في أصح الوجهين. وفي الإبل وجهان: أحدهما: يجزئ لما ذكر من المواساة. والثاني: لا يجزئ لإفضائه إلى إخراج ابن لبون عن خمس وعشرين وست وثلاثين وفيه تسوية بين النصابين. فعلى هذا يخرج أنثى ناقصة بقدر قيمة الذكر، وعلى الوجه الأول يخرج ابن لبون عن النصابين ويكون التعديل بالقيمة. قال: (ويؤخذ من الصغار صغيرة ومن المراض مريضة. وقال أبو بكر: لا يؤخذ إلا كبيرة صحيحة على قدر المال). أما جواز أخذ الصغيرة من الصغار والمريضة من المراض على المذهب؛ فلقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) تقدم في الحديث قبل السابق.

الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم» (¬1) والعناق لا تؤخذ في الكبار بالإجماع فيتعين حمل ذلك على كون النصاب كله أعناقاً. ولأن الزكاة وجبت مواساة وليس من المواساة أن يكلف الرجل غير ما عنده. وأما عدم أخذ ذلك على قول أبي بكر فلقول مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرني -يعني النبي صلى الله عليه وسلم - أن لا آخذ من راضع شيئاً إنما حقنا في الثنية والجذعة» (¬2) أي لا آخذ راضع لبن فإنه لا فرق بينهما كقول الشاعر: وقفت فيها أُصَيلاً لا أسائلها ... أَعْيَتْ جواباً وما بالرَّبْع من أحد أي أحد. ولقول عمر رضي الله عنه: «اعتد عليهم بالسخلة ولا تأخذها منهم» (¬3). فعلى هذا تؤخذ كبيرة صحيحة بقدر قيمة المال لتحصل المساواة. والأول المذهب لما ذكر. وحديث عمر ومصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على ما إذا كان النصاب كباراً وصغاراً. قال: (فإن اجتمع صغار وكبار وصحاح ومراض وذكور وإناث لم يؤخذ إلا أنثى كبيرة صحيحة على قدر قيمة المالين. وإن كانا نوعين كالبخاتي والعراب والبقر والجواميس والضأن والمعز وكان فيه كرام ولئام وسمان ومهازيل أخذت الفريضة من أحدهما على قدر قيمة المالين). أما عدم جواز أخذ غير أنثى صحيحة كبيرة إذا كان النصاب بعضه صغار وبعضه كبار وبعضه صحاح وبعضه مراض وبعضه ذكور وبعضه إناث؛ فلما تقدم من قول عمر ومصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4). وأما اعتبار قيمة ذلك بقدر قيمة النصاب؛ فلتحصل المواساة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) تقدم قريباً.

وأما جواز أخذ الفريضة من أي النوعين إذا كان النصاب أنواعاً كما ذكره المصنف رحمه الله فلأن كل واحد من المالين يصح إخراجه في الزكاة فجاز أخذه مع الاجتماع كمال كل واحد من الخليطين. وأما اعتبار القيمة بقيمة المالين فلأن ذلك تختلف قيمته فوجبت شاة على قدر المالين كما لو كان البعضُ مراضاً.

فصل [في زكاة الغنم] قال المصنف رحمه الله: (النوع الثالث: الغنم. ولا شيء فيها حتى تبلغ أربعين فتجب فيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه ثم في كل مائة شاة شاة). أما وجوب الزكاة في الغنم فقد تقدم في قوله: السائمة من بهيمة الأنعام (¬1). وأما عدم الوجوب فيها حتى تبلغ أربعين فلما تقدم في اشتراط النصاب (¬2). وأما وجوب الشاة في الأربعين إلى آخره فلما روى أنس رضي الله عنه في كتاب الصدقات: «وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ... مختصر» (¬3) رواه البخاري. قال: (ويؤخذ من المعز الثني، ومن الضأن الجذع، ولا يؤخذ تيس ولا هرمة ولا ذات عوار وهي المعيبة، ولا الربى وهي التي تربي ولدها، ولا الحامل ولا كرائم المال إلا أن يشاء ربه). أما عدم أخذ غير الثني من المعز والجذع من الضأن فلما روى سِعر بن دَيسم قال: «أتاني رجلان على بعير. فقالا: إنا رسولا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك لتؤدي صدقة غنمك. قلت: فأي شيء تأخذان؟ قالا: عناق جذعة أو ثنية» (¬4) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1386) 2: 527 كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1581) 2: 103 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة.

ولأن هذا السن هو المجزئ في الأضحية دون غيره فكذلك في الزكاة. والجذع من الضأن: ما له ستة أشهر، ومن المعز: ما له سنة. وأما عدم جواز أخذ التيس والهرمة وذات العوار؛ فلقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267]. وروى أنس رضي الله عنه في كتاب الصدقات: «ولا نخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس» (¬1) رواه البخاري. وأما عدم جواز أخذ الربى والحامل؛ فلأن ذلك خير المال فلم يجز أخذه بغير رضاه لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره» (¬2) رواه أبو داود. وأما عدم جواز أخذ كرائم المال؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (¬3) متفق عليه. وأما جواز أخذ الجيد من ذلك إذا شاء ربه؛ فلما روى أبي بن كعب رضي الله عنه: «أن رجلاً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي فزعم أن ما عليّ فيه بنت مخاض فعرضت عليه ناقة فتية سمينة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك الذي وجب عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه (¬4) منك. قال: فها هي ذه يا رسول الله! فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له بالبركة» (¬5). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1387) 2: 528 كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا ما شاء المصدق. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1582) 2: 103 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6937) 6: 2685 كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى. وأخرجه مسلم في صحيحه (19) 1: 51 كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام. (¬4) إلى هنا السقط من نسخة ب. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1583) 2: 104 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة.

قال: (ولا يجوز إخراج القيمة، وعنه: يجوز). أما كون إخراج القيمة في الزكاة لا يجوز على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «خذ الحب من الحب، والإبل من الإبل، والبقر من البقر، والغنم من الغنم» (¬1) رواه أبو داود. وذلك يقتضي أن لا يأخذ من غيره لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده. ولأنه عليه السلام ذكر هذه الأعيان المنصوص عليها بياناً لما فرضه الله تعالى فإخراج غيرها ترك المفروض. وأما كونه يجوز على روايةٍ؛ فلأنه يروى عن معاذ أنه قال لأهل اليمن: «ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم في الصدقة مكان الذرة والشعير فإنه أيسر لكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة» (¬2). والظاهر أنه فعل ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم عن توقيف. ولأن الزكاة وجبت لإغناء الفقير وذلك حاصل بالقيمة كالمنصوص عليه. والأول المذهب لما تقدم. وأما قول معاذ فمحمول على الجزية ولا يضر تسميتها صدقة؛ لأنها تسمى بذلك مجازاً «لأن عمر سمى الجزية صدقة لما استنكف بنو تغلب من اسم الجزية» (¬3). ولأن قوله: مكان الذرة والشعير يجوز أن يكون صالَحَهم عن أراضيهم بذلك. قال: (وإن أخرج سناً أعلى من الفرض من جنسه جاز). أما كون إخراج سن أعلى من الفرض من جنسه يجوز؛ فلما تقدم من حديث أبي بن كعب (¬4). وأما كون المصنف رحمه الله قيد ذلك بقوله: من جنسه فلأن الإخراج من غير الجنس مثل أن يخرج بعيراً عن شاة وقد تقدم دليل ذلك في موضعه (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1599) 2: 109 كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 113 كتاب الزكاة، باب من أجاز أخذ القيم في الزكوات. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 216 كتاب الجزية، باب نصارى العرب تضعف عليهم الصدقة. (¬4) تقدم حديث أبي ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل في الخلطة الخلطة جائزة بالإجماع. والأصل فيها ما روى سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب الصدقة: «لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» (¬1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قال المصنف رحمه الله: (وإذا اختلط نفسان أو أكثر من أهل الزكاة في نصابٍ من الماشية حولاً لم يثبت لهما حكم الانفراد في بعض الحول فحكمهما في الزكاة حكم الواحد. سواء كانت خلطة أعيان بأن يكون مشاعاً بينهما، أو خلطة أوصاف بأن يكون مال كل واحد متميزاً فخلطاه واشتركا في المراح والمسرح والمشرب والمحلب والراعي والفحل، فإن اختل شرط منها أو ثبت لهما حكم الانفراد في بعض الحول زكيا زكاة المنفردين فيه). أما كون حكم الخليطين في الزكاة حكم الواحد فلأنه لو لم يكن كذلك لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين متفرق والتفريق بين مجتمع خشية الصدقة. وأما كون خلطة الأعيان والأوصاف سواء فيما ذكر فلأن الخلطة توجد فيهما. وأما قول المصنف رحمه الله: بأن يكون مشاعاً بينهما؛ فبيان لخلطة الأعيان، وذلك مثل أن يكون خمس من الإبل أو ثلاثون من البقر أو أربعون من الغنم مشتركاً بين اثنين على سبيل الإشاعة بأن ورثا ذلك أو وهب لهما. وأما قوله: بأن يكون مال كل واحد متميزاً فخلطاه فبيان لخلطة الأوصاف، وذلك مثل أن يكون ذلك مشتركاً بينهما لا على سبيل الإشاعة. وسميت خلطة أوصاف لأن مال كل واحد منهما له صفات يتميز بها. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (621) 3: 17 كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم.

وأما قوله: نفسان إلى آخره فبيان لما يشترط في جعل الخليطين في الزكاة كالواحد، وذلك أشياء: أحدها: أن يكون نفسان أو أكثر لأن أقل من ذلك الواحد ولا خلطة معه. وثانيها: أن يكون الشريكان من أهل الزكاة فلو كان أحدهما مكاتباً أو ذمياً فلا أثر لخلطته لأنه لا زكاة في ماله فلم يكمل النصاب به. ولأن من أحكام الخلطة التراجع فإذا لم يكن الشريك من أهل الزكاة لم يمكن التراجع. وثالثها: أن يكون في نصابٍ فلو كان المجموع أقل من نصاب مثل أن يشتركا في ثلاثين من الغنم لم تؤثر الخلطة سواء كان لهما مال سواه أو لم يكن لأن المجموع دون النصاب فلم تجب الزكاة. ورابعها: أن يكون في الماشية فلا تؤثر الخلطة في غيرها لما يذكر في آخر الباب (¬1). وخامسها: أن يكون في حول لم يثبت لهما حكم الانفراد فيه، فإن ثبت لهما حكم الانفراد فيه مثل أن يملك كل واحد نصاباً في أول المحرم ويختلطا بعد ذلك لم تؤثر الخلطة لأنها معنى تعلق به إيجاب الزكاة فاعتبر في جميع الحول كالنصاب. وسادسها: أن يشتركا في خلطة الأوصاف في الأشياء التي ذكرها المصنف رحمه الله. أما المشرب والراعي والفحل فلما روى سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، والخليطان ما اجتمعا في الحوض والراعي والفحل» (¬2) رواه الدارقطني. وأما المراح والمسرح والمحلب فلأن في اشتراط ما تقدم تنبيهاً على اشتراط ذلك. والمُراح بضم الميم: المكان الذي يراح إليه عند رجوعها من المرعى. والمسرح: موضع الراعي، وقيل: الموضع الذي تجتمع فيه عند خروجها إلى المرعى. فعلى الأول يلزم من اتحاد الراعي اتحاد المسرح. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 104 كتاب الزكاة، باب تفسير الخليطين وما جاء في الزكاة على الخليطين.

والمشرب: موضع الشرب، والمحلب موضع الحلب وليس المراد إتحاد الإناء ولا اختلاط اللبن لأنه من ذوات الأمثال والشياه تتفاوت في الدر فإذا اقتسماه بالسوية مع التفاوت حصل الربا. والفحل: المعد للضراب وليس المراد إيجاده ولا أن يكون مشتركاً بل أن لا يتميز فحول أحد المالين عن الآخر عند الضراب. وأما كون الخليطين يزكيان زكاة المنفرد إذا اختل شرط فيما تقدم أو ثبت لهما حكم الانفراد في بعض الحول فلأنه قد تقدم ما يدل على اشتراط ما ذكر فإذا لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط، وإذا لم تحصل الخلطة لفوات شرطها بقيا على حكم الانفراد. قال: (وإن ثبت لأحدهما حكم الانفراد وحده فعليه زكاة المنفرد، وعلى الآخر زكاة الخلطة ثم يزكيان فيما بعد ذلك الحول زكاة الخلطة كلما تم حول أحدهما فعليه بقدر ماله منهما). أما كون من ثبت له حكم الانفراد عليه زكاة المنفرد وكون الآخر عليه زكاة الخلطة فلأن شرط الخلطة فات فيمن ثبت له حكم الانفراد دون الآخر فوجب أن لا يثبت حكم الخلطة في حقه لانتفاء شرطها وأن يثبت في حق الآخر عملاً بمقتضى الخلطة السالم عن معارضة فوات الشرط. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: أن يملك رجل أربعين شاة في أول المحرم ويملك آخر أربعين في صفر ويختلطا ثم يبيع من ملك في صفر ماله لآخر (¬1) في ربيع، فالمالك الأول يثبت له حكم الانفراد في بعض الحول ولم يكمل حول الخلطة ومن شرطها: كمال حول في الخلطة والمشتري لم يثبت له حكم الانفراد لأنه ملكها مختلطة فهو مستجمع (¬2) لشرائطها. وأما كونهما يزكيان فيما بعد ذلك الحول زكاة الخلطة؛ فلأن الخلطة موجودة في جميع الحول بشروطها. ¬

_ (¬1) في ب: الآخر. (¬2) في ب: مجتمع.

وأما قول المصنف رحمه الله: كلما تم حول أحدهما فعليه بقدر ماله منهما؛ فتنبيه على أمرين: أحدهما: أن من ثبت له حكم الانفراد في الحول الأول يزكي ما عليه عند تمام حوله الثاني ولا ينتظر حول المشتري؛ لأن الزكاة بعد حَوَلان الحول لا يجوز تأخيرها، وأن المشتري لا يجب عليه تقديم زكاته إلى رأس حول شريكه لأن تقديم الزكاة قبل حَوَلان الحول لا يجب. وثانيهما: أنه إذا كان لكل واحد أربعون فعلى كل واحد نصف شاة، وإن كان للأول أربعون وللثاني ثمانون فعلى الأول ثلث شاة وعلى الثاني ثلثاها. قال: (ولو ملك رجل نصاباً شهراً ثم باع نصفه مشاعاً أو أعلم على بعضه وباعه مختلطاً فقال أبو بكر: ينقطع الحول ويستأنفانه من حين البيع. وقال ابن حامد: لا ينقطع حول (¬1) البائع وعليه إذا تم حوله زكاة حصته، فإن أخرجها من المال انقطع حول المشتري لنقصان النصاب وإن أخرجها من غيره وقلنا الزكاة في العين فكذلك وإن قلنا في الذمة فعليه عند تمام حوله زكاة نصيبه). أما كون الحول في الذي لم يُبع ينقطع على قول أبي بكر فلأنه انقطع في النصف المبيع وصار كأنه لم يجر في حول الزكاة وإذا كان كذلك لزم انقطاعه في الباقي. وأما كون الخليطين يستأنفانه من حين البيع فلأن الحول إذا انقطع وجب استئناف حول آخر. وأما كونه لا ينقطع على [قول] (¬2) ابن حامد فلأن الباقي لم يزل مخالطاً لمالٍ جارٍ في حول الزكاة. فعلى هذا يجب على البائع زكاة حصته إذا تم حوله لأنه مال حال عليه الحول وفيه بقية شروط وجوب الزكاة ثم ينظر فيه فإن أخرجها من المال فلا زكاة على المشتري عند حوله لنقصان النصاب، وإن أخرجها من غيره فقال المصنف رحمه الله: إن قلنا الزكاة في العين فكذلك، ومعناه: أنه لا زكاة على المشتري أيضاً لأن تعلق الزكاة ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

بالعين ينقص النصاب، وإن قلنا تتعلق بالذمة فعلى المشتري زكاة حصته لأن النصاب لم ينقص لا حقيقة ولا على سبيل التعلق. وفي كلامه نظر وذلك أنه إذا أخرج الزكاة من غير المال لا يسقط ما يخص المشتري من حيث المعنى والنقل سواء قلنا تتعلق الزكاة بالعين أو بالذمة، أما عدم السقوط من حيث المعنى فلأن الزكاة إذا أخرجت لم يبق لها تعلق بالمال البتة لأنه لا يجوز أن تكون متعلقة به بعد أدائها كما لا يجوز تعلق الدين بالرهن بعد أدائه وكما لا يجوز تعلق أرش الجناية بالجاني بعد فدائه. ولأن المصنف رحمه الله ذكر مسألة تعلق الزكاة بالعين أو بالذمة فيما تقدم واشترط عدم الإخراج فقال في آخر كتاب الزكاة: وإذا مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاتهما فعليه زكاة واحدة إن قلنا تجب في العين (¬1). فلو لم يكن عدم الأداء له أثر في المسألة لوقع قوله لم يؤد زكاتهما لغواً وإذا ثبت أن التعلق بالعين يعتمد عدم الإخراج ثبت أن التعلق بالعين لا أثر له هنا لأن عدم الإخراج مفقود بدليل قول المصنف رحمه الله: وإن أخرجها من غيره وقلنا الزكاة في العين فكذلك. وأما عدم السقوط من حيث النقل فقال صاحب المستوعب فيه بعد أن ذكر المسألة وحررها: ولا فرق في ذلك كله بين قولنا الزكاة تتعلق بعين المال أو بالذمة. وذكر ابن عقيل المسألة في فصوله ولم يذكر تعلق الزكاة بالعين بل قال: وإن كان البائع أخرج من غير المال فالزكاة واجبة بحالها في حق المشتري. وقال أبو الخطاب: وإذا تم حول المشتري فإن قلنا الزكاة تتعلق بالذمة وجب عليه نصف شاة، وإن قلنا تتعلق بالعين وهو الصحيح: فإن كان البائع أخرج الزكاة من عين المال فلا شيء على المشتري لأن نصاب الخلطة نَقَص في بعض الحول، وإن كان أخرجها من غيره فعلى المشتري نصف شاة. أوجب على المشتري نصف شاة إذا أخرجها من غير المال على تقدير [القول بتعلق الزكاة بالعين، لأنه قال: وإن قلنا تتعلق بالعين، ثم أسقط الزكاة على تقدير] (¬2) إخراجها من عين المال وأوجبها على تقدير الإخراج من غيره. وصرح صاحب المحرر بعدم تأثير التعلق فيما ذكر في نهايته. ¬

_ (¬1) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ساقط من ب.

فإن قيل: لم لا يحمل قول المصنف رحمه الله على أن البائع أخر الزكاة زمناً ثم أخرجها من غير المال؛ لأنه حينئذ تبقى الزكاة متعلقة بالعين إلى وقت الإخراج فينقطع حول المشتري لبطلان بعض الحول فإذا بطل حوله لا زكاة عليه؟ قيل: ليس في كلام المصنف رحمه الله أنه أخر الإخراج بل فيه تصريح بأنه أخرج عقيب الوجوب لأنه قال: لا ينقطع حول البائع وعليه إذا تم حوله زكاة حصته فإن أخرجها. ذكره بالفاء المقتضية للتعقيب، وعلى تقدير حمله على التأخير لا ينفعه نقلاً ولا دليلاً، أما النقل فلأن تعلق الزكاة بالعين يمنع وجوب الزكاة لانعقاد الحول صرح صاحب المحرر في نهايته. وأما الدليل فلأن منع تعلق الزكاة فيها بالعين لوجوب الزكاة كمنع الدين لوجوب الزكاة، والدين لا يمنع انعقاد الحول فكذا التعلق بالعين. فإن قيل: لم قلت أن الدين لا يمنع الانعقاد؟ قيل: لأنه لو منعه لما صح قول الفقهاء ويمنع الدين وجوب الزكاة لأن ما لا حول له لا زكاة فيه. فإن قيل: كيف السبيل إلى تصحيح كلام المصنف رحمه الله؟ قيل: بأن يجعل بدل وإن أخرجها من غيره وإن لم يخرجها. قال: (وإن أفرد بعضه وباعه ثم اختلطا انقطع الحول. وقال القاضي: يحتمل أن لاينقطع إذا كان زمناً يسيراً). أما كون الحول ينقطع بما ذكر إذا كان الزمن بين الإفراد والخلطة طويلاً فلزوال الخلطة حقيقة وحكماً. وأما كونه ينقطع إذا [كان] (¬1) الزمن يسيراً وهو قول ابن حامد فلأن الإفراد ينافي الاختلاط، والإفراد موجود فوجب أن يؤثر. وأما كونه يحتمل أن لا ينقطع على ما قاله القاضي فلأن الزمن اليسير معفو عنه فوجب أن لا ينقطع كما لو باعه مشاعاً. ¬

_ (¬1) ساقط من ب.

قال: (وإن ملك نصابين شهراً ثم باع أحدهما مشاعاً فعلى قياس قول أبي بكر يثبت للبائع حكم الانفراد وعليه عند تمام حوله زكاة المنفرد، وعلى قياس قول ابن حامد عليه زكاة خليط. فإذا تم حول المشتري فعليه زكاة خليط وجهاً واحداً). أما كون البائع يثبت له حكم الانفراد على قياس قول أبي بكر فلأن أبا بكر يرى أن البيع يقطع الحول فيصير البائع كأنه ملك أربعين شاة منفردة. فعلى هذا إذا تم حوله عليه زكاه زكاة المنفرد لأنه منفرد. وأما كونه عليه زكاة خليط على قياس قول ابن حامد فلأن ابن حامد لا يرى البيع قاطعاً للحول فلم تزل الأربعون التي له مختلطة في جميع الحول فيزكي زكاة خليط. وأما كون المشتري عليه زكاة خليط وجهاً واحداً إذا تم حوله فلأن الأربعين التي له (¬1) لم تزل مختلطة في جميع حوله على كلا القولين. قال: (وإذا ملك نصاباً شهراً ثم ملك آخر لا يتغير به الفرض، مثل: أن يملك أربعين شاة في المحرم وأربعين في صفر فعليه زكاة الأول عند تمام حوله ولا شيء عليه في الثاني في أحد الوجهين وفي الآخر عليه للثاني زكاة خليط كالأجنبي في التي قبلها. وإن كان الثاني يتغير به الفرض مثل أن تكون مائة شاة فعليه زكاته إذا تم حول وجهاً واحداً). أما كون من ملك نصاباً ثم آخر لا يتغير به الفرض كما مثّل المصنف رحمه الله عليه زكاة الأول عند تمام حوله فلأن النصاب الكامل ينعقد عليه الحول من حين ملكه فإذا تم وجبت زكاته لتمام الحول والنصاب. وأما كونه لا شيء عليه في الثاني في وجهٍ فلأن المستفاد بعقد لا يضم إلى حول ما في ملكه لما تقدم وإنما يضم في العدد لأن ملك الإنسان يضم بعضه إلى بعض في ذلك وإذا ضممناه أشبه الوقص. وأما كونه عليه فيه زكاة خليط وهي هنا نصف شاة فلأنه مخالط للأربعين الأولة أشبه الأجنبي. ¬

_ (¬1) مثل السابق.

وأما كونه عليه زكاة الثاني الذي يتغير به الفرض كما مثل المصنف رحمه الله إذا تم حوله وجهاً واحداً فلأنه لو ملكها ابتداء وجبت زكاة المجموع فكذلك هنا. ولأنه لا يخلو إما أن يجعلهما كالمال الواحد لمالك واحد أو كمالين لمالكين وكيف ما قدر وجب هنا شاة أخرى بخلاف التي قبلها فإن تقدير جعلهما مالاً واحداً لمالك واحد لا يجب أكثر من شاة واحدة. قال: (فإن كان الثاني يتغير به الفرض ولا يبلغ نصاباً مثل أن يملك ثلاثين من البقر في المحرم وعشراً في صفر فعليه في العشر إذا تم حولها ربع مسنة، وإن ملك ما لا يتغير به الفرض كخمس فلا شيء فيها في أحد الوجهين، وفي الثاني عليه سبع تبيع إذا تم حولها). أما كون من ملك نصاباً ثم آخر يتغير به الفرض كما مثل المصنف رحمه الله عليه في العشر ربع مسنة فلأنه لو ملك الجميع ابتداء لوجب عليه مسنة والنصاب الأول تعلق به تبيع أو تبيعة دون العشرة الأخرى فوجب فيها ربع ما يجب في الأربعين وهو ربع مسنة. ولأن تقدير جعلهما مالين لمالكين مختلطين يجب على صاحب العشرة ربع مسنة وعلى تقدير جعلهما مالاً واحداً يجب في الأربعين مسنة ففي العشر ربعها. وأما كون ما لا يتغير به الفرض كخَمس لا شيء فيها في وجهٍ فلأن مالكها لو ملك الجميع ابتداء لم يجب في الخمس شيء. ولأن بتقدير جعلهما مالاً واحداً لمالك واحد لم يجب فيها شيء. وأما كونه عليه في الخمس سبع تبيع إذا تم حولها في وجهٍ فلأنه مخالط بخمس لثلاثين فوجب عليه سبع تبيع كالخليط. قال: (وإذا كان لرجل ستون شاة كل عشرين منها مختلطة مع عشرين لرجل آخر فعلى الجميع شاة نصفها على صاحب الستين ونصفها على خلطائه على كل واحد سدس شاة). أما كون الجميع عليهم شاة فلأنهم يملكون شيئاً تجب فيه شاة على من انفرد به وحكم الخلطاء حكم المنفرد.

وأما كون نصفها على صاحب الستين فلأن جميع مال الخلطة مائة وعشرون ومال صاحب الستين نصف ذلك فيجب عليه نصف ما يجب على الكل وهو نصف شاة. وأما كون نصفها على خلطائه فلأنهم يملكون مثل صاحب الستين. وأما كون كل واحد منهم عليه سدس شاة فلأن كل واحد من الخلطاء يملك عشرين، ونسبة ذلك من المائة والعشرين سدسها فيجب على كل واحد سدس شاة لا سدس الواجب في الجميع. قال: (وإن كانت كل عشر منها مختلطة بعشر لآخر فعليه شاة، ولا شيء على خلطائه لأنهم لم يختلطوا في نصاب). أما كون صاحب الستين عليه شاة فلأن الخلطة من شرطها أن يكون المجموع نصاباً وقد فات هنا فيجب عليه زكاة المنفرد، والإنسان يضم ماله إلى ماله فيكون الجميع ستين وفي ذلك شاة. وأما كون خلطائه لا شيء عليهم؛ فلما ذكر (¬1) المصنف رحمه الله من أنهم لم يختلطوا في نصاب، وفارق كل واحد من الخلطاء هنا الخليط الأول في أنه لا مال له يضم إليه بخلاف الأول فإنه له مال إذا ضم بعضه إلى بعض يجب في مثله الزكاة. قال: (وإذا كانت ماشية الرجل مفترقة في بلدين لا تقصر بينهما الصلاة فهي كالمجتمعة، [وإن كان بينهما مسافة القصر فكذلك عند أبي الخطاب. والمنصوص أن لكل مال حكم نفسه كما لو كانا لرجلين). أما كون ماشية الرجل المتفرقة في بلدين ليس بينهما مسافة القصر كالمجتمعة] (¬2) فلقوله صلى الله عليه وسلم: «في أربعين شاة شاة» (¬3). قال المصنف في المغني: لا أعلم خلافاً أن ماشية الرجل يضم بعضها إلى بعض إذا كانت دون مسافة القصر. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) ساقط من ب. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونها كذلك إذا كان بينهما مسافة القصر عند أبي الخطاب فلما تقدم من الحديث. ولأنه ملك رجل واحد أشبه ما لو كان دون مسافة القصر أو كان غير الماشية. وأما كون كل مال له حكم نفسه كما لو كانا لرجلين على منصوص الإمام أحمد رحمه الله فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يفرق بين مجتمع ولا يجتمع بين متفرق» (¬1). وفيما ذكر جمع بين متفرق. ولأنه لما أثر اجتماع مالين لرجلين في جعلهما كالمال الواحد فكذلك يجب أن يؤثر افتراق مال الرجل الواحد حتى نجعله كالمالين. وقوله صلى الله عليه وسلم: «في أربعين شاة شاة» (¬2) محمول على المجتمعة، وما كان دون مسافة القصر، والقياس على دون مسافة القصر لا يصح لأن البلاد المتقاربة كالبلد الواحد. ولأن الزكاة عبادة فأثر فيها مسافة [القصر] (¬3) كالصوم والصلاة. ولا يصح القياس أيضاً على غير الماشية لأن الخلطة لا أثر لها فيه. فعلى هذا لو كان له ثمانون في كل بلد أربعون وجب عليه شاتان ولو كان له أربعون في كل بلد عشرون فلا زكاة عليه. قال: (ولا تؤثر الخلطة في غير السائمة، وعنه: أنها تؤثر). أما كون الخلطة لا تؤثر في غير السائمة من الزروع والثمار والذهب والفضة وعروض التجارة وسائر أموال الزكاة على الرواية الأولى فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة» (¬4). وذلك إنما يكون في الماشية، وكذلك قوله: «والخليطان ما اشتركا في الحوض والفحل والراعي» (¬5). ولأن الزكاة في الماشية تقل بجمعها تارة وتكثر تارة، وسائر الأموال تجب فيما زاد على النصاب بحسابه فلا أثر لجمعها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) ساقط من ب. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأن الخلطة في الماشية تؤثر في النفع تارة وفي الضرر أخرى فلو اعتبرناها في غير الماشية أثرت ضرراً محضاً برب المال فلا يجوز اعتبارها. وأما كونها تؤثر على الرواية الثانية فلأن الارتفاق المعتبر في السائمة موجود في غيرها من اتحاد المخزن والخازن والوزان والميزان والصعاد والناطور والفلاح وغير ذلك. فعلى هذا إن كانت الخلطة خلطة أعيان مثل: أن يكون بين شريكين فلا إشكال، وإن كانت خلطة أوصاف مثل: أن تكون أشجاراً متميزة متجاورة، أو تكون أرض أحدهما مجاورة لأرض آخر ويتحد المشرف والفلاح، ومثل: أن يكون مال أحدهما في كيس ومال الآخر في كيس آخر لكن المخزن والحافظ واحداً فهل تؤثر الخلطة في ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: تؤثر لما ذكر من الارتفاق. والثاني: لا تؤثر لأن الارتفاق في ذلك ليس كالارتفاق فيما نص الشرع على جواز الخلطة فيه، ولا هو في معنى خلطة الأعيان مما ذكر فوجب بقاؤها على المنع عملاً بمقتضاه السالم عن شبه ما تجوز الخلطة فيه. قال: (ويجوز للساعي أخذ الفرض من مال أي الخليطين شاء مع الحاجة وعدمها. ويرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته من القيمة، فإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرجوع عليه إذا عدمت البينة). أما كون الساعي يجوز له أخذ الفرض من مال أي الخليطين شاء فلأن المالين قد صارا كمال واحد في وجوب الزكاة فكذلك في الإخراج. ولأنه صلى الله عليه وسلم لما قال: «وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية» (¬1) علم أن للساعي أن يأخذ من مال أي الخليطين شاء لأنه لو أخذ من مالهما لم يرجع أحد على أحد. وأما كون الأخذ مع الحاجة وعدمها، والمراد بالحاجة مثل أن يكون مال أحدهما صغاراً ومال الآخر كباراً، ويكون مال كل واحد منهما أربعين أو ستين ونحو ذلك، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وبعدم الحاجة مثل: أن يكون مال كل واحد منهما مائتي شاة ونحو ذلك فلما تقدم من المعنى وإطلاق الحديث. وأما كون المأخوذ منه يرجع على خليطه بحصته فلقوله صلى الله عليه وسلم: «وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» (¬1). وأما كون الحصة من القيمة فلأن المأخوذ ليس من ذوات الأمثال. فعلى هذا لو كان لأحدهما عشرة وللآخر ثلاثون فأخذ الساعي الشاة من العشرة رجع صاحبها على صاحب الثلاثين بثلاثة أرباع قيمتها، وإن أخذها من الثلاثين رجع صاحبها على صاحب العشرة بربع قيمتها. وأما كون القول قول المرجوع عليه إذا اختلفا في القيمة ولا بينة فلأنه غارم لا معارض لقوله، والقول قول الغارم الذي هذا شأنه. وأما كونه لا يقبل قوله إذا كانت بينة فلأن الرجوع بما تقول البينة واجب لأنها ترفع التنازع، وإذا كان كذلك لم يكن القول قوله لأنه ينافيها. قال: (وإذا أخذ الساعي أكثر من الفرض ظلماً لم يرجع بالزيادة على خليطه، وإن أخذه بقول بعض العلماء رجع عليه). أما كون المأخوذ منه لا يرجع بالزيادة المأخوذة منه ظلماً على خليطه فلأن الساعي ظلمه وليس لمن (¬2) ظُلم أن يَظلم ولا أن يرجع بظلمه على غير من ظلمه. وأما كونه يرجع عليه بالمأخوذ بقول بعض العلماء فلأن كل ما ساغ فيه الاجتهاد إذا اجتهد فيه الإمام وأداه اجتهاده إليه وجب دفعه، والساعي نائبه حكمه حكمه، وإذا وجب دفعه كان على الخليطين، فيرجع به الخليط على خليطه كالمتفق عليه. ولأن المانع من الرجوع فيما تقدم الظلم وهو منتف هنا فوجب الرجوع عملاً بمقتضيه السالم عن معارضة الظلم. فإن قيل: ما صورة ذلك؟ قيل: أن يأخذ عن المراض أو الصغار صحيحة كبيرة متأولاً بقول بعض العلماء. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ساقط من ب.

باب زكاة الخارج من الأرض

باب زكاة الخارج من الأرض يشمل الزروع والثمار والمعدن والركاز. والأصل في وجوب ذلك كله قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267]، والزكاة تسمى نفقة بدليل قوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} [التوبة: 34]. وقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» (¬1) رواه البخاري. وقوله عليه السلام: «وفي المعدن الصدقة». وروي «أنه عليه السلام أخذ زكاة المعادن القَبَلِيّة من بلال بن الحارث» (¬2) رواه الجوزجاني. وقوله عليه السلام: «وفي الركاز الخمس» (¬3) متفق عليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2228) 2: 830 كتاب المساقاة الشرب، باب من حفر بئراً في ملكه لم يضمن. وأخرجه مسلم في صحيحه (1710) 3: 1334 كتاب الحدود، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار.

قال المصنف رحمه الله: (تجب الزكاة في الحبوب كلها، وفي كل ثمر يكال ويدخر كالتمر والزبيب واللوز والفستق والبندق. ولا تجب في سائر الثمر ولا في الخضر والبقول والزهر. وعنه: أنها تجب في الزيتون والقطن والزعفران إذا بلغا بالوزن نصاباً. وقال ابن حامد: لا زكاة في حب البقول كحب الرشاد والأبازير كالكسفرة والكمون وبزر القثاء والخيار ونحوه). أما كون الزكاة تجب في الحبوب كلها على قول غير ابن حامد فلما تقدم من قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر» (¬1). وأما كونه لا تجب في حب البقول على قول ابن حامد فلأنه ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص عليه فوجب أن يبقى على النفي الأصلي. وأما كونها تجب في كل ثمر يكال ويدخر فلما تقدم من الآية والخبر. فإن قيل: لم قيد الوجوب بكون الثمر يكال ويُدَّخر؟ قيل: أما تقييده بكونه يكال فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (¬2) متفق عليه. لأن ذلك يدل [على] (¬3) أن ما لا يدخله التوسيق ليس مراداً من عموم الآية والخبر وإلا كان ذكر الأوسق لغواً. وأما تقييده بكونه يُدَّخر فلأن جميع ما اتفق على وجوب الزكاة فيه مدخر. ولأن غير المدخر لا تكمل النعمة فيه لعدم التمكن من الانتفاع في المال. وأما قول المصنف رحمه الله: كالتمر وما بعده؛ فتمثيل لصور من صور وجوب الزكاة لاجتماع الوصفين فيها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1390) 2: 529 كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة. وأخرجه مسلم في صحيحه (979) 2: 673 كتاب الزكاة. (¬3) ساقط من ب.

وأما كون الزكاة لا تجب في سائر الثمر مثل: الجوز والخوخ والأجاص والكمثرى والمشمش والتين ونحو ذلك فلأنها ليست مكيلة. وقد روي «أن عامل عمر كتب إليه في كروم فيها من الفرسك والرمان ما هو أكثر غلة من الكروم أضعافاً. فكتب إليه عمر أنه ليس عليها عشر هي من العضاة» (¬1) رواه الأثرم. والفرسك: الخوخ. وأما كونها تجب في الزيتون والقطن والزعفران على روايةٍ: أما في الزيتون فلقوله تعالى: {والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141]. وأما في القطن والزعفران فلأن ذلك موزون ومدخر تام المنفعة والوزن أقيم مقام الكيل لاتفاقهما في عموم المنفعة. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا بلغا بالوزن نصاباً؛ فتنبيه على أن نصاب القطن والزعفران ألف وستمائة رطل بالعراقي. ولأن وزنه أقيم مقام كيله فاعتبر به ذكره القاضي في المجرد. وحكي عن الإمام أحمد أن نصاب ذلك ما يبلغ قيمته قيمة نصاب من أدنى المعشرات لأن ذلك لا توسيق فيه وقد جعل الشارع لمن صار إليه من أرضه خمسة أوسق من أدنى المعشرات نصاباً تجب فيه المواساة فوجب أن تعتبر القيمة به فيما لا توسيق فيه كما اعتبرت القيمة في العروض بنصاب الذهب والفضة. والأصح في ذلك كله عدم الوجوب لما تقدم. والآية التي تمسك بها على الوجوب للزكاة في الزيتون ليس المراد به الزكاة لأنها مكية نزلت قبل وجوب الزكاة ولهذا لم تجب الزكاة في الرمان. وأما قيام الوزن مقام الكيل فلم يرد به نص، ولا يصح قياسه على الكيل لأن العلة غير معقولة فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 125 كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ صدقة شيء من الشجر غير النخل والعنب.

وأما كون الزكاة لا تجب في الخضر؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس في الخضروات صدقة» وفي لفظ: «زكاة» (¬1) رواه الدارقطني. قال: (ويعتبر لوجوبها شرطان: أحدهما: أن تبلغ نصاباً قدره بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار خمسة أوسق. والوسق ستون صاعاً، والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي. فيكون ذلك ألفاً وستمائة رطل. إلا الأرز والعلس نوع من الحنطة يدخر في قشره فإن نصاب كل واحد منهما مع قشره عشرة أوسق. وعنه: أنه يعتبر نصاب ثمرة النخل والكرم رطباً ثم يؤخذ عشره يابساً). أما كون الزكاة يعتبر لوجوبها الشرطان المذكوران؛ فلما يأتي ذكره فيهما. وأما كون أحدهما أن يبلغ نصاباً قدره في الحبوب والثمار غير الأرز والعلس خمسة أوسق؛ فلقوله عليه السلام: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (¬2) متفق عليه. وقوله عليه السلام: «ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق» (¬3) رواه مسلم. وأما كون الأرز والعلس نصاب كل واحد منهما عشرة أوسق؛ فلأنه يدخر في قشره ويخرج على النصف. فإن قيل: ما ذكر عام في كل علس أم خاص؟ قيل: بل ذلك معتبر فيما يقول الثقات من أهل الخبرة أنه يخرج على النصف. فإن لم يقولوا ذلك وجهل ما فيه خُيّر المالك بين تصفيته وإخراج الفرض منه إذا بلغ نصاباً وبين أن يستظهر ويخرج منه غير مقشور؛ لأن كل واحد منهما وسيلة إلى إسقاط الواجب. ومعنى الاستظهار: أن يخرج من غير المقشور ما يغلب على ظنه أن فيه قدر الواجب؛ لأن ذلك يسقط الفرض بيقين فلو احتمل واحتمل لم يخرج عن العهدة؛ ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (4 - 5) 2: 96 كتاب الزكاة، باب ليس في الخضراوات صدقة، عن موسى بن طلحة عن أبيه. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (979) 2: 674 كتاب الزكاة.

لأن الأصل عدم براءة ذمته بعد تعلق الزكاة بماله ولم توجد براءتها فوجب بقاء الأصل على ما كان عليه. وأما كون قدر النصاب فيما ذكر يعتبر بعد التصفية في الحبوب، والجفاف في الثمار غير النخل والكرم؛ فلأن التصفية والجفاف حالة الكمال والادخار. ولأن العشر إنما يجب في الحب فكان الاعتبار به، والتوسيق لا يمكن إلا بعد التجفيف فوجب اعتباره عنده. وأما كون قدر نصاب ثمر النخل والكرم يعتبر بعد الجفاف على المذهب؛ فلما ذكر في سائر الثمر. وأما كونه يعتبر نصابهما (¬1) رطباً على روايةٍ؛ فلأن قوله عليه السلام: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (¬2) يدل بمفهومه على وجوبها فيما بلغ خمساً في حال رطوبته وجفافه. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخرصهما» (¬3) وما وجب خرصه اعتبر بحال رطوبته كما لو كانت الثمرة لا تجفف. وأما كون زكاتهما تؤخذ يابساً؛ فلما روى عتاب بن أسيد قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرص العنب كما نخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ صدقة النخل تمراً» (¬4) رواه أبو داود والترمذي. والأول أصح لأن في بعض ألفاظ الحديث: «ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر صدقة (¬5») (¬6) والخمسة أوسق من الرطب دون التمر، وحديث عتاب بن أسيد روي من طريق آخر: «أمر أن نخرص العنب زبيباً» (¬7) رواه الدارقطني. فيحمل المطلق على ¬

_ (¬1) في ب: فيهما. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) كما سيأتي في حديث عتاب بن أسيد التالي. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1603) 2: 110 كتاب الزكاة، باب في خرص العنب. وأخرجه الترمذي في جامعه (644) 3: 36 كتاب الزكاة، باب ما جاء في الخرص. (¬5) ساقط من ب. (¬6) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬7) أخرجه الدارقطني في سننه (22) 2: 133 كتاب الزكاة، باب في قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض وخرص الثمار.

المقيد. والقياس على ما لا يمكن تجفيفه غير مُسَلَّم الحكم فيه بل لا يؤخذ عنه إلا يابساً باعتبار ما يؤول إليه لو كان مما يجفف. وأما كون الوسق ستين صاعاً فلا خلاف فيه. قال ابن المنذر: هو قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم. وقد روى الأثرم وأبو داود عن سلمة بن صخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الوسق ستون صاعاً» (¬1). وروى أبو سعيد وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك (¬2) رواه ابن ماجة. وأما كون الصاع خمسة أرطال وثلثاً فلقوله عليه السلام لكعب بن عجرة: «أطعم ستة مساكين فرقاً من طعام» (¬3) متفق عليه. قال أبو عبيد: ولا خلاف بين الناس أعلمه في أن الفرق ثلاثة آصع، والفرق ستة عشر رطلاً. ولما تقدم من قول المصنف رحمه الله في صفة الغسل: ويغتسل بالصاع من رجوع أبي يوسف لما دخل المدينة وسأل عن الصاع فجاءه سبعون شيخاً كل واحد صاعه تحت ردائه (¬4). فعلى هذا يلزم أن يكون نصاب المعشرات ألفاً وستمائة رطل بالعراقي، ويكون بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم ثلثمائة رطلٍ واحداً وأربعين رطلاً وثلث رطل لأن أبا عبيد ذكر في كتاب الأموال أن الرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهماً. وقد تقدم ذكر ذلك في تقدير القلتين (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1559) 2: 94 كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة، عن أبي سعيد، بلفظ: «والوسق ستون مختوماً». ولم أره عن سلمة بن صخر. وأخرجه أحمد في مسنده (11802) 3: 83. عن أبي سعيد، كلفظ المؤلف. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1832) 1: 586 عن أبي سعيد، و (1833) 1: 587 عن جابر، كتاب الزكاة، باب الوسق ستون صاعاً. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (3927) 4: 1527 كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية. وأخرجه مسلم في صحيحه (1201) 2: 861 كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ... (¬4) ر كتاب الطهارة، فصل في صفة الغسل. (¬5) ر كتاب الطهارة 1: 108.

ونقل المصنف رحمه الله في المغني الجديد: أن الرطل العراقي مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم. فعلى هذا يكون النصاب ثلثمائة رطل واثنين وأربعين رطلاً وستة أسباع رطل. قال: (وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، فإن كان له نخل يحمل في السنة حملين ضم أحدهما إلى الآخر. وقال القاضي: لا يضم. ولا يضم جنس إلى آخر في تكميل النصاب. وعنه: أن الحبوب يضم بعضها إلى بعض. وعنه: تضم الحنطة إلى الشعير والقطنيات بعضها إلى بعض). أما كون ثمرة العام الواحد يضم بعض أنواعها إلى بعض مثل: أن يكون في ملكه ثمر مختلف الأنواع كالبرني والمعقلي وما أشبه ذلك فلأن ذلك جنس واحد فضم إلى نوعه كالبخاتي والعراب والمعز والضأن. فإن قيل: كلام المصنف عام في ثمرة العام فلم حمل على النوع؟ قيل: لأن فيه جمعاً بينه وبين قوله بعدُ: ولا يضم جنس إلى آخر. وأما كون النخل الذي يحمل في السنة حملين يضم أحدهما إلى الآخر على غير قول القاضي ولأنهما ثمرة عام واحد أشبهتا ثمرة الشجرتين. وأما كونه لا يضم على قوله فلأنهما حملان أشبها حمل العامين. وأما الجنس الواحد فإن كان من الثمر لم يضم جنس إلى غيره كما لا يضم الإبل إلى البقر، فإن كان من الحبوب ففيه ثلاث روايات: إحداهن: لا يضم جنس إلى غيره لما تقدم في الثمر. والثانية: يضم لأن ذلك يتفق في قدر النصاب والمخرج والمنبت والحصاد أشبه أنواع الجنس. والرواية الثالثة: تضم الحنطة إلى الشعير، والقطنيات بعضها إلى بعض لأن ذلك تتقارب منفعته. أشبه نوعي الجنس. والأول أصح عند المصنف لأن دليل الروايتين الأخيرتين ينتقض بالتمر والزبيب فإنه لا يضم أحدهما إلى الآخر مع أن فيهما جميع ما ذكر. وقال القاضي: الصحيح أن الحنطة تضم إلى الشعير، والقطنيات بعضها إلى بعض. وهي التي ذكرها الخرقي.

قال: (الثاني: أن يكون النصاب مملوكاً له وقت وجوب الزكاة، ولا تجب فيما يكتسبه اللقاط أو يأخذه بحصاده، ولا فيما يجتنيه من المباح كالبطم والزعبل وبزر قطونا ونحوه. وقال القاضي: فيه الزكاة إذا ثبت في أرضه). أما كون الشرط الثاني: أن يكون النصاب مملوكاً لمن تجب عليه الزكاة وقت الوجوب فلأن ذلك شرط في كل مال تجب الزكاة فيه. وأما كون الزكاة لا تجب فيما ذكر من الصور على قول غير القاضي فلأن ذلك إنما يملك بحيازته وأخذه، والزكاة إنما تجب في الحبوب والثمار إذا بدا صلاحها وفي تلك الحال لم يكن ملكاً له فلم تجب فيه زكاة كما لو اتهبه. وأما كونها تجب على قول القاضي فلاجتماع الأوصاف من كونه حباً مكيلاً مدخراً. وأما قوله: "إذا ثبت في أرضه" فشرط لوجوب الزكاة فيما ذكر على قول القاضي لأن ذلك حينئذ يساوي الحبوب التي تجب فيها الزكاة بخلاف ما لم يثبت في أرضه.

فصل [في الخارج من الأرض] قال المصنف رحمه الله: (ويجب العشر فيما سقي بغير [مؤونة] (¬1) كالغيث والسيوح وما يشرب بعروقه، ونصف العشر فيما سقي بكلفة كالدوالي والنواضح. فإن سقي نصف السنة بهذا ونصفها بهذا ففيه ثلاثة أرباع العشر، وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر أكثرهما. نص عليه. وقال ابن حامد: يؤخذ بالقسط فإن جهل المقدار وجب العشر). أما كون العشر يجب فيما سقي بغير مؤونة، ونصفه فيما سقي بكلفة فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» (¬2) رواه البخاري. وروي عن معاذ قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ مما سقت السماء أو سقي بعلاً العشر، وما سقي بدالية نصف العشر» (¬3). وأما قول المصنف رحمه الله: أولاً بغير مؤونة وآخراً بكلفة؛ فتنبيه على علة اختلاف الواجب. وأما قوله: كالغيث والسيوح فتمثيل لمياه يسقى بها لا مؤونة فيها، وتصريح بأن ذلك كله مما يجب العشر فيما سقي به. والمراد بالغيث الماء النازل من السماء، وبالسيوح: الذي يجري على الأرض والعيون، وبما يشرب بعروقه ما على الجداول والماذينات وما أشبه ذلك. وذلك كله داخل فيما تقدم من الحديث لأن قوله عليه السلام: «فيما سقت السماء» (¬4) يشمل الغيث، وقوله: «والعيون» يشمل السيوح، ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (9) 2: 97 كتاب الزكاة، باب ليس في الخضروات صدقة. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وقوله: «عثرياً» يشمل السيوح أيضاً على قول ابن قتيبة لأنه قال: العثري هو الذي يأتي بماء السماء إليه وسمي عثرياً لأنهم يجعلون في مجرى الماء عاثوراً فإذا صدمه الماء تراد فدخل تلك المجاري فتسقيه. والغيث على قول أبي عبيد لأنه قال: هو ما سقته السماء، وقوله: أو سقي بعلاً ما يشرب بعروقه لأن أبا عبيد قال: البعل ما يشرب بعروقه من غير سقي. وأما الكلفة فالمراد بها المؤونة التي يحتاج إليها من دالية أو دولاب أو ناعورة أو سانية وهي الإبل أو نحو ذلك. وأما كون ما سقي نصف السنة بغير مؤونة ونصفها بكلفة فيه ثلاثة أرباع العشر فلأنه لو سقي كل السنة سيحاً وجب العشر، ولو سقي كلها بمؤونة وجب نصف العشر فيجب إذا سقي النصف والنصف نصف العشر ونصف نصفه وذلك ثلاثة أرباع. وأما كون ما سقي بأحدهما أكثر من الآخر يعتبر على المنصوص فلأن العبرة بالأكثر في كثير من الأحكام فكذلك هنا. ولأن اعتبار عدد مرات السقي وقدر ما يشرب في كل سقية يشق فاعتبر الأكثر دفعاً للمشقة. وأما كونه يؤخذ بالقسط على قول ابن حامد فلأنه قد اعتبر ذلك فيما إذا كان نصفين فليكن هاهنا كذلك. وأما كون ما جهل المقدار فيه يجب فيه العشر فلأنه يحتمل أنه سقي أكثر السنة بغير كلفة فيجب العشر، ويحتمل أنه سقي أقل فيجب نصفه فوجب العشر لأنه خروج من عهدة الواجب بيقين. قال: (وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمرة وجبت الزكاة، فإن قطعها قبله فلا زكاة فيها إلا أن يقطعها فراراً من الزكاة فتجب فتلزمه. ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في الجرين فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت الزكاة سواء كانت قد خرصت أو لم تخرص. وإذا ادعى تلفها قُبِل قوله بغير يمين). أما كون الزكاة تجب إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمرة فلأنه حينئذ يقصد للأكل والاقتيات به أشبه اليابس.

وأما كون الثمرة إذا قطعت قبل صلاحها لا على وجه الفرار لا زكاة فيها فلأنه تصرف فيها قبل تعلق الوجوب بها أشبه ما لو تلفت الماشية قبل تمام الحول. وأما كونها إذا قطعت فراراً من الزكاة تلزم قاطعها فلما فيه من معارضته بنقيض قصده أشبه القاتل والمطلق ثلاثاً في مرض موته. وأما كون وجوب الزكاة لا يستقر إلا بجعل الثمرة في الجرين فلأنها قبل ذلك في حكم ما لم تثبت اليد عليه، بدليل ما لو كانت مبيعة فتلفت بجائحة فإن للمشتري أن يرجع على البائع. وأما كون الزكاة تسقط بالتلف قبل جعل الثمرة في الجرين فلأن الزكاة لم تستقر أشبه ما لو لم تتعلق به الزكاة البتة. وأما كون قول المصنف رحمه الله: بغير تعد؛ فمشعر بأنه لو تعدى فيها ضمن نصيب الفقراء. وصرح به في الكافي لأن المتعدي يعد مفرطاً فوجب عليه الضمان كالمتعدي في الوديعة. وأما كون ما ذكر كذلك سواء أخرصت الثمرة أو لم تخرص فلأن الخرص لا يوجب وإنما فعل للتمكين من التصرف فوجب سقوط الزكاة مع وجوده كعدمه. وأما كون من ادعى تلفها يقبل قوله بغير يمين فلأن الزكاة خالص حق لله تعالى فلا يستحلف فيه كالحد. قال: (ويجب إخراج زكاة الحب مصفى والثمر يابساً، فإن احتيج إلى قطعه قبل كماله لضعف الأصل ونحوه أو كان رطباً لا يجيء منه تمر، أو عنباً لا يجيء منه زبيب أخرج منه عنباً ورطباً. وقال القاضي: يخير الساعي بين قسمه مع رب المال قبل الجذاذ وبعده وبين بيعه منه أو من غيره. والمنصوص أنه لا يخرج إلا يابساً وأنه لا يجوز له شراء زكاته). أما كون إخراج زكاة الحب مصفى والثمر يابساً إذا لم يحتج إلى قطعه وكان يجيء من رطبه تمر ومن عنبه زبيب يجب فلما روى عتاب قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص

العنب فتؤخذ زكاته زبيباً كما يخرص النخل فتؤخذ زكاته تمراً» (¬1) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. ولا يسمى زبيباً وتمراً حقيقة إلا اليابس وإذا ثبت هذا في التمر والزبيب ثبت في غيرهما لاشتراك الكل في المعنى. ولأن حالة اليباس حالة الكمال. وأما كون ما يحتاج إلى قطع ثمره قبل كماله لكون الأصل ضعيفاً أو لكونه لا يصلح للتجفيف كالتمر الجاستوي والبرنتا والعنب الحمري يخرج منه رطباً وعنباً فلأن العشر وجب مواساة ولا مواساة في إلزامه شراء ما ليس في ملكه. وفي جواز إخراج ذلك رطباً وعنباً إشعار بجواز قطعه لذلك لأنه لا يتمكن من الإخراج إلا به. ولأن عليه ضرراً في إبقائه فلا يكلف ما يهلك أصل المال. ولأن حفظ الأصل أحظ للفقراء من حفظ الثمرة لتكرر حقهم فيها. وأما كون الساعي يخير بين قسمه مع رب المال قبل الجذاذ وبعده على قول القاضي فلأن الثمرة عين حقهم فجاز لمن يليه قسمه كولي اليتيم فإنه يجوز له قسمه ثمار موليه مع شريكه. وأما كونه يخير بين بيعه من رب المال أو من غيره: أما من رب المال فلأنه يبذل فيها عوض مثلها أشبه الأجنبي. وأما من غيره فلا إشكال فيه لأن التقدير أنها لا تجفف فلو لم يجز بيعها لأدى إلى تلفها إذا لم يجد من يدفعها إليه في الحال. وأما كون من عليه ذلك لا يخرج إلا يابساً على المنصوص فلما تقدم في الذي يمكن تجفيفه. وأما كونه لا يجوز له شراء زكاته على ذلك فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «لا تَعُدْ في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم» (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1419) 2: 542 كتاب الزكاة، باب هل يشتري صدقته. وأخرجه مسلم في صحيحه (1620) 3: 1239 كتاب الهبات، باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه.

قال: (وينبغي أن يبعث الإمام ساعياً إذا بدا صلاح الثمر فيخرصه عليهم ليتصرفوا فيه. فإن كان أنواعاً خرص كل نوع وحده وإن كان نوعاً واحداً فله خرص كل شجرة وحدها، وله خرص الجميع دفعة واحدة). أما كون الإمام (¬1) ينبغي أن يبعث ساعياً إذا بدا صلاح الثمر فيخرصه؛ فلما روت عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبدالله بن رواحة إلى يهود فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه» (¬2). ولما تقدم من حديث عتاب «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل ... الحديث» (¬3) رواهما أبو داود. ويجزئ خارص واحد لحديث عائشة. ولأنه يفعل ما يؤدي اجتهاده إليه فجاز أن يكون واحداً كالحاكم. ويشترط أن يكون مسلماً لأن الكافر لا يؤمن على أمر ديني، أميناً لأنه يقبل قوله فيما يخبر فاعتبرت أمانته كالشهادة، ذا خبرة لئلا يجور على المالك والفقراء. وهذا الخرص مختص بالعنب والرطب لدلالة حديثي عائشة وعتاب على خرصهما ودعوى لحاجة إلى أكلهما رطبين مع أن خرصهما ممكن لظهور ثمرتهما واجتماعها في أفنانهما وعناقيدهما بخلاف غيرهما فإنه لم يسمع بالخرص فيه ولا هو في معناه لأن الزيتون ونحوه حبه متفرق في شجره مستور بورقه. وأما كونه يخرص كل نوع وحده إن كان أنواعاً فلأنه أقرب إلى العدل وعدم الجور لأن الأنواع تختلف في الكثرة والقلة. وأما كونه يخير في النوع الواحد بين خرصه دفعة أو دفعات فلأن النوع الواحد لا يختلف غالباً، ولما يلحقه من المشقة لو تعين عليه خرص كل شجرة وحدها. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1606) 2: 110 كتاب الزكاة، باب متى يخرص التمر. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (ويجب أن يترك في الخرص لرب المال الثلث أو الربع، فإن لم يفعل فلرب المال الأكل بقدر ذلك ولا يحسب عليه). أما كون الخارص يجب عليه أن يترك لرب المال الثلث أو الربع فلما روى سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» (¬1) رواه أبو داود. وعن مكحول قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص قال: خففوا عن الناس فإن في المال العرية والواطئة والأكلة» (¬2) رواه أبو عبيد. فإن قيل: ما معنى العرية إلى آخره؟ قيل: العرية النخلات يهب رب المال ثمرتها لإنسان، والواطئة السائلة، والأكلة أرباب الأموال ومن يعلق بهم. وأما كون رب المال له الأكل من الثمر بقدر ذلك وكونه لا يحسب به عليه فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك ذلك له» (¬3) ولو لم يجز له أكله لما أذن في تركه وإذا جاز أكله لم يحسب عليه كما لو أذن له في أكل طعام فأكله. قال: (ويؤخذ العشر من كل نوع على حدته، فإن شق ذلك أخذ من الوسط). أما كون العشر يؤخذ من كل نوع على حدته إذا كان ما يؤخذ منه العشر جيداً ورديئاً فلأن أخذ الرديء عن الجيد لا يجوز لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267]، وأخذ الجيد عن الرديء لا يجب لما فيه من الإضرار بالمال وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره» (¬4) رواه أبو داود. وإذا لم يجز أخذ الرديء ولم يجب أخذ الجيد كان الواجب من كل نوع بعضه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1605) 2: 110 كتاب الزكاة، باب في الخرص. (¬2) أخرجه أبو عبيد في الأموال (1452) 435 كتاب الصدقة، باب خرص الثمار للصدقة والعرايا والسنة في ذلك. (¬3) كما في حديث سهل ومكحول المتقدمين. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونه يؤخذ من الوسط إذا شق ذلك فلأن المشقة منتفية شرعاً، وأخذ الرديء إضرار بالفقراء، وأخذ الجيد إضرار بالمال فتعين الوسط لما فيه من التسوية وعدم الجور. قال: (ويجب العشر على المستأجر دون المالك. ويجتمع العشر والخراج في كل أرض فتحت عنوة). أما كون العشر يجب على المستأجر دون المالك فلأن الزرع والثمر له، والعشر يجب على من له ذلك بدليل قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267]، وقوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] فأوجب العشر على من الخارج له وعلى من أبيح له أكله وليس شيء من ذلك للمالك. ولأنه يجب في المال فيجب على مالكه كسائر الأموال. وأما كون العشر والخراج يجتمعان في كل أرض فتحت عنوة فلأن الخراج مؤونة فهو كالأجرة في الإجارة، والمستأجر يجتمع عليه الأجرة والعشر، وكذا الخراج والعشر، وإذا اجتمع ذلك على المستأجر وجب أن يجتمع على المالك لاجتماع النفع بالأرض والثمرة له. ولأنهما حقان يجبان لمستحقين فيجتمعان كالكفارة والقيمة في الصيد المملوك. وأما قول المصنف رحمه الله: في كل أرض فتحت عنوة؛ فيحترز به عما إذا فتحت صلحاً فإن الأرض المفتوحة صلحاً لا خراج فيها فلا يحصل اجتماع الخراج والعشر. قال: (ويجوز لأهل الذمة شراء الأرض العشرية ولا عشر عليهم. وعنه: عليهم عشران يسقط أحدهما بالإسلام). أما كون أهل الذمة يجوز لهم شراء الأرض العشرية وإن أدى إلى إسقاط الزكاة فبالقياس على شرائهم نصاباً من السائمة. وعن الإمام أحمد: لا يجوز لهم ذلك لما فيه من إسقاط العشر. والفرق بين الأرض والسائمة ظاهر لأن الأرض تراد للدوام غالباً بخلاف السائمة فإنها لا تراد لذلك فلا يلزم من الجواز المؤدي إلى الإسقاط في بعض الزمان الجواز المؤدي إلى الإسقاط في غالب الزمان. فعلى الأول لا عشر عليهم إذا اشتروا لأنهم لم يشتروا ما منعوا منه وهم

ليسوا من أهل العشر فلم يجب عليهم العشر عملاً بالنافي له السالم عن المعارض، وعلى الثاني يؤخذ منهم عشران لأنهم تعرضوا لإسقاط العشر فضوعف عليهم كما لو اتجروا بأموالهم إلى غير بلدهم فإنه يضاعف عليهم الزكاة ويؤخذ منهم نصف العشر. فإن قيل: ما الأرض العشرية؟ قيل: هي التي للمسلم ولا خراج عليها. قاله صاحب المغني فيه. وقال غيره: هي الأرض التي يجب فيها العشر خراجية كانت أو غير خراجية وهو أظهر.

فصل [في زكاة العسل] قال المصنف رحمه الله: (وفي العسل العُشر سواء أخذه من موات أو من ملكه. ونصابه عشرة أفراق كل فرق ستون رطلاً). أما كون العسل فيه العشر فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذ من العسل العشر» (¬1). أمر والأمر للوجوب. وفي لفظ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها» (¬2) رواه أبو عبيد. وروى ابن ماجة عن أبي سيارة المتعي قال: «قلت: يا رسول الله! إن لي نحلاً. قال: أد العشر. قال: قلت: فاحم إذاً جبلها. فحماه له» (¬3). وروي: «أن عمر أمر في العسل بالعُشر» (¬4) رواه الأثرم. وأما كون نصابه عشرة أفراق فـ «لأن عمر رضي الله عنه قدره بذلك» (¬5) رواه الجوزجاني. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (1824) 1: 584 كتاب الزكاة، باب زكاة العسل. (¬2) أخرجه أبو عبيد في الأموال (1488) 444 كتاب الصدقة، باب ما اختلف الناس في وجوب صدقة من الأموال ... (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (1823) 1: 584 كتاب الزكاة، باب زكاة العسل، قال في الزوائد: قال في إسناده: ابن أبي حاتم عن أبيه، لم يلق سليمان بن موسى أبا سيارة. والحديث مرسل. وحكى الترمذي في العلل عن البخاري، عقب هذا الحديث، أنه مرسل. ثم قال: لم يدرك سليمان أحداً من الصحابة. انتهى. وأبو سيارة ليس له عند ابن ماجة سوى هذا الحديث الواحد، وليس له شيء في الأصول الخمسة. (¬4) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6969) 4: 62 كتاب الزكاة، باب صدقة العسل. عن محمد بن عجلان قال: «كتب سفيان بن عبدالله عامل الطائف إلى عمر بن الخطاب أن من قِبَلي يسألوني أن أحمي جبلاً لهم -أو قال نحلاً لهم- فكتب لهم عمر: إنما هو ذباب غيث، ليس أحد أحق به من أحد، فإن أقروا لك بالصدقة فاحمه لهم، فكتب أنهم قد أقروا بالصدقة، فكتب إليه عمر: أن أحمه لهم وخذ منهم العشور». (¬5) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6970) 4: 63 كتاب الزكاة، باب صدقة العسل.

فتعين المصير إليه لأنه قول صحابي لا يعرف له مخالف. وأما كون الفرق ستين رطلاً وهو قول ابن حامد فلأن ذلك يروى عن الخليل. وقال القاضي: هو ستة وثلاثون رطلاً لأن ذلك عادة جارية بينهم يتبايعون به كالرطل والأوقية. ونص الإمام أحمد رحمة الله عليه على أنه ستة عشر رطلاً لأن أبا عبيد قال: لا خلاف بين الناس أعلمه أن الفرق ثلاثة آصع. وقد ثبت أن الصاع خمسة أرطال وثلث. وقال المصنف رحمه الله في المغني: يحتمل أن يكون نصابه ألف رطل لحديث عمرو بن شعيب «أنه كان يؤخذ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها» (¬1) والقربة عند الإطلاق مائة رطل بدليل أن القلتين خمس قرب وهما خمسمائة رطل. فإن قيل: الفرق راؤه محركة أو ساكنة؟ قيل: الذي هو ستة عشر رطلاً راؤه محركة. ولذلك قال ثعلب: قل فرق بتحريك الراء ولا تقل فرق بإسكانها، والذي هو ستون رطلاً وهو مكيال ضخم من مكاييل العراق راؤه ساكنة قاله الخليل. وقيل: هما لغتان. فإن قيل: ما الظاهر من الأقوال المتقدم ذكرها؟ قيل: ما نص عليه الإمام من أنه ستة عشر رطلاً لأنه المشهور فينصرف الإطلاق إليه. والمكيال الضخم لا يصح حمله لوجوه: أحدها: أنه غير مشهور في كلامهم. وثانيها: أن نصاب العسل عشرة أفراق وهي جمع فَرَق بالتحريك، وجمع الفرْق بالتسكين فروق. وثالثها: أن حمل قول عمر على الفَرَق بتحريك الراء أولى من حمله على المكيال الذي راؤه ساكنة لأن الظاهر من حاله أنه إنما يريد مكاييل الحجاز لا مكاييل العراق. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في زكاة المعدن] قال المصنف رحمه الله: (ومن استخرج من معدن نصاباً من الأثمان أو ما قيمته نصاب من الجواهر والصفر والزئبق والقار والنفط والكحل والزرنيخ وسائر ما يسمى معدناً ففيه الزكاة في الحال ربع العشر من قيمته سواء استخرجه في دفعة أو دفعات لم يترك العمل بينها ترك إهمال). أما كون المستخرج من المعدن فيه الزكاة فلما روى أبو عبيد بإسناده عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن غير واحد من علمائهم «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القَبَلِيّة قال: فتلك لا تؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم» (¬1). وروى الجوزجاني بإسناده «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من المعادن القبلية الصدقة» (¬2). ولأنه حق يَحْرم على أغنياء ذوي القربى فكانت فيه الزكاة لا الخمس كسائر الزكوات. وأما كونه يشترط أن يكون نصاباً فلأنه مال تجب فيه الزكاة فاشترط فيه النصاب كسائر ما يجب فيه. وأما كون النصاب عشرين مثقالاً من الذهب أو مائتي درهم من الفضة أو قيمة أحدهما من غيرهما فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس عليكم في الذهب شيء حتى يبلغ عشرين مثقالاً» (¬3). وقوله عليه السلام: «ليس فيما دون خمسة أواق صدقة» (¬4) وغيرهما تبع لهما. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في الأموال (864) 309 كتاب الخمس، باب الخمس في المعادن والركاز. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (7) 2: 93 كتاب الزكاة، باب وجوب زكاة الذهب والورق والماشية والثمار والحبوب. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وإنما اعتبر النصاب في الأثمان بأعيانهما وفي غيرهما بقيمة أحدهما لأنهما في الناضّ والعروض كذلك فكذلك هاهنا. ولأنهما قيم الأشياء فوجب أن يعتبرا في أنفسهما بهما وفي غيرهما بأحدهما. وأما كون الزكاة في الحال، والمراد به في حال ما يُتناول المستخرج من غير اعتبار حول فلأنه مال يستفاد من الأرض فلم يعتبر له حول كالزروع والثمار. وأما كون المستخرج في دفعة أو دفعات لم يترك العمل بينهما ترك إهمال سواء فلأنه لو اعتبر دفعة واحدة لأدى إلى عدم الوجوب في المعدن لأنه يبعد استخراج نصاب دفعة. وحدّ الإهمال ثلاثة أيام إن لم يكن عذر، وإلا فمقدر بالعذر. فإن قيل: ما المراد بالمعدن؟ قيل: كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة. وقد مثله المصنف رحمه الله بما ذكره. وأما كون قدرها ربع العشر فلأن الواجب فيه زكاة لما تقدم، والواجب في الزكاة ربع العشر. وكان الواجب أن يقول المصنف رحمه الله: ربع العشر من عينه إن كان ذهباً أو فضة أو ربع العشر من قيمته إن كان من غيرهما؛ لأن الواجب في الأثمان من جنسها بخلاف غيرها فإنه لا يجب من جنسها بل يجب في قيمتها كالمملوك من ذلك للتجارة. وإنما اقتصر المصنف رحمه الله على قوله: ربع العشر من قيمته إما لأن كون الواجب في الأثمان من جنسه ظاهر، وإما على سبيل التغليب لأنه ذكر الأثمان وأجناساً كثيرة من غيرها فغلب الأكثر. وقد زاد بعض من أجاز المصنف رحمه الله له الإصلاح معنى ما تقدم ذكره. قال: (ولا يجوز إخراجها إذا كانت أثماناً إلا بعد السبك والتصفية. ولا زكاة فيما يخرج من البحر من اللؤلؤ والمرجان والعنبر ونحوه. وعنه: فيه الزكاة). أما كون إخراج زكاة الأثمان قبل السبك والتصفية لا يجوز فلأنه قبل ذلك لا يتحقق أنه أخرج قدر الزكاة فلم يجز إخراجه كعَشْر الحب قبل التصفية.

وأما كون ما يخرج من البحر من اللؤلؤ والمرجان والعنبر ونحوه لا زكاة فيه على المذهب فلأنه يروى عن ابن عباس: «ليس في العنبر شيء إنما هو شيء دسره البحر» (¬1)، وعن (¬2) جابر مثله (¬3) رواهما أبو عبيد. وروى أبو عبيد أيضاً «أنه كان يخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» فلم تأتنا سنة علمناها عنه ولا عن أحد من الخلفاء بعده من وجه يصح، ونراه مما عفي عنه كما عفي عن صدقة الخيل وإذا ثبت هذا في العنبر فليكن جميع ما يستخرج من البحر مثله لأنه في معناه. وأما كونه فيه الزكاة على روايةٍ فلأنه مستخرج فوجب ذلك كالمستخرج من البَرّ. والأول أصح لما تقدم. والقياس لا يصح لأنه في مقابلة النص. ¬

_ (¬1) ذكره البخاري تعليقاً 2: 544 كتاب الزكاة، باب ما يستخرج من البحر. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10058) 2: 374 كتاب الزكاة، من قال: ليس في العنبر زكاة. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (6977) 4: 65 كتاب الزكاة، باب العنبر. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 146 كتاب الزكاة، باب ما لا زكاة فيه مما أخذ من البحر من عنبر وغيره. (¬2) في ب: عن. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10060) 2: 374 كتاب الزكاة، من قال: ليس في العنبر زكاة. ولفظه عن أبي الزبير عن جابر قال: «ليس في العنبر زكاة إنما هو غنيمة لمن أخذه».

فصل [في زكاة الركاز] قال المصنف رحمه الله: (وفي الركاز الخمس، أيّ نوع كان من المال قل أو كثر لأهل الفيء. وعنه: أنه زكاة وباقيه لواجده إن وجده في موات أو أرض لا يعلم مالكها). أما كون الركاز فيه الخمس فلقوله عليه السلام: «وفي الركاز الخمس» (¬1). فإن قيل: ما الركاز؟ قيل: هو في اللغة المال المدفون في الأرض فاشتقاقه من ركَز يركُز مثل: غرز يغرز إذا خفي. ومنه: ركزت الرمح إذا أخفيت أسفله. وفي الشرع: هو المال الجاهلي المدفون. وأما كون ذلك في أي نوع كان من الركاز قل أو كثر فلعموم الحديث المذكور. ولأنه مال مخموس فلا يعتبر فيه نصاب كالغنيمة والزرع. والفرق بينه وبين المعدن أن المعدن يحتاج إلى عمل ونوائب فاعتبر فيه النصاب تخفيفاً. وأما كون الخمس لأهل الفيء على المذهب فـ «لأن رجلاً وجد ألف دينار مدفونة خارجاً من المدينة. فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ منها الخمس ودفع إلى الرجل بقيتها. وجعل عمر رضي الله عنه (¬2) يقسم المائتين بين من حضره من المسلمين إلى أن فضل منها فضلة فقال عمر: أين صاحب الدنانير؟ فقام إليه فقال: خذ هذه فهي لك» (¬3) رواه أبو عبيد. ولو كانت زكاة (¬4) لخص بها أهلها ولما جاز ردها على الواحد المذكور. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في ب: وجعل العمر. (¬3) أخرجه أبو عبيد في الأموال (875) 313 كتاب الخمس، باب الخمس في المال المدفون. (¬4) ساقط من ب.

ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكفار أشبه الغنيمة. وأما كونه لأهل الزكاة على روايةٍ فـ «لأن علياً أمر صاحب الكنز أن يتصدق به على المساكين». ولأنه مال مستفاد من الأرض أشبه الزرع والمعدن. وأما كون باقيه لواجده فلما تقدم من فعل عمر (¬1). وأما قول المصنف رحمه الله: إن وجده في مَوات أو أرض لا يعلم مالكها؛ فتنبيه على اشتراط أحد الأمرين في ملك الواجد بقية الركاز؛ لأن الأرض إذا لم تكن كذلك تكون مملوكة لمالك معروف فيكون الركاز له إن وجده قولاً واحداً؛ لأن سبب استحقاقه إما الملك وإما الظهور وكلاهما موجود فيه. وإن وجده غيره كان فيه خلاف يذكر بعد إن شاء الله تعالى. وفي اشتراط كونه في ذلك دليل على أنه إن وجده في ذلك كان ملكاً له وهو الصحيح: أما في الأرض الموات فلأنه مباح لا حق لغيره فيه سبق إليه فملكه كما لو صاد منها صيداً أو نحو ذلك، وأما في الأرض التي لا يعلم مالكها فلأن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وما لم يكن في طريق مَأْتِيّ ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس» (¬2) رواه النسائي. وفي لفظ: «فإن وجده في خربة جاهلية أو قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس» (¬3). قال: (وإن علم مالكها أو كانت منتقلة إليه فهو له أيضاً. وعنه: أنه لمالكها أو لمن انتقلت عنه إن اعترف به وإلا فهو لأول مالك). أما كون ما وجد في أرض يعلم مالكها لمن وجده على الرواية الأولى فلأن ذلك لا يملك بملك الأرض إذ ليس هو من أجزائها وإنما هو مودع فيها بل بالظهور لأنه يجري مجرى الصيد والكلأ يملكه من ظفر به كالمباحات كلها. ¬

_ (¬1) ر. ما سبق ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (2494) 5: 44 كتاب الزكاة، باب المعدن. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 155 كتاب الزكاة، باب زكاة الركاز.

وأما كونه لمالك الأرض على الرواية الثانية فلأن يده عليها فكان ما فيها له كالقماش الذي فيها. والأولى أصح قاله القاضي. وأما كون ما وجده في ملك انتقل إليه كذلك فلما تقدم من العلة. فعلى الأولى لا إشكال، وعلى الثانية يكون لمن انتقلت عنه إن اعترف به لأن الظاهر أنه له وإلا فهو لأول مالك لأنه في ملكه فكان له كحيطانه. قال: (وإن وجده في أرض حربي ملكه، إلا أن لا يقدر عليه إلا بجماعة من المسلمين فيكون غنيمة). أما كون من وجد الركاز فيما ذكر يملكه إذا قدر عليه بنفسه فلأن المالك لا حرمة له فكان لواجده كما لو وجده في الموات. وأما كون ما لم يقدر عليه إلا بجماعة غنيمة فلأن قوتهم أوصلته فكان غنيمة كالمأخوذ بالحرب. قال: (والركاز: ما وجد من دفن الجاهلية، عليه علامتهم فإن كان عليه علامة المسلمين أو لم تكن عليه علامة فهو لقطة). أما قول المصنف رحمه الله: والركاز ما وجد من دفن الجاهلية؛ فبيان لمعنى الركاز شرعاً، وقد تقدم ذكره. وإنما اختص بدفن الجاهلية لأن دفنهم تَقَادم عهده وخفي مكانه فهو أشبه بالركاز اللغوي. والمراد بعلامتهم: أن يكون عليه أسماء ملوكهم وصورهم وصلبانهم ونحو ذلك. وأما كون ما عليه علامة المسلمين لقطة فلأن ذلك ملك مسلم لم يعلم زواله عنه. وأما كون ما لم يكن عليه علامة لقطة فلأن الظاهر أنه دفن مسلم. ولأن الدار دار إسلام فوجب الحكم بكونه لقطة تغليباً لحكم الإسلام.

باب زكاة الأثمان

باب زكاة الأثمان قال المصنف رحمه الله: (وهي الذهب والفضة. ولا زكاة في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالاً فيجب فيه نصف مثقال، ولا في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم فيجب فيها خمسة دراهم). أما قول المصنف رحمه الله: وهي الذهب والفضة؛ فبيان للمراد بالأثمان من قوله: باب زكاة الأثمان. وأما كون الذهب لا زكاة فيه حتى يبلغ عشرين مثقالاً فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس فيما دون عشرين مثقالاً من الذهب صدقة وليس فيما دون مائتي درهم صدقة» (¬1) رواه أبو عبيد. وأما كون الفضة لا زكاة فيها حتى تبلغ مائتي درهم فلما تقدم في حديث عمرو بن شعيب، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» (¬2). والأوقية أربعون درهماً. وأما كون الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً يجب فيه نصف مثقال فلما روى ابن عمر وعائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين مثقالاً نصف مثقال» (¬3) رواه ابن ماجة. وعن علي: «على كل أربعين ديناراً دينار وفي كل عشرين ديناراً نصف دينار» (¬4) رواه الأثرم. ورواه غيره مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (1791) 1: 571 كتاب الزكاة، باب زكاة الورق والذهب، قال في الزوائد: إسناد الحديث ضعيف، لضعف إبراهيم بن إسماعيل. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (9873) 2: 357 كتاب الزكاة، ما قالوا في الدنانير ما يؤخذ منها في الزكاة. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1573) 2: 100 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة. عن علي.

أما كون الفضة إذا بلغت مائتي درهم يجب فيها خمسة دراهم فلما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وفي الرقة ربع العشر» (¬1) متفق عليه. وروى علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فإذا كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم» (¬2). قال: (ولا زكاة في مغشوشهما حتى يبلغ قدر ما فيه نصاباً، فإن شك فيه خير بين سبكه وبين الإخراج). أما كون مغشوش الذهب وهو: ما خلط فيه فضة، ومغشوش الفضة وهو: ما خلط فيه نحاس لا زكاة فيهما حتى يبلغ الذهب الذي في مغشوشه عشرين مثقالاً، والفضة التي في مغشوشها مائتي درهم فلما تقدم من النصوص الدالة على اعتبار النصاب. وأما كون من شك في ذلك يخير بين السبك والإخراج فلأن كل واحد منهما محصل للغرض لخروجه به عن العهدة. فعلى هذا إن سبكه فظهر نصاباً فما زاد أخرج ربع عشره لأن ذلك هو الواجب لما تقدم، وإن ظهر أقل من نصاب لم يجب عليه شيء لأن شرط الوجوب ملك نصاب ولم يوجد. وإن لم يسبكه نظرت فإن شك في بلوغه نصاباً أخرج الزكاة لأن فيه خروجاً عن العهدة بيقين، وإن تيقن عدم بلوغه ذلك فلا شيء عليه لأن الأصل براءة الذمة وهي مستمرة بيقين. وإن تيقن بلوغه النصاب وشك في الزيادة استظهر في الإخراج فإذا احتمل كون الخالص فيه خمسة وعشرين ديناراً [أو عشرين ديناراً كانت خمسة وعشرون ديناراً] (¬3) لما في ذلك من حصول البراءة بيقين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1386) 2: 527 كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم. ولم أره في مسلم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1572) 2: 99 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة. (¬3) ساقط من ب.

قال: (ويخرج عن الجيد الصحيح من جنسه، فإن أخرج مكسراً أو بهرجاً زاد قدر ما بينهما من الفضل. نص عليه). أما كون الجيد الصحيح يخرج عنه الجيد الصحيح فلأن إخراج ما دون ذلك خبيث فلم يجز لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267]. ولأن الزكاة سبب وجوبها هنا جيد صحيح فوجب أن يكون الواجب هنا (¬1) كذلك كسائر ما تجب فيه الزكاة. وأما كون من أخرج مكسراً أو بهرجاً وهو المختلط بغيره يزيد قدر الفضل بين المكسر وبين الصحيح وبين البهرج وبين الخالص فلئلا يؤدي إلى إخراج الرديء عن الجيد، وفي إخراج الفضل تنبيه على جواز إخراج الرديء مع وجوب الفضل وهو صحيح صرح به المصنف في المغني وقال: لأنه أخرج من جنس الأصل وإن خالف في الصفة. وقال أبو الخطاب في الانتصار: قياس المذهب أنه لا يجزئه ذلك. وقول أحمد محمول على روايةِ جواز إخراج القيمة. ووجه ما ذهب إليه أبو الخطاب أنه حق الفقراء فلم يجز فيه ذلك كالمراض من السائمة لا يجزئ عن الصحاح منها. قال: (وهل يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب أو يخرج أحدهما عن الآخر؟ على روايتين). أما كون الذهب يضم إلى الفضة على روايةٍ فلأنهما يجريان مجرى الجنس الواحد ومنفعتهما واحدة فإنهما قيم المتلفات وأروش الجنايات، فهما كأنواع الفضة. وقد خص الحديث الآتي في عروض التجارة فكذا محل النزاع. وأما كونه لا يضم على روايةٍ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» (¬2) متفق عليه. ولأنهما مالان يختلف نصابهما فلم يضم أحدهما إلى الآخر كأجناس الماشية. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وهذه أصح لأنها أقوى دليلاً وأصح تعليلاً لما فيها من موافقة الخبر الصحيح. وقياس الجنسين على النوعين لا يصح لافتراقهما في قدر النصاب، والتخصيص على خلاف الأصل. وأما كون أحدهما يخرج عن الآخر على روايةٍ فلما ذكر في الضم. وأما كونه لا يخرج على روايةٍ فلأن جنسهما مختلف فلم يخرج أحدهما عن الآخر كالحب عن التمر والإبل عن البقر. وهذه أصح لأن إخراج أحدهما عن الآخر من باب إخراج القيمة. وقال المصنف رحمه الله في المغني: وهو -يعني الإخراج- أصح إن شاء الله تعالى لأن المقصود من أحدهما يحصل، وكما لو أخرج المكسر عن الصحاح. وقيل: اختلاف الروايتين مبني على الضم. فإن قلنا: يضم أجزأ إخراج أحدهما عن الآخر، وإلا فلا. قال: (ويكون الضم بالأجزاء. وقيل بالقيمة فيما فيه الحظ للمساكين، وتضم قيمة العروض إلى كل واحد منهما). أما كون ضم الذهب إلى الفضة بالأجزاء على المنصوص عن الإمام أحمد فلأنه لو انفرد لاعتبر بنفسه لا بقيمته فكذلك إذا ضم إلى غيره كالمواشي. ولأن الضم بالأجزاء متيقن بخلاف الضم بالقيمة فإنه ظنّ وتخمين والمتيقن أولى. وأما كونه بالأحظ من الأجزاء والقيمة على قول فلأن كل نصاب وجب فيه ضم الذهب إلى الفضة ضم بالقيمة كنصاب السرقة. ولأن الأصل الضم لأجل الحظ فكذلك صفته. فإن قيل: من القائل بذلك؟ قيل: أبو الخطاب، وجعله ظاهر كلام الإمام أحمد. فإن قيل: ما مثال الضم بالأجزاء والضم بالقيمة؟ قيل: مثال الضم بالأجزاء أن يكون له عشرة دنانير ومائة درهم فكل واحد نصف نصاب فمجموعهما نصاب، وكذلك لو كان الربع من أحدهما والباقي من الآخر، ونحو ذلك.

ومثال الضم بالقيمة التي فيها حظ للمساكين: أن يكون له تسعة دنانير قيمتها مائة درهم وله مائة أخرى فإذا اعتبرت القيمة بلغ ذلك نصاباً وإن اعتبرت الأجزاء لم يبلغ نصاباً. فعلى نص الإمام أحمد: لا زكاة، وعلى قول أبي الخطاب فيه الزكاة. فإن قيل: لو كان له عشرة دنانير قيمتها تسعون درهماً ومائة درهم فهل يخرج في المسألة خلاف نظراً إلى القيمة تارة وإلى الجزء أخرى؟ قيل: لا. بل تجب الزكاة هنا على القول بالضم وجهاً واحداً لأن الخلاف المذكور ليس مبنياً على القيمة مطلقاً بل على القيمة بشرط كونها أحظ. ولهذا قال المصنف رحمه الله: وقيل بالقيمة فيما فيه الحظ للمساكين. والأجود أنه كان قال: ويكون الضم بالأجزاء، وقيل بالأحظ منها أو من القيمة لأن في ذلك شمولاً لهما. وإذا ثبت أن العبرة إما بالجزء أو بالأحظ ظهر أن الزكاة واجبة في هذه الصورة قولاً واحداً لأن من اعتبر الجزء أوجبها هنا لوجوده، ومن اعتبر الأحظ أوجبها هنا أيضاً ليكون الضم بالجزء أحظ. وأما كون قيمة العروض تضم إلى كل واحد من الذهب والفضة كمن له عشرة دنانير ومتاع قيمته عشرة أخرى، أو له مائة درهم ومتاع قيمته مائة أخرى فلأن الواجب في العروض القيمة، والذهب والفضة قيم الأشياء فكانا مع [القيمة] (¬1) جنساً واحداً، فإذا اجتمع منهما نصاب زكاة قال الخطابي: لا أعلم عامتهم اختلفوا في ذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من ب.

فصل [في زكاة الحلي] قال المصنف رحمه الله: (ولا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال في ظاهر المذهب. فأما الحلي المحرم والآنية وما أعد للكراء أو النفقة ففيه الزكاة إذا بلغ نصاباً). أما كون الحلي المباح المعد للاستعمال لا زكاة فيه في ظاهر المذهب فلما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في الحلي زكاة» (¬1). ولأنه مرصد للاستعمال المباح فلم تجب فيه زكاة كالعوامل وثياب القنية. وأما كونه فيه زكاة في رواية فلعموم قوله: «وفي الرقة ربع العشر» (¬2). ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «أتت امرأة من أهل اليمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابن لها وفي يديها مسكتان من ذهب. فقال لها: هل تعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بسوارين من نار» (¬3) رواه النسائي والترمذي وأبو داود. ولأنه من جنس الأثمان أشبه التبر. وأما كون الأولى ظاهر المذهب فلما تقدم. وحديث عمرو بن شعيب الدال على الوجوب لا يصح. قال أبو عبيد: لا نعلمه يروى إلا من وجه قد تكلم الناس فيه قديماً وحديثاً. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن والآثار 3: 298 كتاب الزكاة، باب زكاة الحلي. وقال: لا أصل له. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10177) 2: 383 كتاب الزكاة، من قال: ليس في الحلي زكاة. وأخرجه عبدالزاق في مصنفه (7046) 4: 82 كتاب الزكاة، باب التبر والحلي. وأخرجه الدارقطني في سننه (4) 2: 107 كتاب الزكاة، باب زكاة الحلي، كلهم موقوف على جابر. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1563) 2: 95 كتاب الزكاة، باب الكنز ما هو وزكاة الحلي. وأخرجه الترمذي في جامعه (637) 3: 29 كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الحلي. وأخرجه النسائي في سننه (2479) 5: 38 كتاب الزكاة، باب زكاة الحلي.

وقال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب شيء. ويحتمل أنه أراد بالزكاة العارية كما فسره بعض العلماء الحسن وقتادة وغيرهما (¬1). وقوله: «وفي الرقة ربع العشر» (¬2) قد قيل الرقة: هي الدراهم المضروبة. وقال أبو عبيد: لا نعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب إلا على الدراهم المنقوشة ذات السكة. وعلى تقدير التناول يكون مخصوصاً لما ذكرنا من الدليل لأنه خاص. وأما كون الحلي المحرم فيه الزكاة؛ فلأن اتخاذ الذهب والفضة حلياً محرماً فعل محرم فلم يخرج به عن أصله، وأصله فيه الزكاة فكذلك هذا. وأما كون المعد للكراء فيه الزكاة؛ فلأن الكراء إنما حصل في مقابلة الانتفاع فكان فيه الزكاة كمال التجارة بخلاف الإعارة واللبس فإنه لا يحصل منه نماء البتة. وأما كون المعد للنفقة فيه الزكاة؛ فلأن الأصل وجوب الزكاة وهو متمكن من صرفه إلى جهة النماء على وجه مشروع فوجبت فيه الزكاة كمال التجارة. قال: (والاعتبار بوزنه إلا ما كان مباح الصناعة فإن الاعتبار في النصاب بوزنه وفي الإخراج بقيمته). أما كون الاعتبار في المحرم بوزنه نصاباً وإخراجاً فلعموم قوله عليه السلام: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» (¬3). فإن قيل: القيمة زائدة على الوزن؟ قيل: القيمة عن صنعه محرمة يجب إتلافها فلم يلتفت إليها. وأما كون الاعتبار في نصاب مباح الصناعة بوزنه؛ فلما تقدم. وقال ابن عقيل: يعتبر بالقيمة لأن الصناعة صفة للمال ولها قيمة مقصودة فوجب اعتبارها كالجودة، ولذلك لو أتلفها متلف وجبت القيمة. ¬

_ (¬1) في ب: وغيرها. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون الاعتبار في إخراجه بقيمته فلأنه لو أخرج قدر ربع عشره لوقعت القيمة المتقومة شرعاً لا حظ فيها للفقراء وهو ممتنع. فعلى هذا هو مخير بين أن يخرج ربع عشره مشاعاً ثم يبيعه الفقير بمفرده أو مع المالك بغير جنسه، وبين أن يخرج قيمة ربع عشره من جنسه. فإن قيل: هذا فيه زيادة عن الذات. قيل: لا يضر ذلك كما تقدم في إخراج المكسر عن الصحيح. ولأنه لا ربا بين الرب وعبده. قال: (ويباح للرجال من الفضة الخاتم وقبيعة السيف، وفي حلية المنطقة روايتان، وعلى قياسها الجوشن والخوذة والخف والران والحمائل، ومن الذهب قبيعة السيف وما دعت إليه الضرورة كالأنف وما ربط به أسنانه. وقال أبو بكر: يباح يسير الذهب). أما كون الرجال يباح لهم من الفضة الخاتم فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِق» (¬1) متفق عليه. وأما كونهم يباح لهم منها قبيعة السيف فلأن أنساً قال: «كانت قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم فضة» (¬2). وقال هشام بن عروة: «كان سيف الزبير محلى بالفضة» (¬3) رواه الأثرم. ولأن ذلك حلية معتادة للرجل أشبهت الخاتم. وأما كونهم يباح لهم منها حلية المنطقة في رواية فـ «لأن الصحابة رضوان الله عليهم اتخذوا المناطق محلاة بالفضة». ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5535) 5: 2204 كتاب اللباس، باب نقش الخاتم. وأخرجه مسلم في صحيحه (2091) 3: 1656 كتاب اللباس والزينة، باب لبس النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق ... (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2583) 3: 30 كتاب الجهاد، باب في السيف يحلى. وأخرجه الترمذي في جامعه (1691) 4: 201 كتاب الجهاد، باب ما جاء في السيوف وحليتها. (¬3) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 4: 1461 كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 144 كتاب الزكاة، باب ما ورد فيما يجوز للرجل أن يتحلى به ...

وأما كونهم لا يباح لهم في رواية فلما فيه من الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء. ولأن لبس المنطقة يشعر بالتخنث والانحلال أشبه الطوق والدملج. وأما كون الجوشن والخوذة والخف والران والحمائل على قياس المنطقة في الإباحة وعدمها فلأن ذلك كله يساوي المنطقة معنى فوجب أن يساويها حكماً. وأما كونهم يباح لهم من الذهب قبيعة السيف فـ «لأن عمر رضي الله عنه كان له سيف فيه سبائك من ذهب» (¬1). وروى الأثرم عن أحمد أنه قال: «كان في سيف عثمان بن حُنيف مسمار من ذهب» (¬2) قال (¬3) فذلك الآن في السيف. وأما كونهم يباح لهم منه ما دعت إليه الضرورة كالأنف وما يربط به أسنانه فلأنه روي «أن عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من وَرِق فأنتن عليه. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفاً من ذهب» (¬4) رواه أبو داود. وروى الأثرم عن موسى بن طلحة وأبي جَمْرة الضُّبَعي وأبي رافع وثابت البناني وإسماعيل بن زيد بن ثابت والمغيرة بن عبدالله «أنهم شدوا أسنانهم بالذهب» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 143 كتاب الزكاة، باب ما ورد فيما يجوز للرجل أن يتحلى به من خاتمه وحلية سيفه ومصحفه إذا كان من فضة، بلفظ: عن نافع «أن ابن عمر تقلد سيف عمر رضي الله عنه يوم قتل عثمان رضي الله عنه وكان محلى قال: قلت: كم كانت حليته؟ قال: أربعمائة». (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن عثمان بن حكيم قال: «رأيت في قائم سيف سهل بن حُنيف مسمار ذهب». (25172) 5: 197 كتاب اللباس والزينة، في السيوف المحلاة واتخاذها. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4232) 4: 92 كتاب الخاتم، باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب. (¬5) أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (25250) 5: 205 كتاب اللباس والزينة، في شد الأسنان بالذهب. عن طعمة الجعفري: قال: «رأيت موسى بن طلحة قد شد أسنانه بالذهب». وفي (25256) 5: 206 عن حماد قال: «رأيت ثابتاً البناني مشدود الأسنان بالذهب». وفي (25254) 5: 205 عن حماد قال: «رأيت المغيرة بن عبدالله يربط أسنانه بالذهب، قال: فسألت إبراهيم، قال: لا بأس به».

وأما كونهم يباح لهم اليسير من الذهب على قول أبي بكر؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً» (¬1). والصحيح أنه لا يباح يسير الذهب كما لايباح كثيره لعموم الأدلة المقتضية للتحريم. ولأنه يروى أيضاً «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التحلي بقدر الخُرَيْصيصة». وهي القطعة من الحلي بقدر عين الجرادة. ولأن في الذهب سرفاً ومباهاة وإن قل. قال: (ويباح للنساء من الذهب والفضة كل ما جرت عادتهن بلبسه قل أو كثر. وقال ابن حامد: إن بلغ ألف مثقال حرم وفيه الزكاة). أما كون النساء يباح لهن ما جرت عادتهن بلبسه من الذهب والفضة كالخلخال في الرجل، والسوارين في اليدين، والدملج في العضد، والطوق في الحلق، والقُرط -بضم القاف- في الأذن فلأن المرأة محتاجة إلى التجمل لزوجها والتزين له ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم» (¬2). ومفهوم كلام المصنف رحمه الله أن ما لم تجر عادتهن بلبسه كالثياب المثقلة المنسوجة بالذهب ونعال الذهب لا يباح لهن لبسه وهو صحيح نقلاً لانتفاء التجمل بلبسه عادة. والحديث المتقدم ذكره يرده. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4239) 4: 93 أول كتاب الخاتم، باب ما جاء في الذهب للنساء. وأخرجه النسائي في سننه (5150) 8: 161 كتاب الزينة، تحريم الذهب على الرجال. وأخرجه أحمد في مسنده (16947) 4: 98. كلهم عن معاوية رضي الله عنه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4057) 4: 50 كتاب اللباس، باب في الحرير للنساء. وأخرجه النسائي في سننه (5144) 8: 160 كتاب الزينة، تحريم الذهب على الرجال. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3597) 2: 1190 كتاب اللباس، باب لبس الحرير والذهب للنساء. وأخرجه أحمد في مسنده (19443) 4: 394. قال في زوائد ابن ماجة: في إسناده عبدالرحمن بن رافع، عنه مناكير. وقال ابن حبان: لا يحتج بخبره إذا كان من رواية عبدالرحمن بن زياد بن أنعم. وإنما وقع المناكير في حديثه من أجله. وقال أبو حاتم: شيخ حديثه منكر.

وأما كون ما يباح لهن لا فرق فيه بين القليل والكثير على المذهب فلأن المبيح للتحلي في حقهن بتجملهن لأزواجهن وتزينهن لهم وذلك موجود في القليل والكثير. وأما كونه إن بلغ ألف مثقال حرم وفيه الزكاة على قول ابن حامد. أما كونه يحرم فلأن ذلك يخرج عن الحد المعتاد في التزين إلى الإسراف المنهي عنه. وأما كونه فيه الزكاة فلأنه محرم وقد روى جابر أنه قال: «لا زكاة في الحليّ. قيل له: فإن كان قيمته ألف مثقال قال: كثير» (¬1). فإن قيل: الألف معتبر في مجموعه أو مفرداته. قيل: في مجموعه لظاهر الحديث. وقال ابن عقيل في مفرداته: لأن الخلخال أو شبهه إذا كان ألف مثقال تحقق السرف المذكور فيه ولم يبح من أجله. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (7046) 4: 82 كتاب الزكاة، باب التبر والحلي. بمعناه. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 138 كتاب الزكاة، باب من قال: لا زكاة في الحلي.

باب زكاة العروض

باب زكاة العروض قال المصنف رحمه الله: (تجب الزكاة في عروض التجارة إذا بلغت قيمتها نصاباً، ويؤخذ منها لا من العروض). أما كون الزكاة تجب في عروض التجارة إذا بلغت قيمتها نصاباً فبالكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم} [المعارج: 24]، وقوله: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] وأموال التجارة أعم الأموال فكانت أولى بالدخول في ذلك. وأما السنة فما روى سمرة بن جندب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعد للبيع» (¬1) رواه أبو داود. فإن قيل: ما العروض؟ قيل: جمع عرض بسكون الراء، وهو: كل ما كان من المال غير الذهب والفضة على اختلاف أنواعه من الثياب والحيوان وسائر المال. وأما كونها تؤخذ من القيمة لا من العروض فلأن النصاب معتبر بالقيمة وما اعتبر النصاب فيه وجب إخراج الزكاة منه كسائر الأموال. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (ولا تصير للتجارة إلا أن يملكها بفعله بنية التجارة بها، فإن ملكها بإرث أو ملكها بفعله بغير نية ثم نوى التجارة بها لم تصر للتجارة، وإن كان عنده عرض للتجارة فنواه للقنية ثم نواه للتجارة لم يصر للتجارة. وعنه: أن العروض تصير للتجارة بمجرد النية). أما كون العروض لا تصير للتجارة إلا أن يملكها صاحبها بفعله كالشراء ونحوه بنية التجارة بها على المذهب فلأن ما لا يتعلق الزكاة به من أصله لا يصير محلاً لها بمجرد النية كالمعلوفة إذا نوى فيها السوم. ولا فرق فيما ملكه بفعله بين أن يقابل ذلك بعوض كالبيع أو لا كالهبة لأن الكل حاصل بفعله. وقال القاضي: يشترط أن يملكه بعوض كالبيع والخلع والنكاح فلو ملكه بهبة أو احتشاش أو غنيمة لم يصر للتجارة لأنه ملكه بغير عوض أشبه الموروث. وأما كونها تصير بمجرد النية على روايةٍ فلأن التربص بالسلع لارتفاع الأسواق من صور التجارة ولا فعل فيه. وإنما اشترطت النية لما تقدم من حديث سمرة، وإنما اعتبرت حين الملك على الأول لأن في بعض ألفاظ الحديث: «مما يعد للبيع حال الشراء». ولأن الأعمال بالنية والتجارة عمل فوجب اقتران النية به كسائر الأعمال. وأما كون من ملك العروض بإرث أو ملكها بفعله بغير نية ثم نوى التجارة بها لم تصر للتجارة على الأول (¬1) فلأن الأول لم يملكها بفعله وفي الثاني لم تقترن النية بالفعل والتقدير اشتراطهما. وأما كون من كان عنده عرض للتجارة فنواه للقنية ثم نواه للتجارة لم يصر للتجارة على ذلك فلأنه بنيته القنية صار للقنية فإذا نواه للتجارة لم يصر للتجارة لعدم الفعل المشترط. فإن قيل: لم يصير للقنية بمجرد النية (¬2) ولا يصير للتجارة يمجرد نيتها؟ قيل: لأن القنية هي الأصل فيكفي في الرد إليه مجرد النية كالمسافر ينوي الإقامة. ¬

_ (¬1) أي على القول باشتراط النية والفعل. (¬2) ساقط من ب.

ولأن نية التجارة شرط في وجوب الزكاة في العروض وإذا نوى القنية زالت نية التجارة ففات شرط الوجوب. فإن قيل: على القول باشتراط النية دون الفعل ما الحكم؟ قيل: إذا ملك العروض بإرث ونوى التجارة صارت للتجارة لوجود الشرط، وإذا كان عنده عرض للتجارة فنواه للقنية ثم نواه للتجارة صار للتجارة. قال المصنف رحمه الله في المغني: والأول المشهور في المذهب. قال: (وتقوم العروض عند الحول بما هو أحظ للمساكين من عين أو ورق. ولا يعتبر ما اشتريت به). أما كون العروض تقوم بما هو أحظ للمساكين من عين أو ورق فليحصل للمساكين ما هو الأحظ. ولأن تقويمه لحظ المساكين فيعتبر ما لهم الأحظ فيه كما لو اشتراه بعروض وللبلد نقدان مستعملان تبلغ قيمة العروض بأحدهما نصاباً دون الآخر. وأما كون ما (¬1) اشتريت به لا يعتبر فلأن ذلك يروى عن عمر. ولأن في تقويمها بما اشتريت به إبطالاً للتقويم بالأحظ. وقد تقدم دليل اعتباره فعلى هذا لو كانت العروض تساوي عند رأس الحول نصاباً بالذهب دون الفضة قومت بالذهب وإن اشتريت بالفضة للأحظ ولو كان بالعكس قومت بالفضة. قال: (وإن اشترى عرضاً بنصاب من الأثمان أو من العروض بنى على حوله. وإن اشتراه بنصاب من السائمة لم يبن على حوله). أما كون من اشترى عرضاً بنصاب من الأثمان يبني على حول نصاب الأثمان فلأن مال التجارة إنما تتعلق الزكاة بقيمته وقيمته هي الأثمان نفسها. وأما كون من اشترى ذلك بعروض يبني على حول العروض فلأن الزكاة تتعلق في الموضعين بالقيمة وهي الأثمان، والأثمان يُبنى حول بعضها على بعض. ¬

_ (¬1) في ب من.

وأما كون من اشترى ذلك بنصاب من السائمة لا يبني على حول السائمة فلأن العرض تجب الزكاة في قيمته والسائمة إذا لم تكن للتجارة تجب في عينها فهما جنسان مختلفان، وإذا كان كذلك لم يُبْن حول أحدهما على الآخر. قال: (وإن ملك نصاباً من السائمة للتجارة فعليه زكاة التجارة دون السوم، فإن لم تبلغ قيمتها نصاب التجارة فعليه زكاة السوم). أما كون من ملك ما ذكر عليه زكاة التجارة إذا بلغت قيمة السائمة نصاب التجارة فلأنها أحظ لأنها تجب فيما زاد بالحساب، والتجارة يلحظ فيها الأحظ للفقراء بدليل التقويم بالأحظ. وأما كونه عليه زكاة السوم إذا لم تبلغ القيمة نصاب التجارة فلأن السوم سبب يوجب الزكاة ولا معارض له فعمل عمله. قال: (وإن اشترى أرضاً أو نخلاً للتجارة فأثمرت النخل وزرعت الأرض فعليه فيهما العشر ويزكى الأصل للتجارة. وقال القاضي: يزكي الجميع زكاة القيمة ولا عشر عليه إلا أن يسبق وجوب العشر حول التجارة فيخرجه). أما كون من اشترى ما ذكر عليه العشر في الزرع والثمر، وزكاة التجارة في الأصل فلأنهما عينان تجب في إحداهما زكاة العين وفي الأخرى زكاة القيمة حال الانفراد فكذلك حال الاجتماع. وأما كونه يزكي الجميع زكاة القيمة فلما ذكرنا من أنها أحظ للفقراء. ولأنها إذا اجتمعت مع السوم كان الحكم لها فكذلك هنا. ولأن الزرع والثمر كالولد لكون كل واحد منهما جزء الخارج منه فوجب أن يقوم مع الأصل كالسخال، والأرباح المتجددة إذا كانت الأصول للتجارة. وأما كونه لا عشر عليه إذاً فلأنه لو وجب للزم الجمع بين زكاتين في مال واحد وفيه ضرر بالمالك. واعلم أن في كلام المصنف رحمه الله نظراً من وجهين:

أحدهما: أن النقل في هذه المسألة أنه يزكي الجميع زكاة القيمة على المذهب، والأصل زكاة القيمة، والزرع والثمار زكاة العشر على قول القاضي لأن المصنف في المغني الأول وأبا الخطاب ذكرا هذه المسألة فقالا: زكا الجميع زكاة القيمة. وقيل: يزكي الأصل زكاة القيمة، والثمرة والزرع زكاة العشر. ثم إن شارح الهداية صاحب الخلاصة عزا القول في شرحه إلى القاضي وابن عقيل. وثانيهما: أن قوله: إلا أن يسبق إلى آخره ظاهره أنه استثناء من قوله: ولا عشر عليه ولا يصح ذلك نقلاً ولا معنى (¬1). أما عدم صحته من حيث النقل فلأن المصنف نسب زكاة الجميع زكاة القيمة إلى القاضي. وقال في المغني: قال القاضي: ولا فرق بين أن يتفقا في الحول أو يختلفا مثل أن يثمر نخل التجارة وتنبت أرضها ويبدو الصلاح قبل مضي حول التجارة. وأما عدم الصحة من حيث المعنى فلأن معنى قوله: ولا عشر عليه أن من وجبت عليه زكاة القيمة في الأصل والثمار لا يجب عليه عشر. ومن هذا شأنه لا يجب عليه عشر بحال بل ينبغي أن يعود الاستثناء إلى الخلاف المذكور في المسألة أي الخلاف في اعتبار القيمة في الكل أو في الأصل دون الثمار إذا اتفق وقت وجوب العشر وزكاة التجارة فلو سبق نصاب العشر وجب العشر وجهاً واحداً. وكان الجيد في ذلك أن يقال: إلا أن يسبق وجوب أحدهما الآخر ليعم ما ذكر وما إذا سبق وجوب التجارة وجوب العشر وأن الحكم فيهما واحد. وقد صرح المصنف رحمه الله في المغني وصاحب النهاية فيها بأن قالا في المسألتين واتفق حولاهما. ولو قدم المصنف رحمه الله تعالى زكاة القيمة في هذه المسألة فقال: زكى الجميع زكاة القيمة ولا عشر عليه إلا أن يسبق حول أحدهما الآخر، وقال القاضي: يزكى الأصل زكاة القيمة والثمرة والزرع زكاة العشر لكان صحيحاً جيداً سالماً من أمور: أحدها: مخالفة نقله في المغني الأول ومخالفة نقل الأصحاب. ¬

_ (¬1) في ب: دليلاً.

وثانيها: أن يكون قد قدم ما أومأ إليه الإمام أحمد فإنه في المغني ذكر زكاة القيمة للجميع ثم قال: أومأ إليه الإمام أحمد. وثالثها: أن الاستثناء يعود إلى قوله: ولا عشر لأن كل من اعتبر القيمة شرط الاتفاق في كمال الحول، وقال: متى سبق أحدهما الآخر كان الحكم له لأنه لو لم يكن الحكم له للزم تأخير أداء الزكاة عن كمال الحول. ورابعها: أنه يكون قول القاضي في المغني ولا فرق بين أن يتفقا في الحول أو يختلفا لأن الاستثناء المذكور بناء على قول من يعتبر القيمة وليس ذلك قول القاضي على ما تقدم. وقوله: فيخرجه مرفوع وليس معطوفاً على قوله: يسبق لأنه لو كان كذلك لكان السبق والإخراج شرطين لتعين العشر وليس الشرط كذلك بل الشرط سبق أحدهما الآخر في الوجوب. قال: (وإذا أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في إخراج زكاته فأخرجاها معاً ضمن كل واحد نصيب صاحبه، ، وإن أخرجها أحدهما قبل الآخر ضمن الثاني نصيب الأول عَلِم أو لم يعلم، ويتخرج أنه لا ضمان عليه إذا لم يعلم). أما كون كل واحد من المخرجين يضمن نصيب صاحبه في المسألة الأولى فلأنه انعزل حكماً بإخراج المالك. وأما كون الثاني يضمن نصيب الأول فلما ذكر قبل. وأما كونه يضمن مع العلم وعدمه فلأن العزل الحكمي لا يختلف بذلك بدليل ما لو مات المالك، وما لو وكله في بيع عبده ثم أعتقه. وأما كونه يتخرج أنه لا ضمان عليه إذا لم يعلم في المسألة الثانية فلأنه وكيل في الدفع فلم يضمن إذا لم يعلم كما لو وكله في قضاء دينه فقضاه المالك ثم الوكيل. وقد قيل: الفرق بينهما أنه في قضاء الدين يتمكن من الرجوع على رب الدين بخلاف مسألة الزكاة فإنه لا يتمكن من الرجوع على الفقير لأنها تنقلب تطوعاً.

باب زكاة الفطر

باب زكاة الفطر قال المصنف رحمه الله: (وهي واجبة على كل مسلم تلزمه مؤونة نفسه إذا فضل عنده عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته صاع، وإن كان مكاتباً، وإن فضل بعض صاع فهل يلزمه إخراجه؟ على روايتين). أما كون زكاة الفطر واجبة في الجملة فالأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 14 - 15] وعموم قوله: {وآتوا الزكاة} [البقرة: 43]. وأما السنة فما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك من المسلمين صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (¬1) متفق عليه. وأما الإجماع فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض. وأما كونها واجبة على كل مسلم إلى آخره فلأنه داخل فيما تقدم، وتقييد كونها واجبة بما ذكر مشعر بأنه يشترط لوجوبها شروط: أحدها: الإسلام لأن من شرطها النية ولا تصح من كافر. ولأنها زكاة فكان من شرطها ذلك كزكاة المال. الثاني: أن يكون ممن تلزمه مؤونة نفسه لأن قوله عليه السلام: «أدوا الفطرة عمن تمونون» (¬2) يدل على عدم وجوب الفطرة على من لا يمون نفسه لأنه خاطب بالوجوب غيره، ولو وجبت عليه لخاطبه به كسائر من تجب عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1432) 2: 547 أبواب صدقة الفطر، باب فرض صدقة الفطر. وأخرجه مسلم في صحيحه (984) 2: 667 كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير. (¬2) لم أقف عليه هكذا، وقد أخرج الدارقطني في سننه عن ابن عمر قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد، ممن تمونون» (12) 2: 141 كتاب زكاة الفطر. قال الدارقطني: رفعه القاسم وليس بقوي، والصواب موقوف.

فإن قيل: الكلام في لزوم الفطرة لا في نفسها؟ قيل: المراد بالحديث لزوم المؤونة لما يأتي إن شاء الله تعالى. الثالث: أن يفضل عنده عن قوته [وقوت] (¬1) عياله يوم العيد وليلته صاع لأن قوته وقوت عياله أهم فيجب تقديمه لقوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك» (¬2) رواه مسلم. وفي لفظ: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» (¬3). وأما قول المصنف رحمه الله: على كل مسلم؛ فيعم الغني والفقير القادر على الصاع بعد ما ذكر، وهو صحيح؛ لعموم حديث ابن عمر: «على كل صغير وكبير حر وعبد» (¬4). ولما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر» (¬5) رواه أبو داود. وأما قوله رحمه الله: وإن كان مكاتباً فمعناه أن المكاتب تجب عليه زكاة الفطر إذا اجتمع فيه ما ذكر لدخوله في الخبر. ولأنه مسلم تلزمه نفقته فلزمته فطرته كالحر. وأما كون من فضل عنده بعض صاع يلزمه إخراجه على روايةٍ فلأن الفطرة طهرة فوجب منها ما قدر عليه كالطهارة بالماء. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (997) 2: 692 كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة. وأخرجه النسائي في سننه (4652) 7: 304 كتاب البيوع، بيع المدبر. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5041) 5: 2048 كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال، ولفظه: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير الصدقة ما كان على ظهر غنى، وابدأ بمن تعول». وأخرجه مسلم في صحيحه (1042) 2: 721 كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس. ولفظه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ... فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى وابدأ بمن تعول». (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1619) 2: 114 كتاب الزكاة، باب من روى نصف صاع من قمح.

ولأن البعض من الصاع يخرج عن العبد المشترك فجاز أن يخرج عن الحر كالصاع. وأما كونه لا يلزمه ذلك على روايةٍ فلأن الفطرة طهرة فلا تجب على من لا يملك جميعها كالكفارة. قال ابن عقيل: هذا هو الصحيح. قال: (ويلزمه فطرة من يمونه من المسلمين فإن لم يجد ما يؤدي عن جميعهم بدأ بنفسه ثم بامرأته ثم برقيقه ثم بولده ثم بأمه ثم بأبيه ثم بالأقرب فالأقرب في الميراث). أما كون من يمون (¬1) أحداً من المسلمين يلزمه فطرته فلأن في بعض روايات ابن عمر «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن (¬2) تمونون» (¬3). وفي تقييد المصنف رحمه الله لزوم الفطرة بكون المخرج عنه من المسلمين مشعر بأنه لا يلزمه فطرة من يمونه من الكفار وهو صحيح لأن الفطرة طهرة للمفعول عنه والكافر لا يقبل الطهرة لأنه لا يطهره إلا الإسلام. وأما كونه يبدأ بنفسه إذا لم يجد ما يؤدي عن جميع من يلزمه مؤنته فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك» (¬4). ولأن الفطرة تبنى على النفقة، ونفقة نفسه مقدمة على كل أحد فكذلك فطرته. وأما كونه يبدأ بعد نفسه بفطرة امرأته فلأن نفقتها آكد لأنها تجب مع اليسار والإعسار وتجب على سبيل المعاوضة. وأما كونه يبدأ بعد امرأته بفطرة رقيقه فلأن نفقته تجب أيضاً مع اليسار والإعسار بخلاف الأقارب. فإن قيل: فلم قدمت فطرة المرأة عليه؟ قيل: لأن نفقتها آكد لأنها معاوضة. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (12) 2: 141 كتاب زكاة الفطر. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونه (¬1) يبدأ بعد رقيقه بفطرة ولده فلأن نفقة الولد الصغير متفق عليها بخلاف الوالد. وأما كونه يبدأ بأمه بعده فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدمها في البر حين سأله الأعرابي من أبر؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. وقال في الثالثة أو الرابعة ثم أباك» (¬2). ولأنها ضعيفة عن الكسب والعمل. وأما كونه يبدأ بأبيه بعد ذلك فلما ذكر من الحديث. وأما كونه يبدأ بالأقرب فالأقرب في الميراث فلأن الأقرب أولى من غيره كالميراث. قال: (ويستحب أن يخرج عن الجنين ولا يجب). أما كون الجنين يستحب أن يخرج عنه فـ «لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يخرج عن الجنين» (¬3). ولأنه يشبه من تجب عليه الفطرة في الآدمية والميراث والوصية له وبه. وأما كون ذلك لا يجب فلأن الفطرة لو تعلقت بالجنين قبل ظهوره لتعلقت الزكاة بأجنة البهائم قبل ظهورها وليس كذلك. وذكر أبو الخطاب رواية أنها واجبة لما ذكرنا من الشبه في الميراث والوصية. قال المصنف في المغني: والأول أصح. قال: (ومن تكفل بمؤونة شخص في شهر رمضان لم تلزمه فطرته عند أبي الخطاب. والمنصوص أنها تلزمه). أما كون من تكفل بمؤونة شخص في شهر رمضان، ومعناه: أنه مانه على وجه التبرع شهر رمضان كله لا تلزمه فطرته عند أبي الخطاب؛ فلأن الفطرة تتبع النفقة ونفقة من ذكر غير واجبة فكذلك فطرته. ¬

_ (¬1) في ب كونها. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5626) 5: 2227 كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة. وأخرجه مسلم في صحيحه (2548) 4: 1974 كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10737) 2: 432 كتاب الزكاة، في صدقة الفطر عما في البطن.

وأما كونها تلزمه على منصوص الإمام أحمد رحمه الله عليه؛ فلعموم قوله: «ممن تمونون» (¬1). ولأنه شخص منفق عليه فتجب عليه فطرته كالعبد. والمعتبر مؤونة جميع الشهر. وقال ابن عقيل: قياس المذهب أنها على من مانه قبل غروب الشمس بليلة. فإن مانه جماعة فقال المصنف رحمه الله في المغني: لا أعلم فيها قولاً للأصحاب، ويحتمل أن لا يجب شيء؛ لأن السبب مؤونة الشهر ولم يوجد، واحتمل أن يجب بالحصص كالعبد المشترك. وقول أبي الخطاب أصح عند المصنف رحمه الله. ذكره في المغني لأن الحديث المذكور محمول على من تلزمه مؤونته لا على حقيقة المؤونة بدليل وجوبها على الآبق والمملوك عند الغروب ولم يمنهما وسقوطها عمن مات أو عتق قبل الغروب وقد مانهما (¬2). قال: (وإذا كان العبد بين شركاء فعليهم صاع. وعنه: على كل واحد صاع، وكذلك الحكم فيمن بعضه حر). أما كون العبد إذا كان بين شركاء عليهم صاع واحد على المذهب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب على العبد صاعاً واحداً» (¬3) وهذا عام في المشترك وغيره. ولأن نفقته تقسم عليهم فكذلك فطرته. ولأنه شخص واحد فلا يجب بسببه أكثر من صاع واحد كما لو كان لواحد. وأما كون كل واحد عليه صاع على روايةٍ فلأن الفطرة طهرة فتعددت على من هي عليه بحسب عدده ككفارة القتل، أو فلا تتبعض ككفارة القتل. والأولى أصح لما تقدم. وقياس الفطرة على كفارة القتل لا يصح لأن الكفارة آكد، ودعوى عدم التبعيض غير مسلمة فإنها متبعضة حقيقة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في ب: وقد منهما. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون حكم من بعضه حر كحكم العبد المشترك فلأنه يساويه معنى فوجب أن يساويه حكماً. قال: (وإن عجز زوج المرأة عن فطرتها فعليها، أو على سيدها إن كانت أمة فطرتها، ويحتمل أن لا تجب). أما كون الفطرة على الزوجة الحرة أو على سيد الأمة المزوجة إذا كان الزوج عاجزاً عنها على المذهب فلأن العاجز كالمعدوم ولو لم يكن للزوجة المذكورة زوج كان على الحرة أو على سيد الأمة الفطرة فكذا هاهنا. وأما كونه يحتمل أن لا يجب فلأن من تجب عليه الفطرة عاجز فلم تجب كما لو كانت الزوجة والسيد عاجزين. قال: (ومن كان (¬1) له غائب أو آبق فعليه فطرته إلا أن يشك في حياته فتسقط، وإن علم حياته بعد ذلك أخرج لما مضى). أما كون من له غائب عليه فطرته إذا لم يشك في حياته فلأن فطرة الغائب المذكور لا تسقط بغيبته لأنها تبع لنفقته ونفقته لا تسقط بغيبته فكذا فطرته. وأما كون من له آبق عليه فطرته إذا لم يشك في حياته فلأن نفقته تجب عليه بدليل أن من أنفق عليه رجع بالنفقة على السيد. وأما كون فطرتهما تسقط إذا شك في حياتهما فلأن الذي لا يعلم بقاؤه لا ينزل منزلة الذي يعلم بقاؤه بدليل لو أعتق السيد العبد الذي لا يعلم خبره عن كفارته فإنه لا يجزئ. وأما كون من علم حياة الغائب والآبق بعد ذلك يخرج لما مضى فلأنه بان له سبب الوجوب في الزمن الماضي فوجب الإخراج كما لو سمع بهلاك ماله الغائب ثم بان سالماً. ¬

_ (¬1) ساقط من ب.

قال: (ولا يلزم (¬1) الزوج فطرة الناشز. وقال أبو الخطاب: تلزمه. ومن لزم غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير إذنه فهل يجزئه؟ على وجهين). أما كون الزوج لا يلزمه فطرة زوجته الناشز. وهو قول القاضي فلأن نفقتها غير واجبة والفطرة تابعة لها. وأما كونه تلزمه وهو قول أبو الخطاب فلبقاء النكاح وسقوط النفقة لعارض لا يؤثر في سقوط الفطرة. ولأن الفطرة تجب على الآبق فكذلك الناشز. وأما كون من لزم غيره فطرته فأخرجها عن نفسه بغير إذنه هل يجزئه؟ ففيه وجهان أصلهما أن الفطرة التي تجب على غيره بسببه هل وجبت عليه ابتداء ثم تحملها عنه ذلك الغير أو وجبت على ذلك الغير ابتداء؟ ظاهر المذهب أنها تجب عليه ابتداء ثم تحملها الغير تحملاً شرعياً. أما كونها تجب عليه ابتداء فلأنها زكاة فوجب أن تجب على المخرج عنه كسائر الزكوات. أما كون الغير يتحملها فلأنها تابعة للنفقة والنفقة يتحملها من تقدم ذكره فكذلك ما يتبعها فعلى هذا إذا أخرج بغير إذن الغير يجزئه لأنه أدى ما وجب عليه ابتداء فسقط عن الغير كالنفقة. وقيل: تجب على الغير ابتداء لأن ظاهر قوله عليه السلام: «أدوا الفطرة عمن تمونون» يدل عليه. فعلى هذا إذا أخرج من وجبت بسببه الفطرة بغير إذن من وجبت عليه لا تجزئه لأنه أدى ما وجب على غيره بغير إذنه فلم يجزئه كما لو أدى عن شخص آخر بغير إذنه. قال: (ولا يمنع الدين وجوب الفطرة إلا أن يكون مطالباً به). أما كون الدين لا يمنع وجوب الفطرة إذا لم يكن مطالباً به كما يمنع زكاة المال؛ فلأنها آكد بدليل وجوبها على الفقير وشمولها لكل مسلم قدر على إخراجها. ¬

_ (¬1) في ب: ويلزم.

ولأن زكاة المال تجب بالملك والدين يؤثر فيه فأثر فيها. بخلاف الفطرة فإنها تجب على البدن والدين لا يؤثر فيه. وأما كونه يمنع إذا كان مطالباً به؛ فلوجوب أدائه عند المطالبة وتأكده من حيث أنه حق آدمي لا يسقط بالإعسار بخلاف حق الله. قال: (وتجب بغروب الشمس من ليلة الفطر فمن أسلم بعد ذلك أو ملك عبداً أو زوجة أو وُلِد له وَلَدٌ لم تلزمه فطرته، وإن وجد ذلك قبل الغروب وجبت). أما كون الفطرة تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر؛ فلما روى ابن عباس «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال: رمضان طُهْرَةً للصائم من الرفث وطُعْمَةً للمساكين» (¬1). أضاف الصدقة إلى الفطر فكانت واجبة لأن الإضافة دليل الاختصاص والسببية وأول فطر يقع من جميع رمضان مغيب الشمس من ليلة الفطر. وقوله: «طُهْرَةً للصائم» يدل على ذلك أيضاً؛ لأن من لم يدرك شيئاً من رمضان وأدرك طلوع فجر يوم الفطر لم يدرك شيئاً من زمن الصوم الذي الفطرة طهرة له. وأما كون من أسلم بعد ذلك أو ملك عبداً أو تزوج زوجة أو وُلد له وَلَد لا تلزمه فطرته؛ فلأنه لم يوجد سبب الوجوب. وأما كون من أسلم أو ملك عبداً أو تزوج زوجة أو وُلد له ولد قبل الغروب تجب عليه فطرته؛ فلوجود السبب المذكور. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1609) 2: 111 كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1827) 1: 585 كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1488) 1: 568 كتاب الزكاة. وقال: على شرط البخاري.

قال: (ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة وتجوز في سائر اليوم فإن أخرها عنه أثم وعليه القضاء). أما كون إخراج الفطرة قبل العيد بيومين يجوز؛ فلما روى ابن عمر قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر وقال في آخره: وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين» (¬1) رواه البخاري. وهذا إشارة إلى جميعهم فكان إجماعاً. وأما كون إخراجها يوم العيد قبل الصلاة أفضل؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (¬2) فأدنى أحوال الأمر الاستحباب. وفي حديث ابن عباس: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (¬3). وأما كون إخراجها يجوز في سائر اليوم؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم» (¬4). وأما كون من أخر الفطرة عن يوم العيد يأثم؛ فلفوات المقصود من قوله: «أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم». ولأنه أخر الواجب عن وقته فأثم به كما لو أخر حق الآدمي مع طلبه والقدرة على أدائه. وأما كونه عليه القضاء؛ فلأن الفطرة عبادة فلم تسقط بخروج الوقت كالصلاة. ولأنها يجب إخراجها في زمن مخصوص. فإذا فات زمن الوجوب بقي نفس الفطرة فيجب فعلها، كما لو وجب على شخص شيئان فتعذر أحدهما وبقي الآخر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1440) 2: 549 أبواب صدقة الفطر، باب صدقة الفطر على الحر والمملوك. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1432) 2: 547 أبواب صدقة الفطر، باب صدقة الفطر على الحر والمملوك. من حديث ابن عمر. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (67) 2: 152 كتاب زكاة الفطر. بلفظ: «أغنوهم في هذا اليوم». وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 175 كتاب الزكاة، باب وقت إخراج زكاة الفطر. كلفظ المؤلف.

فصل [في الواجب في الفطرة] قال المصنف رحمه الله: (والواجب في الفطرة صاع من البر والشعير ودقيقهما وسويقهما والتمر والزبيب ومن الأقط في إحدى الروايتين، ولا يجزئ غير ذلك إلا أن يعدمه فيخرج مما يقتات عند ابن حامد، وعند أبي بكر يخرج ما يقوم مقام المنصوص). أما كون الواجب في الفطرة صاعاً من بر أو شعير أو تمر أو زبيب أو أقط عند وجوده فلما روى أبو سعيد الخدري قال: «كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية المدينة فتكلم فكان فيما كلم الناس: إني أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه» (¬1) متفق عليه. وأما كون دقيق البر والشعير وسويقهما كحبهما فيما ذكر فلأن في بعض حديث أبي سعيد: «صاعاً من دقيق» (¬2) رواه النسائي. ولأن الدقيق أجزاء الحب متفرقاً وقد كفي الفقير مؤونة طحنه فهو كما لو نزع نوى التمر ثم أخرجه. وأما كون الأقط لا يجزئ في رواية فلأنه جنس لا تجب فيه الزكاة فلا يجزئ إخراجه كاللحم. والأول أصح للخبر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1437) 2: 548 أبواب صدقة الفطر، باب صاع من زبيب. وأخرجه مسلم في صحيحه (985) 2: 678 كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (2514) 5: 52 كتاب الزكاة، الدقيق.

وأما كون غير أحد الأشياء المتقدم ذكرها لا يجزئ مع وجوده فلأنه إخراج لغير الواجب مع القدرة عليه فلم يجز كإخراج البقر عن الإبل. وأما كون من عدم ذلك يخرج مما يقتات وإن لم يكن من جنس المنصوص عليه كلحوم الحيتان والأنعام عند ابن حامد فلأن المقصود من الأشياء المنصوص عليها الاقتيات وحصول الغنى عن الطلب وهو حاصل بذلك. وأما كونه يخرج ما يقوم مقام المنصوص عليه وهو ما كان مطعوماً مكيلاً عند أبي بكر وهو أقيس فلأن المنصوص عليه يشتمل على الكيل والطعم فإذا تعذر عينه وجب ما يكون أقرب شبهاً به. قال: (ولا يخرج حباً معيباً ولا خبزاً. ويجزئ إخراج صاع من أجناس). أما كون من وجبت عليه الفطرة لا يخرج حباً معيباً كالمسوس والمبلول فلأن السوس يأكل جوف الحب والبلل ينفخه والمخرج لصاع من ذلك ليس مخرجاً صاعاً حقيقة. وأما كونه لا يخرج خبزاً فلأنه لا يدخله الكيل مع نقصان المنفعة به عن الأصناف المنصوصة، واعتباره بالوزن لا يصح لما خالطه من الماء أشبه الحنطة المبلولة، وفيه شبه بإخراج القيمة وهو غير جائز. وأما كون إخراج صاع من أجناس تجزئ فلأنه مخير بين أي الجنسين شاء فكذلك في البعض. ولأنه لو كان عليه فطرة عامين فأخرجهما من جنسين جاز فكذلك العام الواحد.

قال: (وأفضل المخرج التمر ثم ما هو أنفع للفقراء بعده، ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد والواحد ما يلزم الجماعة). أما كون أفضل المخرج التمر فلما روى مجاهد قال: «قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبُرّ أفضل. قال: إن أصحابي قد سلكوا طريقاً وإني أحب أن أسلكه» (¬1). وأما كون الأفضل بعد ذلك ما هو أنفع للفقراء والمراد به البر. صرح به المصنف في المغني والكافي فلأن الاعتماد في تفضيل التمر اتباع الصحابة والاقتداء بهم وهو غير موجود في غير البر وهذا هو اختيار المصنف. والأفضل عند الأصحاب بعد التمر الزبيب لمشاركته له في القوت والحلاوة. وأما كون الجماعة يجوز أن تعطى ما يلزم الواحد والواحد ما يلزم الجماعة فلأن الفطرة زكاة فجاز ذلك فيها كزكاة المال. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي مجلز عن ابن عمر: «أنه كان يستحب التمر في زكاة الفطر» (10366) 2: 398 كتاب الزكاة، من قال: صدقة الفطر صاع من شعير أو تمر أو قمح.

باب إخراج الزكاة

باب إخراج الزكاة قال المصنف رحمه الله: (لا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها مع إمكانه إلا لضرر مثل أن يخشى رجوع الساعي عليه ونحو ذلك). أما كون الزكاة لا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها مع إمكان إخراجها وعدم الضرر المتقدم ذكره فلأن النصوص الدالة على وجوب الزكاة مطلقة والأمر المطلق للفور. ولأن ما وجب أداؤه وأمكن إخراجه لم يجز تأخيره. دليله الوديعة. ولأن الزكاة عبادة متكررة فلم يجز تأخيرها إلى وقت دخول مثلها من غير عذر كالصلاة. وكلام المصنف مشعر بأنه يجوز تأخيرها عن غير وقت وجوبها مثل أن يكون الحول لم يحل أو ما أشبه ذلك وهو صحيح لأنه تأخير لا عن وقت الوجوب. وأما كونها يجوز تأخيرها مع عدم إمكان إخراجها مثل أن لا يوجد أحد من مستحقيها فلأنه لو لم يجز والحالة هذه لكان تكليفاً بما لا يطاق. وأما كونها يجوز تأخيرها مع الضرر كما مثل المصنف من أن يخشى رجوع الساعي عليه ونحو ذلك فلأن في إلزامه الإخراج مع الخشية المذكورة ضرراً وذلك منفي شرعاً. قال: (فإن جحد وجوبها جهلاً به عرف ذلك، فإن أصر كفر [وأخذت منه] (¬1) واستتيب فإن لم يتب قتل). أما كون من جحد وجوب الزكاة جهلاً به مثل أن يكون قريب عهد ببادية يُعَرّف وجوبها فليرجع عن الخطأ. ¬

_ (¬1) ساقط من ب.

وأما كون من أصر على الجحد بعد التعريف يكفر فلأنه مكذب لله ولرسوله. وأما كونه يؤخذ منه مع الحكم بكفره فلأنها وجبت قبل كفره فلم تسقط به كالدين. وأما كونه يستتاب ثلاثاً فقياس على المرتد. وأما كونه يقتل إن لم يتب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» (¬1). وعن أبي بكر رضي الله عنه: «لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة» (¬2) متفق عليهما. قال: (ومن منعها بخلاً بها أخذت منه وعزر، فإن غَيّب ماله أو كتمه أو قاتل دونها وأمكن أخذها أخذت منه من غير زيادة. وقال أبو بكر: يأخذها وشطر ماله وإن لم يمكن أخذها استتيب ثلاثاً فإن تاب وأخرج وإلا قتل وأخذت من تركته. وقال بعض أصحابنا: إن قاتل عليها كفر). أما كون من منع الزكاة بخلاً بها تؤخذ منه فلأنها حق واجب عليه فإذا امتنع من أدائه أُخذ منه قهراً كدين الآدمي. وأما كونه يعزر فلتركه الواجب عليه. وأما كون من غَيّب ماله أو كتمه أو قاتل دون الزكاة وأمكن أخذها تؤخذ من غير زيادة على المذهب فلأن أبا بكر لما منعته العرب الزكاة لم ينقل أنه أخذ منهم زيادة عليها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (25) 1: 17 كتاب الإيمان، باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}. وأخرجه مسلم في صحيحه (22) 1: 53 كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1335) 2: 507 كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (20) 1: 51 كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ...

وأما كونه يؤخذ منه وشطر ماله على قول أبي بكر فلما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن أبى فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا» (¬1). رواه أبو داود. قال أحمد: وهو عندي صالح. وأما كونه يستتاب ثلاثاً إذا لم يمكن أخذها منه فلأن الزكاة أحد مباني الإسلام فاستتيب تاركها ثلاثاً كتارك الصلاة. وأما كونه يقتل إذا لم يتب ويُخْرِج فلعموم ما تقدم من الحديث وقول أبي بكر الصديق. وأما كون الزكاة تؤخذ من تركته بعد قتله فلأن القتل لا يسقط ما عليه من دين الآدمي فكذا الزكاة. وأما كون من قاتل عليها لا يكفر وهو ظاهر كلام المصنف هنا ورواية عن الإمام أحمد فلأن الصحابة رضي الله عنهم لما امتنعوا من قتال مانعي الزكاة لم يعتقدوا كفرهم واتفاقهم بعد على قتالهم لا يستلزم الكفر فبقي على ما كان عليه. وأما كونه يكفر على قول بعض أصحابنا وهو رواية عن الإمام أحمد فلأن الله تعالى قال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11] جعلهم إخواننا في الدين إذا آتوا الزكاة فدل على أنهم إذا لم يؤتوها لا يكونون كذلك. ولأن أبا بكر الصديق قال لمانعي الزكاة: «لا حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار» (¬2). قال القاضي: الصحيح من المذهب أنه لا يكفر بشيء من العبادات سوى الصلاة لأن النيابة فيها متعذرة بخلاف غيرها. ولأن الزكاة المقصود الكلي منها دفع حاجة الفقير وهو حاصل بأدائها مع القتال. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1575) 2: 101 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 335 كتاب الأشربة، باب قتال أهل الردة وما أصيب في أيديهم من متاع المسلمين.

قال: (وإن ادعى ما يمنع الزكاة من نقصان الحول أو النصاب أو انتقاله عنه في بعض الحول ونحوه قبل قوله من غير يمين. نص عليه). أما كون مدعي ذلك يقبل قوله فلأنه ادعى دعوى يعضدها الأصل لأن الأصل براءة ذمته من الزكاة. وأما كون ذلك من غير يمين فلأن الزكاة عبادة وحق لله فلم يستحلف عليها كالصلاة. قال: (والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما). أما كون ولي الصبي يخرج عنه الزكاة من ماله فلأن الزكاة تجب في ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتجروا في أموال اليتامى كيلا تأكلها الصدقة» (¬1) أخرجه الترمذي. وفي إسناده مقال. وروي موقوفاً على عمر (¬2). ولأن الزكاة وجبت مواساة والصبي من أهل المواساة ولهذا تجب عليه نفقة قريبه، ويعتق عليه ذو رحمه ليخرج عنه زكاة الفطر والعشر، وإذا كانت الزكاة تجب في ماله تعين الإخراج على الولي لأن الصبي غير مكلف والولي ينوب عنه في قضاء دين الآدمي فكذلك في زكاته. وأما كون ولي المجنون يخرج عنه الزكاة من ماله فلأنه كالصبي معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. قال: (ويستحب للإنسان تفرقة زكاته بنفسه، وله دفعها إلى الساعي، وعنه: يستحب أن يدفع إليه العشر ويتولى هو تفريق الباقي، وعند أبي الخطاب دَفْعُها إلى الإمام العادل أفضل). أما كون الإنسان يستحب له تفرقة زكاته بنفسه على المذهب فلأنه إذا دفعها بنفسه كان على ثقة من دفعها إلى مستحقها. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (641) 3: 32 كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة مال اليتيم. فيه المثنّى بن الصّبّاح يُضعَّف في الحديث. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (4) 2: 110 كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة في مال الصبي واليتيم. وأخرجه مالك في الموطأ (12) 1: 215 كتاب الزكاة، باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها.

وأما كونه له دفعها إلى الساعي فلما روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: «أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال وأريد إخراج زكاته وهؤلاء اليوم على ما ترى فما تأمرني؟ فقال: ادفعها إليهم. فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد فقالوا مثل ذلك» (¬1) رواه سعيد. ولأنه نائب عن مستحقها فجاز الدفع إليه كولي اليتيم. وأما كونه يستحب أن يدفع العشر إلى الساعي ويفرق الباقي بنفسه على روايةٍ فلأن العلماء اختلفوا في العشر هل هو زكاة أو غيرها وغير الزكاة لا يتولاه الإمام أو نائبه ففي دفع العشر إلى الساعي خروج من الخلاف المذكور بخلاف غيره. وأما كون دفعها إلى الإمام العادل أفضل على قول أبي الخطاب فلأنه أعلم بالمصارف، والدفع إليه أبعد من التهمة، ويبرأ به ظاهراً وباطناً. قال: (ولا يجوز إخراجها إلا بنية، إلا أن يأخذها الإمام منه قهراً. وقال أبو الخطاب: لا تجزئه أيضاً من غير نية؛ وإن دفعها إلى وكيله اعتبرت النية من الموكِّل دون الوكيل). أما كون إخراج الزكاة من غير نية إذا لم يأخذها الإمام منه قهراً لا يجوز والمراد به لا يجزئ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات» (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس للمرء من عمله إلا ما نواه» (¬3). ولأن الزكاة أحد مباني الإسلام فافتقر إلى النية كالصلاة. ولأنها عبادة محضة أشبهت الصوم. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10189) 2: 384 كتاب الزكاة، من قال: تدفع الزكاة إلى السلطان. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1) 1: 3 باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1907) 3: 1515 كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية». (¬3) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن أنس مرفوعا: «لا عمل لمن لا نية له» 1: 41 كتاب الطهارة، باب الاستياك بالأصابع.

والأولى أن تقارن الدفع فإن تقدمت بزمن يسير فلا بأس قياساً على الصلاة. وأما كونها تجزئ من غير نية إذا أخذها الإمام منه قهراً على المذهب فلأنها تؤخذ من الممتنع فلو لم تُجز عنه لما أخذت منه. وأما كونها لا تجزئه أيضاً من غير نية فلأن الساعي إن كان نائبه فلا بد من نية رب المال لأنه الموكل، وإن كان نائب الفقراء لم تبرأ ذمة رب المال لأنه (¬1) [لو أخذها الفقير منه بغير نية لم تبرأ، فكذلك إذا أخذها وكيله. وأما] (¬2) كون النية تفتقر في الموكل دون الوكيل إذا دفع الزكاة إلى وكيله فلأن الموكل هو الذي وجبت عليه الزكاة فاعتبرت نيته دون غيره. وقال القاضي وابن عقيل: هذا مع قرب الزمن فإن بعد فلا بد من نية الوكيل أيضاً لأن الوكيل إذا لم ينو يحصل الأداء من غير نية قريبة ولا مقارنة. وهذا بخلاف الساعي فإنه لو نوى رب المال دون الساعي أجزأ بَعُدَ الزمان أو قَرُب والفرق بينهما أن الساعي وكيل الفقراء بخلاف الوكيل بدليل أن الساعي لا يلزم رب المال بدلها إذا تلفت في يده وأن الوكيل يلزم رب المال بدلها إذا تلفت في يده. قال: (ويستحب أن يقول عند دفعها: اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً، ويقول الآخذ: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً). أما كون الدافع يستحب أن يقول عند دفع الزكاة: اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً؛ فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً» (¬3) أخرجه ابن ماجة. ولأن ذلك دليل على الإخلاص وطيب النفس بأدائها. وأما كون الآخذ يستحب أن يقول: آجرك الله إلى آخره فلأنه دعاء للدافع وذلك مأمور به لأن الله تعالى قال: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} [التوبة: 103] أي ادع لهم. ¬

_ (¬1) في ب لأنها. (¬2) ساقط من ب. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (1797) 1: 573 كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة. قال في الزوائد: في إسناده الوليد بن مسلم الدمشقي، وكان مدلساً، والبختري متفق على ضعفه.

وعن عبدالله بن أبي أوفى قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى» (¬1) رواه النسائي وأبو داود. قال: (ولا يجوز نقلها إلى بلد تقصر إليه الصلاة، فإن فعل فهل تجزئه؟ على روايتين. إلا أن يكون في بلد لا فقراء فيه فيفرقها في أقرب البلاد إليه). أما كون نقل الصدقة إلى بلد تقصر إليه الصلاة لا يجوز فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «أعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» (¬2). وجه الحجة: أن الضمير في أغنيائهم عائد إلى أهل اليمن فكذلك الضمير في فقرائهم وذلك يقتضي أن لا ينقل إلى غيرهم. فإن قيل: الحديث لا يقتضي منع النقل إلى بعض بلاد اليمن فلا يتم المقصود؟ قيل: إذا ثبت أنه لا يجوز النقل إلى غير اليمن ثبت أنه لا يجوز النقل إلى بلد بعيد من موضع وجوب الزكاة من بلد اليمن لعدم القائل بالفرق. وأما كون من فعل ذلك وفي بلد الزكاة فقراء يجزئه على روايةٍ وهي اختيار أبي الخطاب فلقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة: 60] والمدفوع إليهم فقراء. وأما كونه لا يجزئه على روايةٍ فلأنه حق واجب لأصناف بلد فلم يجز إعطاؤه لغيرهم كالوصية لأصناف بلد. وأما كون من فعل ذلك ولا فقراء في بلد الزكاة يجزئه فلما روي «أن معاذاً بعث إلى عمر صدقة من اليمن فأنكر عمر ذلك وقال: لم أبعثك جابياً ولا آخذ جزية ولكن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5998) 5: 2339 كتاب الدعوات، باب هل يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1078) 2: 756 كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقة. وأخرجه أبو داود في سننه (1590) 2: 106 كتاب الزكاة، باب دعاء المصدق لأهل الصدقة. وأخرجه النسائي في سننه (2459) 5: 31 كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام على صاحب الصدقة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1796) 1: 572 كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد في فقرائهم فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني» (¬1) رواه أبو عبيد في الأموال. وأما كون الزكاة فيما ذكر يفرق في فقراء أقرب البلاد إليه فلأنهم أولى وأقرب. قال: (وإن كان في بلد وماله في آخر أخرج زكاة المال في بلده، وفطرته في البلد الذي هو فيه). أما كون من ذكر يخرج زكاة المال [في بلد المال] (¬2) فلئلا تنقل الصدقة عنه. ولأن المال سبب الزكاة فوجب إخراجها حيث وجد السبب. وأما كونه يخرج فطرته في البلد الذي هو فيه فلأن بدنه سببها فوجب إخراجها حيث وجد سببها. قال: (وإذا حصل عند الإمام ماشية استحب له وسم الإبل في أفخاذها والغنم في آذانها، فإن كانت زكاة كتب: "لله" أو "زكاة" وإن كانت جزية كتبت: "صغار" أو "جزية"). أما كون الإمام يستحب له وسم الإبل والغنم؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمها» (¬3). ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لتميز عن الضوال، ولترد إلى مواضعها إذا شردت. وأما كون وسم الإبل في أفخاذها فلأنه موضع صلب يقل ألم الوسم فيه وهو قليل الشعر فتظهر السمة. وأما كون وسم الغنم في آذنها فلضعفها عن الوسم في الفخذ. وأما كون الزكاة يكتب فيها: "لله" أو "زكاة" والجزية "صغار" أو "جزية" فلتحصل التفرقة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في الأموال (1911) 528 باب قسم الصدقة في بلدها وحملها إلى بلد سواه ... (¬2) ساقط من ب. (¬3) عن أنس بن مالك قال: «غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ... فوافيتُه في يده المَيسم، يَسمُ إبل الصدقة». أخرجه البخاري في صحيحه (1431) 2: 546 كتاب الزكاة، باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده. وأخرجه مسلم في صحيحه (2119) 3: 1674 كتاب اللباس والزينة، باب جواز وسم الحيوان ... بنحوه. فذكر فيه وسم الإبل وفي آخر الغنم.

فصل [في تعجيل الزكاة] قال المصنف رحمه الله: (ويجوز تعجيل الزكاة عن الحول إذا كمل النصاب، ولا يجوز قبل ذلك. وفي تعجيلها لأكثر من حول روايتان). أما كون تعجيل الزكاة عن حول بعد كمال النصاب يجوز فلما روي «أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في تعجيل الصدقة قبل أن تحل فرخص له» (¬1) رواه أبو داود. ولأنه حق مالي أجل للرفق فجاز تعجيله قبل أجله كالدين. وأما كون تعجيلها قبل كمال النصاب لا يجوز فلأنه سببها فلم يجز تقديمها عليه كالتكفير قبل الحلف. وأما كون تعجيلها لأكثر من حول فيه روايتان فلأن كون النص لم يرد بالتعجيل لأكثر من حول واحد يقتضي المنع لأنها عجلها قبل انعقاد حولها أشبه لو عجلها قبل نصابها، وكون ملك النصاب قد وجد يقتضي الجواز لأنه عجلها بعد سببها. وظاهر كلام المصنف أن الروايتين جاريتان في العام الثالث والرابع وهلم جرا. وليس كذلك لأن أبا الخطاب وصاحب المحرر صرحا بأن الروايتين في الحول الثاني وأنه لا يجوز لأكثر من ذلك لأن العام الثاني قريب الشبه بالأول فيصح إلحاقه به بخلاف ما عداه فيمتنع إلحاقه به. وكذلك أصلح بعض من أذن له المصنف في الإصلاح لأكثر من حول بعامين. قال: (وإن عجلها عن النصاب وما يستفيده أجزأه عن النصاب دون الزيادة، وإن عجل عشر الثمرة قبل طلوع الطلع والحصرم لم يجزئه). أما كون من عجل الزكاة عن النصاب يجزئه عنه فلما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1624) 2: 115 كتاب الزكاة، باب في تعجيل الزكاة.

وأما كونه لا يجزئه عن الزيادة فلأنه عجل زكاة ما ليس في ملكه فلم يجزئه كما لو عجل قبل ملك النصاب. وأما كون من عجل عشر الثمرة قبل طلوع الطلع والحصرم لا يجزئه فلأن الثمرة إن كان لها سبب واحد فالتعجيل إنما يكون فيما له سببان وإن كان لها سببان فالتعجيل هنا يكون قبل السببين وذلك غير جائز. وفي تقييد المصنف رحمه الله عدم الإجزاء قبل طلوع الطلع دليل على أنه يجزئ التعجيل بعده وهو صحيح نقله في الكافي عن أبي الخطاب لأن ظهور الثمرة كملك النصاب، وبدء الصلاح كتمام الحول فجاز تعجيل زكاة ذلك كالتعجيل بعد ملك النصاب وقبل الحول. وظاهر كلام القاضي أنه لا يجوز تعجيل ذلك لأنه يجب بسبب واحد وهو بدء الصلاح فلم يجز تعجيل زكاته لأنه بمنزلة التعجيل على سببيه. قال: (فإن عجل زكاة النصاب فتم الحول وهو ناقص قدر ما عجله جاز، وإذا عجل زكاة المائتين فنتجت عند الحول سخلة لزمه شاة ثالثة). أما كون من عجل زكاة نصاب فتم حوله وهو ناقص قدر ما عجل يجوز فلأن ما عجله حكمه حكم الموجود حقيقة أو تقديراً. وأما كون من عجل زكاة المائتين فنتجت عند الحول يلزمه شاة ثالثة فلما ذكر من أن المعجل حكمه حكم الموجود فيكون ملكه مائتين وواحدة وفرض ذلك ثلاث شياه فإذا أدى اثنتين بقي عليه واحدة. قال: (فإن عجلها فدفعها إلى مستحقها فمات أو ارتد أو استغنى أجزأت عنه، وإن دفعها إلى غني فافتقر عند الوجوب لم تجزئه). أما كون من عجل زكاته فدفعها إلى مستحقها ثم خرج عن الاستحقاق بموت أو ارتداد أو استغناء يجزئ عنه فلأن المعتبر حالة الأداء والمدفوع إليه حينئذ أهل للدفع إليه. ولأن الفقير لو اتجر بما أخذه فاستغنى لم يرجع عليه وفاقاً فكذلك إذا استغنى بغير الصدقة.

وأما كون من دفعها إلى غني فافتقر عند الوجوب لا يجزئه فلأنه لم يدفعها لمستحقها (¬1) لما تقدم من أن المعتبر حالة الدفع. قال: (وإن عجلها ثم هلك المال قبل الحول لم يرجع على المسكين. وقال ابن حامد: إن كان الدافع الساعي أو أعلمه أنها زكاة معجلة رجع عليه). أما كون من ذكر لا يرجع على المسكين إذا هلك المال قبل الحول على المذهب فلأن المعجل صدقة وصلت إلى المسكين بإذن ربها فوجب أن ينقطع حقه عنها كغير المعجلة وكما لو ظن أن عليه زكاة واجبة فبان بخلافه. وأما كون من أعلم المسكين بذلك كمن أطلق على المذهب فلما ذكر من أن الموجب لانقطاع حقه وصول ذلك إلى المسكين بإذنه. وأما كونه يرجع بذلك عليه على قول ابن حامد فلأنه دفعها عما يستحقه القابض في الحال الثاني فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق وجب رده كالأجرة إذا انهدمت الدار قبل السكنى، وكما لو قال: أعتقت هذا العبد عن كفارة يميني التي لم أحنث فيها بعد فيئس من الحنث فيها، أو عن كفارة القتل بعد الجرح فاندمل الجرح ولم يمت المجروح. وأما كون الرجوع مختصاً بكون الدافع الساعي، أو بكون الدافع أعلم المسكين أنها زكاة معجلة فلأنه إذا انتفى كل واحد منهما يتهم رب المال في دعواه ذلك لمخالفته الظاهر، والمتهم لا يرجع بما يتهم فيه. ¬

_ (¬1) في ب: فلأنه دفعها إلى غني مستحقها.

باب ذكر أهل الزكاة

باب ذكر أهل الزكاة أهل الزكاة: هم الذين جعلهم الشرع محلاً لدفع الزكاة إليهم. قال المصنف رحمه الله: (وهم ثمانية أصناف: الفقراء وهم: الذين لا يجدون ما يقع موقعاً من كفايتهم. الثاني: المساكين وهم: الذين يجدون معظم الكفاية). أما كون الأصناف وهم جمع صنف ثمانية لا غير فلقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} [التوبة: 60] ذكر ذلك بلفظ: {إنما} وهي للحصر. وفي الحديث: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطني هذه الصدقة فقال: إن الله لم يرض في قسمتها بنبي مرسل ولا ملك مقرب حتى قسمها بنفسه فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» (¬1) رواه أبو داود. وأجمع أهل العلم على أنه لا يجوز دفعها إلى غير الأصناف الثمانية التي نص الله تعالى عليها. وأما كون الفقراء منها فلأن الله تعالى ذكرهم في الآية وبدأ بهم. وأما كونهم هنا غير المساكين فلأن الله تعالى عطف أحدهما على الآخر، والعطف دليل على التغاير. وأما كونهم هم الذين لا يجدون ما يقع موقعاً من كفايتهم فلأنهم أسوأ حالاً من المساكين لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر وسأل المسكنة فقال: «اللهم أحْيِنِي مِسكيناً وأمِتْنِي مِسكيناً واحْشُرني في زُمْرةِ المساكين» (¬2) رواه الترمذي. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1630) 2: 117 كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة؟ وحد الغني. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (2352) 4: 577 كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم. قال الترمذي: حديث غريب.

ولولا أن الفقر أشد لما استعاذ منه. ولأن الله تعالى قال: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} [الكهف: 79] فسماهم مساكين ولهم سفينة. فعلى هذا يجب أن يكون الفقير مَن لا شيء له أصلاً ولا صنعة له، أو أن صنعته لا تقع موقعاً من كفايته. ومثّله القاضي بأن يكون حاجته في كل يوم إلى عشرة دراهم وله درهمان، ومثّله الخرقي بالمكفوف والزَّمِن، ويجب أن يكون المسكين هو الذي يجد ما يقع موقعاً من كفايته لأنه أحسن حالاً منه. قال: (ومن ملك من غير الأثمان ما لا يقوم بكفايته فليس بغني وإن كثرت قيمته، وإن كان من الأثمان فكذلك في إحدى الروايتين، والأخرى إذا ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب فهو غني). أما كون من ملك من غير الأثمان ما لا يقوم بكفايته ليس بغني فلأنه لا كفاية له فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث قبيصة: «فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو سداداً من عيش» (¬1) والسداد الكفاية. وأما كون من ملك من الأثمان ما لا يقوم بكفايته كذلك في رواية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الكفاية غاية لحل المسألة ولم توجد الكفاية فيما ذكر. وأما كون من ملك خمسين درهماً وقيمتها من الذهب عيناً في رواية فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل: يا رسول الله! وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب» (¬2) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1044) 2: 722 كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة. وأخرجه أبو داود في سننه (1640) 2: 120 كتاب الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1626) 2: 116 كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة؟ وحد الغني.

وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهماً» (¬1) رواه الدارقطني. فإن قيل: ما الصحيح من الروايتين؟ قيل: الأولى عند المصنف وأبي الخطاب لما تقدم من الحديث الأول، والثانية هي المذهب لما تقدم من الحديث الثاني. قال: (الثالث: العاملون عليها وهم الجباة لها والحافظون لها. ويشترط أن يكون العامل مسلماً أميناً من غير ذوي القربى، ولا يشترط حريته ولا فقره. وقال القاضي: لا يشترط إسلامه ولا كونه من غير ذوي القربى. وإن تلفت الزكاة في يده من غير تفريط أعطي أجرته من بيت المال). أما كون العاملين من الأصناف الثمانية فلأن الله تعالى ذكرهم منها. وأما قول المصنف رحمه الله: وهم الجباة لها؛ فبيان للمراد بهم، ويدخل فيهم الحفظة لها والحساب وما أشبه ذلك؛ لأنهم داخلون في مسمى العامل وقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي من الزكاة من هذا شأنه». وأما كون العامل يشترط أن يكون مسلماً على المذهب فلقوله تعالى: {لا تتخذوا بطانة من دونكم} [آل عمران: 118]، وقوله تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1]، وقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء: 141]. ولأنه يفتقر إلى العلم بالنصب ومقادير الزكاة وقبول قولهم في المأخوذ منه، والكافر ليس من أهل ذلك، وقد روي «أن أبا موسى اتخذ عاملاً نصرانياً. فقال عمر: لا تؤمنوهم حيث خونهم الله، ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله» (¬2). ولأنه منصب شريف لأحد أركان الإسلام فلم يناله الكافر كالمناصب الشرعية. وأما كونه يشترط أن يكون أميناً؛ فلئلا يخون في مال المسلمين. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (3) 2: 121 كتاب الزكاة، باب الغنى التي يحرم السؤال. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 127 كتاب آداب القاضي، باب لا ينبغي للقاضي ولا للوالي أن يتخذ كاتباً ذمياً ...

وأما كونه يشترط أن يكون من غير ذوي القربى على المذهب فـ «لأن الفضل بن عباس والمطلب بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه العمالة على الصدقات، فقال: إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» (¬1). وأما كونه لا يشترط حريته ولا فقره فلأن ما يأخذه أجرة والعبد والغني يجوز استئجارهما. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر عاملاً» وكان غنياً. وأما كونه لا يشترط إسلامه ولا كونه من غير ذوي القربى على قول القاضي فلما ذكر من أن ما يأخذه أجرة فجاز أن يتولاها الكافر وذوو القربى كجباية الخراج. والحديث في ذوي القربى محمول على التنزيه. وأما كونه يعطى أجرته من بيت المال إذا تلفت الزكاة في يده من غير تفريط فلأنه استحق بعمله ما شرط له فإذا تعذر دفعه من مال الزكاة وجب من بيت المال. قال: (الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم السادة المطاعون في عشائرهم ممن يرجى إسلامه، أو يخشى شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه (¬2)، أو إسلام نظيره، أو جباية الزكاة ممن لا يعطيها، أو الدفع عن المسلمين، وعنه: أن حكمهم انقطع). أما كون المؤلفة قلوبهم من الأصناف الثمانية فلأن الله تعالى ذكرهم في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم} [التوبة: 60]. وأما كون حكم المسلمين منهم باقياً فلأن الآية تشملهم ولا معارض له فوجب كونه باقياً عملاً بمقتضيه السالم عن المعارض. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1072) 2: 753 كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة. وأخرجه أبو داود في سننه (2985) 3: 147 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى. وأخرجه النسائي في سننه (2609) 5: 105 كتاب الزكاة، باب استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة. وأخرجه أحمد في مسنده (17554) 4: 166. (¬2) في ب: إسلامه.

وأما كونه انقطع على روايةٍ فلما روي «أن مشركاً جاء يلتمس من عمر مالاً فلم يعطه وقال: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». ولم ينقل عن عمر ولا عثمان ولا علي أنهم أعطوا شيئاً من ذلك. ولأن الله تعالى أظهر الإسلام وقمع الشرك فلا حاجة إلى التأليف. والأول هو المشهور في المذهب؛ لما تقدم من قوله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم} [التوبة: 60] وسورة براءة آخر ما نزل، وروى قتادة في تفسيره «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي المؤلفة من الكفار من الزكاة لأنه كان يرجو إسلامهم منهم العباس بن مرداس والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن» (¬1). وأما قول المصنف رحمه الله: وهم السادة ... إلى آخره؛ فبيان لأصناف المؤلفة قلوبهم وهم ضربان: كفار ومسلمون، والكفار ضربان: من يرجى إسلامه فيعطى لتقوى نيته في الإسلام وتميل نفسه إليه فيسلم «لأن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أعطى صفوان بن أمية الأمان واستنظره صفوان أربعة أشهر لينظر في أمره وخرج معه إلى حنين فلما أعطى العطايا قال صفوان: ما لي؟ فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى واد فيه إبل محملة. فقال: هذا لك. فقال صفوان: هذا عطاء من لا يخشى الفقر». الضرب الثاني: من يخشى شره ويرجى بعطيته كف شره فيعطى لما روي عن ابن عباس «أن قوماً كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فإن أعطاهم مدحوا الإسلام وإن منعهم ذموا». والمسلمون أربعة أضرب: - قوم يرجى بعطيتهم قوة إيمانهم ومناصحتهم في الجهاد فيعطون كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عطاء سفيان والأقرع وعيينة (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد قال: «بعث علي رضي الله تعالى عنه وهو باليمن بِذَهَبيةٍ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر: الأقْرَعُ بن حابِس الحنْظَلي، وعُيَيْنَة بن بدر الفَزَارِي، وعَلْقَمَة بن عُلاثَةَ العامِري، ثم أحد بني كِلاَب، وزَيد الخير الطَائِي، ثم أحد بني نَبْهَان، فغضبت قريش وقالوا: تعطي صَنَادِيدَ نجد وتدَعَنا، فقال: إني إنما فعلت ذلك لأَتَأَلَّفَهُم». (3166) 3: 1219 كتاب الأنبياء، باب قول الله عز وجل: {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1064) 2: 741 كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم. (¬2) سبق ذكره قريباً.

و «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً فيقول سعد بن أبي وقاص: أعط فلاناً فإنه مؤمن. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أوْ مُسلم ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحبُّ إليَّ مَخافةَ أن يَكُبَّهُ الله في النار» (¬1). - الثاني: قوم سادات من المسلمين لهم نظراء من المشركين إذا أعطوا [رغب نظرائهم في الإسلام فهؤلاء يعطون «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى] (¬2) عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر» مع ثباتهما في الإسلام وحسن نيتهما فيه. - الثالث: قوم إذا أعطوا أجبوا الزكاة ممن لا يعطيها إلا أن يخاف. - الرابع: قوم في طريق بلاد الإسلام إذا أعطوا دفعوا عمن يليهم من المسلمين فيعطون لدخولهم في اسم المؤلفة. قال: (الخامس: الرقاب. وهم المكاتبون. ويجوز أن يفدى بها أسيراً مسلماً. نص عليه. وهل يجوز أن يشتري منها رقبة يعتقها؟ على روايتين). أما كون الرقاب من الأصناف الثمانية؛ فلأن الله تعالى ذكرهم في الآية المتقدمة فقال: {وفي الرقاب} [التوبة: 60]. وأما كون الرقاب هم المكاتبون؛ فلأن لفظ الرقاب يشملهم بدليل ما لو قال: أعتقت رقابي فإنه يعتق مكاتبوه، وقد قال الله تعالى: {فكاتبوهم -إلى قوله تعالى-: وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33]. ولأنه ممن يملك المال على سيده ويصرف إليه أرش جنايته فكان له أخذ الزكاة كالغريم. ولأنه مدين أشبه الغارم. وأما كون المزكي يجوز أن يفدي بالزكاة أسيراً مسلماً على المنصوص؛ فلأنه فك رقبة من الأسر أشبه فك رقبة المكاتب نفسه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (27) 1: 18 كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل. وأخرجه مسلم في صحيحه (150) 1: 132 كتاب الإيمان، باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه ... (¬2) ساقط من ب.

ولأن الحاجة داعية إلى ذلك [فإنه] (¬1) لا يؤمن عليه القتل أو الردة وهو محبوس في أيديهم أشد من حبس القن في الرق. ولأن فيه إعزاز الدين فهو كصرفه إلى المؤلفة قلوبهم. وأما كونه يجوز أن يشتري من الزكاة رقبة يعتقها على روايةٍ فلدخوله في قوله عز وجل: {وفي الرقاب} [التوبة: 60] بل هو ظاهر فيه لأن الرقبة إذا أطلقت انصرفت إليه كقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [النساء: 92] وتقدير الآية وفي إعتاق الرقاب. ولأنه إعتاقٌ للرقبة فجاز صرف الزكاة فيه كدفعه في الكتابة. وأما كونه لا يجوز على روايةٍ فلأن الآية تقتضي الدفع إلى الرقاب كقوله: {وفي سبيل الله} [التوبة: 60] المراد به الدفع إلى المجاهدين والدفع إلى العبد لا يمكن لأنه لا يلزم منه فك الرقبة. قال: (السادس: الغارمون وهم المدينون، وهم ضربان: ضرب غَرِم لإصلاح ذات البين، وضرب غَرِم لإصلاح نفسه في مباح). أما كون الغارمين من الأصناف الثمانية؛ [فلأن الله تعالى ذكره في الآية المتقدم ذكرها فقال: {والغارمين} [التوبة: 60]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة: «أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» (¬2) رواه مسلم. وكان غارماً. وأما كون الغارمين هم المدينين فلأن الغارم في اللغة: المدين. ذكره الجوهري. وأما انقسام الغارم إلى ضربين فلأن ضرباً غَرِم لإصلاح ذات البين وهو من تحمّل دية قتيل لإطفاء الفتنة وتسكين ثائرة القتال بين طائفتين. وفي الحديث عن قبيصة: «قال: تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة فيسأل حتى يؤديها ثم يمسك ... مختصر» (¬3). ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1044) 2: 722 كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1640) 2: 120 كتاب الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة.

وضرباً غرم لإصلاح نفسه في مباح وهو من استدان في نفقة نفسه أو عياله أو كسوتهم أو نحو ذلك وكلاهما داخل في عموم قوله: {والغارمين} [التوبة: 60]. وقول المصنف رحمه الله: في مباح؛ تنبيه على أن من استدان وصرفه في معصية؛ كشرب الخمر والزنا ونحوهما لا يدفع إليه. وسيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى (¬1). قال: (السابع: في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم. ولا يعطى منها في الحج. وعنه: يعطى الفقير ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه). أما كون سبيل الله من الأصناف الثمانية؛ فلأن الله تعالى ذكره في الآية المتقدمة فقال: {وفي سبيل الله} [التوبة: 60]. وأما كون السبيل هم الغزاة فلأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو، قال الله تعالى: {قاتلوا في سبيل الله} [آل عمران: 167]، وقال تعالى: {يجاهدون في سبيل الله} [المائدة: 54] وذكر ذلك في غير موضع من كتابه. فعلى هذا يعطون ما يشترون به السلاح والدواب وما يحتاجون إليه من نفقة ونحو ذلك. وأما كون الغزاة من لا ديوان لهم؛ فلأن من له ديوان يستغني بديوانه عن أخذ الزكاة. وأما الإعطاء منها في الحج ففيه روايتان: أحدهما: لا يعطى منها فيه لأن السبيل عند الإطلاق ينصرف إلى الجهاد. ولأن كلما في القرآن ذكر سبيل الله فالمراد به الجهاد فوجب حمل هذه الآية على ذلك. والرواية الثانية: يعطى فيه لأنه من السبيل؛ لما روي «أن رجلاً جعل ناقة في سبيل الله فأرادت امرأته الحج. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اركبيها فإن الحج من سبيل الله» (¬2). وعن ابن عمر قال: «الحج من سبيل الله». ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرج أحمد في مسنده عن أم معقل الأسدية «أن زوجها جعل بكراً في سبيل الله وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأمره أن يعطيها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحج والعمرة في سبيل الله» (27326) 6: 406.

وهذه الرواية هي أصح الروايتين. قاله القاضي. وظاهر كلام المصنف رحمه الله: أن الصحيح أنه ليس من السبيل ولذلك قدم أنه لا يعطى فيه. وقال في المغني: الرواية الثانية أحسن يعني كونه ليس من السبيل لأن سبيل الله عند الإطلاق لا يتناول إلا الغزو. ولأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين: إما محتاج كفقير ومسكين ومكاتب وغارم، وإما من يحتاج إليه المسلمون كعامل وغاز وغارم لإصلاح ذات البين، والحاج لا نفع للمسلمين فيه ولا يحتاج صاحبه إليه لأنه إنما يدفع إليه مع الفقر، والفقير لا فرض في ذمته فيسقط، وإن أراد التطوع به فتوفير ما يحج به على ذوي الحاجات من سائر الأصناف أولى. قال: (الثامن: ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به دون المنشئ للسفر من بلده، فيعطى قدر ما يصل به إلى بلده). أما كون ابن السبيل من الأصناف الثمانية] (¬1)؛ فلأن الله تعالى ذكره في الآية المتقدم ذكرها فقال: {وابن السبيل} [التوبة: 60]. وأما كون ابن السبيل هو المسافر المنقطع به دون المنشئ للسفر من بلده فلأن السبيل الطريق وإنما سمي ابن السبيل بذلك لملازمته الطريق، كما يقال للطائر: ابن الماء لملازمته له، وإذا كان كذلك وجب أن يكون ابن السبيل مسافراً لا منشئاً لأن المنشئ للسفر يصير ابن سبيل في ثاني الحال بخلاف الأول فإنه ابن سبيل في الحال، فالاسم لا يتناول المنشئ حقيقة فلا يكون مراداً لأن الأصل إرادة الحقيقة. ولأنه لا يفهم من ابن السبيل إلا الغريم دون من هو في وطنه وإن انتهت به الحاجة غايتها فوجب أن يحمل الاسم عليه. وأما كون ما يعطى قدر ما يصل به إلى بلده فلأنه إنما جاز له الأخذ من الزكاة ليتوصل إلى بلده فلا يجوز أن يأخذ أكثر مما يدفع به ذلك، كما لا (¬2) يجوز أن يأخذ الفقير أكثر مما يدفع به فقره. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) ساقط من ب.

قال: (ويعطى الفقير والمسكين ما يغنيه، والعامل قدر أجرته، والمكاتب والغارم ما يقضيان به دينهما، والمؤلف ما يحصل به التأليف، والغازي ما يحتاج إليه لغزوه وإن كثر، ولا يزاد أحد منهم عن ذلك. ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم). أما كون الأصناف المذكورة يعطون ما ذكر فلأن من جاز دفع الزكاة إليه لمعنى جاز أن يعطى ما دام ذلك المعنى موجوداً فيه لأن السبب المجوز للأخذ باق فيترتب عليه ما يقتضيه. وأما كونهم لا يزاد أحد منهم عن ذلك فلأن الإعطاء هنا لمعنى فمتى زال ذلك المعنى لم يجز إعطاؤه بذلك السبب لأن الحكم ينتفي لانتفاء سببه. فعلى هذا الفقير والمسكين يعطيان قدر كفايتهما لأن عدم الكفاية هو المجوز فقدر بقدره. وقول المصنف رحمه الله: ما يغنيه؛ يحتمل أن مراده ما يكفيه، ويحتمل أن يكون نبه على جواز الدفع ولو صار به غنياً، كمن يدفع له خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب أو قدر الكفاية على اختلاف الروايتين فيما يحصل به الغنى؛ لأن المانع من أخذ الزكاة الغنى وحين الدفع لم يكن غنياً. وشرط الخرقي: أن يكون المدفوع لا يخرج المدفوع إليه إلى الغنى. فعلى هذا لا يجوز أن يدفع إليه خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب أو قدر الكفاية جملة واحدة لأن الغنى لو سبق الدفع لم يجز فكذلك إذا قارن كالجمع بين الأختين. والعامل أجرة عمله لأن السبب المجوز لأخذه عمله فوجب أن يتقدر بمقدار أجرته. والمكاتب والغارم ما يقضيان به دينهما لأن السبب المجوز فيهما الدين فوجب أن يتقدر بالوفاء. والمؤلف: ما يحصل به التأليف لأن سببه التأليف فيقدر به. والغازي: ما تندفع به حاجته من مركوب وسلاح ونحو ذلك لأن سببه ذلك فيقدر به.

وصرح المصنف رحمه الله بقوله: وإن كثر لئلا يتوهم أنه لا يجوز أن يكون قدر نصاب لأن سبب الدفع في ذلك الحاجة إلى ما ذكر فوجب أن يعطى ما بقي السبب عملاً بمقتضاه. وأما كون من له عيال يأخذ ما يكفيهم فلأن الحاجة داعية إلى إزالة حاجتهم كلهم فجاز الأخذ لهم كلهم كالأخذ لنفسه. قال: (ولا يعطى أحد منهم مع الغنى إلا أربعة: العامل، والمؤلف، والغارم لإصلاح ذات البين، والغازي). أما كونه لا يعطى أحد ممن ذكر مع الغنى غير الأربعة المذكورة فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (¬1)، وقوله: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وأما كون العامل والغارم والغازي يجوز أن يعطوا مع الغنى فلما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله ولعامل عليها أو لغارم ... مختصر» (¬3) رواه أبو داود. وأما كون المؤلفة قلوبهم يجوز أن يعطوا مع الغنى فلأن إعطائهم لمعنى يعم منفعة المسلمين أشبه الغازي. قال: (فإن فَضَل مع الغارم والمكاتب والغازي وابن السبيل شيء بعد حاجتهم لزمهم رده. والباقون يأخذون أخذاً مستقراً فلا يردون شيئاً. وظاهر كلام الخرقي في المكاتب: أنه يأخذ أيضاً أخذاً مستقراً). أما كون الغارم والغازي وابن السبيل يردون ما فضل عن حاجتهم فلأن السبب زال فيجب رد الفاضل لزوال السبب. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1633) 2: 117 كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغني. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (652) 3: 42 كتاب الزكاة، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1637) 2: 119 كتاب الزكاة، باب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني.

فعلى هذا لو أخذ الغارم شيئاً فوفى غرمه وبقي معه فضلة ردها، [ولو أخذ الغازي ففضلت فضلة بعد غزوه ردها، ولو أخذ ابن السبيل] (¬1) ففضلت فضلة بعد بلوغه بلده ردها؛ لأن ذلك كله فاضل عن حاجتهم. وأما كون المكاتب يلزمه رد ما فضل بعد كتابته على المذهب فلزوال السبب الذي أخذ من أجله. وأما كونه لا يرد على قول الخرقي فلأنه عند أخذه فقير أشبه الفقير. قال: (وإن ادعى الفقر من عرف بالغنى، أو ادعى إنسان أنه مكاتب أو غارم أو ابن سبيل لم يقبل إلا ببينة. وإن صدق المكاتب سيده والغارم (¬2) غريمه فعلى وجهين). أما كون من عرف بالغنى إذا ادعى الفقر، وكون الإنسان إذا ادعى أنه مكاتب أو غارم أو ابن سبيل لا يقبل قوله مع عدم البينة فلأنه قول يخالف الظاهر. وأما كون المكاتب إذا صدقه سيده [والغارم إذا صدقه غريمه لا يقبل لأن السيد] (¬3) والغريم متهمان في ذلك. وأما كونه يقبل على وجهٍ فلأن الحق في العبد للسيد فإذا أقر بالكتابة قبل والغريم في معنى السيد فيقاس عليه. قال: أما كون من لم يعرف بالغنى إذا ادعى الفقر يقبل قوله فلأن الظاهر صدقه. ولأن الأصل استصحاب حال الإنسان فإذا لم يكن معروفاً بالغنى اقتضى الاستصحاب عدم الحكم عليه بالغنى. وأما كون من رآه جلداً وذكر أنه لا كسب له يعطيه من غير يمين بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب فلما روى عبيدالله بن عدي بن الخيار «أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الصدقة فسألاه شيئاً فصَعّد فيهما البصر فرآهما جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (¬4) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) في ب: أو الغارم. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1633) 2: 117 كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغني.

قال: (وإن ادعى أن (¬1) له عيالاً قلد وأعطي، ويحتمل أن لا يقبل ذلك إلا ببينة). أما كون من ذكر يقلد ويعطى على المذهب فلأنه يقلد ويعطى في حاجة نفسه فكذلك في وجود عياله. وأما كونه يحتمل أن لا يقبل ذلك إلا ببينة فلأن الأصل عدم العيال ولا يتعذر عليه إقامة البينة عليهم. قال: (ومن غَرِم أو سافر في معصية لم يدفع إليه فإن تاب فعلى وجهين). أما كون من غَرِم في معصية ولم يتب كمن استدان شيئاً فصرفه في شراء خمر أو زنا ونحو ذلك، وكون من سافر في معصية كالمسافر إلى بلده قاصداً قطع الطريق أو لشرب الخمر أو للزنا ونحو ذلك لا يدفع إليه شيء من الزكاة فلأن الدفع إليهما إعانة لهما على المعصية وذلك غير جائز. وأما كونهما يدفع إليهما مع التوبة على وجه قاله القاضي فلأن إيفاء الدين واجب وليس بمعصية والإعانة على الواجب قربة لا معصية. أشبه من صرف ماله في المعاصي حتى افتقر ثم تاب فإنه يصرف إليه لفقره، والغارم في معصية وابن السبيل المسافر في المعصية مثله فيلحق له. وأما كونهما لا يدفع إليهما على وجه؛ فلأنهما متهمان في إظهار التوبة. ولأنه لا يؤمن أن يعودا إلى ما كانا عليه. بخلاف من أتلف ماله فيها فإنه يعطى للحاجة في الحال. قال: (ويستحب صرفها في الأصناف كلها، فإن اقتصر على إنسان واحد أجزأه. وعنه: لا يجزئه إلا ثلاثة من كل صنف إلا العامل فإنه يجوز أن يكون واحداً). وأما كون صرف الزكاة في الأصناف كلها يستحب؛ فلأن في ذلك خروجاً من الخلاف وتعداداً للأشخاص المختلفين من الجنس وتعميماً للأصناف اللاتي ذكرها الله تعالى. وأما كون الاقتصار على إنسان واحد من الأصناف الثمانية يجزئ فاعله فهو متضمن أمرين: ¬

_ (¬1) ساقط من ب.

أحدهما: أن الصنف الواحد يجزئه، وفيه روايتان: أحدهما: أنه يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على ذلك فروي أنه قال لقبيصة: «أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» (¬1). والثانية: لا يجزئه؛ لأن الله تعالى قال: {إنما الصدقات للفقراء ... الآية} [التوبة: 60] أضاف من يملك إلى من يملك بلام التمليك وعطف بواو العطف فوجب استيعاب الأصناف الثمانية كما لو وصى لهم. ولأن الإضافة بالتعيين يقتضي التمليك كقولك: هذه الدار لزيد وعمرو فكذلك بالصفة كالوصية للفقراء وابن السبيل. وثانيهما: أن الواحد من الصنف يجزئه: أما في العامل فلا خلاف فيه؛ لأن الحاجة تندفع به. وأما في بقية الأصناف؛ ففيه روايتان: إحداهما: يجزئ واحد قياساً على العامل «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بني بياضة بإعطاء صدقاتهم سلمة بن صخر» (¬2) وهو واحد. والثانية: لا بد من الصرف إلى ثلاثة من كل صنف لأن الله تعالى قال: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60] وذلك جمع وأقل الجمع ثلاثة. والصحيح في المذهب أنه لا يجب تعميم الأصناف لما تقدم. ولأنه لا يجب تعميم كل صنف بالاتفاق. وقد ذكر الله صرفها إلى صنف واحد في آية أخرى فقال تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]. و«قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» (¬3) فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفاً واحداً. ولأن إيجاب تعميم الأصناف يعسر وذلك منتف شرعاً قال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2213) 2: 265 تفريع أبواب الطلاق، باب في الظهار. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (ويستحب صرفها إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤونتهم، ويفرقها فيهم على قدر حاجتهم). أما كون صرف الزكاة إلى أقاربه الذين لا يلزمه مؤونتهم يستحب فلأن الصدقة على القريب صدقة وصلة لما يأتي بعد. وأما كون تفريقها فيهم على قدر حاجتهم يستحب فلأن اعتبار الحاجة أبلغ وأحسن في غير القرابة ففي القرابة أولى. قال: (ويجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه وإلى غريمه). أما كون دفع السيد زكاته إلى مكاتبه يجوز فلقوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33]. ولأنه قد صار كالأجنبي في باب المعاملة بدليل أنه يجزئ بينهما حكم الربا. ولأن الدفع تمليك وهو أهل لذلك. وأما كون دفع زكاته إلى غريمه يجوز فلأنه شخص يجوز للغير دفع الزكاة إليه فجاز لمن ذكر دفعها إليه بالقياس على الغير. فإن قيل: الفرق بينه وبين الغير ظاهر؟ قيل: لا فرق بينهما إلا أنه يحتمل أن يعيدها إليه من دينه فينتفع بزكاته وذلك لا أثر له؛ لأن ذلك المعنى موجود في المكاتب ولم يؤثر في منع الدفع.

فصل [فيمن لا تدفع الزكاة إليه] قال المصنف رحمه الله: (ولا يجوز دفعها إلى كافر ولا عبد ولا فقيرة لها زوج غني ولا الوالدين وإن علوا ولا الولد وإن سفل ولا إلى الزوجة ولا لبني هاشم ولا مواليهم). أما كون الكافر لا يجوز دفع الزكاة إليه «فلقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: أعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» (¬1). ولأنها مواساة تجب على المسلم فلم تجب للكافر كالنفقة. وأما كون العبد لا يجوز دفع الزكاة إليه فلأنه لا يملك بالدفع إليه، وما يعطاه فهو لسيده فكأنه دفعه إلى سيده. ولأن العبد تجب نفقته على سيده فهو غني بغناه. وأما كون الفقيرة التي لها زوج غني لا يجوز دفع الزكاة إليها فلأنها غنية بغناء زوجها ووجوب نفقتها عليه فهي كالولد يكون غنياً بغناء والده لوجوب نفقته عليه، والجامع بينهما حصول الغنى بوجوب نفقتهما على غني. وأما كون الوالدين وإن علوا والولد وإن سفل والزوجة لا يجوز دفع الزكاة إليهم فلأنهم من عياله تجب نفقتهم عليه ففي دفعها إليهم غنى لهم عن نفقته وترفيه لماله لأنه يعود نفعها (¬2) إليه وبقاء ماله بزكاته فلم يجز كما لو أخذها لنفسه. وأما كون بني هاشم لا يجوز دفع الزكاة إليهم فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس» (¬3) أخرجه مسلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في ب: نفقتها. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1072) 2: 753 كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة.

وعن أبي هريرة قال: «أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كخ كخ ليطرحها وقال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة» (¬1) متفق عليه. وأما كون مواليهم وهم من أعتقه هاشمي لا يجوز دفع الزكاة إليهم فلما روى أبو رافع «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع: اصحبني كَيْمَا تُصيب منها فقال: لا. حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله. فسأله فقال: لا. إنا لا تحل لنا، وإن موالي القوم منهم» (¬2) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ولأنهم ممن يرثه بنو هاشم بالتعصيب فلم يجز دفع الزكاة إليهم كبني هاشم. قال: (ويجوز لبني هاشم الأخذ من صدقة التطوع ووصايا الفقراء والنذر. وفي الكفارة وجهان). أما كون بني هاشم يجوز لهم الأخذ من صدقة التطوع فـ «لأن محمد بن علي رضي الله عنهما كان يشرب من سقاياتٍ بين مكة والمدينة، وقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة». ولأنه يجوز اصطناع المعروف إليهم وهو صدقة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة» (¬3) حديث صحيح. وأما كونهم يجوز لهم الأخذ من وصايا الفقراء والنذر فلأنهما لا يقع عليهما اسم الزكاة والطهرة، ووجوبهما بإيجاب الآدمي أشبها الهبات. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1420) 2: 542 كتاب الزكاة، باب ما يذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1069) 2: 751 كتاب الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1650) 2: 123 كتاب الزكاة، باب الصدقة على بني هاشم. وأخرجه الترمذي في جامعه (657) 3: 46 كتاب الزكاة، باب ما جاء في كراهية الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه النسائي في سننه (2612) 5: 107 كتاب الزكاة، باب مولى القوم منهم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5675) 5: 2241 كتاب الأدب، باب كل معروف صدقة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1005) 2: 697 كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.

وأما كونهم يجوز لهم الأخذ من الكفارة في وجهٍ فلأنها لا تسمى صدقة وسببها حنث الآدمي أشبهت صدقة التطوع. وأما كونهم لا يجوز لهم أخذها في وجهٍ؛ فلأنها طهرة لها مصارف أشبهت الزكاة. قال: (وهل يجوز دفعها إلى سائرمن تلزمه مؤونته من أقاربه أو إلى الزوج أو بني المطلب؟ على روايتين). أما كون غير الوالد وإن علا والولد وإن سفل من سائر أقاربه الذين تلزمه مؤونتهم كأخيه وأخته ونحوهما يجوز دفع الزكاة إليهم على روايةٍ؛ فلأنه تقبل شهادتهم له فجاز الدفع إليهم كالأجانب. وأما كونهم لا يجوز دفع الزكاة إليهم على روايةٍ؛ فلما ذكر في الوالد والولد. وأما كون الزوج يجوز أن تدفع زوجته زكاتها إليه على روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزينب امرأة ابن مسعود: زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم» (¬1). ولأنه لا يلزمها نفقته فلم يحرم عليه زكاتها كالأجنبي. وأما كونها لا يجوز لها ذلك على روايةٍ؛ فلأنه أحد الزوجين فلم يجز الدفع إليه كالآخر. وهذه هي الصحيحة لما ذكر. ولأن الظاهر أن ما يأخذه يعود نفعه عليها فتكون قد قصدت التوسعة عليها بزكاتها وعود النفع إليها وذلك غير جائز. والحديث المراد به صدقة التطوع بدليل أنه ذكر الولد فيه ولا يجوز دفع الزكاة إليه قولاً واحداً. وأما كون بني المطلب يجوز دفع الزكاة إليهم على روايةٍ؛ فلدخولهم في عموم قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء ... الآية} [التوبة: 60] خرج من ذلك بنو هاشم لمعنى يختص بهم فوجب أن يبقى فيمن عداهم على مقتضاه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1393) 2: 531 كتاب الزكاة، باب: الزكاة على الأقارب.

وأما كونهم لا يجوز دفعها إليهم على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد» (¬1)، وبنو هاشم لا يجوز لهم الأخذ فكذا من ساواهم. ولأن حرمان الصدقة حكم يتعلق بقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم فاستوى فيه بنو هاشم وبنو المطلب الذين هم وهم شيء واحد قياساً على سهم ذوي القربى من الخمس. ثم هو بدل الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: «أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس» وبنو المطلب يأخذون من خمس الخمس فلا يجمع لهم بين البدل والمبدل. وهذه هي الصحيحة؛ لأن دليلها يخص بمثله العموم ويوجب إلحاق بني المطلب ببني هاشم، وبنو هاشم لا يجوز لهم الأخذ من الزكاة فكذا بنو المطلب. قال: (وإن دفعها إلى من لا يستحقها وهو لا يعلم ثم علم لم يجزئه، إلا الغني إن ظنه فقيراً في إحدى الروايتين). أما كون من دفع الزكاة إلى من لا يستحقها غير الغني وهو لا يعلم ذلك مثل أن يدفعها إلى كافر لا يعلم كفره أو إلى ذوي القربى ولا يعلم أنهم كذلك أو نحو ذلك لا يجزئه فلأنه دفعها إلى من لا يستحقها مما لا يخفى حاله غالباً فلم يعذر بخطئه كديون الآدميين. وأما كون من دفع الزكاة إلى غني ظنه فقيراً لا يجزئه على روايةٍ فلأن الفقر يعسر الوقوف عليه فاكتفي فيه بالظهور، كما اكتفي في جواز الدفع إليه، وكذلك لما سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة قال: «إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» (¬2) فاكتفى بإخباره عن نفسه فدل على أنه يجزئ وإن كان غنياً في الباطن. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (4137) 7: 130 كتاب قسم الفيء. وأخرجه أحمد في مسنده (16760) 4: 81. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في صدقة التطوع] قال المصنف رحمه الله: (وصدقة التطوع مستحبة، وهي أفضل في شهر رمضان وأوقات الحاجات. والصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة). أما كون صدقة التطوع مستحبة فلأن الله تعالى مدح فاعلها وحثه على إخراجها فقال سبحانه وتعالى: {إن المصدقين والمصدقات ... الآية} [الحديد: 18]. وقال عليه السلام: «ليتصدق الرجل من ديناره، وليتصدق من درهمه، وليتصدق من صاع بره، وليتصدق من صاع تمره» (¬1). وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أطعم مؤمناً جائعاً أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة» (¬2). وأما كونها أفضل في شهر رمضان وأوقات الحاجات فلأن الحسنات تضاعف فيهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من فطر صائماً فله مثل أجره» (¬3) رواه الترمذي وصححه. وفي الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الجود كالريح المرسلة، وأجود ما يكون في شهر رمضان» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (2554) 5: 75 كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة. وأخرجه أحمد في مسنده (18693) ط إحياء التراث. كلاهما من حديث جرير بن عبدالله. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1682) 2: 129 كتاب الزكاة، باب في فضل سقي الماء. وأخرجه الترمذي في جامعه (2449) 4: 633 كتاب صفة القيامة والرقائق والورع. قال الترمذي: حديث غريب. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (807) 3: 171 كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائماً. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (3048) 3: 1177 كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة. وأخرجه مسلم في صحيحه (2308) 4: 1803 كتاب الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة.

وأما كون الصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة فلما روت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صدقة الرجل على المسلم صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة» (¬1). قال: (وتستحب الصدقة بالفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه. وإن تصدق بما ينقص مؤونة من تلزمه مؤونته أثم). أما كون الصدقة بالفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه تستحب فلأن الفاضل تطيب النفس بإخراجه من غير كلفة ومشقة قال الله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 215]. قال أهل التفسير: هو الفاضل عن حاجته وحاجة عياله. وأما كون من تصدق بما ينقص مؤونة من تلزمه مؤونته يأثم فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (¬2) رواه أبو داود. ولأن نفقة من تلزمه مؤونته واجبة فإذا تركها أو بعضها أثم كسائر الواجبات. قال: (ومن أراد الصدقة بماله كله وهو يعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة فله ذلك، وإن لم يثق من نفسه لم يجز له. ويكره لمن لا صبر له على الضيق أن ينقص نفسه عن الكفاية التامة). أما كون من علم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة له الصدقة بماله كله فـ «لأن أبا بكر رضي الله عنه تصدق بجميع ماله، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لعيالك؟ فقال: الله ورسوله» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (658) 3: 46 كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة. قال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه النسائي في سننه (2582) 5: 92 كتاب الزكاة، الصدقة على الأقارب. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1844) 1: 591 كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة، كلهم عن سلمان بن عامر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1692) 2: 132 كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1678) 2: 129 كتاب الزكاة، باب في الرخصة في ذلك .... والترمذي في جامعه (3675) 5: 614 كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

وحقيقة التوكل عدم الطمع في شيء يأتيه ويكون واثقاً بضمان الله في رزقه. وأما كون من لم يثق من نفسه لا يجوز له ذلك فلما روى جابر بن عبدالله قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة من ذهب فقال: يا رسول الله! أصبت هذه من معدن فخذها لا أملك غيرها. فأعرض عنه. ثم جاءه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه. ثم جاءه من قبل ركنه الأيسر فقال مثل ذلك فأعرض عنه. فجاءه من خلفه فأخذها منه فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو عقرته. ثم قال: يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس. خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وليبدأ أحدكم بمن يعول» (¬1) رواه أبو داود. وأما كون من لا صبر له على الضيق يكره له أن ينقص نفسه عن الكفاية التامة فلأن التقتير والتضييق مع القدرة شح وبخل نهى الله عنه وتعوذ النبي صلى الله عليه وسلم منه (¬2). وفيه سوء الظن بالله تعالى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1673) 2: 128 كتاب الزكاة، باب الرجل يخرج من ماله. (¬2) أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال» (6008) 5: 2342 كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من الجبن والكسل. ومسلم في صحيحه (2706) 4: 2079 كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره.

الممتع في شرح المقنع تصنيف زين الدين المنجى بن عثمان بن أسعد ابن المنجى التنوخي الحنبلي 631 - 695 هـ الجزء الثاني دراسة وتحقيق د. عبدالملك بن عبدالله بن دهيش

كتاب الصيام

كتاب الصيام الصيام في اللغة: الإمساك. قال الله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم: 26] أي صمتاً؛ لأنه إمساك عن الكلام. قال الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العَجاج وأخرى تعلك اللجمان وفي الشرع: إمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص. وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى. قال المصنف رحمه الله: (يجب صوم شهر رمضان يرؤية الهلال. فإن لم يُر مع الصحو أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صاموا. وإن حال دون منظره غيم أو قتر ليلة الثلاثين وجب صيامه بنية رمضان في ظاهر المذهب. وعنه لا يجب. وعنه الناس تبع للإمام فإن صام صاموا). أما كون شهر رمضان يجب فالأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم -إلى قوله تعالى-: فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 183 - 185]. وأما السنة فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» (¬1) متفق عليه. وروي «أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا فرض الله عليّ من الصيام؟ فقال: شهر رمضان ... مختصر» (¬2) رواه البخاري. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (8) 1: 12 كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس». وأخرجه مسلم في صحيحه (16) 1: 45 كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإيمان كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (46) 1: 25 كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام. وأخرجه مسلم في صحيحه (11) 1: 40 كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.

وأما كون الإجماع فأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان. وأما كونه يجب برؤية الهلال فلما تقدم من قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185]. ولقوله عليه السلام: «صوموا لرؤيته ... مختصر» (¬1) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأما كون الناس يُكْمِلون عدة شعبان إذا لم يُر الهلال مع الفجر فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصيام عند رؤيته» ولم يوجد. ولأن الأصل بقاء شعبان ولم يوجد ما يعارض فيه ولا ما يحتمل معه خروجه فوجب تكميله كسائر الأشهر. وقول المصنف رحمه الله: فإن لم ير مع الصحو يحترز به عما إذا لم ير مع الغيم فإنه لا يجب إكمال شعبان لما يذكر بعد إن شاء الله تعالى. وقوله: ثلاثين يوماً بيان للعدة التي تكمل. وأما كونهم يصومون إذا كملوا عدة شعبان فلأن عدة شعبان إذا تكملت تحقق دخول شهر رمضان. وأما كونهم إذا حال دون منظر الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان يجب عليهم صيامه في ظاهر المذهب؛ فلما يأتي. وأما كونهم لا يجب عليهم صيامه في روايةٍ؛ فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً» (¬2) رواه البخاري. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (688) 3: 72 كتاب الصوم، باب ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والإفطار له. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1810) 2: 674 كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا».

و «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك» (¬1)، وهذا يوم شك. ولأن الأصل بقاء شعبان. وأما كون الناس تبعاً للإمام إن صام صاموا وإن أفطر أفطروا في روايةٍ فلقوله عليه السلام: «الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون» (¬2). قال الترمذي: هو حديث حسن غريب. والأول هو الصحيح في المذهب. واختاره أكثر شيوخنا لما روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الشهر تسعة وعشرون يوماً فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه. فإن غم عليكم فاقدروا له» (¬3) متفق عليه. قال نافع: «كان عبدالله بن عمر إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوماً يبعث من ينظر له الهلال فإن رؤي فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب أو قتر أصبح مفطراً. وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائماً» (¬4) رواه أبو داود. ومعنى: اقدروا له ضيقوا له العدد. ومنه قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7] أي ضيق عليه، {وقَدِّرْ في السَّرْد} [سبأ: 11] أي ضيق. والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً وقد فسره ابن عمر بفعله وهو أعلم بمعاني كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجب الرجوع إليه كما رُجع إليه في تفسير خيار المتبايعين. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2334) 2: 300 كتاب الصوم، باب كراهية صوم يوم الشك. بلفظ: عن صلة قال: «كنا عند عمار في اليوم الذي يُشك فيه فأتى بشاة فتنحى بعض القوم فقال عمار: من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم». وأخرجه الترمذي في جامعه (686) 3: 70 كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك. نحوه. وأخرجه النسائي في سننه (2188) 4: 153 كتاب الصيام، صيام يوم الشك. نحوه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1645) 1: 527 كتاب الصيام، باب ما جاء في صيام يوم الشك. نحوه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2324) 2: 297 كتاب الصوم، باب إذا أخطأ القوم الهلال. وأخرجه الترمذي في جامعه (697) 3: 80 كتاب الصوم، باب ما جاء الصوم يوم تصومون ... (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1808) 2: 674 كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا». وأخرجه مسلم في صحيحه (1080) 2: 759 كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال ... (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2320) 2: 297 كتاب الصوم، باب الشهر يكون تسعاً وعشرين.

وعن عائشة وأبي هريرة: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان» (¬1). وحديث أبي هريرة الأول رواه عنه سعيد بن المسيب: «فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين» (¬2) وروايته أولى بالتقديم جمعاً بينه وبين حديث ابن عمر، وليس هذا بيوم شك وفاقاً لأن الشك ما استوى طرفاه وليس هذا اليوم كذلك لأنه عندنا راجح الرمضانية وعند الغير راجح الشعبانية. فعلى هذا يجب عليهم صيامه بنيةٍ من رمضان لأنه منه لما تقدم. أشبه ما لو ثبت بالرؤية. قال: (وإذا رؤي الهلال نهاراً قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة). أما كون الهلال المرئي نهاراً لليلة المقبلة فلما روى أبو وائل شقيق بن سلمة قال: «جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين: إن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا، حتى تمسوا، إلا أن يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشية» (¬3). رواه الدارقطني. وأما كون الرؤية المذكورة قبل الزوال وبعده لليلة المقبلة فلشمول قول عمر ذلك. وفي تصريح المصنف رحمه الله: بقبل الزوال وبعده إشارة إلى الرد على القاضي فإنه يقول: إن كان قبل الزوال في أول الشهر فهو لليلة الماضية لقربة منها ووجود الاحتياط للصوم وإن كان في آخره ففيه روايتان: إحداهما: هو للماضية نظراً إلى القرب. والثانية: هو للمستقبلة نظراً إلى الاحتياط في الصوم. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 211 كتاب الصيام، باب من رخص من الصحابة في صوم يوم الشك. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1081) 2: 762 كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال ... (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (10) 2: 169 كتاب زكاة الفطر، باب الشهادة على رؤية الهلال.

قال: (وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم ويقبل في هلال رمضان قول عدل واحد ولا يقبل في سائر الشهور إلا عدلان). أما كون الناس كلهم يلزمهم صوم رمضان برؤية أهل بلد من البلاد فلأنه بذلك ثبت كونه من رمضان فيجب صومه لما تقدم من النصوص الدالة على وجوب ذلك. ولأن الشهر في الحقيقة ما بين الهلالين وهذا اليوم بين الهلالين. ولأنه من الشهر في سائر الأحكام من حلول الديون ووجوب النذور ووقوع الطلاق والعتق وغير ذلك من الأحكام وكذلك في الصوم. وأما كون قول العدل الواحد في هلال شهر رمضان يقبل فلما روى ابن عمر قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام» (¬1) رواه بمعناه أبو داود. وروى ابن عباس «أن أعرابياً من الحرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الهلال. قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال! أذن في الناس فليصوموا غداً» (¬2) رواه بمعناه أبو داود والنسائي. ولأنه خبر فيما طريقه المشاهدة يدخل به في الفريضة فقبل من واحد كوقت الصلاة. وأما كونه لا يقبل في سائر الشهور إلا عدلان فلأن ابن عمر وابن عباس قالا: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين» (¬3). ولأن ذلك ليس بمال ولا يقصد به المال ولا احتياط فيه فلم يقبل فيه إلا شهادة رجلين كالحدود والقصاص، وكان القياس يقتضي أنه لا يقبل في رمضان إلا ذلك لكن ترك للاحتياط كالغيم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2342) 2: 302 كتاب الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2340) 2: 302 كتاب الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان. وأخرجه النسائي في سننه (2113) 4: 132 كتاب الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان وذكر الاختلاف فيه. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (3) 2: 156 كتاب الصيام. قال الدراقطني: تفرد به حفص بن عمر الأبلي أبو إسماعيل، وهو ضعيف الحديث.

قال: (وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال أفطروا، وإن صاموا بشهادة واحد فعلى وجهين. وإن صاموا لأجل الغيم لم يفطروا). أما كون الناس إذا صاموا ثلاثين يوماً بشهادة عدلين ولم يروا الهلال يفطرون فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإن شهد شاهدان [فصوموا وأفطروا» (¬1) رواه النسائي. وأما الفطر إذا صاموا بشهادة واحد لا يجوز] (¬2) على وجهٍ فلأن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» يدل على أنه لا يفطر بشهادة الواحد لأنه صوم يستند إلى شهادة واحد فلم يجز كما لو شهد برؤية هلال شوال. وأما كونهم يفطرون على وجهٍ فلأن الصوم إذا ثبت وجب الفطر لاستكمال العدة لا بالشهادة، كالولادة تثبت بشهادة النساء ويترتب عليها النسب، وإن لم يثبت بشهادتهن. وأما كونهم إذا صاموا لأجل الغيم لا يفطرون فلأن صومهم كان لأجل الاحتياط فلا يجوز الخروج منه بمثل ذلك. قال: (ومن رأى هلال رمضان وحده ورُدّت شهادته لزمه الصوم، وإن رأى هلال شوال وحده لم يفطر). أما كون من رأى هلال رمضان وحده ورُدّت شهادته يلزمه الصوم فلأنه تيقن أنه من رمضان فلزمه صومه كما لو حكم به الحاكم. وأما كون من رأى هلال شوال وحده لا يفطر فلما روى أبو رجاء مولى أبي قلابة «أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياماً فأتيا عمر فذكرا ذلك له. فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: لا بل مفطر. قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال. وقال للآخر قال: أنا صائم. قال: ما حملك ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (2116) 4: 132 كتاب الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان. وأخرجه أحمد في مسنده (18416) ط إحياء التراث. وفيه: «وإن شهد شاهدان مسلمان ... ». كلاهما عن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) ساقط من ب.

على هذا؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا لأوجعت رأسك. ثم نودي في الناس أن اخرجوا» (¬1). وإنما أراد ضربه لإفطاره برؤيته، ورفع الضرب عنه لأجل كمال الشهادة به وبصاحبه ولو جاز الفطر لما أنكر عليه ولا توعده. قال: (وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام، فإن وافق الشهر أو ما بعده أجزأه وإن وافق قبله لم يجزئه). أما كون الأسير إذا اشتبهت عليه الأشهر يتحرى. وهو: أن يجتهد في معرفة شهر رمضان فلأنه أمكنه تأدية فرضه بالاجتهاد فلم يجز بدونه كاستقبال القبلة. وأما كونه إذا اجتهد فوافق الشهر يجزئه فكما إذا اجتهد في القبلة وصلى فوافق القبلة. وأما كونه إذا اجتهد فوافق بعده يجزئه فكما إذا اجتهد في دخول الصلاة فوافق بعده. وأما كونه إذا اجتهد فوافق قبله لا يجزئه فلأنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم تجزئه كالصلاة. قال: (ولا يجب الصوم إلا على المسلمِ العاقلِ البالغِ القادرِ على الصوم، ولا يجب على كافر ولا مجنون ولا صبي ولكن يؤمر به إذا أطاقه ويضرب عليه ليعتاده). أما كون الصوم لا يجب على غير المسلم البالغ العاقل القادر فلأن الإسلام والبلوغ والعقل والقدرة شروط لوجوب الصوم ولم يوجد. أما كون الإسلام من شروطه فلأن الصوم عبادة محضة، يفتقر إلى النية فكان من شروطها الإسلام كالصلاة. وأما كون البلوغ والعقل من شروطه فلقوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق ... الحديث» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (7338) 4: 165 كتاب الصيام، باب أصبح الناس صياماً وقد رُئي الهلال. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4401) 4: 140 كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً، عن ابن عباس. وأخرجه النسائي في سننه (3432) 6: 156 كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2041) 1: 658 كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، كلاهما من حديث عائشة.

وأما كون القدرة من شروطه فلأن العاجز عن الشيء لا يكلف به. قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]. وأما كون الصبي يؤمر به إذا أطاقه فلأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان» (¬1). فإن قيل: أمر الصبي أمر إيجاب أو لا؟ قيل: ظاهر المذهب أنه أمر استحباب لما تقدم من اشتراط البلوغ في وجوب الصوم، والحديث من باب إطلاق الواجب على المندوب كقوله عليه السلام: «الوتر حق» (¬2) لأن فيه جمعاً بينه وبين قوله: «رفع القلم ... الحديث» (¬3). وقال بعض أصحابنا: هو واجب لظاهر الحديث، وقياساً على الصلاة. والأول أصح لما فيه من الجمع بين الأدلة. وأما كونه يضرب على الصوم ليعتاده فلما علل المصنف رحمه الله من الاعتياد. وقد تقدم ذكره في الصلاة. وأما كون الصوم يجب على من اجتمع فيه الإسلام والبلوغ والعقل والقدرة فللأدلة الدالة على وجوبه السالمة عن معارضة ما ذكر في غير مَن هذا شأنه. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (7300) 4: 154 كتاب الصيام، باب متى يؤمر الصبي بالصيام. عن محمد بن عبدالرحمن بن لبيبة عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة، فقد وجب عليه صيام شهر رمضان». (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1419) 2: 62 كتاب الوتر، باب فيمن لم يوتر. وأخرجه النسائي في سننه (1711) 3: 238 كتاب قيام الليل وتطوع النهار. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1190) 1: 376 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع. (¬3) سبق تخريجه قريباً.

قال: (وإذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار لزمهم الإمساك والقضاء. وإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أو بلغ صبي فكذلك. وعنه لا يلزمهم شيء). أما كون الإمساك يلزم الناس إذا قامت البينة في أثناء النهار فلأن الصوم الشرعي عبارة عن الإمساك عن المفطرات بنية من الليل فإذا لم يمكن أن يأتوا بجميع ذلك وجب أن يأتوا بما يقدرون عليه من إمساك بقية اليوم لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬1). ولأنه من رمضان فلزمهم إمساك بقيته كما لو تعمدوا الأكل في يوم آخر منه. وأما كون القضاء يلزمهم فلأنه ثبت كون هذا من رمضان ولم يأتوا فيه بصوم صحيح فلزمهم قضاؤه لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185]. وأما كون الإمساك والقضاء إذا أسلم كافر في أثناء النهار أو أفاق مجنون أو بلغ صبي كما إذا قامت البينة بالرؤية على المذهب؛ فلأنه وجد سبب إيجاب الصوم في أثناء اليوم أشبه المسلم قبلها. وأما كونهم لا يلزمهم شيء على روايةٍ فلأنه نهار أبيح لهم فطر أوله ظاهراً وباطناً فلم يلزمهم إمساكه ولا قضاؤه كما لو استمر العذر. وظاهر المذهب الأول: أما الإمساك فلحرمة رمضان، وأما القضاء فلأنهم أدركوا جزءاً من وقت العبادة فلزمهم قضاؤه كما لو أدركوا جزءاً من وقت الصلاة. قال: (وإن بلغ الصبي صائماً أتم ولا قضاء عليه عند القاضي، وعند أبي الخطاب عليه القضاء). أما كون الصبي المذكور يتم فلأنه نوى الصوم وقد صار من أهله. ولأنه لو كان مفطراً لزمه إمساك بقية يومه فلأن يلزمه إتمامه وهو صائم بطريق الأولى. وأما كونه لا قضاء عليه على الخلاف فمبني على إجزاء ذلك اليوم وفيه وجهان: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6858) 6: 2658 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1337) 2: 975 كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر.

أحدهما: يجزئه. قاله القاضي لأنه حصلت له نية رمضان من الليل فيجزئه كالبالغ. وثانيهما: لا يجزئه. قاله أبو الخطاب لأنه ببلوغه يلزمه صوم جميعه والماضي قبل بلوغه نفل فلا يجزئ عن الفرض كما لو بلغ في أثناء الصلاة. قال: (وإن طهرت حائض أو نفساء أو قدم المسافر مفطراً فعليهم القضاء. وفي الإمسساك روايتان). أما كون من ذكر عليهم القضاء فلأنه يجب على الحائض والنفساء والمسافر مع استمرار العذر لقوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185]، وقول عائشة: «كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (¬1) فمع انقطاعه بطريق الأولى. وأما كونهم عليهم الإمساك في روايةٍ فلأنه وجد ما يوجب الصوم في أثناء النهار أشبه ما لو ثبتت الرؤية في أثناء النهار. وأما كونهم لا إمساك عليهم في روايةٍ فلأنه روي عن ابن مسعود: «من أكل أول النهار فليأكل آخره» (¬2). ولأن من ذكر يباح له الأكل أول النهار ظاهراً وباطناً بخلاف ما إذا ثبتت الرؤية في أثناء النهار. قال: (ومن عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً). أما كون من عجر عن الصوم لكبر يفطر فلما تقدم من أنه لا يجب عليه. ولأن الفطر إذا جاز للمريض فلأن يجوز للعاجز بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة 1: 265/ 335. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (9343) 2: 310 كتاب الصيام، في المسافر يقدم أول النهار من رمضان. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 216 كتاب الصيام، باب من أكل وهو يرى أن الفجر لم يطلع ثم بان أنه كان قد طلع.

وأما كون من عجز عنه لمرض لا يرجى برؤه يفطر فلأنه إذا جاز للمريض الذي يرجى برء مرضه فلأن يجوز للمريض الذي لا يرجى برء مرضه بطريق الأولى. وأما كون الكبير يطعم عن كل يوم مسكيناً فلأن الله تعالى قال: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184]. قال ابن عباس: «نسخت إلا في حق الشيخ الكبير والعجوز» (¬1). ولأنه صوم واجب في الأصل فجاز أن ينوب عنه المال كصوم الكفارة. وأما كون المريض يطعم كذلك فلأنه في معنى العاجز لكبر. قال: (والمريض إذا خاف الضرر والمسافر استحب لهما الفطر وإن صاما أجزأهما. ولا يجوز أن يصوما في رمضان عن غيره). أما كون المريض والمسافر يستحب لهما الفطر فيقتضي أمرين: أحدهما: جوازه. والآخر: رجحانه. أما الجواز فلأن الله تعالى قال: {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخَر} [البقرة: 185]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن المسافر الصوم» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وللجواز المذكور في المريض شرط وهو أن يخاف الضرر مثل أن يخاف زيادة مرضه أو تباطؤ برؤه. فإن لم يخف ذلك لم يبح له الفطر لأن المبيح له العذر وهو مفقود هنا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4235) 4: 1638 كتاب التفسير، باب قوله: {أيام معدودات فمن كان منكم مريضاً ... }. عن عطاء «سمع ابن عباس يقرأ: وعلى الذين يُطَوَّقُونَه فلا يطيقونه {فدية طعام مسكين} قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا». وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (7574) 4: 221 كتاب الصيام، باب الشيخ الكبير. عن مجاهد عن ابن عباس «أنه كان يقرؤها: {وعلى الذين يُطَوَّقُونَه} ويقول: هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام، فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ... ». (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (715) 3: 94 كتاب الصوم، باب ما جاء في الرخصة في الأفطار للحبلى والمرضع.

فإن قيل: الآية عامة. قيل: تخصص بما ذكر. وأما رجحان الفطر فلأنه أخف عليهما وفيه قبول رخصة الله تعالى ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خيرت بين أمرين إلا اخترت أيسرهما» (¬1). وفي الحديث: «ليس من البر الصوم في السفر» (¬2) متفق عليه. وقال عليه السلام: «خيركم الذي يفطر في السفر» (¬3). وأما كون المريض والمسافر إذا صاما أجزأهما فلأن الصوم عزيمة فإذا تحملاها أجزأتهما كالذي تسقط عنه الجمعة لمرضه فتكلف وحضر، وكالذي يعجز عن القيام في الصلاة فيتكلف ويقوم. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمزة بن عمرو الأسلمي وقد سأله عن الصوم في السفر: «ومن أحب أن يصوم في السفر فلا جناح عليه» (¬4) رواه مسلم. وعن أنس: «كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَعِب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم» (¬5). وعن عائشة قالت: «يا رسول الله! أفطرتَ وصمتُ قال: أحسنتِ» (¬6). وأما كونهما لا يجوز أن يصوما في رمضان عن غيره فلأن الفطر أبيح تخفيفاً فإذا لم يريدا التخفيف لزمهما الإتيان بالأصل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (3367) 3: 1306 كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (2327) 4: 1813 كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1844) 2: 687 كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر: «ليس من البر الصوم في السفر». وأخرجه مسلم في صحيحه (1115) 2: 786 كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان ... (¬3) ذكره المتقي الهندي في صلاة المسافر، القصر 8: 244/ 22755. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1121) 2: 790 كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (1845) 2: 687 كتاب الصوم، باب: لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضا في الصوم والإفطار. (¬6) أخرجه النسائي في سننه (1456) 3: 122 كتاب تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة.

قال: (ومن نوى الصوم في سفره فله الفطر. وإن نوى الحاضر صوم يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر. وعنه لا يجوز). أما كون من نوى الصوم في سفره له الفطر فلما روى جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه. فقيل: إن الناس قد شق عليهم الصيام. فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب فأفطر بعض الناس وصام بعضهم فبلغه أن ناساً صاموا فقال: أولئك العصاة» (¬1) رواه مسلم. وأما كون من نوى الصوم في الحضر ثم سافر في أثنائه له الفطر على المذهب فلما روي عن أبي بصرة الغفاري «أنه ركب في سفينة من الفُسْطاط في شهر رمضان فَرُفِع ثم قُرّب غداءه. ثم قال: اقترب. قيل: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأكل» (¬2) رواه أبو داود. ولأن السفر مبيح للفطر فأباحه في أثناء النهار كالمرض. وأما كونه لا يجوز ذلك على روايةٍ فلأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة. قال: (والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا. وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً). أما كون الحال والمرضع إذا خافتا على أنفسهما تفطران فلأن ذلك بمنزلة المرض ولذلك لا كفارة عليهما؛ لأن الفطر لمرض لا كفارة فيه. وأما كونهما يقضيان فلعموم قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185]، وقياساً على المرض. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1114) 2: 785 كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان ... (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2412) 2: 318 كتاب الصوم، باب متى يفطر المسافر إذا خرج. ولفظه: عن عبيد قال جعفر بن جبر: «كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع ثم قرب غداه قال جعفر في حديثه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة قال اقترب قلت ألست ترى البيوت قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جعفر في حديثه فأكل». وأخرجه أحمد في مسنده (23337) ط إحياء التراث. نحوه.

وأما كونهما إذا خافتا على ولديهما يفطران فلأن خوفهما خوف على آدمي أشبه خوفهما على أنفسهما. وأما كونهما يقضيان فلما تقدم من الآية والقياس. وأما كونهما يطعمان لكل يوم مسكينا فلأنهما يطيقان الصوم فيدخلان في عموم قوله تعالى: {وعلى الذين يُطِيقُونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184]. وقد رروي عن ابن عباس أنه قال: «نزلت رخصة للشيخ الكبير والحامل والمرضع» (¬1). قال: (ومن نوى قبل الفجر ثم جُنّ أو أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه، وإن أفاق جزءاً منه صح صومه، وإن نام جميع النهار صح صومه، ويلزم المغمى عليه القضاء دون المجنون). أما كون من نوى قبل الفجر ثم جُنّ أو أغمي عليه جميع النهار لا يصح صومه فلأنه لم يوجد منه الإمساك المضاف إليه، والواجب إمساك مضاف إليه لقوله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي» (¬2) متفق عليه. أضاف ترك الطعام والشراب إلى الصيام. ولأن النية أحد الركنين فإذا انفردت عن الإمساك لم يجز كما لو انفرد الإمساك عن النية. وأما كون من ذكر يصح صومه إذا أفاق جزءاً منه فلأنه وجد الإمساك المضاف إليه. وأما كون من نام جميع النهار يصح صومه فلأن النوم جِبِلّة وعادة ولا يزيل العقل بالكلية وهو في حكم المنتبه لكونه ينتبه إذا نُبِّه، ويجد الألم في حال نومه. وبه يظهر الفرق بينه وبين من زال عقله بجنون أو إغماء. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2318) 2: 296 كتاب الصوم، باب من قال: هي مثبتة للشيخ والحبلى. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1805) 2: 673 كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شُتِم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1151) 2: 806 كتاب الصيام، باب فضل الصيام.

وأما كون المغمى عليه يلزمه القضاء فلأن الإغماء لا يزيل التكليف، ويجوز على الأنبياء عليهم السلام، ولا تثبت الولاية على صاحبه أشبه المريض. وأما كون المجنون لا يلزمه القضاء فلقوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يفيق ... الحديث» (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [النية في الصوم] قال المصنف رحمه الله: (ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل معيناً. وعنه لا يجب تعيين النية لرمضان). أما كون الصوم الواجب لا يصح إلا أن ينويه فاعله فلقوله تعالى: {وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5]، ولقوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى» (¬1) وقوله عليه السلام: «لا عمل إلا بنية» (¬2). وأما كونه لا يصح إلا بنية من الليل فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» (¬3) أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي. وأما كونه في غير صوم رمضان كالقضاء عنه والكفارة والنذر لا يصح إلا معيناً رواية واحدة فلأنه لا يتميز عن غيره إلا بالتعيين. وأما كونه في صوم رمضان لا يصح إلا معيناً على المذهب فلأنه صوم واجب أشبه القضاء والنذر. ولأن صوم رمضان عبادة يجب فيها أصل النية فوجب تعيينها كالصلاة. وأما كون صوم رمضان لا يجب تعيين النية له على روايةٍ فلأن الزمان يتعين بخلاف القضاء والنذر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1) 1: 3 باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1907) 3: 1515 كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية». (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 41 كتاب الطهارة، باب الاستياك بالأصابع. عن أنس، ولفظه: «لا عمل لمن لا نية له». (¬3) أخرجه النسائي في سننه (2334) 4: 197 كتاب الصيام، ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك. واللفظ له. وأخرجه أبو داود في سننه (2454) 2: 329 كتاب الصوم، باب النية في الصيام. وأخرجه الترمذي في جامعه (730) 3: 108 كتاب الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل، ولفظهما: «من لم يُجْمِعِ الصيامَ قبل الفجر فلا صيام له».

قال: (ولا يحتاج إلى نية الفرضية. وقال ابن حامد: يجب ذلك). أما كون صوم الواجب لا يحتاج إلى نية الفرضية على قول غير ابن حامد فلأن الواجب لا يكون إلا فرضاً. وأما كون ذلك يجب على قوله فقياس له على الصلاة. قال: (ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي وإلا فهو نفل لم يجزئه. وعنه يجزئه. ومن نوى الإفطار أفطر). أما كون من نوى ما تقدم ذكره لا يجزئه على روايةٍ ويجزئه على أخرى؛ فمبني على وجوب تعيين النية: فمن أوجبه لم تجزئ عنده هذه النية لأنه لم يجزم بها، والنية عزم جازم، ومن لم يوجبه جعلها مجزئة لأنه نوى الصوم ونيته كافية. وأما كون من نوى الإفطار أفطر؛ فلأن النية شرط في جميع النهار فإذا قطعها في أثنائه خلا ذلك الجزء عن النية ففسد الكل لفوات الشرط. قال: (ويصح صوم النفل بنيةٍ من النهار قبل الزوال وبعده. وقال القاضي: لا يجزئه بعد الزوال). أما كون النفل يصح بنيةٍ من النهار قبل الزوال فلما روت عائشة قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم من شيء؟ قلنا: لا. قال: إني إذاً صائم» (¬1) رواه مسلم. ولأن في ذلك تكثيراً للصيام لأنه قد تعرض له النية من النهار فجاز؛ كما سومح بترك القيام والاستقبال في النافلة. وأما كونه يصح بنية منه بعد الزوال على المذهب فلأنه نوى في النهار أشبه قبل الزوال. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1154) 2: 809 كتاب الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال، وجواز فطر الصائم نفلاً. وأخرجه أبو داود في سننه (2455) 2: 329 كتاب الصوم، باب في الرخصة في ذلك. وأخرجه الترمذي في جامعه (734) 3: 111 كتاب الصوم، باب صيام المتطوع بغير تبييت. وأخرجه النسائي في سننه (2330) 4: 195 كتاب الصيام، النية في الصيام والاختلاف على طلحة بن يحيى بن طلحة في خبر عائشة. وأخرجه أحمد في مسنده (25772) 6: 207.

ولما ذكر من المعنى المؤدي إلى كثرة العبادة وأما كونه لا يصح على قول القاضي فلأن النية لم تصحب العبادة في معظمها أشبه ما لو نوى مع الغروب.

باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة

باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة قال المصنف رحمه الله: (من أكل أو شرب أو استعط أو احتقن أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه، أو اكتحل بما يصل إلى حلقه أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان، أو داوى المأمومة، أو قطر في أذنه ما يصل إلى دماغه، أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس فأمنى [أو مذى] (¬1)، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم عامداً ذاكراً لصومه فسد صومه، وإن فعله ناسياً أو مكرهاً لم يفسد). أما كون من أكل أو شرب يفسد صومه فلأن الله تعالى قال: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} [البقرة: 187] وحكم ما (¬2) بعد الغاية يخالف ما قبلها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: عمل ابن آدم له كله إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلي» (¬3) متفق عليه. ولأن الصوم الشرعي عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب ونحوهما فإذا لم يوجد ذلك لم يكن صائماً شرعاً. وأما كون من استعط. وهو: أن يدخل الماء في أنفه يفسد صومه فلقوله عليه السلام للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» (¬4) ولو لم يفسد الصوم بدخول الماء من الخياشيم لما نهى عنه ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) مثل السابق. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (142) 1: 35 كتاب الطهارة، باب في الاستنثار. وأخرجه الترمذي في جامعه (788) 3: 155 كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية مبالغة الإستنشاق للصائم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (407) 1: 142 كتاب الطهارة وسننها، المبالغة في الاستنشاق والاستنثار.

وأما كون من احتقن يفسد صومه فلأن ذلك يصل إلى الجوف أشبه الأكل. ولأنه إذا بطل بالسعوط فبذلك أولى. وأما كون من داوى الجائف بما يصل إلى جوفه يفسد صومه فلأن أوصل إلى جوفه شيئاً باختياره أشبه ما لو أكل. وأما كون من اكتحل بما يصل إلى حلقه كالكحل الأسود والحاد يفسد صومه فلأن الحلق كالجوف. ولأنه وصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه أشبه ما لو دخل من فيه. وأما كون من أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان؛ مثل أن يطعن نفسه ونحو ذلك يفسد صومه فلأنه أوصل إلى جوفه ما هو ممنوع عن إيصاله فوجب أن يفسد صومه كما لو أكل أو شرب. وأما كون من داوى المأمومة أو قطر في أذنه ما يصل إلى دماغه يفسد صومه فلأن الدماغ أحد الجوفين فأفسد الصوم ما يصل إليه كالآخر. وأما كون من استقاء. وهو: أن يستدعي القيء يفسد صومه؛ فلما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض» (¬1) رواه أبو داود. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وأما كون من استمنى. وهو: أن يستخرج المني بكفه يفسد صومه فلأنه إذا فسد بالقبلة المقترنة بالإنزال فلأن يفسد بالاستمناء بطريق الأولى. وأما كون من قبل فأمنى يفسد صومه فلما روي عن عمر أنه قال: «قلت: يا رسول الله! صنعت اليوم أمراً عظيماً فقبلت وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به. قال: فمه» (¬2) رواه أبو داود. شبّه القبلة بالمضمضة، والمضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر، وإن كان معها نزول أفطر. وأما كون من لمس فأمنى يفسد صومه فلأن اللمس كالقبلة لاشتراكهما في المباشرة المؤدية إلى المني. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2380) 2: 310 كتاب الصوم، باب الصائم يستقيء عامداً. وأخرجه الترمذي في جامعه (720) 3: 98 كتاب الصوم، باب ما جاء فيمن استقاء عمداً. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2385) 2: 311 كتاب الصوم، باب القبلة للصائم.

وأما كون من قبل أو لمس فمذى يفسد صومه كما لو أمنى فلأنهما مشتركان في كونهما خارجين تخللهما الشهوة. وأما كون من كرر النظر فأنزل. والمراد به أنزل المني يفسد صومه فلأنه إنزال يتلذذ به أشبه الإنزال باللمس. فعلى هذا لا يفسد مع إنزال المذي لأن الإنزال هنا ليس عن مباشرة فلم يلتحق المذي بالمني لضعفه عنه ولذلك قال المصنف رحمه الله في الكافي: (¬1) وسواء في هذا كله المني والمذي ... إلا في تكرار النظر فلا يفطر إلا بإنزال المني في ظاهر كلامه لأنه ليس بمباشرة. وقال في المغني: ظاهر كلام الخرقي فساد صوم من كرر نظره فمذى لإطلاقه القول فيمن كرر فأنزل وهذا إنزال أشبه المني. ومقتضى هذا التعليل أن يحمل كلام المصنف رحمه الله على فساد صوم من كرر نظره فمذى لأنه قال: فأنزل وأطلق ذلك بإطلاق الخرقي. وأما كون من حجم أو احتجم يفسد صومه فلأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» (¬2). رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وفي لفظ: «احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد ضعفاً شديداً فنهى أن يحتجم الصائم» (¬3) رواه الجوزجاني. وأما قول المصنف رحمه الله: عامداً ذاكراً لصومه فراجع إلى جميع ما ذكر. ومعناه: أن شرط الفطر في كل واحد مما تقدم أن يتعمد الصائم فعله بأن يفعله اختياراً وأن يكون ذاكراً أنه صائم. أما كون التعمد شرطاً فلقوله عليه السلام: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬4). ¬

_ (¬1) في ب زيادة: وتكرار. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (774) 3: 144 كتاب الصوم، باب كراهية الحجامة للصائم. (¬3) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج البخاري في صحيحه عن ثابت البناني أنه سأل أنس بن مالك رضي الله عنه: «أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا. إلا من أجل الضعف». (1838) 2: 685 كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم. وفي لفظ: «ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد». أخرجه أبو داود في سننه (2375) 2: 309 كتاب الصوم، باب في الرخصة في ذلك. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (2043) 1: 659 كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي. من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (¬1): «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء» (¬2). نفى القضاء في ذلك لكونه يخرج بغير اختيار الصائم فيثبت الحكم فيه، ويقاس عليه ما عداه. وأما كون الذكر لصومه شرطاً فلما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أكل أحدكم أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» (¬3) متفق عليه. وفي لفظ: «فلا يفطر فإنما هو رزقٌ رزقه الله» (¬4). نص على الأكل والشرب فثبت فيهما، ويقاس عليهما ما عداهما. وأما كون من فعل ذلك ناسياً أو مكرهاً لا يفسد صومه فلأن شرط الفساد الذكر والاختيار وهما مفقودان في النسيان والإكراه. قال: (وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار أو قطر في إحليله أو فكّر فأنزل أو احتلم أو ذرعه القيء أو أصبح وفي فيه طعام فلَفَظَه أو اغتسل أو تمضمض أو استنشق فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه. وإن زاد على الثلاث أو بالغ فيهما فعلى وجهين). أما كون من طار إلى حلقه ذباب أو غبار أو فكّر فأنزل أو احتلم لا يفسد صومه فلأن ذلك كله يوجد بغير اختياره، ولا يمكن التحرز منه، ولا يدخل تحت وسعه فلم يفسد الصوم به لأنه غير داخل في التكليف لأن الله تعالى قال: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]. وأما كون من قطر في إحليله لا يفسد صومه فلأنه لا منفذ فيه إلى الجوف وإنما يخرج البول رشحاً فهو بمنزلة ما لو ترك في فيه شيئاً. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1831) 2: 682 كتاب الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً. وأخرجه مسلم في صحيحه (1155) 2: 809 كتاب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (721) 3: 100 كتاب الصوم، باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسياً. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وأما كون من ذرعه القيء لا يفسد صومه فلما تقدم من قوله عليه السلام: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء» (¬1). ولأنه يخرج بغير اختياره أشبه المكره. وأما كون من أصبح وفي فيه طعام فلَفَظَه لا يفسد صومه فلأنه لم يدخل الطعام في حلقه وابتلاع الريق الذي جرى عليه قبل علمه به لا يفطر لأن مثل هذا لا يمكن التحرز منه ولا يخلو منه صائم. وأما كون من اغتسل لا يفسد صومه فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم» (¬2) متفق عليه. وأما كون من تمضمض أو استنشق فدخل الماء حلقه لا يفسد صومه إذا لم يزد على الثلاث ولم يبالغ فيهما فلأنه واصل بغير اختياره أشبه الذباب. وأما كون من زاد على الثلاث أو بالغ فيهما لا يفسد صومه على وجهٍ [فلأنه بغير اختياره أشبه التي قبلها. والثاني يفسد بذلك] (¬3): أما فيما إذا زاد على الثلاث؛ فلأن نزول الماء فيه متولد بسبب منهي عنه أشبه نزوله بالمبالغة في الاستنشاق. وأما إذا بالغ في الاستنشاق؛ [فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق] (¬4) إلا أن تكون صائماً» (¬5). استثنى المبالغة حفظاً للصوم فدل على أنه يفطر بسببها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1825) 2: 679 كتاب الصوم، باب: الصائم يصبح جنباً. وأخرجه مسلم في صحيحه (1109) 2: 780 كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب. (¬3) ساقط من ب. (¬4) مثل السابق. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (142) 1: 35 كتاب الطهارة، باب في الاستنثار. وأخرجه الترمذي في جامعه (788) 3: 17 كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية مبالغة الإستنشاق للصائم. وأخرجه النسائي في سننه (87) 1: 66 كتاب الطهارة؛ المبالغة في الإستنشاق. وأخرجه ابن ماجة في سننه (407) 1: 142 كتاب الطهارة؛ المبالغة في الاستنشاق والاستنثار. وأخرجه أحمد في مسنده (17879) 4: 211.

وأما إذا بالغ في المضمضة؛ فلأنه يساوي الاستنشاق معنى فوجب أن يساويه حكماً. قال: (ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر فلا قضاء عليه. وإن أكل شاكاً في غروب الشمس فعليه القضاء. وإن أكل معتقداً أنه ليل فبان نهاراً فعليه القضاء). أما [عدم وجوب القضاء إذا أكل شاكاً في طلوع الفجر؛ فلأن الأصل بقاء الليل. وأما] (¬1) كون من أكل شاكاً في غروب الشمس عليه القضاء؛ فلأن الأصل بقاء النهار. وأما كون من أكل معتقداً أنه ليل فبان نهاراً عليه القضاء فلما روى حنظلة قال: «كنا في المدينة في رمضان وفي السماء سحاب فظننا أن الشمس إذاً قد غابت فأفطر بعض الناس. فقال عمر: من أفطر فليقض يوماً مكانه» (¬2). ولأنه أكل ذاكراً مختاراً فأفطر، كما لو أكل يظن أن اليوم من شعبان فبان من رمضان. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (9045) 2: 287 كتاب الصيام، ما قالوا في الرجل يرى أن الشمس قد غربت.

فصل [فيمن جامع نهار رمضان] قال المصنف رحمه الله: (وإذا جامع في نهار رمضان في الفرج قبلاً كان أو دبراً فعليه القضاء والكفارة عامداً كان أو ساهياً. وعنه لا كفارة عليه مع الإكراه والنسيان. ولا يلزم المرأة كفارة مع العذر، وهل يلزمها مع عدمه؟ على روايتين. وعنه كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا غيره، وهذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة مع الإكراه والنسيان). أما كون من جامع في نهار رمضان في الفرج عليه القضاء فلأن في حديث المجامع في نهار رمضان الآتي ذكره بعد في بعض ألفاظه: «وصم يوماً مكانه» (¬1) رواه الأثرم. وفي بعض ألفاظه: «ويصوم يوماً مكانه» (¬2) رواه ابن ماجة. وأما كونه عليه الكفارة فلما روى أبو هريرة قال: «بينما نجن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! هلكت قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم. فبينما نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق من تمر. والعَرَق المكتل. فقال: أين السائل؟ فقال: أنا. [قال] (¬3): فخذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: على أفقر ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (1671) 1: 534 كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان. قال في الزوائد: هذه الزيادة «وصم يوماً مكانه» قد انفرد بها ابن ماجة. وفي إسنادها عبدالجبار بن عمر، وهو ضعيف، ضعفه ابن معين وأبو داود والترمذي. وقال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن يونس: منكر الحديث. وقال ابن سعد: وكان ثقة. (¬2) اللفظ المذكور في ابن ماجة هو اللفظ السابق. (¬3) ساقط من ب.

مني يا رسول الله! فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه. ثم قال: أطعمه أهلك» (¬1). متفق عليه. وأما كون الدبر كالقبل في ذلك فلأن الدبر أحد الفرجين أشبه الآخر. وأما كون الساهي كالعامد والمكره كالمختار على المذهب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل الأعرابي ولو افترق الحال لوجب الاستفصال. ولأنه يجب التعليل بما تناوله لفظ الحديث وهو المجامعة في حال الصوم وهي موجودة في السهو والإكراه. وأما كونه لا كفارة عليه مع الإكراه والنسيان في رواية فلقوله عليه السلام: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬2). وأما كون المرأة لا يلزمها الكفارة مع العذر كالمكرهة والناسية لصومها فلأنها معذورة. ولأنها تدخل فيما تقدم من قوله عليه السلام: «عفي لأمتي ... الحديث». وأما كونها يلزمها مع عدمه كالمطاوعة الذاكرة لصومها على روايةٍ فلأنها هتكت صوم رمضان بالجماع فوجبت عليها الكفارة كالرجل. وأما كونها لا يلزمها على روايةٍ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر حكم المرأة لمّا أمر الأعرابي، ولا أوجب عليها شيئاً. وأما كون الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره في كل أمر غُلب عليه على روايةٍ فلعموم ما تقدم من قوله عليه السلام: «عفي لأمتي ... الحديث». ولذلك قال المصنف رحمه الله عقيب ذلك فهذا يدل على إساقط القضاء ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1834) 2: 684 كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1111) 2: 781 كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان ... (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن جامع دون الفرج فأنزل أو وطئ بهيمة في الفرج أفطر. وفي الكفارة وجهان). أما كون من جامع دون الفرج فأنزل كمن وطئ امرأته في فخذها أو يدها أو نحو ذلك فأنزل يفطر فلأنه إذا فطر اللمس مع الإنزال فلأن تفطر المجامعة معه بطريق الأولى. وأما كون من وطئ بهيمة يفطر فلأنه وطء في فرج أشبه وطء الآدمية في فرجها. وأما كون الكفارة تجب في المسألتين على وجهٍ فلأنه وطء أفسد الصوم وأوجب الكفارة كوطء الآدمية في فرجها. وأما كونه لا تجب فيهما على وجهٍ فلأنه فطر بغير جماع تام فلم تجب الكفارة به كالقُبلة. قال: (وإن جامع في يومٍ رأى الهلال في ليلته وردت شهادته فعليه القضاء والكفارة). أما كون من ذُكر عليه القضاء فلأنه أفطر من رمضان يوماً يلزمه صومه فوجب أن يلزمه قضاؤه؛ لقوله تعالى: {فعدةٌ من أيام أُخر} [البقرة: 185]. وأما كونه عليه الكفارة فلأنه أفطر يوماً من رمضان بجماع تام فوجبت عليه الكفارة كما لو قبلت شهادته. ولأن رد شهادته لم ينف كون ذلك اليوم من رمضان في حقه فلم ينف وجوب الكفارة عليه كاليوم الثاني والثالث. قال: (وإن جامع في يومين ولم يكفر فهل تلزمه كفارة أو كفارتان؟ على وجهين). أما كون من ذُكر يلزمه كفارة واحدة على وجهٍ فلأن الكفارة عقوبة فوجب أن تتداخل كالحدود، أو كفارةٌ عن غير إتلاف تكرر سببها قبل فعلها فاجتزئ بكفارة واحدة ككفارة اليمين والظهار. وأما كونه يلزمه كفارتان على وجهٍ فلأن كل يوم عبادة منفردة فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل كرمضانين وكالحجتين. قال: (وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه فعليه كفارة. نص عليه، وكذلك كل من لزمه الإمساك إذا جامع. ولو جامع وهو صحيح ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط عنه). أما كون من جامع ثم كفر ثم جامع في يومه عليه كفارة ثانية فلأن الصوم عبادة تجب الكفارة بالجماع فيها، فتكررت بتكرر الوطئ بعد التكفير كالحج.

ولأنه وطء محرم لحرمة رمضان فوجبت به الكفارة كالأول. ومفهوم هذا الكلام أنه لو وطئ ولم يكفر ثم وطئ أن عليه كفارة واحدة وصرح به المصنف رحمه الله في المغني لأن الكفارات زواجر فتداخلت كالحدود. وأما كون كل من لزمه الإمساك إذا جامع كذلك فلأنه هَتَك حرمة الزمن أشبه هتك حرمة الصوم. ولأن الكفارة تجب على المستديم للوطء ولا صوم هناك فكذلك هاهنا. ومراد المصنف رحمه الله بقوله: كذلك وجوب الكفارة على من لزمه الإمساك إذا وطئ لمساواته مع [من] (¬1) جامع بعد ما جامع لاستوائهما معنى. لا تكرار الكفارة لأنه لا تكرار هاهنا لعدم تكرار الوطء. وأما كون من جامع وهو صحيح ثم مرض أو جن أو سافر لا تسقط عنه الكفارة فلأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تام فوجبت الكفارة وجوباً مستمراً كما لو لم يفطر لعذر. قال: (وإن نوى الصوم في سفره ثم جامع فلا كفارة عليه. وعنه عليه الكفارة). أما كون من ذكر لا كفارة عليه رواية واحدة فلأن كل صوم أبيح فطره بالأكل أبيح فطره بالجماع كالتطوع. ولأن هذه محظورات [الصوم] (¬2) فإذا لم يجب الصوم لم يحرم شيء منها، وإذا أبيح الفطر بذلك لم تجب الكفارة لأن الوجوب يستدعي حرمة الفطر وذلك غير موجود. وأما كونه عليه الكفارة على روايةٍ فلأنه صائم في رمضان أفطر بالجماع فوجبت عليه الكفارة كالمقيم الصحيح. قال: (ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان). أما كون الكفارة لا تجب بغير الجماع فلأن غير الجماع لم يرد فيه نص، وقياسه على الجماع لا يصح لما بينهما من الفرق فوجب أن لا تجب الكفارة عملاً بالنافي لها السالم عن المعارض. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) في ب الإحرام.

وأما كونها لا تجب بالجماع في صوم غير رمضان كقضائه، والصوم المنذور، وعن الكفارة فلأن الوجوب من الشرع ولم يرد في غير رمضان، ولا يصح قياسه على رمضان لأن رمضان له حرمة بخلاف غيره. فإن قيل: هل في لفظ المصنف رحمه الله ما يدل على عدم وجوب الكفارة بالجماع في غير رمضان حتى يعلل؟ . قيل: فيه إشعار بذلك، وذلك أن قوله: ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان يقتضي أمرين: أحدهما: عدم وجوب الكفارة بغير الجماع كالوطء دون الفرج، والقبلة المقترنة بالإنزال، وكالإفطار بالأكل والشرب، وغير ذلك لأن ذلك كله غير جماع. وثانيهما: عدم وجوب الكفارة بالجماع في غير صوم رمضان كما تقدم ذكره لأنه وإن كان جماعاً فهو غير جماع في صيام رمضان. قال: (والكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت عنه. وعنه لا تسقط. وعنه أن الكفارة على التخيير فبأيها كفر أجزأه). أما كون الكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً فلما روى أبو هريرة «أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله! وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم. فبينا نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق من تمر. فقال: أين السائل؟ خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله! ؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال له: أطعمه أهلك» (¬1) متفق عليه. وأما كونها مرتبة على المذهب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الثانية والثالثة على عدم وجود ما قبلها، وذلك شأن المرتب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونها على التخيير على روايةٍ فلما روى أبو هريرة: «أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً» (¬1) رواه مالك في الموطأ. وأو للتخيير. فعلى هذا بأيها كفر أجزأه لأن هذا شأن التخيير. والأول أصح لأن الحديث الأول أصح وهو متضمن للزيادة. وأما كونه إذا لم يجد ذلك يسقط عنه على المذهب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أخبره بحاجته إليها بأكلها ولا يجوز أن يأكل ما يجب عليه. وأما كونه لا يسقط عنه على روايةٍ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتكفير لما دفع إليه المكيل بعد إخباره بحاجته وعجزه. والأول أولى لأن الإسقاط منه آخر الأمرين فيجب تقديمه. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (28) 1: 246 كتاب الصيام، باب كفارة من أفطر في رمضان.

باب ما يكره وما يستحب وحكم القضاء

باب ما يكره وما يستحب وحكم القضاء قال المصنف رحمه الله: (يكره للصائم أن يجمع ريقه فيبلعه، وأن يبتلع النخامة، وهل يفطر بهما؟ على وجهين). أما كون الصائم يكره له أن يجمع ريقه فيبلعه، وأن يبلع النخامة فلأنه قد اختلف في كون ذلك مفطراً فأدنى أحواله أن يكون مكروهاً. وأما كونه يفطر بهما على وجهٍ فلأنه ابتلع ذلك على وجهٍ يمكنه التحرز منه أشبه غبار الدقيق إذا قصد ابتلاعه. وأما كونه لا يفطر بهما على وجهٍ فلأنه غير واصل من خارج أشبق الريق. قال: (ويكره مضع العلك الذي لا يتحلل منه أجزاء. ولا يجوز مضغ ما يتحلل منه أجزاء إلا أن يبلع ريقه. ومتى وجد طعمه في حلقه أفطر). أما كون مضغ ما لا يتحلل منه أجزاء يكره فلأنه يحلب الفم ويجمع الريق ويورث العطش. وأما كون مضغ ما يتحلل منه أجزاء لا يجوز إذا ابتلع ريقه فلأنه إذا مضغ مثل ذلك وابتلع ريقه يكون قد قصد إيصال شيء من خارج إلى جوفه وهو صائم وذلك غير جائز. وأما كون ذلك يجوز إذا لم يبلع ريقه فلأن المحرم إدخال ذلك إلى جوفه ولا يوجد ذلك مع عدم البلع. وأما كون من وجد طعم ما مضغه في حلقه يفطر فلأنه أوصل إلى جوفه أجزاء شيء لو تعمد أكله أفطر. قال: (وتكره القبلة إلا أن يكون ممن لا تحرك شهوته على إحدى الروايتين). أما كون القبلة تكره ممن تحرك شهوته فلأنه لا يأمن أن ينزل فيفسد صومه.

وأما كونها تكره ممن لا تحرك شهوته على روايةٍ فلأنه لا يأمن حدوث الشهوة وقد روي عن عمر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فأعرض عني. فقلت: ما لي؟ فقال: إنك تقبل وأنت صائم» (¬1). وأما كونها لا تكره على روايةٍ فلما روت عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإرْبِه» (¬2) رواه البخاري. وروي: «لإرَبِه» ومعناهما واحد. قاله الخطابي. قال: (ويجب عليه اجتناب الكذب والغيبة والشتم فإن شُتم استحب أن يقول: إني امرؤ صائم). أما كون الصائم يجب عليه اجتناب الكذب والغيبة والشتم فلأن ذلك واجب في غير الصوم فلأن يجب في الصوم بطريق الأولى. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (¬3) متفق عليه. وروي أنه قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ» (¬4). وأما كونه إذا شتم يستحب له أن يقول: إني امرئ صائم فلأن في الحديث: «فإن سابه أحد فليقل: إني امرؤ صائم» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (9423) 2: 317 كتاب الصيام، من كره القبلة للصائم ولم يرخص فيه. عن ابن عمر، عن عمر. وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1: 44 عن سالم، عن عمر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1826) 2: 680 كتاب الصوم، باب المباشرة للصائم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5710) 5: 2251 كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: {واجتنبوا قول الزور}، ولم أره في مسلم. وأخرجه أبو داود في سننه (2362) 2: 307 كتاب الصوم، باب الغيبة للصائم. وأخرجه الترمذي في جامعه (707) 3: 87 كتاب الصوم، باب ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1689) 1: 539 كتاب الصيام، باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم. وأخرجه أحمد في مسنده (9838) 2: 453. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1805) 2: 673 كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شُتِم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1151) 2: 806 كتاب الصيام، باب فضل الصيام. (¬5) هو تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه.

فصل [في مستحبات الإفطار] قال المصنف رحمه الله: (ويستحب تعجيل الإفطار وتأخير السحور، وأن يفطر على التمر فإن لم يجد فعلى الماء. وأن يقول عند فطره: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت سبحانك اللهم وبحمدك. اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم). أما كون الصائم يستحب له الفطور وتأخير السحور فلما روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزال أمتي بخير ما أَخَّروا السحور وعجلوا الفطر» (¬1) رواه أحمد في المسند. وفي لفظ: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» (¬2) متفق عليه. وفي استحباب تأخير السحور إشعار بأن السحور مستحب، وهو صحيح صرح به المصنف رحمه الله وغيره لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تسحروا فإن في السحور بركة» (¬3) متفق عليه. وأما كونه يستحب له أن يفطر على التمر فإن لم يجد فعلى الماء فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فعلى الماء فإنه طهور» (¬4) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (21546) 5: 172. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1856) 2: 692 كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار. وأخرجه مسلم في صحيحه (1098) 2: 771 كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه ... من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1823) 2: 678 كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1095) 2: 770 كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه ... (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2355) 2: 305 كتاب الصوم، باب ما يفطر عليه. وأخرجه الترمذي في جامعه (658) 3: 46 كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة. قال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1699) 1: 542 كتاب الصيام، باب ما جاء على ما يستحب الفطر.

وهذا الاستحباب في حق من لم يجد الرطب فإن وجده فالمستحب أن يبدأ به؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على رطبات، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء» (¬1) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه الأثرم وزاد فيه: «قبل أن يصلي» (¬2). ولم يذكر المصنف رحمه الله الرطب لأنه لا يوجد في الشام غالباً. وأما كونه يستحب له أن يقول عند فطره ما تقدم ذكره فلما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم صائماً فليقل: اللهم! لك صمت وعلى رزقك أفطرت سبحانك. اللهم! تقبل مني إنك أنت السميع العليم» (¬3). وفي حديث آخر: «أن للصائم عند فطره دعوة لا ترد» (¬4). قال: (ويستحب التتابع في قضاء رمضان ولا يجب). أما كون التتابع في قضاء رمضان يستحب فلأنه يحكي الأداء. ولأن فيه خروجاً من الخلاف. وأما كونه لا يجب فلقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185] وهذا مطلق يتناول المتفرق. ولما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قضاء رمضان: «إن شاء فرق وإن شاء تابع» (¬5) رواه الأثرم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2356) 2: 306 كتاب الصوم، باب ما يفطر عليه. وأخرجه الترمذي في جامعه (696) 3: 79 كتاب الصوم، باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار. (¬2) هو تكملة في الحديث السابق. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2358) 2: 306 كتاب الصوم، باب القول عند الإفطار. عن معاذ بن زهرة. مختصر. وأخرجه الدارقطني في سننه (26) 2: 185 كتاب الصيام. عن ابن عباس رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير 2: 51. عن أنس بن مالك رضي الله عنه. مختصر. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (1753) 1: 557 كتاب الصيام، باب في الصائم لا ترد له دعوته. قال في الزوائد: إسناده صحيح. لأن إسحاق بن عبيدالله بن الحارث، قال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وباقي رجال الإسناد على شرط البخاري. (¬5) أخرجه الدارقطني في سننه (74) 2: 193 كتاب الصيام، باب القبلة للصائم.

وفي لفظ: «لو كان على أحدكم دين فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضياً عنه؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (77) 2: 194 كتاب الصيام، باب القبلة للصائم، عن محمد بن المنكدر.

فصل قال المصنف رحمه الله: (ولا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر، [فإن فعل فعليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم). أما عدم جواز تأخير رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر] (¬1) فلأن مقتضى الدليل وجوب القضاء على الفور كالصلاة خولف ذلك في جواز تأخيره للمعذور إلى زوال عذره للعذر ولغيره إلى أن يضيق شعبان عنه لأن عائشة قالت: «كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أقضيه حتى يجيء شعبان» (¬2) متفق عليه. فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. وأما كون من فعل ذلك عليه القضاء فلأن القضاء كان واجباً عليه ولم يوجد ما يسقطه فوجب أن يبقى على ما كان عليه. وأما كونه عليه إطعام مسكين لكل يوم فلأنه يروى عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة أنهم قالوا: «يطعم عن كل يوم مسكيناً» (¬3) ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلافه فكان إجماعاً. وقد أسنده أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريق فيه ضعف (¬4). ولأن تأخير قضاء رمضان عن وقته إذا لم يوجب قضاء آخر أوجب الفدية كالشيخ الهرم. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1849) 2: 689 كتاب الصوم، باب متى يقضى قضاء رمضان. وأخرجه مسلم في صحيحه (1146) 2: 802 كتاب الصيام، باب قضاء رمضان في شعبان. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (86) 2: 196 عن ابن عمر، و (91) 2: 197 عن ابن عباس، و (88) 2: 197 عن أبي هريرة، كتاب الصيام، باب القبلة للصائم. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (89) 2: 197 كتاب الصيام، باب القبلة للصائم، قال الدارقطني: فيه إبراهيم بن نافع وابن وجيه ضعيفان.

قال: (وإن أخره لعذر فلا شيء عليه وإن مات. وإن أخره لغير عذر فمات قبل رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين وإن مات بعد أن أدركه رمضان آخر فهل يطعم كل يوم مسكين أو اثنان؟ على وجهين). أما كون من أخر قضاء رمضان عن وقته لعذر من مرض أو سفر أو عجز: لا شيء عليه فلأن صوم رمضان لا يجب بتأخيره للعذر شيء وهو أصل فلأن لا يجب بتأخير القضاء شيء وهو فرع بطريق الأولى. وأما قول المصنف رحمه الله: وإن مات فتصريح بأن من أخر القضاء لعذر ثم مات كمن أخر القضاء لعذر وهو حي في عدم وجوب الشيء لاشتراكهما في جواز تأخير ذلك. فإن قيل: المراد بقوله: لا شيء عليه نفي القضاء والكفارة أو نفي الكفارة فقط؟ قيل: بالنسبة إلى الميت نفيهما وبالنسبة إلى الحي نفي الكفارة دون القضاء لأن الحي يمكنه القضاء بخلاف الميت وبه يظهر الفرق بينهما. وأما كون من أخر القضاء لغير عذر فمات قبل رمضان آخر يطعم عنه لكل يوم مسكين فلما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين» (¬1) قال الترمذي: الصحيح [أنه] (¬2) عن ابن عمر موقوف. وأما كون من مات بعد أن أدركه رمضان آخر يطعم عنه لكل يوم مسكين على وجهٍ فلأنه بإخراج ذلك زال تفريطه بالتأخير فلم يجب عليه شيء آخر كما لو مات من غير تفريط. وأما كونه يطعم عنه لكل يوم اثنان على وجهٍ فلأن كل واحد منهما يقتضي كفارة على انفراده فإذا اجتمعا وجبت كفارتان كما لو فرط في يومين. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (718) 3: 96 كتاب الصوم، باب ما جاء من الكفارة. (¬2) ساقط من ب.

قال: (وإن مات وعليه صوم منذور أو حج أو اعتكاف فعله عنه وليه، وإن كانت عليه صلاة منذورة فعلى روايتين). أما كون من مات وعليه صوم منذور يفعله عنه وليه؛ فلما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» (¬1) متفق عليه. ورواه أبو داود وقال: هذا في النذر (¬2). وفي رواية: «جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: فصومي عن أمك» (¬3) متفق عليه. ولأن النيابة تدخل العبادة بحسب خفتها، والمنذور أخف حكماً؛ لأنه لم يجب بأصل الشرع بل بإيجاب نفسه. وأما كون من مات وعليه حج يفعله عنه وليه واجباً كان أو منذوراً: أما الواجب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة قال: من شبرمة؟ [قال: قريب لي. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة» (¬4) رواه أبو داود. و«لأن امرأة] (¬5) قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم» (¬6) رواه البخاري. وأما المنذور فلما روي أن امرأة قالت: «يا رسول الله! إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ فقال: حجي عنها» (¬7) رواه البخاري. ولأنه منذور فكان للولي فعله كالصوم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1851) 2: 690 كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1147) 2: 803 كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2400) 2: 315 كتاب الصوم، باب فيمن مات وعليه صيام. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1825) 2: 690 كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1148) 2: 804 كتاب الصيام، باب قضاء الصيام على الميت. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1811) 2: 162 كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره. (¬5) ساقط من ب. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (1442) 2: 551 كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (1754) 2: 656 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة.

وأما كون من مات وعليه اعتكاف منذور يفعله عنه وليه فلأنه في معنى الصوم المنذور. وكان في نسخة المصنف رحمه الله الأصلية: وإن مات وعليه صوم أو حج أو اعتكاف منذور فغيره بعض أصحابه المأذون له في التغيير منه على ما ذكرت لأن تأخير المنذور إن رجع إلى الاعتكاف وحده بقي الصوم مطلقاً والولي لا يفعل الواجب بالشرع، وإن عاد إلى الجميع بقي الحج مشروطاً بكونه منذوراً ولا يشترط ذلك لأن الولي يفعل الواجب بالشرع أيضاً لما تقدم. ولا يقال في تقديم المنذور يبقى الاعتكاف مطلقاً لأن الاعتكاف لا يكون واجباً إلا بالنذر. فقوله وعليه مع ذلك يُعلم أنه منذور فلا حاجة إلى اشتراطه فيه. وفعل الولي لجميع ما ذكر مستحب لا واجب لأن قضاء دين الميت لا يجب على الولي من ماله فكذا الصوم عنه، وفعل غير الولي لذلك كالولي لأن ذلك دخلته النيابة بخفته وغير الولي في ذلك كالولي فجاز له فعله كالولي. وأما كون الولي يفعل الصلاة المنذورة على روايةٍ فلأنها منذورة أشبهت الصوم. وأما كونه لا يفعلها على روايةٍ فلأن الصلاة عبادة بدنية محضة بخلاف الصوم. وهذا أصح؛ لما ذكر، وبه يظهر الفرق بين الصلاة والصوم.

باب صوم التطوع

باب صوم التطوع قال المصنف رحمه الله: (وأفضله صيام داود [عليه السلام] (¬1) كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. ويستحب صيام أيام البيض من كل شهر، وصوم الاثنين والخميس). أما كون أفضل صيام التطوع صيام داود وكونه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فلما روى عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً» (¬2) متفق عليه. وفي تفضيل صوم داود على صوم التطوع إشعار بفضيلة صوم التطوع وهو صحيح. والأصل فيه ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، الصوم جنة. والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر وإذا لقي ربه» (¬3) متفق عليه. وعموم قوله عليه السلام عن الله عز وجل: «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أصير سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» (¬4). ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3238) 3: 1257 كتاب الأنبياء، باب أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1159) 2: 816 كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به ... عن عبدالله بن عمرو. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1805) 2: 673 كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شُتِم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1151) 2: 807 كتاب الصيام، باب فضل الصيام. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (6137) 5: 2384 كتاب الرقاق، باب التواضع.

وأما كون صيام أيام البيض من كل شهر يستحب فلما روى أبو ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر! إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة [وخمس عشرة] (¬1») (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وأما كون صيام الاثنين والخميس يستحب فلما روى أسامة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم الاثنين والخميس. فسئل عن ذلك فقال: إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» (¬3) رواه أبو داود. قال: (ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر. وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة، ويوم عرفة كفارة سنتين. ولا يستحب لمن كان بعرفة). أما كون من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر فلما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر» (¬4) رواه مسلم. وأما كون صيام يوم عاشوراء كفارة سنة ويوم عرفة كفارة سنتي فلما روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوم عرفة فإني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» (¬5). ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (761) 3: 134 كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر. وأخرجه النسائي في سننه (2424) 5: 4 كتاب الصيام، باب وجوب الزكاة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2436) 2: 325 كتاب الصوم، باب في صوم الاثنين والخميس. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1164) 2: 822 كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعاً لرمضان. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (1162) 2: 818 كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والإثنين. وأخرجه أبو داود في سننه (2425) 2: 321 كتاب الصوم، باب في صوم الدهر تطوعاً. وأخرجه الترمذي في جامعه (749) 3: 124 كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل صوم عرفة. قال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1730) 1: 551 كتاب الصيام، باب صيام يوم عرفة.

وقال في صيام يوم عاشوراء: «إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله (¬1») (¬2) [رواه مسلم] (¬3). وأما كون صيام يوم عرفة لا يستحب لمن كان بعرفة فلما روى ابن عمر قال: «حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه» (¬4). ولأنه يوم يستحب فيه إكثار الدعاء فاستحب الفطر فيه إعانة لفاعله على ذلك. قال: (ويستحب صوم عشر ذي الحجة. وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم). أما كون صوم عشر ذي الحجة يستحب فلما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العملُ الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله. قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» (¬5) أخرجه البخاري. وأما كون أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم» (¬6) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) في الأصل: بعده. (¬2) هو تكملة لحديث مسلم السابق وقد سبق تخريجه. وأخرجه الترمذي في جامعه (752) 3: 126 كتاب الصوم، باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1738) 1: 553 كتاب الصيام، باب صيام يوم عاشوراء. (¬3) ساقط من ب. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (751) 3: 125 كتاب الصوم، باب كراهية صوم يوم عرفة بعرفة. وأخرجه الدارمي في سننه (1766) 2: 17 كتاب الصوم، باب في صيام يوم عرفة. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (926) 1: 329 كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه (1163) 2: 821 كتاب الصيام، باب فضل صوم المحرم.

قال: (ويكره إفراد رجب بالصوم، وإفراد يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الشك ويوم النيروز والمهرجان إلا أن يوافق عادة). أما كون إفراد رجب بالصوم يكره إذا لم يوافق عادة فلما روي عن خرشة قال: «رأيت عمر يضرب أكف الناس حتى يضعوها في الطعام -يعني في رجب- ويقول: إنما هو شهر كانت الجاهلية تعظمه. ثم يقول: صوموا منه وأفطروا» (¬1). ولأن في صومه كله تشبيهاً برمضان. وأما كون إفراد يوم الجمعة بالصوم يكره كما تقدم فلما روى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده» (¬2) متفق عليه. وأما كون إفراد يوم السبت بالصوم يكره كما تقدم فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» (¬3) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. فإن قيل: هذا لا يختص بالإفراد؟ . قيل: قد تقدم في حديث أبي هريرة ما يدل عدم كراهية صومه مع غيره فتعين حمل هذا الحديث على صومه مفرداً. وأما كون صوم يوم الشك وهو الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو من شعبان يكره كما تقدم فلما روى عمار: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (¬4). وقد قيل: أنه حرام كذلك. ¬

_ (¬1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 191 كتاب الصيام، باب في صيام رجب. ولم يذكر قوله: «ثم يقول: صوموا منه وأفطروا» وعزاه إلى الطبراني في الأوسط، قال: وفيه الحسن بن جبلة ولم أجد من ذكره، وبقية رجاله ثقات. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1884) 2: 700 كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1144) 2: 801 كتاب الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (744) 3: 120 كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم السبت. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون صوم يوم النيروز والمهرجان يكره كما تقدم فلأنهما من أعياد الكفار ففي صومهما تعظيم لهما وتشبيه بأهلهما في التعظيم. وأما قول المصنف رحمه الله: إلا أن يوافق عادة له فعائد إلى صوم يوم الجمعة وإلى المهرجان. وإنما لم يكره إذا كان له عادة بصوم ذلك الزمن لأن العادة لها أثر في مثل ذلك وقد دل عليه قوله عليه السلام: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا من كان يصوم صوماً فليصمه» (¬1). قال: (ولا يجوز صوم يومي العيدين عن فرض ولا تطوع، وإن قصد صيامهما كان عاصياً ولم يجزئه عن فرض). أما كون صوم يومي العيدين لا يجوز فلما روي أن عمر قال في يوم عيد: «هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم» (¬2) متفق عليه. والنهي ظاهر في التحريم. وأما كون ذلك لا يجوز عن فرض ولا تطوع فلعموم الحديث المذكور. وأما كون من قصد صيامهما يكون عاصياً فلأنه تعمد فعل الحرام. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بعدم عصيان من لم يقصد صيامهما وهو صحيح لأنه لم يقصد المخالفة فلم يوصف بالعصيان. وأما كون من صامهما لا يجزئه عن فرض فلأنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد والفساد لا يجامع الإجزاء، أو شرطه الصحة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2327) 2: 298 كتاب الصوم، باب من قال: فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين. وأخرجه النسائي في سننه (2174) 4: 149 كتاب الصيام، ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير ... ، من حديث ابن عباس. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1889) 2: 702 كتاب الصوم، باب صوم يوم الفطر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1138) 2: 799 كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى.

قال: (ولا يجوز صيام أيام التشريق تطوعاً، وفي صومها عن الفرض روايتان). أما كون صيام أيام التشريق تطوعاً لا يجوز فلقوله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكرٍ لله عز وجل» (¬1) رواه مسلم. وأما كون صومها عن الفرض لا يجوز في رواية فلعموم الحديث المذكور. وأما كونه يجوز (¬2) في رواية؛ فلما روى ابن عمر وعائشة قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي» (¬3) رواه البخاري. جوز صومها عن المتعة وباقي الفروض في معناها فيلحق بها. قال: (ومن دخل في صوم أو صلاة تطوعاً استحب له إتمامه ولم يجب فإن أفسده فلا قضاء عليه). أما كون من (¬4) دخل فيما ذكر يستحب له إتمامه؛ فلأن به تكمل العبادة وذلك مطلوب. ولأن في الإتمام خروجاً من الخلاف. وأما كون الإتمام لا يجب؛ فلما روت عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله! أُهدي لنا حَيْس. قال: هاتيه فجئت به فأكل. وقال: قد كنت صائماً» (¬5) رواه مسلم. والصلاة وسائر التطوعات تلحق به لاشتراكهما في المعنى. ولأن (¬6) ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة. وأما كون من أفسد ذلك لا قضاء عليه فلأن ما لم يجب إتمامه لم يجب قضاؤه. ولأن القضاء تبع المقضي عنه فإذا لم يكن واجباً لم يكن القضاء واجباً. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1141) 2: 800 كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق. (¬2) في ب: لا يجوز. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1894) 2: 703 كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق. (¬4) زيادة يقتضيها السياق. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (1154) 2: 809 كتاب الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال ... (¬6) في ب: ولا.

قال: (وتُطلب ليلة القدر في العشر الأخير من رمضان، وليالي الوتر آكد، وأرجاها ليلة سبع وعشرين، ويدعو فيها بما روت عائشة قالت: «قلت يا رسول الله: إن وافقتها فبم أدعو: قال قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» (¬1». أما كون ليلة القدر تطلب في العشر الأخير من رمضان فلقوله صلى الله عليه وسلم: «فالتمسوها في العشر الأواخر ... مختصر» (¬2) متفق عليه. وقال: «اطلبوها في العشر الأواخر» (¬3). وقد جاء «أنه كان يوقظ أهله في العشر» (¬4). و «أنه كان يجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره» (¬5). وأما كون ليالي الوتر آكد فلقوله صلى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» (¬6) متفق عليه. وفي لفظ: «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» (¬7) رواه البخاري. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (3513) 5: 534 كتاب الدعوات. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3850) 2: 1265 كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية. وأخرجه أحمد في مسنده (25538) 6: 183. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1912) 2: 709 كتاب صلاة التراويح، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر. ومسلم في صحيحه (1167) 2: 826 كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها ... (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (22726) 5: 313. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (9510) 2: 324 كتاب الصيام، في العشر الأواخر من رمضان. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1920) 2: 712 كتاب صلاة التراويح، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان. ومسلم في صحيحه (1174) 2: 832 كتاب الاعتكاف، باب الإجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان. والنسائي في سننه (1639) 3: 217 كتاب قيام الليل، الاختلاف على عائشة في إحياء الليل. وابن ماجة في سننه (1768) 1: 562 كتاب الصيام، باب في فضل العشر الأواخر من شهر رمضان. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (796) 3: 161 كتاب الصوم، باب منه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1767) 1: 562 كتاب الصيام، باب في فضل العشر الأواخر من شهر رمضان. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (1913) 2: 710 كتاب صلاة التراويح، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1169) 2: 828 كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها ... (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (1919) 2: 711 كتاب صلاة التراويح، باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس.

وأما كون أرجاها ليلة سبع وعشرين فـ «لأن أبي بن كعب كان يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين. فقيل له: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ فقال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنها تطلع يومئذ لا شعاع لها» (¬1) رواه مسلم. وأما كون من وافقها يدعو فيها بدعاء عائشة المتقدم ذكره فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك فقال قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وحكه صلى الله عليه وسلم على الواحد حكمه على الكل. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (762) 2: 828 كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها ... (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه براً كان أو غيره. ومنه قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187]، وقوله تعالى: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء: 52]. قال الخليل: يقال عكف يعكُف ويعكِف. وهو في الشرع: الإقامة في المسجد للطاعة وإياه أراد المصنف رحمه الله بقوله: (وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى). قال: (وهو سنة إلا أن ينذره فيجب). أما كون الاعتكاف سنة إذا لم يُنْذر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه (¬1). فإن قيل: لم لا يكون واجباً لأن فعله للوجوب لا سيما مع المداومة؟ . قيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر» (¬2) علقه بالإرادة ولو كان واجباً لما علقه بها. وأما كونه يجب إذا نُذر فلقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (¬3) أخرجه البخاري. ¬

_ (¬1) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر». أخرجه البخاري في صحيحه (1923) 2: 713 كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1167) 2: 824 كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها ... (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وقد سبق ذكر حديث أبي سعيد، وفيه: «من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر». (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6318) 6: 2463 كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة.

قال: (ويصح بغير صوم. وعنه لا يصح فعلى هذا لا يصح في ليلة مفردة ولا بعض يوم). أما كون الاعتكاف بغير صوم يصح على المذهب فلما روي عن عمر أنه قال: «يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال: أوف بنذرك» (¬1) رواه البخاري. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» (¬2). ولأنه يصح ابتداؤه بغير صوم فصح جميعه بغير صيام كسائر العبادات. وأما كونه لا يصح بغيره على روايةٍ فلما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا اعتكاف إلا بصيام» (¬3). ولأنه لبث في مكان مخصوص فلا يكون قربة بمجرده كالوقوف بعرفة. وأما قول المصنف رحمه الله: فعلى هذا إلى آخره فتفريع على رواية كون الاعتكاف بغير صوم لا يصح لأن الليلة المفردة وبعض اليوم غير قابل للصوم المشترط. والأول أصح لما تقدم. والخبر عن عائشة لا نعلم صحته وإن صح فهو محمول على نفي الكمال، والقياس نقول بموجبه وأنه يفتقر إلى النية. قال: (ولا يجوز الاعتكاف من المرأة بغير إذن زوجها، ولا العبد بغير إذن سيده. وإن شرعا فيه بغير إذنٍ فلهما تحليلهما، وإن كان بإذن فلهما تحليلهما إن كان تطوعاً، وإلا فلا). أما كون الاعتكاف من المرأة بغير إذن زوجها، ومن العبد بغير إذن سيده لا يجوز فلأن منافعهما مملوكة لغيرهما، وفي اعتكافهما تفويت لمنافعهما فلم يجز ذلك بغير إذن مستحق المنفعة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6319) 6: 2464 كتاب الأيمان والنذور، باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنساناً في الجاهلية ثم أسلم. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 318 كتاب الصيام، باب من رأى الاعتكاف بغير صوم. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2473) 2: 333 كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض.

ولأن الاعتكاف ليس بواجب عليهما فكان لمالك المنفعة منعهما قياساً على بقية الأشياء المملوك منعها. وأما كون الزوج والسيد لهما تحليل المرأة والعبد إذا شرعا في ذلك بغير إذنهما فلأنه شروع غير جائز متضمن لفوات حقهما فملكا تحليلهما منه ليعود حقهما إلى ما كان. وأما كون ذلك لهما إذا شرعا بإذن إن كان الاعتكاف تطوعاً فلأن الاعتكاف المذكور لا يلزم بالشروع. ولأن لهما منعهما ابتداء فكذلك دواماً كالمعير إذا رجع فيما أذن فيه. وأما كونهما ليس لهما ذلك إن لم يكن الاعتكاف تطوعاً كالمنذور فلأنه يتعين بالشروع فيه ويجب إتمامه فيصير كالحج إذا (¬1) أذنا فيه. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأنهما لو شرعا في اعتكاف غير تطوع بغير إذن الزوج والسيد كان لهما تحليلهما لأنه شرط في المسألة الإذن في الشروع وهو صحيح لأنهما ليس لهما الدخول في الاعتكاف البتة لتضمنه فوات حق غيرهما وقد تقدم ذكره. قال: (وللمكاتب أن يعتكف ويحج بغير إذن. ومن بعضه حر إن كان بينهما مهايأة فله أن يعتكف ويحج في نوبته، وإلا فلا). أما كون المكاتب له أن يعتكف ويحج بغير إذن سيده فلأن السيد لا يستحق منافعه وليس له إجباره على الكسب وإنما له دين في ذمته فهو بمنزلة الغريم. وأما كون من بعضه حر له أن يفعل ذلك في نوبته إن كان بينهما مهايأة. وهو: أن يتفق هو ومالك بعضه أن يكون يوم له ويوم لمالك بعضه أو شهر وشهر أو سنة وسنة فلأن منافعه في تلك المدة لا يستحقها غيره بل هو بمنزلة الحر فيها فصح ذلك منه ككامل الحرية. وأما كونه ليس له أن يفعل ذلك إذا لم يكن بينهما مهايأة فلما يتضمن من بطلان حق غيره وهو غير جائز. ¬

_ (¬1) ساقط من ب.

قال: (ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد يُجَمّع فيه، إلا المرأة لها الاعتكاف في كل مسجد إلا مسجد بيتها (¬1). والأفضل الاعتكاف في الجامع إذا كانت الجمعة تتخلله). أما كون الاعتكاف لا يصح في غير مسجد فلقوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] خصه بذلك ولو صح في غيرها لم يخص تحريم الاعتكاف بالمباشرة في المساجد. وفي حديث عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُدْخل عليّ رأسه وهو في المسجد فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً» (¬2) متفق عليه. ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة «لأن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يعتكفن في المسجد» (¬3) ولو صح في غيره لفعلنه ولو مرة تبييناً للصحة. وأما كونه لا يصح من غير المرأة إلا في مسجد يُجَمَّع فيه -أي تقام فيه الجماعة- فلما روي عن عائشة أنها قالت: «لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة» (¬4). وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصح» (¬5) فالتخصيص بهذا يدل على عدم الصحة عند عدمه. ولأن الجماعة واجبة على الرجال والاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الجماعة مفض إلى الخروج إلى الصلوات الخمس وذلك ينافي الاعتكاف لأنه عبارة عن لزوم المسجد والخروج في النهار خمس مرات ينافي اللزوم. ¬

_ (¬1) في ب: إلا في مسجد بيتها. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1925) 2: 714 كتاب الاعتكاف، باب لا يدخل البيت إلا لحاجة. وأخرجه مسلم في صحيحه (297) 1: 244 كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها ... (¬3) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنت لها فضربت خباءً فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباءً آخر ... ». أخرجه البخاري في صحيحه (1928) 2: 715 كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف النساء. وأخرجه مسلم في صحيحه (1172) 2: 831 كتاب الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معكتفه. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2473) 2: 333 كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض. (¬5) أخرجه الدارقطني في سننه (5) 2: 200 كتاب الصيام، باب الاعتكاف.

وأما كون المرأة لها الاعتكاف في كل مسجد غير مسجد بيتها فلأن اشتراط مسجد الجماعة في حق الرجل لأجل وجوب الجماعة عليه وذلك مفقود في المرأة. وأما كونها ليس لها الاعتكاف في مسجد بيتها وهو الموضع الذي جعلته للصلاة من بيتها فلأنه لو جاز ذلك لاعتكف أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتهن ولو مرة واحدة تبييناً للجواز. وأما كون الأفضل الاعتكاف في الجامع إذا كانت الجمعة تتخلله فلأنه لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة. وتقييد المصنف رحمه الله الأفضلية بتخلل الجمعة الاعتكاف مشعر بأنه إذا لم يتخلله لم يكن الجامع أفضل من غيره لأن مدة الاعتكاف إذا كانت لا يتخللها الجمعة لا يحتاج إلى الخروج فاستوى الجامع وغيره إذن، وكونه أفضل يتضمن جواز الاعتكاف في غيره من المساجد لأنه مسجد تقام فيه الجمعة فيصح الاعتكاف فيه كمسجد الجامع. فعلى هذا إذا فعل وجب عليه الخروج إلى الجمعة لأنها فرض عين فتقدم على الاعتكاف، ولو كان الاعتكاف منذوراً لم يبطل لأنه خروج لواجب فلم يبطل بذلك كالمعتدة تخرج لقضاء العدة. ولأنه لو ندر أياماً فيها جمعة خرج إليها وصار كأنه استثنى الجمعة أشبه ما لو استثنى بلفظ. قال: (ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعله في غيره، إلا المساجد الثلاثة). أما كون من نذر ما ذكر في مسجدٍ له فعله في غيره إلا المساجد الثلاثة فلأن الله تعالى لم يعين لأداء الفرض موضعاً فلم يتعين بالنذر. وأما كون ما ذكر في أحد المساجد الثلاثة ليس له فعله في غيرها فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجدِ الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (¬1) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1132) 1: 398 أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1397) 2: 1015 كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.

قال: (وأفضلها المسجد الحرام ثم مسجد المدينة ثم الأقصى، فإذا نذره في الأفضل لم يجز (¬1) في غيره، وإن نذره في غيره فله فعله فيه). أما كون أفضل المساجد الثلاثة المسجد الحرام فلقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (¬2) رواه مسلم. وأما كون مسجد المدينة أفضل من المسجد الأقصى فلدخوله فيما سوى مسجد المدينة. وأما كون من نذر الاعتكاف أو الصلاة في الأفضل لا يجزئه في غيره فلأنه مفضول. فعلى هذا إذا نذره في المسجد الحرام لم يجزئه في مسجد المدينة ولا الأقصى ولو نذره في مسجد المدينة لم يجزئه في الأقصى لما ذكر. وأما من نذر ذلك في المفضول له فعله في الأفضل فلأنه أفضل. فعلى هذا لو نذره في الأقصى جاز في مسجد المدينة والحرام لأنهما أفضل منه، ولو نذره في المدينة جاز في الحرام لأنه أفضل منه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: «يا نبي الله! إني نذرت إن فتح الله عليك مكة لأصلين في بيت المقدس. قال: ¬

_ (¬1) في ب: يجزه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1133) 1: 398 أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1394) 2: 1013 كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة. وأخرجه الترمذي في جامعه (3916) 5: 719 كتاب المناقب، باب في فضل المدينة. وأخرجه النسائي في سننه (2897) 5: 213 كتاب مناسك الحج، فضل الصلاة في المسجد الحرام. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1404) 1: 450 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ماجاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أحمد في مسنده (10280) 2: 484.

هاهنا فصل (¬1). فكرر الرجلُ والنبيُّ قولهما ثلاثاً. ثم قال: فوالذي بعث محمداً بالحق لو صليت هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس» (¬2) رواه أحمد. قال: (ومن نذر اعتكاف شهر بعينه لزمه الشروع فيه قبل دخول ليلته إلى انقضائه). أما كون من نذر ما ذكر يلزمه الشروع في الاعتكاف قبل دخول ليلة الشهر فلأن الشهر يدخل بغروب الشمس ولا يتمكن من استيفاء الليل إلا أن يدخل قبل غروب الشمس بلحظة وما لا يمكن استيفاء الواجب إلا به واجب كغسل جزء من الرأس مع الوجه وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم. وأما كون الاعتكاف إلى انقضاء الشهر فلأن ذلك داخل في مسمى نذره وفيه تنبيه على أنه لا يلزم (¬3) ثلاثون يوماً بل يجزئه ذلك الشهر وإن كان ناقصاً لأن ذلك مقتضى نذره. قال: (وإن نذر شهراً مطلقاً لزمه شهر متتابع، وإن نذر أياماً معدودة فله تفريقها إلا عند القاضي، وإن نذر أياماً وليالي متتابعة لزمه ما يتخللها من ليل ونهار) (¬4). أما كون من نذر شهراً مطلقاً يلزمه شهر متتابع فلأن الشهر عبارة عن الليل والنهار فإذا أطلق اقتضى التتابع كما لو حلف لا كلمت زيداً شهراً. وأما كون من نذر أياماً معدودة له تفريقها عند غير القاضي فلأن الأيام المطلقة توجد بدون التتابع والنذر يقتضي ما يتناوله لفظه. وأما كونه ليس له ذلك عند القاضي فلما ذكر في الشهر: فعلى عدم اشتراط التتابع لا يدخل في نذره الليل إلا أن ينويه أو يشترطه، وعلى اشتراط التتابع يدخل الليل لما يأتي فيمن نذر أياماً متتابعة. وأما كون من نذر أياماً أو ليالي متتابعة يلزمه ما يتخلل ذلك من ليل أو نهار فلأنه يلزمه التتابع وفاء بنذره، ومن ضرورة التتابع دخول ما يتخلل ذلك. ¬

_ (¬1) في ب: أفضل. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (23217) 5: 373. (¬3) في ب على أنه يلزم. بإسقاط: لا. (¬4) في ج: أو نهار.

فصل [في حكم خروج المعتكف] قال المصنف رحمه الله: (ولا يجوز للمعتكف الخروج إلا إلى ما لا بد (¬1) منه كحاجة الإنسان والطهارة والجمعة والنفير المتعين والشهادة الواجبة والخوف من فتنة أو مرض والحيض والنفاس وعدة الوفاة ونحوه). أما كون المعتكف لا يجوز له الخروج إلا لما لا بد (¬2) منه فلما روي عن عائشة أنها قالت: «السنة للمعتكف أن لا يخرج لحاجة إلا لما لا (¬3) بد منه» (¬4) رواه أبو داود. وذلك ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» (¬5) متفق عليه. وأما قول المصنف رحمه الله: كحاجة الإنسان ... إلى آخره فتمثيل لصور لا بد من الخروج إليها. والمراد بحاجة الإنسان: البول والغائط والأكل والشرب ونحو ذلك. وقد دل حديث عائشة على جواز الخروج لذلك. وبالطهارة الغسل من الجنابة والوضوء، وقدما على الاعتكاف وإن كان منذوراً لأن الحاجة تدعو لهما. ضرورة أن الجنب لا يحل له اللبث في المسجد، والمحدث لا تصح صلاته بغير وضوء لأنهما واجبان بإيجاب الله تعالى بخلاف النذر فإنه وجب بإيجاب الناذر، والجمعة معلومة وقد تقدم ما يدل على جواز الخروج لها. وفي معنى ذلك كل واجب كالنفير المتعين والشهادة الواجبة والحيض والنفاس لأن اللبث في ¬

_ (¬1) في ج: إلا لما لا بد. (¬2) في ب: إلا إلى لا بد. (¬3) سقط لفظ: لا من ب. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2473) 2: 333 كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

المسجد معهما حرام، وكذلك عدة الوفاة لأنها تجب في المنزل الذي مات الزوج وهي فيه، والخوف من فتنة أو مرض لأن ذلك مما يباح به ترك الجمعة التي يباح الخروج من الاعتكاف [لها، فلأن يباح الخروج من الاعتكاف] (¬1) لأجله أولى. قال: (ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه فيجوز، وعنه له ذلك من غير شرط). أما كون المعتكف لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة إذا لم يشترط ذلك على المذهب فلما روت عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه» (¬2). وروي عن عائشة أنها قالت: «السنة في المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة» (¬3) رواهما أبو داود. ولأن عيادة المريض سنة والاعتكاف المنذور (¬4) واجب فلا يترك الواجب. لسنة وصلاة الجنازة إن صلى غيره عليها فليست واجبة عليه، وإن تعينت عليه يمكن فعلها في المسجد ولا وجه للخروج. وأما كونه يجوز له ذلك على روايةٍ فلأنه يروى عن علي: «المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة» (¬5). والأولى أصح. وما روي عن علي ليس بثابت وبتقدير ثبوته يحمل على الاعتكاف التطوع جمعاً بين قوله وبين قول عائشة: «السنة في المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة» (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2472) 2: 333 كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2473)، الموضع السابق. (¬4) في ب: والمنذور. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (9631) 2: 334 كتاب الصيام، ما قالوا في المعتكف ما له إذا اعتكف مما يفعله. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (8049) 4: 356 كتاب الاعتكاف، باب سنة الاعتكاف. (¬6) سبق تخريجه قريباً.

وأما كونه يجوز له ذلك إذا اشترط فلأن الاشتراط يجعل الأشياء المذكورة كالمستثناة. أشبه ما لو نذر شهراً إلا يوماً معيناً فإنه له أن يفعل ذلك كله فيه. قال: (وله السؤال عن المريض في طريقه ما لم يعرج، والدخول إلى مسجد يُتِم اعتكافه فيه). أما كون المعتكف له السؤال عن المريض في طريقه ما لم يعرج فلما روت عائشة قالت: «كنت أدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة» (¬1) متفق عليه. ولأنه بالوقوف يترك اعتكافه، وبالسؤال لا يتركه. وأما كونه له الدخول إلى مسجد يُتِم اعتكافه فيه فلأن المسجد لا يتعين بالاعتكاف فإذا صار إلى غيره كان له إتمام الاعتكاف فيه. قال: (فإن خرج لما لا بد منه خروجاً معتاداً كحاجة الإنسان والطهارة فلا شيء فيه، وإن خرج لغير المعتاد في المتتابع وتطاول خُيّر بين استئنافه وإتمامه مع كفارة يمين، وإن فعله في متعين قضى. وفي الكفارة وجهان). أما كون المعتكف إذا خرج لما لا بد منه خروجاً معتاداً كحاجة الإنسان ونحوها لا شيء فيه فلأنه خروج جائز معتاد فلم يجب فيه شيء كما لو لم يخرج. ولأن الاعتكاف لا يخلو من ذلك فلو وجب فيه شيء لأدى إلى امتناع معظم الناس من الاعتكاف. وأما كونه يخير بين استئناف الاعتكاف وبين إتمامه وكفارة يمين إذا خرج لغير المعتاد كالنفير والخوف والمرض ونحو ذلك وتطاول وكان الاعتكاف منذوراً متتابعاً غير معين فلأن كل واحد من الاستئناف والاتمام مع الكفارة محصل لنذره: أما الاستئناف فظاهر، وأما الاتمام مع الكفارة فلأن الكفارة تجبر ما حصل من فوات التتابع. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (297) 1: 244 كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها ... ولم أره عند البخاري. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1776) 1: 565 كتاب الصيام، باب في المعتكف يعود المريض ويشهد الجنائز.

وفي تقييد المصنف رحمه الله ذلك بالتطاول إشعار بأنه لو كان الزمن يسيراً لا يؤثر وهو صحيح لأن اليسير معفو عنه لقلته. وأما كونه يقضي إذا فعل ذلك في متعين فلاستدراك ما فاته. وأما كونه عليه الكفارة في وجه فلتركه المنذور في وقته. وأما كونه لا كفارة عليه في وجه فلأنه خروج لا يبطل الاعتكاف أشبه الخروج لحاجة الإنسان. قال: (وإن خرج لما له منه بد في المتتابع لزمه استئنافه، وإن فعله في معين فعليه كفارة، وفي الاستئناف وجهان). أما كون المعتكف يلزمه الاستئناف إذا خرج لما له منه بد وكان الاعتكاف منذوراً متتابعاً فلأن الاعتكاف يبطل بالخروج لما تقدم، وإذا بطل لزم استئنافه لأنه لا يمكن فعل المنذور على وجهٍ إلا به. وأما كونه إذا فعل ذلك في معين عليه الكفارة فلتركه المنذور في وقته. وأما كونه عليه الاستئناف في وجه فليستدرك التتابع. وأما كونه ليس عليه ذلك في وجه فلأنه لا يمكن استئنافه على الوجه الذي أوجبه. ضرورة أنه أوجبه في زمان معين وذلك يتعذر عوده بعد مضيه فعلى هذا يتمم ذلك الزمان ثم يقضي ما فاته. قال: (وإن وطئ المعتكف في الفرج فسد اعتكافه، ولا كفارة عليه إلا لترك نذره. وقال أبو بكر: عليه كفارة يمين. وقال القاضي: عليه كفارة ظهار. وإن باشر دون الفرج فأنزل فسد اعتكافه وإلا فلا). أما كون المعتكف إذا وطئ في الفرج يفسد اعتكافه فلأن الوطء في الاعتكاف حرام لقول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة: 187] وإذا كان حراماً أفسده كالوطء في الحج والصوم. وأما عدم وجوب الكفارة على المذهب بالوطء فلأن الاعتكاف عبادة لا تجب بأصل الشرع فلم يجب بإفساده بالوطء كفارةكالنوافل. ولأنها عبادة لا يدخل المال في جبرانها فلم تجب الكفارة بإفسادها كالصلاة.

[وأما وجوب كفارة يمين على قول أبي بكر فلأنها كفارة نذر فكانت كفارة يمين كسائر الكفارات] (¬1). وأما وجوب كفارة الظهار على قول القاضي فلأنها كفارة وطء. أشبه وطء المظاهر. وأما قول المصنف رحمه الله: "إلا لترك نذره" فتنبيه على أن نفي الكفارة هنا على المذهب إنما هو في نفيها بالوطء أما بغيره فلا لما تقدم من أنها تجب إذا ترك المنذور. وأما كون من باشر دون الفرج فأنزل فسد اعتكافه وإذا لم ينزل لم يفسد فقياس على الصوم. قال: (ويستحب للمعتكف التشاغل بفعل القرب واجتناب ما لا يعنيه، ولا يستحب له إقراء القرآن والعلم والمناظرة فيه إلا عند أبي الخطاب إذا قصد به الطاعة). أما كون المعتكف يستحب له التشاغل بفعل القرب؛ فلأن ذلك يستحب لغير المعتكف فالمعتكف أولى. وأما كونه يستحب له اجتناب ما لا يعنيه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (¬2) رواه الترمذي. وأما كونه لا يستحب له إقراء القرآن والعلم والمناظرة فيه على قول أكثر أصحابنا؛ فلأنها عبادة شرط لها المسجد فلا يستحب فيها ذلك كالصلاة والطواف. وأما كونه يستحب له ذلك إذا قصد به الطاعة على قول أبي الخطاب؛ فلأن نفعه يتعدى. ولأنه قربة في نفسه أشبه الذكر. والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. ¬

_ (¬1) ساقط من ب. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (2317) 4: 558 كتاب الزهد. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3976) 2: 1315 كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة.

كتاب المناسك

كتاب المناسك قال المصنف رحمه الله: (يجب الحج والعمرة في العمر مرة واحدة بخمسة شروط: الإسلام، والعقل. فلا يجب على كافر ولا مجنون ولا يصح منهما. والبلوغ والحرية. فلا يجب على صبي ولا عبد. ويصح منهما. ولا يجزئهما إن بلغ الصبي أو عتق العبد (¬1) إلا أن يبلغ أو يعتق في الحج قبل الخروج من عرفة، وفي العمرة قبل طوافها فيجزئهما). أما وجوب الحج. وهو في اللغة: القصد. ويحكى عن الخليل أنه قال: الحج كثرة القصد إلى من يعظمه. قال الشاعر: وأشهد من عوف حؤولا كثيرة ... يحجون سِبّ الزِّبرقان المزعفرا أي يقصدون. والسِّب: العمامة. والحج والحجة تفتح حاؤهما وتكسر. وفي الشرع: اسم لأفعال مخصوصة. وهو أحد أركان الإسلام بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {ولله على الناس حِجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97]. وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» (¬2) متفق عليه. ذكر منها حج البيت. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (8) 1: 12 كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس». وأخرجه مسلم في صحيحه (16) 1: 45 كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإيمان كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وأما الإجماع فأجمعت الأمة على وجوب الحج في الجملة. وأما وجوب العمرة. وهي في اللغة: الزيارة. وفي الشرع: عبارة عن أفعال مخصوصة فبالكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] ومقتضى الأمر الوجوب. ثم عطفها على الحج. والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إنها لقرينة الحج في كتاب الله تعالى» (¬1). وأما السنة فما روى الصُّبَيُّ بن معبد قال: «أتيت عمر فقلت: يا أمير المؤمنين! إني أسلمت وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ فأهللت بهما. فقال عمر رضي الله عنه: هُديتَ لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم» (¬2). رواه النسائي وأبو داود. ورويا أيضاً: «أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن. قال: حج عن أبيك واعتمر» (¬3) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وروي «أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج وتعتمر». وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن. وكان في الكتاب: وأن العمرةَ الحجُّ الأصغر» (¬4). ولأنها تشتمل على إحرام وطواف وسعي فكانت واجبة كالحج. وأما كون الواجب من ذلك في العمر مرة واحدة فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! إن الله قد فرض عليكم الحج ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في صحيحه معلقاً 2: 629 كتاب الحج، باب وجوب العمرة وفضلها. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1799) 2: 158 كتاب المناسك، باب في الإقران. وأخرجه النسائي في سننه (2719) 5: 146 كتاب مناسك الحج، القران. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1810) 2: 162 كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره. وأخرجه الترمذي في جامعه (930) 3: 269 كتاب الحج، باب منه. وأخرجه النسائي في سننه (2637) 5: 117 كتاب مناسك الحج، العمرة عن الرجل الذي لا يستطيع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2906) 2: 970 كتاب المناسك، باب الحج عن الحي إذا لم يستطع. وأخرجه أحمد في مسنده (16226) 4: 10. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 351 كتاب الحج، باب من قال بوجوب العمرة ...

فحجوا. فقال رجل: أكل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ... » (¬1) مختصر. رواه مسلم. وأما ما يشترط لوجوبها فخمسة شروط: شرطان للوجوب والصحة وهما: الإسلام والعقل. فلا يجب واحد منهما على كافر ولا مجنون ولا يصح منهما. أما عدم الوجوب فلأن الكافر والمجنون غير مخاطبين بفروع الإسلام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن المعتوه حتى يعقل ... » (¬2) مختصر. رواه أبو داود. وأما عدم الصحة فلأن كل واحد من الحج والعمرة عبادة من شرطها النية وهي لا تصح منهما. وشرطان للوجوب والإجزاء وهما: البلوغ والحرية. فلا يجب واحد منهما على صبي ولا عبد ويصح منهما ولا يجزئهما إلا أن يبلغ الصبي ويعتق العبد في الزمن المتقدم ذكره. أما عدم الوجوب على الصبي فلأنه غير مكلف لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ ... » (¬3) مختصر. رواه أبو داود. وأما على العبد فلأن مدتهما تطول فلم يجبا على العبد لما فيهما من إبطال حق سيده أشبه الجهاد. وأما الصحة فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «رفعت امرأة صبياً فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر» (¬4) رواه مسلم. وأما في العبد فلأنه من أهل العبادات فصح حجه وعمرته كالحر. والشرط الخامس: الاستطاعة. وسيأتي ذكره. وأما عدم الإجزاء إذا لم يبلغ الصبي ويعتق العبد في الزمن المتقدم ذكره فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى» (¬5) رواه الشافعي في مسنده. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1337) 2: 975 كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4402) 4: 140 كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً. (¬3) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1336) 2: 974 كتاب الحج، باب صحة حج الصبي. (¬5) أخرجه الشافعي في مسنده (743) 1: 283 كتاب الحج، باب فيما جاء في فرض الحج وشروطه.

ولأنهما فَعَلا العبادة وهما من غير أهل الوجوب فلم يجزئهما إذا صارا من أهل الوجوب كالصبي يصلي ثم يبلغ في الوقت. وأما الإجزاء إذا بلغ الصبي وعتق العبد قبل الوقوف في الحج والطواف في العمرة فلأنهما أتيا بالنسك حال الكمال فأجزأهما كما لو وجد ذلك قبل الإحرام. قال رحمه الله: (ويحرم الصبي المميز بإذن وليه وغير المميز يحرم عنه وليه ويفعل ما يعجز عنه من عمله، ونفقة الحج وكفاراته في مال وليه، وعنه: في مال الصبي). أما إحرام الصبي المميز بإذن وليه. ومعناه: أن إحرامه لا يصح بغير إذنه فلأنه قد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد منه بنفسه كالبيع. وأما إحرام الولي عن غير المميز فلأنه فعل لا يمكنه فعله بنفسه فناب عنه وليه كسائر ما ينوب عنه فيه. ومعنى إحرامه عنه عقده الإحرام له فيصير الصبي بذلك محرماً دون الولي كما يعقد له النكاح. والولي هنا: من يلي ماله، وأمُّه في ظاهر كلامه وظاهر الحديث المتقدم. وقال القاضي: لا يصح لعدم ولايتها على ماله. وفي سائر العصبات وجهان بناء على الأم. وأما فعل الولي عن الصبي ما يعجز عن فعله فلما روى جابر رضي الله عنه قال: «كنا إذا حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لبَّيْنا عن الصبيان ورمينا عنهم» (¬1) رواه ابن ماجة. وروي «أن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة» (¬2) رواه الأثرم. فعلى هذا ما يمكن الصبي فعله من وقوف وغيره لزمه فعله لأن النيابة إنما تجوز مع العجز وذلك منتف. وأما نفقة الحج ففيها روايتان: إحداهما: أنها في مال الولي لأنه أدخله وغرر بماله. والثانية: أنها في مال الصبي لأن ذلك من مصلحته ليألف الحج ويتمرن عليه أشبه أجرة المعلم والطبيب وأجرة من يحمله ليشاهد الجمعة والجماعات. والأول أصح لما ذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (3038) 2: 1010 كتاب المناسك، باب الرمي عن الصبيان. (¬2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (9026) 5: 70 كتاب المناسك، باب أيّ حين يكره الطواف ...

والمراد بنفقة الحج ما يزيد على نفقة الحضر لأن نفقة الحضر في مال الصبي بغير خلاف. وصرح المصنف رحمه الله في المغني بأن الروايتين في الزائد على نفقة الحضر. ولم يذكر في القدْر الذي يجب له في الحضر خلافا بل أوجبها في مال الصبي. وأما الكفارة فما اختلف عمده وسهوه كاللباس والطيب فلا فدية فيه على الصبي؛ لأن عمده خطأ، وما لا يختلف عمده وسهوه فالفدية فيه بفعل الصبي وفي محلها الروايتان المتقدمتان. قال رحمه الله: (وليس للعبد الإحرام إلا بإذن سيده، ولا للمرأة الإحرام نفلاً إلا بإذن زوجها. فإن فعلا فلهما تحليلهما ويكونان كالمحصر. وإن أحرما بإذنٍ لم يجز تحليلهما. وليس للزوج منع امرأته من حج الفرض ولا تحليلها إن أحرمت به). أما كون العبد ليس له الإحرام بغير إذن سيده وكون المرأة ليس لها الإحرام نفلاً بغير إذن زوجها فلأن إحرامهما يتضمن إسقاط حق السيد والزوج فلم يجز لهما ذلك لئلا يؤدي إلى إسقاط حق المستحق. وأما إطلاق المصنف رحمه الله منع العبد من الإحرام وتقييده في المرأة بكونه نفلاً فلأن العبد لا يجب عليه بحال فصح الإطلاق والمرأة يكون الحج تارة واجباً عليها وتارة تحج متطوعة فاحتاج إلى التقييد بكونه نفلاً لأنه ليس له منعها إذا كان فرضاً وسيأتي ذكره. وأما كون السيد والزوج لهما تحليلهما إذا فعلا ذلك بغير إذنهما فلأن حقهما ثابت لازم فكان لهما إخراجهما من الإحرام المفوت له كما لو اعتكفا. وفي تحليلهما إشعار بانعقاد إحرامهما وإن وقع بغير إذن وهو صحيح لأن الإحرام عبادة بدنية فصحت بغير إذن كالصلاة. وأما حكمهما بعد تحليلهما فكالمحصر. وسيأتي ذكره بعد إن شاء الله تعالى (¬1). وأما كونهما ليس لهما تحليلهما إذا أحرما بإذن فلأن الحج عبادة تلزم بالشروع فلم يملكا تحليلهما من الإحرام إذا شرعا بإذن كقضاء رمضان. ¬

_ (¬1) ص: 228.

وأما كون الزوج ليس له منع امرأته من حج الفرض ولا تحليلها إن أحرمت به فلأنه واجب بأصل الشرع أشبه صوم رمضان.

فصل [في الاستطاعة] قال المصنف رحمه الله: (الشرط الخامس: الاستطاعة. وهو: أن يملك زاداً وراحلة صالحة لمثله بآلتها الصالحة لمثله، أو ما يقدر به على تحصيل ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وقضاء دينه ومؤونته ومؤونة عياله على الدوام. ولا يصير مستطيعاً ببذل غيره بحال. فمن كملت له هذه الشروط وجب عليه الحج على الفور). أما اشتراط الاستطاعة لوجوب الحج فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] قيّد الوجوب بالاستطاعة. وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس. ذكر منها: حج البيت من استطاع إليه سبيلا» (¬1). ولأن الحج عبادة يتعلق بقطعها مسافة بعيدة فاعتبر لوجوبها الاستطاعة كالجهاد. فإن قيل: هل الاستطاعة شرط في الصحة والإجزاء؟ قيل: لا؛ لأن خَلْقاً من الصحابة حجوا ولا شيء لهم ولم يؤمروا بإعادة ذلك. ولأن الاستطاعة إنما اشترطت للوصول فإذا وصل وفعل الأفعال المعتبرة وجب أن تصح وتجزئ عنه كما لو تكلف المريض فصلى قائماً أو سعى إلى الجمعة فصلاها. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يملك إلى آخره فبيان ماهية الاستطاعة شرعاً. وفي الحديث عن ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وأما اشتراط صلاحية ذلك لمثله (¬3) فلأن ذلك معنى يتعلق به أمر شرعي فاعتبر فيه الصلاحية كالنفقة والسكنى في حق الزوجة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 67. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (813) 3: 177 كتاب الحج، باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

ولأن في تكليف الإنسان ما لا يصلح له ضرراً عليه. فعلى هذا يعتبر في الزاد أن يكون من الخاص إن كان الحاج من أولاد الأمراء والتجار. ومن الكاصة إن كان من أولاد السوقة. وفي الراحلة وآلتها أن يكون جملاً جيداً بمحارة (¬1) إن كان كالأول. وإن كان من أولاد السوقة وهو قادر على الركوب على القتب فلا تشترط له المحارة ولا كون الجمل جيداً، ولو كان ضعيفاً لا يمكنه الركوب على القتب اشترط في حقه ما يمكنه الركوب معه. وأما اعتبار ملك ذلك أو القدرة على تحصيله بدراهم أو دنانير أو نحو ذلك فلأن المشترط الاستطاعة وهي حاصلة بكل واحد منهما. وأما كون الزاد والراحلة المتقدم ذكرهما فاضلاً عما يحتاج إليه من مسكن وخادم فلأن المسكن والخادم من حوائجه الأصلية. ولأن المفلس يقدم بذلك على غرمائه فلأن يقدم الإنسان بذلك على حجه بطريق الأولى. وأما كونهما فاضلين عن قضاء دينه فلأن ذمته مشغولة به وبه حاجة إلى براءتها. وأما كونهما فاضلين عن مؤونته ومؤونة عياله فلأن ذلك مقدم على الدين المقدم على الحج فلأن يقدم على الحج بطريق الأولى. وفي الحديث: «كفى بالمرء إثماً أن يُضيّعَ من يقوت» (¬2) رواه أبو داود. وأما قول المصنف رحمه الله: على الدوام ففيه نظر وذلك أنه ذكر في المغني والكافي نفقة العيال. وقال فيهما: إلى أن يعود. وكذلك قال سائر الأصحاب. وطريق التصحيح أن يحمل قوله هنا على ذلك، ويمكن أن يحمل ذلك على ظاهره ويكون قد قصد النفقة عليه وعلى عياله في ذهابه وعوده وما بعد ذلك. فإن أبا الخطاب وغيره ذكر نفقة العيال إلى أن يعود. ثم قال: وأن يكون له إذا عاد ما يكفيه من صناعة أو تجارة أو عقار. إلا أن ظاهر كلامه في المغني يقتضي عدم اشتراط ذلك لأنه ذكر نفقة العيال والمسكن والخادم وعلل ذلك. ثم قال: وذكر أبو الخطاب أن من شرط وجوب الحج عليه أن يكون له إذا رجع ما يكفيه من تجارة أو عقار أو نحو ذلك. ¬

_ (¬1) المحارة: شبه الهَوْدج. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1692) 2: 132 كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم.

فإن قيل: المعتبر في المسكن والخادم ملكهما أو استئجارهما؟ قيل: ليس في كلام المصنف رحمه الله هنا ولا في بقية كتبه ما يؤذن بذلك لكن ينبغي -والله أعلم- أن ينظر إلى حاله: فإن كان ممن عادته اتخاذ ذلك ملكاً له لم يجب إلا أن يفضل ماله عن ثمن ذلك، وإن كان ممن عادته اتخاذ ذلك استئجاراً لم يقف الوجوب على كونه فاضلاً عن الثمن بل يكون حكم الأجرة حكم نفقته. وأما عدم صيرورة الإنسان مستطيعاً ببذل غيره بحال فلأن عليه فيه منة فلم يلزمه قبوله كما لو بذلت له الرقبة في الكفارة، وإذا لم يلزمه القبول بقي على ما كان عليه من عدم القدرة على الحج فلا يصير مستطيعاً. وأما وجوب الحج على من كملت له هذه الشروط فلما تقدم من الكتاب والسنة والإجماع أول الباب السالمة عن معارضة اشتراط الشروط المذكورة. وأما وجوبه على الفور فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة» (¬1) رواه ابن ماجة. وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ملك زاداً وراحلة توصله إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً» (¬2) رواه الترمذي. ولأنه أحد أركان الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقت كالصيام. قال رحمه الله: (فإن عجز عن السعي إليه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه، ويعتمر من بلده، وقد أجزأ عنه وإن عوفي). أما لزوم من عجز عن السعي إلى الحج لكِبَر أو مرض لا يرجى برؤه إقامة من يحج عنه ويعتمر فلما روى ابن رَزِين: «أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن. قال: حج عن أبيك واعتمر» (¬3) وهو حديث حسن. وأما قول المصنف رحمه الله: من بلده فتنبيه على الموضع الذي يجب الحج منه وذلك بلده أو الموضع الذي أيْسَرَ فيه. وذلك في حق الحي العاجز عن السعي والميت ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2883) 2: 962 كتاب المناسك، باب الخروج إلى الحج. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (812) 3: 176 كتاب الحج، باب ما جاء في التغليظ بترك. (¬3) سبق تخريجه ص: 68.

الذي وجب عليه قبل موته لأن الحج يجب على المنوب مِنْ ذلك فكذلك النائب لأن القضاء على وفق الأداء كقضاء الصلاة والصيام. وأما إجزاء ذلك عنه وإن عوفي فلأنه أتى بما أُمر به فخرج عن عهدته كما لو لم يبرأ. ولأنه أدى حجة الإسلام بأمر الشرع فلم يلزمه حج ثان كما لو حج بنفسه. قال رحمه الله: (ومن أمكنه السعي إليه لزمه ذلك إذا كان في وقت المسير ووجد طريقاً آمنا لا خفارة فيه يوجد فيه الماء والعلف على المعتاد. وعنه: أن إمكان المسير وتخلية الطريق من شرائط الوجوب. وقال ابن حامد: إن كانت الخفارة لا تجحف بماله لزمه بذلها). أما اشتراط إمكان المسير وتخلية الطريق للزوم الأداء لا للوجوب على الرواية الأولى فلأنهما عذران يمنعان الأداء فقط فلم يمنعا الوجوب كالمرض. وأما اشتراطهما للوجوب على الرواية الثانية فلأنه لا يستطاع فعله بدونهما فكانا شرطين للوجوب كالزاد والراحلة. فإن قيل: ما فائدة اختلاف الروايتين؟ قيل: فائدته أن الشروط الخمسة لو وجدت في شخص ثم مات، فإن قلنا أنهما شرطان للزوم الأداء حُجّ عنه لأنه مات بعد أن وجب عليه الحج، وإن قلنا أنهما شرطان للوجوب لم يجب أن يستناب عنه لأنه لم يجب عليه بعد. وأما كونها موجوداً فيها الماء والعلف فلأنه لو كلف حمل الماء وعلف دوابه من بلده إلى مكة لكان فيه مشقة عظيمة. وأما قول المصنف رحمه الله: على المعتاد فمعناه لا يعتبر ذلك في كل منزله لأنه لو اعتبر ذلك لم يجب الحج البتة بل المعتبر ما هو عادة مثل وجود الماء في المنازل المعروفة ووجود الكلأ في مظانه. فعلى هذا يجب عليه حمل الماء من منهل إلى منهل وحمل الكلأ ونحوه من موضع إلى موضع. فإن قيل: هلا وجب عليه حمل الماء والعلف من بلده كزاده؟ قيل: لأنه لم تجر العادة بذلك بخلاف الزاد فوجب أن يحمل كل واحد منهما على المعتاد فيه.

وأما معنى إمكان المسير فهو أن الشروط المشترطة في الحج إذا اجتمعت في زمن ينبغي أن يكون ذلك الزمن واسعاً للسفر من موضعه إلى مكة. مثل أن تجتمع الشروط للدمشقي في أول شوال فإن لم يكن الزمن واسعاً لم يكن المسير في تلك السنة ممكنا. وأما معنى تخلية الطريق فأن تكون آمنة موجوداً فيها الماء والعلف على المعتاد. وأما كونها آمنة فلأنها إذا كانت خائفة يكون معذوراً في القعود لما في المسير من احتمال الضرر. فإن كان الأمن يحصل ببذل شيء خفارة نظرت فيه فإن كانت كثيرة لم تلزمه لأن في بذل ذلك ضرراً فلم يلزمه لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1). وإن كانت يسيرة فالمذهب أنه لا يلزمه بذلها لأن فيه صغاراً. وقال ابن حامد: إن كانت الخفارة لا تجحف بماله لزمه بذلها لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها كثمن الماء وعلف البهائم. قال رحمه الله: (ومن وجب عليه الحج فتوفي قبله أُخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة. فإن ضاق ماله عن ذلك أو كان عليه دين أخذ للحج بحصته وحج به من حيث يبلغ). أما وجوب إخراج حجة وعمرة من مال من وجب عليه الحج ثم توفي قبل فعله فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عمن عليه حج. قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقض فالله أحق بالوفاء» (¬2) رواه النسائي. شبّه الحج بالدين وسوّاه به فوجب أن يخرج من ماله كالدين. وأما كون ذلك من جميع المال فلأن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين والدين يجب من جميع المال فكذا المشبه. وأما الأخذ بحصة الحج إذا ضاق مال الميت عن ذلك أو كان عليه دين فلأن الحج كالدَّين والدين مع الدين يقسم المال بينهما بالحصص فكذا الحج والدين. وقال بعض أصحابنا: يقدم الدين على الحج لأنه حق آدمي مبني على الشح بخلاف الحج فإنه حق الله مبني على المسامحة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2341) 2: 784 كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره. قال في الزوائد: في إسناده جابر الجعفي متهم. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (2632) 5: 116 كتاب مناسك الحج، الحج عن الميت الذي نذر أن يحج.

وأما الحج بالحصة من حيث يبلغ فلأنه لا يمكن من أكثر من ذلك. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: أن يخلف مائة وعليه مائة والحج من بلده يجيء بمائة فيطلع للحج خمسون فأي موضع أمكنه فعل الحج منه بذلك المقدار وجب فعله لأنه أمكنه فعل بعض الواجب عليه فوجب لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6858) 6: 2658 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فصل [في اشتراط المَحرم] قال المصنف رحمه الله: (ويشترط لوجوب الحج على المرأة وجود محرمها. وهو: زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح إذا كان بالغاً عاقلاً. وعنه: أن المحرم من شرائط لزوم الأداء فإن مات المحرم في الطريق مضت في حجتها ولم تصر محصرة). أما اشتراط المَحْرَم لوجوب الحج أو للزوم الأداء على المرأة ففيه روايتان وجههما ما تقدم في المسير وتخلية الطريق (¬1). وأما المُراد بالمحرم فما ذكره المصنف رحمه الله لأن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها» (¬2) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة. وأما قوله: أو سبب مباح فيدخل فيه من حَرُم عليه نكاحها بالرضاع وهو محرم؛ لأنه حرم عليه نكاحها بسبب شرعي أشبه النسب. ويخرج منه من حَرُم نكاحها بالزنا أو وطء شبهة لأنه ليس مأموناً عليها أشبه الأجنبي. ولأن تحريمها بسبب غير مشروع فلم يثبت به حكم إباحة النظر كالتحريم الثابت باللعان. ¬

_ (¬1) ص: 75. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1340) 2: 977 كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره. وأخرجه أبو داود في سننه (1726) 2: 140 كتاب المناسك، باب في المرأة تحج بغير محرم. وأخرجه الترمذي في جامعه (1169) 3: 472 كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية أن تسافر المرأة وحدها. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2898) 2: 968 كتاب المناسك، باب المرأة تحج بغير ولي. وأخرجه أحمد في مسنده (11533) 3: 54.

وأما ما يشترط في المَحْرَم فبلوغه وعقله لأن الصبي والمجنون لا يقومان بأنفسهما فكيف يَخرجان مع غيرهما. وأما مضيها في حجتها وعدم صيرورتها محصرة إذا مات المحرم في الطريق فلأنها لا تستفيد بالتحليل شيئاً لأن رجوعها يكون بغير محرم. ولأن المريض لما لم يستفد بالتحلل زوال الأذى لم يبح له التحلل كالمحصر فكذلك هاهنا. قال رحمه الله: (ولا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره ولا نذره ولا نافلة. فإن فعل انصرف إلى حجة الإسلام. وعنه: يقع ما نواه). أما عدم جواز حج من لم يحج عن نفسه إذا حج عن غيره فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شبرمة؟ قال: قريب لي. قال: حججت قط؟ قال: لا. قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة» (¬1) رواه أبو داود وابن ماجة، وهذا لفظه. ولأنه حج عن غيره قبل الحج عن نفسه فلم يجز كما لو كان صبياً. وأما عدم جواز حج من عليه حجة الإسلام عن نذره أو نافلة فلأن حجة الإسلام واجبة عليه فلم يجز أن يصرف فعله إلى غيرها كما لو أراد أن يحج عن غيره. وأما انصراف ذلك إلى حجة الإسلام في الصور الثلاث على المذهب فلأنه أحرم بالحج وعليه فرضه فوجب أن يقع عن فرضه كما لو أطلق. وأما وقوعه عما نواه من نذر أو نافلة على روايةٍ فلأنه نواه فيقع لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنما لامرئ ما نوى» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1811) 2: 162 كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2903) 2: 969 كتاب المناسك، باب الحج عن الميت. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1) 1: 3 بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1907) 3: 1515 كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية ... ».

قال رحمه الله: (وهل يجوز لمن يقدر على الحج بنفسه أن يستنيب في حج التطوع؟ على روايتين). أما الجواز على روايةٍ فلأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب. وأما عدمه على روايةٍ فلأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز له الاستنابة فيه كالفرض. قال المصنف رحمه الله في المغني: حج التطوع ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: قادر لم يحج حجة الإسلام فهذا لا يصح أن يستنيب في حج التطوع؛ لأنه لا يصح أن يفعله بنفسه فنائبه أولى. الثاني: من أدى حجة الإسلام ثم عجز فهذا يصح أن يستنيب في التطوع؛ لأنه إذا جاز في الفرض فالنفل أولى. الثالث: من أدى حجة الإسلام وهو قادر وقت الاستنابة على الحج بنفسه فهذا هل يجوز له الاستنابة في التطوع؟ فيه روايتان. وعلى هذا القسم يجب حمل كلام المصنف رحمه الله.

باب المواقيت

باب المواقيت قال المصنف رحمه الله: (وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة، وأهل اليمن يَلَمْلَم، وأهل نجد قرَن، وأهل المشرق ذات عرق. وهذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم، ومَنْ منزله دون الميقات فميقاته من موضعه). أما كون المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «وقّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم. قال: فهن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة. فمن كان دونهن مَهِلّه من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها» (¬1) متفق عليه. وفي لفظ لعائشة: «ولأهل العراق ذات عرق ... مختصر» (¬2) رواه أبو داود. وروى البخاري «أن عمر رضي الله عنه حد -يعني لأهل العراق- ذات عرق» (¬3). وأما كون ميقات مَنْ منزله دون الميقات من موضعه فلما تقدم من حديث ابن عباس من قوله: «فمن كان دونهن مهله من أهله» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1457) 2: 555 كتاب الحج، باب مهل أهل اليمن. وأخرجه مسلم في صحيحه (1181) 2: 838 كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1739) 2: 143 كتاب المناسك، باب في المواقيت. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1458) 2: 556 كتاب الحج، باب ذات عرق لأهل العراق. (¬4) سبق تخريجه قريباً.

قال رحمه الله: (وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل. وإن أرادوا الحج فمن مكة. ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم). أما كون ميقات المكي لعمرته من الحل فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبدالرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم» (¬1) متفق عليه. ولأن أفعال العمرة كلها في مكة فلم يكن بد من الحل ليجمع بين الحل والحرم في إحرامه بخلاف ما إذا حج فإنه لا بد أن يخرج إلى عرفات فيحصل له الجمع بينهما. وأما كون ميقاته بحجة من مكة فلأن في الحديث المتقدم: «وكذلك أهل مكة يهلون من مكة» (¬2). فإن قيل: الحديث شامل للحج والعمرة فلم اختص بالحج؟ قيل: لما فيه من الجمع بينه وبين إعمار عائشة من التنعيم. فإن قيل: الكلام في المكي، وعائشة رضي الله عنها لم تكن مكية؟ قيل: المراد بأهل مكة من كان قاطناً بها ومن هو فيها على كل حال لاستوائهما معنى. وأما إحرام من لم يكن طريقه على ميقاتٍ إذا حاذى أقرب المواقيت إليه فـ «لأن عمر رضي الله عنه قال لأهل العراق لما سألوه الميقات: انظروا حذوها من طريقكم» (¬3) رواه البخاري. ولأن هذا مما يعرف بالاجتهاد والتقدير فإذا اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة. قال رحمه الله: (ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات بغير إحرام إلا لقتال مباح أو حاجة متكررة كالحطّاب ونحوه. ثم إن بدا له النسك أحرم من موضعه. ومن جاوزه مريداً للنسك رجع فأحرم منه. فإن أحرم من موضعه فعليه دم وإن رجع إلى الميقات). أما عدم جواز تجاوز الميقات غير مُحْرِم لمن أراد دخول مكة لغير قتال وحاجة متكررة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت المواقيت المتقدمة وقال: «هن لهن ولمن أتى عليهن» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2823) 3: 1089 كتاب الجهاد والسير، باب إرداف المرأة خلف أخيها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1212) 2: 880 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ... (¬2) سبق تخريجه قريباً. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) سبق تخريجه ص: 82.

ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه تجاوز الميقات غير محرم إلا فيما يأتي ذكره ولو كان ذلك جائزاً لفعل ولو مرة تبييناً للجواز. ولأنه لو جاز تجاوز غير محرم لما وجب على من نذر دخول مكة الإحرام وهو واجب لما يأتي في موضعه. وأما جواز تجاوزه غير محرم لمن أراد دخول مكة لقتال مباح فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح (¬1) مكة وعلى رأسه المغفر» (¬2) ولم ينقل أنه أحرم هو ولا أحد من أصحابه. وأما جوازه لمن له حاجة متكررة كالحطّاب والحشّاش فلأنه لو وجب ذلك عليه مع تكرره لأدى إلى ضرره وحصول المشقة وذلك منفي شرعاً. وأما إحرام من بدا له النسك بعد تجاوزه الميقات غير محرم من موضعه فلأنه حينئذ بدا له النسك فيحرم من موضعه كمن منزله دون مكة. وأما رجوع من جاوزه مريداً للنسك إلى الميقات وإحرامه منه فلأن الإحرام من الميقات واجب ومن قدر على الواجب لزمه فعله. وأما وجوب الدم عليه إذا أحرم من موضعه فلأنه ترك الواجب. وأما قول المصنف رحمه الله: وإن رجع إلى الميقات فتنبيه على أن الرجوع إلى الميقات بعد الإحرام من دونه لا يُسقط الدم لأنه استقر وجوبه بإحرامه من دون الميقات فلم يسقط كمن لم يرجع. قال رحمه الله: (والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته، ولا يحرم بالحج قبل أشهره فإن فعل فهو محرم. وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة). أما كون الاختيار أن لا يحرم قبل الميقات فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة» (¬3) ولم يكن يترك المختار. ¬

_ (¬1) في ج: الفتح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2879) 3: 1107 كتاب الجهاد والسير، باب قتل الأسير وقتل الصبر، عن أنس بن مالك. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1444) 2: 552 كتاب الحج، باب: قول الله تعالى {يأتوك رجالاً ... }.

وأما كونه لا يُحْرِم بالحج قبل أشهره فلأنه إحرام بالعبادة قبل وقتها فلم يكن مختاراً كميقات المكان. وأما صيرورته محرماً إذا أحرم قبل الميقات المكاني أو الزماني فلما روي عن الصبي بن معبد «أنه أحرم قبل الميقات قارناً فذكر ذلك لعمر رضي الله عنه فقال: هديت لسنة نبيك» (¬1). وأما كون أشهر الحج شوالاً وذا القعدة وعشراً من ذي الحجة فلأن ابن مسعود وجابراً وابن الزبير قالوا: «أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة» (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 68. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 342 كتاب الحج، باب بيان أشهر الحج.

باب الإحرام

باب الإحرام قال المصنف رحمه الله: (يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ويلبس ثوبين أبيضين نظيفين إزاراً ورداء). أما استحباب الاغتسال لمن أراد الإحرام فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل» (¬1) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن غريب. و«لأنه صلى الله عليه وسلم أمر عائشة رضي الله عنها أن تغتسل عند الإهلال بالحج وهي حائض» (¬2). و«أمر أسماء أن تغتسل عند الإحرام وهي نفساء» (¬3) رواه مسلم. وأما استحباب التنظف له. وهو: إزالة الشعث، وقطع الرائحة، وحلق شعر العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، ونحو ذلك فلأنه عبادة يسن له الاغتسال والطيب فسن له التنظيف كالجمعة. وأما استحباب الطيب له فلقول عائشة رضي الله عنها: «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت» (¬4). وقالت: «كأني أنظرُ إلى وَبِيصِ الطيبِ في مفارقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬5) رواه البخاري. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (830) 3: 193 كتاب الحج، باب ما جاء في الإغتسال عند الإحرام. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1213) 2: 881 كتاب الحج، باب إحرام النفساء ... (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1210) 2: 869 كتاب الحج، باب إحرام النفساء ... (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1465) 2: 558 كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1189) 2: 846 كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (5574) 5: 2213 كتاب اللباس، باب الفرق. وأخرجه مسلم في صحيحه (1190) 2: 847 كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام.

وأما لبس الثوبين الإزار والرداء فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وليحرم أحدكم في إزار ورداء» (¬1). وأما استحباب كونهما أبيضين فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير ثيابكم البياض فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم» (¬2). وأما استحباب كونهما نظيفين فلأنه يستحب له النظافة في بدنه فكذلك في لباسه. ولبس الثوبين إن قصد مطلقه فهو واجب لأن المحرم يجب عليه التجرد من المخيط مع أنه يجب عليه ستر عورته، وإن قصد كونه إزاراً ورداء أو موصوفاً بالبياض والنظافة فهو مستحب. وحمل كلام المصنف رحمه الله على الثاني أولى لوجهين: أحدهما: أنه ذكر ذلك في سياق المستحب. والثاني: أنه يَذكر بعدُ التجرد عن المخيط. قال رحمه الله: (ويتجرد عن المخيط ويصلي ركعتين ويحرم عقيبهما). أما تجرده عن المخيط فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله» (¬3) رواه الترمذي. وأما صلاته ركعتين وإحرامه عقيبهما فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم في دبر الصلاة» (¬4) رواه البخاري. قال: (وينوي الإحرام بنسك معين، ولا ينعقد إلا بالنية. ويشترط فيقول: اللهم! إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقبله مني، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني). أما نيته الإحرام بنسك معين فلأن أحكام ذلك تختلف. فإذا نوى معيناً أمكن أن يرتب على ذلك ما يقتضيه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4899) 2: 34 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (3566) 2: 1181 كتاب اللباس، باب البياض من الثياب. وأخرجه أحمد في مسنده (2479) 1: 274. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (819) 3: 17 كتاب الحج، باب ما جاء متى أحرم النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه النسائي في سننه (2754) 5: 162 كتاب مناسك الحج، العمل في الإهلال. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (12743) 3: 128 كتاب الحج، من كان يستحب أن يحرم في دبر الصلاة. ولم أره في البخاري.

وأما عدم انعقاد ذلك بغير النية فلأن النسك عمل فلم يكن بد فيه من النية لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (¬1). و «لا عمل إلا بنية» (¬2). ولأنه عبادة محضة فافتقر إلى النية كالصلاة. وأما اشتراطه «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير وهي شاكية: حجي واشترطي أن مَحِلّي حيث حبستني» (¬3) متفق عليه. وأما قول المصنف رحمه الله: فيقول إلى آخره فتفسير لقوله ويشترط. فإن قيل: ما يفيد هذا الاشتراط؟ قيل: شيئين: أحدهما: أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة له التحلل. والثاني: إذا حل لعذر لا دم عليه ولا صوم. قال رحمه الله: (وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران. وأفضلها التمتع ثم الإفراد. وعنه: إن ساق الهدي فالقران أفضل ثم التمتع). أما تخيير مريد الإحرام بين التمتع والإفراد والقران فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج» (¬4) متفق عليه. وأما كون التمتع أفضل من الإفراد والقران الخالي عن سوق الهدي فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا أن يحلوا ويجعلوها عمرة» (¬5). أمرهم بنقل الإفراد والقران إلى العمرة ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل الأكمل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1) 1: 3 بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1907) 3: 1515 كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية». (¬2) لم أجده هكذا وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 1: 41 كتاب الطهارة، باب الاستياك بالأصابع. عن أنس: «إنه لا عمل لمن لا نية له». (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4801) 5: 1957 كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين. وأخرجه مسلم في صحيحه (1207) 2: 868 كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض وغيره. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (4146) 4: 1600 كتاب المغازي، باب حجة الوداع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 873 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ... (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (1568) 2: 594 كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولأن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى بقوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة: 196] بخلاف الإفراد والقران. ولأن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج كاملين غير متداخلين على وجه السهولة مع زيادة نسك هو الدم فكان ذلك أفضل من نسك لا يجتمع فيه ذلك. وأما القران مع سوق الهدي فهل التمتع أفضل منه؟ فيه روايتان: أحدهما: التمتع أفضل لما تقدم. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم تأسف على فعله فقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» (¬1). والثانية: القران أفضل «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً» (¬2). والأول أصح لما تقدم. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه كان متمتعاً مع أن ذلك فعله والأمر بالتمتع قوله والقول مقدم على الفعل لاحتمال اختصاصه به. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6933) 6: 2681 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلا ما تعرف إباحته ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) عن أنس رضي الله عنه قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما. فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى كان يوم التروية أهلوا بالحج قال ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بدنات بيده قياما وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة كبشين أملحين». أخرجه البخاري في صحيحه (1476) 2: 562 كتاب الحج، باب: التحميد والتسبيح والتكبير، قبل الإهلال ..

قال رحمه الله: (وصفة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج من مكة أو من قريب منها في عامه. والإفراد: أن يحرم بالحج مفرداً. والقران: أن يحرم بهما جميعاً، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج. ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يصح إحرامه بها). أما كون الإحرام بالعمرة في أشهر الحج فلأن ذلك قول جابر. ولأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج فلم يكن متمتعاً كالمفرد. ولأنه لو حل في أشهر الحج لم يكن متمتعاً فكذلك إذا أحرم فيها. وأما اعتبار الفراغ منها. ومعناه: أنه يَحِل من الإحرام بالعمرة قبل الإحرام بالحج فلأنه لو أحرم بالحج قبل الحل من العمرة لكان قارناً. واجتماع النسكين ممتنع. وأما اعتبار الإحرام بالحج من مكة أو من موضع قريب منها فلما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع. وإن خرج ورجع فليس بمتمتع». وعن ابن عمر نحوه (¬1). وأما اعتبار الإحرام بالحج من عامه فلأن الله تعالى قال: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] إذ ظاهر ذلك يقتضي الموالاة بينهما. ولأن العلماء أجمعوا على أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم حج من عامه لا يكون متمتعاً فإذا لم يحج من عامه بطريق الأولى. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا يشترط في المتمتع غير ذلك. واشترط أبو الخطاب والقاضي أن ينوي التمتع في ابتداء العمرة أو أثنائها لأنه جمع بين عبادتين فافتقر إلى النية كالجمع بين الصلاتين. وقال المصنف رحمه الله في المغني والكافي: ظاهر الآية يدل على عدم الاشتراط. ولأن التمتع التَّرَفّه بأحد السفرين وهو موجود بدون النية. وأما كون الإفراد أن يحرم بالحج مفرداً فلأن من أفرد من الصحابة هكذا فعل. ومنه حديث عائشة رضي الله عنها: «ومنا من أهل بحج» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (13004) 3: 152 كتاب الحج، في الرجل يعتمر في أشهر الحج ثم يرجع ثم يحج. (¬2) سبق تخريجه ص: 88.

ولأنه مفرد فوجب أن يكون فعله الإفراد. وأما كون القران أحد الأمرين المذكورين من الإحرام بهما أو الإحرام بعمرة ثم إدخال الحج عليها: أما الأول فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرن هكذا فعل. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرن بين حج وعمرة فليهرق دماً». والقران ظاهر في الجمع بينهما. وأما الثاني فلأن عائشة رضي الله عنها قالت: «أهللت بالعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» (¬1). وفي حديث آخر أن عائشة رضي الله عنها قالت: «أهللنا بالعمرة ثم أدخلنا عليها الحج». وفي آخر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما قرنت بين الحج والعمرة: يسعكِ طوافكِ لحجكِ وعمرتكِ» (¬2). ويشترط في إدخال الحج على العمرة في حق من لم يسق الهدي أن يكون قبل الطواف فلو طاف للعمرة ثم أدخل عليها الحج لم يصح لأنه قد أتى بمقصود العمرة وشرع في التحلل منها فإن كان ساق الهدي لم يمتنع ذلك لعموم ما تقدم. ولأن من ساق الهدي لا يجوز له التحلل حتى ينحر لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] وإذا لم يجز له التحلل لم يكن شارعاً فيه. وأما عدم صحة الإحرام بالعمرة إذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة فلأنه لم يَرد بذلك أثر ولا هو في معنى ما جاء به الأثر. وإحرامه لا يزيد عملاً على ما لزمه بإحرام الحج ولا يغير ترتيبه بخلاف إدخال الحج على العمرة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1481) 2: 563 كتاب الحج، باب كيف تهل الحائض والنفساء. وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 870 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ... (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 879 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ...

قال رحمه الله: (ويجب على المتمتع والقارن دم نسك إذا لم يكونا من حاضري المسجد الحرام. وهم أهل مكة، ومن كان منها دون مسافة القصر). أما وجوب الدم على المتمتع فلقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]. وأما وجوبه على القارن فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرن بين حج وعمرة فليهرق دماً». ولأنه تَرَفَّهَ بأحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع. وأما اشتراط كون المتمتع والقارن من غير حاضري المسجد الحرام لوجوب الدم عليهما: أما في المتمتع فلأن تكملة الآية {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة: 196]. وأما في القارن فلأنه في معنى المتمتع. ولأن وجوب الدم عليه لترفهه بأحد السفرين فإذا كان من حاضري المسجد الحرام لم يوجد الترفه فيجب أن ينتفي الوجوب لانتفاء مقتضيه. وأما قول المصنف رحمه الله: وهم أهل مكة ... إلى آخره فتفسير لحاضري المسجد الحرام؛ لأن الحاضر القريب، وذلك المكي ومن هو منها دون مسافة القصر دون غيرهما. قال رحمه الله: (ومن كان قارناً أو مفرداً أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمرة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، إلا أن يكون قد ساق هدياً فيكون على إحرامه). أما استحباب فسخ القارن والمفرد نسكهما وجعله عمرة في الجملة فلأنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه أمر أصحابه الذين أفردوا بالحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي» (¬1) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1568) 2: 594 كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. كلاهما عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

وروي عن سلمة بن شبيب أنه قال لأحمد: كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة. فقال: وما هي؟ قال: تقول: بفسخ الحج. قال: قد كنت أرى أن لك عقلاً. عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً كلها في فسخ الحج أتركها لقولك. ولأنه قلب للحج إلى العمرة فجاز. دليله من لحقه الفوات. وأما ما يشترط للفسخ فأمران: أحدهما: أن لا يكون معه هدي؛ للحديث المتقدم. ولقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196]. وثانيهما: أن لا يكون قد وقف بعرفة؛ لأن الواقف بها قد أتى بمعظم العبادة وأيِس من فواتها بخلاف غيره. ولم يصرح المصنف رحمه الله بهذا الشرط اكتفاء بقوله: إذا طاف وسعى؛ لأن ذلك يكون قبل الوقوف. فإن قيل: قول المصنف رحمه الله: إذا طاف وسعى شرط في استحباب الفسخ أم لا؟ قيل: ظاهره ذلك. وليس الأمر كذلك؛ لأن الأخبار الواردة في ذلك تقتضي الفسخ قبل الطواف والسعي. ولأنه إذا طاف وسعى ثم فسخ يحتاج إلى طواف وسعي لأجل العمرة ولم يرد مثل ذلك فيما ذكر. ويمكن تأويل كلام المصنف رحمه الله على أن إذا ظرف. ويكون المراد: أحببنا له أن يفسخ وقت طوافه أي وقت جواز طوافه. قال رحمه الله: (ولو ساق المتمتع هدياً لم يكن له أن يحل. والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت فخشيت فوات الحج أحرمت بالحج وصارت قارنة). أما عدم حل المتمتع إذا ساق الهدي فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: «تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: من كان منكم معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليتحلل» (¬1) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1606) 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البدن معه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1227) 2: 901 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج.

وأما إحرام المتمتعة بالحج إذا حاضت فخشيت فوات الحج فـ «لأن عائشة رضي الله عنها كانت متمتعة فحاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أهلي بالحج ... مختصر» (¬1) رواه مسلم. ولأن إدخال الحج على العمرة يجوز من غير خشية الفوات فلأن يجوز مع الخشية أولى. فإن قيل: ما وجه خشية فوات الحج بالحيض؟ قيل: لأن المتمتعة لا تحل من عمرتها ما لم تطف فإذا حاضت لم يمكنها الطواف لأنها ممنوعة من دخول المسجد. وأما صيرورتها قارنة فلأن أحد نوعي القران إدخال الحج على العمرة وذلك موجود هاهنا. قال رحمه الله: (ومن أحرم مطلقاً صح، وله صرفه إلى ما شاء. وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان انعقد إحرامه بمثله). أما صحة الإحرام مطلقاً فلأن الإحرام يصح مع الإبهام لما يأتي فلأن يصح مع الإطلاق بطريق الأولى. وأما صرفه إلى أي الأنساك شاء فلأنه له أن يبتدئ بأيها شاء فكان له صرف المطلق إلى أيها شاء. فعلى هذا يعينه قبل الطواف. فإن طاف قبل التعيين لم يجزئه طوافه؛ لأنه طاف لا في حج ولا في عمرة. وأما انعقاد إحرامه إذا أحرم بمثل ما أحرم به فلان فلما روى أبو موسى رضي الله عنه قال: «قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء. فقال لي: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلالٍ كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أحسنت. وأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة. ثم قال: أحل» (¬2) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1213) 2: 881 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1637) 2: 616 كتاب الحج، باب الذبح قبل الحلق. وأخرجه مسلم في صحيحه (1221) 2: 894 كتاب الحج، باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قال لعلي: ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال قلت: اللهم! إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن معي الهدي فلا تَحِل» (¬1) رواه مسلم. فعلى هذا يفعل مثل ما يفعل من أحرم بمثل إحرامه لما تقدم في الحديث. ولأنه جعل نفسه تبعاً له. فإن لم يعلم بما أحرم به فلان كان كما لو نسي ما أحرم به فلان وسيذكر، وإن علم أن فلاناً لم يحرم أو شك هل أحرم أم لا؟ كان كما لو أطلق الإحرام. وقد تقدم. قال رحمه الله: (وإن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد بأحدهما (¬2)، وإن أحرم بنسك ونسيه جعله عمرة. وقال القاضي: يصرفه إلى أيها (¬3) شاء). أما انعقاد الإحرام بإحدى الحجتين أو العمرتين إذا أحرم بهما فلأن انعقاد الإحرام بهما لا يمكن لتعذر أداء العبادتين في حالة واحدة، وإبطالهما مفضٍ إلى إبطال العمل المنوي فلم يبق إلا انعقاد أحدهما. وأما جعل النسك عمرة إذا أحرم بنسك ونسيه على المذهب فلأنها أفضل. ولأنه له أن يصرف الإفراد والقران إليها مع العلم فلأن يكون له أن يصرفهما مع الإبهام بطريق الأولى. وأما صرفه إلى أيها شاء على قول القاضي فلأنه إن صادف ما أحرم به فقد أصاب، وإن صرفه إلى عمرة وكان إحرامه بغيرها جاز؛ لأن فسخه إليها جائز مع العلم فمع الجهل أولى، وإن صرفه إلى قران وكان إحرامه بعمرة فقد أدخل عليها الحج وهو جائز، وإن كان مفرداً فقد أدخل العمرة على الحج وهو لغو لا يفيد ولا يقدح في حجه كما لو فعله مع العلم، وإن صرفه إلى الإفراد وكان معتمراً فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارناً ولا تبطل العمرة بترك نيتها لأنه ليس من شرط صحة العبادة استدامة النية فيها، وإن كان قارناً فهو على حاله كذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) في المقنع: بإحداهما. (¬3) في المقنع: أيهما.

وقال المصنف رحمه الله في المغني: إن كان شك بعد الطواف لم يجز صرفه إلا إلى العمرة خاصة لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف لا يجوز. فعلى هذا يجب حمل كلام المصنف رحمه الله هنا على ما إذا نسي قبل الطواف. قال رحمه الله: (وإن أحرم عن رجلين وقع عن نفسه. وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه وقع عن نفسه. وقال أبو الخطاب: له صرفه إلى أيهما شاء). أما وقوع الإحرام عن نفسه إذا أحرم عن رجلين فلأنه لا سبيل إلى وقوع العبادة عن الرجلين؛ لأن العبادة الواحدة لا تجزئ عن اثنين دليله الصلاة وغير ذلك، ولا عن أحدهما لأنه ليس أولى من الآخر وإذا تعذر وقوعها عن غيره تعين وقوعها عن نفسه كما لو أحرم وأطلق. وأما وقوعه عن نفسه إذا أحرم عن أحدهما لا بعينه على قول غير أبي الخطاب فلما تقدم. وأما صرفه إلى أيهما شاء على قول أبي الخطاب فلأن الإحرام يصح مع الإبهام لما تقدم فكذلك يصح عن المجهول ويعينه بعد ذلك كما لو أحرم مطلقاً ثم عين النسك. قال رحمه الله: (وإذا استوى على راحلته لبى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). أما تلبيته عند استوائه على راحلته فلما روى أنس وابن عمر رضي الله عنهم «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ركب راحلته واستوت به أهَلَّ» (¬1) رواه البخاري. ومعنى أهَلَّ: رفع صوته. من قولهم استهل الصبي إذا صاح. وأما صفة التلبية فكتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى قال: {واتبعوه} [الأعراف: 158]. وأما صفة تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فكما ذكره المصنف لأن ابن عمر رضي الله عنهما روى «أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك» (¬2) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (14706) 2: 561 كتاب الحج، باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5571) 5: 2213 كتاب اللباس، باب التلبيد. وأخرجه مسلم في صحيحه (1184) 2: 841 كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها.

والتلبية مأخوذة من لب بالمكان إذا لزمه. فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك. وكرر لأنهم أرادوا إقامة بعد إقامة. وقال جماعة من أهل العلم: معناها إجابة إبراهيم عليه السلام حين نادى للحج. قال رحمه الله: (والتلبية سنة. ويستحب رفع الصوت بها والإكثار منها والدعاء بعدها). أما مسنونية التلبية «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها» (¬1). وأما استحباب رفع الصوت بها فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأما استحباب الإكثار منها فلما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يضحي يلبي حتى تغرب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه» (¬3) رواه ابن ماجة. وأما استحباب الدعاء بعدها فلما روى خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله عز وجل رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار» (¬4) رواه الشافعي. ولأنه مظنة الإجابة أشبه الدعاء يوم الجمعة. ¬

_ (¬1) كما سبق ذكره، من حديث أنس وابن عمر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1814) 2: 162 كتاب المناسك، باب كيف التلبية. وأخرجه الترمذي في جامعه (829) 3: 191 كتاب الحج، باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبيية. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2922) 2: 975 كتاب المناسك، باب رفع الصوت بالتلبية. وأخرجه أحمد في مسنده (83329) 4: 55. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2925) 2: 976 كتاب المناسك، باب الظلال للمحرم. قال في الزوائد: إسناده ضعيف. لضعف عاصم بن عبيدالله وعاصم بن عمر بن حفص. (¬4) أخرجه الشافعي في مسنده (797) 1: 307 كتاب الحج، باب فيما يلزم المحرم عند تلبسه بالإحرام. وأخرجه الدارقطني في سننه (11) 2: 238 كتاب الحج، باب المواقيت.

قال رحمه الله: (ويلبي إذا علا نشزاً أو هبط وادياً وفي دبر الصلوات المكتوبة وإقبال الليل والنهار وإذا التقت الرفاق. ولا ترفع المرأة صوتها إلا بقدر ما تُسمع رفيقتها). أما استحباب التلبية في المواضع المذكورة فلما روى جابر رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي في حجه إذا لقي راكباً أو علا أكَمَة أو هبط وادياً وفي أدبار المكتوبة ومن آخر الليل» (¬1). وقال إبراهيم النخعي: «كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة وإذا علا نشزاً وإذا هبط وادياً وإذا لقي راكباً وإذا استوت به راحلته» (¬2). وأما عدم رفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بقدر ما تُسمع رفيقتها فلأن المرأة صوتها عورة فلم يشرع لها الرفع بها بغير ما ذكر ولذلك لم يشرع لها أذان ولا إقامة. ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث ذكره الشيخ في المهذب، وبيض له النووي والمنذري، وقد رواه ابن عساكر في تخريجه لأحاديث المهذب. انظر تلخيص الحبير: 2: 456. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (12746) 3: 129 كتاب الحج، من كان يستحب أن يحرم في دبر الصلاة.

باب محظورات الإحرام

باب محظورات الإحرام قال المصنف رحمه الله: (وهي تسعة: حلق الشعر وتقليم الأظافر فمن حلق أو قلّم ثلاثة فعليه دم. وعنه: لا يجب إلا في أربع فصاعداً. وفيما دون ذلك في كل واحد مد من طعام. وعنه: قبضة. وعنه: درهم). أما كون محظورات الإحرام تسعة فلأنها حلق شعر وتقليم أظافر وتغطية رأس ولبس مخيط وخفين وطيب وإتلاف صيد وعقد نكاح وجماع ومباشرة دون الفرج وذلك تسعة. وأما كون حلق الشعر من محظورات الإحرام فلأن الله تعالى قال: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196]. نص على حلق الرأس وسائر شعر البدن في معناه. ولأن حلق الشعر يؤذن بالرفاهية وذلك ينافي الإحرام؛ لأن المحرم يكون أشعث أغبر. وأما كون تقليم الأظافر من محظورات الإحرام فلأنه يحصل به الرفاهية أشبه حلق الشعر. وأما وجوب الفدية بالحلق فلأن الله تعالى قال بعد قوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم} [البقرة: 196] {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية} [البقرة: 196]. وفي حديث كعب بن عجرة: «احلق رأسك وأطعم ستة مساكين أو صم أو انسك شاة» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1719) 2: 644 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب قول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (1201) 2: 861 كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ...

فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله يشتمل على وجوب الدم. قيل: في وجوبه عيناً مع العمد خلاف يأتي ذكره. والصحيح أنه لا يجب عيناً بل الواجب أحد أمور: من دم وصوم ثلاثة أيام وإطعام ستة مساكين وسيأتي في باب الفدية (¬1). وكان الجيد أن يقول: فعليه الفدية ثم يكل التفصيل على باب الفدية. وأما مقدار ما يجب به الفدية ففيه روايتان: أحدهما: إذا حلق ثلاث شعرات؛ لأنه شعر آدمي يقع عليه اسم الجمع المطلق فجاز أن تتعلق به الفدية كالكل وكالربع عند أبي حنيفة. والثانية: لا يجب إلا بأربع لأن الثالث آخر أجزاء القلة وآخر الشيء منه فلم يجب بالثلاث كالشعرة والشعرتين. وأما ما يجب فيما دون ذلك ففيه ثلاث روايات: إحداهن: يجب في كل واحدة مُدّ من طعام لأن ذلك أقل ما يجب في فدية رمضان ونحو ذلك فكان واجباً في أقل الشعر. والثانية: قبضة من ذلك لأنه لا تقدير له في الشرع فيجب المصير إليه لأنه اليقين. والثالثة: درهم لأنه لما لم يمكن إيجاب جزء من الحيوان وجب المصير إلى القيمة وأقل ذلك مما يشاركه الشعر في الوحدة درهم. وأما مقدار ما تجب به الفدية من تقليم الأظافر والواجب فيه فكما ذكر في الشعر اختلافاً وتعليلاً لأن أصل وجوب الفدية في ذلك مقاس على الحلق فكذا في مقدار ما يجب به وفي الواجب فيه. قال رحمه الله: (وإن حلق رأسه بإذنه فالفدية عليه، وإن كان مكرهاً أو نائماً فالفدية على الحالق، وإن حلق محرم رأس حلال فلا فدية عليه). أما وجوب الفدية على من حلق رأسه بإذنه فلأن ذلك بإذنه فكان بمنزلة مباشرته له. وأما وجوب الفدية على الحالق إذا كان مَنْ حلق رأسه مكرهاً أو نائماً فلأنه أزال ما مُنع من إزالته لأجل الإحرام فكانت عليه فديته كما لو حلق المحرم بنفسه. وأما عدم وجوب الفدية على المحرم إذا حلق رأس حلال فلأنه شعر مباح الإتلاف فلم يجب بإتلافه جزاء كشعر بهيمة الأنعام. ¬

_ (¬1) ص: 130.

قال رحمه الله: (وقطع الشعر ونتفه كحلقه، وشعر الرأس والبدن واحد، وعنه: لكل واحد حكم منفرد). أما كون قطع الشعر ونتفه كحلقه فلاشتراك الكل في حصول الرفاهية بإزالته. وأما شعر الرأس والبدن ففيهما روايتان: أحدهما: أنهما واحد لأنه شعر من جنس واحد لم يختلف إلا موضعه أشبه ما على اللحية والإبط ونحوهما. والثانية: لكل واحد حكم منفرد لأن الرأس يخالف البدن بحصول التحلل بحلقه دون البدن. فعلى الأولى لو حلق من رأسه شعرتين ومن بدنه شعرة أو شعرتين وجبت الفدية لأنه حلق ثلاثاً أو أربعاً، وعلى الثانية يجب في كل واحدة ما تقدم ذكره فيما لا تجب فيه الفدية. قال رحمه الله: (وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينيه فقصه أو انكسر ظفره فقصه أو قلع جلداً عليه شعر فلا فدية عليه). أما عدم وجوب الفدية بقلع الشعر وقصه كما ذكر فلأن الشعر آذاه فكان له رفع أذاه من غير فدية كالصيد الصائل عليه. وأما عدم وجوبها بقص ما انكسر من ظفره فلأنه يؤذيه بقاؤه بسبب منه أشبه الشعر المؤذي. وفارق هذا ما إذا حلق الشعر لقمل أو صداع أو نحو ذلك فإنه تجب الفدية لأن الأذى من غير الشعر. وأما عدم وجوبها بقطع جلد عليه شعر فلأن الشعر زال تابعاً لغيره والتابع لا يُضمن كما لو قلع أشفار عيني إنسان فإنه لا يجب ضمان الأهداب.

فصل [في تغطية الرأس] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: تغطية الرأس فمتى غطاه بعمامة أو خرقة أو قرطاس فيه دواء أو غيره أو عَصَبه أو طيّنه بطين أو حناء أو غيره فعليه الفدية. وإن استظل بالمحمل ففيه روايتان). أما كون تغطية الرأس من محظورات الإحرام فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم عن لبس العمائم» (¬1). و«قال في المحرم الذي وقصته ناقته: لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» (¬2) متفق عليه. وأما وجوب الفدية إذا غطاه بشيء مما ذكره المصنف رحمه الله فلأنه فعل محرّماً في الإحرام يقصد به الترفه أشبه حلق الشعر. وأما الاستظلال بالمحمل ففيه روايتان: أحدهما: يحرم «لأن ابن عمر رضي الله عنهما رأى على رجل عوداً يستره من الشمس فنهاه عن ذلك» (¬3) رواه الأثرم. فعلى هذا تجب به الفدية لوجود فعل محرّم في الإحرام مقصود به الرفاهية. والرواية الثانية: لا يحرم لأن الحُجة في عدم الاستظلال قول ابن عمر وهو لا يرى ذلك حراماً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5468) 5: 2187 كتاب اللباس، باب السراويل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) 2: 834 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1209) 1: 426 كتاب الجنائز، باب كيف يكفن المحرم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1206) 2: 866 كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات. (¬3) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر «أنه رأى رجلاً محرماً قد استظل فقال: ضح لمن أحرمت له» (14250) 3: 274 كتاب الحج، في المحرم يستظل.

ولأنه يجوز أن يستتر بثوب لما يأتي. فعلى هذا لا فدية لانتفاء موجبها من فعل محرم موصوف بما تقدم. قال: (وإن حمل على رأسه شيئاً أو نصب حياله ثوباً أو استظل بخيمة أو شجرة أو بيت فلا شيء عليه). أما عدم وجوب شيء في جميع ما ذكر فلأنه يباح فعله، والفدية لا تجب بفعل المباح: أما إباحة الحمْل على رأسه فلأنه لا يقصد به الترفه فأبيح كالأكل. ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك. وأما إباحة نصب شيء حياله فلما روت أم الحصين قالت: «حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة» (¬1) رواه مسلم. وأما إباحة الاستظلال بخيمة فلما روى جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة من شعر بنَمِرَة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس» (¬2) مختصر. رواه مسلم. وأما إباحة الاستظلال بشجرة أو بيت فلأن ذلك في معنى الخيمة. قال: (وفي تغطية الوجه روايتان). أما جواز تغطية الوجه على روايةٍ فـ «لأن عثمان وسعداً وعبدالرحمن بن عوف وزيد بن ثابت أجازوه» (¬3). وأما عدم جوازها على روايةٍ فلأن في بعض ألفاظ حديث ابن عباس في الميت المحرم: «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1298) 2: 944 كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الفرافصة قال: «رأيت عثمان وزيداً وابن الزبير يغطون وجوههم وهم محرمون إلى قصاص الشعر». (14249) 3: 274 كتاب الحج، في المحرم يغطي وجهه. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1209) 1: 426 كتاب الجنائز، باب كيف يكفن المحرم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1206) 2: 866 كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات.

فعلى الأولى: لا فدية عليه؛ لأنه مباح. وعلى الثانية: عليه الفدية؛ لأنه فَعَل ما منع من فعله قصداً للترفه أشبه تغطية الرأس.

فصل [في لبس المخيط والخفين] قال المصنف رحمه الله: (الرابع: لبس المخيط والخفين إلا أن لا يجد إزاراً فليلبس سراويل، أو نعلين فليلبس خفين ولا يقطعهما ولا فدية عليه). أما كون لبس المخيط من محظورات الإحرام فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخفاف» (¬1) مختصر. متفق عليه. نص على هذه الأشياء وألحق العلماء بها ما في معناها من الجبة والدراعة ونحو ذلك. وأما جواز لبس السراويل إذا لم يجد إزاراً، والخفين إذا لم يجد نعلين فلأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل للمحرم» (¬2) متفق عليه. وأما عدم قطعهما فلأن عائشة رضي الله عنها روت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1468) 2: 559 كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) 2: 834 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5467) 5: 49 كتاب اللباس، باب السراويل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1178) 2: 835 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح ... (¬3) أخرجه أبو داود في سننه عن سالم بن عبد الله «أن عبد الله كان يصنع ذلك يعني يقطع الخفين للمرأة المحرمة. ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة حدثتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان رخص للنساء في الخفين. فترك ذلك». (1831) 2: 166 - 167 كتاب المناسك، باب: ما يلبس المحرم.

و «كان ابن عمر رضي الله عنهما يفتي بقطعهما حتى أُخبر بذلك فرجع» (¬1). وروي أن علياً رضي الله عنه قال: «قطعُ الخفين فساد. يَلبسهما كما هما» (¬2). ولأنه ملبوس أبيح لعدم غيره أشبه السراويل. ولأن قطعه لا يخرجه عن حالة الحظر. فإن لُبْس المقطوع مع القدرة على لبس النعلين كلبس الصحيح. ولأنه إتلاف لماليته وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال» (¬3). قال المصنف رحمه الله في المغني: وقد روي عن أحمد رحمه الله قطعهما. وهو أولى عملاً بالحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «وليقطعهما أسفل من الكعبين» (¬4) متفق عليه. وخروجاً من الخلاف وأخذاً بالاحتياط. وأما عدم وجوب الفدية في لبس ذلك فلأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث ابن عباس رضي الله عنهما «جواز لبس السراويل والخفين إذا لم يجد إزاراً ولا نعلين» (¬5) ولم يذكر الفدية ولو وجبت لبينها؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ¬

_ (¬1) هو جزء من الحديث السابق. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عكرمة قال: «يتخفف إذا لم يجد نعلين قال: قلت: أيشقهما؟ قال: إن الله لا يحب الفساد» (14635) 3: 310 كتاب الحج، في المحرم يضطر إلى الخفين. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ... ». (6108) 5: 2375 كتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال. وأخرجه مسلم في صحيحه (593) 3: 1341 كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة ... بنحوه. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (134) 1: 62 كتاب العلم، باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله. وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) 2: 835 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح ... (¬5) سبق تخريجه قريباً.

قال رحمه الله: (ولا يعقد عليه منطقة ولا رداء ولا غيره إلا إزاره وهميانه الذي فيه نفقته إذا لم يثبت إلا بالعقْد). أما كون المحرم لا يعقد عليه مِنْطقة. وهي: شيء يشد به الوسط لوجع الظهر فلأنه يترفه بذلك أشبه اللباس. ولا بد أن يلحظ في العقد المذكور عدم الحاجة إليه فإن كان بالمحرم حاجة إلى ذلك من وجع ظهر ونحوه جاز وعليه الفدية. نص عليه. أما الجواز فلمكان الحاجة. وأما وجوب الفدية فلأنه نادر أشبه حلق الرأس لوجع الرأس. وأما كونه لا يعقد عليه رداء ولا غيره غير ما استثني فلأن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لا تعقد عليك شيئاً» (¬1). ولأنه يصير بالعقد كالمخيط. وأما جواز عقد الإزار فلأنه يحتاج إلى عقده لستر عورته. وأما جواز عقد الهميان الذي فيه نفقته فلقول عائشة رضي الله عنها: «أوثق عليك نفقتك» (¬2). ولأنه مما تدعو الحاجة إلى عقده فجاز كالإزار. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا لم يثبت إلا بالعقد فاحتراز من أن يكون مما يمكن شده لا بالعقد مثل أن يُدخل بعضه في بعض فإن ذلك لا يجوز عقده حينئذ لعدم الحاجة إليه. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (808) 1: 311 كتاب الحج، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم ... وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15433) 3: 392 كتاب الحج، في المحرم يعقد على بطنه الثوب. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15443) 3: 393 كتاب الحج، في الهميان للمحرم. وأخرجه البيهقي في سننه 5: 69 كتاب الحج، باب المحرم يلبس المنطقة والهميان للنفقة والخاتم.

قال رحمه الله: (وإن طرح على كتفيه قباء فعليه الفدية. وقال الخرقي: لا فدية عليه إلا أن يدخل يديه في كميه). أما وجوب الفدية على من طرح على كتفيه قباء فأدخل يديه في كميه فلأنه لبس المخيط وذلك موجب للفدية لما تقدم. وأما وجوبها على من فعل ذلك ولم يدخل يديه في كميه على قول غير الخرقي فلأنه لَبِسه على المعتاد في مثله أشبه لبس القميص. ولأنه منهي عن لبسه لما روى ابن المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن لبس الأقبية» (¬1) فيجب أن تجب به الفدية كلبس المخيط. وأما عدم وجوبها على قول الخرقي فلأنه لا يحيط بالبدن فلا تلزمه الفدية كالقميص إذا اتشح به. قال رحمه الله: (ويتقلد بالسيف عند الضرورة). أما جواز ذلك عند الضرورة فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح» (¬2) رواه أبو داود. وقال: جلبان السلاح: القراب بما فيه. وأما عدم جوازه عند عدم الضرورة فلأنه لبس أشبه لبس المخيط. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 50 كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1832) 2: 167 كتاب المناسك، باب المحرم يحمل السلاح، من حديث البراء رضي الله عنه.

فصل [في الطيب] قال المصنف رحمه الله: (الخامس: الطيب. فيحرم عليه تطييب بدنه وثيابه وشم الأدهان المطيبة والادهان بها وشم الكافور والزعفران (¬1) والورس، والتبخر بالعود ونحوه، وأكل ما فيه طيب يظهر طعمه أو ريحه. وإن مس من الطيب ما لا يعلق بيده فلا فدية فيه). أما كون الطيب من محظورات الإحرام «فلقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته: لا تحنطوه» (¬2) متفق عليه. وفي لفظٍ لمسلم: «لا تمسوه بطيب» (¬3). وجه الحجة أنه منع المحرم الميت من الطيب مع أنه يستحب للميت فالمحرم الحي بطريق الأولى. وفي حديث ابن عمر: «لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس» (¬4) متفق عليه. فعلى هذا يحرم عليه استعماله في بدنه وثيابه. ويحرم عليه شم كل دهن مطيب والادهان به؛ لأنه يحصل به ما يحصل بشم الطيب نفسه. ويحرم عليه شم المسك والكافور والعنبر والورس لأنه هكذا يستعمل. ¬

_ (¬1) في المقنع: المسك والكافور والعنبر والزعفران. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1209) 1: 426 كتاب الجنائز، باب كيف يكفن المحرم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1206) 2: 866 كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1206) 2: 866 كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1468) 2: 559 كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) 2: 835 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح ...

ويحرم عليه التبخر بالعود؛ لأن استعماله على وجه التطيب كذلك. ويحرم عليه أكل ما فيه طيب يظهر طعمه لأن الطعم يستلزم الرائحة وذلك حرام لما يأتي، وما يظهر ريحه لأن المقصود الريح وهو حاصل. وأما عدم وجوب الفدية بمس طيب لا يعلق بيده كمن مس مسكاً غير مسحوق أو قطعاً من كافور أو عنبر ونحو ذلك فلأنه غير مستعمل للطيب. وقوله: ما لا يعلق بيده يدل مفهومه على أن ما يعلق بيده كالغالية وماء الورد والمسك المسحوق ونحو ذلك فيه الفدية وهو صحيح لأنه مستعمل للطيب. قال رحمه الله: (وله شم العود والفواكه والشيح والخزامى. وفي شم الريحان والنرجس والورد والبنفسج والبرم ونحوها والادهان بدهن غير مطيب في رأسه روايتان). أما جواز شم العود للمحرم فلأنه لا يُتطيب به هكذا. وأما جواز شم الفواكه والشيح والخزامى فلأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب. وأما شم الريحان وما بعده ففيه روايتان: أحدهما: يجوز؛ «لأن عثمان رضي الله عنه سئل عن المحرم يدخل البساتين ويشم الريحان فقال: نعم» (¬1). ولأن الاعتبار يما يقصد منه الطيب، ولا نظر إلى الرائحة المستطابة دليله شم القرنفل والدارصيني فإنهما لما كان المقصود منهما التداوي لا التطيب لم يحرم استعمالهما. ولأنه شيء لا يعلق باليد فلم يحرم استعمالها كالقطع من العنبر. فعلى هذا لا فدية عليه؛ لأنه مباح الشم. ¬

_ (¬1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 232 كتاب الحج، باب في المحرم يربط الهميان ويدخل البستان ويشم الريحان.

والرواية الثانية: لا يجوز؛ لأنه شم يحصل به طيب وترفه فلم يبح كشم الغالية والمسك. فعلى هذه عليه الفدية إذا فعل ذلك؛ لأنه فعلٌ محرم يقصد به الترفه أشبه الحلق. وفرق المصنف رحمه الله في الكافي بين الريحان وبين الورد والبنفسج، وصحح كون الورد والبنفسج طيباً، وقاسه على الزعفران. وأما الادهان بدهن غير مطيب كالشيرج والزيت ودهن اللبان ففيه روايتان: أحدهما: يجوز؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن في إحرامه بزيت غير مقتت» (¬1) أي غير مطيب رواه الإمام أحمد والأثرم في السنن. ولأنه قول ابن عباس وابن عمر والأسود بن يزيد رضي الله عنهم. والرواية الثانية: لا يجوز؛ لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر فمنع منه قياساً على المطيب. وأما قول المصنف رحمه الله: في شعره مشعر بأنه لا يحرم عليه الادهان بذلك في بدنه وهو صحيح صرح به في المغني. ونقل عن ابن المنذر أنه قال: أجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن. وقال القاضي وغيره من الأصحاب: الخلاف جار في دهن البدن كدهن الرأس لأن البدن كالرأس في إزالة الشعث وتسكين الشعر. قال رحمه الله: (وإن جلس عند العطار أو في موضع ليشم الطيب فشمه فعليه الفدية، وإلا فلا). أما وجوب الفدية إذا جلس لقصد شم الطيب فشمه فلأنه شمه قاصداً مبتدءاً به في الإحرام فحرم عليه ووجبت الفدية كما لو باشره. وأما عدم وجوبها إذا جلس لا لقصد ذلك فلأنه لا يمكن التحرز منه، وما هذا شأنه لا تجب به فدية. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (6322) 2: 145.

فصل [في الصيد للمحرم] (السادس: قتل صيد البر واصطياده. وهو: ما كان وحشياً مأكولاً، أو متولداً منه ومن غيره. فمن أتلفه أو تلف في يده أو أتلف جزءاً فعليه جزاؤه). أما كون قتل صيد البر من محظورات الإحرام؛ فلقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95]. وأما كون اصطياده من محظورات الإحرام؛ فلقوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} [المائدة: 96]. وأما كون الصيد ما كان وحشياً مأكولاً ومتولداً منه ومن غيره فلأن غير ذلك إما أهلي وإما محرم الأكل. والأهلي ليس بصيد ولذلك يذبح في الهدايا والضحايا مع تحريم الصيد على المحرم، ومحرم الأكل يباح قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح قتل بعض غير المأكول بقوله: «خمس فواسق يقتلن في الحرم» (¬1). وفي لفظ: «خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهم جناح: الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور» (¬2) متفق عليه. فيقاس عليه غيره مما لم يقم دليل على تحريم قتله. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1732) 2: 650 أبواب الإحصاء وجزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1198) 2: 857 كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3137) 3: 1205 كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يُقتلن في الحرم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1199) 2: 858 كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم.

فإن قيل: لم حرم قتل المتولد وهو غير مأكول؟ قيل: لأنه اجتمع فيه مبيح ومحرم فغلب جانب التحريم. ولأنه حرم أكله تغليباً فكذلك قتله. وأما وجوب الجزاء على من أتلف ذلك؛ فلقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95]. وأما وجوبه على من تلف في يده فلأنه تلف تحت يد عادِيَة أشبه ما لو تلف في يده العادية مال الآدمي. وأما وجوب جزاء الجزء فلأن ما يضمن جملته يضمن أجزاؤه دليله مال الآدمي. قال رحمه الله: (ويضمن ما دل عليه أو أشار إليه أو أعان على ذبحه أو كان له أثر في ذبحه مثل أن يعيره سكيناً إلا أن يكون القاتل محرماً فيكون جزاؤه بينهما). أما وجوب الضمان في ذلك كله فلأن فعل جميع ذلك حرام لأنه وسيلة إلى حرام فكان حراماً كسائر الوسائل. ولأن فعل كل واحد من ذلك يُحرّم الأكل لما يأتي، ولو لم يحرم فعله لما حرم الأكل كصيد المحرم الذي لا أثر للحلال فيه. وأما كون الضمان في ذلك على الدالّ والمشير والمعين ومن له أثر في الذبح وحده إذا لم يكن القاتل محرماً فلأنه يختص بالحرمة لكون الحلال لا يحرم عليه قتل الصيد. وأما كونه بينه وبين القاتل إذا كان محرماً فلأنهما يشتركان في التحريم فكذا في الجزاء. قال رحمه الله: (ويحرم عليه الأكل من ذلك كله وأكل ما صيد لأجله. ولا يحرم عليه الأكل من غير ذلك). أما تحريم الأكل مما دل عليه أو أشار فلما روى أبو قتادة رضي الله عنه «أنه كان مع أصحاب له محرمين وهو لم يحرم. فأبصروا حماراً وحشياً وأنا مشغول أخصف نعلي. فلم يؤذنوني به وأحبوا لو أنّي أبصرته. فركبت ونسيت السوط والرمح. فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح. فقالوا: والله! لا نعينك عليه. فلما سألوا رسول الله

صلى الله عليه وسلم قال: هل منكم أحد أمره أن يَحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: كلوا ما بقي من لحمها» (¬1) متفق عليه. وأما تحريم أكل ما أعان عليه فلأن ذلك في معنى الإشارة فوجب أن يحرم لأن الاشتراك المعنوي يوجب الاشتراك الحكمي. وأما تحريم أكل ما صيد لأجله وعدم تحريم غير ما صرح بتحريمه فلما روى جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصاد لكم» (¬2) رواه الترمذي. وقال: هذا أحسن حديث في الباب. قال رحمه الله: (وإن أتلف بيض صيد أو نقله إلى موضع آخر ففسد فعليه ضمانه بقيمته). أما وجوب ضمان بيض الصيد بإتلافه فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه» (¬3) رواه ابن ماجة. وأما وجوب ضمانه إذا فسد بنقله فلأنه تسبب في إتلافه، والتسبب في الإتلاف كالمباشرة. وأما كون الضمان فيهما بالقيمة فلأنه لا مثل للبيض فتجب فيه القيمة كسائر ما لا مثل له. فإن قيل: في الحديث المتقدم ثمنه. قيل: المراد بالثمن ذلك، إذ غالب الأشياء يعدل ثمنها قيمتها. قال رحمه الله: (ولا يملك الصيد بغير الإرث. وقيل: لا يملكه به أيضاً). أما كون الصيد لا يملكه المحرم بغير الإرث مثل أن يهدى إليه فيقبله أو يشتريه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1728) 2: 648 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال. وأخرجه مسلم في صحيحه (1196) 2: 853 كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (846) 3: 203 كتاب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (3086) 2: 1031 كتاب المناسك، باب جزاء الصيد يصيبه المحرم.

أو يتهبه أو نحو ذلك فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه الصعب بن جثامة حماراً وحشياً فرده عليه. وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» (¬1). فإن قيل: الحديث المذكور في الهدية فلم عُدّي إلى غيرها؟ قيل: لمساواته لها معنى. وأما ملكه بالإرث ففيه وجهان: أحدهما: لا يمكله بالقياس على ما تقدم. والثاني: يملكه. وهو الصحيح لأنه يدخل في ملكه حكماً اختار ذلك أو كرهه ولهذا يدخل في ملك الصبي والمجنون بخلاف بقية الأسباب. قال رحمه الله: (وإن أمسك صيداً حتى تحلل ثم تلف أو ذبحه ضمنه وكان ميتة. وقال أبو الخطاب: له أكله). أما وجوب الضمان في الحالتين المذكورتين فلأنه تلف بسبب كان في إحرامه فضمنه كما لو جرحه فمات بعد حله. وأما كونه ميتة على المذهب فلأنه صيد يلزمه ضمانه فلم يبح ذبحه كحال الإحرام. وأما كون المحرم له أكله على قول أبي الخطاب فلأنه ذبحه حال حله فأبيح له كغيره. قال رحمه الله: (وإن أحرم وفي يده صيد أو دخل الحرم بصيد لزمه إزالة يده المشاهدة دون الحكمية عنه. فإن لم يفعل فتلف ضمنه. وإن أرسله إنسان من يده قهراً فلا ضمان على المرسل). أما لزوم إزالة يده المشاهدة إذا أحرم وفي يده صيد أو دخل الحرم بصيد فلأن في عدم إزالة يده إمساكاً للصيد فلم يجز كحالة الابتداء. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1729) 2: 649 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1193) 2: 850 كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم.

وأما عدم لزوم إزالة يده الحكمية فلأنها (¬1) فلم يلزم إزالتها كما لو لم يكن محرماً. فإن قيل: ما المشاهدة وما الحكمية؟ قيل: اليد المشاهدة أن يكون في قبضته أو رَحْله أو خيمته أو قفصٍ معه أو مربوطاً معه، واليد الحكمية أن يكون له صيد في بلده أو يد نائبه في غير مكانه. وأما وجوب الضمان إذا لم تَزُل يده فتلف فلأنه تلف تحت اليد العادِيَة فلزمه الضمان كمال الآدمي. وأما عدم وجوبه على من أرسله من يده قهراً فلأنه فعل ما يلزمه فعله. ولأن اليد يد زال حكمها وحرمتها. قال رحمه الله: (وإن قتل صيداً صائلاً عليه دفعاً عن نفسه أو بتخليصه من سبع أو شبكة ليطلقه لم يضمنه. وقيل: يضمنه فيهما). أما عدم وجوب الضمان على من قتل صيداً صائلاً عليه على الوجه الأول فلأنه ألجأه إلى قتله فلم يضمنه كالآدمي الصائل. وأما عدم وجوب ضمانه إذا قتله بتخليصه فلأنه فعلٌ أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبيِّ الصبيَّ فمات بذلك. وأما وجوب ضمانه فيهما: أما في الأولى: فلأنه قتله لحاجة نفسه أشبه ما لو قتله للحاجة إلى أكله. وأما في الثانية: فلعموم الآية. ولأن غاية ما فيه أنه عدم القصد إلى قتله أشبه قتل الخطأ. قال رحمه الله: (ولا تأثير للحرم ولا للإحرام في تحريم حيوان إنسي ولا مٌحَرّم الأكل إلا القمل في رواية. وأي شيء تصدّق به كان خيراً منه). أما عدم تأثير الحرم والإحرام في تحريم الحيوان الإنسي كالبقر والغنم ونحو ذلك فلأن الله تعالى إنما حرم الصيد وليس هذا بصيد. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتقرب إلى الله تعالى بذبح ذلك في إحرامه. ¬

_ (¬1) بياض في ج مقدار ثلاث كلمات.

وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الحج العج والثج» (¬1). يعني إسالة الدم بالنحر. وأما عدم تأثيرهما في تحريم محرم الأكل غير القمل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح قتل ذلك بقوله: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» (¬2). وقال: «خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور» (¬3) متفق عليه. نص على الخمس الفواسق وقيس عليهن كل مؤذ. وأما القمل ففيه روايتان: أحدهما: لا تأثير لهما في قتله لأنه يحرم أكله ويؤذي أشبه البراغيث. والثانية: يحرم قتله في الإحرام؛ لأنه يترفه بإزالته. فعلى هذا فيه الجزاء وأي شيء تصدق به كان خيراً منه لأنه لم يرد فيه أثر. قال رحمه الله: (ولا يحرم صيد البحر على المحرم. وفي إباحته في الحرم روايتان). أما عدم حرمة صيد البحر على المحرم؛ فلأن الله تعالى قال: {أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} [المائدة: 96]. وصيد البحر ما يعيش في الماء كالسمك والسرطان ونحو ذلك وسواء كان في الماء الملح أو العذب كالآبار والعيون لأن لفظ البحر يطلق على الكل قال الله سبحانه: {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج} [الفرقان: 53] فسمى العذب بحراً. ولأن الله تعالى قابله بصيد البر فدل على أن ما ليس من صيد البر من صيد البحر. وأما صيده من آبار الحرم ففيه روايتان: ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (827) 3: 189 كتاب الحج، باب ما جاء في فضل التلبية والنحر. بلفظ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال: العج والثج». عن أبي بكر الصديق. والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: نحْر البُدْن. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2924) 2: 975 كتاب المناسك، باب رفع الصوت بالتلبية. مثله. (¬2) سبق تخريجه ص: 112. (¬3) سبق تخريجه ص: 112 ..

أحدهما: يباح؛ لأنه لا يؤثر فيه الإحرام فكذلك الحرم. والثانية: يحرم؛ لأنه صيد حرمي أشبه صيد الحرم. قال رحمه الله: (ويُضمن الجراد بقيمته. فإن انفرش في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان. وعنه: لا ضمان في الجراد). أما ضمان الجراد على المذهب فلما روي «أن ابن عمر رضي الله عنه أوجب فيه الجزاء» (¬1). ولأنه طائر أشبه سائر الطيور. وأما ما يُضمن به فنص الإمام أحمد رحمه الله على أنه يجب في الجرادة تمرة؛ لأنه يروى عن ابن عمر (¬2). وقال بعض أصحابنا: يضمن بالقيمة؛ لأنه متلف غير مثلي فضُمن بالقيمة كسائر المتلفات التي لا مثل لها. وقال القاضي أبو يعلى: ليس هذا منه -يعني من الإمام أحمد- تقديراً بل تقويماً. وأما إذا انفرش في طريقه فقتله بالمشي عليه ففيه وجهان: أحدهما: لا جزاء عليه؛ لأنه اضطره إلى إتلافه أشبه ما لو صال عليه. والثاني: عليه الجزاء؛ لأنه أتلفه لمنفعته أشبه ما لو اضطر إلى أكله. وأما عدم وجوب الضمان في الجراد على روايةٍ؛ فلأنه من صيد البحر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجراد من صيد البحر» (¬3). وفي لفظ: «أنه سئل عنه فقال: إنما هو من البحر» (¬4) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15622) 3: 410 كتاب الحج، في المحرم يقتل الجرادة. من طريق علي بن عبدالله البارقي قال: «كان ابن عمر يقول: في الجرادة قبضة من طعام». (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه من طريق أبي سلمة عن ابن عمر. ر. تلخيص الحبير 1: 540. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1853) 2: 171 كتاب المناسك، باب في الجراد للمحرم. عن أبي هريرة. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1854) 2: 171 كتاب المناسك، باب في الجراد للمحرم. ولفظه: عن أبي هريرة قال: «أصبنا صِرْماً من جراد فكان رجل منا يضرب بسوطه وهو محرم فقيل له إن هذا لا يصلح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هو من صيد البحر». وأخرجه الترمذي في جامعه (850) 3: 207 كتاب الحج، باب ما جاء في صيد البحر للمحرم. وفيه: «كلوه فإنه من صيد البحر». وأخرجه ابن ماجة في سننه (3222) 2: 1074 كتاب الصيد، باب صيد الحيتان والجراد. نحو لفظ الترمذي. وأخرجه أحمد في مسنده (8750) 2: 364. وفيه: «لا بأس بصيد البحر». كلهم عن أبي المهزم عن أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي المُهَزِّمِ عن أبي هريرة وأبو المهزم اسمه يزيد بن سفيان وقد تكلم فيه شعبة. وقال أبو داود: أبو المهزم ضعيف.

والأولى وجوب الضمان لأن أبا داود رضي الله عنه قال في الحديثين جميعاً: هما جميعاً وهم (¬1). قال رحمه الله: (ومن اضطر إلى أكل الصيد أو احتاج إلى شيء من هذه المحظورات فله فعله وعليه الفداء). أما كون المضطر له أكل ما اضطر إلى أكله فلمكان الضرورة. وأما كون المحتاج إلى شيء من المحظورات المتقدم ذكرها له فعل ما احتاج إلى فعله فلأن كعب بن عجرة احتاج إلى الحلق فأباحه النبي صلى الله عليه وسلم. روي أنه قال: «لعلك يؤذيك هوامّ رأسك. قال: نعم يا رسول الله! قال: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع تمراً أو انسك شاة» (¬2) متفق عليه. وأما وجوب الفداء في الصورتين: أما فيما إذا اضطر فلأن أكل الصيد إتلاف فوجب ضمانه كما لو اضطر إلى طعام الغير. وأما وجوبه فيما إذا احتاج؛ فلما ذكر في حديث كعب. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود 1: 171. (¬2) سبق تخريج حديث كعب بن عجرة ص: 99.

فصل [في عقد النكاح للمحرم] قال المصنف رحمه الله: (السابع: عقد النكاح لا يصح منه. وفي الرجعة روايتان. ولا فدية عليه في شيء منهما). أما كون النكاح من محظورات الإحرام فلما روى عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب» (¬1) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. ولأن الإحرام يُحرّم الطيب فيحرم النكاح كالعدة. فإن قيل: فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم» (¬2) متفق عليه. قيل: ذلك معارض بما روى يزيد بإسناده عن ميمونة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً وبنى بها حلالاً وماتت بسرف ودفناها في الظلة التي بنى بها فيها» (¬3) رواه أبو داود والأثرم والترمذي. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1409) 2: 1031 كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته. وأخرجه أبو داود في سننه (1841 - 1842) 2: 169 كتاب المناسك، باب المحرم يتزوج. وأخرجه الترمذي في جامعه (840) 3: 199 كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1740) 2: 652 كتاب المغازي، باب عمرة القضاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (1410) 2: 1031 كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه مختصراً (1411) 2: 1032 كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته. وأخرجه أبو داود في سننه (1843) 2: 169 كتاب المناسك، باب المحرم يتزوج، مختصراً أيضاً. وأخرجه الترمذي في جامعه (845) 3: 203 كتاب الحج، باب ما جاء في الرخصة في ذلك.

وبما روى أبو رافع رضي الله عنه قال: «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول بينهما» (¬1) قال الترمذي: هذا حديث حسن. بل ما ذكرنا راجح؛ لأن ميمونة رضي الله عنها أعلم بنفسها وأبا رافع أعلم من غيره؛ لأنه كان السفير بينهما. ولأن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً وقد أُنكر هذا القول عليه. ولأن ما ذكرنا اجتمع فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وما ذكر فيه فعله لا غير. ثم يمكن حمل قول ابن عباس: «تزوجها محرماً» (¬2) على أنه تزوجها في الشهر الحرام كما قيل: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما. وقيل: تزوجها حلالاً وظهر أمر تزويجها وهو محرم. وأما الرجعة ففيها روايتان: أحدهما: أنها كذلك لأنها عقدٌ وُضع لإباحة البضع أشبه النكاح. والرواية الثانية: لا تحرم. وهي الصحيحة في المذهب؛ لأن الرجعة إمساك الزوجة بدليل قوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} [الطلاق: 2]. ولأنها تجوز بغير ولي ولا شهود. وأما عدم وجوب الفدية في شيء منهما فلأن ذلك عقد فسد للإحرام فلم يجب به فدية كشري الطيب. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (841) 3: 200 كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم. وأخرجه أحمد في مسنده (27241) 6: 392. (¬2) سبق تخريجه قريباً.

فصل [في الجماع للمحرم] قال المصنف رحمه الله: (الثامن: الجماع في الفرج قبلاً كان أو دبراً من آدمي أو غيره، فمتى فعل ذلك قبل التحلل الأول فسد نسكه عامداً كان أو ناسياً، وعليهما المضي في فاسده والقضاء على الفور من حيث أحرما أوّلاً). أما كون الجماع من محظورات الإحرام فلقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الرفث الجماع». يدل عليه قوله: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة: 187] أي الجماع. وأما التسوية في الوطء بين الدبر والقبل ومن الآدمي وغيره فلاشتراك ذلك كله في وجوب الغسل به. ولأن الوطء في الدبر ولغير الآدمي حرام في غير الإحرام فلأن يحرم في الإحرام بطريق الأولى. وأما فساد النسك بفعل ذلك قبل التحلل الأول فلما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رجلاً سأله فقال: إني وقعت بامرأتي ونحن محرمان. فقال: أفسدت حجك» (¬1). وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعبدالله بن عمرو (¬2). ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعاً. وأما وجوب المضي في فاسده ووجوب القضاء على الفور فلأن تكملة حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال للسائل: «انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 167 - 168 كتاب الحج، باب ما يفسد الحج. (¬2) أخرجه البيهقي عنهما في الموضع السابق.

وحلوا إذا حلوا فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك واهديا فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم» (¬1) وكذلك روي عن الصحابة المتقدم ذكرهم والحجة ما مر. وأما وجوب الإحرام من الموضع الذي أحرما منه أولاً فلأن القضاء يحكي الأداء. وأما تسوية عمد وطء المحرم بسهوه فلأن ابن عمر وابن عباس وعبدالله بن عمرو رضي الله عنهم لما قالوا للواطئ في إحرامه: «أفسدت حجك» لم يستفصلوه عن سهوه، ولو افترق الحال لوجب الاستفصال. قال رحمه الله: (ونفقة المرأة في القضاء عليها إن طاوعت، وإن أكرهت فعلى الزوج). أما وجوب نفقة المرأة في القضاء عليها إذا طاوعت فلأنها أفسدت حجها بالمجامعة فكانت النفقة عليها. ولقول ابن عمر رضي الله عنهما: «واهديا هديا» أضاف الفعل إليهما فكان على كل واحد منهما هديه. ولفظ ابن عباس رضي الله عنهما: «اهد ناقة ولتهد ناقة» (¬2). ولأنها بمطاوعتها أفسدت حجها فكانت النفقة عليها كالرجل المفسد لنسكه. وأما وجوبها على الزوج إذا أكرهها فلأنه هو المفسد لحجها فكانت عليه نفقتها كنفقة حجه. قال رحمه الله: (ويتفرقان في القضاء من الموضع الذي أصابها فيه إلى أن يحلا. وهل هو واجب أو مستحب؟ على وجهين). أما تفرقهما من الموضع المذكور فلأن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «ويتفرقان من حيث يحرمان ولا يجتمعان حتى يقضيا» (¬3). ¬

_ (¬1) سبق في الحديث السابق. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 167 - 168 كتاب الحج، باب ما يفسد الحج. (¬3) سبق تخريج حديث ابن عباس قريباً.

وأما وجوب ذلك ففيه وجهان: أحدهما: أنه واجب؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما ذكره حكماً للمجامع فكان واجباً كالقضاء. والثاني: لا يجب؛ لأنه حج فلم يجب فيه مفارقة الزوجة كغير القضاء. ولأن مقصود الفراق التحرز من إصابتها وهذا وهم لا يقتضي الوجوب. فعلى هذا يكون مستحباً لأنه اختلف في وجوبه فأدنى أحواله أن يكون مستحباً. فإن قيل: ما معنى التفرق؟ قيل: اجتناب الركوب معها على بعير واحد والجلوس معها في خباء، ولا بأس أن يكون قريباً منها يراعي أحوالها؛ لأنه محرمها. قال: (وإن جامع بعد التحلل الأول لم يفسد حجه ويمضي إلى التنعيم فيُحرم ليطوف وهو محرم. وهل تلزمه بدنة أو شاة؟ على روايتين). أما عدم فساد حج من جامع بعد التحلل الأول وقبل الثاني فلأن الحج عبادة لها تحللان فوجود المفسد بعد أولهما لا يفسد كالصلاة. وأما مضيه إلى التنعيم فلأن إحرامه فسد؛ لأنه وطء صادف إحراماً فأفسده كما قبل التحلل الأول، والطواف لا يصح إلا في إحرام صحيح؛ لأنه ركن فوجب أن يأتي به في إحرام صحيح كالوقوف. واعلم أن المراد من فساد الإحرام بقيته لا فساد كله؛ لأنه لو فسد كله كان يلزم منه وقوع الوقوف في غير إحرام. فعلى هذا يُحرم من الحل ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم. فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله يقتضي أنه يحرم من التنعيم ولا بد؟ قيل: ليس مراده ذلك بدليل أنه قال في المغني قول الخرقي يحرم من التنعيم لم يذكر ليتعين الإحرام منه بل لأنه حِلّ فمن أي حِلٍّ أحرم جاز. وظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أنه إذا أحرم لا يجب عليه إلا الطواف لأنه اقتصر عليه.

وقال في المغني بعد ذكر الطواف: هذا ظاهر كلام الخرقي إلا أنه ضم إليه السعي إن لم يكن سعى. وعلل الاقتصار على ذلك بأن الذي [بقي] (¬1) عليه بقية أفعال الحج. ثم قال: والمنصوص عن أحمد ومن وافقه من الأئمة أنه يعتمر. ثم قال: فيحتمل أنهم أرادوا الإحرام والطواف وسموه عمرة لأن ذلك جُلّ أفعال العمرة. ويحتمل أنهم ألزموه جميع أفعال العمرة لأنه إحرام مستأنف فكان فيه سعي وتقصير كالعمرة المنفردة. ثم قال: والأول أصح في المعنى. وأما ما يلزمه ففيه روايتان: أحدهما: بدنة؛ لأنه قول ابن عباس (¬2). ولأنه وطء في الحج فوجبت به بدنة كما لو لم يتحلل. والثانية: شاة؛ لأنه وطء لا يُفْسِد الحج أشبه الاستمتاع دون الفرج الخالي عن الإنزال. ولأن الإحرام خَفّ بالتحلل الأول فينبغي أن يكون موجَبه دون موجَب الإحرام التام. قال المصنف رحمه الله في المغني: هذا -يعني وجوب الشاة- ظاهر كلام الإمام أحمد والخرقي. ¬

_ (¬1) بياض في ج، وقد استدركناه من المغني. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 168 كتاب الحج، باب ما يفسد الحج.

فصل [في المباشرة للمحرم] قال المصنف رحمه الله: (التاسع: المباشرة فيما دون الفرج لشهوة، فإن فعل فأنزل فعليه بدنة. وهل يفسد نسكه؟ على روايتين، وإن لم ينزل لم يفسد). أما كون المباشرة من محظورات الإحرام فلأن ذلك وسيلة إلى الوطء وهو محرم، والوسيلة إلى المحرم تكون محرمة. وأما وجوب البدنة إذا فعل ذلك فأنزل فلأنه جماع اقترن به الإنزال فأوجب بدنة كالجماع في الفرج. وأما فساد النسك بذلك ففيه روايتان: أحدهما: لا يفسد؛ لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلا يفسد به الحج كما لو لم ينزل. والثانية: يفسد؛ لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الوطء في الفرج. وصحح هذه الرواية صاحب النهاية في مختصره. وأما عدم فساده إذا لم ينزل فلأنها مباشرة عريت عن إنزال فلم يفسد بها الحج كاللمس، أو مباشرةٌ لا توجب الاغتسال فلا يفسد بها الحج كاللمس.

فصل [في إحرام المرأة] قال المصنف رحمه الله: (والمرأة إحرامها في وجهها. ويحرم عليها ما يحرم على الرجل إلا في اللباس وتظليل المحمل). أما كون إحرام المرأة في وجهها فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولا تتنقب المرأة الحرام» (¬1) رواه البخاري. نهى المرأة عن النقاب فلو لم يحرم تغطية وجهها لما نهاها عنه. فإن قيل: فلو احتاجت إلى ستر وجهها عند مرور الرجال قريباً منها؟ قيل: ترسل ثوباً من فوق رأسها على وجهها لما روت عائشة رضي الله عنها: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه» (¬2) رواه أبو داود. ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلم يحرم على الإطلاق كالعورة من الرجل. وأما كون المرأة يحرم عليها ما يحرم على الرجل غير اللباس وتظليل المحمل فلأن ذلك كله حرام على الرجل لإحرامه، وهو موجود في المرأة فيحرم عليها ذلك لوجود سببه. وأما كونها لا يحرم عليها اللباس والتظليل فلأن المرأة عورة يحرم النظر إليها ويستحب لها المبالغة في الستر، وحرمة اللباس والتظليل يناقض ذلك بخلاف الرجل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1741) 2: 653 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) كتاب الحج. كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1833) 2: 167 كتاب المناسك، باب في المحرمة تغطي وجهها. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2935) 2: 979 كتاب المناسك، باب المحرمة تسدل الثوب على وجهها. وأخرجه أحمد في مسنده (24067) 6: 30.

قال: (ولا تلبس القفازين والخلخال ونحوه، ولا تكتحل بالإثمد). أما كون المرأة لا تلبس القفازين فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتنقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين» (¬1) رواه البخاري. وفي لفظ: «نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب» (¬2). فإن قيل: ما القفازان؟ قيل: شيء يعمل لليدين يدخلان فيه من الحر مثل ما يعمل للبُزاة. وأما كونها لا تلبس الخلخال وما أشبهه كالسوار والدملج فلأن المحرمة كالمتوفى عنها زوجها في اجتناب الطيب. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أن لبسه حرام لأنه عطفه على القفازين ولبسهما حرام فكذلك المعطوف عليهما. قال المصنف رحمه الله في المغني بعد ذكر ذلك: ظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز لبسه. وروي عن الإمام أحمد رحمه الله على أنه قال: المحرمة والمتوفى عنها زوجها يتركان الطيب والزينة. وظاهره تحريم الحلي المذكور. وأما الكحل بالإثمد فليس حراماً بل مكروهاً صرح به المصنف رحمه الله في المغني والكافي. والأصل فيه «قول عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لها: اشتكت عيني وأنا محرمة: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد أو الأسود. أما إنه ليس حراماً ولكنه زينة فنحن نكرهه» (¬3). وفي ذكر الإثمد دليل على عدم كراهة الاكتحال بغيره. وصرح به المصنف في المغني. والأصل فيه حديث عائشة المتقدم فإن فيه: «اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد» (¬4) مع أنها نفت الحرمة عن الإثمد فدل على أن غيره ليس بمكروه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1827) 2: 166 كتاب المناسك، باب ما يلبس المحرم. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه مختصراً (14851) 3: 335 كتاب الحج، في الكحل للمحرم والمحرمة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 63 كتاب الحج، باب المحرم يكتحل بما ليس بطيب. (¬4) سبق تخريجه في الحديث السابق.

قال: (ويجوز لبس المعصفر والكحلي والخضاب بالحناء والنظر في المرآة لهما جميعاً). أما جواز لبس المعصفر والكحلي فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ولتلبس إحداكن ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو كحلي». وأما الخضاب بالحناء فلأن عكرمة قال: «كانت عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء وهن حرم» (¬1). وأما النظر في المرآة للرجل والمرأة فإن كان القصد بذلك إزالة شعث أو تسوية شعر أو شيئاً من الزينة كره لأنه زينة وقد روي: «إن المحرم الأشعث الأغبر». وفي الحديث: «إن الله تعالى يباهي الملائكة بأهل عرفة فيقول: يا ملائكتي! انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين» (¬2). وإن كان لغير ذلك جاز من غير كراهة. أما الجواز فلأنه إذا جاز فيما تقدم فلأن يجوز في غيره بطريق الأولى. وأما عدم الكراهية فلانتفاء موجبها المتقدم ذكره. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11186) 11: 105 عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (7089) 2: 224. عن عبدالله بن عمرو.

باب الفدية

باب الفدية قال المصنف رحمه الله: (وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: ما هو على التخيير، وهو نوعان: أحدهما: يخير فيه بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير أو ذبح شاة، وهي فدية حلق الرأس وتقليم الأظافر وتغطية الرأس واللبس والطيب. وعنه: يجب الدم إلا أن يفعله لعذر فيخير). أما كون فدية الحلق على التخيير مع العذر فلقوله سبحانه وتعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196]. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة» (¬1) متفق عليه. فإن قيل: الآية ليس فيها ذكر الحلق؟ قيل: هو محذوف تقديره فحلق ففدية، ونظيره قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185] أي فأفطر فعدة. وأما مع عدم العذر ففيه روايتان: أحدهما: هي على التخيير لما تقدم. والثانية: هي على الترتيب لأن الله تعالى خيره مع العذر فإذا زال العذر زال التخيير. فعلى هذه يجب عليه الدم أولاً فإن لم يجد أطعم ستة مساكين. ¬

_ (¬1) سبق تخريج حديث كعب بن عجرة ص: 99.

وأما كون الفدية صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة فلما تقدم في حديث كعب بن عجرة. وأما كون الواجب لكل مسكين مداً من البر أو نصف صاع من غيره فلأن البر أنفع من غيره. ولأن الكفارات البر فيها على النصف من غيره فكذلك هاهنا. وفي بعض ألفاظ حديث كعب بن عجرة: «أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع تمر» (¬1). وفي رواية أبي داود: «أطعم ستة مساكين فرَقاً من زبيب» (¬2). والفرَق ستة عشر رطلاً وهو ثلاثة آصع. وأما كون فدية تقليم الأظفار وتغطية الرأس واللبس والطيب كفدية الحلق فلأن أصل الوجوب في ذلك كله ملحق بالحلق فكذلك في صفته. قال: (الثاني: جزاء الصيد يخير فيه بين المثل أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوماً، وإن كان مما لا مِثْل له خُيّر بين الإطعام والصيام. وعنه: أن جزاء الصيد على الترتيب، فيجب المثل فإن لم يجد (¬3) لزمه الإطعام فإن لم يجده صام). أما كون جزاء الصيد على التخيير على المذهب فلأن الله عز وجل ذكر ذلك بلفظ "أو" المقتضية للتخيير فقال سبحانه وتعالى: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} [المائدة: 95]. ولأن جزاء الصيد كفارة فكانت على التخيير كفدية الأذى. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (18145) 4: 243. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1860) 2: 172 كتاب المناسك، باب في الفدية. (¬3) في المقنع: يجده.

وأما ما يجب فيه فيُنظر في الصيد فإن كان مما له مثل خير فيه بين ثلاثة أشياء: المثل والإطعام والصيام؛ لأن ذلك هو المذكور في الآية، وإن كان مما لا مثل له خير بين شيئين: الإطعام والصيام؛ لأن التخيير إذا وقع بين أشياء فعدم واحد بقي بين الباقي. فعلى هذا إن اختار الإطعام فيما له مِثْل قُوّم المثل لا الصيد لأن كل متلف له مثل إذا قوم لزمت قيمة مثله دليله مال الآدمي المثلي. وإن اختار الصيام كان اليوم في مقابلة المد لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام فكان اليوم في مقابلة المد ككفارة الظهار. وإن اختار الإطعام فيما لا مثل له قُوّم الصيد لأن كل متلف غير مثلي إذا قوم لزمت قيمته دليله مال الآدمي غير المثلي. وإن اختار الصيام فعلى ما تقدم. وأما كون جزاء الصيد على الترتيب على روايةٍ فلأن المتعة على الترتيب وهذا آكد منها فإنه يجب بفعل محظور. والأصح أنها على التخيير؛ لأن دليل الترتيب قياس مع وجود النص.

فصل [في الفدية الواجبة بالترتيب] قال المصنف رحمه الله: (الضرب الثاني: على الترتيب. وهو ثلاثة أنواع: أحدها: دم المتعة والقران: فيجب الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله، وإن صامها قبل ذلك أجزأه). أما كون فدية التمتع على الترتيب فلقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196]. ذكره بلفظ الشرط وذلك شأن المرتَّب. وأما كون فدية القران على الترتيب فلأن وجوبها ثابت بالقياس على فدية التمتع فكذلك صفتها. وأما زمن الصيام فيها فعلى ضربين: أحدهما: زمن فضيلة. وثانيهما: زمن جواز. وذلك في الثلاثة والسبعة. أما زمن الفضيلة في الثلاثة فبعد إحرامه بالحج بحيث يكون آخرها يوم عرفة لأنه يكون آتيا بها في الحج. وأما زمن الجواز فبعد إحرامه بالعمرة وقبل يوم عرفة لأنه أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم بعده كإحرام الحج. ولأن الإحرام بالعمرة سبب الوجوب فجاز الصوم بعده وإن تخلف الوجوب كتقديم الزكاة بعد النصاب وقبل الحول، وكتقديم الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196]. قيل: قد قال بعض أهل العلم معناه في أشهر الحج.

وأما زمن الفضيلة في السبعة فإذا رجع إلى أهله؛ لقوله: {إذا رجعتم} [البقرة: 196]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» (¬1) متفق عليه. ولما فيه من الخروج من الخلاف. وأما زمن الجواز فظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله إذا رجع من الحج إلى مكة لأن كل صوم واجب جاز فعله في وطن فاعله جاز في غير وطنه كسائر الفروض. ولأنه قيل في الآية أن المراد بقوله: {إذا رجعتم} [البقرة: 196] أي من الحج. ولأن تأخير السبعة إنما كان رخصة فإذا قدم الصوم جاز كالمريض والمسافر إذا صاما رمضان. قال: (فإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى. وعنه: لا يصومها، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام وعليه دم. وعنه: إن ترك الصوم لعذر لم يلزمه إلا قضاؤه، وإن أخر الهدي (¬2) لغير عذر فعليه مع فعله دم. وقال أبو الخطاب: إن أخر الهدي والصوم لعذر لم يلزمه قضاؤه، وإن أخر الهدي لغير عذر فهل يلزمه دم آخر؟ على روايتين. قال: وعندي أنه لا يلزمه مع الصوم دم بحال). أما جواز صوم أيام منى لمن أخر صوم الثلاثة إلى ذلك ففيه روايتان: أحدهما: يجوز لما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي» (¬3) رواه البخاري. وإطلاق الصحابي هذا اللفظ ينصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1606) 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البدن معه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1227) 2: 901 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع ... (¬2) في المقنع: وإن تركه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1894) 2: 703 كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق.

والرواية الثانية: لا يجوز؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم ستة أيام ذكر منها أيام التشريق» (¬1). ولأنها لا يجوز صومها نفلاً فلا يجوز فرضاً كالعيد. والأولى أصح لأن دليلها خاص فيقدم على العام. ولأن الله تعالى أمر بصيام الثلاثة في الحج ولم يبق من أيام الحج إلا هذه الأيام فيتعين الصوم فيها بأمر الله تعالى. فعلى الرواية الأولى: لا شيء عليه لأنه لم يؤخر الصوم الواجب عن محله. وعلى الثانية: ينظر فيه فإن كان التأخير لغير عذر وجب عليه مع فعله دم لأنه أخره عن وقته أشبه ما لو أخر رمي الجمار عن أيام التشريق، وإن أخّره لعذر ففيه روايتان: أحدهما: يلزمه دم أيضاً لما ذكر. والثانية: لا يلزمه لمكان العذر. وقال أبو الخطاب رحمه الله: لا يلزمه دم بحال سواء أخّره لعذر أو لغيره لأنه صوم واجب يجب بفواته القضاء. وذكر المصنف رحمه الله في المغني قول أبي الخطاب رواية عن الإمام أحمد ثم قال فيها: وهو اختيار أبي الخطاب. وأما إن أخّر الهدي وكان التأخير لعذر لم يلزمه شيء زائد على فعله لأنه تأخير لعذر فلم يلزمه غير فعله كسائر الهدايا الواجبة، وإن كان التأخير لغير عذر ففيه روايتان: أحدهما: لا يلزمه شيء زائد كسائر الهدايا الواجبة. ¬

_ (¬1) عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب». أخرجه أبو داود في سننه (2419) 2: 320 كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق. وأخرجه الترمذي في جامعه (773) 3: 143 كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق. وأخرجه النسائي في سننه (3004) 5: 252 كتاب مناسك الحج، النهي عن صوم يوم عرفة. وأخرج أحمد في مسنده عن يونس بن شداد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم أيام التشريق». (16726) 4: 77.

والثانية: عليه دم آخر لأن الدم في المتعة نسك مؤقت فيلزم الدم بتأخيره عن وقته كرمي الجمار. قال: (ولا يجب التتابع في الصيام، ومتى وجب عليه الصوم فشرع فيه ثم قدر على الهدي لم يلزمه الانتقال إليه إلا أن يشاء، وإن وجب ولم يشرع فيه فهل يلزمه الانتقال؟ على روايتين). أما عدم وجوب التتابع في الصوم المتقدم ذكره فلأن الأمر ورد به مطلقاً وذلك لا يقتضي الجمع ولا التتابع. ولأنه صوم واجب فلم يجب التتابع فيه كالقضاء. وأما عدم لزوم الانتقال إلى الهدي إذا شرع في الصوم ثم قدر عليه فلأنه صوم دخل فيه لعدم الهدي، فإذا وجد الهدي لم يلزمه الخروج إليه كما لو وجد الرقبة بعد الشروع في صوم الكفارة. وأما إذا وجب ولم يشرع فيه ففيه روايتان: أحدهما: لا يلزمه الانتقال إليه أيضاً لأن الصيام استقر في ذمته لوجوبه حال وجود السبب المتصل بشرطه وهو عدم الهدي. والثانية: يلزمه لأنه وجد المبدل قبل الشروع في البدل أشبه ما لو وجده حالة الوجوب. قال: (النوع الثاني: المحصر يلزمه الهدي، فإن لم يجده (¬1) صام عشرة أيام ثم حل). أما كون فدية الإحصار على الترتيب فقياس على فدية التمتع. وأما هيئتها فدمٌ ثم صيام عشرة أيام، أما الدم فلقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]. وأما الانتقال إلى صيام عشرة أيام إذا لم يجد الهدي فلأنه دم واجب فكان له بدل ينتقل إليه كدم التمتع. ¬

_ (¬1) في المقنع: يجد.

وأما قول المصنف رحمه الله: "ثم حل" فإشارة إلى أنه لا يجوز له التحلل إلا إذا فعل الواجب عليه من دم أو صيام. وسيذكر في بابه. قال: (النوع الثالث: فدية الوطء يجب به بدنة، فإن لم يجدها صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع كدم المتعة لقضاء الصحابة به. وقال القاضي: إن لم يجد البدنة أخرج بقرة فإن لم يجد فسبعاً من الغنم، فإن لم يجد أخرج بقيمتها طعاماً، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما. وظاهر كلام الخرقي أنه مخير في هذه الخمسة فبأيّها كفّر أجزأه). أما وجوب البدنة بالوطء فلأن ابن عباس رضي الله عنهما قال للواطئ: «اهد ناقة ولتهد ناقة» (¬1). وأما الانتقال إلى صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع على المذهب إذا لم يجد الهدي فـ «لأن العبادلة أفتوا بذلك لمن لم يجد الهدي» رواه الأثرم. وأما الانتقال إلى البقرة على قولٍ فلأنها أقرب شبهاً بها. وأما وجوب سَبْع من الغنم إذا لم يجد البقرة فلأن ذلك يجزئ عن سبعة أشبه البدنة. وأما إخراجه بالقيمة طعاماً. ومعناه: أنه يشتري بها ذلك ويتصدق، وصومه عن كل مد يوماً إذا لم يجد الإطعام فلأنها بدنة وجبت عليه لم يمكن أداء الواجب فوجب أن ينتقل إلى التقويم والشراء والتصدق ثم إلى الصوم المذكور كالبدنة الواجبة في فدية النعامة. وأما الخيرة على ظاهر كلام الخرقي بين إخراج البدنة والبقرة وسَبْع من الغنم والإطعام والصوم فلأن بعضها قريب من بعض، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن البقرة: «وهل هي إلا من البدن» (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 123. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1318) 2: 955 كتاب الحج، باب الاشتراك في الهدي ... عن جابر رضي الله عنه قال: «كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له: والبقرة فقال: وهل هي إلا من البدن». ولم أره عن ابن عباس.

وقال صاحب النهاية فيها: منشأ الخلاف -يعني بين القاضي والخرقي- أن الوطء هل هو من قبيل الاستمتاعات أم من قبيل الاستهلاكات؟ فعلى هذا إن قيل أنه من قبيل الاستمتاع وجب أن يكون كفارته على التخيير لأن اللبس والطيب استمتاع، وهما على التخيير على الصحيح. وإن قيل: أنه من قبيل الاستهلاكات وجب أن يكون على الترتيب على الصحيح. فإن قيل: هي على الترتيب لم يجز أن يخرج واحد مما ذكر مع وجود الذي قبله. وإن قيل: هي على التخيير فله التكفير بما شاء من الخمسة؛ لأن هذا شأن الواجب المخيرة. إذا تم شرح كلام المصنف رحمه الله فاعلم أن الانتقال من البدنة إلى الصيام لم أجد به قولاً لأحمد ولا لأحد من الأصحاب وكأنه والله أعلم قد اختاره لما فيه من موافقة العبادلة إلا أن فيه نظراً نقلاً وأثراً. أما النقل فهو أن المصنف رحمه الله قال في المغني في مسألة: وإن وطئ المحرم في الفرج فأنزل أو لم ينزل فسد حجهما وعليه بدنة ويجب على المجامع بدنة. روي ذلك عن ابن عباس، فإن لم يجد فشاة. وأيضاً فإنه هنا شبّه فدية الوطء بفدية المتعة، والشبه إنما يكون في ذات الواجب أو في نفس الانتقال. ويرد على الأول أنه لا يجب فيها بدنة بل شاة وعلى الثاني أنه لا يجوز الانتقال في المتعة مع القدرة على الشاة. وأما الأثر فإن المروي عن العبادلة أن من أفسد حجه أفتوه إذا لم يجد الهدي انتقل إلى صيام عشرة أيام ولا يلزم في حق من لم يجد بدنة أن يقال عنه لم يجد الهدي لأنه قد لا يجد بدنة ويجد بقرة أو شاة. قال: (ويجب بالوطء في الفرج بدنة إن كان في الحج وشاة إن كان في العمرة. ويجب على المرأة مثل ذلك إن كانت مطاوعة، وإن كانت مكرهة فلا فدية عليها. وقيل: يلزمها كفارة يتحملها الزوج عنها). أما وجوب البدنة بالوطء في الحج؛ فلأن ذلك يروى عن ابن عباس (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 125.

وأما وجوب شاة بالوطء في العمرة فلأن العمرة أحد النسكين فوجب أن يجب بالوطء فيه شيء كالآخر وإنما لم تجب البدنة لأن حكم العمرة أخف. وأما وجوب مثل ذلك على المرأة إذا كانت مطاوعة فلأن الأصل مساواة الرجل المرأة ما لم يقم دليل على التخصيص. ولأنه جاء في حديث ابن عباس: «اهد ناقة ولتهد ناقة» (¬1). وأما عدم وجوب الفدية عليها إذا كانت مكرهة على المذهب فلقوله صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬2). وأما لزوم ذلك للمرأة على قولٍ فلحصول الوطء. وأما كون الزوج يتحملها فلأنه سبب لأن لزمها ذلك فوجب أن يتحملها عنها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 123. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2043) 1: 659 كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي. من حديث أبي ذر رضي الله عنه. بلفظ: «إن الله تجاوز عن أمتي ... ». وفي (2045) عن ابن عباس بلفظ: «إن الله وضع عن أمتي ... ».

فصل [في الدماء الواجبة للفوات] قال المصنف رحمه الله: (الضرب الثالث: الدماء الواجبة للفوات أو لترك واجب أو للمباشرة في غير الفرج، فما وجب منه بدنة فحكمها حكم البدنة الواجبة بالوطء في الفرج، وما عداه فقال القاضي: ما وجب لترك واجب ملحق بدم المتعة، وما وجب للمباشرة ملحق بفدية الأذى). أما كون حكم البدنة الواجبة بشيء مما ذكر حكم البدنة الواجبة في الوطء فلأنها بدنة وجبت بسببٍ في إحرامه أشبهت البدنة الواجبة في الوطء. ومعنى قوله: حكمها حكم البدنة الواجبة في الوطء أنه يجب عليه بدنة فإن لم يجد انتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع على المذهب، وعلى قول القاضي إن لم يجد البدنة ذبح بقرة، فإن لم يجد فسَبْعاً من الغنم، فإن لم يجد أخرج بقيمة البدنة طعاماً، فإن لم يجد صام عن كل مد يوماً. وعلى ظاهر قول الخرقي أنه مخير في هذه الخمسة كما خير فيها إذا كان سبب ذلك الوطء. وأما كون حكم ما وجب لترك واجب كترك الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة، والرمي، والمبيت بمنى لياليها، وطواف الوداع حكم دم المتعة فلأن دم المتعة وجب لترفهه بأحد السفرين فيقاس عليه كل دم واجب. وأما كون حكم ما وجب للمباشرة كالقبلة واللمس والوطء في العمرة والوطء في الحج بعد الجمرة حكم فدية الأذى كالحلق وتقليم الأظافر فلأنه في معناه فيقاس عليه.

قال: (ومتى أنزل بالمباشرة دون الفرج فعليد بدنة، وإن لم ينزل فعليه شاة. وعنه: بدنة). أما وجوب البدنة بالإنزال عن المباشرة دون الفرج فلأنه جماع اقترن به الإنزال فأوجب بدنة كما لو كان في الفرج. وأما إذا لم ينزل ففيه روايتان: أحدهما: عليه شاة لأنه هتك إحرامه بذلك الفعل فوجب عليه شاة كما لو تطيب. والثانية: عليه بدنة لأنه استمتاع فأوجب بدنة كما لو أنزل. قال: (وإن كرر النظر فأنزل أو استمنى فعليه دم، هل هو بدنة أو شاة؟ على روايتين. وإن مذى بذلك فعليه شاة، وإن فكر فأنزل فلا فدية عليه). أما وجوب الدم على من كرر نظره فأنزل أو استمنى فلأنه هتك إحرامه بذلك أشبه ما لو أنزل بالمباشرة. وأما ما هو فيه؟ روايتان: أحدهما: أنه بدنة؛ لأنه يروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬1). والثانية: أنه شاة؛ لأنه إنزال بفعل محظور فوجبت به شاة كالإنزال باللمس. ولأنه يروى عن ابن عباس أيضاً (¬2). وأما وجوب الشاة على من مذى بما تقدم ذكره فلأن للمذي جزء من المني أشبه ما لو أمنى. فإن قيل: هل يشمل ذلك المباشرة؟ قيل: لا؛ لأن المباشرة بدون إنزال مني أو مذي موجبة لبدنة أو شاة على ما ذكر من الاختلاف فلا حاجة إلى ذكر المذي في إيجاب الشاة لأنها أقل ما تجب بدونه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 125. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (13092) 3: 161 كتاب الحج، كم عليهما: هدياً واحداً أو اثنين؟ .

وأما عدم وجوب الفدية على من فكر فأنزل فلأن الفكرة تعرض للمرء من غير إرادة ولا اختيار فلا يتعلق بها حكم كما لو فكر فأنزل وهو صائم.

فصل [فيمن كرر محظورا] قال المصنف رحمه الله: (ومن كرر محظوراً من جنسٍ مثل: إن حلق ثم حلق، أو وطئ ثم وطئ قبل التكفير عن الأول فكفارة واحدة، وإن كفر عن الأول لزمته للثاني كفارة). أما عدم لزوم التكفير بالثاني إذا لم يكفر عن الأول فلأنهما كفارتان فتداخلتا كالمهر والحد. وأما لزوم كفارة ثانية إذا كفر عن الأول فلأنه حلقٌ أو وطءٌ صادف إحراماً فوجبت به كفارة ثانية كالأول. قال رحمه الله: (وإن قتل صيداً بعد صيد فعليه جزاؤهما. وعنه: عليه جزاء واحد). أما تعدد الجزاء بتعدد قتل الصيد على الرواية الأولى فلأن جزاء الصيد كفارة عن قتل فاستوى فيها المبتدئ والعائد كقتل الآدمي. وأما وجوب جزاء واحد وإن تعدد القتل على الرواية الثانية فلأن الله سبحانه قال: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95] ولم يوجب جزاء ثانياً. ولأن جزاء الصيد كفارة فتتداخل كالحلق. والرواية الأولى أصح لما تقدم. وذكر العقوبة في الثاني لا يمنع الوجوب كما قال تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 275] وقد ثبت أن العائد لو انتهى كان له ما سلف وأمره إلى الله. ولا يصح قياس جزاء الصيد على غيره لأن جزاءه مقدر به ويختلف بصغره وكبره. ولو أتلف صيدين معاً وجب جزاؤهما معاً بخلاف غيره من المحظورات.

قال: (وإن فعل محظوراً من أجناس فعليه لكل واحد فداء. وعنه: عليه فدية واحدة). أما تعدد الفداء بتعدد جنس المحظورات كمن حلق وقلّم ولبس فلأن الصادر منه فعل محظورات من أجناس فلم تتداخل كالحدود المختلفة. وأما وجوب فدية واحدة على الرواية الثانية فلأن ذلك فعل محظور فلم يتعدد كالجنس الواحد. قال: (وإن حلق أو قلم أو وطئ أو قتل صيداً عامداً أو مخطئاً فعليه الكفارة. وعنه: في الصيد لا كفارة إلا في العمد، ويخرج في الحلق مثله. وإن لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسياً فلا كفارة فيه، وعنه: عليه الكفارة). أما عدم الفرق بين العمد والخطأ في وجوب الكفارة على الصحيح من المذهب فيما إذا حلق أو قلم أو قتل فلأن الحلق والتقليم والقتل إتلاف فاستوى عمده وسهوه كإتلاف مال الآدمي. وأما عدم الفرق بينهما إذا وطئ فلأنه معنى يتعلق به قضاء فاستوى عمده وسهوه كالفوات. وأما عدم وجوب الكفارة فيما إذا قتل صيداً مخطئاً على روايةٍ فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {ومن قتله منكم متعمداً} [المائدة: 95] شرط التعمد فدل على أنه لا جزاء في الخطأ. وأما تخريج مثل ذلك في الحلق فلأنه محرم بسبب في إحرامه أشبه الصيد. ولم يذكر المصنف رحمه الله التخريج في التقليم والوطء وهما مثله لأن التقليم تبع له والوطء في معناه. وأما وجوب الكفارة على من لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسياً ففيه روايتان: أحدهما: لا تجب لما روى يعلى بن أمية رضي الله عنه «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه جبة وعليه أثر خلوق. فقال: يا رسول الله! كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟

فقال: اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك أثر الخلوق» (¬1). أمره بالخلع والغسل ولم يأمره بفدية لجهله فيجب أن يكون الناسي كذلك لأنه في معناه. والثانية: تجب عليه؛ لأنه فعلٌ حرمه الإحرام فاستوى عمده وسهوه كالحلق. والأول المذهب للحديث المتقدم ذكره. والفرق بين الحلق والتقليم والوطء والقتل وبين اللبس والطيب والتغطية أن الحالق والمقلم والواطئ والقاتل لا يمكنه تلافي ما فعل بخلاف اللابس والمتطيب والمغطي فإنه يمكنه ذلك بخلعه وإزالة الطيب. قال: (ومن رفض إحرامه ثم فعل محظوراً فعليه فداؤه). أما وجوب الفداء على من فعل محظوراً بعد رفضه إحرامه فلأنه فعل محظوراً في إحرامه؛ لأن الإحرام لا يفسد بالرفض؛ لأن الحج عبادة لا يخرج منها بالفساد فلا يخرج منها بالرفض بخلاف سائر العبادات. وأما المعنيّ برفض الإحرام فقطع بقية النسك. قال: (ومن تطيب قبل إحرامه في بدنه فله استدامة ذلك في إحرامه، وليس له لبس ثوب مطيب، وإن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه، فإن استدام لبسه فعليه الفدية). أما إباحة استدامة الطيب في الإحرام إذا تطيب في بدنه قبل إحرامه فلما تقدم من قول عائشة رضي الله عنها: «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يحل» (¬2). و «كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬3). وفي قول المصنف رضي الله عنه: ومن تطيب قبل إحرامه في بدنه إشعار بأنه لو تطيب قبل إحرامه في ثوبه لا يباح له ذلك وسيذكر حكمه بعدُ إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4700) 4: 1906 كتاب فضائل القرآن، باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1180) 2: 837 كتاب الحج، باب ما يباح بحج أو عمرة ... (¬2) سبق تخريجه ص: 86. (¬3) سبق تخريجه ص: 86.

وأما كون المحرم ليس له لبس ثوب مطيب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس» (¬1) متفق عليه. وأما خلعه القميص من غير شق إذا أحرم وعليه ذلك فلما روى يعلى بن أمية «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تَضَمَّخ بطيب؟ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً ثم سكت فجاءه الوحي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما الطيب الذي بك فاغسله وأما الجبة التي عليك فانزعها ... مختصر» (¬2) رواه مسلم. ولأن في شق الثوب إضاعة ماليته و «قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال» (¬3). وأما وجوب الفدية على من استدام لبس ذلك فلأن استدامة اللبس تسمى لبساً بدليل قولهم: لبست شهراً. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الجبة المُضَمّخَة بالطيب بنزعها. وبوجوب الفدية يظهر أنه يحرم على من أحرم في ثوب مطيب استدامة ذلك لأن الفدية لا تجب في فعل مباح. قال: (وإن لبس ثوباً كان مطيباً وانقطع ريح الطيب منه وكان بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحه فعليه الفدية). أما وجوب الفدية على من لبس ثوباً شأنه ما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلأنه لبس ثوباً مطيباً فوجب عليه الفدية كالذي يظهر ريحه من غير رش. وأما عدم وجوبها إذا انقطع ريح الطيب بحيث إذا رش فيه ماء لا يفوح له رائحة؛ فلأنه يَصدق عليه أنه غير مطيب الآن. فوجب أن لا يلزمه فدية كالذي ما تطيب بالأصالة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1468) 2: 559 كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) 2: 835 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح ... (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1180) 2: 837 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح ... (¬3) سبق تخريجه ص: 106.

فصل [في موضع إخراج الفدية] قال المصنف رحمه الله: (وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم (¬1) إلا فدية الأذى واللبس والطيب ونحوها إذا وجد سببها في الحل فيفرقها حيث وجد سببها. ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر، وأما الصيام فيجزئه بكل مكان). أما كون الهدي والإطعام غير ما استثني لمساكين الحرم فلقوله سبحانه: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95]، وقوله: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33]. والمراد بمساكين الحرم أهله ومن كان وارداً إليه كالحاج: فأما أهله فلا إشكال فيهم، وأما الوارد فلأنه قد حل فيه أشبه أهله. ويشترط فيه أن يكون المدفوع إليه ممن يجوز دفع الزكاة إليه؛ لأن ذلك حق واجب فلم يجز دفعه إلى غير من يجوز دفع الزكاة إليه كالزكاة. وأما كون فدية الأذى واللبس ونحوها كالتقليم والطيب تخرج حيث وجد سببها حلاً كان أو حرماً فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بالفدية في الحديبية (¬2) ولم يأمره ببعثها إلى الحرم. و«لأن الحسين بن علي رضي الله عنهما حلق رأسه على الوجع ونحر عنه جزوراً بالسُّقْيَا» (¬3) رواه الأثرم. ولم يعرف لهم مخالف فكان كالإجماع. ¬

_ (¬1) في المقنع: لمساكين الحرم إذا قدر على إيصاله إليهم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1720) 2: 644 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب قول الله تعالى: {أو صدقة} وهي إطعام ستة مساكين. وأخرجه مسلم في صحيحه (1201) 2: 859 كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ... (¬3) أخرجه مالك في الموطأ (165) 1: 311 كتاب الحج، باب جامع الهدي.

وأما كون دم الإحصار حيث أحصر فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما أحصروا بالحديبية ذبحوا بها البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (¬1). ولأنه موضع تحلله فكان موضع ذبحه كالحرم. وأما إجزاء الصيام بكل مكان فلأن الصيام لا يتعدى نفعه إلى أحد فلا معنى لتخصيصه بمكان، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «الدم والطعام بمكة والصوم حيث شاء» (¬2). قال: (وكل دم ذكرناه يجزئ فيه شاة أو سُبُع بدنة، ومن وجبت عليه بدنة أجزأته بقرة). أما إجزاء الشاة فلأنه إذا أجزأ سبع البدنة وهو بعض دم فلأن تجزئ الشاة وهي دم كامل بطريق الأولى. وأما إجزاء سبع البدنة فلأن جابراً رضي الله عنه قال: «كنا ننحر البدنة عن سبعة» (¬3). وأما إجزاء البقرة عمن وجبت عليه بدنة فلأن تكملة حديث جابر رضي الله عنه: «أنه قيل له: والبقرة فقال: وهل البقرة إلا من البدن» (¬4). ولأنها تقوم مقامها في الإجزاء عن سبعة في الأضحية فكذلك هاهنا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1318) 2: 955 كتاب الحج، باب الاشتراك في الهدي، وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة. عن جابر رضي الله عنه. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن طاووس قال: «ما كان من دم فبمكة أو صدقة أو جزاء صيد والصوم حيث شئت» (13287) 3: 179 كتاب الحج، في المحرم تجب عليه الكفارة أين تكون؟ . (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) سبق تخريج حديث جابر قريباً.

باب جزاء الصيد

باب جزاء الصيد جزاء الصيد واجب لقوله سبحانه وتعالى: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم} [المائدة: 95]. قال المصنف رحمه الله: (وهو ضربان: أحدهما: له مِثْل من النَّعم فيجب فيه مثله. وهو نوعان: أحدهما: قضت فيه الصحابة ففيه ما قضت). أما كون جزاء الصيد ضربين فلأن منه ما هو مثلي ومن ما لا مثل له. أما وجوب المثل فيما له مثل؛ فلقوله تعالى: {فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم} [المائدة: 95]. وأما تنويع ما لَه مِثْل نوعين فلأنه منه ما قضت الصحابة فيه بالمثل ومنه ما لم تقض فيه بذلك. وأما وجوب ما قضت به الصحابة فيما قضت به فلأنهم أعرف بمواقع الخطاب وأقرب إلى الصواب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (¬1). وقال: «اقتدوا باللّذَيْن من بعدي أبي بكر وعمر» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الذهبي في ميزان الاعتدال 1: 413. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (3662) 5: 609 كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وأخرجه ابن ماجة في سننه (97) 1: 37 المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أحمد في مسنده (23293) 5: 382. كلهم عن حذيفة رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

قال: (ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وبقرته والأيل والثيتل والوعل بقرة، وفي الضبع كبش، وفي الغزال والثعلب عنز، وفي الوبر والضب جدي، وفي اليربوع جفرة لها أربعة أشهر، وفي الأرنب عناق، وفي الحمام وهو كلما عب وهدر شاة. وقال الكسائي: كل مطوق حمام). أما وجوب البدنة في النعامة فـ «لأن عثمان وعلياً وزيداً وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم قضوا فيها ببدنة» (¬1). وأما وجوب البقرة في حمار الوحش فـ «لأن عمر رضي الله عنه قضى فيه ببقرة» (¬2). ولأنه شبيهٌ بها. وأما وجوبها في بقرة الوحش فـ «لأن ابن مسعود رضي الله عنه قضى فيها ببقرة» (¬3). وأما وجوبها في الإبل فـ «لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فيه بقرة» (¬4). وأما وجوبها في الثيتل والوعل فبالقياس على الأيل. وأما وجوب الكبش في الضبع فـ «لأن عمر وابن عباس رضي الله عنهم قضيا فيه بذلك» (¬5). وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بذلك (¬6) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (14417) 3: 289 كتاب الحج، في النعامة يصيبها المحرم. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (8203) 4: 398 كتاب المناسك، باب النعامة يقتلها المحرم. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 182 كتاب الحج، باب فدية النعام وبقر الوحش وحمار الوحش. (¬2) أخرجه البيهقي في الموضع السابق عن عبدالله بن مسعود ولم أره عن عمر. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (8209) 4: 400 كتاب المناسك، باب حمار الوحش والبقرة والأروي. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 182 كتاب الحج، باب فدية النعام وبقر الوحش وحمار الوحش. (¬5) أخرجه مالك في الموطأ (230) 1: 331 كتاب الحج، باب فدية ما أصيب من الطير والوحش، عن عمر. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (8224) عن عمر، و (8225) عن ابن عباس 4: 403 كتاب المناسك، باب الضب والضبع. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 184 كتاب الحج، باب فدية الضبع، عن ابن عباس. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (3801) 3: 355 كتاب الأطعمة، باب في أكل الضبع. وأخرجه الترمذي في جامعه (851) 3: 207 كتاب الحج، باب ما جاء في الضبع يصيبها المحرم. عن ابن أبي عمار قال: «قلت لجابر: الضبع أصيد هي؟ قال: نعم. قال: قلت: آكُلُها؟ قال: نعم. قال: قلت: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وأما وجوب العنز في الغزال فـ «لأن ابن عباس رضي الله عنهما قضى فيه بعنز» (¬1). ولأن فيه شبهاً به لأن العنز أجرد الشعر متقلص الذنب وذلك صفة الغزال. وأما وجوبها في الثعلب فلأنه كالغزال. وعن الإمام أحمد رحمه الله: فيه شاة لأنه أعظم من الغزال. وعنه لا جزاء فيما لا يؤكل فيُخَرّج منه أنه لا جزاء فيه لأنه لا يؤكل على المشهور في المذهب. وأما وجوب الجدي في الوبر (¬2). وأما وجوبه في الضب فـ «لأن عمر رضي الله عنه قضى في الضب بجدي» (¬3) رواه الشافعي. وأما وجوب الجفرة في اليربوع فـ «لأن عمر وابن مسعود قضيا فيه بذلك» (¬4). وأما قول المصنف رحمه الله: لها أربعة أشهر فبيان لمقدار عمر الجفرة. وأما وجوب العناق في الأرنب فـ «لأن عمر رضي الله عنه قضى فيه بذلك» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (230) 1: 331 كتاب الحج، باب فدية ما أصيب من الطير والوحش. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 184 كتاب الحج، باب فدية الغزال. كلاهما عن عمر. (¬2) بياض في ج مقدار نصف سطر. (¬3) أخرجه الشافعي في مسنده (860) 1: 332 كتاب الحج، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم ... (¬4) أخرجه مالك في الموطأ (230) 1: 331 كتاب الحج، باب فدية ما أصيب من الطير والوحش، عن عمر. وأخرجه الشافعي في مسنده (856) 1: 3330 عن عمر، وَ (858) 1: 331 عن ابن مسعود كتاب الحج، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم ... (¬5) أخرجه مالك في الموطأ (230) 1: 331 كتاب الحج، باب فدية ما أصيب من الطير والوحش. وأخرجه الشافعي في مسنده (856) 1: 330 كتاب الحج، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم ...

وأما وجوب الشاة في الحمام فـ «لأن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم قضوا في حمام الحرم بشاة» (¬1) وحمام غير الحرم مثل حمام الحرم. وأما المراد بالحمام فروي عن الإمام رحمه الله: كل طير عب الماء. فيدخل في هذا الفواخت والوارشين والقمري والقطاة لأن كل واحد من هذه يعب الماء. ويعضده تسمية العرب ذلك حماماً. وروي عن الكسائي: كل مطوق حمام. فعلى هذا يكون الحجل من الحمام لأنه مطوق. قال: (النوع الثاني: ما لم تقض فيه الصحابة فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة، ويجوز أن يكون القاتل أحدهما). أما الرجوع فيما لم تقض الصحابة فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة فلقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة: 95]، والمراد منهما أن يحكما فيه بأشبه الأشياء به من النَّعَم من حيث الخلقة لا من حيث القيمة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم قضوا بالمثل لا بالقيمة. ويشترط أن يكونا من أهل الخبرة لأنهما لا يتمكنان من الحكم بالمثل إلا بالخبرة. وأما جواز كون القاتل أحدهما فلأن الله تعالى قال: {ذوا عدل منكم} [المائدة: 95] والقاتل من عُدولنا. وروى الشافعي بإسناده عن طارق بن شهاب قال: «خرجنا حجاجاً فأوطأ رجل منا يقال [له] أربد ضباً ففرز ظهره، فقدمنا على عمر فسأله أربد. فقال له: احكم يا أربد فيه، قال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين! وأعلم. فقال عمر: إنما أمرتك أن تحكم ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (861) 1: 332 عن عمر وعثمان، وَ (863) 1: 334 عن ابن عباس، كتاب الحج، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم ... وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 206 كتاب الحج، باب ما جاء في جزاء الحمام وما في معناه، عن ابن عمر. و 5: 205 عن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم.

ولم آمرك أن تزكيني. فقال أربد: أرى فيه جَدْياً. قد جمع الماء والشجر. قال عمر: ذلك فيه» (¬1) فأمره عمر أن يحكم فيه وهو القاتل. و«أمر أيضاً كعب الأحبار أن يحكم على نفسه في الجرادتين اللتين صادهما وهو محرم» (¬2). ولأنه مال يخرج في حق الله تعالى فجاز أن يكون من وجب عليه أميناً كالزكاة. قال: (ويجب في كل واحد من الصغير والكبير والصحيح والمعيب مثله، إلا الماخض تفدى بقيمة مثلها. وقال أبو الخطاب: يجب فيها مثلها). أما وجوب الكبير في الكبير والصغير في الصغير والصحيح في الصحيح والمعيب في المعيب فلأن الله تعالى قال: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95] ومَثَل الكبير كبير، والصغير صغير، والصحيح صحيح، والمعيب معيب. ولأن ما ضمن باليد والجناية يختلف ضمانه بالصغر والكبر والصحة والعيب دليله البهيمة. وأما الماخض ففيها وجهان: أحدهما: تفدى بقيمة مثلها قاله القاضي لأن قيمة المثل أكثر من قيمة لحمه. والثاني: يجب مثلها قاله أبو الخطاب لقوله: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95]. ولأن إيجاب القيمة عدول عن المثل مع إمكانه وذلك خلاف المنصوص. قال: (ويجوز فداء أعور من عين بأعور من أخرى، وفداء الذكر بالأنثى، وفي فدائها به وجهان). أما جواز فداء أعور من عين بأعور من أخرى فلأن ذلك اختلاف يسير. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (860) 1: 332 كتاب الحج، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم ... وما بين المعكوفين زيادة من المسند. (¬2) أخرجه الشافعي في مسنده (848) 1: 326 كتاب الحج، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم ...

وأما جواز فداء الذكر بالأنثى فلأنها أطيب لحماً منه فهي راجحة أو مساوية. وأما فداء الأنثى بالذكر ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن لحمه أوفر ولحمها أطيب فيتساويان. والثاني: لا يجوز قياساً على الزكاة.

فصل [في جزاء ملا مثل له] قال المصنف رحمه الله: (الضرب الثاني: ما لا مثل له وهو سائر الطير، إلا ما كان أكبر من الحمام فهل يجب فيه قيمته أو شاة؟ على وجهين). أما وجوب القيمة فيما لا مِثل له وليس أكبر من الحمام فلأن الأصل وجوب القيمة بدليل سائر المضمونات. تُرك ذلك فيما له مثل لقضاء الصحابة فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. وتعتبر القيمة موضع إتلافه كما لو أتلف مال آدمي. وأما ما كان أكبر من الحمام ففيه وجهان: أحدهما: تجب قيمته لما ذكرنا من مقتضى الدليل. والثاني: (¬1) شاة على الوجه (¬2) فلأنها تجب في الحمام فلأن تجب فيما هو أكبر منه بطريق الأولى. والمعنى بما هو أكبر من الحمام الحباري والكركي والحجل والإوز والكبير من طير الماء وما أشبه ذلك. وقد روي عن ابن عباس وجابر وعطاء رضي الله عنهم: «أنهم قالوا في ¬

_ (¬1) بياض في ج مقدار كلمة. (¬2) مثل السابق.

الحجلة والقطاة والحباري: شاة شاة. وزاد عطاء: في الكركي والكروان وابن الماء ودجاجة الحبش والحرب: شاة شاة» (¬1). قال: (ومن أتلف جزءاً من صيد فعليه ما نقص من قيمته أو قيمة مثله إن كان مثلياً، وإن نَفّر صيداً فتلف بشيء ضمنه). أما كون الجزء من الصيد إذا أُتْلف فيه ما نقص من قيمته إن لم يكن مثلياً فلأن الكل لو أُتْلف ولم يكن مثلياً وجبت فيه قيمته فكذلك الجزء. وأما كونه فيه ما نقص من قيمة مثله إن كان مثلياً فلأن مقتضى الدليل إيجاب جزء من المثل كإيجاب جزء من القيمة بإتلاف جزء مما ليس بمثلي تُرك العمل به لأنه يؤدي إلى التشقيص فيجب أن يعدل إلى قيمة الجزء من المثل لأنها بدله. فإن قيل: ما مثال نقصان القيمة ونقصان قيمة المثل؟ قيل: أما الأول فمثاله: أن يقوّم الصيد سليماً ثم يقوم مجنياً عليه فيجب ما بينهما. فلو كانت قيمته سليماً عشرة ومجنيّا عليه ثمانية فالواجب درهمان. وأما الثاني فمثاله: أن يقوّم المثل سليماً ثم يقوّم وبه تلك الجناية فيجب مثل ما بين ذلك. فلو كانت قيمة مثله سليماً عشرة ومجنياً عليه ستة فالواجب عليه أربعة. فإن قيل: أي فرق بين ما نقص من قيمته وبين ما نقص من قيمة مثله؟ قيل: الفرق بينهما أن المثل قد ينقص شيئاً لا ينقص الصيد بقدره وذلك أنه لو جنى على نعامة قيمتها صحيحة عشرون ومقطوعة يدها خمسة عشر فالنقصان هنا خمسة فإذا نظرت إلى مثلها كانت بدنة قيمتها سليمة مثلاً مائة ومقطوعة يدها خمسون فالنقصان ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (8281) 4: 417 كتاب المناسك، باب الحمام وغيره من الطير يقتله المحرم. عن عطاء عن ابن عباس قال: «في الوحظي أو شبهه، والدبسي، والقطاة، والحباري، والقماري، والحجل، شاة شاة. قال عبدالرزاق: أما ابن جريج فذكر عن عطاء أنه قال: في كل طير حمامة فصاعداً شاة شاة، قمري، أو دبسي والحجلة والقطاة والحباري يعني العصفور، والكروان والكركي وابن الماء، وأشباه هذا من الطير شاة ... ». وذكره البيهقي في السنن الكبرى تعليقاً 5: 205 كتاب الحج، باب ما جاء في جزاء الحمام وما في معناه. بنحوه.

هنا خمسون فلو اعتبر نفس الصيد كان الواجب عليه خمسة وإن اعتبر المثل كان الواجب عليه خمسين. وأما ضمان ما نفّره فتلف بشيء فـ «لأن عمر رضي الله عنه دخل دار الندوة فعلق رداءه فوقع عليه حمام فخاف أن يبول عليه فأطاره فانتهزته حية. فقال: أنا أطرته فسأل من معه فحكم عليه عثمان ونافع بن عبدالحارث بشاة» (¬1). قال: (وإن جرحه فغاب ولم يعلم خبره فعليه ما نقصه. وكذلك إن وجده ميتاً ولم يعلم موته بجنايته. وإن اندمل غير ممتنع فعليه جزاء جميعه). أما وجوب ما نقصه الجرح إذا جرحه فغاب ولم يعلم خبره فلأنه نقص حصل بفعله فوجب أن يضمنه كسائر مواضع الضمان. وفي اقتصار المصنف رحمه الله على وجوب ما نقصه الجرح إشعار بأنه لا يجب ضمان جميعه وهو صحيح لأنه لا يعلم حصول التلف بفعله فلم يضمنه كما لو رمى سهماً إلى الصيد ولم يعلم هل وقع فيه أم لا. وأما كون ما وجده ميتاً ولم يعلم موته بجنايته كما لو جرحه فغاب ولم يعلم خبره فلما ذكر من التعليل قبل. وأما وجوب ضمان جميعه إذا اندمل غير ممتنع فلأنه عطله فصار بمنزلة المتلَف. قال: (وإن نتف ريشه فعاد فلا شيء عليه. وقيل: عليه قيمة الريش). أما عدم وجوب شيء بنتف الريش العائد على المذهب فلأن النقص زال أشبه ما لو اندمل الجرح. وأما وجوب قيمة الريش على وجه فلأن الثاني غير الأول. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (861) 1: 332 كتاب الحج، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم ... وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 205 كتاب الحج، باب ما جاء في جزاء الحمام وما في معناه.

قال: (وكلَّ ما قتل صيداً حكم عليه. وإن اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد. وعنه: على كل واحد جزاء. وعنه: إن كفروا بالمال فكفارة واحدة، وإن كفروا بالصيام فعلى كل واحد كفارة). أما الحكم على قاتل الصيد بالجزاء كلما قتل فلما تقدم في قوله: وإن قتل صيداً بعد صيد في فصل "من كرر محظوراً" (¬1) لأنه قد ذكر ثَمّ فلا حاجة إلى إعادته. وأما إذا اشترك جماعة في قتل صيد ففيه ثلاث روايات: إحداها: يجب عليهم كلهم جزاء واحد لأن الله تعالى قال: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95] فلو تعدد الجزاء لِتَعَدُّدِ القاتل لكان ذلك زائداً على المثل وهو خلاف النص. ويلزم من كون الجزاء في المثل واحداً كون القيمة والصوم كذلك لأنهما معطوفان عليه. والثانية: يجب على كل واحد جزاء لأن ذلك كفارة يدخلها الصوم فوجب تعدده ككفارة قتل الآدمي. والثالثة: إن كفروا بالمال فكفارة واحدة وإن كفروا بالصيام فعلى كل واحد كفارة لأن الصوم كفارة فوجب أن يكمل في حق الفاعل ككفارة قتل الآدمي بخلاف المال فإنه ليس بكفارة وإنما هو بدل متلف فوجب أن لا يكمل كالدية. والأولى أصح؛ لما ذكر. ولأنه يروى عن عمر وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم (¬2). ولأنه جزاء عن مقتول يختلف باختلافه فكان واحداً كالدية، أو كما لو كان القاتل واحداً. وفارق هذا الكفارة في قتل الآدمي لأنها تختلف باختلاف المقتول فلا تتبعض بخلاف مسألتنا. ¬

_ (¬1) ص: 143. (¬2) لم أقف عليه وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر «أنه سئل عن قوم من المشاة قتلوا صيداً قال: عليهم جزاء واحد» (15242) 3: 373 كتاب الحج، في القوم يشتركون في الصيد وهم محرمون.

باب صيد الحرم ونباته

باب صيد الحرم ونباته قال المصنف رحمه الله: (وهو حرام على الحلال والمحرم، فمن أتلف من صيده شيئاً فعليه ما على المحرم في مثله). أما حرمة صيد الحرم ونباته على الحلال والمحرم فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة: لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها ... مختصر» (¬1) متفق عليه. وأما كون المتلِف لشيء من صيده عليه ما على المحرم في مثله فلأنهما لما استويا في التحريم وجب أن يستويا في الجزاء. فعلى هذا إن كان الصيد مثلياً ضمنه بمثله وإلا بقيمته. وقد تقدم ذلك مفصلاً في إتلاف المحرم (¬2). قال: (وإن رمى الحلال من الحل صيداً في الحرم، أو أرسل كلبه عليه، أو قتل صيداً على غصن في الحرم أصله في الحل، أو أمسك طائراً في الحل فهلك فراخه في الحرم ضمن في أصح الروايتين). أما الضمان في جميع الصور المذكورة على الصحيح من المذهب فلأن المتلِف لذلك أتلف صيداً حرمياً فوجب أن يجب ضمانه عليه كما لو كان في الحرم. ولأن صيد الحرم معصوم بمحله كحرمة الحرم فلا يختص تحريمه بمن في الحرم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1736) 2: 651 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب لا ينفر صيد الحرم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1353) 2: 986 كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها. (¬2) ص: 149 وما بعدها.

وأما عدم الضمان في ذلك كله على روايةٍ فلأن الأصل براءة الذمة وقد وقع التردد في وجوب الكفارة بذلك لأنه إذا نظر إلى ما تقدم اقتضى وجوب الكفارة، وإذا نظر إلى الفاعل اقتضى عدم الوجوب فوجب أن لا تجب الكفارة؛ لأن الأصل لا يزول بمتردد. قال: (وإن قتل من الحرم صيداً في الحل بسهمه أو كلبه أو صيداً على غصن في الحل أصله في الحرم أو أمسك حمامة في الحرم فهلك فراخها في الحل لم يضمن في أصح الروايتين). أما عدم الضمان في جميع الصور المذكورة على الصحيح من المذهب فلأن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفر صيدها» (¬1) يدل على إباحة الصيد في غيرها وإذا كان مباحاً فلا يجب ضمانه كسائر المباحات. ولأن جميع ما ذكر غير حَرَمِيٍّ فلم يضمنه كصيد السمام (¬2). ولأنه صيد غير معصوم بالحرم والصائد له غير محرم فلم يحرم ولم يجب جزاء كما لو كانا في الحل. ولأن الجزاء إنما يجب في صيد الحرم أو في الصيد في الإحرام وما ذُكر ليس بواحد منهما. وأما وجوب الضمان في ذلك كله على روايةٍ فلأنه قريب من الحرم والغصن تابع للأصل فوجب الجزاء احتياطاً. والأول أصح لما ذكر. قال: (وإن أرسل كلبه من الحل على صيد في الحل فقتل صيداً في الحرم فعلى وجهين، وإن فعل ذلك بسهمه ضمنه). أما الضمان إذا أرسل كلبه ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمنه؛ لأنه أرسل كلبه على صيد يباح إرساله عليه، ودخوله الحرم لم يكن عن اختياره؛ لأن الكلب له قصد واختيار ولهذا يسترسل بنفسه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) السمام: نوع من الطير. حكاه الجوهري في الصحاح 5: 1954.

والثاني: عليه الجزاء وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه قتل صيداً حَرَمياً فوجب جزاؤه كالمجمع على وجوب الجزاء فيه. وذكر المصنف رحمه الله في المغني أن عدم الضمان منصوص الإمام أحمد. وأما الضمان إذا فعل ذلك بسهمه فلأنه قتل صيداً حرمياً فلزمه ضمانه كما لو رمى حجراً فقتل صيداً. يحققه أن الخطأ والعمد واحد في وجوب الجزاء وهذا لا يخرج عن أن يكون واحداً منهما بخلاف مسألة الكلب على الصحيح لأن للكلب قصداً واختياراً بخلاف السهم فإنه لا قصد له ولا اختيار فانتسب الفعل إلى فاعله.

فصل [في شجر الحرم] قال المصنف رحمه الله: (ويحرم قلع شجر الحرم وحشيشه، إلا اليابس والإذخر وما زرعه الآدمي، وفي جواز الرعي وجهان). أما تحريم قلع شجر الحرم وحشيشه فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها» (¬1). وأما عدم تحريم قلع الإذخر فلأن العباس رضي الله عنه قال: «يا رسول الله! إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر» (¬2) متفق عليه. وأما عدم تحريم قلع اليابس فلأنه بمنزلة الميت. وأما ما زرعه الآدمي فيحتمل أن المصنف رحمه الله أراد به مثل البقول والزروع والرياحين وما أشبه ذلك وهو ظاهر كلامه لأن المفهوم من إطلاق الزرع ذلك دون ما غرس من الشجر وهذا مما لا خلاف في إباحته؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك فلو حرم لأدى إلى ضرر عظيم. ويحتمل أنه أراد جميع ما ينبته الآدمي مما ذكر ومن الأشجار المغروسة بفعله وفي تحريم ذلك وجهان: أحدهما: يحرم وفيه الجزاء. قاله القاضي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يعضد شجرها» (¬3). والثاني: لا يحرم. اختاره أبو الخطاب وابن عقيل؛ لأن الزرع خص من عموم الحديث لمعنى موجود في الشجر المغروس بفعل الآدمي فيلحق به ويقاس عليه. ويعضد ¬

_ (¬1) سبق تخرجه ص: 159. (¬2) سبق تخرج حديث ابن عباس ص: 159. (¬3) سبق تخرجه ص: 159.

هذا تخصيص التحريم بالوحشي من الحيوان دون الإنسي فكذلك يختص التحريم بغير ما ينبته الآدمي من الشجر. وأما جواز الرعي ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد. والثاني: يجوز؛ لأن الهدايا كانت تدخل الحرم ولم ينقل أنه كان تسد أفواهها. ولأن بهم حاجة إلى ذلك أشبه قطع الإذخر. قال: (ومن قلعه ضَمِن الشجرة الكبيرة ببقرة، والصغيرة بشاة، والحشيش بقيمته، والغصن بما نقص، فإن استخلف سقط الضمان في أحد الوجهين). أما ضمان الشجرة الكبيرة والصغيرة بما ذكر فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «في الدوحة بقرة، وفي الجزلة شاة» (¬1). ولأنه أحد نوعي ما يحرم إتلافه لحرمة الحرم فكان منه ما يضمن بمقدّر كالصيد. وأما ضمان الحشيش بقيمته فلأن الأصل وجوب القيمة لما تقدم في الصيد تُرك ذلك في الشجرة الكبيرة والصغيرة لقضاء الصحابة رضوان الله عليهم فيبقى فيما عداهما على مقتضى الدليل. وأما ضمان الغصن بما نقص فلأنه نقص بفعله فكان الواجب فيه ما نقصه كما لو جنى على مال آدمي فنقص. وأما سقوط الضمان بالاستخلاف ففيه وجهان: أحدهما: يسقط كما إذا جرح صيداً فاندمل وبرئ. والثاني: لا يسقط؛ لأن الثاني غير الأول. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. قال ابن حجر: أما أثر ابن عباس فسبقه -أي الرافعي- إلى نقله عنه إمام الحرمين وذكره أيضاً أبو الفتح القشيري في الإلمام ولم يعزه. تلخيص الحبير 2: 545. وأخرج عبدالرزاق في مصنفه عن عطاء «في الدوحة تقتل في الحرم بقرة يعني تقطع» (9194) 5: 142 كتاب المناسك، باب الدوحة وهي الشجرة العظيمة.

قال: (ومن قطع غصناً في الحل أصله في الحرم ضمنه وإن قطعه في الحرم أصله في الحل لم يضمنه في أحد الوجهين). أما ضمان ما أصله في الحرم وغصنه في الحل فلأن الغصن تابع للأصل والأصل يجب ضمانه لو قطعه فكذلك ما يتبعه. وأما ضمان ما أصله في الحل وغصنه في الحرم ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن لما ذكر قبل. والثاني: يضمن؛ لأنه غصن في الحرم أشبه ما أصله فيه.

فصل [في صيد المدينة] قال المصنف رحمه الله: (ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها إلا ما تدعو الحاجة إليه من شجرها للرحل والعارضة والقائمة ونحوها ومن حشيشها للعلف). أما تحريم صيد المدينة وشجرها وحشيشها غير ما استثني فلما روى أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرفَ على المدينة. فقال: اللهم! إني أحرمُ ما بَينَ جَبَلَيْهَا مثلَ ما حرَّم إبراهيمُ مكة» (¬1). وفي لفظ: «لا يقطع شجرها» (¬2) متفق عليه. وروى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المدينة حرام ما بين عير إلى ثور» (¬3) متفق عليه. وأما عدم تحريم الرحل والعارضة والقائمة فلما روى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة قالوا: يا رسول الله! إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرضاً غير أرضنا فرخص لنا. فقال: القائمتان والوسادة والعارضة والمسند فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء» رواه الإمام أحمد رحمه الله. وأما عدم تحريم الحشيش للعلف؛ فلأن في حديث علي رضي الله عنه عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5109) 5: 2069 كتاب الأطعمة، باب الحيس. وأخرجه مسلم في صحيحه (1365) 2: 993 كتاب الحج، باب فضل المدينة ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1768) 2: 661 أبواب فضائل المدينة، باب حرم المدينة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1362) 2: 992 كتاب الحج، باب فضل المدينة ... (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6374) 6: 2482 كتاب الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1370) 2: 994 كتاب الحج، باب فضل المدينة ...

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المدينة حرام ما بين عير إلى ثور لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا يصلح أن يقطع منها شجر إلا أن يعلف رجل بعيره» (¬1). ولأن المدينة يقرب منها شجر وزرع فلو منع من الاحتشاش مع الحاجة أفضى إلى الضرر بخلاف مكة. قال: (ومن أدخل إليها صيداً فله إمساكه وذبحه، ولا جزاء في صيد المدينة، وعنه: جزاؤه سلب القاتل لمن أخذه). أما كون من أدخل إلى المدينة صيداً له إمساكه فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا أبا عمير! ما فعل النغير» (¬2). وهو طائر صغير حديث صحيح. ولم ينكر عليه إمساكه فدل على جوازه. وأما كونه له ذبحه فلأن كل موضع جاز فيه إمساك الصيد جاز ذبحه دليله الحل. وأما صيد المدينة ففيه روايتان: أحدهما: لا جزاء فيه؛ لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام فلم يجب فيه جزاء كصيد وُجّ. والثانية: جزاؤه سلب القاتل لمن أخذه لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة كتحريم مكة فوجب الجزاء في صيدها على الجملة كمكة. ولما روى عامر بن سعد «أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبداً يقطع الشجر أو يخبطه فسلبه. فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم [ما أخذ من غلامهم] فقال: معاذ الله أن أرد عليهم شيئاً نفّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرد عليهم» (¬3) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2034) 2: 216 كتاب المناسك، باب في تحريم المدينة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5850) 5: 2291 كتاب الأدب، باب الكنية للصبي قبل أن يولد للرجل. وأخرجه مسلم في صحيحه (2150) 3: 1692 كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه ... (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1367) 2: 994 كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة ...

وفي لفظ لأبي داود: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم وقال: من وجد أحداً يصيد فيه فله سلبه» (¬1). قال: (وحد حرمها ما بين ثور إلى عير وجعل النبي صلى الله عليه وسلم حول المدينة اثني عشر ميلاً حمى). أما كون حد حرم المدينة ما بين ثور إلى عير؛ فلما تقدم من حديث علي رضي الله عنه المتفق عليه (¬2). وأما جعل النبي صلى الله عليه وسلم حول المدينة اثني عشر ميلاً حمى فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل حول المدينة اثني عشر ميلاً حمى» (¬3) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2037) 2: 217 كتاب المناسك، باب في تحريم المدينة. (¬2) سبق تخريجه ص: 166. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1372) 2: 1000 كتاب الحج، باب فضل المدينة ...

باب ذكر دخول مكة

باب ذكر دخول مكة قال المصنف رحمه الله: (يستحب أن يدخل مكة من أعلاها من ثنية كداء، ثم يدخل المسجد من باب بني شيبة). أما استحباب دخول مكة من أعلاها من ثنية كداء فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى» (¬1). وروت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها» (¬2) متفق عليهما. وأما استحباب دخول المسجد من باب بني شيبة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذ فعل (¬3) رواه مسلم. قال: (فإذا رأى البيت رفع وكبر وقال: اللهم! أنت السلام ومنك السلام حَيِّنا ربنا بالسلام. اللهم! زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة وبراً، وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة وبراً. الحمد لله رب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1501) 2: 571 كتاب الحج، باب من أين يخرج من مكة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1257) 2: 918 كتاب الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (15016) 2: 571 كتاب الحج، باب من أين يخرج من مكة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1258) 2: 918 كتاب الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا ... (¬3) أخرجه الطبراني في الأوسط (495) 1: 303 عن ابن عمر قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلنا معه من باب بني عبد مناف وهو الذي يسميه الناس باب بني شيبة، وخرجنا معه إلى المدينة من باب الحرورة وهو باب الخياطين». قال في مجمع الزوائد: فيه مروان بن أبي مروان قال السليماني: فيه نظر، وبقية رجاله رجال الصحيح 3: 238، ولم أره في مسلم.

العالمين كثيراً كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، والحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلاً، والحمد لله على كل حال. اللهم! إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك. اللهم! تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت. يرفع بذلك صوته). أما استحباب رفع اليدين عند رؤية البيت فلما روى أبو بكر ابن المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، وعلى الصفا والمروة، وعلى الموقفين، والجمرتين» (¬1). ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت وقد أُمر برفع اليدين عند الدعاء (¬2). وأما استحباب التكبير عند رؤية البيت (¬3). وأما استحباب قول: اللهم! أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام فلما روى سعيد بن المسيب قال: «سمعت من عمر كلمة يقولها لما رأى البيت لم يسمعها غيري وهي: اللهم! أنت السلام ... » (¬4). وعن سعيد بن المسيب «أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول: اللهم! أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام» (¬5). وأما استحباب قول: اللهم! زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً إلى آخره فلما روى الشافعي في مسنده عن ابن جريج «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 72 كتاب الحج، باب رفع اليدين إذا رأى البيت. وأخرجه الطبراني في الكبير (12072) 11: 385. كلاهما عن ابن عباس. قال في مجمع الزوائد: فيه محمد بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ وحديثه حسن إن شاء الله 3: 238. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15743) 3: 421 كتاب الحج، في الرجل إذا رأى البيت أيرفع يديه أم لا. موقوفاً على ابن عباس. (¬2) أخرج مسلم في صحيحه عن أنس قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه» (895) 2: 612 كتاب صلاة الاستسقاء، باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء. (¬3) بياض في ج مقدار سطر. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15752) 3: 422 كتاب الحج، الرجل إذا دخل المسجد الحرام ما يقول. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 73 كتاب الحج، باب القول عند رؤية البيت. (¬5) أخرجه البيهقي في الموضع السابق.

وقال: اللهم! زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً ومهابة وبراً، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمره تعظيماً وتشريفاً وبراً» (¬1). وذكر الأثرم ذلك وزاد فيه: «الحمد لله رب العالمين -إلى قوله-: لا إله إلا أنت». وأما استحباب رفع الصوت بذلك فلأنه ذكر مشروع في الحج فاستحب رفع الصوت به كالتلبية. قال: (ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمراً أو طواف القدوم إن كان مفرداً أو قارناً، ويضطبع بردائه فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر). أما استحباب الابتداء بالطواف فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت» (¬2) متفق عليه. ولأن الطواف تحية المسجد فاستحب البداءة به كالركعتين في غيره من المساجد. وأما كون المعتمر يطوف لعمرته فلأن الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ نسكهم إلى العمرة أمرهم أن يطوفوا للعمرة بدليل أنه أمرهم بالحل (¬3). وأما كون غيره يطوف للقدوم فلأن الصحابة الذين كانوا مفردين وقارنين فعلوا ذلك. ولأن وقت غير طواف العمرة لم يدخل بعدُ بخلاف طواف العمرة. وأما استحباب الاضطباع بالرداء وجعل وسطه تحت العاتق الأيمن وطرفيه على العاتق الأيسر فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (874) 1: 339 كتاب الحج، باب ما يلزم الحاج بعد دخول مكة ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1560) 2: 591 كتاب الحج، باب الطواف على وضوء. وأخرجه مسلم في صحيحه (1235) 2: 906 كتاب الحج، باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى ... (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بطوله، وفيه: «حتى إذا كان آخرُ طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة». (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى» (¬1) رواه أبو داود. وروى أسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أنه اضطبع ورمل وقال: ففيم الرمل ولِمَ نبدي مناكبنا وقد نفى الله المشركين؟ بل لن ندع شيئاً فعلناه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2). قال: (ثم يبتدئ من الحجر الأسود فيحاذيه بجميع بدنه ثم يستلمه ويقبله، وإن شاء استلمه وقبل يده، وإن شاء أشار إليه ويقول: بسم الله والله أكبر إيماناً وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم كلما استلمه). أما استحباب الابتداء في الطواف من الحجر الأسود فلأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ به (¬3). وأما محاذاته بجميع بدنه فليستوعب جميع البيت بالطواف. وأما الخيرة بين استلامه وتقبيله وبين استلامه وتقبيل يده وبين الإشارة إليه فلأن الكل مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما الاستلام والتقبيل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلمه ويقبله لما روى ابن عمر قال: «استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر ووضع شفتيه عليه يبكي طويلاً فإذا هو بعمر بن الخطاب فقال: يا عمر! هاهنا تُسكب العبرات» (¬4) رواه ابن ماجة. وفي رواية: «بدأ بالحجر فاستلمه وقبله ثم التفت فإذا هو بعمر». وأما استلامه وتقبيل يده فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبل يده» (¬5) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1884) 2: 177 كتاب المناسك، باب الاضطباع في الطواف. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1887) 2: 178 كتاب المناسك، باب في الرمل. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2952) 2: 984 كتاب المناسك، باب الرمل حول البيت. (¬3) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه. ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً». أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 893 كتاب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (2945) 2: 982 كتاب المناسك، باب استلام الحجر. قال في الزوائد: في إسناده محمد بن عون الخراساني، ضعفه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (1268) 2: 924 كتاب الحج، باب استحباب استلام الركنين اليمانيين ...

وأما الإشارة إليه فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير كلما أتى الركن أشار إليه وكبر» (¬1). وظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الأقوال (¬2) الثلاثة متساوية لأن الخيرة هنا ليست خيرة في واجب. وليس كذلك بل المستحب تقبيله فإن لم يمكنه فالمستحب استلامه وتقبيل يد نفسه فإن لم يمكنه فالمستحب الإشارة إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبله حين أمكنه في حديث عمر، واستلمه وقبل يد نفسه حيث لم يمكنه تقبيله ولا استلامه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «أنت رجل قوي فلا تزاحم الناس فتؤذي الضعيف ولكن إن وجدت مسلكاً فاستلمه وإلا فاستقبل وهلل وكبر» (¬3). وأما استحباب قول: بسم الله إلى آخره كلما استلم الحجر فلأن عبدالله بن السائب روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك عند استلام الحجر (¬4). قال: (ثم يأخذ على يمينه ويجعل البيت على يساره فإذا أتى على الركن اليماني استلمه وقبل يده). أما الأخذ على يمينه ويجعل البيت على يساره فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك (¬5) وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1534) 2: 583 كتاب الحج، باب من أشار إلى الركن إذا أتى عليه. (¬2) في حاشية ج: لعله الأفعال. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (190) 1: 28. (¬4) قال ابن حجر: لم أجده هكذا، وقد ذكره صاحب المهذب من حديث جابر، وقد بيض له المنذري، والنووي، وأخرجه ابن عساكر من طريق ابن ناجيه بسند له ضعيف، ورواه الشافعي عن ابن أبي نجيح قال: «أخبرت أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! كيف نقول إذا استلمنا؟ قال: قولوا: بسم الله، والله أكبر إيماناً بالله، وتصديقاً بما جاء به محمد». تلخيص الحبير 2: 472. (¬5) سبق ذكر حديث جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً». ر ص: 171. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه (1297) 2: 943 كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً ... وأخرجه أبو داود في سننه (1970) 2: 201 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار. وأخرجه النسائي في سننه (3062) 5: 270 كتاب مناسك الحج، الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم.

وأما استحباب استلام الركن اليماني فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني» (¬1). وعن ابن عمر: «ما تركت استلام هذين الركنين اليماني والحجر منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما، في شدة ولا رخاء» (¬2) رواهما مسلم. ولأن الركن اليماني مبني على قواعد إبراهيم عليه السلام قاله ابن عمر فسن استلامه كالذي فيه الحجر. وأما استحباب تقبيل يده بعد استلام الحجر فكما يفعل ذلك في الحجر الأسود. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقبل كالحجر الأسود؟ قيل: إنه لم ينقل ذلك من طريق صحيح. قال: (ويطوف سبعاً يرمل في الثلاثة الأُوَل منها. وهو: إسراع المشي مع تقارب الخطى، ولا يَثِب وثباً، ويمشي أربعاً). أما كون الطواف سبعاً يرمل في ثلاثة ويمشي أربعاً فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعاً رمل ثلاثاً ومشى أربعاً» (¬3) متفق عليه. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو إسراع المشي مع تقارب الخطى فبيان لماهية الرمل. وأما كونه لا يَثِب وثباً فلأن ذلك ليس بمشي فإذا فعله لم يكن إتياناً بالرمل المشروع. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1267) 2: 924 كتاب الحج، باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف دون الركنين الآخرين. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1268) 2: 924 كتاب الحج، باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف دون الركنين الآخرين. (¬3) عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف ويمشي أربعة». والخب: هو الرمل. أخرجه البخاري في صحيحه (1538) 2: 584 كتاب الحج، من طاف بالبيت إذا قدم مكة ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1261) 2: 920 كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة ...

قال: (وكلما حاذى الحجر والركن اليماني استلمهما أو أشار إليهما ويقول كلما حاذى الحجر: الله أكبر ولا إله إلا الله، وبين الركنين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وفي سائر الطواف: اللهم! اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً. رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأعز الأكرم. ويدعو بما أحب). أما استحباب استلام الحجر والركن اليماني أو الإشارة إليهما كلما حاذاهما: أما الاستلام فلأن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة» (¬1) رواه أبو داود. وعن نافع: كان ابن عمر يفعله (¬2). وأما الإشارة فلأنها بدل عن الاستلام. وأما استصحاب التكبير والتهليل كلما حاذى الحجر فلما تقدم من حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما أتى الحجر أشار إليه وكبر» (¬3). وفي حديث عمر المتقدم: «وإلا فاستقبلْ وهلل وكبر» (¬4). وأما استحباب قول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة ... الآية} [البقرة: 201] بين الركنين فلما روى عبدالله بن السائب رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك بين ركن بني جُمَح والركن الأسود» (¬5) رواه الإمام أحمد. وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم قال: «وُكِّل به -يعني الركن اليماني- سبعون ألف ملك. فمن قال: اللهم! إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة {ربنا آتنا في الدنيا حسنة ... الآية} [البقرة: 201] قالوا: آمين» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1876) 2: 176 كتاب المناسك، باب استلام الأركان. (¬2) سنن أبي داود ص: 2: 176. (¬3) سبق تخريجه ص: 172. (¬4) سبق تخريجه ص: 172. (¬5) أخرجه أحمد في مسنده (15436) 3: 411. (¬6) أخرجه ابن ماجة في سننه (2957) 2: 985 كتاب المناسك، باب فضل الطواف.

وأما استحباب قول: اللهم! اجعله حجاً مبروراً ... إلى الأكرم في بقية طوافه فلأن ذلك قولٌ لائقٌ بالمحل فاستحب ذكره كسائر الأدعية اللائقة بمحالها المنصوص على مشروعيتها فيها. وأما دعاؤه بما أحب بعد ذلك فلأن ذلك موضع يستجاب فيه الدعاء غالباً والشخص قد تكون له حاجة أخروية أو دنيوية فإذا دعا بما أحب كان ذلك وسيلة إلى قضاء حاجته وبلوغ أمله. قال: (وليس على النساء ولا أهل مكة رمل ولا اضطباع، وليس في غير هذا الطواف رمل ولا اضطباع). أما عدم استحباب الرمل والاضطباع في حق النساء فلأن ذلك شرع لإظهار الجلَد وليس مطلوباً من النساء. ولأن النساء يقصد منهن الستر، وفي الرمل تعرض للانكشاف وفي الاضطباع تعرض للانكشاف. وأما عدم استحباب ذلك في حق أهل مكة فلأن ذلك شرع لما ذكر، وليس مطلوباً من أهل مكة لأنهم مقيمون. و«لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا أحرم من مكة لم يرمل». والمراد بأهل مكة: المقيم بها ومن أحرم بها حتى لو كان متمتعاً فأحرم بالحج منها ثم عاد وقلنا يُشرع له طواف القدوم لم يرمل كما ذكر في المغني. وأما عدم استحبابهما في غير الطواف الأول فلأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يرملوا ولم يضطبعوا إلا في الطواف الأول فلم يسن الإتيان بغير ما فعلوه. ولأن الطواف الأول إنما سن فيه ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو منتف هنا فينتفي الاستحباب لانتفاء المقتضي.

قال: (ومن طاف راكباً أو محمولاً أجزأه. وعنه: لا يجزئه إلا لعذر، ولا يجزئ عن الحامل). أما إجزاء طواف الراكب لعذر فلا خلاف فيه، وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن» (¬1). وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي. فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» (¬2) متفق عليهما. ولأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقاً والراكب طائف. وأما إجزاء طواف المحمول لعذر فلأنه كالراكب معنى فكذا حكماً. وأما طواف من ذكر لغير عذر ففيه روايتان: أحدهما: يجزئ؛ لما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الأمر بالطواف مطلقاً. والثانية: لا يجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطواف بالبيت صلاة» (¬3) والصلاة حاملا ومحمولاً لا تصح. ولأن الطواف بالبيت عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكباً ولا محمولاً لغير [عذر] (¬4) كالصلاة. وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فلا دليل فيه لأنه كان لعذر «لأنه روي أنه كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد. حتى خرج العواتق من البيوت. وكان صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَبُ الناسُ بين يَديه فلما كَثُروا عليه ركب» (¬5) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1530) 2: 582 كتاب الحج، باب استلام الركن بالمحجن. وأخرجه مسلم في صحيحه (1272) 2: 926 كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره، واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4572) 4: 1839 كتاب التفسير، باب تفسير سورة: {والطور}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1276) 2: 927 كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره ... (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (960) 3: 293 كتاب الحج، باب ما جاء في الكلام في الطواف. وأخرجه النسائي في سننه (2922) 5: 222 كتاب مناسك الحج، إباحة الكلام في الطواف. (¬4) زيادة من الشرح الكبير 3: 394. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (1264) 2: 921 كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة ...

وأما عدم إجزاء ذلك عن الحامل فلأن الطواف عبادة أُدِّيَ بها فرض الله فلم [تكن] (¬1) فرضاً عن آخر كالصلاة. ولأن الحامل له كالمحمول فلم يقع الطواف عن غيره كالراكب. قال: (وإن طاف منكساً أو على جدار الحجر أو شاذروان الكعبة أو ترك شيئاً من الطواف وإن قلّ أو لم ينوه لم يجزئه، وإن طاف محدثاً أو نجساً أو عرياناً لم يجزئه. وعنه: يجزئه ويجبره بدم). أما عدم إجزاء الطواف المنكس وهو جعل الطائف البيت عن يمينه عكس ما تقدم من قوله: ويجعل البيت على يساره فـ «لأن جعل النبي صلى الله عليه وسلم البيت عن يساره» (¬2) على ما تقدم بيان لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29]، وفعله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مخرج البيان تعين فلا يجوز خلافه. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني مناسككم» (¬3). ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكان الترتيب فيها واجباً كالصلاة. وأما عدم إجزائه على جدار الحِجْر وهو حائطه أو شاذروان الكعبة وهو: ما فضل من حائطه فلأن ذلك من البيت فإذا لم يطف بكل البيت لم يجزءه؛ لأن الطواف بجميعه واجب بدليل «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بجميعه» (¬4) وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬5). وأما عدم إجزائه إذا ترك شيئاً منه وإن قلّ مثل إن طاف خمساً أو ستاً أو نحو ذلك فلأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعاً والقول فيه كما تقدم في جعل البيت عن يمينه. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) لم أقف عليه هكذا، وقد سبق ذكر حديث جابر، وفيه: «ثم مشى على يمينه. فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً». ر ص: 171. (¬3) سبق تخريجه ص: 172. (¬4) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحَجَر إلى الحَجَر ثلاثا، ومشى أربعا». أخرجه مسلم في صحيحه (1262) 2: 921 كتاب الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف والعمرة ... (¬5) سبق تخريجه ص: 172.

وأما عدم إجزائه إذا لم ينو فلقوله: «إنما الأعمال بالنيات» (¬1) ولقوله: «لا عمل إلا بنية» (¬2). ولأنها عبادة محضة فافتقرت إلى النية كالصلاة. وأما من طاف محدثاً أو نجساً أو عرياناً ففيه روايتان: أحدهما: لا يجزئه؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» (¬3) رواه الترمذي ورواه الأثرم بمعناه. وروى أبو هريرة «أن أبا بكر الصديق رضي الله عنهما بعثه في الحجة التي أمّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر يؤذن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» (¬4) متفق عليه. ولأنه عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة والستارة فيها شرطاً كالصلاة. والرواية الثانية: يجزئه ويجبره بدم؛ أما الإجزاء فلأن الطواف عبادة لا يشترط فيها الاستقبال فلم يشترط فيها ذلك كالسعي والوقوف. وأما جبر ذلك بدم فلأن ذلك إذا لم يكن شرطاً فلا أقل من أن يكون واجباً، وترك الواجب يجبر بدم. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الإجزاء مع جبر الدم عامّ سواء أمكنه الطواف بعد طوافه على الصفة المتقدمة أو لا. وقال في المغني: وعن أحمد رواية أن الطهارة ليست شرطاً فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان يمكنه وإن رجع جبره بدم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 88. (¬2) سبق تخريجه ص: 88. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (960) 3: 293 كتاب الحج، باب ما جاء في الكلام في الطواف. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1543) 2: 586 كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك. وأخرجه مسلم في صحيحه (1347) 2: 982 كتاب الحج، باب لا يحج بالبيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ...

وظاهره أن الطواف غير متطهر لا يجبره الدم مع إمكان إعادته. قال: (وإن أحدث في بعض طوافه أو قطعه بفصل طويل ابتدأه، وإن كان يسيراً أو أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة صلى وبنى. ويتخرج أن الموالاة سنة). أما ابتداء الطواف إذا أحدث الطائف في أثنائه فلأنه عبادة شرطها الطهارة على الصحيح فأبطلها الحدث كالصلاة. وحكم تعمد الحدث وسبقه في ذلك حكم الصلاة من بطلان وبناء. وأما ابتداؤه إذا قطعه بفصل طويل فلأن الموالاة بين أجزائه شرط للصحة على المذهب «لأن النبي صلى الله عليه وسلم والى بين طوافه» (¬1) وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬2). ولأنه صلاة فيشترط لها الموالاة كسائر الصلوات، أو نقول عبادة متعلقة بالبيت فاشترط لها الموالاة كالصلاة. وأما بناؤه إذا قطعه بفعل يسير فلأن اليسير يسامح به في غير هذا الموضع فكذلك هاهنا. ولأن في الاتصال مع ذلك مشقة عظيمة وضرراً عظيماً فوجب أن لا يشترط نفياً لذلك. فإن قيل: بم يعرف الطويل من اليسير؟ قيل: يرجع في ذلك إلى العرف من غير تحديد بمدة كما رجع إلى العرف في الحِرْز والقبض. وأما قطع الطواف وصلاة الصلاة التي أقيمت فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» (¬3). ¬

_ (¬1) يستفاد ذلك من عدد من الأحاديث، ومنها حديث جابر السابق «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه. ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً». (¬2) سبق تخريجه ص: 172. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (710) 1: 493 كتاب صلاة المسافرين، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن. وأخرجه أبو داود في سننه (1266) 2: 22 كتاب التطوع، باب إذا أدرك الإمام ولم يصل ركعتي الفجر. وأخرجه الترمذي في جامعه (421) 2: 282 أبواب الصلاة، ماجاء إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. قال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه النسائي في سننه (866) 2: 116 كتاب الإمامة، ما يكره من الصلاة عند الإقامة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1151) 1: 364 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. وأخرجه أحمد في مسنده (9874) 2: 455، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي لفظ: «فلا صلاة إلا التي أقيمت» (¬1) والطواف صلاة فيدخل تحت عموم الخبر. ولأنه قول ابن عمر وسالم ابنه وعطاء ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم. وأما قطعه وصلاته على الجنازة فلأن الجنازة صلاة تفوت بالتشاغل بالطواف وإذا قطع الطواف من أجل الصلاة التي أقيمت وهي لا تفوت بالتشاغل بالطواف فلأن يقطع بصلاة الجنازة وهي تفوت بالتشاغل بطريق الأولى. وأما بناؤه في الموضعين على ما طاف فلأنه فعل فعلاً مشروعاً في أثناء الطواف فلم يقطعه كاليسير. وأما تخريج مسنونية الموالاة فـ «لأن الحسن رضي الله عنه غشي عليه فلما أفاق أتمه». ونقل المصنف رحمه الله في المغني والكافي عن أحمد رواية: أن الموالاة ليست بشرط مع العذر واستدل عليه بما ذكر عن الحسن. قال: (ثم يصلي ركعتين. والأفضل أن يكون خلف المقام يقرأ فيهما: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] و {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] بعد الفاتحة). أما استحباب صلاة ركعتين بعد فراغه من الطواف فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما (¬2). وأما أفضلية كونهما خلف المقام، والقراءة فيهما بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} بعد الفاتحة فلما روى جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (8409) ط. دار التراث. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) سيأتي تخريجه في الحديث التالي.

وصلى خلف المقام ركعتين قرأ فيهما: {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد}» (¬1) رواه مسلم. وفي الأفضلية المذكورة تنبيه على جواز فعلهما في غير ذلك الموضع وبغير تلك القراءة وهو صحيح: أما الأول فـ «لأن عمر رضي الله عنه ركعهما بذي طوى» (¬2) رواه البخاري. وأما الثاني؛ فلأن تعيين الفاتحة في الفريضة لا تجب. فلأن لا تجب في ركعتي الطواف بطريق الأولى. قال: (ثم يعود إلى الركن فيستلمه، ثم يخرج إلى الصفا من بابه. ويسعى سبعاً يبدأ بالصفا فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله ويكبر ثلاثاً ويقول: الحمد لله على ما هدانا. لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. لا إله إلا الله لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. ثم يلبي ويدعو بما أحب). أما عود من فرغ من الطواف إلى الركن والمراد به الحَجَر الأسود -قاله المصنف في المغني- واستلامه وخروجه إلى الصفا من بابه وسعيه سبعاً وبداؤه بالصفا ورقيه عليه واستقباله القبلة وتكبيره وقول: الحمد لله ... إلى وهزم الأحزاب وحده فلأن جابراً رضي الله عنه قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الطواف: «ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت واستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1478) 2: 562 كتاب الحج، باب الإهلال مستقبل القبلة. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: لا إله إلا الله ... إلى ولو كره الكافرون فلما روي عن ابن عمر رضي الله عنه «أنه كان يدعو ويزيد: لا إله إلا الله لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. ويدعو دعاء كثيراً حتى أنه ليملنا وإنا لشباب». وأما تلبيته بعد ذلك ... (¬1). قال: (ثم ينزل من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم فيسعى سعياً شديداً إلى العلم، ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل عليها مثل ما فعل على الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه يفعل ذلك سبعاً يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية يفتتح بالصفا ويختم بالمروة، فإن بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط). أما نزوله إلى الصفا ومشيه إلى العلم وسعيه سعياً شديداً منه إلى العلم الآخر ومشيه من الثاني إلى المروة وفعله عليها مثل فعله على الصفا فلأن جابراً رضي الله عنه قال: «ثم نزل -يعني النبي صلى الله عليه وسلم - إلى المروة حتى إذا انصَبَّتْ قَدماه رملَ في بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا» (¬2). فإن قيل: ما العلمان؟ قيل: هما ميلان أخضران أحدهما: معلق في ركن المسجد، والآخر: بفناء المسجد وحذاء دار العباس. وأما نزوله من المروة ومشيه في موضع مشيه وسعيه في موضع سعيه وفعله ذلك سبع مرات فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك كذلك. وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬3). وأما احتسابه بالذهاب سعية وبالرجوع سعية فلأنه لو كان الذهاب والرجوع سعية لتعين أن يكون آخر الطواف عند الصفا وقد جاء في الحديث: «فلما كان آخر طوافه على المروة» (¬4). ¬

_ (¬1) بياض في ج مقدار نصف سطر. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬3) سبق تخريجه ص: 172. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولأنه كل مرة طائف بهما فينبغي أن يحسب ذلك مرة كما إذا طاف بجميع البيت فإنه يحتسب به مرة. وأما افتتاحه بالصفا؛ فلما تقدم من «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنى من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] بدأ بالصفا وقال: ابدأوا بما بدأ الله به» (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «قال الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] فبدأ بالصفا وقال: اتبعوا القرآن فما بدأ به القرآن فابدأوا به». وأما اختتامه بالمروة فلما تقدم من قوله: «فلما كان آخر طوافه على المروة» (¬2). ولأنه يلزمه بالبداءة بالصفا والاعتداد بالذهاب مرة والرجوع مرة الاختتام بالمروة. وأما عدم الاحتساب بالشوط إذا بدأ من المروة فلأن الشوط مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره فلم يحتسب به كالصلاة في الدار المغصوبة. قال: (ويستحب أن يسعى طاهراً مستتراً متوالياً. وعنه: أن ذلك من شرائطه). أما استحباب سعيه مستتراً متوالياً فلأن ذلك مختلف في وجوبه فاستحب فعله لما فيه من الخروج من العهدة. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى كذلك وأدنى أحواله حمله على الاستحباب. وأما اشتراط ذلك ففيه روايتان: أحدهما: يشترط؛ لأنه أحد الطوافين فاشترط فيه ذلك كالطواف بالبيت. والرواية الثانية: لا يشترط شيء من ذلك وهي المذهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة حين حاضت: «اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (¬3). ولأن السعي عبادة لا تتعلق بالبيت فلم يشترط فيها شيء من ذلك كالوقوف بعرفة. ¬

_ (¬1) سبق ذكره ص: 181. (¬2) سبق تخريجه قبل قليل. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5239) 4: 2113 كتاب الأضاحي، باب من ذبح ضحية غيره. وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 873 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ...

قال: (والمرأة لا ترقى ولا ترمل). أما عدم استحباب الرقي للمرأة فلئلا تزاحم الرجال. ولأن ترك ذلك أستر لها. وأما عدم استحباب الرمل في السعي فلما تقدم من عدم استحبابه لها في الطواف. قال: (وإذا فرغ من السعي فإن كان معتمراً قصّر من شعره وتحلل، إلا أن يكون المتمتع قد ساق هدياً فلا يُحل حتى يحج. ومن كان متمتعاً قطع التلبية إذا وصل البيت). أما جواز تقصير المعتمر غير سائق الهدي من شعره وتحلله بعد سعيه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر (¬1) سوى عمرته التي مع حجه وكان يحل إذا سعى. وأما المتمتع فإن كان معه هدي لم يحل وإلا حل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: «تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليحلل» (¬2) متفق عليه. فإن قيل: لم قال المصنف رحمه الله قصر ولم يقل حلق؟ قيل: للتنبيه على أن المسنون التقصير لا الحلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في حديث جابر فقال: «وليقصر» (¬3) والحكمة في ذلك توفير الحلق على الحج. فإن قيل: لم قال: والمعتمر ثم استثنى المتمتع؟ قيل: لأن المعتمر أعم من المتمتع لأن المعتمر من أحرم بعمرة من الميقات ثم إن وجد فيه الشروط المتقدمة ذكرها في صفة التمتع فهو متمتع. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قريباً. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1606) 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البدن معه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1227) 2: 901 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما قطع المتمتع التلبية إذا وصل البيت والمراد به إذا استلم الحجر الأسود فلأن ابن عباس رضي الله عنهما روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر» (¬1). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر ولم يزل يلبي حتى استلم» (¬2). ولأن التلبية إجابة إلى العبادة وشعار للإقامة عليها والأخذ بالتحلل ينافيها والتحلل يحصل بالطواف والسعي فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل فيجب أن يقطع التلبية كما يقطع الحاج التلبية إذا شرع في رمي جمرة العقبة؛ لأن التحلل يحصل بها. وفي كلام المصنف رحمه الله نظر من وجهين: أحدهما: أنه قال: ومن كان متمتعاً وكان الجيد أن يقول: ومن كان معتمراً لأن الحكم المذكور يستوي فيه المتمتع وغيره. والثاني: أنه قال: قطَعَ التلبية إذا وصل البيت وكان الجيد أن يقول: قطع التلبية إذا استلم الركن كما قال الإمام أحمد رحمه الله. وكأنه لما كان الوصول إلى البيت يتعقبه الطواف لأنه تحيته وكان استلام الركن أول ما يبدأ به في الطواف عبر بذلك عنه إلا أن فيه لبساً مع عدم الحاجة لا سيما على المتعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (919) 3: 261 كتاب الحج، باب ما جاء متى تقطع التلبية في العمرة. وأخرجه أبو دواد في سننه (1817) 2: 163 كتاب المناسك، باب متى يقطع المعتمر التلبية؟ . ولفظه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر». (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (6685) 2: 180.

باب صفة الحج

باب صفة الحج قال المصنف رحمه الله: (يستحب للمتمتع الذي حل وغيره من المحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة من مكة. ومن حيث أحرم من الحرم جاز). أما استحباب الإحرام لمن ذكر في يوم التروية فلأن جابراً رضي الله عنه قال: «فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج» (¬1). وأما استحبابه من نفس مكة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حتى أَهْل مكة يهلون منها» (¬2). و«كان عطاء يستلم الركن ثم ينطلق منه مهلاً بالحج». وأما جوازه من أي موضع كان من الحرم فلأن في حديث جابر رضي الله عنه: «فأهللنا من الأبطح» (¬3). وهو موضع خارج نفس البلد داخل في الحرم. قال: (ثم يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر ويبيت بها، فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة فأقام بنمرة حتى تزول الشمس، ثم يخطب الإمام خطبة يعلمهم فيها الوقوف ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) سبق تخريجه ص: 82. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1215) 2: 883 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ...

ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة، ثم ينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين). أما خروجه إلى منى إلى آخره فلأن في حديث جابر رضي الله عنه: «فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ومكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شَعر تُضرب له بنمرة. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة. فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرُحِّلَتْ له. فأتى بطن الوادي فخطب الناس. ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم لم يصل بينهما شيئاً» (¬1). وأما تعليم الناس في الخطبة الوقوف ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة فليذكر العالم ويتعلم الجاهل. وأما الجمع فظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أنه يجوز لكل من حضر عرفة من مكة وغيرها وصرح به في المغني، وعلله بأن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَع وجَمَع الناس معه ولم يأمر المكيين بترك الجمع كما أمرهم بترك القصر حين قال: «أتموا فإنا سفر» (¬2). ولو حرم الجمع لبينه لهم؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وبـ «أن عثمان كان يتم الصلاة» لأنه اتخذ بمكة أهلاً ولم يبلغنا أنه ترك الجمع ولو تركه لنقل كما نقل الإتمام. وقال أصاحبنا القاضي وأبو الخطاب وابن عقيل: يختص بمن بينه وبين وطنه مسافة القصر؛ لأن سبب الجمع السفر الطويل فلا يجوز إلا حيث وجد سببه. ولأن الجمع كالقصر والقصر يختص بمن ذكر فكذا الجمع. قال: (ثم يروح إلى الموقف. وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة. وهي من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر). أما رواحه إلى عرفة إذا رحل من نمرة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1229) 2: 9 كتاب صلاة السفر، باب متى يتم المسافر. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما كون عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة» (¬1) رواه ابن ماجة. ولأن عرنة ليست من عرفة فلم يجزؤه الوقوف فيها كما لو وقف بمزدلفة. فإن قيل: لم سميت عرفة بذلك؟ قيل: لأن الله تعالى يعرف الخلائق بالمغفرة أي يطيبهم ومنه قوله تعالى: {عرفها لهم} [محمد: 6] أي طيبها لهم. وقيل: لأنه يوم اصطناع المعروف إلى أهل مكة. وقيل: لأن إبراهيم عليه السلام عرّفه جبريل المناسك فقال له: عرفت. وقيل: لأن آدم اجتمع مع حواء فتعارفا. وأما قول المصنف رحمه الله: "وهي من الجبل ... إلى آخره"؛ فبيان لحد عرفة وتمييز لها مما ليس منها. قال: (ويستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة راكباً، وقيل: الراجل أفضل، ويكثر من الدعاء ومن قوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. اللهم! اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، ويسر لي أمري). أما استحباب الوقوف بالصخرات وجبل الرحمة فلأن في حديث جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه» (¬2). وأما أفضلية الوقوف راكباً على المذهب فلأنه فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم. ولأن الوقوف راكباً أعون له على الدعاء. وأما أفضلية الراجل على قولٍ فلأنه أكثر مشقة. والأول أولى لما ذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (3012) 2: 1002 كتاب المناسك، باب الموقف بعرفات. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما إكثار الدعاء فلأنه يوم ترجى فيه الإجابة ولذلك استحب له الفطر يومئذ ليتقوى على الدعاء. وأما استحباب قول: لا إله إلا الله ... إلى آخره فلما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثر دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. اللهم! اجعل في قلبي نوراً ... إلى آخره» (¬1). قال: (ووقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر، فمن حصل بعرفة في شيء من هذا الوقت وهو عاقل تم حجه، ومن فاته ذلك فاته الحج). أما كون وقت الوقوف كما ذكره المصنف رحمه الله فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شَهد صلاتَنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حَجُّهُ وقَضَى تَفَثَه» (¬2) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وحكي عن أبي حفص العكبري أنه لا يجزئ الوقوف إلا بعد الزوال، وحمل كلام الإمام أحمد رحمة الله عليه وهو قول أكثر أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف إلا بعد ¬

_ (¬1) لم أجده هكذا. وقد أخرج الترمذي في جامعه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير». (3585) 5: 572 كتاب الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة. قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني وليس هو بالقوي عند أهل الحديث. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1950) 2: 196 كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة. وأخرجه الترمذي في جامعه (891) 3: 238 كتاب الحج، باب ما جاء فيمن ادرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج. وأخرجه النسائي في سننه (3043) 5: 264 كتاب مناسك الحج، فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3016) 2: 1004 كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع. وأخرجه أحمد في مسنده (18326) 4: 261. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1700) 1: 634 كتاب المناسك.

الزوال وكذلك أهل الأعصار من لدنه إلى الآن فلو كان قبل الزوال وقتاً ما اتفقوا على تركه. والأول أولى لما ذكر. ولأن ما بعد الزوال يجزئ الوقوف فيه فكذا قبله. وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فمحمول على الأولى. وأما تمام حج من وقف في شيء من الوقت المذكور وهو عاقل فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «فقد تم حجه وقضى تفثه» (¬1). وأما فوات الحج لمن فاته ذلك؛ فلما يأتي في باب الفوات (¬2). قال: (ومن وقف بها نهاراً أو دفع قبل غروب الشمس فعليه دم، وإن وافاها ليلاً فوقف بها فلا دم عليه). أما وجوب الدم علىمن يقف بعرفة نهاراً ودفع منها قبل الغروب فلأن الوقوف إلى بعد الغروب على من ذكر واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى غربت الشمس كذا في حديث جابر (¬3). وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬4)، وإذا تركه فقد ترك واجباً في الحج وذلك موجب للدم لما يأتي فيمن ترك واجباً. وأما عدم وجوب الدم على من وافاها ليلاً فوقف بها فلأنه لم يدرك جزءاً من النهار فلم يلزمه شيء كما لو أدرك من منزله دون الميقات من موضعه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) ص: 225. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬4) سبق تخريجه ص: 172.

قال: (ثم يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة وعليه السكينة، فإذا وجد فجوة أسرع، فإذا وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال، فإن صلى المغرب في الطريق ترك السنة وأجزأه، ومن فاتته الصلاة مع الإمام بمزدلفة أو بعرفة جمع وحده). أما دفعه من عرفة بعد غروب الشمس إلى مزدلفة على الصفة المذكورة فلأن في حديث جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة وقد شنق القصواء بالزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رجله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس! السكينة السكينة» (¬1). وقد روي «أنه صلى الله عليه وسلم كان يَسير العَنَقَ فإذا وجد فَجْوَةً نَصَّ. قال هشام بن عروة: النَّصُّ فَوق العَنَق» (¬2) متفق عليه. وأما صلاته المغرب والعشاء إذا وصل إلى مزدلفة قبل حط الرحال فلأن في حديث أسامة بن زيد: «فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما» (¬3) متفق عليه. وأما ترك السنة إذا صلى المغرب في طريقه فلأنه خلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما إجزاء ذلك فلأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز فعل كل واحدة في وقتها كالظهر والعصر بعرفة وحكم الجمع بعرفة من أنه هل هو مختص بمن بينه وبين وطنه مسافة القصر أو لا؟ وأما جمع من فاتته الصلاة مع الإمام بمزدلفة أو بعرفة وحده فلأن ابن عمر رضي الله عنهما «كان إذا فاته الجمع بين الظهر والعصر مع الإمام جمع منفرداً». ولأن كل جمع جاز مع الإمام جاز منفرداً كالجمع في السفر. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1583) 2: 600 كتاب الحج، باب السير إذا دفع من عرفة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1286) 2: 936 كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة ... (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1588) 2: 601 كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1280) 2: 935 كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة.

قال: (ثم يبيت بها فإن دفع قبل نصف الليل فعليه دم، وإن دفع بعده فلا شيء عليه، وإن وافاها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن جاء بعد الفجر فعليه دم). أما بيتوتته بمزدلفة فلأن المبيت بها واجب «لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها» (¬1) وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬2). ولأنه صلى الله عليه وسلم سماها موقفاً بقوله في حديث جابر: «المزدلفة كلها موقف» (¬3). وأما وجوب الدم على من دفع قبل نصف الليل فلأن مبيت كل الليل أو أكثر واجب، وكلاهما مفقود فيمن ذكر فيكون تاركاً للمبيت بها فيجب عليه دم لتركه الواجب في الحج. وأما عدم وجوب شيء على من دفع بعد نصف الليل فلأنه بات معظم الليل وحكم المعظم حكم الكل فلم يكن تاركاً للواجب. وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت» (¬4) رواه أبو داود. وعن أسماء رضي الله عنها «أنها نزلت ليلة جمع عند دار المزدلفة فقامت تصلي فصلت. ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا فارتحلنا ومضت حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها: يا هَنْتَاهُ! ما أُرانا إلا قد غَلَّسْنَا. قالت: كلا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظُّعن» (¬5) متفق عليه. وإذا لم يكن واجباً لم يجب عليه الدم؛ لأنه فعل فعلاً جائزاً وذلك لا يوجب دماً كسائر الأفعال الجائزة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. (¬2) سبق تخريجه ص: 172. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1907) 2: 187 كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1942) 2: 194 كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (1595) 2: 603 كتاب الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1291) 2: 940 كتاب الحج، باب استحباب تقديم الضعفة من النساء وغيرهن ...

وأما عدم وجوب شيء على من وافاها بعد نصف الليل فلأنه لم يدرك جزءاً من النصف الأول فلم يتعلق به حكمه كمن أدرك الليل بعرفات دون النهار. وأما وجوب الدم على من جاء بعد الفجر فلأنه لم يبت بمزدلفة. ولأنه إذا وافى مزدلفة ودفع قبل نصف الليل يجب عليه دم فلأن يجب إذا لم يوافها ليلاً أصلاً بطريق الأولى. قال: (وحد المزدلفة ما بين المأزمين ووادي محسر، فإذا أصبح بها صلى الصبح، ثم يأتي المشعر الحرام فيرقى عليه ويقف عنده ويحمد الله ويكبره فيدعو فيقول: اللهم! كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق {فإذا أفضتم من عرفات -إلى- غفور رحيم} [البقرة: 198 - 199] إلى أن يسفر). أما قول المصنف رحمه الله: وحد المزدلفة ما بين المأزمين ووادي محسر فبيان لمواضع مزدلفة ليعلم ذلك لينزل بها الطائف عند وصوله وفي أي موضع منها نزل أجزأه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مزدلفة موقف» (¬1) رواه أبو داود. وأما صلاته بها الصبح إذا أصبح وفعله ما ذكره المصنف رحمه الله إلى قوله: إلى أن يسفر فلأن في حديث جابر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بها حين تبين له الصبح بأذان وإقامة. ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله تعالى وكبر وهلله ووحده ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً» (¬2). قال: (ثم يدفع قبل طلوع الشمس، فإذا بلغ محسراً أسرع قدر رمية حجر). أما دفعه من مزدلفة قبل طلوع الشمس فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، قال عمر رضي الله عنه: «إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أَشْرِق ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 192. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

ثَبِير كيما نُغِير. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفهم وأفاض قبل أن تطلع الشمس» (¬1) رواه البخاري. وأما الإسراع قدر رمية حجر بوادي محسر وهو ما بين جمع ومنى فلأن جابراً رضي الله عنه قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لما أتى بطن محسر حرك قليلاً» (¬2). وروي عن عمر رضي الله عنه «أنه لما أتى محسراً أسرع وقال: إليك تعدو قلقاً وضينها ... معترضاً في بطنها جنينها مخالفاً دين النصارى دينها» (¬3). قال: (ويأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة، ومن حيث أخذه جاز، ويكون أكبر من الحمص ودون البندق وعدده سبعون حصاة). أما استحباب أخذ حصى الجمار من طريقه أو مزدلفة فلئلا يشتغل عند قدومه إلى منى فإن الرمي تحية كما أن الطواف تحية المسجد فلا يبدأ بشيء قبله. ولأنه إذا أخذه من غير منى كان أبعد من أن يكون قد رمي به. و«كان ابن عمر رضي الله عنهما يأخذ الحصى من جمع» (¬4). وأما جوازه أخذه من أي موضع شاء فلا خلاف فيه، وفي الحديث أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: القط لي حصى. فلقطت له سبع حصيات من حصى الخَذْف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا ... مختصر» (¬5) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1600) 2: 604 كتاب الحج، باب متى يدفع من جمع. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15640) 3: 411 كتاب الحج، في الإيضاع في وادي محسّر. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 128 كتاب الحج، باب أخذ الحصى لرمي جمرة العقبة وكيفية ذلك. (¬5) أخرجه النسائي في سننه (3059) 5: 269 كتاب مناسك الحج، قدر حصى الرمي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3029) 2: 1008 كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي.

وابن عباس إنما لقط من منى؛ لأنه كان فيمن قدم النبي (¬1) صلى الله عليه وسلم من جمع في ضعفة الناس. وأما كونه أكبر من الحمص ودون البندق فلما تقدم في حديث ابن عباس «أنه التقط من حصى الخَذْف فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمثال هذا فارموا» (¬2). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أيها الناس! إذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخَذْف» (¬3) رواه أبو داود وابن ماجة. وأما كون عدده سبعين فلأنه يرمي جمرة العقبة يوم النحر بسبع ويرمي الجمرات الثلاث كل يوم من أيام التشريق كل جمرة بسبع حصيات فيكون مجموع ذلك سبعين حصاة. قال: (فإذا وصل منى وحدها من وادي محسر إلى العقبة بدأ بجمرة العقبة فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة يكبر مع كل حصاة. ويرفع يده حتى يرى بياض إبطه ولا يقف عندها). أما كون حد منى من وادي محسر إلى العقبة فلأن عطاء قال ذلك. فعلى هذا ليس محسر والعقبة من منى؛ لأن الحد غير المحدود. فإن قيل: لم سميت منى بذلك؟ قيل: لأنها قدر فيها موت الضحايا والهدايا يقال منى بمنى أي قدر. قال الشاعر: ولا تقولن لشيء سوف أفعله ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني أي يقدر لك المقدر. وأما بُدائته بجمرة العقبة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل (¬4). ¬

_ (¬1) في ج: قدم على النبي. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1966) 2: 200 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3028) 2: 1008 كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي. (¬4) كذا في حديث جابر رضي الله عنه قال: «ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات». أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

وجمرة العقبة هي آخر الجمرات مما يلي منى وأولها مما يلي مكة وهي عند العقبة ولذلك سميت جمرة العقبة. وأما رميها بسبع حصيات يكبر مع كل واحدة فلما روى الفضل بن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة» (¬1). رواه حنبل. وأما قول المصنف رحمه الله: واحدة بعد واحدة ففيه تنبيه على أنه لو رماها مرة واحدة لم تجزئه وهو صحيح؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى سبع رميات» (¬2) وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬3). فعلى هذا يجزئه ولكن عن واحدة ويلزمه رمي تكملة سبع. وأما رفع يده حتى يرى بياض إبطه فلأنه أعون على الرمي وأمكن. وأما عدم وقوفه عند جمرة العقبة فلما روى ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يقف» (¬4) رواه ابن ماجة. قال: (ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي. فإن رمى بذهب أو فضة أو غير الحصى أو حجر رُمي به مرة لم يجزئه). أما قطع التلبية مع ابتداء الرمي فلما روى الفضل بن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» (¬5). وفي لفظة: «قطع عند أول حصاة» رواه حنبل في المناسك. وأما عدم إجزائه رمي الذهب والفضة فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى» (¬6) وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (1815) 1: 212. (¬2) قال جابر: «فرماها بسبع حصيات. يكبر مع كل حصاة منها». أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬3) سبق تخريجه ص: 172. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (3032) عن ابن عمر. و (3033) عن ابن عباس. 2: 1009 كتاب المناسك، باب إذا رمى جمرة العقبة لم يقف عندها. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (1469) 2: 559 كتاب الحج، باب الركوب والارتداف في الحج. وأخرجه مسلم في صحيحه (1281) 2: 931 كتاب الحج، باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (1944) 2: 195 كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. (¬7) سبق تخريجه ص: 172.

ولأن قياس الذهب والفضة على الحصى يقتضي علة جامعة والرمي بالحصى تعبدي. وأما قوله أو غير الحصى فيحتمل أنه أراد به الكحل والبرام والرخام وما أشبه ذلك. فإن أبا الخطاب قال: فإن رمى بغير الحصى مثل الكحل والرخام والبرام. ثم صرح بأنه لا يجزئ وعليه ما ذكر في الذهب والفضة، ويحتمل أنه أراد الحجر الكبير، وفي ذلك روايتان: أحدهما: لا يجزئ؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه ابن عباس رضي الله عنهما بحصى الخَذْف قال: أمثال هذا فارموا» (¬1). والثانية: يجزئ؛ لأن الغرض الرمي وهو حاصل بالكبير، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره محمول على الأَوْلى. وأما عدم إجزاء الرمي بحجر رُمي به مرة فلأنه استُعمل في عبادة فلم يجزئ استعماله في غيرها كماء الوضوء. قال: (ويرمي بعد طلوع الشمس فإن رمى بعد نصف الليل أجزأه). أما استحباب رميه بعد طلوع الشمس فلما روى جابر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر ... مختصر» (¬2) رواه مسلم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قال لأغيلمة بني عبدالمطلب: أَبَنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» (¬3) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 194. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1299) 2: 945 كتاب الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1940) 2: 194 كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3025) 2: 1007 كتاب المناسك، باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار.

وأما إجزاؤه الرمي بعد نصف الليل فلما روت عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل النحر ثم مضت فأفاضت» (¬1) رواه أبو داود. وفي لفظ قال لأم سلمة: «وافي الفجر بمكة» (¬2) رواه حنبل. قال: (ثم ينحر هدياً إن كان معه. ويحلق أو يقصر من جميع شعره. وعنه: يجزؤه بعضه كالمسح. والمرأة تقصر من شعرها قدر الأنملة. ثم قد حل له كل شيء إلا النساء. وعنه: إلا الوطء في الفرج). أما نحره الهدي إن كان معه بعد رميه فلما روى جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم «أنه رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة ثم أعطى علياً فنحر ما غَبَرَ» (¬3). وأما تخييره بين الحلق والتقصير؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم دعى لهما. ولأن بعض الصحابة رضي الله عنهم قصر ولم ينكر عليه. ولكن الحلق أفضل ولذلك قدمه المصنف رحمه الله. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعى للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة» (¬4). وأما مقدار ما يقصر ففيه روايتان: أحدهما: يجب التقصير من جميعه لقوله سبحانه: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح: 27]. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه» (¬5)، والتقصير بدل منه وقد أمرنا بالتَّأَسِّي. والثانية: يجزئ بعضه قياساً على المسح. وأما تقصير المرأة من شعرها قدر الأنملة فمشعر بأمرين: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1942) 2: 194 كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (26535) 6: 291. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1641) 2: 617 كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (1639) 2: 616 كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال.

أحدهما: أنه لا يشرع في حقها حلق بل تقصير وهو صحيح لما روى ابن عباس رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير» (¬1) رواه أبو داود. وعن علي رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها» (¬2) رواه الترمذي. وثانيهما: تقدير التقصير بالأنملة لأنه يروى عن ابن عمر. وأما حل كل شيء له إلا النساء إذا فعل ما تقدم ذكره من رمي ونحر وحلق فلما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رمى جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل شيء إلا النساء» (¬3) رواه الأثرم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت ... مختصر» (¬4) متفق عليه. وأما حل النساء ففيه روايتان: أحدهما: لا يحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثناهن في الحديث المتقدم. فعلى هذا لا يباح له وطء ولا تزويج ولا تقبيل لأن ذلك كان حراماً، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إلا النساء» (¬5) يحتمل شموله له فلم يصلح ما قبله للإباحة فوجب بقاؤه على ما كان. والثانية: يحل له كل ذلك إلا الوطء في الفرج؛ لأن تحريم المرأة ظاهر في وطئها فيكون معنى الحديث: إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق حل له كل شيء إلا وطء النساء. والأول أولى لما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1985) 2: 203 كتاب المناسك، باب الحلق والتقصير. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (914) 3: 257 كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1978) 2: 202 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار. وأخرجه أحمد في مسنده (25146) 6: 143. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1465) 2: 558 كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن. وأخرجه مسلم في صحيحه (1189) 2: 846 كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام. (¬5) سبق تخريجه قبل قليل.

والجواب عن ظهور التحريم في الوطء أن تحريم المرأة في الحج ليس مختصاً وفاقاً فوجب أن يحمل على المعهود فيه وذلك ما ذكر. قال: (والحلق والتقصير نسك إن أخره عن أيام منى فهل يلزمه دم؟ على روايتين. وعنه: أنه إطلاق من محظور لا شيء في تركه. ويحصل التحلل بالرمي وحده). أما كون الحلق والتقصير نسكاً على الصحيح في المذهب فلقوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح: 27]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به بقوله: «وليقصر وليحلل» (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما على النساء التقصير» (¬2). وأما كونه إطلاقاً من محظور على روايةٍ «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى رضي الله عنه لما قال: أهللتُ بإهلالٍ كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طف بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم حل» (¬3) متفق عليه. وقال في حديث جابر: «من كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة» (¬4) رواه مسلم. وقال في حديث سراقة: «إذا قدمتم فمن تَطَوّف بالبيت فقد حل إلا من كان معه هدي» (¬5) رواه مسلم. أمر بالحل من غير حلق ولا تقصير ولو كان ذلك نسكاً لما أمر به إلا بعده. ولأن كل واحد من الحلق والتقصير محرّم في الإحرام فلم يكن نسكاً كالطيب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1606) 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البدن معه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1227) 2: 901 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع ... (¬2) سبق تخريجه ص: 199. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4136) 4: 1597 كتاب المغازي، باب حجة الوداع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1221) 2: 894 كتاب الحج، باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1801) 2: 159 كتاب المناسك، باب في الإقران. ولم أره عند مسلم.

فعلى قولنا هو نسك هل يجب عليه دم إذا أخره عن أيام منى؟ فيه روايتان: أحدهما: لا دم عليه لأن الله تعالى قال: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] فبين أول وقته ولم يخصه فيما بعد ذلك بوقت. ولأنه نسك فلم يكن عليه دم بتأخيره كالسعي. والثانية: عليه دم؛ لأنه ترك النسك في وقته أشبه تأخير الرمي. والأول أولى لما ذكر. وعلى قولنا هو إطلاق من محظور هو مخير بين فعله في أيام منى وبين تأخيره وبين تركه والأخذ من بعضه دون بعض؛ لأنه ليس بواجب أشبه سائر ما ليس بواجب. وأما قول المصنف رحمه الله: ويحصل التحلل بالرمي وحده فيحتمل أنه معطوف على قوله: لا شيء في تركه فيكون من تكملة قوله: وعنه أنه إطلاق من محظور. فعلى هذا يكون حصول التحلل بالرمي وحده على قولنا: الحلق إطلاق من محظور لا على قولنا: هو نسك، ويعضده قوله فيما تقدم: ثم قد حل له كل شيء إلا النساء؛ لأن ظاهره أن التحلل إنما يحصل بالرمي والحلق معاً؛ لأنه ذكر التحلل بلفظ ثم بعد ذكر الرمي والحلق، ويحتمل أنه مستقل وأن التحلل يحصل بالرمي وحده وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله. وفي الجملة فيما يحصل به التحلل روايتان: أحدهما: لا يحصل إلا بهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عائشة رضي الله عنها: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل شيء إلا النساء» (¬1) رواه الأثرم. رتب الحِل عليهما فلا يحصل إلا بهما. ولأنهما نسكان يعقبهما الحل فكان حاصلاً بهما كالطواف والسعي في العمرة. والرواية الثانية: أنه يحصل بالرمي وحده. قال المصنف رحمه الله في المغني: هذا هو الصحيح. ولأن في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا يوم رخص لكم فيه إذا رميتم الجمرة أن تحلوا من كل شيء حرم فيه إلا النساء» (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 199. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1999) 2: 207 كتاب المناسك، باب الافاضة في الحج.

وحديث عائشة رضي الله عنها رواه أبو داود، ولم يذكر: وحلق رأسه. وفيه نظر؛ لأنه إذا لم يذكر ذلك فيما ذكر فقد ذكره في غيره. وتحقيق الكلام في التحلل هل الأنساك ثلاثة أم اثنتان؟ فيه روايتان: أحدهما: ثلاثة: رمي وحلق وطواف. والثانية: هما نسكان رمي وطواف. فعلى الأول يحصل التحلل الأول بفعل اثنين من الثلاثة ويحصل التحلل الثاني بفعل الثالث. وعلى الثانية: يحصل الأول بفعل واحد من اثنين والثاني بالثاني. وإنما نص المصنف رحمه الله على الرمي وغيره على الرمي والحلق؛ لأنهما يفعلان قبل الطواف إما استحباباً وإما وجوباً وعلى كل تقدير لو قدم المؤخر حصل التحلل على ما ذكر قبل. قال: (وإن قدم الحلق على الرمي أو النحر ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه، وإن كان عالماً فهل عليه دم؟ على روايتين). أما عدم وجوب شيء على من قدم الحلق على الرمي أو النحر جاهلاً فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: «قال رجل: يا رسول الله! حلقت قبل أن أذبح. قال: اذبح ولا حرج ... مختصر» (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى: في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: لا حرج» (¬2) متفق عليهما. وأما عدم وجوب شيء على من قدم ذلك ناسياً فلأن الناسي كالجاهل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1649) 2: 618 كتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1306) 2: 948 كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1648) 2: 618 كتاب الحج، باب إذا رمى بعد ما أمسى، أو حلق قبل أن يذبح ناسياً أو جاهلاً. وأخرجه مسلم في صحيحه (1307) 2: 950 كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي.

وأما من قدم ذلك عالماً ففيه روايتان: أحدهما: لا دم عليه لما ذكر قبل. والرواية الثانية: عليه دم لأن ما تقدم المراد به الجاهل والناسي؛ لأن في بعض ألفاظ الحديث: «أن رجلاً سأله فقال: لم أشعر» (¬1). وفي رواية مسلم من حديث عبدالله بن عمرو قال: «فجاء رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح ... وذكر الحديث قال: فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال: افعلوا ذلك ولا حرج» (¬2). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب وأمر باتباعه استثني منه حالة الجهل والنسيان فيبقى ما عداه على الأصل. ويمكن الجواب عن كون السائل جاهلاً بأن إباحة ذلك للجاهل لا تنفي جوازه للعالم، وعن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه فعله لكونه أولى لا لوجوبه. قال: (ثم يخطب الإمام خطبة يعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي). أما استحباب الخطبة بمنى فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر» (¬3) رواه البخاري. وأما استحباب تعليمهم ما ذكر فلدعوى الحاجة إليه قال عبدالرحمن بن معاذ: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في منى فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار» (¬4) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صححيه (1649) 2: 618 كتاب الحج، باب إذا رمى بعد ما أمسى، أو حلق قبل أن يذبح ناسياً أو جاهلاً. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1306) 2: 948 كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1652) 2: 619 كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1957) 2: 198 كتاب المناسك، باب ما يذكر الإمام في خطبته بمنى.

قال: (ثم يفيض إلى مكة ويطوف للزيارة، ويُعَيِّنه بالنية، وهو: الطواف الواجب الذي به تمام الحج، وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر، والأفضل فعله يوم النحر، فإن أخره عنه وعن أيام منى جاز). أما إفاضته إلى مكة بعد خطبته بمنى وطوافه للزيارة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل. قالت عائشة رضي الله عنها: «حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر» (¬1) متفق عليه. وأما تعيينه بالنية فلأن الطواف بالبيت صلاة والصلاة لا تصح إلا بنية معينة. وأما كون الطواف المذكور هو الواجب فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلْيَطّوَفُوا بالبيت العتيق} [الحج: 29]. وعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من صفية ما يريد الرجل من أهله. فقلت: يا رسول الله! إنها حائض. قال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله! أفاضت يوم النحر. قال: اخرجوا» (¬2) رواه البخاري. وأما كونه هو الذي به تمام الحج فلأنه لم يبق من أركان الحج سواه فإذا أتى به حصل تمام الحج. فإن قيل: في لفظ الحديث المتقدم: «من صلى صلاتنا وإلى قوله: وكان قد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه» (¬3) ولم يذكر الطواف. قيل: المراد بذلك أن من وقف بعرفة لم يبق حجه متعرضاً للفوات؛ لأن الطواف وإن كان ركناً لكنه ليس له وقت معين يفوت بفواته لا أنه لم يبق له شيء من أركانه. وأما كون أول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر فـ «لأن أم سلمة رضي الله عنها رمت ثم طافت ثم رجعت فوافت النبي صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة وبينها وبين مكة فرسخان». ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4140) 4: 1598 كتاب المغازي، باب حجة الوداع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 965 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4140) 4: 1598 كتاب المغازي، باب حجة الوداع. (¬3) سبق تخريجه ص: 189.

وأما كون الأفضل فعله يوم النحر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. كذلك ذكرته عائشة رضي الله عنها (¬1). وأما جواز تأخيره عن يوم النحر وعن أيام التشريق فلأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقاً. ولأنه لم يدل دليل على عدم جوازه فيما بعد أيام التشريق فوجب أن يجزئ في غيرها بالقياس عليها. ويمكن أن يقال في قوله: {وليطوفوا} [الحج: 29] دليل على إرادة أيام التشريق وذلك أن الله تعالى عطفه على قوله: {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34] وذلك عطف للطواف على النحر فوجب أن يتوقت بوقته وهذا متجه وبه قال أبو جنيفة. وأجاب صاحب النهاية عن ذلك بأن الطواف ينجبر بالقضاء فوجب أن يجزئ من غير دم كالصلاة. وفي قوله: ينجبر بالقضاء نظر من حيث إنه إذا قال: ليس لآخره وقت يكون فعله بعد أيام التشريق أداء لا قضاء. قال: (ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو لم يكن سعى مع طواف القدوم، وإن كان قد سعى لم يسع، ثم قد حل له كل شيء). أما سعي المتمتع بعد إفاضته من مكة وطوافه بالبيت وإن كان قد سعى فلأن السعي المتقدم لعمرته وحينئذ لحجه بخلاف المفرد والقارن. وأما غيره من مفرد وقارن فينظر فيهما فإن كانا قد سعيا لم يسعيا بعد طوافهما للزيارة؛ لأن جابراً قال: «لم يطف النبي ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول» (¬2) رواه مسلم. وإن لم يكونا سعيا عقيب طواف القدوم أو لم يطوفا طواف القدوم سَعَيا حينئذ لأنه إما ركن أو سنة على ما يبين بعد إن شاء الله تعالى والكل مطلوب الوجود. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريباً. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1279) 2: 930 كتاب الحج، باب بيان أن السعي لا يكرر.

وأما حل كل شيء لمن فعل جميع ما تقدم ذكره من طواف الزيارة والرمي والنحر والحلق فلقول ابن عمر رضي الله عنهما: «لم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر فأفاض بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه» (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها مثله (¬2) متفق عليهما. وقول المصنف رحمه الله: ثم حل بعد قوله سعى يدل على توقف الحل على السعي وهو كذلك إن قلنا هو ركن أو واجب، وإن قلنا هو سنة فقال المصنف رحمه الله في المغني: احتمل أن يحل عقيب الطواف قبل السعي لأنه لم يبق عليه واجب من الحج، واحتمل أن لا يحل حتى يسعى لأنه من أفعال الحج فيأتي به في إحرام الحج. قال: (ثم يأتي زمزم فيشرب منها لما أحب ويتضلع منه ويقول: بسم الله، اللهم! اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك) (¬3). أما إتيانه زمزم بعد سعيه وشربه منه فلما روى جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثم أتى بني عبدالمطلب وهم يسقون فناولوه فشرب منه» (¬4). وأما قصده بشربه ما أحب فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له» (¬5) رواه ابن ماجة. وأما تضلعه منه فـ «لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال لرجل تضلع منها: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من زمزم» (¬6) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1606) 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البدن معه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1227) 2: 901 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البدن معه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1228) 2: 902 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع ... (¬3) في المقنع: خشيتك وحكمتك. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬5) أخرجه ابن ماجة في سننه (3062) 2: 1018 كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم. (¬6) أخرجه ابن ماجة في سننه (3061) 2: 1017 كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم.

وأما الدعاء عند الشرب بما ذكر فلأنه لائق به وهو متضمن لمصلحتي الدنيا والآخرة. ولأنه قد تقدم أن «ماء زمزم لما شرب له» (¬1) فإذا دعى رجي حصوله. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قبل قليل.

فصل [في بقية أعمال الحج] قال المصنف رحمه الله: (ثم يرجع إلى منى ولا يبيت بمكة ليالي منى، ويرمي الجمرات بها (¬1) بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات، فيبدأ بالجمرة الأولى وهي أبعدهن من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ويرميها بسبع، ثم يتقدم قليلاً يدعو الله تعالى ويطيل، ثم يأتي الوسطى فيجعلها عن يمينه ويرميها بسبع ويقف عندها فيدعو، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع ويجعلها عن يمينه ويستبطن الوادي ولا يقف عندها، ويستقبل القبلة في الجمرات كلها). أما رجوعه إلى منى وعدم مبيته بمكة ليالي منى ورميه الجمرات الثلاث بها في أيام التشريق بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات ووقوفه عند الأولى ودعاؤه وإطالته ذلك عند الجمرة الأولى والثانية وعدم وقوفه عند الثالثة فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية ويطيل المقام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» (¬2) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في المقنع: بها في أيام التشريق. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1973) 2: 201 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار.

وأما بداءته بالجمرة الأولى وجعلها عن يساره وجعل الثانية عن يمينه واستبطانه الوادي بالثالثة واستقباله القبلة في الجمرات كلها فلما روى البخاري رضي الله عنه عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه كان يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة. ثم يتقدم فيقوم قياماً طويلاً ويرفع يديه. ثم يرمي الوسطى. ثم يأخذ بذات الشمال فيهل ويقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً. ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها. ثم ينصرف ثم قال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل» (¬1). وأما قوله: وهي أبعدهن من مكة وتلي مسجد الخيف فبيان للجمرة الأولى وتمييز لها. قال: (والترتيب شرط في الرمي، وفي عدد الحصى روايتان: أحدهما: سبع. والأخرى: يجزؤه خمس، فإن أخل بحصاة واجبة من الأولى لم يصح رمي الثانية، فإن لم يعلم من أيّ الجمار تركها بنى على اليقين). أما كون الترتيب في الرمي شرطاً ومعناه: أن يبدأ بالجمرة التي تلي مسجد الخيف ثم بالتي تليها ثم بالتي تليها كما ذكر المصنف رحمه الله قبل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل (¬2)، وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬3). ولأن الرمي نسك متكرر فكان الترتيب فيه شرطاً كالسعي. وأما عدد الحصى ففيه روايتان: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1665) 2: 623 كتاب الحج، باب رفع اليدين عند جمرة الدنيا والوسطى. (¬2) عن الزهري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منى، يرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف، ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فيقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو، ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة، فيرميها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاةٍ ثم ينصرف، ولا يقف عندها». أخرجه البخاري في صحيحه (1666) 2: 624 كتاب الحج، باب الدعاء عند الجمرتين. (¬3) سبق تخريجه ص: 172.

أحدهما: يجب أن يرمي بسع «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع» (¬1)، وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬2). والرواية الثانية: يجزؤه خمس وست لما روى سعد قال: «رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول: رميت بست وبعضنا يقول: رميت بسبع فلم يعب ذلك بعضنا على بعض» (¬3) رواه الأثرم في سننه وأبو إسحاق الجوزجاني. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: «ما أبالي رميت بست أو بسبع» (¬4). وأما عدم صحة رمي الثانية إذا أخل بحصاة واجبة من الأولى فلأن الترتيب شرط لما تقدم وفي ترك حصاة واجبة إخلال به. ولأنه إذا أخل بواحدة من الأولى فكأنه ابتدأ الثانية فيفوت الترتيب المشترط. وأما بناؤه على اليقين إذا لم يعلم من أي الجمار تركها فلأنه تررد في ذلك فيبني على اليقين كما لو شك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً. قال: (وإن أخّر الرمي كله فرماه في آخر أيام التشريق أجزأه، ويرتبه بنيّته، وإن أخره عن أيام التشريق أو ترك المبيت بمنى في لياليها فعليه دم، وفي حصاة أو ليلة واحدة ما في حلق شعرة). أما إجزاء الرمي في آخر أيام التشريق لمن أخره فرماه فيه فلأن أيام التشريق وقت الرمي فإذا أخره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شيء كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1973) 2: 201 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار. (¬2) سبق تخريجه ص: 172. (¬3) أخرجه النسائي في سننه (3077) 5: 275 كتاب مناسك الحج، عدد الحصى التي يرمى بها الجمار. وأخرجه أحمد في مسنده (1439) 1: 168. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (13439) 3: 195 كتاب الحج، في الرجل يرمي بست حصيات أو خمساً. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 150 كتاب الحج، باب من شك في عدد ما رمى.

وأما ترتيبه بنيته، ومعناه: أن ينوي رمي اليوم الأول والثاني مع الثالث فلأن الرمي في أيام التشريق عبادة يجب الترتيب فيها مع فعلها في أيامها فوجب مع فعلها مجموعة كالصلاتين المجموعتين والفوائت. وأما وجوب الدم على من أخر الرمي عن أيام التشريق فلأن الرمي نسك واجب، أخّره عن وقته المعين فوجب عليه دم كما لو أخر الإحرام عن الميقات. وأما وجوبه على من ترك المبيت بمنى فلأن المبيت بها واجب لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته» (¬1) رواه ابن ماجة. وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال: «لا يبيتن أحد من الحاج إلا بمنى. وكان يبعث رجالاً لا يَدَعُون أحداً يبيت وراء العقبة» (¬2). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله نسكاً، وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬3). وإذا كان واجباً وجب بتركه دم لتركه الواجب في الحج. وأما كون الواحدة من الحصاة والليلة في تركها ما في حلق شعرة. والمراد به مد من طعام أو قبضة أو درهم على الخلاف المتقدم فيه فلأنه بعض ما يجب فيه دم فوجب فيه ما يجب في الشعرة كالشعرة. قال: (وليس على أهل [سقاية الحاج] (¬4) والرعاء مبيت بمنى، فإن غربت الشمس وهم بمنى لزم الرعاء المبيت دون أهل السقاية). أما عدم وجوب المبيت بمنى على أهل السقاية فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن العباس رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ليبيت بمكة ليالي منى لأجل سقايته فأذن له» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (3066) 2: 1019 كتاب المناسك، باب البيتوتة بمكة ليالى منى. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 153 كتاب الحج، باب لا رخصة في البيتوتة بمكة ليالي منى. (¬3) سبق تخريجه ص: 172. (¬4) زيادة من المقنع. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (1658) 2: 621 كتاب الحج، باب هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي منى. وأخرجه مسلم في صحيحه (1316) 2: 953 كتاب الحج، باب وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، والترخيص في تركه لأهل السقاية.

وأما عدم وجوبه على الرعاء وهم الذين يرعون المواشي فلما روى عاصم عن أبيه قال: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة في أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما» (¬1) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ولأن أهل السقاية والرعاء يشتغلون بالرعاية واستقاء الماء فرخص لهم لذلك. وأما لزوم الرعاء المبيت إذا غربت الشمس وهم بمنى دون أهل السقاية فلأن ترك المبيت إنما كان للحاجة فإذا غربت الشمس زالت حاجة الرعاء. ولأن الرعي وقته النهار لا الليل بخلاف أهل السقاية فإنهم يسقون ليلاً ونهاراً. قال: (ويخطب الإمام في اليوم الثاني من أيام التشريق خطبة يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم). أما مسنونية الخطبة في اليوم الثاني من أيام التشريق فلما روي عن رجلين من بني بكر قالا: «رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته» (¬2) أخرجه أبو داود. وأما تعليمهم ما ذكر فلدعوى الحاجة إليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1975) 2: 202 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار. وأخرجه الترمذي في جامعه (955) 3: 289 كتاب الحج، باب ما جاء في الرخصة للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً. وأخرجه النسائي في سننه (3069) 5: 273 كتاب مناسك الحج، رمي الرعاة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3037) 2: 1010 كتاب المناسك، باب تأخير رمي الجمار من عذر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1952) 2: 197 كتاب المناسك، باب أي يوم يخطب بمنى.

قال: (فمن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل غروب الشمس، فإن غربت وهو بها لزمه المبيت والرمي من الغد). أما جواز التعجيل في يومين فلقوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} [البقرة: 203]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه» (¬1). وأما لزوم البيتوتة والرمي من الغد لمن غربت الشمس وهو بمنى فلأن الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم جوزا التعجيل في اليوم الثاني وهو اسم لبياض النهار. ولأنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس» (¬2). قال: (فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف إذا فرغ من جميع أموره فإن ودع ثم اشتغل في تجارة أو أقام أعاد الوداع). أما عدم خروجه من مكة حتى يودع البيت بالطواف إذا فرغ من جميع أموره فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض» (¬3) متفق عليه. ولمسلم: «كان الناس ينصرفون كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» (¬4). وأما إعادة الوداع إذا ودع ثم اشتغل التجارة أو أقام فلأنه إذا لم يطف بعد اشتغاله أو أقام لم يكن آخر عهده بالبيت وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1949) 2: 196 كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3015) 2: 1003 كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 152 كتاب الحج، باب من غربت له الشمس يوم النفر الأول بمنى ... (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1668) 2: 624 كتاب الحج، باب طواف الوداع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 965 كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1327) 2: 963 الموضع السابق.

ولأن هذا الطواف هو طواف الوداع فإذا لم يطف بعد ما ذكر لم يكن وداعاً في العادة فلم يجزؤه كما لو طافه عند قدومه إلى مكة. قال: (ومن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأه عن طواف الوداع، فإن خرج قبل الوداع رجع إليه، فإن لم يمكنه فعليه دم، إلا الحائض والنفساء لا وداع عليهما). أما إجزاء طواف الزيارة عن طواف الوداع إذا طافه عند الخروج فلأنه أُمِرَ أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل ذلك. ولأن ما شرع للمسجد يجزئ عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد وركعتي الإحرام وركعتي الطواف يجزئ عنهما المكتوبة. وأما رجوعه إلى الوداع إذا خرج قبله مع الإمكان وهو المسافة القريبة مع عدم خوف على نفس أو مال أو فوات رفقة فلأنه أمكنه الإتيان بالواجب من غير مشقة فلزمه كما لو كان بمكة. وأما عدم رجوعه مع عدم إمكانه فلما يلحقه من المشقة أشبه ما لو رجع إلى بلده. وأما وجوب الدم عليه فلأنه ترك واجباً في الحج أشبه ترك الرمي. وأما عدم الوداع على الحائض والنفساء فلأنه لا يجب عليهما وداع لما تقدم من قوله: «إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» (¬1) والنفساء مثلها. قال: (وإذا فرغ من الوداع وقف في الملتزم بين الركن والباب فقال: اللهم! هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى، وإلا فمُنّ الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك ولا بيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك. اللهم! فاصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خير الدنيا والآخرة إنك ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق.

على كل شيء قدير. ويدعو بما أحب ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن المرأة إذا كانت حائضاً لم تدخل المسجد ووقفت على بابه ودعت بذلك). أما مسنونية الوقوف في الملتزم وهو موضعٌ بين الباب والحجر والأسود وهو المراد بقول المصنف رحمه الله الركن فلما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه أنه قال: «طفت مع عبدالله فلما جئنا دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار. ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطها بسطاً وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل» (¬1) رواه أبو داود. وعن صفوان قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة هو وأصحابه قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم» (¬2) رواه أبو داود. وأما صفة الدعاء فكما ذكره المصنف رحمه الله لأنه يليق بالمكان وإن زاد على ذلك أو دعا بغيره فلا بأس؛ لأن الغرض الدعاء لا دعاء بعينه. وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فليكون جامعاً بين فضيلتي الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأما عدم دخول المرأة المسجد إذا كانت حائضاً فلأن الحائض ممنوعة من دخول المسجد لما تقدم في موضعه. وأما وقوفها على بابه ودعاؤها بذلك فلأن المرأة ينبغي أن [تدعو بما] (¬3) تحب ويسن في حقها ما يكون كذلك في حق الرجل ترك ذلك في دخول المسجد لأنها ممنوعة منه لحيضها فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1899) 2: 181 كتاب المناسك، باب الملتزم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1898) 2: 181 كتاب المناسك، باب الملتزم. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

قال: (فإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما). أما استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من زارني أو زار قبري كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة» (¬1) رواه أبو داود الطيالسي. ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلم عليّ عند قبري إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» (¬2). ويروى عن العتبي قال: «كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله! سمعت الله يقول: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} [النساء: 64]، وقد جئتك مستغفراً مستشفعاً بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم انصرف الأعرابي، فحملتني عينيّ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عتبي! الحق الأعرابي فبشره أن الله تعالى قد غفر له» (¬3). وأما استحباب زيارة قبري صاحبيه فلأن زيارة قبر غيرهما مستحبة فلأن يستحب زيارة قبرهما مع فضيلتهما على غيرهما بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (65) 12 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2041) 2: 218 كتاب المناسك، باب زيارة القبور. وأخرجه أحمد في مسنده (10827) 2: 527. كلاهما دون قوله: «عند قبري». (¬3) ذكره ابن كثير في تفسيره نقلاً عن كتاب الشامل لأبي منصور الصباغ 1: 552 - 553.

فصل في صفة العمرة قال المصنف رحمه الله: (من كان في الحرم خرج إلى الحل فأحرم منه، فإن أحرم من الحرم لم يجز وينعقد وعليه دم). أما خروج من هو في الحرم إلى الحل ليحرم منه بالعمرة فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبدالرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم» (¬1) رواه مسلم. وكانت عائشة رضي الله عنها بمكة والتنعيم أدنى الحل. ولأنه يجب الجمع في النسك بين الحل والحرم، وأفعال العمرة كلها في الحرم فلم يكن بد من الإحرام من الحل ليحصل الجمع (¬2) من الحل. وأما عدم تجويز إحرامه من الحرم فلما (¬3) عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث عائشة رضي الله عنها. وحكمه على الواحد حكمه على الكل. وأما انعقاد إحرامه فكما لو أحرم بعد أن جاوز الميقات وأما وجوب الدم عليه فلتركه الواجب. قال: (ثم يطوف ويسعى، ثم يحلق أو يقصر، ثم قد حلّ. وهل يحل قبل الحلق أو التقصير؟ على روايتين). أما طواف المعتمر وسعيه وحلقه أو تقصيره بعد إحرامه فلأن العمرة أحد النسكين فوجب أن يفعل بها ما ذكر كالحج. وأما حله بعد ذلك فلأنه لم يبق من أفعال العمرة شيء أشبه الحاج إذا لم يبق له من أفعال حجه شيء. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 83. (¬2) عدة كلمات غير واضحة في ج. (¬3) مثل السابق.

وأما حله قبل حلقه أو تقصيره ففيه روايتان أصلهما هل الحلق والتقصير في العمرة نسك؟ وفيه روايتان مضى توجيههما في الحج (¬1). فإن قيل: ذلك نسك لم يحل قبل فعله كالطواف، وإن قيل: ليس بنسك جاز له الحل قبله؛ لأن الحل لا يتوقف على فعل ما ليس بنسك. قال: (وتجزئ عمرة القارن، والعمرة من التنعيم عن عمرة الإسلام في أصح الروايتين). أما إجزاء عمرة القارن وهو الذي أحرم بحج وعمرة جميعاً عن عمرة الإسلام ففيه روايتان: أحدهما: تجزئ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها لما قرنت وطافت: قد حللت من حجك وعمرتك» (¬2). وفي لفظ: «يسعُكِ طوافك لحجك وعمرتك» (¬3) رواه مسلم. والثانية: لا تجزئ لأن الله تعالى قال: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] فوجب الإتيان بالعمرة (¬4) على وجه الكمال ولم توجد فيما ذكر. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما اعتمرها أخوها: «هذه مكان عمرتك» (¬5) متفق عليه. والأولى أصح لما تقدم. ولما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحرم بالحج والعمرة طاف لهما طوافاً واحداً ولا يحل حتى يقضي حجه ويحل منهما جميعاً» (¬6). ¬

_ (¬1) ص: 199. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1213) 2: 881 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ... (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 879 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ... (¬4) العبارة غير واضحة في ج. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (1557) 2: 590 كتاب الحج، باب طواف القارن. وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 870 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ... (¬6) أخرجه الترمذي في جامعه (948) 3: 284 كتاب الحج، باب ما جاء أن القارن يطوف طوافاً واحداً. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2975) 2: 990 كتاب المناسك، باب طواف القارن.

ولأن الصبي بن معبد قال لعمر رضي الله عنه: «إني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين عليّ فأهللت بهما -أي أهللت بالمكتوبتين- فقال عمر رضي الله عنه: هديت لسنة نبيك» (¬1). ولأنه يروى عن ابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهم: «من قرن كفاه طواف واحد وسعي واحد» (¬2). ولأن الواجب عمرة واحدة وقد أتى بها. ولأن عمرة القارن أحد نسكي القران فأجزأ كالحج. وأما عمرة عائشة من التنعيم فإنما كانت تطييباً لقلبها وإجابة لمسألتها ولو كانت واجبة عليها لأمرها هو بها قبل أن تسأله. وأما إجزاء عمرة المفرد من التنعيم ففيه أيضاً روايتان: أحدهما: يجزئ لما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن أن يعمر عائشة من التنعيم (¬3). والثانية: لا تجزئ؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم في عمرة القضاء من ذي الحليفة»، وروي «من الجعرانة». وقال صاحب النهاية: الصحيح أنه أحرم من الجعرانة في غير سنة القضاء. روي أنه برز لها من الحرم. والأولى أصح لما تقدم. ولأن الحج يجزئ من مكة فالعمرة من أدنى الحل في حق المفرد أولى. وأما إحرام النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء من ذي الحليفة فلأنه مر بها أولاً لأن القضاء يحكي الأداء. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 68. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (947) 3: 283 عن جابر و (948) 3: 284 عن ابن عمر كتاب الحج، باب ما جاء أن القارن يطوف طوافاً واحداً. وأخرجه أحمد في مسنده (5350) 2: 67. عنه. (¬3) سبق تخريجه ص: 83.

فصل [في أركان الحج] (أركان الحج الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة. وعنه: أنها أربعة: الطواف والوقوف والإحرام والسعي. وعنه: أنها ثلاثة وأن السعي سنة، واختار القاضي أنه واجب وليس بركن). أما كون الوقوف بعرفة ركناً فلما روي أن رجلاً قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجاءه نفر من أهل نجد. فقالوا: يا رسول الله! كيف الحج؟ قال: الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر فقد تم حجه» (¬1) أخرجه أبو داود وابن ماجة. وأما كون الطواف ركناً فلقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29]. ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله. فقلت: يا رسول الله! إنها ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1949) 2: 196 كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة. وأخرجه الترمذي في جامعه (889) 3: 237 كتاب الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج. وأخرجه النسائي في سننه (3016) 5: 256 كتاب مناسك الحج، فرض الوقوف بعرفة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3015) 2: 1003 كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع. كلهم عن عبدالرحمن بن يعمَر الدِّيلي.

حائض. قال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله! أفاضت يوم النحر. قال: اخرجوا» (¬1) رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه. فدل هذا على أن الطواف لا بد منه وأنه حابس لمن لم يأت به. ولأن الحج أحد النسكين فكان الطواف ركناً له كالعمرة. وأما الإحرام ففيه روايتان: أحدهما: أنه ركن؛ لأن الحج عبادة فلم تصح بدون الإحرام كنية الصلاة. والثانية: أنه ليس بركن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعروة بن مُضَرِّس: «من وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً وأدرك معنا صلاتنا هذه -يعني الصبح- من يوم النحر فقد تم حجه وقضى تفثه» (¬2) ولم يذكر الإحرام ولو كان ركناً لذكره. فإن قيل: لم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف وهو ركن وفاقاً؟ قيل: إنما ترك ذكره لأن القرآن دل عليه بخلاف الإحرام. والرواية الأولى أصح في ظاهر قول الأصحاب، وظاهر قول المصنف رحمه الله عكس ذلك؛ لأنه أخرها، ولم أعلم أحداً من الأصحاب ذكر أن الإحرام شرط والأشبه به كذلك. وبه قال أبو حنيفة وذلك أن من قال بالرواية الأولى قاس الإحرام على نية الصلاة، ونية الصلاة شرط وكذا يجب أن يكون الإحرام. ولأن الإحرام يجوز فعله قبل دخول وقت الحج فوجب أن يكون شرطاً كالطهارة مع الصلاة. وأما السعي فعن الإمام أحمد رحمه الله أنه ركن؛ لأن حبيبة بنت أبي تَجْراة قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يسعى: اسعوا فان الله كتب عليكم السعي» (¬3) رواه الإمام أحمد في المسند. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4140) 4: 1598 كتاب المغازي، باب حجة الوداع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 965 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام. (¬2) سبق تخريجه ص: 189. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (27406) 6: 422.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم فطاف المسلمون -تعني بين الصفا والمروة- ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة» (¬1). وعن أحمد رحمه الله: هو سنة؛ لأن الله تعالى قال: {فلا جناح عليه أن يَطَّوف بهما} [البقرة: 158]. وروي أن في مصحف أُبَيّ وابن مسعود: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. وقراءة من ذكر إن لم تكن قرآناً فلا تنحط عن درجة الخبر. ولأنه نسك ذو عدد لا يتعلق بالبيت فلم يكن ركناً كالرمي. واختار القاضي أنه واجب؛ لأنه فعل من أفعال الحج فكان واجباً لا ركناً كطواف الوداع. قال المصنف رحمه الله في المغني: الذي قال القاضي أقرب إلى الحق إن شاء الله تعالى؛ لأن ما روت عائشة رضي الله عنها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دليل وجوبه ولا يلزم كونه ركناً كالرمي والحلق وغيرهما. وقولها: «ما أتم الله حج من لم يطف» (¬2) معارَض بقول غيرها، وحديث حبيبة فيه كلام. ثم هو يدل على أنه مكتوب والواجب مكتوب والآية نزلت؛ «لأن ناساً تحرجوا من السعي لأجل صنمين كانا بين الصفا والمروة» (¬3) كذلك قالت عائشة رضي الله عنها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1277) 2: 928 كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: «قلت لعائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السن أرأيت قول الله تبارك وتعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فلا أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لِمَنَاةَ وكانت مَنَاةُ حذو قُديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}». (1698) 2: 635 أبواب العمرة، باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج.

قال: (وواجباته سبعة: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل، والمبيت بمنى، والرمي، والحلق، وطواف الوداع. وما عدا هذا سنن). أما وجوب الإحرام من الميقات؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المواقيت الخمسة وقال: «هن لهن ولمن مر عليهن» (¬1). ولأنه أحرم من الميقات وكذلك أصحابه (¬2)، وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬3). وأما وجوب الوقوف بعرفة إلى الليل فلأن من أدرك عرفة نهاراً يجب عليه أن يجمع بين جزء من النهار وبين جزء من الليل لما تقدم (¬4). وأما وجوب المبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل فلما تقدم في موضعه قبل (¬5). وأما وجوب المبيت بمنى والرمي والحلق فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك (¬6) وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬7). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 82. (¬2) عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: «انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه وقلد بدنته ... ». أخرجه البخاري في صحيحه (1470) 2: 560 كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر. (¬3) سبق تخريجه ص: 172. (¬4) ص: 190. (¬5) ص: 192. (¬6) سبق ذكر أحاديث المبيت والرمي والحلق في فصل: بقية أعمال الحج ص: 208. (¬7) سبق تخريجه ص: 172.

وأما وجوب طواف الوداع فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت» (¬1) رواه مسلم. وفي حديث ابن عباس: «أن يكون آخر عهده بالبيت» (¬2) متفق عليه. وذُكر كل واحد من الواجبات مستقصى في بابه وموضعه وإنما الغرض هنا بيان التعداد ذلك، وكذلك لم أستقص هنا في الدلالة. ولا بد أن يلحظ أن الوقوف بعرفة إلى الليل إنما يجب في حق من أدرك عرفة نهاراً وأن المبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل إنما يجب في حق من أدرك مزدلفة أول الليل. وقد تقدم ذكر ذلك كله والدليل عليه فيما تقدم ومن (¬3) أراد الوقوف فليعرج إليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 213. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1668) 2: 624 كتاب الحج، باب طواف الوداع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1328) 2: 963 كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

باب الفوات والإحصار

باب الفوات والإحصار قال المصنف رحمه الله: (ومن طلع عليه الفجر يوم النحر ولم يقف بعرفة فقد فاته الحج. ويتحلل بطواف وسعي. وعنه: أنه ينقلب إحرامه لعمرة ولا قضاء عليه إلا أن يكون فرضاً. وعنه: عليه القضاء. وهل يلزمه هدي؟ على روايتين: أحدهما: عليه هدي يذبحه في حجة القضاء إن قلنا عليه قضاء، وإلا ذبحه في عامه). أما فوات الحج لمن طلع عليه الفجر يوم النحر ولم يقف بعرفة فلقول جابر رضي الله عنه: «لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جَمْع. قال أبو الزبير: فقلت له: أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال: نعم» (¬1) رواه الأثرم بإسناده. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاتنا هذه وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه» (¬2) وكانت الصلاة صلاة الفجر من يوم النحر. وأما تحلل من فاته ذلك وهو قول ابن حامد -لا منقول عن الإمام أحمد- فلأن الإحرام انعقد بأحد النسكين فلم ينقلب إلى الآخر كما لو أحرم بالعمرة. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 174 كتاب الحج، باب إدراك الحج بإدراك عرفة قبل طلوع الفجر من يوم النحر. (¬2) سبق تخريجه ص: 189.

ولأنه إذا أحرم بالحج من مكة لم يلزمه الخروج إلى الحل ولو صار معتمراً للزمه ذلك كالمعتمر، وإذا لم ينقلب إحرامه عمرة تعين التحلل بطواف وسعي ليخرج من إحرامه. وأما انقلاب إحرامه عمرة وهو المنصوص عن الإمام أحمد وظاهر كلام الخرقي؛ فلما روى النجاد بإسناده عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فاته الحج فعليه دم وليجعلها عمرة» (¬1). ولما روى الشافعي في مسنده «أن عمر رضي الله عنه قال لأبي أيوب حين فاته الحج: اصنع ما يصنع المعتمر ثم قد حللت» (¬2). ولأنه قول عمر وابنه وابن عباس وزيد بن ثابت ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعاً. ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات فمع الفوات أولى. ولأنه لو بقي في إحرام الحج لزمته أفعاله كالمفسد حجه. ولأنه يفعل أفعال المعتمر خاصة فكان معتمراً كالمحرم بالعمرة. قال أبو الخطاب: فائدة الخلاف أنها إذا صارت عمرة جاز إدخال الحج عليها فيصير قارناً ومن لم يجعله عمرة لم يجز ذلك. وأما وجوب القضاء على من فاته الحج فينظر فيه فإن كان الذي فاته حجة الإسلام لزمه قضاؤها بلا خلاف على معنى أنه يلزمه أن يحج من قابل؛ لأن الحج كان واجباً عليه ولم يأت به على وجهه فلزمه الإتيان به ليخرج عن عهدة الواجب، وإن كان نفلاً ففيه روايتان: أحدهما: يقضيه لما يأتي. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (13683) 3: 219 كتاب الحج، في الرجل إذا فاته الحج ما يكون عليه. وأخرج الدارقطني في سننه عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فاته عرفات فقد فاته الحج وليتحلل بعمرة وعليه الحج من قابل». (22) 2: 241 كتاب الحج، باب المواقيت. (¬2) أخرجه الشافعي في مسنده (990) 1: 384 كتاب الحج، باب أحكام المحصر.

والثانية: لا يقضيه «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحج أكثر من مرة قال: بل مرة واحدة» (¬1) ولو وجب قضاء النافلة كان الحج أكثر من مرة. ولأنها عبادة تطوّع بها فإذا فاتت لم يلزمه قضاؤها كسائر التطوعات. والرواية الأولى أولى. نص عليه ابن عقيل؛ لأن في حديث عطاء المذكور قبل: «الحج من قابل» (¬2). وفي حديث عمر لأبي أيوب: «فإن أدركت الحج قابلاً حج» (¬3). ولأن الحج يلزم بالشروع فيصير كالمنذور بخلاف سائر التطوعات. وأما لزوم الهدي ففيه روايتان: أحدهما: لا يلزم؛ لأنه لو كان الفوات سبباً لوجوب الهدي للزم المحصر هديان للفوات والإحصار. والرواية الثانية: يلزمه هدي؛ لأن في حديث عطاء: «من فاته الحج فعليه دم» (¬4). ولأنه قول من تقدم ذكره من الصحابة. قال المصنف رحمه الله في المغني: وهي الصحيحة. فعلى هذا إن قلنا يقضي ذبحه في سنة القضاء نص عليه لما روى سليمان بن يسار (¬5) «أن هبار بن الأسود حج من الشام فقدم يوم النحر. فقال له عمر: انطلق إلى البيت فطف به سبعاً وإن كانت معك هدية فانحرها ثم إذا كان عام قابل فاحجج وإن وجدت سعة فاهد وإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت» (¬6). وإن قلنا لا قضاء عليه ذبحه في عامه؛ لأنه لا معنى لتأخيره. قال: (وإن أخطا الناس فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم، وإن أخطأ بعضهم فقد فاته الحج). أما الإجزاء إذا أخطأ الناس؛ فلأنه لا يؤمن مثله في القضاء فيشق. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه من حديث أبي هريرة ص: 69. (¬2) سبق تخريج حديث عطاء قريباً. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) سبق تخريج حديث عطاء ص: 226. (¬5) في ج: سليمان بن دينار. (¬6) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 174 كتاب الحج، باب ما يفعل من فاته الحج.

وأما فوات الحج إذا أخطأ البعض فلأن الخطأ من تفريطهم ولهذا قال عمر رضي الله عنه لهبار: «وما حبسك؟ قال: كنت أحسب أن اليوم يوم عرفة» (¬1) فلم يعذره بذلك. قال: (ومن أحرم فحصره عدو ولم يكن له طريق إلى الحج ذبح هدياً في موضعه وحل، فإن لم يجد هدياً صام عشرة أيام ثم حل، ولو نوى التحلل قبل ذلك لم يحلّ، وفي وجوب القضاء على المحصر روايتان). أما ذبح المحرم هدياً إذا حصره عدو في الجملة فلقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما حصروا بالحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا» (¬2). وأما حله بعد ذلك فلما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بذلك. ولأن الحاجة داعية إلى الحل لما في تركه من المشقة العظيمة المنفية شرعاً. ولا فرق في الإحصار بين الحج والعمرة لعموم الآية. ولأن الصحابة رضي الله عنهم حلوا في الحديبية (¬3) وكانت عمرة. وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه خرج في الفتنة معتمراً وقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬4) متفق عليه. وأما ما يشترط للحل فشروط: أحدها: أن لا يجد طريقاً أخرى فلو أمكنه الوصول من طريق أخرى لزمه سلوكها ولم يجز له التحلل سواء كان أبعد من طريق الحصر أو مثله؛ لأنه أمكنه الوصول أشبه ما لم يحصره أحد. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2581) 2: 974 كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط. (¬3) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1718) 2: 643 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب من قال ليس على المحصر بدل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1230) 2: 903 كتاب الحج، باب بيان جواز التحلل بالإحصار وجواز القران.

الثاني: أن ينحر هديه إن كان معه وإلا اشتراه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل وهكذا أمر الصحابة (¬1). الثالث: أن يحصر ظلماً كحصر الكفار وقطاع الطريق ومانعي الوصول إلى المناهل ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حصروا ظلماً فلو منعه من له عليه دين وهو قادر على أدائه لم يكن له التحلل؛ لأنه لا عذر له في الحبس فكان الحصر من نفسه. الرابع: الحلق إن قلنا هو نسك ولم يذكره المصنف رحمه الله وظاهره عدم اشتراطه. فعلى هذا يحصل التحلل للمحصر بالنية والنحر أو بدله وبالنية والنحر أو بدله والحلق على الخلاف المتقدم في كونه نسكاً. فإن قيل: لم اشترطت النية هنا دون ما تقدم؟ قيل: لأن من أتى بأفعال الحج فقد أتى بما عليه فيتحلل منها بإكمالها فلم يحتج إلى نية بخلاف المحصر فإنه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها فافتقرت إلى قصده. ولأن الذبح يكون لغير التحلل فلم يتخصص إلا بالقصد بخلاف الرمي فإنه لا يكون إلا للنسك فلم يحتج إلى القصد. وأما صيام عشرة أيام إذا لم يجد الهدي فلما تقدم في باب الفدية (¬2)، وفي حديث عمر لهبار. وأما عدم حله إذا نوى التحلل قبل الذبح أو الصوم فلأن الهدي أو الصوم أقيم مقام أفعال الحج فلم يحل قبله كما لا يتحلل القادر على أفعال الحج قبلها ولا يلزمه بهذه النية فدية؛ لأنها لا تؤثر في العبادة. وإن فعل شيئاً من المحظورات قبل النحر فعليه فدية؛ لأنه باق على إحرامه. وأما وجوب القضاء على المحصر ففيه روايتان: أحدهما: يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل (¬3) وسميت عمرة القضية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2581) 2: 974 كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط. (¬2) ص: 130. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4006) 4: 1552 كتاب المغازي، باب عمرة القضاء.

ولأنه تحلَّلَ من إحرمه قبل إتمامه فلزمه القضاء كما لو فاته الحج. والثانية: لا يجب؛ لأن الذين صدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ألفاً وأربعمائة والذين اعتمروا معه من قابل كانوا يسيراً ولم ينقل أنه أمر الباقين بالقضاء. ولأنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت فلم يجب عليه القضاء كما لو دخل في الصوم يعتقد أنه واجب فلم يكن. وتفارق هذه المسألة مسألة من فاته الحج بأن من فاته مقصّر بخلاف المحصر. قال: (فإن صد عن عرفة دون البيت تحلل بعمرة ولا شيء عليه). أما تحلل من صد عن عرفة دون البيت بعمرة فلأنه يمكنه (¬1) أن يأتي بعمل العمرة. فعلى هذا يتحلل بطواف وسعي وحلق. وأما كونه لا شيء عليه (¬2). قال: (ومن أحصر بمرض أو ذهاب نفقة لم يكن له التحلل، وإن فاته الحج تحلل بعمرة. ويحتمل أن يجوز له التحلل كمن حصره العدو). أما كون المحصر بما ذكر ليس له التحلل على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير فقالت: إني أريد الحج وأنا شَاكِيةٌ فقال: حُجي واشترطي أن محلي حيث حَبستني» (¬3) فلو كان المرض يبيح الإحلال ما احتاجت إلى شرط. ولأن ذلك قول ابن عباس وابن عمر. ولأنه لا يستفيد بإحلاله الانتقال من حاله ولا التخلص من الداء الذي به بخلاف المحصر بالعدو. ¬

_ (¬1) في ج: لا يمكنه. (¬2) بياض في ج مقدار سطر. (¬3) سبق تخريجه ص: 88.

وأما احتمال جواز ذلك لمن حصره عدو؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى» (¬1) رواه مسلم. ولأنه محصور فيدخل في عموم الآية. ولأنه مصدود عن البيت أشبه من صده العدو. والأول أولى لما تقدم. وقوله: «من كسر أو عرج» (¬2) متروك الظاهر؛ لأن مجرد الكسر لا يصير به حلالاً وإن حمل على أنه يبيح حملناه على ما إذا اشترط التحلل بذلك، والعموم مخصوص بحديث ضباعة، والقياس على من حصره عدو لا يصح لما ذكرنا من الفرق. فعلى هذا يبعث ما معه من الهدي ليذبح بمكة وليس له ذبحه في مكانه؛ لأنه لم يبح له التحلل بخلاف المحصر. وإن فاته الحج تحلل بعمرة كسائر من فاته الحج. وعلى قولنا: له التحلل حكمه حكم المحصر؛ لأنه في معناه. قال: (ومن شرط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني فله التحلل بجميع ذلك ولا شيء عليه). أما جواز التحلل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير: «حجي واشترطي» (¬3) فلو لم يجز التحلل مع الاشتراط لم يكن فيه فائدة. ولأن الشرط له تأثير في العبادات بدليل أنه لو قال: إن شفى الله مريضي صمت شهراً فإنه يلزم بوجود الشرط ويعدم بعدمه. وأما كونه لا شيء عليه فلأنه صار بمنزلة من أكمل أفعال الحج. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1862) 2: 173 كتاب المناسك، باب باب الإحصار. وأخرجه الترمذي في جامعه (940) 3: 277 كتاب الحج، باب ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج. وأخرجه النسائي في سننه (2861) 5: 198 كتاب مناسك الحج، فيمن أحصر بعدو. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3077) 2: 1028 كتاب المناسك، باب المحصر. ولم أره في مسلم. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) سبق تخريجه ص: 88.

وقوله: لا شيء عليه يشمل القضاء والهدي. والله تعالى أعلم.

باب الهدي والأضاحي

باب الهدي والأضاحي الهدي: ما يذبح بمنى. سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله تعالى. وهو مشروع؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة» (¬1). والأضاحي: جمع أضحية. وهي: ما يذبح يوم النحر وأيام التشريق على وجه التقرب إلى الله تعالى. وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]. وأما السنة فلما روى أنس رضي الله عنه قال: «ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين. ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما» (¬2). والأملح: الذي فيه بياض وسواد وبياضه أغلب. قاله الكسائي وأبو زيد. وقال ابن الأعرابي: هو النقي البياض. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1631) 2: 613 كتاب الحج، باب يتصدق بجلال البدن، عن علي رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، عن جابر رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5245) 5: 2114 كتاب الأضاحي، باب التكبير عند الذبح. وأخرجه مسلم في صحيحه (1967) 3: 1557 كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية ...

قال الشاعر: حتى اكتسى الرأس قناعاً أشيبا ... أملح لا لداً ولا محببا وأما الإجماع فأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية في الجملة. قال المصنف رحمه الله: (والأفضل فيها الإبل ثم البقر ثم الغنم والذكر والأنثى سواء). أما كون الأفضل في الهدايا والضحايا الإبل ثم البقر ثم الغنم فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من راح في الساعة الأولة فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشاً ... مختصر» (¬1). متفق عليه. ولأنه يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنه قال لامرأة: عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك. قالت: أي النسك أفضل؟ قال: إن شئت فناقة وإن شئت فبقرة. قالت: أي ذلك أفضل؟ قال: انحري ناقة» (¬2). ولأن ما كان أكبر كان أوفر لحماً وأنفع للفقراء فكان أفضل لازدياد نفعه. وأما كون الذكر والأنثى سواء والمراد به في الإجزاء والفضيلة: أما في الإجزاء فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى جملاً لأبي جهل في أنفه برة من فضة» (¬3). رواه ابن ماجة. وأما في الفضيلة فلأن المقصود هنا اللحم ولحم الذكر أطيب والأنثى أرطب فيتساويان. بخلاف الزكاة فإن المقصود فيها الدر والنسل فلذلك كانت الأنثى فيها أفضل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (841) 1: 301 كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (850) 1: 582 كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 172 كتاب الحج، باب المعتمر لا يقرب امرأته ما بين أن يهل إلى أن يكمل. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1749) 2: 145 كتاب المناسك، باب في الهدي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3100) 2: 1035 كتاب المناسك، باب الهدي من الإناث والذكور.

قال: (ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن وهو ما له ستة أشهر والثني مما سواه. وثني الإبل ما كمل له خمس سنين ومن البقر ما له سنتان ومن المعز ما له سنة). أما عدم إجزاء غير الجذع من الضأن فلأنه لو أجزأ لما كان لتخصيص الجذع بالذكر فيما يأتي من الحديث فائدة. وأما عدم إجزاء غير الثني من المعز «فلأن أبا بُردة بن نِيَارٍ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: عندي جَذعة من المعز هي أحَبُّ إليَّ من شاتين فهل تجزئ عني؟ قال: نعم ولا تجزئ عن أحد بعدك» (¬1) متفق عليه. وأما إجزاء الجذع من الضأن فلما روت أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يجوز الجذع من الضأن أضحية» (¬2) رواه ابن ماجة. والهدي مثله. وعن مجاشع بن سليم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني» (¬3) رواه أبو داود. فإن قيل: هذا يدل على إجزاء الجذع من كل جنس. قيل: الإطلاق هنا يجب حمله على المقيد في حديث أم بلال؛ لأن المطلق يجب حمله على المقيد لما في الجمع بينهما من العمل بهما. وأما إجزاء الثني من غيرهما فلأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يذبحونه. وأما كون الجذع من الضأن ما له ستة أشهر والثني من الإبل ما كمل له خمس سنين ودخل في السادسة فلأن الأصمعي وغيره قالوا ذلك. وسمي بذلك؛ لأنه حينئذ يلقي ثنيته. وأما كون الثني من البقر ما له سنتان فلأن المسنة تجزئ لما تقدم في الحديث وهي ما لها سنتان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (912) 1: 325 كتاب العيدين، باب الأكل يوم النحر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1961) 3: 1552 كتاب الأضاحي، باب وقتها. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (3139) 2: 1049 كتاب الأضاحي، باب ما يجزئ من الأضاحي. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2799) 3: 96 كتاب الضحايا، باب ما يجوز من السن في الضحايا.

قال: (وتجزئ الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة سواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم والباقون اللحم). أما إجزاء الشاة عن واحد فلا شبهة فيه لحصول الوفاء بذلك والخروج به عن عهدة الأمر المطلق الوارد في الكتاب والسنة، وتطابَق الخَلْق على الاكتفاء بها. وأما إجزاء البدنة والبقرة عن سبعة فلما روى جابر رضي الله عنه قال: «كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها» (¬1). وفي لفظ: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة» (¬2) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن» (¬3) رواه ابن ماجة. وأما التسوية في الإجزاء بين قصد الجميع القربة وبين قصد بعضهم القربة والباقين اللحم فلأن الجزء المجزئ لا ينتقص بإرادة الشريك غير القربة فوجب أن يجزئ كما لو اختلفت جهات القرب فأراد بعضهم المتعة والآخر قران. قال: (ولا يجزئ فيهما العوراء البين عورها وهي: التي انخسفت عينها، ولا العجفاء التي لا تنقى وهي: الهزيلة التي لا مخ فيها، والعرجاء: البين طلعها فلا تقدر على المشي مع الغنم، والمريضة البين مرضها، والعضباء وهي: التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها. وتكره المعيبة الأذن بخرق أو شق أو قطع لأقل من النصف). أما عدم إجزاء العوراء والعجفاء والعرجاء والمريضة الموصوفات بما ذكره المصنف رحمه الله فلما روى البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1318) 2: 956 كتاب الحج، باب الاشتراك في الهدي ... (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1318) 2: 955 كتاب الحج، باب الاشتراك في الهدي ... (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1751) 2: 145 كتاب المناسك، باب في هدي البقر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3133) 2: 1047 كتاب الأضاحي، باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة.

فقال: أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة التي لا تُنْقي ... مختصر» (¬1). رواه أبو داود والنسائي. وفي تقييد المصنف رحمه الله العوراء: بكونها بيناً عورها، والعجفاء: بكونها لا تنقي، والعرجاء: بكونها بيناً ضلعها، والمريضة: بكونها بيناً مرضها إشعار بأنها إذا لم تكن كذلك تجزئ. أما العوراء فلأنها إذا لم يكن عورها بيناً مثل إن كانت عينها قائمة لم يذهب منها عضو مستطاب بخلاف البينة العور فإنه يذهب منه عضو مستطاب وهو شحمة العين. وأما العجفاء فلأنها إذا كان فيها نُقي وهو المخ تكون قريبة من غيرها بخلاف التي لا مخ فيها. وأما العرجاء التي لا يكون ضلعها بيناً فلأنها تقدر على المشي بخلاف التي ضلعها بين. وأما المريضة التي لا يكون مرضها بيناً فلأنها قريبة من الصحيحة، وكذلك المرض اليسير لا يجوز معه الترخص بخلاف المرض الكثير. وأما قول المصنف رحمه الله: وهي التي انخسفت عينها فتفسير للعوراء البين عورها. وأما قوله: وهي الهزيلة التي لا مخ فيها فتفسير للعجفاء. وأما قوله: فلا تقدر على المشي مع الغنم فتفسير للعرجاء البين ضلعها. وأما عدم جواز العضباء فلما روي عن علي رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب الأذن والقرن» (¬2). رواه النسائي. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2802) 3: 97 كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا. وأخرجه النسائي في سننه (4369) 7: 214 كتاب الضحايا، ما نهي عنه من الأضاحي. وفي ج: الكبيرة التي لا تنقي، وما أثبتناه من النسائي، وفي أبي داود: والكسير. ومعنى لا تُنقي: أي لا نقي لها أي لا مخ لها لضعفها وهزالها. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2805) 3: 97 كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا. وأخرجه الترمذي في جامعه (1504) 4: 90 كتاب الأضاحي، باب في الضحية بعضباء القرن والأذن. وأخرجه النسائي في سننه (4377) 7: 217 كتاب الضحايا، العضباء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3145) 2: 1051 كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به. وأخرجه أحمد في مسنده (1158) 1: 137.

وأما قول المصنف رحمه الله: وهي التي ذهب أكثر أذنها فتفسير للعضب، وفي تكملة الحديث المتقدم: «قال قتادة: سألت سعيد بن المسيب فقال: نعم العضب: النصف فأكثر من ذلك» (¬1). وأما كراهة المعيبة الأذن بخرق أو شق أو قطع لأقل من النصف فلقول علي: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَستشرِفَ العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابَلةٍ ولا مُدابَرة ولا خَرقاء ولا شَرقَاء. قال أبو إسحاق السبيعي: المقابلة تقطع طرف الأذن. والمدابرة تقطع من مؤخر الأذن. والخرقاء تشق الأذن. والشرقاء تشق أذنها للسمة» (¬2). رواه أبو داود. فإن قيل: لم حمل هذا النهي على الكراهة؟ قيل: لأن ما ذكر لا ينقص اللحم ويمكن التحرز منه. قال: (وتجزئ الجماء والبتراء والخصي. وقال ابن حامد: لا تجزئ الجماء). أما إجزاء الجماء -وهي: التي لم يخلق لها قرن- على قول غير ابن حامد فلأن عدم ذلك لا ينقص اللحم ولا يخل بالمقصود ولم يرد فيه نهي. وأما عدم إجزائها على قول ابن حامد فلأن ما ذهب نصف قرنها لا تجزئ فالتي لا قرن لها بالكلية أولى أن لا تجزئ. والأول أولى لما ذكر. والفرق بين التي كسر قرنها وبين التي لم ينبت لها قرن أن التي كسر قرنها يكون كسره سبباً لنقصان لحمها ظاهراً بخلاف التي لم ينبت لها قرن. وأما إجزاء البتراء وهي: التي لا ذنب لها فلما ذكر في التي لا قرن لها. وأما إجزاء الخصي فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوئين» (¬3). ¬

_ (¬1) تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2804) 3: 97 كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا. وأخرجه الترمذي في جامعه (1498) 4: 86 كتاب الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (21761) 5: 196. عن أبي الدرداء.

والموجوء: المرضوض الخصيتين. وسواء في ذلك ما قطعت خصيتاه أو رضت بيضتاه أو سُلّتا؛ لأنه عضو غير مستطاب وبذهابه يطيب اللحم ويسمن. قال: (والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر. ويذبج البقر والغنم. ويقول عند ذلك: بسم الله والله أكبر. اللهم! هذا منك ولك). أما مسنونية نحر الإبل وذبح البقر والغنم فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينحر الإبل ويذبح غيرها». ولذلك لما كانت أكثر أموال العرب الإبل قال الله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]، ولما كانت غالب أموال بني إسرائيل البقر قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67]. وأما مسنونية نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فـ «لأن ابن عمر رضي الله عنهما مر على رجل قد أناخ بدنة لينحرها فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1) متفق عليه. وأما قول المصنف رحمه الله: فيطعنها بالحربة فصفة للنحر. وأما كون ذلك في الوهدة المذكورة فلأن عنق البعير طويلة فلو طعن بالقرب من رأسه لحصل له تعذيب عند خروج روحه. وفي مسنونية نحر الإبل وذبح غيرها إشعار بجواز ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح وهو صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمْرِر الدم بما شئت» (¬2). وعن أسماء رضي الله عنها قالت: «نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1627) 2: 612 كتاب الحج، باب نحر الإبل مقيدة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1320) 2: 956 كتاب الحج، باب نحر البدن قياماً مقيدة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2824) 3: 102 كتاب الضحايا، باب في الذبيحة بالمروة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3177) 2: 1060 كتاب الذبائح، باب ما يذكى به. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5200) 5: 2101 كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الخيل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1942) 3: 1541 كتاب الذبائح والصيد، باب في أكل لحوم الخيل.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة واحدة» (¬1). وأما مسنونية قوله عند النحر والذبح: بسم الله والله أكبر اللهم! هذا منك ولك فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال: بسم الله والله أكبر» (¬2). وفي لفظ: «اللهم! منك ولك عن محمد وأمته. بسم الله والله أكبر ثم ذبح» (¬3) رواه أبو داود. قال: (ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم. وإن ذبحها بيده كان أفضل فإن لم يفعل استحب أن يَشْهدها). أما عدم استحباب أن يذبحها غير مسلم فلأن الذبح قربة فلا ينبغي أن يليه غير أهل القربة. وفي قول المصنف رحمه الله: ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم إشعار بأنه لو ذبحها غير مسلم ممن تباح ذبيحته أجزأ. وصرح غيره من الأصحاب بأن الكتابي إذا ذبحها فيه روايتان: أحدهما: لا يجزئ لأن في حديث ابن عباس: «ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر». ولأنه قربة فلا يليها غير أهلها. ولأن الشحوم مما يذبحونه تحرم علينا في رواية. والثانية: تجزئ وهي الصحيحة؛ لأن من جاز له ذبح غير الأضحية جاز له ذبح الأضحية كالمسلم. ولأن الكافر يجوز أن يتولى ما هو قربة كبناء المساجد والقناطر. والحديث محمول على الأولى ونحن نقول به، وتحريم الشحوم ممنوع. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1750) 2: 145 كتاب المناسك، باب في هدي البقر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3135) 2: 1047 كتاب الأضاحي، باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة. وأخرجه أحمد في مسنده (26152) 6: 248. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2810) 3: 99 كتاب الضحايا، باب في الشاة يضحي بها عن جماعة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1521) 4: 100 كتاب الأضاحي، باب. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2795) 3: 95 كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا.

وأما كون ذبحها بيده أفضل فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر من هديه ثلاثاً وستين بدنة بيده» (¬1). و«ذبح كبشين في الأضحية بيده» (¬2). ولأن فعل القربة أولى من الاستنابة. وأما استحباب حضورها إذا لم يذبحها بنفسه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: «احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها» (¬3). وفي حديث ابن عباس الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم: «واحضروها إذا ذبحتم فإنه يغفر لكم عند أول قطرة من دمها». قال: (ووقت الذبح يوم العيد بعد الصلاة أو قدرها إلى آخر يومين من أيام التشريق ولا يجزئ في ليلتهما في قول الخرقي. وقال غيره: يجزئ. فإن فات الوقت ذبح الواجب قضاء وسقط التطوع). أما أول وقت الذبح فظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا إذا مضى أحد أمرين من صلاة العيد وقدرها لأنه ذكر ذلك بلفظ أو وهي للتخيير، ولم يفرق بين من تقام صلاة العيد في موضع ذبحه أو لم تقم لأن الذبح عبادة يتعلق آخرها بالوقت فتعلق أولها بالوقت كالصوم. فعلى هذا إذا ذبح بعد الصلاة وقبل الخطبة أو بعد قدر الصلاة وقبل قدر الخطبة يجزئ؛ لأنه لم يشترط مضيّ الخطبة أو قدرها؛ لأن خطبة العيد سنة وليست واجبة فلم يشترط مضيها ولا مضي قدرها بخلاف الصلاة فإنها فرض كفاية. وقال الخرقي: يشترط مضي قدر الخطبة قياساً على مضي قدر الصلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5245) 5: 2114 كتاب الأضاحي، باب التكبير عند الذبح. وأخرجه مسلم في صحيحه (1967) 3: 1557 كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل والتسمية والتكبير. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 283 كتاب الضحايا، باب ما يستحب للمرء من أن يتولى ذبح نسكه أو يشهده. وأخرجه الحاكم في المستدرك (7525) 4: 247 كتاب الأضاحي.

وقد تقدم التنبيه على الفرق. وظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله: أن من كان في مصر لا يذبح حتى يصلي وهو الصحيح؛ لما روى جندب بن عبدالله البجلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى» (¬1). وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن ذبح قبل الصلاة فلا نسك له» (¬2) متفق عليهما. وفي لفظ: «إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فمن ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم» (¬3). فعلى هذا إنما تعتبر الصلاة في حق أهل المصر والقرية التي يصلى فيها. فأما الموضع الذي لا يصلى فيه عيد فيعتبر مضي قدر الصلاة أو قدر الصلاة والخطبة على ما تقدم لأنه لا صلاة لهم فاعتبارها مع عدمها متعذر. وهذا في اليوم الأول فأما الثاني والثالث فيجوز من أول النهار لعدم الصلاة فيه. وأما آخره فآخر اليوم الثاني من أيام التشريق فتكون أيام النحر ثلاثة. قال الإمام أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. و«لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث» (¬4) ويستحيل أن يباح ذبح الأضحية في وقت يحرم أكلها فيه. ثم رخص في الأكل ولم ينقل تغيير وقت الذبح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5181) 5: 2071 كتاب الذبائح والصيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فليذبح على اسم الله». (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (940) 1: 334 كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1961) 3: 1553 كتاب الأضاحي، باب وقتها. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (922) 1: 328 كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد. وأخرجه مسلم في صحيحه (1961) 3: 1553 كتاب الأضاحي، باب وقتها. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (5249) 5: 2115 كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1972) 3: 1562 كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث ...

وأما عدم إجزاء الذبح في ليلتي يومي الذبح المتقدم ذكرهما عند الخرقي فلأن الله تعالى قال: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 28] واليوم اسم لبياض النهار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن الذبح بالليل» (¬1). ولأن الليل يتعذر فيه تفريق اللحم في الغالب فلا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود. وذكر المصنف رحمه الله في المغني: أن قول الخرقي منصوص أحمد. رواه الأثرم عنه. وأما الإجزاء على قول غير الخرقي فلأن الليل زمن يصح فيه الرمي فصح فيه الذبح كالنهار. وقال المصنف رحمه الله في المغني: أكثر من علمته من أصحابنا يذكرون رواية أنه يجوز الذبح بالليل ويختارونها. وأما ذبح الواجب قضاء إذا فات الوقت فلأن الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كما لو ذبحها ولم يفرق لحمها حتى يخرج الوقت. وأما سقوط التطوع فلأن المحصل لتلك الفضيلة ذلك الزمان بدليل ما لو ذبحها قبل العيد فإذا فات سقط لفوات شرطه. قال: (ويتعين الهدي بقوله: هذا هدي أو تقليده وإشعاره مع النية. والأضحية بقوله: هذه أضحية. ولو نوى حال الشراء لم يتعين بذلك). أما تعين الهدي بقوله: هذا هدي فلأنه لفظ يقتضي الإيجاب فوجب أن يترتب عليه مقتضاه كلفظ الوقف. ¬

_ (¬1) ذكره ابن حجر في تلخيصه وعزاه إلى الطبراني من حديث ابن عباس، قال: وفيه سليمان بن سلمة الخبائري، وهو متروك. 4: 260. وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى (9: 290) عن الحسن: «نهي عن جداد الليل، وحصاد الليل، والأضحى بالليل».

وأما تعينه بتقليده وإشعاره مع النية فلأن ذلك بمنزلة ما لو بنى مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه. وأما تعين الأضحية بقوله: هذه أضحية فلما تقدم في الهدي. وأما عدم تعين الهدي والأضحية بنية ذلك حال الشراء فلأن جعلها المشتري هدياً أو أضحية إزالة ملك على وجه القربة فلم تؤثر النية المقارنة للشراء فيه كالعتق والوقف. قال: (وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها إلا أن يبدلها بخير منها. وقال أبو الخطاب: لا يجوز أيضاً). أما عدم جواز بيع ما تعين وهبته فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقسم جلودها وجلالها ونهى أن يعطى الجازر منها شيئاً» (¬1) فلأن لا يجوز بيعها وهبتها المزيلان للملك بالكلية بطريق الأولى. ولأنه جعل ذلك لله فلم يجز بيعه ولا هبته كالوقف. وأما الإبدال فالمنصوص عن الإمام أحمد أنه يجوز بخير منها؛ لأنه عدل عن المعين إلى خير منه من جنسه فأجزأ عنه كما لو وجب عليه بنت لبون في الزكاة فأخرج حقة. وقال أبو الخطاب: لا يجوز؛ لأنه نوع تصرف فلم يجز كالبيع. وقول المصنف رحمه الله: بخير منها يدل بمفهومه على أنه لا يجزئ بمثلها ولا دونها وهو صحيح؛ لأنه لا فائدة في الإبدال. وذكر القاضي في إبدالها بمثلها احتمالين: أحدهما: يجوز؛ لأنه لا ينقص مما وجب عليه شيء. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يغير ما عينه لغير فائدة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1630) 2: 613 كتاب الحج، باب يتصدق بجلود الهدي. وأخرجه مسلم في صحيحه (1317) 2: 954 كتاب الحج، باب في الصدقة بلحوم الهدى وجلودها وجلالها.

قال: (وله ركوبها عند الحاجة ما لم يضر بها). أما جواز ركوبها عند الحاجة في الجملة؛ فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة. فقال: اركبها. فقال: إنها بدنة. فقال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة» (¬1) متفق عليه. وأما ما يشترط لجواز ذلك فأمران: أحدهما: دعوة الحاجة لأن في حديث آخر قال: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً» (¬2) رواه أبو داود. وثانيهما: عدم الإضرار بها؛ لأن ركوبها إذا كان يضر بها يؤدي إلى ضرر الفقراء وذلك غير جائز. قال: (وإن ولدت ذبح ولدها معها، ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها. ويجز صوفها ووبرها ويتصدق به إن كان أنفع لها. ولا يعطى الجازر بأجرته شيئاً منها). أما ذبح ولدها معه وعدم الشرب من لبنها إلا الفاضل عن ولدها فلما روي «أن علياً رضي الله عنه جاءه رجل يسوق بقرة معها عجل لها. فقال: يا أمير المؤمنين! إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها وإنها وضعت هذا العجل. فقال علي رضي الله عنه: لا تحلبها إلا فضلاً عن ولدها فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة» (¬3) رواه سعيد بن منصور. ولأن شرب اللبن الفاضل انتفاع لا يضر بها ولا بولدها أشبه الركوب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5808) 5: 2280 كتاب الأدب، باب ما جاء في قول الرجل: ويلك. وأخرجه مسلم في صحيحه (1322) 2: 960 كتاب الحج، باب جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1761) 2: 147 كتاب المناسك، باب في ركوب البدن. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 288 كتاب الضحايا، باب ما جاء في ولد الأضحية ولبنها. وأخرجه الرزاي في علل الحديث (1619) 2: 46 علل أخبار في الأضاحي والذبائح.

وأما جواز جز صوفها ووبرها إن كان أنفع لها مثل أن يكون زمن الربيع فتخف بجزه وتسمن فلأن ذلك لمصلحتها. فعلى هذا يتصدق به كما لو أخذه بعد الذبح. وفي تقييد جواز ذلك بكونه أنفع لها إشعار بأنه إذا كان الجز يضر بها لكون الصوف والوبر يقيها الحر والبرد لم يجز وهو صحيح؛ لأنه حينئذ قطع شيء يضر بها فلم يجز كما لا يجوز قطع بعض أعضائها. وأما عدم إعطاء الجازر بأجرته شيئاً منها فلأن علياً رضي الله عنه قال: «أمرني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أعطي الجازر منها شيئاً. وقال: نحن نعطيه من عندنا» (¬1). ولأنه إذا أعطاه ذلك أجرة كان بمنزلة المعاوضة، والمعاوضة في ذلك غير جائزة لما تقدم. وقول المصنف رحمه الله: بأجرته فيه تنبيه على جواز إعطائه لغير ذلك مثلاً: أن يكون فقيراً أو ممن يهدى إليه؛ لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره بل أولى؛ لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها. فإن قيل: الحديث شامل للأجرة وغيرها. قيل: المراد الأجرة لأن في قوله: «نحن نعطيه من عندنا» دليلاً على إرادتها. قال: (وله أن ينتفع بجلدها وجلها ولا يبيعه ولا شيئاً منها). أما جواز الانتفاع بجلد الأضحية فلأنه جزء منها فجاز للمضحي فعله كاللحم، وقد روي عن عكرمة ومسروق رضي الله عنهما «أنهما كانا يدبغان جلد أضحيتهما ويصليان عليه». وأما جواز الانتفاع بجلها فلأنه إذا جاز الانتفاع بجلدها فلأن يجوز الانتفاع بالجل بطريق الأولى. وأما عدم جواز بيع جلد الأضحية أو شيء منها فلما تقدم في بيع الأضحية وهبتها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1630) 2: 613 كتاب الحج، باب يتصدق بجلود الهدي. وأخرجه مسلم في صحيحه (1317) 2: 954 كتاب الحج، باب في الصدقة بلحوم الهدى وجلودها وجلالها.

وإنما نص المصنف رحمه الله على عدم جواز بيعه وهبته مع أن ما تقدم يدل عليه؛ رفعاً لتوهم الفرق بن حياة الأضحية وذبحها. وذهب إليه الحسن البصري والنخعي فإنهما قالا: يباع الجلد ويشترى به الغربال والمنخل وآلة البيت. والأولى عدم جواز البيع لما ذكر قبل؛ لأنه شيء ينتفع به هو وغيره ويجري مجرى لحمها. وأما الجل فما تجلل به. قال: (وإن ذبحها فسرقت فلا شيء عليه فيها، وإن ذبحها ذابح في وقتها بغير إذن أجزأت ولا ضمان على ذابحها). أما عدم وجوب شيء على من سرقت أضحيته بعد ذبحها فلأنها أمانة في يده فلم تضمن بالسرقة كالوديعة. وأما إجزاء ذبحها إذا ذبحها ذابح في وقتها بغير إذن فلأن الذبح لا يفتقر إلى نية فإذا فعلها الغير أجزأت كإزالة النجاسة. وأما عدم الضمان على الذابح فلأنها وقعت موقعها فلم يضمن ذابحها كما لو كان بإذن. ولأنه إراقة دم متعين لحق الله تعالى فلم يضمن ذابحها كقاتل المرتد بغير إذن الإمام. قال: (وإن أتلفها أجنبي فعليه قيمتها، وإن أتلفها صاحبها ضمنها بأكثر الأمرين من مثلها أو قيمتها، فإن ضمنها بمثلها وأخرج فضل القيمة جاز ويشتري به شاة أو سبع بدنة، فإن لم يبلغ اشترى به لحماً فتصدق به أو يتصدق بالفضل. وإن تلفت بغير تفريطه لم يضمنها). أما ضمان الأجنبي الأضحية التي أتلفها بقيمتها فلأنها من المتقومات. وتعتبر القيمة يوم التلف لأنه لو أتلف غير الأضحية لاعتبر ذلك فكذلك الأضحية. وأما صاحبها فقال أبو الخطاب: يلزمه أكثر الأمرين مما ذكر لأنه تعلق به حق الله تعالى في ذبحها فوجب عليه أكثر الأمرين ليوفي بحق الله تعالى فيها.

وقال القاضي: لا يلزمه إلا القيمة كالأجنبي. والأول أولى؛ لما ذكر قبل بخلاف الأجنبي. وأما جواز إخراج فضل القيمة إذا ضمنها بمثلها فلأن ذلك بمنزلة ما لو أخرج في الزكاة عن الجياد مكسرة وأخرج الفضل. فإن قيل: ما مثال فضل القيمة عن المثل؟ قيل: أن تكون الأضحية يوم الإتلاف تساوي عشرة فصار مثلها يساوي خمسة فإذا اشترى مثلها بخمسة بقي عليه خمسة. فإن قيل: بقاء الخمسة المذكورة عليه على قولنا يلزمه أكثر الأمرين أو على قولنا يلزمه قيمتها؟ قيل: بل ذلك عليه على القولين جميعاً. ولذلك قال المصنف رحمه الله في المغني في هذه الصورة: تلزمه عشرة وجهاً واحداً. وهو صحيح لأن من قال تلزمه القيمة فالقيمة عشرة، ومن قال يلزمه أكثر الأمرين فالقيمة هنا أكثر الأمرين. وأما ما يصنع بالفضل فنقول: إن أمكنه أن يشتري شاة أو سبع بدنة كما في هذه الصورة لزمه؛ لأن الذبح مقصود في الأضحية فإذا أمكنه الإتيان به لزمه وإن لم يتسع الفضل لشاة أو سبع بدنة فظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا: أنه يتخير بين شراء لحم وبين التصدق بالفضل لأنه ذكره بلفظ أو المقتضية للتخيير وفي المسألة وجهان: أحدهما: كما ذكر المصنف رحمه الله؛ لأنه إذا لم يحصل له التقرب بإراقة الدم كان اللحم وثمنه سواء. الثاني: يتعين عليه شراء اللحم مع القدرة عليه؛ لأن الذبح وتفرقة اللحم مقصودان فإذا تعذر أحدهما وجب الآخر وهكذا حكم الأجنبي إذا لم تبلغ القيمة ثمن أضحية. وأما عدم الضمان إذا تلفت بغير تفريط فلما تقدم من أنها أمانة فلم يضمنها بغير تفريط كالوديعة.

قال: (وإن عطب الهدي في الطريق نحره موضعه وصبغ نعله التي في عنقه في دمه وضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء فيأخذوه، ولا يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته). أما نحره الهدي المذكور وفعله ما ذكر وعدم جواز الأكل له ولأحد من رفقته فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن ذؤيباً أبا قبيصة حدثه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتاً فانحرها. ثم اغمس نعلها في دمها. ثم اضرب به صفحتها. ولا تَطْعَمْها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» (¬1) أخرجه مسلم. فإن قيل: فقد روى صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قال: يا رسول الله! كيف أصنع بما عطب من الهدي؟ قال: انحره ثم اغمس قلائده في دمه ثم اضرب بها صفحة عنقه ثم خل بينه وبين الناس» (¬2). فقوله: خل بينه وبين الناس يدل على تسوية الرفقة بالأجانب وهذا الحديث راجح على غيره. قال ابن عبدالبر: هذا الحديث أصح من حديث ابن عباس وعليه العمل عند الفقهاء. قيل: حديث ابن عباس صحيح أخرجه مسلم وهو متضمن لمعنى خاص يجب تقديمه على عموم ما يخالفه. والتسوية بين الرفقة والأجانب لا يصح لأن الرجل يشفق على رفيقه وربما أوسع عليه من ماله فيتهم في حقه دون الأجنبي. وأما النعل فهي التي يقلد بها الهدي لما روي في حديث صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قول المصنف رحمه الله: ليعرفه الفقراء فتنبيه على أن صبغ النعل إنما كان من أجل معرفة الفقراء كون المذبوح هدياً. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1326) 2: 963 كتاب الحج، باب ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (910) 3: 253 كتاب الحج، باب ما جاء إذا عطب الهدي ما يصنع به.

وأما الحكمة في منع السائق ورفقته من أكلها فلئلا يُقَصّر في حفظها فيعطبها ليأكل هو ورفقته منها. (وإن تعينت ذَبَحَها وأجزأته إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين كالفدية والمنذور في الذمة فإن عليه بدلها. وهل له استرجاع هذا العاطب والمعيب؟ على روايتين. وكذلك إن ضلت فذبح بدلها ثم وجدها). أما ذبح المتعينة إذا تعينت عنده ولم يكن عن واجب في الذمة وإجزاؤه ذبحها من غير بدل فلما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال: «ابتعنا كبشاً نضحي به فأصاب الذئب من إليته. فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نضحي به» (¬1). رواه ابن ماجة. ولأنه عيب حدث في الأضحية الواجبة فلم يمنع الإجزاء كما لو حدث بها عيب لمعالجة الذبح. وأما لزوم البدل إذا كانت عن واجب في ذمته مثل إن نذره، أو كان قد لزمه ذلك من تمتع أو قران أو حلق أو نحو ذلك ثم عين ذلك في شيء بعينه فتعيب فكما لو كان لرجل عليه دين فاشترى به منه مكيلاً فتلف قبل قبضه انفسخ البيع وعاد الدين إلى ذمته. وأما جواز استرجاع هذا العاطب والمعيب ففيه روايتان: أحدهما: له استرجاعه وتصرفه فيه بما شاء؛ لأنه إنما عيّنه عن ما في ذمته فإذا لم يقع عنه عاد إلى صاحبه على ما كان كمن أخرج زكاته فبان أنها غير واجبة عليه. والأخرى: ليس له ذلك؛ لأنه صار للمساكين أشبه الذي عيّنه ابتداء. وأما كون حكم الضال حكم المتعين إذا تعيب في ذبح بدله وفي استرجاعه وعدمه؛ فلأنه يساويه معنى فوجب أن يساويه حكماً. ويقوّي لزوم ذبحه مع ذبح الواجب ما روي عن عائشة رضي الله عنها «أنها أهدت هديين فأضلتهما. فبعث إليها ابن الزبير ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (3146) 2: 1051 كتاب الأضاحي، باب من اشترى أضحية صحيحة فأصابها عنده شيء.

هديين فنحرتهما. ثم عاد الضالان فنحرتهما. وقالت: هذه سنة الهدي» (¬1) وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (29) 2: 242 كتاب الحج، باب المواقيت.

فصل [في سَوْق الهدي] قال المصنف رحمه الله: (سَوْق الهدي مسنون لا يجب إلا بالنذر. ويستحب أن يقفه بعرفة ويجمع فيه بين الحل والحرم ولا يجب ذلك). أما مسنونية سوق الهدي فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فساق الهدي من ذي الحليفة» (¬1) متفق عليه. وأما عدم وجوبه مع عدم النذر فلأن الغرض إراقة الدم وتفريق اللحم وهو حاصل بدون السوق. وأما وجوبه مع النذر فلأنه سنة وطاعة فوجب الوفاء به لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (¬2) وقياساً على نذر سائر القرب. وأما استحباب وقفه بعرفة وجمعه فيه بين الحل والحرم (¬3). قال: (ويسن إشعار البدنة فيشق صفحة سنامها حتى يسيل الدم ويقلدها ويقلد الغنم النعل وآذن القرب والعري). أما مسنونية إشعار البدنة وتقليدها فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1606) 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البُدن معه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1227) 2: 901 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6318) 6: 2463 كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة. (¬3) بياض في ج مقدار سطرين. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1612) 2: 609 كتاب الحج، باب إشعار البدن. وأخرجه مسلم في صحيحه (1321) 2: 957 كتاب الحج، باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه.

وروى ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ثم دعى ببدنة وأشعرها من صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها بيده» (¬1) رواه مسلم. ومراد المصنف رحمه الله بالبدنة الإبل والبقر؛ أما الإبل فلحديث ابن عباس؛ وأما البقر فلأنها من البدن فسن إشعارها وتقليدها كالإبل. وأما قول المصنف رحمه الله فيشق صفحة سنامها فبيان لصفة الإشعار. وأما مسنونية تقليد الغنم فلأن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أفتل قلائد الغنم للنبي صلى الله عليه وسلم» (¬2) رواه البخاري. ولأنه هدي فاستحب تقليده كالإبل. ولأنه إذا سن تقليد الإبل مع إمكان معرفتها بالإشعار فالغنم أولى. وفي ذكر المصنف رحمه الله الإشعار والتقليد في البدنة والتقليد فقط في الغنم إشعار بأنه لا يسن إشعار الغنم وهو صحيح؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف. قال: (وإذا نذر هدياً مطلقاً فأقل ما يجزئه شاة أو سُبُع بدنة. وإن نذر بدنة أجزأته بقرة). أما كون الشاة أو سُبُع البدنة أقل ما يجزئ إذا نذر هدياً مطلقاً فلأن المطلق في النذر يجب حمله على معهود الشرع، والهدي الواجب في الشرع إنما هو من النعم، وأقله ما ذكرناه فحمل عليه، ولهذا قال الله تعالى {فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] في المتعة فحمل على ما ذكر. وأما إذا ... (¬3): ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1243) 2: 912 كتاب الحج، باب تقليد الهدي وإشعاره عند الاحرام. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1616) 2: 609 كتاب الحج، باب تقليد الغنم. (¬3) عدة كلمات غير واضحة في ج.

أحدها: أن ينوي الإبل خاصة فلا يجزئه غير ذلك الجنس؛ لأن منه بعض فيتعين بها. الثانية: أن ينوي الإبل والبقر فيجزئه كل واحد منهما؛ لما ذكر. الثالثة: أن يطلق النذر فتجزئ البقرة عن البدنة لأنها تجزئ عن سبعة كالواحدة من الإبل. ولأنه يصح إطلاق لفظ البدنة على البقرة اشتقاقا ونقلاً: أما الاشتقاق فإن لفظ البدنة مشتق من البدانة وهي الضخامة والكبر. يقال: بدن إذا كبر وسمن وكثر لحمه وهذا المعنى موجود في البقر. وأما النقل فما روى جابر رضي الله عنه قال: «كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له: والبقرة فقال: وهل هي إلا من البدن» (¬1). ولقائل أن يقول: لا يلزم من إجزاء البقرة في باب الهدايا والضحايا عن سبعة كالبدنة إجزاؤها عن نذر البدنة لأن اللفظ وإن أطلق عليها لكنه غالب في الإبل والظاهر من حال الناذر استعمال اللفظ فيما هو غالب فيحمل عليه، وحديث جابر في الهدايا في الحج ونحن نقول به. قال: (فإن عين الهدي بنذره أجزأه ما عينه: صغيراً كان أو كبيراً من الحيوان وغيره، وعليه إيصاله إلى فقراء الحرم إلا أن يعينه موضع سواه). أما إجزاء ما عينه بنذره من صغير وكبير ومريض فلأن لفظه لم يتناول غيره فإذا صرف المعين إلى مستحقه فقد خرج عن عهدة نذره. وأما إجزاء الهدي من الحيوان وغيره فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة» (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 137. (¬2) سبق تخريجه ص: 234.

وأما وجوب إيصاله إلى فقراء الحرم إذا لم يعينه موضع سواه فلأن إطلاق الهدي يقتضي ذلك. قال الله تعالى: {بالغ الكعبة} [المائدة: 95]. ثم ينظر فإن كان الهدي مما ينقل نقل، وإن كان مما لا ينقل كالدور بيع وصرف ثمنه إليهم؛ لأنه لا يمكنه إهداؤه بعينه فانصرف إلى بدله، وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رجلا سأله عن امرأة نذرت أن تهدي داراً قال: تبيعها وتصدق بثمنها على فقراء الحرم». وأما إيصاله إلى فقراء الموضع الذي عيّنه مثل: أن يعيّنه للمدينة أو للثغور وما أشبه ذلك فلأنه قصد نفع أهله فلزمه إيصاله إليهم كأهل مكة، وروي «أن رجلاً نذر أن ينحر بالأبواء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوفاء نذره» (¬1) رواه أبو داود. قال: (ويستحب أن يأكل من هديه. ولا يأكل من واجب إلا من دم المتعة والقران). أما استحباب أكله من الهدي المتطوع به فلأن الله تعالى قال: {فكلوا منها} [الحج: 28]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من بدنه التي أهداها تطوعاً (¬2). ولا فرق في الهدي المذكور بين أن يكون ذُبح من غير إيجاب وبين ما أوجبه ابتداء من غير أن يكون في ذمته شيء لاشتراكهما في أصل التطوع. وأما مقدار ما يستحب أكله فقال ابن عقيل: يأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث كالأضحية. والأولى أن يتصدق بجميعها إلا اليسير كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين نحر بدنه. وأما عدم جواز أكله من هديٍ واجب غير المتعة والقران فلأنه وجب للفقراء فلم يجز الأكل منه كسائر الواجبات. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3313) 3: 238 كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر. (¬2) كما في حديث جابر الطويل، أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج.

وأما جواز الأكل من دم المتعة والقران فلما روي «أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتعن معه في حجة الوداع وأدخلت عائشة رضي الله عنها الحج على المتعة حين حاضت فصارت قارنة فذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن البقر وأكلوا من لحومها» (¬1). ¬

_ (¬1) عن عمرة بنت عبدالرحمن قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمسٍ بَقِينَ من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل، قالت: فدُخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه». أخرجه البخاري في صحيحه (1623) 2: 611 كتاب الحج، باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن.

فصل [في الأضحية] قال المصنف رحمه الله: (والأضحية سنة مؤكدة. ولا تجب إلا بالنذر. وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها). أما مسنونية الأضحية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى وحث على فعلها. وقد تقدم ذلك في أول الباب مستقصى فلا حاجة إلى إعادته (¬1). وأما عدم وجوبها مع عدم النذر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث كتبت عليّ وهن لكم تطوع: الوتر والنحر وركعتا الفجر» (¬2) رواه الدارقطني. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً حتى يضحي» (¬3) علقه على الإرادة والواجب لا يعلق على الإرادة. ولأنها ذبيحة لم يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة كالعقيقة. ولا فرق في ذلك بين الغني والفقير لعموم ما تقدم. وعن أحمد رحمه الله: هي واجبة على الغني لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا» (¬4). ولما روي أنه قال: «يا أيها الناس! إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية أو عتيرة» (¬5) أخرجهما ابن ماجة. ¬

_ (¬1) ر. ص: .233 (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 21 كتاب الوتر. وأخرجه الحاكم في مستدركه (1119) 1: 441 كتاب الوتر. قال في التلخيص: ما تكلم الحاكم عليه، وهو غريب منكر، ويحيى ضعفه النسائي والدارقطني. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1977) 3: 1565 كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة، وهو مريد التضحية، أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (3123) 2: 1044 كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ . (¬5) أخرجه ابن ماجة في سننه (3125) 2: 1045 كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ .

والأول أصح لما ذكر. وأما قوله: «فلا يقربن مصلانا» فضعيف عند أهل الحديث وعلى تقدير صحته يحمل على تأكيد الاستحباب كما حمل قوله صلى الله عليه وسلم «من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا» (¬1). وأما قوله: «على أهل كل بيت ... الحديث» فمنسوخ بما يذكر في آخر فصل العقيقة (¬2). وعلى تقدير عدم نسخه يحمل على تأكيد الاستحباب كقوله صلى الله عليه وسلم: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (¬3). وأما كون ذبحه أفضل من الصدقة بثمنها فلأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده عدلوا عن الصدقة بثمن الأضحية إلى ذبحها وواظبوا على ذلك وهم لا يواظبون إلا على الأفضل. ولأن إيثار الصدقة بثمنها على ذبحها يفضي إلى ترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (والسنة أن يأكل من أضحيته ثلثها ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها. فإن أكل أكثر جاز وإن أكلها [كلها] (¬4) ضمن أقل ما يجزئ في الصدقة منها). أما مسنونية أكل ثلثها وإهداء ثلثها والتصدق بثلثها فلأن ابن عباس روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأضحية: «ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السُؤّال بالثلث» أخرجه الحافظ أبو موسى في الوظائف وقال: هذا حديث حسن. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين». وأما جواز أكل أكثرها فلأن الأمر بالأكل مطلق فإذا أكل الأكثر وتصدق بالباقي خرج عن العهدة وأن القصد لا يخلو من قربة وذلك يحصل بصدقة الأقل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3827) 3: 361 كتاب الأطعمة، باب في أكل الثوم. (¬2) ر ص: 261. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (341) 1: 94 كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة. (¬4) زيادة من المقنع.

وأما ضمان أقل ما يجزئ في الصدقة منها إذا أكلها كلها فلأن الله تعالى قال: {وأطعموا القانع والمعتر} [الحج: 36] أمر والأمر للوجوب فإذا وجب التصدق بشيء منها وجب أن يضمنه إذا أكله كسائر الواجبات المتلفة. ولم يذكر المصنف رحمه الله مقدار ما يجب. وصرح في الكافي بأن صدقة الأوقية تجزئ لأنه يحصل به الوفاء بالأمر. فعلى هذا يضمن هذا القدر. وقال أبو الخطاب: يضمن القدر المشروع للصدقة. وهو منصوص الإمام أحمد. وفيه نظر. قال: (ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره وبشرته شيئاً. وهل ذلك حرام؟ على وجهين). أما عدم أخذ من أراد أن يضحي فدخل العشر شيئاً من شعره وبشرته حتى يضحي فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً حتى يضحي» (¬1). وأما حرمة ذلك ففيه وجهان: أحدهما: لا يحرم ويكره: أما عدم الحرمة فلقول عائشة رضي الله عنها: «كنت أفتل قلائد الهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي» (¬2). وأما الكراهة فلأن أدنى أحوال النهي الكراهة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1977) 3: 1565 كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة، وهو مريد التضحية، أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1613) 2: 609 كتاب الحج، باب من قلد القلائد بيده. وأخرجه مسلم في صحيحه (1321) 2: كتاب الحج، باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه.

والثاني: يحرم وحكاه ابن المنذر عن أحمد رحمه الله عليه لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً حتى يضحي» (¬1). ومقتضى النهي التحريم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قبل الحديث السابق.

فصل [في العقيقة] قال المصنف رحمه الله: (والعقيقة سنة مؤكدة). أما ماهية العقيقة ففي الشرع: الذبيحة عن المولود. والأصل فيها الشعر على المولود وجمعها عقائق ثم سميت الذبيحة عند حلق شعر المولود عقيقة تسمية للشيء باسم ما جاوره. قال ابن عبدالبر: أنكر أحمد رحمه الله هذا التفسير فقال: إنما العقيقة الذبح نفسه لأنه يقال: عق إذا قطع ومنه عق والديه إذا قطعهما. وأما كونها سنة مؤكدة فلما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته» (¬1) رواه أبو داود والترمذي وصححه. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقّ عن الحسن والحسين» (¬2). قال: (والمشروع أن يذبح عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة يوم سابعه، ويحلق رأسه ويتصدق بوزنه ورقاً، فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين). أما مشروعية ذبح شاتين عن الغلام وشاة عن الجارية فلما روت عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يعقوا عن الغلام شاتين مكافئتين وعن الجارية شاة» (¬3) رواه أحمد وابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2838) 3: 106 كتاب الضحايا، باب في العقيقة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1522) 4: 101 كتاب الأضاحي، باب من العقيقة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2841) 3: 107 كتاب الضحايا، باب في العقيقة. وأخرجه النسائي في سننه (4219) 7: 165 كتاب العقيقة، كم يعق عن الجارية. وأخرجه أحمد في مسنده (23051) 5: 355. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (3163) 2: 1056 كتاب الذبائح، باب العقيقة. وأخرجه أحمد في مسنده (25289) 6: 158.

فإن قيل: الأمر للوجوب فلم حمل هنا على الاستحباب؟ قيل: لأنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث آخر: «من وُلد له مولود وأحب أن ينسك عنه فليفعل» (¬1) رواه مالك في الموطأ. علقه على محبته والواجب لا يُعَلّق على المحبة فوجب حمل الأمر في الأول على تأكد الاستحباب جمعاً بينهما. وأما مشروعية الذبح يوم السابع وحلق رأس المولود فلأن في حديث سمرة بن جندب: «يذبح يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه» (¬2) رواه أبو داود. وأما الصدقة بزنة شعره ورقاً؛ «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها لما ولدت الحسن: احلقي رأسه وتصدقي بزنته فضة» (¬3) رواه أحمد. وأما الذبح في أربعة عشرة إذا فات في السابع وفي إحدى وعشرين إذا فات في أربع عشرة فلأن ذلك يروى عن عائشة رضي الله عنها. قال: (وينزعها أعضاءً، ولا يكسر عظمها. وحكمها حكم الأضحية). أما نزع العقيقة أعضاء وعدم كسر عظمها فلأنه يروى عن عائشة رضي الله عنها (¬4). ولأنه أول ذبيحة ذبحت عن الولد فلا يكسر عظمها تفاؤلاً بالسلامة. ومعنى ينزعها أعضاء أي: يفصل أعضاءها بعضاً من بعض من غير كسر. قال أبو عبيد الهروي في حديث العقيقة: «تقطع جدولاً» (¬5) أي عضواً عضواً. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1) 2: 399 كتاب العقيقة، باب ما جاء في العقيقة. (¬2) سبق تخريج حديث سمرة بن جندب ص: 261. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1519) 4: 99 كتاب الأضاحي، باب العقيقة بشاة. وأخرجه أحمد في مسنده (27226) 6: 391. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (24253) 5: 114 كتاب العقيقة، من قال: لا يكسر للعقيقة عظم. (¬5) ذكره البيهقي في السنن الكبرى تعليقاً قال: وكان عطاء يقول: «تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظم أظنه قال: ويطبخ» 9: 302 كتاب الضحايا، باب من قال: لا تكسر عظام العقيقة ويأكل أهلها منها ويتصدقون ويهدون.

وأما كون حكم العقيقة حكم الأضحية ومعناه أن يجتنب فيها ما يجتنب في الأضحية، ويأكل منها كما يأكل، ويستحب فيها ما يستحب وهلم جرا؛ فلأنها شبيهة بها فألحقت بها لذلك. ولا بد أن يلحظ أنه يجوز بيع جلدها ورأسها وسواقطها ويتصدق به بخلاف الأضحية؛ لأن ذلك منقول عن الإمام أحمد. والأصل فيه أن الأضحية ذبيحة لله تعالى فلا يباع شيء منها كالهدي بخلاف العقيقة. فعلى هذا يحمل كلام المصنف رحمه الله في كون حكم العقيقة كحكم الأضحية فيما سوى ذلك لئلا يناقض النقل. وقال أبو الخطاب رحمه الله: يحتمل أن ينقل حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى فتخرج في كل واحدة روايتان. قال: (ولا تسن الفرعة وهي ذبح أول ولد الناقة، ولا العتيرة وهي ذبيحة رجب). أما عدم مسنونية الفرعة والعتيرة فلما روى أبو هريرة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا فرع ولا عتيرة» (¬1) متفق عليه. فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على أهل كل بيت عتيرة» (¬2)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة» (¬3). قيل: ما تقدم ناسخ؛ لأنه متأخر عنها ظاهراً؛ لأن إسلام أبي هريرة متأخر. وأما قول المصنف رحمه الله: بعد الفرعة وهي ذبح أول ولد الناقة، وبعد العتيرة وهي ذبيحة رجب؛ فبيان لماهية الفرعة والعتيرة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5157) 5: 2083 كتاب العقيقة، باب العتيرة وأخرجه مسلم في صحيحه (1976) 3: 1564 كتاب الأضاحي، باب الفرع والعتيرة. (¬2) سبق تخريجه ص: 257. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (7997) 4: 340 كتاب العقيقة، باب الفرعة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 312 كتاب الضحايا، باب ما جاء في الفرع والعتيرة.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد الجِهاد في اللغة: بذل الطاقة والوسع. وفي الشرع: قتال الكفار. قال المصنف رحمه الله: (وهو فرض كفاية، ولا يجب إلا على ذكرٍ حرٍّ مكلفٍّ مستطيعٍ، وهو: الصحيحُ الواجدُ لزاده، وما يحمله إذا كان بعيداً). أما كون الجهاد فرض كفاية فلأنه واجب في الجملة، وليس واجباً على الأعيان: أما كونه واجباً في الجملة فبالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم} [البقرة: 190]، وقوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} [البقرة: 191]، وقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدين كلُّه لله} [الأنفال: 39]، وقوله تعالى: {انفروا خِفافاً وثقالاً} [التوبة: 41]. وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبةٍ من النفاق» (¬1). أخرجه مسلم. وقولُه عليه السلام: «الجهادُ واجب عليكم» (¬2). وقوله صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» (¬3) أخرجهما أبو داود. وقوله: «من لقي الله بغير أثرٍ من جهاد لقي الله وفي إيمانه ثُلْمة» (¬4) أخرجه الترمذي. وأما الإجماع فأجمع المسلمون في الجملة على وجوبه. وأما كونه ليس واجباً على الأعيان فلقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [التوبة: 122]، وقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسِهم فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1910) 3: 1517 كتاب الإمارة، باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2533) 3: 18 كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2504) 3: 10 كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (1666) 4: 189 كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط.

القاعدين درجةً وكلاً وعد الله الحسنى} [النساء: 95]. أثبت للمجاهد والقاعد الأجر ولا يكون القاعد مأثوماً، ولو كان فرض عين لأثم. وإذا وجب في الجملة ولم يجب على الأعيان لزم كونه فرض كفاية. وأما كونه لا يجب إلا على ذَكَرٍ فلما روت عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله! هل على النساء جهاد؟ قال: جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» (¬1). ولأن المرأة ليست من أهل القتال لضعفها وخوفها ولذلك لا سهم لها. وأما كونه لا يجب إلا على حرٍّ فلما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد» (¬2). ولأن الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم يجب على العبد كالحج. وأما كونه لا يجب إلا على مكلف فلأن الصبي والمجنون والكافر لا يجب عليهم سائر فروع الإسلام فكذلك الجهاد. ولأن الصبي ضعيف عن القتال، والمجنون لا يتأتى منه، والكافر غير مأمون فيه. وأما كونه لا يجب إلا على مستطيع فلأن غير المستطيع عاجز، والعجز ينفي الوجوب للمستطيع شرعاً. فعلى هذا لا يجب على مريض، ولا أعمى، ولا أعرج، ولا غير قادر على نفقته وما يحمله وما يقاتل به؛ لأن الله تعالى قال: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حَرَجٌ إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91]. وقال تعالى: {ليس على الأعمى حَرَجٌ ولا على الأعرج حَرَج ولا على المريض حرج} [الفتح: 17]. ولأن هذه الأعذار تمنعه من الجهاد. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2901) 2: 968 كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 350 كتاب الحج، باب من قال بوجوب العمرة. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر. قال: «جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة. ولم يشعر أنه عبد. فجاء سيده يريده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بعنيه فاشتراه بعبدين أسودين ثم لم يبايع أحداً بعد حتى يسأله: أعبد هو؟ ». (1602) 3: 1225 كتاب المساقاة، باب جواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلاً.

والمانع مما ذُكِر مطلق العمى، والعرجُ الفاحش الذي يمنع المشي والركوب كالزمانة ونحوها. فأما اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي فلا يمنع وجوب الجهاد؛ لأنه متمكن منه أشبه الأعور. وكذلك المرض المانع هو الشديد فأما وجع الضرس والصداع الخفيف فلا يمنع لما ذكر في الأعرج. وأما غير القادر فالمانع عدم قدرته على نفقته وآلة الجهاد وما يشتريها به؛ لأن النفقة ضرورة مقدمة على الحج ودين الغير فكذلك على الجهاد. وآلة القتال لا يمكن الجهاد إلا بها. وأما القدرة على المركوب فإن كانت المسافة بعيدة اشترطت؛ لقوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوكَ لِتَحْملهم قلتَ لا أجدُ ما أحملُكم عليه} [التوبة: 92] ولذلك شرط المصنف رحمه الله في وجدان ما يحمله البعيد. وإن كانت المسافة قريبة لم يشترط القدرة عليه؛ لأنه سفر قريب لا مشقة في تحمله. ويشترط أن يكون جميع ما ذكر فاضلاً عن نفقة عياله وقضاء دينه وأجرة مسكنه؛ لما تقدم في الحج. قال: (وأقلُّ ما يُفعل مرةً في كل عام إن لم تدْعُ حاجة إلى تأخيره). أما كون الجهاد أقل ما يفعل مرة في كل عام إن لم تدع حاجة إلى تأخيره؛ فلأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام وهي بدل فكذلك مبدلُها الذي هو الجهاد. وأما كونه لا يُفعل إذا دعت الحاجة إلى تأخيره مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو عدة، أو يكون الإمام منتظر المدد يستعين به، أو يكون الطريق إليهم فيها مانع، أو ليس بها علف أو ماء، أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الإسلام ويطمع في إسلامهم إن أخر قتالهم، ونحو ذلك مما يرى معه المصلحة في ترك القتال؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً عشر سنين وأخّر قتالهم حتى نقضوا العهد» (¬1). قال: (ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد، أو حَصَر العدو بلدَه تعيّن عليه). أما كون الجهاد متعينٌ على من حضر الصف فلقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتمُ الذين كفروا زحْفاً فلا تُولوهم الأدبار? ومن يولهّم يومئذٍ دبُره إلا متحرّفاً لقتالٍ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2518) 2: 974 كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد ... وأخرجه أبو داود في سننه (2766) 3: 86 كتاب الجهاد، باب في صلح العدو.

أو متحيزاً إلى فئةٍ فقد بَاء بغضبٍ من الله ومأواه جهنمُ وبئس المصير} [الأنفال: 15 - 16]. وأما كونه متعيٌن على من حَصَرَ العدو بلدَه فلعموم قوله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً} [التوبة: 41]. ولأن الكل استوى بالنسبة إلى القصد فوجب على الكل. ولأن البلد إذا حُصر قرُب شَبَه من فيه بمن حضر الصف فوجب بعينه عليه كحاضر الصف. ويتعين أيضاً على من استنفره الإمام؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض ... الآية} [التوبة: 38]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا استنفرتم فانفروا» (¬1) متفق عليه. قال: (وأفضل ما يُتطوع به الجهاد. وغزو البحر أفضل من غزو البر. ويُغزى مع كل بر وفاجر. ويقاتِل كلُّ قومٍ من يليهم من العدو). أما كون الجهاد أفضل ما يُتطوع به فلما روى ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لمواقيتها، قلت: ثم أيّ؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وروى أبو سعيد الخدري قال: «قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» (¬3) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1737) 2: 651 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1353) 3: 1487 كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد قتح مكة على الإسلام والجهاد والخير ... (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1898) 4: 310 كتاب البر والصلة، باب منه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2634) 3: 1026 كتاب الجهاد والسير، باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه ماله في سبيل الله. وأخرجه مسلم في صحيحه (1888) 3: 1503 كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط.

وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضلُ من جهاد في سبيل الله، أو حجةٍ مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال» رواه الخلال. ولأن الجهاد بذل المُهْجة وإنفاق المال، ونفعه يعم المسلمين كلهم. وأما كون غزو البحر أفضل من غزو البر؛ فلما روى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «شهيدُ البحر مثلُ شهديِ البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح. إلا شهيد البحر، فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويُغْفرُ لشهيد البرِّ الذنوب كلُّها إلا الدَّين، ويُغفر لشهيد البحر الذنوب والدَّين» (¬1). وفي حديث آخر: «غزوة في البحر مثلُ عشرِ غزَوات في البر» (¬2) رواهما ابن ماجة. ولأن شهيد البحر أعظم خطراً ومشقة؛ لأنه بين خطر العدو وخطر الغرق، ولا يُمَكّن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضلَ من غيره. وأما كونه يغزو مع كل بر وفاجر فلما روى أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجهادُ واجبٌ عليكم مع كل أمير: براً كان أو فاجراً» (¬3). وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من أصل الإيمان: الكف عن من قال: لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتِل آخر أمتي الدجال لا يُبْطله جَوْرُ جائر ولا عَدْلُ عادل، والإيمان بالأقدار» (¬4) رواهما أبو داود. ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يُفضي إلى ظهور الكفار على المسلمين، وفيه إظهار كلمة الكفر وذلك أعظم الفساد. وأما كون كل قوم يقاتِل من يليهم من العدو فلقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} [التوبة: 123]. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2778) 2: 928 كتاب الجهاد، باب فضل غزو البحر. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2777) الموضع السابق. قال في الزوائد: في إسناده معاوية بن يحيى وهو ضعيف. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2533) 3: 18 كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2532) الموضع السابق.

ولأن الأقربَ أكثرُ ضرراً. قال: (وتمام الرباطِ أربعون ليلة، وهو: لزوم الثغر للجهاد، ولا يُستحب نقل أهله إليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» (¬1». أما كون تمام الرباط أربعين ليلة، والمراد أربعون يوماً فلأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تمامُ الرباط أربعون يوماً» (¬2). وعن أبي هريرة: «من رابط أربعين يوماً فقد استكمل الرباط» (¬3) رواه سعيد بن منصور في سننه. وعن ابن عمر «أنه قدم على أبيه فقال له: كم رابطت؟ قال: ثلاثين يوماً. قال: عزمتُ إلا رجعتَ حتى تُتِمَّها أربعون يوماً» (¬4). وأما قول المصنف رحمه الله: وهو لزوم الثغر للجهاد فبيانٌ لمعنى الرباط. فإن قيل: ما الثغر؟ قيل: كل مكان يُخيف أهلُه العدوَّ ويخاف منه. وأما كون مَن فيه لا يُستحب له نقل أهله إليه فلأن الثغر مخوف ولا يُؤمن ظَفَر العدو من فيه واستيلاؤهم على الأهل. والمراد بالأهل النساء والذرية. وأما قول المصنف رحمه الله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره فتنبيه على أن الرباط فيه فضيلة عظيمة؛ لما ذكر من الحديث (¬5). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1667) 4: 189 كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (19450) 4: 225 كتاب الجهاد، ما ذكر في فضل الجهاد والحث عليه. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (7606) 8: 157. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2410) 2: 159 كتاب الجهاد، باب ما جاء في فضل الرباط. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (19451) 4: 225 كتاب الجهاد، ما ذكر في فضل الجهاد والحث عليه. (¬5) سبق تخريجه قريباً ولم أره في أبو داود.

وفي حديث آخر أنه قال صلى الله عليه وسلم: «رباطُ يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامِه. وإن مات جرى عليه عملُه الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأَمِنَ الفَتّان» (¬1) رواه مسلم. قال: (وتجب الهجرة على من يَعجز عن إظهارِ دينه في دار الحرب، وتستحب لمن قدَر عليه). أما كونُ الهجرةِ، وهي: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام: تجب على من يعجز عن إظهار دينه في دار الحرب؛ فلأن الله تعالى قال: {إن الذين تَوَفّاهم الملائكة ظالمِي أنفسِهم قالوا فيم كنتُم قالوا كنّا مستضعفين في الأرضِ قالوا ألم تَكن أرض الله واسعةً فتُهاجروا فيها} [النساء: 97] إلى غير ذلك من الآيات. وفي إطلاق المصنف رحمه الله وجوب الهجرة إشعارٌ ببقاء حكمها، وهو صحيح؛ لأن حكم الهجرة عندنا باقٍ إلى يوم القيامة؛ لأن الآيات والأخبارَ الدالة عليها شاملةٌ لكل زمان. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَنقطع الهجرة ما كان الجهاد» (¬2) رواه سعيد وغيره. وعن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطعَ التوبةُ، ولا تنقطع التوبةُ حتى تطلع الشمس من مغربها» (¬3) أخرجه أبو داود. وأما قوله عليه السلام: «لا هجرة بعد الفتح» (¬4)، وقوله: «قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية» (¬5) رواهما سعيد. فمعناهما: لا هجرة من مكة بعد فتحها، أو لا هجرة من بلدٍ بعد فتحه؛ بدليل أنه قال ذلك لمن أراد أن يهاجر من مكة بعد فتحها. روي «أن صفوان بن أمية قيل له بعد الفتح: أنه لا دين لمن لا يهاجر. فأتى المدينة [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء بك أبا وهب؟ ] (¬6) فقال له ذلك. فقال: ارجع أبا وهب. فقد انقطعت الهجرة، ولكن جهاد ونية» (¬7). يعني من مكة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1913) 3: 1520 كتاب الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل. عن سلمان. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2354) 2: 138 كتاب الجهاد، باب من قال: انقطت الهجرة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2479) 3: 3 كتاب الجهاد، باب فى الهجرة هل انقطعت. (¬4) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2353) 2: 137 الموضع السابق. (¬5) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2352) الموضع السابق. (¬6) ساقط من هـ. (¬7) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 16 كتاب السير، باب الرخصة في الإقامة بدار الشرك لمن لا يخاف الفتنة.

وأما كونها تستحب لمن قدَر عليها فلأن في إقامته تكثيراً لعددهم واختلاطا بهم. وإنما لم تجب عليه لقدرته على إظهار دينه. وظاهر كلام المصنف رحمه الله: أن الهجرة على ضربين: واجبة ومستحبة. وقال في المغني: الناس على ثلاثة أضرب: أحدها: من تُستحب له ولا تجب عليه. والثاني: من تجب عليه. والثالث: من تسقط عنه. وهو: من يعجز عنها (¬1) لمرض، أو إكراه على إقامة، أو ضعفٍ. فهذا لا يجب عليه ولا يوصف باستحباب؛ لقوله تعالى: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ... الآية} [النساء: 98]. وفيه نظر. قال: (ولا يجاهِد من عليه دينٌ لا وفاءَ له، ومن أحد أبويه مسلم: إلا بإذن غريمه وأبيه، إلا أن يَتعين عليه الجهادُ فإنه لا طاعةَ لهما في ترك فريضةٍ). أما كونُ من عليه دين لا وفاء له لا يجاهد إذا لم يأذن له غريمه في الجهاد مع عدم تعيّنِ ذلك عليه؛ فلأن الجهاد يُقصد منه الشهادة وبها تفوت النفس فيفوت الحق لفواتها. وفي تقييد المصنف رحمه الله الدين بأنه لا وفاء له إشعار بأنه إن كان له وفاءٌ فله أن يجاهد بغير إذنٍ وهو صحيح. نص عليه أحمد رحمه الله؛ «لأن عبدالله بن حزام أبا جابر خرج إلى أُحُدٍ وعليه دين كثير. فاستشهد وقضاه عنه ابنه بعلم النبي صلى الله عليه وسلم» (¬2) ولم ينكر (¬3) ذلك. ¬

_ (¬1) في هـ: عنهما. (¬2) روى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: «أن أباه قتل يوم أُحُدٍ شهيداً، وعليه دين فأشتد الغرماء في حقوقهم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا تمر حائطي ويحللوا أبى فأبوا، فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي، وقال: سنغدو عليك. فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل، ودعا في ثمرها بالبركة، فجددتها فقضيتهم وبقي لنا من تمرها». (2265) 2: 843 كتاب الاستقراض، باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز. (¬3) في هـ: يذكر.

وفي معنى الوفاء إقامة الكفيل المليء لأن الدَّين الذي له وفاء إنما لم يمنع من الجهاد لعدم ضياع حق الغريم بتقدير قتله في الجهاد وذلك حاصل في الكفيل المليء. وأما كون من أحد أبويه مسلم لا يجاهد إذا لم يأذن له أبوه مع عدم تعيّن الجهاد عليه «فلأن رجلاً هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: هل لك باليمن أحد؟ قال: نعم. أبوان. قال: ارجع فاستأذنهما: فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما» (¬1) رواه أبو داود. وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أجاهد. فقال لك أبوان؟ فقال: نعم. قال: ففيهما فجاهد» (¬2). وروى الترمذي عن ابن عباس مثله، وقال هذا حديث حسن صحيح. ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين مقدم. ولا فرق فيما ذُكر بين الأب والأم. ولذلك قال المصنف رحمه الله: ومَن أحد أبويه مسلم. وفي قول المصنف رحمه الله: مسلم تنبيه على أنه لا يعتبر إذن الكافر منهما. وصرح به في المغني؛ لأن كثيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون وآباؤهم مشركون لا يستأذنونهم منهم: أبو بكر الصديق، وأبو عبيدة. وأما كون من ذكر يجاهد بغير إذن من ذكر إذا تعين الجهاد عليه فلأنه يصير حينئذ فرض عين وتركه معصية. ولذلك قال المصنف: فإنه لا طاعة لهما في ترك فريضة. ولأن الجهاد حينئذ عبادة متعينة فلم يعتبر إذن أحد فيها كالصلاة. قال: (ولا يحل للمسلمين الفرارُ من ضعفهم إلا متحرّفين للقتال، أو متحيزين إلى فئة. وإن زاد الكفار فلهم الفرار إلا أن يَغلب على ظنّهم الظَّفَرُ). أما كون المسلمين لا يحل لهم الفرار من الكفرة في الجملة فلأن الله تعالى قال: {إذا لقيتم الذين كفروا زَحْفاً فلا تُوَلّوهم الأدبار ... الآية} [الأنفال: 15]. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2530) 3: 17 كتاب الجهاد، باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2529) الموضع السابق. وأخرجه الترمذي في جامعه (1671) 4: 191 كتاب الجهاد، باب: ما جاء فيمن خرج في الغزو وترك أبويه. قال: وفي الباب عن ابن عباس.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عَدّ الفرار من الكبائر (¬1). وأما ما يشترط لذلك فشرطان: أحدهما: أن لا يزيد عدد الكفار على مثلي المسلمين، وهو المراد بضعفهم. فإن زاد فلهم الفرار؛ لقوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عنكم وعلم أن فيكم ضَعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين} [الأنفال: 66] لفظه خبر ومعناه أمر بدليل قوله: {الآن خفف الله عنكم}، ولئلا يخالف خبرَه عز وجل مَخْبَرُه؛ لأن الظفر في كل مرة لا يتفق للمسلمين. وعن ابن عباس: «من فرّ من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر» (¬2). الثاني: أن لا يريد بفراره التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة؛ لأن الله تعالى قال: {إلا متحرّفاً لقتالٍ أو متحيزاً إلى فئة} [الأنفال: 16]. ومعنى التحرف: أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن له؛ كمن في وجهه الشمس، أو الريح، أو هو في وَهْدَة (¬3) أو عطشان، أو في مكان منكشف فينحرف إلى ظل، أو موضع لا ريح فيه، أو مكان عال، أو موضع فيه ماء، أو هو مستترا، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب. والتحيز إلى فئة هو: أن يصير إلى قومٍ من المسلمين ليكون مع الجماعة ويقوَى بهم على قتال العدو. سواء بعدت أو قربت؛ لأن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني فئة لكم» (¬4) وكان بالمدينة. وقال عمر: «أنا فئة كل مسلم» (¬5). وكانت جيوشه بالشام والعراق وخراسان ومصر. رواهما أبو سعيد. ¬

_ (¬1) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: ... والتولي يوم الزحف ... ». أخرجه أبو داود في سننه (2874) 3: 115 كتاب الوصايا، باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم. (¬2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11151) 11: 93. (¬3) في هـ: هذه، وفي القاموس: الوَهْدَة: الأرض المنخفضة. (¬4) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2539) 2: 209 كتاب الجهاد، باب من قال الإمام فئة كل مسلم. (¬5) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2540) 2: 210 الموضع السابق.

وأما كونهم لهم الفرار إذا زاد عدد الكفار على ضعف المسلمين فلأن شرط عدم الحِلّ أن لا يزيد، وذلك مفقود هاهنا. وأما قول المصنف رحمه الله: إلا أن يغلب على ظنهم الظفر فاستثناء من كون المسلمين لهم الفرار مع الزيادة. فعلى هذا إن غلب على ظنهم الظَّفَر لا يحل لهم الفرار وإن كثر العدو. وصرح في المغني: بأن ذلك أولى وليس بواجب. وهذا هو الذي حكاه مَن علمنا من الأصحاب؛ لأن الله أباح له الفرار من الزائد على ضعفه مطلقاً من غير تفصيل فلا يقيد بغير ذلك. فعلى هذا يحمل استثناء المصنف على الأَولى؛ لما فيه من الجمع بين نقليه وموافقة الأصحاب. ويصححه أن قوله: فلهم الفرار إذن في الفرار. وللإذن صور: أحدها: أن يؤذن له مع أن الفرار والثبات سواء كمن استوى عنده الظفر والهلاك. والثانية: أن يؤذن له مع أن الثبات أولى كمن غلب على ظنه الظفر. والثالثة: أن يؤذن له مع أن الفرار مستحب كمن غلبت على ظنه السلامة بفراره، والهلاك وكسر قلوب المسلمين بثباته. فيكون المصنف قد استثنى من مطلق اللفظ أحد محامله وذلك جائز. ولو قيل بوجوب ما اقتضاه ظاهر لفظ المصنف لم يكن فيه بعداً؛ لأن الجهاد إنما وجب نكاية للعدو وإظهاراً لكلمة الحق فإذا غلب على ظنه الظفر تعين وإن كثروا تخليصاً لمقصود ما وجب الجهاد لأجله. قال: (وإن أُلقيَ في مركبهم نارٌ فعلوا ما يرون السلامة فيه، فإن شكّوا فعلوا ما شاؤا من المُقام أو إلقاءِ نفوسهم في الماء، وعنه: يلزمهم المُقام). أما كون من أُلقي في مركبهم نار يفعلون ما يرون فيه السلامة فلأن حفظ الروح واجب، وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في كثير من الأحكام فليكن هاهنا كذلك. وأما كونهم إذا شكّوا يفعلون ما شاؤا من المُقام أو إلقاء نفوسهم في الماء على المذهب فلأنهم ابتلوا بشرين لا مزية لأحدهما على الآخر. وأما كونهم يلزمهم المُقام على رواية فلأنهم إذا رموا نفوسهم كان موتهم بفعلهم بخلاف إقامتهم فإن موتهم بفعل غيرهم.

قال صاحب النهاية فيها: الأول أصح؛ لأنهم ملجئون إلى الإلقاء، ولا ينسب إليهم الفعل بوجهٍ، ولعل الله تعالى يخلصهم.

فصل [في أحكام القتال] (ويجوزُ تبييت الكفار، ورميُهم بالمنجنيق، وقطعُ المياه عنهم، وهدمُ حصونهم). أما كون تبييت الكفار وهو كبْسهم ليلاً وقتلهم وهم غارّون يجوز؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم شن الغارة على بني المصطلق ليلاً» (¬1). ولا فرق بين أن يكون فيهم نساؤهم وذراريهم أو لم يكن «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: إنا نبيت العدو وفيهم النساء والصبيان. فقال: هم منهم» (¬2) متفق عليه. ولأن ذلك لو منع لأفضى إلى تعطيل الجهاد. وأما كون رميهم بالمجنيق يجوز فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف» (¬3) أخرجه الترمذي مرسلاً. وعن عمرو بن العاص «أنه نصب المنجنيق على الإسكندرية» (¬4). وسواء في ذلك الحاجة وعدمها. قال المصنف في المغني: هو ظاهر كلام أحمد. ¬

_ (¬1) عن ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارُّون». أخرجه البخاري في صحيحه (2403) 2: 898 كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقاً فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية. وأخرجه مسلم في صحيحه (1730) كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2850) 3: 1097 كتاب الجهاد والسير، باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري. وأخرجه مسلم في صحيحه (1745) 3: 1365 كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد. (¬3) ذكره الترمذي في جامعه 5: 94 كتاب الأدب، باب ما جاء في الأخذ من اللحية. وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث أيوب السختياني. ص: 183 كتاب الجهاد، باب في فضل الجهاد. (¬4) ذكره البيهقي في السنن الكبرى 9: 84 كتاب السير، باب قطع الشجر وحرق المنازل.

وأما كون قطع المياه عنهم وهدم حصونهم يجوز فلأن القصد إضعافهم وإرهابهم ليجيبوا داعي الله تعالى. قال: (ولا يجوز إحراقُ نحل، ولا تغريقه، ولا عَقْرُ دابة ولا شاة إلا لأكلٍ يُحتاج إليه. وفي حرق شجرهم وزرعهم وقطعِه روايتان: إحداهما: يجوز إن لم يضر بالمسلمين. والأخرى: لا يجوز إلا أن لا يُقدر عليهم إلا به، أو يكونوا يفعلونه بنا. وكذلك رميهم بالنار، وفتح المياه ليغرقهم). أما كون إحراق النحل وتغريقه وعقر دابة أو شاة لغير أكل يحتاج إليه لا يجوز فـ «لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ليزيد وهو يوصيه حين بعثه أميراً: يا يزيد! لا تحرقن نحلاً ولا تغرقه، ولا تَعقرن دابة عجماء ولا شاة إلا لمأكلة» (¬1) أخرجه سعيد بن منصور. ولأن في ذلك إتلاف مال الغانمين من غير حاجة. وإنما اشترط المصنف رحمه الله الحاجة في الأكل لأن قيمة الحيوان تكثر وتسمح بها أنفس الغانمين. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه مثل الطعام. أي يجوز لهم ذبح الحيوان وأكله من غير حاجة كما يجوز لهم أكل الطعام. وأما كون حرق شجرهم وزرعهم وقطعه يجوز في رواية فلقوله تعالى: {ما قطعتم من لِينة أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} [الحشر: 5]. وروى ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة فأنزل الله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها ... الآية} [الحشر: 5]. ولها يقول حسان: وهانَ على سَراةِ بني لُؤيٍ ... حريقٌ بالبويرةِ مستطيرُ» (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2383) 2: 148 كتاب الجهاد، باب: ما يؤمر به الجيوش إذا خرجوا. وأخرجه مالك في الموطأ (10) 2: 358 كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2201) 2: 820 كتاب المزارعة، باب قطع الشجر والنخل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1746) 3: 1365 كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها.

متفق عليه. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: «حَرِّق» (¬1) رواه أبو داود. وأما كونه لا يجوز في روايةٍ فلأن في حديث أبي بكر المتقدم: «ولا تعقرن شجراً مثمراً» (¬2). ولأنه قد روي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً. ولأن فيه إتلافاً محضاً فلم يجز كعقر الحيوان. واشتراط المصنف رحمه الله في الرواية الأولى أن لا يُضر بالمسلمين؛ لأن الضرر منفي شرعاً بقوله عليه السلام: «لا ضرر ولا إضرار» (¬3). واستثنى في الرواية الثانية أمرين: أن لا يُقدر عليهم إلا به، أو يكونوا يفعلونه بنا: أما إذا لم يُقدر عليهم إلا بذلك فلأنه لو لم يجز لأدى إلى ترك الجهاد، وأما إذا فعلوا ذلك بنا فلينزجروا عن فعل ذلك. وأما قول المصنف رحمه الله: وكذلك رميهم بالنار وفتح الماء ليغرقهم فمعناه أن في ذلك روايتين كحرق الشجر والزرع وقطعهما: إحداهما: يجوز لأن القصد نكايتهم وإقامة كلمة الحق فإذا كان وسيلة إليه جاز كالقتل. والثانية: لا يجوز: أما النار فلأنها لا يعذب بها إلا الله، وأما الماء فلأن الإتلاف به يعم. مع أن عنه مندوحة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2616) 3: 38 كتاب الجهاد، باب في الحرق في بلاد العدو. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2843) 2: 948 كتاب الجهاد، باب التحريق بأرض العدو. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2383) 2: 148 كتاب الجهاد، باب: ما يؤمر به الجيوش إذا خرجوا. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2341) 2: 784 كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره. قال في الزوائد: في إسناده جابر الجعفي متهم. وأخرجه مالك في الموطأ (31) 2: 571 كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق. ولفظهما: «لا ضرر ولا ضرار». وأخرجه الدارقطني في سننه (85) 4: 228 كتاب في الأقضية والأحكام، في المرأة تقتل إذا ارتدت. واللفظ له.

فعلى هذا لو لم يقدر عليهم إلا به أو فعلوه بنا جاز لما مر في حرق الشجر. قال: (وإذا ظفِر بهم لم يُقتل صبيٌ ولا امرأةٌ ولا راهبٌ ولا شيخٌ فانٍ ولا زمِنٌ ولا أعمى لا رأي لهم، إلا أن يُقاتلوا. فإن تَتَرَّسوا بهم جاز رميهم، ويَقْصِد المقاتلة. وإن تترسوا بمسلمين لم يجز رميهم إلا أن يُخاف على المسلمين فيرميهم ويقصِد الكفار). أما كون كل واحد من الصبي والمرأة والشيخ الفاني لا يقتل إذا لم يكن ذا رأي ولم يقاتل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انطلقوا بسم الله. لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا امرأة» (¬1) رواه أبو داود. وأما كون الراهب لا يُقتل إذا كان كذلك فلأن في حديث أبي بكر الذي في وصيته لزيد: «ستمرون على قومٍ في صوامع لهم. احتبسوا أنفسهم فيها. فدعوهم حتى يُميتهم الله على ضلالتهم» (¬2). وأما كون كل واحد من الزَّمِن والأعمى لا يقتل إذا كان كذلك فبالقياس على الشيخ الفاني؛ لا شتراكهم في عدم النكاية. وأما كون جميع من ذُكر يقتل إذا كان ذا رأي أو قاتل: أما كونه يقتل إذا كان ذا رأي فلأن الرأي من أعظم المؤنة في الحرب. وقد جاء عن معاوية أنه قال لمروان والأسود: «أمددتما علياً بقيس بن سعد وبمائة، فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل ما كان بأغيظ لي من ذلك». وأما كونه يُقتل إن قاتل «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأة مقتولة يوم الخندق فقال: من قتل هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! فقال: ولم؟ قال: نازعتني قائمة سيفي. فسكت» (¬3). وفي حديثٍ آخر: «وقف على امرأة مقتولة. فقال: ما بالها قتلت وهي لا تقاتل» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2614) 3: 37 كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2383) 2: 148 باب ما يؤمر به الجيوش إذا خرجوا. (¬3) أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث عكرمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف، فقال: ألمْ أنْهَ عن قتل النساء؟ من صاحب هذه المرأة المقتولة؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله! أردفتُها، فأرادت أن تصرَعني، فتقتلني. فأمرَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُوارى». ص: 183 كتاب الجهاد، باب في فضل الجهاد. (¬4) عن حنظلة الكاتب، قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على امرأة مقتولة قد اجتمع عليها الناس. فأفرجُوا له. فقال: ما كانت هذه تُقاتل فيمن يُقاتل». أخرجه ابن ماجة في سننه (2842) 2: 948 كتاب الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان. وأخرجه أحمد في مسنده (17647) 4: 178.

ولأنه لو لم يجز قتل من ذُكر لأدى إلى تلف من قاتله. وأما كون الكفار يجوز رميهم إذا تترسوا بمن ذكر من الكفار الذين لا يجوز قتلهم فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمجنيق» (¬1) وفيهم النساء والصبيان. ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد؛ لأنهم إذا علموا ذلك تترسوا بهم. وأما كون الرامي يقصد المقاتلة فلأن ذلك هو المقصود. وأما كونهم لا يجوز رميهم إذا تترسوا بمسلمين ولم يخف على المسلمين فلأن ذلك يؤول إلى قتل المسلمين مع أن لهم مندوحة. وأما كونهم يجوز رميهم إذا خيف على المسلمين مثل أن تكون الحرب قائمة أو لا يقدر عليهم إلا بذلك فلأنه حال ضرورة. وأما كون الرامي يقصد الكفار فلأنهم هم المقصودون بالقتل. قال: (ومن أسر أسيراً لم يجز له قتلُه حتى يأتي به الإمام إلا أن يمتنع من المسير معه ولا يمكنه إكراهه). أما كونُ من أسر أسيراً لا يجوز له قتله حتى يأتي به الإمام إذا لم يمتنع من المسير معه أو امتنع وأمكنه (¬2) إكراهه على ذلك فلأنه إذا صار أسيراً كانت الخيرة فيه إلى الإمام فلم يجز قتله لما فيه من إبطال الخيرة المستحقة للإمام. وأما كونه يجوز له قتله إذا لم يسر معه ولا يمكنه إكراهه فلأنه لو لم يجز قتله لأدى ذلك إلى إطلاقه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 274. (¬2) في وو هـ: ولا يمكنه.

قال: (ويخيّر الأمير في الأسرى: بين القتل، والاسترقاق، والمنِّ، والفداء بمسلم أو مال. وعنه: لا يجوز بمال. إلا غير الكتابي ففي استرقاقه روايتان. ولا يجوز أن يختار إلا الأصلح للمسلمين، فإن أسلموا رَقّوا في الحال). أما كون الأمير يخير في الأسرى من أهل الكتاب بين القتل والاسترقاق والمن والفداء: أما القتل فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قَتل رجال قريظة، وهم ما بين الستمائة والسبعمائة» (¬1). و«قتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث صبراً» (¬2). وأما الاسترقاق فلأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية فبالرق أولى. ولأنه أبلغ في صَغارهم. وأما المن والفداء فلقوله تعالى: {فإما مَنّا بعدُ وإما فداءً} [محمد: 4]. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم منّ على أبي عَزّة الشاعر» (¬3). و«منّ على العاصي بن الربيع» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1582) 4: 144 كتاب السير، باب ما جاء في النزول على الحكم. وفيه: وكانوا أربعمائة. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من طريق محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل بالأسارى حتى إذا كان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط. فجعل عقبة بن أبي معيط يقول يا ويلاه! علام أقتل من بين هؤلاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعداوتك لله ولرسوله. فقال: يا محمد! مَنُّك أفضل. فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت عليهم مننت عليّ، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم. يا محمد! من للصبية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النار. يا عاصم بن ثابت قدمه فاضرب عنقه. فقدمه فضرب عنقه» 9: 64 كتاب السير، باب ما يفعله بالرجال البالغين منهم. وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث سعيد بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة من قريش صبراً: المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط. ص: 183. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من طريق سعيد بن المسيب مطولاً 6: 320 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في من الإمام على من رأى من الرجال البالغين من أهل الحرب. (¬4) عن عائشة قالت: «لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على ابن العاص قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَق لها رِقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها. فقالوا: نعم». أخرجه أبو داود في سننه (2692) 3: 62 كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال. وأخرجه أحمد في مسنده (26405) 6: 276.

و «على ثمامة بن أثال» (¬1). و«فادى أسيراً برجلين من أصحابه أسرتهما ثَقيف» (¬2). و«فادى أسارى بدر» (¬3). وأما كون الفداء يجوز بمسلم أو بمال على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم فادى بمسلم في أسرى ثقيف» (¬4) و «بمال في أسرى بدر» (¬5). وأما كونه لا يجوز بمالٍ على رواية فلأن الله تعالى عاتب رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على فداء الأسرى يوم بدر بالمال بقوله: {تُريدون عرض الدنيا} [الأنفال: 67]. ¬

_ (¬1) عن أبي هريرة قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد. فجائت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال. سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سوارى المسجد. فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي يا محمد خير. إن تقتل تقتل ذا دم. وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى كان بعد الغد. فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك. إن تنعم تنعم على شاكر. وإن تقتل تقتل ذا دم. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ... الحديث. وفيه: أطلقوا ثمامة». أخرجه مسلم في صحيحه (1764) 3: 1386 كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عمران بن حصين مطولاً (1641) 3: 1262 كتاب النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله ... وأخرجه الترمذي في جامعه مختصراً (1568) 4: 135 كتاب السير، باب ما جاء في قتل الأسارى والفداء. وأخرجه أحمد في مسنده مختصراً (19738) 4: 427. (¬3) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما كان يوم قال نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ... الحديث. وفيه: فقال أبو بكر رضي الله عنه يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر رضي الله عنه ولكني أرى أن تمكنني من فلان قريباً لعمر فأضرب عنقه وتمكن علياً رضي الله عنه من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر رضي الله عنه ولم يهو ما قلت فأخذ منهم الفداء ... الحديث بطوله». أخرجه أحمد في مسنده (208) 1: 31. (¬4) سبق تخريجه قريباً. (¬5) سبق تخريجه في الحديث السابق.

والأول أولى؛ لأن دليل الرواية منسوخ. وأما كون الأمير يخير في غير الكتابي، وهو: من لا يُقَر على دينه كعبدة الأوثان بين القتل والمن والفداء فلما تقدم. وأما كونه له استرقاقه في رواية فكالكتابي. وأما كونه ليس له ذلك في رواية فلأنه لا يقر بالجزية. وهذه الصورة هي المراد من قول المصنف (¬1): إلا غير الكتابي ففي استرقاقه روايتان. وهو استثناء من قوله: ويخير الأمير بين القتل أي يخير الأمير في الكتابي بين أمور أربعة وفاقاً. وفي غير الكتابي يخير بين أمور ثلاثة وفي الرابع خلاف. فإن قيل: أيدخل فيما ذُكر العبد والنساء والصبيان والرهبان ومن كان زمنا أو أعمى أو شيخاً فانياً أو نحو ذلك؟ قيل: لا؛ لأنهم لا يجوز قتلهم: أما العبد فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدركوا خالداً فمروه أن لا يقتل عسيفاً» (¬2). وأما البواقي فلما مر. فإن قيل: ما حكمهم؟ قيل: يصيرون أرقاء بنفس السبي لأنهم مال لا ضرر في اقتنائهم أشبهوا البهائم. وصرح المصنف رحمه الله في المغني في فصل: أن الكافر إذا كان مولى مسلم: على جواز استرقاق الشيخ الزَّمِن. ونقله غيره من الأصحاب فقال: كل من لا يقتل كالأعمى وغيره يَرِق بنفس السبي. وقال المصنف رحمه الله في الكافي: الرجال الذين يحرم قتلهم كالشيخ الفاني ونحوه لا يجوز سبيهم؛ لأنه لا نفع فيهم. وطريق الجمع بين نقليه ونقل غيره: أن من لا يجوز قتله إن كان فيه نفع جاز سبيه، وإلا فلا. وتعليله في الكافي يؤيد هذا الجمع. إلا أنه يمكن أن يقال: ما من أحد إلا وفيه نفع لأن الزمِن يمكن كونه ناطوراً، والأعمى يمكن كونه ينفخ في كور الحداد؛ كما روي عن عمر «أنه أمر من كان من الصحابة كذلك بذلك». ¬

_ (¬1) سقط لفظ: المصنف من هـ. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2669) 3: 53 كتاب الجهاد، باب في قتل النساء.

وأما كون الأمير لا يجوز له أن يختار إلا الأصلح للمسلمين من الأمور المتقدم ذكرها فلأنه نائب للمسلمين فلا يجوز له فعل ما غلب على ظنه أنه لا مصلحة فيه. فإن قيل: فإن تردد. قيل: القتل أولى. وأما كون من أسلم ممن تقدم ذكره يُرق في الحال فلأنه يحرم قتله لقوله عليه السلام: «لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث» (¬1)، وهذا مسلم، وإذا كان قتله حراماً وجب أن يصير رقيقاً كالمرأة. وقال المصنف رحمه الله في الكافي: يخير فيهم الإمام بين المن عليهم وبين فدائهم وبين إرقاقهم؛ لأنه إذا جاز ذلك في حال كفرهم ففي حال إسلامهم بطريق الأولى. قال: (ومن سُبي من أطفالهم منفرداً، أو مع أحد أبويه فهو مسلم. وإن سبي مع أبويه فهو على دينهما). أما كون من سبي من أطفال الكفار منفرداً أو مع أحد أبويه مسلماً فلما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولودٍ يولد على الفطرة. وإنما أبواه يُهوّدانه ويُنصّرانه ويُمجّسانه» (¬2) رواه مسلم. جعل التبعية لأبويه فإذا سبي منفرداً أو مع أحدهما انقطعت تبعيته عنهما فوجب بقاؤه على حكم الفطرة. وأما كونه على دين أبويه إذا سبي معهما فلأن التبعية باقية. قال: (ولا ينفسخ النكاح باسترقاق الزوجين. وإن سبيت المرأة وحدها انفسخ نكاحها وحلت لسابيها). أما كون نكاح الزوجين لا ينفسخ باسترقاقهما فلأن الرق معنى لا يمنع ابتداء النكاح فلا يقطع استدامته كالعتق. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6484) 6: 2521 كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس والعين بالعين ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (1676) 3: 1302 كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (2658) 4: 2047 كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.

وأما كونه ينفسخ إذا سبيت المرأة وحدها فلأنها تحل لسابيها لما يأتي، ولو لم ينفسخ نكاحها لما كان كذلك. وأما كونها تحل لسابيها فلقوله تعالى: {والمحصناتُ -أي والمزوجات- من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24] أي بالسبي. روى أبو سعيد الخدري قال: «أصبنا سبايا يومَ أوطاس ولهن أزواج في قومهن. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: {والمحصناتُ من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ... الآية} [النساء: 24]» (¬1) رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن. قال: (وهل يجوز بيع من استُرق منهم للمشركين؟ على روايتين). أما كون بيع من استرق من الكفار يجوز للمشركين على رواية فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع سبي بني قريظة من أهل الحرب». ولأنهم لا يُمنعون من إثبات أيديهم عليهم فلم يمنعوا من ابتداء ذلك كالمسلم. وأما كون ذلك لا يجوز على روايةٍ فلأنه يروى عن عمر «أنه كتب ينهى أمراء الأمصار عن ذلك». ولأن في إبقائهم في دار الإسلام تحصيلاً لإسلامهم غالباً فلا يجوز ردهم إلى الشرك كما لو أسلموا. قال: (ولا يفرق في البيع بين ذوي رحم محرم إلا بعد البلوغ على إحدى الروايتين). أما كون من ذُكر لا يفرق بينهم قبل البلوغ فلما روى أبو أيوب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من فرّق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (¬2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. وعن علي رضي الله عنه قال: «وهَب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين. فبعت أحدهما. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل غلامك؟ فأخبرته. فقال: رده رده» (¬3) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (3016) 5: 234 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة النساء. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1566) 4: 134 كتاب السير، باب في كراهية التفريق بين السبي. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1284) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة.

ولأنه لا يفرق بين الوالد والولد الطفل وفاقاً فكذلك كل ذوي رحم محرم. وأما كونهم لا يفرق بينهم بعد البلوغ على رواية فلما ذُكر قبل. وأما كونهم يفرق بينهم على رواية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُفرق بين الأم وولدها. فقيل: إلى متى؟ قال: حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية» (¬1). ولأن الأحرار يتفرقون بعد البلوغ فالعبيد أولى. قال: (وإذا حصر الإمام حصناً لزمه مصابرته إذا رأى المصلحة فيه، فإن أسلموا أو من أسلم منهم أحرز دمه وماله وأولاده الصغار، وإن سألوا الموادعة بمالٍ أو غيره جاز إن كانت المصلحة فيه، وإن نزلوا على حكم حاكم جاز إذا كان بالغاً عاقلاً من أهل الاجتهاد). أما كون الإمام إذا حصر حصناً يلزم مصابرته إذا رأى المصلحة فيها فلأن عليه فعل ما فيه مصلحة المسلمين وقد وُجدت. وكلام المصنف رحمه الله مشعرٌ بأن الإمام إذا رأى المصلحة في الانصراف جاز. وهو صحيح. صرح به في المغني؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف فلم ينَل منهم شيئاً فانصرف قبل فتح الحصن» (¬2). وأما قول المصنف رحمه الله: فإن أسلموا ... إلى آخره فمشعر بأنه يزول اللزوم المذكور إذا وجد منهم إسلام أو سؤال موادعة أو نزول على حكم حاكم. وهو صحيح: أما زواله بالإسلام فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» (¬3). فعلى هذا من أسلم منهم حَقن دمه وماله وأولاده الصغار: أما الدم والمال فلأن في تتمة الحديث المذكور: «فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم». ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 128 كتاب السير، باب الوقت الذي يجوز فيه التفريق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4070) 4: 1572 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (25) 1: 17 كتاب الإيمان، باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}. وأخرجه مسلم في صحيحه (22) 1: 53 كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ...

وأما الأولاد فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم أبناء سَعْيَة، فأحرز إسلامهما أموالهما وأولادهما» (¬1). ولأن الأولاد الصغار تبع لهم في الإسلام فكذلك في العصمة. وأما زواله بالموادعة فلأن الغرض إعلاء كلمة الإسلام وصَغار الكفرة وذلك حاصل. فعلى هذا يجوز بالمال وبغير مال كما يجوز المن عليهم. واشترط بعض الأصحاب في عقدها بغير مال أن يعجز المسلمون أو يستضروا بالمقام ليكون ذلك عذراً في الانصراف. وأما زواله بالنزول على حكم حاكم فـ «لأن بني قريظة حين حصرهم النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا على حكم سعد بن معاذ» (¬2). فعلى هذا يشترط في الحاكم أن يكون مسلماً حراً بالغاً عاقلاً مجتهداً؛ لأنه حكم أشبه ولاية القضاء. ولم يذكر المصنف رحمه الله اشتراط ذكوريته واشترطه في الكافي كذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن عاصم بن عمرو بن قتادة عن شيخ من قريظة أنه قال: «هل تدري عما كان إسلام ثعلبة وأسيد ابني سعية وأسد بن عبد نفر من هدل لم يكونوا من بني قريظة ولا نضير كانوا فوق ذلك فقلت: لا. قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال: له ابن الهيبان فأقام عندنا والله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس خيراً منه فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين فكنا إذا قحطنا وقل علينا المطر نقول له يا ابن الهيبان أخرج فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة فنقول: كم نقدم؟ فيقول صاعاً من تمر أو مدين من شعير ثم يخرج إلى ظاهرة حرتنا ونحن معه فيستقي فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة فحضرته الوفاة فاجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع فقلنا: أنت أعلم فقال: إنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه هذه البلاد مهاجره فاتبعه فلا تسبقن إليه إذا خرج يا معشر يهود فإنه يسفك الدماء ويسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعكم ذلك منه ثم مات فلما كانت تلك الليلة التي افتتحت فيها قريظة قال: أولئك الفتية الثلاثة وكانوا شبانا أحداثا يا معشر يهود للذي كان ذكر لكم ابن الهيبان قالوا: ما هو؟ قالوا: بلى والله لهو يا معشر اليهود أنه والله لهو لصفته ثم نزلوا فأسلموا وأخلوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم قال: وكانت أموالهم في الحصن مع المشركين فلما فتح رد ذلك عليهم» 9: 114 كتاب السير، باب الحربي يدخل بأمان وله مال في دار الحرب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3896) 4: 1511 كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى قريظة.

قال: (ولا يحكم إلا بما فيه حَظٌّ للمسلمين من: القتل، والسبي، والفداء. فإن حكم بالمن لزم قبوله في أحد الوجهين، وإن حكم بقتل أو سبي فأسلموا عصموا دماءهم، وفي استرقاقهم وجهان). أما كون الحاكم المذكور لا يحكم إلا بما فيه حظٌّ للمسلمين من الأمور المذكورة فلأنه نائب الإمام فقام مقامه في اختيار الأحظ. ولأنه يخير فلم يجز فيه إلا الأحظ كخيرة الإمام إذا أسر أسيراً. وأما كونه إذا حكم بالمن يلزم قبول حكمه في وجهٍ وهو للقاضي فلأنه نائب الإمام فلزم قبوله منه إذا رآه كالإمام. وأما كونه لا يلزم في وجه وهو لأبي الخطاب فلأنه إذا لم يره الإمام تبين أنه لا حظ فيه. فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله مطلق وتعليل الوجه الثاني يقتضي كونه مقيداً بأن الإمام لم يره. قيل: هكذا علله في الكافي. وقيده صاحب الخلاصة فيها فقال: فإن حكم بالمن فأبى الإمام. وهو حسن لما ذكر. [إلا أن فيه نظراً من حيث إن الوجه المذكور لأبي الخطاب ولم يقيده في هدايته] (¬1). وأما كونهم يعصمون دمائهم إذا حَكم بقتلهم أو سبيهم فأسلموا فلأن قتل المسلم حرام. وفي اقتصار المصنف رحمه الله على عصمة الدماء دليل على عصمة المال. وقد صرح بذلك في الكافي، ونقله غيره. وإنما لم يعصموا أموالهم؛ لأنها صارت للمسلمين قبل إسلامهم. وأما كونهم لا يُسترقون في وجهٍ فلأنهم أسلموا قبل استرقاقهم أشبه ما لو أسلموا قبل القدرة عليهم. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

وأما كونهم يُسترقون في وجه فلأنهم أسلموا بعد القدرة عليهم ووجوبِ قتلهم أشبه الأسير إذا أسلم بعد اختيار الإمام قتله.

باب ما يلزم الإمام والجيش

باب ما يلزم الإمام والجيش قال المصنف رحمه الله: (يلزم الإمامُ عند مسيرِ الجيش تعاهدَ الخيل والرجال، فما لا يصلح للحرب يمنعه من الدخول، ويمنع المُخذّلَ والمرجِفَ والنساءَ إلا طاعنةً في السن لسقيِ الماء ومعالجةِ الجرحاء) (¬1). أما كون الإمام يلزمه تعاهدَ الخيل والرجال عند مسير الجيش فلأن ذلك من مصالح الجيش فلزمه فعله كبقية المصالح. وأما كون ما لا يصلح للحرب يمنعه من الدخول فلئلا يُقطع في دار الحرب. ولأن دخول مثل ذلك معه ربما كان سبباً للهزيمة. والمراد بما لا يصلح من الخيل: الفرس الحطيم والكبير والضعيف والأعجف. ومن الرجال الزمن والأشل والمفلوج والمريض وما أشبه ذلك. وأما كونه يمنع المخذل وهو: الذي يُضَعّف قلوب الناس فيقول: إن في عدونا كثرة وقوة ونحن ضعفاء ولا طاقة لنا بهم. والمرجف: وهو الذي يقول: هلكت سرية المسلمين التي مضت، أو يقول: للمشركين مدد وورائهم جيش وما أشبه ذلك؛ فلقوله تعالى: {ولكن كَره الله انبعاثهم فَثَبَّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} [التوبة: 46]. وقوله تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خَبالاً ولأَوْضعوا خِلاَلَكم} [التوبة: 47]. ولأن هؤلاء مضرة على المسلمين فيلزم الإمام منعهم: إزالةً للضرر. وأما كونه يمنع النساء غير طاعنة في السن كالشَّواب فلما في ذلك من الافتتان بهن مع أنهن لسن من أهل القتال لاستيلاء الخَوَر والجبن عليهن. ¬

_ (¬1) في المقنع: الجرحى.

ولأنه لا يؤمن ظَفَر العدو بهن فيستحلون منهن ما حرم الله. وأما كونه لا يمنع طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحاء فلما روى أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوةٍ معها من الأنصار يستقين الماء ويداوين الجرحاء» (¬1) قال الترمذي: هذا حديث صحيح. قال: (ولا يستعين بمشركٍ إلا عند الحاجة إليه). أما كون الإمام لا يستعين بمشرك عند عدم الحاجة إليه فلما روت عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر، فتبعه رجل من المشركين. قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: فارجع فلن أستعين بمشرك» (¬2) متفق عليه. وأما كونه يَستعين به عند الحاجة إليه فـ «لأن صفوان بن أمية شهد حنيناً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك» رواه سعيد. فإن قيل: الحديثان مطلقان فينبغي أن يتعارضا. قيل: يجب حملهما على ما ذُكر جمعاً بينهما ونفياً للتعارض. قال: (ويَرفُق بهم في السير، ويُعد لهم الزاد، ويُقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر). أما كون الإمام يَرفق بالجيش في السير. والمراد به أنه في السير يسير بهم سير أضعفهم فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمير القوم أقطعهم». أي أقلهم سيراً. ولئلا ينقطع منهم أحد أو يشق عليه. فإن قيل: الرفق المذكور مطلقاً أو مع عدم الحاجة؟ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1575) 4: 139 كتاب السير، باب ما جاء في خروج النساء في الحرب. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1817) 3: 1450 كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر. ولم أره عند البخاري. وأخرجه أبو داود في سننه (2732) 3: 75 كتاب الجهاد، باب في المشرك يسهم له. وأخرجه الترمذي في جامعه (1558) 4: 127 كتاب السير، باب ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين هل يسهم لهم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2832) 2: 945 كتاب الجهاد، باب الاستعانة بالمشركين. مختصر. وأخرجه أحمد في مسنده (24431) 6: 68.

قيل: بل مع عدم الحاجة إلى العجلة. فإن دعتنا الحاجة جاز «لأن النبي صلى الله عليه وسلم جَدَّ حين بلغه قولَ عبدالله بن أبي: {ليخرجن الأعز منها الأذل} [المنافقون: 8]» (¬1) لِيَشغل الناس عن الخوض فيه. وأما كونه يُعد الزاد لهم فلأنهم ربما طال سفرهم عما عزموا عليه فيهلكون إذا لم يكن لهم زاد. وأما كونه يقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر فلأن ذلك مما تستعين النفوس به على المصابرة ويعينها على القتال. وقد نبه الله تعالى على ذلك في القرآن حيث قال تعالى فيه: {وعدكم الله مغانمَ كثيرةً ... الآية} [الفتح: 20]. قال: (ويعرّف عليهم العرفاء، ويَعقد لهم الألوية والرايات، ويجعل لكل طائفة شِعاراً يتداعون به عند الحرب). أما كون الإمام يُعرّف العرفاء على جيشه؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف عام خيبر على كل عشرة عريفاً». ولأنه أقرب في جمعهم. وأما كونه يعقد لهم الألوية والرايات؛ فلما روى ابن عباس «أن أبا سفيان حين أسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها. قال: فحبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومرت به القبائل على راياتها». والمراد بالألوية المطارد. قاله الجوهري. وبالرايات الأعلام. وأما كونه يجعل لكل طائفة شعاراً يتداعون به عند الحرب؛ فلأن الإنسان ربما احتاج إلى نصرة صاحبه فإذا كان بينهم شِعار وهو العلامة دعى أحدهم صاحبه بها. ولأن الإنسان ربما ضل فيهتدي بالشعار. قال: (ويَتَخير لهم المنازل، ويتبع مكامنها فيحفظها، ويبعث (¬2) العيون على العدو حتى لا يخفى عليه أمرهم). أما كون الإمام يتخير لجيشه المنازل فلأن ذلك أرفق بهم، وفيه إعانة على السير. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدر المنثور 8: 178 وعزاه إلى ابن أبي شيبة في تفسيره. (¬2) في المقنع: ويبث.

وأما كونه يتبع مكامنها فيحفظها فليأمن هجوم العدو عليهم. وأما كونه يبعث العيون على العدو فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث حُذافة بن اليمان في غزاة الخندق ودحية الكلبي في بعض غزواته» (¬1). ولأنه إذا فعل ذلك لا يخفى عليه أمرهم. وقد نبه المصنف رحمه الله على ذلك بقوله: حتى لا يخفى عليه أمرهم. قال: (ويمنع جيشه من الفساد والمعاصي، ويَعِد ذا الصبر بالأجر والنّفَل، ويشاور ذا الرأي). أما كون الإمام يمنع جيشه مما ذُكر فلأن ذلك داع للنصر وسبب للظفر. وأما كونه يَعِد ذا الصبر بالأجر والنفَل فلأن ذلك وسيلة إلى بذل جهده وازدياد صبره. وأما كونه يشاور ذا الرأي فلقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159]. ولقوله عليه السلام: «ما خاب من استشار» (¬2). ولقوله: «لن يهلك قوم عن مشورة» (¬3). ولأن في ذلك تطييباً لقلوبهم. وربما ظهر له بالمشاورة ما خفي عليه. ولذلك قال الشاعر: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني قال: (ويصُفُّ جيشه، ويجعل في كل جنبة كفؤاً. ولا يميل مع قريبه وذي مذهبه على غيره). أما كون الإمام يصف جيشه فلأن ذلك من مصالح الحرب. ¬

_ (¬1) حديث بعث حذافة بن اليمان في غزوة الخندق أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 148 كتاب السير، باب بعث العيون والطلائع من المسلمين. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد». وعزاه إلى الطبراني في الصغير من طريق عبدالسلام بن عبدالقدوس وكلاهما ضعيف جداً. 8: 96 كتاب الأدب، باب ما جاء في المشاورة. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم الرازي في علله عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يهلك امرؤ عن مشورة» (2178) 2: 231 علل أخبار في الأدب والطب. وقال: إنما روى هذا الحديث هشيم عن علي بن زيد بن جدعان فنرى أنه أخذه عن أشعث أو عن رجل عن أشعث وأشعث بن براز ضعيف الحديث.

وأما كونه يجعل في كل جنبة كفؤاً؛ فلما روى أبو هريرة قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خالداً على إحدى المجنبتين، وجعل الزبير على الأخرى، وجعل أبا عبيدة للساقة» (¬1). ولأن ذلك أحوط للحرب وأبلغ في إرهاب العدو. وأما كونه لا يميل مع قريبه وذي مذهبه على غيره؛ فلئلا ينكسر قلب من يميل عليه فيخذله عند الحاجة. ولأن ذلك يُفسد القلوب ويشتت الكلمة. قال: (ويجوز له أن يَبذل جُعلاً لمن يدله على طريق أو قلعة أو ماء. ويجب أن يكون معلوماً إلا أن يكون من مال الكفار فيجوز مجهولاً). أما كون الإمام يجوز له أن يبذل جُعلاً فيما ذُكر فلأنه من مصالح المسلمين فجاز بذله كسائر المصالح. وأما كون الجُعل يجب أن يكون معلوماً إذا كان من مال المسلمين؛ فلأنه جُعل فوجب أن يكون معلوماً كالجعل في المسابقة ورد الضالّة. وأما كونه يجوز أن يكون مجهولاً إذا كان من مال الكفار فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلث والربع وسلب المقتول». وهو مجهول. قال: (فإن جعل له جارية منهم فماتت قبْل الفتح فلا شيء له، وإن أسلمت قبل الفتح فله قيمتها، وإن أسلمت بعده سُلمت إليه. إلا أن يكون كافراً فله قيمتها. وإن فتحت صلحاً ولم يشترطوا الجارية فله قيمتها. فإن أبى إلا الجارية وامتنعوا من بذلها فُسخ الصلح. ويحتمل أن لا يكون له إلا قيمتها). أما كون من جُعلت له الجارية لا شيء له إذا ماتت قبل الفتح فلأن حقه متعلق بمعيّن فيسقط بتلفه من غير تفريط كالوديعة. وأما كونه له قيمتها إذا أسلمت قبل الفتح فلأنها عَصَمت نفسها بالإسلام فوجب له قيمتها لأن الحق إذا تعذر ردُّ عينه وجب رد قيمته أشبه ما لو أتلف مال غيره الذي لا مثل له. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1780) 3: 1405 كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة.

و «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلماً رده إليهم فجاء نساء مسلمات منعه الله ردهن وأمره برد مهورهن» (¬1). وأما كون الجارية تُسَلّم إليه إذا أسلمت بعد الفتح وكان مسلماً فلأنه أمكن الوفاء بما شرط له فكان واجباً لقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم» (¬2). وأما كونها لا تُسلم إليه إذا كان كافراً فلأن الكافر لا يجوز له أن يبتدئ الملك على مسلم. وأما كون الكافر له قيمتها فلأنه تعذر تسليمها إليه فوجب الرجوع إلى بدلها وهو القيمة لما تقدم. وأما كونه له قيمتها إذا فُتحت القلعة صلحاً ولم يشترط المسلمون الجارية فلأن رد عينها متعذر لكونها تدخل تحت الصلح، وإذا تعذر رد عينها تعين رد قيمتها لأنها بدلها. وفي قول المصنف رحمه الله: ولم يشترطوا الجارية إشعار بأنه لو شُرط في الصلح تسليم الجارية لزم تسليم عينها لا قيمتها. وهو صحيح لما فيه من الوفاء بالشرط. وأما كون الصلح ينفسخ إذا لم يرض من جُعلت له الجارية بقيمتها وامتنع أهلها من بذلها على المذهب فلأنه تعذر إمضاؤه لأن حق الدالّ سابق. وأما كونه يحتمل أن لا يكون له إلا القيمة فلأنه تعذر تسليمها فوجب له قيمتها أشبه ما لو أسلمت. قال: (وله أن يُنفّل في البُداءة الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده. وذلك إذا دخل الجيش بَعَث سريةً تُغير، فإذا رجع بعث أخرى؛ فما أتت به أخرج خُمُسه وأعطى السرية ما جعل لها وقسم الباقي للجيش والسرية معاً). أما كون الإمام له أن يُنَفّل ما ذُكر فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نَفّل الربع في البَدْأَة والثلث في الرجعة» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2765) 3: 85 كتاب الجهاد، باب في صلح العدو. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح. وأخرجه الترمذي في جامعه (1352) 3: 492 كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2750) 3: 80 كتاب الجهاد، باب فيمن قال: الخمس قبل النفل.

وفي لفظ: «كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا قَفَل» (¬1). رواهما أبو داود. فإن قيل: لم أزيد في الرجعة على البداءة؟ قيل: لمشقة الرجعة؛ لأن الجيش في البداءة ردء للسرية بخلاف الرجعة. وأما قول المصنف رحمه الله: وذلك إذا دخل ... إلى آخره فبيان لما يَفعل الإمام عند الدخول والرجوع من بعث السرية. وأما قوله: فما أتت به أَخرج خمسه فتنبيه على أن السرية يخمس ما غنمت كالجيش؛ لأنه مال مغتنم فيدخل في قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خُمُسَه} [الأنفال: 41]. وأما قوله: وقسم الباقي للجيش والسرية فتنبيه على أن الجيش يشارك سراياه فيما غنمت. وسيأتي ذكره في باب قسم الغنائم (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2749) الموضع السابق. (¬2) ص: 304.

فصل [فيما يلزم الجيش] قال المصنف رحمه الله: (ويلزم الجيشُ طاعةَ الأمير، والنصحَ له، والصبرَ معه) أما كون الجيشِ يلزمه طاعةَ الأمير فلقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني. ومن عصاني فقد عصا الله، ومن عصى أميري فقد عصاني» (¬1) رواه النسائي. وأما كونهم يلزمهم النصحَ له؛ فلأن نصحه نصح للمسلمين. ولأنه وُضع للدفع عن المسلمين فإذا نصحوه كثر دفعه. وفي الحديث: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» ومعناه يكف. وأما كونهم يلزمهم الصبر معه فلقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا} [آل عمران: 200]. ولأن الصبر من أقوى أسباب النصر والظفر. قال: (ولا يجوز لأحد أن يتعلف، ولا يحتطب، ولا يبارز، ولا يخرج من العسكر (¬2)، ولا يحدث حدثاً إلا بإذنه). أما كون أحدٍ لا يجوز له أن يتعلف، وهو: تحصيل العلف للدواب. ولا يحتطب، وهو: تحصيل الحطب بغير إذن الإمام؛ فلقوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه} [النور: 62]. ولأن الأمير أعرف بحال الناس والمواضع والمكامن وقربِ العدو وبعدِه فإذا خرجوا بغير إذنه لم يؤمن أن يكون في موضع ذهابِهم عدوٌ فيظفر بهم. وربما ارتحل الأمير وبقي الخارج فيضيع. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (4193) 7: 154 كتاب البيعة، الترغيب في طاعة الإمام. (¬2) في المقنع: المعسكر.

وأما كونه لا يجوز أن يبارز بغير إذنه فلأن الأمير أعرف بفرسانه وشأنِ عدوه فإذا برز بغير إذنه فربما برز إلى من لا يُطيقه فلا يؤمن ظفَر العدو به فينكسر قلوب المسلمين. وأما كونه لا يجوز أن يخرج من العسكر بغير إذنه فلأنه ربما كان للعدو كمين فيأخذوه وينكسر قلوب المسلمين، وربما دخل الأمير وأدى خروجه إلى ضياعه. وأما كونه لا يجوز أن يحدث حدثاً بغير إذنه فلما ذُكر قبلُ. قال: (فإن دعا كافر إلى البراز استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن الأمير، فإن شرط الكافر أن لا يقاتله (¬1) غير الخارج إليه فله شرطه. فإن انهزم المسلم أو أُثخن بالجراح جاز الدفع عنه. وإن قتله المسلم فله سلبه). أما كون مبارزة من يعلم من نفسه ما ذُكر يستحب بإذن الأمير فـ «لأن حمزة وعلياً وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر بإذن النبي صلى الله عليه وسلم» (¬2). و«بارز ابنُ الأكوع مرحباً يوم خيبر ثم بارزه علي» (¬3). وقيل: «بارزه محمد بن مسلمة» (¬4). ولم يزل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبارزون في حروبهم. روي عن البراء بن مالك أنه قال: «قتلت تسعة وتسعين رئيساً من المشركين مبارزة» (¬5). وأما كون الكافر له شرطه إذا شرط أن لا يقاتله غير الخارج إليه؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم» (¬6). وأما كون الدفع عن المسلم يجوز إذا انهزم فلأن المسلم إذا صار إلى هذه الحالة فقد انقضى قتاله وربما أثخنه فقتله. ¬

_ (¬1) في هـ: أن يقاتله. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2665) 3: 52 - 53 كتاب الجهاد، باب: في المبارزة. وأخرجه أحمد في مسنده (951) ط إحياء التراث. كلاهما عن علي رضي الله عنه. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (23081) 5: 358. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (15173) 3: 385. (¬5) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (9469) 5: 233 كتاب الجهاد، باب السلب والمبارزة. (¬6) سبق تخريجه ص: 293.

وأما كونه يجوز إذا أُثخن بالجراح فـ «لأن حمزة وعلياً أعانا عُبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن ربيعة حين أُثخن عبيدة» (¬1). وأما كون المسلم له سلب الكافر إذا قتله فلأن القاتل يستحق سلب المقتول؛ لما سيأتي بعد. قال: (وكل من قَتل قتيلاً فله سلبه غير مخموس إذا قتله حال الحرب منهمكاً على القتال غير مثخن، وغرر بنفسه في قتله. وعنه: لا يستحقه إلا من شُرط له). أما كون من قتل قتيلاً له سلبه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل كافراً فله سلبه» (¬2). وقال عليه السلام: «من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه» (¬3) متفق عليه. وأما كون السلب غيرَ مخموس «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن طليعة الكفار: من قتله؟ قالوا: ابن الأكوع قال: له سلبه أجمع» (¬4) رواه أبو داود. وروى عوف بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل، ولم يخمس السلب» (¬5). روه أبو داود. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا قتله ... إلى آخره؛ فبيان لما يشترط في كون السلب للقاتل، وهو أشياء: أحدها: أن يَقتله حال الحرب، فإن قتله بعد انقضائها فلا سلب له؛ «لأن عبدالله بن مسعود وقف على أبي جهل، وقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو (¬6) بن الجموح» (¬7)؛ لأنه أثبته. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبا من حديث علي رضي الله عنه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2718) 3: 71 كتاب الجهاد، باب في السلب يعطى القاتل. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2973) 3: 1144 أبواب الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1751) 3: 1370 كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل. كلاهما عن أبي قتادة. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2654) 3: 49 كتاب الجهاد، باب في الجاسوس المستأمن. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (2721) 3: 72 كتاب الجهاد، باب في السلب لا يخمس. (¬6) في هـ: عمر. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (3745) 4: 1458 كتاب المغازي، باب: قتل أبي جهل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1800) 3: 1424 كتاب الجهاد والسير، باب: قتل أبي جهل.

وثانيها: أن يكون مُقبلاً على القتال فإن كان مدبراً فلا سلب له؛ لأنه لم يغرر بنفسه في قتله. وثالثها: أن يغرر بنفسه في قتله كالمبارز. فإن قتله بسهم من صف المسلمين فلا سلب له؛ لأن الخبر إنما ورد في المبارزة ونحوها. ورابعها: أن يكون القاتل ذا حق في المغنم حراً كان أو عبداً، رجلاً أو صبياً. فإن لم يكن له حق كالمخذل والمرجف والكافر إذا حضر بغير إذن فلا سلب له؛ لأنه لا حق له في المغنم فغيره أولى. ولم يذكر المصنف رحمه الله هذا الشرط هنا، ونص عليه في الكافي. وأما كونه لا يشترط في ذلك إذن الأمير على المذهب فلعموم ما تقدم من الأحاديث. وأما كونه يُشترط على رواية؛ فلما روى عوف بن مالك «أن مددا غزا معهم فقتل علجاً فأعطاه خالد بعض سلبه وأمسك سائره. فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تعطه يا خالد» (¬1) رواه أبو داود. والأول أصح؛ لما تقدم. ولأن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «من قتل قتيلاً فله سلبه» (¬2) عام في غزوته وغيرها. ولذلك احتج به عوف بن مالك على خالد حين أخذ سلب المددي. فقال له عوف: «أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى». ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك. قال: «قتل رجل من حمير رجلاً من العدو فأراد سلبه. فمنعه خالد بن الوليد. وكان والياً عليهم. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عوفُ بن مالك فأخبره. فقال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته يا رسول الله! قال: ادفعه إليه. فمرّ خالد بعوف فجرّ بردائه. ثم قال: هل أنجزتُ لك ما ذكرتُ لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستُغضب. فقال: لا تعطه يا خالد! لا تعطه يا خالد! هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعي إبلا أو غنما فرعاها ثم تحّين سَقيها. فأوردها حوضا فشرعت فيه فشربت صَفوه وتركت كدره. فصفوه لكم وكدره عليهم» (1753) 3: 1373 كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل. وأخرجه أبو داود في سننه (2719) 3: 71 كتاب الجهاد، باب في الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى والفرس والسلاح من السلب. (¬2) سبق تخريجه قريباً.

وقول عمر: «كنا لا نخمس السلب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1) يدل على أن هذا من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهورة العامة. وأما أمر خالد بعدم الإعطاء فعقوبة لعوف حين أغضبه بتقريعه خالداً بين يديه. قال: (فإن قطع أربعته، وقتله آخر فسلبه للقاطع. وإن قتله اثنان فسلبه غنيمة، وقال القاضي: هو لهما). أما كون السلب لقاطع أربعته دون قاتله بعد ذلك؛ فلأن القاطع هو الذي أثبته، ولذلك «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عمرو (¬2) بن الجموح سلبَ أبي جهل» (¬3)، و «لم يعطه ابن مسعود مع أنه تمم قتله» (¬4). وأما كون سلبه غنيمة إذا قتله اثنان على المذهب فلأن السلب يُستحق للتغرير ولا يحصل ذلك بالاشتراك، وإذا لم يستحقه القاتل وجب كونه غنيمة كسائر أموال الكفار. وأما كونه لهما على قول القاضي فلأنهما قتلاه فاستحقا سلبه لدخولهما في عموم الأحاديث المتقدمة. وكالواحد. قال: (وإن أسره فقتله الإمام فسلبه غنيمة، وقال القاضي: هو لمن أسره). أما كون سلب من أسره فقتله الإمام غنيمة على الأول فلأن الذي أسره لم يقتله والإمام لم يغرر بنفسه في قتله. وأما كونه لمن أسره على قول القاضي فلأنه غرر بنفسه في أسره أشبه ما لو قتله. فإن قيل: ظاهر هذا التعليل أنه يستحق السلب سواء قتله الإمام أو فاداه. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (9468) 5: 233 كتاب الجهاد، باب السلب والمبارزة. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (2708) 2: 263 كتاب الجهاد، باب ما يخمس في النفل. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 310 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في تخميس السلب. (¬2) في هـ: عمر. (¬3) سبق تخريجه ص: 297. (¬4) أخرجه الطبراني في الكبير (12123) 11: 399 عن ابن عباس قال: «انتهى عبدالله بن مسعود إلى أبي جهل يوم بدر وهو وقيذ فاستل سيفه فضرب عنقه فبدر رأسه ... » وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: فيه إسماعيل بن أبي إسحاق أبو إسرائيل الملائي وهو ضعيف. وقال أحمد: يكتب حديثه. 5: 331.

قيل: نعم. وصرح المصنف به في الكافي. قال: (وإن قطع يده ورجله، وقتله آخر فسلبه غنيمة. وقيل: هو للقاتل). أما كون السلب في ما ذكر غنيمة على الأول فلأن القاطع والقاتل اشتركا فيه ولا تغرير مع الشركة، وهو شرط في استحقاق القاتل السلب، وإذا لم يستحقه القاتل تعين كونه غنيمة لما تقدم. وأما كونه للقاتل على قولٍ؛ فلدخوله في عموم قوله عليه السلام: «فمن قتل قتيلاً فله سلبه» (¬1). قال: (والسلب: ما كان عليه من ثيابٍ وحلي وسلاح والدابة بآلتها. وعنه: أن الدابة ليست من السلب. ونفقته ورحله وخيمته غنيمة). أما كون ما على المقتول من الثياب من السلب فلا شبهة له فيه لدخول ذلك في مفهوم السلب. وأما كون ما عليه من حلي وسلاح من السلب فلما روي «أن عمرو بن معد يكرب حمل على أسوار وطعنه فدق صلبه فصرعه، فنزل إليه فقطع يديه وأخذ سوارين كانا عليه ويَلْمَق من ديباج وسيفاً ومِنطقة فسلم ذلك له» (¬2). و«بارز البراء مُرزُبان الزأرة فقتله فبلغ سواره ومنطقته ثلاثين ألفاً» (¬3). وأما كون الدابة وآلتها من السلب على المذهب؛ فلأنهما يُستعان بها في الحرب أشبها السلب. وأما كونهما ليست منه على روايةٍ؛ فلأن السلب ما كان على البدن، والدابةُ وآلتُها ليستا كذلك. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 297. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2691) 2: 257 كتاب الجهاد، باب النفل والسلب في الغزو والجهاد. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (9468) 5: 233 كتاب الجهاد، باب السلب والمبارزة. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (2716) 2: 265 كتاب الجهاد، باب ما يخمس في النفل. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 311 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في تخميس السلب.

وأما كون نفقته وخيمته ورحله غنيمة فلأنه ليس من الملبوس ولا مما يُستعان به في الحرب فكان غنيمة كبقية أموال الكفار. قال: (ولا يجوز الغزو إلا بإذن الإمام (¬1) إلا أن يَفْجَأهم عدوٌّ يخافون كَلَبَه). أما كون الغزو بغير إذن الأمير لا يجوز إذا لم يَفجأهم العدو الموصوف بما ذُكر فلأنه إذا لم تجز المبارزة إلا بإذنه فلأن لا يجوز الغزو إلا بإذنه بطريق الأولى. وأما كونه يجوز بغير إذنه إذا فَجأهم عدو يخافون شره وأذاه، وهو المعني بقول المصنف رحمه الله: كَلَبه فلأن الحاجة تدعو إليه لما في التأخير من الضرر. قال: (فإن دخل قوم لا مَنَعَة لهم دار الحرب بغير إذنه فغنموا: فغنيمتهم فيء. وعنه: هي لهم بعد الخمس. وعنه: هي لهم لا خُمُس فيها). أما قول المصنف رحمه الله: لا منعة لهم فالمراد بها القوة والدفع، وهي محركة الميم والنون والعين وقد تسكن نونها. وأما كون غنيمتهم فيئاً على المذهب فلأنها: مال وُصل إليه بقوة الإسلام فكان فيئاً كما لو هربوا وتركوه. وأما كونها بعد الخمس على رواية فلأنها: مال أُخذ بقتال وجهاد فكان كذلك كسائر الغنائم. فلا اعتبار بالقلة؛ لأن الله تعالى قال: {كم من فِئَةٍ قليلةٍ غلبت فِئَة كثيرة} [البقرة: 249]. وأما كونها لهم لا خُمُس فيها فلأنهم أخذوه لا بقوة أشبه ما لو سرقوه. قال: (ومن أَخذ من دار الحرب طعاماً أو علفاً فله أكله وعلفُ دابته بغير إذن، وليس له بيعه. فإن باعه رد ثمنه في المغنم. وإن فضل معه منه شيء فأدخله البلد رده في الغنيمة، إلا أن يكون أسيراً فله أكله في إحدى الروايتين). أما كون من أخذ من دار الحرب ما ذُكر له أكله فلما روى عبدالله بن أبي أوفى قال: «أصبنا طعاماً يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينصرف» (¬2) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في المقنع: الأمير. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2704) 3: 66 كتاب الجهاد، باب في النهي عن النهبى ...

وعن عمر «أن صاحب جيش الشام كتب إليه: إنا فتحنا أرضاً كثيرة الطعام والعلف. فكتب إليه: دع الناس يعلفون ويأكلون» (¬1) رواه سعيد. وأما كونه له علف دابته فلما ذُكر في حديث عمر. ولأن الحاجة تدعو إلى هذا، وفي المنع منه ضرر بدوابّ الجيش. وأما كونه ليس له بيعه فلأنه إنما أبيح أكله لفعل الصحابة ولم ينقل عنهم بيعه. ولأنه لا حاجة في بيعه بخلاف الأكل. وأما كونه يَرُدُّ ثمن المبيع في المغنم فلأن فيما كتب عمر: «فمن باع منهم شيئاً بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين» (¬2). وظاهر لفظ المصنف: أنه ممنوع من البيع فإذا باع صح بيعه ويرد الثمن في المغنم؛ لأن الغرض أن لا يضيع حق الغانمين وفي رد الثمن تحصيل لذلك الغرض. وقال القاضي: إن باعه لغير غازٍ فالبيع باطل ويرد الثمن على المشتري؛ لأنه بيع من غير ولاية ولا نيابة، وإن باعه لغاز بطعام أو علف من دار الحرب فليس ببيع حقيقة بل يكون كل واحد منهما أحق بما صار إليه. وإن باعه بذهب أو فضة أو غير الطعام والعلف فالمشتري أحق به لثبوت يده عليه ويجب على البائع رد الثمن لعدم انعقاد البيع. وأما كون ما فضل معه إذا أدخله البلد وكان كثيراً يرده؛ فلأنه إنما أخذه للحاجة وقد زالت. ولأنه فضل (¬3) لما تبين أنه أخذ أكثر من حاجته. وأما كونه له أكل اليسير في رواية فلأنه يروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأَخْرِجَتنا منه مملاة» (¬4) رواه أبو داود. وأما كونه ليس له ذلك في رواية فبالقياس على الكثير. ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2750) 2: 274 كتاب الجهاد، باب ما بيع من متاع العدو من ذهب أو فضة. (¬2) هو تكملة للحديث السابق. (¬3) سقط لفظ فضل من هـ. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2706) 3: 66 كتاب الجهاد، باب في حمل الطعام من أرض العدو.

قال: (ومن أخذ سلاحاً فله أن يقاتل به حتى (¬1) تنقضي الحرب، ثم يرده. وليس له ركوب الفرس في إحدى الروايتين). أما كون من أخذ سلاحاً له أن يقاتل به حتى تنقضي الحرب فلأن الحاجة إليه أعظم من الطعام. ولأن شرر استعماله أقلُّ من ضرر أكل الطعام لأن عينه لا تزول بالاستعمال. وأما كونه يرده بعد انقضاء الحرب فلزوال الحاجة. وأما كونه ليس له ركوب الفرس في روايةٍ؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه» (¬2). ولأن الغالب أن الفرس تعطب في القتال. وأما كونه له ذلك في رواية؛ فلأنه آلة يستعان به في الحرب فكان له ذلك كالسلاح. والأول أصح؛ لما ذُكر. ¬

_ (¬1) في المقنع: يقاتل حتى. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2708) 3: 67 كتاب الجهاد، باب في الرجل ينتفع من الغنيمة بالشيء. عن رويفع بن ثابت الأنصاري.

باب قسمة الغنائم

باب قسمة الغنائم الغنائم: جمع غنيمة، وهي: مشتقة من الغنم والفضل. والأصل فيها الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} [الأنفال: 69]. وقولُه: {واعلموا أنما غنمتم ... الآية} [الأنفال: 41]. وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي. ذكر منها: وأحلت لي الغنائم» (¬1). قال المصنف رحمه الله: (الغنيمة: كل مال أُخذ من المشركين قهراً بالقتال. وإن أُخذ منهم مالُ مسلمٍ فأدركه صاحبه قبل قَسمه فهو أحق به، وإن أدركه مقسوماً فهو أحق به بثمنه. وعنه: لا حق له فيه) أما قول المصنف رحمه الله: "الغنيمة كل مال أخذ من المشركين قهراً بالقتال"؛ فبيان لمعنى الغنيمة شرعاً. وأما كون المسلم أحق بماله المأخوذ من المشركين إذا أدركه قبل قسم المسلمين له؛ فلما روى ابن عمر «أن غلاماً له أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر، ولم يقسمه» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (427) 1: 168 أبواب المساجد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً». وأخرجه مسلم في صحيحه (521) 1: 370 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2903) 3: 1116 كتاب الجهاد والسير، باب: إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم. وأخرجه أبو داود في سننه (2698) 3: 64 كتاب الجهاد، باب في المال يصيبه العدو من المسلمين ...

وعنه قال: «ذهب له فرس، فأخذه العدو، فظهر عليه المسلمون فرده عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم» (¬1) رواهما البخاري وأبو داود. وعن عمر رضي الله عنه: «من وجد عين ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم» (¬2). رواه الأثرم. وأما كونه إذا أدركه بعد قسمه أحق به بقيمته على روايةٍ؛ فلما روى ابن عباس «أن رجلاً وَجد بعيراً له كان المشركون أصابوه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن أصبته قبل القسمة فهو لك، وإن أصبته بعد ما قُسم أخذته بالقيمة» (¬3). ولأنه لو أخذه بغير شيء لأدى إلى حرمان الآخذ حقه من الغنيمة، ولو لم يأخذه لأدى إلى ضياع حقه فالرجوع بشرط وزن القيمة فيه جمعاً بين الحقين. وأما كونه لا حق له فيه على روايةٍ؛ فلما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ماله قبل أن يُقسم فهو له، وإن أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شيء» (¬4). قال: (وإن أخذه منهم أحد الرعية بثمنٍ فصاحبه أحق به بثمنه، وإن أخذه (¬5) بغير عوض فهو أحق به بغير شيءٍ). أما كون صاحب المأخوذ بثمن أحقَّ به بثمنه؛ فلأن آخذه حصل ذلك في يده بثمنٍ فكان صاحبه أحق به بثمنه؛ كما لو أخذه واحد من المغنم بحقه فإن صاحبه أحق به بقيمته لما تقدم. فإن قيل: الكلام هنا في الثمن وهناك في القيمة. قيل: الثمن هنا نظير القيمة هناك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2904) الموضع السابق. وأخرجه أبو داود في سننه (2699) 3: 64 الموضع السابق. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2799) 2: 287 كتاب الجهاد، باب ما أحرزه المشركون من المسلمين ثم يفيئه الله على المسلمين. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 111 كتاب السير، باب من فرق بين وجوده قبل القسم وبين وجوده بعده ... (¬4) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى الطبراني في الأوسط وقال: فيه ياسين الزيات وهو ضعيف. 6: 2 كتاب الجهاد، باب فيمن غلب العدو على ماله ثم وجده. (¬5) في المقنع: أخذ.

وقال المصنف رحمه الله في الكافي: حكمه حكم المقسوم على ما تقدم من الخلاف. ويؤيد عدم الأخذ ما روى الشعبي قال: «أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا. فكتب السائب بن الأقرع (¬1) إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم قد اشتراها التجار من أهل مكة. فكتب عمر: من أصاب رقيقه ومتاعه في أيدي التجار بعد ما اقتسم فلا سبيل إليه» (¬2) رواه سعيد بن منصور. وأما كونه أحق به بغير شيء ممن أخذه بغير عوض فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ناقته التي استولى عليها الكفار من التي جاءت منهزمة عليها بغير شيء» (¬3). وسيأتي الحديث مفصلاً إن شاء الله تعالى. والمراد بالأخذ بغير عوض الهبة والسرقة ونحوهما. قال: (ويملك الكفارُ أموالَ المسلمين بالقهر. ذكره القاضي، وقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنهم لا يملكونها). أما كون الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر على قول القاضي فلأن القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر فملك الكافر مال المسلم كالبيع. وأما كونهم لا يملكونها على ما قاله أبو الخطاب فلأن ملك المسلم معصوم بخلاف الكافر. واحتج بعض أصحابنا على ذلك بما روي «أن قوماً أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقته وجاريةً من الأنصار فأقامت عندهم أياماً. ثم خرجت في بعض الليل. قالت: فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها. ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها. فلما قدمت المدينة استعرفت ¬

_ (¬1) في هـ: الأكوع. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2803) 2: 288 كتاب الجهاد، باب ما أحرزه المشركون من المسلمين ثم يفيئه الله على المسلمين. (¬3) سيأتي ذكره وتخريجه في الحديث الآتي.

الناقة فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها. فقلت يا رسول الله! إني نذرت أن أنحرها. فقال: بئس ما جازيتها. لا نذر في معصية» (¬1). وفي رواية: «لا نذر فيما لم يملك ابن آدم» (¬2). ولا دلالة فيه لأن غايته أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ناقته. والمسلم له أخذ ذلك سواء قيل بملك الكفار أموال المسلمين أو لا. قال: (وما أخذ من دار الحرب من رِكاز أو مباح له قيمة فهو غنيمة). أما كون المأخوذ مما ذكر غنيمة؛ فلأنه مال حصل الاستيلاء عليه قهراً بالقتل فكان غنيمة أشبه سائر أموالهم. وأما قول المصنف رحمه الله: من ركازٍ فلا بد أن يُلحظ فيه أن آخذه لم يقدر عليه إلا بجماعة من المسلمين؛ لأن ما قدَر عليه بنفسه يكون له. صرح به في المغني. قال: (وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب، ويجوز قسمها فيها). أما كون الغنيمة تملك بالاستيلاء عليها في دار الحرب؛ فلأنهما مال مباح فمُلكت بالاستيلاء عليها كسائر المباحات. وأما كون قسمها يجوز فيها فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بني المصطلق على مياههم، وغنائم حنين بأوطاس وهو واد من حنين». ولأنهم مَلكوا الغنيمة بالاستيلاء فجاز قَسمها كما لو أحازوها إلى دار الإسلام. قال: (وهي لمن شهد الوَقْعة من أهل القتال، قاتل أو لم يقاتل من تجار العسكر وأُجَرَائِهم الذين يستعدون للقتال. فأما المريض العاجز عن القتال، والمخذل، والمرجف، والفرس الضعيف العجيف فلا حق له). أما كون الغنيمة لمن شهد الوَقْعة من أهل القتال؛ فلأن عمر رضي الله عنه قال: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» (¬3) رواه سعيد بن منصور. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1641) 3: 1262 كتاب النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله ... وأخرجه أبو داود في سننه (3316) 3: 239 كتاب الأيمان والنذور، باب في النذر فيما لا يملك. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3313) 3: 238 كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 68 كتاب الإيمان، باب من نذر نذراً في معصية الله. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2791) 2: 285 كتاب الجهاد، باب ما جاء فيمن يأتي بعد الفتح. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 50 كتاب السير، باب الغنيمة لمن شهد الوقعة. وأخرجه الطبراني في الكبير (8203) 8: 385، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: ورجاله رجال الصحيح. 5: 340.

وروى مثل ذلك عن عثمان في غزوة أرمينية. وأما كون من لم يقاتل من تجار العسكر وأُجَرائهم الذين يستعدون للقتال كمن قاتل في الغنيمة؛ فلأن من لم يُقاتل شهد الوقعة فيدخل في قول عمر رضي الله عنه: «الغنيمة لمن شهد الوقعة». ولأنه -إذا لم يقاتل- ردء للمقاتل. ولأنه مستعد للقتال أشبه المقاتل. وأما كون المريض العاجز عن القتال لا حق له في الغنيمة؛ فلأنه ليس من أهل الجهاد أشبه العبد. وقول المصنف رحمه الله: العاجز عن القتال فيه تنبيه على أن المرض إذا لم يمنع من القتال كالصداع والحمى لا يُسقط السهم. وصرح به في المغني؛ لأنه من أهل الجهاد فلم يسقط كالصحيح. وأما كون المخذل والمرجف لا حق لهما في ذلك فلأن ضررهما أكثر من نفعهما. وأما كون الفرس الضعيف العجيف لا حق له فلأنه لا نفع فيه. ولأن الإمام يملك منعه من الدخول معه فلم يُسهم له كالمخذل والمرجف. قال: (وإذا لحق مدد، أو هرب أسير فأدركوا الحرب قبل تَقَضّيه أُسهم لهم، وإن جاؤا بعد إحراز الغنيمة فلا شيء). أما كون من ذكر يسهم لهم إذا أدركوا الحرب قبل تَقَضّيها؛ فلأنهم شهدوا الوقعة فدخلوا في قول عمر: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» (¬1). وأما كونهم لا شيء لهم إذا جاؤا بعد إحراز الغنيمة؛ فلما روى أبو هريرة «أن أبان بن سعد وأصحابه قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد أن فتحها. فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس يا أبان. ولم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريباً. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2723) 3: 73 كتاب الجهاد، باب فيمن جاء بعد الغنيمة لا سهم له.

ولأنهم لم يشهدوا الوقعة. أشبهوا من جاء بعد القسمة. قال: (وإذا أراد القسمة بدأ بالأسلاب فدفعها إلى أهلها، ثم أخرج أجرة الذين جمعوا الغنيمة وحملوها وحفظوها). أما كون الأمير إذا أراد القسمة يبدأ بالأسلاب فيدفعها إلى أهلها فلأن القاتل يستحقها غير مخموسة لما تقدم. وأما كونه يخرج أجرة من ذكر بعد ذلك فلأنها من مصلحة الغنيمة. قال: (ثم يخمس الباقي فيقسم خمسه على أهل الخمس خمسة أسهم: سهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم يصرف مصرف الفيء، وسهم لذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب حيث كانوا، للذكر مثل حظ الأنثيين، غنيهم وفقيرهم فيه سواء، وسهم لليتامى الفقراء، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل من المسلمين). أما كون الأمير يُخَمّس باقي الغنيمة ويقسمه على خمسة أسهم؛ فلقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكيِن وابن السبيل} [الأنفال: 41]. فإن قيل: ينبغي أن يكون مقسوماً على ستة نظراً إلى ظاهر اللفظ. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن يكون لله وللرسول بمعنى الرسول كقوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [التوبة: 62]. والثاني: أنه إنما أضيف إلى الله والرسول ليُعلم أن جهته جهة مصلحة وأنه ليس مختصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم. وأما كون سهم الله ورسوله ينصرف مصرف الفيء الآتي ذكره في موضعه (¬1)؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس لي من الفيء إلا الخمس، وهو مردود عليكم» (¬2). ولا يكون مردوداً علينا إلا إذا صُرف في مصالحنا. ¬

_ (¬1) ص: 328. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2694) 3: 63 كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال.

وأما كون سهمٍ لذوي القربى؛ فلما تقدم من قوله تعالى: {ولذي القربى} [الأنفال: 41]. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم» (¬1). وهو ثابت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم تمسكاً بظاهر لفظ الآية، وبإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يأت ناسخ ولا مغيّر. وأما كون ذوي القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب أبناء عبد مناف دون غيرهم؛ فلما روى جبير بن مطعم قال: «لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب: أتيت أنا وعثمانُ بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: يا رسول الله! أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا. فقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد. وشبّك بين أصابعه» (¬2). وفي رواية: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» (¬3). وأما كونهم لهم ذلك حيث كانوا؛ فلأنه مستحق بالقرابة فوجب كونه لهم حيث كانوا كالميراث. وأما كون ذكرهم له مثل حظ الأنثيين؛ فلأنه مال مأخوذ بالقرابة فكان للذكر مثل حظ الأنثيين كالميراث. وأما كون غنيهم وفقيرهم فيه سواء؛ فلما ذكر. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص فقراء قرابته بل أعطى الغني كالعباس وغيره. ولأن شرط الفقر ينافي ظاهر الآية. ولأنه يؤخذ بالقرابة فاستوى فيه الغني والفقير كالإرث. وأما كون سهمٍ لليتامى؛ فلما تقدم من قوله تعالى: {واليتامى} [الأنفال: 41]. ¬

_ (¬1) كما سيأتي في الحديث التالي. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3311) 3: 1290 كتاب المناقب، باب مناقب قريش. وأخرجه أحمد في مسنده (16787) 4: 81. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 341 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب سهم ذي القربى من الخمس.

واليتامى هم الذين لا آباء لهم ولم يبلغوا الحلم. أما كونهم لا آباء لهم فلأن اليتيم لغة من أب له. وأما كونهم لم يبلغوا الحلم فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتم بعد احتلام» (¬1). واشترط المصنف رحمه الله فقرهم؛ لأن اسم اليتيم يطلق في العرف للرحمة، ومن أعطي لذلك اعتبرت فيه الحاجة. فإن قيل: اسم اليتيم شامل لهما فوجب دخول كل يتيم في الآية لشمول اللفظ له كذوي القربى. قيل: ذوي القربى استحقوا لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكرمة لهم بخلاف اليتامى فإنهم استحقوا للرحمة فوجب اعتبار الغنى فيهم. ويجب تعميم سهمهم أيضاً كما ذكر في ذوي القربى. وأما كون سهمٍ للمساكين؛ فلما تقدم من قوله تعالى: {والمساكين} [الأنفال: 41]. ويدخل فيهم الفقراء؛ لأنهما صنف واحد في غير باب الزكاة. ويجب تعميمهم أيضاً. وأما كون سهمٍ لابن السبيل؛ فلما تقدم من قوله تعالى: {وابن السبيل} [الأنفال: 41]. وابن السبيل هو: المسافر المنقطع به. وقد ذكر في الزكاة. ويعطى بقدر حاجته؛ لأن دفعه إليه لأجل الحاجة فأعطي بقدرها. واشترط المصنف رحمه الله: أن يكون من المسلمين لأن الكافر لا مدخل له في الجهاد فكذا في الغنيمة. قال: (ثم يعطى النفل بعد ذلك، ويُرضخ لمن لا سهم له وهم العبيد، والنساء والصبيان. وفي الكافر روايتان: إحداهما: يرضخ له، والأخرى: يُسهم له). أما كون الأمير يعطي النفل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2873) 3: 115 كتاب الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم.

وأما كون النفل بعد الخمس وهو المعني بقول المصنف رحمه الله: بعد ذلك. فلما روى معن بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نفل إلا بعد الخمس» (¬1) رواه أبو داود. ولأنه مال يُستحق بالتحريض على القتال فكان من أربعة أخماس الغنيمة كسهم الفارس والراجل. وأما كونه يُرضخ لمن لا سهم له؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرضخ. وأما كون الرضخ بعد الخمس فلأنه استُحق بحضور الوَقْعة فكان بعد الخمس كسهام الغانمين. وفيه وجه: أنه من أصل الغنيمة. ولأنه استحق للمعاونة في تحصيل الغنيمة أشبه أجرة الجمل. وأما كون من يُرضخ لهم، هم: العبيد والنساء والصبيان: أما العبيد فلما روى عمير مولى آبي اللحم قال: «شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُخبر أني مملوك. فأمر لي بشيء مِن خُرْثِيِّ المتاع» (¬2) رواه أبو داود. واحتج به أحمد. و«لأن نجدة سأل ابن عباس عن المرأة والمملوك. فقال: يُحذيان وليس لهما شيء» (¬3) رواه سعيد. وأما كون النساء فلأن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويُحْذَيْنَ من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن» (¬4) رواه مسلم. وأما الصبيان فلما روي عن سعيد بن المسيب قال: «كان الصبيان يُحْذَوْن من الغنيمة إذا حضروا الغزو». وأما كون الكافر يُرضخ له في رواية؛ فلأنه من غير أهل الجهاد فرضخ له كالعبيد. وأما كونه يُسهم له في روايةٍ؛ فلأنه حر أشبه المسلم. وهذه أصح؛ لما ذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2753) 3: 81 كتاب الجهاد، باب في النفل من الذهب والفضة ومن أول مغنم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2730) 3: 75 كتاب الجهاد، باب في المرأة والعبد يُحْذيان من الغنمة. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2782) 2: 283 كتاب الجهاد، باب العبد والمرأة يحضران الفتح. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1812) 3: 1444 كتاب الجهاد والسير، باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم ...

ولما روى الزهري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم» (¬1) رواه سعيد في سننه. وروي «أن صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وهو على شركه، فأسهم له». ولأن الكفر نقصٌ في الدين فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق. وبهذا فارق الرقيق فإن نقصانه في دنياه وأحكامه. قال: (ولا يبلغ بالرضخ للراجل سهم راجل، ولا للفارس سهم فارس. فإن تغيّر حالهم قبل تَقَضّي الحرب أسهم لهم. وإن غزا العبد على فرس لسيده قسم للفرس ورضخ للعبد). أما كون الرضخ لا يبلغ به ما ذكر فلأن السهم أكملُ من الرضخ فلم يبلغ بالرضخ ذلك؛ كما لا يبلغ التعزير الحد. وأما كون من تغيّر حاله قبل تَقَضّي الحرب يُسهم له فلأنه إنما لم يُسهم لمن لم يتغير حالهم لما فيهم من الموانع فإذا زالت وجب زوال المنع من الإعطاء. وأما كون الفرس يسهم له فلما سيأتي. وأما كون العبد يرضخ له فلما تقدم. قال: (ثم يقسم باقي الغنيمة: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه، إلا أن يكون فرسه هجيناً أو برذوناً فيكون له سهم، وعنه: له سهمان كالعربي). أما كون باقي الغنيمة يقسم لمن ذكر فلما يأتي. وفيه إشعار بأن باقي الغنيمة لمن ذكر ممن شهد الوقعة. وهو صحيح؛ لأن الله تعالى لما قال: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال: 41] فُهم منه أن أربعة الأخماس لهم لأنه أضافها إليهم ثم أخذ منها سهماً لغيرهم بقي باقيها لهم؛ كقوله سبحانه: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11]. ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2790) 2: 284 كتاب الجهاد، باب ما جاء في سهمان النساء. وأخرجه أبو داود في المراسيل ص: 167 كتاب الجاهد، باب ما جاء في الجهاد.

وقال عمر: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» (¬1). فإذا أخرج الأمير السلب والأجرة والنفل والرضخ لما تقدم من الدليل وجب بقاء الباقي لمن شهد لما ذكر قبل. وأما كون الراجل له سهم، والفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه فلأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه وسهم له» (¬2) متفق عليه. وعن خالد الحذاء قال: «لا يُختلف فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم هكذا: للفرس سهمين ولصاحبه سهما، وللراجل سهماً» (¬3). وأما كون الهجين وهو الذي أبوه عربي وأمه غير عربية، والبِرْذَوْن وهو الذي أبواه غير عربيين له سهم على رواية فلما روى أبو الأقمر قال: «أغارت الخيل على الشام فأدركت العراب من يومها وأدركت الكوادن (¬4) ضحى الغد، وعلى الخيل رجل من همدان يقال له المنذر بن أبي حميصة. فقال: لا أجعل الذي أدركت من يومها مثل التي لم تدرك. فقال عمر: هبلت الوادعيَّ أمه أمضوها على ما قال» (¬5) أخرجه سعيد. وروي أنه كتب إلى عمر: «إنا وجدنا بالعراق خيلاً عراضاً فما ترى في سهمانها؟ فكتب عمر: تلك البراذين فما قارب العناق فاجعل له سهماً واحداً وألق ما سوى ذلك». وعن مكحول «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين، والهجين سهماً» (¬6) رواه الجوزجاني. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 307. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3988) 4: 1545 كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1762) 3: 1383 كتاب الجهاد، باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 327 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في سهم الراجل والفارس. (¬4) هو البرذون الهجين. (¬5) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2772) 2: 280 كتاب الجهاد، باب ما جاء في تفضيل الخيل على البراذين. (¬6) أخرجه أبو داود في المراسيل ص: 170 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الجهاد.

وأما كون ذلك له سهمان كالعربي على رواية فلشمول اسم الفرس له. ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى العربي وغيره كالرجال. والأولى أصح؛ لما تقدم. ولم يبين المصنف المقرف، وهو: الذي أبوه غير عربي وأمه عربية. وحكمه حكم الهجين؛ لمساواته له. قال: (ولا يسهم لأكثر من فرسين، ولا يسهم لغير الخيل. وقال الخرقي: من غزا على بعير لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان). أما كونه لا يسهم لأكثر من فرسين فلأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم لذلك. وأما كونه لا يسهم لغير الخيل على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لغير الخيل». ولأن غير الخيل لا يُلحق بالخيل في التأثير في الحرب والكر والفر فلم يلحق بها في السهم. وأما كونه يسهم على قول الخرقي فلأن الله تعالى قال: {فما أَوْجَفْتُم عليه من خيلٍ ولا رِكاب} [الحشر: 6] والركاب الإبل. ولأنه حيوان تجوز المسابقة عليه فيسهم له كالفرس. وأما كونه لا يزاد على سهم فلأنه دون البرذون. قال: (ومن دخل دار الحرب راجلاً ثم ملك فرساً أو استعاره أو استأجره وشهد به الوقعة فله سهم فارس. فإن دخل فارساً فنفق فرسه أو شرد حتى تَقَضّي الحرب فله سهم راجل. ومن غصب فرساً فقاتل عليه فسهم الفرس لمالكه). أما كون من دخل دار الحرب راجلاً ثم ملك فرساً وشهد به الوقعة له سهم فارس، ومن دخل فارساً فنفق فرسه أو شرد حتى تَقَضّي الحرب له سهم راجل فلأن العبرة باستحقاق سهم الفرس أن يشهد به الوقعة لا أن يدخل دار الحرب فارساً؛ لأن الفرس حيوان يسهم له فاعتبر وجوده حالة القتال كالآدمي. ويعضده قول عمر: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 307.

ولأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك بخلاف ما قبل ذلك. وأما قول المصنف رحمه الله: واستعاره أو استأجره فتنبيه على أن العبرة بملك منفعة الفرس سواء كان مملوك الرقبة أو لا؛ لأن السهم لنفع الفرس لا لذاته بدليل أنه لا يسهم للضعيف والزمن ونحوه والرقبة موجودة فيهما. ومعنى نفق فرسه مات. وأما كون سهم الفرس المغصوب لمالكه فلأن استحقاق سهم الفرس مرتب على نفعه وهو لمالكه. قال: (وإذا قال الإمام: من أخذ شيئاً فهو له، أو فَضّل بعض الغانمين على بعض لم يجز في إحدى الروايتين، ويجوز في الأخرى). أما كون الإمام إذا قال: من أخذ شيئاً فهو له ونحو ذلك لا يجوز في روايةٍ فلما فيه من المحذور الآتي ذكره. وأما كونه يجوز في رواية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «من أخذ شيئاً فهو له» (¬1). ولأنهم غزوا على ذلك ورضوا به. والرواية الأولى أصح؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم والخلفاء بعده». ولأن ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال، وظفرِ العدو بهم فلا يجوز. وقضية بدر منسوخة بقوله تعالى: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1]. وأما كونه إذا فضّل بعض الغانمين على بعض لا يجوز في روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً» (¬2). ولأنهم اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية فتجب التسوية بينهم كسائر الشركاء. وأما كونه يجوز في روايةٍ فلأن الإمام يجوز له أن ينفل ويعطي السلب فجاز أن يفضل بعضهم على بعض قياساً عليهما. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 316 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب الوجه الثالث من النفل. (¬2) أخرجه الدارمي في سننه (2469) 2: 156 كتاب السير، باب في سهمان الخيل.

قال: (ومن استؤجر للجهاد ممن لا يلزمه من العبيد والكفار فليس له إلا الأجرة. ومن مات بعد انقضاء الحرب فسهمه لوارثه. ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت، ويشاركونه فيما غنم). أما كون من استؤجر للجهاد ممن ذكر ليس له إلا الأجرة فلأن غزوه بعوض فكأنه واقع من غيره فلا يستحق شيئاً. وروى يعلى بن أمية قال: «أذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شيخ كبير ليس لي خادم فالتمست أجيراً يكفيني وأُجْري له سهمَه فوجدت رجلاً، فلما دنا الرحيل قال: ما أدري ما السهمان وما يبلغ سهمي فسمّ لي شيئاً كان السهم أو لم يكن. فسميت له ثلاثة دنانير فلما حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أمره. فقال: ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى» (¬1) رواه أبو داود. وقول المصنف رحمه: ممن لا يلزمه يحترز به عمن يلزمه كالأحرار المسلمين فإن في صحة استئجارهم خلافاً. قال القاضي في قول أحمد رحمه الله: إذا استأجر الأمير قوماً يغزون هذا محمول على من لا تجب عليه لأن الغزو يتعين عليه بحضوره ومن تعين عليه أمرٌ لم يجز أن يفعله عن غيره كالحج. وقال المصنف في المغني: يحتمل أن يحمل كلام أحمد على ظاهره في صحة الاستئجار على الغزو ولمن تتعين عليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي» (¬2) رواه أبو داود. وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل الذين يَغزون من أمتي ويأخذون الجُعْلَ يتقوَّوْن به على عدوهم مثلُ أمّ موسى ترضع ولدها وتأخذُ أجرها» (¬3) رواه سعيد بن منصور. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2527) 3: 17 كتاب الجهاد، باب في الرجل يغزو بأجير ليخدم. وأخرجه أحمد في مسنده (17497) ط إحياء التراث. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2526) 3: 16 كتاب الجهاد، باب الرخصة في أخذ الجعائل. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2361) 2: 141 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الرجل يغزو بالجعل. وأخرجه أبو داود في المراسيل ص: 182 كتاب الجهاد، باب في فضل الجهاد. من حديث جبير بن نفير.

ولأنه أمر لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة. فعلى القول بصحة الإجارة لا سهم له على ظاهر كلام الإمام أحمد؛ لما ذكر فيمن لا يلزمه. ويحتمل أن يسهم له. اختاره الخلال لما تقدم من الحديثين قبل. وعلى القول بالفساد يرد الأجرة إن كان أخذها وله سهمه لأن غزوه بغير عوض. وأما كون وارث من مات بعد انقضاء الحرب يستحق سهمه فلأنه مات بعد أن ملكت الغنيمة فكان سهمه لوارثه؛ لقوله عليه السلام: «من ترك حقاً فلورثته» (¬1). وأما كون الجيش يشارك سراياه فيما غنمت وكونها تشاركه فيما غنم فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين هزم هوازن أَسْرَى قِبل أَوْطاس سرية فقسم الغنائم بين الجميع». ولأن الجيش جيش واحد فلم يختص بعضهم بالغنيمة كأحد جانبي الجيش. وشرط هذه المشاركة أن يكون الجيش قاصداً للعدو فإن كان مقيماً في البلد ومضت السرايا فلكل سرية غنيمتها «لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث السرايا من المدينة ولم يشاركها أهل المدينة فيما غنمت». قال: (وإذا قسمت الغنيمة في أرض الحرب فتبايعوها ثم غلب عليها العدو فهي من مال المشتري في إحدى الروايتين. اختارها الخلاّل وصاحبه. والأخرى من مال البائع. اختارها الخرقي). أما كون ما بيع من ذلك من مال المشتري في الصحيح من المذهب فلأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه التصرف فيه فكان من ضمانه كما لو اشتراه في دار الإسلام. وأما كونه من مال البائع في روايةٍ فلأنه لم يكمُل قبضه لكونه في خطر قهر العدو فلم يضمنه المشتري كالثمر في الشجر. وشرط كونه من مال البائع أن يكون الأخذ بغير تفريط من المشتري. فإن أخذه بتفريطه كخروجه من العسكر فهو من ضمان المشتري لأنه ذهب بتفريطه؛ أشبه ما لو أتلفه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (22676) 2: 844 كتاب الاستقراض ... ، باب الصلاة على من ترك ديناً. بلفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك مالاً فلورثته ... ». وأخرجه مسلم في صحيحه (1619) 3: 1237 كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته. بنحوه.

قال: (ومن وطئ جاريةً من المغنم أو ممن له فيها حق: أُدِّب ولم يبلغ به الحد. إلا أن تلد منه فيكون عليه قيمتها، وتصير أم ولد له، والولد حر ثابت النسب). أما كون الواطئ المذكور يؤدب فلأن وطئه حرام لأنه في ملكٍ مشترك. وأما كون التأديب لا يُبلغ به الحد فلأن له فيه ملكاً أو شبه ملك وذلك يدرأ الحد. وأما كون الواطئ عليه مهر الجارية فلأنها ليست مملوكة أشبه ما لو وطئ أمة الغير. فإن قيل: هي مشتركة بينه وبين بقية الغانمين فيجب أن لا يكون عليه جميع المهر كما لو وطئ أمة مشتركة. قيل: هو كذلك لكن لما كان مقدار حقه يعسر العلم به مع أنه لا ضرر عليه لكون المهر يوضع في الغنيمة فيعود حقه إليه لم يعتبر ذلك. وأما كونه عليه قيمة الجارية إذا ولدت منه فلأنها تصير أم ولد له كما سيأتي فتجب عليه قيمتها لأنه فوّتها على الغانمين. وأما كونها تصير أم ولد له فلأنه وطء يلحق به النسب لشبهة الملك فصارت أم ولد له أشبه وطء جارية ابنه. وأما كون الولد حراً فلأنه من وطءٍ في ملك أو شبه ملك. وأما كونه ثابت النسب فلأنه وطءٌ سقط فيه الحد لشبهة الملك؛ أشبه ما لو كانت ملكه. ولأنه وطءٌ له فيه شبهة أشبه ما لو وطئ امرأة ظنها زوجته. قال: (ومن أعتق منهم عبداً عتق عليه قدر حقه، وقُوّم عليه باقيه إن كان موسراً. وكذلك إن كان فيهم من يعتق عليه). أما كون من ذكر يعتق عليه قدر حقه فلأنه عتقٌ من مالك، وذلك يوجب العتق. وأما كونه يقوم باقيه عليه إن كان موسراً فلأن العتق من الموسر موجب لذلك لما سيأتي في باب العتق. وأما قول المصنف رحمه الله: وكذلك إن كان فيهم من يعتق عليه فتسوية لهذه الصورة بما ذكر قبل فيما ذكر. وهو صحيح لأن ملك من يعتق عليه بمنزلة إعتاقه له.

وظاهر كلام المصنف رحمه الله: أنه إذا أعتق بعض الغانمين أحداً من المغنم أو كان فيهم [من يعتق عليه] (¬1) عتق قدر نصيبه سواء كان المعتق رجلاً أو امرأة أو صبياً. وقد صرح في المغني بأن الغانم إذا أعتق رجلاً من المغنم لم يعتق لأن الأسير لا يصير رقيقاً إلا باسترقاق الإمام واختاره. فعلى هذا يحمل كلام المصنف رحمه الله على من يصير رقيقاً بنفس السبي كالنساء والصبيان. قال: (والغالّ من الغنيمة يحرق رَحْلُه كلُّه إلا المصحف والسلاح والحيوان). أما كون الغالّ من الغنيمة. وهو: الذي يكتم ما أخذه من الغنيمة ولا يطلع الإمام عليه ولا يضعه مع الغنيمة. يحرق رحله كله غير (¬2) سلاحه ومصحفه وحيوانه فلما روى صالح بن محمد قال: دخلت مع سلمة أرض الروم فأُتي برجل قد غلّ فسأل سالماً عنه. فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غلّ فاحرقوا متاعه واضربوه. قال: فوجدنا في متاعه مصحفاً. فسأل سالماً عنه. فقال: بعه وتصدق بثمنه» (¬3) رواه أبو داود والأثرم. وأما كونه لا يحرق سلاحه فلأن الحاجة تدعو إليه. وأما كونه لا يحرق مصحفه فلأنه مذكور في حديث صالح. ولأن له حرمة. وأما كونه لا يحرق حيوانه فلأن له حرمة في نفسه. ولأنه لا يدخل في اسم المتاع. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعذب بالنار» (¬4). قال: (وما أُخذ من الفدية، أو أهداه الكفار لأمير الجيش، أو بعض قواده: فهو غنيمة). أما كون ما أُخذ من الفدية غنيمة فلأنه عوض عما هو غنيمة فكان غنيمة لأن حكم العوَض حكم المعوّض. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: غير ما. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2713) 3: 69 كتاب الجهاد، باب في عقوبة الغال. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (5268) 4: 367 كتاب الأدب، باب في قتل الذر.

وأما كون ما أهداه الكفار لأمير الجيش أو بعض قواده غنيمة فلأنه يغلب على الظن إنما فعلوا ذلك خوفاً من المسلمين؛ أشبه ما أُخذ بالقتل. وشرط المصنف رحمه الله في الكافي أن يكون الهدية في دار الحرب. فإن كانت في دار الإسلام فهي لمن أهديت له؛ لأنه مال تبرع له به من غير خوف أشبه هدية المسلم.

باب حكم الأرضين المغنومة

باب حكم الأرضين المغنومة قال المصنف رحمه الله: (وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: ما فتح عنوة، وهي ما أجلي عنها أهلها بالسيف، فيخير الإمام بين قسمها ووقَفَها على المسلمين، ويضرب عليها خراجاً مستمراً يؤخذ ممن هي في يده يكون أجرة لها. وعنه: تصير وقفاً بنفس الاستيلاء. وعنه: تقسم بين الغانمين). أما كون الإمام يخير بين قَسم ما فتح عنوة وبين وقفه على الرواية الأولى فلأن كلا الأمرين ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي «أنه قسم نصف خيبر ووقف نصفها» (¬1). و«وقف مكة» (¬2)، و «وقف الشام والعراق عمر» (¬3) وأقره على ذلك علماء عصره. وقد تقدم ذكره في موضعه. ولأن عمر قال: «لولا آخر الناس لقسمت الأرض كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر» (¬4). فوقف مع علمه بقسم النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. وقد ذكر مالك في موطئه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح يهدو فدك على نصف الثمر ونصف الأرض. الموطأ 2: 681. (¬2) عن علقمة بن نضلة قال: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رِباع مكة إلا السوائب. من احتاج سكن ومن استغنى أسكن». أخرجه ابن ماجة في سننه (3098) كتاب المناسك. (¬3) أخرج أبو عبيد في الأموال (152) عن حارثة بن مضرب عن عمر «أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين فأمر أن يحصوا. فوجد الرجل يصبيه ثلاثة من الفلاحين. فشاور في ذلك. فقال له علي بن أبي طالب: دعهم يكونون مادة للمسلمين فتركهم». وأخرج (152) عن عبدالله بن قيس -أو ابن أبي قيس- الهمداني قال: «قدم عمر الجابية. فأراد أن قسم الأرض بين المسلمين. فقال له معاذ: والله! ليكوننّ ما نكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يُبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا. فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم». ص: 61 كتاب فتوح الأرضين صلحا، باب: فتح الأرض تؤخذ عنوة. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2209) 2: 823 كتاب المزارعة، باب أوقاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ...

فعلى هذا إن قسمها لم يضرب عليها خراجاً؛ لأنها ملك أربابها فلم يكن عليهم فيها شيء كالغنائم المنقولة، وإن وقفها ضرب عليها خراجاً يؤخذ ممن هي في يده؛ لأن عمر فعل ذلك وقد تقدم ذكره في موضعه. وأما كون ما ذكر يصير وقفاً بنفس الاستيلاء على الرواية الثانية فلأن ذلك أنفع للمسلمين ولذلك قيل لعمر في أرض الشام: «إن قسمتها ربما صار ريع الكل للبيت الواحدة» (¬1). وأما كونها تقسم بين الغانمين على الرواية الثالثة فلأن الله تعالى قال: {واعلموا أنما غنمتم من شيء ... الآية} [الأنفال: 41] ولم يفرق بين المنقول وغيره. ولأن كل سبب يملك به ما ينقل يملك به ما لا ينقل. دليله البيع. وأما قول المصنف رحمه الله: وهي ما أجلي عنها أهلها بالسيف؛ فبيان لمعنى ما فتح عنوة شرعاً. قال: (الثاني: ما جلا عنها أهلها خوفاً فتصير وقفاً بنفس الظهور عليها. وعنه: حكمها حكم العُنوة). أما كون الأرض التي خلى عنها أهلها خوفاً تصير وقفاً بنفس الظهور على الرواية الأولى فلأنها ليست غنيمة فتقسم. وإذا كان كذلك تعين صيرورتها وقفاً بنفس الظهور لأنه إذا امتنعت القسمة امتنعت الخيرة لأن القسمة أحد شطريها وهي ممتنعة وإذا امتنعت الخيرة تعين صيرورتها وقفاً. وأما كون حكمها حكم ما فتح عنوة على الرواية الثانية فلأنها مال ظهر عليه المسلمون بقوتهم فوجب أن يكون حكمه حكم ما فتح عنوة قياساً لأحد الحكمين على الآخر. فعلى هذه الرواية يكون فيما جلى أهلها عنها خوفاً روايات ثلاث كما فيما فتح عنوة ودليلها ما مر. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قبل قليل.

قال: (الثالث: ما صولحوا عليه، وهو ضربان: أحدهما أن نصالحهم على أن الأرض لنا ونقرها معهم بالخراج. فهذه تصير وقفاً أيضاً. الثاني: أن نصالحهم على أنها لهم ولنا الخراج عنها. فهذه ملك لهم خراجها كالجزية إن أسلموا سقط عنهم، وإن انتقلت إلى مسلم فلا خراج عليه. ويقرون فيها بغير جزية لأنهم في غير دار الإسلام بخلاف التي قبلها). أما كون ما صولح الكفار عليه على ضربين فلأنه تارة يكون لنا وتارة يكون لهم. وأما كون الأرض التي صولحوا عليها على أنها لنا تصير وقفاً وتقر معهم بالخراج فلأن ذلك شبيه بفعل عمر في أرض السواد فوجب كونها وقفاً مقراً في يد من هي في يده بالخراج كأرض السواد. وأما كونها ملكاً لهم إذا صولحوا على ذلك فلأن الصلح يجب الوفاء به. وأما كون خراج ذلك يسقط عنهم إذا أسلموا فلأن الخراج هنا بمعنى الجزية. وأما كونه لا خراج على المسلم إذا انتقلت الأرض المذكورة إليه فلأنه خراج قصد بوضعه الصَّغار فوجب سقوطه بالإسلام كالجزية. وأما كون من صولح على أن الأرض لهم يقر فيها بغير جزية فلما ذَكر المصنف رحمه الله من أنهم في غير دار الإسلام. وقوله: بخلاف التي قبلها إشارة إلى الفرق بين هذه وبين التي قبلها وهي ما إذا صالحناهم على أن الأرض لنا. وفُهم من قوله: بخلاف التي قبلها أنهم لا يقرون في الأرض التي صولحوا على أنها لنا إلا بجزية وهو صحيح لأن الدار دار إسلام فلا بد فيها من التزام الجزية.

قال: (والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان على قدر الطاقة. وعنه: يرجع إلى ما ضربه عمر رضي الله عنه لا يزاد ولا ينقص. وعنه: تجوز الزيادة دون النقص. قال أحمد وأبو عبيد: أعلى وأصح حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمون يعني: «أن عمر وضع على كل جريب درهماً وقفيزاً» (¬1). وقدر القفيز ثمانية أرطال بالمكي فيكون ستة عشر رطلاً بالعراقي، والجريب عشر قصبات في عشر قصبات والقصبة ستة أذرع وهو ذراع وسط وقبضة وإبهام قائمة). أما كون المرجع في تقدير الخراج في الجزية إلى اجتهاد الإمام على المذهب فلأن ذلك مصروف في المصالح وذلك مفوض إلى اجتهاد الإمام صرفاً فكذا قبضاً. وأما كونه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي الله عنه لا يزاد عليه ولا ينقص عنه على روايةٍ فلأن عمر رضي الله عنه ضربه بمحضر من الصحابة فكان إجماعاً. ولأن عمر لما ضربه لم يغيره أحد من الخلفاء الراشدين بعده. وأما كون الزيادة تجوز دون النقص على رواية فلأن الإمام ناظر في مصلحة كافة الناس وذلك يقتضي الزيادة دون النقص. وأما قول المصنف رحمه الله: قال أحمد ... إلى آخره؛ فتنبيه على أن أصح ما روي عن عمر في أرض السواد حديث عمرو بن ميمون، وإشعار بأنه قد روي عنه في ذلك غيره وهو صحيح؛ لأن عمر روى عنه عمرو بن ميمون «أنه وضع على كل جريب درهماً وقفيزاً» (¬2). وروى عنه أبو عبيد «أنه بعث عثمان بن حنيف لمساحة أرض السواد فضرب على جريب الزيتون اثني عشر درهماً، وعلى جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب الرطبة ستة دراهم، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم، وعلى جريب الشعير درهمين» (¬3). وأما كون حديث عمرو أصح؛ فلما ذكر الإمام أحمد وأبو عبيد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في الأموال (105) ص: 43 كتاب سنن الفيء، باب: فرض الجزية ومبلغها ... (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) أخرجه أبو عبيد في الأموال (172) ص: 69 كتاب فتوح الأرضين صلحا، باب: أرض العنوة تقر في أيدي أهلها. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 136 كتاب السير، باب قدر الخراج الذي وضع على السواد.

ولأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنعت العراق قفيزها ودرهمها» (¬1). على معنى ستمنع. وهو من الأمور التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها. وأما قول المصنف رحمه الله: وقدر القفيز ثمانية أرطال يعني بالمكي فيكون ستة عشر رطلاً بالعراقي فبيانٌ لمعنى قدر القفيز. والمنقول في ذلك عن الإمام أحمد أنه ثمانية أرطال. وقال القاضي: يعني بالمكي فيكون ستة عشر رطلاً بالعراقي. وقال بعض أصحابنا: ثلاثون رطلاً. وأما قوله: والجريب عشر قصبات في عشر قصبات والقصبة ستة أذرع وهو ذراع وسط وقبضة وإبهام قائمة: فبيان لمعنى الجريب والقصبة والذراع. قال: (وما لا يناله الماء مما لا يمكن زرعه لا خراج عليه، فإن أمكن زرعه عاماً بعد عام وجب نصف خراجه في كل عام). أما كون ما لا يناله الماء مما لا يمكن زرعه لا خراج عليه فلأن الخراج في مقابلة الانتفاع حقيقة أو مظنة وكلاهما مفقود هاهنا. وأما كون ما يمكن زرعه عاماً بعد عام يجب نصف خراجه في كل عام فلأن نفعه على النصف فيكون خراجه كذلك ضرورةَ كونه في مقابلته. قال: (والخراج على المالك دون المستأجر، وهو كالدين يحبس به الموسر وينظر المعسر). أما كون الخراج على المالك دون المستأجر فلأنه على الرقبة وهي للمالك دون المستأجر. وأما كونه كالدين يحبس به الموسر وينظر المعسر فلأنه حق عليه أشبه الدين. ولأنه مساو له معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. قال: (ومن عجز عن عمارة أرضه أُجبر على إجارتها أو رفع يده عنها). أما كون من عجز عن عمارة أرضه يجبر في الجملة فلأنه لو لم يجبر لأدى ذلك إلى ضياع حق أرباب الخراج وفي ذلك ضرر عليهم وتفويت لحقهم وذلك لا يجوز. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3035) 3: 166 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في إيقاف أرض السواد وأرض العنوة.

وأما كونه يجبر على الإجارة أو رفع يده فلأن الغرض تحصيل أحدهما فلا معنى للتعيين. قال: (ويجوز له أن يرشو العامل ويهدي له ليدفع عنه الظلم في خراجه، ولا يجوز له ذلك ليدع له منه شيئاً، وإن رأى (¬1) المصلحة في إسقاط الخراج عن إنسان جاز). أما كون مَن عليه خراج يجوز له أن يرشو العامل ويهدي له ليدفع عنه الظلم في خراجه فلأن به حاجة إلى دفع الظلم عنه فإذا لم يندفع إلا بالرشوة أو الهدية جاز ذلك دفعاً للضرر. وأما كونه لا يجوز له ذلك ليدع له من خراجه شيئاً فلأنه رشوة لإبطال حَقٍّ أشبه رشوة الحاكم ليحكم له بغير الحق. وأما كون الإمام يجوز له إسقاط الخراج عن إنسان إذا رأى المصلحة في ذلك فلأن الإمام يجوز له فعل ما فيه المصلحة فإذا تضمن ذلك مصلحة جاز كما لو رأى المصلحة في المنّ على العدو. ¬

_ (¬1) في المقنع: وإن رأى الإمام.

باب الفيء

باب الفيء الفيء في اللغة: الراجع. يقال: فاء الفيء إذا رجع نحو المشرق. وفي الشرع: عبارة عما يذكره المصنف رحمه الله بعد إن شاء الله تعالى. وفي الحقيقة يطلق على الغنيمة وبالعكس. وإنما خص كل واحد منهما باسم ليتميز به عن صاحبه. والأصل في الفيء قوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أَوْجَفْتم عليه من خيل ولا رِكابٍ ... الآية} [الحشر: 6]. قال المصنف رحمه الله: (وهو: ما أخذ من مال مشرك بغير قتال كالجزية والخراج والعشر، وما تركوه فزعاً. وخمس خمس الغنيمة ومال من مات لا وارث له فيصرف في المصالح. ويبدأ بالأهم فالأهم من سد الثغور وكفاية أهلها وما يحتاج إليه من يدفع عن المسلمين. ثم الأهم فالأهم من سد البثوق وكري الأنهار وعمل القناطر وأرزاق القضاة وغير ذلك). أما قول المصنف رحمه الله: وهو ما أخذ من مال مشرك بغير قتال فبيان لمعنى الفيء شرعاً ليتميز عن غيره. وأما قوله: كالجزية ... إلى لا وارث له؛ فتمثيل وتعداد لصور أموال الفيء ولأماكنه. وأما كونه يصرف في المصالح فلأن نفعها عام والحاجة داعية إلى ذلك، ودفع الكفار هو المقصود الأعظم فيبدأ به، وقد يقدم على غيره. وأما كونه يبدأ بعد ذلك بالأهم فالأهم من سد البثوق وهي ما انخرق مما تدعو الحاجة إلى سده، وكري الأنهار وعمل القناطر والمساجد والطرقات وأرزاق القضاة والعلماء والأئمة والمؤذنين ونحو ذلك مما للمسلمين فيه نفع فلأن ذلك من المصالح العامة فقدمت على سائر الناس الآتي ذكرهم بعد.

قال: (ولا يخمس. وقال الخرقي: يخمس فيصرف خمسه إلى أهل الخمس وباقيه للمصالح). أما كون الفيء لا يخمس وهو المنقول عن الإمام أحمد فلأن الله تعالى قال: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركاب ... الآيات} [الحشر: 6] جعله كله لجميع المسلمين. ولذلك لما قرأها عمر قال: «هذه استوعبت المسلمين. ولئن عشت ليأتين الراعي بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيه جبينه» (¬1). وأما كونه يخمس على قول الخرقي فلأن الله تعالى لما قال: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم} [الحشر: 7] اقتضى أن يكون جميعها لهؤلاء الأصناف وهم أهل الخمس والآية المتقدمة وما جاء عن عمر وغيره يدل على اشتراك جميع المسلمين فيه فوجب الجمع بينهما كي لا تتناقض الآية والأخبار وتتعارض. وفي إيجاب الخمس جمعاً بينهما وتوفيق فإن خمسه لمن ذكر في الآية وسائره مصروف إلى من في الخبر. ولأنه مال مشرك مظهور عليه فوجب أن يخمس كالغنيمة والركاز. وروى البراء بن عازب قال: «لقيت خالي ومعه الراية. فقلت: إلى أين؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل عرس بامرأة أبيه أضرب عنقه وأخمس ماله» (¬2). فعلى هذا يصرف إلى أهل الخمس لأن المسمى في الآيتين واحد وباقيه للمصالح لما ذكر من الجمع. والأول المذهب حملاً للفظ الآية الأولى على عمومه؛ وعملاً بقول عمر رضي الله عنه. والآية الأخرى تحمل على خمس الغنيمة. قال القاضي: لم أجد بما قال الخرقي عن أحمد نصاً فأحكيه. وإنما نص على أنه غير مخموس. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 351 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في قول أمير المومنين عمر رضي الله عنه ... وأخرجه الشافعي في مسنده عن مالك بن أوس عن عمر (418) 2: 130 كتاب الجهاد. نحوه. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن معاوية بن قرة عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أباه جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه فأمره فضرب عنقه وخمس ماله» 8: 208 كتاب المرتد، باب مال المرتد إذا مات أو قتل على الردة.

قال: (وإن فضل منه فضلٌ قُسم بين المسلمين. ويبدأ بالمهاجرين، ويقدم الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأنصار، ثم سائر المسلمين. وهل يفاضل بينهم؟ على روايتين). أما كون ما فضل من الفيء بعد ما تقدم ذكره من سد الثغور وما يتعلق بها وسد البثوق وما ذكر معها يقسم بين المسلمين فلما تقدم من الآية وقول عمر رضي الله عنه. وأما كونه يبدأ بالمهاجرين ويقدم الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فـ «لأن عمر لما قدِم عليه أبو هريرة بثمانمائة ألف درهم أرسل إلى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: قد جاء الناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام، أشيروا عليّ بمن أبدأ؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! بك. إنك ولي ذلك. قال: لا. ولكن أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم الأقرب فالأقرب» (¬1). وأما كونه يقدم الأنصار بعدهم فلسابقتهم وآثارهم الجميلة. وأما كون ما بقي لسائر المسلمين فليحصل التعميم بالدفع. وأما كون من تقدم ذكرهم لا يفاضل بينهم على روايةٍ فلأن أبا بكر الصديق سوى بينهم (¬2). ولأن الغنائم تقسم بين من حضر بالسوية فكذا الفيء. وأما كونهم يفاضل بينهم على روايةٍ «فلأن عمر رضي الله عنه قسم بينهم على السوابق، وقال: لا أجعل من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه». و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم النفل بين أهله متفاضلاً». وهذا في معناه. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 364 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب إعطاء الفيء على الديوان ومن يقع به البداية. (¬2) أخرج أبو عبيد في الأموال (648) ص: 244 باب: التسوية بين الناس في الفيء. عن يزيد بن أبي حبيب؛ «أن أبا بكر قسم بين الناس قسما واحدا، فكان ذلك نصف دينار لكل إنسان».

قال: (ومن مات بعد حلول وقت العطاء دُفع إلى ورثته حقه. ومن مات من أجناد المسلمين دفع إلى امرأته وأولاده (¬1) الصغار كفايتهم، فإذا بلغ ذكورهم فاختاروا أن يكونوا في المقاتلة فرض لهم، وإن لم يختاروا تركوا). أما كون من مات بعد حلول وقت العطاء يدفع إلى ورثته حقه فلأن صاحب الحق مات بعد استحقاقه ذلك فانتقل إلى ورثته كسائر الموروثات. وأما كون من مات من أجناد المسلمين يدفع إلى امرأته وأولاده الصغار كفايتهم فلما فيه من تطييب قلوب المجاهدين؛ لأنهم متى علموا أن عيالهم يُكفون المؤنة بعد موتهم توفروا على الجهاد. وأما كونه يفرض لمن بلغ من ذكورهم إذا اختاروا أن يكونوا في المقاتلة فلأنهم أهل لذلك ففرض لهم كآبائهم. وأما كونهم يتركون إذا لم يختاروا ذلك فلأن الإنسان البالغ لا يجبر على خلاف مراده إلا لواجب عليه، ودخولهم في ديوان المقاتلة غير واجب. ¬

_ (¬1) في هـ: وأولاد.

باب الأمان

باب الأمان الأمان جائز بالكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: {فَأَجِرْه حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]. وأما السنة فما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم» (¬1) رواه البخاري. قال المصنف رحمه الله: (يصح أمان المسلم المكلف ذكراً كان أو أنثى، حراً أو عبداً، مطلقاً أو أسيراً. وفي أمان الصبي المميز روايتان). أما كون أمان المسلم المكلف الذكر يصح فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «ذمة المسلمين واحدة ... الحديث». وأما كونه يصح من الأنثى فلدخولها في ذلك. ولما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إن كانت المرأة لَتُجِير على المسلمين فيجوز» (¬2). وأما كونه يصح من العبد فلقوله صلى الله عليه وسلم: «يسعى بها أدناهم» (¬3). ولما روى فضيل بن يزيد الرقاشي قال: «جهّز عمر رضي الله عنه جيشاً فحصرنا موضعاً فرأينا أنا سنفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه. فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا. فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه» (¬4) رواه سعيد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6374) 6: 2482 كتاب الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2611) 2: 234 كتاب الجهاد، باب المرأة تجير على القوم. (¬3) سبق تخريجه قريبا. (¬4) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2608) 2: 233 كتاب الجهاد، باب ما جاء في أمان العبد. وأخرجه عبدالرزاق (9402) 5: 222 كتاب الجهاد، باب: الجوار، وجوار العبد والمرأة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 94 كتاب السير، باب: أمان العبد.

ولأنه مسلم مكلف فصح أمانه كالحر. وأما كونه يصح من الأسير فلأن لفظ الحديث يشمله. ولأنه مسلم عاقل أشبه البالغ. وأما كونه لا يصح منه في رواية فلأن القلم رفع عنه. ولأنه لا يلزمه بقوله حكم فلأن لا يلزم غيره بطريق الأولى. وفي قول المصنف رحمه الله: يصح أمان المسلم المكلف إشعار بأنه لا يصح أمان كافر ولا مجنون ولا صبي. وصرح في الكافي بذلك. أما كونه لا يصح أمان كافر فلأنه ليس منا فلا يدخل في الحديث المتقدم. ولأنه متهم في الدين فلم يقبل أمانه لمكان التهمة. وأما كونه لا يصح أمان مجنون فلأنه لا قول له. وأما الصبي فإن كان طفلاً فلا يصح أمانه لعدم اعتبار قوله، وإن كان مميزاً ففيه روايتان تقدم ذكرهما. ويشترط أن لا يكون معطي الأمان مكرهاً؛ لأن قول المكرَه لا يترتب عليه حكم شرعي. ولم يذكره المصنف رحمه الله للعلم به وعادة الأصحاب يشترطونه في الأسير (¬1). ولم يشترطه المصنف رحمه الله فيه لأن الحر المطلق لو أكره على الأمان لم يصح فلا حاجة إلى اختصاص الأسير به وإنما ذكره الأصحاب نظراً إلى المظنة بخلاف المطلق. قال: (ويصح أمان الإمام لجميع المشركين، وأمان الأمير لمن جعل بإزائه، وأمان أحد الرعية للواحد والعشرة والقافلة). أما كون أمان الإمام يصح لجميع المشركين فلأن له الولاية على جميع المسلمين. وأما كون أمان الأمير يصح لمن جعل بإزائه فإن له الولاية على من بإزائه دون غيره فاختص به. ¬

_ (¬1) في هـ: وأعاده الأصحاب بشرط كونه في الأسير.

وأما كون أمان أحد الرعية يصح كما ذكره المصنف رحمه الله فلعموم الحديث. فعلى هذا لا يصح أمانه لأهل بلدة كبيرة ولا رستاق وجمع كبير ونحو ذلك لأنه يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتيات على الإمام. قال: (ومن قال لكافر: أنت آمن، أو لا بأس عليك، أو أجرتك، أو وقف، أو ألق سلاحك، أو مَتَرْس فقد أمّنه). أما كون من قال لكافر: أنت آمن فقد أمنه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» (¬1). وأما كون من قال له: لا بأس عليك فقد أمّنه؛ «فلأن عمر رضي الله عنه لما قال للهرمزان: لا بأس عليك. قالت الصحابة رضوان الله عليهم: قد أمنته فلا سبيل لك عليه» (¬2) رواه سعيد. وأما كون من قال له: أجرتك فقد أمنه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم هانئ رضي الله عنها: «قد أجرنا من أجرت» (¬3). وأما كون من قال له: قف أو ألق سلاحك فقد أمنه فلأن الكافر يعتقده أماناً أشبه قوله: لا بأس عليك. وأما كون من قال له مترس فقد أمنه فلأن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إن الله يعلم كل إنسان، فمن أتى منكم أعجمياً، فقال: مَتَرْس فقد أمنه» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1780) 3: 1406 كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2670) 2: 252 كتاب الجهاد، باب قتل الأسارى والنهي عن المثلة. وأخرجه الشافعي في مسنده (403) 2: 120 كتاب الجهاد. كلاهما من حديث أنس. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (350) 1: 141 أبواب الصلاة في الثياب، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به. وأخرجه مسلم في صحيحه (336) 1: 498 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى ... وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (2612) 2: 234 كتاب الجهاد، باب المرأة تجير على القوم. (¬4) إنما هو عن عمر، وقد ذكره البخاري تعليقاً عنه: «إذا قال مَتَرْس فقد آمنه، إن الله يعلم الألسنة كلها». 3: 1158 كتاب الجزية، باب إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى موصولاً من حديث أبي وائل، قال: «جاءنا كتاب عمر: وإذا قال الرجل للرجل: لا تخف فقد آمنه، وإذا قال مَتَرْس فقد آمنه، فإن الله يعلم الألسنة» 9: 96 كتاب السير، باب كيف الأمان. وقد أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2599) و (2600) 2: 230 كتاب الجهاد، باب الإشارة إلى المشركين والوفاء بالعهد. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (9429) 5: 219 كتاب الجهاد، باب دعاء العدو.

وليس الأمان مقيداً بما ذكره المصنف رحمه الله بل يحصل بكل ما يدل عليه من قول وغيره. وأما كونه يحصل بالقول فظاهر. وأما كونه يحصل بغيره كالإشارة ونحوها فلأن عمر رضي الله عنه قال: «لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك، فنزل إليه فقتله لقتلته به» (¬1). قال: (ومن جاء بمشرك فادعى أنه أمنه فأنكره فالقول قوله. وعنه: قول الأسير. وعنه: قول من يدل الحال على صدقه). أما كون القول قول المسلم في هذه الصورة على الرواية الأولى فلأن الأصل معه؛ لأن الأصل إباحة دم الحربي وعدم الأمان. وأما كون القول قول الأسير على الرواية الثانية فلأن صدقه محتمل فيكون قوله شبهة في حقن دمه. وأما كون القول قول من يدل الحال على صدقه على الرواية الثالثة فلأنها قرينة دالة على الصدق فعلى هذا إن كان الأسير ذا قوة ومعه سلاحه فالظاهر صدقه وإن كان ضعيفاً مسلوباً سلاحه فالظاهر كذبه. قال: (ومن أُعطي أماناً ليفتح حصناً ففتحه واشتبه علينا فيهم حرم قتلهم واسترقاقهم، وقال أبو بكر: يخرج واحد بالقرعة ويسترق الباقون). كما لو أعتق عبداً من عنده ثم أشكل. ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2597) 2: 229 كتاب الجهاد، باب الإشارة إلى المشركين والوفاء بالعهد.

قال: (ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمَن ويقيمون مدة الهدنة بغير جزية، وقال أبو الخطاب: لا يقيمون سنة واحدة إلا بجزية). أما كون الأمان يجوز للرسول والمستأمن فلأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك. وأما كونهم يقيمون مدة الهدنة بغير جزية على الأول وهو ظاهر كلام أحمد وقول القاضي فلأنهم لما جاز أمانهم دون السنة بغير جزية جاز فيما زاد عليها بخلاف أهل الذمة. وأما كونه لا يجوز على قول أبي الخطاب فلعموم قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يَدٍ وهم صاغرون} [التوبة: 29]. قال: (ومن دخل دار الإسلام بغير أمان فادعى أنه رسول أو تاجر ومعه متاع يبيعه قُبل منه. وإن كان جاسوساً خُير الإمام فيه كالأسير. وإن كان ممن ضل عن الطريق أو حملته الريح في مركب إلينا فهو لمن أخذه. وعنه: يكون فيئاً للمسلمين). أما كون قول من دخل دار الإسلام فادعى أنه رسول أو تاجر ومعه متاع يُقبل فلأن ما ادعاه ممكن فيكون شبهة في درء القتل فلأنه يتعذر عليه إقامة البينة على ذلك. وأما قول المصنف رحمه الله: ومعه متاع فشرط في قبول قوله أنه تاجر لأنه إذا لم يكن معه ذلك لم يحتمل صدقه. وقوله: قُبل منه فيه إشعار بأنه لا يتعرض إليه. صرح بذلك هو وغيره من الأصحاب. أما الرسول «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرسولي مُسَيْلمة: لولا أن الرسول لا يقتل لقتلتكما» (¬1) رواه أبو داود. وأما التاجر فلأنه إذا جاء بماله ولا سلاح معه دل على قصد الأمان. ولم يشترط المصنف رحمه الله هنا أن تكون العادة جارية بذلك لما ذكر من قصده الأمان. واشترطه في الكافي وصرح به غيره من الأصحاب لأن العادة جارية مجرى الشرط. فإذا لم تكن عادة ولم يدخل بأمان وجب بقاؤه على ما كان عليه من عدم العصمة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2761) 3: 83 كتاب الجهاد، باب في الرسل. وأخرجه أحمد في مسنده (3851) 1: 406 كلاهما عن ابن مسعود.

وأما كون الإمام يخير في الجاسوس كالأسير فلأنه كافر قصد نكاية المسلمين فخير الإمام فيه بعد القدرة عليه كالأسير. وأما كون المأخوذ ممن ذكر لمن أخذه على المذهب فلأنه مباح ظهر عليه بغير جهاد فكان لآخذه كمباحات دار الإسلام. وأما كونه يكون فيئاً على روايةٍ فلأنه مال مشترك ظهر عليه بغير قتال أشبه ما تركوه فزعاً وهربوا. قال: (وإذا أودع المستأمن ماله مسلماً أو أقرضه إياه ثم عاد إلى دار الحرب بقي الأمان في ماله ويُبعث إليه إن طلبه، وإن مات فهو لوارثه. فإن لم يكن له وارث فهو فيء). أما كون الأمان يبقى في مال المستأمن إذا تركه عندنا وعاد هو إلى دار الحرب فلأن الموجِب للنقض دخول دار الحرب فانتقض فيما دخل دون غيره. فإن قيل: الأمان ثبت في المال تبعاً فإذا بطل في المتبوع بطل في التابع. قيل: لا نسلم أن الأمان ثبت في المال تبعاً بل ثبت فيهما جميعاً فإذا بطل في أحدهما بقي في الآخر. وعلى تقدير التسليم يجوز حكم التبع وإن زال في المتبوع لأن أم الولد يثبت لولدها حكم الاستيلاد تبعاً لها ويبقى حكمه له بعد موتها. وأما كونه يُبعث إليه إن طلبه فلأنه ملكه. وأما كونه لوارثه إذا مات فلأن من ثبت له حق على وجه مخصوص انتقل إلى وارثه على صفته من تأجيل ورهن وضمين فكذا هذا. وأما كونه فيئاً إذا لم يكن له وارث فلأن أهل الذمة إذا ماتوا ولا وارث لهم يكون مالهم فيئاً فكذلك هذا. قال: (وإن أسر الكفار مسلماً فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم لزمه الوفاء لهم، وإن لم يشترطوا شيئاً، أو شرطوا كونه رقيقاً فله أن يقتل ويسرق ويهرب). أما كون المسلم يلزمه الوفاء لهم إذا شرط ما ذكر؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم» (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 293.

ولأنهم أطلقوه على ذلك فلزمه الوفاء به وفاءً بشرطه. وأما كونه له أن يقتل ويسرق ويهرب إذا لم يشترطوا شيئاً أو شرطوا كون المسلم رقيقاً فلأنه لم يصدر منه ما يثبت به الأمان. قال: (وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالاً، فإن عجز عنه عاد إليهم لزمه الوفاء إلا أن يكون امرأة فلا ترجع إليهم. وقال الخرقي: لا يرجع الرجل أيضاً). أما كون الرجل المسلم إذا شرط ما ذكر يلزمه الوفاء على المذهب فلما تقدم ذكره. وأما كونه لا يرجع على قول الخرقي فبالقياس على المرأة. وأما كون المرأة لا ترجع قولا واحداً فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل الحديبية على رد من جاءه منعه الله رد النساء» (¬1). ولأن في رجوعها تسليطاً على وطئها حراماً فلم يجز. ¬

_ (¬1) عن المسور بن مخرمة «أن أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعيط كانت ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن}. أخرجه البخاري في صحيحه (2564) 2: 965 كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة.

باب الهدنة

باب الهدنة مشتقة من قولهم تهادن الأمر إذا استقام، وهدنت المرأة صبيها بالكلام إذا أرادت أن ينام. والأصل فيها الكتاب والسنة والمعنى. أما الكتاب فقوله تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} [التوبة: 4]. وأما السنة ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم روي «أنه صالح قريشاً عشر سنين» (¬1). وأما المعنى فلأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادن (¬2) حتى يقووا. قال: (ولا يصح عقد الهدنة والذمة إلا من الإمام أو نائبه. فمتى رأى المصلحة في عقد الهدنة جاز له عقدها مدة معلومة وإن طالت. وعنه: لا يجوز في أكثر من عشر سنين. فإن زاد على عشر بطل في الزيادة. وفي العشر وجهان). أما كون عقد الهدنة والذمة لا يصح من غير الإمام أو نائبه فلأن ذلك يتعلق بنظر واجتهاد ومصلحة للمسلمين وليس غير الإمام ونائبه محلاً لذلك لعدم ولايته عليهم. ولأن عقد الهدنة قد يكون مع جملة الكفار وليس لأحد من المسلمين إعطاء الأمان لأكثر من القافلة والحصن الصغير لأن في تجويزه افتياتاً على الإمام وتعطيل الجهاد (¬3). وأما كون عقدها يصح منهما: أما من الإمام فلما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وأما من نائبه فلأنه نائب عنه ومُنَزّل منزلته. وأما ما يشترط لذلك فأمور: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه مطولاً في قصة الحديبية من غير ذكر المدة (2518) 2: 974 كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد ... وأخرجه أبو داود في سننه (2766) 3: 86 كتاب الجهاد، باب في صلح العدو. قال البيهقي: والمحفوظ أن المدة كانت عشر سنين. تلخيص الحبير 4: 130. (¬2) في هـ: فيهادنوا. (¬3) في هـ للجهاد.

أحدها: أن يكون في العقد مصلحة للمسلمين لأن ما لا مصلحة للمسلمين فيه لا يجوز للإمام فعله كسائر الأمور التي لا مصلحة فيها. وثانيها: كون المدة مقدرة لما يأتي. وثالثها: كون التقدير معلوماً لأن ما وجب أن يكون مقدراً وجب أن يكون معلوماً كخيار الشرط. ورابعها: هل يتقدر بالعَشر؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يتقدر لأنها تجوز في أقل من عشر فجازت في أكثره كمدة الإجارة. ولأن أصل الهدنة إنما جازت للمصلحة فإذا تضمنت الزيادة على العشر المصلحة جازت تحصيلاً للمصلحة. والثانية: يتقدر بالعشر؛ لأن قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] عام خص منه مدة العشر لصلح النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً (¬1) فيبقى ما زاد على ذلك على مقتضى الدليل. فعلى قولنا لا يصح إذا عقدها على أكثر من عشر سنين بطل فيما زاد عليها. وفي العشر وجهان مبنيان على تفريق الصفقة. قال: (وإن هادنهم مطلقاً لم يصح. وإن شرط شرطاً فاسداً كنقضها متى شاء، ورد النساء إليهم أو صداقهن أو سلاحهم، وإدخالهم الحرم بطل الشرط. وفي العقد وجهان). أما كون الهدنة لا تصح مطلقاً فلأن إطلاق ذلك يقتضي التأبيد وذلك يفضي إلى ترك الجهاد. وأما كون شرط النقض متى شاء يبطل فلأنه ينافي مقتضى العقد. ولأنه عقد مؤقت فكان تعليقه على المشيئة باطلاً كالإجارة. وأما كون شرط رد النساء المسلمات يبطل فلقوله: {فلا تَرجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد منع الصلح في النساء». ¬

_ (¬1) ر الحديث السابق.

ولأنه لا يؤمن أن تزوج بمشرك فيصيبها أو تفتتن في دينها. وأما كون شرط رد صداقهن يبطل فلأن بضع المرأة لا يدخل في الأمان. فإن قيل: فقد رد النبي صلى الله عليه وسلم المهر. قيل: لأنه شرط رد النساء وكان شرطاً صحيحاً ثم نسخ فوجب رد البدل لصحة الشرط بخلاف حكم من بعده فإن رد النساء نسخ فلم يبق صحيحاً. وأما كون شرط رد السلاح يبطل فلأنه يصير لهم به قوة. وأما كون شرط إدخالهم الحرم يبطل فلقوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. وأما كون العقد إذا شرط فيه شيء من ذلك أو شبهه يبطل ففيه وجهان مبنيان على الشروط الفاسدة في البيع. وسيأتي دليل ذلك في موضعه. قال: (وإن شرط رد من جاء من الرجال مسلماً جاز، ولا يمنعهم أخذه، ولا يجبره على ذلك. وله أن يأمره بقتالهم، والفرار منهم). أما كون شرط رد من جاء من الرجال مسلماً يجوز فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك (¬1). وأما كون الإمام لا يمنعهم أخذه «فلأن أبا بصير جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فجاء الكفار في طلبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا يصلح في ديننا الغدر، وقد علمت ما عاهدنا عليه، ولعل الله أن يجعل لك فرجاً ومخرجاً. فرجع معهم. فقتل أحدَهم ورجع النبي صلى الله عليه وسلم» (¬2). فلم يلمه. وأما كونه لا يجبره على ذلك فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبر أبا بصير. وأما كونه له أن يأمره بقتالهم والفرار منهم فلأنه رجوع إلى باطل فكان له الأمر بعدمه كالزوجة التي سمعت طلاقها بأذنها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في قصة الحديبية وفيه: «فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا». (2581) 2: 974 كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد ... (¬2) ر تخريج الحديث السابق.

قال: (وعلى الإمام حماية من هادنهم من المسلمين دون غيرهم. وإن سباهم كفار آخرون لم يجز لنا شراءهم. وإن خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم). أما كون الإمام عليه حماية من هادنه من المسلمين فلأنه أمّنهم ممن هو في قبضته وتحت يده. وأما كونه ليس عليه حمايتهم من غير المسلمين فلأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط. وقول المصنف رحمه الله: دون غيرهم يوهم دخول أهل الذمة فيمن لا يجب حمايتهم منه لأنهم دون المسلمين وليس مراده ذلك. وإنما ترك ذكر أهل الذمة لظهوره لأنه إذا وجب حمايتهم فلأن يجب من أهل الذمة بطريق الأولى. وأما كون شرائهم لنا لا يجوز إذا سباهم كفار آخرون فلأنهم في عهدنا فلم يجز أن يتملك ما سبي منهم؛ كأهل الذمة. وأما كون الإمام ينبذ إليهم عهدهم إذا خاف نقض العهد منهم فلقوله تعالى: {وإما تَخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58]. يعني أعلمهم حيث تصير أنت وهم سواء في العلم.

باب عقد الذمة

باب عقد الذمة عقدُ الذمة: إقرار بعض الكفار على كفرهم إذا بذلوا الجزية بشرطه. وسيبين مفصلاً إن شاء الله تعالى. قال المصنف رحمه الله: (لا يجوز عقدها إلا لأهل الكتاب، وهم: اليهود والنصارى ومن يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل كالسامرة، والفرنج، ومن له شبهة كتاب وهم المجوس. وعنه: يجوز عقدها لجميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب). أما كون عقد الذمة لا يجوز لغير أهل الكتاب ومن له شبهة كتاب على المذهب فلأن الله تعالى قيد قتال الذين كفروا مُغيّىً إلى إعطاء الجزية بأهل الكتاب فلو لم يكن ذلك مختصاً بأهل الكتاب لم يكن في التقييد فائدة. ولأن قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] عام في كل مشرك خرج منه أهل الكتاب لقوله من أهل الكتاب (¬1)، والمجوس للخبر فيبقى فيما عداهما على مقتضى الدليل. وأما كونه يجوز لجميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب على روايةٍ؛ فلما روى الزهري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب» (¬2). والأول أولى؛ لما ذكر. ولأن غير الكتابي والمجوس لا يدل عليه القرآن ولا هو في معنى ما دل عليه لأن كفرهم أغلظ من كفر أهل الكتاب. وأما ما روى الزهري (¬3). ¬

_ (¬1) في هـ: من الكتاب، بإسقاط لفظ أهل. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد روى أبو عبيد في الأموال عن الحسن قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب على الإسلام ولا يقبل منهم غيره، وأمر أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون». (62) 30 باب أخذ الجزية من عرب أهل الكتاب. (¬3) بياض في هـ مقدار أربع كلمات.

وأما كون عقدها يجوز لأهل الكتاب فبالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون -إلى قوله: - من الذين أوتوا الكتاب} [التوبة: 29]. وأما السنة «فقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين وجهه إلى اليمن: فادعهم إلى الإسلام، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم» (¬1). وأما الإجماع فأجمع المسلمون على جواز عقدها لأهل الكتاب. وأما قول المصنف: وهم اليهود والنصارى ومن يوافقهم في التديّن بالتوراة والإنجيل كالسامرة والفرنج فبيانٌ للمراد من أهل الكتاب. قال الله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام: 156] والمراد ما ذكر. وأما كون عقدها يجوز لمن له شبهة كتاب وهم المجوس؛ فلما روى عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سُنوا بهم سُنة أهل الكتاب» (¬2). وعنه أنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر» (¬3). قال: (فأما الصابئي فينظر فيه فإن انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله، وإلا فلا). أما كون الصابئي الذي انتسب إلى أحد الكتابين من أهل ذلك الكتاب فلأنه إذا انتسب إلى أحد الكتابين شارك أهله في ذلك الكتاب فيدخل فيما تقدم. وأما كون الذي لم ينتسب إلى ذلك كمن يقول أن الفلك حي ناطق، وأن الكواكب السبعة آلهة ليس من أهل الكتاب فلأنه مساوٍ لعبدة الأوثان في عدم انتسابه إلى كتاب فوجب أن لا يكون من أهله كعبدة الأوثان. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1731) 3: 1357 كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ... (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 189 كتاب الجزية، باب المجوس أهل كتاب والجزية تؤخذ منهم. وأخرجه أبو عبيد في الأموال (78) ص: 35 باب أخذ الجزية من المجوس. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2987) 3: 1151 أبواب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب.

قال: (ومن تهوّد، أو تنصّر بعد بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما فعلى وجهين). أما كون من تهوّد أو تنصّر بعد بعث نبينا صلى الله عليه وسلم تقبل منه الجزية على وجهٍ فلعموم النصوص المتقدم ذكرها. وأما كونه لا يقبل منه على وجهٍ فلأنه انتقل إلى دين باطل. وأما كون من ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما تقبل على وجهٍ فلما ذكر قبل. وأما كونه لا تقبل منه على وجه فلأنه تعارض فيه القبول وعدم القبول فرجع إلى الأصل. قال: (ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب، وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلَيْ ما يؤخذ من المسلمين، ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم. ومصرفه مصرف الجزية. وقال الخرقي: مصرف الزكاة. ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم. وقال القاضي: تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم). أما كون الجزية لا تؤخذ من نصارى بني تغلب فلما روي «أن عمر دعاهم إلى بذل الجزية فأبو وأنفوا، وقالوا: نحن عرب. خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة. فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة. فلحق بعضهم بالروم. فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين! إن القوم لهم بأس وشدة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تُعِنْ عليك عدوك بهم، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة. فبعث عمر في طلبهم وردهم» (¬1). وأما كون الزكاة تؤخذ من أموالهم مثلَيْ ما يؤخذ من المسلمين فلأن تكملة حديث عمر المتقدم ذكره: «وضعّف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، ومن ثلاثين بقرة تبيعين، ومن كل عشرين ديناراً دينارا، ومن كل مائتي درهم عشر دراهم، ومما سقت السماء الخمس، وفيما سقي بنضح أو عرب أو دولاب العشر». ¬

_ (¬1) أخرج نحوه أبو عبيد في الأموال (71) ص: 32 كتاب سنن الفيء، باب أخذ الجزية من عرب أهل الكتاب.

واستقر ذلك من قول عمر ولم يخالف غيره من الصحابة فكان إجماعاً. وأما كون ذلك يؤخذ من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم فلأن حكم المأخوذ منهم حكم الزكاة، والزكاة تؤخذ في جميع هذه الصور فكذا يؤخذ منهم فيما هو ملحق بها. وأما كون مصرف المأخوذ منهم مصرف الجزية على قول غير الخرقي فلأنه مأخوذ من مشرك. ولأنه جزية مسماة بالصدقة، ولذلك قال عمر: «هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم». وأما كون مصرفه مصرف الزكاة على قول الخرقي فلأنه مسمى باسم الصدقة مسلوك به فيمن يؤخذ منه مسالك الصدقة فيكون مصرفه مصرفها. قال المصنف رحمه الله في المغني: الأول أقيس لأن المعنى أخص من الاسم. ولأنه لو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعه إلى فقراء من أخذت منهم كصدقات المسلمين. وأما كون ذلك لا يؤخذ من كتابي غيرهم على المذهب فلأن قوله تعالى: {مِن الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29]، وقوله عليه السلام لمعاذ: «خذ من كل حالم ديناراً» (¬1) عامٌّ في كل كتاب خرج منها نصارى بني تغلب لفعل عمر وإجماع الصحابة عليه فيبقى فيما عداه على مقتضاه. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الجزية من أهل نجران» (¬2) وكانوا نصارى. و«أخذها من أكيدر دومة» (¬3) وهو عربي. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3038) 3: 167 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية. وأخرجه الترمذي في جامعه (623) 3: 20 كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر. وأخرجه النسائي في سننه (2452) 5: 26 كتاب الزكاة، باب زكاة البقر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه عن ابن عباس قال: «صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غدرة على أن لا تهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الربا». (3041) 3: 167 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية. (¬3) أخرج أبو داود في سننه عن أنس بن مالك وعن عثمان بن أبي سليمان «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكَيْدر دومة فأُخِذ فأتوه به فحقن له دمه وصالحه على الجزية». (3037) 3: 166 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية.

وأما كونها تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم على قول القاضي فلأنهم من العرب أشبهوا بني تغلب. قال: (ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا زمِنٍ ولا أعمى ولا عبدٍ ولا فقير يعجز عنها). أما كون الصبي لا جزية عليه فلأن قوله عليه السلام: «خذ من كل حالم» (¬1) يدل بمفهومه على أنه لا يؤخذ من صبي. ولأن عمر كتب إلى أمراء الأجناد «أن اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان» (¬2) رواه سعيد وأبو عبيد والأثرم. وأما كون المرأة لا جزية عليها فلما تقدم من قول عمر. وأما كون الزمِنِ والأعمى لا جزية عليهما فلأنهما محقونان الدم أشبها الصبي والمرأة. وفي معناه من راهبٍ وشيخ فانٍ وشبههما. وأما كون العبد لا جزية عليه فلقوله عليه السلام: «لا جزية على العبد» (¬3). وعن ابن عمر مثله. ولأنه مال فلم تجب عليه الجزية كسائر الحيوانات. ولأنه محقون الدم أشبه الصبي. وأما كون الفقير لا جزية عليه فلقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]. ولأنه مال يجب بحول الحول فلم يلزم الفقير كالزكاة والعقل. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريباً. (¬2) أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن أسلم عن عمر رضي الله عنه «أنه كتب إلى أمراء أهل الجزية أن لا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي قال: وكان لا يضرب الجزية على النساء والصبيان» 9: 198 كتاب الجزية، باب من يرفع عنه الجزية. وأخرج أبو عبيد في الأموال عن قتادة عن أبي مجلز «أن عمر بعث عمار بن ياسر، وعبدالله بن مسعود، وعثمان بن حنيف إلى أهل الكوفة، فوضع عثمان على أهل الرؤوس: على كل رجل أربعة وعشرين درهما كل سنة وعطل من ذلك النساء والصبيان. ثم كتب بذلك إلى عمر فأجازه». (102) ص: 42 كتاب سنن الفيء، باب فرض الجزية. (¬3) قال ابن حجر: روي مرفوعاً، وموقوفاً على عمر، ليس له أصل. اهـ تلخيص الحبير 4: 123.

واشترط المصنف رحمه الله في الفقير العجز عن الأداء لأنه هو الذي يتعذر عليه وتشمله الآية فلو كان لا يعجز عنها ولو بصنعة وجبت عليه لأنه في حكم الأغنياء. قال: (ومن بلغ أو أفاق أو استغنى فهو من أهلها بالعقد الأول، ويؤخذ منه آخر الحول بقدر ما أدرك). أما كون من بلغ أو أفاق أو استغنى من أهل الجزية بالعقد الأول فلأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه تجديد عقد لصبي بلغ ولا مجنون أفاق ولا فقير استغنى. ولأن العقد يكون مع سادة أهل البلدة فيدخل فيه سائرهم فكذا هؤلاء. وأما كون من ذكر يؤخذ منه في آخر الحول بقدر ما أدرك فلأن الجزية للسنة. فعلى هذا من وجد منه ما ذكر في أول السنة أخذ في آخرها كل الجزية، ولو وجد في نصفها أخذ نصفها، وعلى هذا بالحساب، ولا يترك حتى يتم حولاً من حين وجد سببه لأنه يحتاج إلى إفراده بحول، وضبط حول كل إنسان يؤخذ منه يشق ويتعذر. قال: (ومن كان يجن ويفيق لفقت إفاقته فإذا بلغت حولاً أخذت منه، ويحتمل أن يؤخذ منه في آخر كل حول بقدر إفاقته منه). أما كون من ذكر تلفق إفاقته فلأنه أمكن من غير مشقة. وأما كون من بلغت إفاقته حولاً تؤخذ منه الجزية حينئذ على المذهب فلأن حوله لا يكْمل إلا حينئذ. وأما كونه يحتمل أن يؤخذ منه في آخر كل حول بقدر إفاقته منه فلأن الجزية تؤخذ في كل حول فوجب الأخذ منه بحسابه.

قال: (وتقسم الجزية فيجعل على الغني ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرون، وعلى الفقير اثنا عشر. والغني منهم من عدّه الناس غنياً في ظاهر المذهب). أما كون الجزية تقسم بين أهل الكتاب فيجعل ثمانية وأربعون درهماً على الغني، وأربعة وعشرون على المتوسط، واثنا عشر على الفقير فلأن عمر رضي الله عنه هكذا فعل (¬1) بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه فكان إجماعاً. فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما وجهه إلى اليمن: «خذ من كل حالم ديناراً» (¬2). قيل: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن الفقر كان فيهم أغلب. ولذلك يروى عن مجاهد أنه قيل له: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: ذلك من أجل اليسار. وثانيهما: أن الجزية يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام وكان الدينار في ذلك الزمان اجتهاد إمامه والأربعة اجتهاد إمام زمنها. وأما كون الغني من عدّه الناس غنياً في ظاهر المذهب فلأن المقادير توقيفية ولا توقيف في ذلك فوجب رده إلى العرف كالحِرز والقبض. وفي قول المصنف رحمه الله: في ظاهر المذهب إشعار بأن فيه خلافاً وهو صحيح لأن فيه ثلاث روايات: إحداها: ما تقدم. وثانيها: أن من ملك نصاباً فهو غني قياساً على المسلم. وثالثها: أن ملك عشرة آلاف ديناراً فهو غني لأن من ملك دون ذلك لا يعد في بعض البلاد غنياً. والأول أصح؛ لما ذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في الأموال عن حارثة بن المضرب (103) ص: 42، وعن محمد بن عبدالله الثقفي (104) ص: 43 كتاب سنن الفيء، باب فرض الجزية. (¬2) سبق تخريجه ص: 346.

ولأن العرف يختلف بالنسبة إلى البلدان فوجب اعتباره لئلا يحكم بغنى شخص وهو فقير عند أهل بلده. قال: (ومتى بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله، وحرم قتالهم. ومن أسلم بعد الحول سقطت عنه الجزية. وإن مات أخذت من تركته. وقال القاضي: تسقط). أما كون من بذل الواجب يلزم قبوله فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «ادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» (¬1). وأما كونه يحرم قتالهم فلقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله -إلى قوله: - حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] جعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم. فمتى بذلوا الجزية حرم قتالهم لذلك، ولما تقدم من الحديث. وأما كون من أسلم بعد الحول سقط عنه الجزية فلأن الله تعالى قال: {قُل للذين كفروا إن ينتهوا يًغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس على المسلم جزية» (¬2) رواه الخلال. وروي عن عمر أنه قال: «إن أخذها في كفه ثم أسلم يردها عليه». وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج» يعني الجزية. ولأن الجزية صَغار ولا تجب عليه كالمسلم. ولأنها وجبت بسبب الكفر فوجب أن يُسقطها الإسلام كالقتل. وأما كون من مات تؤخذ الجزية من تركته على المذهب فلأن الجزية دَين وجب عليه في حياته فلم تسقط بموته كدين الآدمي. وأما كونها تسقط على قول القاضي فلأن الجزية عقوبة فسقطت بالموت كالحد. والأول أولى؛ لما ذكر. والحد إنما يسقط لفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف هذا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 344. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3053) 3: 171 كتاب الخراج، باب في الذمي يسلم في بعض السنة هل عليه جزية؟ . وأخرجه الترمذي في جامعه (633) 3: 27 كتاب الزكاة، باب ما جاء ليس على المسلمين جزية. وأخرجه أحمد في مسنده عنه (1949) 1: 223. وأخرجه عن جرير (2577) 1: 285. وأخرجه أبو عبيد في الأموال عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه (121) ص: 49 كتاب سنن الفيء، باب الجزية على من أسلم من أهل الذمة.

قال: (وإن اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت كلها. وتؤخذ الجزية في آخر الحول. ويمتهنون عند أخذها، ويطال قيامهم وتجر أيديهم). أما كون الجزية إذا اجتمعت تستوفى كلها فلأنها دَين فإذا اجتمعت استوفيت كلها كديون الآدمي. ولأنها حق مال يجب في آخر كل حول فلم تتداخل كالدية. وأما كون الجزية تؤخذ في آخر الحول فلأنها مال يتكرر بتكرار الحول فوجب أخذها في آخر الحول لا في أوله كالدية. فإن قيل: فالله تعالى قال: {حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] أمر بالقتال إلى أن يعطوا الجزية فينبغي أن يجب بأول الحول. قيل: المراد الالتزام. بدليل أنه يحرم قتلهم بمجرد البذل قبل الأخذ. وأما كونهم يمتهنون عند أخذ الجزية ويطال قيامهم وتجر أيديهم فلأن الله تعالى قال: {حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]. فإن قيل: الامتهان المذكور هل هو مستحق أو مستحب؟ قيل: فيه خلاف. ويتفرع عليه عدم جواز التوكيل إن قيل هو مستحق لأن العقوبة لا يدخلها النيابة. وكذا عدم صحة ضمان الجزية لأن البراءة تحصل بأداء الضامن فتفوت الإهانة. وإن قيل هو مستحب انعكست الأحكام المذكورة. قال: (ويجوز أن يُشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، وتبين أيام الضيافة وقدر الطعام والإدام والعلف وعدد من يضاف، ولا تجب عليهم من غير شرط. وقيل: تجب). أما كون اشتراط الضيافة المذكورة على أهل الكتاب تجوز فلأن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه «أنه ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة نفس وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 194 كتاب الجزية، باب كم الجزية.

وروى الأحنف بن قيس «أن عمر شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة» (¬1) رواه أحمد. وروي عن عمر «أنه قضى على أهل الذمة ضيافة ثلاثة أيام وعلف دوابهم وما يصلحهم» (¬2). ولأن الاشتراط ضرب من المصلحة لأنهم ربما امتنعوا من مبايعة المسلمين إضراراً بهم فإذا اشترطت عليهم الضيافة أُمن ذلك. وأما كون أيام الضيافة وقدر الطعام والإدام والعلف وعدد من يضاف يبين فلأن الضيافة حق وجب فعله فوجب بيانه كالجزية. وقال المصنف في الكافي ما معناه: أنه إن شرط عليهم الضيافة وأطلق جاز؛ لأن عمر لم يقدر ذلك. ولما شكي إليه اعتداء الأضياف قال: «أطعموهم مما تأكلون» (¬3). فعلى هذا لا يجب عليهم ضيافة أكثر من يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلم، ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم؛ لقول عمر. وأما كون الضيافة المذكورة لا تجب من غير شرط على الأول ذكره القاضي فلأنها أداء مال فلا تجب عليهم بغير رضاهم كالجزية. وأما كونها تجب على قولٍ فلأنها تجب على المسلم فالكافر أولى. قال: (وإذا تولى إمام فعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم أقرهم عليه، وإن لم يعرف رجع إلى قولهم فإن بان له كذبهم رجع عليهم. وعند أبي الخطاب أنه يستأنف العقد معهم). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن الأحنف بن قيس «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يشترط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا قناطر وإن قتل بينهم قتيل فعليهم ديته». 9: 196 كتاب الجزية، باب الضيافة في الصلح. (¬2) أخرجه أبو عبيد في الأموال عن نافع عن أسلم «أن عمر ضرب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانبير، وعلى أول الورق: أربعين درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام». (100) ص: 42 كتاب سنن الفيء، باب فرض الجزية ومبلغها، وأرزاق المسلمين وضيافتهم. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (16446) 4: 36.

أما كون الإمام المتولي يُقر أهل الذمة على عقدهم الأول على المذهب فلأن الخلفاء أقروهم على ذلك لم يجددوا لمن كان في زمنهم عقد. ولأنه عقد لازم أشبه الإجارة. وأما كونه يقرهم على ما كانوا عليه إذا عرف قدر جزيتهم وما شُرط عليهم فلأن ذلك هو موجَب العقد الأول وقد تقدم أنهم يقرون عليه. وأما كونه يُرجع إلى قولهم إذا لم يعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم فلأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم. وأما كونه يرجع عليهم بالنقص إذا بان لهم كذبهم بإقرار أو بينة فلأنه واجب عليهم بالعقد الأول فكان للإمام المتجدد أخذه كالأول. وأما كونه يستأنف العقد معهم على قول أبي الخطاب فلأن المتولي إمام أشبه الأول. قال: (وإذا عقد الذمة كتب أسمائهم وأسماء آبائهم وحلاهم ودينهم، وجعل لكل طائفة عريفاً يكشف حال من بلغ وأسلم واستغنى وسافر ونقض العهد وخرق شيئاً من أحكام الذمة). أما كون الإمام يكتب أسماء أهل الذمة وأسماء آبائهم وحلاهم ودينهم إذا عقد الذمة فلأنه يعرفهم بذلك. والمراد بكتب أسمائهم وأسماء آبائهم أن يكتب فلان بن فلان، ويكتب حلاهم أن يكتب صفاتهم لأن الحلا جمع حلية والمراد بها الحلية التي لا تختلف من طول وقصر وسمرة وبياض ومن كونه أدعج العينين مقرون الحاجبين أقنى الأنف أبلج أكحل. ويكتب دينهم أن يكتب يهودي نصراني مجوسي. وأما كونه يجعل لكل طائفة عريفاً فليعرفه بما ذكره المصنف رحمه الله؛ لأن الجزية تتجدد بالبلوغ وتكثر بالاستغناء وتسقط بالإسلام ويتعذر الأخذ مع السفر ويمنع حقن الدم بها عند النقض والحاجة داعية إلى معرفة ذلك كله.

باب أحكام الذمة

باب أحكام الذمة قال المصنف رحمه الله: (يلزم الإمام أن يأخذهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس والمال والعِرض، وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حِله). أما كون الإمام يلزمه أن يأخذ أهل الذمة بأحكام المسلمين في ضمان ما ذَكر فلأن الإسلام نسخ كل حكم يخالفه. وأما كونه يلزمه إقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريم (¬1) ما يحد (¬2) لأجله كالقتل والزنا ونحوهما فلما روى أنس «أن يهودياً قتل جارية على أَوْضاح لها فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬3) متفق عليه. وروى ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما» (¬4). ولأنه محرم في دينهم وقد التزموا حكم الإسلام فثبت في حقهم حكمه كالمسلم. وأما كونه لا يلزمه ذلك فيما يعتقدون حله كشرب الخمر وأكل الخنزير ونكاح ذوات المحارم للمجوس فلأنهم يقرون عليه لقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا ¬

_ (¬1) في هـ: تحريمه. (¬2) في و: ما يلحه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6485) 6: 2522 كتاب الديات، باب من أقاد بالحجر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1672) 3: 1299 كتاب القسامة، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره ... (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (6450) 6: 2510 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم، إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام. وأخرجه مسلم في صحيحه (1699) 3: 1326 كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى.

باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يَدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} [التوبة: 29] أمر بإقرارهم على ذلك بإعطاء الجزية. ولأنهم يقرون على كفرهم وهو أكبر من ذلك فلأن يُقروا على ذلك بطريق الأولى. قال: (ويلزمهم التميّز عن المسلمين في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم وترك الفرق، وكناهم فلا يتكنوا بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبدالله، وركوبهم بترك الركوب على السروج وركوبهم عرضاً على الأكف، ولباسهم فيلبسون ثوباً يخالف لباسهم كالعسلي والأدكن، وشد الخرق في قلانسهم وعمائمهم، ويؤمر النصارى بشد الزنار فوق ثيابهم، ويجعل في رقابهم خواتيم الرصاص أو جلجل يدخل معهم الحمام). أما كون الإمام يُلزم أهل الذمة التميّز عن المسلمين في الشعور والكنى والركوب واللبس فلما روى إسماعيل بن عياش عن غير واحد من أهل العلم قال: «كتب أهل الجزيرة إلى عبدالرحمن بن غنم إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعل ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنّى بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنار في أوساطنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف ... وذكر سائره» (¬1) رواه الخلال. وذكر في آخره: «فكتب بذلك عبدالرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن امض لهم ما سألوا». وعن ابن عمر «أن عمر أمر بجز نواصي أهل الذمة وأن يركبوا الأكف عرضاً» (¬2) رواه الخلال. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بطوله 9: 202 كتاب الجزية، باب الإمام يكتب كتاب الصلح على الجزية. (¬2) أخرجه أبو عبيد في الأموال (137) ص: 55 باب الجزية كيف تجتبى؟ .

والأكف: جمع إكاف وهو البَردعة. ومعنى قوله: عرضاً أن يكون رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر. والأدكن الفاختي. فإن قيل: ما صفة التميز؟ قيل: كما ذكره المصنف رحمه الله لما ورد في الحديث المذكور. وأما كون النصارى يؤمرون بشد الزنار فوق ثيابهم فلما تقدم في حديث عبدالرحمن. ولما روي عن عمر «أنه كتب إلى أهل الآفاق: مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن». وأما كونهم يجعل في رقابهم الخواتيم والجلجل يدخل معهم الحمام فليحصل به التميز في الحمام. قال: (ولا يجوز تصديرهم في المجالس، ولا بدائتهم بالسلام. فإن سلم أحدهم قيل له: وعليكم. وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان). أما كون تصدير أهل الذمة في المجالس لا يجوز فلأن في كتابهم لعبدالرحمن بن غنم: «وأن نوقر المسلمين في المجالس، ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا الجلوس» (¬1). وأما كون بدائتهم بالسلام لا يجوز فلما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدؤا النصارى واليهود بالسلام. وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه» (¬2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وأما كون أحدهم إذا سلم يقال له: وعليكم؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإن سلموا عليكم فقولوا: وعليكم» (¬3) رواه الإمام أحمد. وأما كون تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم لا يجوز في رواية؛ فلأن بذلك يحصل الموالاة وتثبت المودة وقد نهى الله عن ذلك قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [الممتحنة: 1]، وقال تعالى: {يا أيها الذين ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريباً. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1602) 4: 154 كتاب السير، باب ما جاء في التسليم على أهل الكتاب. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (27277) 6: 389.

آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 51]. وأما كونه يجوز في روايةٍ فلأنه من مكارم الأخلاق وقد روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهودياً فأسلم» (¬1). وربما كان ذلك سبباً لإيمانه. قال: (ويمنعون تعلية البنيان على المسلمين، وفي مساواتهم وجهان. وإن ملكوا داراً عالية من مسلم لم يجب نقضها). أما كون أهل الذمة يُمنعون تعلية بنيانهم على المسلمين فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام يَعلو ولا يُعلى» (¬2). ولأن في ذلك (¬3) رتبة على المسلمين وأهل الذمة ممنوعون من ذلك. وأما كونهم لا تجوز مساواتهم للمسلمين في وجه فلما تقدم من قوله عليه السلام: «يعلو» (¬4). ولأنهم لا يجوز مساواتهم للمسلمين في اللباس فكذلك في البنيان. وأما كونهم يجوز مساواتهم فلأنه ليس ليستطيل على المسلمين. وأما كونهم إذا ملكوا داراً عالية من مسلم لا يجب نقضها فلأنه لم يعل على المسلمين شيئاً. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه عن عن أنس «أن غلاما من اليهود كان مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له أبوه: أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار» (3095) 3: 185 كتاب الجنائز، باب في عيادة الذمي. (¬2) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 1: 454 كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات ... وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 205 كتاب اللقطة، باب ذكر بعض من صار مسلماً بإسلام أبويه أو أحدهما. (¬3) في هـ: وفي ذلك. (¬4) ر الحديث السابق.

وقول المصنف: من مسلم فيه إشعار بأنه إذا ملكها من ذمي يجب نقضها وهو صحيح لأن نقضها وجب قبل البيع. قال: (ويمنعون من إحداث الكنائس والبِيَع، ولا يمنعون رمّ شعثها، وفي بناء ما استهدم منها روايتان). أما كون أهل الذمة يمنعون من إحداث الكنائس والبِيَع فلما روي عن ابن عباس: «أيما مصر مصّرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة» (¬1) رواه الإمام أحمد واحتج به. وفي حديث عبدالرحمن بن غنم: «إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديراً ولا ولاية ولا صومعة راهب» (¬2). وأما كونهم لا يمنعون رم شعثها فلأنه كتطيين سطوحها والتطيين لا يمنع منه فكذلك الرم. وأما كونهم يمنعون بناء ما استهدم منها في رواية فلأن في حديث عبدالرحمن بن غنم: «ولا نجدد ما خرب من كنائسنا» (¬3). ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فمنعوا منه كبداء بنيانها. وأما كونهم لا يمنعون في رواية فلأنه كَرَمِّ الشعث. قال: (ويمنعون إظهار المنكر، وضرب الناقوس، والجهر بكتابهم. وإن صولحوا في بلادهم على إعطاء الجزية لم يمنعوا شيئاً من ذلك). أما كون أهل الذمة يمنعون إظهار المنكر وضرب الناقوس والجهر بكتابهم فلأن في شروطهم: «أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضرباً خفياً في جوف كنائسنا، ولا نظهر علينا صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا كتاباً في سوق المسلمين، وأن لا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر النيران في أسواق المسلمين» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 201 كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن لا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ولا مجمعاً ... (¬2) سبق تخريجه من كتاب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم ص: 355. (¬3) مثل السابق. (¬4) مثل السابق.

وأما كونهم لا يمنعون شيئاً من ذلك إذا صولحوا في بلادهم على إعطاء الجزية فلأن الدار دارهم لا دار الإسلام بخلاف أهل الذمة فإنهم في دار الإسلام فمُنعوا من ذلك. قال: (ويمنعون دخول الحرم. فإن قدم رسول لا بد له من لقاء الإمام خرج إليه ولم يأذن له. فإن دخل عزر وهدد. فإن مرض بالحرم أو مات أخرج، وإن دُفن نبش إلا أن يكون قد بَلِي). أما كون الكفار يمنعون دخول الحرم فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. والمراد الحرم بدليل قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة} [التوبة: 28] يريد ضرراً بتأخر الجلَب عن الحرم دون المسجد. وبدليل قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام} [الإسراء: 1] أي من الحرم لأنه أسري به من بيت أم هانئ. وأما كون الإمام يَخرج إلى الرسول الذي لا بد من لقاء الإمام فلأن المشرك ممنوع من دخول الحرم فإذا لم يكن بُدٌّ من الاجتماع بالإمام تعين خروجه إليه. وأما كونه لا يأذن للرسول فلأن الدخول ممنوع منه وليس للإمام إذن في الممنوع منه. وأما كون الرسول إذا دخل يعزر ويهدد فلهتكه الحرم بدخوله الممنوع منه. ولا بد أن يُلحظ في ذلك علمه بمنعه لأنه إذا لم يعلم ذلك يكون له عذر. وأما كون من مرض بالحرم أو مات يُخرج فلأنه إذا لم يجز بقاؤه فيه في حياته فلأن لا يجوز بقاؤه في مرضه ومماته بطريق الأولى. وأما كونه ينبش إذا دفن ولم يبل فلأن في ذلك وسيلة إلى إخراج الميت من الحرم أشبه ما لو لم يدفن. وأما كونه لا ينبش إذا بلي فلأنه مع ذلك يتعذر نقله.

قال: (ويمنعون من الإقامة بالحجاز كالمدينة واليمامة وخيبر. فإن دخلوا لتجارة لم يقيموا في موضع واحد أكثر من أربعة أيام. فإن مرض لم يخرج حتى يبرأ، وإن مات دفن به. ولا يمنعون من تيماء وفيد ونحوهما. وهل لهم دخول المساجد بإذن مسلم؟ على روايتين). أما كون أهل الذمة يمنعون من الإقامة بالحجاز فلما روى أبو عبيدة بن الجراح أن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أخرجوا اليهود من الحجاز» (¬1) رواه أحمد وأبو داود. وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلا أترك فيها إلا مسلماً» (¬2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. والمراد الحجاز بدليل أن أحداً من الخلفاء لم يُخرج أحداً من أهل اليمن ولا أهل تيماء. وأما قول المصنف رحمه الله: كالمدينة إلى آخره فتنبيه على أن المواضع المذكورة من الحجاز؛ لأن الحجاز سمي بذلك لأنه حجز بين تهامة ونجد وذلك موجود فيما ذكر. وأما كونهم إذا دخلوا لتجارةٍ لم يقيموا في موضع واحد أكثر من أربعة أيام فلأن الزائد على الأربعة حدٌّ يُتم به المسافر. وقال المصنف في المغني والكافي وصاحب النهاية فيها: لا يقيم أكثر من ثلاثة؛ لأن إذن عمر رضي الله عنه لمن دخل منهم تاجراً في إقامة ثلاثة أيام يدل على أنه لا يجوز أكثر من ذلك. وأما كون من مرض لا يخرج حتى يبرأ فلأنه موضع ضرورة. وأما كون من مات يدفن به فلأنه موضع حاجة. وأما كونهم لا يمنعون من تيماء وفيد ونحوهما فلما تقدم من أن أحداً من الخلفاء لم يُخرج أحداً من ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (1694) 1: 195. وأخرجه الدارمي في سننه (2494) 2: 161 كتاب السير، باب إخراج المشركين من جزيرة العرب. ولم أره في أبي داود. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1607) 4: 156 كتاب السير، باب ما جاء في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب.

وأما كونهم لهم دخول المساجد بإذن مسلم على روايةٍ وهي الصحيحة في المذهب ذكره المصنف في الكافي فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد الطائف فأنزلهم بالمسجد قبل إسلامهم» (¬1). وأما كونهم ليس لهم ذلك على رواية فلما روي «أن أبا موسى قدم على عمر ومعه نصراني، فأعجب عمر خطه، وقال: قل لكاتبك هذا يقرأ لنا كتابه. قال: إنه لا يدخل المسجد. قال: لِمَ. أجنب هو؟ قال: هو نصراني. فانتهره عمر» (¬2). ولأن الجنب يمنع المسجد فالمشرك أولى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه من طريق الحسن عن عثمان بن أبي العاص «أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم فاشترطوا عليه أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يُجبوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع». (3026) 3: 163 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر الطائف. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 204 كتاب الجزية، باب لا يدخلون مسجداً بغير إذن.

فصل [في العشور] قال المصنف رحمه الله: (وإن اتجر ذمي إلى غير بلده ثم عاد فعليه نصف العشر. فإن اتجر حربي إلينا أُخذ منه العشر. ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير. ويؤخذ كل عام مرة. وقال ابن حامد (¬1): يؤخذ من الحربي كلما دخل إلينا). أما كون من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده ثم عاد يؤخذ منه نصف العشر فلما روى أنس بن مالك قال: «أمرني عمر أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر» (¬2) رواه الإمام أحمد. وروي «أن عمر بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهمٍ درهماً» (¬3) رواه أبو عبيد في كتاب الأموال. وأما كون من اتجر من أهل الحرب إلينا يؤخذ منه العشر فـ «لأن عمر رضي الله عنه أخذ من أهل الحرب العشر» (¬4) واشتهر ذلك فيما بين الصحابة وعمل به الخلفاء بعده فكان إجماعاً. ¬

_ (¬1) في المقنع: أبو حامد. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 210 كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده والحربي ... (¬3) أخرجه أبو عبيد في الأموال (1654) ص: 474 باب ذكر العاشر وصاحب المكس ... (¬4) أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن أنس بن سيرين أخي محمد بن سيرين قال: «جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنس بن مالك عى صدقة البصرة. فقال لي أنس بن مالك: أبعثك على ما بعثني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقلت: لا أعمل ذلك حتى تكتب لي عهد عمر بن الخطاب الذي عهد إليك. فكتب لي: أن خذ من أموال المسلمين ربع العشر، ومن أموال أهل الذمة إذا اختلفوا للتجارة نصف العشر، ومن أموال أهل الحرب العشر» 9: 210 كتاب الجزية، باب: ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده، والحربي إذا دخل بلاد المسلمين بأمان.

وأما كونه لا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير فيشمل أمرين: أحدهما: أن النصاب معتبر فيما يُعَشّر وهو صحيح لأنه مال يجب فيه العشر أو نصف العشر فاعتبر له النصاب كزرع المسلمين. وثانيهما: أن نصابه عشرة دنانير. وفي ذلك روايتان: إحداهما: أن نصابه ذلك لأن ذلك مال يبلغ واجبه نصف دينار فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم. والرواية الثانية: نصابه عشرون ديناراً لأن الزكاة لا تجب في أقل منها (¬1) فلم يجب فيها على الذمي شيء كاليسير. ولا فرق بين الذمي والحربي فيما ذكر بخلاف القدر المأخوذ لأن النصاب تقديري فلا يختلف إلا بنقل ولم يوجد. وأما كون ذلك يؤخذ في كل عام مرة وهو منصوص الإمام أحمد فلما روي «أن نصرانياً جاء إلى عمر فقال: إن عاملك عشرني السنة مرتين. قال: ومن أنت؟ قال: أنا الشيخ النصراني. قال عمر: وأنا الشيخ الحنيف. ثم كتب إلى عامله أن لا يعشر في السنة إلا مرة» (¬2) رواه الإمام أحمد. ولأن الجزية والزكاة إنما تؤخذ في السنة مرة واحدة فكذلك هذا. وأما كون ذلك يؤخذ من الحربي كلما دخل إلينا على قول ابن حامد فلأنا لو أخذنا منهم مرة واحدة لا يؤمن أن يدخلوا فإذا جاء وقت السنة ولم يدخلوا فيتعذر الأخذ منهم. ¬

_ (¬1) في هـ زيادة: فلم تجب في أقل منها (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 211 كتاب الجهاد، باب لا يؤخذ منهم ذلك في السنة إلا مرة واحدة إلا أن يقع. وأخرجه أبو عبيد في الأموال (1684) ص: 479 باب ما يأخذ العاشر من صدقة المسلمين، وعشور أهل الذمة والحرب.

والأول أصح؛ لما ذكر. وتعذر الأخذ غير صحيح لأنه يؤخذ أول مرة يدخل ثم يكتب له بما أخذ منه فلا يؤخذ منه شيء حتى تمضي تلك السنة فإذا جاء في العام الثاني أخذ منه في أول ما يدخل وإن لم يدخل فما فات في العام الثاني شيء. قال: (وعلى الإمام حفظهم، والمنع من أذاهم، واستنقاذ من أسر منهم). أما كون الإمام عليه حفظ أهل الذمة والمنع من أذاهم فلأنهم بذلوا الجزية على ذلك. وأما كونه عليه استنقاذ من أسر منهم فلأنهم جرت عليهم أحكام الإسلام وتأبد عهدهم (¬1) فلزمه ذلك كما يلزمه للمسلمين. ولم يشترط المصنف رحمه الله في استنقاذ من أسر منهم كون ذلك بعد استنقاذ المسلمين وهو شرط. وإنما تركه لظهوره ولذلك اشترطه في باقي كتبه؛ لأن استنقاذ المسلم أولى من غيره. ولأن عصمة الذمي ملحقة بعصمة المسلم فلا يستنقذ الفرع قبل الأصل. قال: (وإن تحاكموا إلى الحاكم مع مسلم لزمه الحكم بينهم. وإن تحاكم بعضهم مع بعض، أو استعدى بعضهم على بعض خُيّر بين الحكم بينهم وبين تركهم. ولا يحكم إلا بحكم الإسلام). أما كون أهل الذمة إذا تحاكموا مع مسلم إلى الحاكم يلزمه الحكم بينهم فلما فيه من إنصاف المسلم من غيره، أو رده عن الظلم وذلك واجب. وأما كونهم إذا تحاكم بعضهم مع بعض، أو استعدى بعضهم على بعض يخير بين الحكم بينهم وبين تركهم فلأن الله تعالى قال: {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42]. ¬

_ (¬1) في هـ: عددهم.

ولأنهما كافران فلم يجب الحكم بينهما كالمستأمن. وأما كون الحاكم بينهم لا يحكم إلا بحكم الإسلام فلأن الله تعالى قال: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42]. قال: (وإن تبايعوا بيوعاً فاسدة وتقابضوا لم ينقض فعلهم، وإن لم يتقابضوا فسخه سواء كان قد حكم بين حاكمهم أو لا). أما كون ما فعل أهل الذمة مع التقابض لا ينقض فلأن فيه مشقة وتنفيراً عن الإسلام بتقدير إرادته. وأما كونه يفسخ مع عدم التقابض فلأن مقتضى الدليل أن يحكم بينهم بحكم الإسلام لما تقدم. خص منه حالة التقابض للمشقة والتنفير فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. وأما قول المصنف رحمه الله: سواء كان قد حكم بينهم حاكمهم أو لا فمعناه أنهم لو ترافعوا إلى حاكمهم فألزمهم بالتقابض لا يلزم إمضاء حكمه لأن حكمه باطل ولا يجب إمضاء الباطل. قال: (وإن تهود نصراني، أو تنصر يهودي لم يقر ولم يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه. ويحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام. فإن أبى هدد وحبس. ويحتمل أن يقتل. وعنه: أنه يقر). أما كون النصراني إذا تهود وبالعكس لا يقر على المذهب فلأنه لا يقبل منه ذلك؛ لما يأتي بعد. وأما كونه لا يقبل منه غير الإسلام أو الدين الذي كان عليه على المذهب أيضاً فلأن الإسلام دين حق والذي كان عليه دين صولح عليه فلم يقبل منه غيرهما لاعترافه ببطلانه لأنه انتقل إلى دين باطل فلم يقر عليه أشبه ما لو انتقل إلى المجوسية. وأما كونه يحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام فلأن الدين الذي كان عليه قد اعترف ببطلانه والذي انتقل إليه كان معترفاً ببطلانه فلم يبق غير الإسلام. وأما كون من أبى من فعل الواجب عليه يهدد ويحبس على المذهب فليأتي بذلك.

وأما كونه يحتمل أن يقتل فلأنه انتقل إلى دين لا يقر عليه أشبه المسلم إذا ارتد. والأول أولى؛ لما تقدم. وأما كون من تقدم ذكره يقر على الدين الذي انتقل إليه على رواية فلأنه دين يقر عليه في الجملة أشبه الذي كان عليه والذي هو عليه بالأصالة. قال: (وإن انتقل إلى غير دين أهل الكتاب، أو انتقل المجوسي إلى غير دين أهل الكتاب لم يقر وأمر أن يسلم، فإن أبى قتل. وإن انتقل غير الكتابي إلى دين أهل الكتاب أقر. ويحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام. وإن تمجس الوثني فهل يقر؟ على روايتين). أما كون الكتابي أو المجوسي إذا انتقل إلى غير دين أهل الكتاب لا يقر عليه؛ فلأنه انتقل من دين يُقر أهله عليه إلى دين لا يقر أهله عليه فلم يقر عليه أشبه المرتد عن الإسلام. وأما كونه يؤمر بالإسلام فلأن كل أحد مأمور بذلك لا سيما من لا كتاب له ولا شبه كتاب. وأما كونه يقتل إذا أبى الإسلام فكالمسلم إذا ارتد. وأما كون غير الكتابي إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب يقر على المذهب فلأنه انتقل إلى دين هو أكمل من دينه الذي كان عليه أشبه ما لو انتقل من اليهودية إلى الإسلام. ومعنى الكمال أنه يقر أهله عليه وتؤكل ذبائحهم وتحل مناكحتهم. وأما كونه يحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام فلأنه أقر ببطلان دينه بعد أن كان مقراً ببطلان ما سواه. وأما كون الوثني إذا تمجس يقر على رواية فلأنه انتقل إلى (¬1) دين أكمل من دينه أشبه الوثني إذا تهود أو تنصر. ¬

_ (¬1) في هـ: من.

وأما كونه لا يقر على رواية فلأنه انتقل إلى غير كتاب أشبه ما لو انتقل إلى عبادة الشمس. ويمكن الفرق بما تقدم من كون المنتقل إليه أكمل من دينه.

فصل في نقض العهد قال المصنف رحمه الله: (وإذا امتنع الذمي من بذل الجزية، أو التزام أحكام الملة انتقض عهده). أما كون الذمي ينتقض عهده إذا امتنع من بذل الجزية فلأن الله تعالى قال: {حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية. وأما كونه ينتقض عهده إذا امتنع من التزام ملة الإسلام فلأن الإسلام نسخ كل حكم يخالفه فلا يجوز بقاء العهد مع عدم التزامه. وقتال المسلمين ينتقض به العهد كالأمرين المذكورين؛ لأن عقد الذمة يقتضي الأمان من الجانبين والقتال ينافيه فانتقض. قال: (وإن تعدى على مسلم بقتل أو قذف أو زنا أو قطعِ طريق أو تجسسٍ أو إيواء جاسوس أو ذكر الله تعالى أو كتابه أو رسوله بسوء فعلى روايتين). أما كون الذي ينتقض عهده بما ذكر على المذهب فلما روي عن عمر رضي الله عنه «أنه رُفع إليه رجل أراد استكراه مسلمة على الزنا. فقال: ما على هذا صالحناكم. وأمر به فصلب في بيت المقدس» (¬1). ¬

_ (¬1) عن سويد بن غفلة قال: «كنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين بالشام فأتاه نبطي مضروب مشجج مستعدي فغضب غضباً شديداً فقال لصهيب: انظر من صاحب هذا؟ فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الأشجعي فقال له: إن أمير المؤمنين قد غضب غضباً شديداً فلو أتيت معاذ بن جبل فمشى معك إلى أمير المؤمنين فإني أخاف عليك بادرته فجاء معه معاذ فلما انصرف عمر من الصلاة قال أين صهيب؟ فقال: أنا هذا يا أمير المؤمنين قال: أجئت بالرجل الذي ضربه؟ قال: نعم. فقام إليه معاذ بن جبل فقال: يا أمير المؤمنين إنه عوف بن مالك فاسمع منه ولا تعجل عليه. فقال له عمر: ما لك ولهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تصرع ثم دفعها فخرت عن الحمار ثم تغشاها ففعلت ما ترى قال: ائتني بالمرأة لتصدقك فأتى عوف المرأة فذكر الذي قال له عمر رضي الله عنه قال أبوها وزوجها: ما أردت بصاحبتنا فضحتها فقالت المرأة: والله لأذهبن معه إلى أمير المؤمنين فلما أجمعت على ذلك قال أبوها وزوجها: نحن نبلغ عنك أمير المؤمنين فأتيا فصدقا عوف بن مالك بما قال فقال عمر لليهودي: والله ما على هذا عاهدناكم فأمر به فصلب ثم قال: يا أيها الناس فوا بذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له». أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 201 كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلما بزنا.

وقيل لابن عمر: «إن راهباً يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لو سمعته لقتلته. إنا لم نعط الأمان على هذا». وعن عمر «أنه أمر عبدالرحمن بن غنم أن يلُحق في صلح أهل الجزية: ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده» (¬1). ولأن في ذلك ضرراً على المسلمين أشبه الامتناع من بذل الجزية. وأما كونه لا ينتقض على رواية فلأن هذه الأشياء لا يجب تركها عليهم فلا ينتقض عهدهم بفعلها. والأول أولى؛ لما تقدم. قال: (وإن أظهر منكراً، أو رفع صوته بكتابه ونحوه لم ينتقض عهده. وظاهر كلام الخرقي أنه ينتقض عهده إن كان مشروطاً عليهم). أما كون الذمي لا ينتقض عهده بما ذكر مع عدم شرطه فلأن ذلك لا ينافي عقد الذمة. ولأن غاية ما يقدر أنه شيء لا يجوز فعله وذلك لا يوجب نقض العهد دليله ما لو زنا معاهد بمشركة. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بطوله 9: 202 كتاب الجزية، باب الإمام يكتب كتاب الصلح على الجزية.

وأما كونه لا ينتقض مع شرط ترك ذلك على الأول فكما لو لم يشترط. وأما كونه ينتقض على ظاهر كلام الخرقي؛ فلأن في كتاب صلح الجزيرة بعد استيفاء الشرط: «وإن نحن غيّرنا أو خالفنا ما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لكل منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق» (¬1). ولأنه عقد بشرط فزال بزوال شرطه كما لو امتنعوا من بذل الجزية. قال: (ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقض عهده. وإذا انتقض عهده خُير الإمام فيه كالأسير الحربي. وماله فيء عند الخرقي، وقال أبو بكر: يكون لورثته). أما كون عهد نساء من نقض عهده وعهد أولاده لا ينتقض بنقض عهده فلأن النقض وُجد منه دونهم فاختص حكمه به. وأما كون الإمام يخير فيمن نقض عهده كالأسير الحربي؛ فـ «لأن عمر رضي الله عنه صلب الذي أراد استكراه المرأة» (¬2). ولأنه كافر لا أمان له أشبه الحربي الأسير. وأما كون ماله فيئاً عند الخرقي فلأنه قتل لنقضه العهد أشبه ما لو تركه وهرب. وأما كونه لورثته على قول أبي بكر؛ فلأن الأمان في المال لا ينتقض بنقض العهد فيجب أن ينتقل إلى الورثة لأنه حقهم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه من كتاب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم ص: 355. (¬2) سبق تخريجه ص: 368.

وقيل: الخلاف المذكور مبني على انتقاض العهد في المال بنقضه في صاحبه: فإن قيل: ينتقض كان فيئاً، وإن قيل: لا ينتقض انتقل إلى الورثة. والله أعلم بالصواب.

كتاب البيع

كتاب البيع البيع جائز بالكتاب والسنة والمعنى والإجماع: أما الكتاب فقول الله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275]، وقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282]، وقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29]، وقوله تعالى: {ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة: 198]. وأما السنة فروى رفاعة «أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون. فقال: يا معشر التجار! فرفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه. فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فُجَّاراً إلا من بَرَّ وصَدق» (¬1) قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: «التاجرُ الصدوقُ الأمينُ معَ النبيينَ والصديقينَ والشهداءِ» (¬2). قال الترمذي: هذا حديث حسن. وأما المعنى؛ فلأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه (¬3) لا يبذله بغير عوض ففي تجويز البيع طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه ودفع حاجته. وأما الإجماع فأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة. قال المصنف رحمه الله: (وهو مبادلة المال بالمال لغرض التملك. وله صورتان: إحداهما: الإيجاب والقبول؛ فيقول البائع: بعتك أو ملكتك ونحوهما، ويقول المشتري: ابتعت أو قبلت وما في معناهما). أما قول المصنف رحمه الله: وهو مبادلة المال بالمال لغرض التملك فبيان لمعنى البيع في اللغة. واشتقاقه من الباع لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه للأخذ والإعطاء. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1210) 3: 515 كتاب البيوع، باب ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2146) 2: 726 كتاب التجارات، باب التوقي في التجارة. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1209) الموضع السابق. وأخرجه الدارمي في سننه (2535) 2: 170 كتاب البيوع، باب في التاجر الصدوق. (¬3) ساقط من هـ.

وأما في الشرع فقيل: هو عبارة عن الإيجاب والقبول. وزاد القاضي: إذا تضمن عينين للتمليك. قال المصنف في المغني: وهو قاصر -يعني حد القاضي- إذ يخرج منه المعاطاة ويدخل فيه عقود سوى البيع. وأما قوله: وله صورتان فمعناه أنه ينعقد بكل واحدة من الصورتين المذكورتين. وأما كونه ينعقد بالإيجاب والقبول؛ فلأنه صريح فيه فانعقد به كسائر الصرائح. والإيجاب هو: الصادر من قبل البائع، والقبول: هو الصادر من قبل المشتري. وأما قوله: فيقول البائع ... إلى آخره فتفسير للإيجاب والقبول. وينعقد البيع بما صرح به المصنف وبكل قول يدل عليه لدلالته على المقصود. قال: (فإن تقدم القبول الإيجاب جاز في إحدى الروايتين، وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه، وإلا فلا). أما كون تقدم القبول الإيجاب يجوز في روايةٍ؛ فلأن المعنى حاصل بذلك فوجب أن يجوز كما لو تأخر. وأما كونه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأن القبول رتبته التأخر فلم يجز تقدمه كما لو تقدم في النكاح.

وذكر المصنف في المغني أنه إن تقدم بلفظ الاستفهام مثل أن يقول: أتبيعني ثوبك بكذا؟ فيقول: بعتك لم يصح لأنه ليس بقبول ولا استدعاء، وإن تقدم بلفظ الماضي مثل أن يقول: ابتعت منك فيقول: بعتك صح لأنه متضمن معنى القبول حقيقة. وقال أبو الخطاب: فيه رواية أنه لا يصح قياساً على تقدمه بلفظ الطلب. وإن تقدم بلفظ الطلب مثل أن يقول: بعني ثوبك فيقول: بعتك فذكر القاضي فيه روايتين: إحداهما: يصح؛ لأن ذلك يتضمن معنى القبول فصح كما لو كان بلفظ الماضي. والثانية: لا يصح؛ لأنه لفظ لو تأخر عن الإيجاب لم يصح به البيع فلم يصح إذا تقدم كلفظ الاستفهام. ولأنه عقد عري عن القبول فلم يصح كما لو لم يطلب. وأما كون القبول إذا تراخى عن الإيجاب يصح ما دام المتبايعان في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطع البيع؛ فلأن المجلس مُنَزّلٌ منزلة العقد في كثير من الأحكام فليكن هاهنا كذلك. وأما كونه لا يصح إذا تراخى عن الإيجاب حتى انقضى المجلس؛ فلأنه لما بَعُد صار كلا قبول. وأما كونه لا يصح إذا تشاغلا بما يقطعه؛ فلأنهما إذا تشاغلا بذلك صارا كالمعرضين عن البيع فلم يصح بعد ذلك كما لو صرح بالرد. قال: (والثانية: المعاطاة مثل (¬1) أن يقول: أعطني بهذا الدينار خبزاً فيعطيه ما يرضيه، أو يقول البائع: خذ هذا بدرهم فيأخذه. وقال القاضي: لا يصح هذا إلا في الشيء اليسير). أما كون الصورة الثانية من صور البيع: المعاطاة. وهي منصوص الإمام أحمد واختيار المصنف؛ فلأن البيع موجود قبل الشرع وإنما الشرع علق عليه أحكاماً ولم يعين له لفظاً فيجب أن يرجع فيه إلى العرف كالقبض والحِرْز. ¬

_ (¬1) في هـ: وهو.

ولأن المسلمين في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة استعمال إيجاب وقبول في بياعاتهم ولو كانوا يستعملون ذلك في جميع بياعاتهم لنقل نقلاً شائعاً. ولأن البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط له ذلك لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً (¬1) عاماً شافياً ولم يخف حكمه؛ لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيراً. وأما قول المصنف رحمه الله: مثل أن يقول ... إلى فيأخذه؛ فبيان لصورة المعاطاة. وأما كون المعاطاة لا تصح في الشيء الكثير على قول القاضي؛ فلأن البيع عقد معاوضة فكان الإيجاب والقبول من شروطه كالنكاح. وأما كونها تصح في الشيء اليسير؛ فلأن اعتبار ذلك فيه يشق فيسقط دفعاً للمشقة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل [في شروط البيع] قال المصنف رحمه الله: (ولا يصح إلا بشروط سبعة: أحدها: التراضي به، وهو أن يأتيا به اختياراً، فإن كان أحدهما مكرهاً لم يصح إلا أن يكره بحقٍّ كالذي يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه). أما كون البيع لا يصح إلا بشروط سبعة فلما يأتي ذكره في مواضعها. وأما (¬1) كون أحد الشروط السبعة: التراضي من كل واحد من البائع والمشتري إذا لم يكن ذلك واجباً عليهما فلقوله تعالى: {إلاّ أنْ تكونَ تِجَارَةً عن تراضٍ منكم} [النساء: 29]. ولأن حق كل واحد منهما متعلق بماله فلم يجز إزالة ملكه عنه بغير رضاه. وإلى مثل هذا وقعت الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه» (¬2). وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يأتيا به اختياراً فتفسير للتراضي منهما. وأما كون البيع لا يصح إذا كان أحد المتبايعين مكرهاً بغير حق؛ فلأن تراضيهما شرط ولم يوجد. وأما كون التراضي في المكره بحق كالذي ذكره المصنف رحمه الله لا يشترط؛ فلأن المراد (¬3) حصول وفاء الدين فلو منع الإكراهُ صحتَه لاتخذ ذلك من عليه الدين وسيلة إلى عدم الوفاء. ¬

_ (¬1) في هـ: أما. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (20714) 5: 72. وأخرجه الدارقطني في سننه (92) 3: 26 كتاب البيوع. كلاهما عن أبي حرة الرقاشي عن عمه. (¬3) في و: الغرض.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف، وهو: المكلف الرشيد، إلا الصبي المميز والسفيه فإنه يصح تصرفهما بإذن وليهما في إحدى الروايتين، ولا يصح بغير إذنه إلا في الشيء اليسير). أما كون ثاني الشروط (¬1) السبعة لصحة البيع: أن يكون العاقد غير الصبي والسفيه جائز التصرف؛ فلأن البيع قولٌ يشترط له الرضى فاشترط في عاقده جواز التصرف كالإقرار. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو المكلف الرشيد فتفسير لجائز التصرف. والمراد بالمكلف العاقل البالغ. فعلى هذا لا يصح بيع طفل ولا مجنون ولا سكران ولا نائم ولا مبرسم ولا شراءه؛ لأن كل واحد منهم لا عقل له. وأما كون تصرف الصبي المميز والسفيه بإذن وليهما يصح في روايةٍ: أما في الصبي فلقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء: 6] أي اختبروهم وإنما يتحقق الاختبار بتفويض البيع والشراء إليه. ولأنه عاقل فصح تصرفه بإذن وليه وإن كان محجوراً عليه كالعبد. وأما في السفيه؛ فلأنه إذا صح تصرف المميز بإذن وليه؛ فلأن يصح تصرف السفيه بإذن وليه بطريق الأولى. وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلما تقدم في غيرهما. وأما كونه لا يصح بغير إذن وليهما في الشيء الكثير؛ فللدلالة على اشتراط جواز التصرف السالم عن معارضة دليل صحة تصرفهما بإذن وليهما. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون الثاني من الشروط.

وأما كونه يصح في الشيء اليسير؛ فلأن الحكمة الحاملة على الحجر عليهما خوف ضياع مالهما بتصرفهما وذلك في اليسير مفقود. وعن أبي الدرداء «أنه اشترى من صبي عصفوراً وأطلقه».

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يكون المبيع مالاً وهو ما فيه منفعة مباحة من غير ضرورة، فيجوز بيع البغل والحمار ودود القز وبزره والنحل منفرداً وفي كواراته). أما كون ثالث الشروط (¬1) السبعة لصحة البيع: أن يكون المبيع مالاً؛ فلأنه مقابل بالمال. ولأن البيع مبادلة المال بالمال. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو ما فيه منفعة مباحة من غير ضرورة فتفسير للمال. وفي تقييده بما فيه منفعة احتراز عما لا نفع فيه كالحشرات، وفي تقييد المنفعة بالإباحة احتراز عما فيه منفعة محرمة كالخمر والخنزير، وفي تقييد الإباحة بغير ضرورة احتراز عما فيه منفعة مباحة للضرورة كالكلب. ولو قال المصنف رحمه الله: لغير حاجة كان جيداً لأن اقتناء الكلب يحتاج إليه ولا يضطر إليه. وأما كون بيع البغل والحمار يجوز؛ فلأنهما يشتملان على جميع ما ذكر. ولأن الناس يتبايعونهما من الأعصار المتقدمة من غير نكير فكان ذلك كالإجماع. وأما كون بيع دود القز يجوز؛ فلأنه يشتمل على ما ذكر. ولأنه حيوان يجوز اقتناؤه لغرض التملك لما يخرج منه أشبه البهائم. وأما كون بيع بزره يجوز؛ فلأنه منتفع به في المال أشبه ولد الفرس. وأما كون بيع النحل يجوز؛ فلأنه يشتمل على ما ذكر. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون الثالث من الشروط.

ولأنه حيوان طاهر يخرج من بطونه شراب فيه منافع للناس فجاز بيعه كبهيمة الأنعام. ولا فرق بين كونها منفردة مشاهدة وبين كونها في كواراتها لإمكان مشاهدتها بفتح رأسها. وقال القاضي: لا يجوز لأن بعضها لا يشاهد وهو أميرها. ولأنها لا تخلو من عسل يكون مبيعاً وهو مجهول. والأول أولى لما ذكر لأن خفاء البعض لا يمنع الصحة كبيع الصبرة، وكما لو باع شيئاً في وعاء لا يشاهد إلا ظاهره. ولأن ما فيه من العسل يدخل تبعاً ولا تضر جهالته كأساسات الحيطان. قال: (ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد في إحدى الروايتين إلا الكلب اختارها الخرقي، والأخرى لا يجوز اختارها أبو بكر). أما كون بيع الهر يجوز في روايةٍ؛ فلأنه حيوان يجوز اقتناؤه والانتفاع به من غير حاجة فجاز بيعه كالبغل والحمار. وأما كونه لا يجوز في روايةٍ فلما روى جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الهر» (¬1) رواه أبو داود. وعن جابر «أنه سئل عن ثمن السنور فقال: زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك» (¬2) رواه مسلم. والأولى أولى؛ لما تقدم. وما ذُكر من الحديث محمول على ما ليس بمملوك، أو على بيع الهر البري، أو على ما لا منفعة فيه؛ لأن فيه جمعاً بينه وبين المعنى المذكور. وأما كون بيع الفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد غير الكلب يجوز في روايةٍ؛ فلأنه حيوان يجوز اقتناؤه والانتفاع به من غير وعيد ورد في جنسه فجاز بيعه كالبغل والحمار. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3807) 3: 356 كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع. وأخرجه الترمذي في جامعه (1280) 3: 578 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور. نحوه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3250) 2: 1082 كتاب الصيد، باب الهرة. نحوه. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1569) 2: 1199 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب ...

فإن قيل: ما المراد بقول المصنف: يصلح للصيد؟ قيل: يحتمل أنه أراد كونها معلمة حالة البيع. فعلى هذا لا يصح بيعها قبل التعليم، ويحتمل أنه أراد به كونها قابلة للتعليم. وهو أولى المحملين، وإن كان خلاف ظاهر اللفظ لأنه قال في المغني: ما ليس بمعلم ولا يقبل التعليم لا يجوز بيعه لعدم النفع، وإن كان أمكن تعليمه فالأولى جواز بيعه ليُعلّم، وقاسه على اقتناء الجرو الصغير وبيع الجحش الصغير. فإن قيل قول المصنف رحمه الله: إلا الكلب ما هو؟ قيل: استثناء من جواز البيع المختلف فيه لأن بيعه لا يجوز رواية واحدة لما يذكر بعد إن شاء الله تعالى. وأما كون بيع الفيل وسباع البهائم لا يجوز في روايةٍ؛ فلأنها نجسة أشبهت الكلب. والأول أصح لما ذكر. وفارق الكلب من حيث إنها يجوز اقتناؤها مطلقاً بخلاف الكلب فإنه لا يجوز إلا لأحد أسباب ثلاثة. ولأن جواز اقتناء الكلب للحاجة بخلاف ما ذكر. قال: (ويجوز بيع العبد المرتد والمريض، وفي بيع الجاني والقاتل في المحاربة ولبن الآدميات وجهان). أما كون بيع العبد المرتد يجوز فلحصول النفع به إلى وقت قتله وربما رجع إلى الإسلام فيحصل فيه كمال النفع. وأما كون بيع العبد المريض يجوز؛ فلأن خشية الهلاك لا تمنع صحة البيع دليله بيع العبد المرتد. وأما كون بيع العبد الجاني يجوز في وجهٍ؛ فلأن قتله غير متحتم فجاز بيعه كالمرتد. وأما كونه لا يجوز في وجهٍ؛ فلأنه تعلق برقبته حق آدمي فمنع جواز بيعه كالرهن بل حق الجناية آكد لأنها تقدم على الرهن. والأول أولى؛ لما ذكر.

ولأنه حق غير مستقر في الجاني يملك أداؤه من غيره فلم يمنع البيع كالزكاة، أو حق ثبت بغير رضا سيده فلم يمنع بيعه كالدين في ذمته، أو تصرف في (¬1) الجاني فجاز كالعتق. وفارق الرهن من حيث إنه حق متعين فيه لا يجوز إبداله ومن حيث إنه يثبت الحق فيه برضى المالك. وأما كون بيع القاتل في المحاربة يجوز في وجهٍ؛ فلأنه ينتفع به إلى حين قتله ويعتقه فيجر ولاء ولده فجاز بيعه كالمريض. وأما كونه لا يجوز في وجهٍ؛ فلأنه متحتم القتل فلا منفعة فيه أشبه الميت. وأما كون بيع لبن الآدميات يجوز في وجهٍ؛ فلأنه طاهر ينتفع به فجاز بيعه كلبن الشاة. وأما كونه لا يجوز في وجهٍ؛ فلأنه مائع خرج من آدمية أشبه العرق. ولأنه من الآدمي فلم يجز بيعه كسائر أجزائه. قال: (وفي جواز بيع المصحف وكراهة شرائه وإبداله روايتان). أما كون بيع المصحف لا يجوز في روايةٍ فلما في ذلك من صيانته. وأما كونه يجوز في روايةٍ «فلأن ابن عباس سئل عن ذلك. فقال: لا بأس. يأخذون أجور أيديهم». والأولى أولى لما ذكر. ولأنه قول جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وأبو موسى وسعيد بن جبير. ولم يُعرف لهم مخالف في عصرهم. فكان إجماعاً. قال الإمام أحمد: لا أعلم في بيع المصحف رخصة. وقال ابن عمر: «وددت أن الأيدي تقطع في بيعها» (¬2). أي في بيع المصاحف. ولأنه مشتمل على كلام الله فوجب صيانته عن البيع. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (20202) 4: 292 كتاب البيوع والأقضية، من كره شراء المصاحف. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (14525) 8: 112 كتاب البيوع، باب بيع المصاحف. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 16 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف.

وأما كون شرائه يكره في روايةٍ؛ فلأنه وسيلة إلى البيع المتضمن إذلال المصحف فإذا لم يحرم فلا أقل من أن يكره. وأما كونه لا يكره في روايةٍ؛ فلأنه استنقاذ للمصحف فوجب جوازه من غير كراهة كشراء المسلم من الكفار ومع كونه حراً محرم البيع. وأما كون إبداله يكره في روايةٍ؛ فلأنه بيع في الجملة فإذا لم يحرم فلا أقل من أن يكره. وأما كونه لا يكره في روايةٍ؛ فلأن البيع إنما منع منه لما فيه من الرغبة عن المصحف وذلك مفقود في الإبدال. ومراد المصنف بالكراهة كراهة تنزيه لا كراهة تحريم لأنه عطفه على جواز البيع فلو أراد كراهة التحريم (¬1) لكان عطف الشراء على البيع وأسقط الكراهة. فعلى هذا الفرق بين البيع والشراء والإبدال هو أن البائع في معنى الراغب مع أنه لا استنقاذ فيه بخلاف الشراء والإبدال. قال الإمام أحمد: لا أعلم في بيع المصحف رخصة. ورخص في شرائه. وقد صرح صاحب النهاية فيها أنه لا يصلح بيع المصحف ولا شراؤه ولا إبداله لأن جميع ذلك إذلال، والمصحف محترم فتنافيا. وفارق الشراء هنا شراء الأسير من حيث إن شراء الأسير تدعو الحاجة إليه بخلاف المصحف. فعلى هذا يجوز أن يكون المراد (¬2) بالكراهة هنا كراهة تحريم. قال: (ولا يجوز بيع الحشرات والميتة ولا شيء منها ولا سباع البهائم التي لا تصلح للصيد ولا الكلب ولا السرجين النجس ولا الأدهان النجسة. وعنه: يجوز بيعها لكافر يعلم نجاستها، وفي جواز الاستصباح بها روايتان. ويخرج على ذلك جواز بيعها). أما كون بيع الحشرات لا يجوز؛ فلأنه لا منفعة فيها وقد تقدم اشتراط النفع في جواز البيع. وأما كون بيع الميتة لا يجوز؛ فلأن جابراً قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقول: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والأصنام» (¬3) متفق عليه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) مثل السابق. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2121) 2: 779 كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام. وأخرجه مسلم في صحيحه (1581) 3: 1207 كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.

وأما كون بيع شيء منها لا يجوز؛ فلأن ما لا يجوز بيع كله لا يجوز بيع شيء منه دليله بيع الخمر وغيره. وأما كون بيع سباع البهائم التي لا تصلح للصيد لا يجوز؛ فلأنها لا نفع فيها أشبهت الحشرات. وأما كون بيع الكلب لا يجوز فلما روى أبو مسعود الأنصاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «ثمن الكلب خبيث» (¬2) متفق عليهما. وروي عن ابن عباس أنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب. قال: وإن جاء يطلب ثمنه فاملؤا كفه تراباً» (¬3) رواه أبو داود. ولأنه حيوان نهي عن اقتنائه في غير حال الحاجة إليه أشبه الخنزير، أو حيوان نجس العين أشبه الخنزير. وأما كون بيع السرجين النجس لا يجوز؛ فلأنه نجس مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة. وأما كون بيع الأدهان النجسة لا يجوز على المذهب؛ فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5031) 5: 2045 كتاب الطلاق، باب مهر البغي والنكاح الفاسد. وأخرجه مسلم في صحيحه (1567) 3: 1198 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب ... (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1568) 3: 1199 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب ... ولم أره عند البخاري. وأخرجه أبو داود في سننه (3421) 3: 266 كتاب البيوع، باب في كسب الحجام. وأخرجه الترمذي في جامعه (1275) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في ثمن الكلب. وأخرجه أحمد في مسنده (15844) 3: 464. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3482) 3: 279 كتاب البيوع، باب في أثمان الكلاب. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3488) 3: 280 كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والميتة. بلفظ: « ... وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه ... ». وأخرجه أحمد في مسنده (2221) 1: 247.

ولأنها نجسة فلم يجز بيعها كشحم الميتة. وأما كونه يجوز لكافر يعلم نجاستها على روايةٍ؛ فلأنه يعتقد حل ذلك. واشترط المصنف رحمه الله الكفر لأجل الاعتقاد المجوز لأن ذلك لا يوجد في غيره. والعلم بنجاستها المراد به اعتقاد الطهارة (¬1) لأن نفس العلم بالنجاسة ليس شرطاً في بيع الثوب النجس فكذا هاهنا. وأما كون الاستصباح بذلك يجوز في روايةٍ؛ فلأنه انتفاع من غير ضرر أشبه الانتفاع بالجلد اليابس. وأما كونه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأنه دهن نجس فلم يجز الاستصباح به كشحم الميتة. وأما كون جواز بيعها يخرج على جواز الاستصباح بها؛ فلأنها تصير بذلك منتفعاً بها فجاز بيعها كالبغل والحمار. ¬

_ (¬1) في هـ: والعلم بنجاستها والمراد اعتقاد الطهارة بها.

فصل [الشرط الرابع] قال المصنف رحمه الله: (الرابع: أن يكون مملوكاً له أو مأذوناً له في بيعه، فإن باع ملك غيره بغير إذنه أو اشترى بعين ماله شيئاً بغير إذنه لم يصح. وعنه: يصح ويقف على إجازة المالك، وإن اشترى له في ذمته بغير إذنه صح، فإن أجازه من اشتري له ملكه، وإلا لزم من اشتراه، ولا يجوز أن يبيع ما لا يملكه ليمضي ويشتريه ويسلمه). أما كون رابع الشروط (¬1) السبعة لصحة البيع أن يكون مملوكاً للبائع أو مأذوناً له في بيعه؛ فلأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك» (¬2) يدل على اشتراط كون البيع مملوكاً للبائع. ترك العمل به في المأذون له لقيامه مقام (¬3) المالك في ملك البيع لأن المالك نزله منزلة نفسه. ولأن المنع من بيع ملك الغير إنما كان من أجل ذلك الغير فإذا أذن فيه زال ذلك. ولأن الحاجة داعية إلى التوكيل في البيع لكون الموكِّل غائباً أو محبوساً لا يمكن حضور المشتري معه أو ما أشبه ذلك فلو لم يقم الإذن مقام الملك في ملك البيع لأدى إلى الحرج والمشقة فوجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. فإن قيل: ما ليس عندك ليس فيه ذكر الملك؟ قيل: معناه ما ليس في ملكك (¬4) لأن صدر الحديث: «يأتيني الرجل يلتمس مني ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه» (¬5). ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون الرابع من الشروط. (¬2) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) في هـ: ملك. (¬5) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون بيع الغير ملك غيره بغير إذنه وشرائه بعين مال غيره شيئاً بغير إذنه لا يصح على المذهب؛ فلأن كون المبيع (¬1) مملوكاً أو مأذوناً في التصرف فيه شرط في صحته لما تقدم والشيء يفوت بفوات شرطه. وأما كونه يصح ويقف على إجازة المالك على روايةٍ: أما كونه يصح فلما روى عروة بن الجعد البارقي «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاة. فاشترى به شاتين. ثم باع إحداهما بدينار في الطريق. قال: فأتيت (¬2) النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار وبالشاة. فقال: بارك الله لك في صفقة يمينك» (¬3) رواه الإمام أحمد والأثرم. وأما كون الصحة تقف على إجازة المالك؛ فلأنه لو صح من غير إجازة المالك لتضرر المالك لتمكن الغير من بيع ملكه. ولأنه عقد، له مجيز حال وقوعه، فوقف على إجازته كالوصية لأجنبي بزيادة على الثلث حيث يقف على الوارث. والأول أولى لما تقدم. وأما حديث عروة فمحمول على أنه كان وكيلاً مطلقاً بدليل أنه سلم وتسلم وليس ذلك لغير المالك والوكيل المطلق. وأما كون شراء غير المالك له في ذمته بغير إذن المالك يصح؛ فلأنه متصرف في ذمته وهي قابلة للتصرف. وأما كون من اشتُري له ذلك يملكه إذا أجاز المشترى له؛ فلأنه اشتُري لأجله ونزل المشتري نفسه منزلة الوكيل فملكه من اشتُري له كما لو أذن له في ذلك. وأما كون الشراء يلزم من اشتراه إذا لم يجزه من اشتُري له؛ فلأن التصرف صحيح لما تقدم ولا يلزم من اشتُري له قبوله لأنه لم يأذن فيه فتعين كونه للمشتري. ¬

_ (¬1) في هـ: البيع. (¬2) في هـ: أتيت. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (3443) 3: 1332 كتاب المناقب، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية ... وأخرجه أبو داود في سننه (3384) 3: 256 كتاب البيوع، باب في المضارب يخالف. وأخرجه الترمذي في جامعه (1258) 3: 559 كتاب البيوع، باب. وأخرجه أحمد في مسنده (19316) 4: 376.

وأما كونه لا يجوز أن يبيع ما لا يملكه ليمضي ويشتريه ويسلمه فلما روى حكيم بن حزام أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل يأتيني يلتمس مني ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه. فقال: لا تبع ما ليس عندك» (¬1) رواه الترمذي. وقال: حديث صحيح. قال: (ولا يصح بيع ما فتح عنوة ولم يُقسم كأرض الشام والعراق ومصر ونحوها إلا المساكن وأرضاً من العراق فتحت صلحاً وهي الحيرة وأُلَّيْس وبانقيا وأرض بني صلوبا؛ لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها في كل عام ولم يقدر مدتها لعموم المصلحة فيها. وتجوز إجارتها، وعن أحمد أنه كره بيعها وأجاز شراءها). أما كون بيع ما فتح عنوة ولم يقسم كأرض الشام والعراق ومصر غير المساكن لا يصح على المذهب فلما ذكره المصنف من أن عمر رضي الله عنه وقفها (¬2). روي ذلك في قصص اشتهرت عنه. وأما قوله رحمه الله: ولم يقدر مدتها لعموم المصلحة فيها فجواب عن إشكال مقدر لأنه لما قال: وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها توجه لقائل أن يقول: الإجارة يجب تقدير مدتها فأشار إلى الفرق من حيث إن عموم المصلحة موجود هنا بخلاف ما إذا أجر إنسان ملكه. فأطلق عمر رضي الله عنه المدة لذلك. وأما كون بيع المساكن مما فتح عنوة ولم يقسم يصح فـ «لأن الصحابة اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة في زمن عمر وبنوها مساكن وتبايعوها» من غير نكير فكان إجماعاً. وأما كون بيع الأراضي التي سماها المصنف رحمه الله من الحيرة ... إلى آخره يصح؛ فلما أشار إليه من أنها فتحت صلحاً لا عنوة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3503) 3: 283 كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده. وأخرجه الترمذي في جامعه (1232) 3: 534 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك. وأخرجه النسائي في سننه (4613) 7: 289 كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع. (¬2) أخرجه أبو عبيد في الأموال (147) ص: 59 كتاب فتوح الأرضين صلحاً، باب فتح الأرض تؤخذ عنوة ...

وأما كون إجارتها تجوز؛ فلأنها مؤجرة في يد أربابها وإجارة المؤجر جائزة. وأما كونه يكره بيعها ويجوز شراؤها على روايةٍ: أما الكراهة فللاختلاف في بيعها، وأما الشراء؛ فلأنه في معنى الاستنقاذ. قال: (ولا يجوز بيع رباع مكة ولا إجارتها. وعنه: يجوز ذلك). أما كون بيع رباع مكة لا يجوز على المذهب؛ فلأنها فتحت عنوة ولم تقسم: أما كونها فتحت عنوة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط رسولَه والمؤمنين. وإنما أُحِلّت لي ساعة من نهار» (¬1) متفق عليه. و«لأن أم هانئ قالت: يا رسول الله! إني أجرت حموين لي فزعم ابنُ أمي أنه قاتلهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت» (¬2). و«لأن ابن خطل ومقيس بن ضبابة قتلا بها حين فتحت» (¬3) ولو فتحت صلحاً لم يجز قتل أهلها. وأما كونها لم تقسم فبالنقل عن أئمة الأثر، وإذا فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين صارت وقفاً على المسلمين فلم يجز بيعها كسواد العراق. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مكة: «حرام بيعها حرام إجارتها» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2302) 2: 857 كتاب في اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1355) 2: 988 كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5806) 5: 2280 كتاب الأدب، باب ما جاء في زعموا. وأخرجه مسلم في صحيحه (336) 1: 498 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى ... (¬3) عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: «لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن ضبابة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح ... ». أخرجه النسائي في سننه (4067) 7: 106 كتاب تحريم الدم، الحكم في المرتد. وأخرجه الدارقطني في سننه (231) 3: 59 كتاب البيوع. نحوه. وأخرجه أبو داود في سننه (2685) 3: 60 كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولايعرض عليه الإسلام. بلفظ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه». وأخرجه الترمذي في جامعه (1693) 4: 202 كتاب الجهاد، باب ما جاء في المغفر. نحو لفظ أبي داود. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (223) 3: 57 كتاب البيوع. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 35 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع دور مكة ...

وأما كونه يجوز على روايةٍ؛ فلأنه روي أنها فتحت صلحاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» (¬1). وإذا فتحت صلحاً كانت لأهلها فجاز بيعها كسائر الأملاك. ويؤيد ذلك ما روي «أن عمر رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً بأربعة آلاف درهم» (¬2)، و «اشترى معاوية من حكيم بن حزام دارين بمكة: إحداهما بستين ألفاً، والأخرى بأربعين ألفاً» (¬3). وظاهر كلام المصنف في المغني وصاحب النهاية فيها ترجيح الرواية الأولى لما تقدم. وأجابا عن فعل عمر بأنه كان على سبيل الاستنقاذ لأنه اشترى ذلك لمصلحة المسلمين لأنه عمله سجنا، ويؤيده فعله ذلك في أرض السواد. وأما كون إجارتها لا تجوز على المذهب فلما تقدم من قوله: «حرام إجارتها» (¬4). وروي «أن سفيان سكن بعض رباع مكة وهرب ولم يعطهم أجرة». وأما كونها تجوز على روايةٍ فلما تقدم من أنها فتحت صلحاً. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1780) 3: 1407 كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة. وأخرجه أبو داود في سننه (3024) 3: 163 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ماجاء في خبر مكة. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 34 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع دور مكة ... (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 35 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع دور مكة ... بلفظ: قال: «باع حكيم بن حزام دار الندوة من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف ... ». (¬4) تقدم تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (ولا يجوز بيع كل ماء عدٍّ؛ كمياه العيون، ونقع البئر. ولا ما في المعادن الجارية (¬1)؛ كالملح، والقار، والنفط. ولا ما ينبت في أرضه من الكلأ، والشوك. ومن أخذ منه شيئاً ملكه إلا أنه لا يجوز له دخول ملك غيره بغير إذنه. وعنه: يجوز بيع ذلك). أما كون بيع الماء لا يجوز على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع الماء» (¬2) رواه الأثرم. ولأن الماء لا يملك على الصحيح من المذهب لأن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: النار والكلأ والماء» (¬3) رواه أبو داود وابن ماجة. ولأنه لو كان مملوكاً لم يجز للمستأجر إتلافه لأن الإجارة لا يستحق بها إتلاف الأعيان. وأما كونه يجوز على روايةٍ؛ فلأنه خارج من ملكه فجاز بيعه كسائر الخارج منه. وأما كون بيع ما في المعادن الجارية كما مثل المصنف رحمه الله لا يجوز على المذهب؛ فلأن نفعه يعم فلم يجز بيعه كالماء. وأما كونه يجوز على روايةٍ؛ فلأنه خارج من ملكه أشبه سائر ما يخرج منه. وأما كون بيع ما ينبت في أرضه من الكلأ والشوك لا يجوز على المذهب فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث. ذكر منها الكلأ» (¬4). ¬

_ (¬1) في هـ: الظاهرة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3478) 3: 278 كتاب البيوع، باب في بيع فَضْل الماء. وأخرجه الترمذي في جامعه (1271) 3: 571 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع فضل الماء. وأخرجه النسائي في سننه (4663) 7: 307 كتاب البيوع، بيع فضل الماء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2476) 2: 828 كتاب الرهون، باب النهي عن بيع الماء. كلهم عن إياس بن عبد المزني. قال الترمذي: حديث إياس حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3477) 3: 278 كتاب البيوع، باب في منع الماء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2472) 2: 826 كتاب الرهون، باب المسلمون شركاء في ثلاث. قال في الزوائد: عبدالله بن خِراش قد ضعفه أبو زرعة والبخاري وغيرهما. وقال محمد بن عمار الموصلي: كذاب. (¬4) سبق تخريجه في الحديث السابق.

ولأن نفعه يعم أشبه ما تقدم. وأما كونه يجوز على روايةٍ فلما تقدم في الماء وما في المعادن. وأما كون من أخذ من ذلك شيئاً يملكه على القول بعدم جواز بيعه؛ فلأن ذلك كله من المباحات فوجب أن يملكه آخذه كما لو أخذه من أرض مباحة. وأما كونه لا يجوز له دخول ملك غيره بغير إذنه؛ فلأنه متصرف في ملك الغير بغير إذنه وذلك غير جائز. فإن قيل: فكيف يملكه وقد تعدى؟ قيل: تعديه لا يمنع ملكه كما لو عشش في أرضه (¬1) طائر، أو دخل فيها ظبي، أو نضب الماء عن سمك فدخل إليه داخل وأخذه فإنه يكون متعدياً بالدخول ويملك ما أخذه. وقال ابن عقيل: يتخرج عندي أنه لا يملك بذلك لأنه سبب حرام فلا يستفاد به الملك كالبيع الفاسد. ولقوله عليه السلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬2). فإن قيل: الخلاف المتقدم في الماء وما بعده (¬3) جار فيما لم يحز من ذلك أو مطلقاً؟ قيل: فيما لم يجز من ذلك، ولذلك وصف المصنف رحمه الله الماء بالعد لأن العد ما له مادة، وما حيز لا مادة له، ولذلك مثل ما لا يجوز بيعه بماء العيون ونقع البئر. فأما ما حِيز كالماء في الإناء والكلأ في العِدْل وما أشبه ذلك فإنه يجوز بيعه بلا خلاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأخذ حزمة من حطب فيبيع ذلك فيكف الله به وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطي أو منع» (¬4) رواه البخاري. ¬

_ (¬1) في هـ: ملكه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2550) 2: 959 كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جورٍ فالصلح مردود. وأخرجه مسلم في صحيحه (1718) 3: 1343 كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2244) 2: 836 كتاب المساقاة، باب بيع الحطب والكلأ. وأخرجه مسلم في صحيحه (1042) 2: 721 كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه» (¬1) رواه أبو عبيد في الأموال. ولأن العادة مضت في الأمصار ببيع الماء في الروايا والحطب والكلأ المُحازيْن من غير نكير. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في الأموال (755) ص: 278 باب حمى الأرض ذات الكلأ والماء.

فصل [الشرط الخامس] قال المصنف رحمه الله: (الخامس: أن يكون مقدوراً على تسليمه، فلا يجوز بيع الآبق ولا الشارد ولا الطير في الهواء والسمك في الماء ولا المغصوب إلا من غاصبه أو من يقدر على أخذه). أما كون خامس الشروط (¬1) السبعة لصحة البيع أن يكون المبيع مقدوراً على تسليمه؛ فلأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، والمعدوم لا يصح بيعه فكذا ما يشبهه. وأما كون بيع الآبق والشارد والطير في الهواء والسمك في الماء لا يجوز؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (¬2) رواه مسلم. قيل في تفسيره: هو بيع الطير في الهواء والسمك في الماء والآبق. والشارد في معناهما. ولأن ذلك غير مقدور عليه فلم يجز بيعه لفوات شرطه. وأما كون بيع المغصوب لا يجوز من غير غاصبه وغير من يقدر على أخذه؛ فلأنه لا يقدر على تسليمه. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون الخامس من الشروط. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1513) 3: 1153 كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر. وأخرجه أبو داود في سننه (3376) 3: 254 كتاب البيوع، باب في بيع الغرر. وأخرجه الترمذي في جامعه (1230) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر. وأخرجه النسائي في سننه (4518) 7: 262 كتاب البيوع، بيع الحصاة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2194) 2: 739 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر.

وأما كونه يجوز من أحدهما؛ فلأن المانع من الجواز عدم القدرة على تسليمه وهو معدوم هنا.

فصل [الشرط السادس] قال المصنف رحمه الله: (السادس: أن يكون معلوماً برؤية أو صفة تحصل بها معرفته. فإن اشترى ما لم يره ولم يوصف له، [أو رآه] (¬1) ولم يعلم ما هو، أو ذُكر له من صفته ما لا يكفي في السَّلَم لم يصح البيع. وعنه: يصح وللمشتري خيار الرؤية). أما كون سادس الشروط (¬2) السبعة لصحة البيع أن يكون المبيع معلوماً على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (¬3) رواه مسلم. ولأن المجهول يقع فيه التنازع ويتعذر تسليمه. وأما كون ذلك معلوماً برؤية أو صفة تحصل بها معرفته؛ فلأن كل واحد منهما إذا عدم لم يكن المبيع معلوماً وذلك شرط لما تقدم. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأن الرؤية والصفة طريق إلى ذلك: أما الرؤية فمتفق عليها لأنها تحصل العلم بحقيقة المبيع. وأما الصفة فينظر فيها فإن كانت يحصل بها معرفته كالصفة التي تكفي في السَّلَم كان المبيع بها معلوماً لأن الصفة المذكورة تقوم مقام الرؤية في السَّلَم فكذا هنا. ولأن المبيع يتميز بما يصفه البائع، والشرع قاض بالاعتماد على قوله. دليله قبول قوله أنه ملكه وغير ذلك مما يشترط لصحة العقد. ولأنه مبيع معلوم للمتعاقدين مقدور على تسليمه فصح كالحاضر. ولأن الصفة إحدى حالتي العين فصح البيع بها كحالة المشاهدة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: أما كون السادس من الشروط. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وإنما اشترط ذكر الصفة التي تكفي في السلم لأن المشاهدة لما عدمت وجب استيفاء الصفة التي قامت مقام الرؤية. وهي الصفة التي تكفي في السلم وهي معدومة في غيرها. فعلى هذا إذا اشترى ما لم يره ولم يوصف له، أو رآه ولم يعلم ما هو، أو ذكر له من صفته ما لا يكفي في السَّلَم لم يصح البيع لعدم العلم بالمبيع. وأما كون بيع ذلك يصح على روايةٍ؛ فلأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه» (¬1) والخيار لا يكون إلا في بيع صحيح. ولأنه عقد معاوضة فصح بغير رؤية ولا صفة كالنكاح. وأما كون المشتري له خيار الرؤية؛ فللحديث المذكور. والخيار على الفور للحديث. وقيل: يتقيد بالمجلس قياساً على خيار المجلس. قال: (وإن ذكر له من صفته ما يكفي في السلم أو رآه ثم عقد بعد ذلك بزمن لا يتغير فيه ظاهراً صح في أصح الروايتين، ثم إن وجده لم يتغير فلا خيار له، وإن وجده متغيراً فله الفسخ، والقول في ذلك قول المشتري مع يمينه). أما كون البيع يصح فيما ذكر من صفة ما يكفي في السلم في أصح الروايتين؛ فلما تقدم في شرح قول المصنف رحمه الله: أو صفة تحصل بها معرفته. وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلأن الصفة لا تحصل العلم من كل وجه. وأما كونه يصح فيما إذا رآه ثم عقد بعد رؤية المبيع بزمن لا يتغير فيه ظاهراً في أصح الروايتين؛ فلأن المبيع معلوم عندهما أشبه ما لو شاهداه حال العقد. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (10) 3: 4 - 5 كتاب البيوع. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 268 كتاب البيوع، باب: من قال يجوز بيع العين الغائبة. كلاهما عن أبي هريرة. قال الدارقطني: هذا باطل لا يصح. وإنما يروى عن ابن سيرين موقوفاً من قوله. وجاء من طريق أخرى مرسلة عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه (19970) 4: 273 كتاب البيوع والأقضية، في الرجل يشتري الشيء ولا ينظر إليه ... وأخرجها الدارقطني في سننه (8) 3: 4. وقال: هذا مرسل، وأبو بكر بن أبي مريم -أحد الرواة- ضعيف.

ولأن الرؤية السابقة كالمقارنة. وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلأن ما كان شرطاً يعتبر وجوده حال العقد كالشهادة في النكاح. وقول المصنف رحمه الله: بزمن لا يتغير فيه ظاهراً مشعر بأن الزمن لو كان يتغير فيه لا يصح بيعه. وصرح غيره بعدم صحته لأنه غير معلوم. فإن قيل: فلو احتمل الأمرين. قيل: العقد صحيح؛ لأن الأصل سلامته. وأما كون المشتري لا خيار له إذا وجد المبيع لم يتغير؛ فلأنه حصل له ما عقد عليه. وأما كونه له الفسخ إذا وجده متغيراً؛ فلأن ذلك كالعيب. وأما كون القول في ذلك قول المشتري مع يمينه؛ فلأن الثمن يلزمه إلا ما اعترف به. قال: (ولا يجوز بيع الحمل في البطن واللبن في الضرع والمسك في الفأر والنوى في التمر ولا الصوف على الظهر. وعنه: يجوز بشرط جزه في الحال). أما كون بيع الحمل في البطن لا يجوز فلما روى أبو هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح» (¬1). قال أبو عبيد: المضامين: ما في أصلاب الفحول، والملاقيح: ما في البطون. وهي الأجنة. وروى ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المجر» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (63) 2: 507 كتاب البيوع، باب ما لا يجوز من بيع الحيوان. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 341 كتاب البيوع، باب النهي عن بيع حبل الحبلة. كلاهما عن ابن المسيب مرسلاً. وأخرجه الطبراني في الكبير (11581) 11: 230. مرفوعاً من حديث ابن عباس. قال في المجمع: فيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وثقه أحمد وضعفه جمهور الأئمة. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد مرفوعاً عن أبي هريرة 4: 104 كتاب البيوع، باب بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة، وعزاه إلى البزار وقال: فيه صالح بن أبي الأخضر. وهو ضعيف. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 341 كتاب البيوع، باب النهي عن بيع حبل الحبلة.

قال ابن الأعرابي: المجر ما في بطن الناقة. ولأنه مجهول لا تعلم صفته ولا حياته فلم يصح بيعه كالمعدوم. ولأنه غير مقدور على تسليمه، والقدرة على ذلك شرط في جواز البيع. وأما كون بيع اللبن في الضرع لا يجوز فلما روى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع لبن في ضرع» (¬1). ولأنه مجهول الصفة والمقدار أشبه الحمل. ولأنه بيع عين لم تخلق فلم يجز كبيع ما تحمل الناقة. وأما كون بيع المسك في الفأر. وهو: الوعاء الذي يكون فيه، والنوى في التمر لا يجوز؛ فلأن كل واحد منهما مجهول فلا يجوز بيعه مستوراً (¬2) كالدر في الصدف. وأما كون بيع الصوف على الظهر لا يجوز على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع صوف على ظهر» (¬3). ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالعقد كأعضائه. وأما كونه يجوز بشرط جزه في الحال على روايةٍ؛ فلأنه مشاهد يمكن تسليمه فجاز بيعه كالرطبة في الأرض. وفارق الأعضاء من حيث إنها لا يمكن تسليمها مع سلامة الحيوان. قال: (ولا يجوز بيع المُلامسَة، وهو أن يقول: بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا، أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا. ولا بيع المُنابَذة، وهو أن يقول: أي ثوب نبذته إليّ فهو عليّ بكذا. ولا بيع الحصاة، وهو أن يقول: ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا، أو يقول: بعتك من هذه الأرض بقدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا). أما كون بيع المنابذة والملامسة لا يجوز؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسَة والمنابَذة» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 340 كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن بيع الصوف على ظهر الغنم واللبن في ضروع الغنم ... (¬2) في هـ: مستور، وهو لحن. (¬3) تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2040) 2: 754 كتاب البيوع، باب بيع المنابذة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1511) 3: 1151 كتاب البيوع، باب إبطال بيع الملامسة والمنابذة.

وأما تفسيرهما فكما ذكر المصنف رحمه الله. وهو ظاهر كلام الإمام أحمد لأن فيما روى البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المُلامَسة ونهى عن المُنابَذة. وهي: طَرْحُ الرجلِ ثوبَه بالبيعِ إلى الرجلِ قبلَ أن يُقَلِّبَه أو يَنظرَ إليه. والملامسةُ لمسُ الثوبِ لا يَنظرُ إليه» (¬1). وروى مسلم في تفسيرها عن أبي هريرة قال: «هو لمسُ كلُ واحدٍ منهما ثوبَ صاحبِه بغير تَأمُّلٍ، والمنابَذة أن يَنبُذَ كلُ واحدٍ منهما ثوبَه ولم ينظر كل واحدٍ منهما ثَوب صاحبِه» (¬2). وهو يرجع إلى المعنى الذي فسره المصنف رحمه الله. وعلة المنع فيهما كون المبيع مجهولاً لا يعلم. وأما كون بيع الحصاة لا يجوز؛ فلأن أبا هريرة روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة» (¬3). وفي تفسيره خلاف هل هو في الأرض أو في الثوب؟ وقد ذكرهما المصنف رحمه الله وكلاهما فاسد لما فيه من الغرر والجهل. قال: (ولا يجوز أن يبيع عبداً غير معين، ولا عبداً من عبيد، ولا شاة من قطيع، ولا شجرة من بستان، ولا هؤلاء العبيد إلا واحداً غير معين، ولا هذا القطيع إلا شاة. وإن استثنى معيناً من ذلك جاز. وإن باعه قفيزاً من هذه الصبرة صح). أما كونه لا يجوز بيع عبد غير معين ولا عبداً من عبيد ولا شاة من قطيع ولا شجرة من بستان ولا هؤلاء العبيد إلا واحداً غير معين ولا هذا القطيع إلا شاة؛ فلأن ذلك كله غرر فيدخل في الحديث المتقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2037) 2: 754 كتاب البيوع، باب بيع الملامسة. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1511) 3: 1152 الموضع السابق. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1513) 3: 1153 كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر. وأخرجه الترمذي في جامعه (1230) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر. وأخرجه النسائي في سننه (4518) 7: 262 كتاب البيوع، بيع الحصاة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2194) 2: 739 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر.

ولأنه يختلف فيفضي إلى التنازع. وأما كونه يجوز إذا استثنى معيناً مثل أن يقول: بعتك هؤلاء العبيد إلا هذا العبد أو إلا فلاناً وهما يعرفانه فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم» (¬1) وهذه معلومة. ولأن المفسد للبيع الجهالة وقد زالت. وأما كونه يصح إذا باعه قفيزاً من هذه الصبرة؛ فلأنه مبيع مقدر من جملة يصح بيعها أشبه ما إذا باع نصفها. قال: (وإن باعه الصبرة إلا قفيزاً، أو ثمرة الشجرة إلا صاعاً لم يصح. وعنه: يصح). أما كون بيع ما ذكر لا يصح على الرواية الأولى؛ فلأن المبيع (¬2) مجهول لأن ما كان معلوماً بالمشاهدة يخرج عن كونه معلوماً بالاستثناء. وأما كونه يصح على الرواية الثانية؛ فلأن الاستثناء معلوم فلا يدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا «لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم» (¬3) وهذه معلومة. قال: (وإن باعه أرضاً إلا جريباً، أو جريباً من أرض يعلمان جربانها صح وكان مشاعاً فيها، وإلا لم يصح). أما كون بيع الأرض إلا جريباً يصح إذا كان البائع والمشتري يعلمان جربانها؛ فلأنها إذا كانت مائة مثلاً فقال البائع: بعتكها إلا جريباً فكأنه قال: بعتك منها تسعة وتسعين جريباً وذلك صحيح فليكن هذا مثله. فعلى هذا تكون مشاعة بينهما لما ذكر قبل. وأما كونه لا يصح بيعها إذا لم يعلما ذلك؛ فلأن المبيع غير معلوم. وأما كون بيع جريب من أرض يصح إذا كانا يعلمان جربانها ولا يصح إذا لم يكونا يعلمان ذلك فلما مر. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1536) 3: 1175 كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة ... وأخرجه أبو داود في سننه (3405) 3: 262 كتاب البيوع، باب في المخابرة. وأخرجه النسائي في سننه (3880) 7: 4 كتاب الأيمان والنذور، ذكر الأحاديث المختلفة في النهي، عن كراء الأرض بالثلث والربع. كلهم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. (¬2) في هـ: البيع. (¬3) سبق تخريجه في الحديث السابق.

قال: (وإن باعه حيواناً مأكولاً إلا رأسه وجلده وأطرافه صح، وإن استثنى حمله أو شحمه لم يصح). أما كون بيع الحيوان المأكول إلا رأسه وجلده وأطرافه يصح؛ فلأن عروة قال: «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة فاشتريا من راعي غنم شاة وشرطا له سلبها» رواه أبو الخطاب وابن عقيل. ولأن المستثنى والمستثنى منه معلومان فصح كما لو باع حائطاً واستثنى منه نخلة معينة. وأما كونه لا يصح بيعه إلا حمله أو شحمه؛ فلأن ذلك مجهول و «قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم» (¬1). ولأنه لا يصح إفراده بالبيع فلم يصح استثناؤه كالفخذ. قال: (ويصح بيع ما مأكوله في جوفه وبيع الباقلاء والجوز واللوز في قشريه والحب المشتد في سنبله). أما كون بيع ما مأكوله في جوفه وهو البيض والرمان وما أشبههما يصح وإن لم يعلم حقيقة داخله؛ فلأن ما يستره من مصلحته ويفسد بإزالته فصح بيعه نفياً للحرج والمشقة. ولأن مفهوم نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها يدل على جواز البيع بعد بدو الصلاح سواء كانت مستورة بقشرها أو لم تكن. وأما كون بيع الباقلاء والجوز واللوز في قشريه يصح فلما تقدم من مفهوم الحديث. ولأن ذلك يباع كذلك في أسواق المسلمين من غير نكير فصار إجماعاً. ولأن ذلك مستور بحائل من أصل الخلقة فجاز بيعه كالرمان والبيض والمستور بقشره الأسفل من ذي القشرين. وأما كون بيع الحب المشتد في سنبله يصح فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد» (¬2). جعل الاشتداد غاية للمنع وما بعد الغاية يخالف ما قبلها فوجب زوال المنع. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3371) 3: 253 كتاب البيوع، باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. وأخرجه الترمذي في جامعه (1228) 3: 530 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2217) 2: 747 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. وأخرجه أحمد في مسنده (13596) 3: 250.

فصل [الشرط السابع] قال المصنف رحمه الله: (السابع: أن يكون الثمن معلوماً. فإن باعه السلعة برقمها، أو بألف درهم ذهباً وفضة، أو بما ينقطع به السعر، أو بما باع به فلان، أو بدينار مطلق وفي البلد نقود: لم يصح. وإن كان فيه نقد واحد انصرف إليه). أما كون سابع الشروط (¬1) السبعة لصحة البيع أن يكون الثمن معلوماً؛ فلأنه أحد العوضين فاشترط العلم به كالمبيع ورأس مال السلم. ولأن المبيع يحتمل رده بعيب ونحوه فلو لم يكن الثمن معلوماً لتعذر الرجوع به. وأما كون بيع السلعة برقمها. ومعنى الرقم: أن يكتب ثمن السلعة على ظرفها أو في ورقة تجعل فيها لا يصح؛ فلأن الثمن في ذلك غير معلوم حال العقد، وقد تقدم اشتراط العلم به في صحة البيع. وأما كون بيعها بألف درهم ذهباً وفضة لا يصح؛ فلأن مقدار كل واحد منهما من الألف مجهول. وأما كون بيعها بما ينقطع به (¬2) السعر أو بما باع به فلان لا يصح؛ فلأن الثمن في ذلك كله غير معلوم حال العقد والعلم به شرط لما تقدم. [وأما كون بيعها بدينار مطلق وفي البلد نقود لا يصح؛ فلأن الثمن لا يعلم من أيها يكون فيكون غير معلوم والعلم به شرط لما تقدم. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون السابع من الشروط. (¬2) ساقط من هـ.

ولا بد أن يلحظ في النقود أن تكون متساوية في الرواج لأنها لو كان بعضها أظهر من بعض صح البيع؛ لأن الأظهر أرجح من غيره فينصرف الثمن إليه فلا يكون غير معلوم. فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله يقتضي بعدم الصحة مطلقاً؟ قيل: يجب تقييده بما ذكر نقلاً ودليلاً. وأما كون الدينار المطلق إذا كان في البلد نقد واحد ينصرف إليه؛ فلأن المطلق يحمل على المعهود، وذلك واحد. فعلى هذا يصح البيع لأن الثمن معلوم] (¬1). قال: (وإن قال: بعتك بعشرة صحاحاً أو إحدى عشرة مكسرة أو بعشرة (¬2) نقداً أو عشرين نسيئة لم يصح، ويحتمل أن يصح). أما كون ما ذكر لا يصح على المذهب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَة» (¬3) رواه الترمذي. وقال: حديث صحيح. وقد فسر بهذا. ولأنه لم يعقد على ثمن بعينه أشبه ما إذا قال: بعتك هذين العبدين. وأما كونه يحتمل أن يصح فقياس على ما إذا قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم. قال: (وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، والقطيعَ كل شاة بدرهم، والثوبَ كل ذراع بدرهم صح. وإن باعه من الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح). أما كون بيع الصبرة كل قفيز بدرهم والقطيع كل شاة بدرهم والثوب [كل ذراعٍ] (¬4) بدرهم يصح؛ فلأن البيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه لجهة لا تتعلق بالمتعاقدين وهو الكيل في الأولى والعدد في الثانية والذرع في الثالثة ¬

_ (¬1) ساقط من و. (¬2) في هـ: بعشر. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1231) 3: 533 كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة. وأخرجه النسائي في سننه (4632) 7: 295 كتاب البيوع، بيعتين في بيعة ... كلاهما عن أبي هريرة. (¬4) ساقط من هـ.

فصح كما لو باع ما رأس ماله تسعة وتسعين درهماً مرابحة لكل عشرة درهم فإنه لا يعلم في الحال وإنما يعلم بالحساب. وقد روي عن علي رضي الله عنه «أنه آجر نفسه كل دلو بتمرة، وجاء بالتمر إلى (¬1) النبي صلى الله عليه وسلم فأكله» (¬2). وأما كونه إذا باع من الصبرة كل قفيز بدرهم لا يصح؛ فلأن من للتبعيض وكل للعدد فيكون العدد مجهولاً بخلاف ما ذكر قبل فإن المبيع (¬3) الكل لا البعض ولا جهالة. قال: (وإن باعه بمائة درهم إلا ديناراً لم يصح. ذكره القاضي. ويجيء على قول الخرقي أنه يصح). أما كون البيع بما ذكر لا يصح على المذهب؛ فلأن قيمة الدينار مجهولة ويلزم من الجهل بها الجهل بالثمن، والعلم به شرط لما تقدم. وأما كونه يجيء على قولٍ أنه يصح؛ فلأنه قال في الإقرار: يصح استثناء العين من الورِق والورِق من العين. فعلى هذا يكون البيع صحيحاً لأن الاستثناء صحيح فكان البيع صحيحاً كسائر الاستثناءات الصحيحة. ولقائل أن يقول: الصحة في الإقرار اختلف الأصحاب في تعليلها فعللها بعضهم باتحاد النقدين وكونهما قيم الأشياء وأرش الجنايات، وبعضهم بأن قيمة الذهب يعلمها كثير من الناس فإذا استثنى أحدهما من الآخر لم يؤد إلى الجهالة غالباً، وعلى كلا التعليلين لا يجيء صحة البيع على قول الخرقي في الإقرار لأن المفسد للبيع الجهل في حال العقد. ألا ترى أنه إذا باعه برقمه لا يصح للجهل حال العقد وإن علم بَعده. وعلى كلا التعليلين لا يخرج الثمن عن كونه مجهولاً حال العقد. وفارق هذا الإقرار لأن الإقرار بالمجهول يصح وهذا قول متوجه لا دافع له. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (2473) 4: 645 كتاب صفة القيامة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2446) كتاب الأحكام، باب: الرجل يستقي كل دلو بتمرة ويشترط جلدة. وليس فيهما أكل النبي صلى الله عليه وسلم منه. وأخرجه أحمد في مسنده (689) ط إحياء التراث. (¬3) في هـ: البيع.

فصل في تفريق الصفقة قال المصنف رحمه الله: (وهو: أن يجمع بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز. وله ثلاث صور: إحداها: باع معلوماً ومجهولاً فلا يصح). أما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يجمع بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز؛ فبيان لمعنى تفريق الصفقة. وأما قوله: وله ثلاث صور؛ فلأن تفريق الصفقة تارة يجمع معلوماً ومجهولاً، وتارة مشاعاً ينقسم الثمن عليه بالأجزاء، وتارة مشاعاً لا ينقسم الثمن عليه بالأجزاء. وأما كون البيع لا يصح إذا باع معلوماً ومجهولاً؛ فلأن ما بعضه مجهول يكون كله مجهولاً. ولأن الثمن ينقسم على المبيع بالقيمة، والمجهول لا يمكن تقويمه فلا طريق إلى معرفة ثمن المعلوم. قال: (الثانية: باع مشاعاً بينه وبين غيره كعبد مشترك بينهما، أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كقفيزين متساويين لهما فيصح في نصيبه بقسطه في الصحيح من المذهب، وللمشتري الخيار إذا لم يكن عالماً). أما كون البيع يصح فيما ذكر في نصيب البائع بقسطه من الثمن في روايةٍ؛ فلأنه لا يلزم منه جهالة في الثمن لانقسامه هنا على الأجزاء. وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلأنه عقد جمع فيه بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه فلم يصح في شيء كالمسألة المذكورة قبل. وأما كون الصحيح في المذهب الأولى فلكون الثمن معلوماً. وبه يظهر الفرق بين هذه الصورة وبين الصورة الأولى.

وأما كون المشتري له الخيار إذا لم يكن عالماً؛ فلأن الشركة عيب، ولهذا ثبتت الشفعة في المبيع خوفاً من سوء المشاركة. وفي قول المصنف رحمه الله: إذا لم يكن عالماً إشعار بأن المشتري إذا كان عالماً لا خيار له وهو صحيح لأن إقدامه عليه مع العلم به دليل على الرضى به. قال: (الثالثة: باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً ففيه روايتان: أولاهما: لا يصح، والأخرى: يصح في عبده وفي الخل بقسطه). أما كون المبيع لا يصح فيما ذكر في روايةٍ؛ فلأن الصفقة جمعت حراماً وحلالاً فغلب التحريم. ولأنه عقد لم يصح في بعضه فلم يصح في كله أشبه ما لو تزوج بأختين، أو باع درهماً بدرهمين. وأما كونه يصح في روايةٍ؛ فلأن كل واحد منهما له حكمٌ لو انفرد فإذا جمع بينهما وجب ثبوت ما كان له منفرداً كما لو باع شقصاً وسيفاً فإن الشفعة تجب في الشقص دون السيف. ولأن حكم البيع الصحة، بطل في أحدهما لعدم قبوله ذلك فيبقى في الآخر كما لو أوصى بشيء لآدمي وبهيمة. فعلى هذا يصح في عبده والخل بقسطه لأن ذلك هو الذي يقابله. وأما كون الأُولى أولى فلما ذكر. ولأن الثمن إنما يتبين بتقسيط العوض بالقيمة وذلك غير معلوم فمنع صحة البيع كالصورة الأولى. قال: (وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه بثمن واحد فهل يصح؟ على وجهين). أما كون المبيع فيما ذكر لا يصح على وجهٍ؛ فلأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين فكأن كل واحد قد باع عبده بحصة قيمته من الثمن منفرداً وذلك مجهول. وأما كونه يصح على وجهٍ؛ فلأن جملة الثمن معلومة.

قال: (وإن جمع بين بيع وإجارة أو بيع وصرف صح فيهما ويُقَسّط العوض عليهما في أحد الوجهين). أما كون ما جمع فيه بين بيع وإجارة يصح في وجهٍ؛ فلأنهما شيئان يجوز أخذ العوض عن كل واحد منهما منفرداً فجاز مجتمعاً كالثوبين والعبدين. وأما كونه لا يصح في وجهٍ؛ فلأن حكمهما مختلف لأن المبيع المعقود عليه يُضمن بمجرد البيع والإجارة بخلافه. وأما كون ما جمع فيه بين بيع وصرف يصح في وجهٍ فلما ذكر في أول وجهي المسألة قبل. وأما كونه لا يصح في وجهٍ؛ فلأن حكمهما مختلف لأن البيع يجوز فيه التفرق قبل القبض والصرف بخلافه. وذكر المصنف رحمه الله الوجهين المذكورين في المسألتين في المغني الأول روايتين، وعزاهما إلى نقل أبي الخطاب. وأما كونه يقسط على المبيع والمستأجر في المسألة الأولى وعلى المبيع والمصروف في المسألة الثانية على قدر قيمتهما فكما لو جمع بين عبده وعبد غيره. قال: (وإن جمع بين كتابة وبيع فكاتب عبده وباعه شيئاً صفقة واحدة بطل البيع. وفي الكتابة وجهان). أما كون البيع فيما ذكر يبطل؛ فلأن المكاتب قبل تمام عقد الكتابة عبدُ قِنٍّ لا يصح أن يبيعه سيده شيئاً لكونه يبيع ماله لعبده. وأما كون الكتابة تبطل في وجهٍ؛ فلأنه عقد بطل في بعضه فبطل في كله لما تقدم. وأما كونها لا تبطل في وجهٍ؛ فلأن المقتضي للبطلان وجد في البيع فاختص به.

فصل [في البيع أثناء النداء] قال المصنف رحمه الله: (ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها، ويصح النكاح وسائر العقود في أصح الوجهين). أما كون البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها لا يصح؛ فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9]. أمر بترك البيع، والأمر للوجوب، وإذا وجب تركه لم يصح إذاً لأنه محرم فلم يصح فعله كسائر ما نهي عنه نهي تحريم. ولأن البيع يشغل عن الصلاة ويكون ذريعة إلى تركها أو فوات بعضها، وكلاهما لا يجوز، والمؤدي إلى ما لا يجوز لا يجوز، وإذا لم يجز لم يصح لما تقدم. ولأنه عقد نهي عنه لأجل عبادة فكان غير صحيح كالنكاح المحرم. فإن قيل: ما النداء الذي يحرم به البيع؟ قيل: هو المذكور في باب الجمعة. وأما كون النكاح وسائر العقود تصح في وجهٍ؛ فلأن ذلك يقل وقوعه فلا يكون إباحته ذريعة إلى ما ذكر في البيع. وأما كونها لا تصح في وجهٍ؛ فلأنها عقود معاوضات أشبهت البيع. وأما كون الأول أصح؛ فلأن دليل الثاني قياس، والقياس مع قيام الفارق لا أثر له. قال: (ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمراً، ولا بيع السلاح في الفتنة أو لأهل الحرب. ويحتمل أن يصح مع التحريم). أما كون بيع العصير لمن يتخذه خمراً لا يصح؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2] نهى والنهي يقتضي التحريم وعدم الصحة.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه لعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاريها، وبائعها، ومبتاعها، وشاربها، وساقيها. وأشار إلى كل معاون إليها ومساعد فيها» (¬1). وروي «أن سعد بن أبي وقاص كان له أرض فيها عنب فأخبر أنه لا يصلح زبيباً ولا يصلح إلا أن يباع لمن يعصره. فأمر بقلعه وقال: بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر». وأما كونه لا يصح في باقي الصور؛ فلأنها في معناها لما فيها من الإعانة على المعصية. وأما كونه يحتمل أن يصح في الجميع مع التحريم فقياس على الصلاة في الدار المغصوبة على القول بالصحة، وقياس على الصلاة في المواضع السبعة من المقبرة ونحوها على القول بالصحة. قال: (ولا يصح بيع عبد مسلم لكافر إلا أن يكون ممن يعتق عليه فيصح في إحدى الروايتين). أما كون بيع العبد المسلم لكافر لا يعتق عليه لا يصح؛ فلأن في ثبوت الملك للكافر على المسلم صغاراً للمسلم. ولأن الإسلام يمنع استدامة الملك فمنع ابتداءه كالنكاح. وأما كون بيعه ممن يعتق عليه يصح في روايةٍ؛ فلأن ملكه لا يستقر عليه. وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلأنه ثبوت ملك الكافر على مسلم فلم يصح كما لو لم يكن ممن يعتق عليه. وظاهر (¬2) كلام المصنف رحمه الله أن الأولى أصح لما ذكر. ولأنه يحصل له بالحرية زوال الملك عنه بالكلية وفي ذلك إضعاف ما حصل من الصغار بملك لحظة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1295) 3: 492 كتاب البيوع، باب النهي أن يتخذ الخمر خلاً. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3381) 2: 1122 كتاب الأشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه. (¬2) في هـ: فظاهر.

قال: (وإن أسلم عبد الذمي أجبر على إزالة ملكه عنه وليس له كتابته، وقال القاضي: له ذلك). أما كون الذمي يجبر على إزالة ملكه عن عبده الذي أسلم؛ فلأن في إبقائه في ملكه صغار للمسلم وقد قال الله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء: 141]. وأما كونه ليس له كتابته على المذهب؛ فلأنه إذا لم يكن للكافر شراء من يعتق عليه حذراً من ثبوت ملكه عليه لحظة؛ فلأن لا يكون له كتابته مع ثبوت الملك عليه إلى الأداء بطريق الأولى. وأما كونه له ذلك على قول القاضي؛ فلأنه سبب لعتقه أشبه إعتاقه له. قال: (ولا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه. وهو: أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أُعطيك مثلها بتسعة، ولا شراءه على شراء أخيه. وهو: أن يقول لمن باعه سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة ليفسخ البيع ويعقد معه، فإن فعل فهل يصح البيع؟ على وجهين). أما كون بيع الرجل على بيع أخيه لا يجوز؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَبِعْ (¬1) بَعضكُم على بَيعِ بَعض» (¬2) متفق عليه. ولأنه يتضمن إضرار المسلم وإفساد بيعه فحرم كشتمه. وأما كون شراء الرجل على شراء أخيه لا يجوز؛ فلأنه في معنى ما نهي عنه قبل. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه» (¬3) وهو في معنى الخاطب. ¬

_ (¬1) في هـ: يبيع. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2043) 2: 755 كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يُحفّل الإبل ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1412) 3: 1154 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه ... (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2033) 2: 752 كتاب البيوع، باب لا يبيع على بيع أبيه ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1412) 3: 1154 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه ...

ولأنه يمكن استعمال لفظ الخبر عليه لأن البيع يقع على الشراء ويسمى البائع والمشتري بيعين. وأما تفسير بيع الرجل على بيع أخيه وشراءه على شراء أخيه فكما ذكر المصنف رحمه الله. وفي قوله: ليفسخ البيع إشعار بأنه لا بد أن يكون ذلك قبل لزوم العقد مثل أن يكونا في المجلس، أو يكون في العقد خيار شرط لهما أو للذي (¬1) يطلب الفسخ ليمكن فعله ويصح إذا فعل. وأما كون كل واحد من البائع (¬2) والمشتري المذكورين إذا فعل لا يصح على وجهٍ؛ فلأنه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. وأما كونه يصح على وجهٍ؛ فلأن النهي لمعنى في غير المبيع أشبه بيع النجس. قال: (وفي بيع الحاضر للبادي روايتان: إحداهما: يصح، والأخرى لا يصح بخمسة شروط: أن يحضر البادي لبيع سلعته، بسعر يومها، جاهلاً بسعرها، ويقصده الحاضر، ويكون بالمسلمين حاجة إليها. فإن اختل شرط منها صح البيع. وأما شراؤه له فيصح رواية واحدة). أما كون بيع الحاضر للبادي يصح في روايةٍ؛ فلأن النهي عن ذلك كان في أول الإسلام لما (¬3) عليهم من الضيق فوجب زواله عند زواله. وأما كونه لا يصح بالشروط الخمسة المتقدم ذكرها في روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يَبيع حَاضرٌ لِبَادٍ» (¬4) متفق عليه. ولأن ما ثبت في حق الصحابة ثبت في حقنا ما لم يقم على اختصاصهم به دليل. ¬

_ (¬1) في هـ: الذي. (¬2) في هـ: البيع. (¬3) في هـ: إلى. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2154) 2: 794 كتاب الإجارة، باب أجر السمسرة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1521) 3: 1157 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي.

وإنما اشترطت الشروط الخمسة المتقدم ذكرها لأن النهي إنما كان لأجل التوسعة على أهل الحضر فيجب لحظ الشروط المذكورة لأن التوسعة لا تمتنع إلا معها: أما حضوره لبيع سلعته؛ فلأنه إذا حضر ليخزنها فقصده الحاضر وأحضه (¬1) على بيعها كان ذلك توسعة لا منعاً للتوسعة. وأما بيعها بسعر يومها؛ فلأنه إذا قصد بيعها بسعر معلوم لا بسعر اليوم كان المنع من البيع من جهته لا من جهة الحاضر. وأما جهله بالسعر؛ فلأنه إذا عرفه لم يزده الحاضر على ما عنده شيئاً. وأما قصد الحاضر له؛ فلأنه إذا طلبه البادي لم يكن للحاضر أثر في عدم التوسعة. وأما حاجة المسلمين؛ فلأنهم إذا لم يكونوا محتاجين لم يوجد المعنى الذي نهى الشرع لأجله. وأما كون البيع يصح إذا اختل شرط من الشروط الخمسة؛ فلأن الموقوف على شرط يزول عند زواله. وأما كونه يصح شراؤه له رواية واحدة؛ فلأن النهي المذكور قبل لا يتناول الشراء بلفظه ولا هو في معناه لأن النهي عن البيع للرفق بأهل الحضر ليتسع عليهم الرزق ويزول عنهم الضرر وليس ذلك (¬2) موجوداً في الشراء لهم إذ لا يتضررون بعدم الغبن للبادي (¬3) بل هو دفع للضرر عنه والخلق في نظر الشارع على السواء فكما شرع ما يدفع الضرر عن أهل الحضر. فكذلك يشرع ما يدفع الضرر عن البادي، وإذا لم يكن مشروعاً فلا أقل من أن يكون جائزاً. قال: (ومن باع سلعة نسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها نقداً إلا أن يكون قد تغيرت صفتها. وإن اشتراه أبوه أو ابنه جاز). أما كون شراء ما باعه بما ذكر مع عدم التغير لا يجوز فـ «لأن أم ولد زيد بن أرقم قالت لعائشة: إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء. ثم اشتريته منه بستمائة درهم. فقالت لها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت. أبلغي زيد بن أرقم ¬

_ (¬1) في و: حضه. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) في هـ: بعدم البادي.

أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب» (¬1). والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتُقدم عليه إلا بتوقيف سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرى مجرى روايتها ذلك عنه. ولأن ذلك ذريعة إلى الربا لأنه إنما أدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل والذرائع معتبرة في الشرع بدليل منع القاتل إرث المقتول وثبوت الميراث لامرأة المطلِّق ثلاثاً في مرض موته. ولأن الله تعالى عاب على بني إسرائيل التحيل في ارتكاب ما نهوا عنه لأنهم نهوا عن الصيد يوم السبت فكانوا ينصبون الشباك يوم الجمعة فيقع فيها الصيد يوم السبت فيأخذونه يوم الأحد فذمهم الله على ذلك. وتسمى هذه المسألة مسألة العينة وقد جاء في الحديث: «أن التبايع بها من أشراط الساعة» (¬2). وأما كونه يجوز ذلك إذا تغيرت السلعة مثل إن كانت عبداً فمرض أو ثوباً فانقطع أو ما أشبه ذلك؛ فلأن المعنى الموجب للتحريم إنما هو الحيلة في الربا وهذا المعنى مفقود هنا. وأما كونه يجوز إذا اشترى السلعة أبوه أو ابنه؛ فلأن كل واحد منهما كالأجنبي بالنسبة إلى المشتري. قال: (وإن باع ما يجري فيه الربا نسيئة ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من جنسه أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة لم يجز). أما كون بيع ذلك لا يجوز؛ فلأنه ذريعة إلى بيع المكيل بالمكيل نسيئة وذكر الثمن حيلة فحرم كمسألة العينة. وأما ما يجري فيه الربا نسيئة فالمكيل والموزون والمطعوم ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (212) 3: 52 كتاب البيوع. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 330 كتاب البيوع، باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل. (¬2) عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم». أخرجه أبو داود في سننه (3462) 3: 274 كتاب البيوع، باب: في النهي عن العِينة. وأخرجه أحمد في مسنده (4987) ط إحياء التراث.

والأثمان أو المكيل المطعوم والموزون المطعوم على ما فيه من الخلاف في علة الربا فإذا باع غرارة قمح مثلاً بخمسين درهماً إلى أجل فلما جاء الأجل اشترى بالدراهم المذكورة غرارة قمح قبل قبضها أو غرارة شعير فالأولى اشترى من جنس ما باع قبل ثمنه مع كونه يجري فيه الربا نسيئة، والثانية اشترى ما لا يجوز بيعه نسيئة بثمن ما باع على الصفة المذكورة.

باب الشروط في البيع

باب الشروط في البيع الشروط: جمع شرط. والشرط في اللغة: ما يلزم من وجوده وجود المشروط. وفي الشرع: ما يلزم من عدمه عدمه كالوضوء للصلاة والملك في البيع. قال المصنف رحمه الله: (وهي ضربان: صحيح. وهو ثلاثة أنواع: أحدها: شرط مقتضى البيع كالتقابض وحلول الثمن ونحوه فلا يؤثر فيه). أما كون الشروط في ضربين: صحيحاً وفاسداً؛ فلأن منها ما يوافق مقتضى العقد ومنها ما ينافيه، والأول صحيح والثاني فاسد. وأما كون الصحيح ثلاثة أنواع: فلأنه تارة يكون شرط مقتضى البيع، وتارة شرطاً من مصلحة العقد، وتارة شرطاً لنفع. وأما كون شرط مقتضى البيع لا يؤثر فيه؛ فلأنه شرط يقتضيه البيع فجرى مجرى التوكيد وذلك لا يؤثر فساداً في المؤكد بل يؤكده ويقويه فكذا ما يجري مجراه. وأما قول المصنف رحمه الله: كالتقابض وحلول الثمن فتمثيل للشرط الصحيح الذي هو مقتضى البيع. قال: (الثاني: شرط من مصلحة العقد، كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن والضمين به (¬1)، أو صفة في المبيع نحو: كون العبد كاتباً، أو خصياً، أو صانعاً، أو مسلماً، أو الأمة بكراً، والدابة هملاجة، والفهد صيوداً، فيصح البيع. فإن وفى به وإلا فلصاحبه الفسخ). أما كون اشتراط شرط من مصلحة العقد يصح؛ فلأن الرغبات تختلف باختلاف ذلك، والبيع إنما جاز ليحصل لكل واحد من المتعاقدين مقصوده فلو لم يصح اشتراط ما ذكر لم تحصل الحكمة التي شرع البيع لأجلها. ¬

_ (¬1) في هـ: فيه.

وأما قول المصنف: كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن والضمين؛ فتمثيل لكون الثمن ذا صفةٍ شرطُها من مصلحة العقد. وأما قوله: أو صفة في المبيع نحو كون العبد كاتباً ... إلى آخره؛ فتمثيل لكون المبيع ذا صفة شرطها من مصلحة العقد. وأما كون الفسخ لمن شرط له إذا لم يف من شرطه له به؛ فلأنه لم يحصل له ما شرط له فكان له الفسخ كما لو ظهر المبيع معيباً. قال: (وإن شرطها ثيباً كافرة فبانت بكراً مسلمة فلا فسخ له، ويحتمل أن له الفسخ؛ لأن له فيه قصداً). أما كون من شرط ما ذكر وشبهه لا فسخ له على المذهب؛ فلأنه حصل له أكمل مما شرط فلم يملك الفسخ به كما لو شرط كون الغلام كاتباً فظهر كاتباً عالماً. وأما كونه يحتمل أن له الفسخ فلما ذكره المصنف رحمه الله؛ وذلك أن المشتري قد لا يطيق وطء البكر، وقد يكون غرضه من الذمية كونها لا تغتسل من الجنابة على ما فيه من الخلاف. فإن قيل: قول المصنف رحمه الله: ثيباً كافرة يلحظ فيه اجتماع الوصفين جميعاً؟ قيل: ليس مراده ذلك بل مراده متى شرط الأدنى عادة كالثيوبة والكفر فظهر على خلاف ذلك كالبكارة أو الإسلام. ولذلك قيل في الشرح ما ذكر وشبهه ليدخل في المسألة ما صرح به المصنف رحمه الله وما يشبهه. قال: (وإن شرط الطائر مصوتاً أو أنه يجيء من مسافة معلومة صح. وقال القاضي: لا يصح). أما كون شرط ما ذكر يصح على قول غير القاضي؛ فلأن التصويت والمجيء من مسافة معلومة قد يكون فيهما غرض صحيح. وأما كونه لا يصح على قول القاضي؛ فلأن التصويت والمجيء غير معلومين فلم يصح اشتراطهما كالأجل المجهول. قال: (الثالث: أن يشترط البائع نفعاً معلوماً في المبيع كسكنى الدار شهراً وحُمْلان البعير إلى موضع معلوم، أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع كحمل الحطب

وتكسيره وخياطة الثوب وتفصيله فيصح. وذكر الخرقي في جز الرطبة إن شرطه على البائع لم يصح فيخرج هاهنا مثله. وإن جمع بين شرطين لم يصح (¬1». أما كون اشتراط البائع نفعاً معلوماً في المبيع كما مثل المصنف رحمه الله وشبهه يصح؛ فـ «لأن جابراً باع بعيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستثنى حملانه إلى المدينة» (¬2) رواه البخاري. ولأن اشتراط ذلك أكثر ما فيه أنه يتأخر التسليم مدة معلومة فصح اشتراطه كما لو باع أمة مزوجة أو داراً مؤجرة أو شجرة مؤبرة. وأما كون اشتراط المشتري نفع البائع في المبيع كما مثّله المصنف رحمه الله وشبهه يصح؛ فلأن كل واحد من العقد والشرط يصح منفرداً فإذا جمعا صح كالعينين. و«لأن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي جُرْزة حطب وشارطه على حملها». وأما كون عدم الصحة هنا يخرج على قول الخرقي لا يصح اشتراط جز الرطبة على البائع؛ فلأن الشرط هنا مثله. وقال المصنف رحمه الله في المغني: قول الخرقي في جز الرطبة يحتمل أن البطلان يختص به (¬3) لإفضائه إلى التنازع لأن البائع ربما أراد قطعها من أعلاها ليبقى له منها بقية، والمشتري يريد (¬4) الاستقصاء عليها ليزيد له ما يأخذه. ويحتمل أن يقاس عليه ما أشبهه من اشتراطه منفعة البائع. والأول أولى؛ لوجهين: أحدهما: أنه قال في موضع آخر في البيع: لا يبطله شرط واحد. والثاني: أن المذهب في غير هذا الموضع أنه يصح اشتراط ذلك. وأما إذا جمع بين شرطين فظاهر كلام المصنف رحمه الله: أن الجمع بينهما لا يصح سواء كانا صحيحين أو فاسدين. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2569) 2: 968 كتاب الشروط، باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز. وأخرجه مسلم في صحيحه (715) 3: 1221 كتاب المساقاة، باب بيع البعير واستشاء ركوبه. (¬3) في هـ: له. (¬4) ساقط من هـ.

وعن الإمام أحمد في ذلك (¬1) روايتان: أحدهما: أنهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد. والثانية: أنهما أن لا يبيع الجارية من أحد وأن لا يطأها وهذان فاسدان. وقال القاضي في المجرد: ظاهر كلامه أنه متى شرط في العقد شرطين بطلا سواء كانا صحيحين أو فاسدين أخذاً بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا شرطان في بيع» (¬2). قال المصنف رحمه الله في المغني: الذي قاله القاضي صحيح إلا أنه استثنى الشرطين إذا كانا من مقتضى العقد كشرط تسليم المبيع ونقد الثمن. وتصحيح المصنف رحمه الله قول القاضي يدل على إرادة ذلك فيكون هنا قد أراد بكلامه ظاهره. وقد تضمن كلام القاضي الدليل على أنه لا يصح اشتراط شرطين مطلقاً فلا حاجة إلى إعادته. ¬

_ (¬1) مثل السابق. (¬2) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في الشروط الفاسدة] قال المصنف رحمه الله: (الضرب الثاني: فاسد. وهو ثلاثة أنواع: أحدها: أن يشترط أحدهما على صاحبه عقداً آخر كسلف أو قرض أو بيع أو إجارة أو صرف الثمن أو غيره فهذا يبطل البيع. ويحتمل أن يبطل الشرط وحده). أما كون الضرب الثاني: فاسد؛ فلأن الأول صحيح فيكون الثاني فاسداً. وأما كون الفاسد ثلاثة أنواع؛ فلأنه تارة يكون شرط عقد آخر، وتارة شرط ما نافى مقتضى البيع، وتارة شرط يعلق البيع. وأما قول المصنف رحمه الله: كسلف ... إلى أو غيره؛ فتمثيل لصور عقد آخر. وأما كون الشرط المذكور يبطل البيع المذكور على المذهب؛ فلأنه بيع منهي عنه لأجل الشرط فأبطله. ضرورة أن النهي عن الشيء يقتضي فساده وبطلانه. بيان كونه منهياً عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع» (¬1). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. و«نهى عن بيع وشرط» (¬2)، و «عن بيعتين في بيعة» (¬3). وهذا منه. ولأن ما ذكر شروط فاسدة فأبطل العقد أحدها كما لو شرط أن لا يسلم المبيع إليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3504) 3: 283 كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده. وأخرجه الترمذي في جامعه (1234) 3: 535 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك. وأخرجه النسائي في سننه (4611) 7: 288 كتاب البيوع، بيع ما ليس عند البائع. (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط 1 ل 264. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونه يحتمل أن يبطل الشرط وحده؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صَحَّحَ بيع بريرة، وأبطل الشرط الفاسد المشروط في بيعها (¬1). قال المصنف رحمه الله في المغني: المنصوص عن أحمد أن البيع صحيح وهو ظاهر كلام الخرقي. فعلى هذا للبائع الرجوع بما نقص من الثمن لأجل الشرط لأنه إنما سمح ببيعه بالثمن المسمى لأجل الشرط فإذا لم يحصل وجب الرجوع بما سمح به. قال: (الثاني: شرط ما نافى مقتضى البيع نحو أن يشترط أن لا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق، أو إن أعتق فالولاء له، أو يشترط أن يفعل ذلك: فهذا باطل في نفسه. وهل يبطل البيع؟ على روايتين. إلا إذا شرط العتق ففي صحته روايتان: إحداهما: يصح ويجبر عليه إن أباه. وعنه: فيمن باع جارية وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن أن البيع جائز، ومعناه والله أعلم أنه جائز مع فساد الشرط. وإن شرط رهناً فاسداً أو نحوه فهل يبطل؟ على وجهين). أما كون كل واحد مما ذكر من (¬2) الشروط غير شرط العتق باطلاً في نفسه؛ فلأنه شرط ينافي مقتضى العقد. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما أرادت شراء بريرة فاشترط أهلها ولاءها: اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق. ثم قال: من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط» (¬3) متفق عليه. وأما كونه لا يبطل البيع على روايةٍ فلحديث بريرة. ¬

_ (¬1) سيأتي ذكر حديث بريرة وتخريجه في الحديث التالي. (¬2) في هـ: مثل. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2579) 2: 972 كتاب الشروط، باب الشروط في الولاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (1504) 2: 1141 كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق.

وأما كونه يبطله على روايةٍ؛ فلأنه إذا بطل الشرط وجب رد ما في مقابلته من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولاً. وأما كون شرط العتق يصح في المذهب؛ فلأن عائشة اشترت بريرة لتعتقها فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا إن أعتقه فلا كلام وإن لم يعتقه أجبر عليه؛ لأن شرط العتق إذا صح تعلق بعينه فأجبر عليه كما لو نذر عتقه. وأما كونه لا يصح في روايةٍ فلأنه (¬1) شرط ينافي مقتضى العقد أشبه ما إذا شرط عليه أن لا يبيعه، أو شرط عليه إزالة ملكه. وأما قول المصنف رحمه الله: وعنه فيمن باع جارية ... إلى آخره؛ فمعناه أنه نقل عن الإمام أحمد هذه الرواية وربما توهم منها صحة الشرط لسكوته عن فساده وليس كذلك بل معناه والله أعلم أن البيع جائز مع فساد الشرط. وأما كون من شرط رهناً فاسداً ونحوه هل يبطل البيع؟ على وجهين؛ فلأن شرط ذلك كشرط الشرط الفاسد معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. قال: (الثالث: أن يشترط شرطاً يعلق البيع كقوله: بعتك إن جئتني بكذا أو إن رضي فلان، أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك فلا يصح البيع. إلا بيع العربون وهو: أن يشتري شيئاً ويعطي البائع درهماً ويقول للمشتري: إن أخذته وإلا فالدرهم لك. فقال أحمد: يصح؛ لأن عمر فعله. وعند أبي الخطاب لا يصح). أما كون البيع لا يصح إذا شرط فيه شرطاً يعلقه كما تقدم ذكره ونحوه؛ فلأن مقتضى البيع نقل الملك حال التبايع والشرط هنا يمنعه. وأما كونه لا يصح إذا قال الراهن للمرتهن: إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَغْلَقُ الرهْن» (¬2) رواه الأثرم. ومعناه ما ذكر. قاله أبو عبيد في غريبه، وأنشد عليه: ¬

_ (¬1) في هـ: فلا. (¬2) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا يعني أنها ارتهنت قبله فذهبت به. وأما كون بيع العربون يصح على قول الإمام أحمد؛ فلما ذكره المصنف رحمه الله من أن عمر فعله وذلك لأنه روي عنه «أنه اشترى داراً للسجن من صفوان فإن رضي عمر وإلا له كذا وكذا (¬1») (¬2). وأما كونه لا يصح على قول أبي الخطاب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون» (¬3) رواه ابن ماجة. ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض أشبه ما لو شرطه لأجنبي. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يشتري شيئاً ويعطي البائع درهماً ويقول: إن أخذته وإلا فالدرهم لك؛ فبيان لمعنى بيع العربون شرعاً. قال: (وإن قال: بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث وإلا فلا بيع بيننا فالبيع صحيح نص عليه. وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب لم يبرأ. وعنه: يبرأ إلا أن يكون البائع علم العيب فكتمه). أما كون البيع صحيحاً إذا قال: بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث وإلا فلا بيع بيننا؛ فلأن ذلك يروى عن عثمان. ولأن اشتراط الخيار في البيع جائز والشرط المذكور في معناه. ولأنه نوع بيع فجاز أن يفسخ بتأخر القبض كالصرف. وأما كون البائع لا يبرأ إذا شرط البراءة من كل عيب علم أو لم يعلم على المذهب؛ فلأنه شرط يرتفق به أحد المتعاقدين فلا يصح كالأجل المجهول والرهن المجهول. وأما كونه يبرأ مع الجهل ولا يبرأ مع العلم على روايةٍ وهو المعني بقول المصنف رحمه الله: وعنه لا يبرأ إلا أن يكون البائع علم العيب فكتمه؛ فلما روي «أن عبدالله ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 34 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع دور مكة ... (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3502) 3: 283 كتاب البيوع، باب في العُربان. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2192) 2: 738 كتاب التجارات، باب بيع العربان.

بن عمر رضي الله عنه باع عبداً من زيد بن ثابت وشرط البراءة بثمانمائة درهم. فأصاب به زيد عيباً. فأراد رده على ابن عمر. فلم يقبله فترافعا إلى عثمان. فقال عثمان لابن عمر: أتحلف أنك لم تعلم بهذا العيب؟ فقال: لا. فرده عليه» (¬1). وهذه قضية اشتهرت ولم تنكر فكان إجماعاً. وروي عن الإمام أحمد أنه يبرأ مع العلم والجهل لأن البراءة من المجهول صحيحة لما روت أم سلمة «أن رجلين اختصما في مواريث درست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استهما وتوخيا الحق وليحلل كل واحد منكما صاحبه» (¬2). ولأنه إسقاط حق لا تسليم فيه فصح في المجهول كالعتاق والطلاق وإذا صحت البراءة من المجهول وجب صحة الشرط لأنه إبراء من مجهول. ولأنه عيب رضي به (¬3) المشتري فبرئ منه البائع كما لو أطلعه عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (14722) 8: 163 كتاب البيوع، باب البيع بالبراءة ... وأخرجه مالك في الموطأ (4) 2: 477 كتاب البيوع، باب العيب في الرقيق. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 328 كتاب البيوع، باب بيع البراءة. (¬2) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) ساقط من هـ.

فصل قال المصنف رحمه الله: (وإن باعه داراً على أنها عشرة أذرع فبانت أحد عشر فالبيع باطل. وعنه: أنه صحيح والزائد للبائع ولكل واحد منهما الفسخ فإن اتفقا على إمضائه جاز وإن بانت تسعة فهو باطل. وعنه: أنه صحيح والنقص على البائع وللمشتري الخيار بين الفسخ وأخذ المبيع بقسطه من الثمن فإن اتفقا على تعويضه عنه جاز). أما كون البيع باطلاً إذا بان المبيع أزيد أو أنقص على الرواية الأولى؛ فلأنه لا يمكن إجبار أحد المتبايعين على تسليم الزائد ولا على أخذ البعض لما فيه من ضرر الشركة أو النقصان عن حقه. وأما كونه صحيحاً على الرواية الثانية؛ فلأن ذلك نقص على المشتري من جهة الحقيقة أو من جهة المعنى فلا يمنع صحة البيع كالعيب. فعلى القول بالبطلان لا إشكال، وعلى القول بالصحة يكون الزائد فيما إذا بان زائداً للبائع لأنه لم يبعه ولكل واحد منهما الخيار لأن على كل واحد منهما ضرراً بالشركة. وقال المصنف في المغني: يخير البائع بين دفع المبيع زائداً وبين دفع قدر المبيع فإن اختار تسليمه زائداً فلا خيار للمشتري لأنه زاده خيراً فيما إذا بان زائداً ويكون النقصان فيما إذا بان ناقصاً على البائع لأنه التزمه بالبيع ولا خيار للبائع لأنه لا ضرر عليه في ذلك وللمشتري الخيار بين الفسخ لنقصه وبين أخذ المبيع بقسطه من الثمن لأن الثمن يقسط على كل جزء من أجزاء المبيع فإذا فات جزء استحق ما قابله من الثمن. وأما كونه يجوز إمضاء العقد في الزائد مع الاتفاق والتعويض في النقص معه؛ فلأن الحق لهما لا يعدوهما فإذا اتفقا عليه جاز كحالة الابتداء.

باب الخيار في البيع

باب الخيار في البيع قال المصنف رحمه الله: (وهو على سبعة أقسام: أحدها: خيار المجلس. ويثبت في البيع، والصلحِ بمعناه، والإجارة). أما كون الخيار على سبعة أقسام؛ فلأنه تارة يكون خيار المجلس، وتارة خيار الشرط، وتارة خيار الغبن، وتارة خيار التدليس، وتارة خيار العيب، وتارة في بيع التولية والشركة والمرابحة والمواضعة، وتارة لاختلاف المتبايعين. وأما كون أحدها خيار المجلس فظاهر. وأما كون خيار المجلس يثبت في البيع فلما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع» (¬1) متفق عليه. وقال عليه السلام: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» (¬2) رواه الأئمة كلهم. وأما كونه يثبت في الصلح بمعنى البيع كمن يقر لإنسان بعين أو دين ثم يصالحه على ذلك بعوض؛ فلأنه بيع فيدخل تحت ما تقدم. وإن صولح على ذلك بذهب أو فضة فحكم الصلح حكم الصرف وسيأتي ذكره. وأما كونه يثبت في الإجارة؛ فلأنها بيع المنافع فيدخل في الحديث المتقدم ذكره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2006) 2: 744 كتاب البيوع، باب إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1531) 3: 1163 كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1976) 2: 733 كتاب البيوع، باب ما يمحق الكذب والكتمان في البيع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1531) 3: 1163 كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس للمتابيعين. كلاهما من حديث حكيم بن حزام.

قال: (ويثبت في الصرف والسلم. وعنه: لا يثبت فيهما). أما كون خيار المجلس يثبت في الصرف والسلم على المذهب؛ فلأن ذلك بيع في الحقيقة فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» (¬1). ولأنه شرع نظراً لهما في الأحظ وهذا موجود في الصرف والسلم. وأما كونه لا يثبت فيهما على روايةٍ؛ فلأن ذلك عقد لا يدخله خيار الشرط فلا يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح. وإنما لم يدخله خيار الشرط لأنه عقد يفتقر إلى التقابض في الحال ويقتضي عدم العلقة بينهما وثبوت الخيار بعد التفرق يمنع لزوم القبض ويثبت العلقة بينهما. قال: (ولا يثبت في سائر العقود إلا في المساقاة والحوالة والسبق في أحد الوجهين). أما كون خيار المجلس لا يثبت في سائر العقود غير العقود المستثناة كالنكاح والخلع والقرض والكتابة والتدبير والعتق والوقف والرهن والضمان والكفالة والشركة والمضاربة والجُعالة والوكالة والوديعة والعارية والوصية والهبة الخالية عن العوض والشفعة والقسمة إن قيل هي إفراز والإقالة إن قيل هي فسخ. أما في النكاح؛ فلأنه لا يقصد منه العوض. ولأن الخيار في البيع إنما ثبت استدراكاً للغبن؛ لأنه يقع فجأة عن غير تَرَوٍّ وهذا المعنى لا يوجد في النكاح؛ لأن الغالب أنه لا يوجد إلا بعد تَرَوٍّ وبحث. وأما في الخلع؛ فلأنه يقصد منه التفرق أشبه الطلاق. وأما في القرض والتدبير والكتابة والعتق والوقف والضمان والكفالة والهبة الخالية عن العوض؛ فلأن فاعل ذلك دخل فيه على أن الحظ لغيره. وأما في الرهن؛ فلأنه يضر بالمرتهن لبقاء حقه بلا رهن بتقدير وقوع الخيار. وأما في الشركة والمضاربة والجُعالة والوكالة والوديعة والعارية والوصية؛ فلأنها عقود جائزة متى شاء أحدهما فسخ فلا حاجة إلى خيار المجلس. وأما في الشفعة؛ فلأنها شرعت لإزالة الضرر فلا يشرع فيها خيار لأنه يناقضه. وأما في القسمة إذا قيل هي إفراز؛ فلأنه يجبر عليها ولا خيار في عقود الإجبار (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: الإجازة.

وأما في الإقالة إذا قيل هي فسخ؛ فلأن الخيار يثبت استدراكاً للضرر الحاصل بالعقد، والإقالة فسخ فلم يدخله الخيار المذكور لعدم صلاحية المحل له. وأما كونه يثبت في العقود المستثناة وهي المساقاة والحوالة والسبق في وجه: أما في المساقاة؛ فلأنها في معنى الإجارة في وجه. وأما في الحوالة؛ فلأنها بيع في الحقيقة. وأما في السبق فلما ذكر في المساقاة. وأما كونه لا يثبت في شيء من ذلك في وجهٍ: أما في المساقاة؛ فلأنها عقد يكثر فيه الغرر لما فيه من الجهالة. ولأنها لا يثبت فيها خيار الشرط فكذا خيار المجلس. وأما في الحوالة؛ فلأنها إسقاط وإبراء. وأما في السبق؛ فلأنه كالجُعالة في وجهٍ، والجُعالة لا خيار فيها لكونها من العقود الجائزة فكذا ما هو في معناها (¬1). قال: (ولكل واحد من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما إلا أن يتبايعا على أن لا خيار بينهما أو يسقطا الخيار بعده فيسقط في إحدى الروايتين، وإن أسقطه أحدهما بقي خيار صاحبه). أما كون كل واحد من المتبايعين له الخيار ما لم يتفرقا إذا لم يتبايعا على أن لا خيار بينهما وإذا لم يسقطاه بعده فلما تقدم من قوله: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» (¬2). وأما كون التفرق بالأبدان لا بالأقوال؛ فلأن قبل التفرق بالأقوال لم يلزم العقد بل لم يوجد فلا حاجة إلى خيار. ولأن في بعض ألفاظ الحديث: «وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع» (¬3). ولأن ابن عمر راوي الحديث وكان يفسر الفرقة بفعله (¬4). ¬

_ (¬1) في هـ: معناه. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) هو تكمله لحديث ابن عمر، وقد سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يختارا. قال: فكان ابن عمر إذا ابتاعَ بَيعاً وهو قاعدٌ قامَ لِيجبَ له البيع». (1245) 3: 547 كتاب البيوع، باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا. قال الترمذي: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.

وأما كون الخيار يسقط إذا تبايعا بشرط أن لاخيار، أو أسقطاه بعد البيع في روايةٍ اختارها الشريف بن أبي موسى؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع» (¬1). وقال عليه السلام: «البيعانِ بالخيارِ ما لم يَتفرقا، أو يقولُ أحدهما لصاحبه: اخْتَرْ» (¬2) رواه البخاري. وأما كونه لا يسقط فيهما في روايةٍ؛ فلأن أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» (¬3). والزيادة على ذلك مذكورة في حديث ابن عمر، وقول الأكثر ذوي الضبط مقدم على رواية المنفرد. قال المصنف رحمه الله في المغني: والأول أولى لما تقدم. ولأنه عليه السلام قال: «إلا أن يكونَ البيعُ كانَ عن خِيارٍ فإن كان البيعُ عن خيارٍ فقد وَجَبَ البيْع» (¬4) متفق عليه. ولأن الأخذ بما تضمنته الزيادة أولى. ولأن الأصل أن لا يثبت خيار. خولف مع عدم الشرط والإسقاط للحديث الخالي عن المعارض فيبقى فيما وقع فيه التعارض على الأصل. وأما كون خيار صاحب من أسقط خياره يبقى؛ فلأنه خيار في المبيع فلم يبطل حق من لم يُسقطه كخيار الشرط. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.، من حديث ابن عمر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2003) 2: 743 كتاب البيوع، باب إذا لم يوقّت في الخيار هل يجوز البيع. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) هذا اللفظ أخرجه النسائي في سننه (4467) 7: 248 كتاب البيوع، وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما. وأصله عند الشيخين، وقد سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في خيار الشرط] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: خيار الشرط. وهو: أن يشترطا في العقد خيار مدة معلومة فيثبت فيها وإن طالت). أما كون الثاني خيار الشرط فظاهر. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يشترطا في العقد خيار مدة معلومة؛ فبيان لمعنى خيار الشرط. وأما كون خيار الشرط يثبت في المدة المذكورة؛ فلقوله عليه السلام: «المسلمون عند شروطهم» (¬1). وأما كون ذلك يثبت في المدة إذا طالت؛ فلأنه حق مقدر يعتمد الشرط فرجع في تقديره إلى من شَرَطَه كالأجل، أو نقول: مدة ملحقة بالعقد فكانت إلى تقدير المتعاقدين كالأجل. ويبطل هذا الشرط بالتخاير كخيار المجلس. قال: (ولا يجوز مجهولاً في ظاهر المذهب. وعنه: يجوز، وهما على خيارهما إلى أن يقطعاه أو تنتهي مدته). أما كون خيار الشرط لا يجوز أن يكون مجهولاً؛ مثل: أن يشترط الخيار متى شاء، أو إلى قدوم زيد، أو إلى الأبد، أو ما أشبه ذلك في ظاهر المذهب؛ فلأنها مدة ملحقة بالعقد فلا تجوز مع الجهالة كالأجل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح. عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1352) 3: 634 كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس. عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده. ولفظهما: «المسلمون على شروطهم». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ولأن الخيار إلى الأبد يقتضي المنع من التصرف في المبيع على الأبد وذلك ينافي مقتضى العقد. وأما كونه يجوز على روايةٍ فلقوله عليه السلام: «المؤمنون على شروطهم» (¬1). فعلى هذا هما على خيارهما إلى أن يقطعاه أو تنتهي مدته إن كانت معلقة بما تنتهي به. والأولى أولى. اختارها القاضي وابن عقيل. قال: (ولا يثبت إلا في البيع، والصلحِ بمعناه، والإجارة في الذمة، أو على مدة لا تلي العقد). أما كون خيار الشرط لا يثبت في غير الصور (¬2) المستثناة؛ فلأنه لا نص في ذلك ولا هو في معنى المنصوص وذلك ينفي الثبوت لا سيما إذا كان الأصل يعضده. وأما كونه يثبت في البيع والصلح بمعنى البيع فلما تقدم في خيار المجلس. وأما الإجارة فهي على ضربين: أحدهما: إجارة في الذمة؛ مثل أن يقول: استأجرتك لتخيط هذا الثوب ونحوه. فهذا يثبت فيه خيار الشرط لأنه استدراك للغبن فوجب ثبوته في ذلك كخيار المجلس. والضرب الثاني: أن لا تكون في الذمة كإجارة الدار ونحوها: وذلك تارة لا تلي العقد؛ كإجارة سنة خمس وهو في أربع فهذا أيضاً يثبت فيه خيار الشرط لما تقدم في الإجارة في الذمة، وتارة تلي العقد فهذا لا يثبت فيه خيار الشرط لأنه يفضي إلى فوات بعض المنافع المعقود عليها أو إلى استيفائها في مدة الخيار وكلاهما لا يجوز. ولم يفصل المصنف رحمه الله هذا التفصيل في الإجارة في خيار المجلس لأنه لا يلزم فيها ما ذكر هاهنا لقصره غالباً. قال: (وإن شرطاه إلى الغد لم يدخل في المدة. وعنه: يدخل). أما كون الغد فيما ذكر لا يدخل على المذهب؛ فلأن إلى لانتهاء الغاية فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها لأن حكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها يؤيده قوله تعالى: {ثم أتموا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: الصورة.

الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] لا يدخل الليل في الصيام، وقول الرجل لزوجته: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث لا تدخل الثالثة، وقول المقر: له عندي من درهم إلى عشرة لا يدخل الدرهم العاشر. وأما كونه يدخل في ذلك على روايةٍ؛ فلأن إلى قد تكون بمعنى مع كقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6] و {من أنصاري إلى الله} [آل عمران: 52]. ولأن الخيار ثابت بيقين فلا نزيله بالشك. والأول أصح؛ لأن إلى لانتهاء الغاية وإنما تحمل على معنى مع لدليل أو لتعذر حملها على موضوعها الأصلي. ولأن الأصل لزوم العقد وإنما خولف فيما اقتضاه الشرط فيثبت فيما يتيقن منه، وما شك فيه يرجع فيه إلى الأصل. قال: (وإن شرطاه مدة فابتداؤها من حين العقد، ويحتمل أن يكون من حين التفرق). أما كون ابتداء المدة المشروطة من حين العقد على المذهب؛ فلأن الخيار مدة ملحقة من حين العقد فكان ابتداؤها من حين العقد كالأجل. وأما كونه يحتمل أن يكون من حين التفرق؛ فلأن الخيار ثابت في المجلس حكماً فلا معنى لإثباته بالشرط. ولأن حالة المجلس كحالة العقد لأن لهما فيه الزيادة والنقصان. والأول أصح. قاله المصنف في المغني لما ذكر. ولأن الاشتراط سبب ثبوت الخيار فوجب أن يتعقبه حكمه كالملك في المبيع. ولأن المدة لو جعلت من التفرق لأدى إلى جهالتها لأنه لا يعلم متى ابتداؤها فلا يعلم انتهاؤها. وثبوت الحكم لسببين لا يمتنع كالوطء يَحْرم بالصيام والإحرام. قال: (وإن شرط الخيار لغيره جاز وكان توكيلاً له فيه، وإن شرطا الخيار لأحدهما دون صاحبه جاز). أما كون شرط الخيار للغير يجوز ويكون توكيلاً له؛ فلأن تصحيح الاشتراط على الوجه المذكور ممكن فوجب حمله عليه صيانة لكلام المكلف عن اللغو. وصار هذا

بمنزلة ما لو قال لغيره: اعتق عبدك عني فإنه يقدر الملك قبل العتق تصحيحاً لكلامه. فكذلك هاهنا. وأما كون شرط الخيار لأحد المتبايعين دون صاحبه يجوز؛ فلأنه إذا جاز اشتراطه لهما؛ فلأن يجوز اشتراطه لأحدهما بطريق الأولى. قال: (ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه، وإن مضت المدة ولم يفسخا بطل خيارهما). أما كون من له الخيار له الفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه؛ فلأنه عقد جعل إلى اختياره (¬1) فجاز مع غيبة صاحبه وسخطه كالطلاق. وأما كون خيارهما يبطل إذا مضت المدة ولم يفسخا؛ فلأنها مدة ملحقة بالعقد فبطلت بانقضائها كالأجل. ولأن حكم بقاء الخيار يفضي إلى بقائه أكثر من المدة التي اشترطاها، وهو إنما ثبت بالشرط فلا يجوز أن يثبت في غير مدته. ولأن البيع سبب للزوم وإنما تخلف موجبه بالخيار فإذا انقضت مدته لزم العقد بموجبه لزوال المعارض. وفي قول المصنف رحمه الله: ولم يفسخا نظر لأنه إذا فسخ أحدهما يصدق أنهما ما فسخا، وفي هذه الصورة لا يبطل الخيار. وقد احترز عن هذا في المغني فقال: ولم يفسخ أحدهما بطل الخيار، وليس مراد المصنف إلا هذا وإنما لم يحترز عن هذا اعتماداً على ظهور المعنى. قال: (وينتقل الملك إلى المشتري بنفس العقد في أظهر الروايتين، فما حصل من كسب أو نماء منفصل فهو له أمضيا العقد أو فسخاه). أما كون الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد في أظهر الروايتين فلقوله صلى الله عليه وسلم: «من بَاع عبداً وله مال فماله للبائعِ إلا أن يَشترِطه المبتَاع» (¬2) رواه البخاري. ¬

_ (¬1) في هـ: اختيار. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2250) 2: 838 كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1543) 3: 1173 كتاب البيوع، باب من باع نخلاً عليها ثمر. كلاهما من حديث ابن عمر.

وجه الحجة أنه جعل المال للمبتاع إذا اشترطه وهو عام في كل بيع فيدخل فيه بيع الخيار. وأما كونه لا ينتقل إلا بانقضاء الخيار في روايةٍ؛ فلأنه عقد قاصر لا يفيد التصرف ولا يلزم فلا ينتقل الملك فيه كالهبة قبل القبض. والأولى أولى لما ذكر. ولأنه بيع صحيح فنقل الملك عقيبه كما لو لم يشترط الخيار. ولأن البيع تمليك بدليل أنه يصح بقوله: ملكتك فيثبت به الملك كالمطلق. ودعوى القصور فيه ممنوعة، وامتناع التصرف لأجل حق الغير لا يمنع ثبوت الملك كالمرهون والمبيع قبل القبض، وعدم اللزوم لا يوجب قصوراً ولا يمنع نقل الملك بدليل بيع المعيب. وأما كون ما حصل من كسب أو نماء منفصل للمشتري مع إمضاء العقد ومع فسخه؛ فلأنه نماء ملكه الداخل في ضمانه. ولأنه من ضمانه فيدخل في قوله عليه السلام: «الخراج بالضمان» (¬1). قال الترمذي: هو صحيح. وفي قول المصنف رحمه الله: أو نماء منفصل احتراز عن النماء المتصل كالسمن ونحوه فإن ذلك يتبع العين مع الفسخ لتعذر انفصاله. ولا بد أن يُلحظ في كون النماء المنفصل للمشتري أنه مبني على القول بأن الملك ينتقل بنفس العقد لأن على روايةِ الانتقال بانقضاء مدة الخيار يكون جميع ذلك للبائع لما ذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3510) 3: 284 كتاب الاجارة، باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم وجد به عيباً. وأخرجه الترمذي في جامعه (1286) 3: 582 كتاب البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد فيه عيباً. وأخرجه النسائي في سننه (4490) 7: 254 كتاب البيوع، الخراج بالضمان. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2243) 2: 754 كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان.

قال: (وليس لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار إلا بما يحصل به تجربة المبيع، وإن تصرفا ببيع أو هبة ونحوهما لم ينفذ تصرفهما ويكون تصرف البائع فسخاً للبيع، وتصرف المشتري إسقاطاً لخياره في أحد الوجهين، وفي الآخر البيع والخيار بحالهما). أما كون كل واحد من البائع والمشتري ليس له التصرف في المبيع في مدة الخيار على غير وجه التجربة؛ فلأنه ليس بملك للبائع فيتصرف فيه ولا انقطعت عنه علقه فيتصرف فيه المشتري. وأما (¬1) كونهما إذا تصرفا بيبع أو هبة ونحوهما مما ينقل الملك ويثبت الشغل في المعقود كالإجارة والرهن والكتابة لا ينفذ تصرفهما؛ فلأنه تصرف لم يصادف محله لأن البائع لا يملكه والمشتري يفضي تصرفه إلى إسقاط حق البائع من الخيار واسترجاع المبيع. وأما كون تصرف البائع فسخاً للمبيع وتصرف المشتري إسقاطاً لخياره في وجهٍ؛ فلأن ذلك يحصل بالتصريح فحصل بالدلالة عليه كالمعتَقة فإن خيارها يسقط بتمكينها زوجها من وطئها. وأما كون تصرف البائع لا يكون فسخاً في وجهٍ؛ فلأن الملك انتقل عن البائع فلم يكن تصرفه فيه فسخاً واسترجاعاً كمن وجد عين ماله عند مفلس. وأما كون تصرف المشتري لا يكون إسقاطاً لخياره في وجهٍ؛ فلأن التصرف غير صحيح فوجوده كعدمه. وأما كون المشتري له التصرف بما يحصل به تجربة المبيع مثل (¬2): أن يركب الدابة لينظر سيرها، ويطحن على الرحى ليختبرها؛ فلأن الخيار إنما شرطه ليستعلم به المبيع وذلك طريق إليه فلو لم يجز لما أمكنه تحصيل ما شرط الخيار من أجله. ¬

_ (¬1) في هـ: أما. (¬2) في و: به التجربة مثل.

قال: (وإن استخدم المبيع لم يبطل خياره في أصح الوجهين، وكذلك إن قبلته الجارية. ويحتمل أن يبطل إن لم يمنعها). أما كون الخيار باستخدام المبيع لا يبطل في أصح الوجهين؛ فلأن الخدمة لا تختص بالملك فلم يبطل الخيار كالنظر. وأما كونه يبطل في وجهٍ؛ فلأن الخدمة إحدى المنفعتين فأبطلت الخيار كما (¬1) لو وطئ. ولأنه نوع تصرف أشبه ركوب الدابة. وأما كون تقبيل الجارية المشتري لا يبطل خياره به على المذهب؛ فلأن الحق له ولم يوجد منه ما يدل على إبطاله فوجب أن لا يبطل. وأما كونه يحتمل أن يبطل إذا لم يمنعها؛ فلأن سكوته استمتاع بها ودليل على رضاه بدليل ما لو عتقت المرأة تحت عبد فوطئها وهي ساكتة. ولا بد أن يقيد الخلاف المذكور بالشهوة لأنه إذا كان لغير شهوة لا يبطل بغير خلاف لأن التقبيل لغير شهوة ليس باستمتاع بوجه. قال: (وإن أعتقه المشتري نفذ عتقه وبطل خيارهما، وكذلك إن تلف المبيع. وعنه: لا يبطل خيار البائع وله الفسخ والرجوع بالقيمة). أما كون إعتاق المشتري العبد المبيع بشرط الخيار ينفذ؛ فلأنه عتق من مالك جائز التصرف تام الملك فنفذ كما بعد مدة الخيار. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عتق فيما لا يملك ابن آدم» (¬2) يدل بمفهومه على نفوذه في الملك. ولأن ملك البائع الفسخ لا يمنع صحة العتق كما لو باع عبداً بجارية معينة فأعتقه المشتري فإنه ينفذ مع ملك البائع الفسخ، وكما لو وهب الأب لابنه عبداً فأعتقه الابن فإنه ينفذ عتقه مع ملك الأب الفسخ. ¬

_ (¬1) في هـ: فعطلت الخيار به كما. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2190) 2: 258 كتاب الطلاق، باب في الطلاق قبل النكاح. بلفظ: «لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك ... ». وأخرجه الترمذي في جامعه (1181) 3: 486 كتاب الطلاق، باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح. بلفظ: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك ... ».

وأما كون خيار المشتري يبطل فلتصرفه بالعتق الموجب للزوم. وأما كون خيار البائع يبطل على المذهب فلتعذر الرجوع. وأما كونه لا يبطل على روايةٍ؛ فلأنه لم يوجد ما يدل على بطلانه، وتعذر الرجوع في العين لا يمنع الفسخ لأنه قد يكون في الفسخ مصلحة مثل: أن يكون قد باعه بأقل من ثمن مثله فإذا فسخ ملك الرجوع في قيمته. وأما كونه له الفسخ على هذه الرواية؛ فلأن خياره لم يبطل. وأما كونه إذا فسخ له الرجوع بقيمة المبيع لأنها بدل ما لا مثل له. وأما كون تلف المبيع كعتق العبد في بطلان الخيار؛ فلأنه يساويه معنى فكذا يجب أن يساويه حكماً. قال: (وحكم الوقف حكم البيع في أحد الوجهين، وفي الآخر: حكمه حكم العتق). أما كون حكم وقف المشتري المبيع في وجهٍ حكم بيعه. ومعناه أنه لا ينفذ؛ فلأنه يتضمن بطلان حق غيره أشبه وقف المرهون. وأما كون حكمه في وجهٍ حكم عتقه. ومعناه أنه ينفذ؛ فلأنه تصرف يبطل الشفعة فنفذ كالعتق. والأول أصح قاله المصنف في المغني لما ذكر. وفارق العتق لتأكده بدليل أنه يسري إلى ملك الغير، ويبنى على التغليب، ويصح في الرهن بخلاف الوقف. قال: (وإن وطئ المشتري الجارية فأحبلها صارت أم ولده وولده حر ثابت النسب، وإن وطئها البائع فكذلك إن قلنا البيع ينفسخ بوطئه، وإن قلنا لا ينفسخ فعليه المهر وولده رقيق إلا إذا قلنا الملك له، ولا حد فيه على كل حال. وقال أصحابنا: عليه الحد إذا علم زوال ملكه وأن البيع لا ينفسخ بالوطء. وهو المنصوص). أما كون الجارية تصير أم ولد المشتري بإحباله؛ فلأنه إحبال صادف محله فوجب أن تصير الموطوءة أم ولد كما لو أحبلها بعد انقضاء الخيار. وأما كون ولده حر ثابت النسب؛ فلأنه من وطء في مملوكة له.

وأما كون البائع إذا وطئ الجارية وقيل البيع ينفسخ بوطئه كالمشتري في صيرورة الجارية أم ولد وكون الولد حر ثابت النسب؛ فلأن البيع إذا انفسخ بالوطء صادف إحبال البائع ملكه والإحبال في الملك يوجب ذلك. وأما كون المهر عليه وكون ولده رقيقاً إذا قيل وطء البائع لا يوجب الفسخ وقيل الملك للمشتري زمن الخيار؛ فلأنه وطء في ملك الغير. وأما كونه لا مهر عليه وكون ولده حراً إذا قيل الملك باق للبائع؛ فلأنه وطء في ملك. وأما الحد فالمنصوص عن أحمد أنه إن كان عالماً بالتحريم فعليه الحد. وهذا يستدعي كون الملك لغيره، وأن (¬1) البيع لا ينفسخ بالتصرف. والحجة في وجوبه (¬2) أنه وطء لم يصادف ملكاً ولا شبهة ملك. وقال ابن عقيل: لا حد عليه بحال. وهو اختيار المصنف. وقال في المغني: وهو الصحيح لأنه وطئه إما أن يصادف ملكاً أو شبهه لأن العلماء اختلفوا في ثبوت ملكه وإباحة وطئه وذلك شبهة. قال: (ومن مات منهما بطل خياره ولم يورث. ويتخرج: أن يورث كالأجل). أما كون من مات من البائع والمشتري يبطل خياره ولم يورث على المذهب؛ فلأنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه فبطل ولم يورث كخيار الرجوع في الهبة. وأما كونه يتخرج أن يورث فلقوله عليه السلام: «من ترك حقاً فلورثته» (¬3)، وقياساً على الأجل في الثمن، وعلى خيار الوصية. ¬

_ (¬1) في هـ: ولأن. (¬2) في هـ: والحجة لوجوبه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك مالاً فلورثته». (2268) 2: 845 كتاب الاستقراض، باب الصلاة على من ترك دَيناً. وأخرجه مسلم في صحيحه (1619) 3: 1237 كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته. مثله.

فصل [في خيار الغبن] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: خيار الغبن. ويثبت في ثلاث صور: إحداها: إذا تلقى الركبان فاشترى منهم وباع لهم فلهم الخيار إذا هبطوا السوق وعلموا أنهم قد غبنوا غبناً يخرج عن العادة). أما كون الثالث خيار الغبن؛ فلأنه يلي الثاني. وأما كون الركبان لهم الخيار إذا تُلُقّوا واشتريَ منهم أو بيع لهم فغبنوا؛ فلما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَلَقّوا الجلب فمن تلقاه فاشتريَ منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار» (¬1) رواه مسلم. وثبوت الخيار مشعر بأن البيع من الركبان والشراء لهم صحيح. وفي صحة ذلك روايتان: إحداهما: أنه صحيح لأن النهي لا لمعنى في البيع بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن استدراكه بالخيار أشبه بيع المصرّاة. والرواية الثانية: أنه باطل لأنه منهي عنه أشبه بيع الحاضر للبادي. والأولى أصح لما تقدم. والفرق بين ما ذكر وبين بيع الحاضر للبادي أن بيع الحاضر لا يمكن استدراكه بالخيار لأن الضرر ليس عليه إنما هو على المسلمين بخلاف تلقي الركبان فإن الضرر عليهم، واستدراك ذلك حاصل بثبوت الخيار لهم فلا حاجة إلى إبطال البيع والشراء. وأما ما يشترط لثبوت الخيار فأمران: أحدهما: الغبن؛ لأنه إنما ثبت للخديعة ودفع الضرر عن البائع ولا ضرر مع عدم الغبن. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1519) 3: 1157 كتاب البيوع، باب تحريم تلقي الجلب.

فإن قيل: الحديث مطلق؟ قيل: يجب حمله على ذلك للعلم بمعناه. فإن قيل: لم قلت إن الحديث معناه ذلك؟ قيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل لهم الخيار إذا هبطوا السوق فُهم منه إرادة الغبن لأنه لولا ذلك لجعل لهم الخيار من حين البيع. والثاني: تقدير الغبن بما يخرج عن العادة لأن الشرع لم يرد بتحديد ذلك فرجع فيه إلى ذلك كالحِرْز. وقال أبو بكر في تنبيهه وابن أبي موسى في إرشاده: ذلك مقدر بالثلث لأن الثلث كثير بدليل قوله عليه السلام: «والثلث كثير» (¬1). وقيل: هو مقدر بالسدس لأن الخيار لو ثبت بأقل من ذلك لأدى إلى بطلان كثير من العقود. قال: (والثانية في النجش وهو: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليَغُر المشتري فله الخيار إذا غبن). أما قول المصنف وهو أن يزيد في السلعة ... إلى المشتري؛ فبيان لمعنى النجش. وزاد فيه غيره (¬2): أن يكون الذي زاد معروفاً بالحِذْق. ولا بد منه لأن التغرير لا يحصل للمشتري إلا بذلك. ويحتمل أن المصنف رحمه الله إنما ترك ذلك هنا لأن قوله ليغر المشتري مشعر به. وأما كون المشتري يثبت له الخيار إذا غبن في البيع المذكور؛ فلأنه مغبون فوجب أن يثبت له الخيار كالركبان إذا تُلُقّوا فاشتريَ منهم وغبنوا. وثبوت الخيار مشعر بصحة البيع. وفيه أيضا روايتان: إحداهما: أنه صحيح؛ لأنه ثبت فيه الخيار بالقياس على الركبان. فكذلك الصحة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4147) 4: 1600 كتاب المغازي، باب حجة الوداع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1628) 3: 1252 كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث. (¬2) في هـ: غير.

وثانيهما: أنه باطل؛ لما روى ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النّجْش» (¬1). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَنَاجَشُوا» (¬2) متفق عليهما. ولأن في ذلك تغريراً بالمشتري وخديعة له فدخل في المنهي عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخديعة في النار» (¬3). وإذا كان منهياً عنه كان البيع باطلاً؛ لأن النهي يقتضي الفساد والبطلان. والأول أصح؛ لأن النهي عائد إلى الناجش لا إلى العاقد فلم يؤثر في صحة البيع. فإن قيل: لم يُقَيِّد المصنف رحمه الله الغبن في هذه المسألة بما يخرج عن العادة؟ قيل: قيده في المغني. وإنما تركه هنا؛ لأنه نبّه على ذكره في المسألة قبلها. قال: (الثالثة: المسترسل إذا غبن الغبن المذكور. وعنه: أن النجش وتلقي الركبان باطلان). أما كون المسترسل يثبت له الخيار إذا غبن بما تقدم ذكره في الصورتين المتقدم ذكرهما؛ فلأنه غبن حصل بجهله بالمبيع فأثبت الخيار كالغبن في تلقي الركبان. فإن قيل: ما المراد بالمسترسل المذكور؟ قيل (¬4): الذي لا معرفة له بقيم السلع والأسعار، ولا يحصل له المعرفة بذلك بالتثبت. فلو كان عالماً بالغبن أو جاهلاً لكن لو توقف لعَرَف فغبن فلا خيار له: أما العالم؛ فلأنه رضي بالغبن. وأما المستعجل؛ فلأن الغبن حصل بتفريطه وتركه التثبت فكان كالراضي بالغبن. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2035) 2: 753 كتاب البيوع، باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1516) 3: 1156 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5719) 5: 2253 كتاب الأدب، باب {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (1413) 2: 1033 كتاب النكاح، باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه ... (¬3) ذكره البخاري تعليقاً في صحيحه 2: 753 كتاب البيوع، باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع. (¬4) ساقط من هـ.

وأما كون بيع النجش وتلقي الركبان باطلين على روايةٍ فلما تقدم ذكره في الصورة الأولة والثانية.

فصل [في خيار التدليس] قال المصنف رحمه الله: (الرابع: خيار التدليس بما يزيد به الثمن؛ كتصرية اللبن في الضرع، وتحمير وجه الجارية، وتسويد شعرها، وتجعيده، وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها فهذا يثبت للمشتري خيار الرد مع المصراة عوض اللبن صاعاً من تمر فإن لم يجد التمر فقيمته في موضعه سواء كانت ناقة أو بقرة أو شاة). أما كون الرابع خيار التدليس؛ فلأنه يلي الثالث. وأما قول المصنف رحمه الله: كتصرية اللبن في الضرع ... إلى قوله: عند عرضها؛ فتعداد لصور التدليس وبيان لها. وأما كون التدليس يُثبت للمشتري خيار الرد: أما التصرية؛ فلما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعدُ فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعاً من تمر» (¬1) متفق عليه. ولأنه تدليس غر المشتري فيه بالتصرية فكان له الخيار كبيع النجش. وأما باقي الصور التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ فلأنه في معناها لأنه تدليس يختلف الثمن باختلافه أشبه التصرية. وأما معنى التصرية فهو جمع اللبن في الضرع. قال البخاري: أصل التصرية حبس الماء. يقال: صرى الماء في الحوض وصرى الطعام في فيه وصَرَى الماء في ظهره إذا ترك الجماع. وأنشد أبو عبيدة: رأيت غلاماً قد صَرَى في فِقْرَتِهْ ... ماءَ الشباب عُنْفُوانَ سَنْبِتِهْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2041) 2: 755 كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يُحفل الإبل والبقر والغنم وكل مُحفلةٍ. وأخرجه مسلم في صحيحه (1515) 3: 1155 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه ...

وأما كون المشتري يرد مع المُصَرّاةِ عوض اللبن صاعاً من تمر؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعاً من تمر» (¬1). وفي لفظ للبخاري: «وإن سَخِطَهَا ففي حَلْبَتِهَا صاعٌ من تمر» (¬2). وأما كونه يرد قيمة التمر إذا لم يجده؛ فلأنه عجز عن عين الواجب فوجب الرجوع إلى قيمته أشبه ما لو أتلف ذلك على آدمي. وأما كون قيمة التمر في موضع العقد؛ فلأن القيمة بدل عن التمر فكان موضعه موضعه. وأما كون التصرية تُثبت خيار الرد سواء كانت المصراة ناقة أو بقرة أو شاة فلعموم قوله عليه السلام: «من اشترى مُصَرَّاةً فهو بالخيار» (¬3) رواه البخاري. وفي حديث ابن عمر: «من ابتاع مُحَفّلَةً» (¬4). ولم يفصل. ولأن الإبل والغنم منصوص عليهما بقوله عليه السلام: «لا تصروا الإبل والغنم» (¬5) فثبت فيهما بالتصريح وفي البقر بالتنبيه لأن لبن البقر أغزر وأكثر. قال: (فإن كان اللبن بحاله لم يتغير رده وأجزأه. ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر). أما كون المشتري يرد اللبن غير المتغير ويجزئه على المذهب؛ فلأن التمر إنما وجب عن اللبن فإذا رد الأصل وجب أن يجزئ كسائر الأصول مع أبدالها. وأما كونه يحتمل أن لا يجزئه إلا التمر؛ فلأن كون اللبن في الضرع أحفظ له. ولأن إطلاق الحديث يدل عليه. وأما قول المصنف رحمه الله: لم يتغير فظاهره أن اللبن إذا تغير لا يجزئه رده وجهاً واحداً لأنه جعل عدم التغيير شرطاً في الإجزاء. وظاهر قول القاضي أن الخلاف ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2044) 2: 756 كتاب البيوع، باب إن شاء رد المُصَراة وفي حَلبتها صاع من تمر. (¬3) أخرجه البخاري في الموضع السابق. ولفظه: «من اشترى غنماً مصراة ... ». وأخرجه مسلم في صحيحه (1524) 3: 1158 كتاب البيوع، باب حكم بيع المصراة. واللفظ له. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3446) 3: 271 كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة فكرهها. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

موجود مع التغير وعدمه لأنه علل احتمال الإجزاء بأن النقص حصل باستعمال (¬1) المبيع. وعلل احتمال عدم الإجزاء بأن اللبن نقص في يده بالحموضة فهو كما لو أتلفه. وصرح المصنف في الكافي بالخلاف مع التغير ونسب لزوم القبول إلى القاضي. قال: (ومتى علم التصرية فله الرد. وقال القاضي: ليس له ردها إلا بعد ثلاث). أما كون المشتري له الرد بمجرد العلم على المذهب؛ فلأنه علم سبب الرد فكان له حينئذ أشبه ما لو علم بالعيب. وأما كونه ليس له ذلك قبل مضي ثلاث على قول القاضي؛ فلأن أبا هريرة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اشترى مُصَرّاةً فهو بالخيار ثلاثة (¬2) أيام» (¬3) رواه مسلم. وجه الحجة: أن الشرع قدر الثلاث لمعرفة التصرية لأن التصرية لا تعرف إلا بعد مضيها لأنه يجوز أن يختلف لبنها لتغير المكان واختلاف العلف (¬4) فإذا مضت الثلاثة استبان ذلك فوجب أن يثبت له الخيار حينئذ ولا يثبت قبله. وقال المصنف رحمه الله في المغني: ظاهر قول ابن أبي موسى أنه إذا علم التصرية ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة إلى تمامها وهو ظاهر الحديث. قال: (وإن صار لبنها عادة لم يكن له الرد في قياس قوله: إذا اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج لم يملك الرد). أما كون المشتري ليس له الرد إذا صار لبن المصراة عادة؛ فلأن الخيار جُعل لدفع الضرر بالعيب وقد زال الضرر فامتنع ثبوت الرد؛ لأن الحكم يزول بزوال علته. وأما قول المصنف رحمه الله: في قياس قوله إذا اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج؛ فتنبيه على أمرين: أحدهما: أن الحكم في المصراة مأخوذ من المسألة المذكورة لأنها منصوص عليها والمصراة في معناها. ¬

_ (¬1) في و: باستعلام. (¬2) في هـ: ثلاث. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) في هـ: العلم.

وثانيهما: أن الأمة إذا بيعت فبانت مزوجة فطلقها الزوج لا رد لمشتريها. وقد تقدم علة ذلك. قال: (وإن كانت التصرية في غير بهيمة الأنعام فلا رد له في أحد الوجهين. وفي الآخر: له الرد، ولا يلزمه بدل اللبن). أما كون مشتري المصراة من غير بهيمة الأنعام كالأمة والأتان لا رد له في وجهٍ؛ فلأن لبن ذلك لا يعتاض عنه في العادة ولا يقصد قصد لبن بهيمة الأنعام. وأما كونه له الرد في وجهٍ فلعموم قوله عليه السلام: «من اشترى مُصَرَّاةً» (¬1) و «من اشترى مُحَفّلَةً» (¬2). ولأن الثمن يختلف بذلك لأن لبن الأمة يراد للارتضاع ويرغب فيها ظئراً ويحسن ثديها ولذلك لو اشترط كثرة لبنها فبان بخلافه ملك الفسخ ولبن الأتان يراد لولدها. وأما كونه لا يلزمه بدل اللبن على كل حال؛ فلأن ذلك لا يباع عادة ولا يعاوض عنه. قال: (ولا يحل للبائع تدليس سلعته ولا كتمان عيبها فإن فعل فالبيع صحيح. وقال أبو بكر: إن دلس العيب فالبيع باطل، قيل له: فما تقول في التصرية؟ فلم يذكر جواباً). أما كون البائع لا يحل له التدليس؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غشنا فليس منا» (¬3). و«نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التصرية» (¬4) لكونها تدليساً وذلك يقتضي عدم حل كل تدليس. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2056) 2: 759 كتاب البيوع، باب النهي عن تلقي الركبان. عن ابن مسعود. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (101) 1: 99 كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا». وأخرجه الترمذي في جامعه (1315) 3: 606 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2225) 2: 749 كتاب التجارات، باب النهي عن الغش. (¬4) سبق ذكره أحاديث النهي عن التصرية قبل قليل.

وأما كونه لا يحل له كتمان العيب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمُ أخو المسلم. لا يَحلُ لمسلمٍ باعَ من أخيه بَيعاً إلا بيّنهُ له» (¬1). وقال: «من بَاع بيعاً لم يُبيّنه، لم يَزل في مَقْتٍ من الله، ولم تزل الملائكةُ تَلعنه» (¬2) رواهما ابن ماجة. وقال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيّنا بورك لهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما» (¬3) متفق عليه. وأما كون البيع مع ذلك صحيحاً على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح بيع المصراة مع أنه منهي عنه وأثبت فيه الخيار (¬4). ولأن العيب نقص في حق المشتري فلم يمنع صحة البيع كالتصرية. وأما كونه باطلاً إذا دلس العيب على قول أبي بكر؛ فلأنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد والبطلان. والأول أصح؛ لحديث المصراة. وأشار المصنف إلى انقطاع حجة أبي بكر بقوله: قيل له: ما تقول في التصرية؟ فلم يذكر جواباً لأن التصرية إلزام صحيح ليس عنه جواب. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2246) 2: 755 كتاب التجارات، باب من باع عيباً فليبينه. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2247) الموضع السابق. قال في الزوائد: في إسناده بقية بن الوليد وهو مدلس وشيخه ضعيف. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1973) 2: 732 كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا. وأخرجه مسلم في صحيحه (1532) 3: 1164 كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان. (¬4) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في خيار العيب] قال المصنف رحمه الله: (الخامس: خيار العيب. وهو: النقص كالمرض وذهاب جارحة أو سن أو زيادتها ونحو ذلك. وعيوب الرقيق من فعله كالزنا والسرق والإباق والبول في الفراش إذا كان من مميز، فمن اشترى معيباً لم يعلم عيبه فله الخيار بين الرد والإمساك مع الأرش وهو قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن). أما كون الخامس خيار العيب؛ فلأنه يلي الرابع. وأما كون العيب يثبت للمشتري خيار الرد؛ فلأن مطلق العقد يقتضي السلامة بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه اشترى مملوكاً فكتب: هذا ما اشترى محمد بن عبدالله من العَدّاءِ بن خالد، اشترى منه عبداً أو أمة لا دَاءَ به ولا غَائِلَةَ بيع المسلمِ للمسلم» (¬1). وإذا كان مقتضى العقد السلامة وجب ثبوت الخيار بظهور المبيع معيباً استدراكاً لما فاته وإزالة لما يلحقه من ضرر بقائه في ملكه ناقصاً عن حقه. وأما كون العيب المثبت للخيار النقص؛ فلأنه يقلل الثمن في عادات التجار لأن المبيع إنما صار محلاً للعقد باعتبار صفة المالية فوجب اعتبار النقص لأنه ينقص به الثمن في عادة أهل ذلك. وأما قول المصنف رحمه الله: كالمرض ... إلى قوله: ونحو ذلك فتعداد لأشياء ينقص بها الثمن ليست من فعل العبد. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1216) 3: 520 كتاب البيوع، باب: ما جاء في كتابة الشروط. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2251) كتاب التجارات، باب: شراء الرقيق. وذكره البخاري معلقاً 2: 731 في كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا.

وأما قوله: كالزنا والسرق والإباق والبول في الفراش فتعداد لأشياء ينقص بها الثمن وهي من فعل العبد. وكل ذلك يثبت به الخيار لأن الزنا ينقص قيمة العبد ويعرضه لإقامة الحد ويقلل الرغبة فيه وربما أدى ذلك إلى تلفه، والسرق والإباق والبول في الفراش عيب في الكبير وهو الذي جاوز العشر. وهو المراد بقول المصنف رحمه الله: إذا كان من مميز وليس ذلك بعيب في الصغير لأن السرق والإباق في الصغير لنقصان عقله والبول لضعف بُنْيَتِه، وفيما بعد الكبر لخبث في طبيعته والبول لداء في باطنه. وأما كون من اشترى معيباً لم يعلم عيبه له الخيار بين رده وبين إمساكه مع الأرش: أما الرد؛ فلأنه ظهر على عيب لم يعلم به فاستحق به الأرش كما لو تعيب عنده. ولأنه فاته جزء من المبيع فكان له المطالبة بعوضه كما لو أتلفه بعد البيع. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم خيّر في المصراة بين الرد وبين الإمساك بلا أرش فيجب أن يكون هنا كذلك. قيل: المصراة ليس فيها عيب وإنما ملك الخيار بالتدليس لا لفوات جزء فلذلك لا يستحق أرشاً. ولأن إلحاق المعيب بالمصراة لا يصح لأن المصراة لا يرجع مشتريها بالأرش إذا تعذر الرد بخلاف المعيب فإنه يرجع بالأرش عند تعذر الرد وفاقاً من المخالف هنا. وفي تقييد المصنف رحمه الله الخيار بعدم العلم إشعار بأنه إذا كان عالماً لا خيار له وهو صحيح لأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له خيار كما لو صرح بالرضى به (¬1). وأما كون الأرش قسطُ ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن؛ فلأنه لا يؤدي إلى محذور [بخلاف جعله قسط قيمته لأنه يؤدي إلى محذور] (¬2) وهو اجتماع الثمن والمثمن للمشتري في صورة هي: ما لو كان الثمن نصف قيمته وكان الأرش نصف قيمته لأنه إذا اشترى ما قيمته عشرون بعشرة فوجد به عيباً أرشه عشرة فإذا أخذها اجتمع له الثمن والمثمن. فإن قيل: ما مثال قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن؟ ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) مثل السابق.

قيل: مثاله أن يكون قيمته صحيحاً عشرة ومعيباً خمسة فالمعيب نقص خمسة ونسبتها إلى قيمته صحيحاً النصف فيرجع (¬1) بنصف الثمن وهو المعني بقول المصنف رحمه الله: وهو قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن. قال: (وما كسب فهو للمشتري وكذلك نماؤه المنفصل. وعنه: لا يرده إلا مع نمائه). أما كون كسب المبيع المعيب المردود لعيبه للمشتري؛ فلأن عائشة روت «أن رجلاً اشترى عبداً فاستغلّه ما شاء ثم وجد به عيباً فردَّه. فقال: يا رسول الله! إنه استَغَلّ غلامي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخراج بالضمان» (¬2) رواه أبو داود وابن ماجة. وأما كون المنفصل كالولد والثمرة المجذوذة واللبن المحلوب كذلك على المذهب؛ فلأنه نماءٌ حدث في ملك المشتري فلم يمنع الرد كالكسب، وكما لو كان في يد البائع. وأما كونه لا يرد الأصل إلا معه على روايةٍ؛ فلأن النماء موجَب العقد فلا يُرْفَع العقد مع بقاء موجبه. وهذا الخلاف هو المعنيّ بقول المصنف رحمه الله: وكذلك نماؤه المنفصل. وعنه: لا يرده إلا مع نمائه. ولا تعود هذه الرواية إلى الكسب لأنه ذكر في المغني أن الكسب زيادة من غير العين. ثم قال: فكل ذلك للمشتري في مقابلة ضمانه. ثم قال: ولا نعلم في هذا خلافاً. وحكى في الكافي في الزيادة من غير العين كالكسب ونحوه روايتين وفيه نظر لما ذكر عن المصنف في المغني. وحكى صاحب النهاية فيها: الكسب مما أجمع عليه. قال: (ووطء الثيب لا يمنع الرد. وعنه: يمنع). أما كون وطء الثيب لا يمنع الرد على روايةٍ؛ فلأنه قول زيد بن ثابت. وأما كونه يمنعه على روايةٍ؛ فلأنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) في هـ: ويرجع. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3510) 3: 284 كتاب البيوع، باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم وجد به عيباً. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2243) 2: 754 كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان.

ولأن الوطء يجري مجرى الجناية لأنه لا يخلو في ملك الغير من عقوبة أو مال فوجب أن يمنع الرد كما لو كانت بكراً. والأولى أصح لما ذكر. ولأنه معنى لا ينقص عينها ولا قيمتها ولا يتضمن الرضا بالعيب فلم يمنع الرد كالاستخدام. قال: (وإن وطئ البكر أو تعيبت عنده فله الأرش. وعنه: أنه مخير بين الأرش وبين رده وأرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن. قال الخرقي: إلا أن يكون البائع دلس العيب فيلزمه رد الثمن كاملاً). أما كون المشتري له الأرش إذا وطئ البكر أو تعيب المبيع عنده ثم ظهر على عيب؛ فلأن العقد اقتضى السلامة فقابل كل جزء من الثمن كل جزء من المبيع فإذا فات منه شيء وجب الرجوع فيما قابله من الثمن. وفي اقتصار المصنف على الأرش إشعار بأن وطء البكر وحدوث العيب يمنع الرد وهو صحيح على المذهب. أما وطء البكر؛ فلأنه إذهاب لجزء منها أشبه ما لو قطع يدها. وأما في حدوث العيب في ملكه كقطع يدها وما أشبه ذلك؛ فلأن الرد بالعيب إنما شرع لإزالة الضرر وفي رد المبيع المعيب عند المشتري ضرر على البائع والضرر لا يزال بالضرر. ولأن ضرر المشتري ينجبر بالأرش فتعين لكونه طريقاً صالحاً لإزالة ضرر سالماً عن معارضة ضرر البائع. وأما كونه مخيراً بين أخذ الأرش وبين رد المبيع وأرش العيب الحادث على روايةٍ؛ فلأنه عيب حدث عند أحد المتبايعين فلم يمنع الخيار المذكور كالعيب الحادث عند البائع قبل القبض. ولأن العيبين قد وجدا والبائع قد دلس والمشتري لم يدلس فكان اعتبار خيانة المدلس أولى.

ولأن الرد كان جائزاً قبل حدوث العيب فلا يزول عنه إلا بدليل وضرر البائع ينجبر برد أرش العيب الحادث عند المشتري عليه. فعلى هذا إن أمسك المبيع وأخذ أرش العيب الموجود قبل البيع فلا إشكال، وإن رد المبيع نظر في البائع فإن لم يكن دلس العيب وجب على المشتري رد أرش العيب الحادث عنده؛ لأن التلف حصل في يده فكان ضمانه عليه. ولأن الأرش الحادث في ملك البائع عليه. فكذلك الأرش الحادث في ملك المشتري وإذا وجب على المشتري ذلك سقط من الثمن ما قابله إن كان من جنسه وأخذ المشتري باقي الثمن؛ لأنه عوض فات معوضه. وإن كان البائع دلس العيب لم يجب على المشتري رد أرش العيب الحادث عنده لأن البائع غرّه فكان ما يستحقه عليه من أرش العيب الحادث عليه كما لو زوجه أمة على أنها حرة. ويأخذ المشتري من البائع الثمن كاملاً لفوات معوضه السالم عن استحقاق أرش. قال: (قال القاضي: ولو تلف المبيع عنده ثم علم أن البائع دلس العيب رجع بالثمن كله. نص عليه في روايةِ حنبل. ويحتمل أن يلزمه عوض العين إذا تلفت وأرش البكر إذا وطئها لقوله عليه السلام: «الخراج بالضمان» (¬1)، وكما يجب عوض لبن المصراة على المشتري). أما كون المشتري يرجع بالثمن كله من غير أن يضمن العين على منصوص الإمام أحمد فلما ذكر في أرش العيب الحادث عند المشتري إذا دلسه البائع. وأما كونه يحتمل أن يلزمه عوض العين وأرش البكر؛ فلأن التلف حصل في يده. وقد أيد المصنف هذا الاحتمال بأن قال في المغني: مذهب أكثر أهل العلم فيما أرى أن المبيع بعد قبضه من ضمان المشتري سواء دلس البائع العيب أو لم يدلسه وهو معنى قوله عليه السلام: «الخراج بالضمان» (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) مثل السابق.

ولأن المصراة أصل الرد بالعيب، والتصرية تدليس ومع ذلك أوجب على المشتري عوض اللبن. ولأنه مبيع تعيب في يد المشتري بعد تمام ملكه عليه فكان من ضمانه كما لو لم يدلسه. قال: (وإن أعتق العبد أو تلف المبيع رجع بأرشه، وكذلك إن باعه غير عالم بعيبه نص عليه، وكذلك إن وهبه. وإن فعله عالماً بعيبه فلا شيء له، وذكر أبو الخطاب رواية أخرى فيمن باعه ليس له شيء إلا أن يرد عليه المبيع فيكون له حينئذ الرد أو الأرش). أما كون المشتري يرجع بالأرش إذا أعتق العبد؛ فلأن الرد تعذر من جهته أشبه ما لو أمسك المبيع. ولأنه كان مخيراً بين الرد والأرش فإذا تعذر الرد تعين الأرش لأن التخيير بين سببين يقتضي تعين أحدهما عند تعذر الآخر. وأما كونه يرجع بالأرش إذا تلف المبيع فلتعينه طريقاً إلى استدراك ظلامته. وأما كونه إذا باعه غير عالم بعيبه كذلك على المذهب؛ فلأن الرد متعذر أشبه ما لو أعتقه أو تلف في يده. وأما كونه لا أرش له على روايةٍ؛ فلأنه استدرك ظلامته بالبيع (¬1) لكن إن رد عليه كان له حينئذ الخيرة بين الرد والأرش لأن الرد إنما امتنع للتعذر أو استدراك الظلامة فإذا عاد ملكه زالا فيكون له الخيرة كما لو لم يبعه. وأما كونه إذا وهبه كذلك؛ فلأن الهبة كالبيع المذكور معنى فكذا يجب أن تكون حكماً (¬2). وأما كونه إذا باعه عالماً بالعيب لا شيء له؛ فلأنه تصرف في المبيع بعد علمه بعيبه أشبه ما لو صرح بالرضا بالعيب. ¬

_ (¬1) في هـ: استدارك ظلامته بالمبيع. (¬2) في هـ: المذكور ومعنى فله الخيار يكون حكماً.

وقال المصنف في المغني: قياس المذهب أنه يستحق الأرش لأن له إمساك المعيب والمطالبة بالأرش، والتصرف هنا مُنَزّل منزلة الإمساك مع العلم. قال: (وإن باع بعضه فله أرش الباقي، وفي أرش المبيع الروايتان. وقال الخرقي: له رد ملكه منه بقسطه من الثمن أو أرش العيب بقدر ملكه فيه). أما كون البائع له أرش باقي المبيع؛ فلأنه باق (¬1) في يده فات منه جزء اقتضى العقد تسليمه فكان له بدله أشبه ما لو كان الكل. وأما كونه له أرش المبيع ففيه الروايتان المذكورتان فيما إذا باعه كله. وقد تقدم ذكر ذلك تفصيلاً ودليلاً. ومفهوم كلام المصنف رحمه الله أنه ليس له رد الباقي لأنه اقتصر على الأرش. ولم تثبت له الخيرة بين الأرش والرد لما تقدم، ويؤيده قوله بعد: وقال الخرقي: له رد ملكه لأنه مشعر بأنه خلاف ما تقدم. وقال القاضي: رد الباقي مُخَرّج على تفريق الصفقة. والمنصوص عن الإمام أحمد جواز الرد كما قال الخرقي لأنه مبيع ظهر على عيبه وأمكنه رده فكان له ذلك كما لو كان جميعه باقياً. وقال المصنف رحمه الله في المغني: الذي يقتضيه النظر أن المبيع إن كان ينقص بالتفريق كمصراعي باب وما أشبهه لا يملك رده لما فيه من الضرر على البائع من نقصان القيمة وسوء المشاركة، وإن لم يكن كذلك يُخرّج على تفريق الصفقة. قال: (وإن صبغه أو نسجه فله الأرش. وعنه: له الرد ويكون شريكاً بصبغه ونسجه). أما كون من ذكر له الأرش فلما تقدم غير مرة. ومفهومه أنه لا رد له وذلك صحيح على المذهب لأنه شغل المبيع بملكه فلم يكن له رده لما فيه من سوء المشاركة. وأما كونه له الرد ويكون شريكاً بقيمة الصبغ والنسج على روايةٍ فقياس على الغاصب. ¬

_ (¬1) في هـ: باقي.

والأول المذهب لأن استدراك ظلامة المشتري ممكنة على وجهٍ لا يتضرر البائع فتعين لما فيه من الجمع بين الحقين. قال: (وإن اشترى ما مأكوله في جوفه فكسره فوجده فاسداً فإن لم يكن له مكسوراً قيمة كبيض الدجاج رجع بالثمن كله وإن كان له مكسوراً قيمة كبيض النعام وجوز الهند فله أرشه. وعنه: يتخير بين أرشه وبين رده ورد ما نقصه وأخذ الثمن. وعنه: ليس له رد ولا أرش في ذلك كله). أما كون من اشترى ما مأكوله في جوفه وكسره فوجده فاسداً ولم يكن له مكسوراً قيمة كبيض الدجاج وما أشبهه يرجع بالثمن كله؛ فلأنه تبين أنه لا ينفع وذلك يوجب عدم صحة بيعه لأن بيع ما لا نفع فيه لا يصح وما لا يصح بيعه يرجع مشتريه بثمنه كله. وأما كونه إذا كان له مكسوراً قيمة كبيض النعام وجوز الهند وما أشبههما له أرشه على المذهب؛ فلأنه تعذر رده من أجل كسره وإذا تعذر رده تعين الأرش. وأما كونه يتخير بين أرشه وبين رده ورد ما نقصه وأخذ الثمن على روايةٍ فكما لو تعيب في يده على رواية. وقال القاضي: إن كسره كسراً لا يمكن استعلام المبيع إلا به فله رده استدراكاً لظلامته ولا أرش عليه لأن الكسر حصل ضرورة الاستعلام، وإن زاد الكسر على ذلك خرج على الروايتين فيما إذا تعيب في يده. وأما كونه ليس له رد ولا أرش في ذلك كله على روايةٍ؛ فلأن البائع لم يوجد منه تدليس ولا تفريط لعدم معرفته بعيبه. قال: (ومن علم العيب فأخر الرد لم يبطل خياره إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضا من التصرف ونحوه. وعنه: أنه على الفور. ولا يفتقر الرد إلى رضا ولا قضاء ولا حضور صاحبه). أما كون من علم العيب لا يبطل بتأخير الرد مع عدم وجدان ما يدل على الرضا بالمبيع معيباً على المذهب؛ فلأنه خيار لدفع الضرر المتحقق فلم يبطل بالتأخير الخالي عن الرضا به كجناية القصاص.

وأما كونه يبطل بتأخير الرد مع وجدان ما يدل على رضا المشتري بالمبيع معيباً مثل إن استغل المبيع أو عرضه على البيع أو تصرف فيه مع علمه بعيبه لأن دليل الرضا منزل منزلة التصريح به. وأما كونه على الفور على روايةٍ؛ فلأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال أشبه خيار الشفعة. وأما كون الرد المذكور لا يفتقر إلى رضا ولا قضاء ولا حضور صاحبه؛ فلأنه رفع عقد جعل إليه فلم يعتبر ذلك فيه كالطلاق. قال: (وإن اشترى اثنان شيئاً وشرطا الخيار أو وجداه معيباً فرضي أحدهما فللآخر الفسخ في نصيبه. وعنه: ليس له ذلك). أما كون من لم يرض له الفسخ في نصيبه على المذهب؛ فلأن نصيبه جميع ما ملكه بالعقد فجاز له رده بالعيب تارة والشرط تارة كجميع المبيع. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأن المبيع خرج من ملك البائع دفعة واحدة فإذا رد أحدهما نصيبه رده مشتركاً ناقصاً فلم يكن له ذلك كما لو تعيب عنده. قال: (وإن اشترى واحد معيبين صفقة واحدة فليس له إلا ردهما أو إمساكهما، فإن تلف أحدهما فله رد الباقي بقسطه، والقول في قيمة التالف قوله مع يمينه). أما كون الواحد إذا اشترى ما ذكر ليس له إلا ردهما أو إمساكهما؛ فلأن في رد أحدهما تفريقاً للصفقة على البائع مع إمكان أن لا يفرقها أشبه رد بعض المعيب الواحد. قال المصنف في المغني: القياس أنها كالمسألة قبلها. يعني ما إذا اشترى شيئين فوجد بأحدهما عيباً وفيها روايتان مضى ذكرهما وتعليلهما. فعلى هذا يخرج في المسألة المذكورة هنا رواية أن للمشتري رد أحد المعيبين. وعلل المصنف في المغني فقال: إذ لو كان إمساك أحدهما مانعاً من الرد لمنع من الرد إذا كان صحيحاً. وأما كونه له رد الباقي بقسطه إذا تلف أحدهما؛ فلأن التالف لا يمكنه رده بخلاف ما إذا كان موجوداً.

وحكى المصنف في المغني: أن الرد هنا على الروايتين في رد أحدهما. فعلى هذا إن قلنا ليس له رد أحدهما فليس له رد الباقي إذا تلف أحدهما. وأما كون القول في قيمة التالف قول المشتري مع يمينه؛ فلأنه بمنزلة الغارم لأن قيمة التالف إذا زادت زاد قدر ما يغرمه فهو بمنزلة المستعير والغاصب. قال: (وإن كان أحدهما معيباً فله رده بقسطه. وعنه: لا يجوز له إلا ردهما أو إمساكهما، وإن كان المبيع مما ينقصه التفريق كمصراعي باب وزوجَيْ خف أو جارية وولدها فليس له رد أحدهما). أما كون المشتري لما ذُكر له رد المعيب وحده بقسطه من الثمن إذا لم يكن مما ينقصه التفريق ولم تكن جارية وولدها على المذهب؛ فلأنه رد للمبيع المعيب على وجهٍ لا ضرر فيه على البائع فجاز كما لو رد الجميع. وأما كونه لا يجوز له إلا ردهما أو إمساكهما على روايةٍ؛ فلأن رد المعيب وحده تبعيض للصفقة على المشتري فلم يكن له ذلك كما لو كان المبيع مما ينقص بالتفريق. وأما كونه ليس له رد أحدهما إذا كان مما ينقص بالتفريق كمصراعي باب وزوجي خُفّ؛ فلأن الرد يتضمن ضرر البائع، والخيار إنما ثبت لإزالة الضرر ولا يزال الضرر بالضرر. وأما كونه ليس له ذلك إذا كان جارية وولدها؛ فلأن في رد أحدهما تفريقاً بينهما وذلك لا يجوز لما تقدم في موضعه. ولا بد أن يلحظ في المنع من الجارية وولدها ما في معناهما ممن يحرم التفريق بينهما كغيرهما من كل ذي رحم محرم لأن الكل سواء معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وكذلك زاد بعض من أذن له المصنف رحمه الله في الإصلاح أو ممن يحرم التفريق بينهما.

قال: (وإن اختلفا في العيب هل كان عند البائع أو حدث عند المشتري ففي أيهما يقبل قوله؟ روايتان. إلا أن لا يحتمل إلا قول أحدهما فالقول قوله بغير يمين). أما كون القول قول المشتري في العيب الذي يحتمل حدوثه قبل الشراء وبعده كالخرق والرفو (¬1) في الثوب وما أشبه ذلك في روايةٍ؛ فلأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت واستحقاق القدر الذي قابل العيب من الثمن فكان القول قول من ينفيه كما لو اختلفا في قبض الجميع. وأما كون القول قول البائع في ذلك في روايةٍ؛ فلأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد. ولأن المشتري يدعي عليه فسخ العقد وهو ينكره. وأما كون القول قول من لا يحتمل إلا قوله؛ فلأن غيره كاذب في قوله. فإن قيل: ما صورة ذلك؟ قيل: ذلك على ضربين: أحدهما: أن لا يحتمل إلا قول المشتري مثل: أن يكون مما لا يحتمل حدوثه عند المشتري كالأصبع الزائدة والجراحة المندملة التي لا يحتمل حدوث مثلها. وثانيهما: أن لا يحتمل إلا قول البائع مثل: أن يكون مما لا يحتمل حدوثه قبل البيع كالجرح الطري الذي لا يحتمل كونه قديماً. والقول في الأول قول المشتري وفي الثاني قول البائع لما تقدم. وأما قول المصنف رحمه الله: بغير يمين فإشارة إلى أن اليمين لا تجب في الموضعين المذكورين في حق مَن القول قوله لأن اليمين إنما شرع في موضع يحتمل صدق صاحبه. وفي قوله: بغير يمين أيضاً إشعار بأن المسألة قبلُ تجب اليمين على من قيل القولُ قولُه لأنه يحتمل صدق صاحبه. وصفة يمين المشتري: أن يحلف بالله أنه اشتراه وبه هذا العيب وأنه ما حدث عنده. ¬

_ (¬1) قال في المصباح: رفوت الثوب رفواً إذا أصلحته. المصباح المنير، مادة رفا.

وصفة يمين البائع على حسب جوابه: إن أجاب: بعته بريئاً من العيوب حلف على ذلك، وإن أجاب: لا يستحق عليّ ما يدعيه من الرد حلف على ذلك. قال: (ومن باع عبداً تلزمه عقوبة من قصاص أو غيره يعلم المشتري ذلك فلا شيء له، وإن علم بعد البيع فله الرد أو الأرش، فإن لم يعلم حتى قتل فله الأرش). أما كون المشتري لا شيء له إذا اشترى عبداً عالماً أنه تلزمه عقوبةٌ من قصاص أو غيره؛ فلأنه إذا اشتراه مع علمه بذلك يكون راضياً بعيبه أشبه ما إذا اشترى المبيع عالماً بعيبه. وأما كونه له الخيرة بين الرد والأرش إذا لم يعلم بذلك إلا بعد البيع؛ فلأن ذلك عيب فملك به الخيرة المذكورة كسائر العيوب. وأما كونه له الأرش إذا لم يعلم حتى قتل؛ فلأن الرد تعذر فتعين الأرش. فإن قيل: الأرش هنا ما هو؟ قيل: قسط ما بين كونه جانياً وبين كونه غير جان من ثمنه. مثاله: أن يقال قيمته وهو غير جان مائة وقيمته وهو جان خمسون فما بينهما خمسون نسبتها إلى القيمة النصف فالأرش إذاً نصف الثمن. فإن قيل: هلا يرجع بالثمن كله لأن قتله بسبب حصل عند البائع فجرى مجرى ما لو أتلفه؟ قيل: التلف حصل في يد المشتري بسبب كان عند البائع فلم يرجع بجميع الثمن كما لو اشتراه فبان مريضاً ثم مات بداءٍ به أو مرتداً فقتل بردته. قال: (وإن كانت الجناية موجبة للمال والسيد معسر قدم حق المجني عليه وللمشتري الخيار، وإن كان السيد موسراً تعلق الأرش بذمته والبيع لازم). أما كون حق المجني عليه يقدم؛ فلأن حق الجناية سابق على حق المشتري فإذا تعذر إمضاؤهما قدم السابق.

وأما كون المشتري له الخيار؛ فلأن تمكن المجني عليه من انتزاعه عيب فيه فملك الخيار به كما لو اشترى شيئاً فبان معيباً. وأما كون الأرش يتعلق بذمة السيد مع يساره؛ فلأنه أزال ملكه من عين تعلق بها حق المجني عليه فلزمه الأرش كما لو قتله. وأما كون البيع مع ذلك لازماً؛ فلأنه لا ضرر على المشتري لتمكن المجني عليه من الرجوع على البائع.

فصل [في خيار التولية] قال المصنف رحمه الله: (السادس: خيار يثبت في التولية والشركة والمرابحة والمواضعة ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال). أما كون الخيار يثبت للمشتري في الصور المذكورة إذا ظهر له ببينة أو أقر أن رأس المال أقل؛ فلأن البائع ظلمه في القدر الذي زاد عليه فوجب أن يثبت له الخيار استدراكاً لظلامته قياساً على ما لو ظهر المبيع معيباً. ولأن المشتري ربما كان له غرض في الشراء على الوجه الذي أوقعه لكونه حالفاً أو وصياً في الشراء على الوصف الذي فعله. وأما كونه لا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال؛ فلأن العقد يعتمد ذلك إذ معنى التولية: البيع برأس المال، والشركة: بيع البعض بحصته من ذلك، والمرابحة: بزيادة على ذلك، والمواضعة: بوضيعة من ذلك فإذا لم يكن رأس المال معلوماً خرجت الصور عن موضوعاتها. فإن قيل: لم خص المشتري بمعرفة رأس المال؟ قيل: لأن الظاهر أن المشتري لا يعرفه بخلاف البائع لا أن ذلك شرط في المشتري دون البائع. فعلى هذا لو كان البائع قد نسي رأس ماله لم يجز بيعه إلا مساومة لأنه لو باع بغير ذلك كان كاذباً لأنه لا بد في جميع الصور أن يقول: رأس ماله كذا فإذا لم يكن عالماً بذلك ولا ظاناً كان كاذباً. قال: (ومعنى التولية: البيع برأس المال؛ فيقول: وليتكه أو بعتكه برأس ماله أو بما اشتريته أو برقمه، والشركة: بيع بعضه بقسطه من الثمن، ويصح بقوله:

شركتك (¬1) في نصفه أو ثلثه، والمرابحة: أن يبيعه بربح فيقول: رأس مالي فيه بعتكه بها وربح عشرة أو على أن أربح في كل عشرة درهماً، والمواضعة أن يقول: بعتكه بها ووضيعة درهم من كل عشرة فيلزم المشتري تسعون درهماً، وإن قال: ووضيعة درهم لكل عشرة لزمه تسعون وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم). أما قول المصنف رحمه الله: ومعنى التولية: البيع برأس المال، والشركة: بيع بعضه بقسطه، والمرابحة: أن يبيعه بربح، والمواضعة أن يقول: بعتكه بها ووضيعة درهم فبيان لمعاني البيوع المذكورة. وفي ذكر ذلك إشارة إلى صحة البيع بذلك كله؛ لأن الثمن معلوم في جميع ذلك فإذا وجد منضماً إلى بقية الشروط وجب الحكم بالصحة عملاً بالعلة المقتضية لها السالمة عن المعارض. وأما قوله عقيب كل تفسير: فيقول، فتنبيه على أن البياعات المذكورة لها ألفاظ ينعقد البيع بها. وأما قوله: وليتكه أو بعتكه فتنبيه على أن التولية لها لفظان: أحدهما: لفظ التولية لأن التولية معناها البيع برأس المال فإذا قال: وليتك هذا الثوب كان بمنزلة ما لو قال: بعتكه برأس ماله. وثانيهما: لفظ البيع. فيصح بقوله: بعتكه برأس ماله، وبقوله: بعتكه بما اشتريته، وبقوله: بعتكه برقمه لأن لفظ البيع صريح في معناه فإذا اتصل به أحد ما ذكر كان بمنزلة قوله: بعتكه بمائة. فإن قيل: قد تقدم أن البيع بالرقم لا يصح فكيف يصح هاهنا؟ قيل: حيث قيل لا يصح يكون الثمن مجهولاً عندهما أو عند أحدهما، وحيث قيل: يصح يكون ذلك معلوماً عندهما. وقد تقدم هنا (¬2) ما يوجب العلم بالثمن وهو قوله: ولا بد من معرفة المشتري رأس المال بخلاف ما تقدم فإنه لم يتقدمه ما يدل على العلم بالثمن ولذلك قال هنا: برأس ماله أو بما اشتريته من غير تعيين لأنه اعتمد على اشتراط معرفة المشتري ذلك بما سبق. ¬

_ (¬1) في و: أشركتك. (¬2) ساقط من هـ.

وأما كون الشركة تصح بقوله: شركتك في نصفه أو ثلثه؛ فلأنه لفظ موضوع للشركة حقيقة فصح به كسائر ألفاظ الحقيقة، وتصح بقوله: بعتك نصفه بنصف رأس ماله وما أشبهه لأنه يفيد المقصود. وأما كون المرابحة تصح بقوله: رأس مالي فيه مائة بعتكه بها وربح عشرة، أو على أن أربح في كل عشرة درهماً؛ فلأن الثمن والربح معلومان. وللمرابحة صورتان: إحداهما: تصح من غير كراهة وهو ما تقدم ذكره لما ذكر. والثانية: تكره. وهي أن يقول: ده يازده أو ده دوازده (¬1) لأن ابن عمر وابن عباس كرهاه (¬2). ولأن الثمن قد لا يعلم في الحال. وأما كون المواضعة تصح بقوله: بعتكه برأس ماله ووضيعة درهم من كل عشرة؛ فلأنه لفظ محصل لمقصود البيع بدون رأس المال. وأما كون المشتري يلزمه في هذه الصورة تسعون؛ فلأن المائة عشر عشرات فإذا أسقط من كل عشرة درهم بقي تسعون. وأما كونه يلزمه (¬3) في قوله: ووضيعة درهم لكل عشرة تسعون درهماً وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم؛ فلأنه لما قال: لكل عشرة درهم وجب أن يكون الدرهم من غير العشرة فكأنه قال: من كل أحد عشر درهماً درهم فيجب أن يسقط من تسعة وتسعين تسعة ومن أحد عشر جزءاً من درهم جزء فيبقى تسعون وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم. ¬

_ (¬1) في هـ: وازده. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (21574) 4: 413 كتاب البيوع، في بيع ده دوازده. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15011) 8: 232 كتاب البيوع، باب بيع ده دوازده. كلاهما عن ابن عباس. وفي (15010) عن ابن عمر ولفظه قال: «بيع ده دوازده رباً». وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 330 كتاب البيوع، باب المرابحة. (¬3) في هـ: ويلزمه.

قال: (ومتى اشتراه بثمن مؤجل، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك للمشتري في تخبيره بالثمن فللمشتري الخيار بين الإمساك والرد). أما كون المشتري له الخيار المذكور فيما إذا كان الشراء بثمن مؤجل ولم يبينه البائع له؛ فلأن الأجل يأخذ قسطاً من الثمن فإذا بان للمشتري ذلك وجب أن يثبت له الخيار استدراكاً لظلامته. وأما كونه له ذلك إذا اشتراه ممن لا تقبل شهادته له؛ فلأنه متهم في حقهم لكونه يحابيهم ويسمح لهم. وأما كونه له ذلك إذا اشتراه حيلة؛ فلأن ذلك تدليس وهو حرام فأثبت الخيار كتدليس العيب. وأما كونه له ذلك إذا باع بعض ما اشتراه؛ فلأن قسمة الثمن على ذلك تخمين، واحتمال الخطأ فيه كثير. وأطلق المصنف رحمه الله ثبوت الخيار هنا في بيع بعض الصفقة، وصرح في المغني بأن البيع إن كان مما ينقسم الثمن عليه بالأجزاء كالمكيل والموزون من صنف واحد جاز بيع بعضه مرابحة لأن ذلك لا يحتاج إلى تخمين بل الثمن مقسوم عليه بالأجزاء وذلك يستدعي عدم ثبوت الخيار لأن جوازه يستدعي نفي الضرر عن المشتري وإلا حرم كالذي لا ينقسم وإذا لم يتضرر فلا خيار وهذا صحيح يجب حمل كلام المصنف هنا عليه. وفي ثبوت الخيار في الصورة المذكورة إشعار بأمرين: أحدهما: أن البائع يجب عليه أن يبين ذلك كله للمشتري لأن كتمانه تدليس وذلك حرام لما تقدم. وثانيهما: أن البيع مع الكتمان صحيح لأن غاية ما تقدم أنه بيع دلس فيه، وذلك لا يمنع الصحة دليله بيع المعيب. ولأن الضرر يمكن استدراكه بثبوت الخيار فلم تدعُ حاجة إلى إبطاله.

قال: (وما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار أو يؤخذ أرشاً لعيب أو جناية عليه يلحق برأس المال ويخبر به، وإن جنى ففداه المشتري أو زيد في الثمن أو حط منه بعد لزومه لم يلحق به). أما كون ما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار يلحق برأس المال ويخبر به؛ فلأن ذلك من الثمن فوجب إلحاقه برأس المال والإخبار به كأصله. وأما كون ما يؤخذ أرشاً لعيب أو جناية عليه تلحق برأس المال ويخبر به؛ فلأنه أُخذ في مقابلة جزء من المبيع. وأما كون ما تُفدى به الجناية لا يلحق برأس المال؛ فلأن ذلك ليس من الثمن ولا يزاد به المبيع. وأما كون ما زيد في الثمن أو حط منه بعد لزوم العقد لا يلحق برأس المال؛ فلأن الزيادة حينئذ بمنزلة الهبة من المشتري والنقصان من البائع لأنه لا يلزم واحداً منهما ذلك فلم يجب إلحاقه به كما لو وهب أحدهما الآخر شيئاً. قال: (وإن اشترى ثوباً بعشرة وقصره بعشرة أخبر به على وجهه، فإن قال: تحصل علي بعشرين فهل يجوز ذلك؟ على وجهين. وإن عمل فيه بنفسه عملاً يساوي عشرة لم يجز ذلك وجهاً واحداً). أما كون المشتري يخبر بما فعل على وجهه؛ فلأنه لو ضم ذلك إلى الثمن وقال: رأس ماله كذا كان كذباً وتغريراً بالمشتري. وأما كونه يجوز أن يقول: تحصَّل عليّ بعشرين على وجهٍ؛ فلأنه صادق. وأما كونه لا يجوز على وجهٍ؛ فلأن فيه تلبيساً ويحتمل أن المشتري لو علم الحال لما رغب فيه لكون ذلك العمل مما لا حاجة إليه أشبه ما لو أنفقه عليه. قال المصنف في الكافي: بعد ذكره هذا الوجه في المسألة هو ظاهر كلام أحمد. وأما كونه لا يجوز أن يقول ذلك إذا عمل ما تقدم ذكره بنفسه وجهاً واحداً؛ فلأنه كاذب لأن ما عمله لم يغرم بسببه شيئاً، وإخباره بأنه تحصل عليه بعشرين كذب.

قال: (وإن اشتراه بعشرة ثم باعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة أخبر بذلك على وجهه، وإن قال: اشتريته بعشرة جاز. وقال أصحابنا: يحط الربح من الثمن الثاني ويخبر أنه اشتراه بخمسة). أما كون المشتري يخبر بالحال على وجهه؛ فلأنه أقرب إلى الحق وأبلغ في الصدق. وأما كونه يجوز أن يقول: اشتريته بعشرة؛ فلأنه اشتراه بذلك. وأما كونه يحط الربح من الثمن الثاني على قول الأصحاب؛ فلأن الربح أحد نوعي النماء فوجب أن يخبر به في المرابحة كالنماء من نفس المبيع كالولد والثمرة. وأما كونه يخبر بأنه اشتراه بخمسة؛ فلأن الربح لما حط من الثمن بقي ذلك. وقد روي عن الإمام أحمد أنه لما بلغه أن ذلك مذهب ابن سيرين أعجبه وظاهره أنه أوجب ذلك. وفي قول المصنف رحمه الله: وقال أصحابنا إشعار بأن جواز الإخبار بأنه بعشرة اختياره. وقال في المغني بعد ذكره الإخبار بمثل الثمن الثاني: وهو الصحيح. وحمل كلام الإمام أحمد في ذلك (¬1) على الاستحباب. ويجاب عن قياس الربح على الأرش بأن إلحاق الربح بالكسب أولى من إلحاقه بالأرش (¬2) لأن الربح والكسب نماء من غير عين المبيع بخلاف الأرش فإنه عوض عن جزء من عين المبيع ولو كان المبيع عبداً فكسب لا يجب أن يحط ذلك من الثمن. فكذلك الربح. ¬

_ (¬1) في ج: الكافي. (¬2) في هـ: من الأرش.

فصل [في خيار اختلاف المتبايعين] قال المصنف رحمه الله: (السابع: خيار يثبت لاختلاف المتبايعين. ومتى اختلفا في قدر الثمن تحالفا فيبدأ بيمين البائع فيحلف ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، فإن نكل أحدهما لزمه ما قال صاحبه، وإن تحالفا فرضي أحدهما بقول صاحبه أُقر العقد وإلا فلكل واحد منهما الفسخ، وإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها، فإن اختلفا في صفتها فالقول قول المشتري. وعنه: لا يتحالفان إذا كانت تالفة والقول قول المشتري مع يمينه، وإن ماتا فورثتهما بمنزلتهما). أما كون الخيار يثبت لاختلاف المتبايعين مثل: أن يدعي المشتري أن البائع باعه العبد بمائة فيقول البائع: بل بمائة وخمسين؛ فلأن ابن مسعود روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول قول البائع والمشتري بالخيار» (¬1) رواه الإمام أحمد والشافعي. وفي لفظ: «إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع» (¬2) رواه ابن ماجة. وفي سياقه أن ابن مسعود رواه للأشعث بن قيس وقد اختلفا في ثمن مبيع فقال للأشعث: فإني أرى أن أرد البيع. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1270) 3: 541 كتاب البيوع، باب ما جاء إذا اختلف البيعان. ولفظه: «إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع والمبتاع بالخيار». وأخرجه أحمد في مسنده (4444) 1: 466. وأخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (3493) 4: 370. قال الترمذي: هذا حديث مرسل عون بن عبدالله لم يدرك ابن مسعود. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3511) 3: 285 كتاب البيوع، باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم. وأخرجه النسائي في سننه (4648) 7: 302 كتاب البيوع، اختلاف المتبايعين في الثمن. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2186) 2: 737 كتاب التجارات، باب البيعان يختلفان.

ولأنه فسخ لاستدراك الظلامة فوجب أن يثبته الاختلاف كالرد بالعيب. وأما كون المتبايعين يتحالفان والسلعة قائمة؛ فلأن في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا» (¬1). ولأن كل واحد منهما مدعٍ ومدعًى عليه؛ فإن البائع يدعي الأكثر وينكر الأقل، والمشتري يدعي الأقل وينكر الأكثر. ولا بد أن يلحظ في التحالف عدم البينة فإن كان لأحدهما بينة قُضي بها لترجحه بها. ولأن في الحديث المتقدم: «ولا بينة لأحدهما». فإن كان لكل واحد منهما بينة تعارضتا وصارا كمن لا بينة لهما. وأما كونهما يتحالفان إذا كانت السلعة تالفة على روايةٍ فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار» (¬2)، وقياساً على ما إذا كانت السلعة باقية لم تتلف. فعلى هذه الرواية يُرجع إلى قيمة مثل السلعة المبيعة لأن رد العين متعذر فوجب الرجوع إلى القيمة كما لو أتلف مال آدمي. فإن اختلفا في صفتها فالقول قول المشتري لأنه غارم. وظاهر كلام أبي الخطاب: أن القيمة إذا زادت على الثمن لا يلزم المشتري الزيادة لأنه قال: المشتري بالخيار بين دفع الثمن الذي ادعاه البائع وبين دفع القيمة. ووجهه: أن البائع لا يدّعي الزيادة فلم يلزم المشتري كما لو أقر لرجل بما لا يدعيه. وقال صاحب النهاية فيها: إيجاب الزيادة أظهر لأن بالفسخ سقط اعتبار الثمن. وأما كونهما لا يتحالفان على روايةٍ؛ فلأن مفهوم قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا» (¬3) أن التحالف لا يشرع عند عدم السلعة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4446) 1: 466. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأنهما اتفقا على نقل السلعة إلى المشتري واختلفا في قدرٍ زائدٍ البائع يدعيه والمشتري ينكره والقول قول المنكر. ترك هذا حال قيام السلعة للحديث فيبقى فيما عداه على مقتضاه. فعلى هذا القول قول المشتري مع يمينه لما تقدم ذكره. والأولى أولى اختارها الخرقي؛ لما تقدم. ولأن كل واحد منهما مدع ومنكر فتشرع اليمين كحال قيام السلعة. ولأنه إذا ثبت مع قيام السلعة مع أنه يمكن معرفة ثمنها للمعرفة بقيمتها؛ لأن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة فمع تعذر ذلك أولى. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والسلعة قائمة» فلأجل تراد المبيع لا لأجل عدم مشروعية التحالف حال تلف السلعة. وأما ترك ما تقدم ذكره هنا فيجوز إذا لُحظ مساواة محل النزاع محل الوفاق فيما ترك لأجله في محل الوفاق. وأما كونه يبدأ بيمين البائع؛ فلأنه أقوى جنبة من المشتري لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فالقول ما قال البائع» (¬1)، وفي بعض الألفاظ: «فالقول قول البائع والمشتري بالخيار» (¬2) رواه الإمام أحمد والشافعي. ولأنهما إذا تحالفا عاد المبيع إليه. وأما كون الحالف يجمع في اليمين بين النفي والإثبات فلما تقدم من أن كل واحد منهما يدعي عقداً وينكر عقداً. وفي قول المصنف في صفة اليمين: ما بعته وإنما بعته إشارة إلى تقديم النفي على الإثبات لأن الأصل في اليمين أنها للنفي. ويكفيه يمين واحدة لأنه أقرب إلى فصل القضاء. وأما كون الناكل يلزمه ما قال صاحبه؛ فلأن النكول بمنزلة الإقرار، ولو أقر لزمه ذلك. فكذلك إذا نكل. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2186) 2: 737 كتاب التجارات، باب البيعان يختلفان. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون العقد يقر إذا رضي أحدهما بقول صاحبه؛ فلأن الراضي إما البائع أو المشتري: فإن كان البائع فلا خيار للمشتري لأنه قد حصل له ما ادعاه، وإن كان المشتري فلا خيار للبائع كذلك. وأما كون الفسخ لكل واحد منهما فلما تقدم أول الفصل. وفي إضافة المصنف رحمه الله الفسخ إلى كل واحد منهما إشعار بأنه لا حاجة في فسخ البيع إلى حكم حاكم، وقد صرح به في المغني، وذكر فيه احتمالاً وعلله بتعذر إمضائه في الحكم. وقال في الكافي: الأول المذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أو يترادان» (¬1)، ولما تقدم من قول الأشعث: فإني أرى أن أرد البيع (¬2). ولأنه خيار لاستدراك ظلامة فكان من غير حكم حاكم كالرد بالعيب. وأما كون ورثة المتبايعين بمنزلتهما عند موتهما؛ فلأنهم يقومون مقامهما في أخذ مالهما وإرث حقوقهما. فكذلك فيما يلزمهما أو يصير لهما. قال: (ومتى فسخ المظلوم منهما انفسخ العقد ظاهراً وباطناً، وإن فسخ الظالم لم ينفسخ في حقه باطناً وعليه إثم الغاصب). أما كون العقد ينفسخ ظاهراً وباطناً إذا فسخ المظلوم؛ فلأنه معذور. وأما كونه لا ينفسخ باطناً إذا فسخ الظالم؛ فلأنه لا عذر له. وظاهر كلام المصنف رحمه الله الفرق بين الظالم والمظلوم سواء كان الظالم البائع أو المشتري. ولم أجد نقلاً صريحاً يوافق ذلك ولا دليلاً يقتضيه، بل المنقول في مثل ذلك أن البائع إن كان ظالماً لم ينفسخ العقد باطناً لأنه يمكنه إمضاء العقد واستيفاء حقه ولا ينفسخ العقد باطناً ولا يباح له التصرف وعليه إثم الغاصب؛ لأنه غاصب. وإن كان المشتري ظالماً انفسخ البيع ظاهراً وباطناً لعجز البائع عن استيفاء حقه هكذا نقله المصنف في المغني والكافي ولم ينقل الفرق بين المظلوم والظالم مطلقاً. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. وقد ذكر هذا القول في سياق حديث ابن ماجة.

ونقل عن القاضي أنه قال: ظاهر كلام أحمد أن الفسخ يثبت ظاهراً وباطناً وظاهره التعميم سواء كان الفاسخ الظالم أو المظلوم وعلل قوله بأن ذلك فسخ لاستدراك ظلامة أشبه الرد بالعيب، أو فسخ عقد بعد التحالف أشبه الفسخ باللعان. قال: (وإن اختلفا في صفة الثمن تحالفا إلا أن يكون للبلد نقد معلوم فيرجع إليه). أما كون المتبايعين يتحالفان عند الاختلاف في صفة الثمن وفي البلد نقود؛ فلأنهما اختلفا في صفة الواجب فوجب التحالف كاختلافهما في أصل الثمن. وقال المصنف في المغني: يرجع إلى أوسطها. نص عليه وعليه اليمين لأن الظاهر معه فكان القول قوله مع يمينه كالمنكر. وأما كونهما لا يتحالفان إذا كان للبلد نقد معلوم؛ فلأنه يرجع إليه لأن الظاهر وقوع البيع به. قال: (وإن اختلفا في أجَل أو شرط فالقول قول من ينفيه. وعنه: يتحالفان. إلا أن يكون شرطاً فاسداً فالقول قول من ينفيه). أما كون القول قول من ينفي الأجل على المذهب؛ فلأن الأصل عدمه. ولأنه منكر والقول قول المنكر. وأما كون المتبايعين يتحالفان على روايةٍ؛ فلأنهما اختلفا في صفة العقد فوجب التحالف قياساً على الاختلاف في الثمن. والقول في الاختلاف في رهن أو ضمين أو قدر ما وقع به الرهن أو الضمان كالقول في الاختلاف في الأجل. وأما الاختلاف في الشروط فعلى ضربين: أحدهما: شرط صحيح وحكمه كذلك والدليل ما ذكر. والثاني: شرط فاسد مثل أن يقول أحدهما: وقع العقد بخمر أو بخيار مجهول أو نحوهما فينفيه الآخر فالقول قول من ينفيه لأن الظاهر من حال المسلم أن لا يتعاطى إلا عقداً صحيحاً. ولم يحك المصنف رحمه الله هنا في مثل ذلك خلافاً لأنه استثنى ذلك من قوله: وعنه يتحالفان.

ومن الاختلاف مما يفسد البيع صورة -وحكى المصنف في المغني فيها خلافاً- وهي ما إذا قال: بعتك وأنا صبي. وعلل قبول قوله بأن الأصل الصغر فعارض ذلك بالظاهر المتقدم ذكره. قال: (وإن قال: بعتني هذين فقال: بل أحدهما فالقول قول البائع. وإن قال: بعتني هذا قال: بل هذا حلف كل واحد منهما على ما أنكره ولم يَثْبت بيع واحد منهما). أما كون القول قول البائع إذا اختلفا في مقدار المبيع؛ فلأن البائع ينكر القدر الزائد فاختصت اليمين به كما لو اختلفا في أصل العقد. وأما كون كل واحد يحلف على ما [أنكره] (¬1) إذا اختلفا في عين المبيع؛ فلأن كل واحد يدعي عقداً على مبيع (¬2) ينكره صاحبه فيحلف كل واحد منهما على ما أنكره. وأما كون بيع واحد منهما لا يثبت؛ فلأن الذي ادعاه المشتري أنكره البائع وحلف عليه والقول قول المنكر مع يمينه والذي أقر به البائع لا يدعيه المشتري. قال: (وإن قال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض ثمنه، وقال المشتري: لا أسلمه حتى أقبض المبيع والثمن عين: جُعل بينهما عدل يقبض منهما ويسلم إليهما. وإن كان ديناً أجبر البائع على التسليم ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن إن كان حاضراً معه، وإن كان غائباً بعيداً أو المشتري معسراً فللبائع الفسخ، وإن كان في البلد حُجر على المشتري في ماله كله حتى يسلمه، وإن كان غائباً عن البلد قريباً احتمل أن يثبت للبائع الفسخ واحتمل أن يحجر على المشتري). أما كون العدل يُجعل بين البائع والمشتري إذا اختلفا في التسليم أوّلاً والثمن عين؛ فلأنهما استويا في تعلق حقهما بعين كل واحد (¬3) من الثمن والمثمن، وإذا كان كذلك وجب أن يجعل بينهما عدل يسلم إليهما لأن في ذلك تسوية بين المتساويات. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في هـ: على زيد مبيع. (¬3) في هـ: أحد.

وأما كون البائع يجبر على تسليم المثمن، ثم المشتري على تسليم الثمن الحاضر معه والثمن دين -والمراد أن يكون البيع قد وقع بثمن في الذمة لا أن يكون مؤجلاً؛ فلأن حق المشتري تعلق بعين المثمن وحق البائع تعلق بما في ذمة المشتري فوجب تقديم (¬1) حق المتعلق بالعين كتقديم حق المرتهن على سائر غرماء المفلس. وأما كون البائع له الفسخ إذا كان الثمن في غيبة بعيدة وهي مسافة القصر أو كان المشتري معسراً؛ فلأنه تعذر عليه أخذ الثمن فكان له الخيار المذكور كالمفلس إذا وجد البائع عنده عين ملكه. وأما كونه يحجر على المشتري في ماله كله حتى يسلم الثمن الذي في البلد؛ فلأنه إذا لم يحجر عليه في ذلك خيف أن يتصرف في ماله تصرفاً يضر بالبائع. وأما كونه يحتمل أن يثبت للبائع الفسخ إذا كان الثمن غائباً غيبة قريبة وهي دون مسافة القصر؛ فلأن في التأخير ضرراً على البائع. وأما كونه يحتمل أن الحجر على المشتري؛ فلأن ما دون مسافة القصر بمنزلة الحاضر. قال: (ويثبت الخيار للخُلف في الصفة، وتغيّر ما تقدمت رؤيته. وقد ذكرناه). أما كون الخيار يثبت للخُلف في الصفة بأن يشترط في المبيع صفة فيظهر بخلافها؛ فلأن فيه استدراكاً لما فاته من الصفة. وللخُلف في الصفة صورتان: إحداهما: يثبت الخيار فيها بلا خلاف مثل: أن يشترط الأعلى فيبين أدنى. مثل: أن يشترط كون المبيع مسلماً أو بِكراً أو جعداً أو ذا صنعة فيظهر كافراً أو ثيباً أو سبطاً أو لا صنعة له. وثانيهما: أن يشترط الأدنى فيظهر أعلا. مثل: أن يشترط كونه كافراً أو ثيباً أو سبطاً أو لا صنعة له فيظهر مسلماً أو بكراً أو جعداً أو له صنعة فهذا لا خيار له لأنه زاده خيراً. ¬

_ (¬1) في هـ: تقدم.

وقيل: يثبت الخيار فيما إذا شرط الكفر والثيوبة لأن طالب الكافر أكثر لصلاحيته للمسلم وغيره فيكون ثمنه أكثر، وشرط الثيوبة قد يكون لعجزه عن البِكر فإذا كانت بكراً يفوت قصده. وأما كون الخيار يثبت بتغير ما تقدمت رؤيته مثل: أن يكونا قد رأيا مبيعاً ثم عُقد البيع بعد ذلك فوجده المشتري قد تغير كعبد قطعت يده وثوب فصل وما أشبه ذلك؛ فلأن تغيّر ذلك كالخلف في الصفة. وأما قول المصنف رحمه الله: وقد ذكرناه ففيه تنبيه على أن ذلك تقدم ذكره. والخُلف في الصفة مذكور في باب الشروط في البيع في الصحيح منها (¬1)، وتغير ما تقدمت رؤيته مذكور في الفصل السادس من كتاب البيع (¬2). ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في البيع قبل القبض] قال المصنف رحمه الله: (ومن اشترى مكيلاً أو موزوناً لم يجز بيعه حتى يقبضه، وإن تلف قبل قبضه فهو من مال البائع إلا أن يتلفه آدمي فيتخير المشتري بين فسخ العقد وبين إمضائه ومطالبة متلفه بالقيمة (¬1). وعنه: في الصَّبُرة المتعينة أنه يجوز بيعها قبل قبضها، وإن تلفت فهي من مال المشتري. وما عدا المكيل والموزون يجوز التصرف فيه قبل قبضه، وإن تلف فهو من مال المشتري. وذكر أبو الخطاب أنه كالمكيل والموزون في ذلك). أما كون من اشترى مكيلاً أو موزوناً لا يجوز له بيعه حتى يقبضه على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه» (¬2) متفق عليه. وقال: «من ابْتَاعَ طعاماً فلا يَبِعْهُ (¬3) حتى يَستَوفِيه» (¬4). وعن ابن عمر: «رأيت الذين يشترون الطعام مُجازَفَةً يُضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَبيعوه حتى يُؤْوُوهُ إلى رِحالهم» (¬5) متفق عليه. وعنه قال (¬6): «كنا نشتري الطعام من الركبان جِزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَبيعَهُ حتى نَنْقُلَه» (¬7) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) في هـ: ببذله. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2028) 2: 751 كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1525) 3: 1160 كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض. (¬3) في هـ: يبيعه. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2029) 2: 751 كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1526) 3: 1160 كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (2024) 2: 750 كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1527) 3: 1161 كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض. (¬6) ساقط من هـ. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (2017) 2: 747 كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق. وأخرجه مسلم في صحيحه (1527) 3: 1161 كتاب البيوع، باب بطلان المبيع قبل القبض. واللفظ له.

وكان الطعام مستعملاً يومئذ غالباً فيما كان مكيلاً أو موزوناً (¬1). وأما كون الصبرة المتعينة يجوز بيعها قبل قبضها على روايةٍ؛ فلأن التعيين كالقبض. ولأن ابن عمر قال: «ما أدْرَكتِ الصّفقَةُ حَياً مجموعاً فهو من مَال المشتري» (¬2). وأما كون ما عدا المكيل والموزون يجوز التصرف فيه قبل قبضه على المذهب؛ فلأن تخصيص النهي بالمكيل والموزون يدل على نفي الحكم عما عداه. وأما كونه كالمكيل والموزون على روايةٍ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار» (¬3) رواه أبو داود. وقال ابن عباس: «أحسبُ كل شيء بمنزلةِ الطعام» (¬4). ولأنه لم يتم ملكه عليه أشبه المكيل. قال المصنف في الكافي: الأول المذهب، والذي يقتضيه الدليل أن يكون الصحيح أن ما كان مطعوماً لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو لم يكن. وحكى ذلك رواية عن أحمد وعللها بما تقدم من الأحاديث. ويؤيده قول ابن عبد البر: الأصح عن أحمد بن حنبل أن الذي يُمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام. وأما ما يكون من ضمان بائعه إذا تلف قبل قبضه فعلى ضربين: أحدهما: ما يتلف بأمر سماوي فينظر فيه فكل ما لا يجوز للمشتري بيعه يكون من ضمان بائعه «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن» (¬5). والمراد به ربح ما بيع [قبل القبض؛ لأن ربح ما بيع] (¬6) بعده من ضمان المشتري وفاقاً. ¬

_ (¬1) في هـ: موزناً. (¬2) ذكره البخاري معلقاً 2: 751 في كتاب البيوع، باب إذا اشترى متاعاً أو دابة فوضعه عند البائع ... (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3499) 3: 282 كتاب البيوع، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفي. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2028) 2: 751 كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض ... بلفظ: « ... ولا أحسب كل شيء إلا مثلَه». وأخرجه مسلم في صحيحه (1525) 3: 1160 كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض. واللفظ له. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3504) 3: 283 كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده. وأخرجه الترمذي في جامعه (1234) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك. وأخرجه النسائي في سننه (4631) 7: 294 كتاب البيوع، شرطان في بيع وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة إلى شهر بكذا ... وأخرجه ابن ماجة في سننه (2188) 2: 737 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن. وأخرجه أحمد في مسنده (6628) 2: 175. (¬6) سقط من هـ.

ولأن ذلك لو كان من ضمان المشتري لجاز بيعه والتصرف فيه كما بعد القبض، وما يجوز له بيعه لا يكون من ضمان بائعه لأن ما يجوز للمشتري بيعه تصرفه فيه تام فلم يكن من ضمان بائعه كالمقبوض. ولأن جواز بيعه يعتمد وجود ما يقوم مقام القبض فيجب أن يقوم مقامه في عدم ضمان البائع له. وثانيهما: ما يتلف بإتلاف آدميٍّ فينظر فيه فإن كان المشتري المتلف استقر الثمن عليه لأن ذلك كالقبض، وإن كان أجنبياً خُيّر المشتري بين فسخ العقد والرجوع بالثمن وبين إمضائه والرجوع على المتلِف بمثله إن كان مثلياً وإلا بقيمته؛ لأن الإتلاف كالعيب وقد حصل في موضع يلزم البائع ضمانه فكان له الخيار كالعيب في المبيع (¬1). وإن كان المتلف البائع فحكمه حكم الأجنبي لأنه أتلفه من يلزمه ضمانه أشبه الأجنبي. فإن قيل: لو تلف في يده ضمنه بحكم عقد البيع فوجب أن يضمنه إذا أتلفه كذلك. قيل: إذا تلف في يده لم يوجد مقتض للضمان سوى حكم العقد بخلاف ما إذا أتلفه. ¬

_ (¬1) في و: المعيب.

قال: (ويحصل القبض فيما بيع بالكيل والوزن بكيله ووزنه، وفي الصَّبُرة وما ينقل بالنقل، وفيما يُتناول بالتناول، وفيما عدا ذلك بالتخلية. وعنه: أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز). أما كون القبض فيما بيع بما ذكر يحصل بما تقدم ذكره أولاً على المذهب؛ فلأن قبض كل شيء بحسبه لأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحياء والإحراز. وأما كون قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز على روايةٍ [فلأن] (¬1) ذلك قبض في العقار فليكن في جميع المبيع كذلك بالقياس عليه. والأول هو الصحيح؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله» (¬2) أخرجه مسلم. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا بِعتَ فَكِلْ، وإذا ابتَعْتَ فاكتَل» (¬3) رواه البخاري. وروي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعِ الطعامِ حتى يجريَ فيه الصاعانِ: صاعُ البائعِ وصاعُ المشتري» (¬4). وروى ابن عمر: «كانوا يُضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا الطعام جِزافاً أن يَبيعوه حتى يُؤوُوه» (¬5). وفي لفظ: «كنا نبتاع الطعام جِزافاً فيَبعثُ علينا من يَأمُرُنا بانتقالِه من مَكانه الذي ابتعنَاه إلى مكانٍ سِواه قبلَ أن نَبيعه» (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1528) 3: 1162 كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض. (¬3) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 2: 748 كتاب البيوع، باب الكيل على البائع والمعطي. وأخرجه أحمد في مسنده (560) 1: 75. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (2228) 2: 750 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الطعام قبل ما لم يقبض. قال في الزوائد: في إسناده محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، أبو عبدالرحمن الأنصاري، وهو ضعيف. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (2017) 2: 747 كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق. وأخرجه مسلم في صحيحه (1527) 3: 1160 كتاب البيوع، باب بطلان المبيع قبل القبض. واللفظ له.

وفي لفظ: «فنهَانا أن نَبيعه حتى نَنْقُلَه» (¬1) رواهن مسلم. وجه الحجة من هذه الأحاديث أنه جعل قبض المبيع كيلاً الكيل وقبض المبيع جزافاً النقل وذلك يدل على أن القبض يختلف. إذا تقرر هذا فقبض المكيل الكيل لما تقدم والموزون الوزن لأنه في معناه. والمراد بالمكيل ما بيع بالكيل وبالموزون ما بيع بالوزن لا ما كان مكيلاً في نفسه أو موزوناً لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل قبض المبيع جزافاً النقل مع كونه مكيلاً وقد جاء في حديثٍ مصرحاً به عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سَميتَ الكيلَ فَكِلْ» (¬2) رواه الأثرم. فيحمل المطلق على المقيد. وقبض الصبرة وما ينقل كالثياب والحيوان النقلُ: أما الصبرة فلما تقدم من حديث ابن عمر. وأما سائر ما ينقل فبالقياس عليه لأنه في معناه. وقبض ما لا ينقل كالعقار بالتخلية لأنه لا يمكن فيه أكثر من ذلك. قال: (والإقالة فسخ يجوز في المبيع قبل قبضه، ولا يستحق بها شفعة، ولا يجوز إلا بمثل الثمن. وعنه: أنها بيع فلا يثبت فيها ذلك إلا بمثل الثمن في أحد الوجهين). أما كون الإقالة فسخاً على المذهب؛ فلأن الإقالة هي الرفع والإزالة يقال: أقالك الله عثرتك أي أزالها وذلك عين الفسخ. وأما كونها بيعاً على روايةٍ؛ فلأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة التي خرج منها فكان بيعاً كالأول. ولأنه (¬3) نقل للملك بعوض على وجه التراضي فكان بيعاً كالأول. والأول هو الصحيح؛ لما ذكر. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2230) 2: 750 كتاب التجارات، باب بيع المجازفة. (¬3) في هـ: ولأن.

ولأن الإجماع على أن للمسلِم أن يقيل المسلم في جميع المسلم فيه مع إجماعهم على نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه (¬1) دليل على أن الإقالة ليست بيعاً. ولأنها تتقدر بالثمن الأول ولو كانت بيعاً لم تتقدر به لأنه عاد إليه المبيع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخاً كالرد بالعيب. وفائدة الخلاف ما ذكره المصنف رحمه الله من أنها تجوز في المبيع قبل قبضه ولا يستحق بها شفعة ولا تجوز إلا بمثل الثمن الأول إن قيل هي فسخ. أما كونها تجوز في المبيع قبل القبض؛ فلأنها فسخ والفسخ لا يعتبر فيه القبض كالرد بالعيب والفسخ بالخيار والتدليس. وأما كونها لا يستحق بها شفعة؛ فلأن العقد الذي يستحق به الشفعة البيع ولا بيع. وأما كونها لا تجوز إلا بمثل الأول قدراً ونوعاً؛ فلأن العقد إذا ارتفع رجع كل واحد منهما بما كان له. وأما كونها (¬2) لا يثبت فيها ذلك إلا بمثل الثمن إن قيل هي بيع لأن بيع المبيع لا يجوز قبل قبضه والشفعة تستحق لبقاء نقل الملك بل تتأكد لأن النقل تكرر. ولا يثبت ذلك في الثمن في وجهٍ لأن ذلك بيع فلم يشترط فيه المثل كسائر البياعات، ويثبت فيه في وجهٍ لأن الإقالة خصت بمثل الثمن كالتولية وكما اختصت المرابحة بالربح. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: وأنها.

باب الربا والصرف

باب الربا والصرف الربا في اللغة: الزيادة. قال الله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [فصلت: 39] أي زادت. وقال تعالى: {أن تكون أمةٌ هيَ أربَى من أمة} [النحل: 92] أي أكثر عدداً. وفي الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة. وهو محرم بالكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وحرم الربا} [البقرة: 275] وما بعدها من الآيات. وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتَنِبُوا السبعَ الموبقاتِ. قيل: يا رسول الله! ما هنّ؟ قال: الشركُ باللهِ، والسحرُ، وقتلُ النفسِ التي حرمَ اللهُ إلا بالحقِ، وأكلُ الرّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والتولّي يومَ الزحفِ، وقذفُ المحصناتِ الغافلاتِ المؤمنات» (¬1). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لعنَ آكلَ الرّبا، ومُوكِلَهُ، وشَاهدَيه، وكَاتِبَه» (¬2) متفق عليهما. وأما الإجماع فأجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة. والصرف: عبارة عن بيع الدراهم بالدنانير أو بالعكس. وله شروط ستذكر إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2615) 3: 1017 كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً}. وأخرجه مسلم في صحيحه (89) 1: 92 كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5032) 5: 2045 كتاب الطلاق، باب مهر البغي والنكاح الفاسد. ولم يذكر: «وشاهديه وكاتبه». وأخرجه مسلم في صحيحه (1598) 3: 1219 كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا ومؤكله. واللفظ له.

قال المصنف رحمه الله: (وهو نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة: فأما ربا الفضل فيحرم في الجنس الواحد من كل مكيل أو موزون وإن كان يسيراً كتمرة بتمرتين وحبة بحبتين. وعنه: لا يحرم إلا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم. وعنه: لا يحرم إلا في ذلك إذا كان مكيلاً أو موزوناً) (¬1). أما قول المصنف رحمه الله: وهو نوعان؛ فعائد إلى الربا. وأما كونه نوعين؛ فلأن (¬2) منه ما يحرم فيه التفاضل ومنه ما يحرم فيه النسيئة. وأما كون ربا الفضل يحرم؛ فلأنه ربا فيدخل فيما تقدم ذكره في أول الباب. فإن قيل: فقد قال عليه السلام: «لا رِباً إلا في النَّسيئَة» (¬3) رواه البخاري. قيل: الحديث يحمل على الجنسين بدليل ما تقدم من الأحاديث. ثم هو مرجوح بالنسبة إلى ما تقدم لأنه مجمل وما تقدم مفصل. ويؤيده ما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهبُ بالذهبِ مِثلاً بمثل، والتمرُ بالتمرِ مِثلاً بمثل، والبُرّ بالبُرِّ مِثلاً بمثل، والمِلحُ بالملحِ مِثلاً بمثل، والشعيرُ بالشعيرِ مِثلاً بمثل فمن زَاد أو ازْدَادَ فقد أرْبَا» (¬4). [رواه مسلم] (¬5). وأما كون ربا الفضل يحرم في الجنس الواحد من كل مكيل أو موزون على المذهب؛ فلأن علة المكيل كونه مكيل جنس وعلة الموزون كونه موزون جنس لأن أنساً روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وما وزن مثلاً بمثل إذا كان نوعاً واحداً، وما كيل مثلاً بمثل إذا كان نوعاً واحداً» (¬6). ولأن قضية البيع المساواة (¬7)، والمؤثر في تحقيقها الكيل أو الوزن مع الجنس؛ لأن الكيل أو الوزن يسوي بينهما صورة والجنس يسوي بينهما معنى فكانا علة. ¬

_ (¬1) في هـ: موزناً. (¬2) في هـ: فلأنه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2069) 2: 762 كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نساءً. وأخرجه مسلم في صحيحه (1596) 3: 1218 كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1587) 3: 1211 كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً. (¬5) زيادة من ج. (¬6) أخرجه الدارقطني في سننه (58) 3: 18 كتاب البيوع. (¬7) في هـ: المواساة.

ولأن الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في غيره بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة. وأما كون ذلك يحرم وإن كان يسيراً كتمرة بتمرتين وحبة بحبتين كالكثير فلاشتراكهما في الزيادة الموجبة للتحريم. وأما كون ذلك لا يحرم إلا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم على روايةٍ؛ فلأن العلة في الذهب والفضة الثمينة وفيما عداهما الطعم. أما كون العلة في الذهب والفضة الثمينة؛ فلأن الثمينة وصف شريف إذ به قوام الأموال. ولأن العلة لو كانت فيهما الوزن لما جاز إسلامهما في الموزونات لأن أحد وصفي علة ربا الفضل تكفي في تحريم النسيئة. وأما كون العلة فيما عداهما الطعم فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل» (¬1) رواه مسلم. ولأن الطعم وصف شريف إذ به قوام الأبدان. وأما كون ذلك لا يحرم إلا في المطعوم إذا كان مكيلاً أو موزوناً؛ فلأن العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلاً أو موزوناً لأن الطعم وكل واحد من وصفي الكيل والوزن له أثر فيجب التعليل به. والأولى هي الصحيحة في المذهب لما تقدم. وروى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الربا» (¬2) رواه الإمام أحمد. ولأن الطُّعم لو كان علة لجرى الربا في الماء لكونه مطعوماً قال الله تعالى: {ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة: 249]، ونهيه عليه السلام عن الطعام إلا مثلاً بمثل محمول على المطعوم المكيل أو الموزون، وكون الطعام وصفاً شريفاً ينافي تحريم البيع معه لأنه شرف من حيث تعلق الحاجة به وذاك يقتضي الإطلاق في التوصل إليه وشراءه بكل طريق ممكن ليحصل قوام البنية ويتمكن من العبادات. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1592) 3: 1214 كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (5885) 2: 109.

فعلى هذا كلما كيل أو وزن (¬1) يحرم التفاضل بينه وبين جنسه وإن لم يكن مطعوماً كالأشنان والنورة والقطن وما أشبه ذلك. وعلى الرواية الثانية يحرم التفاضل في الذهب والفضة وفي كل مطعوم وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً كالسفرجل وما أشبه ذلك. وعلى الرواية الثالثة يحرم التفاضل في المطعوم المكيل والموزون كالزبيب ولا يحرم في المطعوم غير المكيل والموزون كالسفرجل وما أشبهه، ولا في المكيل أو الموزون غير المطعوم كالحديد والأُشنان وما أشبههما. قال: (ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً، ولا ما أصله الوزن كيلاً، فإن اختلف الجنس جاز بيع بعضه ببعض كيلاً ووزناً وجزافاً). أما كون ما أصله الكيل لا يباع بشيء من جنسه وزناً؛ فلأن العبرة بالكيل في المكيل فلم يجز بيعه بغيره لما تقدم من اشتراط الكيل. ولأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن، والبُر بالبُر كيلاً بكيل» (¬2). رواه الأثرم في حديث عبادة. ورواه أبو داود ولفظه: «البر بالبر مُدْيٌ بمُدْيٍ، والشعير بالشعير مديٌ بمديٍ، والملح بالملح مديٌ بمديٍ، فمن زاد أو ازداد فقد أربا» (¬3). وأما كون ما أصله الوزن لا يباع بشيء من جنسه كيلاً؛ فلأن العبرة بالوزن في الموزون فلم يجز بيعه بالمكيل للمعنى المذكور في بيع ما أصله الكيل. وأما كون البيع يجوز كيلاً ووزناً وجزافاً إذا اختلف الجنس؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم» (¬4). ¬

_ (¬1) في هـ: ووزن. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 291 كتاب البيوع، باب اعتبار التماثل فيما كان موزوناً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ... (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3349) 3: 248 كتاب البيوع، باب في الصرف. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1587) 3: 1211 كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً. وأخرجه أبو داود في سننه (3350) 3: 248 كتاب البيوع، باب في الصرف. ولفظهما: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ... ». من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

ولأنه يجوز التفاضل في ذلك وغاية ما يقدر في البيع المذكور حصول التفاضل وذلك جائز في الجنسين. وقال المصنف في المغني: ذهب كثير من أصحابنا إلى تحريم ذلك. قال ابن أبي موسى: لا خير فيما يكال بما يكال جزافاً، ولا فيما يوزن بما يوزن جزافاً اتفقت الأجناس أم اختلفت. ولا بأس ببيع المكيل بالموزون جزافاً. وقال ذلك القاضي والشريف أبو جعفر واحتج له بما روى أبو بكر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام مجازفة»، وهذا طعام. والحديث الذي رواه مسلم فيما تقدم (¬1). ولأنه بيع طعام بطعام أشبه الجنس الواحد. والأول أصح لما تقدم من قوله: «فإذا اختلفت هذه الأصناف (¬2) فبيعوا كيف شئتم يداً بيد» (¬3). ولأنه يجوز التفاضل فيه فجاز جزافاً من الطرفين كالمكيل بالموزون. ولأن حقيقة التفاضل لا تمنع فإنه يجوز أن يبيع مد حنطة بأمداد شعير وشبههما فالجهل به أولى أن لا يكون مانعاً. والحديث المذكور المراد به الجنس الواحد ولهذا جاء في بعض ألفاظه: «نَهى أن تُباعَ الصَبرة لا يعلمُ مَكيلُها من التمر» (¬4). والظاهر أن الحديثين واحد، وإنما اختلفت ألفاظه. ثم هو مخصوص بالمكيل بالموزون فيقاس عليه محل النزاع. ¬

_ (¬1) وهو قوله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل». وقد سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: الأجناس. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1530) 3: 1162 كتاب البيوع، باب تحريم بيع صبرة التمر المجهولة القدر بتمر. وأخرجه النسائي في سننه (4547) 7: 269 كتاب البيوع، بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر.

قال: (والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، وفروع الأجناس أجناس كالأدقة والأخباز والأدهان). أما قول المصنف رحمه الله: والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً؛ فبيان لمعنى الجنس لأنه لما تقدمت التفرقة بين الجنس والجنسين دعت الحاجة إلى تبيين الجنس. والفرق بينه وبين النوع أن الجنس هو الشامل لأشياء كثيرة مختلفة بأنواعها، والنوع هو الشامل لأشياء كثيرة مختلفة بأشخاصها؛ فأنواع الذهب: المصري، والأتابكي، والصوري. وأنواع الفضة: الكاملي، والناصري، والظاهري. وأنواع البر: الحوراني، والسوادي، والغوطي، وما أشبه ذلك. وأنواع الشعير: المسدس، والرومي، ونحو ذلك. وأنواع الملح: التدمري، والجِثولي، وما أشبه ذلك. وأما قول المصنف رحمه الله: كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فتصريح بأشياء لكل واحد منها اسم خاص يشمل أنواعاً. وأما كون فروع الأجناس أجناساً كدقيق القمح ودقيق الشعير وخبز القمح وخبز الشعير ودهن اللوز ودهن الجوز؛ فلأن الفروع تبع للأصل فلما كانت أصول هذه أجناساً وجب أن تكون هذه أجناساً إلحاقاً للفروع بأصولها. قال: (واللحم أجناس باختلاف أصوله. وعنه: جنس واحد، وكذلك اللبن. وعنه: في اللحم أنه أربعة أجناس: لحم الأنعام، ولحم الوحش، ولحم الطير، ولحم دواب الماء. واللحم والشحم والكبد أجناس). أما كون اللحم أجناساً باختلاف أصوله على المذهب؛ فلأنه إذا اختلف أصله فروعُ أصول هي أجناس فكانت أجناساً كالأدقة والأخباز. وأما كونه جنساً واحداً على روايةٍ؛ فلأنه اسم تحته أنواع فكان جنساً واحداً كالطلع. وأما كونه أربعة أجناس كما ذكر المصنف على روايةٍ؛ فلأن الحيوانات المذكورة تختلف في المنفعة والقصد والأكل فكانت أجناساً. وصحح القاضي هذه الرواية قاله المصنف في المغني. ونصر ابن عقيل الأول.

وقال المصنف رحمه الله في المغني: وهو الأشبه بالأصول فإن كثيراً من المشتركات في (¬1) الأسماء مختلفة الأجناس لاختلاف أصولها كما تقدم. فعلى هذا لحم الإبل جنس بخاتيها وعِرَابها. والبقر جنس عِرَابها وجواميسها. والغنم جنس ضأنها، ومعزها. والوحش أجناس بقرها جنس وغنمها جنس وظباؤها جنس. وكل ما له اسم يخصه تحته أنواع جنس والطير أجناس. وأما كون اللبن فيه روايتان: إحداهما: أنه يختلف كأصوله. والثانية: أنه جنس واحد فلما ذكر في اللحم. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا تجري الرواية الثالثة في اللحم في اللبن لأنه عطفه على الروايتين في اللحم ثم خصص اللحم رواية ثالثة. وقال في الكافي بعد ذكره الروايات الثلاث في اللحم: وفي الألبان من القول مثل ما في اللحم لأنها من الحيوانات يتفق اسمها أشبهت اللحم. وظاهر هذا أن في اللبن الروايات الثلاث وهو أظهر لاتحادهما في المعنى. وأما كون اللحم والشحم والكبد أجناساً؛ فلأنها مختلفة في الاسم والخلقة فكانت أجناساً كالإبل والبقر والغنم. قال: (ولا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه، وفي بيعه بغير جنسه وجهان). أما كون بيع لحمٍ بحيوان من جنسه كلحم إبل بإبل وغنم بغنم وما أشبههما لا يجوز فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نَهى عن بيعِ اللحمِ بالحيوان» (¬2). وروي عنه أنه عليه السلام: «نهى أن يباع حي بميت» (¬3). ولأنه نوع فيه الربا بِيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع السمسم بالشيرج. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (64) 2: 507 كتاب البيوع، باب بيع الحيوان باللحم. قال ابن عبدالبر: لا أعلمه يتصل من وجه ثابت. (¬3) أخرجه الشافعي في البيوع، باب فيما نهي عنه من البيوع وأحكام أخر 2: 145/ 484.

وأما كون بيع لحم بحيوان من غير جنسه كلحم إبل بغنم ولحم غنم ببقر لا يجوز في وجهٍ فلعموم ما تقدم. وروي عن ابن عباس «أن جزوراً نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه (¬1) فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني جزءاً بهذا العناق. فقال: لا يصلح هذا». وهل يشترط في غير الجنس كونه مأكولاً؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط. ذكره أبو الخطاب في رؤوس المسائل. والثاني: لا يشترط. فلا يجوز بيع لحم غنم وشبهه بحمار ونحو ذلك لدخوله في عموم ما تقدم. وصحح صاحب النهاية فيها الأول وعلله بأن المنع إنما كان لأجل الربا فإذا لم يكن مأكولاً لم توجد العلة فوجب أن يزول الحكم لزوال علته. وجعله المصنف في المغني ظاهر قول أصحابنا. وأما كون بيع لحم بحيوان من غير جنسه يجوز في وجهٍ؛ فلأن النهي عن بيع اللحم بالحيوان إنما كان لاشتمال الحيوان على جنس اللحم؛ لأن ذلك يؤدي إلى الربا فإذا لم يكن من جنسه وجب الجواز لزوال العلة المقتضية للتحريم. وقيل: هذان الوجهان مبنيان على كون جميع اللحم جنساً أو أجناساً. فإن قيل: جميعها جنس واحد لم يجز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً، وإن قيل: أجناس جاز لأن التفاضل مع اختلاف الجنس لا يضر. قال: (ولا يجوز بيع حب بدقيقه ولا سويقه في أصح (¬2) الروايتين). أما كون بيع حب بدقيقه أو سويقه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأن كل واحد مكيل ويشترط في بيع المكيل بجنسه التساوي وهو متعذر هنا لأن أجزاء الحب تنتشر بالطحن. وأما كونه يجوز في روايةٍ؛ فلأن الدقيق نفس الحب وإنما تكسرت أجزاؤه فجاز بيع البعض بالبعض كالحب المكسر بالصَّحاح. ¬

_ (¬1) في هـ: عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) ساقط من هـ.

فعلى هذا تعتبر المساواة بالوزن لأن الكيل لا يحصل به التساوي لما ذكر. وأما كون الأصح أنه لا يجوز فلما تقدم. ولأن التساوي بالكيل متعذر بخلاف المكسر بالصحاح فإن الكيل غير متعذر. واعتبار الوزن فيما هو مكيل لا يصح لما تقدم في بيع المكيل وزناً وبعكسه. قال: (ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه، ولا أصله بعصيره، ولا خالصه بمشوبه، ولا رَطْبه بيابسه). أما كون بيع نيء الشيء بمطبوخه كالحنطة بالهريسة أو بالحريرة أو بالنشاء أو ما أشبه ذلك لا يجوز؛ فلأن النار تعقد أجزاء المطبوخ وتنفخها فلا يحصل التساوي. وأما كون بيع أصله بعصيره كالسمسم بالشيرج والزيتون بالزيت وما أشبه ذلك لا يجوز؛ فلأنه مال ربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع اللحم بالحيوان. وأما كون بيع خالصه بمشوبه لا يجوز كلبن لا ماء فيه بلبن مخلوط بماء لا يجوز فلانتفاء التساوي المشترط. وأما كون بيع رَطْبه بيابسه كبيع الرطب بالتمر فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر. فقال: أينقص الرطب (¬1) إذا يبس؟ فقالوا: نعم. فقال: لا إذاً» (¬2). علل بالنقصان إذا يبس وهو موجود في كل رطب بِيع بيابسه. قال: (ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة، ومطبوخه بمطبوخه، وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف، وعصيره بعصيره، ورطبه برطبه). أما كون بيع جميع ذلك بما ذكر يجوز؛ فلأنه متساو في الحال على وجهٍ لا ينفرد أحدهما بالنقصان في ثاني الحال فوجب أن يجوز كبيع التمر بالتمر. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3359) 3: 251 كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر. وأخرجه الترمذي في جامعه (1225) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة. وأخرجه النسائي في سننه (4546) 7: 269 كتاب البيوع، اشتراء التمر بالرطب. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2264) 2: 761 كتاب التجارات، باب بيع الرطب بالتمر. وأخرجه مالك في الموطأ (22) 2: 485 كتاب البيوع، باب ما يكره من بيع التمر.

وأما قول المصنف رحمه الله: في الدقيق إذا استويا في النعومة فتنبيه على اشتراط التساوي في النعومة؛ لأن الكيل يسع من الخشن أكثر من الناعم لتفرق أجزاء الناعم فلا يحصل التساوي المشترط. وأما قوله في المطبوخ والخبز إذا استويا في النشاف فتنبيه على اشتراط التساوي في النشاف لأن أحدهما إذا كان أكثر رطوبة من الآخر (¬1) لا يحصل التساوي المشترط. قال: (ولا يجوز بيع المحاقلة. وهو: بيع الحب في سنبله بجنسه، وفي بيعه بغير جنسه وجهان، ولا المزابنة. وهو: بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، إلا في العرايا. وهي: بيع الرطب في رؤوس النخل خرصاً بمثله من التمر كيلاً فيما دون خمسة أوسق لمن به حاجة إلى أكل الرطب ولا ثمن معه ويعطيه من التمر مثل ما يؤول إليه ما في النخل عند الجفاف. وعنه: يعطيه مثل رطبه، ولا يجوز في سائر الثمار في أحد الوجهين). أما كون بيع المحاقلة لا يجوز فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعِ المحاقَلَة» (¬2). والنهي يقتضي التحريم والفساد. ولأن الحب إذا بيع بجنسه لا يعلم مقداره بالكيل، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو بيع الحب في سنبله بجنسه فتفسير لبيع المحاقلة. قال أبو عبيد: المحاقلة بيع الزرع في سنبله بالبر. وأما كون بيع الحب في سنبله بغير جنسه لا يجوز في وجهٍ؛ فلأن بيع زرع الحنطة بحنطة إنما سمي محاقلة لأنه في الحقل وهذا المعنى موجود في غيره مما ذكرنا فيجب أن يدخل فيه. قال الأزهري: والحقل القراح المزروع. ¬

_ (¬1) في هـ: الإجزاء. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2093) 2: 768 كتاب البيوع، باب بيع المخاضرة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1536) 3: 1174 كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة ...

وأما كونه يجوز في وجهٍ؛ فلأن تفسير أبي عبيد الحديث يدل على ذلك لأنه قال: المحاقلة بيع الزرع في سنبله بالبر. ولأن النهي لخوف التفاضل المحرم وهو منتف في الجنسين. وأما كون بيع المزابنة إذا لم يكن عرايا [لا يجوز] (¬1)؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة» (¬2)، والنهي يقتضي التحريم والفساد. ترك العمل به في العرايا لما يأتي فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر؛ فتفسير لبيع المزابنة المحرم. وفي الحديث أن ابن عمر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المُزابَنَةِ. والمزابنةُ بيعُ ثمرِ النخلِ بالتمرِ كيلاً» (¬3) رواه مسلم. وأما كون بيع العرايا يجوز فلما روى أبو هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص في العرية في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق» (¬4) متفق عليه. وأما ما يشترط لجواز بيع العرايا فأمور: أحدها: أن يكون الرطب على رؤوس النخل فلو كان على وجه الأرض لم يجز لأن الرخصة وردت في بيعه على رؤوس النخل ليؤخذ شيئاً فشيئاً. وثانيها: أن يكون البيع بخرصها من التمر لا أقل ولا أكثر «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم أن يبتاعوا العرية بخرصها من التمر» (¬5) متفق عليه. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) سيأتي تخريجه في الحديث الآتي. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2073) 2: 763 كتاب البيوع، باب بيع المزابنة ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1542) 3: 1171 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2078) 2: 764 كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1541) 3: 1171 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (2253) 2: 839 كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1540) 3: 1170 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا.

وفي معنى الخرص روايتان: إحداهما: ينظر كم يجيء منها تمر فيبيعها بمثله لأنه يخرص في الزكاة كذلك. والثانية: يبيعها بمثل ما فيها من الرطب لأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال بالكيل فإذا خولف الدليل في أحدهما وأمكن أن لا يخالف في الآخر وجب. وثالثها: كون التمر معلوماً بالكيل لأن في بعض الألفاظ: «رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً» (¬1) متفق عليه. ولأن الأصل الكيل من الطرفين سقط في أحدهما للتعذر فيجب في الآخر بقضية الأصل. ولأن مع ترك الكيل من الطرفين يكثر الغرر فإذا وجد أحدهما كان الغرر أقل. ورابعها: كون المبيع دون خمسة أوسق لما يأتي. وعن الإمام أحمد يجوز في الخمسة؛ لأن الرخصة ثبتت في العرية ثم نهي عما زاد على الخمسة، وشك الراوي في الخمسة في قوله: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرية في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق» (¬2) فردت إلى أصل الرخصة. والأول المذهب لأن الأصل تحريم الرطب بالتمر خولف فيما دون الخمسة بالخبر والخمسة مشكوك فيها فترد إلى الأصل. وخامسها: أن يكون بالمشتري حاجة إلى أكل الرطب «لأن زيد بن ثابت حين سأله محمود بن لبيد: ما عراياكم هذه؟ سمى رجالاً محتاجين من الأنصار شَكَوا إلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2080) 2: 764 كتاب البيوع، باب تفسير العرايا. وأخرجه مسلم في صحيحه (1539) 3: 1169 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يتبايعوا العرايا بخرصها من التمر يأكلونه رطباً» (¬1) متفق عليه. ومتى خولف الأصل بشرط لم تجز مخالفته بدون ذلك الشرط. ولأن ما أبيح للحاجة لم يبح مع عدمها كالزكاة للمساكين والرخص في السفر. وسادسها: أن لا يكون معه ثمن غير التمر لقوله في الحديث: «ولا نقد بأيديهم». وسابعها: أن يقبض البائع الثمن والمشتري الرطب قبل تفرقهما لأنه بيع تمر بتمر فاعتبرت فيه أحكامه. وقبض التمر بالكيل، والرطب بالتخلية؛ لأن الكيل ممكن في التمر دون الرطب. وأما كون مثل ما ذكر لا يجوز في سائر الثمار لا يجوز في وجهٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المُزَابنةِ، الثمرِ بالتمرِ، إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم. وعن بيع العنب بالزبيب و [عن] كل ثمر بخرصه» (¬2) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن. وأما كونه يجوز في وجهٍ وهو للقاضي؛ فلأن حاجة الناس إلى رطب هذه الثمار كحاجتهم إلى الرطب فجاز قياساً على النخل. والأول أصح؛ لما ذكر. وعن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه أرخص في بيع العرايا بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك» (¬3). ولأن الرخصة وردت في تمر النخيل وغيره لا يساويه في كثرة الاقتيات به وسهولة خرصه فيختص الحكم به. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في اختلاف الحديث (ر. فتح الباري 4: 459 طبعة الريان). وقول المصنف: متفق عليه وهم. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1303) 3: 596 كتاب البيوع، باب منه. وما بين المعكوفين زيادة من الجامع. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2072) 2: 763 كتاب البيوع، باب بيع المزابنة وهي بيع الثمر بالتمر ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1539) 3: 1168 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا.

قال: (ولا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما كمد عجوة ودرهم بمدين أو بدرهمين أو بمد ودرهم. وعنه: يجوز بشرط: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه). أما كون ما ذكر لا يجوز على المذهب ويسمى مسألة مُدّ عجوة؛ فلأنه مفض إلى (¬1) الربا وسيبين إن شاء الله تعالى. وأما كونه يجوز بشرط كون المفرد أكثر من الذي معه غيره كمدين بمد ودرهم، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه كمد ودرهم بمد ودرهم على روايةٍ؛ فلأن الزائد في مقابلة غير الجنس. قال المصنف في الكافي: الأول المذهب لما روى فضالة بن عبيد قال: «أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادةٍ فيها ذهب وخَرَزُ ابتاعها [رجل] بتسعةِ دنانير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تميز بينهما» (¬2) رواه أبو داود. ولأن الصفقة إذا جمعت (¬3) شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما. بدليل ما لو اشترى شقصاً وسيفاً فإن الشفيع يأخذ الشقص بقسطه من الثمن. فإذا قسم الثمن على القيمة أدى إلى الربا لأنه إذا باع درهماً ومداً قيمته درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة حصل في مقابلة الجيد مد وثلث. قال: (وإن باع نوعي جنس بنوع واحد منه كدينار قراضة وصحيح بصحيحين جاز. أومأ إليه أحمد وذكره أبو بكر، وعند القاضي هي كالتي قبلها). أما كون البيع في هذه المسألة يجوز على ما أومأ إليه الإمام أحمد؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل» (¬4)، والمماثلة المعتبرة المساواة في الوزن. والجودة ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3351) 3: 249 كتاب البيوع، باب في حلية السيف تباع بالدراهم. وما بين المعكوفين من السنن. وأصله عند مسلم مختصراً (1591) 3: 1213 كتاب المساقاة، باب بيع القلادة فيها خرز وذهب. (¬3) في هـ: أجمعت. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ساقطة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «جيدها ورديئها سواء». واختلاف القيمة ينبني على الجودة والرداءة. ولأنه باع ذهباً بذهب متساوياً في الوزن فصح كما لو اتفق النوع. وأما كونها كالتي قبلها فهي كمسألة مد عجوة عند القاضي؛ فلأن الثمن ينقسم على عوضه على حسب اختلافه في قيمته فكان الحكم هنا كما سبق. والأول أصح لما سبق. والثمن إنما ينقسم على المعوض فيما يشتمل على جنسين أو في غير الربويات بدليل ما لو باع نوعاً بنوع يشتمل على جيد ورديء. قال: (ولا يجوز بيع تمر منزوع النوى بما نواه فيه. وفي بيع النوى بتمر فيه النوى، واللبن بشاة ذات لبن، والصوف بنعجة عليها صوف روايتان). أما كون بيع تمر منزوع النوى أي لا نوى فيه بتمر فيه نوى لا يجوز؛ فلأنه يقع النوى فضلة فلا يحصل التساوي. وأما بيع النوى بتمر فيه نوى يجوز في روايةٍ؛ فلأن النوى في التمر غير مقصود ولهذا جاز بيع التمر بالتمر. وأما كونه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأن النوى مكيل فإذا باع كيلين نوى بكيل تمر فيه نوى لم يجز لأن التفاضل موجود. ولأنه إذا باع نوى وتمراً بنوى فقد باع جنساً فيه الربا ومعه غيره وقد تقدم فساده. وأما كون بيع اللبن بشاة ذات لبن، وبيع الصوف بنعجة لها صوف فيه الروايتان فلما ذكر في بيع النوى بتمر فيه نوى.

قال: (والمَرجع في الكيل والوزن إلى عرف أهل الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وما لا عرف له به ففيه وجهان أحدهما: يعتبر عرفه في موضعه. والآخر: يرد إلى أقرب الأشياء شبهاً به بالحجاز). أما كون المَرجع في الكيل والوزن إلى عرف أهل الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان له عرف؛ فلقوله عليه السلام: «المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة» (¬1)، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يُحمل قوله على تبيين الأحكام. ولأن ما كان مكيلاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف التحريم بتفاضل الكيل إليه فلا يجوز أن يتغير، وهكذا الوزن. وأما كون ما لا عرف له بالحجاز يعتبر عرفه في بلده في وجهٍ؛ فلأن المرجع في القبض والحِرْز والتفرق إلى العرف فكذا هنا. وأما كونه يرد إلى أقرب الأشياء شبهاً به بالحجاز في وجهٍ؛ فلأن الحوادث تُرَدّ إلى الأشبه بالمنصوص عليه فكذا هاهنا. قال المصنف في المغني: هو القياس. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3340) 3: 246 كتاب البيوع، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المكيال مكيال المدينة». وأخرجه النسائي في سننه (2520) 5: 54 كتاب الزكاة، كم الصاع.

فصل [في ربا النسيئة] قال المصنف رحمه الله: (وأما ربا النسيئة: فكل شيئين ليس أحدهما ثمناً، علة ربا الفضل فيهما واحدة؛ كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون لا يجوز النسأ فيهما. وإن تفرقا قبل التقابض بطل العقد). أما كون ربا النسيئة لا يجوز؛ فلأنه ربا فيدخل في الأدلة المذكورة أول الباب، وفي حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق (¬1) إلا مثلاً بمثل ولا تبيعوا منها غائباً بناجز» (¬2). وأما كون كل شيئين ليس أحدهما ثمناً، علة ربا الفضل فيهما واحدة لا يجوز النسأ فيهما؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد» (¬3). وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» (¬4) متفق عليه. وإنما اشترط كون أحدهما ليس ثمناً في كون النسأ لا يجوز لأن أحد العوضين إذا كان من الأثمان والآخر من غيرها جاز النسأ بغير خلاف لأن الشرع رخص في السلم والأصل في رأس ماله الدراهم والدنانير فلو لم يجز النسأ لانسد باب السلم في الموزون. ¬

_ (¬1) في ج: لا تبيعوا الذهب بالورق ولا الورق بالذهب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2068) 2: 761 كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1584) 3: 1208 كتاب المساقاة، باب الربا. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2027) 2: 750 كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1586) 3: 1209 كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً.

وإنما اشترط علة ربا الفضل واحدة؛ لأنها إذا اختلفت كالمكيل بالموزون أو اتفقت كالثياب بالثياب يكون في جواز النسأ خلاف يأتي ذكره بعد إن شاء الله تعالى. وأما قول المصنف رحمه الله: كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون فإشارة إلى ما فيه علة ربا الفضل على الصحيح من المذهب. ومن جَعَل العلة الثُّمنية والطعم ينبغي أن يمثل بالمطعوم ولا حاجة له إلى قوله: ولم يكن أحدهما ثمناً؛ لأن الثمينة لا تتعدى إلى غير الذهب والفضة، ومن جعلها الوزن والطعم أو الكيل والطعم ينبغي أن يمثل بالتمر وما أشبهه. وأما كون العقد يبطل إذا تفرقا قبل التقابض؛ فلأن ما اشترط قبضه في المجلس يبطل العقد بالتفرق قبله كالصرف. قال: (وإن باع مكيلاً بموزون جاز التفرق قبل القبض، وفي النسأ روايتان). أما كون التفرق قبل القبض فيما ذكر يجوز؛ فلأنه لو لم يجز لكان القبض شرطاً في جميع ما يحرم في النسأ وليس كذلك لأنه لو كان كذلك لما بقي ربا نسيئة لأن العقد يفسد بعدم التقابض، والإجماع منعقد على أن من أنواع الربا ربا النسيئة. وأما كون النسأ فيه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأنهما مالان من أموال الربا ليس أحدهما ثمناً فلم يجز النسأ فيهما كالمكيل بالمكيل. وأما كونه يجوز فيه في روايةٍ؛ فلأنه لم يوجد فيه أحد وصفي علة الربا. فجاز النسأ فيه؛ كالثياب بالحيوان. قال: (وما لا يدخله ربا الفضل كالثياب والحيوان يجوز النسأ فيهما. وعنه: لا يجوز. وعنه: لا يجوز في الجنس الواحد كالحيوان بالحيوان، ويجوز في الجنسين كالثياب بالحيوان). أما كون ما لا يدخله ربا الفضل كالثياب والحيوان وما أشبه ذلك مما ليس فيه ربا الفضل المتقدم ذكرها يجوز النسأ فيه على المذهب؛ فلما روى عبدالله بن عمرو قال:

«أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أستسلف إبلاً فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى مجيء المصدق» (¬1). [رواه أبو داود] (¬2). وإذا جاز في الجنس الواحد ففي الجنسين أولى. وأما كونه لا يجوز فيهما على روايةٍ؛ فلأنه بيع عرض بعرض فلم يجز النسأ فيهما كالعرض الذي يجري فيه ربا الفضل. وأما كونه لا يجوز في الجنس ويجوز في الجنسين على روايةٍ؛ فلأن سمرة روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعِ الحيوانِ بالحيوانِ نَسِيئة» (¬3) قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وذلك يدل على عدم جواز النسأ في الجنس الواحد بمنطوقه وعلى جوازه في الجنسين بمفهومه. وحكى المصنف رحمه الله في الكافي رواية رابعة هي: أن ذلك جائز مع التساوي، غير جائز مع التفاضل في الجنس الواحد؛ لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحيوانُ اثنين بواحدٍ لا يصلحُ نسيئاً ولا بأسَ به يداً بيد» (¬4) قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن ابن عمر «أن رجلاً قال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس إذا كان يداً بيد» (¬5) رواه الإمام أحمد في المسند. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3357) 3: 250 كتاب البيوع، باب في الرخصة في ذلك. ولفظه: «عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فنفذت الإبل فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة». (¬2) زيادة من ج. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3356) 3: 250 كتاب البيوع، باب في الحيوان بالحيوان نسيئة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1237) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وأخرجه النسائي في سننه (4620) 7: 292 كتاب البيوع، بيع الحيوإن بالحيوان نسيئة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2270) 2: 763 كتاب التجارات، باب الحيوان بالحيوان نسيئة. وأخرجه أحمد في مسنده (20237) 5: 21. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (1238) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2271) 2: 763 كتاب التجارات، باب الحيوان بالحيوان نسيئة. (¬5) أخرجه أحمد في مسنده (5885) 2: 109.

قال: (ولا يجوز بيع الكالئ بالكالئ وهو بيع الدين بالدين). أما كون بيع الكالئ بالكالئ لا يجوز فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» (¬1). ولأن في ذلك غرراً لأنه ربما وقع ممن الدين في ذمته جحود، أو منع، أو ظهر مفلساً فلا يقدر على تسليمه. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو بيع الدين بالدين فتفسير لبيع الكالئ بالكالئ. قال أبو عبيد بعد ذكر بيع الكالئ بالكالئ: هو النسيئة بالنسيئة. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (269) 3: 71 كتاب البيوع.

فصل [في الصرف] قال المصنف رحمه الله: (ومتى افترق المتصارفان قبل التقابض أو افترقا عن مجلس السَّلم قبل قبض رأس ماله بطل العقد، وإن قبض البعض ثم افترقا بطل في الجميع في أحد الوجهين، وفي الآخر يبطل فيما لم يقبض). أما كون العقد يطبل إذا افترق المتصارفان قبل التقابض؛ فلأن القبض في المجلس شرط في صحته بغير خلاف. والأصل فيه قوله عليه السلام: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» (¬1) وقوله: «بيعوا الذهب بالورق» (¬2) و «نهى أن يباع غائب منها بناجز» (¬3). ولأن الصرف إنما سمي صرفاً لانصراف كل واحد منهما عن صاحبه فإذا لم يحصل التقابض فقد ذهب معنى الصرف. وأما كونه يبطل إذا افترقا عن مجلس السَّلَم قبل قبض رأس ماله؛ فلأن قبض رأس ماله في المجلس لما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى (¬4). وأما كونه يبطل فيما لم يقبض إذا افترقا قبل قبض البعض فلفوات القبض المشترط. وأما كونه يبطل الباقي ففيه وجهان مبنيان على تفريق الصفقة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1240) 3: 541 كتاب البيوع، باب: ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلا بمثل ... بلفظ: « ... بيعوا الذهب بالفضة ... ». (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن تقابضا ثم افترقا فوجد أحدهما ما قبضه رديئاً فرده بطل العقد في إحدى الروايتين، والأخرى إن قبض عوضه في مجلس الرد لم يبطل، وإن رد بعضه وقلنا يبطل في المردود فهل يبطل في غيره؟ على وجهين). أما كون العقد يبطل إذا تصارفا في الذمة وتقابضا ثم افترقا فوجد أحدهما ما قبضه رديئاً فرده في إحدى الروايتين؛ فلأن قبض مال الصرف شرط لما تقدم وقد تبين أنه غير مقبوض. وأما (¬1) كونه لا يبطل إذا قبض البدل في مجلس الرد في الرواية الأخرى؛ فلأن قبض البدل في مجلس الرد يقوم مقام قبضه في مجلس البيع فوجب كونه مثله. وقول المصنف رحمه الله: فوجد ما قبضه رديئاً يشمل ما إذا كان من جنس المعقود عليه كالسواد في الفضة والوضوح في الذهب، وما إذا كان العيب من غير جنسه مثل أن يظهر نحاساً أو رصاصاً. واشترط في المغني كون العيب من الجنس فيجب حمل لفظه هنا على ذلك إذا قلنا: قبض البدل يقوم مقام قبضه في مجلس الرد، وإذا قلنا: لا يقوم لا حاجة إلى التفصيل؛ لأن البطلان مشترك بين العينين. وأما كونه يبطل في غير المردود إذا رد البعض لكونه رديئاً، وقيل (¬2) يبطل في المردود ففيه وجهان مبنيان على تفريق الصفقة. قال: (والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد في أظهر الروايتين فلا يجوز إبدالها. وإن وجدها معيبة خُيّر بين الإمساك والفسخ، ويتخرج أن يمسك ويطالب بالأرش. وإن خرجت مغصوبة بطل العقد، والأخرى لا تتعين فلا يثبت فيها ذلك). أما كون الدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد مثل أن يقول: بعتك هذا الدينار بهذه الدراهم في أظهر الروايتين؛ فلأن ذلك عوض مشار إليه في العقد فوجب أن يتعين كسائر الأعواض. ولأنه أحد العوضين فتعين بالتعيين كالآخر. ¬

_ (¬1) في هـ: أما. (¬2) في هـ: قيل.

فعلى هذا لا يجوز إبدالها لأن العقد واقع على عينها فإذا أخذ غير ذلك أخذ ما لم يشتره. وإن وجدها معيبة خُيّر بين الإمساك والفسخ كما إذا وجد المبيع معيباً، ولا أرش له مع الإمساك إن كان العقد وقع على مثله كالدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير لأن أخذ الأرش مفض إلى التفاضل المحرم. وخرّج القاضي وجهاً في جواز أخذه في المجلس وعلله بأن الزيادة طرأت بعد العقد. قال المصنف في المغني: ليس لهذا الوجه وجه. وإن وقع العقد على غير مثله كالدراهم والدنانير فله أخذ الأرش في المجلس (¬1). ذكره المصنف في المغني ولم يحك فيه خلافاً وعلله بأن أكثر ما فيه حصول زيادة من أحد الطرفين ولا يُمنع ذلك في الجنسين. ثم قال: ولذلك أجزنا أخذ الأرش في المبيع. ثم قال: وإن كان بعد التفرق لم يجز لأنه يفضي إلى حصول التفرق قبل قبض أحد العوضين. فعلى هذا يجب حمل كلام المصنف هنا على ما إذا كان العقد مشتملاً على الدراهم والدنانير من الطرفين ليطابق ما ذكره في المغني. وإن خرجت مغصوبة بطل العقد كما لو خرج المبيع مغصوباً. وأما كونها لا تتعين في روايةٍ؛ فلأنه يجوز إطلاق ذلك في العقد فلا تتعين كالمكاييل والصنج. فعلى هذا يجوز إبدالها لأن المقصود يحصل بذلك، وإن وجدها معيبة لم يخير بين الإمساك والفسخ بل له المطالبة بما لا عيب فيه لأن حقه لم يتعين فيها أشبه ما لو كان الصرف في الذمة، وإن خرجت مغصوبة لم يبطل العقد وله المطالبة بالبدل لما ذكر قبل. ¬

_ (¬1) في هـ: الجنس.

قال: (ويحرم الربا بين المسلم والحربي وبين المسلمين في دار الحرب كما يحرم بين المسلمين في دار الإسلام). أما كون الربا (¬1) يحرم بين المسلم والحربي؛ فلأن الربا إنما حرم لعلة التفاضل المنهي عنه شرعاً وذلك موجود بين المسلم والحربي كما هو بين المسلم والمسلم. وأما كونه يحرم بين المسلمين في دار الحرب فلعموم قوله سبحانه: {وحرم الربا} [البقرة: 275]، وقوله: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة: 275]، وقوله عليه السلام: «من زاد أو ازداد فقد أربا» (¬2). ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

باب بيع الأصول والثمار

باب بيع الأصول والثمار قال المصنف رحمه الله: (ومن باع داراً تناول البيعُ أرضها وبناءها وما يتصل بها لمصلحتها كالسلاليم والرفوف المسمرة والأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرحا المنصوبة، ولا يدخل ما هو مودع فيها من الكنز والأحجار المدفونة، ولا المنفصل منها كالحبل والدلو والبكرة والقفل والفرش، إلا ما كان من مصالحها كالمفتاح وحجر الرحا الفوقاني فعلى وجهين). أما كون بيع الدار يتناول أرضها وبناءها؛ فلأنهما داخلان في مسمى الدار. وأما كونه يتناول ما يتصل بالدار لمصلحتها؛ فلأنه متصل بها لمصلحتها أشبه حيطانها. وأما قول المصنف رحمه الله: كالسلاليم ... إلى قوله: والرحا المنصوبة فتعداد لأشياء متصلة بالدار لمصلحتها. وأما كون ما هو مودع فيها من الكنز والأحجار المدفونة لا يدخل في بيع الدار؛ فلأن ذلك مودع فيها للنقل عنها أشبه الفرش والستور. وأما كون المنفصل الذي لا مصلحة للدار فيه كالحبل والدلو والبكرة والقفل والفرش لا يدخل؛ فلأن اللفظ لا يشمله ولا هو من مصلحة المبيع. فلم يدخل؛ كالمودَع فيها. وأما كون ما فيه مصلحة للدار كالمفتاح وحجر الرحا الفوقاني يدخل على وجهٍ؛ فلأنه من مصلحة المبيع. أشبه المتصل بها. وأما كونه لا يدخل على وجهٍ؛ فلأن لفظ الدار لا يتناوله ولا هو متصل لمصلحتها أشبه الفرش والستور.

قال: (وإن باع أرضاً بحقوقها دخل غراسها وبناؤها في البيع، وإن لم يقل: بحقوقها فعلى وجهين). أما كون الغِراس والبناء يدخلان فيما إذا باع أرضاً بحقوقها؛ فلأن كل واحد منهما تابع للأرض من كل وجه ويُتَّخَذ للبقاء فيه لأنه ليس لانتهائه مدة معلومة. وأما كونهما يدخلان أيضاً إذا لم يقل بحقوقها على وجهٍ؛ فلأنهما من حقوق الأرض بدليل ما لو قال: بحقوقها، وما كان من حقوقها يدخل في الإطلاق كطُرُقها ومنافعها. وأما كونهما لا يدخلان على وجهٍ؛ فلأنهما ليسا من الأرض فلا يدخلان في البيع كالثمرة المؤبرة في بيع الشجرة. ومن نصر الأول قال الثمرة لا تراد للبقاء فليست من حقوقها بخلاف البناء والشجر. قال: (وإن كان فيها زرع يجز مرة بعد أخرى كالرطبة والبقول، أو تتكرر ثمرته كالقثاء والباذنجان فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة واللقطة الظاهرة من القثاء والباذنجان للبائع إلا أن يشترطه المبتاع). أما كون الأصول فيما ذكر للمشتري؛ فلأن ذلك ركب للبقاء أشبه الشجر. وأما كون الجزة الظاهرة واللقطة الظاهرة مما ذكر للبائع ما لم يشترطه المشتري؛ فلأنه يؤخذ ثمرته مع بقاء أصله أشبه ثمرة الشجرة المؤبرة. وأما كون ذلك للمبتاع إذا اشترطه؛ فلأنه لو اشترى شجراً عليه ثمر قد أُبِّر واشترطه كان له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ابتاعَ نخلاً بعد أن تُؤَبَّرَ فثمرتُها للبائعِ إلا أن يشترطهُ المبتاع» (¬1) فكذا هاهنا لمشاركته لما ذكر معنى الموجب لمشاركته حكماً. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن كان فيها زرع لا يحصد إلا مرة كالبر والشعير فهو للبائع مبقى إلى الحصاد إلا أن يشترطه المبتاع). أما كون ذلك للبائع ما لم يشترطه المبتاع؛ فلأنه نماء ظاهر، لفصله غاية فلم يدخل في بيع الأرض كالطلع المؤبر. وأما كونه مبقى إلى الحصاد؛ فلأن ذلك هو العرف في نقله فحمل عليه كالثمرة تباع بعد بُدُوّ صلاحها. وأما كونه للمبتاع (¬1) إذا اشترطه؛ فلأنه بمنزلة الثمر الذي أُبِّر أصله وقد تقدم دليله. ¬

_ (¬1) في هـ: للبائع.

فصل قال المصنف رحمه الله: (ومن باع نخلاً مؤبراً. وهو: ما تشقق طلعه فالثمر للبائع [متروكاً في رؤوس النخل إلى الجذاذ] (¬1) إلا أن يشترطه المبتاع، وكذلك الشجر إذا كان فيه ثمر باد كالعنب والتين والتوت والرمان والجوز. وما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح والسفرجل واللوز، وما خرج من أكمامه كالورد والقطن وما قبل ذلك فهو للمشتري. والورق للمشتري بكل حال. ويحتمل في ورق التوت المقصود أخذه أنه إن تفتح فهو للبائع وإن كان حباً فهو للمشتري. وإن ظهر بعض الثمرة فهو للبائع وما لم يظهر فهو للمشتري. وقال ابن حامد: الكل للبائع). أما كون ثمر النخل المؤبر للبائع إذا لم يشترطه المبتاع فلما تقدم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترطه المبتاع» (¬2) رواه الأئمة منهم البخاري وأبو داود. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2250) 2: 838 كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1543) 3: 1173 كتاب البيوع، باب من باع نخلاً عليها ثمر. وأخرجه أبو داود في سننه (3433) 3: 268 كتاب البيوع، باب في العبد يباع وله مال. وأخرجه الترمذي في جامعه (1244) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في ابتياع النخل بعد التأبير ... وأخرجه النسائي في سننه (4636) 7: 297 كتاب البيوع، العبد يباع ويستثني المشتري ماله. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2211) 2: 746 كتاب التجارات، باب ما جاء فيمن باع نخلاً مؤبراً أو عبداً له مال. وأخرجه أحمد في مسنده (6380) 2: 150.

وأما كونه يُتْرك في رؤوس النخل إلى الجذاذ؛ فلأن العرف أن ذلك لا يقطع عند بيعه بل عند استحكام نضجه وصلاحيته للأكل. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو ما تشقق طلعه فتفسير للنخل المؤبر. والتأبير في اللغة: التلقيح، وقيل: هو ظهور الثمرة من جف الطلع. والأول أكثر وأشهر. قال المصنف في المغني: إلا أن الحكم متعلق بالظهور دون التلقيح بغير خلاف، ولذلك فسّره هنا بما تشقق طلعه. وأما كون الشجر الذي فيه ثمر باد كالعنب والتين والتوت والرمان والجوز كالنخل؛ فلأن بُدُوّ ذلك من شجره بمنزلة ظهور الرطب من طلعه. وأما كون ما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح والسفرجل واللوز والأجاص والخوخ للبائع وما لم يظهر للمشتري؛ فلأن ظهوره من ذلك كظهوره من الطلع وعدم ظهوره كعدم ظهوره فيجب أن يعطى حكمه. وقال القاضي: يحتمل أن يكون للبائع بظهور نوره لأن الطلع إذا تشقق كان كنور الشجر. والأول أولى لأن الذي في الطلع عين التمر بخلاف النور فإنه يتساقط والثمر غيره. وأما كون ما يخرج من أكمامه كالورد والياسمين والقطن والبنفسج للبائع؛ فلأن خروجه من أكمامه كظهور الثمرة من الطلع وما ظهر من الطلع فهو للبائع. فكذلك ما هو في معناه. وأما كون ما قبل ذلك كله للمشتري؛ فلأن تقييد ما تقدم ذكره بما ذكر يدل على نفي الحكم عند عدمه. ولأن ذلك تبع الأصل فوجب أن يكون للمشتري بكل حال كالأصل (¬1). وأما كون الورق الذي لا يقصد أخذه كورق المشمش والجوز وما أشبههما للمشتري بكل حال بلا خلاف في المذهب؛ فلأنه ليس بثمر ولا يقصد أخذه فكان تابعاً للأصل. ¬

_ (¬1) في هـ: فوجب أن يكون المشتري كالأصل.

وأما كون ما يقصد أخذه كورق التوت للمشتري على المذهب فبالقياس على سائر الورق. وأما كونه يحتمل أنه إن تفتح فهو للبائع وإن كان حباً فهو للمشتري؛ فلأنه بمنزلة الثمر. وأما كون ما ظهر من الثمرة للبائع وما لم يظهر للمشتري على المذهب؛ فلأن الحديث المتقدم دل بمنطوقه على أن المؤبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري. وأما كون الكل للبائع على قول ابن حامد؛ فلأنه إذا لم يحصل الكل للبائع أدى إلى الإضرار باشتراك الأيدي في البستان. ولأن الباطن يتبع الظاهر كأساسات الحيطان. قال: (وإن احتاج الزرعُ أو الثمرة إلى سقي لم يلزم المشتري ولم يملك منع البائع منه). أما كون المشتري لا يلزمه سقي زرع البائع ولا ثمرته؛ فلأنه لا يلزمه تسليم ذلك إليه. فإن قيل: لو كانت الثمرة للمشتري على أصل البائع لزمه السقي فما الفرق؟ قيل: الفرق بينهما أن ثمرة المشتري التي على أصل البائع عليه تسليمها إليه بخلاف ما ذكر. وإلى ذلك وقعت الإشارة في الدليل. وأما كون المشتري لا يملك منع البائع من السقي؛ فلأن ذلك مما يبقى به فلزمه تمكينه منه كتركه على الأصول.

وقيد المصنف السقي بالحاجة لأن السقي لغير حاجة يملك المشتري منعه منه لأنه سفه يتضمن التصرف في ملك غيره. وأطلق الحاجة وظاهره أنه لا يملك المنع سواء كان يضر ذلك بالشجر أو لا. وصرح به المصنف في المغني وعلله بأنه دخل في العقد على ذلك لأن العقد اقتضى التبقية.

فصل [في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها] قال المصنف رحمه الله: (ولا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، ولا الزرع قبل اشتداد حبه إلا بشرط القطع (¬1) في الحال، ولا بيع الرطبة والبقول إلا بشرط جزه، ولا القثاء ونحوه إلا لقطة لقطة إلا أن يبيع أصله، والحصاد واللقاط على المشتري فإن باعه مطلقاً أو بشرط التبقية لم يصح). أما كون بيع الثمرة قبل بدو صلاحها لا يجوز إذا لم يشترط القطع في الحال فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعِ الثمارِ حتى يَبدُو صَلاحَها، نَهى البائعَ والمشتري» (¬2) متفق عليه. والنهي يقتضي الفساد. وأما كونه يجوز بشرط القطع في الحال؛ فلأن النهي إنما كان خوفاً من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها بدليل ما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهى عن بيعِ الثمارِ حتى تُزْهِي. قال: أرأيتَ إذا منعَ الله الثمرةَ، بمَ يأخذُ أحدُكُمْ مالَ أخيه» (¬3) رواه البخاري. وهذا مأمون فيما يشترط قطعه فجاز بيعه كما لو بدا صلاحه. وأما كون بيع الزرع قبل اشتداد حبه لا يجوز إذا لم يشترط القطع فلما روى عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهى عن بيعِ السنبلِ حتى يَبْيضَّ ويأمنَ العَاهَة» (¬4) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) في هـ: جزه القطع. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2082) 2: 766 كتاب البيوع، باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1534) 3: 1165 كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها بغير شرط القطع. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2086) 2: 766 كتاب البيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم أصابته عاهة فهو من البائع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1555) 3: 1190 كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1535) 3: 1165 كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع. وأخرجه أبو داود في سننه (3368) 3: 252 كتاب البيوع، باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. وأخرجه الترمذي في جامعه (1227) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها. وأخرجه النسائي في سننه (4551) 7: 270 كتاب البيوع، بيع السنبل حتى يبيض.

وروي عنه «أنه عليه السلام (¬1) نَهى عن بيعِ الحبِ حتى يَشتد» (¬2) رواه الترمذي. وأما كونه يجوز إذا شرط القطع فلزوال معنى النهي بدليل قوله: «ويأمن العاهة» (¬3). وأما كون بيع الرطبة والبقول لا يجوز إلا بشرط جز الظاهر منه؛ فلأن ما في الأرض مستور مغيب وما يحدث منه معدوم فلم يجز بيعه كبيع ما يحدث من الثمرة. وأما كون بيع ما ظهر منه يجوز بشرط جزه؛ فلأنه مبيع معلوم لا جهالة فيه ولا غرر أشبه ما جاز بيعه من غيره. وأما كون بيع القثاء والباذنجان لا يجوز إلا لقطة لقطة؛ فلأن الزائد على ذلك ثمر لم يخلق فلم يجز بيعه أشبه ما لو باع ذلك قبل ظهور شيء منه. وأما كون بيع ذلك لقطة لقطة يجوز؛ فلأنه مبيع معلوم لا جهالة فيه ولا غرر أشبه ما تقدم. وأما قول المصنف رحمه الله: إلا أن يبيع أصله فيحتمل أن يعود إلى قوله: ولا بيع الرطبة وما بعده لقربه منه، ويحتمل أن يعود إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وما بعده وهو الظاهر (¬4) إذ الاستثناء المتعقب جملاً يعود إلى كلها لا سيما إذا طابق الحكم. ¬

_ (¬1) في هـ: عليه السلام أنه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3371) 3: 253 كتاب البيوع، باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. وأخرجه الترمذي في جامعه (1228) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2217) 2: 747 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. وأخرجه أحمد في مسنده (13638) 3: 250. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) في هـ: هو.

فعلى هذا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها إذا بيعت مع الشجرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من باع نخلاً قبل أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترطه المبتاع» (¬1)، وبيع الزرع قبل اشتداده إذا بيع مع الأرض لأنه بمنزلة الثمر على الشجر. ومثل ذلك بيع الرطبة والبقول لأنه في معناه، وبيع القثاء والباذنجان مع أصولهما لأن ذلك أصل يتكرر ثمره أشبه الشجر. وأما كون الحصاد واللقاط على المشتري؛ فلأن ذلك من مؤونة نقلها أشبه ما لو اشترى طعاماً في دار فإن الأجرة على المشتري. وفارق هذا الكيال في المكيل والوزان في الموزون من حيث إن أجرة ذلك على البائع لأن ذلك من مؤونة تسليم المبيع إلى المشتري وهاهنا حصل التسليم بدون القطع واللقاط بدليل جواز بيعها والتصرف فيها بدون ذلك. وأما كون بيع ذلك كله مطلقاً وبشرط التبقية لا يصح فلما تقدم من الأدلة الدالة على اشتراط ما تقدم ذكره من بُدُوّ صلاحٍ واشتداد حبٍّ وشرط جز والبيع لقطة لقطة. قال: (وإن اشترط القطع ثم تركه حتى بدا صلاح الثمرة وطالت الجزة وحدث ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطباً فأثمرت بطل البيع. وعنه: لا يبطل ويشتركان في الزيادة. وعنه: يتصدقان بها). أما كون البيع فيما ذكر يبطل على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بُدوّ صلاحها» (¬2). استثني منه ما اشتراه بشرط القطع فقطع بالإجماع فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. ولأن التبقية معنى حرم اشتراطها لحق الله تعالى فأبطل العقد تحققها كالنسيئة فيما يحرم فيه النسأ. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونه لا يبطل على روايةٍ؛ فلأن أكثر ما فيه اختلاط المبيع بغيره أشبه ما لو اشترى حنطة فانهالت عليها أخرى أو ثوباً فاختلط بثوب آخر. والأول أصح قاله القاضي ووجهه ما مر. ولأن القضاء بالصحة يفضي إلى اتخاذ ذلك وسيلة إلى الشراء للقطع ثم يترك وذلك حرام كبيع العينة. وأما كون المشتري والبائع يشتركان في الزيادة على القول بأن البيع لا يبطل على روايةٍ فلحصولها في ملكهما لأن ملك المشتري الثمرة وملك البائع الأصل وهما سبب الزيادة. وقال القاضي: الزيادة للمشتري كالعبد إذا سمن. وحمل قول أحمد على الاستحباب. وأما كونهما يتصدقان بها على روايةٍ فلاشتباه الأمر فيها. وطريق العلم بالزيادة ليشتركان فيها أو يتصدقان بها أن ينظر كم المبيع حين الشراء؟ وكم قيمته بعد حدوث ما ذكر؟ وما بينهما يشتركان فيه أو يتصدقان به على ما مضى تقريره. فإن جهلت القيمة وُقِف الأمر حتى يُعلم أو يصطلحا على شيء. فإن قيل: على القول بأن البيع يبطل. قيل: الزيادة للبائع مع الأصل لأن النماء تبع لأصله. وعنه: يتصدقان بالزيادة لما ذكر في المشتري. قال: (وإذا بدى الصلاح في الثمرة واشتد الحب جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية. وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ، ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل). أما كون بيع ما ذكر مطلقاً وبشرط التبقية يجوز؛ فلأن «نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها» (¬1) و «عن بيع الحب حتى يشتد» (¬2) يدل بمفهومه على ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

جواز البيع بعد بدو الصلاح وعن بيع الحب قبل اشتداده لأجل خوف التلف وهذا المعنى مفقود هنا. وأما كون المشتري لذلك له تبقيته إلى الحصاد والجذاذ؛ فلأن النقل والتحويل يجب اعتباره بالعرف، والعرف يقضي بالترك إلى الحصاد والجذاذ لأنه حينئذ أوان الانتفاع به. وأما كون البائع يلزمه سقيه إن احتاج إليه؛ فلأنه يجب عليه تسليم ذلك كاملاً ولا يكون ذلك إلا بالسقي. فإن قيل: فلم قلتم إذا باع الأصل وعليه ثمرة للبائع لا يلزم المشتري سقيها؟ قيل: لأن المشتري وإن كان صاحب الأصل إلا أنه لا يلزمه تسليم الثمرة لأن البائع لم يملكها من جهته وإنما بقي ملكه عليها بخلاف مسألتنا. وصرح المصنف رحمه الله: بأن السقي لازم وإن تضرر الأصل لئلا يتوهم سقوطه عند ذلك. وإنما لم يعتبر ضرر البائع لأنه دخل على ذلك. قال: (وإن تلفت بجائحة من السماء رجع على البائع. وعنه: إن أتلفت الثلث فصاعداً ضمنه البائع، وإلا فلا. وإن أتلفه آدمي خُيّر المشتري بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلِف). أما كون المشتري يرجع على البائع بما تلف بجائحة فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ بوضعِ الجَوائِح» (¬1)، وعنه عليه السلام أنه قال: «إن بعت من (¬2) أخيك ثمراً ثم أصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً. بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ » (¬3) رواه مسلم. وعنه عليه السلام: «من باع ثمراً فأصابته جائحة فلا تأخذ من مال أخيك شيئاً. علام يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم» (¬4) رواه أبو داود وابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1554) 3: 1191 كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1554) 3: 1190 كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3470) 3: 276 كتاب البيوع، باب في وضع الجائحة. وأخرجه النسائي في سننه (4527) 7: 264 كتاب البيوع، وضع الجوائح. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2219) 2: 747 كتاب التجارات، باب بيع الثمار سنين والجائحة.

ولأن التخلية في الشجر ليس بقبض تام فوجب كونه من ضمان البائع كالذي لم يقبض. ولأن الثمرة في الشجر كالمنافع في الإجارة تؤخذ حالاً فحالاً. ثم لو تلفت المنافع قبل استيفائها كانت من ضمان الآجر فكذا هاهنا. وأما كونه يرجع من غير فرق بين القليل والكثير على المذهب؛ فلأن الأحاديث المتقدمة تشملها. وأما كون الجائحة إن أتلفت الثلث فصاعداً يضمنه البائع فلما تقدم، وإن أتلفت دون الثلث لم يضمنه على روايةٍ؛ فلأنه لا بد أن يأكل الطير منها وتنثر الريح وتسقط ولا بد من ضابط فوجب أن يكون الثلث لأن ذلك قد اعتبره الشرع في مواضع منها: الوصية والعطية وتساوي جراح المرأة الرجل. قال الإمام أحمد: يستعمل الثلث في سبع عشرة مسألة. ولأن الثلث داخل في حد الكثرة دليله قوله عليه السلام: «الثلث والثلث كثير» (¬1). وما دونه داخل في حد القلة لأن ما دونه لو دخل في حد الكثرة لقدّره النبي صلى الله عليه وسلم به. وأما كون الجائحة كل آفة لا صنع للآدمي فيها؛ فلما روى جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجائحة تكون في البرد والجراد والحتف والسيل وفي الريح» (¬2). وجه الحجة منه: أن الراوي فسر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فوجب الرجوع إليه لأنه أعلم بمراده وأفهم لكلامه. وأما كون المشتري يخير بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف فيما إذا أتلف ذلك آدمي؛ فلأن ذلك شيء أتلفه آدمي قبل تكامل قبضه فثبت للمشتري الخيرة المذكورة أشبه الآدمي إذا أتلف المبيع قبل قبضه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) لم أقف عليه عن جابر. وقد أخرج أبو داود عن عطاء قال: «الجوائح كل ظاهرٍ مُفسدٍ من مطرٍ أو بردٍ أو جرادٍ أو ريحٍ أو حريقٍ» (3471) 3: 277 كتاب البيوع، باب في تفسير الجائحة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 306 كتاب البيوع، باب ما جاء في وضع الجائحة.

ولأن المشتري أمكنه الرجوع ببدل المتلف فلا حاجة إلى الرجوع على البائع. قال: (وصلاح بعض ثمرة الشجرة صلاح لجميعها، وهل يكون صلاحاً لسائر النوع الذي في البستان؟ على روايتين). أما كون صلاح بعض الثمرة صلاحاً لجميع ما في الشجرة؛ فلأنه لو لم يكن كذلك لأدى بيع ما بدى صلاحه إلى الضرر والمشقة وسوء المشاركة. وأما كون صلاح نوع صلاحاً لسائر النوع الذي في البستان على روايةٍ فلما ذكر. وأما كونه لا يكون صلاحاً على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بُدُوّ الصلاح في ثمر النخل أن يحمر أو يصفر، وفي العنب أن يسودّ (¬1) ولم يوجد ذلك. قال: (وبدوّ الصلاح في ثمر النخل أن يحمر أو يصفر، وفي العنب أن يتموه، وفي سائر الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله). أما كون بدو الصلاح في ثمر النخل أن يحمر أو يصفر فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع الثمرة حتى تزهو. قيل: وما تزهو؟ قال: تحمارّ أو تصفارّ» (¬2) رواه البخاري. وأما كون بدو صلاح العنب أن يتموه فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نَهى عن بيعِ العنبِ حتى يَسْوَد» (¬3) رواه الترمذي. ¬

_ (¬1) ر الحديثين التاليين. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2085) 2: 766 كتاب البيوع، باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1555) 3: 1190 كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح. كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3371) 3: 253 كتاب البيوع، باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. وأخرجه الترمذي في جامعه (1228) 3: 530 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2217) 2: 747 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. وأخرجه أحمد في مسنده (13596) 3: 250.

وأما كون بدو الصلاح في سائر الثمار أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نَهى عن بيع الثمرِ حتى يَطيب» (¬1) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2077) 2: 764 كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1536) 3: 1176 كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة ...

فصل [فيمن باع عبدا وله مال] قال المصنف رحمه الله: (ومن باع عبداً له مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط المبيع، وإن لم يكن قصده المال لم يشترط، وإن كانت عليه ثياب فقال أحمد: ما كان للجمال فهو للبائع وما كان للبس المعتاد فهو للمشتري). أما كون مال العبد المبيع لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من باع عبداً له مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» (¬1) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة. وأما كون العلم بالمال وسائر شروط المبيع يشترط إذا كان قصد المشتري المال؛ فلأنه مبيع مقصود أشبه ما لو ضم إلى العبد عبداً آخر. وأما كون ذلك لا يشترط إذا لم يكن قصد المشتري المال؛ فلأن المال داخل تبعاً فلم يشترط ذلك كأساسات الحيطان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2250) 2: 838 كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1543) 3: 1173 كتاب البيوع، باب من باع نخلاً عليها ثمر. وأخرجه أبو داود في سننه (3433) 3: 268 كتاب البيوع، باب في العبد يباع وله مال. وأخرجه الترمذي في جامعه (1244) 3: 546 كتاب البيوع، باب ما جاء في ابتياع النخل بعد التأبير والعبد وله مال. وأخرجه النسائي في سننه (4636) 7: 297 كتاب البيوع، العبد يباع ويستثني المشتري ماله. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2211) 2: 746 كتاب التجارات، باب ما جاء فيمن باع نخلاً مؤبراً أو عبداً له مال.

وأما كون ثياب العادة للمشتري دون ثياب الجمال؛ فلأن ثياب العادة يتعلق بها مصلحة العبد وحاجته إذ لا غنى له عنها فجرى مجرى مفاتيح الدار بخلاف ثياب الجمال فإنها زائدة على العادة ولم تجر العادة بالمسامحة فيها فجرى مجرى الستور في الدار.

باب السلم

باب السلم السلم جائز بالكتاب والسنة والإجماع والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282]. روي عن ابن عباس أنه قال: «أشهد أن السلف المضمون إلى أجلٍ مسمى قد أحلهُ اللهُ في كتابهِ وأذنَ فيه ثم قرأ هذه الآية» (¬1). وأما السنة فما روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قدمَ المدينةَ وهم يُسْلِفُونَ في الثمارِ السنتينِ والثلاث. فقال: من أسلفَ فليسلف في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلوم» (¬2). وعن عبدالله بن أبي أوفى وعبدالرحمن بن أبزى أنهما قالا: «كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب. فقيل: أكان لهم زرع أم لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك» (¬3) رواه البخاري. وأما الإجماع فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلف جائز. وأما المعنى؛ فلأن المثمن في البيع أحد عوضي العقد فجاز أن يثبت في الذمة كالثمن. ولأن بالناس حاجة إليه لأن أرباب الزرع والثمار يحتاجون إلى النفقة عليها لتكمل فجوز لهم السلم ليرتفقوا أو يرتفق المسلم بالمسلم بالاسترخاص. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (14064) 8: 5 كتاب البيوع، باب لا سلف إلا إلى أجل معلوم. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 19 كتاب البيوع، باب جواز الرهن والحميل في السلف. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2125) 2: 781 كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1604) 3: 1226 كتاب المساقاة، باب السلم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2136) 2: 784 كتاب السلم، باب السلم إلى أجل معلوم.

قال المصنف رحمه الله: (وهو: نوع من البيع يصح بألفاظه وبلفظ السَّلَم والسَّلَف). أما كون السلم نوعاً من البيع؛ فلأنه بيع إلى أجل فيدخل في البيع لأنه يشمله وغيره. وأما كونه يصح بألفاظ البيع؛ فلأنه بيع حقيقة. وأما كونه يصح بلفظ السلم والسلف؛ فلأنهما موضوعان للبيع الذي عجل ثمنه وأجل مثمنه. قال: (ولا يصح إلا بشروط سبعة: أحدها: أن يكون فيما يمكن ضبط صفاته كالمكيل والموزون والمذروع، فأما المعدود والمختلف كالحيوان والفواكه والبقول والجلود والرؤوس ونحوها ففيه روايتان). أما كون السلم لا يصح إلا بشروط سبعة فلما يأتي ذكره في مواضعها. وأما كون أحدها: أن يكون السلم فيما يمكن ضبط صفاته؛ فلأن ما لا يمكن ضبط صفاته يختلف اختلافاً كثيراً وذلك وسيلة إلى المنازعة والمشاقة المطلوب عدمها. وأما قول المصنف رحمه الله: كالمكيل والموزون والمذروع فإشارة إلى أن ذلك كله مما يمكن ضبط صفاته والمكيل كالحنطة والشعير والزبيب وما أشبه ذلك والموزون كالحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك، والمذروع كالثياب وما أشبه ذلك. وأما كون السلم في المكيل والموزون مما ذكر وشبهه يصح؛ فلأن بعضه منصوص عليه والباقي في معناه فيقاس عليه. ولأن ما ذكر ضبطه ممكن فلم يؤد إلى المنازعة المانعة من الصحة. وأما كون المعدود المختلف كالحيوان وبقية ما ذكره المصنف رحمه الله يصح السلم فيه في روايةٍ: أما في الحيوان؛ فلأن أبا رافع قال: «استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بَكْراً» (¬1) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1600) 3: 1224 كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئا فقضى خيراً منه ... وأخرجه أبو داود في سننه (3346) 3: 247 كتاب البيوع، باب في حسن القضاء. وأخرجه الترمذي في جامعه (1318) 3: 609 كتاب البيوع، باب ما جاء في استقراض البعير أو الشيء من الحيوان أو السن. وأخرجه النسائي في سننه (4617) 7: 291 كتاب البيوع، استسلاف الحيوان واستقراضه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2285) 2: 767 كتاب التجارات، باب السلم في الحيوان.

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبتاع البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى مجيء المصدق» (¬1). ولأن ذلك يثبت في الذمة صداقاً فيثبت في السلم كالثياب. وأما في بقية ما ذكر؛ فلأنه يساوي الحيوان معنى فوجب أن يساويه حكماً. وأما كونه لا يصح في روايةٍ: أما في الحيوان فلما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: «إن من الربا أبواباً لا تخفى، وإن منها السَّلَم في السن» (¬2). وأما في بقية ما ذكر فلما ذكر قبل. وظاهر المذهب أن السلم في ذلك يصح قاله المصنف في المغني. قال: (وفي الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط؛ كالقماقم والأسطال الضيقة الرؤوس، وما يجمع أخلاطاً متميزة؛ كالثياب المنسوجة من نوعين وجهان). أما كون السلم في المختلفة الرؤوس كما ذكر لا يصح في وجهٍ؛ فلأن الصفة (¬3) لا تأتي على ذلك. وأما كونه يصح في وجهٍ؛ فلأن التفاوت في ذلك يسير. وأما كون ما يجمع أخلاطاً متميزة كالثوب المنسوج من قطن وكتان أو إبريسم يصح السلم فيه في وجهٍ؛ فلأن ضبطه ممكن. وأما كونه لا يصح في وجهٍ؛ فلأنه يجمع أخلاطاً أشبه الغالية. والأول أصح. قاله المصنف في الكافي. ودليله ما تقدم. والفرق بين ما ذكر وبين الغالية أن ما ذكر يجمع أخلاطاً متميزة بخلاف الغالية. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 23 كتاب البيوع، باب من أجاز السلم في الحيوان بسن ... (¬3) في هـ: الصفقة.

قال: (ولا يصح فيما لا ينضبط كالجواهر كلها، والحوامل من الحيوان، والمغشوش من الأثمان، وغيرها، وما يجمع أخلاطاً غير متميزة؛ كالغالية والند والمعاجين). أما كون السلم في الجواهر كاللؤلؤ والزبرجد والياقوت والعقيق ونحوها لا يصح؛ فلأنها تختلف اختلافاً متبايناً بالصغر والكبر وحسن التدوير وزيادة ضوئها. وأما كونه في الحوامل من الحيوان لا يصح؛ فلأن الولد مجهول. وحكى المصنف في الكافي وجهاً في صحة السلم فيها؛ لأن الحمل لا حكم له مع الأم بدليل البيع. وأما كونه في المغشوش من الأثمان لا يصح؛ فلأن غشه يمنع العلم بالقدر المقصود منه فلا يصح السلم فيه لأن فيه غرراً. وقول المصنف رحمه الله: وغيرها مراده المغشوش من غير الأثمان كاللبن المشوب بالماء والحنطة المخلوطة بالزوان وما أشبههما. ودليل ذلك ما مر في مغشوش الأثمان. وأما كونه فيما يجمع أخلاطاً غير متميزة كالغالية والند والمعاجين لا يصح؛ فلأن الصفة لا تأتي على ذلك فلم يصح السلم فيه لعدم ضبطه. قال المصنف في الكافي: وفي معناه القسي المشتملة على الخشب والقرن والقصب والغزل والتوز. قال: (ويصح فيما يترك فيه شيء غير مقصود لمصلحته كالجبن والعجين وخل التمر والسكنجبين ونحوها). أما كون السلم يصح فيما ذكر فلعدم كون المتروك فيه مقصوداً. وأما قول المصنف رحمه الله: كالجبن إلى آخره فتمثيل لصور لم يقصد فيها ما ذكر.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الشرط الثاني: أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهراً؛ فيذكر جنسه ونوعه وقدره وبلده وحداثته وجودته وردائته. وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذكره). أما كون ثاني الشروط (¬1) المتقدم ذكرها أن يصف المسلم فيه بما يختلف به الثمن ظاهراً؛ فلأن المسلم عوض يثبت في الذمة فلا بد من كونه معلوماً بالوصف كالثمن. ولأن العلم شرط في البيع وطريقه إما الرؤية أو الصفة، والرؤية ممتنعة في المسلم فيه فيتعين الوصف. وأما قول المصنف رحمه الله: فيذكر جنسه إلى آخره فتنبيه على الصفات التي يختلف بها الثمن وذكر الجنس والنوع والجود والرداءة مجمع عليه، والبواقي مقاسة عليها لأن ذلك مما يختلف الثمن لأجله فوجب ذكره كالمتفق عليه. وقد يسقط بعض ذكر الأوصاف للعلم به أو لقيام غيره مقامه. وقد يشترط ذكر شيء آخر وسيبين مفصلاً إن شاء الله تعالى. فعلى هذا يصف التمر بالنوع فيقول: برني أو معقلي، وبالجودة أو بالرداءة فيقول: جيد أو رديء، وبالقد فيقول: كبار الحب أو صغاره وهو المراد بقول المصنف رحمه الله: وقدره لأن القدر بالكيل أو الوزن سيأتي بعد، وبالبلد فيقول: بغدادي أو بصري لأن البغدادي أحلى وأقل بقاء لعذوبة الماء والبصري بخلاف ذلك، وبالحداثة أو القدم فيقول: حديث أو قديم ويصف الرطب بما ذكر إلا الحداثة والقدم. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون الثاني من الشروط.

ويصف الحنطة بالنوع فيقول: سبيلة أو سلموني، وبالجودة أو الرداءة فيقول: جيد أو رديء، وبالبلد فيقول: حوراني أو بلقاوي، وبالقد فيقول: صغار أو كبار، وبالحداثة أو القدم فيقول: حديث أو قديم. ويصف العسل بالبلد فيقول: فيجي أو نحوه. ويجزئ ذلك عن ذكر النوع، وبالزمان فيقول: خريفي أو ربيعي أو صيفي، وباللون فيقول: أبيض أو أحمر. ويصف الحيوان بالذكورة أو الأنوثة وبالسن فيقول: عمره كذا سنة أو غير بالغ أو مميز. وإن كان رقيقاً فيذكر النوع كتركي أو رومي أو زنجي. ولا يحتاج في الجارية إلى ذكر البكارة ولا الثيوبة ولا الجعودة والسبوطة. ويصف الإبل بالنتاج فيقول: من نتاج بني فلان مكان النوع، وبالسن فيقول: بنت مخاض أو ابنة لبون، وباللون فيقول: أحمر أو أورق، وبالذكورية أو الأنوثية (¬1) فيقول: ذكر أو أنثى وأوصاف الخيل كالإبل والبغال والحمير لا يقصد نتاجها فيقول مكان ذلك نسبتها إلى بلدها؛ كرومي في البغال، ومصري في الحمير. والبقر والغنم إن عرف لها نتاج فهي كالإبل، وإلا فهي كالحمير. ويصف اللحم بالسن والذكورة أو الأنوثة وبالسمن أو الهزال وبالرعي أو العلف والنوع وموضع اللحم من الحيوان ويزيد في الذكر فحلاً أو خصياً. وفي الصيد لا يحتاج إلى ذكر العلف والخصاء ولكن يذكر الآلة التي يصاد بها من جارحة أو أحبولة. وفي الجارحة يذكر صيد كلب أو فهد أو صقر لأن ذلك يختلف. قال المصنف في المغني: الذي أراه أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن التفاوت فيه يسير. ويلزم قبول اللحم بعظامه لأنه يُقطع كذلك فهو كالنوى في التمر. ولا يحتاج في لحم الطير إلى ذكر الذكورة والأنوثة إلا أن يختلف بذلك، ولا إلى ذكر موضع اللحم إلا أن يكون كبيراً يأخذ منه بعضه. ولا يلزمه قبول الرأس والساقين لأنه لا لحم على ذلك. ¬

_ (¬1) في و: وبالذكورة أو الأنوثة.

ويصف السمك بذكر النوع كدجلي أو أجامي، والكبر والصغر، والسمن أو الهزال، والطري أو الملح ولا يقبل الرأس والذنب ويلزمه ما بينهما. وإن كان كبيراً يؤخذ بعضه ذكر موضع اللحم. ويوصف السَّمْن بالنوع فيقول: سَمْن ضأن أو معز أو بقر، وباللون فيقول: أبيض أو أصفر. قال القاضي: ويذكر المرعى. ولا يحتاج إلى ذكر حديث أو عتيق لأن إطلاقه يقتضي الحديث. ولا يصح السلم في عتيقه لأنه عيب ولا ينتهي إلى حد ينضبط به. ويصف الزبد بأوصاف السمن ويزيد زبد يومه أو أمسه. ويصف اللبن بالنوع والمرعى. ولا يحتاج إلى اللون ولا حلب يومه لأن إطلاقه يقتضي ذلك. ويصف اللبأ بصفات اللبن. ويصف الثياب بالنوع فيقول: كتان أو قطن، وبالبلد فيقول: بغدادي أو مصري، وبالطول أو العرض، وبالغلظ أو الدقة، وبالنعومة أو الخشونة. ويصف الغزل بذلك ويجعل مكان الطول أو العرض اللون فيقول: أبيض أو أصفر. ويصف الإبريسم بالبلد واللون والغلظ أو الدقة. ويصف الصوف بالبلد واللون والطول أو القصر والذكورة أو الأنوثة والزمان خريفي أو ربيعي؛ فلأن صوف الخريف أنظف وصوف الإناث أنعم والشعر والوبر كالصوف. ويصف الرصاص والنحاس والحديد بالنوع فيقول في الرصاص: قلعي أو أسرب وبالنعومة أو الخشونة وباللون إن اختلف. ويزيد (¬1) في الحديد ذكراً أو أنثى لأن الذكر أحد وأمضى. ¬

_ (¬1) في هـ: وزيد.

واستقصاء ما يُسلم فيه مما لم يذكر مذكور في الكتب الكبار فعلى الطالب تطلبه في مظانه. قال: (فإن شرط الأجود لم يصح، وإن شرط الأردأ فعلى وجهين). أما كون شرط الأجود لا يصح؛ فلأن ما من جيد إلا ويحتمل أن يوجد أجود منه فلا ينحصر. وأما كون شرط الأردأ لا يصح على وجهٍ؛ فلأنه لا ينحصر. وأما كونه يصح على وجهٍ؛ فلأن ما يدفعه إليه إن كان الأردأ فهو المسلم فيه، وإن لم يكن فهو خير منه فيلزم المسلم قبوله بخلاف الأجود. قال: (وإذا جاءه بدون ما وصف أو نوع آخر فله أخذه ولا يلزمه، وإن جاءه بجنس آخر لم يجز له أخذه، وإن جاءه بأجود منه من نوعه لزمه قبوله). أما كون المسلِم له أخذ دون ما وصف مع اتحاد النوع؛ فلأن الحق له فإذا رضي بإسقاط حقه من الجودة كان له ذلك. وأما كونه له أخذ نوع عن نوع آخر مع اتحاد الجنس؛ فلأن اتحادهما في الجنس يجعلهما كالشيء الواحد ولذلك حرم التفاضل بينهما. وأما كونه لا يلزمه الأخذ؛ فلأن الإنسان لا يجبر على إسقاط حقه. وأما كونه لا يجوز له أخذ جنس عن آخر؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (¬1) رواه أبو داود. وأما كونه يلزمه قبول الأجود مع اتحاد النوع؛ فلأنه أتاه بما تناوله العقد وزاده خيراً. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3468) 3: 276 كتاب البيوع، باب السلف لا يحول. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2283) 2: 766 كتاب التجارات، باب السلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.

قال: (فإن قال: خذه وزدني درهماً لم يجز. وإن جاءه بزيادة في القدر (¬1) فقال ذلك: صح). أما كون المسلم إليه إذا قال: خذه وزدني درهماً لا يجوز؛ فلأنه أفرد صفة الجودة بالبيع وذلك غير جائز. ولأن بيع المسلم فيه قبل قبضه غير جائز فبيع صفته أولى. وأما كونه إذا جاءه بزيادة في القدر فقال ذلك: يصح؛ فلأن الزيادة هنا يجوز إفرادها بالعقد. ¬

_ (¬1) في هـ: العقد.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يذكر قدره بالكيل في المكيل والوزن في الموزون والذرع في المذروع. فإن أسلم في المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً لم يصح). أما كون ثالث الشروط (¬1) المتقدم ذكرها: أن يذكر قدر المسلم فيه بالكيل في المكيل والوزن في الموزون؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم» (¬2). وأما كون ذكر الذرع في المذروع كذكر الكيل في المكيل والوزن في الموزون؛ فلأنه في معناهما. ولأن ذلك عوض غير مشاهد يثبت في الذمة فاشترط معرفة قدره كالثمن. وأما كون السلم في المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً لا يصح؛ فلأنه مبيع يشترط معرفة قدره فلم يصح بيعه بغير ما هو مقدر به في الأصل كبيع الربويات بعضها ببعض. ولأنه قدَّر المسلم فيه بغير ما هو مقدر به في الأصل فلم يصح كما لو أسلم في المذروع وزناً. قال: (ولا بد أن يكون المكيال معلوماً، فإن شرط مكيلاً لا بعينه أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح). أما كون المكيال لا بد وأن يكون معلوماً؛ فلأنه إذا كان مجهولاً تعذر الاستيفاء به وذلك مخل بالحكمة التي اشترط معرفة الكيل من أجلها. وأما كون شرط مكيال بعينه أو صنجة بعينها لا يصح؛ فلأن ذلك قد يهلك فيتعذر معرفة المسلم فيه وذلك منفي لما تقدم ذكره. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون الثالث من الشروط. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وفي المعدود المختلف غير الحيوان روايتان: إحداهما يسلم فيه عدداً، والأخرى وزناً. وقيل: يسلم في الجوز والبيض عدداً وفي الفواكه والبقول وزناً). أما كون المعدود المختلف غير الحيوان يسلم فيه عدداً في روايةٍ؛ فلأنه يُقَدَّر بذلك عند العامة. وأما كونه يسلم فيه وزناً في روايةٍ؛ فلأنه يتباين والوزن يضبطه. وأما كونه يسلم في المعدود المتقارب كالجوز والبيض عدداً، وفي المتفاوت كالفواكه والبقول وزناً على قولٍ؛ فلأن التفاوت في المتقارب يسير ولهذا لا تكاد القيمة تتفاوت بين البيضتين والجوزتين بخلاف التفاوت في المتفاوت. وأما تقييد المصنف رحمه الله المعدود المختلف بكونه غير حيوان؛ فلأن السلم في الحيوان لا يكون إلا عدداً فلا يجري فيه الخلاف المذكور.

فصل [الشرط الرابع] قال المصنف رحمه الله: (الرابع: أن يشترط أجلاً معلوماً له وقع في الثمن كالشهر ونحوه، فإن أسلم حالاً أو إلى أجل قريب كاليوم ونحوه لم يصح إلا أن يسلم في شيء يأخذ منه كل يوم أجزاء معلومة فيصح). أما كون رابع الشروط (¬1) المتقدم ذكرها أن يشترط أجلاً؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (¬2). أمر بالأجل والأمر للوجوب. ولأنه أَمَرَ بهذه الأمور تبييناً لشروط السلم ومنعاً (¬3) منه بدونها ولذلك لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن. ولأن السلم إنما جاز رخصة للرفق ولا يحصل ذلك إلا بالأجل فكان من شروطه كالكتابة. ولأن الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه: أما الإسم فإنه يسمى سلماً وسلفاً لتعجّل أحد العوضين وتأخير الآخر، وأما المعنى فظاهر. وأما كون الأجل معلوماً فلقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} [البقرة: 282]، وقوله عليه السلام: «إلى أجل معلوم» (¬4). وأما كون الأجل له وقع في الثمن كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن الأجل إنما اعتبر تحقيقاً للرفق ولا يحصل ذلك بما لا وقع له في الثمن. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون الرابع من الشروط. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في هـ: ومعناً. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فعلى هذا لا يصح في الحال ولا إلى أجل غير معلوم ولا إلى أجل لا وقع له في الثمن لفوات شرط الصحة. وأما قول المصنف رحمه الله: إلا أن يسلم في شيء يأخذ منه كل يوم أجزاء فاستثناء لهذه الصورة مما تقدم ذكره لأن السلم في ذلك جائز وإن فات في بعضه الأجل المشترط في غيره لأن العرف جارٍ بذلك والحاجة داعية إلى جوازه. وظاهر كلامه تعميم الجواز في كل شيء يؤخذ أجزاء معلومة. وقال أبو الخطاب: فإن أسلم في لحم أو خبز يأخذ منه كل يوم أرطالاً معلومة جاز نص عليه. وظاهره الاختصاص بهما دون غيرهما. والعلة المتقدمة تدل عليه إذ العرف والحاجة يدلان على الصحة فيهما دون غيرهما. قال: (وإن أسلم في جنس إلى أجلين، أو في جنسين إلى أجل صح). أما كون السلم في جنس إلى أجلين يصح؛ فلأن كل بيع صح إلى أجل صح إلى أجلين وآجال كبيوع الأعيان. وأما كون السلم في جنسين كالحنطة والشعير والتمر والزبيب إلى أجل يصح؛ فلأن جمعهما في عقد واحد حال صحيح. فكذلك السلم. قال: (ولا بد أن يكون الأجل مقدراً بزمن معلوم. فإن أسلم إلى الحصاد أو الجذاذ أو شرط الخيار إليه فعلى روايتين). أما كون الأجل لا بد أن يكون مقدراً بزمن معلوم فلما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فليسلف إلى أجل معلوم» (¬1). وأما كون السلم إلى الحصاد أو الجذاذ لا يصح على روايةٍ فلما روى ابن عباس أنه قال: «لا تبتاعوا إلى الحصاد والدياس». ولأن ذلك يختلف ويَقْرُب ويبعد فلا يصلح أن يكون أجلاً كقدوم زيد. وأما كونه يصح على روايةٍ فـ «لأن ابن عمر كان يبتاع إلى العطاء». ولأن الاختلاف في ذلك يسير أشبه غير المختلف فيه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونه إذا شرط الخيار إلى الحصاد أو الجذاذ فيه الخلاف المتقدم فلما مر. قال: (وإذا جاءه بالسلم قبل مَحِلِّه ولا ضرر في قبضه لزمه قبضه، وإلا فلا). أما كون المسلِم يلزمه قبض ما لا ضرر في قبضه كالحديد والرصاص والنحاس والزيت والعسل وسائر ما لا يختلف قديمه وحديثه إذا جاء به قبل محله؛ فلأن غرضه حاصل وزيادة تعجيل المنفعة فجرى مجرى زيادة الصفة. وأما كونه لا يلزمه قبض ما في قبضه ضرر إما لكونه مما يتغير كالفاكهة والأطعمة كلها، وإما لكون قديمه دون حديثه كالحبوب ونحوها؛ فلأن له غرضاً في تأخيره بأن يحتاج إلى أكله أو إطعامه في ذلك الوقت. وكذا الحيوان لا يلزم قبضه قبل محله لأنه لا يأمن تلفه ويحتاج إلى نفقة وكذا ما يحتاج في حفظه إلى مؤونة كالقطن ونحوه. وكذا لو كان الوقت مخوفاً يخشى تلف ما يقبضه لأن عليه ضرراً في قبضه ولم يأت محل استحقاقه فجرى مجرى نقصان الصفة فيه. وفي قول المصنف رحمه الله: قبل مَحِلِّه إشعار بأنه إذا جاء بالمسلَم فيه في محله لزمه قبضه سواء كان في قبضه ضرر أو لم يكن لأنه أتاه بحقه في محله فلزمه قبضه كالمبيع المعين. فإن امتنع من قبضه قيل له إما أن تقبض أو تبرئ. فإن امتنع من أحدهما قبضه الحاكم وبرئت ذمة الدافع لأن الحاكم يقوم مقام الممتنع بولايته إلا أنه لا يملك الإبراء لما فيه من الضرر.

فصل [الشرط الخامس] قال المصنف رحمه الله: (الخامس: أن يكون المسلَمُ فيه عامَّ الوجود في محله. فإن كان لا يوجد فيه أو لا يوجد إلا نادراً كالسلم في العنب والرطب إلى غير وقته لم يصح. وإن أسلم في ثمرة بستان بعينه أو قرية صغيرة لم يصح). أما كون خامس الشروط (¬1) المتقدم ذكرها أن المسلَم فيه عامُّ الوجود في محله؛ فلأنه إذا لم يكن كذلك لم يمكن تسليمه فلم يصح كبيع الآبق، وبل أولى لأن السلم احتمل فيه أنواع من الغرر للحاجة فلا يحتمل فيه غرر آخر لئلا يكثر الغرر فيه. وأما كون السلم فيما لا يوجد في محله أو لا يوجد إلا نادراً كالسلم في العنب والرطب إلى غير وقته لا يصح؛ فلأن شرطه أن يكون عام الوجود فيه لما تقدم وذلك مقصود فيما ذكر فلم يصح لانتفاء شرطه. وأما (¬2) كون السلم في ثمرة بستان بعينه أو قرية صغيرة لا يصح؛ فلأنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه أشبه ما لو أسلم في شيء قدره بمكيال بعينه أو صنجة بعينها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه أسلف إليه يهودي في تمر فقال: من تمر حائط بني فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما من حائط بني فلان فلا ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى» (¬3) رواه الجوزجاني. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون الخامس من الشروط. (¬2) في هـ: أما. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2281) 2: 765 كتاب التجارات، باب السلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم. ولفظه: عن عبدالله بن سلام قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني فلان أسلموا (لقومٍ من اليهود) وإنهم قد جاعُوا فأخاف أن يَرتدوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من عنده؟ فقال رجل من اليهود: عندي كذا وكذا (لشيء قد سماه) أراه قال: ثلاثمائة دينار بسعر كذا وكذا من حائط بني فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسعرِ كذا وكذا إلى أجل كذا وكذا وليس من حائطِ بني فلان».

قال: (وإن أسلم إلى محل يوجد فيه عاماً فانقطع خُيِّر بين الصبر وبين الفسخ والرجوع برأس ماله أو عوضه إن كان معدوماً في أحد الوجهين، وفي الآخر ينفسخ بنفس التعذر). أما كون المسلم يخير فيما ذكر بين الصبر إلى أن يوجد وبين الفسخ في وجهٍ؛ فلأن المسلم إليه صار بانقطاع المسلم فيه عاجزاً عن دفعه وذلك يوجب الخيرة المذكورة. دليله ما لو ظهر المشتري معسراً. وأما كون السلم ينفسخ بنفس التعذر في وجهٍ؛ فلأن المسلم فيه يجب أن يكون من ثمرة العام بدليل أنه يجب التسليم منها فإذا هلكت انفسخ العقد كما لو باع قفيزاً من صبرة فهلكت. والصحيح الأول لأن العقد صح وإنما تعذر التسليم أشبه ما لو اشترى عبداً فأبق قبل القبض. ولأنهما لو تراضيا على دفع المسلم فيه من غير ثمرة ذلك العام جاز وإنما أجبر على دفع ثمرة العام؛ لأنها على صفة ما وقع عليه العقد. فعلى هذا إذا انفسخ العقد أو فسخه هو يرجع برأس ماله إن كان باقياً أو بمثله إن كان تالفاً وكان مثلياً وبقيمته إن لم يكن مثلياً لأن العقد إذا زال وجب رد الثمن فإن كان باقياً استحق عينه لأنه عين حقه وإن كان تالفاً وكان مثلياً استحق مثله كما لو أتلف مثلياً لآدمي وإن لم يكن مثلياً استحق قيمته كالمتلف.

فصل [الشرط السادس] قال المصنف رحمه الله: (السادس: أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد. وهل يشترط كونه معلوم الصفة والقدر كالمسلم فيه؟ على وجهين). أما كون سادس الشروط (¬1) المتقدم ذكرها أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد؛ فلأنه عقد معاوضة لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق فلا يجوز التفرق فيه قبل القبض كالصرف. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه يشترط قبض جميع الثمن. وصرح به الخرقي لأن ما اشترط قبضه في المجلس اشترط قبض كله كالصرف. وأما كونه يشترط أن يكون معلوم الصفة والقدر على وجهٍ؛ فلأنه لا يمكن إتمامه في الحال ولا تسليم المعقود عليه ولا يؤمن من انفساخه فوجب معرفة رأس مال السلم صفة وقدراً كالقرض والشركة. ولأنه لا يؤمن أن يظهر بعض الثمن مستحقاً فينفسخ العقد في قدره فلا يدري كما بقي وكم انفسخ. فإن قيل: هذا موهوم والموهومات لا تعتبر؟ قيل: التوهم معتبر هاهنا لأن الأصل عدم الجواز وإنما جوز إذا أمن من الغرر ولم يؤمن هاهنا. وأما كونه لا يشترط على وجهٍ؛ فلأنه عوض مشاهد فلم يحتج إلى معرفة ما ذكر. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون السادس من الشروط.

قال: (وإن أسلم ثمناً واحداً في جنسين لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس). أما كون ما ذكر لا يجوز مع عدم بيان ثمن كل جنس؛ فلأن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول فلم يجز كما لو عقد عليه مفرداً بثمن مجهول. ولأن فيه غرراً لأنه لا يؤمن الفسخ بتعذر أحدهما فلا يعرف ما يرجع به وهذا غرر يؤثر مثله في السلم. وأما كونه يجوز مع البيان؛ فلأن المقتضي للمنع ما ذكر من الجهالة والغرر وكلاهما منتف فيما ذكر.

فصل [الشرط السابع] قال المصنف رحمه الله: (السابع: أن يسلم في الذمة، فإن أسلم في عين لم يصح. ولا يشترط ذكر مكان الإيفاء إلا أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء فيه كالبرية فيشترط ذكره ويكون الوفاء في مكان العقد، فإن شرط الوفاء فيه كان تأكيداً وإن شرطه في غيره صح. وعنه: لا يصح). أما كون سابع الشروط (¬1) المتقدم ذكرها أن يسلم في الذمة؛ فلأن العين لا يؤمن تلفها فيتعذر تسليمها عند انقضاء الأجل. ولأنه إذا لم يجز السلم في ثمرة بستان بعينه؛ فلأن لا يجوز في عين بطريق الأولى. وأما كون السلم في عين لا يصح؛ فلأن شرطه أن يكون في الذمة لما تقدم وذلك مفقود في العين. وأما كون ذكر مكان الإيفاء إذا كان موضع العقد مما يمكن الوفاء فيه كمدينة وقرية ونحوهما لا يشترط؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (¬2) ولم يذكر مكان الإيفاء. ولأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه ذكر مكان الإيفاء كبيوع الأعيان. وأما كون ذكر مكان الوفاء إذا كان موضع العقد لا يمكن الوفاء فيه كالبرية ونحوها يشترط؛ فلأن الوفاء في موضع العقد متعذر وليس البعض أولى من البعض فوجب تعيينه بالقول كالمكيل والموزون. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون السابع من الشروط. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون الوفاء في مكان العقد في موضع لا يشترط ذكره؛ فلأنه عقد معاوضة أشبه البيع. وأما كون شرط الوفاء في مكان العقد تأكيداً؛ فلأنه شرط ما هو مقتضى العقد فيكون مؤكداً له لأن ذلك يزيل اللبس. وأما كونه إذا شرطه في مكان غيره يصح على المذهب فقياس على بيوع الأعيان ومكان العقد. وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأنه شرط خلاف مقتضى العقد لأن العقد يقتضي إيفاءه في مكانه فلم يصح كما لو شرط أن لا يسلمه. قال: (ولا يصح بيع المسلَم فيه قبل قبضه، ولا هبته، ولا أخذ غيره مكانه، ولا الحوالة به). أما كون بيع ما ذكر لا يصح فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه» (¬1). و «عن ربح ما لم يضمن» (¬2). ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يصح بيعه قبل قبضه كالطعام قبل قبضه. ويدخل في قول المصنف رحمه الله: ولا يصح بيع المسلَم فيه الشركة فيه والتولية فيه لأنهما بيع في الحقيقة لأن الشركة بيع لبعضه بقسطه من الثمن والتولية بيع لجميعه بجميع الثمن. وأما كون هبته لا تصح؛ فلأنها نقل للملك قبل قبضه فلم يصح كالبيع. وأما كون أخذ غيره مكانه لا يصح؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (¬3). رواه ابن ماجة. ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع له فلم يصح كبيعه من غيره. وأما كون الحوالة لا تصح؛ فلأن الحوالة إنما تصح على دين مستقر والسلم بعرضية الفسخ. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأنه نقل للملك في المسلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يصح كالبيع. قال المصنف رحمه الله في المغني: ومعنى الحوالة به: أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثل ذلك الطعام من قرض أو سلم آخر فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عنده السلم. وإن أحال المسلم إليه المسلم بالذي عليه لم يصح أيضاً (¬1). قال: (ويجوز بيع الدين المستقر لمن هو في ذمته بشرط أن يقبض عوضه في المجلس، ولا يجوز لغيره). أما كون بيع الدين المستقر لمن هو في ذمته يجوز؛ فلأن ابن عمر قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وهذه من هذه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة. فقلت: رويدك أسألك. إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وليس بينكما شيء» (¬2) رواه أبو داود والترمذي. وأما قول المصنف رحمه الله: بشرط أن يقبض عوضه في المجلس فتنبيه على اشتراط قبض العوض في المجلس. والأصل فيه ما تقدم من الحديث. ولأنه إذا لم يقبض صار بيع دين بدين وذلك لا يجوز لما تقدم. ¬

_ (¬1) في هـ: وإن أحال المسلم إليه بالذي عليه أيضا لم يصح. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3354) 3: 250 كتاب البيوع، باب في اقتضاء الذهب من الورق. وأخرجه الترمذي في جامعه (1242) 3: 544 كتاب البيوع، باب ما جاء في الصرف. وأخرجه النسائي في سننه (4582) 7: 281 كتاب البيوع، بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2626) 2: 760 كتاب البيوع، باب اقتضاء الذهب من الورق والورق من الذهب. وأخرجه أحمد في مسنده (5555) 2: 83.

وفي قوله: المستقر إشعار بأنه لا يجوز بيع غير المستقر لمن هو في ذمته كالسلم ونحوه وقد صرح به في المغني. ودليله ما مر من قوله عليه السلام: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (¬1). وأما كون بيعه لغير من هو في ذمته لا يجوز؛ فلأنه غير قادر على تسليمه أشبه بيع الآبق. قال: (وتجوز الإقالة في السلم، وتجوز في بعضه في إحدى الروايتين إذا قبض رأس مال السلم أو عوضه في مجلس الإقالة، وإن انفسخ العقد بإقالة أو غيرها لم يجز أن يأخذ عن الثمن عوضاً من غير جنسه). أما كون الإقالة في السلم تجوز؛ فلأنها فسخ على الصحيح ورفع للعقد من أصله. وأما كونها تجوز في البعض في روايةٍ؛ فلأن الإقالة مندوب إليها. وكل مندوب إليه جاز في الجميع جاز في البعض كالإبراء. وأما كونها لا تجوز فيه في روايةٍ؛ فلأن السلَم يقل فيه الثمن من أجل التأجيل فإذا فسخ في البعض بقي البعض بالباقي من الثمن وبمنفعة الجزء الذي فسخ فيه فلم يجز كما لو شرطه في ابتداء العقد. وقول المصنف رحمه الله: إذا قبض رأس مال السلم أو عوضه في مجلس الإقالة مشعر بأنه لا تجوز الإقالة في البعض إذا لم يوجد قبض أحد الأمرين وهو صحيح صرح به أصحابنا. ووجهه: أنه إذا لم يقبض أحد الأمرين يصير ذلك القدر ديناً على المسلم إليه وعليه بقدر السلم فيصير ذلك بمعنى البيع والسلف وهو منهي عنه. وأما أخذ العوض عن ثمن ما انفسخ بإقالة أو غيرها من غير جنسه لا يجوز فلما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (¬2). ولأن ما ذكر رأس مال السلم فلم يجز أخذ العوض عنه كالمسلم فيه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وقول المصنف رحمه الله: من غير جنسه فيه إشعار بأنه يجوز له الأخذ من جنسه لأنه إذا جاز له أخذ النوع عن النوع في السلم بشرط اتحاد الجنس؛ فلأن يجوز أخذ النوع عن نوع آخر برأس مال السلم بطريق الأولى. قال: (وإن كان لرجل سَلَم وعليه سَلَم من جنسه فقال لغريمه: اقبض سلمي لنفسك ففعل لم يصح قبضه لنفسه، وهل يقع قبضه للآمر؟ على وجهين. وإن قال: اقبضه لي ثم اقبضه لنفسك صح. وإن قال: أنا أقبضه لنفسي وخذه بالكيل الذي تشاهده فهل يجوز؟ على روايتين. وإن اكتاله ثم تركه في المكيال وسلمه إلى غريمه فقبضه صح القبض لهما). أما كون المسلِم لا يصح قبضه لنفسه فيما إذا قال له المسلم إليه: اقبض سلمي لنفسك؛ فلأنه لا يجوز قبضه لنفسه قبل قبض مالكه له. وأما كون القبض يقع للآمر على وجهٍ؛ فلأنه أذن له في القبض أشبه قبض وكيله. وأما كونه لا يقع له على وجهٍ؛ فلأنه لم يجعله نائباً عنه في القبض فلا يقع له بخلاف الوكيل. فعلى الأول يكون ملكاً للمسلم إليه لأنه إنما يزول ملكه عنه بقبض المسلم أو نائبه ولم يوجد. وأما كون قبض المسلِم لنفسه يصح فيما إذا قال: اقبضه لي ثم اقبضه لنفسك؛ فلأنه وكله في قبضه فإذا قبضه لموكله وجب أن يصح لوجود الإذن وعدم المفسد وإذا صح أن يقبضه لموكله صح أن يقبضه لنفسه بعد ذلك كما لو كان له وديعة عند من له عليه دين فقال المدين له: اقبض حقك مما لي عندك. وأما كونه إذا قال: أنا أقبضه لنفسي وخذه بالكيل الذي تشاهده يجوز على روايةٍ؛ فلأنه قد شاهد كيله وعلمه فلا معنى لاعتبار كيله مرة ثانية. وأما كونه لا يجوز على روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان» (¬1). وهذا داخل فيه. ولأنه قبضه بغير كيل أشبه ما لو قبضه جزافاً. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون القبض يصح لكل واحد من المدين ورب المال إذا اكتاله ثم تركه في المكيال وسلمه إلى غريمه فقبضه؛ فلأن الأول قد اكتاله حقيقة والثاني حصل له استمرار الكيل واستمرار الكيل كيل كما أن استدامة اللبس والركوب لبس وركوب. قال: (وإن قبض المسلم فيه جزافاً فالقول قوله في قدره، وإن قبضه كيلاً أو وزناً ثم ادعى غلطاً لم يقبل قوله في أحد الوجهين). أما كون القول قول القابض في قدر المسلم فيه المقبوض جزافاً؛ فلأنه منكر، والقول قول المنكر. وأما كونه لا يقبل قوله إذا قبضه كيلاً أو وزناً ثم ادعى غلطاً في وجهٍ؛ فلأنه ادعى خلاف الظاهر فلم يقبل قوله. وأما كونه يقبل في وجهٍ؛ فلأن الأصل أنه لم يقبض غير ما ثبت بإقراره. قال: (وهل يجوز الرهن والكفيل بالمسلم فيه؟ على روايتين). أما كون الرهن بالمسلم (¬1) فيه يجوز على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه -إلى قوله-: فرهان مقبوضة} [البقرة: 282]. وجه الحجة منه: أن ابن عباس وابن عمر قالا: المراد به السَّلَم. ولأن اللفظ عام فيدخل فيه السلم. ولأنه أحد نوعي البيع فجاز أخذ الرهن بما في الذمة منه كبيوع الأعيان؟ وأما كونه لا يجوز على روايةٍ؛ فلأن الرهن إن أُخذ برأس مال السلم فهو آخذ للرهن بما ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب، وإن أُخذ بالمسلم فيه فالرهن إنما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن. ولأنه لا يؤمن هلاك الرهن في يده بعدوان فيصير مستوفياً لحقه من غير المسلم فيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (¬2) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في هـ: المسلم. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون الكفالة بالمسلم فيه تجوز على روايةٍ ولا تجوز على روايةٍ؛ فلأنها وثيقة أشبهت الرهن.

باب القرض

باب القرض القرض جائز بالسنة والإجماع: أما السنة فما روى أبو رافع «أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً» (¬1). وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيتُ ليلةَ أسريَ بِي على بابِ الجنةِ مكتوباً: الصدقةُ بعشرِ أمثالها والقرضُ بثمانيةَ عشر. فقلتُ: يا جبريل! ما بالُ القرضِ أفضلُ من الصدقة؟ قال: لأن السائلَ يسألُ وعنده. والمستقرضُ لا يَستقرضُ إلا مِن حاجَة» (¬2) رواهما ابن ماجة. وأما الإجماع فأجمع المسلمون في الجملة على جواز القرض. قال المصنف رحمه الله: (وهو من المرافق المندوب إليها، ويصح في كل عين يجوز بيعها إلا بني آدم، والجواهر ونحوها مما لا يصح السلم فيه في أحد الوجهين فيهما). أما كون القرض من المرافق التي ندب الشرع إليها فلما تقدم من حديث ابن مسعود، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كَشفَ عن مسلمٍ كُربةً من كُربِ الدنيا كَشفَ اللهُ عنه كُربةً من كُربِ يومِ القيامة. واللهُ في عَونِ العبدِ ما دامَ العبدُ في عونِ أخيه» (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2431) 2: 812 كتاب الصدقات، باب القرض. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (2699) 4: 2074 كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر. وأخرجه أبو داود في سننه (4946) 4: 287 كتاب الأدب، باب في المعونة للمسلم. وأخرجه الترمذي في جامعه (1930) 4: 326 كتاب البر والصلة، باب ما جاء في السترة على المسلم. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وأخرجه ابن ماجة في سننه (225) 1: 82 المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم.

وعن أبي الدرداء أنه قال: «لأن أُقرض دينارين ثم يُرَدّا ثم أقرضهما أحب إليَّ من أن أتصدق بهما» (¬1). وفي قول المصنف: المندوب إليها إشعار بأنه ليس بواجب وهو صحيح لأنه من المعروف أشبه صدقة التطوع. وأما كون القرض يصح في كل عين يجوز بيعها ما عدا المستثنى؛ فلأن مقصود القرض حاصل من ذلك لأنه ينتفع به ويتمكن من بيعه. وأما كون بني آدم لا يصح قرضهم في وجهٍ؛ فلأنه لم ينقل ولا هو من المرافق. ولأنه يفضي إلى أن يقترض جارية يطؤها ثم يردها. وأما كونه يصح في وجهٍ؛ فلأن السلم فيهم جائز فصح قرضهم كالبهائم. وأما كون الجواهر ونحوها مما لا يصح السلم فيه لا يصح قرضها؛ فلأنها لا تنضبط بالصفة ولا يمكن فيها رد المثل، ومقتضى القرض رد المثل. وأما كونها يصح قرضها في وجهٍ وهو للقاضي؛ فلأن ما لا مثل له تجب قيمته والجواهر وشبهها كغيرها في القيمة. وقول المصنف رحمه الله: في أحد الوجهين متعلق بالمستثنى لا بقوله: مما لا يصح السلم فيه. وقوله: فيهما راجع إلى بني آدم والجواهر ونحوها لأنه لو لم يقل فيهما لتوهم أن الوجهين في الجواهر دون بني آدم. قال: (ويثبت الملك فيه بالقبض فلا يملك المقرض استرجاعه، وله طلب بدله، فإن رده المقترض عليه لزمه قبوله ما لم يتعيب أو يكن فلوساً أو مكسرة فيحرمها السلطان فتكون له القيمة وقت القرض). أما كون الملك يثبت في القرض بالقبض؛ فلأنه عقد تمليك فيثبت الملك فيه بالقبض كالهبة. وأما كون المقرض لا يملك استرجاعه؛ فلأنه أزال ملكه بعوض من غير خيار فلم يكن له الرجوع فيه كالبيع. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 353 كتاب البيوع، باب ما جاء في فضل الإقراض.

وأما كونه له طلب بدله؛ فلأن العوض يثبت في الذمة حالاً فكان له طلبه كسائر الديون الحالة. وأما كونه يلزمه قبوله إذا رده المقترض بشرطه؛ فلأنه رده على صفة حقه فلزمه قبوله كما لو أعطاه غيره وكما في عقد السلم. واشترط المصنف رحمه الله في لزوم القبول شرطين: أحدهما: أن لا يكون قد تعيب كحنطة ابتلت أو عفنت وما أشبه ذلك لأنه لم يدفع ذلك على صفة حقه. الثاني: أن لا يكون فلوساً أو مكسرة فيحرمها السلطان؛ لأن ذلك معنى يمتنع إنفاقها ويبطل ماليتها. أشبه كسرها أو تلف أجزائها. وأما كونه له القيمة وقت القرض؛ فلأن ذلك حينئذ يثبت في ذمته فوجب اعتبار القيمة به لأنه وقت الوجوب. قال: (ويجب رد المثل في المكيل والموزون، والقيمة في الجواهر ونحوها، وفيما سوى ذلك وجهان). أما كون رد المثل في المكيل والموزون يجب فلا خلاف فيه. ولأن رد المثل أقرب شبهاً بالقرض من القيمة. وأما كون رد القيمة في الجواهر ونحوها يجب؛ فلأن ذلك لا مثل له أشبه ما لو أتلفه. وأما كون رد القيمة فيما سوى ذلك كالحيوان وشبهه يجب في وجهٍ؛ فلأنه لا مثل له أشبه الجواهر. وأما كون رد المثل تقريباً يجب في وجهٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً فرد خيراً منه» (¬1). وهو مثله تقريباً. وخالف هذا الإتلاف لأن القيمة أخصر ولا مسامحة فيه والقرض أسهل ولهذا جازت النسيئة فيه فيما فيه الربا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (ويثبت العوض في الذمة حالاً وإن أجله، ويجوز شرط الرهن والضمين فيه ولا يجوز شرط ما يجر نفعاً نحو: أن يسكنه داره أو يقضيه خيراً منه أو في بلد آخر. ويحتمل جواز هذا الشرط). أما كون عوض القرض يثبت العوض في الذمة حالاً؛ فلأنه بدل شيء مقبوض أشبه عوض ثمن المبيع إذا ظهر مستحقاً. وأما كونه يثبت حالاً وإن أجله؛ فلأنه حال لما تقدم والحال لا يتأجل بالتأجيل. وأما كون القرض يجوز شرط الرهن فيه؛ فلأنه يصح الرهن فيه «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه على شعير اقترضه لأهله» (¬1). وما جاز فعله جاز شرطه. ولأن الرهن إنما يراد للتوثق بالحق وليس ذلك بزيادة. وأما كونه يجوز شرط الضمين فيه؛ فلأنه في معنى الرهن. وأما كونه لا يجوز شرط ما يجر نفعاً؛ فلأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل قرض جر منفعة فهو حرام» (¬2). وعن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم «أنهم نهوا عن قرض جر منفعة». ولأنه عقد إرفاق وقربة فإذا شُرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه. وأما قول المصنف رحمه الله: نحو أن يسكنه داره أو يقضيه خيراً منه أو في بلد آخر فتمثيل لصور فيها نفع بسبب الشرط. وقوله: ويحتمل جواز هذا الشرط راجع إلى شرط القضاء في بلد آخر. ولذلك قيده بهذا. وفي ذلك وجهان: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2373) 2: 887 كتاب الرهن، باب في الرهن في الحضر. وأخرجه الترمذي في جامعه (1215) 3: 519 كتاب البيوع، باب ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل. وأخرجه النسائي في سننه (4610) 7: 288 كتاب البيوع، الرهن في الحضر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2437) 2: 815 كتاب الرهون. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن فضالة بن عبيد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا». 5: 350 كتاب البيوع، باب كل قرض جر منفعة فهو ربا.

أحدهما: لا يجوز لأن فيه نفعاً في الجملة ولهذا قالوا: يجوز قرض مال اليتيم للمصلحة مثل: أن يقرضه في بلد ليوفيه في بلد آخر فيربح خطر الطريق. والثاني: يجوز لأنه ليس بزيادة في قدر ولا صفة بل فيه مصلحة لهما فجاز كشرط الرهن. وفصل المصنف في المغني فقال: إن كان المقرض يحمله مؤنة لم يجز لأنه زيادة، وإن لم يكن يحمله مؤنة جاز لأنه رفق بهما جميعاً ومصلحة في حقهما من غير ضرر والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة منها. قال: (وإن فعله بغير شرط أو قضاه خيراً منه أو أهدى له هدية بعد الوفاء جاز؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فرد خيراً منه وقال: خيركم أحسنكم قضاء» (¬1). وإن فعله قبل الوفاء لم يجز إلا أن تكون العادة جارية بينهما به قبل القرض). أما كون فعل المقترض ما فيه نفع وقضائه خيراً مما اقترض (¬2) وهديته بعد الوفاء بغير شرط يجوز فلما ذكر المصنف رحمه الله من أن النبي صلى الله عليه وسلم رد خيراً ومدح فاعله. وأما كون ذلك قبل الوفاء مع عدم العادة لا يجوز فلما روي «أن رجلاً كان له على سَمّاك عشرون درهماً فجعل يهدي له السمك ويقومه حتى بلغ ثلاثة عشر درهماً فسأل ابن عباس فقال: أعطه سبعة دراهم» (¬3) رواه الأثرم. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أَقرضَ أحدكُم قرضاً فَأهدَى إليه أو حَملهُ على الدابةِ فلا يَركبْهَا ولا يَقبلهُ إلا أن يكونَ جرى بينهُ وبينهُ قبلَ ذلك» (¬4) رواه ابن ماجة. وأما كون ذلك مع العادة يجوز فلما تقدم من حديث أنس. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: أقرض. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 349 كتاب البيوع، باب كل قرض جر منفعة فهو ربا. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (2432) 2: 813 كتاب الصدقات، باب القرض. قال في الزوائد: في إسناده عتبة بن حميد الضبي، ضعفه أحمد وأبوحاتم وذكره ابن حبان في الثقات، ويحيى بن أبي إسحاق لا يعرف حاله.

ولأن مع العادة يكون سبب ذلك العادة لا القرض فلا يكون ذلك نفعاً جره القرض. فإن قيل: قول المصنف رحمه الله: بعد الوفاء بم يتعلق؟ قيل: يحتمل أن يتعلق بأهدى. فعلى هذا يكون فعل ما يجر نفعاً غير مقيد وذلك يقتضي أن المقترض لو أسكن المقرض داره بغير عوض جاز إذا كان بغير شرط سواء كان ذلك قبل الوفاء أو بعده لأن المقترض فعل ذلك من غير شرط أشبه ما لو لم يكن للمقرض عنده شيء، ويحتمل أن يتعلق ذلك بقوله: وإن فعله بغير شرط. فعلى هذا لا يجوز أن يسكنه داره ونحو ذلك قبل الوفاء لأنه يصير القرض قرضاً يجر نفعاً ويجوز بعده لأنه حينئذ لا دين له عليه أشبه من لم يقترض منه بالكلية. وهذا الاحتمال موافق لما في المغني والكافي فإن المصنف صرح بالمنع فيما ذكر قبل الوفاء. والاحتمال الأول ظاهر كلام المصنف هنا ويوافق قول طائفة من الأصحاب. قال صاحب الهداية فيها: ولا يجوز كل شرط يجر منفعة مثل: أن يقرضه على أن يسكنه داره أو يعطيه أجود مما أخذ أو يكتب له به سفتجة إلى بلد آخر فإن بدأه المقترض بفعل ذلك من غير شرط جاز. ويؤيد هذا الاحتمال أن بعد الوفاء إذا لم يختص بالهدية يجب أن يكون طرفاً لما قبله من المسائل وذلك لا يصح في قوله: أو قضاه خيراً منه لأن القضاء يستحيل أن يكون بعد الوفاء لأن القضاء نفس الوفاء والشيء يستحيل أن يكون بعد نفسه. فعلى هذا كل نفع يوجد بعد الوفاء يجوز لما تقدم وكل نفع يوجد قبله ينظر فيه فإن لم يكن بينهما عادة به: فعلى الاحتمال الأول وما نقله الأصحاب يجوز ما لم يكن هدية، وعلى الاحتمال الثاني وما نقله المصنف في المغني والكافي لا يجوز وهو أظهر دليلاً من حيث الأثر والمعنى: أما الأثر فعموم قوله عليه السلام: «كل قرض جر منفعة حرام» (¬1)، ونهي الصحابة المتقدم ذكرهم عن قرض جر منفعة (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما المعنى فهو أن الأصحاب اتفقوا على المنع من الهدية قبل الوفاء. ولا فرق بينها وبين سكنى الدار ونحو ذلك. فإن قيل: لو وجد ذلك حالة الوفاء؟ قيل: ينظر فيه فإن كان النفع صفة في الوفاء مثل: أن يقضيه خيراً منه جاز لما تقدم. وإن كان زيادة في القضاء مثل: أن يقرضه درهماً فيعطيه أكثر منه لم يجز لأنه ربا. وقال المصنف في المغني والكافي: تجوز الزيادة في الصفة والقدر لما تقدم من الحديث وحكى أبو الخطاب من غير تقييد روايتين. قال: (وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر لزمته، وإن أقرضه غيرها لم تلزمه. فإن طالبه بالقيمة لزمه أداؤها). أما كون المقترض تلزمه الأثمان فيما ذكر؛ فلأنه أمكنه قضاء الحق من غير ضرر فلزمه كما لو طالبه في بلد القرض. وأما كونه لا يلزمه غير الأثمان كالحنطة والشعير وغير ذلك مما لنقله مؤونة؛ فلأن عليه مؤونة في حمله (¬1). وأما كونه يلزمه أداء القيمة؛ فلأنه إذا تعذر رد المثل تعينت القيمة. ¬

_ (¬1) في هـ: تحمله.

باب الرهن

باب الرهن الرهن في اللغة: الثبوت. يقال: ماء راهن أي راكد، ونعمة راهنة أي ثابتة دائمة. قال الشاعر: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأضحى الرهن قد غلقا وفي الشرع: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى منه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه. وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} [البقرة: 283]. وأما السنة فما روت عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه» (¬1) متفق عليه. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الظهرُ يُرْكَبُ بِنفقتهِ إذا كانَ مَرهوناً، وعلى الذي يَركبُ ويشربُ النفقة» (¬2) رواه البخاري. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَغْلَقُ الرهن» (¬3) رواه ابن ماجة. وأما الإجماع فأجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2378) 2: 888 كتاب الرهن، باب الرهن عند اليهود وغيرهم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1603) 3: 1226 كتاب المساقاة، باب الرهن وجوازه في الحضر والسفر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2377) 2: 888 كتاب الرهن، باب الرهن مركوب ومحلوب. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2441) 2: 816 كتاب الرهون، باب لا يغلق الرهن. قال في الزوائد: في إسناده محمد بن حميد الرازي، وإن وثقه ابن معين في الرواية فقد ضعفه في أخرى. وضعفه أحمد والنسائي والجوزجاني. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المقلوبات. وقال ابن معين: كذاب.

قال المصنف رحمه الله: (وهو وثيقة بالحق لازم في حق الراهن جائز في حق المرتهن يجوز عقده مع الحق وبعده ولا يجوز قبله إلا عند أبي الخطاب). أما كون الرهن وثيقة بالحق؛ فلأن الحق يستوفى منه عند تعذر الوفاء من المدين. وأما كونه لازماً في حق الراهن؛ فلأن الحظ في الرهن لغيره فلزم من جهته كالضمان في حق الضامن. ولأنه وثيقة أشبه الضمان. وأما كونه جائزاً في حق المرتهن؛ فلأن الحظ فيه له وحده فكان له فسخه كالمضمون له. وأما كونه جائزاً مع الحق مثل أن يقول: بعتك ثوبي هذا بعشرة إلى شهر ترهنني بها عبدك فلاناً فيقول: اشتريت منك ورهنتك عبدي؛ فلأن الحاجة داعية إلى جوازه لأنه لو لم يجز مع ثبوت الحق كان من عليه الحق بالخيار بين أن يرهن وبين أن لا يرهن. وأما كونه جائزاً بعد الحق فبالإجماع. ولأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به. ولأن الله قال: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} [البقرة: 283] جعله بدلاً عن الكتابة فيكون في محلها وكتابة الدين تكون صحيحة بعد وجوبه وفي الآية ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282] ذكره بفاء التعقيب. وأما كونه لا يجوز قبله على المذهب؛ فلأن الرهن وثيقة بحق فلم يجز قبل ثبوته كالشهادة. ولأن الرهن بيع فلم يجز أن يتقدم الحق كالثمن لا يتقدم المبيع (¬1). وأما كونه يجوز عند أبي الخطاب؛ فلأنه وثيقة بحق فجاز قبل الحق كالضمان، أو فجاز على حق يحدث في المستقبل كضمان الدرك. فإن قيل: ما صورة المسألة؟ ¬

_ (¬1) في و: البيع.

قيل: هي أن يدفع إلى رجل ثوباً ويقول: رهنتك هذا على عشرة دراهم تقرضنيها غداً ثم يقرضه الدراهم المذكورة. قال: (ويصح رهن كل عين يجوز بيعها إلا المكاتب إذا قلنا استدامة القبض شرط لم يجز رهنه). أما كون رهن كل عين يجوز بيعها ما خلا المكاتب يصح؛ فلأن مقصود الرهن الاستيثاق ليتوصل إلى استيفاء الحق من ثمنه عند تعذر الوفاء من الراهن وهو حاصل في رهن كل عين يجوز بيعها. وأما كون رهن المكاتب إذا قيل استدامة القبض شرط لا يصح؛ فلأن استدامة القبض تنافي عقد الكتابة لأن المكاتب يحتاج إلى التصرف والتنقل والتسبب في أداء كتابته. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا قلنا استدامة القبض شرط فمشعر بأن في الاستدامة خلافاً وسيأتي ذكر ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى. قال: (ويجوز رهن ما يسرع إليه الفساد بدين مؤجل ويباع ويجعل ثمنه رهناً). أما كون رهن ما يسرع إليه الفساد بدين كالعنب والرطب والبطيخ؛ فلأنه يجوز بيعه فيحصل مقصود الرهن. وقول المصنف رحمه الله: بدين مؤجل ليس قيداً في المسألة بل ذكره تنبيها على أن التأجيل لا أثر له في منع صحة ذلك وذلك أنه ربما توهم أن عقد الرهن يقتضي بقاء المرهون إلى استحقاق الاستيفاء فإذا كان الدين مؤجلاً أدت الصحة إلى مخالفة الاقتضاء المذكور وليس كذلك لأن بيع ما ذكر وجعل ثمنه مكانه يقوم مقام العين لأن الثمن بدل العين وبدل الشيء يقوم مقامه. وأما كونه يباع؛ فلأن تركه يؤدي إلى تلفه وضياعه وذلك منهي عنه. ولم يفرق المصنف رحمه الله بين ما يمكن تجفيفه كالعنب والرطب وبين ما لا يمكن تجفيفه كالبطيخ والطبيخ. وصرح في المغني بأن ما يمكن تجفيفه يجب على الراهن أن يجففه لأن ذلك من مؤونة حفظه وتبقيته فكان على الراهن كنفقة الحيوان وأن ما لا

يمكن تجفيفه يباع لما في تركه من ضياع المال وهذا صحيح يجب حمل كلام المصنف عليه. وأما كونه يجعل ثمن الرهن رهناً؛ فلأنه بدل عن رهن وحكم البدل حكم المبدل. قال: (ويجوز رهن المشاع ثم إن رضي الشريك والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما جاز وإن اختلفا جعله الحاكم في يد أمين أمانة أو بأجرة). أما كون رهن المشاع يجوز؛ فلأنه يجوز بيعه فجاز رهنه كالمفرز. وأما كونه إذا رضي الشريك والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما يجوز؛ فلأن الحق لهما لا يعدوهما. وأما كون الحاكم يجعل ذلك في يد أمين أمانة أو بأجرة إذا اختلف الشريك والمرتهن؛ فلأن قبض المرتهن واجب ولا يمكن ذلك منفرداً لكونه مشاعاً فيتعين ما ذكر؛ لكونه وسيلة إلى القبض الواجب. قال: (ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه إلا على ثمنه في أحد الوجهين). أما كون رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه على غير ثمنه يجوز؛ فلأنه يجوز بيعه قبل قبضه، وما جاز بيعه جاز رهنه لما تقدم ذكره قبل (¬1). وأما كون رهنه قبل قبضه على ثمنه يجوز في وجهٍ؛ فلأن الثمن صار ديناً في الذمة والمبيع صار ملكاً للمشتري فجاز رهنه بالثمن كغيره من الديون. وأما كونه لا يجوز في وجهٍ؛ فلأن المبيع محبوس بالثمن فلا فائدة في صيرورته رهناً. ولأن بين الرهن والبيع تنافيا لأن حكم الرهن أن يباع في الدين عند التعذر وحكم البيع إيفاء الثمن من غيره. ولأن البيع يقتضي تسليم المبيع أولاً والرهن يقتضي تسليم الدين أولاً. وأما كون رهن المكيل والموزون قبل قبضه لا يجوز فمبني على الرواية التي ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

اختارها المصنف رحمه الله وهي أن المنع من بيع المبيع قبل قبضه مختص بالمكيل والموزون وقد تقدم في ذلك أربع روايات (¬1): إحداها: أن المنع مختص بهما. والثانية: أن ذلك مختص بالمبيع غير المعين كقفيز من صبرة. فعلى هذه لا يجوز رهن المعين قبل قبضه ويجوز رهن ما عداه على غير ثمنه، وفي رهنه على ثمنه الخلاف. والثالثة: أن المنع من البيع مختص بالمطعوم. فعلى هذه لا يجوز رهن المطعوم قبل قبضه ويجوز رهن ما عداه على غير ثمنه، وفي رهنه على ثمنه الخلاف. والرابعة: أن المنع يعم كل مبيع. فعلى هذه لا يجوز رهن كل مبيع قبل قبضه على غير ثمنه وفي رهنه على ثمنه الخلاف. قال: (وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه إلا الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع في أحد الوجهين). أما كون رهن ما لا يجوز بيعه -غير الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع- كأم الولد والوقف والعين المرهونة لا يجوز؛ فلأن مقصود الرهن استيفاء الدين من ثمنه وما لا يجوز بيعه لا يمكن ذلك فيه. وأما كون رهن الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع لا يجوز في وجهٍ؛ فلأنه لا يجوز بيعها. وأما كونه يجوز في وجهٍ وهو الأصح؛ فلأن الرهن لا يصح قياسه على البيع لأن النهي عن البيع إنما كان لعدم الأمن من العاهة وقد تقدم ما يدل عليه وحكمته أن بتقدير وجودها يفوت مال المشتري مجاناً ولهذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح وهذا مفقود هنا لأن بتقدير وجود العاهة لا يفوت حق المرتهن من الدين لتعلقه بذمة المدين. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأن رهن المرتد وما يسرع إليه الفساد يجوز؛ فلأن يجوز هذا بطريق الأولى. قال: (ولا يجوز رهن العبد المسلم لكافر إلا عند أبي الخطاب إذا شرطا كونه في يد مسلم). أما كون رهن العبد المسلم لكافر مع عدم شرط كونه في يد مسلم لا يجوز؛ فلأن مقتضى الرهن أن يكون المرهون في يد المرتهن والمرتهن هاهنا ليس أهلاً لذلك. وأما كون رهنه مع شرط ذلك لا يجوز -قاله القاضي-؛ فلأن القبض واستدامته شرط والكافر لا يكون له يد على مسلم ولذلك أُمِر ببيع عبده إذا أسلم. وأما كونه يجوز عند أبي الخطاب؛ فلأنه مال فجاز رهنه عند الكافر كسائر الأموال وما ذكر مندفع بالاشتراط المذكور. قال: (ولا يلزم الرهن إلا بالقبض واستدامته شرط في اللزوم. فإن أخرجه المرتهن باختياره إلى الراهن زال لزومه. فإن رده إليه عاد اللزوم. ولو رهنه عصيراً فتخمر زال لزومه فإن تخلل عاد لزومه بحكم العقد السابق. وعنه: أن القبض واستدامته في المتعين ليس بشرط، فمتى امتنع الراهن من تقبيضه أُجبر عليه). أما كون رهن غير المتعين لا يلزم بغير القبض؛ فلأن الله قال: {فرهان مقبوضة} [البقرة: 283]. وصفه بكونه مقبوضاً. ولأنه عقد إرفاق يفتقر إلى القبول فافتقر إلى القبض كالقرض. ولأنه رهن لم يقبض فلم يلزم إقباضه (¬1) كما لو مات الراهن. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا فرق بين المكيل والموزون وغيرهما وصرح به في المغني لعموم ما ذكر. وحكي في المغني أيضاً عن بعض الأصحاب (¬2) أنه قال: المكيل والموزون لا يلزم فيهما إلا بالقبض وفيما عداهما روايتان كالبيع. وهذا القياس ليس بصحيح لأنه يوهم أن البيع في غير المكيل والموزون لا يلزم في روايةٍ ولا خلاف في لزومه لأن أحد المتبايعين لو أراد فسخه لم يملكه بخلاف الرهن وإنما الخلاف في ضمانه هل هو ¬

_ (¬1) في هـ: اقتباضه. (¬2) في و: أصحابنا.

على البائع أو على المشتري فإذاً حكم المقيس والمقيس عليه مختلف لأن الكلام في الرهن في اللزوم وفي البيع في الضمان. وأما كون رهن المتعين لا يلزم إلا بالقبض على المذهب فكغيره. وأما كونه يلزم بمجرد العقد على روايةٍ؛ فلأن تعيينه قائم مقام قبضه ولذلك قام مقام قبضه في البيع في رواية. وأما كون استدامة القبض شرطاً في اللزوم على المذهب؛ فلما تقدم من قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة: 283]. ولأنها إحدى حالتي الرهن. فكان القبض فيها شرطاً؛ كالابتداء. ولأن الرهن يراد للوثيقة (¬1) ليتمكن من بيعه واستيفاء دينه من ثمنه فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه ولم يحصل وثيقة. فعلى هذه الرواية إن أخرجه المرتهن باختياره زال اللزوم؛ لأن استدامة القبض شرط في اللزوم وقد زالت. فوجب أن يزول اللزوم لزوال شرطه. وقيد إخراج المرتهن الرهن باختياره احترازاً من خروجه لا باختياره؛ كالغصب والسرقة ونحوهما؛ لأن ذلك لا يزيل اللزوم؛ لأن يد المرتهن ثابتة عليه حكماً فكان حكمه حكم من لم يزل يده. وإن رده عاد اللزوم بحكم العقد السابق. ولا يحتاج إلى تجديد عقد؛ لأن العقد قد وجد، ولم يوجد ما يبطل الصحة. أشبه ما لو تراخى القبض عن العقد. ولو كان الرهن عصيراً فتخمر زال لزومه أيضاً؛ لأن تخمير العصير بمنزلة إخراجه من يده في زوال يده؛ لأنه لا يد لمسلم على خمر. ولأن صيرورته خمراً يخرجه عن صحة العقد؛ فلأن يخرجه عن اللزوم بطريق الأولى. وإن تخلل عاد لزومه بحكم العقد السابق؛ لأن صيرورته خمراً شارك إخراج الرهن من يد المرتهن في زوال اللزوم فوجب أن يشارك عوده خلاً عود الرهن إلى يد المرتهن في عود اللزوم. ولقائل أن يفرق بين إعادة الراهن الرهن وبين تخلل الخمر؛ لأن العقد مقتض للصحة واستدامة القبض شرط في اللزوم، فإذا زالت الاستدامة بقيت الصحة، فإذا عادت ¬

_ (¬1) في هـ: للتوثيقة.

الاستدامة عاد اللزوم مستنداً إلى العقد المقتضي للصحة بخلاف ما إذا تخلل الخمر فإنه لما صار خمراً خرج عن اللزوم وعن الصحة إذْ لا يصح رهن الخمر فارتفع موجب العقد، فإذا تخلل لم يجد اللزوم ما يستند إليه. وقد صرح المصنف رحمه الله ببطلان الرهن بصيرورته خمراً وبأن اللزوم يعود بتخلله، وأورد ما ذكر من الإشكال. وأجاب عنه: بأن العقد إذا وقع صحيحاً ثم حدث بالمعقود معنى أخرجه من حكم العقد، ثم زال ذلك لا يمتنع (¬1) عود حكم العقد؛ كزوجة الكافر إذا أسلمت فإنه يحرم وطؤها ويخرج عن حكم العقد فإذا أسلم الزوج في العدة عاد حكم العقد. وفي هذا الجواب نظر فإن الزوج إذا أسلم بعد زوجته يحكم ببقاء النكاح لا بعوده. بناء على أن الفرقة تتوقف على انقضاء العدة على الصحيح من المذهب. وعلى روايةِ وقوع الفرقة باختلاف الدين لا يحكم بعود النكاح؛ لأنه انفسخ فكيف يعود بعد (¬2) فسخه. ولقائل أن يقول في مسألة التحلل: إن الصحة تبقى مراعاة؛ كالكافرة إذا أسلمت. إلا أنه يناقض منصوص المصنف في المغني بالبطلان. ويجاب عنه: بأن مقتضى الدليل أن لا يثبت صحة شيء مع ما ينافيها خولف ذلك في إسلام أحد الزوجين؛ لأن جماعة من الصحابة أسلم الأزواج قبل النساء وبالعكس فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. قال: (وتصرف الراهن في الرهن لا يصح إلا العتق فإنه ينفذ ويؤخذ منه قيمته رهناً مكانه. وعنه: لا ينفذ عتق المعسر. وقال القاضي: له تزويج الأمة ويمنع الزوج وطئها ومهرها رهن معها. والأول أصح). أما كون تصرف الراهن في الرهن بغير العتق والتزويج كالبيع والهبة والإجارة والوقف والرهن لا يصح؛ فلأنه تصرف يبطل حق الوثيقة، وليس بمبني على السراية والتغليب فلم يصح كما لو فسخ عقد الرهن. ¬

_ (¬1) في هـ: يمنع. (¬2) ساقط من هـ.

وأما كون تصرف الموسر بالعتق ينفذ؛ فلأنه إعتاق من مالك جائز التصرف تام الملك فنفذ كعتق المستأجر. ولأن الرهن عين محبوسة لاستيفاء الحق فنفذ فيها عتق المالك كالمبيع في يد البائع. ولأن العتق مبني على السراية والتغليب وينفذ في ملك الغير؛ فلأن ينفذ في ملكه بطريق الأولى. فعلى هذا يجب عليه قيمته لأنه أبطل حق المرتهن من الوثيقة فوجبت عليه قيمته كما لو أتلفه ويؤخذ منه فيجعل رهناً لأنها نائبة عن العين أو بدل عنها. وأما كون تصرف المعسر بالعتق ينفذ على المذهب فلما ذكر في الموسر. فعلى هذا تبقى القيمة (¬1) في ذمته كما إذا أتلف شيئاً من مال غيره. فإن قيل: فأيّ فائدة في بقاء القيمة في ذمته والدين ثابت فيها؟ قيل: فائدته أنه إذا أيسر قبل حلول الدين ملك المرتهن مطالبته بالقيمة ليكون رهناً. وتعتبر القيمة حال الإعتاق لأنها حال الإتلاف. وأما كونه لا ينفذ عتق المعسر على روايةٍ؛ فلأن نفوذ عتقه يسقط الوثيقةَ وبدلَها فلم ينفذ لما فيه من الإضرار بالمرتهن، وكما لو أعتق شِرْكاً له في عبد وهو معسر. وذكر أبو الخطاب هذه الرواية في الهداية احتمالاً. وذكرها المصنف رحمه الله في المغني عن أبي الخطاب تخريجاً. وأما تصرفه في التزويج فقال القاضي وجماعة من أصحابنا: إذا زوج الأمة المرهونة صح؛ لأن محل عقد النكاح غير محل عقد الرهن بدليل صحة رهن الأمة المزوجة. ولأن الرهن لا يزيل الملك فلم يمنع التزويج كالإجارة. فعلى هذا يكون المهر رهناً معها لأنه من نماء الرهن فكان رهناً لما يأتي إن شاء الله تعالى. ويمنع الزوج وطئها لئلا تحبل فتنقص قيمتها وربما تلفت بسبب الحمل. واختار أبو الخطاب أن التزويج لا يصح لأنه تصرف ينقص قيمتها ويشغل بعض منافعها فلم ¬

_ (¬1) في و: قيمته.

يملكه الراهن بغير رضى المرتهن كالإجارة. وصحح المصنف اختيار أبي الخطاب لما ذكر. ولأن التزويج يذهب رغبات المشترين فيها فينقص من أجل ذلك ثمنها وليس للراهن ذلك كما لو فسخ عقد الرهن. قال: (وإن وطئ الجارية فأولدها خرجت من الرهن وأُخِذت منه قيمتها فجعلت رهناً). أما كون الجارية المرهونة تخرج من الرهن بالإيلاد؛ فلأنها تصير به أم ولد. وأما كون قيمتها تؤخذ من الواطئ؛ فلأنه فوت على المرتهن الرهن فوجب أن يؤخذ منه بدله كما لو أتلفه. وأما كون القيمة تجعل رهناً؛ فلأنها بدله والبدل يعطى حكم مبدله. قال: (وإن أذن المرتهن له في بيع الرهن أو هبته ونحو ذلك ففعل صح وبطل الرهن. إلا أن يأذن له في بيعه بشرط أن يجعل ثمنه رهناً أو يعجل له (¬1) دينه من ثمنه). أما كون فعل ما ذكر بإذن المرتهن يصح؛ فلأن المنع منه كان لحقه فإذا أَذِن زال المنع. وأما كون الرهن يبطل في غير المستثنى؛ فلأنه لا يجتمع مع ما ينافيه. وأما كونه لا يبطل إذا أذن المرتهن في بيعه بشرط أن يجعل ثمنه رهناً أو يعجل له دينه من ثمنه؛ فلأنه لو شرط ذلك بعد حلول الحق جاز. فكذلك قبله. قال: (ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه من الرهن ومؤونته على الراهن وكفنه إن مات وأجرة مخزنه إن كان مخزوناً). أما كون نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه من الرهن؛ فلأن الرهن عقد وارد على العين فيدخل فيه ما ذكر كالبيع والهبة. ولأن ما ذكر تبع للأصل فكان رهناً كأساسات الحيطان. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

وأما كون مؤونته وكفنه وأجرة مخزنه على الراهن؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه» وجميع ما ذكر من غرمه. ولأن الرهن ملك الراهن فكان عليه جميع ما ذكر كغير المرتهن. قال: (وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف بغير تعد منه فلا شيء عليه ولا يسقط بهلاكه شيء من دينه. وإن تلف بعضه فباقيه رهن بجميع الدين). أما كون الرهن أمانة في يد المرتهن؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرهن: «لصاحبه غنمه وعليه غرمه» (¬1). ولأن الرهن لو ضمن لامتنع الناس من فعله خوفاً من الضمان وذلك وسيلة إلى تعطيل القروض والمداينات غالباً وفي ذلك ضرر عظيم والضرر منفي (¬2) شرعاً. ولأن الرهن مقبوض بعقد واحد بعضه أمانة فكان كله أمانة كالوديعة. وأما كونه لا شيء على المرتهن إذا تلف بغير تعد منه؛ فلأنه أمانة في يده فلم يكن في تلفه شيء كالوديعة. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا تلف بغير تعد منه ففيه إشعار بأنه يضمنه مع التعدي؛ لأن الوديعة إذا تعدى فيها ضمن فكذا هاهنا. وأما كون شيء من الدين لا يسقط بهلاكه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَغْلَقُ الرهن لصاحبه غُنمه وعليه غُرمه» (¬3) رواه الأثرم. ولأنه مقبوض على وجهِ الأمانة فلم يسقط الحق كالوديعة إذا تلفت في يد من له عند صاحبها دين. وأما كون باقي الرهن رهناً بجميع الدين؛ فلأن الدين كله يتعلق بجميع أجزاء الرهن. لما سيأتي إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (127) 3: 32 كتاب البيوع. (¬2) في هـ: منتفى. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (ولا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي جميع الدين. وإن رهنه عند رجلين فوفى أحدهما انفك في نصيبه. وإن رهنه رجلان شيئاً فوفاه أحدهما انفك في نصيبه). أما كون الرهن لا ينفك شيء منه حتى يقضي جميع الدين؛ فلأنه عين تعلق به حق فلا ينفك من الرهن بحساب ما قضى كالمكاتب لا يعتق بعضه إذا أدى بعض المكاتبة. ولأن الأعيان تزيد قيمتها وتنقص باختلاف الأسعار ورغبة الطلاب فلو خرج من الرهن شيء بقدر ما قضي لم يؤمن أن الباقي لا يفي ببقية الحق لنقصان سعره. وأما كونه ينفك في نصيب من وفى إذا كان الرهن عند رجلين فوفى أحدهما؛ فلأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة عقدين فكأنه رهن كل واحد منهما النصف منفرداً. وقال أبو الخطاب في الهداية: يكون ذلك رهناً عند الآخر حتى يوفيه نظراً إلى أن العقد واحد. وقال المصنف في المغني: كلام أحمد وأبي الخطاب -يعني في ذلك- محمول على أنه ليس للراهن مقاسمة المرتهن لما عليه فيه من الضرر لا بمعنى أن العين كلها تكون رهناً إذ لا يجوز أن يقال: رهنه نصف العبد فصار جميعه رهناً. وأما كون ينفك في نصيب من وفى إذا كان الراهن رجلين فوفى أحدهما؛ فلأن الراهن متعدد فتعلق ما على هذا بنصيبه وما على هذا بنصيبه لأن الرهن لا يتعلق بملك الغير إلا إذا كان مأذوناً في رهنه ولم يوجد ذلك. قال: (وإذا حل الدين وامتنع الراهن من وفائه فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو للعدل في بيعه باعه ووفى الدين وإلا رفع الأمر إلى الحاكم فيجبره على وفاء الدين أو بيع الرهن فإن لم يفعل باعه الحاكم وقضى دينه). أما كون المرتهن أو العدل يبيع الرهن إذا حل الدين وامتنع الراهن من وفائه وكان الراهن قد أذن في بيعه؛ فلأنه مأذون له في ذلك. وأما كونه يوفي الدين؛ فلأن ذلك هو المقصود من البيع. وأما كونه يرفع الأمر إلى الحاكم ليجبره على الوفاء أو بيع الرهن إذا لم يكن الراهن أذن في بيعه؛ فلأن شأن الحاكم ذلك.

وظاهركلام المصنف أن الحاكم لا يبيع الرهن بنفسه هنا لأنه قال: يجبره على الوفاء أو بيع الرهن. وقال في المغني: إن رأى حبسه وتعزيره فعل وإن رأى بيعه بنفسه أو بأمينه فعل. وأما كون الحاكم يبيع ذلك إذا امتنع الراهن من كل واحد من الأمرين؛ فلأن ذلك تعين طريقاً إلى أداء الحق الواجب أداؤه. وأما كونه يقضي دينه؛ فلما تقدم.

فصل قال المصنف رحمه الله: (وإذا شرط في الرهن جعله على يد عدل صح، وقام قبضه مقام قبض المرتهن. وإن شرط جعله في يد اثنين لم يكن لأحدهما الانفراد بحفظه). أما كون شرط جعل الرهن على يد عدل يصح؛ فلأنه قبض في عقد فجاز التوكيل فيه كقبض الموهوب. وأما كون قبض العدل يقوم مقام قبض المرتهن؛ فلأنه وكيله، وقبض الوكيل يقوم مقام قبض الموكل. وأما كون أحد الاثنين لا يكون له الانفراد بحفظ الرهن إذا شرط جعله في يد اثنين؛ فلأن الراهن لم يرض إلا بحفظهما فلم يجز لأحدهما الانفراد بحفظه كالوصيين. قال: (وليس للراهن ولا المرتهن إذا لم يتفقا ولا للحاكم نقله عن يد العدل إلا أن تتغير حاله وله رده عليهما ولا يملك رده إلى أحدهما فإن فعل فعليه رده إلى يده فإن لم يفعل ضمن حق الآخر). أما كون كل واحد من الراهن والمرتهن ليس له نقل الرهن عن يد العدل إذا لم تتغير حاله؛ فلأنهما رضيا به ابتداء. وقول المصنف رحمه الله: إذا لم يتفقا مشعر بأنه مع الاتفاق منهما يجوز نقله. وصرح به في المغني؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما. وأما كون الحاكم ليس له ذلك؛ فلأن الراهن إذا لم يملك ذلك وهو صاحب الحق؛ فلأن لا يملكه الحاكم بطريق الأولى. وأما كون كل واحد من الراهن والمرتهن له نقل الرهن عن يد العدل إذا تغيرت حاله بفسق أو ضعف عن الحفظ أو عداوة ونحو ذلك؛ فلأن في مقامه في يده ضرراً على الطالب.

فعلى هذا إن اتفقا على شخص يضعانه عنده جاز لأن الحق لهما وإن اختلفا وضعه الحاكم عند عدل لأن الحاكم شأنه قطع التنازع وذلك طريق إليه. وأما كون العدل له رده على الراهن والمرتهن؛ فلأنه أمين متطوع بالحفظ فكان له رده كسائر الأمانات. وأما كونه لا يملك رده إلى أحدهما؛ فلأن للآخر حظا في إمساكه في يده. وفي رده إلى أحدهما تضييع له. وأما كون العدل عليه أن يرده إلى يده؛ فلأن في ذلك عوداً للحق إلى مستحقه. وأما كونه يضمن حق الآخر إذا لم يفعل الرد؛ فلأنه فوّت عليه ما استحقه بعقد الرهن أشبه ما لو أتلفه. قال: (وإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد. فإن كان فيه نقود باع بجنس الدين فإن لم يكن فيها جنس الدين باع بما يرى أنه أصلح). أما كون العدل ليس له أن يبيع إلا بنقد البلد إذا أذن له في البيع من غير تعيين؛ فلأن الحظ في ذلك للرواج فيه. وأما كونه يبيعه بجنس الدين إذا كان في البلد نقود؛ فلأنه أقرب إلى وفاء الحق. وأما كونه يبيعه بما يرى أنه أصلح إذا لم يكن في النقود جنس الدين؛ فلأن عليه الاحتياط فيما هو متوليه أشبه الحاكم. واعلم أن المصنف قال في المغني: إذا تعددت (¬1) النقود باع بأغلبها لأنه راجح على غيره. فيجب حمل كلامه هنا على ما إذا كانت النقود متساوية جمعاً بين نقليه (¬2) في كتابيه. وقال في المغني أيضاً بدل قوله: باع بما يرى أنه أصلح عين له الحاكم ما يبيعه به. وهو أولى لأنه أعرف بالأحظ وأبعد من التهمة. قال: (وإن قبض الثمن فتلف في يده فهو من ضمان الراهن. وإن استحق المبيع رجع المشتري على الراهن. وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكر ولم يكن قضاه ببينة ¬

_ (¬1) في هـ: تعدد. (¬2) في و: نقله.

ضمن. وعنه: لا يضمن إلا أن يكون أمر بالإشهاد فلم يفعل. وهكذا الحكم في الوكيل). أما كون الثمن التالف في يد العدل من ضمان الراهن؛ فلأنه وكيله في البيع والثمن ملكه وهو أمين له في قبضه أشبه سائر الأمانات. وأما كون المشتري يرجع على الراهن إذا استحق المبيع؛ فلأن المبيع له فالرجوع بالعهدة عليه كما لو باع بنفسه. واشترط المصنف رحمه الله في المغني في الرجوع على الراهن دون العدل أن (¬1) يكون العدل قد أعلم المشتري أنه وكيل؛ لأنه إذا لم يعلم كان هو البائع ظاهراً فإذا ادعى بعد ذلك أنه وكيل لم يقبل لمخالفته الظاهر وللتهمة. وأما إذا ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن فأنكر ولا بينة للعدل عليه فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون أمره بالإشهاد فيضمن لتفريطه ومخالفة أمر موكله. وثانيهما: أن يطلق ولم يأمره بإشهاد ولا غيره وفيه روايتان: إحداهما: يضمن؛ لأنه فرط حيث لم يُشْهِد. ولأنه إنما أذن له في قضاء مبر ولم يحصل. والثانية: لا يضمن؛ لأنه أمينه. وقيّد المصنف رحمه الله رواية الضمان بعدم البينة بينهما. على أن القضاء إذا كان ببينة لا يضمن لعدم التفريط. ولا فرق في عدم الضمان بين أن تكون البينة قائمة أو ميتة أو غائبة لما ذكر. ولا بد أيضاً من قيد ثان وهو: أن لا يكون قضاؤه بحضرة الموكل صرح بذلك جماعة من أصحابنا؛ لأنه لا يعد مفرطاً. واشترط في روايةِ عدم الضمان: أن لا يكون الموكل أمره بالإشهاد. فلم يفعل يضمن قولاً واحداً؛ لما تقدم من أنه يعد مخالفاً مفرطاً. وأما كون حكم الوكيل حكم العدل فيما ذكر؛ فلأنه في معناه. ¬

_ (¬1) في هـ: قد.

قال: (وإن شرط أن يبيعه المرتهن أو العدل صح. فإن عزلهما صح عزله. وإن شرط أن لا يبيعه عند الحلول أو إن جاءه بحقه وإلا فالرهن له لم يصح الشرط. وفي صحة الرهن روايتان). أما كونه إذا شرط أن يبيع المرتهن أو العدل الرهن يصح؛ فلأن كل واحد منهما أهل للوكالة أشبه الأجنبي. ولأن ما صح توكيل غيرهما فيه صح توكيلهما فيه كبيع عين أخرى. وأما كونه يصح عزلهما؛ فلأن الوكالة عقد جائز فلم يلزم المقام عليها كسائر الوكالات. وقال المصنف في المغني: قال ابن أبي موسى: يتوجه أن لا يصح؛ لأن الوكالة هنا صارت من حقوق الرهن. والأول المنصوص؛ لما ذكر. وكونها من حقوق الرهن لا يمنع جوازه كما لو شرطا الرهن في البيع فإنه لا يصير لازماً؛ كما لو مات الراهن بعد الإذن فإنه تنفسخ الوكالة. وأما كونه إذا شرط أن لا يبيعه عند الحلول لا يصح؛ فلأنه شرط ينافي مقتضى عقد الرهن. وأما كونه إذا شرط إن جاءه بحقه وإلا فالرهن له لا يصح فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَغْلَقُ الرهن» (¬1). قال الأثرم: قلت لأحمد: ما معنى قوله: لا يَغْلَق الرهن؟ قال: لا يدفع رهناً إلى رجل ويقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وإلا فالرهن لك. وروي «أن رجلاً رهن داراً بالمدينة إلى شيء مسمى. فمضى الأجل. فقال الذي ارتهن: منزلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يَغْلَقُ الرهن» رواه الأثرم. ولأنه علق البيع على شرط لأنه جعله مبيعاً بشرط أن لا يوفيه الحق في محله والبيع المعلق بشرط لا يصح. وأما كون الرهن صحيحاً ففيه روايتان مبنيتان على الروايتين في البيع. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وقال المصنف رحمه الله في المغني: قال القاضي: يحتمل فساد الرهن بالشرط الفاسد بكل حال لأن العاقد إنما بذل ملكه بهذا الشرط فإذا لم يسلم له أفضى إلى أخذ ماله بغير رضاه. والقياس يقتضي ذلك في البيع لكن ترك فيه للأثر (¬1) فيبقى فيما عداه على مقتضى القياس. ولأنه شرط فاسد فأفسد عقد الرهن كما لو وقته. ونصر أبو الخطاب في رؤوس المسائل صحته استدلالاً بقوله عليه السلام: «لا يَغْلَقُ الرهن» (¬2). وهو مشروط فيه شرط فاسد ولم يحكم بفساده. [وقيل: ما يَنْقص بفساده] (¬3) حق المرتهن (¬4) يُبْطله وجهاً واحداً، وما لا يَنْقص به فعلى وجهين. ¬

_ (¬1) في و: الأثر. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) في هـ: الرهن.

فصل قال المصنف رحمه الله: (إذا اختلفا في قدر الدين أو الرهن أو رده، أو قال: أقبضتك عصيراً قال: بل (¬1) خمراً فالقول قول الراهن). أما كون القول قول الراهن إذا اختلف هو والمرتهن في قدر الدين فقال المرتهن: لي عليك ألف رهنتني عليها عبدك فلاناً فقال الراهن: بل مائة، أو في قدر الرهن فقال المرتهن: رهنتني هذا العبد وهذه الجارية فقال الراهن: بل أحدهما؛ فلأن الراهن منكر والقول قول المنكر. ولأن القول قوله في أصل العقد. فكذلك في صفته. وأما كون القول قوله إذا اختلفا في رد الرهن فقال المرتهن: رددته إليك، وقال الراهن: لم أقبضه فلما ذكر. ولأن الأصل معه والمرتهن قبض العين لمنفعته فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر. وأما كون القول قوله إذا قال: أقبضتك عصيراً فقال المرتهن: بل خمراً؛ فلأن المرتهن معترف بعقد وقبض ويدعي فساده. والأصل فيه السلامة. قال: (وإن أقر الراهن أنه أعتق العبد قبل رهنه عتق وأخذت منه قيمته رهناً. وإن أقر أنه كان جنى أو أنه باعه أو غصبه قُبِل على نفسه، ولم يقبل على المرتهن إلا أن يصدقه). أما كون العبد المقر بعتقه يعتق؛ فلأن السيد غير متهم في الإقرار بعتقه لأنه لو أنشأ العتق بعد لزوم الرهن عتق لما تقدم. ¬

_ (¬1) في هـ: قال لا بل.

وأما كون القيمة تؤخذ من المقر رهناً؛ فلأنه فوت عليه الوثيقة بالعتق فلزمته القيمة تجعل رهناً جبراً لما فاته من الوثيقة. وأما كونه إذا أقر أنه كان جنى أو أنه باعه أو غصبه يقبل قوله على نفسه؛ فلأنه مقر على نفسه فقبل كما لو أقر له بدين. وأما كونه لا يقبل قوله على المرتهن مع تكذيبه إياه؛ فلأنه متهم في حقه. ولأن قول الغير على الغير غير مقبول. فعلى هذا يلزم المقر أرش الجناية إن كان موسراً؛ لأنه حال بين المجني عليه وبين رقبة الجاني بفعله أشبه ما لو قتله، ويتعلق حق المجني عليه برقبته إذا انفك الرهن إن كان معسراً ويستحق المشتري والمغصوب منه الرهن إذا انفك منه؛ لأن اعترافه مقتض لذلك في الحال وفي المآل. خولف في الحال لأجل حق المرتهن. فمتى زال: عَمِلَ المقتضي عملَه، وإن صدقه المرتهن ثبت ذلك في الحال؛ لأن المقتضي قائم والمانع زائل.

فصل قال المصنف رحمه الله: (وإذا كان الرهن مركوباً أو محلوباً فللمرتهن أن يركب ويحلب بقدر نفقته متحرياً للعدل في ذلك، وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه فهو متبرع، وإن عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم فعلى روايتين). أما كون المرتهن له أن يركب ويحلب فيما ذكر بقدر نفقته فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الظهرُ يُرْكَبُ بِنفقتهِ إذا كانَ مَرهوناً، ولبنُ الدرِّ يُشرَبُ بِنفقتهِ إذا كانَ مَرهوناً، وعلى الذي يَركبُ ويشربُ النفقة» (¬1) رواه البخاري. ولأن الحيوان نفقته واجبة وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من منافعه مع بقاء عينه فجاز كما يجوز للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند عدم الإنفاق عليها. فإن قيل: المراد به أن الراهن ينفق وينتفع. قيل: هذا لا يصح لوجهين: أحدهما: أنه روي في بعض الألفاظ إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها. والثاني: أن قوله: بنفقته فيه إشارة إلى أن الانتفاع عوض النفقة والراهن النفقة عليه لا بطريق المعاوضة وهذا الإنفاق لا فرق فيه بين تعذر النفقة من الراهن بعينه أو امتناع أو مع القدرة على أخذ النفقة منه أو استئذانه لعموم الحديث. ويجب أن يكون الانتفاع بما ذكر بقدر النفقة لأن فيه معنى المعاوضة. وعن أحمد لا ينتفع بما ذكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه». ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به ولا الإنفاق عليه فلم تكن له ذلك كغير المرتهن. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

والأول أصح؛ لما ذكر من الحديث. وقوله: «غنمه» نقول به؛ لأن النماء عندنا للراهن لكن للمرتهن الانتفاع بما ذكر بشرط النفقة لما تقدم. وفي قول المصنف رحمه الله: وإذا كان الرهن مركوباً أو محلوباً إشعار بأن المرتهن ليس له أن ينتفع بغيرهما. وقد صرح بذلك المصنف رحمه الله في بقية كتبه وغيره من الأصحاب فيما عدا الخدمة وحكوا في الخدمة روايتين، والأصح أنه لا ينتفع من الرهن إلا بالركوب والحلب؛ لأن القياس يقتضي أن لا ينتفع بشيء من ذلك. ترك ذلك في الركوب والحلب؛ للأثر. فيبقى فيما عداه على مقتضى القياس. وأما كون المرتهن متبرعاً إذا أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه؛ فلأنه مفرط حيث لم يستأذن المالك. ولأن الرجوع فيه معنى المعاوضة فافتقر إلى الإذن والرضى كسائر المعاوضات. وأما كونه إذا عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم يرجع على روايةٍ؛ فلأنه فعل ما يجب عليه وهو محتاج إليه لحراسة حقه أشبه الشريك إذا أنفق على الدابة المشتركة مع غيبة شريكه. وأما كونه لا يرجع على روايةٍ؛ فلأن النفقة معاوضة فافتقرت إلى رضا المالك وإذنه كسائر المعوضات. قال: (وكذلك الحكم في الوديعة وفي نفقة الجمال إذا هرب الجمّال وتركها في يد المكتري. وإن انهدمت الدار فعمرها المرتهن بغير إذن الراهن لم يرجع به رواية واحدة). أما كون حكم الإنفاق على الوديعة والجمال التي هرب جمّالها عنها حكم الإنفاق على الرهن على ما ذكر من التفصيل؛ فلتساوي الكل معنى الموجب للتساوي حكماً. وأما كون المرتهن لا يرجع بما غرمه في الدار المرهونة بغير إذن الراهن رواية واحدة؛ فلأن العمارة لا تجب على الراهن بخلاف نفقة الحيوان. وذكر صاحب النهاية فيها بعد قوله في هذه المسألة لا يرجع قولاً واحداً أن ابن عقيل قال: يحتمل أن يرجع؛ لأن غرضه حفظ وثيقته. أشبه الحيوان.

فصل قال المصنف رحمه الله: (وإذا جنى الرهن جناية موجبة للمال تعلق أرشها برقبته ولسيده فداؤه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته أو بيعه في الجناية أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه. وعنه: إن اختار فداءه لزمه جميع الأرش، فإن فداه فهو رهن بحاله، وإن سلمه بطل الرهن). أما كون أرش الجناية تتعلق برقبة الرهن الجاني؛ فلأن الجناية مقدمة على حق المالك، والملك أقوى من الرهن فأولى أن تقدم على الرهن. فإن قيل: المرتهن أيضاً مقدم على حق المالك. قيل: حق المرتهن ثبت من جهة المالك بعقده بخلاف حق الجناية فإنه ثبت بغير اختياره مقدماً على حقه فيقدم على ما ثبت بعقده. ولأن حق الجناية مختص بالعين بفواتها وحق المرتهن لا يسقط بفوات العين ولا يختص بها فكان تعلقه بها أخف وأدنى. وأما كون السيد له الخيرة بين فدائه وبين بيعه وبين تسليمه؛ فلأن حق المجني عليه في قيمته لا في عينه. وأما كونه يفديه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته على المذهب؛ فلأنه إن كان الأرش أقل فالمجني عليه لا يستحق أكثر من أرش الجناية عليه، وإن كانت القيمة أقل فلا يلزم السيد أكثر منها؛ لأن ما يدفعه عوض عن العبد فلا يلزمه أكثر من قيمته كما لو أتلفه. وأما كونه يلزمه جميع الأرش إن اختار فداءه على روايةٍ؛ فلأنه ربما رغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من قيمته.

وأما كونه إذا فداه رهناً بحاله؛ فلأن الرهن لم يبطل، وإنما قدم حق المجني عليه لقوته فإذا زال ظهر حق المرتهن. وأما كونه إذا سلمه يبطل الرهن؛ فلأن الجناية تعلقت بالعبد وبالتسليم استقر كونه عوضاً عنها فبطل كونه مَحَلاًّ للرهن. أشبه ما لو مات أو ظهر مستحقاً لغيره. قال: (فإن لم يستغرق الأرش قيمته بيع منه بقدره وباقيه رهن. وقيل: يباع جميعه، ويكون باقي ثمنه رهناً). أما كون الجاني الذي لا يستغرق أرش جنايته قيمته يباع منه بقدر أرش الجناية فقط على المذهب؛ فلأن المقصود يحصل بذلك. وأما كون باقيه رهناً؛ فلزوال المعارض. وأما كونه يباع جميعه على قولٍ؛ فلأن تعلق الجناية كتعلق دين الرهن، ودين الرهن ينبسط على جميع أجزائه. فكذلك دين الجناية. فعلى هذا إذا بيع دفع منه أرش الجناية والباقي رهن؛ لأنه بدل عن الرهن وعوض عنه فتعلق به ما كان متعلقاً بمبدله. قال: (وإن اختار المرتهن فداءه ففداه بإذن الراهن رجع به، وإن فداه بغير إذنه فهل يرجع به؟ على روايتين). أما كون المرتهن يرجع بالفداء إذا فداه بإذن الراهن؛ فلأنه غرمه بإذن مالكه فوجب أن يستحق الرجوع به عليه كما لو أذن المضمون عنه لضامنه في الوفاء. وأما كونه إذا فداه بغير إذنه هل يرجع به على روايتين؛ فلأنه في معنى ما إذا قضى دين الغير بغير إذنه. وسيذكر الخلاف فيه إن شاء الله تعالى. ويشترط في الخلاف المذكور: أن يكون المرتهن يعتقد الرجوع لأنه إذا فداه وهو لا يعتقد ذلك يكون متبرعاً. ولم يذكر المصنف رحمه الله اعتقاد الرجوع؛ لأنه قد تقرر أن المتبرع ليس له أن يرجع. واعتمد هنا على لحظ ذلك. فإن قيل: فلو بذل المرتهن الفداء لتكون العين رهناً عليه وعلى الدين الأول هل كان له ذلك؟

قيل: نعم؛ لأنه في مقابلة جناية ملك الراهن وذلك لازم له، ولهذا تعلق برقبة ملكه. ذكره ابن عقيل. وقال صاحب النهاية فيها بعد ذكر قول ابن عقيل: يحتمل أن لا يصير رهناً بالفداء بل يكون ديناً بغير رهن؛ لأن الزيادة في دين الرهن لا يجوز. قال: (وإن جنى عليه جناية موجبة للقصاص فلسيده القصاص، فإن اقتص فعليه قيمة أقلهما قيمة تجعل مكانه، وكذلك إن جنى على سيده فاقتص منه هو أو ورثته) (¬1). أما كون السيد له القصاص؛ فلأن حاجته داعية إلى ذلك صيانة لماله وزجراً لتعدي الغير عليه. وقال أبو الخطاب في الهداية: ليس له القصاص بغير رضا المرتهن لما فيه من إسقاط حقه من الوثيقة ويندفع ذلك بإيجاب القيمة تجعل رهناً؛ لأن فيه تعويضاً عن العين فلم يسقط حقه. وأما كون القيمة عليه إذا اقتص؛ فلأنه أتلف مالاً استحق بسبب إتلاف الرهن. فغرم قيمته؛ كما لو كانت الجناية موجبة للمال. وأما كون القيمة أقل القيمتين ومعناه أن الرهن لو كان يساوي عشرة والجاني خمسة أو بالعكس لم يكن عليه إلا الخمسة؛ فلأن في الأولى لم يفوت على المرتهن إلا ذلك القدر، وفي الثانية لم يكن حق المرتهن متعلقاً إلا بذلك القدر. وقال المصنف في المغني: إن اقتص أخذت منه قيمته فجعلت مكانه رهناً. وظاهره أنه يجب على الراهن جميع قيمة الجاني وهو متجه؛ لأنه بدل عن الرهن فكان كله رهناً. وأما كون القيمة تجعل مكانه؛ فلأن ذلك بدل الرهن وعوض عنه. وأما كون الحكم إذا جنى على سيده فاقتص منه هو أو ورثته كالحكم إذا جنى عليه أجنبي فاقتص الراهن منه؛ فلأنهما مستويان معنى فوجب أن يستويا حكماً. ¬

_ (¬1) في هـ: هو وورثته.

قال: (فإن عفى السيد على مال أو كانت الجناية موجبة للمال فما قبض منه جعل مكانه فإن عفى السيد عن المال صح في حقه ولم يصح في حق المرتهن، فإذا انفك الرهن رد إلى الجاني. وقال أبو الخطاب: يصح وعليه قيمته). أما كون ما قبض من الفداء إذا عفى السيد على مال أو كانت الجناية موجبة له يجعل مكانه؛ فلأن ذلك بدل عنه فوجب أن يعطى حكمه. وأما كون السيد إذا عفى عن المال يصح في حقه دون المرتهن على الأول؛ فلأن عفوه صادف حقاً له وحقاً لغيره فصح في حقه؛ لأنه لا مانع منه ولم يصح في حق الغير لما فيه من إبطال حقه. فعلى هذا إذا انفك الرهن رد إلى الجاني؛ لزوال المانع. وأما كونه يصح مطلقاً على قول أبي الخطاب؛ فلأنه إبراء صدر من مالك فوجب أن يصح كما لو لم يكن بدلاً عن رهن وحق المرتهن مجبور بإيجاب القيمة على الراهن. فعلى هذا عليه قيمته ليحصل الجبر. وقال بعض أصحابنا: لا يصح مطلقاً؛ لأن حق المرتهن متعلق به. أشبه ما لو وهبه أو ما لو عصبه فأبرأ الغاصب منه. قال: (وإن وطئ المرتهن الجارية من غير شبهة فعليه الحد والمهر، وولده رقيق. وإن وطئها بإذن الراهن، وادعى الجهالة، وكان مثله يجهل ذلك فلا حد عليه ولا مهر وولده حر لا تلزمه قيمته). أما كون المرتهن عليه الحد والمهر إذا وطئ الجارية المرهونة بغير شبهة؛ فلأنه وطء حرام لا شبهة فيه فأوجب ذلك كما لو لم يكن رهناً. وأما كون ولده رقيقاً؛ فلأن الجارية ملك لغير الواطئ. وأما كونه لا حد عليه إذا وطئ بإذن الراهن وادعى الجهالة ومثله يجهل ذلك؛ فلأن ذلك شبهة والحد يدرأ بالشبه. وأما كونه لا مهر عليه؛ فلأن المهر يجب للسيد بسبب الوطء وقد أذن فيه. أشبه قيمة الجارية إذا أذن في قتلها.

وأما كون ولده حراً؛ فلأنه اعتقد حل الوطء وأن ولده حر وكان حراً كولد المغرور. وأما كونه لا تلزمه قيمته بخلاف المغرور؛ فلأن ذلك حدث عن وطء ما دون فيه. فلم تلزمه قيمة الولد؛ كالمهر. وقال صاحب النهاية فيها: قال ابن عقيل: لا تسقط قيمة الولد؛ لأنه أحال بين الولد وبين مالكه باعتقاده فلزمه قيمته كالمغرور. وفرّق بين المهر والولد من حيث: إن الإذن صريح في الوطء الموجب للمهر فأسقطه بخلاف الولد فإن الإذن في الوطء ليس بصريح في الإحبال فلم يسقطه. ثم قال صاحب النهاية: والأول أصح؛ لأن الإذن في الوطء إذن فيما يترتب عليه، والإحبال والولد مما يترتب عليه فكان إذناً فيه. فلم تلزمه قيمة الولد؛ كالمهر.

كتاب الضمان

كتاب الضمان (¬1) الضمان جائز بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف: 72]. قال ابن عباس: الزعيم الكفيل. وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزعيمُ غَارِمٌ» (¬2) رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن. وعن سلمة بن الأكوع «أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل ليصليَ عليه. فقال: هل عليهِ دَين؟ فقالوا: نعم. ديناران. فقال: هل تركَ لهما وفاء؟ قالوا: لا. فتأخرَ. فقيل: لم لا تصلي عليه؟ فقال: ما تنفعهُ صلاتي وذمتهُ مرهونة؟ ألا قام أحدكم فضمنه! فقام أبو قتادة فقال: هما (¬3) عليّ يا رسول الله! فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم» (¬4). وأما الإجماع فأجمع المسلمون في الجملة على صحة الضمان. قال المصنف رحمه الله: (وهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت، فإن برئت ذمة المضمون عنه برئ الضامن، وإن برئ الضامن أو أقر ببراءته لم يبرأ المضمون عنه). أما معنى الضمان فقيل هو كما ذكره المصنف رحمه الله، واشتقاقه من الضم. وقال القاضي: هو مشتق من التضمن لأن ذمة الضامن تتضمن الحق. وقال صاحب المستوعب فيه: قال ابن عقيل: هو مأخوذ من الضمن ثم قال: فتصير ذمة الضامن في ضمن ذمة المضمون عنه. ¬

_ (¬1) ورد العنوان في هـ: باب الضمان. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3565) 3: 296 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية. وأخرجه الترمذي في جامعه (1265) 3: 565 كتاب البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2405) 2: 804 كتاب الصدقات، باب الكفالة. (¬3) في هـ: لهما. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2173) 2: 803 كتاب الكفالة، باب من يكفل عن ميت ديناً فليس له أن يرجع.

وأما كون صاحب الحق له مطالبة من شاء من المضمون عنه والضامن في الحياة والموت؛ فلأن الحق ثابت في الذمتين فكان له مطالبة من شاء منهما كالضامنين. وأما كون الضامن يبرأ ببراءة ذمة المضمون عنه؛ فلأنه تبع له. ولأن الضمان وثيقة فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن. وأما كون المضمون عنه لا يبرأ ببراءة ذمة الضامن مما ذكر؛ فلأنه أصل فلا يبرأ ببراءة التبع. ولأن ذلك وثيقة انحلت بغير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الأصل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفاء. قال: (ولو ضمن ذمي لذمي عن ذمي خمراً فأسلم المضمون له أو المضمون عنه برئ هو والضامن معاً). أما كون المضمون عنه يبرأ بإسلام المضمون له؛ فلأن مالية الخمر بطلت في حقه فلم يملك مطالبة المكفول عنه. وأما كون الضامن يبرأ بذلك؛ فلأنه تبع للأصل فإذا برئ أصله برئ هو. وأما كونهما يبرآن بإسلام المضمون عنه؛ فلأنه صار مسلماً ولا يجوز وجوب خمر على مسلم، وإذا برئ المضمون عنه كذلك برئ الضامن لأنه تبعه. وذكر أبو الخطاب في الهداية في هذه الصورة وجهاً آخر أنهما لا يبرآن لأن المضمون له يملك الخمر فلا يسقط كما لو أعاره عبداً فرهنه على خمر ثم أسلم المستعير فإنه يلزمه فك الرهن. قال: (ولا يصح إلا من جائز التصرف، ولا يصح من مجنون ولا صبي ولا سفيه ولا من عبد بغير إذن سيده. ويحتمل أن يصح ويُتْبَع به بعد العتق. فإن ضمن بإذن سيده صح، وهل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين). أما كون الضمان لا يصح من غير جائز التصرف؛ فلأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح من غير جائز التصرف كالبيع. وأما كونه يصح من جائز التصرف؛ فلأن جائز التصرف يصح بيعه وإقراره وسائر أحكامه. فكذلك ضمانه.

وأما كونه لا يصح من مجنون ولا صبي ولا سفيه؛ فلأنهم غير جائزي التصرف. وأما كونه لا يصح من عبد بغير إذن سيده؛ فلأنه عقد يقتضي إيجاب مال بغير إذن سيده كالنكاح. وأما كونه يحتمل أن يصح ويُتْبَع به بعد العتق؛ فلأنه لا ضرر على السيد فيه فصح منه ولزمه بعد العتق كالإقرار بالإتلاف. وأما كونه إذا ضمن بإذن سيده يصح؛ فلأن السيد لو أذن له في التصرف صح فكذا هاهنا. وأما كونه يتعلق بما ذكر ففيه روايتان منشأهما أن ديون المأذون له في التجارة هل تتعلق برقبته أو ذمة سيده. وسيذكر دليل ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. قال: (ولا يصح إلا برضى الضامن ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه ولا معرفة الضامن لهما ولا كون الحق معلوماً ولا واجباً إذا كان مآله إلى الوجوب، فلو قال: ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينه به صح). أما كون الضمان لا يصح إلا برضى الضامن؛ فلأنه التزام حق فلم يصح إلا برضى الضامن كسائر العقود التي يلزم العاقد فيها حق. وأما كونه لا يعتبر رضى المضمون له؛ فلأن أبا قتادة ضمن من غير رضى المضمون له فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) وروي نحوه عن علي (¬2). ولأن الضمان وثيقة لا يعتبر فيها قبض. أشبهت الشهادة. ولأنه ضمان دين. أشبه ضمان بعض الورثة دين الميت. وأما كونه لا يعتبر رضى المضمون عنه؛ فلأنه لو قضى عنه الدين بغير إذنه ورضاه صح. فكذلك إذا ضمن عنه. وأما كونه لا يعتبر معرفة الضامن للمضمون له ولا للمضمون عنه؛ فلأنه لا يعتبر رضاهما. فكذلك معرفتهما. ¬

_ (¬1) سبق ذكره قريباً. (¬2) سيأتي ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وقال المصنف في المغني: قال القاضي: يعتبر معرفتهما: أما المضمون له فلما يأتي، وأما المضمون عنه فليعلم هل هو أهل لاصطناع المعروف إليه أم لا. ولأنه تبرع فلا بد من معرفة من يتبرع عنه. وفيه وجه ثالث أنه يعتبر معرفة المضمون له ليؤدى إليه ولا يعتبر معرفة المضمون عنه؛ لأنه لا معاملة بينه وبينه. والأول أولى لحديث أبي قتادة (¬1) فإنه ضمن لمن لم يعرفه وعمن لم يعرفه. وأما كونه لا يعتبر كون الحق معلوماً؛ فلأن الله تعالى قال: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف: 72] ضمن القائل حمل بعير وهو غير معلوم لأنه يختلف. ولعموم قوله عليه السلام: «الزعيم غارم» (¬2). ولأنه التزام حق في الذمة من غير معارضة فصح في المجهول كالإقرار. ولأنه يصح تعليقه بغرر وخطر وهو ضمان العهدة، وإذا قال: ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه فصح في المجهول كالعتاق والطلاق. وأما كونه لا يعتبر كونه واجباً؛ فلأن الآية دلت على ضمان حمل بعير مع أنه لم يكن وجب. فإن قيل: الضمان ضم ذمة إلى ذمة فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء فلا ضم ولا يكون ثَم ضمان. قيل: قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في كونه يلزمه ما يلزمه وما يحدث في ذمة مضمونه يحدث في ذمته مثله وهذا كاف. واشترط المصنف رحمه الله في عدم اعتبار كونه واجباً كون مآله إلى الوجوب لأن ما ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب لا يوجد فيه ضم ذمة إلى ذمة لا حالاً ولا مآلاً. ثم مثل غير المعلوم وغير الواجب ولكن مآله إلى الوجوب بقوله: ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينه به. ¬

_ (¬1) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (ويصح ضمان دين الضامن ودين الميت المفلس وغيره، ولا تبرأ ذمته قبل القضاء في أصح الروايتين). أما كون ضمان دين الضامن يصح؛ فلأنه دين لازم في ذمته فصح ضمانه كسائر الديون. وأما كون ضمان دين الميت يصح؛ فلأن أبا قتادة ضمن دين الميت (¬1). وصرح المصنف رحمه الله بالميت المفلس إشارة إلى قول من منع صحة ضمان الميت الذي لم يخلف وفاء. وقد دل حديث أبي قتادة على صحة ذلك فإنه ضمن ميتاً لا وفاء له وحثهم النبي صلى الله عليه وسلم على ضمانه فقال: «ألا قام أحدكم فضمنه» (¬2). ولأنه دين ثابت فصح ضمانه كما لو خلف وفاء. وأما كون ذمة المضمون عنه الميت لا تبرأ قبل القضاء في روايةٍ فكالمضمون عنه الحيّ. وأما كونه يبرأ بنفس الضمان في روايةٍ فلما روى أبو سعيد الخدري قال: «كنا معَ النبي صلى الله عليه وسلم في جنازةٍ فلما وُضعت قال: هل على صاحبكم من دَين؟ قالوا: نعم. درهمان. فقال: صَلّوا على صَاحبِكم. فقال عليٌ: هما عليّ يا رسولَ الله! وأنا لهما ضَامن. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه. ثم أقبل عليّ فقال: جزاكَ اللهُ عن الإسلامِ خيراً وفكَّ اللهُ رهانكَ كما فَكَكْتَ رهانَ أخيك» (¬3) رواه الدارقطني. وفيه: «فقيل: يا رسول الله هذا لعلي خاصة أم للناس عامة قال: للناس عامة» (¬4). والأولى أصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نفسُ المؤمنِ مُعلقةٌ بِدَينهِ حتى يُقضَى عنه» (¬5). ¬

_ (¬1) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (292) 3: 78 - 79 كتاب البيوع. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 73 كتاب الضمان، باب وجوب الحق بالضمان. (¬4) تكملة للحديث السابق. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (1078) 3: 389 كتاب الجنائز، باب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه». وأخرجه ابن ماجة في سننه (2413) 2: 806 كتاب الصدقات، باب التشديد في الدين.

وفي بعض أخبار أبي قتادة أنه لما ذكر أنه قضى عنه قال: «الآن بردت جلدته» (¬1). وقوله: «فككت رهان أخيك» (¬2) أراد أنه كان امتنع من الصلاة عليه فلما ضمن عنه فكه من ذلك. قال: (ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع، ولا يصح ضمان دين الكتابة في أصح الروايتين). أما كون ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري. وهو: أن يضمن شخص عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقاً أو رد بعيب، وضمان العهدة عن المشتري للبائع. وهو: أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه أو إن ظهر فيه عيب أو استحق رجع بذلك على الضامن يصح؛ فلأن الحاجة تدعو إليه لأنه لو لم يصح ذلك لامتنعت المعاملات مع من لم يعرف وفي ذلك ضرر بين دافع لأصل الحكمة التي شرع البيع من أجلها ومثل ذلك لا يرد به الشرع. وأما كون ضمان دين الكتابة لا يصح في روايةٍ؛ فلأنه ليس بلازم ولا يفضي إلى اللزوم لأن للمكاتب أن يُعَجِّزَ نفسه ويمتنع من الأداء فإذا لم يكن لازماً للأصل فالفرع أولى. وأما كونه يصح في روايةٍ؛ فلأنه يصح أن يضمن عنه ديناً آخر فيصح أن يضمن عنه دين الكتابة. والأولى أصح لما تقدم. والفرق بين مال الكتابة وبين غيره من الديون من حيث إن ذلك الغير إما لازم أو مآله إلى اللزوم بخلاف دين الكتابة فإنه ليس فيه واحد منهما لما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (14576) 3: 330. (¬2) سبق تخريجه قريباً.

قال: (ولا يصح ضمان الأمانات كالوديعة ونحوها إلا أن يضمن التعدي فيها، وأما الأعيان المضمونة كالغصوب والعواري والمقبوض على وجهِ السوم فيصح ضمانها). أما كون ضمان الأمانات كالوديعة والشركة والمضاربة والمدفوع إلى الخياط والقصار لا يصح؛ فلأنها غير مضمونة على المضمون عنه. فكذلك على الضامن. وأما كون ضمان التعدي فيها يصح؛ فلأنها مضمونة على من هي في يده في ذلك أشبهت المغصوب. وأما كون ضمان الأعيان المضمونة المتقدم ذكرها يصح؛ فلأنها مضمونة على من هي في يده فهي كالحقوق الثابتة في الذمة. قال: (وإن قضى الضامن الدين متبرعاً لم يرجع بشيء، وإن نوى الرجوع وكان الضمان والقضاء بغير إذن المضمون عنه فهل يرجع؟ على روايتين. وإن أذن في أحدهما فله الرجوع بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين). أما كون الضامن لا يرجع بشيء إذا قضى الدين متبرعاً؛ فلأنه تبرع به أشبه ما لو وهبه إياه ثم قضاه عنه. وأما إذا قضى ناوياً للرجوع فله أربعة أحوال: أحدها: أن يضمن ويقضي بغير إذن المضمون عنه وفيها روايتان: أحدهما: أنه يرجع لأنه قضاء مبرء من دين واجب فكان من ضمان من هو عليه كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه. والثانية: لا يرجع لأن الضامن بغير إذن لو استحق الرجوع لاستحق أبو قتادة الرجوع على الميت ولو استحق ذلك لصار ديناً له عليه ولو صار ديناً له عليه لامتنعت الصلاة. ولأنه فعل غير مأذون فيه فلم يستحق الرجوع فيه كما لو علف داوبه وأطعم عبيده بغير إذنه. وأجاب المصنف رحمه الله في المغني عن عدم استحقاق أبي قتادة بأنه قضى متبرعاً بدليل أنه علم أنه لا وفاء له فلا يحتج به على من قضى معتقداً للرجوع لما بينهما من الفرق.

والحال الثانية: أن يأذن في الضمان دون القضاء (¬1) فله الرجوع لأنه أذن له في الضمان وهو ملزم للقضاء (¬2) فاستحق الرجوع كما لو صرح بالقضاء. والحال الثالثة: أن يأذن له في القضاء دون الضمان (¬3) فله الرجوع أيضاً لأنه أدى عنه فرجع به كما لو ضمن بإذنه، أو كما لو لم يكن ضامناً. الحال الرابعة: أن يضمن بإذنه ويقضي بإذنه فله الرجوع لأنه إذا رجع فيما إذا ضمن بإذنه أو قضى بإذنه؛ فلأن يرجع فيما إذا وقع الضمان والقضاء بإذنه بطريق الأولى. وأما كون الضامن إذا استحق الرجوع يرجع بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين؛ فلأنه إذا كان الأقل ما قضاه (¬4) فإنه يرجع بما غرم. ولهذا لو أبرأه الغريم لم يرجع بشيء وإن كان الأقل الدين قد أدى ما لا يجب على المضمون عنه أداؤه فيكون متبرعاً. فإن قيل: لو دفع عن الدين عرضاً بم يرجع؟ قيل: يرجع بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين لما ذكر. قال: (وإن أنكر المضمون له القضاء وحلف لم يرجع الضامن على المضمون عنه سواء صدقه أو كذبه. وإن اعترف بالقضاء وأنكر المضمون عنه لم يسمع إنكاره). أما كون الضامن لا يرجع على المضمون عنه إذا أنكر المضمون له القضاء وحلف؛ فلأن المضمون عنه ما أذن للضامن إلا في قضاء مبر ولم يوجد. وأما كون الحكم كذلك سواء صدقه المضمون عنه أو الضامن أو كذبه؛ فلأن المانع من الرجوع تفريط الضامن من حيث: إنه قضى بغير بينة وذلك مشترك بين التصديق والتكذيب. فإن قيل: لو كان القضاء ببينة؟ ¬

_ (¬1) في هـ: والحال الثانية أن يضمن بإذن ويقضي بغير إذن. (¬2) في و: ملتزم القضاء. (¬3) في هـ: الحال الثالثة أن يضمن بغير إذن ويقضي بإذن. (¬4) في و: قضى.

قيل: إن كانت بينته حاضرة عادلة فلا إشكال وإن كانت ميتة أو غائبة لم يرجع الضامن على المضمون عنه لإنكاره الوفاء الموجب للرجوع. ورجع عليه إن صدقه؛ لأنه معترف أنه ما قصر ولا فرط. وإن كانت البينة مردودة بأمر ظاهر كالكفر والفسق الظاهر لم يرجع عليه الضامن أيضاً صدقه أو كذبه للتفريط؛ لأن وجود هذه البينة كعدمها. وإن ردت بأمر خفي كالفسق الباطن أو لكون الشهادة مختلفاً فيها كشهادة العبيد ونحوها احتمل أن يرجع؛ لأنه قضاه ببينة شرعية والجرح والتعديل ليس إليه واحتمل أن لا يرجع؛ لأنه قضاء بمن لا يثبت الحق بشهادته. وأما كون إنكار المضمون عنه إذا اعترف المضمون له بالقضاء لا يسمع؛ فلأن ما في ذمته حق للمضمون له فإذا اعترف بالقبض من الضامن فقد اعترف بأن الحق صار للضامن فيجب أن يقبل إقراره؛ لكونه إقرار في حق نفسه. قال: (وإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع حتى يحل. وإن مات المضمون عنه أو الضامن فهل يحل الدين عليه؟ على روايتين. وأيهما حل عليه لم يحل على الآخر). أما كون الضامن لا يرجع بما قضاه قبل أجله؛ فلأنه متبرع بالتعجيل. فلم يرجع قبل الأجل؛ كما لو قضاه أكثر من الدين. وأما كون الدين المؤجل يحل بموت المضمون عنه أو الضامن على روايةٍ؛ فلأن ذمة الميت تخرب بالموت. فلو لم يحل؛ لأدى إلى ضياع حقه مما له على الميت. وأما كونه لا يحل على روايةٍ؛ فلأن التأجيل حق من حقوق الميت. فلم يبطل بموته؛ كسائر حقوقه. ولأن موته لا يوجب حلول ماله فلا يجب حلول ما عليه. وأما قول المصنف رحمه الله: وأيهما حل عليه لم يحل على الآخر فمعناه: أن المضمون عنه إذا مات وقلنا يحل عليه بالموت لم يحل على الضامن؛ لأن الإنسان لا يحل عليه دين بموت غيره بل يبقى الدين حالاً بالنسة إلى المضمون عنه مؤجلاً بالنسبة إلى الضامن، وذلك جائز؛ لما يذكر بعد إن شاء الله تعالى. وكذا لو مات الضامن وقلنا: يحل بموته لا يحل على المضمون عنه؛ لما ذكر.

قال: (ويصح ضمان الحالّ مؤجلاً. وإن ضمن المؤجل حالاًّ لم يلزمه قبل أجله في أصح الوجهين). أما كون ضمان الحال مؤجلاً يصح؛ فلما روى ابن عباس «أن رجلاً لزمَ غَريماً له بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ما عندي شيء أعطيكه. فقال: والله لا فارقتك حتى تَقضيَني أو تَأتيَني بِحَمِيلٍ. فجرّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له (¬1) النبي صلى الله عليه وسلم: كَم تَستنظِرُه؟ قال: شهراً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا أحملُ. فجاءهُ في الوقتِ الذي قال النبي (¬2) صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أصبتَ هذا؟ قال: من مَعدن. قال: لا خيرَ فيها. وقضاها عنه» (¬3). ولأنه ضمن مالاً بعقد مؤجل. فكان مؤجلاً؛ كالبيع. فإن قيل: الدين الحالّ لا يتأجل فكيف يتأجل على الضامن؟ أم كيف يثبت في ذمة الضامن على غير الوجه الذي يثبت في ذمة المضمون عنه؟ قيل: الحق (¬4) يتأجل في ابتداء ثبوته إذا كان ثبوته بعقد، وهذا ابتداء ثبوته في حق الضامن فإنه لم يكن ثابتاً عليه حالاً. ويجوز أن يخالف ما في ذمة المضمون عنه بدليل: ما لو مات المضمون عنه والدين مؤجل. وأما كونه إذا ضمن المؤجل حالاً لا يلزمه قبل أجله في وجهٍ؛ فلأن الضامن فرع المضمون عنه، فلا يستحق مطالبته دون أصله. ولأن المضمون عنه لو ألزم نفسه تعجيل ذلك لم يلزمه فلأن لا يلزم الضامن أولى. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: للنبي. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3328) 3: 243 كتاب البيوع، باب في استخراج المعادن. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2406) 2: 804 كتاب الصدقات، باب الكفالة. (¬4) ساقط من هـ.

ولأن الضمان التزام دين ثابت في الذمة، فلا يجوز أن يلزمه ما ليس بلازم للمضمون عنه. وأما كونه يلزمه قبل أجله في وجهٍ؛ فلأن مقتضى صحة الضمان ذلك.

فصل في الكفالة الكفالة بالبدن صحيحة بالكتاب والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف: 66]. وأما المعنى؛ فلأن الحاجة داعية إلى الاستيثاق بضمان المال أو بالبدن وضمان المال يمتنع منه كثير من الناس فلو لم تجز الكفالة بالبدن لأدى إلى الحرج وعدم المعاملات المحتاج إليها. قال المصنف رحمه الله: (وهي التزام إحضار المكفول به. وتصح ببدن من عليه دين وبالأعيان المضمونة). أما قول المصنف رحمه الله: وهي التزام إحضار المكفول به؛ فبيان لمعنى الكفالة. وأما كون الكفالة التزام إحضار المكفول به؛ فلأن الواقع عليه العقد هو الملتزم إحضاره والعقد في الكفالة واقع على بدن المكفول به فكان إحضاره هو الملتزم به كالضمان فإن العقد لما كان واقعاً على المال كان ذلك المال هو الملتزم به. فكذلك هاهنا. وأما كون الكفالة ببدن من عليه دين تصح؛ فلأن الدين حق مال. فصحت الكفالة به؛ كالضمان. وأما كونها بالأعيان المضمونة كالغصوب والعواري يصح؛ فلأن ضمانها صحيح. فكذلك الكفالة بها. ولأن الكفالة بالأعيان أولى من الكفالة بالبدن؛ لأن الكفالة بالبدن ذريعة إلى حصول المقصود، والكفالة بالأعيان متعلقة بالمقصود، فإذا صحت فيما هو ذريعة إلى المقصود فلأن تصح بما هو المقصود بطريق الأولى.

قال: (ولا تصح ببدن من عليه حد أو قصاص، ولا بغير معين كأحد هذين). أما كون الكفالة ببدن من عليه حد لا تصح فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا كفالة في حد» (¬1). ولأن الكفالة استيثاق يلزم الكفيل ما على المكفول عند تعذر إحضاره والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات فلا يدخل فيها الاستيثاق ولا يمكن استيفاؤها من غير الجاني. وأما كونها ببدن من عليه قصاص لا تصح؛ فلأنه بمنزلة من عليه حد معنى فليكن بمنزلته حكماً. وأما كونها بغير معين كأحد هذين لا يصح؛ فلأن المكفول به مجهول لا يعلم في الحال ولا في المآل بخلاف ضمان المجهول فإنه إن لم يمكن معرفته في الحال يمكن معرفته في المآل. قال: (وإن كفل بجزء شائع من إنسان أو عضو، أو كفل بإنسان على أنه إن جاء به وإلا فهو كفيل بآخر أو ضامن ما عليه صح في أحد الوجهين). أما كون الكفالة بجزء شائع من إنسان كثلثه أو ربعه يصح؛ فلأنه لا يمكنه إحضار ذلك إلا بإحضار الكل. وأما كونها بعضو كيده أو رجله أو ما أشبههما يصح؛ فلأنه لا يمكنه إحضاره على صفته إلا بإحضار الكل. وأما كونها إذا كفل بإنسان على أنه إن جاء به وإلا فهو كفيل بآخر أو ضامن ما عليه يصح؛ فلأن ذلك كفالة أو ضمان فصح تعليقه على شرط كضمان العهدة. وأما قول المصنف رحمه الله: في أحد الوجهين فإشارة إلى الخلاف والخلاف في الصور الثلاث: أما الصحة فقد تقدم دليلها، وأما عدم الصحة: أما في الجزء الشائع والعضو؛ فلأن تسليم ذلك وحده متعذر والسراية ممتنعة، وأما في الصور الثلاثة؛ فلأنه تعليق عقد على آخر. فلم يصح؛ كالبيع المعلق على آخر. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 77 كتاب الضمان، باب ما جاء في الكفالة ببدن من عليه حق.

وقال المصنف رحمه الله في المغني: قال القاضي: ولا تصح الكفالة ببعض البدن بحال؛ لأن ما لا يسري لا يصح إذا خص به عضو كالبيع والإجارة. وظاهر قول القاضي: أنه لا تصح الكفالة بالجزء الشائع ولا بالعضو؛ لأنه قال: لا تصح ببعض البدن، وما ذكره من التعليل لا يدل على عدم الصحة في الجزء الشائع؛ لأن بيع ذلك وإجارته جائزة. ولم يفرّق المصنف رحمه الله في العضو بين كونه مما لا يبقى البدن بدونه؛ كالرأس والكبد، ولا بين كونه يبقى؛ كاليد والرجل. وذكر في الكافي: إذا تكفل بوجهه صح، ولم يحك فيه خلافاً. وهو الظاهر الذي ينبغي حمل كلامه هاهنا عليه؛ لأن الوجه يكنى به عن الكل فصح كما لو تكفل ببدنه. وحكى في الكافي أيضاً وجهاً ثالثاً في الفرق بين ما لا يبقى البدن بدونه؛ كالرأس، وبين ما يبقى؛ كاليد وشبهها. قال: (ولا تصح إلا برضا الكفيل. وفي رضا المكفول به وجهان). أما كون الكفالة لا تصح إلا برضا الكفيل؛ فلأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه. وأما كونها لا تصح إلا برضا المكفول به في وجهٍ؛ فلأن مقصودها إحضاره فإذا تكفل بغير إذنه لم يلزمه الحضور معه. وأما كونها تصح بدونه في وجهٍ؛ فبالقياس على الضمان. والأولى أولى؛ لما ذكر. وبه يظهر الفرق بين الكفالة وبين الضمان؛ لأن مقتضى الكفالة إحضار المكفول به فإذا كان بغير إذنه لم يلزمه الحضور فلا يحصل مقصود الكفالة. والضمان تمكين الضامن أن يقضي الدين ولا يحتاج إلى المضمون عنه. قال: (ومتى أحضر المكفول به وسلمه برئ إلا أن يحضره قبل الأجل وفي قبضه ضرر). أما كون الكفيل إذا أحضر المكفول به وسلمه إلى المكفول له عند الأجل أو بعده يبرأ؛ فلأن المسلَم فيه لو أحضره المسلَم إليه عند الأجل أو بعده لزم قبوله فكذا هاهنا؛ لأنه في معناه.

وأما كونه إذا أحضره قبل الأجل وفي قبضه ضرر لا يبرأ؛ فلأن المسلَم فيه لو أحضره المسلَم إليه قبل وقته وفي قبضه ضرر لم يلزمه قبلوه فكذا هاهنا؛ لأنه في معناه أيضاً. قال: (وإن مات المكفول به، أو تلفت العين بفعل الله تعالى، أو سلّم نفسه برئ الكفيل). أما كون الكفيل يبرأ بموت المكفول به؛ فلأن الحضور سقط عن المكفول به. فبرئ كفيله؛ كما لو برئ من الدين. ولأن (¬1) ما التزمه من أجله سقط عن الأصل فبرئ الفرع كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين. وأما كونه يبرأ بتلف العين بفعل الله تعالى؛ فلأن تلف العين بمنزلة موت المكفول به. وقيد المصنف رحمه الله التلف بكونه بفعل الله تعالى؛ لأنه لو كان بفعل آدمي وجب على المتلف بدلها. قال: (وإن تعذر إحضاره مع بقائه لزم الكفيل الدين أو عوض العين. وإن غاب أمهل الكفيل بقدر ما يمضي فيحضره، فإن تعذر إحضاره ضمن ما عليه). أما كون الكفيل يلزمه الدين أو عوض العين إذا تعذر إحضار المكفول به مع بقائه؛ فلعموم قوله عليه السلام: «الزعيم غارم» (¬2). ولأن الكفالة بالبدن أحد نوعي الكفالة. فوجب الغرم بها؛ كالضمان. وأما كونه يمهل بقدر ما يمضي فيحضر المكفول به إذا غاب؛ فلأنه لا يمكن إحضاره إلا بذلك. وأما كونه يضمن ما عليه إذا تعذر إحضاره؛ فلما تقدم. ¬

_ (¬1) في هـ: فلأن. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإذا طالب الكفيل المكفول به بالحضور معه لزمه ذلك إن كانت الكفالة بإذنه، أو طالبه صاحب الحق بإحضاره، وإلا فلا). أما كون المكفول به يلزمه الحضور مع الكفيل إذا طالبه بذلك وكان قد كفله بإذنه؛ فلأنه شغل ذمته من أجله بإذنه. فكان عليه تخليصها؛ كما لو استعار عبده فرهنه بإذنه كان للسيد مطالبته بتخليصه. وأما كونه يلزمه ذلك إذا طالبه صاحب الحق بإحضاره؛ فلأن طلبه منه توكيل له في إحضاره. فلزمه الحضور معه؛ كما لو صرح له بالوكالة. وأما كونه لا يلزمه ذلك إذا كان قد كفله بغير إذنه ولم يطلبه منه صاحب الحق؛ فلأن المكفول لم يشغل ذمته. وإنما شغلها الكفيل باختياره مع أنه ليس بوكيل. قال: (وإذا كفل اثنان برجل فسلمه أحدهما لم يبرأ الآخر. وإن كفل واحد لاثنين فأبرأه أحدهما لم يبرأ من الآخر). أما كون أحد الكفيلين لا يبرأ بتسليم صاحبه المكفول به؛ فلأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير استيفاء. فلم تنحل الأخرى؛ كما لو أبرأ أحدهما أو انفك أحد الرهنين من غير قضاء الحق. وفارق هذا ما إذا سلم المكفول به نفسه من حيث إنه أصل لهما فإذا برئ الأصل برئ فرعاه، وكل واحدٍ من الكفيلين ليس فرعاً للآخر فلم يبرأ ببراءته. وكذلك لو أبرأ المكفول به برئ كفيلاه، ولو أبرأ أحد الكفيلين برئ وحده دون صاحبه. وأما كون الكفيل الواحد لاثنين لا يبرأ إذا أبرأه أحد المكفول لهما؛ فلأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين فإذاً يكون قد التزم إحضاره عند كل واحدٍ منهما، فإذا

أبرأه أحدهما برئ منه وبقي حق الآخر كما لو كان في عقدين، وكما لو ضمن ديناً لرجلين فوفى أحدهما حقه.

باب الحوالة

باب الحوالة الحوالة: ثابتة بالسنة والإجماع: أما السنة؛ فما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَطْلُ الغنيِ ظُلم، فإذا أُتبعَ أحدُكمْ على مَلِيءٍ فليتبَع» (¬1) متفق عليه. وفي لفظ: «من أحيلَ بحقهِ على مَليءٍ فليحتَل» (¬2). وأما الإجماع؛ فأجمع المسلمون في الجملة على جواز الحوالة. واشتقاقها من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة. وقيل: هي بيع جاز تأخير القبض فيه رخصة. قال المصنف رحمه الله في المغني: الصحيح أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس بمحمول على غيره. بدليل: أنها لو كانت بيعاً لكانت بيع دين بدين وهو غير جائز، ولَمَا جاز التفرق قبل القبض؛ لأنه بيع ما فيه الربا بجنسه، ولجازت بلفظ البيع، ولجازت بين جنسين كالبيع. فعلى هذا لا يدخلها خيار. وهو أشبه بكلام الإمام أحمد وأصوله. ولا بد فيها من محيل ومحتال ومحال عليه. قال المصنف رحمه الله: (والحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فلا يملك المحتال الرجوع عليه بحال). أما كون الحوالة تنقل الحق؛ فلما تقدم من أنها مشتقة من التحويل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2166) 2: 799 كتاب الحوالات، باب في الحوالة وهل يرجع في الحوالة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1564) 3: 1197 كتاب المساقاة، باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة ... (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (9974) 2: 463.

وأما كون المحتال لا يملك الرجوع على المحيل؛ فلأن الحق انتقل فلا يعود بعد انتقاله. قال: (ولا تصح إلا بشروط ثلاثة: أحدها: أن يحيل على دين مستقر، فإن أحال على مال الكتابة، أو السلم، أو الصداق قبل الدخول لم يصح، وإن أحال المكاتب سيده، أو الزوج امرأته صح). أما كون الحوالة لا تصح إلا بشروط ثلاثة؛ فلما يذكر في مواضعها. وأما كون أحدها: أن يحيل على دين مستقر؛ فلأن ما ليس بمستقر بعرضية السقوط، والحوالة إلزام المحال عليه الدين مطلقاً فلا يصح فيما هو بعرضية السقوط. وفي ذكر المصنف رحمه الله استقرار الدين المحال عليه دون استقرار المحال به دليلٌ على أنه لا يشترط استقراره. وصرح به في الكافي وغيره. وعلله بأنه يجوز أداء غير المستقر. وقال أبو الخطاب في الهداية: يشترط استقراره أيضاً قياساً على المحال عليه. وأما كون من أحال على مال الكتابة لا يصح؛ فلأنه غير مستقر بدليل: أن له أن يمتنع من أدائه. وأما كون من أحال على السلم لا يصح؛ فلأنه أيضاً غير مستقر؛ لأنه بعرضية الفسخ بالانقطاع، وقد قال عليه السلام: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (¬1). ولأن الحوالة لا تصح إلا فيما لا يجوز أخذ العوض عنه، والسلم ليس كذلك. وأما كون من أحال على الصداق قبل الدخول لا يصح؛ فلأنه غير مستقر بدليل سقوطه بالردة، وسقوط نصفه بالطلاق. وأما كون المكاتب إذا أحال سيده أو الزوج امرأته يصح؛ فلأن أقصى ما في ذلك أنه دين غير مستقر. وقد تقدم أنه لا يشترط استقرار المحال به على ظاهر قول المصنف ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

رحمه الله. ويجيء على قول أبي الخطاب أنه لا تصح الحوالة به؛ لأن مال الكتابة والصداق غير مستقر واستقرار المحال به شرط عنده. قال: (والثاني: اتفاق الدَّيْنين في الجنس والصفة والحلول والتأجيل). أما كون الثاني من الشروط المتقدم ذكرها الاتفاق فيما ذكر؛ فلأن الحوالة تحويل الحق ونقله فيجب أن يكون مثل المحال عليه فيما ذكر. وأما معنى الاتفاق في الجنس فأن يكونا ذهباً أو فضة أو ما أشبههما فلو أحال من عليه ذهب بفضة أو بالعكس لم يصح. وأما معنى الاتفاق في الصفة فأن يكونا مصريين أو أميريين أو ما أشبههما. فلو أحال من عليه مصرية بأميرية أو بالعكس لم يصح. وأما معنى الاتفاق في الحلول أو التأجيل فأن يكونا حالّين أو مؤجلين فلو أحال من عليه حالّ بمؤجل أو بالعكس لم يصح. ويشترط في المؤجل اتفاق الأجل فلو كان أحدهما يحل بعد شهر والآخر بعد شهرين لم يصح؛ لما ذكر. قال: (والثالث: أن يحيل برضاه، ولا يعتبر رضى المحال عليه ولا رضى المحتال إن كان المحال عليه مليئاً. وإن ظنه مليئاً فبان مفلساً ولم يكن رضي بالحوالة رجع عليه، وإلا فلا. ويحتمل أن يرجع). أما كون الثالث من الشروط المتقدم ذكرها: أن يحيل المحيل برضاه؛ فلأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين الذي على المحال عليه. وأما كون رضى المحال عليه لا يعتبر؛ فلأن للمحيل أن يستوفي الحق الذي على المحال عليه بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحال مقام نفسه في التقبيض. فلم يعتبر رضى المحال عليه؛ كالتوكيل. وأما كون رضى المحتال لا يعتبر إذا كان المحال عليه مليئاً؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أُتْبِعَ أحدكمْ على مَلِيءٍ فليتبَع» (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

والمراد بالمليء: القادر على الوفاء؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى يقول: مَنْ يُقْرِض المليء غير المعدم». وقال الشاعر: تُطيلين ليّابي وأنت مليئة ... وأحسنُ يا ذاتَ الوشاحِ التقاضيا يعني بالمليئة القادرة على الوفاء. وأما كون المحتال يرجع على المحيل إذا ظن ملاءة المحال عليه فظهر مفلساً ولم يكن رضي بالحوالة؛ فلأن الفلس عيب ولم يرض به فاستحق الرجوع كما لو اشترى سلعة فظهرت معيبة ولم يرض بالعيب. وأما كونه إذا رضي بالحوالة لا يرجع على المذهب؛ فلأنه إذا رضي بذلك زال شغل الذمة فلا يعود بعد زواله. وأما كونه يحتمل أن يرجع؛ فلأنه لم يرض. أشبه ما تقدم. وذكر المصنف رحمه الله في المغني ما تقدم احتمالين، وذكر في الكافي هذين الاحتمالين روايتين. وفي قول المصنف رحمه الله: وإن ظنه مليئاً إشعار بأن المحتال إذا رضي بالحوالة مع علمه بفلس المحال عليه لا يرجع قولاً واحداً وهو صحيح؛ لأنه لو رضي بعيب المبيع لم يرجع قولاً واحداً فكذا هاهنا. قال: (وإذا أحال المشترى البائع بالثمن، أو أحال البائع عليه به فبان البيع باطلاً (¬1) فالحوالة باطلة. وإن فسخ البيع بعيبٍ أو إقالةٍ لم تبطل الحوالة. وللبائع أن يحيل المشتري على من أحاله المشتري عليه في الصورة الأولى. وللمشتري أن يحيل المحتال عليه على البائع في الثانية، ويحتمل أن يبطل إن لم يكن قبضها). أما كون الحوالة باطلة إذا بان البيع مثل أن يكون المبيع عبداً فيظهر حراً أو مستحقاً؛ فلأنه تبين ببطلان البيع أن لا ثمن، والحوالة فرع على الثمن، فإذا بطل الأصل بطل الفرع. ¬

_ (¬1) في هـ: باطل.

فعلى هذا يرجع المشتري على من كان له عليه الدين في مسألة حوالته، وعلى المحال عليه في مسألة الحوالة عليه لا على البائع؛ لأن الحوالة لما بطلت وجب بقاء حقه على ما كان، ووجب له الرجوع على المحال عليه ضرورة كونه قَبَضَه بعد تبين بطلانه. وأما إذا فسخ البيع بعيبٍ أو إقالةٍ فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون المحتال قد قبض مال الحوالة، فلا تبطل الحوالة وجهاً واحداً؛ لأن عقد البيع لم يرتفع هنا فالثمن لم يسقط فلم تبطل الحوالة؛ لانتفاء المبطل. ولأن المشتري دفع إلى البائع بدل ماله في ذمته وعارضه عنه بما في ذمة المحال عليه. فعلى هذا للمشتري الرجوع على البائع في مسألتي حوالته والحوالة عليه لا على من كان له عليه الدين في المسألة الأولى ولا على من أحيل عليه في الثانية. وللبائع أن يحيل المشتري على من أحاله المشتري عليه في الصورة الأولى، وللمشتري أن يحيل المحتال عليه على البائع في الثانية. أما كون المشتري له الرجوع على البائع فيهما؛ فلأنه لما رد العوض استحق الرجوع بالعوض لكن الرجوع في عينه متعذر للزوم الحوالة فوجب الرجوع في بدله، وإذا لزم البدل وجب على البائع؛ لأنه هو الذي انتفع بمبدله. وأما كونه ليس له الرجوع على من كان عليه الدين؛ فلأن ما كان عليه قد انتقل إلى غيره بعقدٍ باقي الصحة. وأما كونه ليس له الرجوع على من أحيل عليه؛ فلأنه أخذ حقه بعقد صحيح لازم. وأما كون البائع له أن يحيل المشتري على من أحاله المشتري عليه وكون المشتري له أن يحيل المحتال عليه على البائع؛ فلأن دين البائع ثابت على من أحاله المشتري عليه، ودين المشتري ثابت على البائع (¬1) ثبوتاً مستقراً فصحت الحوالة عليه كسائر الحقوق المستقرة (¬2). ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: المستقر.

وثانيهما: أن يكون المحتال لم يقبض مال الحوالة. وفي ذلك وجهان: أحدهما: لا تبطل؛ لما تقدم قبل. فعلى هذا الحكم كما تقدم. والثاني: تبطل؛ لأن الحوالة بالثمن وقد سقط بالفسخ فوجب أن تبطل الحوالة لذهاب حقه من المال المحال به. فعلى هذا الحكم هنا كما لو ظهر المبيع مستحقاً. قال: (وإذا قال: أحلتك قال: بل وكلتني، أو قال: وكلتك قال: بل أحلتني فالقول قول مدعي الوكالة. وإن اتفقا على أنه قال: أحلتك وادعى أحدهما أنه أريد بها الوكالة وأنكر الآخر ففي أيهما يقبل قوله؟ وجهان. وإن قال: أحلتك بدينك فالقول قول مدعي الحوالة وجهاً واحداً). أما كون القول قول مدعي الوكالة إذا اختلفا في المقول من لفظي الوكالة والحوالة؛ فلأنه مدع بقاء الحق على ما كان عليه ومنكر انتقاله، والقول قول المنكر. وأما كون القول قول مدعي الحوالة إذا اتفقا على لفظ الحوالة واختلفا في الإرادة في وجهٍ؛ فلأن الظاهر معه لموافقة دعواه الحقيقة ودعوى خصمه المجاز. وأما كون القول قول مدعي الوكالة في وجهٍ؛ فلما ذكر في المسألة قبل.

وأما كون القول قول مدعي الحوالة وجهاً واحداً إذا قال: أحلتك بدينك؛ فلأن ذلك لا يحتمل الوكالة لا بلفظه ولا بمعناه بخلاف ما تقدم.

باب الصلح

باب الصلح الصلح: معاقدة يتوصل بها الى الإصلاح بين المختلفين. وتتنوع أنواعاً المقصود منها هنا الصلح بين المتخاصمين في الأموال. والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء: 128]، وقوله تعالى: {فأصلحوا بين أَخَوَيْكم} [الحجرات: 10]. وأما السنة فما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلحُ بينَ المسلمينَ جائزٌ إلا صُلحاً حرمَّ حلالاً أو أحلَّ حراماً» (¬1) أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأما الإجماع فأجمعت الأمة على جواز الصلح في الجملة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح. وأخرجه الترمذي في جامعه (1352) 3: 634 كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2353) 2: 788 كتاب الأحكام، باب الصلح.

قال المصنف رحمه الله: (الصلح في الأموال قسمان: أحدهما: صلح على الإقرار. وهو نوعان: أحدهما: الصلح (¬1) على جنس الحق؛ مثل: أن يقر له بدين فيضع عنه بعضه، أو بعين (¬2) فيهب له بعضها ويأخذ الباقي فيصح إن لم يكن بشرط؛ مثل أن يقول: على أن تعطيني الباقي، أو يمنعه حقه بدونه). أما كون الصلح في الأموال قسمين؛ فلأنه تارة يكون على الإقرار، وتارة يكون على الإنكار. وأما كون الصلح على الإقرار نوعين؛ فلأنه تارة يكون على جنس الحق كما مثّل المصنف رحمه الله، وتارة يكون بغير جنس الحق كما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى. وأما كون أحدهما الصلح على جنس الحق؛ فظاهر. وأما كونه يصح إن لم يكن بشرط إعطاء الباقي أو المنع من إعطاء الحق بدون الصلح؛ فلأن الإنسان لا يُمنع من إسقاط بعض حقه كما لا يُمنع من استيفائه. وأما كونه لا يصح بشرط إعطاء الباقي أو المنع من إعطاء الحق بدونه؛ فلأنه آكل لمال الغير بالباطل وهو هضم لحقه. قال: (ولا يصح ممن لا يملك التبرع كالمكاتب والمأذون له وولي اليتيم إلا في حال الإنكار وعدم البينة). أما كون صلح من لا يملك التبرع في غير حال الإنكار وعدم البينة لا يصح؛ فلأن ذلك تبرع ومن ذكر لا يملك التبرع. وأما قول المصنف رحمه الله: كالمكاتب والمأذون له وولي اليتيم فتمثيل لمن لا يملك التبرع. وأما كونه في حال الإنكار وعدم البينة يصح؛ فلأن استيفاء البعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه. وتقييد المصنف رحمه الله الإنكار بعدم البينة إشعار بأن ¬

_ (¬1) في هـ: صلح. (¬2) في هـ: عين.

الصلح في حال الإنكار مع البينة لا يصح وهو صحيح لأنه يمكنه استيفاء الكل فالصلح والحالة هذه تبرع ومن (¬1) ذكر لا يملك التبرع. قال: (ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالاًّ لم يصح، وإن وضع بعض الحالّ وأجّل باقيه صح الإسقاط دون التأجيل). أما كون الصلح عن المؤجل ببعضه حالاًّ لا يصح؛ فلأن الذي يسقط يقع عوضاً عن التأجيل وذلك لا يجوز كما لا يجوز أن يعطيه عشرة دراهم حالّة بعشرين مؤجلة. وأما كون الإسقاط إذا وضع بعض الحالّ وأجل باقيه يصح؛ فلأنه أسقطه عن طيب نفسه ولا مانع من صحته؛ لأنه ليس في مقابلة تأجيل فوجب أن يصح كما لو أسقطه. وأما كون التأجيل لا يصح؛ فلأن الحالّ لا يتأجل. قال: (وإن صالح عن الحق بأكثر منه من جنسه؛ مثل: أن يصالح عن دية الخطأ أو عن قيمة مُتْلَف بأكثر منها من جنسها لم يصح. وإن صالحه بعرض قيمته أكثر منها صح فيهما، وإن صالحه عن بيت على أن (¬2) يسكنه سنة أو يبني له فوقه غرفة لم يصح). أما كون الصلح عن الحق بأكثر منه من جنسه كما مثّل المصنف رحمه الله لا يصح؛ فلأن الزائد لا مقابل له فيكون ربا وذلك حرام والصلح لا يُحل الحرام؛ لقوله عليه السلام: «إلا صلحاً أحل حراماً» (¬3). وأما كونه يصح في كل واحد منهما بعرض قيمته أكثر منها؛ فلأنه معاوضة لا ربا بين العوض والمعوض فصح كما لو باعه ما يساوي عشرة بدرهم والضمير في قوله: فيهما عائد إلى دية الخطأ وقيمة المتلَف. ¬

_ (¬1) في هـ: من. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون الصلح عن البيت على أن يسكنه سنة أو يبني له فوقه غرفة لا يصح؛ فلأنه صالحه عن ملكه بملكه. قال: (وإن قال: أقر لي بديني وأعطيك منه مائة ففعل صح الإقرار، ولم يصح الصلح). أما كون الإقرار فيما ذكر يصح؛ فلأنه إقرار بحق يحرم عليه إنكاره. وأما كون الصلح لا يصح؛ فلأنه يجب عليه الإقرار بالحق فلم يحل له أخذ العوض عما يجب عليه. قال: (وإن صالح إنساناً ليقر له بالعبودية أو امرأة لتقر له بالزوجية (¬1) لم يصح. وإن دفع المدعى عليه العبودية إلى المدعي مالاً صلحاً عن دعواه صح). أما كون من صالح إنساناً ليقر له بالعبودية أو امرأة لتقر له بالزوجية لا يصح؛ فلأن ذلك صلح يحل حراماً؛ لأن إرقاق الحر وبذل المرأة نفسها بعوض لا يجوز. وأما كون المدعى عليه العبودية إذا دفع إلى المدعي مالاً صلحاً عن دعواه يصح: أما في حق الآخذ؛ فلأنه يجوز أن يعتق عبده بعوض. وأما في حق الدافع؛ فلأنه يقطع الخصومة المتوجهة عليه. وزاد المصنف رحمه الله في المغني على ذلك بأن قال: ويدفع اليمين الواجبة عليه. وفي تخصيص المصنف رحمه الله جواز الدفع في العبودية دليل على أن المرأة المدعى عليها الزوجية لا يجوز أن تدفع شيئاً إلى المدعي على وجهِ الصلح. وقد صرح به في المغني وعلله بأن الدفع في الإنكار لا يفيد اليمين وقطع الخصومة، ولا يمين عليها. ولأن خروج البعض من ملك الزوج لا قيمة له وإنما أجيز الخلع لأجل الحاجة إلى افتداء نفسها. ثم قال: وخرّج ابن عقيل جوازه بناء على مشروعية اليمين في حقها على روايةٍ، وعلى أن العوض يصح أخذه عن البضع في جانب الزوج خلعاً وفي جانب المرأة نكاحاً. وصرح في الكافي بجواز ذلك وقدمه على المنع وعلله بأنها تدفع شره عن نفسها. وهذا ¬

_ (¬1) في هـ: الزوجية.

ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية؛ لأنه ذكر المسألتين ثم قال: فإن دفع إليه المدعى عليه مائة صلحاً عن دعواه صح الصلح. وما ذكره المصنف رحمه الله في المغني مانعاً من الصحة في الزوجية موجود بعينه في العبودية؛ لأن المدعى عليه العبودية لا يستحلف كما لا يستحلف المدعى عليها الزوجية. وتحرير الصحة في الموضعين مع أنه لا يستحلف فيهما على الصحيح أن في (¬1) الصلح قطعاً للخصومة والمقاولة ودفعاً للشر وذلك مطلوب والصلح طريق إليه. فجاز تحصيلاً لما هو مطلوب. قال: (النوع الثاني: أن يصالح عن الحق بغير جنسه فهو معاوضة، فإن كان بأثمان عن أثمان فهو صرف، وإن كان بغير الأثمان فهو بيع، وإن كان بمنفعة كسكنى دار فهو إجارة تبطل بتلف الدار كسائر الإجارات). أما كون النوع الثاني: أن يصالح عن الحق بغير جنسه؛ فلأنه يلي الأول. وأما كونه معاوضة؛ فلأنه بدل مال في مقابلة مال وذلك شأن المعاوضة. وأما كونه صرفاً إذا كان بأثمان (¬2) عن أثمان؛ فلأن الصرف بيع أحد الثمنين بالآخر، وهو موجود هنا. فعلى هذا يشترط له ما يشترط في الصرف من القبض في المجلس ونحوه. وأما كونه بيعاً إذا كان بغير الأثمان؛ فلأن البيع مبادلة المال بالمال وأنه موجود هنا. فعلى هذا يشترط فيه ما يشترط في البيع من العلم به ونحوه. وأما كونه إجارة إذا كان بمنفعة كسكنى دار؛ فلأن الإجارة بيع المنفعة وهو موجود هنا. فعلى هذا يثبت فيها أحكام الإجارة من البطلان بتلف الدار ونحوه. ¬

_ (¬1) في هـ: في أن. (¬2) في هـ: أثمان.

قال: (وإن صالحت المرأة بتزويج نفسها صح، فإن كان الصلح عن عيب في مبيعها فزال رجعت بأرشه لا بمهرها). أما كون المرأة إذا صالحت عن الحق الذي عليها بتزويج نفسها يصح؛ فلأن عقد التزويج يقتضي عوضاً فإذا جعلت ذلك عوضاً عن الحق الذي عليها صح كغيره. وأما كونها ترجع بأرش العيب لا بمهرها إذا كان الصلح عن عيب في مبيعها فزال؛ فلأنها جعلت صداقها أرش العيب فإذا زال العيب وجب الرجوع بما كان صداقاً. وقول المصنف رحمه الله: زال العيب معناه: تبين أنه ليس بعيب، ولذلك أصلح بعض من أذن له المصنف رحمه الله زال بتبين. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثل إن كانت أمة ظنها حاملاً لانتفاخ جوفها فتفشى ونحوه صرح به أبو الخطاب في الهداية. فعلى هذا إن كان موجوداً عند العقد ثم زال كمبيع ظهر مريضاً فتعافى لا شيء لها؛ لأن زوال العيب بعد ثبوته حال العقد لا يوجب بطلان الأرش. فإن قيل: قد تقدم أن بهيمة الأنعام إذا ظهرت مصراة يملك المشتري الرد وكذا إذا اشترى أمة فظهرت مزوجة فإذا صار لبن المصراة عادة وطلقت المزوجة (¬1) امتنع الرد. فعلى هذا إذا ظهر المبيع معيباً ثم زال العيب يجب أن يتبين أن لا أرش. قيل: الرد فسخ للملك بسبب العيب فلم يكن بد من وجوده حين الرد؛ لأنه زمن الفسخ. بخلاف أرش العيب فإنه عوض عما فات من العيب وقت العقد فلم يسقط (¬2) بزواله بعده. ¬

_ (¬1) في و: الزوجة. (¬2) في و: فلم يسقط وقت العقد.

قال: (وإن صالح عما في الذمة بشيء في الذمة لم يجز التفرق قبل القبض؛ لأنه بيع دين بدين. ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم إذا كان مما لا يمكن معرفته للحاجة). أما كون من صالح عما في الذمة بشيء في الذمة لا يجوز التفرق قبل القبض؛ فلما علل المصنف رحمه الله من أنه بيع دين بدين؛ وذلك أنه متى حصل التفرق قبل القبض يكون كل واحد من العوضين ديناً؛ لأن محله الذمة وذلك شأن الدين، وإذا كان التفرق قبل القبض مفضياً إلى ذلك لم يجز؛ لأن بيع الدين بالدين غير جائز «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» (¬1) رواه الدارقطني. تفسيره: بيع الدين بالدين قاله أبو عبيد. وأما كون الصلح عن المجهول بمعلوم يصح في الجملة؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قال في رجلين اختصما في مواريث درست بينهما: استهما وتوخيا الحق، وليحلل أحدكما صاحبه» (¬2). رواه الإمام أحمد وأبو داود. ولأنه إسقاط حق فصح في المجهول كالعتاق والطلاق. وأما ما يشترط في صحة الصلح المذكور فأمران: أحدهما: أن يكون المصالح به معلوماً لأنه يفتقر إلى تسليم وذلك لا يمكن في غير معلوم. وثانيهما: أن يكون مما لا يمكن معرفته كمواريث دارسة وحقوق سالفة؛ لأن المصحح للصلح المذكور الحديث المذكور والأمر فيه كذلك. ولأن المبيح للصلح المذكور الحاجة وما يمكن معرفته لا حاجة إلى الصلح عليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3585) 3: 302 كتاب الأقضية، باب في قضاء القاضي إذا أخطأ. وأخرجه أحمد في مسنده (26760) 6: 320.

فصل [الصلح على إنكار] قال المصنف رحمه الله: (القسم الثاني: أن يدعي عليه عيناً أو ديناً فينكره ثم يصالحه على مال فيصح ويكون بيعاً في حق المدعي حتى إن وجد فيما أخذه عيباً فله رده وفسخ الصلح. وإن كان شقصاً مشفوعاً ثبتت فيه الشفعة ويكون إبراء في حق الآخر فلا يرد ما صالح عنه (¬1) بعيب ولا يؤخذ بشفعة. ومتى كان أحدهما عالماً بكذب نفسه فالصلح باطل في حقه وما أخذه حرام عليه). أما كون القسم الثاني ما ذكر ويسمى الصلح على الإنكار؛ فلأنه يلي الأول. وأما كونه يصح؛ فلعموم قوله عليه السلام: «الصلح بين المسلمين جائز» (¬2). ولأنه صلح يصح مع الأجنبي فصح مع الخصم كالصلح على الإقرار. وتحقيقه: أنه إذا صح مع الأجنبي مع عدم حاجته إليه، فلأن يصح مع الخصم مع حاجته إليه بطريق الأولى. ويشترط لصحة الصلح المذكور: أن يكون المدعي معتقداً أن ما ادعاه حق والمدعى عليه معتقداً أن لا حق عليه؛ لأن الصلح حينئذٍ يكون لافتداء اليمين وقطع الخصومة وذلك مطلوب؛ لما فيه من صيانة النفوس الشريفة، وذوي المروءات العزيزة عن التبذل، وحضور مجالس الحكام. بخلاف غيرهم. فإن قيل: ذلك مجوز للمدعى عليه فما شأن المدعي؟ قيل: المدعي يأخذ ذلك عوضاً عن الحق الذي يعتقده. وأما كونه بيعاً في حق المدعي؛ فلأنه يعتقده عوضاً عن حقه فيلزمه حكم اعتقاده. ¬

_ (¬1) في هـ: عن. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فعلى هذا له رده إن وجده معيباً وإن كان شقصاً مشفوعاً ثبتت فيه الشفعة لأنه بيع. وأما كونه إبراء في حق الآخر؛ فلأنه دفع المال لافتداء يمينه ودفع الضرر عن نفسه لا عوضاً عن حق يعتقده. فعلى هذا لا يرد ما صالح عنه بعيب ولا يؤخذ بشفعة لاعتقاده أنه ليس بعوض. وأما كون الصلح باطلاً في حق العالم بكذب نفسه؛ فلأنه عالم بالحق قادر على إيصاله إلى مستحقه غير معتقد أنه محق واعتقاد ذلك شرط لما تقدم. وأما كون ما يأخذه حراماً؛ فلأنه آكل لمال الغير بالباطل. قال: (وإن صالح عن المنكر أجنبي بغير إذنه صح ولم يرجع عليه في أصح الوجهين). أما كون صلح الأجنبي عن المنكر يصح؛ فلأنه قصد براءة ذمته فصح كما لو قضى دينه. وأما كونه لا يرجع عليه في وجهٍ؛ فلأن الدين لم يثبت عليه. وأما كونه يرجع عليه في وجهٍ؛ فبالقياس على الضمان. والأول أصح؛ لما تقدم. والفرق بينه وبين الضمان: أنه هاهنا أدى ما لا يلزمه أداؤه. بخلاف الضمان فإنه قضى ما يلزمه قضاؤه. قال: (وإن صالح الأجنبي لنفسه لتكون المطالبة له غير معترف بصحة الدعوى أو معترفاً بها عالماً بعجزه عن استنقاذه لم يصح. وإن ظن القدرة عليه صح ثم إن عجز عن ذلك فهو مخير بين فسخ الصلح وإمضائه). أما كون صلح الأجنبي لنفسه لتكون المطالبة له غير معترف بصحة الدعوى لا يصح؛ فلأنه [اشترى منه ما لم يثبت له ولم تتوجه إليه خصومة فيفتدي نفسه منها. أشبه ما لو] (¬1) اشترى منه ملك غيره. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

وأما كون صلحه إذا اعترف له بذلك عالماً بعجزه عن استنقاذه لا يصح؛ فلأنه اشترى ما لا يقدر على تسليمه. وأما كونه يصح إذا اعترف له بصحة دعواه وظن القدرة على الاستنقاذ؛ فلأنه اشترى منه ملكه الذي يقدر على تسليمه. ولم يفرق بين المصنف رحمه الله بين أن يكون المصالح عنه عيناً أو ديناً. وفرق بينهما في المغني فصححه في العين، وقال في الدين: لا يصح؛ لأنه اشترى ما لا يقدر على قبضه. ثم قال: ومن أصحابنا من قال: يصح. وليس بشيء؛ لأن بيع الدين في ذمة المقر لا يصح فبيع دين في ذمة من ينكره، ولا يقدر مشتريه على قبضه أولى. وأما كونه إذا عجز عن ذلك يخير بين الفسخ والإمضاء؛ فلأنه إذا فات بعض المعقود عليه يكون له الخيرة دليله الرد بالعيب؛ فلأن تكون له الخيرة إذا فات كل المعقود عليه بطريق الأولى.

فصل قال المصنف رحمه الله: (يصح الصلح عن القصاص بديات وبكل ما يثبت مهراً. ولو صالح سارقاً ليطلقه، أو شاهداً ليكتم شهادته، أو شفيعاً عن شفعته، أو مقذوفاً عن حده لم يصح الصلح، وتسقط الشفعة. وفي الحد وجهان). أما كون الصلح عن القصاص بديات وبكل ما يثبت مهراً يصح؛ فلأن المال لم يتعين فيه فصح بالدية وبأكثر منها وبأقل. ولأنه (¬1) يصح إسقاطه فلأن يصح الصلح عنه بما ذكر بطريق الأولى. وقول المصنف رحمه الله: وبكل ما يثبت مهراً فيه إشارة إلى أنه يصح بالشيء وإن قل؛ لأنه قابل ذلك بقوله: بديات وذلك عبارة عن كثرة الشيء المصالح به. وأما كون صلح السارق ليطلق لا يصح؛ فلأن الرفع إلى السلطان ليس حقاً يجوز الاعتياض عنه. وأما كون صلح الشاهد ليكتم شهادته لا يصح؛ فلأن كتمان الشهادة حرام فلا يصح الاعتياض عنه. وأما كون صلح الشفيع عن شفعته لا يصح؛ فلأنها إنما ثبتت لإزالة الضرر فإذا رضي بالعوض تبين أن لا ضرر فلا استحقاق فيبطل العوض لبطلان معوضه ولهذه العلة تسقط شفعته. وأما كون صلح المقذوف عن حده لا يصح؛ فلأنه ليس بمال ولا يؤول إليه بخلاف دم العمد. وأما كون الحد يسقط ففيه وجهان مأخذهما: أن حد القذف هل هو للآدمي أو لله؟ فإن قلنا: للآدمي سقط؛ لأن الصلح منه دليل على الإسقاط. ¬

_ (¬1) في هـ: فلأنه.

ولأن الحد يسقط بالشبهة وما ذكر شبهة. وإن قلنا: لله لم يسقط لعدم ما ذكر قبل. قال: (وإن صالحه على أن يُجري على أرضه أو سطحه ماء معلوماً صح. ويجوز أن يشتري ممراً في دار وموضعاً في حائط (¬1) يفتحه باباً، وبقعة يحفرها بئراً، وعلو بيت يبني عليه بنياناً موصوفاً. فإن كان البيت غير مبني لم يجز في أحد الوجهين، وفي الآخر يجوز إذا وصف العلو والسفل). أما كون الصلح على إجراء ماء معلوم على أرض أو سطح يصح؛ فلأن الحاجة داعية إليه. واشترط المصنف رحمه الله كون الماء معلوماً؛ لأن الماء يختلف بكثرته وقلته. وطريق العلم في الماء على الأرض تقديره بالإصبع (¬2) أو العيدان (¬3) أو نحو ذلك، وفي ماء السطح بمعرفة السطح. ويشترط في إجرائه على الأرض إذا شرط إجراءه في قناة تبيين موضعها وطولها وعرضها؛ لأنه بيع لموضع من أرضه. ولا حاجة إلى بيان عمقها؛ لأن قراره للمشتري. وإن شرط أن الأرض لربها كان إجارة تفتقر إلى معرفة عمقها ومدتها كإجارتها للزرع. ولا يشترط في إجراء الماء على السطح ذكر المدة؛ لأن هذا لا يستوفى به منافع السطح بخلاف القناة. وأما كون شراء الممر من دار يجوز؛ فلأنه حق أعطي حكم العين بدليل جواز تملكه ابتداء بدون ملك العين بخلاف تملك المنفعة المباحة فإنه لا يتصور بذل ملك العين. ودليل تملك الممر ابتداء دون ملك العين أن شخصاً لو أحيا أرضاً ميتة ثم أحيا غيره الأرض التي تليها كان له حق المرور في تلك الأرض وإن لم يملك رقبتها. وأما كون شراء موضع في حائط يفتحه باباً وبقعة يحفرها بئراً يجوز؛ فلأنه شراء لبعض ما يملكه البائع فصح كما لو باعه نصف حائطه أو نصف أرضه. ¬

_ (¬1) في هـ: داره وموضعاً في حائطه. (¬2) في و: بالأرض. (¬3) في وو هـ: بالعدان، وما أثبتناه من ج.

وأما كون بيع علو بيت يبني عليه بنياناً موصوفاً يجوز؛ فلأنه ملك البائع فجاز بيعه كالأرض. واشترط المصنف رحمه الله في صحة ذلك كون البنيان موصوفاً ليكون معلوماً. وأما كون بيع ذلك لا يجوز إذا كان البيت غير مبني في وجهٍ؛ فلأن المبيع العلو ولا وجود له قبل وجود السفل فوجب أن لا يجوز بيعه كالمعدوم. وأما كونه يجوز في وجهٍ؛ فلأنه موصوف أشبه ما إذا كان السفل مبنياً. واشترط المصنف رحمه الله في الجواز وصف السفل والعلو؛ لأن المبيع لا يكون معلوماً إلا بذلك. قال: (وإن حصل في هوائه أغصان شجرة غيره فطالبه بإزالتها لزمه ذلك، فإن أبى فله قطعها، فإن صالحه عن ذلك بعوض لم يجز. وإن اتفقا على أن الثمرة له أو بينهما جاز ولم يلزم). أما كون إزالة أغصان الشجرة الحاصلة في هواء الجار يلزم مالكها مع طلب الجار؛ فلأن الهواء ملك لصاحب القرار، فإذا طلب إخلاء ملكه لزمه إخلاؤه؛ كما لو دخلت دابة إلى داره فطالب مالكها بإخراجها. وأما كون مالك الهواء له قطعها إذا أبى مالكها من إزالتها؛ فلأن في ذلك إخلاء ملكه الواجب إخلاؤه. وأما كون الصلح عن ذلك بعوض لا يجوز؛ فلأن ذلك يزيد وينقص. وحكى المصنف رحمه الله ذلك في المغني عن أبي الخطاب. وحكى عن القاضي: إن كانت الأغصان رطبة لم يجز الصلح عنها؛ لأنها تزيد في كل وقت. وحكى عن ابن حامد: أنه يجوز في الرطب واليابس؛ لأن الجهالة في المصالح عنه لا يمنع الجواز لكونها لا تمنع التسليم بخلاف العوض فإنه يفتقر إلى العلم به لوجوب التسليم.

واشترط القاضي أن يكون الغصن معتمداً على نفس الحائط ومنع منه إذا كان على نفس الهواء؛ [لأنه بيعٌ للهواء] (¬1) المجرد. وأيّد المصنف رحمه الله الجواز في المغني مطلقاً بأن قال: ومن مذهبنا جواز بيع الهواء. والزيادة التي تتجدد في الغصن يحتمل أن يعفى عنها؛ كالسِّمَنِ الحادث في المستأجر للركوب. وأما كون الاتفاق على أن الثمرة لمالك الهواء أو بينهما يجوز؛ فلأن هذا يكثر في الأملاك المتجاورة، وفي القطع إتلاف وإضرار فدعت الحاجة إلى الصلح بالثمرة أو بعضها؛ لأنه أسهل. قال المصنف رحمه الله في المغني: سئل الإمام أحمد عن ذلك فقال: لا أدري. ثم قال: يحتمل أن يصح؛ لما ذكر، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن العوض مجهول ومن شرط الصلح العلم بالعوض. وأما كون ذلك لا يلزم؛ فلأنه لو لزم لأدى إلى ضرر مالك الشجر لتأبد استحقاق الثمرة عليه، أو إلى ضرر مالك الهواء لتأبد بقاء الأغصان في ملكه. قال: (ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحاً ولا ساباطاً ولا دكاناً، ولا أن يفعل ذلك في ملك إنسان، ولا دربٍ غير نافذ إلا بإذن أهله. وإن صالح عن ذلك بعوض جاز في أحد الوجهين). أما كون إشراع الجناح. وهو الرَّوْشَن يكون على أطراف الخشب مدفون في الحائط وأطرافه خارجة إلى الطريق، وكون إشراع الساباط وهو المستو في هواء الطريق، وكون إشراع الدكان وهي الدكة إلى طريق نافذ: لا يجوز؛ فلأنه تصرف في ملك الغير من غير إذن مالكه. ولا فرق فيما ذكر بين أن يضر ذلك بالمارة أو لا يضر؛ لأنه إن لم يضر حالاً فقد يضر مآلاً، ولا بين أن يأذن الإمام فيه أو لم يأذن؛ لأنه ليس له أن يأذن فيما لا مصلحة فيه للمسلمين لا سيما إذا احتمل أن يكون ضرراً عليهم في المال. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

وقال ابن عقيل: إذا أذن الإمام فيما هو مشترك بين المسلمين ولا ضرر فيه جاز؛ لأنه نائب عن المسلمين فجرى إذنه مجرى إذنهم. وأما كون فعل ذلك في ملك إنسان أو درب غير نافذ بغير إذن أهله لا يجوز؛ فلما تقدم ذكره. وأما كونه يجوز إذا أذن فيه أهله؛ فلأن المنع لحقهم فإذا رضوا بإسقاطه جاز. فإن قيل: قول المصنف رحمه الله: إلا بإذن أهله يرجع إلى جميع ما تقدم أم لا؟ قيل: لا؛ لأن أهل الطريق النافذ هو جميع المسلمين والإذن من جميعهم غير متصور فلا فائدة في الحكم عليه بالجواز. وأما كون الصلح عن ذلك بعوض يجوز في وجهٍ وهو قول أبي الخطاب؛ فلأنه يجوز الصلح بغير عوض. فجاز بعوض؛ كما لو كان القرار مبنياً. وأما كونه لا يجوز في وجهٍ وهو قول القاضي؛ فلأنه بيع للهواء. وظاهر إطلاق المصنف رحمه الله (¬1) هذا الوجه الجواز سواء كان جناحاً أو ساباطاً أو دكاناً، وصرح في الكافي بأن قول القاضي في الجناح والساباط، ولم يذكر الدكان وهو صحيح يجب حمل إطلاق المصنف هنا عليه؛ لأن تعليل القاضي لا يساعده في الدكان؛ لكونها تبنى على القرار لا على هوائه. قال: (وإذا كان ظهر داره في درب غير نافذ ففتح فيه باباً لغير الاستطراق جاز ويحتمل أن لا يجوز. وإن فتحه للاستطراق لم يجز إلا بإذنهم في أحد الوجهين، وإن صالحهم جاز، ولو كان بابه في آخر الدرب ملك نقله إلى أوله، ولم يملك نقله إلى داخل منه في أحد الوجهين). أما كون من فتح باباً لغير الاستطراق في ظهر داره التي في دربٍ غير نافذ يجوز على المذهب؛ فلأن له رفع حائطه بالكلية فرفع بعضه أولى. وأما كونه يحتمل أن لا يجوز؛ فلأن الباب دليل الاستطراق. وليس له أن يستطرق؛ لما يذكر بعد. ¬

_ (¬1) في هـ زيادة: على.

وأما كون من فتحه للاستطراق بغير إذن أهل الدرب لا يجوز في وجهٍ؛ فلأنه لا يجوز أن يجعل لنفسه حق الاستطراق في مكان مملوك لأهله لا حق له فيه. وأما كونه يجوز في وجهٍ فلما ذكر قبل. وأما كون ذلك يجوز مع الإذن؛ فلأن الحق لهم فإذا رضوا بإسقاطه سقط. وأما كون الصلح عن ذلك يجوز؛ فلأن ذلك حقهم فجاز أخذ العوض عنه كسائر الحقوق. وأما كون من بابه في آخر الدرب الذي ليس بنافذ يملك (¬1) نقله إلى أوله؛ فلأنه يترك بعض حقه؛ لأن له الاستطراق إلى آخره. وأما كونه يملكه في وجهٍ؛ فلأنه له رفع حائطه كله فرفع بعضه أولى. ولأن ما يلي حائطه فناء له فملك فتح الباب فيه كحالة ابتداء البناء فإن له في الابتداء جعل بابه حيث شاء. فتركه له لا يسقط حقه منه. قال: (وليس له أن يفتح في حائط جاره ولا الحائط المشترك روزنة، ولا طاقاً إلا بإذن صاحبه. وليس له وضع خشبة عليه إلا عند الضرورة بأن لا يمكنه التسقيف إلا به. وعنه: ليس له وضع خشبة على جدار المسجد، وهذا تنبيه على أنه لا يضع على جدار جاره). أما كون من ذكر ليس له فتح روزنة ولا طاق في حائط جاره ولا حائط مشترك بغير إذن صاحبه؛ فلأن ذلك انتفاع بملك الغير فلم يجز بغير إذنه لا سيما إذا كان يضر ببنائه ويضعفه. وأما كونه له ذلك مع الإذن؛ فلأن الحق له فإذا أذن في إسقاطه سقط. وأما كونه ليس له وضع خشبة عليه إذا لم يكن ضرورة؛ فلما تقدم. وأما كونه له ذلك في حائط جاره عند الضرورة على المذهب؛ فلما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعنَ أحدكمْ جارهُ أن يضعَ خشبَهُ على جدارهِ ¬

_ (¬1) في هـ: ملك.

فنكسّ القوم رؤوسهم. فقال أبو هريرة: ما لي أراكمْ عنها مُعرضين؟ والله لأرمينها بينَ أكتافِكُم» (¬1) متفق عليه. ولأنه انتفاع لا يضر بالمالك فلم يمنع منه كالاستظلال بحائطه والجلوس في ضوء مصباحه. فإن قيل: ما معنى قول أبي هريرة: «لأرمينها بين أكتافكم». قيل معناه: لأضعن هذه السنة بين أكتافكم ولأحملنكم على العمل بها. وقيل معناه: لأكلفنكم ذلك ولأضعن جذوع الجيران على أكتافكم ضرباً للمثل وقصداً للمبالغة. وأما قول المصنف رحمه الله: بأن لا يمكنه التسقيف إلا به فتفسير للضرورة المشترطة عنده. وظاهره أنه لا فرق بين من كان له حائط واحد أو حائطان. وصرح به في المغني، وحكى فيه عن القاضي وأبي الخطاب: ليس هذا في كلام أحمد، وعلل ما ذهب إليه بأنه قد يمتنع عليه التسقيف على حائطين لكون البيت واسعاً لا يصل إليه الخشب. وإنما اشترطت الضرورة؛ لأن مقتضى الدليل عدم جواز الانتفاع بملك الغير بغير إذنه. ترك العمل به عند الضرورة للضرورة فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. ولا بد أن يلحظ أنه لا ضرر في ذلك فإن كان يضر بأن يهدم الحائط أو يضعفه لم يكن له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا إضرار» (¬2) رواه مالك وابن ماجة والدارقطني. فإن قيل: حديث أبي هريرة مطلق فلم اشترط ما ذكر من الضرورة وعدم الضرر؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2331) 2: 869 كتاب المظالم، باب لا يمنع جاره أن يغرز خشبه في جداره. وأخرجه مسلم في صحيحه (1609) 3: 1230 كتاب المساقاة، باب غرز الخشب في جدار الجار. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2341) 2: 784 كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره. قال في الزوائد: في إسناده جابر الجعفي متهم. وأخرجه مالك في الموطأ (31) 2: 571 كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق. ولفظهما: «لا ضرر ولا ضرار». وأخرجه الدارقطني في سننه (85) 4: 228 كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك، في المرأة تقتل إذا ارتدت. باللفظ الذي ساقه المصنف.

قيل: أما الأول فيجب حمل الحديث عليه لما تقدم من أن مقتضى الدليل عدم جواز الانتفاع بملك الغير. ترك العمل به عند الضرورة للضرورة فيجب أن يبقى فيما عداها على مقتضاه. وقال بعض أصحابنا: لا يشترط ذلك عملاً بعموم الخبر. قال المصنف في المغني: أشار ابن عقيل إلى جواز ذلك وقال: ليس لنا مباح تعتبر في إباحته الحاجة. بدليل انتزاع الشقص المشفوع والفسخ بالخيار. فكذلك هاهنا. وأما الثاني؛ فلأن قوله: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1) يدل عليه فيجب أن يحمل حديث أبي هريرة عليه جميعاً بينهما. وأما كونه له وضع خشبة على الحائط المشترك عند الضرورة المتقدم ذكرها على المذهب؛ فلأنه إذا كان له ذلك في حائط جاره مع أنه لا حق له فيه، فلأن يكون له ذلك في الحائط المشترك وله فيه حق بطريق الأولى. وأما كونه له وضع خشبة على جدار المسجد عند وجود الضرورة وعدم الضرر على المذهب؛ فلأنه إذا جاز في ملك الجار مع أن حقه مبني على الشح والضيق ففي حق الله المبني على المسامحة والمساهلة أولى. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأن القياس يقتضي المنع. ترك في ملك الجار للخبر فيبقى في غيره على مقتضاه. وأما كونه لا يضع خشبه على جدار جاره على روايةٍ مأخوذة مما ذكر من الرواية الثانية في جدار المسجد؛ فلأنه إذا لم يكن له ذلك مع أن له فيه حقاً؛ لأنه من المسلمين والمسجد مشترك بينهم؛ فلأن لا يكون له ذلك في ملك الغير المختص به بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن كان بينهما حائط فانهدم فطالب أحدهما صاحبه ببنائه معه أجبر عليه. وعنه: لا يجبر لكن ليس له منعه من بنائه، فإن بناه بآلته فهو بينهما. وإن بناه بآلة من عنده فهو له وليس للآخر الانتفاع به، فإن طلب ذلك خُيّر الباني بين أخذ نصف قيمته منه وبين أخذ آلته). أما كون الممتنع من البناء مع شريكه يجبر عليه على المذهب؛ فلما فيه من إزالة الضرر عن شريكه. وأما كونه لا يجبر عليه على روايةٍ؛ فلأنه ملك لا حرمة له في نفسه. فلم يجبر مالكه على الإنفاق عليه؛ كما لو انفرد به. قال القاضي: أصحهما أنه يجبر لأن في ترك البناء إضراراً بالشريك فأجبر عليه كما يجبر على القَسْم إذا طلبه شريكه وعلى النقض إذا خيف سقوطه. ويؤيده قوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1). وعدم حرمة الملك إن لم يوجب فحرمة شريكه الذي يتضرر بترك البناء يوجب. وفارق الملك المنفرد من حيث إنه لا يفوت به حق أحد ولا يتضرر به. وأما كونه على روايةِ أنه لا يجبر: ليس للشريك منع شريكه من بنائه؛ فلأن له حقاً في الحمل (¬2) ورسماً في الحائط فلا (¬3) يجوز منعه من ذلك. وأما كون الحائط مشتركاً بينهما إذا بناه بآلته؛ فلأن آلته مشتركة وقد عادت فيجب أن تعود كما كانت. ولأن الباني إنما أنفق على التأليف وذلك أثر لا عين يملكها. وظاهر كلام المصنف هنا وفي المغني والكافي أنه لا يملك منع شريكه من وضع ما كان له عليه؛ لأنه ذكر المنع في المسألة التي تأتي دون هذه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في و: الجملة. (¬3) في هـ: ولا.

ولأنه قال في الكافي: عاد بينهما كما كان برسومه وحقوقه؛ لأنه عاد بعينه. وصرح صاحب النهاية بذلك فيها، فقال: فإن بناه بآلته فهو بينهما على الشركة ولا يلزم شريكه أجرة البنائين، وليس لشريكه أن يمنعه أن ينتفع بأعيان ملكه. وفيما ذكره الأصحاب نظر. وينبغي أن البانيَ يملك منع شريكه من التصرف فيه حتى يؤدي ما يخصه من الغرامة الواقعة بأجرة المثل؛ لأنه لو لم يكن كذلك لأدى إلى ضياع حق الشريك. ولأنا إذا أجبرناه على العمارة نجبره على وزن أجرة البناء كما نجبره على وزن ثمن الآلات فيجب أنه إذا وزنها الشريك يرجع بها كما لو وزن ثمن الآلات فإنه يرجع بها. ولأن الأصحاب اتفقوا على أن للشريك أن يمنع شريكه من التصرف فيما إذا بناه بآلة من عنده حتى يؤدي ما يخصه من قيمة البناء وذلك اسم الآلة مع التأليف فإذا وجب الرجوع بقيمة التأليف مع قيمة الآلة فما المانع من وجوب رد قيمة التأليف المنفرد. وأما كون البناء للباني إذا بناه بآلة من عنده؛ فلأنه ملكه. وأما كون الآخر ليس له الانتفاع به -والمراد قبل أداء ما يجب عليه-؛ فلأنه يتصرف في ملك الغير بغير إذنه. وأما كون الباني يجبر بين أخذ نصف قيمته من شريكه إذا طلب الانتفاع به وبين أخذ آلته؛ فلأنه ليس له إبطال حق شريكه، وفي أخذ القيمة جمع بين الحقين، وفي أخذ الآلة تمكين للغير من استيفاء حقه. قال: (وإن كان بينهما نهر أو بئر أو دولاب أو ناعورة أو قناة واحتاج إلى عمارة ففي إجبار الممتنع روايتان. وليس لأحدهما منع صاحبه من عمارته وإذا عمّره فالماء بينهما على الشركة). أما كون الممتنع في الصورة المذكورة يجري فيه الخلاف المذكور؛ فلما تقدم قبل. وأما كون أحدهما ليس له منع صاحبه من عمارته؛ فلما تقدم أيضاً. وأما كون الماء بينهما على الشركة؛ فلأن عامر ذلك ليس له فيه عين بل أثر فيجب أن يعود بينهما على ما كان كما لو بنى الحائط المشترك بآلته، ويجيء في هذا ما تقدم من النظر؛ لأنه مثله.

كتاب الحجر

كتاب الحجر (¬1) الحجر في اللغة: المنع. ومنه سمي الحرام حجراً؛ لأنه ممنوع منه. قال الله تعالى: {ويقولون حِجْراً محجوراً} [الفرقان: 22] أي حراماً محرماً. ويسمى العقل حِجراً لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح قال الله تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حِجْر} [الفجر: 5] أي لذي عقل. وفي الشرع: منع المحجور عليه من التصرف فيما حجر عليه فيه. قال المصنف رحمه الله: (وهو على ضربين: حجر لحق الغير. نذكر منه هاهنا الحجر على المفلس). أما كون الحجر على ضربين؛ فلأنه تارة يكون لحق غير المحجور عليه، وتارة يكون لحق المحجور عليه وسيأتي بيانهما في مواضعهما. وأما قول المصنف رحمه الله: نذكر منه هاهنا الحجر على المفلس فمشعر بأمرين: أحدهما: أن الحجر لحق الغير يكون لغير المفلس وهو صحيح لأن المريض مرض الموت يحجر عليه في التصرف بالزائد على الثلث لحق الورثة، والمكاتب والمأذون له (¬2) يحجر عليهما لحق سيدهما. وثانيهما: أن المقصود هاهنا ذكر الحجر على المفلس الذي الحجر عليه لأجل غرمائه لأن ما عدا ذلك يذكر في مواضعه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: ما المفلس؟ قيل: الذي دَينه أكثر من ماله، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «ولكن المُفلسَ من يأتي يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالَ الجبالِ وقد ظلمَ هذا، ولطمَ هذا، وأخذَ من عرضِ هذا. فيأخذُ هذا من حسناتهِ وهذا من حسناتهِ. فإن بقيَ عليه شيء أُخذَ من سيئاتهمْ فردّ عليه ثم صكّ له (¬3) ¬

_ (¬1) ورد العنوان في و: باب الحجر. (¬2) في هـ زيادة: فيما. (¬3) ساقط من هـ.

صكاً إلى النار» (¬1): تنبيه على ذلك لأنه أخبر أن المفلس له حسنات أمثال الجبال لكنها كانت دون ما عليه. قال: (ومن لزمه دين مؤجل لم يُطالب به قبل أجله، ولم يحجر عليه من أجله، فإن أراد سفراً يحل الدين قبل مدته فلغريمه منعه إلا أن يوثقه برهن أو كفيل، وإن كان لا يحل قبله ففي منعه روايتان). أما كون من لزمه دين مؤجل لا يطالب به قبل أجله؛ فلأن الدين المؤجل لا يلزم أداؤه قبل الأجل ومن شرط المطالبة لزوم الأداء. وأما كونه لا يحجر عليه من أجله؛ فلأن المطالبة به لا تستحق فكذا الحجر. وأما كون الغريم له منع غريمه من سفر يحل الدين قبل مدته عند عدم التوثقة؛ فلأن في ذلك تأخيراً لحقه عن محِلِّه. فملك منعه؛ كنفس التأخير. وأما كونه ليس له منعه مع التوثقة؛ فلأن ضرر التأخير يزول بذلك لتمكنه من الاستيفاء عند مَحِلِّه من الرهن أو الكفيل. وأما كونه له منعه من سفر لا يحل الدين قبل مدته في روايةٍ؛ فلأن قدومه قبل المحِلّ غيرُ متيقن ولا ظاهر. أشبه ما لو كان السفر طويلاً. وأما كونه ليس له ذلك في روايةٍ؛ فلأنه لا يستلزم تأخير حقه بخلاف المسألة قبل. قال المصنف في المغني بعد رواية المنع: هو ظاهر كلام أحمد. قال: (وإن كان حالاًّ وله مال يفي به لم يحجر عليه ويأمره الحاكم بوفائه. فإن أبى حبسه. فإن أصر باع ماله وقضى دينه). أما كون من ذكر لا يحجر عليه؛ فلأن الغرماء يمكنهم المطالبة بحقوقهم في الحال فلا حاجة إلى الحجر. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (2581) 4: 1997 كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم. وأخرجه الترمذي في جامعه (2418) 4: 613 كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وأما كون الحاكم يأمره بالوفاء؛ فلأن الغرماء إذا طلبوا ذلك منه تعين عليه لما فيه من فصل القضاء المرصد له. وأما كونه يحبسه إذا أبى ذلك؛ فلأن كل ممتنع من وفاء حقٍّ عليه يجب حبسه إذا كان قادراً عليه حتى يوفي، وما لا يتم الواجب إلا به واجب. قال: (فإن ادعى الإعسار وكان دينه عن عوض كالبيع والقرض، أو عرف له مال سابق حبس إلا أن يقيم البينة على نفاد ماله وإعساره. وهل يحلف معها؟ على وجهين. وإن لم يكن كذلك حلف وخلي سبيله). أما كون من ادعى الإعسار وكان دينه عن عوض، أو عرف له مال سابق يحبس إذا لم (¬1) يقم البينة على نفاده وإعساره؛ فلأن الأصل بقاء ماله وإذا كان باقياً تعين حبسه ليقضي دينه؛ كالمقر بيساره. ولا بد أن يُلحظ أن صاحب الدين مكذب للمدعي في دعواه لأنه لو صدقه لكان كما لو قامت البينة بإعساره. وسيأتي ذكره. وأما كونه لا يحبس إذا أقام البينة على ذلك؛ فلأن البينة تظهر الإعسار فيجب إنظاره لقوله تعالى: {وإن كان ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٌ} [البقرة: 280]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها وكثر دينه: «خُذوا ما وَجدتمْ وليسَ لكمْ إلا ذلك» (¬2). ولأن الحبس إما أن يكون لإثبات عسرته أو ليقضي دينه، وعسرته ثابتة والقضاء متعذر. وإذا كان كذلك لم يكن في الحبس فائدة. وأما صفة ما تشهد به البينة فظاهر كلام المصنف هنا أنها لا بد وأن تشهد على النفاد. وذكر في المغني أن البينة إن شهدت بالتلف سُمِعت وإن لم تكن من أهل الخبرة الباطنة، وإن شهدت بالإعسار لم تسمع إلا أن تكون من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة لأن الإعسار من الأمور الباطنة التي لا يعلمها إلا أهل الخبرة الباطنة والمخالطة. وفي هذا إشعار بأن البينة إن كانت من أهل الخبرة الباطنة كفى أن تشهد بالإعسار دون ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

النفاد، وإن لم يكن كذلك لم يكف بل لا بد من الشهادة على النفاد. وهو تفصيل حسن لأن البينة إذا كانت من أهل الخبرة الباطنة لزم من صحة شهادتهما نفاد المال بخلاف ما إذا لم يكن كذلك. وأما كونه لا يحلف مع البينة على وجهٍ؛ فلأن في ذلك تكذيباً للبينة. وأما كونه يحلف على وجهٍ فلاحتمال أن يكون له مال لا يُعلم. وأما كونه يخلى سبيله؛ فلأن الأصل أنه لا مال له. قال: (وإن كان له مال لا يفي بدينه فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم. ويستحب إظهاره، والإشهاد عليه). أما كون الحاكم يلزمه إجابة غرماء المفلس إذا سألوه الحجر عليه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ لما سأل غرماؤه ذلك، وفي الحديث عن عبدالرحمن بن كعب قال: «كان معاذ (¬1) من أفضلِ شبابِ قومهِ، ولم يكن يُمسكُ شيئاً. فلم يزلْ يَدّان حتى أُغرقَ مالهُ في الدينِ. فكلمَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم غرماؤُه. ولو تُركَ أحدٌ من أجلِ أحد لتُركَ معاذٌ من أجلِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فباعَ لهمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مالهُ حتى قام معاذٌ بغيرِ شيء» (¬2). وأما كون إظهار الحجر والإشهاد عليه يستحب؛ فلأن في ذلك إعلاماً للناس بحاله، فلا يعامله أحد إلا على بصيرة وظنِّ فَوات ما عامله به (¬3). ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15177) 8: 268 كتاب البيوع، باب المفلس والمحجور عليه. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 48 كتاب التفليس، باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه. (¬3) زيادة من ج.

فصل [في أحكام الحجر] قال المصنف رحمه الله: (ويتعلق عليه بالحجر أربعة أحكام: أحدها: تعلق حق الغرماء بماله. فلا يقبل إقراره عليه. ولا يصح تصرفه فيه إلا العتق على إحدى الروايتين). أما كون المال المذكور يتعلق به أربعة أحكام إذا حجر على مالكه فلما يأتي ذكره في مواضعه. وأما كون حق الغرماء يتعلق به؛ فلأنه لو لم يكن كذلك لما كان في الحجر فائدة. ولأنه يباع في ديونهم فكانت حقوقهم متعلقة به كالرهن. وأما كونه لا يقبل إقراره عليه؛ فلأنه مال متعلّق به حق الغير فلم يقبل الإقرار عليه كالعين المرهونة. وأما كونه إذا تصرف فيه بغير العتق لا يصح فلما ذكر. ولأنه محجور عليه بحكم الحاكم فلم يصح تصرفه فيه كالسفيه. وأما كونه إذا تصرف بالعتق لا يصح على روايةٍ فلما ذكر. ولأن حق الغرماء تعلق بماله فمنع صحة عتقه كما لو كان مريضاً. وأما كونه يصح على روايةٍ؛ فلأنه عتق من مالك رشيد صحيح. أشبه عتق الراهن. ولأن للشارع تشوفاً إلى العتق. ولذلك صحح معلقه وكمثل مبعضه. قال صاحب النهاية فيها: لعل الأول أولى لأن الحاكم لم ينشئ الحجر إلا (¬1) للمنع من التصرف، وفي صحة العتق إبطال لذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

قال: (وإن تصرف في ذمته بشراءٍ، أو ضمانٍ، أو إقرارٍ: صح. ويُتْبَع به بعد فك الحجر عنه). أما كون تصرف المفلس في ذمته يصح؛ فلأنه أهل للتصرف، والحجر تعلق بماله لا بذمته فوجب أن يصح تصرفه في ذمته عملاً بأهليته السالمة عن معارضة الحجر. وأما كونه يُتْبَع به بعد فكّ الحجر عنه؛ فلأنه حق عليه لم يمكن تعلقه بماله قبل فك الحجر لحق الغرماء فوجب أن يُتْبَع به بعد فكّ الحجر عنه لزوال المعارض. ومفهوم كلام المصنف رحمه الله: أن من اشترى منه أو ضمن له أو أقر له ليس له مشاركة الغرماء وهو صحيح صرح به في المغني لأن من علم فقد رضي بالتأخير ومن لم يعلم فقد فرّط. قال: (وإن جنى شارك المجنيُّ عليه الغرماء. وإن جنى عبدُه قُدّم حق المجني عليه بثمنه). أما كون من جنى عليه المفلسُ يشارك الغرماء؛ فلأن حقه ثبت على الجاني بغير اختيارِ من له الحق، ولم يرض بتأخيره. بخلاف التي قبلها. فإن قيل: لِمَ لم يقدم أرش الجناية هنا على الغرماء كما تقدم جناية العبد المرهون [على حق المرتهن؟ قيل: لأن دين الجناية والغرماء متعلق فيهما بالذمة بخلاف جناية العبد المرهون] (¬1) فإنها متعلقة بالعين تفوت بفواتها. وأما كون من جنى عليه عبده يقدم بثمنه؛ فلأنه يقدم حقه على المرتهن الذي يقدم على سائر الغرماء؛ فلأن يقدم على الغرماء بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل [الحكم الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: أن من وجد عنده عيناً باعها إياه فهو أحق بها. بشرط أن يكون المفلس حياً، ولم ينفد من ثمنها شيئاً، والسلعة بحالها لم يتلف بعضها، ولم تتغير صفتها بما لا يزيل اسمها؛ كنسج الغزل، وخبز الدقيق، ولم يتعلق بها حقٌّ من شفعة أو جناية أو رهن ونحوه، ولم تزد زيادة متصلة كالسمن وتعلم صنعة. وعنه: أن الزيادة لا تمنع الرجوع). أما كون من وجد عينه التي باعها عند من قد أفلس أحق بها؛ فلما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ أدركَ متاعَهُ بعينِهِ عندَ إنسانٍ قدْ أفلسَ فهوَ أحقُّ به» (¬1) رواه البخاري ومسلم. ولأن الثمنَ أحدُ عوضي العقد. فتعذره يثبت خيار الفسخ؛ كتعذر المسلَم فيه. وأما ما يشترط لذلك فأمور: أحدها: أن يكون المفلس حياًّ. فإن كان قد مات ثم تبين أنه كان مفلساً كان الذي باعها أسوةَ الغرماء؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرئٍ ماتَ وعندهُ مالُ امرئٍ بعينهِ، اقتضَى منهُ شيئاً أو لم يقتَضِ، فهوُ أسوةٌ للغُرماء (¬2») (¬3) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2272) 2: 846 كتاب الاستقراض، باب إذا وجد ماله عند مفلسٍ في البيع والقرض والوديعة فهو أحق به. وأخرجه مسلم في صحيحه (1559) 3: 1193 كتاب المساقاة، باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس فله الرجوع فيه. (¬2) في هـ: أسوة أمثاله. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2361) 2: 791 كتاب الأحكام، باب من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس.

وفي روايةٍ أبي داود في حديث المفلس عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإنْ (¬1) ماتَ فصاحبُ المتاعِ أسوةُ الغُرماء» (¬2). ولأن الملك انتقل عن المفلس إلى الورثة. فلم يكن لصاحب المتاع أخذه؛ كما لو باعه المفلس. وثانيها: أن لا يكون نقد من ثمنها شيئاً. فإن كان قد نقد منه شيئاً فهو أسوة الغرماء؛ لأن في حديث أبي هريرة: «وإن كان قبض من ثمنها شيئاً فهو أسوة الغرماء» (¬3). رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني. ولأن في الرجوع في قسط ما بقي تبعيضاً للصفقة على المشتري وإضراراً به، وليس ذلك للبائع. فإن قيل: ليس فيه ضرر لأن مال المفلس يباع ولا يبقى له. قيل: الضرر متحقق مع البيع فإنه لا يُرغب فيه مُشَقّصاً بمثل ما يرغب فيه غير مُشَقّص فينقص ثمنه فيتضرر المفلس والغرماء. ولأنه سبب يُفسخ به البيع. فلم يجز مع تشقيصه؛ كالرد بالعيب والخيار. ولا فرق بين كون المبيع عيناً واحدة أو عينين لما ذكر من الحديث والمعنى. ذكره المصنف في المغني. وثالثها: أن تكون السلعة لم يتلف بعضها. فإن كان قد تلف بعضها؛ كعبدٍ قطعت يده، أو قلعت عينه، أو ثوبٍ ذهب بعضه، أو دارٍ انهدم بعضها، أو شجرٍ مثمر تلف ثمره، أو نحوِ ذلك: لم يكن البائع أحق به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ أدركَ ¬

_ (¬1) في هـ: من. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3522) 3: 287 كتاب البيوع، باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3521) الموضع السابق. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2359) 2: 790 كتاب الأحكام، باب من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس. وأخرجه الدراقطني في سننه (109) 3: 29 - 30 كتاب البيوع.

متاعَهُ بعينِهِ عندَ إنسانٍ قدْ أفلسَ فهوَ أحقُّ به» (¬1). شرط في كونه أحق به أن يدركه بعينه، والتالف بعضه لم يدركه بعينه. ولا فرق بين أن يرضى به بجميع الثمن وبين أن يأخذ الموجود بقسط من الثمن؛ لأنه فات شرط الرجوع. فإن قيل: لو كان المبيع عينين كان الحكم كذلك. قيل: فيه روايتان: إحداهما: أن يكون كذلك؛ لأنه لم يوجد المبيع بعينه. أشبه ما لو كان عيناً واحدة. وثانيهما: أنه يرجع في الباقي بقسطه من الثمن لأنه متاع وجده بعينه فيدخل في عموم الخبر. فإن قيل: فما الفرق على هذه الرواية بين ذلك وبين ما إذا قبض من الثمن شيئاً؟ قيل: الفرق بينهما أن المقبوض من الثمن مقسط على المبيع فيقع القبض من ثمن كل واحدة من العينين، وقبض شيء من ثمن ما يريد الرجوع فيه مبطل له. بخلاف التلف فإنه لا يلزم من تلف بعض أحد العينين تلف شيء من العين الأخرى. ورابعها: أن لا يغير صفة السلعة بما يزيل اسمها. فإن غيّر صفتها بما يزيل اسمها؛ كغزلٍ نُسِجَ، ودقيق خُبِز، وحنطةٍ طُحنت، وزيتٍ عمل صابوناً، وثوبٍ فُصِّلَ قميصاً، وخشبةٍ جعلت باباً، ونحو ذلك: لم يكن البائع أحق به؛ لأنه لم يجد متاعه بعينه فلم يكن له الرجوع كما لو تلِف. ولأنه تغير اسم المبيع وصفته. فلم يملك الرجوع؛ كما لو كان نوى فنبت شجراً. وفي تقييد المصنف رحمه الله: التغيير بما يزيل الاسم إشعار بأنه لو تغير بما يزيل الاسم لم يمنع الرجوع وسيأتي مصرحاً به في قوله: وإن صبغ الثوب أو قصره لم يمنع الرجوع. وخامسها: أن لا يتعلق بالسلعة حقٌّ من شفعة أو جناية أو رهن. فإن تعلق بها أحد ذلك منع البائع الرجوع: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

أما كون الشفعة تمنع ذلك؛ فلأن الشفيع حقه أسبق لأنه ثبت بالبيع والبيع ثبت حقه بالحجر وإذا كان حقه أسبق كان أولى لسبقه. ولأن حقه آكد لأنه يستحق انتزاع العين من المشتري وممن نقلها إليه المشتري وحق البائع ليس كذلك. وقال ابن حامد: للبائع أخذ ذلك لعموم الخبر. ولأنه إذا رجع فيه عاد الشقص إليه وزال الضرر عنه وعن الشفيع لأنه عاد كما كان قبل البيع ولم تتجدد شركة لغيره. والأول أولى لما ذكر. وما ذكر من زوال الضرر غير مُسَلَّم. بدليل ما لو باعها المشتري من البائع أو أقاله فيها فإن للشفيع الأخذ بالشفعة، ولو زال الضرر لم يملك ذلك. وأما كون الجناية تمنع؛ فلأن الرهن يمنع الرجوع وحق الجناية مقدم عليه فأولى أن يمنع. قال المصنف في المغني: ويتوجه أن يقال: لا يمنع لأنه حق (¬1) لا يمنع تصرف السيد بالبيع وغيره فلا يمنع الرجوع كما لو ثبت في ذمته دين. وأما كون الرهن يمنع؛ فلأن المفلس عقد قبل الفلس عقداً منع نفسه من التصرف فلم يكن للبائع الرجوع كما لو باعه أو وهبه. ولأن في الرجوع إضراراً بالمرتهن، ولا يزال الضرر بالضرر. وسادسها: أن لا تزيد زيادة متصلة. فإن زادت زيادة متصلة كالسِّمَن والكِبَرِ وتعلمِ صنعة لم يكن البائع أحق بها لأن الرجوع فسخ لسبب حادث فلم يملكه في عين المال الزائدة زيادة متصلة؛ كفسخ النكاح بالإعسار أو الرضاع. وهذا قول الخرقي. ذكره المصنف في المغني. ومنصوص الإمام أحمد -رحمة الله عليه- أن ذلك لا يمنع؛ لعموم قوله عليه السلام: «منْ أدركَ متاعَهُ بعينِهِ عندَ إنسانٍ قدْ أفلسَ فهوَ أحقُّ به» (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ: لا حق. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأنه فسخ لا يمنع منه الزيادة المتصلة كالرد بالعيب. وفارق الرد هنا الرد بالفسخ بالإعسار أو الرضاع من حيث إن الزوج يمكنه الرجوع في قيمة العين فيحصل له حقه تاماً. وهاهنا لا يمكن البائع الرجوع في جميع الثمن لمزاحمة الغرماء فلا يحصل له حقه تاماً. وفرق المصنف رحمه الله -مؤيداً لقول الخرقي- بين الرد هنا وبين الرد بالعيب من وجهين: أحدهما: أن العيب معنى قارن العقد بخلاف الرد هنا فإنه بسبب حادث وهو الحجر على المشتري. والثاني: أن المشتري هو الفاسخ فيكون فسخه رضاً بترك الزيادة، والفسخ هنا من البائع فلا يكون فسخه رضاً بترك حق المشتري. قال: (فأما الزيادة المنفصلة والنقص بهزال أو نسيان صنعة فلا يمنع الرجوع، والزيادة للمفلس. وعنه: للبائع). أما كون الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب لا يمنع الرجوع؛ فلأن البائع وجد عين ماله بعينه فكان أحق به للحديث. ولأن المانع في الزيادة المتصلة مفقود في المنفصلة فكان أحق بعينه عملاً بالحديث السالم عن المعارض. وأما كون الزيادة للمفلس وهو قول الخرقي؛ فلأنه مُنع الرجوع بالزيادة المتصلة لكونها للمفلس فالمنفصلة أولى. ولأن المنفصلة لا تتبع الأصل في الفسخ بدليل الرد بالعيب والخيار والرجوع في الصداق بالطلاق. وأما كونها للبائع عند الإمام أحمد؛ فلأنها زيادة فكانت للبائع كالمتصلة. وذكر المصنف هذه الرواية في المغني قولاً لأبي بكر، وحكى عنه أنه أخذه من قول أحمد في ولد الجارية ونتاج الدابة هو للبائع. ثم قال: والأول هو الصحيح لأن الزيادة انفصلت في ملك المشتري فكانت له كما لو وجد بالمبيع عيباً فرده وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخراج

بالضمان» (¬1) يدل على أن النماء والغلة لمن كان عليه الضمان. وفارق الزيادة المتصلة من حيث إنها تتبع في الفسوخ، وكلام أحمد يُحمل على أنه باعها حاملاً. وأما كون النقص بذهاب صنعة كعبد هُزِل أو نسي صناعة، أو ثوب فخَلِقَ لا يمنع الرجوع؛ فلأن فقد الصفة لا تخرجه عن كونه عين ماله، وإذا كان كذلك كان لبائعه أخذه لقوله عليه السلام: «منْ أدركَ متاعَهُ بعينِه ... الحديث» (¬2). فإن قيل: هل له أن يأخذ عوض نقصه شيئاً؟ قيل: لا. لكنه يتخير بين أخذه ناقصاً بجميع حقه، وبين أن يضرب مع الغرماء بكمال ثمنه؛ لأن الثمن لا يتقسط على صفة السلعة من سِمَنٍ وهُزال وعلم ونحوه. وإذا كان كذلك كان بمنزلة نقصان قيمته لتغير الأسعار. قال: (وإن صبغ الثوب أو قصره لم يمنع الرجوع والزيادة للمفلس). أما كون ما ذكر لا يمنع الرجوع؛ فلأن العين قائمة مشاهدة لم يتغير اسمها ولا صفتها. أشبه ما لو وجدها غير مصبوغة ولا مقصورة. وأما كون الزيادة للمفلس؛ فلأنها حصلت بفعله في ملكه. قال: (وإن غرس الأرض أو بنى فيها فله الرجوع ودفع قيمة الغراس والبناء فيملكه إلا أن يختار المفلس والغرماء القلع ومشاركته بالنقص. وإن أبوا القلع وأبى دفع القيمة سقط الرجوع). أما كون البائع له الرجوع في المبيع بغرسه وبنائه فيملكه إذا دفع قيمة ذلك مع عدم اختيار المفلس والغرماء القلع؛ فلأن الغراس والبناء حصل في ملكه لغيره بحق فكان له ذلك؛ كالشفيع إذا غرس المشتري في الأرض المشفوعة أو بنى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3510) 3: 284 كتاب البيوع، باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم وجد به عيباً. وأخرجه الترمذي في جامعه (1285) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد فيه عيباً. وأخرجه النسائي في سننه (4490) 7: 254 كتاب البيوع، الخراج بالضمان. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2243) 2: 754 كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونه ليس له ذلك إذا اختار المفلس والغرماء القلع ومشاركة البائع بالنقص؛ فلأنه لا حق للبائع في الغراس والبناء فلا يملك إجبار مالكهما على المعاوضة. فعلى هذا يرجع في أرضه ويضرب مع الغرماء بأرش ما نقصت الأرض بالقلع لأن ذلك نقصٌ حصل لتخليص ملك المفلس فكان عليه؛ كما لو أدخل (¬1) فصيلاً دار إنسان فكَبِر. فأراد صاحبه إخراجه ولم يمكن إلا بهدم الباب. فإنه يُهدم ويخرج ويضمنُ ما نقص. فإن قيل: لو وجد البائع عين ماله ناقصة فاختار الرجوع لم يكن له أرش النقص فلم لا يكون هاهنا كذلك؟ قيل: الفرق بينهما أن النقص هنا حدث بعد رجوعه في العين بخلاف ما ذكر. وأما كونه يسقط الرجوع إذا امتنع المفلس والغرماء من القلع، والبائع من دفع القيمة؛ فلأن في الرجوع ضرراً على المشتري، والضرر لا يزال بالضرر. ولأن عين مال البائع صارت مشغولة بملك غيره فسقط حقه من الرجوع كما لو كان المبيع مسامير فسمر بها باباً أو خشبة فبنى عليها داراً. وقال القاضي: يحتمل أن له الرجوع لأن أكثر ما فيه أنه مشغول بملك المفلس. فلم يمنع الرجوع؛ كما لو كان المبيع ثوباً فصبغه المشتري. فعلى هذا إذا رجع في الأرض بقي الغراس والبناء للمفلس فإن اتفق هو والغرماء والبائع على البيع بيعت الأرض بما فيها وأخذ كل واحد منهم بقدر حقه. وإن امتنع صاحب الأرض من البيع احتمل أن يجبر عليه كما لو كان المبيع ثوباً فصبغه، واحتمل أن لا يجبر لأنه يمكن إفراد مال المفلس بالبيع بخلاف الثوب. ¬

_ (¬1) في هـ: دخل.

فصل [الحكم الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الحكم الثالث: بيع الحاكم ماله وقسم ثمنه. وينبغي أن يحضره ويحضر الغرماء، ويبيع كل شيء في سوقه). أما كون الحاكم يبيع مال المفلس إذا حجر عليه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حجر على معاذ باع ماله في دينه وقسم ثمنه بين غرمائه (¬1). وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس وقال: «ألا إن أُسيْفَع (¬2) جهينة قد رضي من دَينِه وأمانتهِ بأن يقال: سبقَ الحاج فادّان معرضاً فأصبحَ وقد رينِ به. فمنْ كانَ لهُ مالٌ فليحضرْ غداً فإنا بائعوا مالهُ، وقاسموهُ بينَ غرمائِه» (¬3). ولأنه محجور عليه يحتاج إلى قضاء دينه فجاز بيع ماله فيه بغير رضاه؛ كالصغير والسفيه. وأما كون الحاكم ينبغي له أن يحضر المفلس في وقت البيع فلمعان أربعة: أحدها: أنه يحصي ثمن متاعه ويضبطه. وثانيها: أنه أعرف بالجيد من متاعه ورديئه فإذا حضر تكلم عليه، وعرف الغبن من غيره. وثالثها: أن تكثر فيه الرغبة. فإن شراء الشيء من صاحبه (¬4) أحب إلى المشترين. ورابعها: أن ذلك أطيب لنفسه وأسكن لقلبه. وأما كونه ينبغي له أن يُحضر الغرماء فلأمور أربعة أيضاً: أحدها: أنه يباع لهم. ¬

_ (¬1) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: أشيفع. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 49 كتاب التفليس، باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه. (¬4) في هـ: صاحب.

وثانيها: ربما رغبوا في شراء شيء منه فزادوا في ثمنه فيكون أصلح لهم وللمفلس. وثالثها: أنه أطيب لقلوبهم وأبعد في التهمة. ورابعها: أنه ربما كان فيهم من يجد عين ماله فيأخذها. وظاهر كلام المصنف: أن ذلك غير واجب وهو صحيح؛ لأن ذلك موكول إليه ومفوض إلى اجتهاده وربما أدى اجتهاده إلى خلاف ذلك بأن يرى المصلحة في المبادرة إلى البيع قبل الإحضار ونحو ذلك. وأما كونه يبيع كل شيء في سوقه. ومعناه: أنه يبيع البز في البزازين، والكتب في الكتبيين، وما أشبه ذلك؛ فلأنه أحوط وأكثر لطلابه ومعرفة ثمنه. فإن قيل: لو بيع في غير سوقه بثمن مثله ما الحكم؟ قيل: يجوز؛ لأن الغرض تحصيل الثمن. فعلى هذا يكون قول المصنف رحمه الله: "ويبيع كل شيء في سوقه" معطوفاً على ويحضر (¬1). ويقدر: وينبغي أن يبيع؛ ليكون كلامه مشعراً بالجواز المذكور. ثم يستأنف: ويُترك له من ماله لأن ذلك واجب. قال: (ويُترك له من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن وخادم، وينفق عليه بالمعروف إلى أن يفرغ من قسمه بين غرمائه). أما كون الحاكم يترك للمفلس من ماله ما تدعو حاجته إليه من مسكن وخادم؛ فلأن ذلك ما لا غنى له عنه فلم يبع في دينه كثيابه وقوته. وأما كونه ينفق عليه بالمعروف إلى أن يفرغ من قسمه بين غرمائه؛ فلأن ملكه قبل القسمة باق على ذلك. ولأن (¬2) النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» (¬3). ومن المعلوم أن فيمن يعوله من تجب نفقته عليه ويكون ديناً عليه كالزوجة. فإذا قُدّم نفقةُ نفسه على نفقتها فكذا تُقدم على حق الغرماء. ¬

_ (¬1) في هـ: يحضر. (¬2) في هـ: فلأن. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5041) 5: 2048 كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال، ولفظه: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير الصدقة ما كان على ظهر غنى، وابدأ بمن تعول». وأخرجه مسلم في صحيحه (1042) 2: 721 كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس. ولفظه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ... فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول». وفي (997) 2: 692 كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة. وأخرجه النسائي في سننه (4652) 7: 304 كتاب البيوع، بيع المدبر. ولفظهما: «ابدأ بنفسك ... ».

ولأن الحي آكد حرمة من الميت؛ لأنه (¬1) مضمون بالإتلاف، وتجهيز الميت وتكفينه مقدم على دينه فنفقة الحي أولى. قال: (ويُبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد ثم بالحيوان ثم بالأثاث ثم بالعقار. ويعطي المنادي أجرته من المال). أما كون الحاكم يبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد كالبطيخ والطبيخ وما أشبههما؛ فلأن بقاءه يتلفه بيقين. وأما كونه يقدم بيع الحيوان على ما بعده؛ فلأنه معرض للإتلاف ويحتاج في بقائه إلى نفقة. وأما كونه يقدم بيع الأثاث على العقار؛ فلأنه يخاف عليه وتناله اليد. وأما كونه يعطي المنادي أجرته من المال؛ فلأن البيع حق عليه. وقال المصنف في المغني وأبو الخطاب في الهداية وغيرهما: الأجرة في بيت المال؛ لأنه من المصالح. فإن لم يكن فمن المال لما تقدم. فيحتمل أن المصنف هنا قصد بقوله: أنه من المال ذلك. وإنما لم يذكر من بيت المال بناء على التعذر من بيت المال؛ لأنه يومئذ لا يصرف منه شيء في مثل ذلك. ويحتمل أن يكون في المسألة وجهان ذكر أحدهما هنا وفي المغني الآخر. ويشترط أن يكون المنادي ثقة فإن اتفق المفلس والغرماء على ثقة أمضاه الحاكم لوجود الشرط فيه، وإن اتفقوا على غير ثقة رده. ¬

_ (¬1) في هـ: لا.

فإن قيل: لم يرده وأصحاب الحق قد رضوا به، وهلا كان ذلك مثل الراهن والمرتهن إذا اتفقا على غير ثقة؟ قيل: لأن للحاكم هنا نظراً واجتهاداً فإنه قد يظهر غريم آخر فيتعلق حقه به بخلاف الرهن فإنه لا نظر للحاكم فيه. فإن اختار المفلس والغرماء آخر قدم المتطوع منهما؛ لأنه أوفر، وإن كانا متطوعان ضم أحدهما إلى الآخر وإلا قدم أوثقهما وأعرفهما. قال: (ويُبدأ بالمجني عليه فيدفع إليه الأقل من الأرش أو ثمن الجاني. ثم بمن له رهن فيخص بثمنه. فإن فضل له فضل ضرب به مع الغرماء. وإن فضل منه فضل رد على المال (¬1). ثم بمن له عينُ مالٍ يأخذها. ثم يقسم الباقي بين باقي الغرماء على قدر ديونهم. فإن كان فيهم من له دين مؤجل لم يحلّ. وعنه: أنه يحلّ فيشاركهم). أما كون الحاكم يبدأ بالمجني عليه؛ فلأنه حقه متعلق بالعين يفوت بفواتها. بخلاف بقية الغرماء. وأما كونه يدفع الأقل مما ذكر إليه؛ فلأن الأقل إن كان الأرش فهو لا يَستحق إلا أرش الجناية، وإن كان ثمن الجاني فهو لا يستحق غيره؛ لأن حقه متعلق بعينه. فعلى هذا إذا فضل شيء من ثمن الجاني عن أرش الجناية قسم على بقية الغرماء. وأما كونه يبدأ بعد ذلك بمن له رهن فيقدمه على بقية الغرماء ويخصصه بثمن الرهن؛ فلأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة بخلاف بقية الغرماء. فعلى هذا إن فضل للمرتهن فضل ضرب بما بقي له مع الغرماء لأنه ساواهم في ذلك، وإن فضل من الرهن فضل رد على المال؛ لأنه انفك من الرهن بالوفاء فصار كسائر أموال المفلس. وأما كونه يبدأ بعد ذلك بمن له عين مال يأخذها؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «منْ أدركَ متاعَهُ بعينهِ عندَ إنسانٍ قدْ أفلسَ فهوَ أحقُّ به» (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ: رد على الجاني. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونه يقسم الباقي على باقي الغرماء؛ فلتساوي حقوقهم في تعلقها بذمة المفلس. وأما كون القسمة على قدر ديونهم؛ فلأن فيه تسوية بينهم ومراعاة لكمية حقوقهم. وأما كون من له دين مؤجل لا يحلّ بالفلس على المذهب؛ فلأن التأخير حق للمفلس فلا يبطل بإفلاسه كسائر حقوقه. ولأنه لا يوجب حلول ما له فلا يوجب حلول ما عليه؛ كالجنون والإغماء. ولأنه دين مؤجل على حي فلا يحل بالفلس كغيره. وأما كونه يحل على روايةٍ؛ فلأن الإفلاس يتعلق به الدين بالمال فأسقط الأجل كالموت. والأول أصح لما ذكر. والقياس على الموت مردود بالمنع. ثم بتقدير تسليمه الفرق بينهما أن ذمة الميت خربت وبطلت بخلاف المفلس. وقال المصنف في المغني: قال القاضي: لا يحل الدين بالفلس رواية واحدة. قال: (ومن مات وعليه دين مؤجل لم يحلّ إذا وثق الورثة. وعنه: يحلّ). أما كون من مات وعليه دين مؤجل لا يحل إذا وثق الورثة على المذهب فلما ذكر في الفلس. وأما كونه يحل على روايةٍ؛ فلأنه لا يخلو: إما أن يبقى في ذمة الميت، أو الورثة، أو متعلقاً بالمال. والأول لا يجوز لخراب الذمة بالموت، وكذا الثاني لأن صاحب الدين لم يرض بذمة الورثة لا سيما إذا كانت مختلفة متباينة، وكذا الثالث لأن في تعليق الدين بالمال مع كونه مؤجلاً ضرراً بالميت وصاحب الدين والورثة: أما ضرر الميت فلبقاء ذمته مرتهَنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الميتُ مُرتهَنٌ بدينهِ حتى يُقضَى عنه» (¬1). وأما ضرر صاحب الدين؛ فلأنه يتأخر دينه وقد تتلف العين فتسقط بالكلية. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 73 كتاب الضمان، باب وجوب الحق بالضمان. ولفظه: « ... إنه ليس من ميت يموت وعليه دين إلا وهو مرتهن بدينه ... ».

وأما ضرر الورثة فظاهر لأنهم لا يتمكنون من الانتفاع بالأعيان. والأول أصح؛ لما ذكر. ولأن التأجيل حق للميت فلا يسقط بالموت لقوله عليه السلام: «من ترك حقاً فلورثته» (¬1)، وكسائر حقوقه. وأما قول المصنف رحمه الله: لم يحل إذا وثق الورثة ففيه إشعار بحلوله إذا لم يوثقوا وهو صحيح صرح به في المغني وعلله بأن عدم الحلول يفضي إلى إسقاط دينه بالكلية. قال: (وإن ظهر غريم بعد قسم ماله رجع على الغرماء بقسطه. وإن بقيت على المفلس بقية وله صنعة فهل يجبر على إيجار نفسه لقضائها؟ على روايتين). أما كون الغريم الذي ظهر بعد القسمة يرجع على بقية الغرماء بقسط حقه؛ فلأنه لو كان حاضراً قاسمهم فإذا ظهر بعد ذلك قاسمهم كالغريم للميت يظهر بعد قسمة تركته. وأما كون المفلس يجبر على إيجار نفسه لقضاء دينه على روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع سُرَّقاً في دَينِه» (¬2)، والحر لا يباع فعلم أنه باع منافعه. ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة فكذا هاهنا. ولأن الإجارة عقد معاوضة فجاز إجباره عليها كبيع ماله. وأما كونه لا يجبر على روايةٍ؛ فلأنه معسر فيدخل في قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها: «خُذوا ما وَجدتمْ وليسَ لكمْ إلا ذلك» (¬3) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6350) 6: 2476 كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ترك مالاً فلأهله». وأخرجه مسلم في صحيحه (1619) 3: 1237 كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته. (¬2) أخرجه الحاكم في مستدركه (7062) 4: 114 كتاب الأحكام. قال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. قال في التلخيص: كذا قال، وعبدالرحمن بن البيلماني لين، ولم يحتج به البخاري. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1556) 3: 1191 كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين. وأخرجه أبو داود في سننه (3469) 3: 276 كتاب البيوع، باب في وضع الجائحة. وأخرجه الترمذي في جامعه (655) 3: 44 كتاب الزكاة، باب ما جاء من تحل له الصدقة من الغارمين وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي في سننه (4678) 7: 312 كتاب البيوع، الرجل يبتاع البيع فيفلس ويوجد المتاع بعينه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2356) 2: 789 كتاب الأحكام، باب تفليس المعدم والبيع عليه لغرمائه.

ولأن ذلك تكسب فلا يجبر عليه كما لا يجبر على قبول الهبة والصدقة. والأولى أصح لحديث سُرَّق. فإن قيل: حديث سُرَّق منسوخ؛ لأن الحر لا يباع الآن، والبيع ثَمَّ وقع على رقبته. بدليل أن في الحديث أن غرماءه قالوا لمشتريه: «ما تصنع به؟ قال: أعتقه. قالوا: لسنا بأزهد منك في إعتاقه فأعتقوه» (¬1). قيل: هذا إثبات نسخ بالاحتمال. فلا يجوز. وذلك أنه لم يثبت أن بيع الحر كان جائزاً في شريعتنا في وقت. وحَمْلُ لفظ بيعه على بيع منافعه أسهل من حمله على النسخ وأحسن. وقول المشتري: أعتقه. يعني به من خقي عليه. ولذلك أعتقه غرماؤه أي أسقطوا دينهم عليه. وأما قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] فمحمول على من لا صنعة له جمعاً بينه وبين الحديث المتقدم، وكذا الذي أصيب في الثمار. قال: (ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم. فإذا انفك عنه الحجر فلزمته ديون وحجر عليه شارك غرماءُ الحجر الأول غرماءَ الحجر الثاني. وإن كان للمفلس حق له به شاهد فأبى أن يحلف معه لم يكن لغرمائه أن يحلفوا). أما كون المفلس لا ينفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم؛ فلأنه ثبت بحكمه فلا ينفك إلا بحكمه كالمحجور عليه لسفه. ¬

_ (¬1) هو تكملة لحديث سُرّق السابق ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. ولفظه: « ... قال: فجعل الناس يسومونه بي ويلتفت إليهم فيقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن نفديه منك. فقال: والله إني منكم أحق وأحوج إلى الله عز وجل اذهب فقد أعتقتك».

وأما كون غرماء الحجر الأول يشاركون غرماء الحجر الثاني إذا فك عنه الحجر ثم حجر عليه ثانياً؛ فلأنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمته فوجب أن يتساووا في المشاركة كغرماء الميت. وأما كون غرماء المفلس [لا يحلفون] (¬1) إذا كان للمفلس حق له به شاهد فأبى أن يحلف معه؛ فلأنهم يثبتون ملكاً لغيرهم ليتعلق به حقوقهم بعد ثبوته فلم يجز؛ كما لم يجز للمزوجة أن تحلف لإثبات ملك لزوجها ليتعلق به نفقتها. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل [الحكم الرابع] قال المصنف رحمه الله: (الحكم الرابع: انقطاع المطالبة عن المفلس، فمن أقرضه شيئاً أو باعه لم يملك مطالبته حتى يفك الحجر عنه). أما كون المفلس تنقطع المطالبة عنه بالحجر عليه؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] لأن {فنظرة} خبر بمعنى الأمر، والتقدير: أنظروه إلى يساره. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب في الثمار: «خُذوا ما وَجدتمْ وليسَ لكمْ إلا ذلك» (¬1) رواه مسلم. وأما كون من أقرضه شيئاً بعد فلسه أو باعه لا يملك مطالبته حتى يفك الحجر عنه؛ فلما تقدم. ولأنه هو الذي أتلف ماله بمعاملته من لا شيء له. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في المحجور عليه لِحَظِّه] قال المصنف رحمه الله: (الضرب الثاني: المحجور عليه لِحَظِّه وهو الصبي والمجنون والسفيه، فلا يصح تصرفهم قبل الإذن. ومن دفع إليهم ماله ببيع أو قرض رجع فيه ما كان باقياً، وإن تلف فهو من ضمان مالكه علم بالحجر أو لم يعلم. وإن جنوا فعليهم أرش الجناية). أما كون الحجر هنا لِحَظِّ المحجور عليه؛ فلأن مصلحته تعود عليه بخلاف المفلس فإن الحجر عليه لمصلحة غريمه. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو الصبي والمجنون والسفيه فبيان للمحجور عليه لحظه. وأما كون الصبي يحجر عليه؛ فلأن الله تعالى لما قال: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] دل بمفهومه على أنه لا يسلم إليهم قبل الرشد. وأما كون المجنون يحجر عليه؛ فلأنه إذا حجر على الصبي مع أن له عقلاً؛ فلأن يحجر على المجنون الذي لا عقل له بطريق الأولى. وأما كون السفيه يحجر عليه؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ... الآية} [النساء: 5]. وأما كون من ذكر لا يصح تصرفهم قبل الإذن؛ فلأن المفلس إذا لم يصح تصرفه لكونه محجوراً عليه؛ فلأن لا يصح تصرف هؤلاء بطريق الأولى. وأما تصرفهم بالإذن فينظر فيه فإن كان من مجنون لم يصح لعدم عقله وتمييزه، وإن كان من صبي مميز أو سفيه ففيه خلاف تقدم ذكره في الفصل الثاني من كتاب البيع. وأما كون من دفع إليهم ماله ببيع أو قرض أو نحوهما يرجع إن كان باقياً؛ فلأنه باق على ملكه لكون أحد العاقدين ليس أهلاً.

وأما كون ذلك من ضمان مالكه إن تلف؛ فلأنه تلف بتفريط من صاحبه وتسليطه (¬1) عليه. وأما كون الحكم كما ذكر عَلِم المالك بالحجر أو لم يعلم؛ فلأنه مفرّط في الحالين: أما مع علمه بالحجر عليه فظاهر، وأما مع عدم علمه؛ فلأنه عامل من لا يعرفه. ولأن الظاهر العلم بحال من حُجر عليه فحيث لم يعلم ذلك يكون ذلك منسوباً إلى تقصيره. وأما كون أرش الجناية على من ذكر إذا جنوا؛ فلأن الإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره. دليله إتلاف المال. قال: (ومتى عقل المجنون وبلغ الصبي ورشدا انفك الحجر عنهما بغير حكم حاكم ودفع إليهما مالهما. ولا ينفك قبل ذلك بحال). أما كون المجنون ينفك الحجر عنه إذا عقل ورشد فبالاتفاق لأنه حجر عليه لجنونه فإذا زال وجب زوال الحجر لزوال علته. وأما كون الصبي ينفك الحجر عنه إذا بلغ ورشد؛ فلأن الله تعالى قال: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] أمر بدفع أموالهم إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد. وأما كون الحجر عليهم ينفك عنهما بغير حكم حاكم: أما في المجنون فبالاتفاق. قال صاحب المغني فيه: لا خلاف في أن المجنون يدفع إليه ماله إذا زال جنونه وهو رشيد. وأما في الصبي؛ فلأن اشتراط ذلك فيما ذكر زيادة على قوله: {فإن ءانستم منهم رشداً فادفعوا ... الآية} [النساء: 6]. ولأنه حجر عليه بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه كالحجر على المجنون. ¬

_ (¬1) في هـ: وتسليط.

وأما كونه يُدفع مالهما إليهما إذا انفك الحجر عنهما؛ فلأن المانع من الدفع الحجر وقد زال. وأما كونه لا ينفك الحجر عنهما قبل زوال ما ذكر: أما في المجنون؛ فلأن الحجر عليه لجنونه فما دام كذلك يجب ثبوته عليه عملاً بالعلة. وأما في الصبي؛ فلأن الله تعالى علق الدفع على شرطين، والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما. قال: (والبلوغ يحصل بالاحتلام أو بلوغ خمس عشرة (¬1) سنة أو نبات الشعر الخشن حول القبل، وتزيد الجارية بالحيض والحمل. والرشد الصلاح في المال). أما كون البلوغ يحصل بالاحتلام فلقوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} [النور: 59]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وقوله لمعاذ في الجزية: «خُذْ منْ كلِّ حَالِمٍ دِيناراً» (¬3) رواه أبو داود. وأما كونه يحصل بخمس عشرة سنة فلما روى ابن عمر قال: «عُرضتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ وأنا ابن ثلاثَ عشرة سنة فَردّنِي، وعُرضت عليه وأنا ابن أربع عشرة سنة فردنِي ولم يَرَنِي بَلغتُ، وعُرضتُ عليه عامَ الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. فأخبر بها عمر بن عبدالعزيز فكتب إلى عماله أن لا يفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة» (¬4) رواه الشافعي في مسنده قريباً من هذا المعنى. ¬

_ (¬1) في هـ: خمسة عشر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4403) 4: 141 كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً. وأخرجه الترمذي في جامعه (1423) 4: 32 كتاب الحدود، باب ماجاء فيمن لا يجب عليه الحد. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3038) 3: 167 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية. وأخرجه الترمذي في جامعه (623) 3: 20 كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر. قال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه النسائي في سننه (2452) 5: 26 كتاب الزكاة، باب زكاة البقر. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2521) 2: 948 كتاب الشهادات، باب بلوغ الصبيان وشهادتهم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1868) 3: 1490 كتاب الإمارة، باب بيان سن البلوغ. وأخرجه الشافعي في مسنده (421) 2: 128 كتاب الجهاد.

وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استكملَ المولودُ خمس عشرة سنة كُتب ما له وما عليه وأخذتْ منه الحدود». وأما كونه يحصل بالإنبات فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكّم سعد بن معاذ في بني قريظة حكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، وأمرَ بأن يكشفَ عن مؤتزَرِهم فمن أَنبتَ فهو من المقاتلة ومن لم ينبتْ فهو من الذريّة. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد حكمَ بحكمِ الله من فوقِ سبعةِ أرقعة» (¬1). وروي عن عطية القرظي قال: «عُرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا فيَّ فأمر أن ينظر إليَّ هل أنبت بعد فنظروا إليَّ فلم يجدوني أنبت بعد فخلوا عني وألحقوني بالذرية» (¬2) متفق على معناه. ولأن الإنبات خارج يلازمه البلوغ غالباً ويستوي فيه الذكر والأنثى فكان بلوغاً كالاحتلام. وأما كون الجارية تزيده بالحيض والحمل؛ فلأن كل واحد منهما معنى لا يوجد في غيرها. وأما كون البلوغ يحصل بهما: أما بالحيض؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (¬3) رواه أبو داود والترمذي. وأما بالحمل؛ فلأن الله تعالى أجرى العادة أن المرأة لا تحمل إلا بعد أن تحيض. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2878) 3: 1107 كتاب الجهاد، باب إذا نزل العدو على حكم رجل. مختصر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1768) 3: 1388 كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد ... مختصر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4404) 4: 141 كتاب الحدود، باب في الغلام يصيب الحد. وأخرجه الترمذي في جامعه (1584) 4: 145 كتاب السير، باب ما جاء في النزول على الحكم. ولم أره عند الشيخين. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (377) 2: 215 أبواب الصلاة، باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار. وأخرجه أبو داود في سننه (641) 1: 171 كتاب الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار. وأخرجه ابن ماجة في سننه (655) 1: 215 كتاب الطهارة وسننها، باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار. قال الترمذي: حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم. وقال الحاكم في مستدركه: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.

ولأن الله تعالى أخبر أن الولد يخلق من ماء الرجل وماء المرأة بقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق? خلق من ماء دافق? يخرج من بين الصلب والترائب} [الطارق: 5 - 7]. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أحاديث غير واحدة (¬1). وأما كون الرشد الصلاح في المال فـ «لأن ابن عباس قال في تفسير قوله تعالى: {فإن ءانستم منهم رشداً} [النساء: 6] أي صلاحاً في أموالهم» (¬2). ولأن هذا مصلح لماله فكان رشيداً كالعدل. ولأن الحجر إنما هو في المال فالمؤثر فيه يجب أن يكون ما أثر في تضييعه أو حفظه. قال: (ولا يدفع إليه ماله حتى يختبر فإن كان من أولاد التجار فبأن يتكرر منه البيع والشراء فلا يغبن، وإن كان من أولاد الرؤساء والكتّاب فبأن يستوفي على وكيله فيما وكله فيه. والجارية بشرائها القطن واستجادته ودفعها الأجرة إلى الغزالات والاستيفاء عليهن. وأن يحفظ ما في يده عن صرفه فيما لا فائدة فيه كالقمار والغناء وشراء المحرمات ونحوه). أما كون الصبي لا يدفع إليه ماله قبل اختباره؛ فلأن الله تعالى علق الدفع على الاختبار والبلوغ وإيناس الرشد بقوله: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] أي اختبروهم ونظيره قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} [الملك: 2]. ¬

_ (¬1) منها ما رواه أنس «أن عبدالله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال أخبرني به جبريل آنفاً قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد ... ». أخرجه البخاري في صحيحه (3723) 3: 1433 كتاب فضائل الصحابة، باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 59 كتاب الحجر، باب الرشد هو الصلاح في الدين وإصلاح المال.

وأما صفة الاختبار فتختلف باختلاف الأشخاص كما بين المصنف رحمه الله لأن العرف يقتضي ذلك فوجب أن يختلف باختلاف أحواله كالحِرْز والقبض. وأما قوله: "أن يحفظ ما في يده عن صرفه فيما لا فائدة فيه" فتنبيه على أنه يضم إلى ما ذكر حفظ ما في يده عن الأمور المذكورة؛ لأن من صرف ماله فيما ذكر يعد مبذراً سفيهاً عرفاً فكذا شرعاً. ولأن الشخص قد يحكم بسفهه بصرف ماله في المباح فَلأن يحكم بسفهه بصرف ماله في المحرمات بطريق الأولى. وتحرير ما ذكره المصنف: أن الاختبار يحصل بأمرين: أحدهما: عدم الغبن فيما هو متصرف فيه. والثاني: عدم صرف ما في يده فيما يفضي إلى ضياعه. قال: (وعنه: لا يدفع إلى الجارية مالها بعد رشدها حتى تتزوج وتلد أو تقيم في بيت الزوج سنة. ووقت الاختبار قبل البلوغ. وعنه: بعده). أما كون الجارية لا يدفع إليها مالها حتى يوجد ما ذكره المصنف على روايةٍ فلما روي عن شريح أنه قال: «عهد إليّ عمر بن الخطاب أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولاً أو تلد ولداً». رواه سعيد في سننه. ولم يعرف له مخالف فكان إجماعاً. والأول أصح؛ لأنها كالرجل لدخولها في عموم الآية. ولأنها مكلفة فوجب أن يدفع إليها مالها إذا أنس منها الرشد؛ كالرجل، وكالتي دخل بها زوجها وولدت أو أقامت سنة. وحديث عمر إن صح فلم يعلم انتشاره في الصحابة فلم يترك به عموم الكتاب والقياس. وأما كون وقت الاختبار قبل البلوغ على المذهب؛ لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6]. ولأن تأخير الاختبار إلى البلوغ مؤد إلى الحجر على البالغ الرشيد؛ لأنه إلى أن يختبر يمنع من ماله.

وأما كونه بعده على روايةٍ؛ فلأنه قبله ليس أهلاً للتصرف؛ لأنه لم يوجد البلوغ الذي هو مظنة العقل فكان عقله بمنزلة المعدوم.

فصل [في أحكام الولي] قال المصنف رحمه الله: (ولا تثبت الولاية على الصبي والمجنون إلا للأب ثم لوصيه ثم للحاكم). أما كون الولاية لا تثبت على من ذكر لغير الثلاثة من الأب والوصي والحاكم؛ فلأنه لا يوجد فيه كمال الشفقة ولا هو نائب لمن كملت شفقته ولا له ولاية عامة. ولأن غير الثلاثة إما جد أو غير جد، وغير الجد لا ولاية له وفاقاً إذا لم يكن وصياً ولا حاكماً والجد مسلوب الصفات الثلاثة فوجب أن يساوي غيره من غير الثلاثة. وأما كون الولاية تثبت للأب؛ فلأنه كامل الشفقة لأنه يؤثر مصلحة ولده على مصلحة نفسه غالباً بخلاف غيره. وأما كونها تثبت للوصي؛ فلأنه نائبه. وأما كونها تثبت للحاكم؛ فلأنه ولي (¬1) من لا ولي له. وقد نبّه الشرع على هذا في النكاح حيث قال: «فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له» (¬2). وأما كون الأب مقدماً على وصيه والحاكم فلما ذكر من كمال شفقته ولهذا يجوز له أن يشتري لنفسه من مال ابنه وبالعكس بخلاف غيره. ولأن الوصي نائبه والمنيب مقدم على النائب فإذا قدم على الوصي -والوصي مقدم على الحاكم لما يأتي- فلأن يقدم على الحاكم بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) في هـ زيادة: به. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2083) 2: 229 كتاب النكاح، باب في الولي. وأخرجه الترمذي في جامعه (1102) 3: 407 كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي. قال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1879) 1: 605 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي.

وأما كون الوصي مقدم على الحاكم؛ فلأن الحاكم إنما يلي لعدم الولاية عليه والوصي منزل منزلة الموصي. قال: (ولا يجوز لوليهما أن يتصرف في مالهما إلا على وجهٍ الحظ لهما. فإن تبرع أو حابا أو زاد على النفقة عليهما أو على من تلزمهما مؤونته بالمعروف ضمن). أما كون ولي الصبي والمجنون لا يجوز لهما التصرف في مالهما إلا على وجهٍ الحظ: أما ولي الصبي؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء: 34]. وأما ولي المجنون؛ فلأنه في معناه. وأما كون وليهما يضمن ما تبرع به من مالهما أو حابا أو زاد على النفقة عليهما أو على من تلزمهما مؤنته بالمعروف؛ فلأنه منسوب في ذلك إلى التفريط والتقصير. ولأنه لم يقْرَبْ مال موليه بالتي هي أحسن فيكون عاصياً لارتكابه النهي فيجب عليه الضمان كالغاصب لذلك. قال: (ولا يجوز أن يشتري من مالهما شيئاً لنفسه ولا يبيعهما إلا الأب). أما كون الولي غير الأب لا يجوز له أن يشتري من مال موليه شيئاً لنفسه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشتر الوصي من مال اليتيم» (¬1). فيثبت فيه للنص، ويقاس عليه الحاكم. ولأن كل واحد من الوصي والحاكم متهم في ذلك. وأما كونه لا يجوز له أن يبيعه؛ فلأنه كالشراء معنى فيكون كذلك حكماً. وأما كون ذلك يجوز للأب؛ فلأن كمال شفقته تمنعه من الحيف على ولده ولم يوجد فيه المقتضى للمنع في غيره. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن صلة بن زفر قال: «كنت جالساً عند ابن مسعود. فجاء رجل من همدان على فرس أبلق. فقال: يا أبا عبدالرحمن! آشتري هذا؟ قال: ما له؟ قال: إن صاحبه أوصى إلي. قال: لا تشتره، ولا تستقرض من ماله». 6: 3 كتاب البيوع، باب: لا يشتري من ماله لنفسه إذا كان وصيا.

قال: (ولوليهما مكاتبة رقيقهما وعتقه على مال وتزويج إمائهما والسفر بمالهما والمضاربة به والربح كله لليتيم، وله دفعه مضاربة بجزء من الربح وبيعه نسأ وقرضه برهن وشراء العقار لهما وبناؤه بما جرت عادة أهل بلده به إذا رأى المصلحة في ذلك كله). أما كون ولي الصبي والمجنون له مكاتبة رقيقهما وعتقه على مال؛ فلأن للولي أن يبيع بذلك؛ فلأن يجوز له المكاتبة والعتق بطريق الأولى لأن فيه تحصيلاً لمصلحتي الدنيا والآخرة بخلاف البيع. وأما كونه له تزويج إمائهما؛ فلأن فيه إعفافهن وتحصينهن عن الزنا ووجوب نفقتهن على أزواجهن. وأما كونه له السفر بمالهما؛ فلأنه سبب للربح وقد نبه الشرع على تحصيله بقوله عليه السلام: «اتجروا في أموال اليتامى» (¬1). وأما كونه له المضاربة به فلما ذكر. وأما كون الربح كله لليتيم؛ فلأن العامل إنما يستحق بالشرط ولا شرط. ولأنه لا يصح أن يشرط لنفسه للتهمة. وأما كونه له دفعه مضاربة بجزء من الربح؛ فلأن في ذلك نفعاً لليتيم لما فيه من استنماء ماله. وعن عائشة رضي الله عنها «أنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر». وأما كونه له بيعه نسأ؛ فلأن الأجل يأخذ قسطاً من الثمن فيكون في بيعه كذلك زيادة لثمنه وذلك مصلحة لليتيم. وأما كونه له قرضه برهن؛ فلأنه أجود له من إيداعه لما فيه من تعريضه للتلف وغيره. وقول المصنف رحمه الله: برهن يقتضي أنه لا يجوز بغير رهن لأنه قد لا يأمن عوده لفلس المقترض ونحوه (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط 1: ل 250. عن أنس. وأخرجه مالك في الموطأ موقوفاً على عمر (12) 1: 215 كتاب الزكاة، باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها. (¬2) في ج: لفلس المرتهن المقترض ونحوه.

وقال المصنف رحمه الله في المغني: ظاهر كلام أحمد جوازه لأنه إنما يجوز لمليء يأمن جحوده فينتفي ما ذكر قبل. وأما كونه له شراء العقار؛ فلأن ذلك مصلحة لموليه لأنه يحصل منه المغل ويبقى الأصل. ولأنه إذا جازت المضاربة بمالهما مع احتمال الغرر؛ فلأن يجوز شراء العقار مع أن أصله محفوظ بطريق الأولى. وأما كونه له بناء العقار؛ فلأنه في معنى الشراء. وأما قول المصنف رحمه الله: بما جرت عادة أهل بلده به (¬1) فاختيار له. والذي ذكره الأصحاب أنه يبنيه بالآجر والطين ولا يبنيه باللبن؛ لأنه إذا نقضه فسد بخلاف الآجر، ولا بالجص؛ لأنه يلتزق بالآجر فلا يتخلص منه. قال المصنف في المغني: والذي أراه أن له بناؤه بما يرى الحظ فيه. وليس كل الأماكن يبنى فيها (¬2) بالآجر ولا يُقْدَر فيها على الآجر الجيد، وإن وجد فبقيمة كثيرة جداً فمتى قيد البناء بما ذكر أفضى إلى فوات الحظ. وأما قوله: إذا رأى المصلحة في ذلك كله فراجع إلى قوله: ولوليهما مكاتبة رقيقهما ... إلى آخره؛ لأن المصلحة إذا انتفت في شيء من ذلك لم يكن قربا بالتي هي أحسن وقد نهي عنه. قال: (وله شراء الأضحية لليتيم الموسر. نص عليه. وتركه في المكتب وأداء الأجرة عنه). أما كون الولي له شراء الأضحية لليتيم الموسر؛ فلأن فيه توسعة على اليتيم الموسر في يوم العيد وجبراً لقلبه. وقد نبه الشرع على التوسعة في العيد بقوله: «أيام أكل وشرب وذكرٍ لله عز وجل» (¬3) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: فيه. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1141) 2: 800 كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق.

وأما كونه له تركه في المكتب وأداء الأجرة عنه؛ فلأن ذلك من مصلحته فجرى مجرى نفقته لمأكوله ومشروبه. قال: (ولا يبيع عقارهما إلا لضرورة أو غبطة وهو أن يزاد في ثمنه الثلث فصاعداً). أما كون الولي لا يجوز له بيع عقار الصبي والمجنون لغير ضرورة أو غبطة؛ فلأنه لا مصلحة له فيه، والتصرف له مشروط بالمصلحة. ولأن الولي مأمور بالشراء للحظ؛ فلا معنى للبيع. وأما كونه يجوز له ذلك للضرورة كحاجتهما إلى نفقة أو كسوة أو قضاء دين؛ فلأن الضرورة لا بد من دفعها. وأما كونه يجوز له ذلك للغبطة فلتضمنه المصلحة. وأما مقدار الغبطة فقيّدها أبو الخطاب بالثلث لتكون المصلحة بيّنة، ووافقه المصنف هنا. وقال في المغني: ليس في كلام أحمد تقييد، وقد تكون المصلحة في غير هذا مثل أن يكون في مكان لا ينتفع به أو يكون نفعه به قليلاً فيباع ويشترى في مكان ينتفع به، أو يكون في شراءه غبطة كثيرة ولا يمكنه ذلك إلا ببيع عقاره. وقد نص أحمد على بيع عقاره وأثاثه وآنيته ونحو ذلك (¬1) إذا كان فيه حظ فلا معنى لتقييده بالثلث. قال: (وإن وُصّي لأحدهما بمن يعتق عليه ولا تلزمه نفقته لإعسار الموصى له أو غير ذلك وجب على الولي قبول الوصية، وإلا لم يجز له قبولها). أما كون الولي يجب عليه قبول الوصية إذا لم يلزم المولى عليه نفقة الموصى به؛ فلأنه مصلحة محضة له، وعلى الولي أن يفعل ما فيه مصلحة موليه. وأما كونه لا يجوز له القبول إذا لزمته النفقة؛ فلأن عليه فيه مضرة. ¬

_ (¬1) في هـ: ويجوز ذلك.

فصل [فيمن عاود السفه] قال المصنف رحمه الله: (ومن فك (¬1) عنه الحجر فعاود السفه أعيد الحجر عليه ولا ينظر في ماله إلا الحاكم ولا ينفك إلا بحكمه. وقيل: ينفك بمجرد رشده. ويستحب إظهار الحجر عليه والإشهاد عليه لتجتنب معاملته). أما كون الحجر يعاد على من عاود السفه فلما روى عروة بن الزبير «أن عبدالله بن جعفر ابتاعَ بَيعاً فأتى الزبير فقال: إني قد ابتعتُ بَيعاً وإن علياً يُريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر عليّ. فقال الزبير: أنا شريككَ في البيعِ فأتى علي عثمان. فقال: إن ابن جعفرَ قد ابتاعَ بيع كذا فاحجر عليه. فقال الزبير: أنا شَريكه. فقال عثمان: كيفَ أحجرُ على رجلٍ شريكهُ الزبير» (¬2) رواه الشافعي في مسنده. وهذه قضية قد اشتهرت ولم تنكر فتكون إجماعاً. ولأن السفه يقتضي الحجر لو قارنه فيقتضيه إذا طرأ كالجنون (¬3). وأما كونه لا ينظر في ماله إلا الحاكم؛ فلأن علياً سأل عثمان الحجر على ابن جعفر ولو كان الحجر لغيره لسأل من له الحجر. ولأن معرفة التبذير يحتاج إلى نظر لأن الغبن قد يكون تبذيراً وقد يكون غير تبذير فلم يكن بد من الحاكم كالحجر للفلس. ولأنه حجر مختلف فيه. أشبه الحجر للفلس. وأما كونه لا ينفك الحجر عنه إلا بحكم الحاكم على المذهب؛ فلأنه حُجِر عليه بحكم الحاكم فلا ينفك إلا بحكمه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه الشافعي في مسنده (556) 2: 160 كتاب البيوع، باب في الربا. (¬3) في هـ: كالمجنون.

وأما كونه ينفك عنه بمجرد رشده على قولٍ؛ فلأن السفه سبب الحجر فوجب أن ينفك بزواله كما في حق الصبي والمجنون. وعزا المصنف في المغني هذا القول إلى أبي الخطاب ثم قال: والأول أولى لما ذكر. ولأنه يحتاج إلى تأمل واجتهاد في معرفة رشده وزوال تبذيره. وفارق الصبي والمجنون من حيث إن الحجر عليهما ثبت بغير حكم الحاكم فينفك بغير حكمه. وأما كونه يستحب إظهار الحجر عليه والإشهاد عليه فقد صرح المصنف رحمه الله بالعلة من اجتناب معاملته وذلك مطلوب لما فيه من أمن ضياع المال لأن الإظهار والإشهاد سبب إلى تحصيله. قال: (ويصح تزويجه بإذن وليه. وقال القاضي: يصح من غير إذنه. وهل يصح عتقه؟ على روايتين). أما كونه يصح تزويج السفيه بإذن وليه؛ فلأنه لا يأذن إلا بما فيه المصلحة. ولأن حاجته تدعو إلى ذلك وليس مآله إلى التبذير. وأما كونه لا يصح من غير إذنه على غير قول القاضي فكسائر تصرفاته. وأما كونه يصح على قوله؛ فلأن حاجته تدعو إليه ودفعها مطلوب شرعاً. وأما كون عتقه يصح على روايةٍ؛ فلأنه تصرف من مالك مكلف فصح كعتق الراهن والمفلس. وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأنه إتلاف لماله. أشبه هبته. قال: (وإن أقر بحد أو قصاص أو نسب أو طلق زوجته أخذ به، وإن أقر بمال لم يلزمه في حال حجره، ويحتمل أن لا يلزمه مطلقاً). أما كون السفيه يؤخذ بما أقر به من حد أو قصاص أو نسب؛ فلأنه غير متهم في حق نفسه، والحجر إنما يتعلق بماله فوجب أن يقبل على نفسه لأن الحجر لا تعلق له به. وأما كونه لا يلزمه ما أقر به من المال في حال حجره؛ فلأنه محجور عليه لِحَظِّه فلم يصح إقراره بالمال كالصبي، وإذا لم يصح إقراره انتفى اللزوم لتوقفه عليه. ولأنا لو قبلنا إقراره في ماله سقط معنى الحجر عليه.

ولأنه ممنوع من التصرف فيه فلم يصح إقراره به كإقرار الراهن على الرهن. وأما كونه يلزمه ذلك إذا فك الحجر عنه على الأول؛ فلأنه محجور عليه فلزمه ما أقر به في حال الحجر كالمفلس. ولأنه مكلف أقر بما لا يلزمه في المال فلزمه بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بدين والراهن يقر على الرهن بجنايته ونحوها. وأما كونه يحتمل أنه لا يلزمه ذلك؛ فلأن الحجر عليه لِحَظِّه فلم يصح إقراره ولم يلزمه شيء كالصبي. ولأن ثبوت إقراره في ذمته لا يفيد الحجر معه إلا تأخير الضرر إلى أكمل حالتيه. قال: (وحكم تصرف وليه حكم تصرف ولي الصبي والمجنون). أما كون حكم تصرف ولي السفيه حكم تصرف ولي الصبي والمجنون؛ فلأن ولايته على السفيه لِحَظِّه. أشبه ولي الصبي والمجنون. وأما مراد المصنف رحمه الله بذلك فهو أن ولي السفيه لا يتصرف في ماله إلا على وجهٍ الحظ له، وأنه إن تبرع أو حابا أو زاد على النفقة عليه أو على من تلزمه نفقته بالمعروف ضمن، وأنه لا يشتري من ماله شيئاً لنفسه ولا يبيعه من ماله شيئاً، وأن له مكاتبة رقيقه، وعتقه على مال، وتزويج إمائه، والسفر بماله، والمضاربة به، ودفعه مضاربة بجزء من الربح، وبيعه نسأ، وقرضه برهن، وشراء العقار وبناءه بما جرت العادة به، وأنه لا يبيع عقاره إلا لضرورة أو غبطة، وأنه إذا وصى له بمن يعتق عليه من لا تلزمه نفقته لزمه قبولها، وإن كان ممن تلزمه لم يجز له القبول.

فصل قال المصنف رحمه الله: (وللولي أن يأكل من مال المولى عليه بقدر عمله إذا احتاج إليه، وهل يلزمه عوض ذلك إذا أيسر؟ على روايتين. وكذلك يخرج في الناظر في الوقف). أما كون الولي له أن يأكل من مال المولى عليه؛ فلأن الله تعالى قال: {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء: 6]. وأما ما يشترط لذلك فأن يكون بقدر عمله، وأن يكون محتاجاً إليه: أما الأول؛ فلأنه إنما يستحق بعمله فلا يجوز أن يتعداه. وأما الثاني؛ فلأن الله شرطه في الأكل حيث قال: {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء: 6] ثم أكد ذلك بأن قال: {ومن كان غنياً فليستعفف} [النساء: 6]. وقال صاحب المغني فيه ما معناه: أنه يأكل بقدر أقل الأمرين من أجرته وقدر كفايته لأنه يستحقه بالعمل والحاجة معاً فلم يجز أن يأخذ إلا ما وُجد فيه كلاهما. وأما كونه إذا أيسر يلزمه العوض على روايةٍ؛ فلأنه استباحه بالحاجة من مال غيره فلزمه عوضه كمن اضطر إلى طعام غيره. وأما كونه لا يلزمه ذلك على روايةٍ؛ فلأن الله أمر بالأكل ولم يذكر عوضاً له عن عمله فلم يلزمه عوضه كالأجير والمضارب. وهذا الخلاف فيما عدا الأب. قال المصنف في المغني: وإن كان أباً -يعني الولي- لم يلزمه عوضه رواية واحدة.

وأما كون الناظر في الوقف كالوصي في جواز الأخذ (¬1) من الوقف مع الشرطين المذكورين ولزوم العوض مع اليسار على الخلاف المذكور؛ فلأنه مثل الوصي معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. قال: (ومتى زال الحجر فادعى على الولي تعدياً أو ما يوجب ضماناً فالقول قول الولي. وكذلك القول قوله في دفع المال إليه بعد رشده). أما كون القول قول الولي إذا ادعى عليه المولى عليه (¬2) تعدياً أو ما يوجب ضماناً؛ فلأن الأصل عدم ذلك. ولأنه أمينه فكان القول قوله في ذلك كالمودَع. وأما كون القول قوله في دفع المال إليه بعد رشده؛ فلأنه دفعٌ ممن القول قوله في نفي التعدي فكذا يجب أن يكون في الدفع. قال: (وهل للزوج أن يحجر على امرأته [في التبرع] (¬3) بما زاد على الثلث من مالها؟ على روايتين). أما كون الزوج ليس له الحجر على امرأته في التبرع بما ذكر على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا معشرَ النساءِ! تصدقنَ ولوْ من حُليكن» (¬4)، وأنهن كن يتصدقن ويقبل منهن ذلك. ولم يسأل هل ذلك بإذن أزواجهن أم لا؟ . ولأن من وجب دفع ماله إليه برشده جاز له التصرف في جميع ماله دليله الغلام. ولأن المرأة من أهل التصرف ولا حق لزوجها في مالها فلم يكن له الحجر عليها في التصرف كالرجل ليس لامرأته الحجر عليه في ذلك. ¬

_ (¬1) في هـ: كالوصي في الأكل. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (1397) 2: 533 كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1000) 2: 695 كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين ...

وأما كونه له ذلك على روايةٍ فلما روي «أن امرأةَ كعبِ بن مالك أتت النبي صلى الله عليه وسلم بحليٍ لها. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا يجوزُ للمرأةِ عطيةٌ حتى يأذنَ زوجها. فهل استأذنتِ كعباً؟ فقالت: نعم. فبعث إليه فسأله. فقال: نعم. فَقبلَه» (¬1) رواه ابن ماجة. ولأن العادة جارية بِتَبَسُّطِ الزوج في مال الزوجة فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلقة بمال المريض. والأول أصح؛ لما ذكر. والحديث الدال على الثانية لا يُعلم صحته وبتقدير صحته هو غير معمول به فيما دون الثلث، والتبسط في مال زوجها لا يوجب المنع؛ لأن المرأة تتبسط في مال زوجها وليس لها منعه من التصرف في ماله. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2389) 2: 798 كتاب الهبات، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها. قال في الزوائد: في إسناده يحيى، وهو غير معروف في أولاد كعب. فالإسناد ضعيف.

فصل في الإذن قال المصنف رحمه الله: (يجوز لولي الصبي المميز أن يأذن له في التجارة في إحدى الروايتين. ويجوز ذلك لسيد العبد. ولا ينفك الحجر عنهما إلا فيما أُذن لهما فيه، وفي النوع الذي أُمرا به). أما كون ولي الصبي المميز يجوز له أن يأذن له في التجارة في روايةٍ؛ فلأنه لو لم يجز لم يكن طريق إلى معرفة رشده واختياره. وأما كونه لا يجوز له ذلك في روايةٍ؛ فلأنه ليس بأهل للتصرف فلم يجز لوليه الإذن له في ذلك كما لا يجوز لولي المجنون أن يأذن له في ذلك. وأما كونه يجوز ذلك لسيد العبد؛ فلأن الحجر على العبد لحق السيد فإذا أذن له جاز لزوال المانع. وأما كونه لا ينفك الحجر عنهما إلا فيما أُذن لهما فيه، وفي النوع الذي أُمرا به؛ فلأن كل واحد منهما متصرف بالإذن من جهة آدمي فوجب أن يختص بما أُذن له فيه وأُمر به دون غيره؛ كالوكيل والمضارب. قال: (وإن أُذن له في جميع أنواع التجارة لم يجز له أن يؤجر نفسه ولا يتوكل لغيره. وهل له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه؟ على وجهين. وإن رآه سيده أو وليه يتجر فلم ينهه لم يصر مأذوناً له فيه). أما كون العبد المأذون له في جميع أنواع التجارة لا يجوز له أن يؤجر نفسه ولا يتوكل لغيره؛ فلأن ذلك يشغله عن التجارة المقصودة بالإذن. ولأن الإذن لم يتناول الرقبة وهذا تصرف في الرقبة.

وأما كونه له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه ففيه وجهان مبنيان على التوكل. وسيأتي مبنياً في موضعه إن شاء الله تعالى (¬1). وأما كون كل واحد من العبد والصبي المأذون لهما لا يصير مأذوناً له إذا رأى (¬2) العبدَ سيدُه والصبيَّ وليُّه يتجر فلم ينهه؛ فلأنه تصرف يفتقر إلى الإذن فلا يكون السكوت عنه إذناً فيه كبيع مال الغير. قال: (وما استدان العبد فهو (¬3) في رقبته يفديه سيده أو يسلمه. وعنه: يتعلق بذمته يُتبع به بعد العتق. إلا المأذون له هل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين). أما كون استدانة العبد غير المأذون له في رقبته على روايةٍ فقياس على جنايته. فعلى هذه يتخير السيد بين فدائه وبين تسليمه كما لو جنى. وأما كونها تتعلق بذمته على روايةٍ؛ فلأن صاحب الحق رضي بتأخير حقه لأنه عامل من لا مال له. أشبه من عامل المعسر. ولأنه لا سبيل إلى تعلقه بكسبه ولا برقبته لأن ذلك مال السيد ولم يبد منه ما يوجب أن يتعلق ذلك بماله. فإن قيل: الجناية كذلك وقد تعلقت بماله. قيل: الفرق بينها وبين ما ذكر أن الجناية لزمت من غير إذن المستحق بخلاف ما ذكر. ولأن الجناية تثبت على خلاف القياس فلا يقاس عليها. فعلى هذه يُتبع بالدين بعد عتقه. وأما كون استدانة المأذون له تتعلق برقبته على روايةٍ؛ فلأن دينها دين تعلق به بإذن سيده فوجب أن يتعلق برقبته كالرهن. وأما كونها تتعلق بذمة السيده على روايةٍ؛ فلأنه لما أذن له غر الناس بمعاملته وإذنه له فصار ضامناً كما لو قال لهم: داينوه، وكما لو أذن في مداينة تزيد على قيمة العبد. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) مثل السابق.

قال: (وإذا باع السيد عبده المأذون له (¬1) شيئاً لم يصح في أحد الوجهين، ويصح في الآخر إذا كان عليه دين بقدر قيمته). أما كونه لا يصح بيع السيد عبده المأذون له شيئاً إذا لم يكن عليه دين بقدر قيمته؛ فلأنه بيع ماله بماله. وأما كونه لا يصح إذا كان عليه دين بقدر قيمته في وجه فلما ذكر. وأما كونه يصح في وجه لأن الثمن الذي قبضه من العبد مستحق لأرباب الدين فكأنه غير مملوك للبائع. قال: (ويصح إقرار المأذون في قدر ما أُذن له فيه، وإن حُجر عليه وفي يده مال ثم أُذن له فأقر به صح). أما كون إقرار المأذون له في قدر ما أُذن له فيه يصح؛ فلأن مقتضى الإقرار الصحة. تُرك فيما لم يأذن له فيه سيده فوجب أن يبقى فيما عدا ذلك على مقتضاه. وأما كون إقرار من حجر عليه وفي يده مال ثم أذن له فأقر به يصح؛ فلما ذكر قبل. ولأنه إقرار صدر من مأذون له. أشبه من لم يحجر عليه. قال: (ولا يبطل الإذن بالإباق. ولا يصح تبرع المأذون له بهبة الدراهم وكسوة الثياب. ويجوز هديته للمأكول وإعارة دابته). أما كون الإذن لا يبطل بالإباق؛ فلأن الإباق لا يمنع ابتداء الإذن في التجارة فلم يمنع استدامة ذلك كما لو غصبه غاصب أو حُبس لدين عليه. وأما كون تبرع المأذون له فيما ذكر لا يصح؛ فلأن الحجر عليه مستمر إلا فيما أُذن له، والتبرع بما ذكر غير مأذون له فيه. وأما كونه تجوز هديته للمأكول وإعارة دابته؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُجيبُ دعوةَ المملوك» (¬2). ولأن العادة جارية بذلك فجاز كما يجوز للمرأة الصدقة بكسرة الخبز من بيت زوجها. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2296) 2: 770 كتاب التجارات، باب ما للعبد أن يعطي ويتصدق.

قال: (وهل لغير المأذون الصدقة من قوته بالرغيف إذا لم يضره به ونحوه؟ على روايتين. وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك؟ على روايتين). أما كون غير المأذون له له الصدقة بالرغيف من قوته ونحوه إذا لم يضره به على المذهب؛ فلأن العادة جارية بمثله. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأنه تصرف في ملك سيده بغير إذنه. فلم يجز؛ كالكثير، أو كما لو أضر به. وأما كون المرأة لها الصدقة من بيت زوجها بنحو ذلك بغير إذنه على المذهب؛ فلأن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنفقتِ المرأةُ من بيتِ زوجها غيرَ مُفْسِدَةٍ كانَ لها أجرها، وله مثلُه بما كَسَبَ، ولها بما أنفقتْ، وللخازنِ مثلُ ذلك من غير أن ينقصَ من أجورهمْ شيء» (¬1) ولم يذكر إذناً. وعن أسماء «أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ليسَ لي شيء إلا ما أَدخلَ عليّ الزبيرُ. فهلْ عليّ جناحٌ أن أَرْضَخَ مما يُدخلُ عليّ؟ قال: ارْضَخِي ولا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عليكِ» (¬2) متفق عليهما. ولأن العادة السماح بذلك وطيب النفس به فجرى مجرى صريح الإذن. وأما كونها ليس لها ذلك على روايةٍ؛ فلما روى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تُنفقُ المرأةُ من بيتِها إلا بإذنِ زوجها. قيل: يا رسولَ الله! ولا الطعامَ؟ قال: ذلك أفضلُ أموالِنا» (¬3) رواه سعيد والترمذي. وقال: حديث حسن. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1359) 2: 517 كتاب الزكاة، باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1024) 2: 710 كتاب الزكاة، باب أجر الخازن الأمين ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2450) 2: 915 كتاب الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1029) 2: 714 كتاب الزكاة، باب الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3565) 3: 296 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية. وأخرجه الترمذي في جامعه (2120) 4: 433 كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2295) 2: 770 كتاب التجارات، باب ماللمرأة من مال زوجها.

ولأنها تبرعت بمال غيرها فلم يجز كالصدقة بثيابه.

باب الوكالة

باب الوكالة الوكالة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} [التوبة: 60]، وقوله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه} [الكهف: 19]. وأما السنة فما روي عن عروة بن الجعد قال: «عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب. فأعطاني ديناراً. فقال: يا عروة! ائتِ الجلبَ فاشترِ لنا شاةً. قال: فأتيتُ الجلبَ فساومتُ فشريتُ شاتين ... الحديث» (¬1) رواه أبو داود وابن ماجة. وعن جابر: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أردتُ الخروجَ إلى خيبر. فقال: ائتِ وكيلي فخذْ منه خمسةَ عشر وَسْقاً. فإن ابتغَى منكَ آيةً فضعْ يدكَ على تَرْقُوَتِه» (¬2) رواه أبو داود. وروي «أنه عليه السلام وكّل عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم (¬3) حبيبة» (¬4). و «أبا رافع في قبول نكاح ميمونة» (¬5). وأما الإجماع فأجمعت الأمة في الجملة على جواز الوكالة. وأما المعنى؛ فلأن الحاجة داعية إليها فإنه لا يمكن كل واحد فعل كل ما يحتاج إليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3384) 3: 256 كتاب البيوع، باب في المضارب يخالف. وأخرجه الترمذي في جامعه (1258) 3: 559 كتاب البيوع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2402) 2: 803 كتاب الصدقات، باب الأمين يتجر فيه فيربح. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3632) 3: 314 كتاب الأقضية، باب في الوكالة. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 139 كتاب النكاح، باب الوكالة في النكاح. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (841) 3: 200 كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم. وأخرجه أحمد في مسنده (27240) 6: 393.

قال المصنف رحمه الله: (تصح الوكالة بكل قول يدل على الإذن، وكل قول أو فعل يدل على القبول). أما كون الوكالة تصح بالقول المذكور؛ فلأنها عقد شرعي لها قول فصحت به كسائر العقود. والقول على ضربين: أحدهما: صريح كقول الموكِّل للوكيل: وكّلتك فلا شبهة (¬1) في صحة الوكالة به لكونه صريحاً فيها. وثانيهما: غير صريح. لكن فيه دلالة على الوكالة؛ كقوله: افعل كذا أو أذنت لك أن تفعل كذا. والوكالة به أيضاً صحيحة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكّل عروة بن الجعد بقوله: «اشتر لنا شاة» (¬2)، والإذن في معناه. ولأنه لفظ دال على الإذن فجرى مجرى قوله: وكّلتك. وأما كون قبول الوكيل يصح بالقول المذكور كقوله: قبلت وما في معنى ذلك مما يدل عليه؛ فلأنه قبول. أشبه القبول في النكاح والبيع. ولأنه يصح القبول بالفعل لما يأتي؛ فلأن يصح بالقول الدالّ عليه بطريق الأولى. وأما كونه يصح بالفعل المذكور؛ فلأن وكلاء النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنهم قبول سوى امتثال أمره. ولأنه إذن في التصرف فصح القبول فيه بالفعل كأكل الطعام. قال: (ويصح القبول على الفور والتراخي بأن يوكله في بيع شيء فيبيعه بعد سنة أو يبلغه أنه وكله منذ شهر فيقول: قبلت). أما كون القبول يصح على الفور فلا شبهة فيه لأن سائر العقود يصح قبولها على الفور فكذا هذا. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونه يصح على التراخي؛ فلأن قبول وكلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لوكالته كان بفعلهم وكان متراخياً على توكيله لهم. ولأنه إذن له في التصرف، والإذن قائم ما لم يرجع عليه. وأما قول المصنف رحمه الله: بأن يوكله في بيع شيء فيبيعه ... إلى آخره فبيان للقبول على التراخي. قال: (ولا يجوز التوكيل والتوكل في شيء إلا ممن يصح تصرفه فيه). أما كون التوكيل في شيء لا يجوز ممن لا يصح تصرفه فيه؛ فلأن الموكّل إذا كان لا يصح تصرفه في شيء بنفسه فلأن لا يجوز له أن يوكل غيره بطريق الأولى. وأما كون التوكل في شيء لا يجوز ممن لا يصح تصرفه فيه؛ فلأن الوكيل إذا كان قاصراً عن التصرف لنفسه، فلأن يكون قاصراً عن التصرف بالإذن الذي هو أضعف منه بطريق الأولى. وأما كون التوكيل والتوكل في شيء يجوز ممن يصح تصرفه فيه؛ فلأن كل واحد منهما يملك التصرف بنفسه. فجاز أن يستنيب غيره وأن ينوب عن غيره؛ لانتفاء المفسد المتقدم ذكره. وظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا: أن كل من صح تصرفه في شيء بنفسه جاز أن يوكل فيه وأن يتوكل. واستثنى من التوكل في المغني الفاسق فإنه يصح أن يقبل النكاح بنفسه ولا يصح أن يقبله لغيره. وحكاه عن القاضي ثم قال: وكلام أبي الخطاب يقتضي جواز ذلك وهو القياس.

قال: (ويجوز التوكيل في كل حق آدمي من العقود والفسوخ والعتق والطلاق والرجعة وتملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه إلا الظهار واللعان والأيمان، ويجوز أن يوكل من يقبل له النكاح ومن يزوج وَلِيَّتَه إذا كان الوكيل ممن يصح منه ذلك لنفسه وَمَوْلِيَّتِه). أما كون التوكيل يجوز في العقود؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكّل عروة بن الجعد في الشراء» (¬1)، وسائر العقود في معناه. وأما كونه يجوز في الفسوخ والعتق والطلاق؛ فلأنه إذا جاز التوكيل في الإنشاء؛ فلأن يجوز في الإزالة بطريق الأولى. وأما كونه يجوز في الرجعة؛ فلأنه يجوز في النكاح فلأن يجوز في الرجعة بطريق الأولى. وأما كونه يجوز في تملك المباحات؛ فلأنه نوع يملك. أشبه التوكيل في الشراء. وأما كونه لا يجوز في الظهار واللعان والأيمان؛ فلأنها أيمان فلا تدخلها النيابة كالصلاة. ويدخل في الأيمان النذر؛ لأنه يمين، والقسامة كذلك. وينبغي أن يستثنى من (¬2) جواز الوكالة في كل حق آدمي القسم بين الزوجات؛ لأنه يتعلق بنفس الزوج، والشهادة لأنها تتعلق بالشاهد. ذكرهما المصنف في المغني. ثم قال: ولا يصح في الالتقاط فإذا أمر بذلك فالتقط كان أحق به من الآمر، ولا في الاغتنام لأنه يستحق بالحضور، ولا في الرضاع لأنه يتعلق بالمرضع والمرتضع، ولا في الغصب لأنه محرم، ولا في الجنايات كذلك. وأما كون توكيل من يقبل له النكاح يجوز؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة» (¬3) و «أبا رافع في قبول نكاح ميمونة» (¬4). وأما كونه يجوز في تزويج وليته؛ فلأن الحاجة تدعو إليه فجاز كالقبول. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما قول المصنف رحمه الله: إذا كان الوكيل ممن يصح ذلك منه لنفسه وموليته فاحتراز عن الصبي والمجنون وما أشبههما لأن توكيلهما لا يصح لما تقدم، وعن الفاسق؛ لأن توكيله في إيجاب النكاح لا يصح؛ لأنه لا يصح أن يتولى نكاح موليته بنفسه لأنه لا ولاية لفاسق. وفيه إشعار بأن الفاسق يصح أن يكون وكيلاً في القبول. وقد تقدم الكلام فيه والخلاف (¬1). قال: (ويصح في كل حق لله تدخله النيابة من العبادات والحدود في إثباتها واستيفائها، ويجوز الاستيفاء في حضرة الموكِّل وغيبته إلا القصاص وحد القذف عند (¬2) بعض أصحابنا لا يجوز في غيبته). أما كون التوكيل في العبادات التي تدخلها النيابة كالزكوات والمنذورات والكفارات ونحو ذلك يصح؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أناساً لقبض الصدقات وتفريقها». وقال في حديث معاذ حين بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ... مختصر» (¬3) متفق عليه. فيثبت الحكم فيما ذكر لما ذكر، وفي (¬4) باقي الصور لأنه في معناه. وأما كونه يصح في الحدود في إثباتها واستيفائها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «واغدُ يا أُنيسُ إلى امرأةِ هذا فإن اعترفتْ فارجمْهَا» (¬5). وكّله في الإثبات والاستيفاء. وقال أبو الخطاب في الهداية: لا يجوز التوكيل في إثباتها لأنها تسقط بالشبهات. ونصر المصنف في المغني الأول للحديث. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: وعند. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6937) 6: 2685 كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله. وأخرجه مسلم في صحيحه (19) 1: 50 كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام. (¬4) في هـ: في. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (2190) 2: 813 كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود. وأخرجه مسلم في صحيحه (1697) 3: 1325 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى.

ولأن الحاكم إذا استناب دخل في ذلك إثبات الحدود، وإذا دخل ذلك في التوكيل بطريق العموم؛ فلأن يدخل بطريق الخصوص بطريق الأولى. وأما كون الاستيفاء يجوز في حضرة الموكل؛ فكسائر الحقوق. وأما في غيبته فينظر فيه فإن كان ذلك في زنا وشبهه جاز؛ لأنه لا يحتمل العفو حتى يدرأ بالشبهة، وإن كان في قصاص أو حد قذف فالمذهب جوازه أيضاً؛ لأن ما جاز للوكيل استيفاؤه في حضرة الموكِّل جاز في غيبته. دليله حد الزنا وسائر الحقوق. وقال بعض الأصحاب: لا يجوز؛ لأنه يحتمل أن يعفو عنه حال غيبته فيسقط، وهذه شبهة تمنع من استيفائه. ولأن العفو مندوب إليه فإذا حضر جاز أن يرحمه فيعفو عنه. قال المصنف رحمه الله في المغني: ظاهر المذهب جواز الاستيفاء لما ذكر. وأجاب عن احتمال العفو بأن الأصل عدمه. وهو بعيد فلا يؤثر. ألا ترى أن قُضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحكمون في البلاد بالحدود مع احتمال النسخ. قال: (ولا يجوز للوكيل التوكيل فيما يتولى مثله بنفسه إلا بإذن الموكِّل. وعنه: يجوز. وكذلك الوصي والحاكم. ويجوز توكيله فيما لا يتولى مثله بنفسه [أو يعجز عنه لكثرته). أما كون الوكيل لا يجوز له التوكيل فيما يتولى مثله بنفسه] (¬1) إذا لم يأذن الموكل له في ذلك على المذهب؛ فلأنه لم يأذن له في التوكيل ولا تضمّنه إذنه له لكونه يتولى مثله. وأما كونه يجوز (¬2) له ذلك على روايةٍ؛ فلأنه وكيله فملك ذلك كما لو وكله فيما لا يتولى مثله. قال المصنف في المغني: والأول أولى؛ لما ذكر. ولأنه استئمان فلم يكن له أن يوليه غيره مع إمكان فعله بنفسه كالوديعة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في و: لا يجوز.

وأما كونه يجوز له ذلك فيما لا يتولى مثله بنفسه لكونه دنيئاً والوكيل شريفاً لا يليق به أن يباشر ذلك، وفيما يعجز عنه لكثرته رواية واحدة؛ فلأن حال الوكيل وكثرة الموكل فيه قرينة صارفة للوكالة إلى ذلك. وظاهر كلام المصنف جواز التوكيل في الكل إذا كان كثيراً لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فجاز في كله كما لو أذن في التوكيل بلفظه. وقال القاضي: وعندي أنه يوكل فيما زاد على ما يتمكن من فعله؛ لأن التوكيل إنما جاز للكثرة فاختص بذلك بخلاف التوكيل بالإذن. وأما كونه يجوز له التوكيل إذا أذن له الموكل فيه رواية واحدة؛ فلأنه عقد أذن له فيه فكان له ذلك عملاً بالإذن. فإن قيل: فإن نهاه عن ذلك؟ قيل: لا يجوز له التوكيل رواية واحدة عملاً بالنهي. وأما كون حكم الوصي والحاكم حكم الوكيل؛ فلأن كل واحدٍ متصرف بالإذن. أشبه الوكيل. وقال المصنف في المغني في باب الوكالة بعد ذكر الوكيل: قال أصحابنا: الحكم في الوصي يوكل فيما أوصي به إليه، وفي الحاكم يولى القضاء في ناحية هل له أن يستنيب غيره؟ حكم الوكيل على التفصيل الذي ذكرناه سواء. ثم قال: إلا أن القاضي قال: المنصوص في روايةٍ مهنا جواز ذلك. وقال فيه أيضاً في باب المصراة بعد قوله: ويتجر الوصي بمال اليتيم: قال القاضي: يجوز للوصي أن يستنيب فيما يتولى مثله بنفسه وما لا يتولى مثله بنفسه، فأما الوكيل فهل له أن يستنيب فيما يتولى مثله بنفسه على روايتين. والفرق بينهما: أن الوكيل يمكنه الاستئذان بخلاف الوصي. ثم قال: قال أبو بكر: في الوصي روايتان كالوكيل. فحاصل ذلك أن المصنف نقل في موضعٍ الفرق بين الوصي والوكيل، وفي موضع آخر التسوية بينهما. فعلى القول بالتسوية لم يحتج إلى ذكر الفرق، وعلى القول بالفرق فقد نبه المصنف رحمه الله عليه فيما تقدم.

قال: (ويجوز توكيل عبد غيره بإذن سيده، ولا يجوز بغير إذنه. وإن وكله بإذنه في شراء نفسه من سيده فعلى وجهين). أما كون عبد الغير يجوز توكيله بإذن سيده؛ فلأن العبد ممنوع من التصرف لحق السيد فإذا أذن له جاز أن يوكل كالحر. ولأن الوكالة نفع. فجازت بإذن السيد؛ كالتجارة ونحوها. وأما كونه لا يجوز بغير إذنه سيده؛ فلأن منافعه مملوكة فلا يجوز صرفها في شيء إلا بإذنه. وأما كونه يجوز توكيله (¬1) بإذنه في شراء نفسه من سيده على وجهٍ؛ فلأنه لو وكله أن يشتري من مولاه عبداً غيره صح فكذا إذا وكله في شراء نفسه كالمرأة لما جاز توكيلها في طلاق غيرها جاز توكيلها في طلاق نفسها. وأما كونه لا يجوز على وجهٍ؛ فلأن يد العبد كيد السيد بدليل أنه يحكم لماله الذي في يد عبده بما يحكم لماله الذي في يده فكأنه إذاً قد وكل السيد في الشراء من نفسه. قال المصنف رحمه الله في المغني: هذا الوجه لا يصح لأنه لو وكّله في الشراء من نفسه جاز لأن الولي في النكاح يجوز أن يتولى طرفي العقد فكذا هاهنا. قال: (والوكالة عقد جائز من الطرفين لكل واحد منهما فسخها. وتبطل بالموت والجنون والحجر للسفه. وكذلك كل عقد جائز كالشركة والمضاربة. ولا تبطل بالسكر والإغماء والتعدي. وهل تبطل بالردة وحرية عبده؟ على وجهين). أما كون الوكالة من العقود الجائزة من الطرفين؛ فلأنها من جهة الموكِّل إذن، ومن جهة الوكيل بدل نفع، وكلاهما جائز: أما الأول فكما لو أذن في أكل طعامه، وأما الثاني؛ فلأنه في معناه. وأما كون كل واحد من الموكِّل والوكيل له فسخ الوكالة؛ فلأن ذلك شأن العقود الجائزة من الطرفين. وقد تقدم دليله. ¬

_ (¬1) في هـ: توكله.

وأما كونها تبطل بالموت والجنون والحجر للسفه؛ فلأن الوكيل يتصرف بطريق النيابة عن الموكِّل فإذا خرج الموكِّل عن أهلية التصرف بطلت نيابته. ولأن الوكالة تعتمد الحياة والعقل وعدم الحجر فإذا انتفى ذلك انتفت صحة الوكالة لانتفاء ما تعتمد عليه. وقول المصنف رحمه الله: "والحجر للسفه" مشعر بأن الحجر لغير السفه لا يبطل الوكالة. وقال في المغني: وإذا حجر على الوكيل لفلس فالوكالة بحالها فإنه لم يخرج عن كونه أهلاً للتصرف، وإن حجر على الموكِّل نظرت في الوكالة فإن كانت في أعيان ماله بطلت؛ لانقطاع تصرفه فيها. وإن كانت في الخصومة، أو في الشراء في الذمة، أو الخلع، أو الطلاق، أو القصاص، فالوكالة بحالها؛ لأن الموكل أهل لذلك حينئذ. وأما كون كل عقد جائز كالشركة والمضاربة ونحوهما كالوكالة فيما ذكر من البطلان وغيره؛ فلأن الكل مشترك معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما كونها لا تبطل بالسكر والإغماء؛ فلأن من اتصف بذلك لا يخرج عن أهلية التصرف ولا يثبت عليه بذلك ولاية. وأما كونها لا تبطل بالتعدي مثل أن يلبس الوكيل الثوب الموكل في بيعه؛ فلأن تصرفه في البيع تصرف بإذن موكله. أشبه ما لو لم يتعد فيه. ولأن الوكالة اقتضت الأمانة والإذن فإذا بطلت الأمانة بالتعدي كان الإذن في التصرف باقياً. وأما كونها لا تبطل بالردة على وجهٍ فقال المصنف في المغني: فإن كانت من الوكيل فلا تبطل الوكالة؛ لأن ردته لا تؤثر في تصرفه وإنما تؤثر في ماله، وإن كانت من الموكل ففيها وجهان مبنيان على صحة تصرف المرتد في ماله: فإن قيل: تصح فالوكالة بحالها، وإن قيل: لا تصح بطلت الوكالة؛ لأن النائب يحذو حذو المنيب. وأما كونها لا تبطل بحرية عبده على وجهٍ؛ فلأن كل شيء لا يمنع ابتداء الوكالة لا يمنع استدامتها.

وأما كونها تبطل على وجهٍ؛ فلأن توكيل العبد استخدام بحق الملك. فإذا زال الملك زال الاستخدام. قال: (وهل ينعزل الوكيل بالموت والعزل قبل علمه؟ على روايتين). أما كون الوكيل ينعزل بموت الموكل قبل علمه على روايةٍ؛ فلأن العزل رفع عقد لا يفتقر إلى رضى صاحبه فلا يفتقر إلى علم الوكيل كالفسخ بعيب المبيع. وأما كونه لا ينعزل على روايةٍ؛ فلأن ذلك رفع فلا يترتب عليه مقصوده قبل العلم به (¬1) كالفسخ. وأما كونه ينعزل بالعزل ففيه الروايتان نقلاً ودليلاً. وتقييد المصنف الخلاف المذكور في المسألتين بقبل العلم مشعر بانعزاله إذا علم رواية واحدة وهو صحيح. أما إذا مات الموكِّل؛ فلأن الوكيل يتصرف عنه بطريق النيابة وقد بطل ذلك في الأصل فكذا الفرع. وأما إذا عزله؛ فلأن تصرفه مستنداً إلى الإذن وقد زال بالعزل. قال: (وإذا وكل اثنين لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف إلا أن يجعل ذلك إليه). أما كون أحد الوكيلين لا يجوز له الانفراد بالتصرف إذا لم يجعل ذلك إليه؛ فلأن الموكل لم يرض بتصرف أحدهما منفرداً بدليل إضافة الغير إليه. وأما كونه يجوز له ذلك إذا جعل إليه؛ فلأنه مأذون فيه. أشبه الوكيل الواحد. قال: (ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع لنفسه. وعنه: يجوز إذا زاد على مبلغ ثمنه في النداء أو وكل من يبيع وكان هو أحد المشترين. وهل يجوز أن يبيعه لولده أو والده (¬2) أو مكاتبه؟ على وجهين). أما كون الوكيل لا يجوز له أن يبيع لنفسه ما وُكِّل في بيعه على المذهب؛ فلأن العرف في بيع الوكيل أن يبيع لغيره فحملت الوكالة عليه وصار كما لو قال: بعه لغيرك. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في و: لوالده أو والده.

ولأن الوكيل تلحقه التهمة في البيع لنفسه ويتنافى الغرضان في البيع لنفسه؛ لأن بيعه بالوكالة يقتضي الحرص على كثرة الثمن وبيعه لنفسه يقتضي أخذه رخيصاً. وأما كونه يجوز له ذلك على روايةٍ إذا زاد على ما بُذل فيه أو وكل شخصاً في البيع؛ لأنه إذا كان كذلك حصل غرض الموكل من الثمن فجاز كما لو باعه لأجنبي. فإن قيل: كيف يوكل في البيع وليس للوكيل أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه على الصحيح؟ قيل: ذكر المصنف هذا الإشكال في المغني وأجاب عنه بأن التوكيل فيما لا يتولى مثله جائز والنداء مما لم تجر العادة أن يتولاه أكثر الوكلاء بنفوسهم. وفيه نظر؛ لأن الوكيل إذا جاز له أن يعطي ما وكل فيه لمن ينادي عليه لما ذكر فالعقد لا بد له من عاقد ومثله يتولاه فلا يجوز أن يوكل فيه غيره. ويمكن التخلص من ورود هذا الإشكال بأن يجعل بدل التوكيل في البيع التوكيل في الشراء. وأما كونه لا يجوز له أن يبيعه لولده أو والده (¬1) أو مكاتبه على وجهٍ؛ فلأنه متهم في حقهم وفي الميل إلى ترك الاستقصاء في الثمن عليهم. أشبه ما لو باعه لنفسه. وأما كونه يجوز له ذلك على وجهٍ؛ فلأنهم غيره وقياسهم عليه لا يصح؛ لأن التهمة في حقهم أقل. قال: (ولا يجوز أن يبيع نسأ ولا بغير نقد البلد. ويحتمل أن يجوز كالمضارب). أما كون الوكيل لا يجوز أن يبيع مال موكله نسأ ولا بغير نقد البلد على المذهب؛ فلأن الموكل لو باع بنفسه وأطلق انصرف إلى الحالّ وإلى نقد البلد. فكذلك إذا وكل وجب أن تنصرف الوكالة إليهما وإذا انصرفت إليهما لم يملك الوكيل التصرف بغيرهما؛ لأن عقد الوكالة لم يقتضه. وأما كونه يحتمل أن يجوز فبالقياس على المضارب، وفي جواز بيع المضارب بذلك روايتان يأتي ذكرهما ودليلهما في باب المضاربة (¬2). ¬

_ (¬1) في و: لوالده أو والده. (¬2) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وقال المصنف في المغني: يمكن الفرق بينهما من حيث إن المقصود في المضاربة الربح والربح في النسأ أكثر ولا يتعين في الوكالة ذلك (¬1) بل ربما كان المقصود تحصيل الثمن لدفع حاجته. ولأن استيفاء الثمن في المضاربة على المضارب فيعود ضرر النسأ عليه واستيفاء الثمن في الوكالة على الموكل فيعود ضرر الطلب عليه وهو لم يرض به. قال: (وإن باع بدون ثمن المثل أو بأنقص مما قدّره له صح وضمن النقص. ويحتمل أن لا يصح). أما كون بيع الوكيل ما وكل في بيعه بدون ثمن المثل أو بأنقص مما قدّره له الموكل يصح على المذهب؛ فلأن من صح بيعه بثمن المثل صح بدونه. دليله المريض. وأما كونه يضمن النقص؛ فلأن الاحتياط وطلب الحظ واجب عليه فيجب عليه تكملة ثمن مثله لأنه فوّته عليه. وأما كونه يحتمل أن لا يصح؛ فلأن العرف يقيد الوكالة بثمن المثل فإذا باع بدونه لم يصح؛ لأنه غير مأذون فيه. أشبه بيع الأجنبي. قال المصنف في المغني: وعن أحمد ما يدل على أن العقد باطل وهو الصحيح. ومعناه والله أعلم أن ذلك هو الصحيح عنده لما ظهر له من الدليل؛ لأن الصحيح في المذهب أنه صحيح ويضمن النقص لما تقدم. ولأن فيه جمعاً بين حظ المشتري بعدم الفسخ وبين حظ البائع بوجوب التضمين. وأما الوكيل فلا يعتبر حظه؛ لأنه مفرط. قال: (وإن باع بأكثر منه صح سواء كانت الزيادة من جنس الثمن الذي أمره به أو لم تكن. وإن قال: بعه بدرهم فباعه بدينار صح في أحد الوجهين. وإن قال: بعه بألف نسأ فباعه بألف حالّة صح إن كان لا يستضر بحفظ الثمن في الحال). أما كون بيع الوكيل بأكثر [من ثمن المثل أو بأكثر] (¬2) مما قدره الموكل له يصح؛ فلأنه باع بالمأذون فيه وزاده خيراً. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) ساقط من هـ.

وأما كون ذلك يصح سواء كانت الزيادة من جنس الثمن كمن وكل في البيع بمائة درهم ودرهم، أو من غير جنسه كمن وكل في البيع بمائة درهم فباع بمائة درهم ودينار فلاشتراك الكل في زيادة الخير. وأما كونه يصح إذا قال الموكل: بعه بدرهم فباعه الوكيل بدينار في وجه؛ فلأنه مأذون فيه عرفاً لأن من رضي بدرهم يرضى بدينار بطريق الأولى. وأما كونه لا يصح في وجه؛ فلأنه خالف في الجنس المأذون فيه. أشبه ما لو باع بثياب كثيرة القيمة. وأما كونه يصح إذا قال: بعه بألف نسأ فباعه بألف حالّة لا يستضر بحفظها في الحال؛ فلأنه زاده خيراً. وأما كونه لا يصح إذا كان يستضر بذلك؛ فلأن حكم الإذن إنما يثبت في السكوت عنه لتضمنه المصلحة، فإذا كان يتضرر به علم انتفاء المصلحة فتنتفي الصحة، وحُكْمُ خوف التلف والتعدي عليه ونحوهما حكم الاستضرار بحفظه لاشتراك الكل في المعنى. قال: (وإن وكله في الشراء فاشترى بأكثر من ثمن المثل، أو بأكثر مما قدره له، أو وكله في بيع شيء فباع نصفه: لم يصح). أما كون الوكيل في الشراء إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل أو بأكثر مما قدره الموكِّل له لا يصح؛ فلأنه فعل غير ما وكل فيه. أشبه من لم يوكله بالكلية. فإن قيل: قد تقدم أنه إذا وكله في البيع فلم يقدر الثمن أو قدره فباع بدون ثمن المثل أو بدون المقدر أنه يصح فهلا كان هذا مثله؟ أو كان البيع مثل هذا؛ وذلك أن (¬1) عقد الوكالة: إن لحظ فيه الإذن دون التقييد إما بالعرف أو النطق يصح نظراً إلى الإذن ينبغي أن يصح في الشراء لأنه مأذون فيه كالبيع، وإن لحظ الإذن والتقييد ينبغي أن لا يصح البيع لأن الإذن فيه مقيد؟ ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

قيل: على اختيار المصنف في المغني لا إشكال لأنه صحح عدم صحة البيع فهو كالشراء، وعلى المذهب في الفَرْق عُسْرٌ. وأما كونه لا يصح بيع الوكيل نصف الشيء الموكل في بيع كله؛ فلأن على الموكِّل ضرراً في بيع بعضه. أشبه ما لو وكله في شراء شيء فاشترى نصفه. ولا بد أن يلحظ في بيع النصف المذكور أن لا يكون الوكيل باعه بثمن الكل فإن باعه بثمن الكل صح. ذكره المصنف في المغني لأنه مأذون فيه من جهة العرف. لأن من يرضى بمائة ثمناً للكل مثلاً يرضى بها ثمناً للنصف. ولأنه حصل له المطلوب وأبقى له زيادة تنفعه. ولذلك ألحقه بعض الأصحاب المأذون له في ذلك بالأصل. ولا بد أن يلحظ في ذلك أن يكون في بيع البعض ضرر كالعبد الذي يتشقص ببيع بعضه فإن لم يكن فيه ضرر كالحنطة صح لأن العلة الضرر ولا ضرر هاهنا. قال: (وإن اشتراه بما قدر (¬1) له مؤجلاً، أو قال: اشتر لي شاة بدينار فاشترى شاتين تساوي إحداهما ديناراً أو اشترى شاة تساوي ديناراً بأقل منه صح، وإلا لم يصح). أما كون شراء الوكيل بما قدر الموكل له مؤجلاً يصح فلما ذكر من أنه زاده خيراً. وأما كونه يصح شراءه شاتين تساوي إحداهما ديناراً بدينار إذا وكل في شراء شاة بذلك فلما روى عروة بن الجعد «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً فقال: اشتر لنا شاة. قال: فأتيت الجلب فاشتريت شاتين بدينار. فجئت أسوقهما أو أقودهما فلقيني رجل بالطريق فساومني فبعت منه شاة بدينار. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار وبالشاة. فقلت: يا رسول الله! هذا ديناركم وهذه شاتكم. قال: فحدثته الحديث. قال: اللهم! بارك له في صفقة يمينه» (¬2). رواه البخاري بمعناه. ¬

_ (¬1) في و: قدره. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3443) 3: 1332 كتاب المناقب، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية ... وأخرجه أبو داود في سننه (3384) 3: 256 كتاب البيوع، باب في المضارب يخالف. وأخرجه الترمذي في جامعه (1258) 3: 559 كتاب البيوع، باب. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2402) 2: 803 كتاب الصدقات، باب الأمين يتجر فيه فيربح.

ولأنه حصل له المأذون فيه [وزيادة. وأما كونه يصح شراء شاة تساوي ديناراً بأقل منه؛ فلأنه حصل المقصود وزيادة لأن ذلك مأذون فيه] (¬1) عرفاً لأن من رضي بشراء شيء بدينار يرضى به بأقل منه. وأما كونه لا يصح إذا كانت كل واحدة من الشاتين تساوي أقل من دينار؛ فلأن الحجة في الصحة ما تقدم من حديث عروة ولا يدل على هذا. ولأنه لم يحصل المقصود فلم يقع البيع له لكونه غير مأذون فيه لفظاً ولا عرفاً. وأما كونه لا يصح إذا كانت الشاة الموكل في شرائها بدينار تساوي أقل منه؛ فلأن ذلك غير موكل فيه لفظاً ولا عرفاً. قال: (وليس له شراء معيب؛ فإن وجد بما اشترى عيباً فله الرد، فإن قال البائع: موكلك قد رضي بالعيب فالقول قول الوكيل مع يمينه أنه لا يعلم ذلك، فإن رده فصدق الموكل البائع في الرضى بالعيب فهل يصح الرد؟ على وجهين). أما كون الوكيل ليس له شراء معيب؛ فلأن الإطلاق يقتضي السلامة، ولذلك ملك المشتري الرد في البيع إذا ظهر معيباً. وأما كونه له الرد إذا وجد بما اشترى عيباً؛ فلأنه قائم في الشراء مقام الموكِّل، ولو وجد الموكل العيب ملك الرد. فكذلك من أقيم مقامه. وأما كونه يُقبل قول الوكيل مع يمينه في أنه لا يعلم برضى موكله؛ فلأنه منكر والقول قول المنكر مع يمينه. فإن قيل: لم وجبت اليمين على الوكيل، ولم كانت على نفي العلم؟ قيل: أما الأول؛ فلأنه يجوز أن يعلم ذلك وذلك مسقط للرد، وأما الثاني؛ فلأن اليمين على فعل الغير. وأما كون الرد ما صح إذا صدق الموكل البائع في الرضى بالعيب على وجهٍ؛ فلأن رضى الموكل بالعيب عزل للوكيل عن الرد ومنع له بدليل أن الوكيل لو علمه لم يكن له الرد. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

وأما كونه يصح على وجهٍ؛ فلأن عزل الوكيل لا يحصل إلا بعد علمه به على روايةٍ فيكون الرد حينئذ صادف ولاية. قال: (وإن وكله في شراء معين فاشتراه ووجده معيباً فهل له الرد قبل إعلام الموكِّل؟ على وجهين). أما كون الوكيل له الرد على وجهٍ؛ فلأن الإذن يقتضي السلامة. أشبه ما لو وكله في شراء موصوف. وأما كونه ليس له ذلك على وجهٍ؛ فلأن الموكَّل قطع نظره واجتهاده بالتعيين. قال: (وإن قال: اشتر لي بعين هذا الثمن فاشترى له في ذمته لم يلزم الموكِّل، وإن قال اشتر لي في ذمتك وأنقد الثمن فاشترى بعينه صح). أما كون الموكِّل لا يلزمه ما اشتراه الوكيل في ذمته مع تعيين (¬1) الموكل الثمن؛ فلأنه إذا تعين الثمن فسخ العقد بتلفه فلم يلزمه ثمن في ذمته، وفي هذا غرض صحيح فلا تجوز مخالفته، ولا يلزم قبوله لعدم تناول أمره له لفظاً وعرفاً. وأما كون شراء الوكيل بعين الثمن يصح إذا قال الموكل: اشتر لي في ذمتك وأنقد الثمن؛ فلأن الموكل أمره بعقدٍ يلزمه الألف مع بقاء الألف وتلفها، وقد عقد عقداً يلزمه الألف مع البقاء دون التلف. قال المصنف في المغني: ويحتمل أن لا يصح لأنه قد يكون له غرض في الشراء في الذمة لكون المال فيه شبهه لا يحب أن يقع العقد به، أو يحب أن يقع العقد على وجهٍ لا ينفسخ بالتلف فلا يجوز مخالفة غرضه. قال: (فإن أمره ببيعه في سوق بثمن فباعه في سوق آخر صح. وإن قال: بعه لزيد فباعه من غيره لم يصح). أما كون البيع يصح إذا قال: بعه في سوق كذا بكذا فباعه بذلك في آخر؛ فلأن الغرض البيع بما قدره له وقد حصل. ¬

_ (¬1) في هـ: تعين.

وأما كونه لا يصح إذا قال: بعه لزيد فباعه من غيره؛ فلأنه قد يقصد نفع زيد أو نفع المبيع بايصاله إليه فلا يجوز مخالفته. قال: (وإن وكله في بيع شيء ملك تسليمه ولم يملك قبض ثمنه إلا بقرينة، فإن تعذر قبضه لم يلزم الوكيل شيء). أما كون الوكيل في بيع شيء يملك تسليمه؛ فلأن العرف يقتضيه. ولأنه من تمام العقد وحقوقه ولا يلحقه تهمة في تسليمه. وأما كونه لا يملك قبض الثمن مع عدم القرينة؛ فلأن اللفظ لا يتناوله ولا قرينة تدل عليه فلم يملكه كما لو لم يوكله. ولأن الموكِّل قد يرضى للبيع من لا يرضاه للقبض. وقال المصنف في المغني: ويحتمل أن يكون له قبض الثمن لأنه موجب عقد البيع. وأما كونه يملك القبض مع القرينة؛ فلأن القرينة تجري مجرى التصريح. فكذلك هاهنا. وأما كونه لا يلزمه شيء إذا تعذر قبض الثمن؛ فلأنه ليس بمفرط لكونه لا يملكه. قال: (وإن وكله في بيع فاسد أو كلِّ قليل وكثير لم يصح. وإن وكله في بيع ماله كله صح. وإن قال: اشتر لي ما شئت أو عبداً بما شئت لم يصح حتى يذكر النوع وقدر الثمن. وعنه: ما يدل على أنه يصح). أما كون التوكيل في البيع الفاسد لا يصح؛ فلأن الله تعالى لم يأذن فيه فكان وجود التوكيل فيه كعدمه. وأما كونه لا يصح في كل قليل وكثير؛ فلأن فيه غرراً عظيماً وخطراً كبيراً وربما باع كل ماله المحتاج إليه وغيره فيتضرر به ويعظم ضرره. وأما كونه يصح في بيع ماله كله؛ فلأنه يعرف ماله فيقل الضرر. وأما كونه إذا قال: اشتر لي ما شئت أو عبداً بما شئت ولم يذكر النوع وقدر الثمن لا يصح على المذهب؛ فلأن ما يمكن شراؤه ويمكن الشراء به يكثر فيكثر الغرر.

وأما كونه يصح على روايةٍ؛ فلأنه إذن في التصرف فجاز من غير تعيين؛ كالإذن في التجارة. وظاهر كلام المصنف رحمه الله اعتبار ذكر النوع وقدر الثمن جميعاً وهو قول أبي الخطاب. وقال القاضي: يكفي ذكر النوع لأن الغرر يقل. وأما كونه يصح إذا قال ذلك وذكر النوع وقدر الثمن فلا شبهة فيه لانتفاء الغرر المتقدم ذكره فيه. قال: (وإن وكله في الخصومة لم يكن وكيلاً في القبض، وإن وكله في القبض كان وكيلاً في الخصومة في أحد الوجهين). أما كون الوكيل في الخصومة لا يكون وكيلاً في القبض؛ فلأن الإذن لم يتناوله نطقاً ولا عرفاً؛ إذ ليس في العرف أن من يرضاه للخصومة يرضاه للقبض. ومعنى الوكالة في الخصومة الوكالة في إثبات الحق. وأما كون الوكيل في القبض وكيلاً في الخصومة في وجه؛ فلأنه لا يتوصل إلى القبض إلا بالخصومة فكان مأذوناً فيها من جهة العرف. ولأن القبض لا يتم إلا بها فملكها؛ كما لو وكله في شراء شيء فإنه يملك تسليم ثمنه، أو في بيع شيء فإنه يملك تسليمه. وأما كونه لا يكون وكيلاً فيها في وجه؛ فلأنهما معنيان مختلفان فالوكيل في أحدهما لا يكون وكيلاً في الآخر؛ كما لا يكون وكيلاً في القبض إذا وكل في الخصومة.

قال: (وإن وكله في قبض الحق من إنسان لم يكون (¬1) له قبضه من وارثه، وإن قال: اقبض حقي الذي قَبِلَه فله القبض من وارثه، وإن قال: اقبضه اليوم لم يملك قبضه غداً). أما كون الوكيل في قبض الحق من إنسان لا يكون له قبضه من وارثه؛ فلأن الوكيل إنما يتصرف بالإذن فإذا لم يكن إذن وجب المنع من القبض لزوال صحة التصرف. وأما كونه له القبض منه إذا قال: اقبض حقي الذي قَبِلَه؛ فلأن الوكالة تعم قبض حقه مطلقاً فتشمل القبض من الوارث لأنه من حقه. وأما كونه لا يملك قبضه غداً إذا قال له: اقبضه اليوم؛ فلأنه ليس توكيل فيه لأن الوكالة مقيدة بزمان فإذا انقضى زالت الوكالة. قال: (وإن وكله في الإيداع فأودع ولم يشهد لم يضمن، وإن وكله في قضاء دين فقضاه ولم يشهد وأنكر الغريم ضمن إلا أن يقضيه بحضرة الموكِّل). أما كون الوكيل في الإيداع لا يضمن إذا أودع ولم يشهد على المودع؛ فلأن القول قول المودَع في الرد والهلاك فلم يكن الوكيل مفرطاً في عدم الإشهاد. وأما كون الوكيل في قضاء الدين يضمن إذا قضاه ولم يشهد وأنكر الغريم ولم يكن القضاء بحضرة الموكِّل؛ فلأنه مفرط حيث لم يشهد. ولأنه أذن له في قضاء دين مبرئ ولم يوجد. وظاهر هذا أنه يضمن سواء صدقه الموكل أو كذبه، وصرح به المصنف في المغني ونسبه إلى القاضي؛ لما ذكر من التفريط. وأما كونه لا يضمن إذا قضاه بحضرة الموكِّل؛ فلأن التفريط من الموكِّل حيث لم يشهد ولم يأمره بالإشهاد. ¬

_ (¬1) في هـ: لا يكن.

فصل [في أحكام الوكالة] قال المصنف رحمه الله: (والوكيل أمين لا ضمان عليه فيما تلف في يده بغير تفريط. والقول قوله مع يمينه في الهلاك ونفي التفريط. ولو قال: بعتُ الثوب وقبضتُ الثمن فتلف فالقول قوله). أما كون الوكيل أميناً لا ضمان عليه فيما تلف في يده بغير تفريط؛ فلأنه نائب المالك في اليد والتصرف فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك، فجرى مجرى المودِع والمضارب والشريك والوصي وشبههم. ومفهوم قوله: بغير تفريط وجوب الضمان إذا فرّط؛ مثل: أن لا يحفظه في حرز مثله، وما أشبه ذلك. وصرح به في المغني لأنه مفرط فلزمه الضمان لتفريطه. ومثل التفريط التعدي فيما وكّله فيه؛ مثل: أن يركب الدابة أو يلبس الثوب أو يطلب منه المال فيمتنع من دفعه لغير عذر لأن التعدي أبلغ من التفريط. وأما كون القول قوله مع يمينه في الهلاك ونفي التفريط؛ فلأنه أمين. ولأن الأصل براءة ذمته مما يُدّعى عليه. وأما كونه يُقبل قوله إذا قال: بعت الثوب وقبضت الثمن فتلف؛ فلأنه أمين. ولأنه يتعذر إقامة البينة على ذلك فلا (¬1) يكلفها كالمودَع. ولأنه لو كلف إقامة البينة على ذلك لامتنع الناس من الدخول في الوكالة مع دعوى الحاجة إليها. وقال القاضي: إذا ادعى الهلاك بأمر ظاهر كالحريق والنهب وشبههما كلف إقامة البينة على ذلك، وقبل قوله في نفس التلف. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

قال: (وإن اختلفا في رده إلى الموكِّل فالقول قوله إن كان متطوعاً، وإن كان بجعل فعلى وجهين. وكذلك يُخَرَّج في الأجير والمرتهِن). أما كون القول قول الوكيل بغير جُعْلٍ في الرد؛ فلأنه قبض المال لمنفعة [مالكه فقط فقبل قوله في الردّ؛ كالمودِع. وأما كون الوكيل بجُعْلٍ لا يقبل قوله على وجهٍ؛ فلأنه قبض المال لمنفعة] (¬1) نفسه. أشبه المستعير. وأما كونه يقبل على وجهٍ؛ فلأنه لا منفعة له في العين المقبوضة لأن منفعته بالجعل دونها. وأما كون الأجير والمرتهن يُخَرَّج فيهما ما ذكر في الوكيل بجُعْل؛ فلاشتراك الكل في قبض العين لمنفعة القابض. قال: (وإن قال: أذنت لك في البيع (¬2) نسأ وفي الشراء بخمسة فأنكره فعلى وجهين). أما كون القول قول المالك في النسأ ومقدار الثمن على وجهٍ؛ فلأن القول قوله في أصل الوكالة. فكذلك في صفتها. وأما كون القول قول الوكيل على وجهٍ؛ فلأنه أمين في التصرف فكان القول قوله في صفته كالخياط. قال: (وإن قال: وكلتني أن أتزوج لك فلانة ففعلتُ وصدقته المرأة فأنكره فالقول قول المنكر بغير يمين. وهل يلزم الوكيل نصف الصداق؟ على وجهين). أما كون القول قول المدعى عليه الوكالة؛ فلأنه منكرها والأصل معه. وأما كون ذلك بغير يمين؛ فلأن الوكيل بعد العقد يدعي حقاً لغيره لا لنفسه. ومقتضى هذا التعليل أن المرأة لو ادعته وجبت (¬3) اليمين. وصرح به المصنف في المغني؛ لأنه يحتمل كونها صادقة فيستحلف لذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: أذنت لي البيع. (¬3) ساقط من هـ.

وأما كون الوكيل يلزمه نصف الصداق على وجهٍ؛ فلأن الوكيل ضامن للثمن في البيع وللبائع مطالبته به فكذا هاهنا. وأما كونه لا يلزمه؛ فلأن دعوى المرأة على الموكِّل دون الوكيل فلم يلزم الوكيل شيء لعدم الدعوى عليه. قال: (ويجوز التوكيل بجُعْلٍ وبغيره؛ فلو قال: بع ثوبي بعشرة فما زاد فلك صح. نص عليه). أما كون التوكيل يجوز بجعل؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم على ذلك جعلاً». ولأن تصرفه لغيره لا يلزمه فجاز أخذ العوض كرد الآبق. وأما كونه يجوز بغير جعل؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل أنيساً في إقامة الحد» (¬1) و «عروة في شراء شاةٍ ولم يجعل لهما شيئاً» (¬2). وأما كونه يصح إذا قال: بع ثوبي بعشرة فما زاد فلك؛ فلأن ابن عباس كان لا يرى بأساً بذلك. ولأنه تصرف في ماله بإذنه فصح شرط الربح كالمضارب والعامل في المساقاة. ¬

_ (¬1) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل قال المصنف رحمه الله: (فإن كان عليه حقٌّ لإنسان فادعى رجل أنه وكيل صاحبه في قبضه فصدقه لم يلزمه الدفع إليه وإن كذبه لم يستحلف، فإن دفعه إليه فأنكر صاحب الحق الوكالة حلف ورجع على الدافع وحده، وإن كان المدفوع وديعة فوجدها أخذها وإن تلفت فله تضمين من شاء منهما ولا يرجع من ضمنه على الآخر). أما كون المدعى عليه لا يلزمه الدفع مع التصديق؛ فلأن عليه فيه تبعة لجواز أن ينكر الموكِّل الوكالة فيستحق الرجوع عليه. وأما كونه لا يستحلف مع التكذيب؛ فلأنه لا فائدة في استحلافه؛ إذ فائدة الاستحلاف الحكم عليه بالنكول ولو أقر لم يلزمه الدفع فكيف يقضى عليه بالنكول. وأما كون صاحب الحق يحلف إذا أنكر الوكالة؛ فلأنه يحتمل صدق الوكيل في الوكالة. ولأن صاحب الحق منكر للوكالة واليمين تجب على المنكر لقوله عليه السلام: «البينةُ على المدعِي واليمينُ على المنكر» (¬1). وأما كون صاحب الحق يرجع على الدافع وحده إذا كان المدعي حقاً في الذمة؛ فلأن حقه في ذمته لم يبرأ منه بتسليمه إلى غير وكيله. وأما كونه يأخذ العين إذا كان المدفوع وديعة فوجدها؛ فلأنها عين حقه. وأما كونه له تضمين من شاء من الدافع والقابض؛ فلأن الدافع ضمنها بالدفع والقابض قبض ما لا يستحقه. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (51) 4: 217 كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك، في المرأة تقتل إذا ارتدت.

وأما كون من ضمنه لا يرجع على الآخر؛ فلأن كل واحد منهما يدعي أن ما يأخذه المالك ظلم، ويقر بأنه لم يوجد من صاحبه تعد والظلم لا يرجع به من (¬1) ظلم على غيره. قال: (وإن كان ادعى أن صاحب الحق أحاله به ففي وجوب الدفع إليه مع التصديق، واليمين مع الإنكار وجهان). أما كون الدفع لا يجب مع التصديق على وجهٍ؛ فلأنه معترف أن الحق له لا لغيره. أشبه الوارث. قال المصنف في المغني: الأول أشبه؛ لأن العلة في جواز منع الوكيل كون الدافع لا يبرأ، وهي موجودة هاهنا، والعلة في وجوب الدفع إلى الوارث كونه مستحقاً والدافع إليه يبرأ وهذا متخلِّف هاهنا فإلحاقه بالوكيل أولى. وأما كون اليمين تجب مع الإنكار على وجهٍ ولا تجب على وجهٍ فمخرج على الخلاف في وجوب الدفع مع التصديق وعدم وجوبه. قال: (وإن ادعى أنه مات وأنا وارثه لزمه الدفع إليه مع التصديق، واليمين مع الإنكار). أما كون المدعى عليه ما ذكر يلزمه الدفع مع التصديق؛ فلأنه مقر له بالحق فلزمه الدفع كما لو جاء صاحب الحق. وأما كونه يلزمه اليمين مع الإنكار؛ فلأن الدفع واجب، واليمين على نفي العلم؛ لأنها على فعل الغير. ¬

_ (¬1) في هـ: على من.

كتاب الشركة

كتاب الشركة (¬1) الشركة هي: الاجتماع في استحقاق أو تصرف. وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {فهم شركاء في الثلث} [النساء: 12]، وقوله: {وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض} [ص: 24]. والخلطاء هم الشركاء. وأما السنة فما روي «أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين. فاشتريا فضة بنقد ونسيئة. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه» (¬2) رواه البخاري بمعناه. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا» (¬3). وروي أنه كان يقول: «إن الله يقول: أنا ثالثُ الشريكينِ ما لم يخنْ أحدهما صاحبه، فإذا خانَ أحدهما صاحبهُ خَرجتُ من بينهما» (¬4) رواه أبو داود. وأما الإجماع فأجمعت الأمة في الجملة على جواز الشركة. ¬

_ (¬1) ورد العنوان في هـ: باب الشركة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1955) 2: 726 كتاب البيوع، باب التجارة في البر. بمعناه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1589) 3: 1212 كتاب المساقاة، باب النهي عن بيع الورق بالذهب ديناً. بمعناه. وأخرجه أحمد في مسنده (18820) ط إحياء التراث. واللفظ له. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (140) 3: 35 كتاب البيوع. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3383) 3: 256 كتاب البيوع، باب في الشركة.

قال المصنف رحمه الله: (وهي على (¬1) خمسة أضرب: أحدها: شركة العنان. وهي: أن يشترك اثنان بماليهما ليعملا فيه ببدنيهما وربحه لهما. فينفذ تصرف كل واحد منهما فيهما بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه). أما كون الشركة على خمسة أضرب؛ فلأنها شركة عنان، ومضاربة، ووجوه، وأبدان، ومفاوضة. وتلك خمسة. وأما كون أحدها: شركة العنان فظاهر. وهي صحيحة بالإجماع. وسميت بذلك لأن الشريكين فيها متساويان في المال والتصرف؛ كالفارسين إذا استويا (¬2) فرسيهما وتساويا في السير. وقال الفراء: هي مشتقة من عَنّ الشيء إذا عرض. يقال عنّت لي حاجة إذا عرضت. فسميت الشركة بذلك لأن كل واحد منهما عَنّ له أن يشارك صاحبه. وقيل: هي مشتقة من المعاننة وهي المعارضة يقال: عاننت فلاناً إذا عارضته بمثل ماله أو فعاله. فكل واحد من الشريكين معارض بماله وفعاله. وأما كون صفتها كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأنها تجمع مالاً وعملاً من كل جانب لأن المال لو كان من جانب والعمل من آخر لكانت مضاربة. وأما كون الربح لهما؛ فلأنه نماء ملكهما وعملهما. وليس مراد المصنف رحمه الله التسوية في الربح بل الربح هاهنا على ما شرطاه. ويجوز متساوياً ومتفاضلاً لأن الربح يستحق بالمال تارة وبالعمل أخرى دليله المضارب فإنه يستحق جزءاً من الربح ولا مال له بل عمل، والعمل قد يتفاوت فيجوز أن يتفاوت الربح لذلك. وأما كون تصرف كل واحد منهما ينفذ في نصيبه بالملك وفي نصيب شريكه بالوكالة أما الأول فظاهر، وأما الثاني؛ فلأنه متصرف بجهة الإذن وذلك معنى الوكالة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في و: سويا.

قال: (ولا تصح إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون رأس المال دراهم أو دنانير. وعنه: تصح بالعروض ويجعل رأس المال قيمتها وقت العقد. وهل تصح بالمغشوش والفلوس؟ على وجهين). أما كون شركة العنان لا تصح إلا بشرطين فلما يأتي ذكره فيهما. وأما كون أحد الشرطين: أن يكون رأس المال دراهم أو دنانير على المذهب؛ فلأن الشركة بغير ذلك: إما أن تقع على الأعيان، أو على القيمة، أو على الثمن. والأول باطل لأن العقد يقتضي الرجوع عند المفاصلة برأس المال ولا مثل له فيرجع به، والثاني مثله لأن القيمة [قد تزيد بحيث يستوعب جميع الربح وقد تنقص بحيث يشاركه الآخر في ثمن ملكه الذي ليس بربح. ولأن القيمة] (¬1) غير متحققة المقدار فيفضي إلى التنازع. والثالث مثله لأن الثمن معدوم حال العقد. وأما كونها تصح بالعروض (¬2) على روايةٍ؛ فلأن مقصود الشركة أن يملك كل واحد منهما نصف مال الآخر وينفذ تصرفهما فيه، وهذا موجود في العروض فوجب أن يصح فيهما كالأثمان. فعلى هذا يُقَوَّم وقت العقد وتجعل القيمة رأس المال ليتمكن العامل من رد رأس المال عند التفاصل. والأول المذهب. قاله المصنف رحمه الله في المغني. وفيما تقدم تنبيه على الفرق بين الأثمان والعروض فلا يصح قياسها عليه. وأما كون الشركة بالمغشوش والفُلوس لا تصح على وجهٍ؛ فلأن المغشوش لا ينضبط غشه فلا يمكن رد مثله، والفلوس تزيد وتنقص قيمتها. أشبهت العروض. وأما كونها تصح على وجهٍ؛ فلأن المغشوش يصير غشه كالمستهلك، والفلوس تشبه الثمن. ولهذا منع الإمام رضي الله عنه من السَّلَم فيها. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) مثل السابق.

قال: (والثاني: أن يشترطا لكل واحد جزءاً (¬1) من الربح مشاعاً معلوماً. فإن قالا: الربح بيننا فهو بينهما نصفين. فإن لم يذكرا الربح، أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً أو دراهم معلومة، أو ربح أحد الثوبين لم يصح. وكذلك الحكم في المساقاة والمزارعة). أما قول المصنف رحمه الله: والثاني أن يشترطا لكل واحد جزءاً من الربح فظاهره أن ذلك شرط لصحة الشركة. وقوله بعد ذلك: فإن لم يذكرا الربح أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً أو دراهم معلومة أو ربح أحد الثوبين لم يصح صريح فيه. ووجهه (¬2) أن عقد الشركة مبني على أن الربح مستحق لهما بحسب الاشتراط فلم يكن بد من ذكره؛ كالمضاربة. فعلى هذا لو تشاركا ولم يذكرا الربح كانت الشركة باطلة لفوات شرطها. وأما كونه يشترط كون الجزء مشاعاً؛ فلأنه لو عين له دراهم معلومة لاحتمل أن يربح غيرها فيأخذ جميع الربح، واحتمل أن لا يربحها فيأخذ من رأس المال جزءاً، وقد يربح كثيراً فيستضر من شرطت له الدراهم. وأما كونه يشترط كون الجزء معلوماً؛ فلأن الجهل به يفضي إلى التنازع. وأما كون الربح بين الشريكين نصفين إذا قالا: الربح بيننا؛ [فلأن لفظ بيننا] (¬3) لا رجحان فيه لأحد الشريكين على الآخر. ولهذا لو كانت دار في يد شخص فقال: هي بين زيد وعمرو (¬4) كانت لهما نصفين. وأما كونه لا يصح إذا لم يذكرا الربح أو شرطاه غير مشاع أو مجهولاً؛ فلما تقدم من اشتراط ذلك كله. وأما كون الحكم في المساقاة والمزارعة كالحكم في الشركة في اشتراط ذلك كله؛ فلاشتراك الكل في المعنى الموجب للاستواء حكماً. هذا تعليل (¬5) كلام المصنف. وفيما ¬

_ (¬1) في هـ: جزء. (¬2) في هـ: ووجه. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) في هـ: وعمر. (¬5) في هـ: التعليل.

قاله نظر نقلاً ودليلاً: أما النقل فذكر المصنف في المغني كلاماً يتضمن صحة العقد إذا لم يذكرا الربح فقال جواباً عن قول الشافعي رحمه الله: الربح على قدر المال بدليل أنه يصح عقد الشركة وإطلاق الربح فلا يجوز تغييره بالشرط كالخسران: أما حالة الإطلاق فإنه لما لم يكن شرطٌ يُقَسَّم الربحُ عليه ويتقدر به قدرناه بالمال فإذا وجد الشرط فهو الأصل. وهذا يتضمن صحة العقد مع عدم الاشتراط من وجهين: أحدهما: أنه لم يجبه بالمنع. والثاني: أنه قسم الربح على قدر المال ولم يذكر الرجوع بأجرة العمل على وجه. وقال في موضع آخر: والحكم في الشركة كالحكم في المضاربة في معرفة ما لكل واحد منهما من الربح. ثم قال: إلا أنهما إذا أطلقا الربح اقتضى أن يكون بينهما على قدر المالين وشركة الوجوه على قدر ملكيهما في المشترى لأن لهما أصلاً يرجع إليه ويقدر الربح به بخلاف المضاربة. وأما الدليل فما ذكره المصنف من أن رأس المال في الشركة يتقدر به الربح فلا يؤدي إلى المنازعة بخلاف المضاربة فإنه إذا لم يكن يذكر نصيب العامل من الربح أدى إلى جهالة ما يستحقه العامل من الربح؛ لأنه لا مال له يرجع في نصيبه إليه. قال: (ولا يشترط أن يخلطا المالين، ولا أن يكونا من جنس واحد). أما كون الشركة لا يشترط فيها أن يخلط الشريكان المالين؛ فلأنه (¬1) عقد يقصد به الربح فلم يشترط فيه خلط المال كالمضاربة، أو يقال: عقد على (¬2) التصرف فلم يكن من شرطه الخلط؛ كالوكالة. وأما كونها لا يشترط فيها أن يكونا من جنس واحد؛ فلأنهما من جنس الأثمان فصحت الشركة فيهما كالجنس الواحد. فعلى هذا يصح أن يخرج الواحد دراهم والآخر دنانير وإذا أرادا القسمة أخذ صاحب الدراهم دراهمه وصاحب الدنانير دنانيره ثم يقتسمان ما فضل بشرطه. ¬

_ (¬1) في هـ: فلأنها. (¬2) في هـ: يفيد.

قال: (وما يشتريه كل واحد منهما بعد عقد الشركة فهو بينهما. وإن تلف أحد المالين فهو من ضمانهما. والوضيعة على قدر المال). أما كون ما يشتريه كل واحد من الشريكين بعد عقد الشركة بينهما؛ فلأنهما لو اشتريا ذلك بعد الاختلاط لكان الحكم كذلك فكذا إذا لم يختلطا. وأما كون تلف أحد المالين من ضمانهما؛ فلأنه صار في حكم مالهما بعقد الشركة فوجب أن يكون من ضمانهما كالمختلط. وأما كون الوضيعة على قدر المال؛ فلأن الوضيعة عبارة عن نقصان رأس المال وهو مختص بالقدر فيكون النقص منه دون غيره.

فصل [في أحكام شركة العنان] قال المصنف رحمه الله: (ويجوز لكل واحد منهما أن يبيع، ويشتري، ويَقبض، ويُقبض، ويطالب بالدين، ويخاصم فيه، ويحيل، ويحتال، ويرد بالعيب، ويقر به، ويقايل، ويفعل كل ما هو من مصلحة تجارتهما). أما كون كل واحد من الشريكين يجوز له البيع والشراء؛ فلأنه بالنسبة إلى شريكه وكيل، فَمَلكهما كالوكيل. وأما كونه يجوز له القبض والإقباض؛ فلأنه مؤتمن في ذلك فَمَلكهما. بخلاف الوكيل في قبض الثمن لما تقدم (¬1) فإنه قد لا يأتمنه. وأما كونه يجوز له المطالبة بالدين والمخاصمة فيه؛ فلأن من ملك قبض شيء ملك المطالبة به والمخاصمة فيه. دليله ما لو وكله في قبض دينه. وأما كونه يجوز له الحوالة والاحتيال؛ فلأنهما عقد معاوضة وهو يملك المعاوضة. وأما كونه يجوز له الرد بالعيب؛ فلأن الوكيل يرد به فالشريك بطريق الأولى. وأما كونه يجوز له الإقرار بالعيب؛ فلأن الوكيل يُقبل إقراره على موكِّله بذلك. نص عليه لأنه تولى بيع السلعة فقبل إقراره بالعيب كمالكها. وأما كونه يجوز له المقايلة؛ فلأنها قد يكون الحظ فيها. وظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أنه يجوز له الإقالة مطلقاً. وقال في المغني: إن قلنا هي بيع ملكها؛ لأنه يملك البيع وإن قلنا هي فسخ لم يملكها لأن الفسخ ليس من التجارة. ثم قال: وقد ذكرنا أن الصحيح أنها فسخ فلا يملكها. وأما كونه يجوز له فعل كل ما هو من مصلحة التجارة؛ فلأن ذلك عادة التجار، وقد أُذِن له في التجارة. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وليس له أن يكاتب الرقيق، ولا يزوجه، ولا يعتقه بمال، ولا يهب، ولا يقرض، ولا يحابي، ولا يضارب بالمال، ولا يأخذ سفتجة، ولا يعطيها إلا بإذن شريكه). أما كون كل واحد من الشريكين ليس له فعل شيء مما ذكر إذا لم يأذن شريكه له؛ فلأن الشركة تنعقد على التجارة، وليست هذه الأشياء تجارة فلا يملكها. وأما كونه له ذلك إذا أذن شريكه له؛ فلأنه يكون بمنزلة الوكيل. قال: (وهل له أن يودع، أو يبيع نسأ، أو يبضع، أو يوكل فيما يتولى مثله، أو يرهن، أو يرتهن؟ على وجهين). أما كون كل واحد من الشريكين له الإيداع والبيع نسأ والإبضاع على وجهٍ؛ فلأن ذلك عادة التجار. وأما كونه ليس له ذلك على وجهٍ فلما في ذلك من الغرر. وأما كونه له أن يوكل وكونه ليس له ذلك فمبني على توكيل الوكيل وقد تقدم (¬1). وقيل: يجوز هنا بخلاف الوكيل لأن وكيل الوكيل يستفيد مثل عقد موكله بخلاف وكيل الشريك فإنه لا يستفيد مثل عقد موكله بل يستفيد ما هو أخص منه. وأما كونه له الرهن على ما عليهما والارتهان على مالهما في وجه؛ فلأن الرهن يراد للإيفاء وهو يملكه، [والارتهان يراد للاستيفاء وهو يملكه] (¬2). وأما كونه ليس له ذلك على وجهٍ؛ فلما فيه من الخطر. قال: (وليس له أن يستدين على الشركة. فإن فعل فهو عليه وربحه له إلا أن يأذن شريكه). أما كون الشريك ليس له أن يستدين على مال الشركة إذا لم يأذن شريكه في ذلك؛ فلأنه إذا استدان أدخل في الشركة أكثر مما رضي الشريك بالمشاركة فيه. فعلى ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ساقط من هـ.

هذا ربحه له وضمانه عليه؛ لأنه لم يقع للشركة فكان ربحه له وضمانه عليه كما لو لم ينوه للشركة. وأما كونه له أن يستدين على الشركة إذا أذن له شريكه في ذلك؛ فلأنه مأذون له في ذلك. أشبه البيع والشراء. فعلى هذا يكون ربحه لهما وضمانه عليهما كسائر أموال الشركة. قال: (وإن أخر حقه من الدين جاز. وإن تقاسما الدين في الذمة لم يصح في إحدى الروايتين. وإن أبرأ من الدين لزم في حقه دون صاحبه. وكذلك إن أقر بمال. وقال القاضي: يقبل إقراره على مال الشركة). أما كون الشريك يجوز له أن يؤخر حقه من الدين؛ فلأنه إسقاط لحقه من المطالبة فجاز أن ينفرد به كالإبراء. وأما كون الشريكين إذا تقاسما الدين في الذمة -وهو: أن يكون على جماعة دين فيتفق الشريكان على أن يكون لأحدهما ما على فلان وللآخر ما على فلان-: لا يصح في روايةٍ؛ فلأن الذمم لا تتكافأ ولا تتعادل والقسمة تقتضي التعادل وإذا لم يحصل التعادل تكون القسمة بمنزلة البيع، وبيع الدين بالدين لا يجوز. وأما كونه يصح في روايةٍ؛ فلأن الاختلاف لا يمنع القسمة قياساً على اختلاف الأعيان. وقول المصنف رحمه الله: في الذمة ظاهر في الذمة الواحدة كإنسان عليه دين لهما، ويجوز أن يشمل ما فسرناه أولاً، ويجب حمله عليه؛ لأنه قال في المغني بعد ذكر قَسْم ما في الذمم: هذا إذا كان في ذمم فأما في الذمة الواحدة فلا يمكن القسمة؛ لأن معنى القسمة إفراز، ولا يتصور ذلك في ذمة واحدة. وأما كون الشريك تلزمه البراءة في حقه دون صاحبه فيما إذا أبرأ من الدين؛ فلأن شريكه إنما أذن له في التجارة وليس الإبراء داخلاً فيها. وأما كون حكم إقراره بمال حكم إبرائه من الدين على المذهب؛ فلما ذكر في الإبراء.

وأما كونه يقبل إقراره على مال الشركة على قول القاضي؛ فلأنه يجوز له الشراء نسأ وهو إقرار ببقاء الثمن. قال: (وعلى كل واحد منهما أن يتولى ما جرت العادة أن يتولاه من نشر الثوب وطيه وختم الكيس وإحرازه. فإن استأجر من يفعل ذلك فالأجرة عليه. وما جرت العادة أن يستنيب فيه فله أن يستأجر من يفعله. فإن فعله ليأخذ أجرته فهل له ذلك؟ على وجهين). أما كون كل واحد من الشريكين عليه أن يتولى ما جرت عادة الشريك أن يتولاه؛ فلأن ذلك هو المعتاد فحمل الإطلاق عليه كالحِرْز والقبض. وأما قول المصنف: من نشر الثوب وطيه وختم الكيس وإحرازه فبيان لصورٍ جرت العادة أن يتولاها كل واحد من الشريكين. وأما كون الأجرة عليه إذا استأجر من يفعل ذلك؛ فلأن العمل عليه. فكذلك بدله. وأما كونه له أن يستأجر من يفعل ما جرت العادة أن يستنيب فيه كالنداء وحمل المتاع ونحوهما؛ فلأن العادة لم تجر بفعل الشريك ذلك بنفسه، ولا بد من فعله لأن الحاجة تدعو إليه. فعلى هذا إن فعله متبرعاً فلا شيء له، وإن فعله ليأخذ أجرته فهل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا شيء له؛ كما لو فعله متبرعاً. والثاني: له ذلك لأنه فعل ما لا بد من فعله فاستحق الأجرة عليه كما لو دفعه إلى من يفعله. وحكى المصنف في المغني هذين الوجهين روايتين ثم قال: والصحيح أنه لا شيء له؛ لأنه عمل عملاً في مال غيره لم يجعل له في مقابلته شيء. فلم يستحق شيئاً؛ كالأجنبي.

فصل [في شروط الشركة] قال المصنف رحمه الله: (والشروط في الشركة ضربان: صحيح؛ مثل: أن يشترط أن لا يتجر إلا في نوع من المتاع، أو بلد بعينه، أو لا يبيع إلا بنقد معلوم، أو لا يسافر بالمال، أو لا يبيع إلا من فلان. وفاسد؛ مثل: أن يشترط ما يعود بجهالة الربح، أو ضمان المال، أو أنّ عليه من الوضيعة أكثر من قدر ماله، أو أن يوليه ما يختار من السلع، أو يرتفق بها، أو لا يفسخ الشركة مدة بعينها. فما يعود بجهالة الربح يفسد به العقد. ويُخَرَّج في سائرها روايتان). أما كون شروط الشركة ضربين صحيحاً وفاسداً؛ فلأنها عقد فكان فيها شروط صحيحة وأخرى فاسدة كالبيع. وأما كون شرط أن لا يتجر إلا في نوع من المتاع، أو بلد بعينه، أو لا يبيع إلا بنقد معلوم، أو لا يسافر بالمال، أو لا يبيع إلا من فلان من الشروط الصحيحة؛ فلأن تصرف الشريك في مال شريكه إنما هو بطريق الوكالة، وغير ما ذكر غير موكل فيه فلم يكن شرط عدم التصرف فيه فاسداً. وأما كون باقي الشروط المذكورة فاسداً: أما ما يعود بجهالة الربح، كما مثّل المصنف رحمه الله؛ فلأنه يفضي إلى جهل حق كل واحد منهما من الربح، ومن شرط صحة الشركة كونه معلوماً. وأما ضمان المال وأن (¬1) عليه من الوضيعة أكثر من قدر ماله؛ فلأنه ينافي مقتضى العقد لما تقدم من أن الوضيعة على قدر المال. ¬

_ (¬1) في هـ: فإت.

وأما توليته ما يختار من السلع وارتفاقه بها؛ فلأن ذلك لا مصلحة للعقد فيه. أشبه ما ينافيه. وأما كونه لا يفسخ الشركة مدةً بعينها؛ فلأن الشركة عقد جائز، واشتراط لزومها ينافي مقتضاها؛ كالوكالة. وأما كون ما يعود بجهالة الربح يَفسد به العقد؛ فلأن الفساد لمعنى (¬1) في العوض المعقود عليه فأفسد العقد؛ كما لو جُعل رأس المال خمراً أو خنزيراً. وأما كون سائرها يُخَرَّج فيه روايتان؛ فبالقياس على الروايتين في فساد البيع بذكر الشرط الفاسد فيه (¬2). قال: (وإذا فسد العقد قسم الربح على قدر المالين. وهل يرجع أحدهما بأجرة عمله؟ على وجهين). أما كون الربح يقسم على قدر المالين إذا فسد العقد؛ فلأن الربح تابع للمال. وأما كون كل واحد يرجع بأجرة عمله على وجهٍ؛ فلأنه إنما عمل في مقابلة ما يحصل له، فإذا فات الربح تعينت الأجرة. وأما كونه لا يرجع على وجهٍ؛ فلأنه عمل (¬3) عملاً لغيره لم يجعل له في مقابلته شيء. أشبه الأجنبي. ¬

_ (¬1) في هـ: في المعنى. (¬2) ر ص: 64. (¬3) ساقط من هـ.

فصل [في المضاربة] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: المضاربة. وهي: أن يدفع ماله إلى آخر يتجر فيه، والربح بينهما). أما كون الثاني من أضرب الشركة المضاربة؛ فلأنها تلي الأول. والمضاربة مشتقة من الضرب في الأرض والسفر بها للتجارة. قال الله تعالى: {وآخرُون يَضربون في الأرض يبتغون من فضلِ الله} [المزمل: 20]. ويحتمل أن يكون من ضرب كل واحد منهما في الربح ويسمى قراضاً. واشتقاقه من القطع يقال: قرض الفأر الثوب أي قطعه. فكأن صاحب المال قطع من ماله قطعة وسلمها إلى العامل واقتطع له قطعة من الربح. وقيل: اشتقاقه من المساواة والموازنة. يقال: تقارض الشاعران (¬1) إذا وازن كل واحد منهما الآخر بشعره. وهاهنا من العامل العمل ومن الآخر المال فتوازنا. وأجمع أهل العلم على صحتها في الجملة. وروى حميد بن عبدالله عن أبيه عن جده «أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيمٍ مضاربة يعمل به في العراق» (¬2). وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه «أن عبدالله وعبيدالله ابني عمر بن الخطاب خرجا في جيشٍ إلى العراق فتسلفا من أبي موسى مالاً وابتاعَا به متاعاً وقدمَا به إلى المدينة فباعَاهُ وربحا فيه. فأراد عمرُ أخذَ رأسِ المال والربح كله. فقالا: لو تلف كان ضمانُه علينا فَلِمَ لا يكونُ ربحهُ لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين! لو جعلتَهُ قِراضاً. قال: قد جعلته. وأخذ منهما نصف الربح» (¬3). وهذا يدل على صحة القراض. ¬

_ (¬1) في هـ: الشاعر. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (21361) 4: 395 كتاب البيوع، في مال اليتيم يدفع مضاربة. (¬3) أخرجه مالك في الموطأ (1) 2: 529 كتاب القراض، باب ما جاء في القراض. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 110 كتاب القراض.

وروي «عن عثمان (¬1)، وعلي (¬2)، وابن مسعود، وحكيم بن حزام (¬3) أنهم قارضوا». ولا مخالف لهم في الصحابة فكان إجماعاً. ولأن بالناس حاجة إلى المقارضة فإن الدراهم والدنانير لا تنمى إلا بالتقليب والتجارة، وليس كلُّ من يملكها يحسن التجارة، [ولا كل من يحسن التجارة] (¬4) له رأس مال (¬5) فاحتيج إليها من الجانبين فشرعها الله تعالى لدفع الحاجتين. وأما قول المصنف: وهي أن يدفع ماله ... إلى آخره فبيان لمعنى المضاربة شرعاً. قال: (فإن قال: خذه فاتجر به والربح كله لي فهو إبضاع. وإن قال: والربح كله لك فهو قرض. وإن قال: والربح بيننا فهو بينهما نصفين). أما كون قول رب المال: خذه فاتجر به والربح كله لي فهو إبضاعاً؛ فلأنه قرن به حكم الإبضاع فانصرف إليه. وأما كون قوله: فاتجر به والربح كله لك قرضاً؛ فلأن اللفظ يصلح له وقد قرن به حكمه فانصرف إليه. وأما كون الربح بينهما نصفين فيما إذا قال: الربح بيننا؛ فلأنه أضافه إليهما إضافة واحدة لم يترجح فيها أحدهما على صاحبه فاقتضى التسوية كما تقدم في الشركة (¬6)، وكما لو قال: هذه الدار بيني وبين عمرو. ¬

_ (¬1) أخرج مالك في موطئه عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه: «أن عثمان أعطاه مالاً مقارضة». كتاب القراض، باب: ما جاء في القراض. (¬2) أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن الشعبي عن علي: «في المضاربة: الوضيعة على المال، والربح على ما اصطلحوا عليه». (15087) 8: 248 كتاب البيوع، باب: نفقة المضارب ووضيعته. (¬3) أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن حكيم بن حزام: «أنه كان يدفع المال مضاربة إلى أجل». 6: 111 كتاب البيوع. (¬4) ساقط من هـ. (¬5) في هـ: المال. (¬6) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن قال: خذه مضاربة والربح كله لك أو لي لم يصح. وإن قال: لك ثلث الربح صح والباقي لرب المال. وإن قال: ولي ثلث الربح فهل يصح؟ على وجهين. وإن اختلفا لمن الجزء المشروط فهو للعامل). أما كون قول رب المال: خذه مضاربة والربح كله لك أو لي لا يصح؛ فلأن المضاربة تقتضي كون الربح بينهما، فإذا شرط اختصاص أحدهما بالربح فقد شرط ما ينافي مقتضاها. أشبه ما لو شرط الربح في شركة لأحدهما. وأما كون قوله: لك ثلث الربح يصح؛ فلأن نصيب العامل معلوم. وأما كون الباقي لرب المال؛ فلأنه لا يحتاج إلى ذكر نصيبه لأنه يستحق الربح بماله لكونه نماؤه وفرعه. وأما كون قوله: ولي ثلث الربح يصح على وجهٍ؛ فلأن الربح لا يستحقه غيرهما فإذا شرط لأحدهما شيء علم أن الباقي للآخر كما علم كون ثلث الميراث للأب من قوله: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11]. وأما كونه لا يصح على وجهٍ؛ فلأن العامل إنما يستحق بالشرط ولم يشرط له شيء. وأما كون الجزء المشروط للعامل إذا اختلفا لمن هو؛ فلأن الشرط له لأن رب المال يستحق الربح بماله والعامل بعمله والعمل يقل ويكثر وإنما تتقدر حصته بالشرط فكان له. قال: (وكذلك حكم المساقاة والمزارعة. وحكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله أو لا يفعله وما يلزمه فعله (¬1) وفي الشروط. وإن فسدت فالربح لرب المال وللعامل الأجرة. وعنه: له الأقل من الأجرة أو ما شرط له من الربح). أما كون حكم المساقاة والمزارعة حكم المضاربة؛ فلأن كل واحد من العامل في المساقاة والمزارعة والمضاربة إنما يستحق بفعله وفي ذلك مساواة بينهم معنى فوجب أن يحصل التساوي بينهم حكماً. فإن قيل: ما المقصود بالتشبيه هنا؟ ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

قيل: هو أن صاحب الشجر والأرض إذا قال: الثمرة أو الزرع بيننا فالثمرة أو الزرع بينهما نصفين، وإذا قال: لك ثلث ذلك صح والباقي لرب الشجرة أو الأرض، وإذا قال: ولي ثلث ذلك فعلى وجهين. وأما كون حكم المضاربة حكم الشركة فيما تقدم ذكره؛ فلاشتراكهما في التصرف بالإذن. وأما كون الربح لرب المال إذا فسدت المضاربة؛ فلأنه نماء ملكه والعامل إنما يستحق بالشرط فإذا جهل لم يستحق المشروط. وأما كون العامل له أجرة المثل على المذهب؛ فلأن عمل العامل إنما كان في مقابلة المسمى فإذا لم تصح التسمية وجب رد عمله عليه، وذلك متعذر فوجب له أجرة المثل كما لو اشترى شراء فاسداً فقبضه وتلف. وأما كونه له الأقل من الأجرة أو ما شرط له من الربح؛ فلأنه إن كان الأقل الأجرة فهو لا يستحق غيرها لبطلان الشرط، وإن كان الأقل المشروط فهو قد رضي به. قال: (وإن شرطا تأقيت المضاربة فهل تفسد؟ على روايتين). أما كون المضاربة تفسد بشرط تأقيتها على روايةٍ؛ فلأنه شرط ينافي مقتضى العقد. وأما كونها لا تفسد على روايةٍ؛ فلأن ذلك قد يكون فيه لرب المال غرض صحيح. فإن قيل: الحكم المذكور داخل فيما تقدم من قوله: وحكم المضاربة حكم الشركة لأنه قال: وفي الشروط. وقد تقدم في الشركة (¬1): أن من الشروط الفاسدة أن يشترط أن لا يفسخ الشركة مدة بعينها وهو المعنيّ بالتأقيت؟ قيل: ليس الأمر كذلك؛ لأن معناهما (¬2) مختلف، ولذلك حكى المصنف رحمه الله الخلاف المذكور في الكافي في صحة التأقيت لا في فساد الشرط المتقدم ذكره. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: معناها.

قال: (وإن قال: بع هذا العرض وضارب بثمنه، أو اقبض وديعتي وضارب بها، أو إذا قدم الحاج فضارب بهذا صح. وإن قال: ضارب بالدَّين الذي عليك لم يصح). أما كون المضاربة تصح فيما إذا قال: بع هذا العرض وضارب بثمنه؛ فلأنه إذا باعه صار الثمن في يده أمانة فصار كما لو كان المال عنده وديعة. وأما كونها تصح فيما إذا قال: اقبض وديعتي وضارب بها؛ فلأن الوديعة إذا قبضها صارت أمانة في يده فوجب أن تصح المضاربة بها كما تقدم، وكما لو قال: ضارب بهذه الألف التي في زاوية البيت. وأما كونها تصح فيما إذا قال: إذا قدم الحاج فضارب بهذا؛ فلأنها عقد يتصرف فيه بالإذن فجاز أن يقع معلقاً كالوكالة. وأما كونها لا تصح فيما إذا قال: ضارب بالدين الذي عليك؛ فلأن المال الذي في يد الغريم له، وإنما يصير لغريمه بقبضه، وما قبضه، ولا يصح قبض الإنسان من نفسه. قال: (وإن أخرج مالاً ليعمل هو فيه وآخر والربح بينهما صح. ذكره الخرقي. وقال القاضي: إذا شرط المضارب أن يعمل معه رب المال لم يصح، وإن شرط عمل غلامه فعلى وجهين). أما كون ما ذكر يصح على قول الخرقي؛ فلأن العمل أحد ما يتم به المضاربة فصح أن ينفرد به أحدهما مع وجود الأمرين من الآخر كما لو كان من أحدهما مال ومن الآخر عمل ومال. وأما كونه لا يصح إذا شرط المضارب عمل رب المال معه على قول القاضي؛ فلأن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى المضارب فإذا شرط عليه العمل لم يتسلمه؛ لأن يده عليه وذلك يخالف مقتضاها. وأما كونه يصح إذا شرط عمل غلامه على وجهٍ؛ فلأن عمل الغلام يصح أن يكون تابعاً لعمل العامل بخلاف عمل سيده.

ولأن (¬1) عمل الغلام مال لسيده فصح ضمه إليه كما يصح أن يضم إليه بهيمة يحمل عليها. وأما كونه لا يصح على وجهٍ؛ فلأن يد الغلام كيد سيده وعمله كعمله. ¬

_ (¬1) في هـ: فلأن.

فصل قال المصنف رحمه الله: (وليس للعامل شراء من يعتق على رب المال. فإن فعل صح وعتق وضمن ثمنه. وعنه: يضمن قيمته علم أو لم يعلم. وقال أبو بكر: إن لم يعلم لم يضمن. ويحتمل أن لا يصح البيع). أما كون العامل ليس له شراء من يعتق على رب المال؛ فلأن عليه في ذلك ضرراً. ولأن المضاربة عقدت للربح حقيقة أو مظنة وذلك منتف في شراء من ذكر. وأما كون الشراء يصح إذا فعل ذلك على المذهب؛ فلأنه مال متقوم، قابل للعقود فصح شراء العامل له كما لو اشترى من نذر رب المال حريته إذا ملكه. وأما كون المشتري يعتق؛ فلأن رب المال ملكه وذلك موجب للعتق لما يأتي في موضعه. وأما كون العامل يضمن ثمنه على المذهب؛ فلأن التفريط فيه حصل. وأما كونه يضمن قيمته على روايةٍ؛ فلأنه تلف بفعله. أشبه ما لو قتله. وأما كونه يضمن عَلِمَ أو لم يَعْلم على المذهب؛ فلأن الإتلاف لا فرق فيه بينهما. وأما كونه لا يضمن على قول أبي بكر إن لم يعلم؛ فلأنه معذور حيث لم يعلم. والأول أصح. قاله في المغني لما تقدم. وأما كونه يحتمل أن لا يصح البيع؛ فلأن الإذن في المضاربة إنما ينصرف إلى ما يمكن بيعه والربح فيه، ومن يعتق على رب المال ليس كذلك. والأول أصح؛ لأن ما ذكر ثانياً ينتقض (¬1) بشراء من نذر رب المال حريته إذا ملكه. ¬

_ (¬1) في هـ: ذكرنا يناقض.

قال: (وإن اشترى امرأته صح وانفسخ نكاحها). أما كون شراء المضارب من ذكر يصح؛ فلأنه اشترى ما يمكن طلب الربح فيه فصح كما لو اشترى أجنبية. وأما كون النكاح ينفسخ؛ فلأن المرأة دخلت في ملك زوجها وذلك موجب للفسخ لما يأتي. ولم يذكر المصنف رحمه الله هنا وجوب الضمان على العامل وصرح في المغني بأن ما يجب على الزوج يرجع (¬1) به على العامل إذا كان قبل الدخول لأنه قرره عليه فرجع به عليه كما لو أفسدت المرأة النكاح بالرضاع. قال: (وإن اشترى من يعتق على نفسه ولم يظهر ربح لم يعتق، وإن ظهر ربح فهل يعتق؟ على وجهين). أما كون من ذكر لا يعتق مع عدم ظهور الربح؛ فلأن العامل لا يملك العبد وإنما هو ملك رب المال. وأما كونه يعتق مع ظهور الربح ففيه وجهان مبنيان على أن العامل هل يملك نصيبه من الربح بالظهور أو بالقسمة وفيه روايتان. فإن قيل: إنه يملكه بالظهور عتق عليه لأنه ملكه بفعله فعتق عليه كما لو اشتراه بماله. وأطلق المصنف رحمه الله العتق وظاهره عتق كله. وقال في المغني: يعتق عليه بقدر حصته من الربح إن كان معسراً ويقوم عليه باقيه إن كان موسراً. وعلى اليسار أو أن له من الربح ما يقابل قيمة العبد المعتق يجب حمل كلام المصنف رحمه الله هنا. وإن قيل: لا يملك إلا بالقيمة لم يعتق عليه لأنه ما ملكه. ¬

_ (¬1) في هـ: ويرجع.

وحكى في المغني وجهاً ثالثاً: أنه لا يعتق وإن قيل أنه يملك بالظهور؛ لأن الربح وقاية لرأس المال فلم يعتق لأن ملكه لم يتم عليه. قال: (وليس للمضارب أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول. فإن فعل رد نصيبه من الربح في شركة الأول). أما كون المضارب ليس له أن يضارب لآخر مع الضرر على الأول؛ فلأن المضاربة تنعقد على الحفظ والنماء، فإذا فعل ما يمنعه من ذلك لم يكن له؛ كما لو أراد التصرف بالعين. وأما كونه يرد نصيبه من ربح المضاربة الثانية في المضاربة الأولى؛ فلأنه استحق ذلك بالمنفعة التي استحقت بالعقد الأول فكان بينهما كالأول. وفي تقييد المصنف رحمه الله قوله: وليس للمضارب أن يضارب لآخر بكونه فيه ضرر على الأول إشعار بأنه إذا لم يكن فيه ضرر على الأول له ذلك وهو صحيح؛ لأن المانع الضرر ولا ضرر هنا. ولأن عقد المضاربة لا يقتضي ملك كل منافع العامل. قال: (وليس لرب المال أن يشتري من مال المضاربة شيئاً لنفسه. وعنه: يصح. وكذلك شراء السيد من عبده المأذون). أما كون رب المال ليس له أن يشتري من مال المضاربة شيئاً لنفسه على المذهب؛ فلأنه ملكه فلم يكن له شراءه؛ كما لو اشترى ذلك من وكيله أو عبده المأذون الذي لا دين عليه. وأما كونه يصح على روايةٍ؛ فلأنه قد تعلق حق المضارب به فجاز له شراءه؛ كما لو اشترى من مكاتبه. والأول أصح؛ لما ذكر. والفرق بين مال المضاربة وبين المكاتب أن السيد لا يملك ما في يده ولهذا لا يزكي ما في يده ويؤخذ منه بالشفعة. وأما كون شراء السيد من عبده المأذون كشراء رب المال من مال المضاربة؛ فلأن ما ذكر جار فيه.

فإن قيل: ظاهر التشبيه جريان الخلاف في شراء السيد من عبده مطلقاً. قيل: مُسَلَّم. لكن يجب حمل الجواز على ما إذا كان عليه دين بقدر قيمته لأن المسألة قد تقدمت في باب المأذون مقيدة بذلك. قال المصنف في المغني: والصحيح الأول لما تقدم من أنه ملكه. واستحقاق أخذ ما في يده لا يوجب زوال الملك. دليله مال المفلس. قال: (وإن اشترى أحد الشريكين نصيب شريكه صح. وإن اشترى الجميع بطل في نصيبه. وفي نصيب شريكه وجهان. ويتخرج أن يصح في الجميع). أما كون شراء أحد الشريكين نصيب شريكه يصح؛ فلأنه ملك غيره فصح شراؤه له كالأجنبي. وأما كونه يبطل في نصيبه إذا اشترى الجميع؛ فلأنه مِلْكُه، ولا يصح شراء الإنسان ذلك. وأما كون نصيب شريكه فيه وجهان فمبنيان على تفريق الصفقة. وأما كونه يتخرج أن يصح في الجميع فمبني على أن لرب المال الشراء من مال المضاربة. ذكره المصنف في المغني. قال: (وليس للمضارب نفقة إلا بشرط. فإن شرطها له وأطلق فله جميع نفقته من المأكول والملبوس بالمعروف. فإن اختلفا رجع في القوت إلى الإطعام في الكفارة، وفي الملبوس إلى أقلِّ ملبوسِ مثله). أما كون المضارب ليس له نفقة مع عدم الشرط؛ فلأنه دخل على أنه يستحق من الربح الجزء المسمى فلم يكن له غيره. ولأنه لو استحق النفقة لأفضى إلى أن يختص بالربح إذا لم يربح سوى ما أنفقه. وأما كونه له النفقة مع الشرط فلقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون على شروطهم» (¬1) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح. وأخرجه الترمذي في جامعه (1352) 3: 634 كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس.

وتصح مقدرة ولا نزاع فيه، ومطلقاً لأن له معهود يرجع فيه إليه فإذا أطلقا كان له نفقة مثله بالمعروف لأنه كذلك تجب لمن تجب عليه نفقته. وأما كونه يرجع مع الاختلاف في القوت إلى الإطعام في الكفارة (¬1)، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله؛ فلأن المطلق من كلام الآدميين محمول على المقيد من كلام الشرع وهو كذلك. وفيما ذكره المصنف رحمه الله نظر؛ لأنه إن لحظت الكفارة في ذلك فليرجع في القوت والملبوس إليها، وإن لحظ حاله فليرجع فيهما إلى قوت (¬2) مثله وملبوس مثله؛ كالزوجة. وهو أشبه. وحكاه صاحب المحرر فيه ولم يحك ما تقدم ذكره. قال: (وإن أذن له في التسري فاشترى جارية ملكها وصار ثمنها قرضاً. نص عليه). أما كون العامل يملك الجارية؛ فلأن رب المال أذن له في التسري، والإذن في التسري يستدعي الإذن في الوطء، والوطء لا يجوز في غير عقد نكاح أو ملك يمين لقوله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: 6]، ولا عقد نكاح هنا. فيتعين الملك. وأما كون ثمنها يصير قرضاً؛ فلأن المال لربه ولم يوجد منه ما يدل على تبرعه فوجب كونه قرضاً لأنه المتيقن. قال: (وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال. وإن اشترى سلعتين فربح في إحداهما وخسر في الأخرى، أو تلفت جُبرت الوضيعة من الربح). أما كون المضارب ليس له ربح حتى يستوفي رأس المال؛ فلأن معنى الربح هو الفاضل عن رأس المال فإذا لم يفضل فليس بربح. ¬

_ (¬1) في هـ: في الإطعام. (¬2) في هـ: فليرجع فيها قوت.

وأما كون الوضيعة تجبر من الربح في صورتي الخسران والتلف؛ فلأن تلك مضاربة واحدة فجبرت الوضيعة من الربح؛ كما لو اشترى شيئاً فربح فيه في وقت وخسر فيه في آخر قبل فسخ المضاربة. قال: (وإن تلف بعض رأس المال قبل التصرف فيه انفسخت فيه المضاربة. وإن تلف المال ثم اشترى سلعة للمضاربة فهي له وثمنها عليه إلا أن يجيزه رب المال. وإن تلف بعد الشراء فالمضاربة بحالها والثمن على رب المال). أما كون المضاربة تنفسخ في التالف فيما إذا تلف بعض رأس المال قبل التصرف فيه؛ فلأنه تلف قبل التصرف. أشبه التالف قبل القبض. وأما كون السلعة المشتراة للمضاربة بعد تلف المال للمضارب إذا لم يجز الشراء رب المال؛ فلأن المضاربة انفسخت بالتلف فالشراء بعده شراء غير مستند إلى إذن. فعلى هذا يكون ثمنها عليه لأن الثمن على من له الملك. وأما كونها لرب المال إذا أجاز ذلك فمبني على تصرف الفضولي إذا أجازه المالك وفيه خلاف تقدم ذكره وتعليله (¬1). وأما كون المضاربة بحالها إذا كان التلف بعد الشراء؛ فلأن الموجب لفسخ المضاربة التلف ولم يوجد حين الشراء ولا قبله. فعلى هذا يكون الثمن على رب المال لأن الشراء صادف المضاربة بحالها وذلك يوجب كون الشراء له فيكون الثمن عليه. قال: (وإذا ظهر الربح لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذن رب المال. وهل يملك العامل حصته من الربح قبل القسمة؟ على روايتين). أما كون العامل ليس له أن يأخذ شيئاً من الربح مع عدم إذن رب المال فيه فلثلاثة أوجه: أحدها: أن الربح وقاية لرأس المال فلا يأمن الخسران الذي ينجبر بالربح. وثانيها: أن رب المال شريكه فلم يكن له مقاسمة نفسه بغير إذنه. ¬

_ (¬1) ص: 386.

وثالثها: أن ملكه متزلزل لأنه بعرضية أن يخرج عن يده بجبران خسارة المال. وأما كونه له ذلك مع الإذن؛ فلأن الحق لهما غير خارج عنهما. وأما كون العامل يملك حصته من الربح قبل القسمة على روايةٍ؛ فلأن الشرط صحيح ويقتضي أن يكون له (¬1) جزء من الربح فإذا وجد وجب أن يملكه بحكم الشرط؛ كما يملك المساقي حصته من الثمرة بعد ظهورها، وقياساً على كل شرط صحيح في عقد. وأما كونه لا يملكها إلا بالقسمة على روايةٍ؛ فلأنه لو ملكها بالظهور لكان ربحها له، ولوجب أن يكون شريكاً لرب المال كشريكي العنان. والأولى أصح. قال صاحب المغني فيه: ظاهر المذهب أنه يملك بالظهور ودليله ما مر. ولأنه يملك المطالبة بالقسمة فلو لم يكن له ملك لم يملك المطالبة بملك غيره. ولا يمتنع أن يملك وتكون وقاية لرأس المال كنصيب رب المال من الربح. قال: (وإن طلب العامل البيع فأبى رب المال أجبر إن كان فيه ربح، وإلا فلا). أما كون رب المال يجبر على البيع إذا طلبه العامل وكان في المال ربح؛ فلأن مع الربح له فيه حق فأجبر الممتنع من أدائه؛ كسائر الحقوق. وأما كونه لا يجبر إذا لم يكن فيه ربح؛ فلأنه لا حق له فيه. أشبه ما لو لم يضاربه. قال: (وإن انفسخ القراض والمال عرض فرضي رب المال أن يأخذ بماله عرضاً أو طلب البيع فله ذلك، وإن كان ديناً لزم العامل تقاضيه). أما كون رب المال له أن يأخذ بماله عرضاً إذا انفسخ القراض والمال عرض؛ فلأن غاية ما في ذلك أنه يحتاج إلى التقويم لأن العامل يستحق الربح إلى حين الفسخ وذلك لا يضر. دليله المستعير إذا غرس أو بنى، والمشتري إذا فعل ذلك فإن المعير يأخذ ذلك بالقيمة إذا رجع، والشفيع يأخذه بها إذا طلب الشفعة. أو يقال: إذا أخذ المعير والشفيع ملك غيره بالقيمة؛ فلأن يأخذ رب المال ماله بالقيمة بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

وأما كونه له طلب البيع؛ فلأن رب المال استحق على المضارب أن يرد المال ناضاً كما أخذه وفي البيع تحصيل لذلك. وأما كون العامل يلزمه تقاضي الدين؛ فلأن المضاربة تقتضي رد المال على صفته، والديون لا تجري مجرى المال الناضّ فلزمه أن ينضه؛ كما يلزمه بيعه لو كان عرضاً. قال: (وإن قارض في المرض فالربح من رأس المال وإن زاد على أجرة المثل، ويقدم به على سائر الغرماء). أما كون الربح من رأس المال فيما ذكر؛ فلأنه عوض عن عمله. وأما كون الزيادة منه أيضاً؛ فلأن ما يحدث من الربح يحدث على ملك العامل بخلاف ما لو حابى المستأجر الأجير فإنه يحتسب (¬1) بما حاباه من ثلثه لأن الأجرة تؤخذ من ماله. وأما كون العامل يقدم بذلك على سائر الغرماء؛ فلأنه يملك الربح بالظهور فكان شريكاً فيه. ولأن حقه متعلق بعين المال دون الذمة فكان مقدماً على ما تعلق بالذمة؛ كحق الجناية. أو يقال: حقه متعلق بالمال قبل الموت فكان أسبق فقدم؛ كالرهن. قال: (وإن مات المضارب ولم يعرف مال المضاربة فهو دين في تركته وكذلك الوديعة). أما كون مال المضاربة يصير ديناً في تركة الميت إذا لم يعرف بعينه؛ فلأن الأصل بقاء المال في يده، ولا سبيل إلى معرفة عينه، فتعين جعله متعلقاً بالتركة. وأما كون الوديعة كالمضاربة فلاشتراكهما في الدليل المذكور فيها. ¬

_ (¬1) في هـ: يحسب.

فصل قال المصنف رحمه الله: (والعامل أمين، والقول قوله فيما يدعيه من هلاك وخسران، وما يذكر أنه اشتراه لنفسه أو للقراض، وما يدعى عليه من خيانة). أما كون العامل أمين؛ فلأنه متصرف في مال غيره بإذنه لا لمحض منفعته فكان أميناً؛ كالوكيل. وفارق المستعير فإن قَبْضَه لمنفعته (¬1) خاصة. وأما كون القول قوله فيما يدعيه من جميع ما ذكر؛ فلأن تأمينه يقتضي ذلك. ولأنه يدعى عليه ذلك وهو ينكره، والقول قول المنكر مع يمينه. قال: (والقول قول رب المال في رده إليه، والجزء المشروط للعامل، وفي الإذن في البيع نسأ أو الشراء بكذا. وحكي عنه: أن القول قول العامل إن ادعى أجرة المثل). أما كون القول قول رب المال في رده إليه؛ فلأن العامل قبض المال لمنفعة نفسه فلم يقبل قوله في رده؛ كالمستعير. وفارق المودع من حيث إن قبضه لمنفعة غيره. وأما كون القول قول رب المال في الجزء المشروط للعامل؛ مثل أن يقول العامل: شرطتَ لي النصف، فيقول رب المال: بل الثلث على المذهب؛ فلأنه ينكر الزائد والعامل يدعيه والقول قول المنكر. وأما كون القول قول العامل إن ادعى أجرة المثل أو زيادة يتغابن الناس بمثلها على روايةٍ؛ فلأن الظاهر صحة قول من ادعى ذلك. ولم يذكر المصنف قبول قوله في زيادة يتغابن الناس بمثلها فيحتمل أنه لم يره، ويحتمل أنه تركه ليعلم من الكتب المطولة. وقد صرح في المغني والكافي بقبول قوله مع ذلك على الرواية المذكورة. ¬

_ (¬1) في و: لمنفعة.

وأما الإذن في البيع نسأ فالمنقول فيه أن القول قول العامل. كذا ذكره في المغني، ولم يحك فيه خلافاً. وذكره بقية الأصحاب. ووجهه: أن العامل أمين، فقبل قوله في ذلك. ولم أجد بما قاله المصنف رواية ولا وجهاً عن أحد من المتقدمين. غير أن صاحب المستوعب حكى بعد قوله: القولُ قول العامل أن ابن أبي موسى قال: ويتجه أن يكون القول قول رب المال. وربما حكى بعض المتأخرين في ذلك وجهاً. وأظنه أخذه من كلام المصنف رحمه الله هنا، أو ظن قول ابن (¬1) أبي موسى يقتضي ذلك. وفي (¬2) الجملة لقبول قول رب المال وجه من الدليل لو وافق رواية أو وجهاً لأن رب المال يدعي عليه العامل أنه أذن له في البيع نسأ وهو ينكره والقول قول المنكر. وأما كون القول قول رب المال في الشراء بكذا؛ مثل أن يقول العامل: أذنت لي في شراء كذا بعشرة فيقول رب المال: بل أذنت فيه بخمسة؛ فلأنه منكر للإذن فكان القول قوله. ولأن قول العامل لو قبل لألزمنا رب المال بخمسة لم يعترف بها ولا دليل عليها لأن الإذن في النسأ كالإذن في المقدار. فإن قيل: لم قُبِل قول رب المال في المقدار دون النسأ على المنصوص؟ قيل: لم يوجد في الإذن في المقدار قرينة تدل على صدق العامل، والأصل ينفي قوله، فوجب العمل به لأنه مقتض، سلم عن المعارض. بخلاف الإذن في النسأ فإن فيه قرينة تدل على صدق العامل فعارضت الأصل. بيان القرينة: أن عقد المضاربة مبني على الربح والنسأ مظنته فمن ادعى ما يقتضي حصوله يكون معه قرينة حالية دالة (¬3) على صدقه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: في. (¬3) في هـ: عن دالة.

قال: (وإن قال العامل ربحت ألفاً ثم خسرتها أو هلكت قُبِل قوله. وإن قال: غلطت لم يقبل قوله). أما كون العامل يقبل قوله في دعوى الخسارة والهلاك بعد الإقرار بالربح؛ فلأنه أمين يقبل قوله في تلف المال وخسارته فقبل قوله في خسارة الربح وهلاكه لاشتراك الكل في المعنى الموجب لاشتراكه حكماً. وأما كونه لا يقبل قوله في دعوى الغلط؛ فلأنه مقر فلا يقبل قوله في الرجوع عن إقراره كغيره من المقرين.

فصل [في شركة الوجوه] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: شركة الوجوه. وهي: أن يشتركا على أن يشتريا بجاههما دينا فما ربحا فهو بينهما. فكل واحد منهما وكيل صاحبه كفيل عنه بالثمن. والملك بينهما على ما شرطاه، والوضيعة على قدر ملكيهما فيه والربح على ما شرطاه (¬1). ويحتمل أن يكون على قدر ملكيهما. وهما في التصرفات كشريكي العنان). أما كون الثالث من أضرب الشركة: شركة الوجوه؛ فلأنها تلي الثاني. وأما كونها تصح؛ فلأن معناها وكالة كل واحد منهما صاحبه في الشراء والبيع والكفالة بالثمن وكل ذلك صحيح. وأما قول المصنف رحمه الله: وهي أن يشتركا ... إلى كفيل عنه بالثمن فبيان لمعناها. وأما كون الملك بينهما على ما شرطاه؛ فلأن العقد مبناه على الوكالة فتقيد بما أذن فيه. وأما كون الوضيعة على قدر ملكيهما؛ فلأنها كذلك في شركة العنان فليكن هاهنا كذلك. وأما كون الربح على ما شرطاه (¬2) على المذهب؛ فلأن العمل بينهما قد يتساويا فيه بحسب الشرط كالعنان. ¬

_ (¬1) في هـ: شرطا. (¬2) في هـ: شرطا.

وأما كونه يحتمل أن يكون على قدر ملكيهما؛ فلأن الربح هاهنا يستحق بالضمان وهو لا يضمن بطريق الأصالة إلا قدر ملكه فلا يكون له من الربح إلا قدر ملكه «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن» (¬1). وأما كون تصرفهما كتصرف شريكي العنان؛ فلأن كل واحد من شريكي العنان متصرف في نصيبه بطريق الأصالة وفي نصيب شريكه بطريق الوكالة، وبعد أخذ شريكي الوجوه المال بجاههما يكون تصرف كل واحد منهما في نصيبه بطريق الأصالة وفي نصيب شريكه بطريق الوكالة، فوجب جعل تصرفهما كتصرف شريكي العنان. ضرورة استوائهما في جهة التصرف. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3504) 3: 283 كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده. وأخرجه الترمذي في جامعه (1234) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك. وأخرجه النسائي في سننه (4631) 7: 294 كتاب البيوع، شرطان في بيع وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة إلى شهر بكذا ... وأخرجه ابن ماجة في سننه (2188) 2: 737 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن. وأخرجه أحمد في مسنده (6628) 2: 175.

فصل [في شركة الأبدان] قال المصنف رحمه الله: (الرابع: شركة الأبدان. وهي: أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما. فهي شركة صحيحة، وما يتقبله أحدهما من العمل يصير في ضمانهما، يطالبان به ويلزمهما عمله. وهل يصح مع اختلاف الصنائع؟ على وجهين). أما كون الرابع من أضرب الشركة شركة الأبدان؛ فلأنه يلي الثالث. وأما قول المصنف رحمه الله: وهي أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما فبيان لمعنى شركة الأبدان. وأما كونها صحيحة فلما روي عن عبدالله قال: «اشتركتُ أنا وسعدٌ وعمارٌ يومَ بدرٍ. فلمْ أَجئْ أنا وعمارٌ بشيء وجاءَ سعدٌ بأسيرين» (¬1) رواه أبو داود والأثرم. ومثل هذا لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: الغنائم مشتركة بين الغانمين بحكم الله فكيف يصح اختصاص هؤلاء بالشركة فيها؟ وقال بعض الشافعية: غنائم بدر كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان له أن يدفعها إلى من شاء فيحمل أن يكون إقراره لهم على ذلك لذلك. قيل: أما الأول فلا يصح لأن غنائم بدر كانت قبل أن يشرك الله بين الغانمين فيها ولهذا نقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ شيئاً فهو له» (¬2). فكان ذلك من قِبَل المباحات مَنْ سَبَقَ إلى أخذ شيءٍ فهو له. وأما الثاني فهو مثل الأول؛ لأن الشركة كانت قبل نزول قوله تعالى: {قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1]. ويدل على صحة هذا أنها لو كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تخل: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3388) 3: 257 كتاب البيوع، باب في الشركة على غير رأس مال. وأخرجه النسائي في سننه (4697) 7: 319 كتاب البيوع، الشركة بغير مال. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2288) 2: 768 كتاب التجارات، باب الشركة والمضاربة. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 316 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب الوجه الثالث من النفل.

إما أن يكون قد أباحها لهم فتكون كالمباحات، أو لم (¬1) يبحها لهم فكيف يشتركون في شيء لغيرهم. ولأن العمل أحد جهتي المضاربة فصحت الشركة عليه كالمال. وأما كون ما يتقبله أحدهما من العمل يصير في ضمانهما يطالبان به ويلزمهما عمله؛ فلأن شركة الأبدان لا تنعقد إلى على ذلك لأنه لا شيء فيها غير ذلك تنعقد عليه. وأما كونها تصح مع اختلاف الصنائع؛ مثل: أن يكون أحدهما خياطاً والآخر قَصّاراً وما أشبه ذلك على وجهٍ وهو للقاضي؛ فلأنهما اتفقا في مكسب مباح فصح كما لو اتفقت الصنائع. وأما كونها لا تصح على وجهٍ وهو لأبي الخطاب؛ فلأن مقتضى الشركة لزوم كل واحد منهما ما يتقبله الآخر ولا يمكن القيام بذلك مع اختلاف الصنعة لأنه لا قدرة له عليه. قال: (ويصح في الاحتشاش والاصطياد والتلصص على دار الحرب وسائر المباحات). أما كون الشركة تصح في الاحتشاش؛ فلأنه اشتراك في مكسب مباح فصح كالاشتراك في القصارة والخياطة. وأما كونها في الاصطياد والتلصص على دار الحرب وسائر المباحات؛ فلأن ذلك كما تقدم معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. قال: (وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما. فإن طالبه الصحيح أن يقيم (¬2) مقامه لزمه ذلك). أما كون الكسب بينهما مع مرض أحدهما؛ فلأنه لو لم يعمل معه وهو صحيح يكون الكسب بينهما لحديث سعد المتقدم (¬3). فمع العذر بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) في هـ: ولم. (¬2) في هـ: يقوم. (¬3) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون المريض يلزمه أن يقيم مقامه إذا طلب الصحيح ذلك؛ فلأنهما دخلا على أنهما يعملان فإذا تعذر العمل بنفسه لزمه ما يقوم مقامه توفية للعقد ما يقتضيه. قال: (وإن اشتركا ليحملا على دابتيهما والأجرة بينهما صح. فإن تقبلا حمل شيء فحملاه عليهما صحت الشركة، والأجرة على ما شرطاه. وإن أجّراهما بأعيانهما فلكل واحد منهما أجرة دابته. وإن جمعا بين شركة العنان والأبدان والوجوه والمضاربة صح). أما كونه يصح أن يشترك الشريكان ليحملا على دابتيهما؛ فلأن الحمل قد يكون في الذمة فوجب صحة الشركة عليه؛ كشركة الوجوه. وأما كون الأجرة على ما شرطاه إذا تقبلا حمل شيء معلوم إلى مكان معلوم في ذممهما ثم حملاه على الدابتين؛ فلأن تقبلهما الحمل أثبت الضمان عليهما فكانت الأجرة على ما شرطاه كشريكي الوجوه. وأما كون كل واحد منهما له أجرة دابته إذا أجراهما بأعيانهما؛ فلأنه لم يجب ضمان الحمل في ذممهما وإنما استحق المستأجر منفعة البهيمة التي استأجرها فوجب أن يكون لمالكها عوض المنفعة وذلك أجرة دابته وفي كون كل واحد من الشريكين له أجرة دابته إشعار بأن الشركة على عين الدواب لا تصح وصرح به المصنف في المغني وعلله بما تقدم وبأن الشركة تتضمن الوكالة والوكالة على الوجه المذكور لا تصح ثم قال: ولهذا لو قال: أجر عبدك وتكون أجرته بيني وبينك لم يصح ولو قال: بع دارك وثمنها بيننا لم يصح. وأما كونه يصح الجمع بين شركة العنان والأبدان والوجوه والمضاربة؛ فلأن كل واحدة تصح منفردة وضم الصحيح بعضه إلى بعض لا يوجب الفساد كما لو ضم ماء طهور إلى مثله.

فصل [في شركة المفاوضة] قال المصنف رحمه الله: (الخامس: شركة المفاوضة. وهي: أن يَدخلا في الشركة الأكساب النادرة؛ كوجدان لقطة، أو ركاز، وما يحصل لهما من ميراث، وما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو أرش جناية ونحو ذلك. فهذه شركة فاسدة). أما كون الخامس من أضرب الشركة شركة المفاوضة؛ فلأنه يلي الرابع. وأما قول المصنف رحمه الله: وهي أن يدخلا في الشركة الأكساب النادرة فبيان لمعنى شركة المفاوضة. وأما قوله: كوجدان لقطة ... إلى ونحو ذلك فتعداد لصور من صور الأكساب النادرة وبيان لها. وأما كونها فاسدة؛ فلأن ذلك عقد يكثر فيه الغرر فلم يصح كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها. ودليل الغرر: أن (¬1) ما يلزم أحدهما من غرم يلزم الآخر وقد يفسد العقد بدون هذا. ولأنه عقد لم يرد الشرع بمثله فلم يصح. أو عقد لا يصح بين المسلم والكافر فلم يصح بين المسلمين كسائر العقود الفاسدة. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة». ولأنها نوع شركة مختص باسم فكانت صحيحة كشركة العنان. قيل: أما الخبر فلا يعرف، ولا رواه أصحاب السنن ثم ليس فيه ما يدل على إرادة هذه الشركة. فتحمل على المفاوضة في الحديث، ولهذا روي فيه (¬2): «ولا تجادلوا فإن المجادلة من الشيطان». ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) مثل السابق.

وأما القياس فلا يصح واختصاص الشيء باسم لا يقتضي صحته. دليله بيع المنابذة والملامسة ونحوهما.

باب المساقاة

باب المساقاة المساقاة: أن يُسَلِّم الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه، وعمل سائر ما يحتاج إليه، بجزء معلوم له من ثمره. وسميت مساقاة لأنها مفاعلة من السقي؛ لأن أهل الحجاز أكثر حاجتهم إلى السقي لأنهم كانوا يسقون من الآبار. والأصل فيها «أن النبي صلى الله عليه وسلم عاملَ أهلَ خيبرَ بشطرِ (¬1) ما يخرجُ منها من ثَمَرٍ أو زَرْعٍ» (¬2) حديث صحيح متفق عليه. قال المصنف رحمه الله: (تجوز المساقاة في النخل، وكل شجر له ثمر مأكول ببعض ثمرته). أما كون المساقاة تجوز في النخل؛ فلما تقدم من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها. ولأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فعلوا ذلك. ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة؛ لأن أرباب الثمار لا يتمكنون من عملها، والأكثر يحتاجون إلى الانتفاع بما يحصل لهم من غلتها فشرعت لذلك. وأما كونها تجوز في كل شجر له ثمر مأكول؛ فلأن ذلك مساو للنخل معنى فوجب أن يساويه حكماً. وأما قول المصنف رحمه الله: "ببعض ثمرته" ففيه تنبيه على أنه لا بد وأن يكون نصيب العامل من المساقى عليه. ¬

_ (¬1) في هـ: بشرط. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2204) 2: 820 كتاب المزارعة، باب إذا لم يشترط السنين في المزارعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1551) 3: 1186 كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع.

ولأنه لا بد وأن يكون مشاعاً. وقد تقدم ذكر ذلك في الشركة (¬1). فإن قيل: الحديث المتقدم ذكره منسوخ بما روى رافع بن خديج «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة» (¬2). وذلك معاملة أهل خيبر. قيل: هذا حديث مضطرب جداً. وقد فسره رافع في بعض الروايات بما لا يختلف في فساده. فروى البخاري بإسناده عن رافع قال: «كنا نُكري الأرض بالناحيةِ. فربما يصابُ ذلكَ وتَسْلَمُ الأرض، وربما تصابُ الأرضُ ويسلَمُ ذلك فَنُهينَا» (¬3). وروى البخاري ومسلم بإسنادهما عن طاووس قال: «إنّ أعلمَكمْ -يعني ابن عباس- أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لمْ ينهَ عنهُ. ولكن قال: لأن يمنحَ أحدكمْ أخاهُ خيرٌ لهُ منْ أنْ يأخذَ عليهِ خراجاً معلوماً» (¬4). وقد اشتهر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يرجع عن معاملة أهل خيبر حتى مات ثم عمل به أبو بكر حتى مات. ثم عمر حتى أجلى اليهود فكيف يكون منسوخاً؟ . قال: (وتصح بلفظ المساقاة والمعاملة وما في معناهما. وتصح بلفظ الإجارة في أحد الوجهين. وقد نص أحمد رحمه الله في روايةٍ جماعة فيمن قال: أجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها أنه يصح. وهذه مزارعة بلفظ الإجارة. ذكره أبو الخطاب. وقال أكثر أصحابنا: هي إجارة. والأول أقيس وأصح). أما (¬5) كون المساقاة تصح بلفظ المساقاة؛ فلأن ذلك فيها صريح فصحت كصحة سائر العقود بسائر صرائحها. وأما كونها تصح بلفظ المعاملة؛ فلما تقدم من قول الصحابي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر» (¬6). ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (3917) 7: 4 كتاب الأيمان والنذور، ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2202) 2: 820 كتاب المزارعة، باب قطع الشجر والنخل. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2205) 2: 821 كتاب المزارعة، باب إذا لم يشترط السنين في المزارعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1550) 3: 1184 كتاب البيوع، باب الأرض تمنح. (¬5) في هـ: وأما. (¬6) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونها تصح بما في معنى المساقاة والمعاملة؛ فلأن القصد المعنى فإذا أتى بما يدل عليه صح؛ كالبيع. وأما كونها تصح بلفظ الإجارة مثل أن يقول: استأجرتك لتعمل لي هذا الحائط حتى تكمل ثمرته بنصف ثمرته في وجه؛ فلأنه يحصل معنى قوله: ساقيتك على ذلك بنصف ثمرته. وأما كونها لا تصح في وجه؛ فلأنها عقد خاص فلم تصح بلفظ الإجارة كما لا تصح الإجارة بلفظ البيع. وأما الصحة فيما إذا قال: أجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها على منصوص الإمام أحمد فقد اختلف الأصحاب في معناها فقال أبو الخطاب: هي مزارعة بلفظ الإجارة ويشترط فيها شروط المزارعة وحكمها حكمها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له أرض فليزرعها ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى» (¬1) رواه أبو داود. ولأن هذا مجهول فلم يجز جعله عوضاً في الإجارة كثلث نماء أرض أخرى. وقال أكثر الأصحاب: هي إجارة يشترط فيها شروط الإجارة لأنه صرح بالإجارة. والأصل في الإطلاق الحقيقة. والأول أقيس عند المصنف وأصح لأن الحديث المتقدم يدل عليه. واللفظ قد يعدل عن حقيقته إلى مجازه إذا دل عليه الدليل، وقد دل. قال: (وهل تصح على ثمرة موجودة؟ على روايتين). أما كون المساقاة لا تصح على ما ذكر على روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» (¬2). وذلك مفقود هاهنا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3395) 3: 259 كتاب البيوع، باب في التشديد في ذلك. وأخرجه النسائي في سننه (3897) 7: 4 كتاب الأيمان والنذور، ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأن الثمرة إذا ظهرت فقد حصل المقصود فصار بمثابة مضاربته على المال بعد ظهور الربح. وأما كونها تصح على روايةٍ؛ فلأنها إذا صحت على الثمرة المعدومة مع كثرة الغرر؛ فلأن تصح مع وجودها وقلة الغرر فيها بطريق الأولى. والحديث دل بنصه على صحة المساقاة قبل الظهور وبتنبيهه على صحتها بعد الظهور وفارق المضاربة من حيث إنها بعد ظهور الربح لا تحتاج إلى عمل. واشترط المصنف رحمه الله لهذه الرواية في المغني والكافي أن يبقى من العمل ما تستزاد به الثمرة كالتأبير وإصلاح الثمرة والسقي. ثم قال في المغني: فإن لم يبق من العمل شيء تزيد به الثمرة كالجذاذ لم يجز. وهذا صحيح يجب حمل إطلاقه هنا عليه. قال: (وإن ساقاه على شجر يغرسه ويعمل عليه حتى يُثمر بجزء من الثمرة صح). أما كون المساقاة على ما ذكر تصح؛ فلأن العمل وعوضه معلومان فصحت كالمساقاة على شجر موجود. وأما قول المصنف: حتى يثمر ففيه تنبيه على أنه لو ساقاه على شجر يغرسه ويعمل عليه مدة لا يثمر في مثلها لم يصح لأن من شرط المساقاة أن يكون للعامل نصيب من الثمرة ولم يوجد. قال: (والمساقاة عقد جائز في ظاهر كلامه لا تفتقر إلى ذكر مدة. ولكل واحد منهما فسخها فمتى انفسخت بعد ظهور الثمرة فهي بينهما، وإن فسخ العامل قبل ظهورها فلا شيء له، وإن فسخ رب المال فعليه للعامل أجرة عمله، وقيل هي عقد لازم تفتقر إلى ضرب مدة تكمل الثمرة فيها). أما كون المساقاة عقداً جائزاً في ظاهر كلام الإمام أحمد فـ «لأن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بخيبر على أن يعملوها ويكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم على ذلك ما شئنا» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2213) 2: 824 كتاب المزارعة، باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1551) 3: 1187 كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع.

ولأنها لو كانت لازمة لم تجز بغير تقدير مدة. ولأنه عقد على جزء من نماء المال فكان جائزاً كالمضاربة. وأما كونها عقداً لازماً على قولٍ؛ فلأنها عقد معاوضة فكان لازماً كالإجارة. ولأنه لو كان جائزاً لجاز لرب المال الفسخ إذا أدركت الثمرة فيسقط حق العامل وذلك إضرار به. وأما كونها لا تفتقر إلى ذكر مدة على القول بأنها عقد جائز؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر لأهل خيبر مدة حين عاملهم. ولأنها عقد جائز فلم تفتقر إلى ذكر المدة؛ كسائر العقود الجائزة. وأما كون كل واحد من المتعاقدين له فسخها على ذلك؛ فلأن ذلك شأن كل عقد جائز. وأما كون الثمرة بينهما إذا حصل الفسخ بعد ظهورها؛ فلأنها ظهرت على ملكهما. وأما كون العامل إذا فسخ قبل ظهورها لا شيء له؛ فلأنه رضي بإسقاط حقه. أشبه المضارب إذا فسخ قبل ظهور الربح. وأما كون رب المال عليه للعامل أجرة عمله إذا فسخ؛ فلأنه منعه من إتمام عمله الذي استحق به العوض. أشبه الجاعل إذا فسخ الجعالة. وأما كونه يفتقر إلى ضرب مدة تكمل الثمرة فيها على القول بأنها (¬1) عقد لازم؛ فلأنها مشبهة بالإجارة فلم يكن بد من ضرب مدة يكمل فيها المقصود؛ كالإجارة. قال: (فإن جعلا مدة لا تكمل فيها لم تصح. وهل للعامل أجرة؟ على وجهين). أما كون المساقاة فيما ذكر لا تصح (¬2)؛ فلأن المقصود الاشتراك في الثمرة وذلك لا يوجد في تلك المدة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: فيما ذكر لا تصح فيما ذكر.

وأما كون العامل لا أجرة له (¬1) على وجهٍ؛ فلأنه رضي بالعمل بغير عوض فهو كالمتطوع. وأما كونه له الأجرة على وجهٍ؛ فلأن المساقاة تقتضي العوض فلا تسقط بالرضى بتركه كالوطء في النكاح. قال: (وإن جعلا مدة قد تكمل فيها وقد لا تكمل فهل تصح؟ على وجهين. فإن قلنا لا تصح فهل للعامل أجرة؟ على وجهين). أما كون المساقاة فيما ذكر تصح على وجهٍ؛ فلأن الشجر يجوز أن يحمل وأن لا يحمل. أشبه ما يحمل غالباً. وأما كونها لا تصح على وجهٍ؛ فلأنه عقد على معدوم ليس الغالب وجوده فلم يصح كالسَّلَم. وأما كون العامل له أجرة مثله إذا قيل بعدم الصحة ففيه وجهان وجههما (¬2) ما تقدم. وقال المصنف رحمه الله في المغني بعد ذكر هذه المسألة: إن قلنا هو فاسد استحق أجرة المثل سواء حمل أو لم يحمل؛ لأنه لم يرض بغير عوض ولم يسلم له العوض فكان له العوض وجهاً واحداً. بخلاف ما لو جعل الأجل إلى مدة لا يحمل في مثلها غالباً وهذا متجه؛ لأن تعليل أحد الوجهين فيما إذا كانت الشجرة لا تحمل في مدة المساقاة أنه رضي بغير عوض وهذا لا يتجه هنا. قال: (وإن مات العامل تمم الوارث، فإن أبى استؤجر على العمل من تركته، فإن تعذر فلرب المال الفسخ). أما كون وارث العامل يتمم عمل موروثه؛ فلأنه يقوم مقامه في ما له فكذا فيما عليه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: ووجههما.

وأما كونه يستأجر على العمل من تركته إذا أبى الوارث ذلك؛ فلأن العمل كان عليه فوجب أن يتعلق بتركته؛ كسائر ما عليه. وأما كون رب المال له الفسخ إذا تعذر العمل من التركة؛ فلأن تعذر المعوض في المعاملات يُثبت سَلْطَنَةَ الفسخ. دليله البيع. قال: (فإن فسخ بعد ظهور الثمرة فهي بينهما. وإن فسخ قبله فهل للعامل أجرة؟ على وجهين. وكذلك إن هرب العامل فلم يوجد له ما ينفق عليها). أما كون الثمرة بين العامل ورب المال إذا فسخ بعد ظهور الثمرة؛ فلأن الثمرة حدثت على ملكهما. وأما كون العامل له أجرة إذا فسخ رب المال قبل ظهور الثمرة على وجهٍ؛ فلأن مطلق العقد يقتضي العوض المسمى. فإذا تعذر وجب الرجوع بما يقوم مقامه. وأما كونه لا شيء له على وجهٍ؛ فلأن الفسخ بسبب من جهته. أشبه ما لو فسخ هو. وأما كون حكم العامل إذا هرب فلم يوجد له ما ينفق على الثمرة حكم ما إذا مات؛ فلأنهما اشتركا في تعذر العمل وتضرر رب المال بتعذر الفسخ فوجب اشتراكهما فيما ذكر؛ لأن الاشتراك معنى يوجب الاشتراك حكماً. قال: (وإن عمل فيها رب المال بإذن حاكم أو إشهاد رجع به، وإلا فلا). أما كون رب المال يرجع بما عمله بإذن حاكم؛ فلأن الحاكم نائب عن الغائب. وأما كونه يرجع بما عمله بإشهادٍ فينظر فيه فإن كان ذلك عند تعذر استئذان الحاكم رجع به؛ لأنه معذور لعدم القدرة على الاستئذان، وليس بمتبرع بدليل الإشهاد، وإن كان ذلك عند القدرة على الاستئذان ففيه وجهان مبنيان على من قضى دين الغير بغير إذنه. وأما كونه لا يرجع إذا لم يوجد إذن ولا إشهاد؛ فلأنه متبرع ظاهراً.

فصل [فيما يلزم العامل ورب المال] قال المصنف رحمه الله: (ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة، وزيادتها من السقي، والحرث، والزبار، والتلقيح، والتشميس، وإصلاح طرق الماء، وموضع التشميس، ونحوه. وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل: من سد الحيطان، وإجراء الأنهار، وحفر البئر، والدولاب، وما يديره. وقيل: ما يتكرر كل عام فهو على العامل، وما لا فلا). أما كون العامل يلزمه جميع ما ذكره المصنف مفصلاً على المذهب؛ فلأن العامل إنما يراد لأجل الثمرة فاقتضى أن يكون عليه ما يؤدي إلى صلاحها وزيادتها، وجميع ما ذكر يؤدي إلى ذلك. وأما كون ما يتكرر كل عام عليه في قول؛ فلأنه يتعلق بعمله فكان عليه كالحرث. وظاهر ما ذكر أن الذي يلقح به على العامل لأنه مما يتكرر. وقال المصنف في المغني: وقيل ما يتكرر كل عام على العامل إلا ما يلقح به فإنه على المالك وإن تكرر لأنه ليس بعمل. فيجب حمل كلامه هنا عليه لئلا يتناقض، ولما ذكر من الدليل. وأما كون رب المال عليه ما فيه حفظ الأصل لا غير على المذهب: أما كونه عليه ذلك؛ فلأن الأصل له فكان ما يراد لحفظه عليه. وأما كونه ليس عليه غير ذلك؛ فلعدم العلة المذكورة. وأما كونه عليه ما لا يتكرر كل عام في قولٍ؛ فلأن ذلك لا تعلق للعمل به. أشبه ما فيه حفظ الأصل. وأما قول المصنف: من سد الحيطان ... إلى آخره فتعداد لصور فيها حفظ الأصل، وبيان لها. وكل ذلك على رب المال لما تقدم ذكره.

فعلى هذا ما يدير الدولاب من بقر ونحوه على رب المال لأنه مما ذكر، وبذلك صرح أصحابنا. وقال المصنف في المغني: ذلك على العامل لأنه يراد للعمل كبقر الحرث. ولأن سقي الماء عليه إذا لم يحتج إلى دابة فكذا هاهنا. وهذا اختياره لا نقل عن غيره. قال: (وحكم العامل حكم المضارب فيما يقبل قوله فيه وما يرد. وإن ثبتت خيانته ضم إليه من يشارفه. فإن لم يمكن حفظه استؤجر من ماله من يعمل العمل). أما كون حكم العامل حكم المضارب فيما يقبل قوله فيه وما يرد؛ فلأن العامل في المساقاة أمين رب المال فوجب أن يكون حكمه حكم المضارب فيما ذكر لاشتراكهما في كونهما أميني رب المال. وأما كونه يضم أمين إلى العامل يشارفه إذا ثبتت خيانته؛ فلأنه أمكن دفع الضرر عن رب المال بذلك مع إمضاء العامل على عمله. وأما كونه يستأجر من يعمل العمل من مال العامل إذا لم يمكن حفظه؛ فلأنه تعذر استيفاء العمل منه فاستوفي بغيره كما لو هرب. قال: (وإذا شرط إن سقى سيحاً فله الربع. وإن سقى بكلفة فله النصف. وإن زرعها شعيراً فله الربع. وإن زرعها حنطة فله النصف لم يصح في أحد الوجهين. وإن قال: ما زرعت من شعير فلي ربعه، وما زرعت من حنطة فلي نصفه. أو ساقيتك هذا البستان بالنصف على أن أساقيك الآخر بالربع لم يصح وجهاً واحداً). أما كون المساقاة لا تصح فيما إذا شرط إن سقى سيحاً فله الربع، وإن سقى بكلفة فله النصف. وإن زرعها شعيراً فله الربع، وإن زرعها حنطة فله النصف في وجهٍ؛ فلأن العمل مجهول. ولأنه في معنى بيعتين في بيعه وهو قوله: بعتك بعشرة نقداً أو بعشرين نسأ.

وأما كونها تصح في وجه؛ فلأنه في معنى إن خطته رومياً فلك كذا، وإن خطته فارسياً فلك كذا، وقد صح هناك في روايةٍ فليكن هنا مثله (¬1). وأما كونها لا تصح وجهاً واحداً فيما إذا قال: ما زرعت من شعير فلي ربعه، وما زرعت من حنطة فلي نصفه؛ فلأن ما يزرعه من كل واحد من الصنفين مجهول القدر فجرى مجرى ما لو شرط في المساقاة ثلث هذا النوع ونصف النوع الآخر وهو جاهل بما فيه منهما. وأما كونها لا تصح وجهاً واحداً فيما إذا قال: ساقيتك هذا البستان بالنصف على أن أساقيك الآخر بالربع؛ فلأنه شرط عقداً في عقد فلم يصح؛ كما لو قال: بعتك هذا بكذا على أن أبيعك هذا بكذا. ¬

_ (¬1) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل في المزارعة قال المصنف رحمه الله: (وتجوز المزارعة بجزء معلوم يُجعل للعامل من الزرع. فإن كان في الأرض شجر فزارعه الأرض وساقاه على الشجر صح. ولا يشترط كون البذر من رب الأرض، وظاهر المذهب اشتراطه). أما كون المزارعة تجوز؛ فلما تقدم من «أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» (¬1) متفق عليه. قال البخاري: قال أبو جعفر: ما بالمدينةِ أهلُ بيتٍ إلا ويزرعونَ على الثلثِ والربع (¬2). وعنه قال: «عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم أهلوهم إلى اليوم». وأما كون المزارعة والمساقاة تصح فيما إذا كان في الأرض شجر فزارعه الأرض، وساقاه على الشجر؛ فلأن كل واحد منهما عقد لو انفرد لصح فإذا اجتمعا وجب أن يصحا كحالة الانفراد. وأما ما يشترط لصحة المزارعة فأمور: منها: كون نصيب العامل مشاعاً معلوماً. وقد تقدم ذكر دليله في الشركة ومساواة حكم المزارعة لحكم المساقاة فيما ذكر (¬3). وثانيها: كون البذر من رب الأرض في ظاهر المذهب؛ لأن المزارعة عقد يشترك العامل ورب الأرض في نمائه. فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ذكره البخاري في صحيحه معلقاً 2: 820 كتاب المزارعة، باب المزارعة بالشطر ونحوه. (¬3) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

كالمساقاة والمضاربة. وروي عن الإمام أحمد أنه لا يشترط ذلك. وهو اختيار المصنف لأن ابن عمر قال: «دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها» (¬1). وفي لفظ: «على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها» (¬2) أخرجهما البخاري. فجعل عملها (¬3) من أموالهم وزرعها عليهم، ولم يذكر شيئاً آخر. وظاهره كون البذر من أهل خيبر. وروى البخاري «أن عمر رضي الله عنه عاملَ الناسَ على أنه إن جاءَ بالبذرِ من عندهِ فلهُ الشطرُ وإن جاؤا بالبذرِ فلهمْ كذَا» (¬4). وهذه الرواية هي أصح دليلاً لأن دليل المذهب قياس في مقابلة النص. ثم هو منتقض بما إذا اشترك مالان وبدن صاحب أحدهما. قال: (وإن شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما (¬5) الباقي، أو شرط لأحدهما قفزاناً معلومة، أو دراهم معلومة (¬6)، أو زرع ناحية معينة من الأرض فسدت المزارعة والمساقاة. ومتى فسدت فالزرع لصاحب البذر وعليه أجرة صاحبه. وحكم المزارعة حكم المساقاة فيما ذكرنا). أما كون المزارعة والمساقاة تفسد بكل واحد من الشروط المذكورة؛ فلأن كل واحد منها غير جائز. فوجب أن يفسد عقده؛ كما لو باعه شيئاً وشرط عليه أن لا يبيعه. بيان عدم جواز كل واحد مما ذكر. أما شرط أخذ رب الأرض مثل بذره؛ فلأن ذلك بمنزلة ما لو شرطه له. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2580) 2: 973 كتاب الشروط، باب إذا اشترط في المزارعة: إذا شئت أخرجتك. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2206) 2: 821 كتاب المزارعة، باب المزارعة مع اليهود. (¬3) في هـ: عملهما. (¬4) ذكره البخاري في صحيحه معلقاً 2: 820 كتاب المزارعة، باب المزارعة بالشطر ونحوه. (¬5) في هـ: ويقتسمان. (¬6) ساقط من هـ.

وأما شرط قفزان معلومة لأحدهما؛ فلأنه ربما لا يخرج من الأرض مثل ذلك فيؤدي إلى ضرر المعطي للزائد. وأما شرط دراهم معلومة لأحدهما؛ فلأنه ربما لا يخرج من الأرض ما يساوي ذلك فيؤدي إلى الضرر المذكور قبل. وأما شرط زرع ناحية معينة؛ فلأن ذلك منهي عنه في الحديث. وأما كون الزرع لصاحب البذر مع فساد المزارعة؛ فلأنه نماء بذره. وأما كون أجرة صاحبه عليه؛ فلأنه دخل على أنه يأخذ مما سمي له. فإذا فات رجع إلى بدله. ولأنه لم يرض بالعمل مجاناً. وأما كون حكم المزارعة حكم المساقاة فيما تقدم ذكره من الجواز واللزوم وما يلزم العامل ورب الأرض وغير ذلك؛ فلأنهما سواء معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. قال: (والحصاد على العامل. نص عليه. وكذلك الجذاذ. وعنه: أن الجذاذ عليهما). أما كون الحصاد على العامل على منصوص الإمام أحمد؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى يهود خيبر على أن يعملوها من أموالهم» (¬1). وهذا من العمل الذي لا يستغني عنه الزرع. وأما كون الجذاذ كذلك على المذهب فلما ذكر في الحصاد. وأما كونه عليه وعلى رب الشجر على روايةٍ؛ فلأنه يوجد بعد تكامل النماء. والأول أولى لما ذكر. ودليل الثانية: ينتقض بالتشميس. ¬

_ (¬1) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإذا قال: أنا أزرع الأرض ببذري وعواملي، وتسقيها بمائك، والزرع بيننا فهل يصح؟ على روايتين. وإن زارع شريكه في نصيبه صح). أما كون المساقاة فيما إذا قال: أنا أزرع الأرض ببذري وعواملي وتسقيها بمائك لا تصح على روايةٍ وهي اختيار القاضي؛ فلأن العوض الذي في مقابلته الماء مجهول. وأما كونها تصح على روايةٍ وهي اختيار أبي بكر؛ فلأنه لما جاز أن يؤجر الأرض ببعض الخارج منها وهو مجهول جاز أن يجعل عوض الماء كذلك. قال المصنف في المغني: الأولى أصح وأقيس لأنها لا تتحقق مزارعة، ولا يجوز أن يستأجر الماء ولا أن يبتاع بعوض معلوم فكيف إذا كان مجهولاً. وأجاب عن إجارة الأرض ببعض الخارج بالمنع وبتقدير التسليم يطلب الجامع. وأما كون مزارعة الشريك لشريكه في نصيبه تصح؛ فلأن ذلك بمنزلة شراء الشريك نصيب شريكه وذلك جائز فكذا هذا.

باب الإجارة

باب الإجارة الإجارة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6]، وقوله تعالى: {قالت إحداهما يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26]، وقوله: {إني أريد أن أُنْكِحَكَ إحدى ابنتي هاتين على أن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَج} [القصص: 27]. وأما السنة فثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرَا رجلاً من بني الدِّيلِ هَادِياً خِرِّيتاً» (¬1). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقولُ اللهُ تعالى: ثلاثةٌ أنا خصمهمْ يومَ القيامةِ: رجلٌ أعطى بي ثمَّ غَدرْ، ورجلٌ باعَ حُراً وأكلَ ثمنهُ، ورجلٌ استأجرَ أجيراً فاستوفَى منهُ ولم يوفّهِ أجرَهُ» (¬2). والأخبار في هذا كثير. وأما الإجماع فأجمع أهل العلم على جواز الإجارة في الجملة. قال المصنف رحمه الله: (وهي: عقد على المنافع. تنعقد بلفظ الإجارة والكراء وما في معناهما. وفي لفظ البيع وجهان). أما قوله رحمه الله: وهي عقد على المنافع فبيان لمعنى الإجارة ليحصل به معرفة حقيقتها وتمييزها عن الأعيان. وأما كونها تنعقد بلفظ الإجارة والكراء؛ فلأنهما موضوعان لذلك. وأما كونها تنعقد بلفظ البيع في وجه؛ فلأنها حقيقة فانعقدت بلفظه كسائر أنواعه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2145) 2: 790 كتاب الإجارة، باب إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2114) 2: 776 كتاب البيوع، باب إثم من باع حراً. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2442) 2: 816 كتاب الرهون، باب أجر الأجراء. وأخرجه أحمد في مسنده (8677) 2: 358.

وأما كونها لا تنعقد به في وجه؛ فلأن فيها معنى خاصاً فافتقرت إلى لفظ يدل على ذلك المعنى. ولأن الإجارة تضاف إلى العين التي يضاف البيع إليها إضافة واحدة فاحتيج لفظ يفرق بينهما كالعقود المتباينة. ولأنها تخالف البيع في الاسم والحكم. أشبهت النكاح.

[فصل في شروط الإجارة] قال: (ولا تصح إلا بشروط ثلاثة: أحدها: معرفة المنفعة: إما بالعرف كسكنى الدار شهراً أو خدمة العبد سنة، وإما بالوصف كحمل زبرة حديد وزنها كذا إلى موضع معين وبناء حائط يذكر طوله وعرضه وسمكه وآلته وإجارة أرض معينة لزرع كذا أو غرس أو بناء معلوم). أما كون الإجارة لا تصح إلا بشروط ثلاثة؛ فلما يأتي في مواضعها. وأما كون أحد شروط صحة الإجارة: معرفة المنفعة؛ فلأن الإجارة بيع، والبيع لا يصح إلا بمعرفة المبيع. وأما طريق المعرفة فأمران: أحدهما: العرف. وثانيهما: الوصف؛ لأن كل واحد منهما تتميز به المنفعة. وذلك هو المطلوب. وأما قول المصنف رحمه الله: "كسكنى الدار شهراً وخدمة العبد سنة"؛ فتمثيل لحصول معرفة المنفعة. وقوله: "كحمل زبرة حديد وزنها كذا إلى موضع معين وبناء حائط ... إلى قوله: وآلته"؛ فتمثيل لحصول المنفعة بالوصف. وإنما اشترط الوزن والمسافة في الزبرة، وذكر الطول والعرض والسمك والآلة في بناء الحائط لأن المعرفة لا تحصل إلا بذلك. ولأن الغرض يختلف باختلاف ذلك فلم يكن بُدٌّ من ذكره. وأما قوله: "وإجارة أرض معينة لزرع كذا أو غرس أو بناء معلوم" فبيان لأن إجارة الأرض تارة تكون لزرع وتارة لغرس وتارة لبناء. وفيه تنبيه على اشتراط ما ذكر لأن الغرض يختلف باختلافه فاشترط ذكره؛ كالصفات التي يختلف الثمن بسببها في السلم.

قال: (وإذا استأجر للركوب: ذكر المركوب فرساً أو بعيراً ونحوه (¬1). فإن كان للحمل لم يحتج إلى ذكره). أما كون المستأجر يذكر المركوب إذا كانت الإجارة للركوب؛ فلأن غرض الراكب يختلف فلم يكن بد من ذكره نفياً للنزاع. وأما كونه لا يحتاج إلى ذلك إذا كانت الإجارة للحمل؛ فلأن الغرض في ذلك لا يختلف. ¬

_ (¬1) في هـ: أو نحوه.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (والثاني: معرفة الأجرة بما يحصل به معرفة الثمن. إلا أنه يصح أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته، وكذلك الظِّئْر. ويستحب أن تعطى عند الفطام عبداً أو وليدة إذا كان المسترضع موسراً). أما كون الثاني من شروط صحة الإجارة (¬1): معرفة الأجرة بما يحصل به معرفة الثمن غير المستثناة؛ فلأن الأجرة أحد العوضين فاشترط معرفتها بما ذكر؛ كالعوض في البيع. وأما كون إجارة الأجير بطعامه وكسوته تصح؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحمَ اللهُ أخي موسى آجرَ نفسهُ ثمانيَ سنينَ على طعامَ بَطنْه (¬2) وعِفّةِ فَرْجِه» (¬3) رواه ابن ماجة. ولأن العادة جارية به من غير نكير. أشبه الإجماع. وأما كون إجارة الظِّئْر وهي المرضعة كذلك؛ فلأنها في معنى الأجير بل أولى لأن الحاجة تدعو إلى الرضاع أكثر من غيره. وأما كونها يستحب أن تعطى عند الفطام عبداً أو وليدة إذا كان المسترضع موسراً؛ فلما روي «أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يذهبُ عَني مَذمّةَ (¬4) الرضَاعِ؟ قال: الغرةُ: العبدُ أوِ الأمَة» (¬5) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في هـ: الإجارة صحة. (¬2) في هـ: نفسه. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2444) 2: 817 كتاب الرهون، باب إجازة الأجير على طعام بطنه. قال في الزوائد: إسناده ضعيف لأن فيه بقية، وهو مدلس وليس لبقية هذا عند ابن ماجة سوى هذا الحديث. وليس له شيء في بقية الكتب الخمسة. (¬4) في هـ: مدة. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (2064) 2: 224 كتاب النكاح، باب في الرضخ عند الفصال. وأخرجه الترمذي في جامعه (1153) 3: 459 كتاب الرضاع، باب ما جاء ما يذهب مذمة الرضاع. وأخرجه النسائي في سننه (3329) 6: 108 كتاب النكاح، حق الرضاع وحرمته.

ولأن في ذلك إبقاء لحياته فاستحب جعل الجزاء رقبة للتناسب. قال: (وإن دفع ثوبه إلى قصار أو خياط ليعملاه ولهما عادة بأجرة صح ولهما ذلك وإن لم يعقدا عقد إجارة. وكذلك دخول الحمام والركوب في سفينة الملاح). أما كونه يصح أن يدفع الثوب إلى من ذكر كما ذكر إذا كان للمدفوع إليه عادة بأخذ الأجرة وكونه له الأجرة المعروفة؛ فلأن العرف يجري مجرى الشرط. دليله ما لو باع شيئاً وأطلق الثمن وللبلد نقد واحد معروف. ولأن (¬1) شاهد الحال يقتضي أخذ الأجرة. أشبه ما لو عرّض له فقال: خذه وأنا أعلم أنك إنما تعمل بالأجرة. وأما كون دخول الحمام والركوب في سفينة الملاح كذلك؛ فلاشتراك الجميع في العرف الجاري مجرى الشرط. ومفهوم كلام المصنف رحمه الله أن أحد هؤلاء متى لم تكن له عادة بأخذ الأجرة لا يستحق شيئاً (¬2) إلا أن يَشْرِط له. وصرح المصنف بذلك في الخياط والقصار فقال في المغني بعد ذكر المسألة: فإن لم يكونا منتصبين لذلك لم يستحقا الأجرة إلا بالعقد أو شرط العوض أو تعريض به لأنه لم يجر بذلك عرف يقوم مقام العقد. قال: (وتجوز إجارة دار بسكنى دار وخدمة عبد وتزويج امرأة) (¬3). أما كون إجارة دار تجوز بسكنى دار وخدمة عبد؛ فلأن كل واحد منهما يجوز في مقابلته بالعوض فجاز أن يكون (¬4) عوضاً في الإجارة كالدراهم والدنانير. ولأن ذلك يكون عوضاً في البيع، والإجارة مثله لأنها بيع المنافع. وأما كونها تجوز بتزويج امرأة؛ فلأن ما ذكر قبل يجري فيه فوجب أن يلحق به. ¬

_ (¬1) في هـ: فلأن. (¬2) زيادة من ج. (¬3) في هـ: وتزويج أمة. (¬4) في هـ: يكونا.

قال: (وتجوز إجارة الحلي بأجرة من جنسه. وقيل: لا تصح). أما كون إجارة الحلي تجوز بأجرة من جنسه على المذهب والمراد به صحتها؛ فلأن الحلي عين ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها. أشبهت الدور والأراضي. وأما كونها لا تصح على وجهٍ؛ فلأنها تحتك بالاستعمال فيذهب منها أجزاء وإن كانت يسيرة، وتحصل الأجرة التي من جنسها في مقابلة ذلك الانتفاع (¬1) فيفضي إلى بيع ذهب بذهب وشيء آخر، أو فضة بفضة وشيء آخر. والأول أولى؛ لما ذكر. والأجرة في مقابلة الانتفاع لا غير فيزول الإشكال. قال: (وإن قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته (¬2) غداً فلك نصف درهم فهل يصح؟ على روايتين). أما كون ذلك يصح على روايةٍ؛ فلأن في ذلك غرضاً صحيحاً تدعو الحاجة إليه فوجب أن يصح تحصيلاً لتلك الحاجة. وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأنه عقد واحد اختلف عوضه بالتقديم والتأخير فلم يصح؛ كما لو قال: بعتك بعشرة نقداً أو بعشرين نسأ. قال: (وإن قال: إن خطته رومياً فلك درهم، وإن خطته فارسياً فلك نصف درهم فعلى وجهين). أما الخلاف المذكور من الوجهين فمخرج على الخلاف المتقدم من الروايتين. وأما معنى الرومي ... ، وأما معنى الفارسي ... (¬3). قال: (وإن أكراه دابة وقال: إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة، وإن رددتها غداً فكراؤها عشرة. فقال أحمد: لا بأس به. وقال القاضي: يصح في اليوم الأول دون الثاني). أما كون ما ذكر لا بأس به على ما قال الإمام أحمد؛ فلأنه لا يؤدي إلى التنازع. ¬

_ (¬1) في هـ: والانتفاع. (¬2) في هـ: خطه. (¬3) كذا في هـ، وفي ج ترك فراغاً مقداره أربع كلمات بعد قوله: وأما معنى الرومي، وكذا بعد قوله: وأما معنى الفارسي.

وأما كونه يصح في اليوم الأول دون الثاني على قول القاضي؛ فلأن المؤجر في اليوم الأول معلوم دون الثاني. قال: (وإن أكراه دابة عشرة أيام بعشرة دراهم فما زاد فله بكل يوم درهم فقال أحمد: هو جائز. وقال القاضي: يصح في العشرة وحدها). أما كون ذلك جائزاً على قول الإمام أحمد فلما يأتي من حديث علي رضي الله عنه. وأما كونه يصح في العشرة وحدها على قول القاضي؛ فلأن المؤجر الذي يقابله العشرة معلوم دون ما بعده. قال: (ونص أحمد على أنه لا يجوز أن يكتري لمدة غزاته. وإن سمى لكل يوم شيئاً معلوماً فجائز). أما كونه لا يجوز أن يكتري لمدة غزاته على المنصوص؛ فلأن ذلك مجهول. وأما كونه يجوز أن يسمي لكل يوم شيئاً معلوماً؛ فـ «لأن علياً آجر نفسه كل دلو بتمرة» (¬1). ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا في معناه. ولأن ما يقابل كل يوم من المدة معلوم الأجرة. أشبه ما لو قال: أجرتكها سنة كل يوم بدرهم، أو قال: استأجرتك لنقل هذه الصبرة كل قفيزٍ منها بدرهم. قال: (وإن أَكراهُ كل شهرٍ بدرهم، أو كل دلوٍ بتمرة، فالمنصوص أنه يصح، وكلما دخل شهر (¬2) لزمهما حكم الإجارة. ولكل واحدٍ الفسخ عند تَقَضِّي كل شهر. وقال أبو بكر وابن حامد: لا يصح). أما كون ما ذكر يصح على المنصوص؛ فلما تقدم من حديث علي (¬3)، وعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (1135) 1: 135. (¬2) في هـ: شهراً. (¬3) سبق قريباً.

وأما كونه لا يصح ويلزمهما حكم الإجارة كلما دخل شهر (¬1)؛ فلأن دخوله بمنزلة إيقاع العقد على عينه ابتداء. وأما كون كل واحدٍ منهما له الفسخ عند تَقَضِّي كل شهر؛ فلأن اللزوم إنما كان لأجل الدخول المنزّل منزلة إيقاع العقد ابتداء ولم يوجد بعد. وأما كون ما تقدم ذكره لا يصح على قول أبي بكر وابن حامد؛ فلأن مدة الإجارة مجهولة. ¬

_ (¬1) في هـ: شهراً.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن تكون المنفعة مباحة مقصودة فلا تجوز الإجارة على الزنا والزمر والغناء، ولا إجارة الدار لتجعل كنيسة أو بيت نار أو لبيع الخمر). أما كون الثالث من شروط الإجارة: أن تكون المنفعة مباحة مقصودة؛ فلأن المنفعة المحرمة مطلوبة العدم، وصحة الإجارة تنافيها لأنها تقضي كثرة إيقاعها. ولأن المنفعة المحرمة لا يجوز مُقابَلَتُها بالعوض في البيع فكذا في الإجارة. ولأن ما لا يقصد لا يقابل بالعوض. وأما كون الإجارة لا تجوز على الزنا ولا على الزمر ولا على الغناء؛ فلأن جميع ذلك محرم. وأما كون إجارة الدار لتجعل كنيسة أو بيت نار أو لبيع الخمر لا يجوز؛ فلأن في ذلك إعانة على المعصية. أشبه الإجارة للزنا. قال: (ولا يصح الاستئجار على حمل الميتة والخمر. وعنه: يصح ويكره أكل أجرته). أما كون الاستئجار على حمل ما ذكر لا يصح على المذهب؛ فلأنه استئجار لفعل محرم فلم يصح؛ كغيره من المحرمات. وأما كونه يصح على روايةٍ؛ فلأن الفعل لا يتعين عليه. ولأنه يجوز حمله (¬1) لإراقته فكذا حمله لغيره. وأما كونه يكره أكل أجرته؛ فللاختلاف في حرمته. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل [في أنواع الإجارة] قال المصنف رحمه الله: (والإجارة على ضربين: أحدهما: إجارة عين، فيجوز إجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها، فيجوز له استئجار حائط ليضع عليه أطراف خشبه، وحيوان ليصيد به إلا الكلب، واستئجار كتاب ليقرأ فيه إلا المصحف في أحد الوجهين، واستئجار النقد للتحلي والوزن لا غير. فإن أطلق الإجارة لم تصح في أحد الوجهين وتصح في الآخر، وينتفع بها في ذلك). أما كون [الإجارة على ضربين؛ فلأنها تارة تكون على العين، وتارة تكون على عمل في الذمة. وأما كون] (¬1) إجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها يجوز؛ فلأن الشروط المعتبرة مجتمعة فيها. فعلى هذا يجوز استئجار حائط ليضع عليه أطراف خشبه؛ لأن الحائط عين يمكن استيفاء المنفعة منها مع بقائها، واستئجار حيوان غير كلب له ليصيد به لما ذكر. وإنما لم يجز في الكلب لأن إجارته كبيعه وبيعه غير جائز فكذا إجارته، واستئجار كتاب غير مصحف ليقرأ فيه لما تقدم. وأما إجارة المصحف ففيها وجهان مخرجان على بيعه. واستئجار النقد للتحلي والوزن لما تقدم ولا يجوز لغير ذلك من إنفاق وغيره لأن فيه إذهاباً لعينه، وبقاؤها شرط. فعلى هذا إذا أطلق الإجارة فهل تصح؟ فيه وجهان: ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

أحدهما: لا يصح ويكون قرضاً. ذكره القاضي لأن الإجارة تقتضي الانتفاع، والانتفاع بالدراهم والدنانير المعتاد إنما هو بأعيانهما فإذا أطلق الانتفاع حمل على العرف. وثانيهما: يصح. ذكره أبو الخطاب لأن المنفعة المستوفاة منهما بالإجارة المنفعة في التحلي والوزن وهما متقاربان فوجب أن يحمل الإطلاق عليهما؛ كاستئجار الدار مطلقاً فإنه يتناول السكنى ووضع المتاع فيها. فعلى هذا ينتفع بهما في الوزن والتحلي لأنهما اللذان حمل العقد عليهما. قال: (ويجوز استئجار ولده لخدمته وامرأته لرضاع ولده وحضانته). أما كون استئجار الولد لخدمة والده يجوز؛ فلأنه يجوز أن يؤجره من الأجنبي فجاز من نفسه بالقياس عليه. وأما كون استئجار امرأته لرضاع ولده يجوز؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6]، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ترضع لكم الحمقاء» (¬1) فدل بمفهومه على جواز استرضاع غيرها. ولأن كل عقد صح مع غير الزوج صح معه؛ كالبيع. ولأن منافعها في الرضاع والحضانة غير مستحقة للزوج بدليل أنه لا يملك إجبارها على ذلك. قال صاحب النهاية فيها: النهي في الحديث نهي شفقة لأن الحمق مرض والمرض يضر بالولد. وقال: الحضانة تربية الولد ودهنه ومعاهدته بالكحل والغسل لأقذاره وأوساخه وإصلاح طعامه. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 464 كتاب الرضاع، باب ما ورد في اللبن يشبه عليه. مرسلاً.

قال: (ولا تصح إلا بشرط خمسة: أحدها: أن يعقد على نفع العين دون أجزائها، فلا تصح إجارة الطعام للأكل، ولا الشمع ليشعله، ولا حيوان ليأخذ لبنه. إلا في الظئر، ونقع البئر يدخل تبعاً). أما كون إجارة العين لا تصح إلا بالشروط الخمسة المذكورة فلما يأتي ذكره في كل واحد منها. وأما كون أحد الشروط المذكورة: أن يعقد على نفع العين دون أجزائها فيما عدا المستثنى؛ فلأن الإجارة عقد على المنافع فإذا وقع على الأجزاء لم تكن إجارة. فعلى هذا لا تصح إجارة شيء مما ذكر المصنف كما ذكره لأنها إجارة على جزء لا على عين (¬1). وأما كون إجارة الظئر وهي المرضعة تصح؛ فلما تقدم من قوله: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6]. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم استرضع ولده إبراهيم». ولأن الحاجة تدعو إليه. أشبه سائر المنافع. وأما كون إجارة نقع البئر يصح؛ فلأن الحاجة تدعو إليه. أشبه لبن الظئر. وأما قول المصنف رحمه الله: يدخل تبعاً فيحتمل أنه عائد إلى نقع البئر لأنه أفرد الضمير، ويحتمل أنه عائد إلى الظئر ونقع البئر. وبه صرح غيره فقال: إلا في الظئر ونقع البئر فإنهما يدخلان تبعا. فعلى هذا يكون في الكلام إشعار بأن المعقود عليه في الظئر غير اللبن. واختلف الأصحاب في ذلك: فمنهم من قال: هو الخدمة، واللبن تبعاً؛ كالصبغ في إجارة الصباغ لأن اللبن لو كان معقوداً عليه لاستحق بالإجارة عين من الأعيان. ومنهم من قال: هو اللبن. قال القاضي: هو أشبه لأنه لو كان الخدمة لما وجب على الظئر سقي الولد (¬2) اللبن فيكون استحقاق العين بالإجارة. وخصه لموضع الحاجة لأن غيره لا يقوم مقامه ولهذا ¬

_ (¬1) في هـ: نفع. (¬2) ساقط من هـ.

جاز في الآدمي دون غيره من الحيوان لأن الحاجة تدعو إلى حفظه وإبقائه بخلاف غيره. ولقائل أن يقول: استثناء لبن الظئر مما لا تجوز إجارته لكونه لا ينتفع به إلا بذهاب عينه مع القول بأنه يدخل تبعاً لا يصح؛ لأن المعقود عليه إن كان الخدمة فلا يصح استثناؤها مما ذكر لكونها ليست من جنس المستثنى منه لأن خدمة المرضعة نفع مع بقاء العين، وإن كان اللبن فلا يصح قوله: يدخل تبعاً لأنه معقود عليه فهو أصل لا تبع. والأولى أن يحمل كلام المصنف على نقع البئر خاصة ليخلص من هذا الإشكال. وأما نقع البئر فإنه يدخل تبعاً لأن هواء البئر وعمقه فيه نوع انتفاع بمرور الدلو فيه. قال: (الثاني: معرفة العين برؤية أو صفة في أحد الوجهين، وتصح في الآخر بدونه. وللمستأجر خيار الرؤية). أما كون الثاني من شروط صحة إجارة العين: معرفة العين المستأجرة برؤية أو صفة في أحد الوجهين؛ فلأن الإجارة بيع المنافع فوجب أن لا تصح إلا بذلك كالبيع. فعلى هذا لو استأجر ما لم يره ولم يوصف له لم تصح الإجارة لفقدان الشرط. وأما كونها تصح بدون ذلك في وجه؛ فلأن البيع يصح بدون ذلك في رواية. وأما كون المستأجر له خيار الرؤية على الوجه المذكور؛ فلأن من اشترى ما لم يره ولم يوصف له: له الخيار المذكور فكذا المستأجر لذلك. قال: (الثالث: القدرة على التسليم، فلا تصح إجارة الآبق والشارد ولا المغصوب (¬1) ممن لا يقدر على أخذه). أما كون الثالث من شروط صحة (¬2) إجارة العين: القدرة على التسليم؛ فلأنها بيع. أشبهت بيع الأعيان. وأما كونه لا تصح إجارة الآبق والشارد ولا المغصوب ممن لا يقدر على أخذه فلعدم القدرة المشترطة. ¬

_ (¬1) في هـ: والمغصوب. (¬2) ساقط من هـ.

قال: (ولا تجوز إجارة المشاع مفرداً لغير شريكه. وعنه: ما يدل على جوازه). أما كون إجارة المشاع لا تجوز مفرداً لغير شريك المؤجر على المذهب؛ فلأنه لا يقدر على تسليمه فلم تجز إجارته. وإنما قلنا لا يقدر على تسليمه لأنه لا يقدر على ذلك إلا بتسليم نصيب شريكه. وأما كونها تجوز على روايةٍ؛ فلأنه يجوز بيعه فجاز إجارته كالمفرد. وأما قول المصنف: مفرداً لغير شريكه فمشعر بأمرين: أحدهما: جواز إجارته مع نصيب شريكه؛ مثل: أن يوكلا شخصاً في إجارة ذلك أو يوكل أحدهما صاحبه. وثانيهما: جواز إجارته لشريكه. وصرح به المصنف في المغني لأن المانع من الصحة تعذر التسليم وهو منتف في الموضعين المذكورين. قال: (الرابع: اشتمال العين على المنفعة. فلا تجوز إجارة بهيمة زَمِنَةٍ للحمل، ولا أرض لا تنبت للزرع). أما كون الرابع من شروط صحة إجارة العين: اشتمال العين المستأجرة على المنفعة؛ فلأن الإجارة عقد معاوضة فاشترط اشتماله على المنفعة؛ كالبيع. وأما كونه لا تجوز إجارة بهيمة زمنة للحمل، ولا أرض لا تنبت للزرع فلعدم اشتمالها على المنفعة المشترطة. قال: (الخامس: كون المنفعة مملوكة للمؤجر أو مأذوناً له فيها. فيجوز للمستأجر إجارة العين لمن يقوم مقامه، ويجوز للمؤجر وغيره بمثل الأجرة وزيادة. وعنه: لا يجوز بزيادة. وعنه: إن جدد فيها عمارة جازت الزيادة وإلا فلا. وللمستعير إجارتها إذا أذن له المعير مدة بعينها). أما كون الخامس من شروط صحة إجارة العين: كون المنفعة مملوكة للمؤجر أو مأذون له فيها؛ فلأنها بيع المنافع فاشترط فيها ذلك؛ كالبيع. وأما كون المستأجر يجوز له إجارة العين المستأجرة لمن يقوم مقامه؛ فلأن المنفعة مملوكة له فجاز له بيعها كبيع المشتري للمبيع. وإنما اشترط كون المستأجر ثانياً ممن يقوم

مقام المستأجر أوّلاً ليكون انتفاعه كانتفاعه؛ لأنه إذا زاد عليه كان فيه إضرار وذلك منتفٍ شرعاً. وأما كون إجارة العين المستأجرة تجوز للمؤجر؛ فلأن كل عقد جاز مع غير العاقد جاز مع العاقد دليله البيع. وأما كونها تجوز لغيره بمثل الأجرة فلا شبهة فيه. وأما كونها تجوز بزيادة على المذهب؛ فلأنه عقد يجوز برأس المال فيجوز بالزيادة؛ كبيع المبيع. وأما كونها لا تجوز على روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن» (¬1). والمنفعة في الإجارة غير مضمونة. وأما كونه إن جدد فيها عمارة جاز على روايةٍ؛ فلأن الربح يقع في مقابلة ذلك، وإن لم يجدد لم يجز للحديث المذكور. وذكر المصنف في المغني رواية أخرى أنه إن أذن له المالك في الزيادة جاز وإلا لم يجز. وأما كون المستعير له إجارة المستعار إذا أذن له المعير مدة بعينها؛ فلأن شرط المنفعة كونها مملوكة للمؤجر أو مأذون له فيها وذلك موجود هاهنا. قال: (وتجوز إجارة الوقف. فإن مات المؤجر فانتقل إلى من بعده لم تنفسخ الإجارة في أحد الوجهين، وللثاني حصته من الأجرة). أما كون إجارة الوقف تجوز؛ فلأن المنافع مملوكة للمؤجر. وأما كونها لا تنفسخ بموت المؤجر الآجر في وجه؛ فلأنه آجر ملكه في زمن ولايته فلم تنفسخ كما لو أجّر ملكه الطلق. وأما كونها تنفسخ فيما بقي في وجه؛ فلأنه تبين أنه آجر ملكه وملك غيره فصح كما في ملكه، وتبين البطلان في ملك غيره لأن المنافع بعد موته حق لغيره فلا ينفذ عقده عليه من غير ولاية. وفارق الطلق من حيث إن الوارث يملك من جهة موروثه بخلاف البطن الثاني في الوقف فإنه يملك من جهة الواقف. فعلى القول بأنها لا تنفسخ: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

للثاني حصته من الأجرة من حين موت الأول. فإن كان الأول قبضها رجع من انتقل إليه الوقف بحصته في تركة المؤجر؛ لأنه تبين عدم استحقاقه له، وعلى القول بأنها تنفسخ يرجع من انتقل إليه الوقف في عين المنفعة ويرجع المستأجر على تركة المؤجر بحصة الباقي من الأجرة. قال: (وإن أجر الولي اليتيم أو العبد ثم بلغ الصبي وعتق العبد لم تنفسخ الإجارة، ويحتمل أن تنفسخ). أما كون إجارة اليتيم لا تنفسخ ببلوغه، والعبد بعتقه على المذهب؛ فلأن الإجارة عقد لازم، عُقِد بحق الولاية في اليتيم والملك في العبد. فلم تنفسخ ببلوغ اليتيم؛ كما لو (¬1) باع داره أو زوّجه، ولا يعتق العبد؛ كما لو زوج أمته ثم باعها. وأما كونه يحتمل أن تنفسخ؛ فلما ذكر في إجارة الوقف. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل [في الأجير الخاص] قال المصنف رحمه الله: (وإجارة العين تنقسم قسمين: أحدهما: أن تكون على مدة؛ كإجارة الدار شهراً، والأرض عاماً، والعبد للخدمة، أو للرعي مدة معلومة. ويسمى الأجير فيها: الأجير الخاص). أما كون إجارة العين تنقسم قسمين؛ فلأنها تارة تنضبط بالمدة كما مثّل المصنف رحمه الله، وتارة بالعمل كما يأتي في القسم الثاني. وكلاهما صحيح. أما الأول؛ فلأن ابن المنذر قال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن (¬1) استئجار المنازل والدواب جائز، وقد «ثبت أن موسى عليه السلام أجر نفسه للرعي مدة معلومة» (¬2). وأما الثاني فيأتي ذكره في موضعه. وأما كون الأجير فيما ذكر يسمى الأجير الخاص؛ فلأن المستأجِر يختص بالمنفعة في تلك المدة دون سائر الناس. قال: (ويشترط كون المدة معلومة يغلب على الظن بقاء العين فيها وإن طالت. ولا يشترط أن تلي العقد فلو أجره سنة خمس في سنة أربع صح سواء كانت العين (¬3) مشغولة وقت العقد أو لم تكن). أما كونه يشترط كون المدة معلومة كشهر وسنة؛ فلأن المدة هي الضابطة للمعقود عليه المعرفة له فوجب أن تكون معلومة؛ كعدد المكيلات فيما بيع بالكيل. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في هـ: الإجارة.

وأما كونه يشترط كون المدة يغلب على الظن بقاء العين فيها؛ فلأن العين إذا كانت كذلك يتمكن المستأجر من استيفاء المقصود من الإجارة غالباً. بخلاف ما إذا لم تكن كذلك. وأما قول المصنف رحمه الله: وإن طالت ففيه تنبيه على أن الإجارة في المدة الطويلة صحيحة إذا كانت العين يغلب على الظن بقاؤها فيها كالمدة القصيرة لأن المصحح في القصيرة الغلبة المذكورة وهي موجودة في الطويلة فوجبت الصحة عملاً بالعلة. وأما كونه لا يشترط أن تلي المدة العقد؛ فلأنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز العقد عليها منفردة كالتي تلي العقد. فعلى هذا يصح أن يستأجر سنة خمس في أربع لأن (¬1) غاية ما يقدر في ذلك أنها مدة تلي لا تلي العقد وذلك غير شرط. وأما كونه يصح فيما ذكر سواء كانت العين مشغولة وقت العقد أو لم تكن؛ فلأن التسليم في الحال لا يجب فلا يضر الشغل. قال: (وإذا آجره (¬2) في أثناء شهر سنة استوفى شهراً بالعدد وسائرها بالأهلة. وعنه: يستوفي الجميع بالعدد. وكذلك الحكم في كل ما يعتبر فيه الأشهر؛ كعدة الوفاة، وشهرَيْ صيام الكفارة). أما كون المستأجر يستوفي الشهر الأول بالعدد، وسائر السنة بالأهلة على المذهب؛ فلأن الشهر الأول تعذر إتمامه بالهلال فوجب إتمامه بالعدد، وما عداه لا يتعذر فوجب اعتباره بالأهلة لأنها الأصل. وأما كونه يستوفي الجميع بالعدد على روايةٍ؛ فلأنها مدة يستوفى بعضها بالعدد فوجب استيفاء جميعها بالعدد؛ كما لو كانت المدة شهراً واحداً. ولأن الشهر الأول ينبغي أن يكمل من الشهر الذي يليه فيحصل ابتداء الشهر الثاني في أثنائه وكذلك كل شهر يأتي بعده. ¬

_ (¬1) في هـ: لا. (¬2) في هـ: أجاره.

وأما كون الحكم في كل ما يعتبر فيه الأشهر كما مّثل المصنف كالحكم فيما ذكر؛ فلأن الكل سواء معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. قال: (القسم الثاني: إجارتها لعمل معلوم؛ كإجارة الدابة للركوب إلى موضع معين، أو بقر لحرث مكان، أو دياس زرع، أو استئجار عبد ليدله على طريق، أو رحى لطحن قفزان معلومة. فيشترط معرفة العمل وضبطه بما لا يختلف). أما كون الإجارة كما ذكر تصح؛ فلأن المنفعة معلومة. أشبهت إجارة الدار. وقد جاء «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا عبدالله بن أُريقِط هَادِياً خِرِّيتاً» (¬1). أي ماهراً بالهداية فدلهما على طريق المدينة. وأما كونه يشترط معرفة العمل وضبطه بما لا يختلف؛ فلأن العمل إذا لم يكن معروفاً مضبوطاً بما ذكر يكون مجهولاً فلا تصح الإجارة معه. ولأن العمل هو المعقود عليه فاشترط معرفته وضبطه بما ذكر؛ كالمبيع (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. ولم يذكر لفظ: «عبدالله بن أريقط». (¬2) في هـ: كالبيع.

فصل [في الأجير المشترك] قال المصنف رحمه الله: (الضرب الثاني: عقد على منفعة في الذمة، مضبوطة بصفاتٍ كالسلم؛ كخياطة ثوب، وبناء حائط، أو حمل إلى موضع معين. ولا يكون الأجير فيها إلا آدمياًّ جائز التصرف. ويسمى الأجير المشترك). أما كون الإجارة على منفعة في الذمة تصح؛ فلأن الإجارة بيع فصح عقدها في الذمة كالسلم. وأما كونها يشترط ضبطها بصفاتٍ كالسلم؛ فلأن الإجارة في الذمة منوطة بالسلم جوازاً فيجب أن تكون منوطة به اشتراطاً. وأما كونها لا يكون الأجير فيها إلا آدمياً؛ فلأنها متعلقة بالذمة ولا ذمة لغير آدمي. وأما كونه لا يكون إلا جائز التصرف؛ فلأن الإجارة بيع فلم تصح من غير جائز التصرف؛ كبيع الأعيان. وأما كونه يسمى الأجير المشترك؛ فلأنه يتقبل أعمالاً كثيرة من ناس كثير في وقت واحد فيشتركون في استحقاق منفعته. قال: (ولا يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل؛ كقوله: استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب في يوم. ويحتمل أن يصح). أما كونه لا (¬1) يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل كما مثل المصنف رحمه الله على المذهب؛ فلأنه قد يفرغ من خياطته في بعض اليوم. فإن طولب بالعمل في بقيته كان زيادة على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان تركاً للعمل في بعض المدة التي وقع العقد عليها وقد لا يفرغ من خياطته في اليوم فيفضي أيضاً إلى مثل ما ذكرناه. وأما كونه يحتمل أن يصح؛ فلأن الإجارة معقودة على العمل، والمدة مذكورة للتعجيل فلا يُفسد ذلك العقد. وحكى المصنف في المغني أن في كلام أحمد ما يدل على صحة ذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

قال: (ولا تصح الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة (¬1)؛ كالحج والأذان ونحوهما. وعنه: تصح). أما كون الإجارة على ما ذكر لا تصح على المذهب؛ فلأن من شرط صحة هذه الأفعال كونها قربة إلى الله تعالى فلم يصح أخذ الأجرة عليها؛ كما لو استأجر قوماً يصلون خلفه الجمعة والتراويح. وأما كونها تصح على روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن» (¬2) متفق عليه. وإذا صح كون تعليم القرآن عوضاً في باب النكاح وقام مقام المهر صح أخذ الأجرة عليه في الإجارة. وثبت «أن أبا سعيد رقَى رجلاً بفاتحة الكتابِ على جُعل فبرَأ، وأخذَ الصحابةُ الجعلَ، وأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه وسألوه. فقال: لَعمرِي! لَمنْ أكلَ برقيةٍ باطلٍ. لقدْ أكلتَ برقيةٍ حقٍ. كلوا واضربوا لي معكمْ بِسهم» (¬3). ولأنه يصح أخذ الرزق عليه من بيت المال فصح أخذ الأجرة عليه كبناء المساجد والقناطر. والأول أصح؛ لما روى عثمان بن أبي العاص قال: «آخرُ ما عهدَ إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذْ مُؤذناً لا (¬4) يأخذُ على أذانِهِ أَجْراً» (¬5) قال الترمذي: هذا حديث حسن. ¬

_ (¬1) في هـ: القرب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4842) 5: 1973 كتاب النكاح، باب السلطان ولي. وأخرجه مسلم في صحيحه (1425) 2: 1040 كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن ... (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4721) 4: 1913 كتاب فضائل القرآن، باب فضل فاتحة الكتاب. وأخرجه مسلم في صحيحه (2201) 4: 1727 كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار. كلاهما من دون قوله: «فقال: لَعمرِي لَمنْ أكلَ برقيةٍ باطلٍ لقدْ أكلتَ برقيةٍ حق». وهذه اللفظة أخرجها أبو داود في سننه من حديث خارجة بن الصلت عن عمه «أنه مر بقوم فأتوه فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير. فارق لنا هذا الرجل. فأتوه برجل معتوه في القيود. فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية وكلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل فكأنما أنشط من عقال. فأعطوه شيئا. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل فلعمري لمن أكل برقيةٍ باطلٍ لقد أكلت برقية حق». (3420) 3: 266 كتاب البيوع، باب في كسب الأطباء. (¬4) في هـ: أن لا. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (209) 1: 409 أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على الأذان أجراً. وأخرجه ابن ماجة في سننه (714) 1: 236 كتاب الأذان والسنة فيها، باب السنة في الأذان.

وروى عبادة بن الصامت قال: «علّمتُ ناساً من أهل الصُّفَّةِ القرآنَ والكتابةَ. فأهدَى إليّ رجلٌ منهم قَوساً. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (¬1): إن سَرَّكَ أن يُقلدَكَ اللهُ قَوساً من نارٍ فاقبلها» (¬2). وعن أبي بن كعب «أنه علم رجلاً سورة من القرآن فأهدى له خميصة أو ثوباً. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لو أنك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوباً من نار» (¬3). وعن عبدالرحمن بن شبل الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرأوا القرآنَ ولا تَغْلُوا فيهِ ولا تَجْفُوا عنه ولا تَأكلُوا بهِ ولا تَسْتَكْثِرُوا بِه» (¬4). روى هذه الأحاديث كلها الأثرم في سننه. وأما الأخذ على الرقية فإن الإمام أحمد اختار جوازه. وأما جعل التعليم صداقاً فعن أحمد فيه خلاف، وذكر الخبر ليس فيه تصريح بأن التعليم صداق إنما قال: «زوجتكها على ما معك من القرآن» (¬5) فيحتمل أنه زوجه إياها بغير صداق إكراماً له لما معه من القرآن. ونُقِل عنه جوازه. والفرق بينه وبين الأجرة أن الصداق ليس عوضاً محضاً وإنما وجب وصلة ونحلة. ولهذا جاز خلو العقد عن تسميته وصح مع فساده. بخلاف الأجرة في غيره. قال: (وإن استأجره ليحجمه صح. ويكره للحر أكل أجرته ويُطعمه الرقيق والبهائم. وقال القاضي: لا يصح). أما كون الاستئجار على الحجامة تصح على قول غير القاضي فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة وأعطاه أجرة» (¬6) متفق عليه. ¬

_ (¬1) في هـ: قال. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3416) 3: 264 كتاب البيوع، باب في كسب المعلم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2157) 2: 730 كتاب التجارات، باب الأجر على تعليم القرآن. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2158)، الموضع السابق. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (15706) 3: 444. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (5371) 5: 2156 كتاب الطب، باب الحجامة من الداء. وأخرجه مسلم في صحيحه (1577) 3: 1204 كتاب المساقاة، باب حل أجرة الحجامة.

قال ابن عباس: ولو كان حراماً ما أعطاه أجرة (¬1). وأما كونه يكره للحر أكل أجرة الحجامة فللحديث الآتي ذكره. ولأن أسوأ أحوال الأجرة في الحديث أن تكون مكروهة. وأما كونه يطعم الأجرة رقيقه وبهائمه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أطعمهُ ناضِحكَ ورقِيقَك» (¬2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وأما كونه لا يصح على قول القاضي؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسب الحجام خبيث» (¬3) متفق عليه. والأول اختيار المصنف رحمه الله وأبي الخطاب. وذكر القاضي أن الإمام أحمد نص على عدم الإجارة عليها في مواضع. قال المصنف في المغني: تسميته خبيثاً لا يلزم منه الحرام؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الثوم والبصل خبيثين» (¬4). وهما مباحان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1997) 2: 741 كتاب البيوع، باب ذكر الحجام. وأخرجه مسلم في صحيحه (1202) 3: 1205 كتاب المساقاة، باب حل أجرة الحجامة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3422) 3: 266 كتاب الاجارة، باب في كسب الحجام. وأخرجه الترمذي في جامعه (1277) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كسب الحجام. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2166) 2: 732 كتاب التجارات، باب كسب الحجام. (¬3) لم أره بهذا اللفظ عند البخاري، وقد أخرج البخاري معناه عن عون بن أبي جُحيفة قال: «رأيت أبي اشترى حجاماً فأمر بِمَحَاجِمِه فكُسرت، فسألته عن ذلك قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب، وكسب الأمة، ولعن الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، ولعن المصور». (2123) 2: 780 كتاب البيوع، باب ثمن الكلب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1568) 3: 1199 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب ... واللفظ له. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (565) 1: 395 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثا أو نحوهما. ولفظه: عن أبي سعيد قال: «لم نَعْدُ أن فتحت خيبر. فوَقعْنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك البقلة الثوم والناس جياع فأكلنا منها أكلاً شديداً. ثم رُحنا إلى المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريح. فقال: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً فلا يقربنّا في المسجد».

فصل [في استيفاء المنفعة] قال المصنف رحمه الله: (وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه وبمثله. ولا يجوز بمن هو أكثر ضرراً منه، ولا بمن يخالف ضرَرُه ضرَرَه). أما كون المستأجر له استيفاء المنفعة بنفسه؛ فلأن أصل العقد يراد للعاقد. وأما كونه له استيفاؤها بمثله؛ فلما تقدم في قوله: وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه (¬1). وأما كونه لا يجوز بمن هو أكثر ضرراً منه؛ فلأنه يضر بالمؤجر. ولأن المستأجر الثاني ينبغي أن يكون له ما للأول فإذا كان الأول ضرره قليل وجب أن يكون الثاني مثله. قال: (وله أن يستوفي المنفعة وما دونها في الضرر من جنسها. فإذا اكترى لزرع الحنطة فله زرع الشعير ونحوه، وليس له زرع الدخن ونحوه. ولا يملك الغرس ولا البناء، وإن اكتراها لأحدهما لم يملك الآخر، وإن اكتراها للغرس (¬2) ملك الزارع). أما كون المستأجر له استيفاء المنفعة المعقود عليها من زرع وبناء وغير ذلك؛ فلأن ذلك هو المقصود من الإجارة والمعقود من أجله. وأما كونه له استيفاء [ما دون] (¬3) المنفعة المعقود عليها في الضرر مع اتحاد الجنس؛ فلأنه إذا كان له استيفاء نفس المنفعة المعقود عليها فما دونها أولى. فعلى هذا إذا اكترى أرضاً لزرع حنطة فله زرعها بها لأنها المعقود عليها، وله زرع الشعير لأنه دونها في الضرر، وليس له زرع الدَّخَن ونحوه. ولا يملك الغرس ولا البناء ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: للغراس. (¬3) ساقط من هـ.

لأن كل واحد من ذلك فوق الحنطة في الضرر. وإن اكتراها للغرس لم يملك الآخر لأن ضرر كل واحد يخالف ضرر الآخر. وإن اكتراها للغرس ملك الزرع لأنه أقل ضرراً. قال: (وإن اكترى دابة للركوب أو للحمل لم يملك (¬1) الآخر. وإن اكتراها لحمل الحديد أو القطن لم يملك حمل الآخر. فإن فعل فعليه أجرة المثل). أما كون المستأجر لا يملك الحمل إذا اكترى للركوب؛ فلأن الراكب يعين الظهر بحركته. وأما كونه لا يملك الركوب إذا اكترى للحمل؛ فلأن الراكب أشد على الظهر لأنه يقعد في موضع واحد والمتاع يتفرق على جنبيه. وأما كونه لا يملك حمل القطن إذا اكترى الدابة لحمل الحديد؛ فلأنه أضر منه لكونه يتجافى، وتهب فيه الريح فيتعب الظهر. وأما كونه لا يملك حمل الحديد إذا اكترى لحمل القطن؛ فلأنه أضر منه لاجتماعه وثقله. وأما كونه عليه أجرة المثل إذا فعل غير ما استأجره؛ فلأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره. أشبه ما لو استأجر أرضاً فزرع أخرى. قال: (وإن اكتراها لحمولة شيء فزاد عليه، أو إلى موضع فجاوزه فعليه الأجرة المذكورة وأجرة المثل للزائد. ذكره الخرقي. وقال أبو بكر: عليه أجرة المثل للجميع. وإن تلفت ضَمِن قيمتها إلا أن تكون في يد صاحبها فيضمن نصف قيمتها في أحد الوجهين). أما كون المستأجر عليه الأجرة المذكورة وأجرة المثل للزائد إذا زاد على ما استأجر أو جاوز مكانه على قول الخرقي: أما الأجرة المذكورة؛ فلأنه استوفى المعقود عليه، وأما أجرة المثل للزائد؛ فلأنه حمله على ملك غيره بغير إذنه ولا تقدير عوضه فلزمه أجرة مثله. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

وأما كونه عليه أجرة المثل للجميع على قول أبي بكر؛ فلأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره. أشبه ما لو فعل ذلك من غير إجارة. وأما كونه يضمن قيمة الدابة إن تلفت في زمان التعدي ولم يكن في يد صاحبها؛ فلأنه متعد في فعله. أشبه ما لو غصبها فتلفت. وأما كونه يضمنها إذا كانت في يد صاحبها في وجه؛ فلأنها تلفت بجنايته عليها، وسكوت صاحبها لا يسقط الضمان؛ كمن جلس إلى إنسان فخرق ثوبه وهو ساكت. وأما كونه يضمن نصف قيمتها في وجه؛ فلأنها تلفت بفعل مضمون وغير مضمون. أشبه ما إذا جرح أجنبي شخصاً جرح نفسه فمات فإن الأجنبي يلزمه نصف الدية. وقال صاحب النهاية فيها: والمذهب الأول؛ لأن رجلاً لو ألقى حجراً في سفينة مملوءة بالأمتعة فغرقت وجب عليه ضمان السفينة وما (¬1) فيها، وإن كان مثل الحجر لا تغرق به السفينة تغليباً للفعل المضمون، وإضافة للحكم إلى السبب الأخير. فكذلك هاهنا. ومثل ذلك إذا زاد الجلاد في الحد سوطاً فمات المحدود فإنه يلزمه كمال الدية على المذهب. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل [فيما يلزم المؤجر والمستأجر] قال المصنف رحمه الله: (ويلزم المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل، ورحله، وحزامه، والشد عليه، وشد الأحمال، والمحامل، والرفع، والحط، ولزوم البعير لينزل لصلاة الفرض، ومفاتيح الدار، وعمارتها، وما جرت عادته به. فأما تفريغ البالوعة والكنف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة). أما كون المؤجر يلزمه ما ذكر ... إلى التفريغ؛ فلأن ذلك بفعل عادة فحمل مطلق العقد عليه. ولأن (¬1) التمكين واجب عليه، ولا يتم بدون ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به واجب. وأما كون المستأجر يلزمه تفريغ البالوعة والكُنُف إذا تسلمها فارغة؛ فلأن ذلك حصل بفعله فكان تنظيفه عليه؛ كما لو طرح فيها قماشاً. وفي تقييد اللزوم بتسليمها فارغة دليل على أنه إذا تسلمها ملئى يكون تفريغها على المؤجر وصرح به في المغني لأنه لا يمكن الانتفاع إلا بذلك. ¬

_ (¬1) في هـ: فلأنه.

فصل [الإجارة عقد لازم] قال المصنف رحمه الله: (والإجارة عقد لازم من الطرفين ليس لأحدهما فسخها. وإن بدا له قبل تَقَضِّي المدة فعليه الأجرة. وإن حوله المالك قبل تقضيها لم يكن له أجرة لما سكن. نص عليه. ويحتمل أنّ له من الأجرة بقسطه). أما كون الإجارة عقد لازم من طرفي المؤجر والمستأجر؛ فلأنها عقد معاوضة. أشبهت البيع. ولأنها نوع من البيع. وإنما اختصت باسم كما اختص الصرف والسلم. وأما كون المتعاقدين ليس لأحدهما فسخها؛ فلأن هذا شأن العقود اللازمة من الطرفين. وأما كون الأجرة على من بدا له قبل تَقَضِّي المدة؛ فلأن الإجارة عقد لازم يقتضي أن يملك المالك الأجرة، والمستأجر المنافع، وقد وجدت فوجب أن يلزم المستأجر الأجرة عملاً بمقتضاها. وأما كون المالك لا أجرة له لما سكن المستأجر إذا حوّله قبل تَقَضِّي المدة على منصوص الإمام أحمد؛ فلأنه لم يُسَلِّم إليه ما عقد عليه في الإجارة لغير عذر فلم يستحق شيئاً؛ كما لو استأجره ليحمل له كتاباً إلى الكوفة فحمله بعض الطريق، أو كما لو استأجر حفاراً ليحفر له بئراً طولها عشرون ذراعاً فحفر له منها عشرة وامتنع من حفر الباقي. وأما كونه يحتمل أن له من الأجرة بقسطه؛ فلأن المستأجر استوفى بعض المعقود عليه فلزمه بقدر ما استوفاه؛ كما لو اشترى مكيلاً فسلم إليه البائع بعضه ومنع باقيه.

قال: (وإن هرب الأجير حتى انقضت المدة انفسخت الإجارة. وإن كانت على عمل خُيِّر المستأجر بين الفسخ والصبر). أما كون الإجارة تنفسخ إذا هرب الأجير حتى انقضت المدة؛ فلأن المعقود عليه يفوت بانقضائها. أشبه تلف العين. وفي قول المصنف رحمه الله: حتى انقضت المدة دليل على أنها لا تنفسخ قبل انقضائها. وصرح به في المغني لأن المدة إذا لم تنقض لم يفت المعقود عليه. وأما كون المستأجر يخير بين الفسخ والصبر إذا كانت الإجارة على عمل في الذمة؛ فلأن ذلك عمل (¬1) في الذمة ليس له مدة يفوت بفواتها. أشبه الأجير قبل انقضاء مدة إجارته. قال: (وإن هرب الجمّال وتَرَك الجِمال أنفق عليها الحاكم من مال الجمّال، أو أذن للمستأجر في النفقة. فإذا انقضت الإجارة باعها الحاكم، ووفى المنفق، وحفظ باقي ثمنها لصاحبه). أما كون الحاكم ينفق على ذلك؛ فلأن نفقة الحيوان واجبة على المالك وهو غائب، والحاكم نائب عن الغائب. وأما كونه يأذن للمستأجر في النفقة؛ فلأن إقامة أمين غير المستأجر يشق ويتعذر مباشرته في كل لحظة. وأما كونه يبيع ذلك إذا انقضت الإجارة ويوفي المنفق؛ فلأن في ذلك تخليصاً لذمة صاحب الجِمال، وإيفاءً لحق صاحب النفقة. [وأما كونه] (¬2) يحفظ باقي الثمن لصاحبه؛ فلأن الحاكم يلزمه حفظ مال الغائب. ¬

_ (¬1) في هـ: على عمل. (¬2) ساقط من هـ.

قال: (وتنفسخ الإجارة بتلف العين المعقود عليها، وموت الصبي المرتضع، وموت الراكب إذا لم يكن له من يقوم مقامه في استيفاء المنفعة، وانقلاع الضرس الذي اكترى لقلعه، أو برئه، ونحو هذا). أما كون الإجارة تنفسخ بتلف العين المعقود عليها كمن اكترى بعيراً بعينه فمات؛ فلأن المنفعة زالت بالكلية فانفسخ العقد الواقع على عينه؛ كتلف المبيع قبل قبضه. وأما كونها تنفسخ بموت الصبي المرتضع؛ فلأن استيفاء المعقود عليه قد تعذر لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف اللبن باختلافهم لأن المرضعة قد تدور على ولد دون آخر. وأما كونها تنفسخ بموت الراكب إذا لم يكن له من يقوم مقامه في استيفاء المنفعة؛ فلأنه تعذر استيفاء المعقود عليه منه وممن يقوم مقامه. أشبه ما لو مات المركوب. وفي قوله: إذا لم يكن له من يقوم مقامه دليل على أنها لا تنفسخ إذا كان له من يقوم مقامه لأن الاستيفاء لا يتعذر لوجود من يقوم مقامه. فإن قيل: كيف الجمع بين قول المصنف: تنفسخ بموت الراكب، وبين قوله بعدُ: لا تنفسخ بموت المكتري؟ قيل: يجب حمل قوله: لا تنفسخ بموت المكتري على أنه مات وله وارث. وقد ذكر المصنف رحمه الله في المغني قول الخرقي: وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإجارة بحالها وعلّله. ثم قال: ونقل عن الإمام أحمد في رجل اكترى بعيراً فمات في بعض الطريق فإن رجع البعير خالياً فعليه بقدر ما وجب له. ثم قال: وظاهر هذه الرواية أنه حكم بفسخ العقد فيما بقي من المدة إذا مات المستأجر. ثم قال: ويجب أن يقدر أنه لم يكن ثَم من ورثته من يقوم مقامه في الانتفاع لأن الوارث يقوم مقام الموروث فإذا لم يكن فقد جاء أمر يحجز المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد. أشبه ما لو مات. ثم قال: وتأولها القاضي بأن المكري منع الورثة من الانتفاع. ولا يصح؛ لأنه لو كان كذلك لما استحق شيئاً من الكري.

وأما كونها تنفسخ بانقلاع الضرس أو برئه الذي اكترى لقلعه فلتعذر استيفاء المعقود عليه: أما تعذره بالانقلاع فأمر محس، وأما تعذره بالبرء فأمر شرعي لأنه لا يجوز قلع الضرس إلا لعارض الألم فإذا زال العارض تعذر قلعه شرعاً. وأما قوله: ونحو هذا فيدخل فيه ما إذا اكترى كحالاً ليكحل عينه فبرئت أو طبيباً ليداويه فبرأ فإن ذلك كله تنفسخ به الإجارة لتعذر استيفاء المعقود عليه. قال: (وإن اكترى داراً فانهدمت أو أرضاً للزرع (¬1) فانقطع ماؤها انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة في أحد الوجهين، وفي الآخر يثبت للمستأجر خيار الفسخ). أما كون الإجارة تنفسخ فيما بقي من المدة في وجه؛ فلأن المقصود السكنى والزرع ولا يمكن استيفاء ذلك بعد الانهدام وانقطاع الماء. وأما كونها لا تنفسخ في وجه؛ فلأن المنفعة لم تنعدم بالكلية لإمكان الانتفاع بها في الجملة. فعلى هذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ لنقصان المنفعة المستأجرة. قال: (ولا تنفسخ بموت المكري والمكتري، ولا بعذر لأحدهما؛ مثل: أن يكتري للحج فتضيع نفقته، أو دكاناً فيحترق متاعه). أما كون الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين؛ فلأنها عقد لازم فلا تنفسخ بموت من ذكر؛ كالبيع، وكما لو زوج أمته ثم مات. وأما كونها لا تنفسخ بعذر لأحدهما؛ فلأنها إذا لم تنفسخ بالموت فلأن لا تنفسخ بالعذر بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

قال: (وإن غصبت العين المستأجرة خُيّر المستأجر بين الفسخ ومطالبة الغاصب بأجرة المثل فإن فسخ فعليه أجرة ما مضى. قال الخرقي: وإن جاء أمر غالب يحجز المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد فعليه من الأجرة بقدر مدة انتفاعه). أما كون المستأجر يخير بين الفسخ ومطالبة الغاصب بأجرة المثل؛ فلأن في عدم ثبوت الخيار تأخيراً لحقه. ولأن تعذر الانتفاع بذلك من غير جهته عيب في المعقود عليه فملك الخيرة به؛ كالعيب في المبيع. وإنما لم ينفسخ العقد بمجرد الغصب؛ لأن المعقود عليه لم يفت مطلقاً بل فات إلى بدل. أشبه ما لو أتلف الثمرة المعيبة آدمي قبل قبضها. وقال المصنف رحمه الله في المغني: يتخرج انفساخها بناء على أن منافع الغصب لا تضمن على رواية. وأما كونه عليه أجرة ما مضى إذا فسخ؛ فلأنه استوفى ما يقابل بالعوض فلزمه أجرته. وأما قول المصنف: قال الخرقي ... إلى آخره ففيه (¬1) تأكيد لوجوب الأجرة فيما مضى، وبيان أن الخرقي قال ذلك. وفسر في المغني قول الخرقي هذا، ولم يجعله من صورة (¬2) ما إذا غصبت العين المستأجرة. والصحيح اشتماله عليه؛ لأن الغصب أمر غالب يحجز المستأجر عن (¬3) منفعة ما وقع عليه العقد. ولهذا ذكره المصنف رحمه الله هنا. قال: (ومن استؤجر لعمل شيء فمرض أقيم مقامه من يعمله والأجرة عليه). أما كون المريض يقيم مقامه من يعمل ما استؤجر عليه؛ فلأنه حق وجب في ذمته فوجب عليه إيفاؤه ولو بغيره كالمسلَم فيه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: صور. (¬3) في هـ: من.

ولأنه لا يجب على المستأجر إنظاره لأن العقد بإطلاقه يقتضي التعجيل. ولأن في التأخير إضراراً به. وأما كون الأجرة عليه؛ فلأن العمل عليه فكان عوضه عليه. قال: (وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى). أما كون المستأجر له الفسخ بما ذكر؛ فلأنه عيب في المستأجر فأثبت الخيار كالعيب في بيوع الأعيان. وأما كون أجرة ما مضى عليه؛ فلأنها تلزمه إذا فسخ لما تقدم في فسخ المغصوب وقد وجد. قال: (ويجوز بيع العين المستأجرة ولا تنفسخ الإجارة إلا أن يشتريها المستأجر فتنفسخ على إحدى الروايتين). أما كون بيع العين المستأجرة يجوز؛ فلأن الإجارة عقد على المنافع فلم يمنع جواز البيع؛ كما لو زوج أمته ثم باعها. وأما كون الإجارة لا تنفسخ إذا اشترى العين المستأجرة غير المستأجر؛ فلأن عقد الإجارة سابقٌ على عقد البيع، واللاحق لا يوجب فسخ السابق؛ كما لو زوج أمته ثم باعها. وأما كونها لا تنفسخ إذا اشتراها المستأجر على روايةٍ؛ فلأنه ملك المنفعة بعقد ثم ملك الرقبة المسلوبة المنفعة [بعقد آخر] (¬1) فلم يتنافيا؛ كما لو ملك الثمرة بعقد ثم ملك الأصل بعقد آخر. وأما كونه ينفسخ فيما بقي من المدة على روايةٍ؛ فلأن ملك الرقبة لما منع ابتداء الإجارة منع استدامتها كالنكاح لما منع ابتداء ملك اليمين منع استدامته. وذكر المصنف هاتين الروايتين في المغني وجهين. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل [في ضمان الأجير] قال المصنف رحمه الله: (ولا ضمان على الأجير الخاص -وهو: الذي يسلم نفسه إلى المستأجر- فيما يتلف في يده إلا أن يتعدى. ويضمن الأجير المشترك ما جنت يده من تخريق الثوب وغلطه في تفصيله. ولا ضمان عليه فيما تلف من حرزه أو بغير فعله، ولا أجرة له فيما عمل فيه. وعنه: يضمن). أما كون الأجير الخاص لا ضمان عليه فيما يَتلف في يده مع عدم التعدي منه فيما عمله؛ كرجل اكترى آخر ليسقي له ماء فانكسرت الجرة، أو ليكيل له فسقط من يده الكيل فانكسر، ونحو ذلك؛ فلأنه غير متعد. أشبه تلف الوديعة. وأما كون الضمان عليه مع التعدي؛ مثل: أن يتعمد كسر الجرة، أو يكون خبازاً فيسرف في الوقود، أو يلزقه قبل وقته، أو يتركه أكثر من وقته حتى يحترق؛ فلأنه متعد. أشبه الغاصب. وأما كون الأجير المشترك يضمن ما جنت يده من تخريق الثوب، وغلطه في تفصيله؛ فلما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي «أنه كان يُضَمِّنُ الصباغ (¬1) والصواغ. وقال: لا يُصلح الناسَ إلا ذلك» (¬2). ولأن الأجير المشترك عمله مضمون عليه دليله أنه لا يستحق الأجرة إلا بعمله فما تولد منه يجب أن يكون مضموناً؛ كالجناية على عضوٍ ظلماً. ولأنه قبض العين لمنفعته فكان ضامناً لها؛ كالمستعير. وأما كونه لا ضمان عليه فيما تلف من حرزه أو بغير فعله على المذهب؛ فلأن العين في يده أمانة. أشبه المودع. ¬

_ (¬1) في ج: الصناع. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 122 كتاب الإجارة، باب ما جاء في تضمين الأجراء.

وأما كونه يضمن ذلك على روايةٍ؛ فلما تقدم من حديث علي. وأما كونه لا أجرة له فيما عمله؛ فلأن الأجرة لما يعمله الأجير المشترك لا يستحق إلا بالتسليم، وقد فات هنا فيفوت ما هو مرتب عليه. قال: (ولا ضمان على حجام، ولا ختان، ولا بزاغ، ولا طبيب: إذا عرف منهم حذق، ولم تجن أيديهم. ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد) (¬1). أما كون الحجام والختان والبزاغ وهو البيطار والطبيب لا ضمان عليهم مع معرفة الحذق منهم وعدم جناية أيديهم؛ فلأنهم فعلوا فعلاً مأذوناً لهم فيه فلم يضمنوا سراية ذلك؛ كقطع الإمام يد السارق. وأما كونهم عليهم الضمان مع عدم معرفة الحذق منهم؛ فلأنهم إذا لم يكن فيهم حذق لم يحل لهم مباشرة القطع ولا التداوي لما فيه من الخطر المؤدي إلى التلف وذلك لا يقتضي نفي الضمان بل وجوبه. وأما كونهم عليهم الضمان إذا جنت أيديهم؛ كخَتّان تجاوز القطع من الختان إلى الحشفة، وطبيب قطع سَلَعَةً فتجاوزها، أو قطع بآلة كالّة يكثر ألمها، ونحو ذلك؛ فلأن الإتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد (¬2) والخطأ. ولأن هذا فعل محرم فيضمن كالقطع ابتداء. وأما كون الراعي لا ضمان عليه إذا لم يتعد؛ فلأنه أجير خاص وقد تقدم أن الأجير الخاص لا ضمان عليه. قال: (وإذا حبس الصانع الثوب على أجرته فتلف ضمنه. وإن أتلف الثوب بعد عمله خُيِّر مالكه بين تضمينه إياه غير معمول ولا أجرة له وبين تضمينه إياه معمولاً ويدفع إليه أجرته). أما كون الصانع يضمن الثوب إذا حبسه على أجرته فتلف؛ فلأنه ليس له حق حبسه لأنه لم يرهنه عنده فوجب عليه ضمانه كالغاصب. ¬

_ (¬1) في هـ: لم يتعدى. (¬2) في هـ: العمل.

وأما كون مالك الثوب يخيّر بين ما ذكر؛ فلأن الجناية على ماله فكانت الخيرة له لا لغيره. وأما كونه لا أجرة له إذا ضمّنه إياه غير معمول؛ فلأن الأجرة إنما تجب بالتسليم ولم يوجد. وأما كونه يدفع الأجرة إليه إذا ضمّنه معمولاً؛ فلأنه لو لم يدفع إليه الأجرة لاجتمع على الأجير فوات الأجرة وضمان ما يقابلها. ولأن المالك إذا ضمّنه ذلك معمولاً يكون في معنى تسليم ذلك معمولاً فيجب أن يدفع إليه الأجرة لحصول التسليم الحكمي. قال: (وإذا ضرب المستأجر الدابة بقدر العادة، أو كبحها، أو الرائض الدابة لم يضمن ما تلف به. وإن قال: أذنت لي في تفصيله قباء قال: بل قميصاً فالقول قول الخياط. نص عليه). أما كون المستأجر والرائض لا يضمنا ما ذكر؛ فلأن ذلك تلف من فعل مستحق فلم يضمناه؛ كما لو تلف تحت الحمل. ودليل استحقاق الضرب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب جمل جابر حين ساقه» (¬1). ولأنه لا يمكنه استيفاء المنفعة إلا به. وأما تقييد المصنف رحمه الله عدم الضمان بقدر العادة فدليل على أنه يجب عليه الضمان عند عدم ذلك. وصرح به في الكافي فقال: وإن تلفت بعدوان كضربها من غير حاجة أو لإسرافه فيه ضمن لأنه جناية على ملك الغير فوجب الضمان كالغاصب. وأما كون القول قول الخياط فيما إذا قال: أذنتَ لي في تفصيله قباء قال: بل قميصاً على المنصوص؛ فلأنهما اتفقا على الإذن واختلفا في صفته فكان القول قول الخياط كالمضارب إذا ادعى الإذن في النسأ. ولأنهما اتفقا على ملك الخياط القطع، والظاهر أنه فعل ما ملكه، واختلفا في لزوم الغرم له، والأصل عدمه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2706) 3: 1050 كتاب الجهاد، باب من ضرب دابة غيره في الغزو.

فصل قال المصنف رحمه الله: (وتجب الأجرة بنفس العقد إلا أن يتفقا على تأخيرها. ولا يجب تسليم أجرة العمل في الذمة حتى يتسلمه). أما كون الأجرة تجب بنفس العقد إذا كانت الإجارة على عين كذا أو أرض ونحوهما ولم يتفقا على تأخيرها؛ فلأن الأجرة عوض أطلق ذكره في عقد معاوضة فيجب بمطلق العقد كالثمن، أو يقال: عوض في عقد يتعجل بالشرط فوجب أن يتعجل بمطلق العقد كالثمن. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن} [الطلاق: 6] أمر بالإيتاء بعد الرضاع. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: ثلاثةٌ أنا خَصمهمْ يومَ القيامة: رجلٌ استأجرَ أَجيراً فاستوفَى منهُ ولم يوفّه أجرَه» (¬1). تَوَعّده على الامتناع من دفع الأجرة بعد العمل فدل على تعقب الوجوب له. وروي عنه عليه السلام: «أعطوا الأجيرَ أجرَهُ قبلَ أن يجِفَّ عَرَقُه» (¬2) رواه ابن ماجة. قيل: الآية يحتمل أنه أراد الإيتاء عند الشروع في الإرضاع أو تسليم نفسها له؛ كما قال: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} [النحل: 98] أي إذا أردت القراءة. ولو قدر أنه أراد بعد الفراغ فالأمر بالإيتاء في وقت لا يمنع وجوبه قبله. دليله {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء: 24] والصداق يجب قبل الاستمتاع. وهذا هو الجواب عن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2443) 2: 817 كتاب الرهون، باب أجر الأجراء. قال في الزوائد: أصله في صحيح البخاري وغيره، من حديث أبي هريرة لكن إسناد المصنف ضعيف. وهب بن سعيد وعبدالرحمن بن زيد ضعيفان.

الحديث. ثم يحتمل أنه توعده على ترك الإيفاء في الوقت الذي يتوجه المطالبة فيه عادة. ويمكن أن يحمل على الإجارة في الذمة. وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وأما كون الأجرة لا تجب بنفس العقد إذا اتفقا على تأخيرها فكما لو اتفقا على تأخير الثمن في البيع. وأما كون تسليم أجرة العمل في الذمة لا يجب قبل تسليمه؛ فلما تقدم من الآية والخبر. ولأنه عقد على ما في الذمة فلم يستقر عوضه قبل فعله. قال: (وإذا انقضت الإجارة وفي الأرض غراس أو بناء لم يشترط قلعه عند انقضائها خُيِّر المالك بين أخذه بالقيمة أو تركه بالأجرة أو قلعه وضمان نقصه. وإن شرط قلعه لزم ذلك ولم يجب تسوية الأرض إلا بشرط). أما كون المالك يخير بين الأخذ بالقيمة وبين الترك بالأجرة وبين القلع وضمان النقص مع عدم اشتراط القلع عند انقضاء الإجارة؛ فلأنه لو لم يجز لأدى إلى ضرره. ولأنه في الأخذ بأحد الأمور جمعاً بين حقي الآجر والمستأجر. فإن قيل: هلا ملك القلع من غير ضمان النقص؟ قيل: لأن مفهوم قوله عليه السلام: «ليس لعرق ظالم حق» (¬1) يدل على أن ما ليس بظالم له حق، وهذا ليس بظالم. ولأنه غرس بإذن المالك فلم يجبر على القلع من غير ضمان النقص كما لو استعار منه أرضاً للغراس مدة فرجع قبل انقضائها. وأما كونه يلزمه القلع مع الشرط فلما فيه من الوفاء بموجب الشرط. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3073) 3: 178 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في إحياء الموات. وأخرجه الترمذي في جامعه (1378) 3: 662 كتاب الأحكام، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات. قال الترمذي: حديث حسن غريب.

وأما كون تسوية الأرض تجب مع عدم الشرط؛ فلأنهما دخلا على ذلك لرضاهما بالقلع. وأما كونها تجب مع الشرط؛ فلما تقدم من الوفاء بموجب الشرط. قال: (وإن كان فيها زرع، بقاؤه بتفريط المستأجر فللمالك أخذه بالقيمة وتركه بالأجرة. وإن كان بغير تفريط لزم تركه بالأجرة). أما كون المالك له أخذ ذلك بالقيمة وتركه بالأجرة مع تفريط المستأجر في بقائه؛ فلأن المستأجر حينئذ بمنزلة الغاصب لإبقائه زرعه في أرض غيره بغير حق. والمعني بالتفريط أن يزرع زرعاً لم تجر العادة بكماله قبل انقضاء المدة. وأما كونه يلزمه تركه بالأجرة مع عدم تفريط المستأجر في بقائه؛ فلأن الزرع حصل في أرض المالك بإذنه فلزمه تركه بأجرة مثله؛ كما لو أعاره إياها وأذن له في الزرع ثم رجع المالك قبل كمال الزرع. والمعني بعدم التفريط أن يزرع زرعاً ينتهي مدته عند آخر المدة ثم يتأخر ذلك بسبب برد أو غيره. فإن قيل: فما الفرق بين الزرع والغرس؟ قيل: سيذكر في باب الغصب إن شاء الله تعالى. قال: (وإذا تسلم العين في الإجارة الفاسدة حتى انقضت المدة فعليه أجرة المثل سكن أو لم يسكن. وإذا اكترى بدراهم وأعطاه عنها دنانير ثم انفسخ العقد رجع المستأجر بالدراهم). أما كون من تسلم ما ذكر حتى انقضت المدة عليه الأجرة إذا سكن؛ فلأن المعوض قد استوفاه فوجب أن يجب عليه عوضه. وأما كونه عليه ذلك إذا لم يسكن؛ فلأن الإجارة كالبيع والمنفعة كالعين والبيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل. فكذلك الإجارة. وعن الإمام أحمد لا شيء عليه إذا لم يسكن. ذكره المصنف في المغني لأن الإجارة هنا عقد فاسد على منفعة لم يستوفها فلم يلزمه عوضها كالنكاح الفاسد. وأما كون الواجب أجرة المثل حيث تجب الأجرة؛ فلأن ما ضُمن بالمسمى (¬1) في العقد الصحيح ضمن بالقيمة في الفاسد كالأعيان. ¬

_ (¬1) في هـ: المسمى.

وأما كون المستأجر يرجع بالدراهم (¬1) إذا اكترى بدراهم وأعطى المؤجر عنها دنانير ثم انفسخ العقد؛ فلأن الدراهم التي وقع عليها العقد، والمستحق عند الفسخ مثل الأجرة، وأما الدنانير فإنما أخذت بعقد صرف مستأنف. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

باب السبق

باب السبق قال المصنف رحمه الله: (تجوز المسابقة على الدوابّ، والأقدام، وسائر الحيوانات، والسفن، والمزاريق، وغيرها). أما كون المسابقة على الدواب تجوز؛ فبالسنة والإجماع: أما السنة؛ فما روى ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم سابقَ بين الخيلِ المضمرةِ من الحفياءِ إلى ثَنيةِ الوداعِ، وبين التي لم تُضمّر من ثنيةِ الوداعِ إلى مسجدِ بني زريق» (¬1). متفق عليه. قال موسى بن عقبة: من الحفياء إلى ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة. وقال سفيان: من الثنية إلى مسجد بني زريق ميل. وأما الإجماع فأجمعت الأمة في الجملة على جواز المسابقة. وأما كونها على الأقدام تجوز؛ فلما روي عنه عليه السلام «أنه كانَ في سفرٍ معه عائشة فسابقَها على رجلها فَسبقتهُ. قالت: فلما حملتُ اللحمَ سابقْتُهُ فسبقني. فقال: هذه بِتلك» (¬2). رواه أبو داود. وأما كونها في باقي الصور تجوز؛ فبالقياس على المنصوص. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2715) 3: 1053 كتاب الجهاد والسير، باب غاية السبق للخيل المضمرة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1870) 3: 1492 كتاب الإمارة، باب المسابقة بين الخيل وتضميرها. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2578) 3: 29 كتاب الجهاد، باب في السبق على الرجل. وأخرجه أحمد في مسنده (24164) 6: 39.

قال: (ولا تجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام بشروط خمسة: أحدها: تعيين المركوب والرماة. سواء كانا اثنين أو جماعتين. ولا يشترط تعيين الراكبين ولا القوسين). أما كون المسابقة بعوض لا تجوز إلا فيما ذكر؛ فلما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا سَبَقَ إلا في نصْلٍ أو خُفٍ أو حَافِرٍ» (¬1). رواه أبو داود. ولأن المعنى يقتضي اختصاص ذلك بالعوض لأنه من آلات الحرب (¬2) المأمور بتعلمها وإحكامها قال الله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال: 60]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا! إن القوة الرمي، ألا! إن القوة الرمي» (¬3). وأما كون ما ذكر لا يجوز إلا بشروط خمسة؛ فلما يأتي ذكره في مواضعها. وأما كون تعيين المركوب والرماة أحد الشروط المذكورة؛ فلأن الغرض معرفة الحذق في ذلك، ولا يحصل ذلك مع الإبهام. وأما كون ذلك كذا سواء كانا اثنين أو جماعتين فلاشتراك الصورتين في المعنى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2574) 3: 29 كتاب الجهاد، باب في السبق. وأخرجه الترمذي في جامعه (1700) 4: 205 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الرهان والسبق. قال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه النسائي في سننه (3589) 6: 227 كتاب الخيل، باب السبق. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2878) 2: 960 كتاب الجهاد، باب السبق والرهان. قلت: ولم يذكر ابن ماجة «أو نصل» وإسناده حسن. وأخرجه أحمد في مسنده (10142) 2: 474. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1917) 3: 1522 كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه ... وأخرجه أبو داود في سننه (2514) 3: 13 كتاب الجهاد، باب في الرمي. وأخرجه الترمذي في جامعه (3083) 5: 270 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنفال. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2813) 2: 940 كتاب الجهاد، باب الرمي في سبيل الله.

وأما كونه لا يشترط تعيين الراكبين والقوسين؛ فلأن الغرض معرفة حذق الفرس والرامي، لا معرفة الراكب والقوس لأنهما آلة المقصود، فلم يعتبر معرفتها؛ كسرج الدابة. قال: (الثاني: أن يكون المركوبان والقوسان من نوع واحد. فلا يجوز بين عربي وهجين، ولا قوس عربي وفارسي. ويحتمل الجواز). أما كون الثاني من الشروط المذكورة: أن يكون المركوبان والقوسان من نوع واحد؛ فلأن النوعين يتفاوتان عادة فلم تصح المسابقة عليهما؛ كالمسابقة على بعير وفرس. وأما كونه يحتمل الجواز؛ فلأنه قد يسبق كل واحد منهما الآخر، والتفاوت بينهما قريب لاتفاق الجنس. وذكر المصنف هذا الاحتمال للقاضي. قال: (الثالث: تحديد المسافة والغاية ومدى الرمي بما جرت به العادة). أما كون الثالث من الشروط: تحديد المسافة والغاية ومدى الرمي؛ فلأن الغرض معرفة الأسبق، ولا يحصل إلا بذلك. ولأن أحدهما قد يكون مقصراً في أول عدوه سريعاً في انتهائه وبعكس ذلك، فلا بد من ضبط ذلك بما ذكر ليحصل العلم بالمقصود. وأما كون التحديد المذكور بما جرت به العادة؛ فلأن الزائد على ذلك قد يؤدي إلى عدم العلم بالسابق لبعد المسافة. قال: (الرابع: كون العوض معلوماً). أما كون الرابع من الشروط المذكورة: أن يكون العوض معلوماً؛ فلأنه مال في عقد فاشترط العلم به؛ كسائر العقود. وأما ما يحصل العلم به: فبالمشاهدة، وبالقدر، وبالصفة لأن ذلك محصل للعلم بثمن المبيع فكذا هاهنا. قال: (الخامس: الخروج عن شبه القمار؛ بأن لا يخرج جميعهم. فإن كان الجُعل من الإمام، أو أحدٍ غيرهما، أو من أحدهما على أن من سبق أخذه جاز. فإن جاءا معاً

فلا شيء لهما. وإن سبق المخرج أحرز سبقه ولم يأخذ من الآخر شيئاً. وإن سبق الآخر أحرز سبق صاحبه). أما كون الخامس من الشروط المذكورة: الخروج عن شبه القمار؛ فلأن القمار محرم وشبه القمار مثله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «منْ أدخلَ فَرساً بين فَرسينِ وقدَ أمنَ أن يَسبقَ فهوَ قِمَار» (¬1). وأما كون الخروج عن شبه القمار بأن لا يخرج جميعهم؛ فلأن الجميع إذا لم يخرجوا بقي من لم يخرج سالماً من الغرم، والمقامر لا يخلو منه أو من الغنم. وأما كون الجعل يجوز من الإمام؛ فلأن في ذلك حثاً على إحكام الرمي، وفي ذلك مصلحة للمسلمين. وأما كونه يجوز من أحدٍ غيرهما؛ فلأنه بدل مال في مصلحة المسلمين، وفيه تحصيل مقصود الرمي لما ذكر قبل فصح كونه من غيرهما كما لو كان من أحدهما. وأما كونه يجوز من أحدهما؛ فلأنه إذا جاز كونه من غيرهما؛ فلأن يجوز من أحدهما بطريق الأولى. وأما قول المصنف رحمه الله: على أن من سبق أخذه فمتعلق بالجعل من الإمام، أو أحد غيرهما، أو من أحدهما، وبيان لصفة الجُعْل، وتنبيه على أن الجُعل لو جعل منهما جميعاً لم يجز. وأما كونه لا شيء لهما إذا جاءا معاً؛ فلأنه لا سابق فيهما. وأما كون المخرج يحرز سبق نفسه إذا سبق؛ فلأن صاحبه لم يسبق فلم يستحق شيئاً. وأما كونه لا يأخذ من الآخر شيئاً؛ فلأنه لم يشترط للسابق عليه شيئاً. وأما كون الآخر يحرز سبق (¬2) صاحبه إذا سبقه؛ فلأنه سبقه فملك المال الذي جعل عوضاً في العقد الصحيح كالعوض المجعول في رد الضالة والآبق. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ساقط من هـ.

قال: (فإن أخرجا معاً لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللاً يكافئ فرسه فرسيهما أو بعيره بعيريهما (¬1) أو رميه رمييهما، فإن سبقهما أحرز سبقهما وإن سبقاه أحرزا سبقيهما ولم يأخذا منه شيئاً، وإن سبق أحدهما أحرز السبقين فإن سبق معه المحلل فسبق الآخر بينهما). أما كون المسابقة لا تجوز إذا أخرج المتسابقان ولم يدخلا بينهما محللاً؛ فلما تقدم من أنه لا يجوز كون الجعل من جميع المتسابقين. وأما كونها تجوز إذا أدخلا بينهما محللاً؛ فلأنه إدخاله يخرج الرمي عن شبه القمار لأنه لا يخرج مع المتسابقين فلم يوجد الإخراج من الجميع. وأما قول المصنف رحمه الله: يكافئ فرسه فرسيهما أو بعيره بعيريهما أو رميه رمييهما فبيان لاشتراط المكافأ في المركوب والرمي والأصل فيها ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدخل فَرساً بين فَرسين وهو لا يؤمن أن يَسبقَ فليسَ بقمارٍ، ومن أدخلَ فرساً بين فرسينِ وقدْ أمنَ أن يَسبقَ فهوَ قَمَار» (¬2) رواه أبو داود. وأما كون المحلل إذا سبق يحرز سبقيهما؛ فلأنه جعل لمن سبق وقد سبق. وأما كون المخرجين إذا سبقاه يحرزان سبقيهما؛ فلأن المحلل لم يسبقهما حتى يستحق سبقيهما. وأما كونهما لا يأخذان منه شيئاً؛ فلأنه لم يشرط عليه لمن سبقه شيئاً. وأما كون إذا سبق يحرز السبقين؛ فلأنهما قد جعلا لمن سبق وقد سبق. وأما كون المحلل إذا سبق معه سبق الآخر بينهما؛ فلأن ذلك مستحق بالسبق وقد اشتركا فيه فوجب أن يشتركا في عوضه. ¬

_ (¬1) في هـ: بعيرهما. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2579) 3: 30 كتاب الجهاد، باب في المحلل. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2876) 2: 960 كتاب الجهاد، باب السبق والرهان.

قال: (وإن قال المخرج: من سبق فله عشرة، ومن صلى فله كذا: لم يصح. وإن قال: ومن صلى فله خمسة صح). أما كون المسابقة لا تصح إذا استوى بين السابق والمصلى وهو الثاني؛ فلأنه ليس فيه تحريض على السبق، فيفوت المقصود من العقد. وأما كونها تصح إذا قال: ومن صلى فله خمسة؛ فلأن كل واحد منهما يقصد أن يكون سابقاً ليحصل له أكثر العوضين. ولا بد أن يُلحظ كونه لا ثالث معهما لأنهم إذا كانوا ثلاثة يجتهد كل واحد منهم أن لا يكون أخيراً فيفوت المقصود من العقد. ولذلك قيد كلام المصنف رحمه الله من أذن له في إصلاحه فقال: إذا كانا اثنين. قال: (وإن شرطا أن السابق يطعم السبق أصحابه أو غيرهم لم يصح الشرط. وفي صحة المسابقة وجهان). أما كون الشرط المذكور لا يصح؛ فلأنه عوض عن عمل فلا يستحقه غير العامل؛ كالعوض في رد الآبق. وأما كون المسابقة تصح في وجه؛ فلأن عقد المسابقة لا تقف صحته على تسمية بدل، فلم يفسد بالشرط الفاسد؛ كالنكاح. وأما كونها لا تصح في وجه؛ فلأنه بذل العوض لهذا الغرض فإذا لم يحصل له غرضه لم يلزمه العوض. فعلى هذا إن كان المخرج السابق أحرز سبقه، وإن كان الآخر فله أجرة عمله؛ لأنه عمل عملاً بعوض لم يُسَلَّم له فاستحق أجرة المثل؛ كالإجارة الفاسدة.

فصل [في أحكام المسابقة] قال المصنف رحمه الله: (والمسابقةُ جُعالة لكل واحد منهما فسخها. إلا أن يظهر الفضل لأحدهما فيكون له الفسخ دون صاحبه. وتنفسخ بموت أحد المتعاقدين. وقيل: هي عقد لازم ليس لأحدهما فسخها. لكنها تنفسخ بموت أحد المركوبين، وأحد الراميين. ولا تبطل بموت أحد الراكبين، ولا تلف أحد القوسين). أما كون المسابقة جُعالة. والمراد به: أنها من العقود الجائزة؛ فلأنها عقد على ما لا يقدر على تسليمه فكان جائزاً؛ كرد الآبق. بيان أنه لا يقدر على تسليمه أنه عقد على الإصابة وهي لا تدخل تحت قدرته. وأما كونها عقدا لازماً على قولٍ؛ فلأنها عقد من شرطه أن يكون العوض والمعوض معلومين، فكان لازماً؛ كالإجارة. فعلى القول بالجواز لكل واحد منهما الفسخ إذا لم يظهر فضل؛ لأن ذلك شأن كل عقد جائز، وإن ظهر لأحدهما فضل؛ مثل: أن يسبقه بفرسه في بعض المسافة، أو يصيب بسهامه أكثر منه: كان لمن ظهر له الفضل الفسخ؛ لأن الحق له ولم يكن للآخر الفسخ لأنه لو جاز ذلك لفات (¬1) غرض المسابقة؛ لأنه متى بان له سبق صاحبه له فسخها وترك المسابقة فلا يحصل المقصود، وتنفسخ بموت أحد المتعاقدين كالوكالة والمضاربة وسائر العقود الجائزة. وعلى القول باللزوم ليس لأحدهما الفسخ لأن هذا شأن كل عقد لازم، ولا تنفسخ بموت أحد الراكبين، ولا تلف أحد القوسين لأنه لم يتلف المعقود عليه. ¬

_ (¬1) في هـ: لفوات.

قال: (ويقوم وارث الميت مقامه. فإن لم يكن له وارث أقام الحاكم مقامه من تركته). أما كون وارث الميت يقوم مقام الموروث هنا؛ فلأنه يقوم مقامه فيما له فكذا فيما عليه. وأما كون الحاكم يقيم مقامه إذا لم يكن له وارث؛ فلأن الموروث لزمه فعل ذلك فوجب أن يقيم الحاكم مقامه بعد موته؛ كالإجارة. قال: (والسبق في الخيل بالرؤوس (¬1) إذا تماثلت الأعناق، وفي مختلفي العنق والإبل بالكتف). أما كون السبق بالرؤوس في الخيل المتساوية الأعناق؛ فلأن السبق يعلم به. وأما كون السبق بالكتف في مختلفي العنق؛ فلأن العلم بالسبق في المختلف لا يحصل إلا بمساحة قدر الزائد، وفي ذلك حرج ومشقة. وأما كونه في الإبل بذلك؛ فلأن منها ما يرفع عنقه ومنها ما يمده فربما كان الرافع لرأسه سابقاً ويسبقه الآخر برأسه لمده إياه. قال: (ولا يجوز أن يجنب أحدهما مع فرسه فرساً يحرضه على العدو. ولا يصيح به في وقت سباقه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا جَلَبَ ولا جَنَبَ» (¬2». أما كون أحد المتسابقين لا يجوز أن يجنب فرساً يحرض فرسه على العدو ولا أن يصيح به في وقت سباقه؛ فلما ذكر المصنف من الحديث. وأما معنى: لا جَلَبَ ولا جَنَبَ فما ذكره. وقد فسره قوم بغير ذلك وليس بصحيح؛ لأنه جاء مفسراً بحديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا جَلَبَ ولا جَنَبَ في الرهانِ» (¬3). ¬

_ (¬1) في ج: بالرأس. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1123) 3: 431 كتاب النكاح، باب ما جاء في النهي عن نكاح الشغار. وأخرجه النسائي في سننه (3336) 6: 111 كتاب النكاح، باب الشغار. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2581) 3: 30 كتاب الجهاد، باب في الجلب على الخيل في السباق.

ويروى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (¬1) قال: «من أجلبَ على الخيلِ يومَ الرهانِ فليسَ منَا» (¬2). ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (11318) 11: 147.

فصل في المناضلة المناضلة: المسابقة بالسهام. ويقال: نضال وكلاهما مصدر ناضل. يقال: ناضله نضالاً ومناضلة؛ مثل: قاتله قتالاً ومقاتلة. والأصل في ذلك الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: {قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا} [يوسف: 17] قيل معناه: يسابق بعضنا بعضاً في الرمي، ويعضده قراءة من قرأ: ننتضل. وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه خرجَ على أصحابٍ له يَنتضِلونَ. فقال: ارمُوا وأنا مع ابن الأدرع. فأمسكَ الآخرون وقالوا: يا رسولَ الله! كيفَ نرمِي وأنتَ معَ ابنِ الأدرع؟ فقال: ارمُوا وأنا مَعكمْ كلكُم» (¬1) متفق عليه. وعنه عليه السلام أنه قال: «إن الملائكةَ لا تحضرُ من لَهوِكمْ إلا الرهان والنضال» (¬2). قال الأزهري: الرهان في الخيل، والنضال في الرمي، والسباق فيهما. قال المصنف رحمه الله: (ويشترط لها شروط أربعة: أحدها: أن تكون على من يحسن الرمي. فإن كان في أحد الحزبين من لا يحسنه بطل العقد فيه، وأخرج من الحزب الآخر مثله. ولهم الفسخ إن أحبوا). أما كون المناضلة يشترط لها شروط أربعة؛ فلما يأتي ذكره فيها. وأما كون أحد الشروط المذكورة: أن تكون على من يحسن الرمي؛ فلأن من لا يحسن الرمي وجوده كعدمه. ولأن الغرض معرفة الحذق، ومن لا يحسن الرمي لا حذق له، ولا يحصل لمن غلبه ميزة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2743) 3: 1062 كتاب الجهاد والسير، باب التحريض على الرمي. ولم أره في مسلم. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2453) 2: 172 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الرمي وفضله.

وأما كون العقد يبطل فيمن لا يحسن الرمي؛ فلما تقدم من اشتراط كونه ممن يحسن. وقوله: فيه مشعر بأن البطلان مختص بمن لا يحسن، فأما من يحسن فالعقد باق (¬1) في حقه؛ لأن المفسد موجود فيمن لا يحسن دون غيره فوجب أن يختص البطلان به وذكر المصنف في المغني في بطلان العقد في حق من يحسن وجهين بناء على تفريق الصفقة. وأما كونه يخرج مثل من لا يحسن من الحزب الآخر مع القول ببقاء الصحة فيمن يحسن؛ فلأن البيع إذا بطل في البعض بطل فيما يقابله من الثمن فكذا هاهنا. وأما كون الحزبين لهم الفسخ إن أحبوا؛ فلأن الصفقة تفرقت عليهم. قال: (الثاني: معرفة عدد الرشق وعدد الإصابة). أما كون الثاني من الشروط المذكورة: معرفة عدد الرشق وعدد الإصابة؛ فلأن الغرض معرفة الحذق، ولا يحصل إلا بذلك. وأما معنى معرفة عدد الرشق فأن تكون عشرين رمية أو ما أشبه ذلك. وأما معنى معرفة الإصابة فأن تكون الإصابات خمساً من العشرين أو أربعاً أو ما أشبه ذلك. قال: (الثالث: معرفة الرمي هل هو مفاضلة أو مبادرة؟ فالمبادرة أن يقولا: من سبق إلى خمس إصابات من عشرين رمية فقد سبق فأيهما سبق إليها مع تساويهما في الرمي فهو السابق. ولا يلزم إتمام الرمي. والمفاضلة أن يقولا: أيُّنا فضل صاحبه بخمس إصابات من عشرين رمية سبق. فأيهما فضل بذلك فهو السابق). أما كون الثالث من الشروط المذكورة معرفة الرمي هل هو مفاضلة أو مبادرة؛ فلأن غرض الرماة يختلف: فمنهم من إصابته في الابتداء أكثر منها (¬2) في الانتهاء، ومنهم من هو بالعكس. فوجب اشتراط ذلك لِيَعْلَم ما دخل فيه. وذكر المصنف في المغني عن القاضي أنه لا يشترط ذلك لأن مقتضى النضال أن من بادر إلى الإصابة فقد سبق. ¬

_ (¬1) في هـ: باقي. (¬2) في هـ: منهما.

وأما معنى المفاضلة والمبادرة فكما ذكر المصنف. وللمناضلة صورة ثالثة ذكرها أبو الخطاب والمصنف في المغني واسمها محاطة. ومعناها: أن يشترطا حطّ ما يتساويان فيه من الإصابة في رشق معلوم فإذا فضل أحدهما بإصابة معلومة فقد سبق صاحبه. وصورتها مثلاً: أن يجعلا الرشق عشرين ويشترط حط ما يتساويان فيه فإذا فضل أحدهما بثلاثة أو أربعة أو ما أشبه ذلك فقد نضل صاحبه. قال: (وإذا أطلقا الإصابة تناولها على أي صفة كانت. وإن قالا: خواصل كان تأكيداً لأنه اسم لها كيف ما كانت. وإن قالا: خواسق وهو ما خرق الغرض وثبت فيه، أو خوارق وهو: ما خرقه ولم يثبت فيه، أو خواصر وهو: ما وقع في أحد جانبي الغرض تقيدت بذلك. وإن شرطا إصابة موضع من الغرض كالدائرة فيه تقيد به). أما كون إطلاق الإصابة يتناولها على أي صفة كانت؛ فلأن أي صفة كانت تدخل تحت مسمى الإصابة. وأما كون قولهما: خواصل تأكيداً فلما ذكر المصنف من أنها اسم للإصابة كيف ما كانت. وأما كون الإصابة تتقيد بقولهما: خواسق أو خوارق أو خواصر، أو شرطهما إصابة موضع من الغرض كالدائرة؛ فلأن الغرض يختلف باختلاف ذلك فوجب أن تتقيد المناضلة به تحصيلاً للغرض. ولأنه وصف وقع العقد عليه فوجب أن يتقيد به ضرورة الوفاء بموجبه. وأما معنى كل واحد من الألفاظ المذكورة فكما ذكر المصنف رحمه الله. قال: (الرابع: معرفة قدر الغرض: طوله، وعرضه، وسمكه، وارتفاعه من الأرض). أما كون الرابع من الشروط المذكورة: معرفة قدر الغرض طوله وعرضه وسمكه وارتفاعه من الأرض؛ فلأن الإصابة تختلف باختلاف ذلك، فوجب العلم به. أشبه تعيين النوع.

وأما قول المصنف رحمه الله: طوله وعرضه وسمكه وارتفاعه من الأرض فبيان لقدر الغرض. وأما معنى ذلك كله فمعلوم لأهله. قال: (وإن تشاحّا في المبتدأ بالرمي أقرع بينهما. وقيل: يُقدم من له مزية بإخراج السبق. وإذا بدأ أحدهما في وجه بدأ الآخر في الثاني). أما كونه يقرع بينهما مع التشاح على المذهب؛ فلأنه يميز ما أشكل. ولأن مقتضى العقد التساوي والقرعة مشروعة (¬1) عند ذلك لأن تقديم أحدهما من غير قرعة ترجيح من غير مرجح. وأما كونه يقدم من له مزية بإخراج السبق على وجهٍ؛ فلأن له نوعاً من الترجيح فيجب أن يقدم به. فعلى هذا إن كان العوض من أحدهما قدم صاحبه، وإن كان العوض من أجنبي قَدَّم صاحبُ العوض من شاء منهما. قال صاحب النهاية فيها: الصحيح أنه لا يبدأ أحدهما إلا بالقرعة لأن العقد موضوع على أن لا يفضل صاحب السبق على صاحبه. وأما كون أحدهما يبدأ في الوجه الثاني إذا بدأ صاحبه في الأول فلتحصل المساواة بينهما. قال: (والسنة أن يكون لهما غرضان إذا بدأ أحدهما بغرض بدأ الآخر بالثاني). أما كون السنة أن يكون للمتناضلين غرضان يرميان إلى أحدهما ثم يمضيان فيأخذان السهام ثم يرميان إلى الغرض الآخر؛ فلأن ذلك فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة» (¬2). وقال إبراهيم التيمي: «رأيتُ حذيفةَ يشتدّ بين الغرضينِ يقولُ: أنا بها» (¬3). وعن ابن عمر مثله (¬4). ¬

_ (¬1) في هـ: مشرعة. (¬2) أخرجه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب (2245) 2: 43 عن أبي هريرة: «تعلموا الرمي. فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة». (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2458) 2: 173 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الرمي وفضله. (¬4) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2459) الموضع السابق.

ويروى «أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشتدون بين الأغراض. يضحك بعضهم إلى بعض». وعن عمر: «علموا أولادكم الرمي والمشي بين الغرضين» (¬1). وأما كون أحد المتناضلين يبدأ بالغرض الثاني إذا بدأ صاحبه بالغرض الآخر فلتحصل المساواة بينهما. وفي قول المصنف رحمه الله: والسنة أن يكون لهما غرضان تنبيه على أن الغرض لو كان واحداً جاز. وهو صحيح؛ لأن الغرض معرفة حذق الرماة، وذلك حاصل بالغرض الواحد. قال: (وإذا أطارت الريح الغرض فوقع السهم موضعه فإن كان شرطهم خواصل احتسب به، وإن كان خواسق لم يحتسب له به ولا عليه). أما كونه يحتسب بالسهم الواقع موضع الغرض مع كون الشرط خواصل؛ فلأن الشرط الإصابة ولو كان الغرض في موضعه لأصابه. وأما كونه لا يحتسب له به ولا عليه مع كون الشرط خواسق؛ فلأن الشرط أن يثبت فيه، ولو كان الغرض في موضعه لاحتمل أن يثبت فيه وأن لا يثبت. قال: (وإن عرض عارض من كسر قوس، أو قطع وتر، أو ريح شديدة لم يحتسب عليه بالسهم. وإن عرض مطر، أو ظلمة جاز تأخير الرمي. ويكره للأمين والشهود مدح أحدهما؛ لما فيه من كسر قلب صاحبه). أما كونه لا يحتسب على الرامي بالسهم مع عارض كسر قوس، أو قطع وتر، أو اشتداد (¬2) ريح؛ فلأن الخطأ للعارض لا لسوء رميه. ومفهوم قوله: لم يحتسب عليه أنه لو أصاب مع العارض حسب له لتحقق الشرط. وقال في المغني: لا يحتسب له كما لا يحتسب عليه. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن حبان عن أبي عثمان: «أتانا كتاب عمر. ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان. فذكر الحديث. وفيه: وارموا الأغراض، وامشوا بين الهدفين». (5430) 7: 401. (¬2) ساقط من هـ.

ولأن الريح الشديدة كما يجوز أن تصرف السهم الشديد فيخطئ يجوز أن تصرف السهم المخطئ عن خطئه فيقع مصيباً فتكون إصابته بالريح لا بالحذق. ولم يحك غيره. وأما كونه يجوز تأخير الرمي إذا عرض مطر أو ظلمة؛ فلأن ذلك عذر لا يمكن معه فعل المعقود عليه. وأما كونه يكره مدح الأمين والشهود لأحد المتناضلين؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من كسر قلب صاحبه.

الممتع في شرح المقنع تصنيف زين الدين المنجى بن عثمان بن أسعد ابن المنجى التنوخي الحنبلي 631 - 695 هـ الجزء الثالث دراسة وتحقيق د. عبدالملك بن عبدالله بن دهيش

كتاب العارية

كتاب العارية العارية: مشتقة من عار الشيء إذا ذهب وجاء. ومنه قيل للبطال: عيّار لتردده في بطالته. والعرب تقول: أعاره وعاره مثل: أطاعه وطاعه. والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {ويمنعون الماعون} [الماعون: 7]. روي عن ابن عباس وابن مسعود قالا: العواري. وفسرها ابن مسعود فقال: القدر والميزان والدلو. وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (¬1) قال: «العَاريةُ مُؤَدَّاةٌ» (¬2). وروى صفوان بن أمية «أن النبي صلى الله عليه وسلم استعارَ منهُ يومَ حنين أَدْرَاعاً. فقال: أَغصباً يا محمد! قال: بلْ عاريةٌ مَضمونَة» (¬3) رواه أبو داود. وأما الإجماع فأجمع المسلمون في الجملة على جواز العارية. وأما المعنى فهو أن العارية هبة المنافع أو إباحتها. فوجب أن تكون جائزة؛ كهبة الأعيان وإباحةِ أكلها. قال المصنف رحمه الله: (وهي هبة منفعة. تجوز في كل المنافع إلا منافع البضع. ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر. وتكره إعارة الأمة الشابة لرجل غير محرمها، واستعارة والديه للخدمة). أما قول المصنف: وهي هبة منفعة؛ فهو بيان لمعنى العارية. وقال صاحب المستوعب: هي إباحة منفعة. وقدّمه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3565) 3: 296 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية. وأخرجه الترمذي في جامعه (2120) 4: 433 كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2399) 2: 802 كتاب الصدقات، باب العارية. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال البوصيري في الزوائد: إسناد حديث أنس صحيح. وعبدالرحمن هو بن يزيد بن جابر ثقة. وسعيد هو بن أبي سعيد المقبري. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3562) 3: 296 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية. وأخرجه أحمد في مسنده (27674) 6: 465.

وأما كون العارية تجوز في كل المنافع ما خلا منافع البضع، وإعارة العبد المسلم لكافر؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعارَ من أبي طلحةَ فرساً فَركبهَا» (¬1)، و «من صفوان أَدْرَاعاً» (¬2)، و «سئل عن حق الإبل فقال: إعارةُ دَلوهَا فَحْلِها» (¬3). فيثبت ذلك في المنصوص، ويقاس عليه سائر المنافع. وأما كونها لا تجوز في منافع البضع؛ فلأن الوطء لا يجوز إلا في عقد نكاح أو ملك يمين، وذلك غير حاصل. وأما كون إعارة العبد المسلم لكافر لا تجوز؛ فلأنه لا تجوز إعارته له حذراً من استخدامه. وأما كون إعارة الأمة الشابة لرجل غير محرمها تكره؛ فلأنه لا يؤمن عليها، ولا يجوز له الخلوة بها. وذكر المصنف في المغني أن ذلك لا يجوز لما ذكر. وفي قوله: الشابة لرجل غير محرمها إشعار بأن إعارة الكبيرة لرجل غير محرم، وإعارة الشابة لامرأة، ومحرم لا تكره، وهو صحيح؛ لأنه يؤمن فيهما ما ذكر قبل. وأما كون استعارة والدي الشخص للخدمة تكره (¬4)؛ فلأنه يكره استخدامهما، فكره استعارتهما لذلك. قال: (وللمعير الرجوع متى شاء ما لم يأذن في شَغله بشيء يستضر المستعير (¬5) برجوعه؛ مثل: أن يعيره سفينة لحمل متاعه فليس له الرجوع ما دامت في لجّة البحر. وإن أعاره أرضاً للدفن لم يرجع حتى يبلى الميت، وإن أعاره حائطاً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2484) 2: 926 كتاب الهبة، باب من استعار من الناس الفرس. وأخرجه مسلم في صحيحه (2307) 4: 1803 كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي عليه السلام وتقدمه للحرب. (¬2) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (988) 2: 685 كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة. وأخرجه النسائي في سننه (2454) 5: 27 كتاب الزكاة، باب مانع زكاة البقر. (¬4) زيادة يقتضيها السياق. (¬5) ساقط من هـ.

ليضع عليه أطراف خشبه لم يرجع ما دام عليه، فإن سقط عنه لهدم أو غيره لم يملك رده). أما كون المعير (¬1) له الرجوع متى شاء مع عدم إذنه في الشَّغل بشيء يستضر المستعير بالرجوع كما مثل المصنف رحمه الله؛ فلأن المنافع المستقبلة لم تحصل في يده، فلا يملكها بالإعارة؛ كما لو لم تحصل العين في يده. وأما كونه ليس له (¬2) ذلك مع الإذن في الشَّغل المذكور؛ فلأنه قلب لموضوع العارية. إذ موضوعها ارتفاق المستعير بالعين، وحصول النفع له، وضرره ينافي ذلك. وأما كونه لا يرجع في السفينة ما دامت في لُجَّة البحر؛ فلأن الرجوع قبل ذلك يستضر به، فلم يملك الرجوع لفقد شرطه. وأما كونه لا يرجع إذا أعاره أرضاً للدفن حتى يبلى الميت؛ فلأن في الرجوع هتكَ حرمة الميت بالنبش فلم يُمَكّن منه؛ كما لو كان ضرراً على الحي. وأما كونه لا يرجع في الحائط المعار لوضع أطراف خشبه ما دام عليه؛ فلأن هذا يراد للبقاء. ولأن في الرجوع ضرراً على المستعير. وأما كونه لا يملك رده إذا سقط عنه لهدمٍ أو غيره؛ فلأن الإذن (¬3) يتناول الحائط الأول (¬4) فلا يتعدى إلى غيره. ¬

_ (¬1) في أ: المستعير. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) مثل السابق. (¬4) مثل السابق.

قال: (وإن أعاره أرضاً للزرع لم يرجع إلى الحصاد. إلا أن يكون مما يُحصد قصيلاً فيحصده). أما كونه لا يرجع إلى الحصاد إذا كان الزرع مما لا يُحصد قصيلاً؛ فلأن فيه ضرراً على المستعير. وأما كونه يحصده إذا كان مما يحصد قصيلاً؛ فلأنه أمكن الرجوع من غير ضرر. قال: (وإن أعارها للغراس والبناء، وشرط عليه القلع في وقتٍ، أو عند رجوعه، ثم رجع: لزمه القلع. ولا يلزمه تسوية الأرض إلا بشرط. وإن لم يشرط عليه القلع لم يلزمه إلا أن يضمن له المعير النقص. فإن قلع فعليه تسوية الأرض. وإن أبى القلع فللمعير أخذه بقيمته. فإن أبى ذلك بِيعا لهما. فإن أبيا البيع ترك بحاله). أما كون المستعير يلزمه القلع مع الشرط؛ فلقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم» (¬1). ولأنه رضي بالتزام الضرر الداخل عليه بالقلع. وأما كونه لا يلزمه تسوية الأرض أي الحفر الحاصلة فيها بالقلع مع عدم الشرط؛ فلأنه رضي بعدم التسوية حيث لم يشرطها. وأما كونه يلزمه ذلك مع الشرط؛ فلما تقدم في القلع. وأما كونه لا يلزمه القلع إلا عند عدم ضمان النقص؛ فلأن فيه ضرراً على المستعير. وأما كونه يلزمه القلع عند ضمان النقص؛ فلأنه رجوعٌ من غير إضرار. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح. وأخرجه الترمذي في جامعه (1352) 3: 634 كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس.

وأما كونه عليه تسوية الأرض إذا قلع وليس مشروطاً عليه قلع الغرس؛ فلأن القلع باختياره. لو امتنع منه لم يجبر عليه. فلزمه التسوية؛ كالمشتري لما فيه شفعة إذا أخذ غرسه (¬1). ونقل المصنف في المغني عن القاضي: لا يلزمه تسوية الحُفَر؛ لأنه لما أعاره مع علمه بأن له قلع غرسه كان ذلك رضاً منه بما يحصل بالقلع من التخريب (¬2)، فلم تلزمه التسوية كما لو شرط القلع. ولم يحك عن الأصحاب غيره. وحكى في الكافي الوجهين معاً. وأما كون المعير له أخذ ذلك بقيمته إذا أبى المستعير القلع؛ فلأن غرسه حصل في ملك غيره. أشبه الشفيع مع المشتري. وأما كون الغرس والأرض يباعان لهما إذا أبيا ما ذكر؛ فلأن ذلك طريق إلى تحصيل مالية كل واحدٍ منهما. ولا بد أن يلحظ في قوله: بِيعا لهما أن البيع يكون بالاتفاق لقوله بعد: فإن أبيا البيع ترك بحاله. فعلى هذا إذا بيعا دفع إلى كل واحدٍ منهما حصته. وطريقه أن يقال: كم قيمة الأرض غير مغروسة؟ فيقال: عشرة. ويقال: كم تساوي مغروسة؟ فيقال: خمسة عشر. فيكون للمعير ثلثا الثَّمَن، وللمستعير ثلثه. وأما كون ذلك يترك بحاله إذا أبيا البيع؛ فلأن جائز التصرف لا يجبر على بيع ملكه إلا في دَين. قال: (وللمعير التصرف في أرضه على وجه لا يضر بالشجر. وللمستعير الدخول للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة. ولم يذكر أصحابنا عليه أجرة من حين ¬

_ (¬1) في ج: كالشفيع إذا أخذ غرسه. (¬2) في هـ: التحريث.

الرجوع، وذكروا عليه أجرة في الزرع وهذا مثله فيخرج فيهما. وفي سائر المسائل وجهان). أما كون المعير والمستعير لكل واحدٍ منهما التصرف بما تقدم ذكره؛ فلأن لكل واحدٍ حاجة إلى ذلك مع عدم ضرر صاحبه. ولأن الملك يقتضي أن يملك المعير التصرف في ملكه مطلقاً. خولف فيما يضر المستعير للضرر فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وإذنه للمستعير في الغرس والزرع إذن له فيما هو من ضروراته، والدخول للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة من ضرورات ذلك، فملكه لشمول الإذن له عرفاً. وأما كون المستعير لا أجرة عليه في الشجر من حين الرجوع؛ فلأن بقاء ذلك بحكم العارية. فوجب كونه بغير أجرة؛ كالخشب على الحائط. وأما كونه عليه أجرة في الزرع؛ فلأن المعير لما رجع اقتضى رجوعه أن المستعير لا يملك الانتفاع بالعارية. ضرورة بطلان الإذن المبيح لذلك بالرجوع. لكن الانتفاع لو مُنع منه إلى حصاد الزرع لأدى إلى ضرر المستعير. فوجب بقاؤه بأجرة؛ لما فيه من الجمع بين الحقين. وأما كون مسألة الغرس مثل مسألة الزرع فيما ذكر؛ فلاستوائهما في الرجوع الموجب لما ذكر. فعلى هذا يخرج فيهما وفي كل موضع يشبههما وجهان وجههما (¬1) ما تقدم. قال: (وإن غرس أو بنى بعد الرجوع أو بعد الوقت فهو غاصب يأتي حكمه). أما كون من ذكر غاصباً؛ فلأنه تصرف بغير إذن المالك، وذلك شأن الغاصب. وأما كون الغاصب يأتي حكمه؛ فلأنه يأتي في باب الغصب (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ: ووجههما. (¬2) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن حمل السيل بَذراً إلى أرض فنبت فيها فهو لصاحبه يبقى إلى الحصاد بأجرة مثله. وقال القاضي: لا أجرة له. ويحتمل أن لصاحب الأرض أخذه بقيمته). أما كون ما نبت لصاحب البذر لا لصاحب الأرض؛ فلأنه نماء ملكه. وأما كونه مبقى إلى الحصاد؛ فلأنه حصل في ملك غيره بغير تعدٍّ منه، وفي قلعه إتلافٌ له فلم يجب عليه كما لو أذن له فيه، وكما لو حصل فصيله في ملك غيره فلم يمكن إخراجه إلا بذبحه أو قلع الباب فإنه لا يجبر على ذبحه. وأما كون صاحب الأرض له أجرة المثل عليه على المذهب؛ فلأنه انتفع بملك غيره بغير إذنه. فوجب عليه أجرة المثل؛ كالغاصب، وكما لو انقضت مدة المستأجر وله في الأرض زرعٌ لم يفرّط في زرعه. وأما كونه لا أجرة له على قول القاضي؛ فلأنه حصل بغير تفريطه. وأما كونه يحتمل أن لصاحب الأرض أخذه بقيمته؛ فلأنه حصل زرع غيره في ملكه فكان له ذلك؛ كما لو غصب ملكه وزرع. قال: (وإن حمل غرس رجل فنبت في أرض غيره فهل يكون كغَرْس الشفيع أو كغَرْس الغاصب؟ على وجهين). أما كون ما ذكر كغَرْس الشفيع على وجهٍ؛ فلأنه ساواه في عدم التعدي. وأما كونه كغرس الغاصب على وجهٍ؛ فلأنه ساواه في عدم الإذن. وحكم غرس الشفيع أنّ قلعه مجاناً غيرُ مستحقٍ. بخلاف غرس الغاصب. وقول المصنف: كغرس الشفيع فيه نظر؛ لأنه يوهم أن الغرس ملك الشفيع. كما أن قوله: كغرس الغاصب كذلك، وليس الغرس ملك الشفيع بل الشفيع إذا أخذ (¬1) بالشفعة وكان المشتري قد غرس لا يملك الشفيع قلع الغرس من غير ضمان النقص، والعبارة الصحيحة أن يقال: كغرس المشتري لما فيه شفعة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

قال المصنف رحمه الله: (وحكم المستعير في استيفاء المنفعة حكم المستأجر. والعارية مضمونة بقيمتها يوم التلف وإن شرط نفي ضمانها. وكل ما كان أمانة لا يصير مضموناً بشرطه، وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه. وعن الإمام أحمد أنه ذكر له ذلك فقال: «المسلمون على شروطهم» (¬1)، فيدل على نفي الضمان بشرطه). أما كون حكم المستعير حكم المستأجر في استيفاء المنفعة؛ فلأن المنافع صارت مملوكة له فكان حكمه حكم المستأجر لاشتراكهما في ذلك. وأما كون العارية مضمونة مع عدم شرط نفي الضمان؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بل عاريةٌ مضمونة» (¬2)، ويروى عنه عليه السلام أنه قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» (¬3) رواه أبو داود. ولأنه أخذ ملك غيره لمنفعة نفسه منفرداً بها من غير استحقاق ولا إذن في الإتلاف. فكان مضموناً؛ كالغصب والمقبوض على وجه السوم. وأما كونها مضمونة مع شرط نفي الضمان على المذهب؛ فلما تقدم من الحديثين. ولأن كل عقد اقتضى الضمان أو عدمه لم يغيره (¬4) الشرط؛ كالبيع والوديعة والهبة والشركة والمضاربة. وأما كونها لا تكون مضمونة على روايةٍ؛ فلما ذكر الإمام أحمد من الحديث. ولأن الضمان حقُّ المعير. فإذا شرط نفيه كان راضياً بإسقاط حقه، وإذا رضي بإسقاط حقه وجب أن يسقط؛ كما لو أذن له في إتلاف ماله. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه أبو داود في البيوع، باب في تضمين العارية 3: 296/ 3561. والترمذي في البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداة 3: 492/ 1266. وابن ماجة في الصدقات، باب العارية 2: 802/ 2400. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬4) في هـ: يغير.

والأول أصح؛ لما تقدم. والحديث المراد به غيرُ ذلك. جمعاً بينه وبين ما تقدم من الحديثين. والفرق بين شرط نفي الضمان وبين الإذن في الإتلاف: أن الإتلاف فعل يصح الإذن فيه، ويسقط حكمه. إذ لا ينعقد سبباً للضمان مع كونه مأذوناً في عكسه. أما إسقاط الضمان فهو نفي للحكم مع وجود سببه وليس ذلك إلى المالك. ولا يملك الإذن فيه. وأما كون العارية مضمونة بقيمتها؛ فلأن القيمة بدلٌ عنها في الإتلاف .. فوجبت عند تلفها؛ كالإتلاف. وأما كون الضمان حيث وجب معتبراً بيوم التلف؛ فلأنه حينئذ تحقق فوات العارية. فوجب اعتبار الضمان به. وأما كون كل ما كان أمانة لا يصير مضموناً بشرطه، وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه؛ فلأن العقد إذا اقتضى شيئاً فشرط غيره يكون شرطاً لشيء ينافي مقتضى العقد فلم يصح؛ كما لو شرط في المبيع أن لا يبيعه. قال: (وإن تلفت أجزاؤها بالاستعمال كخمل المنشفة فعلى وجهين). أما كون الأجزاء المذكورة تُضمن على وجهٍ؛ فلأن التالف أجزاءٌ مضمونة لو تلفت العين قبل تلفها. فوجب أن تضمن بالاستعمال؛ كسائر الأجزاء. وأما كونها لا تضمن على وجهٍ؛ فلأن الإذن في الاستعمال تضمن الإذن في الإتلاف، وما أذن في إتلافه لا يضمن؛ كالمنافع. وفارق ما إذا تلفت العين من حيث إنه لا يمكن تمييزها من العين. ولأنه إنما أذن فيها على وجه الانتفاع، فإذا تلفت قبل ذلك فقد فاتت على غير الوجه الذي أذن فيه. فضمنها؛ كما لو أجّر العين المستعارة.

قال: (وليس للمستعير أن يعير، فإن فعل فتلف عند الثاني فله تضمين أيِّهما شاء. ويستقر الضمان على الثاني). أما كون المستعير ليس له أن يعير؛ فلأن الانتفاع بالعارية مستفاد بالإذن لا بطريق المعاوضة. وهو يختلف باختلاف فاعله. فقد يرضى الشخص بانتفاع شخص دون آخر. وعلل المصنف ذلك في المغني بأن العارية: إباحة المنفعة. فلا يجوز أن يبيحها؛ كإباحة الطعام. وهذا صحيح على قول من يقول: العارية إباحة المنفعة، أما من يقول: هي هبة المنفعة فلا يصح ذلك وينبغي حينئذ أن يقال: المنفعة وإن كانت مملوكة للمستعير إلا أن الرقبة باقية على ملك المعير. ويلزم من استيفاء المنفعة السلطة على الرقبة. فوجب أن لا يملك ذلك إلا بإذن من المعير. فإن قيل: هذا المعنى بعينه موجود في العين المستأجرة، وإجارتها جائزة. قيل: الغرض من الإجارة غالباً الأجرة، وذلك لا يختلف. بخلاف العارية فإن الغرض فيها: نفع المستعير، وذلك يختلف بالنسبة إلى من ينتفع. ولأن الإجارة من باب المعاوضة فهي أبلغ من العارية. ولا يلزم من الجواز في الإجارة الجواز في العارية؛ لقصورها عنها. ويمكن أن يقال: مقتضى الدليل أن لا تجوز في الإجارة؛ لما ذكر، لكن المستأجر قد يستغني عن العين. فلو لم تجز الإجارة لأدى إلى فوات ماله وما قابله، وهذا مفقود في المستعير. فوجب بقاؤه على المنع، عملاً بمقتضى الدليل، السالم عن المعارض. وأما كون مالك العارية له تضمين من شاء من المستعير أوّلاً والمستعير ثانياً إذا أعار (¬1) الأول العارية لآخر؛ فلأن كل واحدٍ منهما متعدٍّ. فإن قيل: إذا لم يعلم المستعير الثاني الحال لا يوصف بالتعدي. قيل: إن علم فالعلة ما ذكر، وإن لم يعلم فيجب عليه الضمان لحصول التلف في يده. ¬

_ (¬1) في هـ: عار.

وأما كونه يستقر الضمان على الثاني؛ فلأن التلف حصل في يده. قال: (وعلى المستعير مؤونة رد العارية. فإن ردّ الدابة إلى اصطبلِ المالك أو غلامهِ لم يبرأ من الضمان إلا أن يردها إلى من جرت عادته بجريان ذلك على يده؛ كالسَائسِ ونحوه). أما كون مؤونة رد العارية على المستعير؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العارية مُؤَدّاة» (¬1)، وقال: «على اليد ما أخذت حتى ترده» (¬2). وإذا كانت واجبة الرد وجب أن تكون مؤونة الرد على من يجب عليه الرد. وأما كونه لا يبرأ من الضمان إذا ردّ الدابة إلى اصطبل المالك؛ فلأنه لم يردها إلى المالك، ولا إلى وكيله. أشبه ما لو ردّها إلى أجنبي. وأما كونه لا يبرأ إذا ردها إلى غلامه الذي لم تجر عادته بجريان ذلك على يده؛ فلأنه لم يقبضها مأذون له في القبض قولاً ولا عُرفاً. أشبه ما لو ردّها إلى الاصطبل. وأما كونه يبرأ إذا ردّها إلى من جرت عادته بما تقدم ذكره؛ كالسائسِ ونحوه؛ فلأن العرف قائمٌ مقام صريح الإذن. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [إذا اختلف المعير والمستعير] قال المصنف رحمه الله: (إذا اختلفا فقال: أجرتك، قال: بل أعرتني عقيب العقد. فالقول قول الراكب. وإن كان بعد مضي مدة لها أجرة فالقول قول المالك فيما مضى من المدة دون ما بقي منها. وهل يستحق أجرة المثل أو المدعى إن زاد عليها؟ على وجهين). أما كون القول قول الراكب مع الاختلاف عقيب العقد؛ فلأن المالك يدعي عقداً ينكره الراكب. فكان القول قوله؛ كسائر من أنكر. وأما كون القول قول المالك فيما مضى مع الاختلاف بعد مضي مدةٍ لها أجرة؛ فلأن قابض العين ادعى الإذن في الانتفاع بغير عوض، والمالك ينكره، [والقول قول المنكر] (¬1). وأما كونه لا يقبل قوله فيما بقي؛ فلأنه يدعي عقداً الأصل عدمه، وشغلَ ذمة غيره، والأصل براءتها. وأما كونه يستحق فيما يقبل قوله فيه أجرة المثل على وجهٍ؛ فلأنهما لو اتفقا على الإجارة واختلفا في قدر الأجرة وجب أجرة المثل فمع الاختلاف في الأصل بطريق الأولى. وأما كونه يستحق المدعى إن زاد على أجرة المثل على وجهٍ؛ فلأن المالك قُبل قوله في الإجارة. فوجب أن يقبل في المدعى بالقياس عليها. ¬

_ (¬1) زيادة من أ.

قال: (وإن قال: أعرتك، قال: بل أجرتني والبهيمة تالفة: فالقول قول المالك. وإن قال: أعرتني أو أجرتني، قال: بل غصبتني: فالقول قول المالك. وقيل: قول الغاصب). أما كون القول قول المالك إذا ادعى العارية وادعى مَنِ العين في يده الإجارة والبهيمة تالفة؛ فلأنهما اختلفا في صفة القبض. والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان؛ لقوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتى ترده» (¬1). وأما كون القول قول المالك فيما إذا قال مَنِ العين في يده: أعرتني أو أجرتني، فقال المالك: بل غصبتني على المذهب؛ فلما ذكر. وأما كون القول قول الغاصب على قولٍ؛ فلأن المالك يدعي عليه عوضاً، الأصل براءة ذمته منه. ولأن الظاهر مِنَ اليد أنها بحق. فكان القول قول صاحب اليد. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

كتاب الغصب

كتاب الغصب الغصب حرامٌ بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم} [البقرة: 188]. وأما السنة فما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: «إن دماءَكمْ وأموالَكُمْ حرامٌ كحرمةِ يومكمْ هذا، في شهركمْ هذا، في بلدكمْ هذا» (¬1) رواه مسلم (¬2). وعن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «منْ أخذَ شِبراً من الأرضِ ظُلماً طُوِّقَهُ من سَبعِ أَرضين» (¬3) متفق عليه. وقال عليه السلام: «لا يحل مال امرئ مسلمٍ إلا عن طيبِ نفسه» (¬4) رواه ابن ماجة والدارقطني والجوزجاني. وأما الإجماع فأجمع المسلمون على تحريمه. قال المصنف رحمه الله: (وهو: الاستيلاء على مال الغير قهراً بغير حق. وتُضمن أم الولد والعقار بالغصب. وعنه: ما يدل على أن العقار لا يضمن بالغصب). أما قول المصنف رحمه الله: وهو الاستيلاء على مال الغير قهراً بغير حق؛ فبيان لمعنى الغصب شرعاً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1654) 2: 620 كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى. عن أبي بكرة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (3026) 3: 1168 كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين. وأخرجه مسلم في صحيحه (1610) 3: 1231 كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (20714) 5: 72. وأخرجه الدارقطني في سننه (92) 3: 26 كتاب البيوع. كلاهما عن أبي حرة الرقاشي عن عمه. ولم أره في ابن ماجة.

وأما كون أم الولد تضمن بالغصب؛ فلأنها تجري مجرى المال. بدليل أنها تضمن بالقيمة في الإتلاف. ولأنها مملوكة. أشبهت المدبرة. وأما كون العقار يضمن بالغصب على المذهب؛ فلقوله عليه السلام في بعض ألفاظ الحديث: «من غصبَ شبراً من أرض طُوِّقَه يوم القيامة من سبع أرضين» (¬1). أخبر أنه غصب. ولأن ما يضمن في الإتلاف يجب أن يضمن في الغصب؛ كالمنقول. وأما كونه لا يضمن بالغصب على رواية؛ فلأنه لا يوجد فيه النقل والتحويل. فلم يضمن؛ كما لو حال بينه وبين متاعه فتلف المتاع. ولأن الغصب إثبات اليد على المال تزول به يد المالك، ولا يمكن ذلك في العقار. والأول أصح؛ لما ذكر. قال: (وإن غصب كلباً فيه نفع، أو خمر ذِمِّي: لزمه رده. وإن أتلفه لم تلزمه قيمته. وإن غصب جلد ميتة فهل يلزمه رده؟ على وجهين. فإن دبغه وقلنا بطهارته لزمه رده). أما كون الغاصب يلزمه رد الكلب ذي النفع؛ فلأنه يجوز اقتناؤه والانتفاع به. فلزم رده؛ كسائر الأموال المنتفَع بها. وأما كونه يلزمه رد خَمْر الذمي؛ فلأنه يُقَرُّ على شربها. ولأنها مالٌ عنده. فلزم ردها؛ كسائر أمواله. وأما كونه لا يلزمه قيمة الكلب إذا أتلفه؛ فلأنه ليس له عوض شرعي؛ لأنه لا يجوز بيعه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه من حديث سعيد بن زيد ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. ولم أقف عليه بهذا اللفظ: «من غصب ... ». نعم روى الطبراني في الكبير من حديث وائل بن حجر: «من غصب رجلا أرضا لقي الله وهو عليه غضبان» (25) 22: 18.

وأما كونه لا يلزمه قيمةُ خمر الذمي إذا أتلفها؛ فلما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ورسولَهُ حرمَ بيعَ الخمرِ، والميتةِ، والخنزيرِ، والأصنام» (¬1). متفق على صحته. وما حرُم بيعه لا لحرمته لم تجب قيمته؛ كالميتة. ولأن ما لم يكن مضموناً في حق المسلِم لم يكن مضموناً في حق الذمي؛ كالمرتد. وأما كونه يلزمه ردّ جلد الميتة ففيه وجهان مبنيان على الروايتين في طهارته بالدبغ: فعلى رواية الطهارة: يلزمه رده؛ لأنه يمكن إصلاحه. أشبه الثوب النجس، وعلى الأخرى: لا يلزمه رده؛ لأنه لا سبيل إلى إصلاحه. وأما (¬2) كونه يلزمه رده إذا دبغه وقلنا بطهارته؛ فلأنه طاهر له قيمة. فلزمه رده؛ كسائر الأموال الطاهرة. قال: (وإن استولى على حر لم يضمنه بذلك إلا أن يكون صغيراً ففيه وجهان. فإن قلنا: لا يضمنه فهل يضمن ثيابه وحُلِيَّه؟ على وجهين). أما كون الغاصب لا يضمن الحر الكبير بالاستيلاء؛ فلأنه ليس بمال. وأما كونه لا يضمن الصغير في وجهٍ؛ فلما ذكر في الحر الكبير. وأما كونه يضمنه في وجهٍ؛ فلأنه لا يقدر على الامتناع فجرى مجرى القماش. وأما كونه يضمن ما عليه إذا قلنا [يُضمن فلا إشكال. ولأنه حينئذ بمنزلة عبد عليه قماش. وأما كونه لا يضمنه إذا قلنا] (¬3) لا يضمن على وجهٍ؛ فلأنه تبعٌ لما لا يضمن. فلو ضمن لرجح التابع على المتبوع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2121) 2: 779 كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام. وأخرجه مسلم في صحيحه (1581) 3: 1207 كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. (¬2) في هـ: أما. (¬3) ساقط من هـ.

وأما كونه يضمنه على وجهٍ؛ فلأن عدم الضمان في الصغير لكونه ليس بمالٍ، وهذا مفقودٌ فيما عليه. قال: (وإن استعمل الحر كرهاً فعليه أجرته. وإن حبسه مدة فهل تلزمه أجرته؟ على وجهين). أما كون المستعمل للحر كرهاً عليه أجرته؛ فلأن منافع الحر مالٌ. بدليل صحة مقابلتها بالمال في باب الإجارة. وإذا كانت مالاً وجب أن تضمن؛ كسائر الأموال. وأما كونه تلزمه أجرته إذا حبسه مدة على وجهٍ؛ فلأنه فوّت منافعه. أشبه ما لو استعمله. وأما كونه لا تلزمه على وجهٍ؛ فلأنه ما استعمله. أشبه ما لو لم يحبسه.

فصل [في رد المغصوب] قال المصنف رحمه الله: (ويلزمه رد المغصوب إن قدر على ردّه وإن غرم عليه أضعاف قيمته. وإن خلطه بما يتميز منه لزمه تخليصه وردّه. وإن بنى عليه لزمه ردّه. إلا أن يكون قد بلي. وإن سمّر بالمسامير باباً لزمه قلعها وردها). أما كون الغاصب يلزمه ردّ المغصوب مع القدرة على رده؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على اليد ما أخذت حتى ترده» (¬1). ولأن حق المغصوب منه متعلق بعين ماله ولا يتحقق ذلك إلا بردّه. وأما قول المصنف رحمه الله: وإن غرم عليه أضعاف قيمته؛ فتنبيهٌ على أن غرامة الغاصب على ردّه لا تُسقط الرد؛ لأنه هو المتعدي فلم يُنظر إلى مصلحته. ولأنه هو المفرّط فكان أولى بالغرامة. وأما كونه يلزمه تخليصه وردّه إذا خلطه بما يتميز منه؛ فلأنه أمكنه ردّ مال غيره فلزمه ذلك كما لو لم يخلطه بغيره. وأما كونه يلزمه ردّ ما بُني عليه إذا لم يكن قد بلي؛ فلأنه مغصوبٌ يمكن ردّه. فوجب؛ كما لو لم يبنِ عليه. وأما كونه لا يلزمه ردّه إذا كان قد بلي؛ فلأنه هلك فلم يلزم رده؛ كما لو غصب شيئاً فتلف. وأما كونه يلزمه قلع المسامير من الباب المسمّرة فيه؛ فلأن ردها واجب لما يأتي، ولا يمكن ذلك إلا بالقلع، ولا أثر لضرره؛ لأنه حصل بتعدّيه. وأما كونه يلزمه ردها؛ فلأن ذلك حقٌ يمكن إيصاله إلى مستحقه فلزمه ردها؛ كما لو كانت باقية لم يسمّرها فيه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن زرع الأرض وردّها بعد أخذ الزرع فعليه أجرتها. وإن أدركها ربُّها والزرع قائم خُيّر بين تركه إلى الحصاد بأجرته وبين أخذه بعوضه. وهل ذلك قيمته أو نفقته؟ على روايتين. ويحتمل أن يكون الزرع للغاصب، وعليه الأجرة). أما كون أجرة الأرض على زارعها غصباً إذا ردّ الأرض بعد أخذ الزرع؛ فلأنه استوفى نفعها. فوجب عليه عوضه؛ كما لو استوفاه بالإجارة. ولأن المنفعة مالٌ. فوجب أن تُضمن؛ كالعين. وأما كون رب الأرض يخيّر بين ترك الزرع إلى الحصاد بالأجرة، وبين أخذه بعوضه على المذهب؛ فلأن كل واحدٍ منهما يُحَصِّل غرضه. فمَلك الخيرةَ بينهما، تحصيلاً لغرضه. ولأن الحق له. فإذا تركه بأجرة مثله كان رضاً منه بأخذ عوضه. فكان له ذلك؛ كالأرض المستأجرة إذا انقضت الإجارة، وفيها زرع فرّط في إبقائه. وإذا أخذه بعوضه كان ذلك له؛ لما روى رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منْ زرعَ في أرضِ قومٍ بغيرِ إذنهمْ فليسَ له من الزرعِ شيءٌ، وله نفقتُه» (¬1). رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأن الغاصب لا يجبر على قلع الزرع. وصرح به في المغني وغيره؛ لأن في أخذه بعوضه أو تركه بأجرته جمعاً بين الحقين. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3403) 3: 261 كتاب البيوع، باب في زرع الأرض بغير إذن صاحبها. وأخرجه الترمذي في جامعه (1366) 3: 492 كتاب الأحكام، باب ما جاء فيمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2466) 2: 824 كتاب الرهون، باب من زرع في أرض قوم بغير إذنهم. وأخرجه أحمد في مسنده (17308) 4: 141.

ولأنه لو حمل في سفينة غيره مالاً وأدخلها لُجّة البحر لا يجبر على إلقاء المتاع في البحر. ولو غصب لوحاً فرقع به سفينة لم يجبر على قلعه في لُجّة البحر. فكذلك هاهنا. ولأنه زرعٌ حصل في ملك غيره. فلم يجبر على قلعه على وجهٍ يضر به؛ كما لو كانت الأرض مستعارة أو مشفوعة. وأما كون عوض الزرع قيمته وقت أخذه على روايةٍ؛ فلأنها بدل عن الزرع فتقدرت بقيمته. ولأن الزرع للغاصب إلى حين انتزاع المالك. فوجب أخذه بقيمته؛ كما لو أخذ الشقص المشفوع. قال المصنف في المغني: فعلى هذا ينبغي (¬1) أن يجب على الغاصب أجرة الأرض إلى حين تسليم الزرع؛ لأن الزرع كان محكوماً له به، وقد شغل به أرض غيره. وأما كونه له (¬2) نفقته على روايةٍ؛ فلما تقدم من الحديث. والنفقة: هي ما أنفق من البَذر، ومؤونة الزرع في الحرث، والسقي، وغيره. وأما كون الزرع يحتمل أن يكون للغاصب؛ فلأنه نماء البَذر، وهو ملكه. وأما كون الأجرة عليه؛ فلأنه استوفى منفعة الأرض. فلزمته الأجرة لما تقدم. والأول أصح؛ لما تقدم من الحديث، والجمع بين الحقين. قال: (وإن غرسها أو بنى فيها أُخذ بقلع غرسه، وبنائه، وتسوية الأرض، وأرش نقصها، وأجرتها). أما كون الغاصب يؤخذ بقلع غرسه؛ فلقوله عليه السلام: «ليسَ لعرقِ ظالمٍ حقٌّ» (¬3) رواه أبو داود والترمذي: وقال: حديث حسن (¬4). ¬

_ (¬1) في هـ: يجب. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3073) 3: 178 كتاب الخراج، باب في إحياء الموات. وأخرجه الترمذي في جامعه (1378) 3: 662 كتاب الأحكام، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات. (¬4) ساقط من هـ.

ولأنه شغل ملك غيره بملكه الذي لا حرمة له في نفسه بغير إذنه. فلزمه تفريغه؛ كما لو جعل فيه قماشاً. فإن قيل: فما الفرق بينه وبين الزرع؟ قيل: الزرع لا تطول مدته. بخلاف الغرس. وأما كونه يؤخذ بقلع بنائه؛ فلأنه يؤخذ بقلع الغرس لما تقدم؛ فلأن يؤخذ بقلع بنائه بطريق الأولى؛ لأن ضرر البناء أكثر وأَدْوَم. وأما كونه يؤخذ بتسوية الأرض وأرش النقص؛ فلأنه نقص حصل بسبب تعدِّيه. وأما كونه يؤخذ بالأجرة؛ فلما تقدم. قال: (وإن غصب لوحاً فرقع به سفينة لم يقلع حتى ترسي). أما كون اللوح لا يقلع قبل إرساء السفينة؛ فلأن في قلعه إفساداً لمال الغير مع إمكان ردّ الحق إلى مستحقه بعد زمنٍ يسير. وأما كلام المصنف رحمه الله فمشعرٌ بأمرين: أحدهما: أن اللوح يُقلع إذا أرست السفينة وهو صحيح؛ لأنه أمكن ردّ الحق إلى مستحقه من غير ضرر أحد. وثانيهما: أنه لا فرق بين مال الغاصب وبين غيره؛ لاشتراكهما. وقال صاحب النهاية فيها بعد ذكر مال الغاصب: ويحتمل أن يُقلع، ولا يُنظر ذلك؛ كما لا يُنظر وقوع البناء الذي بُني على دَفٍّ غُصب. ثم قال: والأول أصح؛ لأن ضرر المالك في السفينة يزول عن قريبٍ والبناء يراد للتأبيد.

قال: (وإن غصب خيطاً فخاط به جرح حيوان وخيف عليه من قلعه فعليه قيمته. إلا أن يكون الحيوان مأكولاً للغاصب فهل يلزمه رده ويذبح الحيوان؟ على وجهين. وإن مات الحيوان لزمه ردّه إلا أن يكون آدمياً). أما كون الغاصب عليه قيمة الخيط الذي خاط به جرح حيوان غير مأكول؛ فلأنه تعذر ردّ الخيط إلى صاحبه. فوجب (¬1) أن يجب بدله وهو القيمة. وقول المصنف: فعليه قيمته؛ مشعرٌ بأنه: لا يلزمه قلعه. وصرح به في المغني؛ لأن الحيوان آكد حرمةً من المال. ولهذا يجوز أخذ مال الغير لحفظ حياته. وأما كونه لا يلزمه ردّه إذا خاط به جرحَ حيوان مأكولٍ على وجهٍ؛ فلما تقدم من أن الحيوان آكد حرمةً في نفسه، وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلةٍ». وأما كونه يلزمه رده على وجهٍ؛ فلأنه يمكنه ذبح الحيوان، والانتفاع بلحمه، وذلك جائز. وقول المصنف: للغاصب؛ مشعرٌ بأن الوجهين في ملك الغاصب، فإن كان ملكاً لغيره لم يلزمه ردّه، وصرح به في المغني؛ لأن فيه ضرراً بصاحب الحيوان، والضرر لا يزال بالضرر. ولا يجوز إتلاف مالِ مَنْ لم يجن، صيانةً لمال آخر. وأما كونه يلزمه الردّ بعد موت الحيوان غير الآدمي؛ فلأن الدليل يقتضي الرد، لكونه إيصالاً للمال إلى مالكه خولف فيما إذا كان الحيوان حياً لحرمته. فبقي فيما عدا الحيوان على مقتضى الدليل. ولأن عدم الرد في الحياة إنما كان خشية التلف فإذا مات أمكن ذلك. وأما كونه لا يلزمه الرد في الآدمي الميت؛ فلأن حرمة الميت كحرمة الحي، وقد جاء في الحديث: «كسرُ عظمِ الميتِ كَكَسْرِ عظمِ الحي» (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ: فيجب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3207) 3: 212 كتاب الجنائز، باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1617) 1: 516 كتاب الجنائز، باب في النهي عن كسر عظام الميت. قال في الزوائد: في إسناده عبد الله بن زياد، مجهول. ولعله عبد الله بن زياد بن سمعان المدني، أحد المتروكين.

فصل [إذا رد المغصوب] قال المصنف رحمه الله: (وإن زاد لزمه ردّه بزيادته. سواء كانت متصلة؛ كالسمنِ، وتعلم صَنعة، أو منفصلة؛ كالولد، والكسب. ولو غصب جارحاً فصاد به، أو شبكة، أو شِرْكاً فأمسك شيئاً، أو فرساً فصاد عليه، أو غنم: فهو لمالكه). أما كون الغاصب يلزمه ردّ المغصوب؛ فلما تقدم (¬1). وأما كونه يلزمه ردّ زيادته؛ فلأنها نماء ملك المالك. فلزم ردها؛ كالأصل. وأما كون الزيادة المتصلة والمنفصلة سواء في لزوم الرد؛ فلاشتراكهما في كونهما نماء ملك المغصوب منه. وأما كون الصيد والغنيمة في المسائل المذكورة لمالك الجارح والشبكة والشِّرْك والفرس؛ فلأن ذلك كله حصل بسبب ملكه. فكان له؛ كما لو غصب دابة فحمل عليها مال غيره. فإن الأجرة مستحقة للمالك دونه. قال: (وإن (¬2) غصب ثوباً فقَصَرَه، أو غزلاً فنسجه، أو فضة أو حديداً فضربه، أو خشباً فنجره، أو شاة فذبحها وشواها: ردّ ذلك بزيادته، وأرش نقصه، ولا شيء له. وعنه: يكون شريكاً بالزيادة. وقال أبو بكر: يملكه وعليه قيمته). أما كون الغاصب يلزمه ردّ ذلك كله بزيادته على المذهب؛ فلأن ذلك عين المال المغصوب منه. فلزمه ردّه إليه؛ كما لو ذبح الشاة ولم يشوها. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: ولو.

ولأن كل ما فعله الإنسان بماله لا يزيل ملكه عنه، إذا فعله بملك غيره لا يزيل ملكه عنه؛ لأن الفعل المذكور إذا لم يكن صالحاً للإزالة. فلأن لا يكون صالحاً للإزالة في ملك غيره بطريق الأولى. وأما كونه يردّ أرش النقص إن نقص المغصوب بذلك؛ فلأنه حصل بفعله. وأما كون الغاصب لا شيء له بعمله المؤدي إلى الزيادة على المذهب؛ فلأنه تبرع في ملك غيره. وأما كونه شريكاً بالزيادة على رواية؛ فلأن الزيادة حصلت بمنافعه، والمنافع تجري مجرى الأعيان. أشبه ما لو غصب ثوباً فصبغه. وفرّق المصنف بينهما بأن الصبغ عين مال لا يزول ملك مالكه عنه بجعله مع ملك غيره. بخلاف ما ذُكر. وذكر أبو الخطاب: أنه يكون شريكاً على الصحيح. وأما كونه يملك ذلك وعليه قيمته على قول أبي بكر؛ فلأنه يروى «أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قوماً من الأنصار في دارهم. فقدموا إليه شاةً مشوية. فجعل يَلُوكُها ولا يسيغها. فقال: إن هذه الشاة لتخبرني أنها أُخذت بغير حق. فقالوا: نعم يا رسول الله! طلبنا شاة في السوق فلم نجد. فأخذنا شاة لبعض جيراننا ونحن نرضيهم من ثمنها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعموها الأسرى» (¬1). وجه الدلالة: أنه لو لم ينقطع ملك المالك لأمر بردها إليه. وذكر المصنف في المغني: أن كلام أحمد يدل على أن الغاصب ملكها بالقيمة. ثم قال: إلا أن المذهب ما قلناه. يعني: أن الملك باقٍ على ملك مالكه، ووجهه (¬2) ما تقدم. ثم (¬3) قال: والحديث غير معروف كما روي. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج أحمد في مسنده عن جابر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مروا بامرأة. فذبحت لهم شاة واتخذت لهم طعاماً. فلما رجع قالت: يا رسول الله! إنا اتخذنا لكم طعاماً فادخلوا فكلوا. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا لا يتبدؤون حتى يبتدأ النبي صلى الله عليه وسلم. فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم لقمة. فلم يستطع أن يسيغها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه شاة ذُبحت بغير إذن أهلها. فقالت المرأة: يا نبي الله! إنا لا نحتشم من آل سعد بن معاذ ولا يحتشمون منا. نأخذ منهم ويأخذون منا». (14827) 3: 351. (¬2) في هـ: ووجه. (¬3) ساقط من هـ.

قال: (وإن غصب أرضاً فحفر فيها بئراً، ووضع ترابها في أرض مالكها: لم يملك طمها إذا أبرأه المالك من ضمان ما يتلف بها في أحد الوجهين). أما كون الغاصب لا يملك طم البئر المتقدم ذكرها إذا أبرأه المالك من الضمان في وجهٍ؛ فلأنه إتلاف لا نفع فيه فلم يكن له فعله؛ كما لو غصب نقرةً فضربها دراهم ثم أراد ردها نقرة. وأما كونه يملك طمها في وجهٍ؛ فلأنه لا يبرأ من الضمان بإبراء المالك له؛ لأنه إبراء مما لم يجب بعد. ولأنه إبراء من حق غيره، وهو الواقع فيها. وكلام المصنف في المغني يشعر بترجيح الأول؛ لأنه قال بعد ذكر المسألة: ولنا: أن الضمان إنما لزمه لوجود التعدي، فإذا رضي صاحب الأرض زال التعدي فزال الضمان، وليس هذا إبراء مما لم يجب إنما هو إسقاط للتعدي لرضاه بذلك. وفي تقييد المصنف الخلاف المذكور بوضع التراب في أرض المالك، وبإبرائه: إشعارٌ بأن الغاصب إذا وضع التراب في أرض غير المالك، أو لم يبرئه صاحب الأرض لا يجري الخلاف المذكور. وهو صحيح: أما مع كون التراب في أرض غير المالك؛ فلأن التراب متى كان في أرض غير (¬1) المالك كان له في طم البئر غرض منه، أمنه من إلزامه نقل التراب إلى موضع يستضر بنقله إليه. وأما مع عدم إبراء المالك من الضمان؛ فلما فيه من الضرر اللاحق به، المنفي شرعاً. قال: (وإن غصب حباً فزرعه، أو بيضاً فصار فرخاً، أو نوًى فصار غرساً: ردّه، ولا شيء له. ويتخرّج فيه مثل الذي قبله). أما كون الغاصب يرد ما ذُكر على المذهب؛ فلأنه عينُ مال مالكه. وأما كونه لا شيء له؛ فلأنه تبرعً بفعله. وأما كون ما ذكر يتخرج فيه مثلُ الذي قبله. والمراد به الغزل إذا نسج؛ فلأنه يساويه معنى. فوجب أن يساويه حكماً. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل [إذا نقص المغصوب] قال المصنف رحمه الله: (وإن نقص لزمه ضمان نقصه بقيمته، رقيقاً كان أو غيره. وعنه: أن الرقيق يُضمن بما يضمن به في الإتلاف. ويتخرج أن يضمن بأكثر الأمرين منهما. وإن غصبه وجنى عليه ضمنه بأكثر الأمرين. وإن جنى عليه غيرُ الغاصب فله تضمين الغاصب أكثر الأمرين، ويرجع الغاصب على الجاني بأرش الجناية. وله تضمين الجاني أرش الجناية وتضمين الغاصب ما بقي من النقص. وإن غصب عبداً فخصاه لزمه رده ورد قيمته. وعنه: في عين الدابة من الخيل والبغال والحمير ربع قيمتها. والأول أصح). أما كون الغاصب يلزمه ضمانُ ما نقص من عين الرقيق بالقيمة؛ فلأنه يُضمن بذلك في الإتلاف فكذا هاهنا؛ لاشتراكهما في التلف تحت يد عادية. وأما كون الرقيق يُضمن بذلك على المذهب؛ فبالقياس على غيره؛ لاشتراكهما في التلف. وأما كونه يُضمن بما يُضمن به في الإتلاف على روايةٍ؛ فكما لو أتلفه غير الغاصب. وأما كونه يتخرج أن يضمنه بأكثر الأمرين المتقدم ذكرهما؛ فلأن في ذلك ردعاً للغاصب، وكما لو غصبه ثم أتلفه. وأما كونه يَضمن أكثر الأمرين إذا غصبه وجنى عليه؛ فلأنه وجد سبب ضمان كل واحدٍ منهما. فوجب اعتبار أكثرهما ترتيباً على السبب الموجب (¬1) ما يقتضيه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

وأما كون المالك له الخيرة بين تضمين الغاصب وبين تضمين الجاني إذا جنى عليه غير الغاصب؛ فلأن كل واحدٍ منهما متعدٍّ: أما الغاصب؛ فلأن النقص حصل في يده، وأما الجاني؛ فلأن النقص حصل بإتلافه. فعلى هذا إن ضمّن الغاصب ضمّنه أكثر الأمرين لما تقدم. ويرجع الغاصب على الجاني بأرش الجناية، لأنه هو المتلف. وإن ضمّن الجاني ضمّنه أرش الجناية لا أكثر الأمرين؛ لأن أكثر الأمرين إنما وجب لوجود اليد العادية، ولا يد للجاني (¬1)، وضمّن الغاصب ما بقي من أكثر الأمرين؛ لأنه كان يجب عليه أكثر الأمرين. سقط منه قدر أرش الجناية؛ لأنه استوفي من فاعلها فبقي الباقي على ما كان عليه. وأما كونه يلزمه ردّ العبد إذا خصاه؛ فلأنه عينُ ملك غيره. وأما كونه يلزمه ردّ قيمته؛ فلأن الخصيتين يجب فيهما كمالُ القيمة؛ كما يجب فيهما كمال الدية من الحرّ. وأما كون الدابة من الخيل والبغال والحمير يَضمن عينها بربع قيمتها على روايةٍ؛ فلما روى زيد بن ثابت «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في عين الدابة بربع قيمتها» (¬2). وروي عن عمر رضي الله عنه «أنه كتب إلى شُريح لما كتب إليه يسأله عن عين الدابة: إنا كنا ننزلها منزلة الآدمي. إلا أنه أجمع رأيُنا أن قيمتها ربع الثمن» (¬3). وأما كون الأول أصح. والمراد به أن المغصوب يضمن نقصه بالقيمة، رقيقاً كان أو غيره؛ فلما ذكر. ولأن ضمان اليد ضمان المال فكان الواجب فيه ما نقص؛ كالثوب. وحديث زيد لا يُعرف صحته ولو صح لما احتج الإمام أحمد وغيره بحديث عمر، وتركوا قول النبي صلى الله عليه وسلم. وقول عمر محمول على أن ذلك كان قدر نقصها؛ كما روي عنه ¬

_ (¬1) في هـ: الجاني. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير 5: 139/ 4878. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه نحوه (18418) 10: 400 كتاب العقول، باب عين الدابة.

«أنه قضى في العين القائمة بخمسين ديناراً» (¬1). ولو كان تقديراً لوجب في العين نصف الدية كعين الآدمي. قال: (وإن نقصت العين لتغير الأسعار لم يضمن. نص عليه. وإن نقصت القيمة لمرض ثم عادت ببرئه لم يلزمه شيء. وإن زاد من جهة أخرى؛ مثل: إن تعلم صنعة فعادت القيمة ضمن النقص). أما كون الغاصب لا يضمن النقص لتغير الأسعار على المنصوص؛ فلأنه ردّ المغصوب بحاله، لم ينقص منه عين ولا أثر. فلم يجب عليه شيء؛ كما لو لم ينقص في السوق. وأما كونه لا يلزمه شيء إذا نقصت القيمة لمرض، ثم عادت ببرئه؛ فلأنه عاد ما ذهب. أشبه ما لو أَبَق العبد ثم عاد. وأما كونه يضمن بعض ما زاد من جهة أخرى؛ مثل: إن تعلم صنعة، وعادت القيمة؛ فلأن حدوث المرض أوجب الضمان، والزيادة حدثت على ملك المغصوب منه. فلا ينجبر ملك الإنسان بملكه. قال: (وإن زادت القيمة لسمنٍ أو نحوه. ثم نقصت: ضمن الزيادة. وإن عاد مثل الزيادة الأولى من جنسها لم يضمنها في أحد الوجهين. وإن كانت من غير جنس الأولى لم يسقط ضمانها. وإن غصب عبداً مفرطاً في السِّمَنِ، فهُزِل، فزادت قيمته: ردّه ولا شيء عليه). أما كون الغاصب يضمن زيادة القيمة بسِمَنٍ أو نحوه إذا نقصت؛ فلأنها زيادة في عين المغصوب. فوجب أن يضمنها؛ كما لو طالبه بردّها فلم يردّها. وأما كونه إذا عاد مثل الزيادة الأولى من جنسها؛ كمن غصب عبداً قيمته مائة فسَمِن فصارت قيمته مثلاً مائتين. ثم ذهب السِّمَن فصارت قيمته مائة. ثم ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرجه عبدالرزاق في مصنفه عن قتادة قال: «قضى عمر بن الخطاب في العين القائمة إذا فقئت بثلث ديتها». (17441) 9: 334 كتاب العقول، باب العين القائمة.

سَمِن فصارت قيمته مائتين لا يضمن الزيادة وهي هنا مائة في وجهٍ؛ فلما ذكر في برء العبد بعد مرضه. وأما كونه يضمنها في وجهٍ؛ فكما لو كانت الزيادة من جنس آخر. وأما كون الضمان لا يَسقط إذا كانت الزيادة من غير جنس الأولى؛ فلما ذكر في الصحيح إذا مرض ثم تعلم صنعة. وأما كونه يردّ العبد إذا غصبه مفرطاً في السِّمَن فهُزِل فزادت قيمته؛ فلأنه عين ملك غيره. وأما كونه لا شيء عليه؛ فلأنه لم تنقص قيمته. قال: (وإن نقص المغصوب نقصاً غير مستقر؛ كحنطة ابتلّت وعفنت: خُيّر بين أخذ مثلها، وبين تركها حتى يستقر فسادها. ويأخذها وأرش نقصها). أما كون مالك ما ذكر يخير بين ما ذُكر؛ فلأنه لا يمكن أن يجب له المثل؛ لأن عين حقه موجودة، ولا يمكن أن يجب له أخذها في الحال؛ لأنه لا يخلو: إما أن يجب مع الأرش النقص، أو لا، مع أرشه، وكلاهما باطل: أما الأول؛ فلأنه يلزم منه سقوط حقه بسبب النقص. وأما الثاني؛ فلأن أرش العيب قبل استقرار العيب لا يمكن معرفته ولا ضبطه. وإذا كان الأمر كذلك كان له الخيرة بين أخذ المثل؛ لأن في التأخير إلى أن يستقر الفساد ضرراً، وقد تعذر قبولها معيبة في الحال؛ لما تقدم فلم يبق سوى المثل، وبين تركه حتى يستقر الفساد؛ لأن التأخير ضرر (¬1) عليه. فإذا رضي بإسقاطه سقط فإذا استقر أخذ العين؛ لأنها ملكه، وأخذ أرش النقص من الغاصب؛ لأنه حصل بجنايته. أشبه تلف الجزء المغصوب. ¬

_ (¬1) في هـ: ضرراً.

قال: (وإن جنى المغصوب فعليه أرش جنايته. سواء جنى على سيده أو غيره. وجنايته على الغاصب وعلى ماله هدر). أما كون أرش جناية المغصوب على الغاصب؛ فلأنه نقص في مالية العبد لكونه يتعلق برقبته فكان مضموناً على الغاصب؛ كسائر النقص. وأما كون جنايته (¬1) على سيده وجنايته على غيره سواء؛ فلحصولهما تحت يده العادِيَة. وأما كون جنايته على الغاصب وعلى ماله هدراً؛ فلأنها إذا كانت على الغير كانت على الغاصب، وإذا كانت على نفسه أو ماله وجب أن تكون هدراً؛ كسيد غير المغصوب إذا جنى عبده عليه أو على ماله. قال: (وتُضمن زوائد الغصب؛ كالولد، والثمرة إذا تلفت، أو نقصت؛ كالأصل). أما كون زوائد الغصب تضمن؛ فلأنها مال غيره، حصلت في يده بالغصب. فضمنت بالتلف؛ كما لو أتلفها (¬2)، وقياساً على الأصل. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا تلفت أو نقصت؛ فبيان لنوعي ما يجب به الضمان. وأما قوله: كالأصل؛ فإشارة إلى أن كل ما يضمن به الأصل يضمن به الزوائد لينبه على ذلك، ولينقل كل حكم ثابت في الأصل إلى زوائده. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: أتفلها.

فصل [إذا خلط المغصوب] قال المصنف رحمه الله: (وإن خلط المغصوب بماله على وجهٍ لا يتميز؛ مثل: إن خلط حنطة، أو زيتاً بمثله: لزمه مثله منه في أحد الوجهين، وفي الآخر يلزمه مثله من حيث شاء). أما كون الغاصب إذا خلط المغصوب بماله كما ذكر يلزمه ردّ المثل فلا خلاف فيه؛ لأنه مثلي. وأما كون المثل من المختلط في وجهٍ؛ فلأنه يقدر على دفع بعض ماله فلم ينتقل إلى بدله. وأما كونه من حيث شاء في وجهٍ؛ فلأنه تعذر ردّ عين ماله بالخلط. فوجب مطلق المثل. قال: (وإن خلطه بدونه، أو خَيْرٍ منه، أو بغير جنسه: لزمه مثله في قياس التي قبلها. وظاهر كلامه: أنهما شريكان بقدر ملكيهما). أما كون من خلط ما ذكر يلزمه المثل في قياس التي قبلها؛ فلأنه صار بالخلط مستهلكاً. ولهذا لو اشترى زيتاً فخلطه بزيته ثم أفلس صار البائع كسائر الغرماء. ولأنه تعذر عليه الوصول إلى عين ماله فكان له الانتقال إلى بدله؛ كما لو كان تالفاً. وأما كونهما شريكين بقدر ملكيهما في ظاهر كلام أحمد؛ فلأنه إذا فعل ذلك وصل كل واحدٍ إلى عين ماله، وعند إمكان الرجوع إلى عين المال لم يُرجع إلى البدل.

فعلى هذا يباع، ويقسم بينهما على قدر ملكيهما. قال: (وإن غصب ثوباً فصبغه، أو سويقاً فلتّه بزيتٍ، فنقصت قيمتهما، أو قيمة أحدهما: ضمن النقص. وإن لم تنقص ولم تزد، أو زادت قيمتهما: فهما شريكان بقدر ماليهما. وإن زادت قيمة أحدهما فالزيادة لصاحبه). أما كون الغاصب يضمن النقص إذا نقصت قيمتهما أو قيمة أحدهما؛ فلأنه نقصٌ حصل بتعديه. فضمن؛ كما لو أتلف بعضه. ولا بد أن يلحظ أن النقص هنا بسبب العمل. فإن كان بسبب تغير السعر لم يضمنه. صرح به المصنف في المغني. وأما كونهما شريكين بقدر ماليهما إذا لم ينقص ولم يزد، أو زادت قيمتهما؛ فلأن عين الصبغ ملك الغاصب، واجتماع الملكين يقتضي الاشتراك. وأما كون الزيادة لصاحب الملك الذي زادت قيمته؛ فلأنها تبع للأصل. قال: (فإن أراد أحدهما قلع الصبغ لم يجبر الآخر عليه. ويحتمل أن يجبر إذا ضمن الغاصب النقص). أما كون كل واحدٍ من الغاصب والمغصوب منه لا يجبر على قلع الصبغ على الأول؛ فلأن المزيد إما المغصوب منه وإما الغاصب: فإن كان المغصوب منه لم يجبر الغاصب عليه؛ لأن الصبغ يهلك بالإخراج وقد أمكن وصول الحق إلى صاحبه بدونه وهو البيع، وإن كان الغاصب لم يجبر المغصوب منه؛ لأن ماله ينقص بسبب أخذه. وأما كون المغصوب منه يحتمل أن يجبر إذا ضمن الغاصب النقص؛ فلأن المانع ما يلحقه من الضرر، فإذا ضمنه الغاصب انتفى. فوجب أن يجبر. عملاً بالمقتضي له، السالم عن المعارض.

واعلم أن المذهب فيما ذكر: أن الغاصب إذا أراد قلع الصبغ أُجبر المالك، وأن المالك إذا أراد قلعه لم يجبر الغاصب؛ لأن ضرر المالك يندفع بضمان الغاصب نقص الثوب بالقلع. بخلاف الغاصب فإن ضرره لا يندفع لفوات صبغه بالكلية. وقال المصنف في المغني: إن لم يكن للصبغ قيمة إذا قُلع، فأراد الغاصب القلع: لم يكن له ذلك؛ لأنه سَفَهٌ. قال: (وإن وهب الصبغ للمالك، أو وهبه تَزويق الدار، ونحوها. فهل يلزم قبولها؟ على وجهين). أما كون المالك يلزمه القبول على وجهٍ؛ فلأن الصبغ صار من صفات العين. فهو كزيادة الصفة في السلم. وأما كونه لا يلزمه على وجهٍ؛ فلأن الصبغ عينٌ يمكن إفرادها. فلم يلزمه قبولها؛ كما لو وهبه عيناً مفردة. قال: (وإن غصب صبغاً فصبغ به ثوباً، أو زيتاً فلتَّ به سويقاً: احتمل أن يكون كذلك، واحتمل أن تلزمه قيمته، أو مثله إن كان مثلياً). أما كونه يحتمل أن يكون الغاصب والمغصوب منه شريكين بقدر ماليهما، وهو المعني بقول المصنف رحمه الله: احتمل أن يكون كذلك؛ فقياس على ما إذا غصب ثوباً فصبغه. وأما كونه يحتمل أن يلزم الغاصب مثله إن كان مثلياً، وإلا فقيمته؛ فلأن الصبغ والزيت صار في الثوب والسويق مستهلكين. أشبه ما لو أتلفهما. قال: (وإن غصب ثوباً وصبغاً، فصبغه به: ردّه وأرش نقصه، ولا شيء له في زيادته). أما كون الغاصب يرد الثوب؛ فلأنه عين ملكِ غيره. وأما كونه يرد أرش النقص؛ فلأنه حصل بفعله. وأما كونه لا شيء له في زيادته؛ فلأنه متبرع.

فصل [إذا وطئ الجارية المغصو بة] قال المصنف رحمه الله: (وإن وطئ الجارية فعليه الحد والمهر وإن كانت مطاوعة، وأرش البكارة. وعنه: لا يلزمه مهر الثيب. وإن ولدت فالولد رقيق للسيد. ويضمن نقص الولادة). أما كون الواطئ عليه الحد؛ فلأنه زانٍ فيدخل تحت الأدلة الموجبة للحد. وأما كونه عليه المهر إذا كانت الموطوءة بكراً؛ فلأن المهر يجب بالوطء في غير زوجته وأمته. دليله وجوبه في وطء الحرة. وأما كونه عليه ذلك إذا كانت ثيباً على المذهب؛ فلما ذكر. وأما كونه لا يلزمه ذلك على روايةٍ؛ فلأنه لم يُنقِص منها جزءاً ولم يُتْلِف بعضها. أشبه ما لو لم يطأها. والأول أصح؛ لما ذكر. ولأنه لا فرق بين الثيب والبكر في استحقاق المهر بسبب العقد. فكذا في استحقاقه بسبب الوطء. وأما كون الحكم كذلك وإن كانت الجارية مطاوعة؛ فلأن المهر هنا للسيد. فلا يسقط بمطاوعتها؛ كما لو أذنت في قطع يدها. ولأنه حقٌّ يجب للسيد مع إكراهها. فوجب مع مطاوعتها؛ كأجرة منافعها. وبهذا فارقت الحرة المطاوعة إذ الحَقُّ لها فسقط بما يدل على إسقاطه؛ لأن رضاها اقترن بالسبب الموجب. وأما كونه عليه أرش البكارة؛ فلأنه إذهاب جزء. أشبه قطع يدها.

فإن قيل: لم جمعتم (¬1) بين المهر وأرش البكارة؟ قيل: لأن كل واحد يُضمن منفرداً. بدليل: أنه لو وطئها ثيباً وجب مهرها، ولو افتضها بأصبعه وجب أرش بكارتها. وإذا وجب ضمانهما منفردين وجب ضمانهما مجتمعين. وأما كون الولد رقيقاً للسيد؛ فلأن ولد الأمة يتبع أمه في الرق في النكاح الحلال، ففي الحرام بطريق الأولى، لأن حال الجاني يقتضي التحامل عليه؛ لما فيه من الزجر. وأما كونه يَضمن نقص الولادة؛ فلأنه نقص حصل بفعله. أشبه ما لو نقصت بقطع يدها ونحوه. قال: (وإن باعها أو وهبها لعالمٍ بالغصب فوطئها فللمالك تضمين أيهما شاء: نقصها، ومهرها، وأجرتها، وقيمة ولدها إن تلف. فإن ضمَّن الغاصب رجع على الآخر، ولا يرجع الآخر عليه). أما كون المالك له تضمين من شاء من الغاصب والمشتري أو الموهوب له؛ فلأن كل واحدٍ منهما متصرف في ماله بغير إذنه. فوجب تضمين من شاء منهما؛ لما فيه من تحصيل حقه، وزجر من يشتريه من غاصبه أو متّهبه. وأما كونه له تضمين نقص العين المغصوبة ومهرها وأجرتها وقيمة ولدها التالف؛ فلأن ذلك جميعه يضمنه الغاصب لو انفرد فكذا هنا. وأما كون الغاصب يرجع على الآخر إذا ضمّنه المالك؛ فلأن النقص حصل في يده، والمنفعة التي يقابلها المهر، والأجرة حصلت له دون الغاصب، والأولاد أولاده. فوجب أن يستقر ضمان ذلك عليه. وأما كونه لا يرجع الآخر عليه إذا ضمنه؛ فلأن الغاصب لو ضمّنه المالك ذلك لرجع به عليه فكيف يرجع الآخر بذلك عليه؟ . ¬

_ (¬1) في هـ: جعلتم.

قال: (وإن لم يعلما بالغصب فضمّنهما رجعا على الغاصب. وإن ولدت من أحدهما فالولد حر ويفديه بمثله في صفاته تقريباً. ويحتمل أن يعتبر مثله في القيمة. وعنه: يضمنه بقيمته، ويرجع به على الغاصب. وإن تلفت فعليه قيمتها، ولا يرجع بها إن كان مشترياً، ويرجع بها المتهب. وعنه: أن ما حصلت له به منفعة؛ كالأجرة، والمهر، وأرش البكارة: لا يرجع به). أما كون المشتري والموهوب له يرجعان على الغاصب إذا لم يعلما بالغصب وضمنهما المالك؛ فلأنهما دخلا في العقد على أن يتلفا ذلك بغير عوض. فوجب أن يرجعا عليه؛ لأنه غرّهما. وأما كون الولد حراً إذا ولدت من أحدهما؛ فلأن اعتقادهما أنهما يطآن مملوكتهما منع انخلاق (¬1) الولد رقيقاً. أشبه المغرور في النكاح. وأما كون الوالد يفدي ولده؛ فلأنه فوّت رقّه باعتقاده. أشبه المغرور. وأما كونه يفديه بمثله في صفاته تقريباً على المذهب؛ فلأنه حر. فلا يضمن بقيمته؛ كسائر الأحرار. وأما كونه يحتمل أن يُعتبر مثله في القيمة؛ فلأنه أقرب من نفس القيمة. وأما كونه يَضمنه بقيمته على روايةٍ. وهي الصحيحة من جهة المعنى؛ فلأنه ليس بمثلي. فضُمن بالقيمة؛ كسائر المتقومات. وأما كونه يرجع على الغاصب؛ فلأن الواطئ دخل على أن يسلم له الأولاد. فإذا لم يسلم له ذلك فقد غرّه الغاصب. فوجب أن يرجع عليه؛ كالمغرور في النكاح. وأما كون من تقدم ذكره من المشتري، والموهوب له: عليه قيمة الجارية إذا تلفت؛ فلأن التلف حصل تحت يده العادية. فوجب عليه ضمانها؛ كالغاصب. ¬

_ (¬1) في هـ: إلحاق.

وأما كون القيمة لا يرجع بها إن كان مشترياً ويرجع بها المتّهب؛ فلأن المشتري دخل مع الغاصب على أن العين إن تلفت كان ضامنها لها بالثمن. بخلاف المتهب فإنه لم يدخل على ذلك. وأما كون من تقدم ذكره لا (¬1) يرجع بما حصلت له به منفعة؛ كالأجرة، والمهر، وأرش البكارة على روايةٍ؛ فلأنه غرم ما استوفى بدله. فلم يرجع به. إذ في الرجوع الجمع بين العوض والمعوض، وهو غير جائز. قال: (وإن ضمّن الغاصب رجع على المشتري بما لا يُرجع به عليه). أما كون الغاصب يرجع على المشتري بما ذكر؛ فلأن التلف حصل في يده وهو كالمباشر، والغاصب كالمتسبب. وأما كونه لا يرجع عليه بما يرجع المشتري به عليه؛ فلأنه لا فائدة فيه. فإن قيل: ما تحقيق ذلك؟ قيل: ما يجب ضمانه على ثلاثة أضرب: أحدها: قيمة العين. فهذا إذا ضمنه الغاصب يرجع به على المشتري؛ لأن المشتري دخل على أن العين إن هلكت هلكت (¬2) في ضمانه. وثانيها: قيمة الولد. فهذا إذا ضمنه الغاصب لا يرجع به على المشتري؛ لأن المشتري لو ضمنه رجع عليه. فكيف يرجع هو بما يرجع به (¬3) عليه؟ . وثالثها: المهر، وأرش البكارة، والأجرة، ونحو ذلك. فهذا إذا ضمنه الغاصب فيه روايتان. منشؤهما: أن المشتري إذا ضَمن ذلك هل يرجع به على الغاصب؟ وفيه روايتان: فعلى قولنا يرجع بذلك على الغاصب لا يرجع به الغاصب عليه إذا ضمنه؛ لما ذكر قبلُ. ¬

_ (¬1) في هـ: لأنه. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) مثل السابق.

وعلى قولنا: لا يرجع به عليه إذا ضمنه الغاصب: رجع به على المشتري؛ لأنه يصير بمنزلة قيمة العين. قال: (وإن ولدت من زوج، فمات الولد: ضمنه بقيمته، وهل يرجع بها على الغاصب؟ على روايتين). أما كون الزوج يضمن الولد بالقيمة؛ فلأنه ينعقد رقيقاً؛ لأن الواطئ لا يعتقد أنها مملوكة. بخلاف المشتري الجاهل بالغصب. وأما كونه يرجع بالقيمة على الغاصب على روايةٍ؛ فلأن الغاصب غرّه. ولأنه دخل على أن الولد إن تلف تلف على مالك الجارية؛ لأنه مملوكه. وأما كونه لا يرجع بها على روايةٍ؛ فلأن التلف حصل في يده. أشبه تلف الجارية. قال: (وإن أعارها، فتلفت عند المستعير: استقر ضمان قيمتها عليه، وضمان الأجرة على الغاصب). أما كون ضمان القيمة يستقر على المستعير؛ فلأن العارية مضمونة بالقيمة. وأما كون ضمان الأجرة يستقر على الغاصب؛ فلأن المستعير دخل على أن يستوفي المنافع مجاناً. ويجب أن لا يكون المستعير هاهنا عالماً بالغصب؛ لأنه إذا كان عالماً به استقر عليه قيمة العين والأجرة. صرح به المصنف في المغني. وفي قول المصنف رحمه الله (¬1): استقر: تنبيهٌ على أن للمالك مطالبة من شاء منهما. وهو صحيح؛ لما تقدم. فعلى هذا إن ضَمَّن المالك الغاصب قيمة العين رجع بها على المستعير، وإن ضَمَّنها المستعير لم يرجع بها على الغاصب. ولو ضمِن الغاصبُ الأجرة لم يرجع بها على المستعير. ولو ضمِنَها المستعير رجع بها على الغاصب. وهذا هو المعني بالاستقرار. وحكى المصنف في المغني في المستعير وجهاً: أنه لا يرجع إذا ضمن الأجرة؛ لأنه انتفع ببدلها، وهو نظير المهر وأرش البكارة مما تقدم. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

قال: (وإذا اشترى أرضاً فغرسها، أو بنى فيها فخرجت مستحقة، فقلع غرسه وبناءه: رجع المشتري على البائع بما غرمه. ذكره القاضي في القسمة). أما كون المشترى يرجع بما غرمه على البائع؛ فلأن البائع غرّه. فوجب أن يرجع بما غرمه عليه. أشبه ما غرمه المشتري من الغاصب من قيمة ولدٍ ونحوه (¬1). وأما قول المصنف: ذكره القاضي في القسمة؛ فتنبيه على أن الحكم نقل في الباب المذكور. قال: (وإن أطعم المغصوبَ لعالم بالغصب استقر الضمان عليه. وإن لم يعلم وقال له الغاصب: كله، فإنه طعامي: استقر الضمان على الغاصب. وإن لم يقل ففي أيهما يستقر الضمان عليه؟ وجهان). أما كون الضمان يستقر على الآكل العالم بالغصب؛ فلأنه أتلف مال الغير من غير تغرير. فوجب استقرار الضمان عليه؛ كما لو غصبه ثم أكله. وأما كونه يستقر على الغاصب إذا قال لمن لا يعلم أنه غصب: كله، فإنه طعامي؛ فلأنه غرّه. وأما كونه يستقر على الآكل إذا لم يقل الغاصب في وجهٍ؛ فلأنه ضمن ما أتلف. فلم يرجع على أحد. وأما كونه يستقر على الغاصب في وجهٍ؛ فلأنه غرّ الآكل وأطعمه على أنه لا يضمنه. وذكر المصنف في المغني هذين الوجهين روايتين. قال: (وإن أطعمه لمالكه، ولم يعلم: لم يبرأ. نص عليه في رجل له عند رجل تبعة، فأوصلها إليه على أنها صلةٌ أو هديةٌ، ولم يعلم: كيف هذا. يعني أنه لا يبرأ. وإن رهنه عند مالكه، أو أودعه إياه، أو أجره، أو استأجره على قصارته وخياطته: لم يبرأ إلا أن يعلم. وإن أعاره إياه برئ عَلِم أو لم يعلم). أما كون من أطعم المغصوب لمالكه، وهو لا يعلم: لا يبرأ؛ فلأنه بالغصب أزال يد المالك وسلطته (¬2)، وبالتقديم إليه لم تعد إليه اليد والسلطة؛ لأنه لا يتمكن ¬

_ (¬1) في هـ: ونحوها. (¬2) في هـ: وسلطه.

من التصرف فيه بكل ما يريد من الأخذ والصدقة وغير ذلك فلم يزل عنه الضمان؛ كما لو علفه لدواب المغصوب منه. وفي قول المصنف رحمه الله: لم يعلم؛ إشعار بأنه إذا أكله عالماً بأنه طعامه برئ الغاصب. وهو صحيح لزوال ما ذكر قبل. وصرح به المصنف في الكافي، وعلله: بأنه أتلف ماله برضاه عالماً به. وأما كون من رهنه عند مالكه، أو أودعه إياه، أو أجره، أو استأجره على قصارته أو خياطته: لا يبرأ إذا لم يعلم المالك أن ذلك ملكه؛ فلأن الغاصب أزال يد المالك وسلطته (¬1)، ولم يعد ذلك بما ذكر. وأما كونه يبرأ إذا علم؛ فلتمكنه من التصرف فيه على حسب اختياره. وأما كونه يبرأ إذا أعاره إياه عَلِم أو لم يعلم؛ فلأنه دخل على أنه مضمون عليه. قال: (ومن اشترى عبداً، فأعتقه، فادعى رجل أن البائع غصبه منه، فصدقه أحدهما: لم يقبل على الآخر. وإن صدّقاه مع العبد لم يبطل العتق. ويستقر الضمان على المشتري. ويحتمل أن يبطل العتق إذا صدّقوه كلهم). أما كون تصديق أحد الرجلين من البائع والمشتري المدعي لا يقبل على الآخر؛ فلأن إقرار كل واحدٍ منهما إقرار على غيره، وذلك غير مقبول. وأما كون العتق لا يبطل مع تصديقهما إياه وتصديق العبد على المذهب؛ فلأن العتق حق لله تعالى، ولهذا لو شهد شاهدان بالعتق فقال العبد: ما أعتقني لم يُقبل منه. وأما كونه يستقر الضمان على المشتري؛ فلأن التلف حصل في يده. وأما كونه يحتمل أن يبطل العتق إذا صدّقوه كلهم؛ فلأن مجهول النسب يصح إقراره بالرق، وقد أقرّ به، ووافقه عليه من له به تعلقٌ. فوجب ثبوت الرق. عملاً بمقتضيه السالم عن معارضه. ¬

_ (¬1) في هـ: وسلطه.

فصل [إذا تلف المغصوب] قال المصنف رحمه الله: (وإن تلف المغصوب ضمنه بمثله إن كان مكيلاً أو موزوناً. وإن أعوز المثل فعليه قيمة مثله يوم إعوازه. وقال القاضي: يضمنه بقيمته يوم القبض. وعنه: تلزمه قيمته يوم تلفه). أما كون الغاصب يضمن المغصوب المكيل أو الموزون بمثله؛ فلأن المثل أقربُ إلى الحق، ولهذا ضمن به في الإتلاف. ولأن المثل طريقه المشاهدة، والقيمة طريقها الظن. فكان الأول أولى؛ كالنص مع القياس. فإن النص يدرك بالسماع، والقياس بالظن. وأما كونه عليه قيمة مثله يوم إعوازه إذا أعوز المثل على المذهب؛ فلأنه يستحق المطالبة بقيمة المثل يوم الإعواز. فوجب أن تعتبر القيمة حينئذ؛ لأنه يوم وجوبها. وأما كونه يضمنه يوم القبض على قول القاضي؛ فلأن المثل لو وجد قبل القبض كان له المطالبة به. فوجب أن تعتبر القيمة عند القبض؛ لأن القيمة إنما تثبت في الذمة يوم تلفه. فاعتبرت تلك الحال؛ كما لو لم تختلف القيمة. قال: (وإن لم يكن مثلياً ضمنه بقيمته يوم تلفه في بلده من نقده. ويتخرّج أن يضمنه بقيمته يوم غصبه). أما كون الغاصب يضمن غير المثلي بقيمته على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ أعتقَ شِرْكاً له في عبدٍ، فكان له مالٌ يبلغُ ثمنَ العبدِ قوّم وأعطي شركاؤهُ حِصصهُم» (¬1) متفق عليه. أوجب القيمة؛ لأنه غير مثلي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2386) 2: 892 كتاب العتق، باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أمة بين الشركاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (1501) 3: 1286 كتاب الأيمان، باب من أعتق شركاً له في عبد.

ولأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن؛ لاختلاف ذلك في القيمة. فصارت القيمة أقرب إلى إيفاء (¬1) حقه. وأما كون القيمة معتبرة بيوم تلفه في بلده من نقده على المذهب؛ فلأن ذلك زمنُ الضمان وموضعُه. وأما كونه يتخرج أن يضمنه بقيمته يوم غصبه؛ فلأنه الوقت الذي أزال يده فيه. فلزمته (¬2) القيمة فيه؛ كما لو أتلفه. قال: (وإن كان مصُوغاً، أو تِبْراً تخالفُ قيمته وزنه: قوّمه بغير جنسه. فإن كان مُحلى بالنقدين معاً قوّمه بما شاء منهما، وأعطاه بقيمته عرضاً). أما كون المصوغ أو التِّبْر يقوّم بغير جنسه إذا كانت قيمته تخالف وزنه؛ فلئلا يؤدي إلى الربا. وأما كونه يقوّم بما شاء المقوّم من النقدين إذا كان مُحلى بهما فلأن (¬3) كلاً منهما ثمنٌ في قيم المتلفات وأروش (¬4) الجنايات، وغيرهما ليس كذلك. وأما كون الغاصب يعطي المغصوب منه بقيمته عرضاً؛ فلئلا يؤدي إلى الربا. قال: (وإن تلف بعض المغصوب فنقصت قيمة باقيه؛ كزوجي خُفٍ تَلِف أحدهما: فعليه رد الباقي، وقيمة التالف، وأرش النقص. وقيل: لا يلزمه أرش النقص). أما كون الغاصب عليه رد الباقي مما ذكر؛ فلأنه ملك غيره. وأما كونه عليه قيمة التالف؛ فلأن التلف حصل تحت يده العادِيَة. ¬

_ (¬1) في هـ: بقاء. (¬2) في هـ: فلزمه. (¬3) في هـ: فإن. (¬4) في هـ: وأرش.

وأما كونه عليه أرش النقص على المذهب؛ فلأنه نقصٌ حصل في يده. أشبه قيمة التالف. وأما كونه ليس ذلك عليه على قولٍ؛ فلأنه زائدٌ على قيمة التالف. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثاله: أن يكون زوجَا الخف يساويان عشرين، والباقي يساوي خمسة. فعلى الأول عليه خمسة عشر، وعلى الثاني عليه عشرة. قال: (وإن غصب عبداً فأَبَق، أو فرساً فشرد، أو شيئاً تعذر ردّه مع بقائه: ضمن قيمته. فإن قدر عليه بعدُ رَدّهُ، وأخذَ القيمة). أما كون الغاصب يضمن ما ذكر بقيمته قبل القدرة عليه؛ فلأن ذلك حق تعذر ردّه إلى مالكه. فوجب أن ينتقل إلى القيمة (¬1)؛ كما لو أتلفه. وأما كونه إذا قَدَر عليه بعدُ يردُّه؛ فلأن القيمة إنما وجبت لتعذر ردّ العين، وقد زال ذلك. فوجب ردّ العين إلى مالكها. وأما كونه يأخذ القيمة؛ فلئلا يجتمع للمالك البدل والمبدل. قال: (وإن غصب عصيراً فتخمّر فعليه مثله. فإن انقلب خلاً ردّه، وما نقص من قيمة العصير). أما كون الغاصب عليه مثل العصير إذا تخمّر؛ فلأنه تلف بصيرورته خمراً. ولأن ماليّته زالت تحت يده العادية. [أشبه ما لو زالت بالإتلاف. وأما كونه يرده إلى مالكه إذا انقلب خلاً؛ فلأنه عين ملكه. وأما كونه يرد أرش النقص إليه؛ فلأنه نَقَصَ تحت يده العادِيَة] (¬2). أشبه ما لو نقص منه جزء. ¬

_ (¬1) سقط لفظي: إلى القيمة من هـ. (¬2) ساقط من أ.

فصل [في أجرة المغصوب] قال المصنف رحمه الله: (وإن كان للمغصوب أجرةٌ فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يده. وعنه: التوقف عن ذلك. قال أبو بكر: هذا قولٌ قديمٌ رَجعَ عنه). أما كون الغاصب عليه أجرة المغصوب مدة مقامه في يده على المذهب؛ فلأن ما ضُمن بالإتلاف في العقد الفاسد وجب أن يضمنه الغاصب بمجرد التلف في يده؛ كالأعيان. وأما كون ذلك يُتوقف عنه على روايةٍ؛ فلأن قوله عليه السلام: «الخراج بالضمان» (¬1) يقتضي كون الخراج للغاصب؛ لأن الضمان عليه، وذلك ينفي كون الأجرة عليه، وحينئذ يجب التوقف. وأما قول المصنف رحمه الله: قال أبو بكر: هذا قولٌ قديمٌ رَجع عنه؛ فتنبيهٌ على ضعف هذه الرواية، ولذلك قال المصنف في المغني: المذهب الأول؛ لما ذكر. ولأنه فوّت متقوّماً. فوجب ضمانه؛ كالأعيان. أو نقول: مال متقومٌ مغصوب. فوجب ضمانه؛ كالعين. وأما الخبر فوارد في البيع، ولا يدخل فيه الغاصب؛ لأنه لا يجوز له الانتفاع بالمغصوب بالإجماع. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3510) 3: 284 كتاب الإجارة، باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم وجد به عيباً. وأخرجه الترمذي في جامعه (1286) 3: 582 كتاب البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد فيه عيباً. وأخرجه النسائي في سننه (4490) 7: 254 كتاب البيوع، الخراج بالضمان. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2243) 2: 754 كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان.

قال: (وإن تلف المغصوب فعليه أجرته إلى وقت تلفه. وإن غصب شيئاً فعجز عن ردّه فأدّى قيمته فعليه أجرته إلى وقت أداء القيمة. وفيما بعده وجهان). أما كون الغاصب عليه أجرة ما عجز عن رده إلى وقت أداء القيمة؛ فلأن منافعه هلكت تحت يده. فوجب عليه ضمانها؛ لما تقدم في تضمين المنافع (¬1). وأما كونه عليه الأجرة فيما بعد أداء القيمة وقبل الرد في وجهٍ؛ فلما ذكر. وأما كونه ليست عليه في وجهٍ؛ فلأنه لما أدى القيمة لم يبق لها أجرة؛ لأنها لو بقيت لاجتمع للشخص عوض العين وعوض المنفعة الحاصلة بعده، وذلك لا يجتمع. دليله: الإتلاف. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في تصرفات الغاصب] قال المصنف رحمه الله: (وتصرفات الغاصب الحكمية؛ كالحج، وسائر العبادات، والعقود؛ كالبيع، والنكاح، ونحوها: باطلة في إحدى الروايتين، والأخرى صحيحة). أما كون التصرفات المذكورة باطلة على المذهب؛ فلأن ذلك التصرف تصرف الفضولي. والصحيح من المذهب أنه باطل؛ لما تقدم (¬1). وأما كونها صحيحة على رواية؛ فلأن الغاصب تطول مدة غصبه غالباً، فتكثر تصرفاته. ففي إبطالها إضرارٌ كثير، وربما عاد بعض الضرر على المالك. فإن الحكم بصحتها يقتضي كون الربح فيها للمالك، والحكم ببطلانها يمنع ذلك. قال: (وإن اتّجر بالدراهم فالربح لمالكها. وإن اشترى في ذمته ثم نقدها فكذلك. وعنه: الربح للمشتري). أما كون ربح الدراهم التي اتّجر الغاصب بعينها لمالكها؛ فلأنه نماء ملكه. وأما كون ربح ما اشترى في ذمته، ثم نقد الدراهم عنه كذلك على المذهب؛ فكما لو اشترى بعينه. وأما كونه له على روايةٍ؛ فلأنه اشترى في ذمته ولنفسه. فكان الشراء له، والربح تبعٌ لمن الشراء له. ¬

_ (¬1) ر ص: 22.

قال: (وإن اختلفا في قيمة المغصوب، أو قدره، أو صناعة فيه: فالقول قول الغاصب. وإن اختلفا في ردّه، أو عيب فيه: فالقول قول المالك). أما كون القول قول الغاصب في القيمة والقدر والصناعة؛ فلأن الأصل براءة ذمته مما يدعى عليه. فلا يلزمه غير (¬1) ما أقرّ به؛ كما لو ادعى عليه ديناً فأقرّ ببعضه. وأما كون القول قول المالك في الرد والعيب؛ فلأن الأصل عدم الرد وعدم العيب. قال: (وإن بقيت في يده غُصوب، لا يعرف أربابها: تصدق بها عنهم. بشرط الضمان؛ كاللقطة). أما كون من في يده ما ذُكر يتصدق به بشرط الضمان؛ فلأن حبس المغصوب في يده حرام؛ كأصل الغصب. فتخلصه منه مطلوب شرعاً، وصدقته بشرط الضمان طريقٌ له. فتعين جواز فعله؛ لما فيه من الجمع بين مصلحته ومصلحة المالك. وأما قول المصنف رحمه الله: بشرط الضمان؛ فتنبيهٌ على أنه لا يجوز التصدق بالمغصوب إلا بذلك؛ لأن الصدقة بدون ذلك إضاعة لمال المالك لا على وجه بدل، وذلك غير جائز. وأما قوله: كاللقطة فتنبيهٌ على أن للصدقة بشرط الضمان أصلاً هو اللقطة (¬2). وسيأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى (¬3). ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: كاللقطة. (¬3) 4: 87.

فصل [فيمن أتلف مالاً لغيره] قال المصنف رحمه الله: (ومن أتلف مالاً محترماً لغيره ضمنه. وإن فتح قفصاً عن طائره، أو حلّ قيد عبده، أو رباط فرسه، أو وِكاء زِقٍّ مائعٍ، أو جامدٍ فأذابته الشمس، أو بقي بعد حلّه قاعداً فألقته الريح فاندفق: ضمنه. وقال القاضي: لا يضمن ما ألقته الريح). أما كون من أتلف مالاً محترماً مملوكاً لغيره يضمنه بالإتلاف؛ فلأنه فوّته عليه. فضمنه؛ كما لو غصبه فتلف عنده. وفي قوله: مالاً احتراز (¬1) عما ليس بمالٍ؛ كالكلبِ والسِّرْجين؛ لأن ما ليس بمال لا يقابل بالمال. وفي قوله: محترماً احتراز (¬2) عما ليس بمحترم. وإن كان مالاً؛ كأموال أهل الحرب، وخمر الذمي، وآلة اللهو. فإن جميع ذلك لا يضمن. وتقدير ذلك يذكر في مواضعه. وفي قوله: لغيره احتراز (¬3) عن مال نفسه فإنه لا يضمن ذلك؛ لأن الضمان لا يجب على من له الضمان. وأما كون من فتح قفصاً عن طائرِ غيره، أو حلّ قيد عبده، أو رباط فرسه، أو وكاء زِقٍٍّ مائعٍ أو جامدٍ فأذابته الشمس: يضمنه؛ فلأن ذلك كله تلف بسبب فعله. فلزمه ضمانه؛ كما لو باشره بالتلف. ¬

_ (¬1) في هـ: احترازاً. (¬2) مثل السابق. (¬3) مثل السابق.

وفي كلام المصنف رحمه الله حذف تقديره: وإن فتح قفصاً عن طائره فطار، أو حلّ قيد عبده فهرب، أو رباط فرسه فشرد؛ لأن الطائر لو بقي في القفص، أو لم يهرب العبد، أو لم يشرد الفرس فتلف ذلك بآفة سماوية لم يجب الضمان؛ لأنه لم يحصل التلف بسبب فعله. وإنما حذف المصنف ذلك اعتماداً على ظهوره. ولأنه نبّه على مثل ذلك فيما ساواه وهو في قوله: فاندفق. بعد قوله: أو وكاء زِقٍّ مائعٍ أو جامد. وأما كونه يضمن إذا بقي المائع بعد حلّ زقه قاعداً فألقته الريح فاندفق على المذهب؛ فلما تقدم ذكره في الصورة المذكورة. وأما كونه لا يضمن ذلك على قول القاضي؛ فلأن فعله غير ملجئ. فلم يتعلق به ضمان؛ كما لو دفعه إنسان. والأول أصح؛ لأنه لم يتخلل بين فعله وبين التلف مباشرةٌ يمكن إحالةُ الحكم عليها. فوجب الضمان عليه؛ كما لو جُرح فمات عقيب ذلك. ثم ما ذكره القاضي منتقضٌ بما إذا أذابته الشمس مع أنه لا يقول فيه بعدم الضمان. قال: (وإن ربط دابةً في طريق فأتلفت، أو اقتنى كلباً عقوراً فعقر، أو خرق ثوباً: ضمن. إلا أن يكون دخل منزله بغير إذنه. وقيل: في الكلب روايتان في الجملة). أما كون من ذكر يضمن ما أتلفته الدابة إذا ربطها في طريقٍ؛ فلأنه مُتعدٍّ بربطها. وأما ضمان ما أتلفه الكلب العقور فينظر فيه: فإن كان التلف في غير ملك مقتنيه (¬1) وجب عليه ضمان ما أتلفه؛ لأنه مفرّط باقتنائه. وإن كان التلف في ملكه نظرتَ: فإن كان المعقور دخل بغير إذنٍ فلا ضمان؛ لأنه متعدٍّ في الدخول متسبب ¬

_ (¬1) في أ: نفسه.

إلى إتلاف نفسه بجنايته، وإن كان دخل بإذنٍ فعلى مقتنيه ضمانه؛ كما لو كان في داره بئر مغطاة فأذن لإنسان فدخل فوقع فيها. وقال بعض الأصحاب: في الكلب روايتان في الجملة: أي روايةِ أنه يضمن سواء دخل بإذن أو بغير إذن؛ لأن مقتنيه متعدٍّ في اقتنائه، وذلك يناسب الضمان؛ لما فيه من المبالغة في الزجر. ورواية: أنه لا يضمن بحالٍ؛ لأنه لم يحصل منه جناية. ويمكن أن يجاب عنه بأنه متسبب. قال: (وإن أجّج ناراً في ملكه، أو سقى أرضه فتعدى إلى ملك غيره فأتلفه: ضمن إذا كان قد أسرف فيه أو فرّط، وإلا فلا). أما كون من ذكر يضمن إذا أسرف أو فرّط؛ فلأن التلف بذلك سرايةُ فعل محظور. فوجب أن يضمن؛ كما لو باشر ذلك بالإتلاف. وأما كونه لا يضمن إذا لم يوجد ذلك؛ فلأنه غير متعد. ولأنها سرايةُ فعل مباح. أشبه سراية القود. وفارق ما إذا حلّ زِقاً فاندفق ما فيه فإنه من آثار فعلٍ هو متعدٍّ فيه. قال: (وإن حفر في فنائه بئراً لنفسه ضمن ما تلف بها. وإن حفرها في سابلةٍ لنفع المسلمين لم يضمن في أصح الروايتين). أما كون صاحب الفناء يضمن ما أُتلف بالبئر التي حفرها لنفسه؛ فلأنه متسبب إلى إتلاف غيره. فوجب الضمان عليه؛ كواضع السكين. وأما كونه لا يضمن إذا حفرها في سابلةٍ لنفع المسلمين في روايةٍ؛ فلأنه غير منسوبٍ إلى عدوان. إذْ قصده نفع المسلمين لا نفع نفسه. وأما كونه يضمن في روايةٍ؛ فلأنه مأذون له في ذلك بشرط سلامة العاقبة، ولم توجد. قال: (وإن بسط في مسجد حصيراً، أو علّق فيه قنديلاً: لم يضمن ما تلف به. وإن جلس في مسجدٍ، أو طريقٍ واسعٍ فعثرَ به حيوان: لم يضمن في أحد

الوجهين. وإن أخرج جناحاً، أو ميزاباً إلى الطريق فسقط على شيء فأتلفه: ضمن). أما كون من ذُكر لا يَضمن ما تلف بالحصير أو القنديل؛ فلأنه مأذون له في ذلك شرعاً. فلم يضمن ما تولّد منه؛ كسراية القود. وأما كونه لا يضمن ما تلف بتعثر (¬1) حيوان في وجهٍ؛ فلأن له أن يجلس في المسجد، وفي طريقٍ واسعٍ فلم يضمن لعدم تعديه. وأما كونه يضمن ذلك في وجهٍ؛ فلما ذكر فيما إذا حفر بئراً في سابلةٍ لنفع المسلمين. وأما كونه يضمن ما تلف بسقوط الجناح والميزاب الخارجَيْن إلى الطريق؛ فلأنه متعدٍ بفعل ذلك. فوجب عليه ضمان ما تولّد منه؛ كما لو جرح إنساناً فتعدى إلى قتله. قال: (وإن مال حائطه فلم يهدمه حتى أتلف شيئاً لم يضمنه. نص عليه. وأومأ في موضع: أنه إن تُقُدِّم إليه بنقضه، وأُشْهِد عليه فلم يفعل: ضَمِن). أما كون مالك الحائط لا يضمن على المنصوص؛ فلأن السقوط ليس من فعله. وأما كونه يضمن على ما أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله؛ فلأنه إذا تُقُدِّم إليه بنقضه وأُشْهِد عليه فلم يفعل يُعدُّ مفرّطاً. فيجب عليه الضمان؛ كما لو باشر الإتلاف. قال: (وما أتلفت البهيمة فلا ضمان على صاحبها إلا أن تكون في يد إنسان (¬2)؛ كالراكب، والسائق، والقائد: فيضمن ما جنت يدها أو فمها. دون ما جنت رجلها، وما أفسدت من الزرع والشجر ليلاً. ولا يضمن ما أفسدت من ذلك نهاراً. ومن صال عليه آدمي أو غيره فقتله دفعاً عن نفسه لم يضمنه). أما كون صاحب البهيمة لا يضمن ما أتلفته إذا لم تكن في يده؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العَجْمَاءُ جُبَارٌ» (¬3). أي هدر. ¬

_ (¬1) في هـ: بعثر. (¬2) في هـ: الإنسان. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6515) 6: 2533 كتاب الديات، باب العجماء جبار. وأخرجه مسلم في صحيحه (1710) 3: 1334 كتاب الحدود، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار.

وأما كونه يضمن ما جنت يدها أو فمها إذا كانت في يده؛ مثل: أن يكون راكباً لها، أو سائقاً، أو قائداً دون ما جنت رجلها؛ فلأنه يمكنه حفظها عن ذلك. بخلاف الرِّجْل. ولأنه قد روي في حديث أبي هريرة «رِجْلُ العجماء جُبَار» (¬1). وذلك يدل بمفهومه على الضمان بغيرها. ولا بد أن يُلحظ في عدم الضمان برِجْل البهيمة: أن لا يكون كبحها فأتلفت؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون التلف منسوباً إليه. فيجب عليه الضمان؛ كسائر مواضع التسبب في الإتلاف. فإن قيل: هلاّ حمل مُطلق قوله عليه السلام: «العجماء جُبَار» على مُقَيَّدِه من قوله: «رِجْلُ العجماء جُبَار» فيما إذا لم تكن البهيمة في يده؟ قيل: لأن في ذكر الرِّجْل إشارةٌ إلى الفرق بينها وبين غيرها من يدٍ ونحوها، وذلك لا يتحقق في بهيمة ليست (¬2) في يده. بخلاف ما إذا كانت في يده، فإن الفرق بينهما ما تقدم ذكره: من إمكان الحفظ في اليد والفم. دون الرجل. وأما كونه يضمن ما أفسدت البهيمة من الزرع والشجر ليلاً، وكونه لا يضمن ما أفسدت من ذلك نهاراً؛ فلما روي «أن ناقةَ للبراء دخلتْ حائطَ قومٍ. فقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموالِ حِفظَهَا بالنهارِ، وما أفسدتْ بالليلِ فهوَ مضمونٌ عليهم» (¬3). [رواه أبو داود وابن ماجة بمعناه] (¬4). قال ابن عبدالبر: إن كان هذا مرسلاً فهو مشهور. حدّثَ به الأئمةُ الثقاتُ واستعملَه فقهاءُ الحجازِ بالقبول. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في الأحكام، باب ما جاء في العجماء جرحها جبار 3: 661/ 1377. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3570) 3: 298 كتاب البيوع، باب: المواشي تفسد زرع قوم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2332) 2: 781 كتاب الأحكام، باب: الحكم فيما أفسدت المواشي. وأخرجه مالك في الموطأ (37) 2: 573 كتاب الأقضية، باب القضاء في الضواري والحريسة. (¬4) زيادة من ج.

ولأن العادة حفظُها نهاراً. دون أهل المواشي. وذكر المصنف في المغني: أن القاضي قال: هذا محمول على المواضع التي فيها المزارع والمراعي، فأما القرى العامرة التي ليس فيها مرعى إلا بين قراحيْن (¬1)؛ كساقية، وطريق، وطرف زرع: فليس لصاحبها إرسالها بغير حافظٍ عن الزرع. فإن فعل فعليه الضمان؛ لأنه مفرّط. ولا بد أن يُلحظ في ضمان ما أتلفت (¬2) البهيمة من الزرع والشجر ليلاً: أن يكون المالك قد فرّط في إرسالها، فإن لم يكن فرّط مثل: إن حفظها فانفلتت من ذلك، أو أخرجها غيره من لصٍ وغيره لم يضمن؛ لأن الموجب للضمان تفريطه في إرسالها، وذلك مفقودٌ فيما ذكر. لكن إن كان المرسِلُ غيرَه وجب الضمان عليه؛ لأنه السبب في الإتلاف. وقول المصنف رحمه الله: وما أفسدت من الزرع والشجر مشعرٌ بأمرين: أحدهما: أن ضمان ما ذُكر مشروط بكون البهيمة في يد راكبٍ وسائقٍ وقائدٍ؛ لأنه عطفه على ضمان ما جنت يدها أو فمها بعد اشتراط كونها في يد إنسان موصوف بما ذكر. وليس كذلك بل ذلك يُضمن سواء كانت في يد أحدٍ (¬3) أو لا. صرح بذلك المصنف رحمه الله في المغني وغيره من الأصحاب. وثانيهما: أن الحكم المذكور مختصٌ بالزرع والشجر؛ لأنه خصهما بالذكر. وليس كذلك أيضاً عند الأصحاب. صرح به صاحب المستوعب. فقال فيه: وما أتلفت البهائم من الزرع وغيرها ليلاً فعلى صاحبها ضمانه. ووجهه (¬4) عموم قوله عليه السلام: «وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم» (¬5). وقال صاحب المغني فيه: وإن أتلفت غير الزرع لم يضمن مالكها، نهاراً كان أو ليلاً، وعلله بقوله عليه السلام: «العجماء جبار» (¬6)، وبأن البهيمة لا تُتْلف ذلك ¬

_ (¬1) القَرَاح: المزرعة التي ليس فيها بناء ولا شجر. ر المصباح مادة: قرح. (¬2) في ج: أتلفته. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) في هـ: ووجه. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬6) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

عادة. بخلاف الزرع. ولم أجده لغيره. فيحتمل أنه أراد هنا ذلك فلذلك خصص الزرع والشجر بالذكر، ويحتمل أن التخصيص وقع اتفاقاً. وأما كون قاتل الصائل عليه لا يضمنه إذا قتله دفعاً عن نفسه؛ فلأنه قتله بدفع جائز. فلم يضمنه؛ لما فيه من صيانة النفس عن القتل. قال: (وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا ضمن كل واحدٍ منهما سفينة الآخر وما فيها. وإن كانت إحداهما مُنْحدرة فعلى صاحبها ضمان المُصْعِدة. إلا أن يكون غلبه ريح فلم يقدر على ضبطها). أما كون ملاحي كل سفينة يضمن السفينة الأخرى وما فيها؛ فلأن التلف حصل بسبب فعلهما. فوجب على كل واحدٍ منهما ضمان ما تلف بسبب فعله. وأما كون صاحب المنحدرة عليه ضمان المُصْعِدة إذا لم يكن غلبه الريح؛ فلأنها تنحط على (¬1) المصعدة من علوٍّ. فيكون ذلك سبباً لغرقها، وتُنَزّل المنحدرة منزلة السائرة، والمُصْعِدة منزلة الواقفة. وأما كونه لا يضمن إذا غلبه الريح فلم يقدر على ضبط السفينة؛ فلأنه حينئذٍ لا يُعد مفرّطاً. ولأن التلف يمكن إسناده إلى الريح. بخلاف ما تقدم. قال: (ومن أتلف مزماراً، أو طنبوراً، أو صليباً، أو كسر إناء ذهب، أو فضة، أو إناء خمر: لم يضمنه. وعنه: يضمن آنية الخمر إن كان ينتفع بها في غيره). أما كون من أتلف مزماراً، أو طنبوراً، أو صليباً: لا يضمنه؛ فلأن بيع ذلك لا يحل. فلم يضمنه؛ كالميتة. ودليل تحريم بيع ذلك كله قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بُعثتُ بمحقِ القَيْنَاتِ والمعَازِف». وأما كون من كَسَر إناء فضة، أو ذهب: لا يضمنه؛ فلأن اتخاذه محرّم فلم يصادف الإتلاف شيئاً مباح البقاء. فلم يضمن؛ كإتلاف الخنزير. ولأنه أتلف ما ليس بمباح (¬2). فلم يضمنه؛ كالميتة. ¬

_ (¬1) في هـ: عن. (¬2) في هـ: مباح.

وأما كونه لا يضمن إناء الخمر على المذهب؛ فلما روى أنس قال: «كنتُ أَسقِي أبا طلحة، وأبي بن كعب (¬1)، وأبا عبيدة شَراباً من فَضِيخٍ. فأتانا آتٍ. فقال: إن الخمرةَ قد حرمتْ. فقالَ أبو طلحة: قمْ يا أنس! إلى هذه الجِرارِ فاكسِرْهَا» (¬2). وهذا يدل على سقوط حرمته، وإباحة إتلافه. فلم يضمن؛ كسائر المباحات. وأما كونه يُضمن إن كان يُنتفع به في غيره على روايةٍ؛ فلأنه يمكنه الانتفاع به في غير الخمر. فلم يجز إتلافه؛ كسائر الآنية. والأول أصح؛ لما تقدم. ولما روى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عمر قال: «أمرَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن آتيهِ بمُدْيَةٍ -وهيَ الشفرةُ- فأتيتهُ بها. فأرسلَ بها. فَأُرْهِفَتْ ثم أعطانيها. وقال: اغدُ (¬3) عليّ بها (¬4) ففعلتُ. فخرجَ بأصحابهِ إلى أسواقِ المدينةِ وفيها زِقَاقُ الخمرِ، فأخذَ المُدْيَةَ مني، فَشَقَّ ما كانَ من تلكَ الزِّقَاقِ بحضرتهِ كلها، وأمرَ أصحابَهُ الذينَ كانوا معهُ أن يمضوا معي وأن يعاوِنوني. وأمرني أن آتيَ الأسواقَ كلَّها. فلا أجدُ فيها زِقَّ خمرٍ إلا شَقَقْتُهُ. ففعلتُ. فلمْ أتركْ في أسواقِها زِقاً إلا شَقَقْتُه» (¬5). ¬

_ (¬1) سقطت جملة: وأبي بن كعب من هـ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6826) 6: 2649 كتاب التمني، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1980) 3: 1572 كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر ... (¬3) في هـ: أعط. (¬4) ساقط من هـ. (¬5) أخرجه أحمد في مسنده (6165) 2: 133.

باب الشفعة

باب الشفعة الشفعة ثابتة بالسنة والإجماع: أما السنة فما (¬1) روى جابر قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعةِ فيما لم يُقْسَم، فإذا وَقَعَتِ الحدودُ وصُرِّفتِ الطرقُ فلا شُفعة» (¬2). متفق عليه. ولمسلمٍ قال: «قضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعةِ في كل شِركٍ لم يُقْسَم: رَبْعَةٍ أو حائطٍ. لا يحل له أن يبيعَ حتى يستأذنَ شريكَهُ، فإن شاءَ أخذَ وإن شاءَ تركَ. فإن باعَ ولم يستأذنه فهوَ أحقُ به» (¬3). وللبخاري: «إنما جعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعةَ فيما لم يُقْسَم، فإذا وَقَعَتِ الحدودُ وصُرِّفَتِ الطرقُ فلا شُفعة» (¬4). وأما الإجماع فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم: فيما بيع من أرضٍ أو دارٍ أو حائط. قال المصنف رحمه الله: (وهي: استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها. ولا يحل الاحتيال لإسقاطها). أما قول المصنف رحمه الله: وهي ... إلى مشتريها؛ فبيان لمعنى الشفعة. ولا يخفى ما فيه من الاحتراز. وأما كونه لا يحلّ الاحتيال لإسقاطها؛ فلأن الحيلة حرام، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبَ اليهود فتستحلُوا محارمَ اللهِ بأدنى الحِيَل» (¬5). ¬

_ (¬1) في هـ: فلما. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2138) 2: 787 كتاب الشفعة، باب الشفعة ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1608) 3: 1229 كتاب المساقاة، باب الشفعة. (¬3) أخرجه مسلم في الموضع السابق. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (6575) 6: 2558 كتاب الحيل، باب في الهبة والشفعة. (¬5) رواه ابن بطة في إبطال الحيل 42.

وقال عليه السلام: «لعنَ اللهُ اليهودَ. إن الله لما حرّمَ عليهم شحومَ الميتةِ جَمَلُوهُ، ثم بَاعُوهُ، وأكلُوا ثمنَه» (¬1). ولأن الله حرّم الحيل في غير موضع من كتابه. فعلى هذا لو احتال لإسقاط الشفعة لم تسقط؛ لأن الحيلة إذا كانت حراماً وجب أن يكون وجودها كعدمها. ولأن الشفعة وُضعت لدفع الضرر، فلو سقطت بالحيل للحق الضرر. فلم تسقط، كما لو أراد المشتري إسقاطها بالوقف ونحوه. قال: (ولا تثبت إلا بشروط خمسة: أحدها: أن يكون مبيعاً. ولا شفعة فيما انتقل بغير عوض بحالٍ، ولا فيما عوضه غير المال، كالصداق، وعوض الخُلع، والصلح عن دم العمد في أحد الوجهين). أما كون الشفعة لا تثبت إلا بالشروط الخمسة الآتي ذكرها، فلما يأتي ذكره فيها. وأما كون أحد الشروط: أن يكون المشفوع مبيعاً؛ فلأن غير المبيع ليس منصوصاً عليه، ولا في معنى المنصوص عليه. وأما كونه لا شفعة فيما انتقل بغير عوض، كالهبة بغير ثواب، والصدقة، والوصية، والإرث؛ فلأنه ليس بمبيع. ولأن الأخذ يقتضي دفع العوض، ولم يقصد بما ذكر المعاوضة. وأما كونه لا شفعة فيما عوضه غير المال كما ذكره المصنف رحمه الله في وجهٍ قاله أبو بكر؛ فلأنه ملك بغير مالٍ. فلم تجب فيه شفعةٌ، كالهبة والإرث. وأما كونه فيه الشفعة في وجهٍ قاله ابن حامد؛ فلأنه عقد معاوضة. فجاز أن تثبت الشفعة في الأرض المملوكة به، كالبيع. والأول أولى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2121) 2: 779 كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام. وأخرجه مسلم في صحيحه (1581) 3: 1207 كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.

قال القاضي: هو قياس المذهب. ووجهه ما تقدم. ولأنه إما أن يؤخذ في الصداق بمهر المثل أو بالقيمة. والأول باطل؛ لأنه تقويم البضع (¬1) على الأجانب وإضرارٌ بالشفيع؛ لأن مهر المثل يتفاوت مع المسمى إذ (¬2) المهر يُسامح فيه في العادة. بخلاف البيع. والثاني: باطل، لأن القيمة ليست بعوضٍ للمبيع. وأما قياس الأخذ على البيع فلا يصح؛ لأنه يمكن الأخذ فيه بالعوض. ¬

_ (¬1) في هـ: للبعض. (¬2) في هـ: إذا.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: أن يكون شقصاً مشاعاً من عقار ينقسم. فأما المقسوم المحدود (¬1) فلا شفعة لجاره فيه). أما كون الثاني من شروط الشفعة: أن يكون المشفوع شقصاً مشاعاً من عقار ينقسم: أما اشتراط كونه شقصاً؛ فلأنه إذا لم يكن شقصاً يكون كُلاًّ. فيكون الأخذ به أخذاً بالجوار، والجوار لا تؤخذ به شفعة؛ لما يأتي إن شاء الله تعالى. وأما اشتراط كونه مشاعاً؛ فلأنه إذا لم يكن كذلك يكون مقسوماً. ولا شفعة في المقسوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفعةُ فيما لم يُقْسَمْ، فإذا وَقَعَتِ الحدودُ وصُرِّفَتِ الطرقُ فلا شُفعة» (¬2). وفي رواية أبي داود: «وإذا قُسّمتِ الأرضُ وَحُدَّتْ فلا شُفعةَ فيها» (¬3). ولأن الشفعة تثبت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في محل النزاع، فلا يثبت فيه. بيان كون المعنى معدوماً أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به، فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته، فيدخل عليه الضرر بنقص قيمة ملكه، وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق، وهذا لا يوجد في المقسوم. وأما اشتراط كونه من عقار؛ فلأن غير العقار لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص عليه. وأما اشتراط كون العقار مما ينقسم؛ فلأن ما لا يمكن قسمته كغير العقار، وذلك لا شفعة فيه. فكذا هنا. ¬

_ (¬1) في ج: المحدد. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3515) 3: 286 كتاب البيوع، باب في الشفعة.

وأما كونه لا شفعة لجار المقسوم المحدود (¬1) فيه؛ فلما تقدم في اشتراط كون المشفوع مشاعاً. وفي كون من ذكر لا شفعة له تنبيهٌ على أن جار غير المقسوم لا شفعة له، لأنه إذا لم تثبت الشفعة لجار المقسوم فلئلا تثبت لجار غيره بطريق الأولى. فإن قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجارُ أحقُّ بِصَقَبِهِ» (¬2). رواه البخاري. وفي حديث جابر: «الجارُ أحقُ بشفعتهِ يُنتظَرُ به إذا كانَ غَائباً» (¬3). رواه الترمذي. وقال: هو (¬4) حديث حسن. وفي حديث آخر: «جارُ الدارِ أحقُ بدارِ جارِه» (¬5). قيل: أما الأول فليس بصريح؛ لأن الصَّقَب القرب. فيحتمل أنه أحق بإحسان جاره وصلته وعيادته وغير ذلك. وخبرنا صريح فيقدم عليه. وخبر جابر معارَض بما ذكرنا من الحديث الصريح الراجح عليه. وأما ما عدا ذلك ففيه مقال. ثم يحتمل أنه أراد بالجار الشريك، ومثله تسمية أحد الزوجين جاراً. قال الشاعر: أجارتَنا بِيني فإنّكِ طالِقَة ¬

_ (¬1) في ج: المحدد. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6579) 6: 2560 كتاب الحِيَل، باب احتيال العامل ليهدَى له. واللفظ له. وأخرجه أبو داود في سننه (3516) 3: 286 كتاب البيوع، باب في الشفعة. وأخرجه النسائي في سننه (4702) 7: 320 كتاب البيوع، ذكر الشفعة وأحكامها. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2495) 2: 833 كتاب الشفعة، باب الشفعة بالجوار. كلهم بلفظ: «بسقبه». (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3518) 3: 286 كتاب البيوع، باب في الشفعة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1369) 3: 651 كتاب الأحكام، باب ما جاء في الشفعة للغائب. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2494) 2: 833 كتاب الشفعة، باب الشفعة بالجوار. (¬4) زيادة من ج. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3517) 3: 286 كتاب البيوع، باب في الشفعة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1368) 3: 650 كتاب الأحكام، باب ما جاء في الشفعة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قال: (ولا شفعة فيما لا تجب قسمته، كالحمام الصغير، والبئر، والطرق، والعراص الضيقة. وما ليس بعقارٍ، كالشجر، والحيوان، والبناء المفرد في إحدى الروايتين. إلا أن البناء والغراس يؤخذ تبعاً للأرض. ولا تؤخذ الثمرة والزرع تبعاً في أحد الوجهين). أما كون الشفعة لا تثبت فيما لا تجب قسمته كما مثّل المصنف رحمه الله في روايةٍ؛ فلأن ذلك لا يمكن قسمته شرعاً؛ لما فيها من الضرر. وقوله: «الشفعةُ فيما لم يُقْسَمْ، فإذا وَقَعَتِ الحدودُ وصُرِّفَتِ الطرقُ فلا شُفعة» (¬1) مشعرٌ بأن الشفعة إنما تكون فيما يمكن قسمته. وأما كون الشفعة لا تثبت فيما ليس بعقارٍ كما مثل المصنف رحمه الله في روايةٍ؛ فلأن ذلك لا يبقى على الدوام فلم تجب الشفعة فيه، كالصبرة. وأما كون الشفعة تثبت في ذلك كله في روايةٍ؛ فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم (¬2): «الشفعة فيما لم يُقْسَم» (¬3). ولأن الشفعة وضعت لإزالة الضرر، ووجود الضرر بالشركة فيما لم يُقْسَم أبلغ منه فيما يُقْسَم. ولأن ابن أبي مليكة روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشُفعةُ في كلِّ شَيء» (¬4). وكلام المصنف في المغني يقتضي نصر الأول؛ لما تقدم. ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا شُفعةَ في فِناءٍ ولا طَريقٍ ولا مَنْقَبَة» (¬5) رواه أبو عبيد في غريبه. وعن عثمان: «لا شُفعةَ في بِئرٍ ولا فَحْل» (¬6). ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائع؛ لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة، وقد يمتنع المشتري من الشراء لأجل الشفيع فيتضرر ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) زيادة من ج. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (1371) 3: 654 كتاب الأحكام، باب ما جاء أن الشريك شفيع. (¬5) أخرجه أبو عبيد في غريبه 1: 432. (¬6) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 105 كتاب الشفعة، باب الشفعه فيما لم يقسم.

البائع، وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة. فيؤدي إثباتها إلى انتفائها. ويجاب عن قولهم: ما لم يقسم أكثر ضرراً بأن الضرر الموجب لثبوت الشفعة هو الحاجة إلى إحداث المرافق، وذلك غير موجود فيما لا يمكن قسمته. وأما كون البناء والغراس يؤخذ تبعاً للأرض؛ فلأن قوله عليه السلام المتقدم ذكره، وقضاءه بالشفعة في كل شِرْكٍ: ربعةٍ أو حائطٍ يدخلُ فيه البناء والغراس. وفي قول المصنف: تبعاً؛ تنبيهٌ على أنه لا يؤخذ البناء والغراس بالأصالة، لأنهما لا تجب قسمتهما عند انفرادهما. وأما كون الثمرة والزرع لا تؤخذ تبعاً في وجهٍ، فلأن ذلك لا يدخل في البيع. فلا تؤخذ بالشفعة، كقُماش الدار. وأما كونه يؤخذ تبعاً، فبالقياس على البناء والغراس.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: المطالبة بها على الفور ساعة يعلم. نصُّه عليه. وقال القاضي: له طلبها في المجلس وإن طال، فإن أخّره سقطت شفعته. إلا أن يعلم وهو غائب فيشهد على الطلب بها، ثم إن أخّر الطلب بعد الإشهاد عند إمكانه أو لم يشهد ولكن سار في طلبها فعلى وجهين). أما كون الثالث من شروط الشفعة: المطالبة بها على الفور ساعة يعلم على منصوص الإمام أحمد؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشفعةُ لمن وَاثَبهَا» (¬1). وروي عنه عليه السلام أنه قال: «الشفعةُ كنشطةِ العِقالِ إن قُيدتْ بَركتْ، وإن بركتْ (¬2) فاللومُ على من تَركها» (¬3). وفي سنن ابن ماجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشفعةُ كَحَلِّ العِقَال» (¬4). ولأنه خيار يثبت لإزالة الضرر. فكان على الفور، كخيار العيب على رواية. وأما كون الشفعة لمن طلبها في المجلس وإن طال على قول القاضي؛ فلأن المجلس في حكم حالة العقد، ولهذا إذا وُجد القبض فيه فيما يشترط فيه القبض صح العقد. وأما كونها تسقط إذا أخّر المطالبة بها عن ساعة العلم أو المجلس على الاختلاف المتقدم؛ فلما تقدم من أنه يشترط المطالبة حال العلم أو حال المجلس. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه مرفوعا. وقد أخرجه عبدالرزاق في مصنفه من قول شريح (14406) 8: 83 كتاب البيوع، باب: الشفيع يأذن قبل البيع ... (¬2) في ج: «الشفعة كحلّ العقال إن قيدت بركت وإن تُركت ... ». (¬3) ر تلخيص الحبير 3: 125 - 126. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (2500) 2: 835 كتاب الشفعة، باب طلب الشفعة. قال في الزوائد: في إسناده محمد ابن عبدالرحمن البيلماني، قال فيه ابن عدي: كل ما يرويه البيلماني فالبلاء فيه منه، وإذا روى عنه محمد بن الحارث فهما ضعيفان. وقال: حدث عن أبيه نسخة كلها موضوعة. لا يجوز الاحتجاج به، ولا أذكره إلى على وجه التعجب.

وأما كونها لا تسقط إذا علم وهو غائب وأشهد على الطلب بها؛ فلأنه لا يمكنه الطلب وهو غائب. وأما كونها تسقط إذا أخّر الطلب بعد الإشهاد عند إمكانه، أو لم يشهد لكن سار في طلبها على وجهٍ؛ فلأنه تارك للطلب في الأولى ولبدله في الثانية. فسقطت شفعته، كما لو كان حاضراً ولم (¬1) يشهد. وأما كونها لا تسقط على وجهٍ: أما في الأولى؛ فلأن عليه في السفر عقيب الإشهاد ضرراً لالتزامه كلفته، وقد تكون له حوائج وتجارة تنقطع وتضيع لغيبته، والتوكيل بجُعْلٍ فيه غرامة، وبغيره فيه مِنَّة. وأما في الثانية؛ فلأن السير لأجل طلب الشفعة فلم تسقط معه. أشبه ما لو أشهد على الطلب. واعلم أن المصنف رحمه الله قال في المغني: وإن أخّر القدوم بعد الإشهاد. بدل قوله: وإن أخر الطلب بعد الإشهاد. [وهو صحيح؛ لأنه لا وجه لإسقاط الشفعة بتأخير الطلب بعد الإشهاد] (¬2) وهو غائب؛ لأن الطلب حينئذ لا يمكن. بخلاف (¬3) القدوم فإنه ممكن. وتأخير ما يمكن لإسقاطه الشفعة وجه. بخلاف تأخير ما لا يمكن. قال: (وإن ترك الطلب والإشهاد لعجزه عنهما (¬4) كالمريض والمحبوس. ومَنْ لا يجد من يشهده، أو لإظهارهم زيادة في الثمن، أو نقصاً في المبيع، أو أنه موهوب له، أو أن المشتري غيره، أو أخبره من لا يُقبل خبره فلم يصدقه: فهو على شفعته). أما كون الشفيع على شفعته مع العجز المذكور (¬5)؛ فلأنه معذورٌ في ذلك. أشبه ما لو لم يعلم. ¬

_ (¬1) في هـ: أو لم. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في هـ: تحدد. (¬4) في هـ: عنها. (¬5) في ج: مع العجز وعدم الوجدان.

وأما كونه على شفعته إذا أظهر المشتري زيادة في الثمن، أو نقصاً في المبيع، أو أن المبيع موهوب له، أو أن المشتري غيره؛ فلأنه لم يعلم الحال على وجهه. أشبه ما لو لم يعلم بالبيع. وأما كونه على شفعته إذا أخبره من لا يقبل خبره فلم يصدقه؛ فلأن خبر من لا يُقبل خبره مع عدم تصديق الشفيع له يكون وجوده كعدمه. وفي قول المصنف رحمه الله: أو أخبره من لا يقبل خبره فلم يصدقه؛ إشعارٌ بأنه إذا أخبره من لا يقبل خبره فصدقه تسقط شفعته وهو صحيح؛ لأن تصديقه اعتراف بوقوع البيع، وهو غير مطالب بالشفعة. فوجب أن تسقط، كما لو أخبره به ثقة. قال: (وإن أخبره من يُقبل خبره فلم يصدقه، أو قال للمشتري: بعني ما اشتريت أو صالحني: سقطت شفعته). أما كون الشفعة تسقط بإخبار من يقبل خبره، كرجلين عدلين وإن لم يصدقهما الشفيع؛ فلأن مثل ذلك يوجب ثبوت البيع صدَّق الشفيع أو لم يصدق. وأما كونها تسقط بقول المشتري: بعني ما اشتريت أو صالحني؛ فلأنه يدل على رضاه بشرائه. فوجب أن تسقط شفعته لذلك، ولتأخير طلبها عن ثبوت البيع. قال: (وإن دلّ في البيع، أو تَوَكَّل لأحد المتبايعين، أو جُعِل له الخيار فاختار إمضاء البيع: فهو على شفعته. وإن أسقط شفعته قبل البيع لم تسقط. ويحتمل أن تسقط). أما كون الشفيع على شفعته فيما إذا دلّ، أو تَوَكَّل، أو أمضى ما جعل له الخيار فيه؛ فلأن جميع ما ذكر سبب ثبوت الشفعة. فلم تسقط به، كما لو أذن في البيع أو عفا عن الشفعة قبل تمام البيع. ولأن المسقط للشفعة الرضى بتركها، وليس فيما ذكر رضى بالترك بل ربما كان ذلك وسيلة إلى الأخذ.

وأما كون الشفعة لا تسقط بإسقاطها قبل البيع على المذهب؛ فلأنه إسقاط حقٍّ قبل وجوبه. فلم تسقط، كما لو أبرأه مما يجب له، أو كما لو أسقطت (¬1) المرأة مهرها قبل التزويج. وأما كونه يحتمل أن تسقط؛ فلأن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به» (¬2) أنه إذا باع بإذنه لا (¬3) حق له فيه. وذكر المصنف في المغني هذا الاحتمال رواية. وأجاب عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أنه أراد العرض عليه ليبتاع ذلك إن (¬4) أراد فتخف عليه المؤونة، ويكتفي أخذ المشتري للشقص. لا أنه يسقط حقه بإذنه. قال: (وإن ترك الولي شفعةً للصبي، فيها حظ: لم تسقط، وله الأخذ بها إذا كبر. وإن تركها لعدم الحظ فيها سقطت. ذكره ابن حامد. وقال القاضي: يحتمل أن لا تسقط). أما كون شفعة الصبي إذا تركها وليه، وله فيها حظ: لا تسقط؛ فلأن الشفعة وجبت بالبيع وإسقاط الولي لذلك لا يصح؛ لأنه إسقاط حقٍ للمولى عليه لا حظ له في إسقاطه. فلم يصح، كالإبراء، وإسقاط خيار الرد بالعيب. وإذا ثبت أنه ليس له الإسقاط فَتَرَكَه أولى أن لا يكون موجباً للسقوط. فيعمل موجب البيع عمله لسلامته عن الموجب للسقوط. وأما كون الصبي له الأخذ بها إذا كبر؛ فلأنه لم يتمكن من الأخذ إلا في ذلك الوقت. وأما كونها تسقط إذا تركها الولي لعدم الحظ فيها على قول ابن حامد؛ فلأن الولي فعل ما له فعله. فلم يجز للصبي نقضه، كالرد بالعيب. ولأنه فعل ما فيه الحظ للصبي. فصح، كالأخذ مع الحظ. ¬

_ (¬1) في هـ: أسقط. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في هـ: فلا. (¬4) ساقط من هـ.

وأما كونها لا تسقط على قول القاضي؛ فلأن المستحق للشفعة: له أخذها. سواء كان له فيها حظ أو لم يكن. وإنما يعتبر الحظ في حق الولي، فإذا زال الحجر ثبت للصبي إذا كبر الأخذ على الوجه الذي يثبت للشريك من البيع (¬1). ¬

_ (¬1) في هـ: للشريك زمن.

فصل [الشرط الرابع] قال المصنف رحمه الله: (الرابع: أن يأخذ جميع المبيع. فإن طلب أخذ البعض سقطت شفعته). أما كون الرابع من شروط الشفعة: أن يأخذ الشفيع جميع المبيع؛ فلأن في أخذ بعضه إضراراً بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه، والضرر لا يزال بالضرر. ولأن الشفعة تثبت على خلاف الأصل، دفعاً لضرر الشريك الداخل، خوفاً من سوء المشاركة ومؤونة القسمة. فإذا أخذ بعض الشقص لم يندفع الضرر المذكور. وأما كون الشفعة تسقط إذا طلب الشفيع (¬1) أخذ البعض؛ فلأنها لا تتبعض لما تقدم. فإذا سقط بعضها (¬2) سقط جميعها، كالقصاص. قال: (فإن كانا شفيعين فالشفعة بينهما على قدر مُلْكَيْهِما. وعنه: على عدد الرؤوس. فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر أن يأخذ إلا الكل أو يترك). أما كون الشفعة بين الشفيعين على قدر ملكيهما على المذهب؛ فلأن ذلك حقٌّ يستفاد بسبب الملك. فكان على قدر الأملاك، كالغلة. وأما كونها بينهما على عدد الرؤوس على روايةٍ اختارها ابن عقيل؛ فلأن كل واحدٍ منهما لو انفرد استحق الجميع. فإذا اجتمعا تساويا، كالبنين (¬3)، وكسراية العتق. قال المصنف رحمه الله: والصحيح في المذهب أنها تقسم على قدر الأملاك؛ لما ذكر. وما ذكر دليلاً (¬4) للرواية الثانية ينتقضُ بالفرسانِ والرجّالة في الغنيمة فإنّ من ¬

_ (¬1) سقط لفظي: طلب الشفيع من هـ. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) في هـ: كالبنتين. (¬4) ساقط من هـ.

انفرد منهم أخذ الكل، فإذا اجتمعوا تفاضلوا، وكذلك أصحاب الديون والوصايا. وأما كون أحد الشريكين إذا ترك شريكُه الأخذ لم يكن له أن يأخذ إلا الكل أو يترك؛ فلما تقدم من أن في أخذ البعض إضراراً بالمشتري. قال: (فإن كان المشتري شريكاً فالشفعة بينه وبين الآخر. فإن ترك شفعته ليوجب الكل على شريكه لم يكن له ذلك). أما كون الشفعة بين المشتري الشريك وبين شريكه؛ فلأنهما تساويا في الشركة. فوجب أن يتساويا في الشفعة، كما لو كان المشتري أجنبياً. وأما كون المشتري ليس له أن يترك شفعته ليوجب الكل على شريكه؛ فلأن ملكه استقر على قدر حقه، وجرى مجرى الشفيعين إذا حضر أحدهما فأخذ جميع الشقص، ثم حضر الآخر فطلب حقه من الشفعة، فقال الآخذ: خذ الكل أو دعه. قال: (وإن كانت دارٌ بين اثنين، فباع أحدهما نصيبه لأجنبي صفقتين، ثم علم شريكه: فله أن يأخذ بالبيعين، وله أن يأخذ بأحدهما. فإن أخذ بالثاني شاركه المشتري في شفعته في أحد الوجهين، وإن أخذ بالأول لم يشاركه. وإن أخذ بهما لم يشاركه في شفعة الأول. وهل يشاركه في شفعة الثاني؟ على وجهين). أما كون الشفيع له الأخذ بالبيعين؛ فلأنه شفيع فيهما. وأما كونه له الأخذ بأحدهما؛ فلأن كل واحدٍ منهما عقدٌ مستقلٌ بنفسه. وهو يستحقها (¬1). فإذا أسقط البعض كان له ذلك، كما لو أسقط حقه من الكل. وأما كون المشتري يُشارك الشفيع في شفعته إذا أخذ بالثاني في وجهٍ، فلأن الشفيع بإسقاط (¬2) حقه من البيع الأول استقر ملك المشتري. فصار شريكه. فشاركه في البيع الثاني. ¬

_ (¬1) في أ: مستحقها. (¬2) في هـ: بإسقاطه.

وأما كونه لا يُشاركه المشتري في وجهٍ، فلأن ملك المشتري لم يستقر على المبيع. بدليل أن للشفيع أخذه (¬1) بعد البيع الثاني فلم يستحق به شفعة. وأما كونه لا يُشاركه إذا أخذ بالأول؛ فلأنه لم يَسبق له شركة. وأما كونه لا يُشاركه في شفعة الأول إذا أخذ بالبيعين؛ فلما ذكر من عدم الشركة. وأما كونه يُشاركه في شفعة الثاني ففيه وجهان، وجههما ما تقدم قبل. قال: (وإن اشترى اثنان حقَّ واحد فللشفيع أخذ حقِّ أحدهما. وإن اشترى واحدٌ حقَّ اثنين، أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة: فللشفيع أخذ أحدهما على أصح الوجهين). أما كون الشفيع له أخذ حق أحد الشريكين المشتريين حقَّ واحد؛ فلأن العقد مع الاثنين بمنزلة عقدين. وأما كونه له أخذ أحد الحقين إذا اشترى واحد حق اثنين على وجهٍ؛ فلأن تعدد البائع كتعدد المشتري. وأما كونه ليس له ذلك على وجهٍ؛ فلأن فيه تبعيضاً للصفقة على المشتري، وذلك ضرر (¬2) عليه. والأول أصح، لما ذكر من التعدد. وأما كونه له أخذ أحد الشقصين إذا اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة على وجهٍ؛ فلأن الضرر قد يلحقه بأرضٍ دون أرض. وأما كونه ليس له ذلك على وجهٍ؛ فلما ذكر من التبعيض على المشتري. والأول أصح؛ لما ذكر. ولأن كل واحدٍ منهما يُستحق بسببٍ غير الآخر. فجرى مجرى الشريكين. ¬

_ (¬1) في هـ: أخذ. (¬2) في هـ: ضرراً.

قال: (وإن باع شقصاً وسيفاً فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن. ويحتمل أن لا يجوز). أما كون الشفيع له أخذ الشقص بحصته من الثمن على المذهب؛ فلأن الشقص تجب فيه الشفعة إذا بيع منفرداً. فكذلك إذا بيع مع غيره. فعلى هذا يُقَوَّم، ويؤخذ بقيمته. وأما كونه يحتمل أن لا يجوز؛ فلأن في ذلك تبعيضاً للصفقة على المشتري، وذلك ضرر به. قال: (وإن تلف بعض المبيع فله أخذ الباقي بحصته من الثمن. وقال ابن حامد: إن كان تلفه بفعل الله تعالى فليس له أخذه إلا بجميع الثمن). أما كون الشفيع له أخذ (¬1) الباقي من التالف بحصته من الثمن على المذهب؛ فلأنه تعذّر أخذ الكل. فجاز أخذ الباقي، كما لو أتلفه آدمي. وأما كونه ليس له الأخذ إلا (¬2) بجميع الثمن إذا كان تلفه بفعل الله على قول ابن حامد؛ فلأن في أخذه بالبعض إضراراً بالمشتري، فلم يكن له ذلك، كما لو أخذ البعض مع بقاء الجميع. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) مثل السابق.

فصل [الشرط الخامس] قال المصنف رحمه الله: (الخامس: أن يكون للشفيع ملك سابق. فإن اشترى اثنان داراً صفقة واحدة فلا شفعة لأحدهما على صاحبه. فإن ادعى كل واحد السبق، فتحالفا، أو تعارضت بينتاهما: فلا شفعة لهما). أما كون الخامس من شروط الشفعة: أن يكون للشفيع ملك سابق؛ فلأن الشفعة ثبتت لإزالة الضرر عن شريك البائع، فإذا لم يكن له ملك سابق على الشراء لم يكن شريكاً للبائع. وأما كونه لا شفعة لأحد المشتريين داراً صفقة واحدة على صاحبه؛ فلأن شرط استحقاق الشفعة سبقُ الملك، وهو معدوم هنا. وأما كونه لا شفعة لهما إذا ادعى كل واحدٍ منهما السبق فتحالفا أو تعارضت بينتاهما؛ فلأن من شرطها أن يكون الملك سابقاً على الشراء ولم يتحقق ذلك. قال: (ولا شفعة بشركة الوقف في أحد الوجهين). أما كونه لا شفعة بشركة الوقف في وجهٍ، فلأن مستحق الوقف: إما غير مالك، والشفعة لا تثبت لغير المالك. وإما مالك لكن ملكه غير تام لكونه لا يستفيد به تصرفاً في الرقبة. والملك غير التام لا يستفاد به ملك تام. ولأن الوقف لا تستحق فيه الشفعة. فلم تجب به، كغير المنقسم. وأما كون الشفعة تستحق بذلك في وجهٍ؛ فكالملك الطَّلْق. وقال المصنف في المغني: قال أبو الخطاب: هذا -يعني هذين الوجهين- ينبني على الملك في الوقف، وفيه روايتان. فإن قيل: الوقف مملوك تثبت فيه الشفعة، وإلا فلا.

فصل [إذا تصرف المشتري في المبيع] قال المصنف رحمه الله: (وإن تصرّف المشتري في المبيع قبل الطلب بوقفٍ، أو هبةٍ: سقطت الشفعة. نص عليه. وقال أبو بكر: لا تسقط). أما كون الشفعة تسقط بالتصرف بما ذُكر على المنصوص؛ فلأن الشفعة تثبت في المملوك للمشتري، وقد خرج هذا عن كونه مملوكاً له. وأما كونها لا تسقط على قول أبي بكر؛ فلأن حقَّ الشفيع سابق على ما ذكر. فلم يكن للمشتري التصرف بما يبطل حقه. ولأن الشفيع يملك فسخ البيع مع إمكان الأخذ به، فلأن يملك فسخ عقدٍ لا يمكنه الأخذ به بطريق الأولى. قال: (وإن باع فللشفيع الأخذ بأيّ البيعين شاء. فإن أخذ بالأول رجع الثاني على الأول). أما كون الشفيع له الأخذ بأيّ البيعين شاء؛ فلأن كل واحدٍ منهما له ملك سابقٌ عليه. وأما كون الثاني يرجع على الأول إذا أخذ الشفيع بالبيع الأول؛ فلأنه لم يُسَلَّم له المعوض (¬1). فكان له الرجوع بالعوض. قال: (وإن فسخ البيع بعيب، أو إقالة، أو تحالف: فللشفيع أخذه. ويأخذه في التحالف بما حلف عليه البائع). أما كون الشفيع له أخذ ذلك مع الفسخ بما ذُكر؛ فلأن حقه سابقٌ على ذلك كله، ولا يمكنه الأخذ بما وجد بعد البيع. ¬

_ (¬1) في هـ: العوض.

فإن قيل: الإقالة: إن قيل (¬1) هي فسخ لا تُستحق بها شفعة، وإن (¬2) قيل: هي بيع تُستحق بها الشفعة. وهاهنا قد حكم المصنف رحمه الله بالأخذ مطلقاً. قيل: الأخذ هنا بالبيع لا بالإقالة. وأما الأخذ بالإقالة فصورته: أن شخصاً حصل له نصيبٌ في عقارٍ بعد أن باع بعض الشركة نصيبه. ثم يقايل هو والمشتري بعد أن ملك الشخص النصيب. فهاهنا هل يملك الشخص الشفعة؟ ينبني على أن الإقالة فسخ أو بيع. أما الشريك هنا فملكه سابقٌ على البيع، فبنفس البيع استحق الشفعة. فإن قيل: ينبغي أن لا يستحق الشفعة؛ لأن الإقالةَ رفعت البيع، وإذا ارتفع البيع زال سبب الاستحقاق. قيل: الإقالة إما بيعٌ وإما فسخٌ في الحال. ولا يصح أن يكون رفعا للعقد، وإلا لوجب على المشتري ردّ الكسب والولد ونحو ذلك؛ لأن العقد لو ارتفع لكان ذلك كله نماء ملك البائع. وأما كونه يأخذه في التحالف بما (¬3) حلف عليه البائع؛ فلأن الإنسان لا يجبر على نقل ملكه بغير ثمنٍ يرضيه، ولهذا ردّ المبيع في مسألة التحالف إلى البائع. قال: (وإن أجّره أخذه الشفيع، وله الأجرة من (¬4) يوم أخذه. وإن استغله فالغَلّة له. وإن أخذه الشفيع وفيه زرع أو ثمرة ظاهرة فهو للمشتري مبقىً إلى الحصاد والجذاذ). أما كون الشفيع له الأخذ مع إجارة المشتري للمشفوع؛ فلأن الإجارة لا تمنع ملك الملك. بدليل أنه يصح بيع المؤجَّر. وأما كون الأجرة له من يوم أخذه؛ فلأنها نماء ملكه بحكم الشفعة. أشبه ما لو اشتراه. ¬

_ (¬1) سقط لفظي: إن قيل من هـ. (¬2) في هـ: فإن. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) مثل السابق.

وأما كون الغلّة التي استغلها المشتري له؛ فلأن الخراج بالضمان. ولو تلف المبيع كان من ضمانه. فكذلك تكون غلته له. وأما كون الزرع أو الثمرة الظاهرة للمشتري مبقىً إلى الحصاد والجذاذ إذا أخذ المشفوعَ وفيه ذلك؛ فلأن المشتري فعل ذلك في ملكه. أشبه ما لو اشترى أرضاً فيها زرع أو ثمرة ظاهرة. ولأن جميع ما ذُكر حَدَثَ في ملك المشتري. وأَخْذُ الشفيع له بمنزلة شراءٍ ثانٍ. أشبه ما لو اشتراه ابتداء. فإن قيل: إذا كان بمنزلة شراءٍ ثانٍ يجب أنه إذا أخذه وقد أجّره المشتري لا يستحق الأجرة، كما لو اشترى عيناً مؤجرة. قيل: الشفيع يستحق الانتزاع على الوجه الذي وقع عليه العقد، والعقد وقع مشتملاً على المنفعة. فمقتضى هذا أن يستحق نفس المنفعة. لكن عارضه أن المشتري تصرف فيها بالإجارة، وتصرفه نافذٌ لكونه مالكاً، وإذا تعذر أخذ عين المنفعة وجب الرجوع ببدلها لكونه غير متعذر. قال: (وإن قاسم المشتري وكيل الشفيع، أو قاسم الشفيع لكونه أَظْهَرَ له زيادة في الثمن أو نحوه، أو غرس، أو بنى: فللشفيع أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء ويملكه أو يقلعه، ويضمن النقص. فإن اختار أخذه فأراد المشتري قلعه فله ذلك، إذا لم يكن فيه ضرر). أما كون الشفيع له الخيرة بين دفع ما ذكر وملكه له وبين قلعه وضمان نقصه؛ فلأن ضررهما لا يزول إلا بذلك، وقد قال عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1) رواه ابن ماجة. وأما كون المشتري له قلع ذلك مع اختيار الشفيع الأخذ؛ فلأن ذلك ملكه. واشترط المصنف رحمه الله في كون المشتري له القلع عدم الضرر على الشفيع؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن باع الشفيع ملكه قبل العلم لم تسقط شفعته في أحد الوجهين. وللمشتري الشفعة فيما باعه الشفيع في أصح الوجهين). أما كون الشفيع لا تسقط شفعته إذا باع ملكه قبل علمه ببيع نصيب شريكه في وجهٍ قاله أبو الخطاب؛ فلأنها تثبت له. فلا تسقط بالبيع بعده. وأما كونها تسقط في وجهٍ قاله القاضي؛ فلأنها تثبت لإزالة الضرر الحاصل بالشركة، وقد زال بالبيع. ولأنه زال السبب الذي تستحق به الشفعة، وهو الملك الذي يخاف الضرر بسببه، فصار كمن اشترى معيباً فلم يعلم بعيبه حتى زال أو حتى باعه. وأما كون المشتري له الشفعة فيما باعه الشفيع في وجهٍ، فلأن له ملكاً سابقاً على بيع الشفيع. فملك الأخذ به. وأما كونه لا شفعة له في وجهٍ، فلأن ملكه ضعيف، لكونه بعَرَضِيَّة الأخذ بالشفعة. قال: (وإن مات الشفيع بطلت الشفعة. إلا أن يموت بعد طلبها فتكون لوارثه). أما كون الشفعة تبطل بالموت قبل طلبها؛ فلأن الشفعة حقُّ فسخٍ، ثبت لا لفوات جزء. فلم يورث، كالرجوع في الهبة. ولأنه نوع خيار جعل للتمليك. أشبه خيار القبول. ويتخرّج أن لا يبطل (¬1)، كخيار الرد بالعيب. والفرق بينهما: أن خيار الرد ثبت لفوات جزء وقد نبّه على ذلك فيما تقدم من قوله: لا لفوات جزء. وأما كونها لا تبطل إذا طلبها الشفيع ثم مات؛ فلأن الشقص يصير ملكاً له بنفس الطلب. فعلى هذا يكون لوارثه من بعده، كسائر حقوقه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل [في الثمن الذي يأخذ به الشفيع] قال المصنف رحمه الله: (ويأخذ الشفيع بالثمن الذي وقع العقد عليه. وإن عجز عنه، أو عن بعضه: سقطت شفعته). أما كون الشفيع يأخذ المبيع بالثمن المذكور؛ فلأن في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هو أحق به بالثمن» (¬1). رواه أبو إسحاق الجوزجاني في المترجم. ولأن الشفيع إنما يستحق الشقص بالبيع. فكان مستحقاً له بالثمن، كالمشتري. فإن قيل: ينبغي أن يأخذه بقيمته، كالمضطر إلى طعام غيره. قيل: المضطر استحقه بسبب حاجته فكان المرجع (¬2) في بدله إلى قيمته، والشفيع استحقه لأجل البيع. ولهذا لو انتقل بهبة أو ميراث لم يستحق الشفعة. وإذا استحق ذلك بالبيع وجب أن يكون بالعوض الثابت بالبيع. وأما كون الشفعة تسقط بالعجز عن الثمن أو عن بعضه؛ فلأن الأخذ بلا ثمن، أو ببعض الثمن: ضررٌ بالمشتري، والضرر لا يزال بالضرر. قال: (وما يُحَطُّ من الثمن، أو يُزاد فيه في مدة الخيار: يُلحق به. وما كان بعد ذلك لا يلحق). أما كون ما يُحَطُّ من الثمن أو يُزاد فيه في مدة الخيار يلحق بالثمن؛ فلأن زمن الخيار بمنزلة حالة العقد، والتغيير اللاحق حالة العقد ملحقٌ. فكذلك ما هو بمنزلته. وأما كون ما بعد ذلك لا يُلحق به؛ فلأن الزيادة حينئذٍ هبةٌ، يشترط لها شروط الهبة، والنقصان إبراء. فلا يثبت شيء منهما في حق الشفيع. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (15135) 3: 382. (¬2) في هـ: المرجوع.

ولأن (¬1) ذلك وجد بعد استقرار العقد. فلم يثبت في حق الشفيع، كما لو وهب أحدهما الآخر (¬2) عيناً أخرى. قال: (وإن كان مؤجلاً أخذه الشفيع بالأجل إن (¬3) كان ملياً، وإلا أقام كفيلاً ملياً وأخذ به). أما كون الشفيع يأخذ المشفوع المبيع بثمنٍ مؤجلٍ بالأجل؛ فلأن الشفيع يستحق الأخذ بقدر الثمن وصفته، والتأجيل من صفته. وأما قول المصنف رحمه الله: إن كان ملياً وإلا أقام كفيلاً ملياً؛ فتنبيهٌ على اشتراط الملاءة أو إقامة الشفيع كفيلاً ملياً في استحقاق الشفعة؛ لأنه لو أخذ بدون ذلك لتضرر المشتري، والضرر لا يزال بالضرر. قال: (وإن كان الثمن عرضاً أعطاه مثله إن كان ذا مثل، وإلا قيمته). أما كون الشفيع يعطي المثل إذا كان الثمن (¬4) مِثْلِياًّ، كالحنطة والشعير ونحو ذلك؛ فلأنه أقرب إلى مساواة ما دفعه. ولهذا يجب المثل في الإتلاف، والقرض، ونحو ذلك. وأما كونه يعطى القيمة إذا كان عرضاً لا مثل له، كالثياب والحيوان، فلتعذر المثل. ولأن (¬5) ذلك بدله في الإتلاف. وفي كلام المصنف رحمه الله تنبيهٌ على أن كون الثمن غير مثلي لا يمنع استحقاق الشفعة. وصرح به في المغني؛ لأنه أحد نوعي الثمن. فجاز أن تثبت به الشفعة، كالمثلي. ¬

_ (¬1) في هـ: فلأن. (¬2) في هـ: للآخر. (¬3) في هـ: وإن. (¬4) في هـ: عرضاً. (¬5) في هـ: فلأن.

قال: (وإن اختلفا في قدر الثمن فالقول قول المشتري. إلا أن يكون للشفيع بينة). أما كون القول قول المشتري فيما ذُكر إذا لم تكن للشفيع بينة؛ فلأن الملك له، فلا ينزع من يده بقول المدعي. ولأنه العاقد فهو أعرفُ بالثمن. وأما كونه لا يقبل قوله إذا كان للشفيع بينة؛ فلأنها تكذّبه. قال: (وإن قال المشتري: اشتريته بألف، وأقام البائع بينة أنه باعه بألفين: فللشفيع أخذه بألف. فإن قال المشتري: غلطتُ. فهل يُقبل قوله مع يمينه؟ على وجهين). أما كون الشفيع يأخذ المشفوع بألفٍ إذا قال المشتري: اشتريته بذلك، وأقام البائع بينة بألفين؛ فلأن المشتري يقر بأن البينة كاذبة، وأنه ظلم في الألف الآخر. فلم يستحق الرجوع به. وأما كون المشتري إذا قال: غلطتُ لا يقبل قوله مع يمينه على وجهٍ؛ فلأنه رجع عن إقراره بعد تعلق حق غيره. وأما كونه يُقبل على وجهٍ؛ فلأنه لو أخبر في المرابحة بثمنٍ، ثم قال: غلطتُ قُبِل. فكذا هذا. قال: (وإن ادعى أنك اشتريته بألف، فقال: بل اتهبته أو ورثته: فالقول قوله مع يمينه. فإن نكل عنها، أو قامت للشفيع بينة: فله أخذه، ويقال للمشتري: إما أن تقبل الثمن، وإما أن تبرئ منه). أما كون القول قول مدعي الهبة والميراث مع يمينه؛ فلأن الأصل معه. ولأن المثبت للشفعة البيع، ولم يتحقق. وأما كونه يحلف، فلاحتمال صدق خصمه. وأما كون الشفيع له الأخذ إذا نكل المشتري عن اليمين؛ فلأن النكول قائمٌ مقام الإقرار. ولو أقرّ بالبيع لأخذ بالشفعة. فكذلك (¬1) ما قام مقامه. ¬

_ (¬1) في هـ: فكذا.

وأما كونه له الأخذ إذا قامت له بينة؛ فلأن البيع يثبت بحقوقه. والأخذ بالشفعة من حقوقه. وأما كونه يقال للمشتري بعد أخذ المشفوع منه: إما أن تقبل الثمن، وإما أن تبرئ منه؛ فلأن الثمن صار مستحقاً له. فيقال له ذلك لتحصل براءة الشفيع. قال: (وإن كان عوضاً في الخلع، أو النكاح، أو عن دم عمد فقال القاضي: يأخذه بقيمته. وقال غيره: يأخذه بالدية، ومهر المثل). أما كون الشفيع يأخذ ما ذكر بقيمته على قول القاضي؛ فلأنه مَلَك الشِّقْص القابل للشفعة ببدلٍ، ليس بمثلي. فوجب الرجوع إلى القيمة، كما لو ملكه بسلعة لا مثل لها. وأما كونه يأخذه بالدية ومهر المثل على قول غيره؛ فلأن ذلك بدل المشفوع. فوجب أن يؤخذ به، كالثمن. واعلم أن الاختلاف في صفة الأخذ يعتمد الأخذ بالشفعة في الصور (¬1) المذكورة. وفيه وجهان: أحدهما: لا شفعة فيها. قال المصنف رحمه الله في المغني: ظاهر كلام الخرقي أنه لا شفعة فيه، وهو قول أبي بكر. ثم قال: قال (¬2) القاضي: هو قياس المذهب؛ لأن ما يقابل المبيع ليس بمال. ولأن الأخذ: إما بالقيمة وهو ممتنع؛ لأنه ليس بعوض للمبيع، وإما بالمهر وفيه تقويم البضع على الأجانب وإضرار بالشفيع؛ لأن مهر المثل يتفاوت مع المسمى؛ لأن المهر يُسامح به في العادة. بخلاف البيع. فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أن القاضي يثبت استحقاق الشفعة، وما ذكر في المغني يناقضه! ¬

_ (¬1) في هـ: الصورة. (¬2) ساقط من هـ.

قيل: قول القاضي هنا في صفة الأخذ لا في أصله. ويجب حمل كلامه هنا على ذلك دفعاً للتناقض، وقد صرح بذلك في المغني فقال: وقال ابن حامد: تجب فيه الشفعة. ثم قال: قال القاضي: قياس قول ابن حامد يأخذ الشقص بقيمته. والوجه الثاني: فيه الشفعة؛ لأنه عقد معاوضةٍ. فجاز أن تثبت الشفعة في الأرض المملوكة به، كالبيع.

فصل [مسائل من الشفعة] قال المصنف رحمه الله: (ولا شفعة في بيع الخيار قبل انقضائه. نص عليه. ويحتمل أن يجب). أما كونه لا شفعة في بيع الخيار قبل انقضائه على المنصوص؛ فلأن في الأخذ التزام المشتري بالعقد (¬1) قبل رضاه بالتزامه، وإيجاب العهدة عليه، وتفويت (¬2) حقه من الرجوع في عين الثمن. وأما كونه يحتمل أن يجب؛ فلأن الملك انتقل إلى المشتري. فوجب أن تجب الشفعة لشريكه؛ لإزالة ضرر الشركة. قال: (وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري فهل تجب الشفعة؟ على وجهين). أما كون الشفعة فيما ذُكر تجب على وجهٍ؛ فلأن البائع أقرّ بحقين: حقٌ للمشتري، وحقٌ للشفيع. فإذا سقط حق المشتري بإنكاره لم يسقط حق الشفيع، كما لو أقرّ بدارٍ لرجلين، فأنكر أحدهما. وأما كونها لا تجب على وجهٍ؛ فلأن الشفعة فرعُ البيع، فإذا لم يثبت البيع لم يثبت فرعُه. قال المصنف في المغني: نصر الشريف أبو جعفر في مسائله يعني الأول. وقال: لا نصّ فيه عن أحمد. قال: (وعهدة الشفيع على المشتري، وعهدة المشتري على البائع). ¬

_ (¬1) في هـ: العقد. (¬2) في هـ: وتفوت.

أما كون عهدة الشفيع على المشتري. ومعناها (¬1): أن الشفيع إذا أخذ الشقص فوجده مستحقاً، فعهدة الرجوع بالثمن على المشتري لا على البائع؛ فلأن الشفيع يملكه من جهة المشتري. فوجب أن يرجع عليه؛ لكونه بائعه. ولأن الشفعة مستحقة بعد الشراء وحصول الملك للمشتري، ثم يزول الملك من المشتري إلى الشفيع بالثمن. فكانت العهدة عليه، كما لو أخذه منه ببيع. وأما كون عهدة المشتري على البائع. ومعناها: أنه إذا رجع عليه يرجع هو على البائع؛ فلأن ملكه من جهته. فكان له الرجوع عليه؛ لما ذكر في الشفيع مع المشتري. قال: (فإن أبى المشتري قبض المبيع أجبره الحاكم عليه. وقال أبو الخطاب: قياس المذهب أن يأخذه الشفيع من يد البائع). أما كون الحاكم يجبر المشتري على قبض المبيع؛ فلأن القبض واجب ليحصل حق الشفيع من تسليمه. ومن شأن الحاكم: أن يجبر الممتنع على فعل ما يجب فعله؛ لما فيه من قطع التنازع. وأما كون الشفيع يأخذ المشفوع من يد البائع على قول أبي الخطاب؛ فلأن البيع يلزم من غير قبض. قال: (وإذا ورث اثنان شقصاً عن أبيهما، فباع أحدهما نصيبه: فالشفعة بين أخيه وشريك أبيه. ولا شفعة لكافر على مسلم). أما كون الشفعة بين الوارث (¬2) وشريك أبيه؛ فلأنهما شريكان حال ثبوت الشفعة. فكان بينهما، كما لو ملكا كلاهما (¬3) بسببٍ واحد. ولأن الشفعة تثبت لدفع ضرر (¬4) الشريك الداخل على شركائه بسبب شركته وهو موجود هاهنا. ¬

_ (¬1) في ج: ومعناه. (¬2) في هـ: الأخ. (¬3) في ج: ملكوا كلهم. (¬4) في هـ: الضرر.

وأما كون الكافر لا شفعة له على مسلمٍ؛ فلما روى الدارقطني في العلل بإسناده عن أنس أن (¬1) النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا شُفعة لنصراني» (¬2). ولأنه معنى يُملك به، يترتب وجوبه على وجود ملكٍ مخصوصٍ. فلم تجب للذمي على المسلم، كالزكاة. ولأنه معنى يختص العقار، فلا يثبت لذمي على مسلم؛ كالاستعلاء في البنيان. وفي قول المصنف رحمه الله: ولا شُفعة لكافرٍ على مسلمٍ؛ إشعارٌ بأن للذمي على الذمي شُفعة. وصرح به في المغني؛ لعموم الأدلة المقتضية لثبوت الشفعة، وزوال المعنى المذكور في المسلم. قال: (وهل تجب الشفعة للمضارب على رب المال، أو لرب المال على المضارب فيما يشتريه للمضاربة؟ على وجهين). أما كون الشفعة تجب للمضارب -والمراد بذلك: أن المضارب إذا كان له شقص في دارٍ، فاشترى بمال المضاربة بقيتها- على وجهٍ؛ فلأن في ذلك دفعاً لضرر الشركة. وأما كونها لا تجب على وجهٍ؛ فلأن له في مال المضاربة تعلقٌ (¬3) في الجملة. أشبه رب المال. وقال المصنف في المغني: إن لم يكن له في مال المضاربة ربحٌ فله الشفعة. وإن كان فيها (¬4) ربحٌ، وقلنا: لا يملكه بالظهور فكذلك. وإن قلنا: يملكه بالظهور ففيه وجهان، كما في رب المال. وقال صاحب النهاية فيها بعد أن حكى قريباً مما ذُكر: وعندي أنه لا شُفعة للعامل فيما اشتراه، كالوكيل والوصي. ¬

_ (¬1) في هـ: عن. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 108 كتاب الشفعة، باب روايه ألفاظ منكرة يذكرها بعض الفقهاء في مسائل الشفعة. وأخرجه الطبراني في الصغير 1: 206. (¬3) في هـ: تعلقه. (¬4) في هـ: بها.

وأما كون الشفعة تجب لرب المال على المضارب -والمراد بذلك: أن يكون له شقصٌ في دارٍ فيشتري المضارب من مال المضاربة بقيتها- على وجهٍ؛ فلأن مال المضاربة كالمنفرد بنفسه لتعلق حق الغير به. ولأن المضارب يستحق البيع، ورب المال يثبت الملك لنفسه بالشفعة ليقطع حق العامل من ذلك، وصار ذلك بمنزلة ما إذا كان المشتري شريكاً، فإن الشفعة بينه وبين شريكه، وهذه شفعة في الحقيقة لم تجلب ملكاً وإنما أثبتته وقررته. فكذلك هاهنا. وأما كونها لا تجب له على وجهٍ؛ فلأن الملك وقع له. فلا يستحق الشفعة على نفسه. وقال المصنف في المغني: هذان الوجهان مبنيان على شراء رب المال من مال المضاربة. وقال صاحب النهاية فيها بعد أن ذكر التعليل المذكور قبل: هذا تكلّف. والصحيح نفي الشفعة. والشقص كسائر أموال القراض. والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ج.

باب الوديعة

باب الوديعة والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58]، وقوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283]. وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنكَ، ولا تَخُنْ منْ خَانَكْ» (¬1). رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن. وأما الإجماع فأجمع المسملون في الجملة على جواز الإيداع والاستيداع. وأما المعنى؛ فلأن بالناس حاجة إليها؛ لأنهم يتعذر عليهم حفظ جميع أموالهم بأنفسهم. قال المصنف رحمه الله: (وهي أمانة. لا ضمان عليه فيها. إلا أن يتعدى). أما كون الوديعة أمانة؛ فلأن الله تعالى سماها أمانة. وأما كون المودَع لا ضمان عليه فيها إذا لم يتعد؛ فلأن الضمان ينافي الأمانة، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ أَودعَ وَديعةً فلا ضَمانَ عليه» (¬2) رواه ابن ماجة. ولأنه قول جماعة من الصحابة منهم: أبو بكر وعلي رضي الله عنهما. ولأن المستودَع إنما يحفظها لصاحبها، فلو ضُمِنَت لامتنع الناس من قبول الودائع وذلك مضر؛ لما فيه من مسيس الحاجة إليها. وأما كونه عليه الضمان إذا تعدى؛ فلأن التعدي يوجب الضمان حيث وجد، وقد وجد هنا. قال: (وإن تلفت من بين ماله لم يضمن في أصح الروايتين). أما كون المودَع لا يضمن ما ذُكر على الصحيح من المذهب؛ فلما ذكر قبل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3535) 3: 290 كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده. وأخرجه الترمذي في جامعه (1264) 3: 564 كتاب البيوع. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2401) 2: 802 كتاب الصدقات، باب الوديعة.

وأما كونه يضمن على روايةٍ، فلما روي «أن أنساً كانت عنده وديعة فذهبت. فرفع الأمر إلى عمر. فقال: هل ذهب معها شيء؟ قال: لا. فقال: اغرمها» (¬1). قال المصنف في المغني: قال القاضي: الأولى أصح؛ لما ذكر قبل. وحديث عمر محمولٌ على التفريط. قال: (ويلزم حفظها في حرز مثلها. فإن عيّن صاحبها حرزاً، فجعلها في دونه: ضمن. وإن أحرزها بمثله، أو فوقه: لم يضمن. وقيل: يضمن إلا أن يفعله لحاجة). أما كون المودَع يلزمه حفظ الوديعة في حرز مثلها؛ فلأن الله تعالى أمر بأدائها، ولا يمكن (¬2) ذلك إلا بالحفظ. ولأن فائدة الوديعة الحفظ وحرز المثل معتبرٌ في مواضع. فكذلك هاهنا. وأما كونه يضمن إذا عيّن صاحبها حرزاً، فجعلها المودَع في دونه؛ فلأنه خالفه في حفظ ماله. وأما كونه لا يضمن إذا أحرزها بمثل الحرز أو فوقه على المذهب؛ فلأن تنصيصه على الحرز يقتضي الحفظ فيه، وفيما يقوم مقامه، كمن اكترى أرضاً لزرع الحنطة فإن له زرعها بها وبما هو مثلها في الضرر. وأما كونه يضمن إذا فعل ذلك لغير حاجةٍ في وجهٍ، فلأنه خالف المالك. وأما كونه لا يضمن إذا فعل ذلك لحاجة، مثل: أن يخاف عليها سيلاً، أو حريقاً، أو نحو ذلك؛ فلأنه حينئذ لا يُعد مفرّطاً، بل يُعدُّ تَرْك ذلك تفريطاً. قال: (وإن نهاه عن إخراجها فأخرجها لغشيانِ شيء الغالب منه التوى: لم يضمن. وإن تركها فتلفت ضمن. وإن أخرجها لغير خوف ضمن). أما كون المودَع لا يضمن فيما إذا أخرج الوديعة لغشيان شيء الغالب منه التوى. وهو التلف؛ فلما تقدم من أن المخرج لذلك لا يُعد مفرّطاً. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (14799) 8: 182 كتاب البيوع، باب الوديعة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 290 كتاب الوديعة، باب لا ضمان على مؤتمن. (¬2) في هـ: يتمكن.

وأما كونه يضمن فيما إذا تركها فتلفت؛ فلأن تارك الإخراج مع غشيان ما ذكر يُعد مفرّطاً. ولأن (¬1) الحال لما تغيرت كان حفظها نقلها. فإذا تركها فقد ضيعها. وذكر المصنف في المغني وجهاً آخر: لا ضمان عليه؛ لأنه ممتثل لقول صاحبها. وأما كونه يضمن فيما إذا أخرجها لغير خوف؛ فلأنه خالف المالك ونهيه لغير مصلحة. قال: (وإن قال: لا تخرجها وإن خفت عليها. فأخرجها عند الخوف، أو تركها: لم يضمن). أما كون المودَع لا يضمن إذا أخرجها عند الخوف؛ فلما ذكر من أن حفظها نقلها. وأما كونه لا يضمن إذا تركها؛ فلأنه تركها بإذنه الصريح. بخلاف التي قبلها. قال: (ولو أودعه بهيمةً، فلم يَعْلفها حتى ماتت: ضمن. إلا أن ينهاه المالك عن علفها). أما كون المودَع يضمن مع عدم النهي؛ فلأن العلف من كمال الحفظ، بل هو الحفظ بعينه؛ لأن العرف يقتضي أن من أودع بهيمة فإن الاعتماد عليه في علفها. فصار مأموراً بالعلف من حيث العرف. وأما كونه لا يضمن مع النهي عن العلف؛ فلأن المالك قد أذن له في السبب المهلك. أشبه ما لو أذن له في قتل عبده. قال: (وإن (¬2) قال: اترك الوديعة في جيبك. فتركها في كُمّه: ضمن. وإن قال: اتركها في كمّك. فتركها في جيبه: لم يضمن. وإن تركها في يده احتمل وجهين). أما كون المودَع يضمن فيما إذا قال: اترك الوديعة في جيبك. فتركها في كمّه؛ فلأن الجيب أحرز وأبعد (¬3) من البَطِّ. ¬

_ (¬1) في هـ: وأن. (¬2) في هـ: فإن. (¬3) في هـ: لأنه أبعد.

وأما كونه لا يضمن إذا قال: اتركها في كمّك فتركها في جيبه؛ فلما تقدم من أن الجيب أحرز من الكُمّ. وأما كونه يضمن إذا تركها في يده على وجهٍ؛ فلأن اليد يتطرق إليها الفتح بالنسيان والنوم. وأما كونه لا يضمن على وجهٍ؛ فلأن اليد أحرز؛ لأن الكُمّ يتطرّق إليه البط. قال: (وإن دفع الوديعة إلى من يحفظ ماله، كزوجته، وعبده: لم يضمن. وإن دفعها إلى أجنبي، أو حاكم: ضمن. وليس للمالك مطالبة الأجنبي. وقال القاضي: له ذلك). أما كون المودَع لا يضمن فيما إذا دفع الوديعة إلى من يحفظ ماله، كزوجته وعبده؛ فلأنه مستودَع. فله أن يحفظ الوديعة بنفسه، وبمن جرت العادة أن يحفظ ماله. وأما كونه يضمن (¬1) فيما إذا دفعها إلى أجنبي أو حاكم؛ فلأنه مودَع. فليس له أن يُودع من غير عذر. وأما كون المالك ليس له مطالبة الأجنبي -والمراد به عند التلف- على قولِ غير القاضي؛ فلأن المودَع ضمن بنفس الدفع والإعراض عن الحفظ. فلا يجب الضمان على الثاني؛ لأن دفعاً واحداً لا يوجب ضمانين. بخلاف غاصب الغاصب؛ لأن الغاصب يده ضامنة فرُتِّب الضمان على الضمان. وأما كونه له ذلك على قول القاضي؛ فلأنه قَبَضَ ما ليس له قبضه. أشبه المستودع (¬2) من الغاصب. قال: (وإن أراد سفراً، أو خاف عليها عنده: ردّها إلى مالكها. فإن لم يجده حملها معه إن كان أحفظ لها، وإلا دفعها إلى الحاكم. فإن تعذر ذلك أودعها ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: المودع.

ثقة أو دفنها وأعلم بها ثقة يسكن تلك الدار. وإن دفنها ولم يعلم بها أحداً، أو أعلم بها من لا يسكن الدار: ضمنها). أما كون المودَع يردّ الوديعة على مالكها إذا أراد سفراً أو خاف عليها؛ فلأن في ذلك تخليصاً له من دركها. وأما كونه يحملها معه إذا لم يجده، وكان أحفظ لها؛ فلأن المقصود الحفظ، وهو موجود هنا وزيادة. وأما كونه يدفعها إلى الحاكم إذا لم يكن حملها معه أحفظ لها (¬1)؛ فلأن في السفر بها غرراً؛ لأن ذلك بعرضيّة النهب وغيره. وأما كونه يودعها ثقة عند تعذر ما تقدم؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده ودائع فلما هاجر تركها عند أم أيمن». وأما كونه يدفنها (¬2) بالشروط المتقدم ذكرها؛ فلأن الحفظ يحصل به. وأما كونه يضمن إذا دفنها ولم يُعلم بها أحداً؛ فلأنه قد يموت في سفره، وربما نسي مكانها، أو أصابه آفة من غرقٍ أو هدمٍ أو نحوهما. وأما كونه يضمن إذا أعلم بها من لا يَسكن الدار؛ فلأنه لم يُودعها إياه. والحكم فيما (¬3) إذا أعلم بها ساكناً في تلك الدار وهو غير ثقة كالحكم فيما ذكر؛ لأن غير الثقة ربما خان فيها. ولم يصرح به المصنف رحمه الله اكتفاء بمفهوم قوله: وأعلم بها ثقة. قال: (وإن تعدى فيها فركب الدابة لغير نفعها، ولبس الثوب، وأخرج الدراهم لينفقها ثم ردّها، أو جحدها ثم أقر بها، أو كسر ختم كيسها، أو خلطها بما لا تتميز منه: ضمنها. وإن خلطها بمتميز، أو ركب الدابة ليسقيها: لم يضمن). أما كون المودع يضمن إذا تعدى؛ فلما تقدم أول الباب (¬4). ولأن المتعدي شبيهٌ بالغاصب. فوجب أن يضمن بالقياس عليه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: وأن كونه يدفعها. (¬3) في هـ: فيها. (¬4) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما قول المصنف رحمه الله: فركب الدابة؛ فتمثيل للتعدي، وذلك يحصل بأشياء: - منها: ركوب الدابة، ولبس الثوب؛ لأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه. وقيَّد الركوب بعدم نفع الدابة احترازاً من ركوبها لنفعها. وسيأتي بيانه. - ومنها: إخراج الدراهم من وعائها لينفقها؛ لأنه تصرف أيضاً في مال المالك بغير إذنه. - ومنها: جحود الوديعة؛ لأنه خرج به عن حيز الأمانة، لأن الجحود ضدها. - ومنها: كسر ختمها؛ لأنه يزيل عنها أحد أسباب حفظها، وهو مأمور بتحصيله (¬1). - ومنها: خلطها بما لا تتميز منه؛ لأنه يتعذر بذلك ردّها بعينها إلى صاحبها، وهو مأمور به. وأما كونه لا يضمن إذا خلطها بمتميز كسُودٍ وضعها في بِيض، ومُقَطَّعَةٍ في صحاحٍ؛ فلأن ذلك ليس بخيانةٍ (¬2). أشبه ما لو وضع فوق الوديعة ثوباً، أو مع الدراهم دنانير. وأما كونه لا يضمن إذا ركب الدابة ليسقيها؛ فلأن ذلك لنفعها. بل لو ترك سقيها حتى ماتت ضمنها. قال: (وإن أخذ درهماً، ثم رده. فضاع الكل: ضمنه وحده. وعنه: يضمن الجميع. وإن رد بدله متميزاً فكذلك. وإن كان غير متميز ضمن الجميع. ويحتمل أن لا يضمن غيره). أما كون المودَع يضمن الدرهم وحده إذا أخذه ثم رده ثم ضاع الكل على المذهب؛ فلأن الضمان تعلق بالأخذ فلم يضمن غيرَ ما أخذه. وأما كونه يضمن الجميع على روايةٍ؛ فلأنه جنى على الوديعة بأخذ بعضها. فصارت مضمونة، كجملتها. وشرط هذا الخلاف: أن تكون الدراهم غير ¬

_ (¬1) في هـ: بتحليصه. (¬2) في هـ: بجناية.

مصرورة ولا مختومة، فلو كانت مختومة أو مصرورة في خرقة أو شبهها فكسرَ الختم أو فتحَ الصرّة ضمن الكل بلا خلاف؛ لأنه هتك الحرز بفعل تعدَّى به. وأما كون حكم ما ردّ بدله متميزاً كحكم الدرهم؛ فلما ذكر. وأما كونه يضمن الجميع إذا ردّ غير متميزٍ على المذهب؛ فلأنه خلط الوديعة بماله. أشبه ما تقدم. وأما كونه يحتمل أن لا يضمن غيره؛ فلأن التعدي في الحقيقة إنما وقع فيه. أشبه ما لو ردّه بعينه. قال: (وإن أودعه صبيٌّ وديعةً ضمنها. ولم يبرأ إلا بالتسليم إلى وليّه). أما كون المودَع يضمن ما أودعه الصبي؛ فلأن القبض ممن لا إذن له. أشبه القبض من المجنون. وأما كونه لا يبرأ إلا بالتسليم إلى وليّه؛ فلأن الوديعة صارت مضمونة في يده. فلم يبرأ إلا بما ذكر، كما لو كان له دين في ذمته. قال: (وإن أودع الصبيَّ وديعةً. فتلفت بتفريطه: لم يضمن. وإن أتلفها لم يضمن. وقال القاضي: يضمن). أما كون الصبي لا يضمن الوديعة إذا تلفت بتفريطه؛ فلأن مالك الوديعة فرّط في تسليمها إليه. وأما كونه لا يضمنها إذا أتلفها (¬1) على قولِ غير القاضي؛ فلما ذكر قبل. وأما كونه يضمنها على قول القاضي؛ فلأن ما ضُمن بالإتلاف قبل الإيداع ضُمن به بعده. والصبي لو أتلف شيئاً من غير الوديعة ضمن. فكذلك يضمن الوديعة إذا أتلفها. قال: (وإن أودع عبداً وديعة. فأتلفها: ضمنها في رقبته). أما كون العبد يضمن الوديعة إذا أتلفها؛ فلأن العبد مكلف يصح استحفاظه، وبهذا يحصل الفرق بينه وبين الصبي. ¬

_ (¬1) في هـ: أتفلها.

وقال صاحب النهاية فيها: قال القاضي: فيه وجهان كوديعة الصبي. ثم قال: والصحيح الفرق، وذَكَر ما تقدم. وأما كون الضمان في رقبته؛ فلأن إتلافه من جنايته، ولو جنى كان الضمان في رقبته. فكذلك إذا أتلف (¬1). ¬

_ (¬1) في هـ: تلف.

فصل [المودَع أمين] قال المصنف رحمه الله: (والمودع أمين. والقول قوله فيما يدعيه من رَدٍّ، وتلفٍ، وإذنٍ في دفعها إلى إنسان، وما يدعى عليه من جنايةٍ وتفريط). أما كون المودع أميناً؛ فلأن الله تعالى سمى الوديعة أمانة بقوله: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58]، وقوله: {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283]. وقال عليه السلام: «أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك» (¬1). ولأنه لا منفعة له في قبضها. وأما كون القول قوله فيما ذكر؛ فلأن ذلك شأن الأمين. قال: (فإن قال: لم تودعني، ثم أقر بها، أو ثبتت ببينة فادعى الرد أو التلف: لم يُقبل وإن أقام به بينة. ويحتمل أن تقبل بينته. وإن قال: ما لك عندي شيء قبل قوله في الرد والتلف). أما كون المودَع المذكور لا يقبل قوله إذا ادعى الرد والتلف بعد قوله: لم تودعني؛ فلأنه خرج بالإنكار عن الأمانة. وأما كونه لا تقبل بينته بذلك على المذهب؛ فلأنه مكذبٌ لها. وأما كونه يحتمل أن تقبل فلعدم (¬2) التهمة. والكذبُ الصادر منه لا يمنع من إظهار الحق، كالمرأة إذا ادعت القذف على زوجها فأنكر. فأقامت البينة بقذفه. فأراد الزوج إقامة البينة على زناها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: فلعموم.

وأما كونه يقبل قوله في الرد والتلف إذا قال: ما لك عندي شيء؛ فلأن قوله أولاً لا يناقض قوله ثانياً؛ لأن من أخذ وديعة فتلفت أو ردّها يصح أن يقول: ما لك عندي شيء، لأنه صادق. قال: (وإن مات المودَع فادعى وارثُه الردَّ: لم يُقبل إلا ببينة. وإن تلفت عنده قبل إمكان ردّها لم يضمنها، وبعده يضمنها في أحد الوجهين). أما كون وارث المودَع لا تُقبل دعواه في الرد إذا لم تكن بينة؛ فلأن دعوى الرد من المودَع إنما تقبل لكونه أمين المودِع، وهذا مفقود في وارثه؛ لأن المالك لم يأتمنه (¬1). وأما كونه تقبل دعواه إذا كان له بينة؛ فلأن البينة تُظهر صدق دعواه. وأما كونه لا يضمنها إذا تلفت عنده قبل إمكان ردها؛ فلأنه معذورٌ. قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]. وأما كونه يضمنها بعد الإمكان في وجهٍ، فلأن مال الغير صار في يده من غير أن يودعه إياه. فوجب ضمانه إذا لم يردّه مع إمكانه، كما لو أطارت الريح ثوب رجلٍ إلى سطحٍ آخر، وأمكنه ردّه. فلم يفعل. وأما كونه لا يضمنها في وجهٍ؛ فكما لو تلفت قبل (¬2) الإمكان. ولأن يده نائبةٌ عن موروثه، ولو تلفت عند موروثه مع إمكان الرد لم يضمن. فكذلك هذا. قال: (وإن ادعى الوديعة اثنان. فأقرّ بها لأحدهما: فهي له مع يمينه. ويحلف المودَع أيضاً. وإن أقر بها لهما فهي لهما، ويحلف لكل واحدٍ منهما. فإن قال: لا أعرف صاحبها حلف أنه لا يعلم، ويقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها). أما كون الوديعة للمُقَرِّ له وحده؛ فلأن إقراره له بيّن أن يده نائبة عن يد المدعي. واليدُ دليل الملك. ¬

_ (¬1) في هـ: يثمنه. (¬2) في هـ: بعد.

وأما كون ذلك مع يمينه؛ فلاحتمال أن لا تكون له. ولهذا لو ادعى شخص داراً في يد آخر وطلب يمينه لزمته. فكذلك هاهنا. وأما كون المودَع يحلف أيضاً؛ فلأن من لزمه الدفع إذا أقرّ، لزمه اليمين إذا أنكر. وأما كونها لهما إذا أقرّ بها لهما، وكونه يحلف لكل واحدٍ منهما؛ فلما ذكر قبل. وأما كونه يحلف أنه لا يعلم إذا قال: لا أعرف صاحبها؛ فلأنه يحتمل كذبه. ولأن كل موضعٍ يُقضى فيه مع الإقرار تجب اليمين فيه مع الإنكار، وهاهنا لو أقرّ بها لهما أو لأحدهما قضي عليه. وفي قول المصنف رحمه الله: حلف أنه لا يعلم؛ إشعارٌ بأن اليمين واحدة لا ثنتان نظراً إلى تعدد المدعي. وصرح به في المغني. ووجهه أن المدعى أمر واحد وهو العلم بعين المالك وبهذا فارق ما إذا أنكرهما من حيث إن كل واحدٍ منهما يدعي أنها له فهما دعوتان. وأما كونه يقرع بينهما؛ فلأنهما تساويا في الحق فيما ليس بأيديهما. فوجب أن يقرع بينهما، كالعبدين إذا أعتقهما المريض فلم يخرج من الثلث إلا أحدهما، وكما لو أراد السفر بإحدى نسائه. وأما كون من قرع يحلف؛ فلأنه يحتمل أنها ليست له. وأما كونه يأخذ الوديعة إذا قرع (¬1) وحلف؛ فلأن ذلك فائدةَ القرعة. قال: (وإن أودعه اثنان مكيلاً أو موزوناً (¬2). فطلب أحدهما نصيبه: سلمه إليه). أما كون المودَع يُسَلم نصيب الطالب إليه؛ فلأنه حق مشترك. يمكن تمييز أحدهما من الآخر من غير حيف محقق ولا موهوم فغيبة أحد الشريكين لا يمنع تمييز نصيب الحاضر. دليله الدين المشترك. فإن قيل: في الدين يدفع مال نفسه، وهاهنا يأخذ عين مال غيره. قيل: بل هنا يأخذ عين ماله؛ لأن القسمة في المثلي إقرار لا بيع. ¬

_ (¬1) في هـ: أقرع. (¬2) في هـ: موزناً.

وأما قول المصنف رحمه الله: مكيلاً أو موزوناً؛ فإشعارٌ بأن ذلك إنما يجوز في المثلي. وصرح به صاحب النهاية فيها؛ لأن قسمة غير ذلك بيعٌ، وليس للمودَع أن يبيع على المودِع. ولأن قسمة ذلك لا يؤمن فيها الحيف؛ لأنه يفتقر إلى التقويم وذلك ظنٌ وتخمين. قال: (وإن غصبت الوديعة فهل للمودَع المطالبة بها؟ على وجهين). أما كون المودَع ليس له مطالبة الغاصب بالوديعة على وجهٍ؛ فلأنه ليس وكيلاً للمالك. وأما كونه له مطالبته بها على وجهٍ؛ فلأن له حق اليد والحفظ. أشبه المستأجر والمرتهن. وهذا قول أبي الخطاب.

باب إحياء الموات

باب إحياء المَوَات والأصل في ذلك ما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منْ أحيَا أرضاً ميتةً فهيَ لهُ. وليسَ لعرقِ ظالمٍ حَق» (¬1). قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن عائشة مثله (¬2). رواه أبو داود. قال ابن عبدالبر (¬3): هو مسند صحيح مُتلقى بالقبول عند فقهاء المدينة وغيرهم. قال المصنف رحمه الله: (وهي: الأرض الداثِرة، التي لا يُعلم أنها ملكت. فإن كان فيها آثار الملك (¬4)، ولا يُعلم لها مالك: فعلى روايتين). أما قول المصنف رحمه الله: وهي الأرض الداثرة التي لا يعلم أنها ملكت؛ فبيانٌ لمعنى الموات شرعاً. ويسمى مَواتاً ومِيتَةً ومَوَتاناً بفتح الميم والواو. والمُوْتان بضم الميم وسكون الواو: الموت الذريع. ولا بد أن يُلحظ في قوله: التي لا يعلم أنها ملكت: أن يكون الملك لمسلمٍ أو مقرٍّ بالجزية، ولهذا روى كثير بن عبدالله بن عوف عن أبيه عن جده قال (¬5): سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحيَا أرضاً مَواتاً في غيرِ حقِّ مسلمٍ فهيَ له» (¬6). رواه ابن عبدالبر. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1378) 3: 662 كتاب الأحكام، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات. عن سعيد بن زيد، وأخرجه أيضاً عن جابر ولكن بدون لفظ: «وليس لعرق ظالم حق» (1379) 3: 663. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3073) 3: 178 كتاب الخراج، باب في إحياء الموات. عن سعيد بن زيد، ولم أره عن عائشة. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) في هـ: ملك. (¬5) ساقط من هـ. (¬6) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 147 كتاب إحياء الموات، باب ما يكون إحياء وما يرجى فيه من الأجر.

وأما كون الأرض الداثرة التي كان فيها آثار المُلك، ولا يعلم لها مالك على روايتين؛ فلأن النظر إلى كونها داثرة يقتضي أن تكون مَواتاً. والنظر إلى كونها فيها آثار المُلك يقتضي أن لا تكون مَواتاً. فإن قيل: ما فائدة الخلاف في ذلك؟ قيل: جواز الإحياء وعدمه. ويعضد الجواز عموم قوله: «من أحيا أرضاً ميتةً فهيَ له» (¬1). ويعضد العدم أنها أرض لها مالك، فلم يجز إحياؤها، كما لو كان معلوماً. وعموم الحديث مخصوص بذلك. قال: (ومن أحيا أرضاً ميتة فهي له، مسلماً كان أو كافراً، بإذن الإمام أو غير إذنه، في دار الإسلام وغيرها. إلا ما أحياه مسلم من أرض الكفار التي صولحوا عليها. وما قَرُب من العامر وتعلق بمصالحه لم تملك بالإحياء. وإن لم يتعلق بمصالحه فعلى روايتين). أما كون من أحيا أرضاً ميتة هي للمحيي؛ فلما تقدم من الأحاديث. وأما كونها له بذلك مسلماً كان أو كافراً، بإذن الإمام أو غير إذنه، في دار الإسلام وغيرها غير ما استثني؛ فلأن العموم المتقدم يشمل ذلك كله. ولأن الموجب للملك الإحياء، وهو موجود في كل الصور. ولأن التمليك لا يختلف فيه المسلم والذمي. دليله: البيع وسائر العقود. وقال ابن حامد: لا يملك الذمي بالإحياء في دار الإسلام؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مُوتان الأرض لله ورسوله، ثم هي لكم» (¬2). وجوابه: أن هذا لا يعرف صحته. وإنما روى أبو عبيد: «عادِي الأرض لله ورسوله ثم هي لكم» (¬3) وهو مرسل رواه طاووس عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم لا يمتنع أن أن يريد بقوله: «هي لكم» أي لأهل دار الإسلام، والذمي من أهل الدار. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 143 كتاب إحياء الموات، باب لا يترك ذمي يحيي ... عن ابن عباس رضي الله عنه. (¬3) أخرجه أبو عبيد في الأموال (676) ص: 253 كتاب أحكام الأرضين في إقطاعها، باب الإقطاع.

وأما كون المسلم لا يملك بالإحياء ما أحياه من أرض الكفار التي صولحوا عليها؛ فلأنهم صولحوا على بلادهم فلم يُتَعَرّض لمواتهم؛ لأن الموات تابع للبلد. وأما كونه لا يُملك بالإحياء ما قرب من العامر، وتعلق بمصالحه من طريقٍ، ومسيلِ ماءٍ، ومطرحِ عمارةٍ، وملقى ترابٍ؛ فلقوله عليه السلام: «من أحيا أرضاً ميتةً في غيرِ حق مسلمٍ فهيَ له» (¬1). ولأنه تعلق به حق الأرض. أشبه ما حصل فيه الإحياء. وأما كونه يملك بالإحياء ما قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه على روايةٍ فلعموم الأدلة المقتضية لذلك. وأما كونه لا يملك ذلك بالإحياء على روايةٍ؛ فلأنه قريبٌ من العامر، وقد يحتاج إليه في المآل. أشبه ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه. والأولى أولى، لما ذكر. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القَبَلِيَّة» (¬2). وهو يعلم أنها بين عمارة المدينة. ولأنه موات لم يتعلق به مصلحة العامر. فجاز إحياؤه، كالبعيد. قال: (ولا تملك المعادن الظاهرة، كالملح، والقار، والنفط، والكحل، والجص بالإحياء. وليس للإمام إقطاعه. فإن كان بقرب الساحل موضعٌ إذا حصل فيه الماء صار ملحاً مُلك بالإحياء، وللإمام إقطاعه). أما كون المعادن الظاهرة (¬3) لا تملك بالإحياء؛ فلأن في ذلك ضرراً على المسلمين لكونه من المصالح العامة. وأما كون الإمام ليس له إقطاع ذلك؛ فلما ذكر قبل. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع رجلاً معدن الملح. فلما قيل له: إنه بمنزلة الماء العدّ: ردّه» (¬4). كذا قال الإمام أحمد، ورواه أبو عبيد في الأموال. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3062) 3: 173 كتاب الخراج، باب في إقطاع الأرضين. (¬3) في هـ: الظاهر. (¬4) أخرجه أبو عبيد في الأموال (685) ص: 255 كتاب أحكام الأرضين في إقطاعها، باب الإقطاع. والماء العدّ: هو الدائم الذي لا ينقطع.

ولأنه لا يجوز إقطاع مشارع الماءِ وطرق المسلمين. فكذلك هذا. وأما كون الموضع الذي إذا حصل فيه الماء صار ملحاً يملك بالإحياء، وكونه يجوز إقطاعه؛ فلأنه لم يضيق على أحدٍ. فملك بالإحياء وجاز إقطاعه، كبقية الموات. قال: (وإذا مَلك المحيا ملكه بما فيه من المعادن الباطنة، كمعادن الذهب والفضة. وإن ظهر فيه عين ماء أو معدن جارٍ أو كلأ أو شجر فهو أحق به. وهل يملكه؟ على روايتين). أما كون المعادن الباطنة تملك بملك المحيا؛ فلأنها من جملة أجزائه. فملكت بملكه، كغيره. وأما كون المحيي أحق بما ظهر في المحيا من عين ماءٍ (¬1) أو معدِنٍ جارٍ أو كلأٍ أو شجر؛ فلأنه لو سبق إلى شيء من المباح الذي لا يَملك أرضه كان أحقَّ به، لقوله عليه السلام: «منْ سبقَ إلى ما لم يسبقْ إليه مسلمٌ فهوَ له» (¬2). رواه أبو داود. وفي لفظ: «فهو أحق به» (¬3)؛ فلأن يكون أحق بالمباح الذي في ملكه بطريق الأولى. وأما كونه يملكه على روايةٍ؛ فلأنه متصلٌ بأرضه. فَمَلَكه، كالمعادن الباطنة. ولأنه نماء ملكه. فملكه، كشعر غنمه. وأما كونه لا يملكه على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الناسُ شركاءُ في ثلاثٍ: الماء والكَلأ والنار» (¬4) رواه ابن ماجة والخلال. وقال عليه السلام (¬5): «لا حمى إلا في الأراك» (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3071) 3: 177 كتاب الخراج، باب في إقطاع الأرضين. (¬3) ذكره القرطبي في تفسيره 17: 297. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (2472) 2: 826 كتاب الرهون، باب المسلمون شركاء في ثلاث. قال في الزوائد: عبدالله بن خراش قد ضعفه أبو زرعة والبخاري وغيرهما. وقال محمد بن عمار الموصلي: كذاب. (¬5) ساقط من هـ. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (3066) 3: 175 كتاب الخراج، باب في إقطاع الأرضين. ولفظه: «لا حمى في الأراك».

قال: (وما فضل من مائه لزمه بذله لبهائم غيره. وهل يلزمه بذله لزرع غيره؟ على روايتين). أما كون ما فضل من ماء الشخص (¬1) يلزمه بذله لبهائم غيره؛ فلما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «منْ منعَ فضلَ الماءِ وفضلَ الكلأِ منعهُ اللهُ فضلَ رحمتهِ [يومَ القيامة] (¬2») (¬3). وأما كونه لا يلزمه بذل ذلك لزرع غيره على المذهب؛ فلأن الزرع لا حرمة له. وأما كونه يلزمه ذلك على روايةٍ؛ فلما روى إياس بن عبد (¬4) «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهَى عن بيعِ فضلِ الماء» (¬5). رواه أبو داود والنسائي والترمذي. وقال: حديث صحيح. ¬

_ (¬1) في هـ: الشجر. (¬2) زيادة من ج. (¬3) أخرجه الشافعي في البيوع، باب فيما نهي عنه من البيوع وأحكام أخر 2: 153/ 530. (¬4) في هـ: إياس بن عبدالله، وهو تصحيف. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3478) 3: 278 كتاب البيوع، باب في بيع فضل الماء. وأخرجه الترمذي في جامعه (1271) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع فضل الماء. وأخرجه النسائي في سننه (4662) 7: 307 كتاب البيوع، بيع فضل الماء.

فصل [فيما يحصل به الإحياء] قال المصنف رحمه الله: (وإحياء الأرض أن يحوزها بحائطٍ، أو يجري لها ماء. وإن حفر بئراً عادِيَة ملك حريمها خمسين ذراعاً. وإن لم تكن عادية فحريمها خمسة وعشرون ذراعاً. وعند القاضي: حريمها قدر مد رشائها من كل جانب. وقيل: قدر ما يحتاج إليه في ترقية مائها. وقيل: إحياء الأرض ما عُدَّ إحياء. وهو: عمارتها بما تتهيأ به لما يراد منها من زرع أو بناء. وقيل: ما يتكرر كل عام، كالسقي والحرث فليس بإحياء، وما لا يتكرر فهو إحياء). أما كون إحياء الأرض أن يحوزها بحائطٍ، أو يجري لها ماءً على المذهب: أما الأول، فلما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ حَاطَ حَائِطاً على أرضٍ فهيَ له» (¬1). رواه أبو داود. ولأن الحائط حاجز منيع. فكان إحياء، كبناء الأرض داراً. وأما الثاني؛ فلأن نفع الأرض بالماء أكثر من إحيائها بحائط. وأما كون حافر البئر العادِيَة يملك حريمها خمسين ذراعاً، وكون حريمها إذا لم تكن عادِيَة خمسة وعشرين ذراعاً على المذهب؛ فلما روى سعيد بن المسيب أنه قال: «السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعاً، والبدئ (¬2) خمسة وعشرون ذراعاً» (¬3). رواه أبو عبيد في الأموال. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3077) 3: 179 كتاب الخراج، باب في إحياء الموات. (¬2) معناه البئر الجديدة المبتدأة. (¬3) أخرجه أبو عبيد في الأموال (719) ص: 269 بلفظ: «حريم البئر البدئ خمس وعشرون ذراعاً من نواحيها كلها ... وحريم البئر العادية لخمسون ذراعاً من نواحيها كلها» كتاب أحكام الأرضين في إقطاعها، باب إحياء الأرضين واحتجارها والدخول على من أحياها. وأخرجه أيضاً عن يحيى بن سعيد مثل لفظ المؤلف (722).

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه رواه الخلال والدارقطني (¬1). وأما كون حريم البئر قدر مد رشائها من كل جانب عند القاضي؛ فلأن ذلك ثبت لدفع الضرر. فَقُدِّر بمد الرِّشاء من كل جانب؛ لأن الحاجة تندفع به دون غيره. وأما كون إحياء الأرض ما عد إحياء على قولٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإحياء ولم يبين صفته. فوجب أن يحمل على العرف، كالحِرْز والقبض. وأما قول المصنف: وهو عمارتها بما تتهيأ به لما يراد منها من زرعٍ أو بناءٍ؛ فبيان لما يُعد إحياء في العرف. فعلى هذا إذا أرادها للزرع كفاه تحويطُها بترابٍ أو غيره مما تتميز به عن غيرها، وبسوق الماء إليها من نهرٍ أو بئر. وإن أرادها لحظيرةٍ كفاه تحويطها بحائط جرت به عادة مثلها. وإن أرادها داراً كفاه التحويط مع التسقيف بما جرت به العادة. وأما كون ما يتكرر كل عام كالسقي والحرث ليس بإحياء، وكون ما لا يتكرر إحياءً على قولٍ؛ فلأن ما يتكرر لا إشعار فيه بالإحياء. بخلاف ما لا يتكرر. قال: (ومن تحجّر مَوَاتاً لم يملكه. وهو أحق به ووارثه بعده ومن ينقله إليه. وليس له بيعه. وقيل: له ذلك. فإن لم يُتم إحياءه قيل له: إما أن تحييه أو تتركه. فإن طلب الإمهال أُمْهِل الشهرين والثلاثة. فإن أحياه غيره فهل يملكه؟ على وجهين). أما كون من تحجر مَوَاتاً لا يملكه؛ فلأن سبب الملك الإحياء، ولم يوجد. وأما كونه أحق به؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سبقَ إلى ما لا يَسْبقْ إليه مسلمٌ فهوَ له» (¬2) رواه أبو داود. وفي لفظ: «فهوَ أحقُّ به» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (63) 4: 220 كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك، في المرأة تقتل إذا ارتدت، من حديث أبي هريرة. قال الدارقطني: الصحيح من الحديث أنه مرسل عن ابن المسيب، ومن أسنده فقد وهم. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون وارثه أحق به بعده؛ فلقوله عليه السلام: «منْ تَرَكَ حقاً فلِوَرثتِه» (¬1). وأما كون من ينقله إليه أحق به؛ فلأنه بمنزلته. وأما كونه ليس له بيعه على المذهب؛ فلأنه لم يملكه. فلم يكن له بيعه، كحق الشفعة. وأما كونه له ذلك على قولٍ؛ فلأنه صار أحق به. وأما كونه يقال لمن لم يُتم الإحياء: إما أن تحييه أو تتركه؛ فلأن في تركه على حاله تضييقاً على المسلمين في حقٍّ مشترك، . فلم يمكن (¬2) منه، كالوقوف في طريق ضيق. وأما كون طالب الإمهال يمهل الشهرين والثلاثة؛ فلأنه ربما أخّره لعذرٍ والظاهر زواله في مثل تلك المدة. وأما كون غيره يملكه إذا أحياه على وجهٍ؛ فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتةً ملكَها» (¬3). ولأن الإحياء يُملك به وفاقاً. فقدم على التحجر المختلف في ثبوت الملك به. وأما كونه لا يملكه على وجهٍ؛ فلأن مفهوم قوله عليه السلام: «منْ سبقَ إلى ما لم يَسبقْ إليه مسلم» (¬4) يدل عليه. ولأن المتحجر أسبق. فكان أولى، كحق الشفيع مع المشتري. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2268) 2: 845 كتاب الاستقراض، باب الصلاة على من ترك دَيناً. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك مالاً فلورثته». وأخرجه مسلم في صحيحه (1619) 3: 1237 كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته. مثله. (¬2) في أوهـ: يكن. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وقد سبق تخريج حديث بنحوٍ منه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في الإقطاع] قال المصنف رحمه الله: (وللإمام إقطاع مَوَات لمن يحييه. ولا يملكه بالإقطاع بل يصير كالمتحجر الشارع في الإحياء). أما كون الإمام له إقطاع مَوَات لمن يحييه؛ فلما روى وائل بن حجر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً فأرسل إلى معاوية أن أعطه إياه أو أعلمها إياه» (¬1). حديث صحيح. و«أقطع بلالَ بن الحارث المزني» (¬2)، و «أبيضَ بنَ حمّال المازني» (¬3)، و «الزبيرَ حُضْرَ فَرَسِه» (¬4) رواه أبو داود. وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5). وأما كون من أقطع له ذلك لا يملكه بالإقطاع؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعَ بلال بن الحارثِ العقيق. فاسترجعَ منه عمرُ ما عجزَ عن إحيائِه» (¬6). ولو ملكه لم يجز استرجاعه. وأما كونه يصير كالمتحجّر الشارعِ في الإحياء؛ فلأنه ترجح بالإقطاع على غيره. فوجب أن يصير كمن ذكر؛ لاشتراكهما في الترجح على الغير. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3058) 3: 173 كتاب الخراج، باب في إقطاع الأرضين. وأخرجه الترمذي في جامعه (1381) 3: 665 كتاب الأحكام، باب ما جاء في القطائع. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3061) 3: 173 الموضع السابق. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3064) 3: 174 الموضع السابق. وأخرجه الترمذي في جامعه (1380) 3: 664 الموضع السابق. قال الترمذي: حديث غريب. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3072) 3: 177 الموضع السابق. حضر فرسه: أي قدر ما تعدو عدوة واحدة، ونصبه على تقدير المضاف، أي قدر حضر فرسه. (¬5) ر الأموال ص: 256 - 257. (¬6) أخرجه أبو عبيد في الأموال (713) ص: 267 كتاب أحكام الأرضين، باب إحياء الأرضين واحتجارها والدخول على من أحياها.

قال: (وله إقطاع الجلوس في الطرق الواسعة، ورحاب المساجد ما لم يضيّق على الناس. ولا يُملك ذلك بالإحياء. ويكون المُقْطَعٌ أحق بالجلوس فيها. فإن لم يقطعها فلمن سبق الجلوس فيها. ويكون أحق بها ما لم ينقل قُماشه (¬1) عنها. فإن أطال الجلوس فيها فهل يزال؟ على وجهين). أما كون الإمام له إقطاع ما ذُكر ما لم يضيّق على الناس؛ فلأن ذلك يباح الجلوس فيه، والانتفاع به. فجاز للإمام إقطاعه، كالأرض الميتة. وقول المصنف رحمه الله: ما لم يضيق على الناس؛ مشعرٌ بأنه ليس له ذلك إذا ضيّق على الناس. وهو صحيح؛ لأن فيه مضرةٌ على الناس. وليس للإمام أن يأذن فيما لا مصلحة فيه. فضلاً عمّا فيه مضرة. وأما كون المقطع لا يملك ذلك بالإحياء؛ فلما ذُكر في إقطاع الأرض. وأما كون من سبق له (¬2) الجلوس إذا لم يقطعها الإمام؛ فلاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار (¬3) على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار. ولأنه ارتفاق بمباحٍ من غير إضرارٍ فلم يمنع منه كالإحياء. وأما كونه أحق بها من غيره ما لم ينقل قُماشَه عنها؛ فلأنه سبق إلى شيء مباح. أشبه من سبق إلى ماءٍ أو كلأٍ. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مِنَى مُناخُ منْ سَبَق» (¬4). وقول المصنف رحمه الله: ما لم ينقل قُماشَه عنها؛ مشعرٌ بأنه إذا نقل قُماشه عنها كان للغير الجلوس فيها. وصرح به في المغني؛ لأن صاحب القُماش زالت يده برفع قُماشه. بخلاف ما لو أقام ولم يرفع قُماشه فإنه لا يكون للغير الجلوس فيها؛ لأن الأول لم تزل يده. وأما كون قُماشه يُزال إذا أطال الجلوس فيها على وجهٍ؛ فلأنه يصير كالمتملك، وتملكه لا يجوز. ¬

_ (¬1) قماش البيت: متاعُه. مختار الصحاح، مادة قمش. (¬2) في أ: إلى. (¬3) سقطت جملة: في جميع الأعصار من هـ. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 139 كتاب الحج، باب النزول بمنى.

وأما كونه لا يزال على وجهٍ؛ فلأنه قد سبقت يده. فلم يمنع من الاستدامة، كالابتداء. قال: (فإن سبق اثنان أُقرع بينهما. وقيل: يقدم الإمامُ من يرى منهما). أما كون من ذكر يقرع بينهما على الأول؛ فلأنهما استويا في السبق، والقرعة مميزة في كثيرٍ من المواضع. فليكن هاهنا كذلك. وأما كونه يقدم الإمام من يرى منهما على الثاني؛ فلأنه أعلم بالمصلحة في ذلك. قال: (ومن سبق إلى معدِنٍ فهو أحق بما ينال منه، وهل يمنع إذا طال (¬1) مقامه؟ على وجهين). أما كون من سبق إلى معدنٍ أحق بما ينال منه؛ فلقوله عليه السلام: «منْ سبقَ إلى ما لم يسبقْ إليه أحد فهو أحق به» (¬2). [وأما كونه يمنع إذا طال مقامه ففيه وجهان وجههما ما تقدم في الجلوس في الطريق. قال: (ومن سبق إلى مباح، كصيدٍ، وعنبرٍ، وحطبٍ، وثمرٍ، وما ينبذه الناس رغبة عنه: فهو أحق به. وإن سبق إليه اثنان قسم بينهما). أما كون من سبق إلى شيء مما ذكر أحق به من غيره؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «من سبقَ إلى ما لم يسبقْ إليه أحد فهو أحقُ به] (¬3») (¬4). وأما كون المسبوق إليه يقسم بين الاثنين إذا سبقا (¬5) إليه؛ فلأنهما استويا في السبب، والقسمة ممكنة. بخلاف ما إذا سبقا إلى مكان ضيّق يقصدان الجلوس فيه. ¬

_ (¬1) في هـ: أطال. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) في هـ: استبقا.

قال: (وإذا كان الماء في نهر غير مملوك، كمياه الأمطار: فلمن في أعلاه أن يسقي ويحبس الماء حتى يصل إلى كعبه. ثم يرسل إلى من يليه. فإن أراد إنسان إحياء أرض بسقيها منه جاز ما لم يضر بأهل الأرض الشاربة منه). أما كون الأعلى له السقي وحبس (¬1) الماء حتى يبلغ الكعب، فلما روى عبادة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى من شربَ من نهرٍ من مسيلٍ أن الأعلى يسقي قبل الأسفل» (¬2). رواه ابن ماجة بمعناه. وعن عبدالله بن بكر بن حزم أنه بلغه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مَهْزُورٍ ومُذَيْنِبٍ: يُمْسكُ حتى الكعبينِ ثم يُرسلُ الأعلى على الأسْفل» (¬3). رواه مالك في موطئه. قال ابن عبد البر: هذا حديث مدني مشهور عند أهل المدينة معمولٌ به عندهم. قال عبدالملك بن حبيب: مهزورٍ ومذينبٍ واديان من أودية المدينة يسيلان من المطر، ويتنافس أهل الحوائط في سيلهما. وأما كون من أراد إحياء أرض بسقيها من ذلك يجوز ما لم يضر بأهل الأرض الشاربة منه؛ فلأنه مباحٌ لا ضرر على غيره. فجاز له ذلك، كما لو سبق. وقول المصنف رحمه الله: ما لم يضر ... إلى آخره؛ مشعرٌ بأنه إذا كان ذلك يضر بأهل الأرض المذكورة لا يجوز وهو صحيح؛ لقوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار (¬4») (¬5). [رواه ابن ماجة والدارقطني] (¬6). ¬

_ (¬1) في هـ: ويحبس. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2483) 2: 830 كتاب الرهون، باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء. قال في الزوائد: في إسناده إسحاق بن يحيى، قال ابن عدي: يروي عن عبادة ولم يدركه. وكذا قال غيره. (¬3) أخرجه مالك في الموطأ (28) 2: 570 كتاب الأقضية، باب القضاء في المياه. (¬4) في هـ: إضرار. (¬5) أخرجه ابن ماجة في سننه (2341) 2: 784 كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره. وأخرجه مالك في الموطأ (31) 2: 571 كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق. وأخرجه الدارقطني في سننه (83) 4: 227 كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك، في المرأة تقتل إذا ارتدت. وفي (85) 4: 228 بلفظ: «لا ضرر ولا إضرار». (¬6) زيادة من ج.

قال: (وللإمام أن يحمي أرضاً من الموات ترعى فيها دواب المسلمين التي يقوم بحفظها ما لم يضيّق على الناس وليس ذلك لغيره). أما كون الإمام له أن يحمي ما ذكر؛ فلما روي أن عمر قال: «حمى النبي صلى الله عليه وسلم النقيع لخيل المسلمين» (¬1). رواه أبو عبيد. والإمام قائم مقامه. ولأن عمر وعثمان فعلا الحمى، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر فكان كالإجماع. ولأن في ذلك مصلحة فجاز للإمام فعلها كسائر المصالح، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أَطعمَ الله لنبي طُعمةً إلا جَعلهَا لمن بَعدَه» (¬2). وقول المصنف رحمه الله: ما لم يضيّق على الناس؛ مشعرٌ بأنه إذا كان يضيق على الناس ليس للإمام ذلك. وهو صحيح؛ لأن الجاهلية كانوا يحمون لأنفسهم، ويرعون مع العامة فيما سواه. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لما فيه من التضييق على الناس فقال: «لا حِمَى إلاّ للهِ ولِرَسُولِه» (¬3) رواه أبو داود. وأما كون غير الإمام ليس له ذلك؛ فلأن الإمام إنما جاز له ذلك لما تقدم ذكره وذلك مفقود في غيره. قال: (وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحدٍ نقضه. وما حماه غيره من الأئمةِ فهل يجوز نقضه؟ على وجهين). أما كون ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم ليس لأحدٍ نقضه؛ فلأن حماه حكمٌ منه، وحكمه نص. فلم يجز نقضه بالاجتهاد، كسائر أحكامه صلى الله عليه وسلم (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في الأموال (740) ص: 274 كتاب أحكام الأرضين، باب حمى الأرض ذات الكلأ. عن ابن عمر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2973) 3: 144 كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال. وأخرجه أحمد في مسنده (14) 1: 4 كلاهما بمعناه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2241) 2: 835 كتاب المساقاة، باب لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أبو داود في سننه (3083) 3: 180 كتاب الخراج، باب في الأرض يحميها الإمام أو الرجل. (¬4) زيادة من ج.

وأما كون ما حماه غير النبي صلى الله عليه وسلم من الأئمة هل يجوز نقضه؟ فيه وجهان؛ فلأن المعنى المذكور قبل يقتضي النقض، ولأن لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد يقتضي عدمه. قال المصنف في الكافي: والأول أولى، لأن الاجتهاد كان في تلك المدة دون غيرها، ولهذا ملك الحامي لها تغييرها.

باب الجعالة

باب الجُعالة والأصل فيها قوله تعالى: {ولِمَنْ جاء به حِمْلُ بعير وأنا به زَعِيم} [يوسف: 72]. وروى أبو سعيد الخدري «أنّ ناساً من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حَياًّ من أحياءِ العربِ فلم يَقرُوهم. فبينما هم كذلك إذْ لُدغَ سيدُ أولئك. فقال: هل فيكمْ من رَاقٍ؟ فقالوا: لم تَقرُونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جُعلاً. فجعلوا لهم قطيع شياهٍ. فجعل رجلٌ يقرأ بأمِ الكتابِ ويجمعُ بُزاقَهُ ويتفُل فبَرأَ الرجل فأتوا بالشاءِ، فقالوا: لا نأخذها حتى نسألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألوا عنها النبي (¬1) صلى الله عليه وسلم. فقال: وما أدراكَ أنها رقيةٌ. خذوها واضربوا لي معكمْ بِسهَم» (¬2) متفق عليه. ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك في رد الضالة ونحوها فجازت كالإجارة. قال المصنف رحمه الله: (وهي أن يقول: من ردّ عبدي (¬3) أو لقطتي، أو بنى لي هذا الحائط فله كذا: فمن فعله بعد أن بلغه الجعل استحقه. وإن فعله جماعة فهو بينهم. ومن فعله قبل ذلك لم يستحقه سواء ردّه قبل بلوغ الجعل أو بعده). أما قول المصنف رحمه الله: وهي أن يقول: من رد عبدي أو لقطتي أو بنى لي هذا الحائط فله كذا؛ فبيان لمعنى الجُعالة. وأما كون من فعل ذلك بعد بلوغه الجعل يستحقه؛ فلأن العقد استقر بتمام العمل. فاستحق الجعل، كالربح في المضاربة. وأما كون الجعل بين الجماعة الفاعلين لذلك؛ فلأن ذلك مستحق بالعمل، وهو مشترك بين الجماعة. فكذلك ما يستحق به. ¬

_ (¬1) في هـ: للنبي. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5404) 5: 2166 كتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب. وأخرجه مسلم في صحيحه (2201) 4: 1727 كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار. (¬3) في هـ: العبد.

وأما كون من فعل ذلك قبل بلوغه الجعل لا يستحقه؛ فلأن فعله وقع غير مأذون فيه. فلم يستحق الجعل، كما لو لم يبلغه. ولأن الجعل عوض عن مجموع فعله وردّه، وقد وجد الفعل قبل الجعل. ولأنه بذل منافعه بغير عوضٍ جُعِلَ له. فيكون عاملاً في مال غيره بغير إذنه. فلم يستحق شيئاً؛ لما يذكر في موضعه. وأما كونه لا يستحقه سواء رده قبل بلوغ الجعل أو بعده؛ فلما تقدم من أن الجعل بدل عن الفعل والرد، والفعل فائت في الرد قبل البلوغ كما هو فائت في الرد بعده. قال: (وتصح على مدةٍ مجهولةٍ وعملٍ مجهولٍ إذا كان العوضُ معلوماً). أما كون الجُعالة تصح على مدة مجهولة، وعملٍ مجهول إذا كان العوض معلوماً؛ فلأن الله تعالى قال: {ولِمَنْ جاء به حِمْلُ بعير} [يوسف: 72]، ولم يذكر المدة ولا العمل. ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك. فجاز مع الجهالة، كالمضاربة. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا كان العوض معلوماً؛ فمشعرٌ بأنه لا تصح الجُعالة إذا كان العوض مجهولاً وهو صحيح؛ لأنه يجب تسليم العوض، وذلك متعذرٌ في المجهول. قال: (وهي عقد جائز لكل واحدٍ منهما فسخها. فمتى فسخها العامل لم يستحق شيئاً. وإن فسخها الجاعل بعد الشروع فعليه للعامل أجرة عمله. وإن اختلفا في أصل الجعل أو قدره فالقول قول الجاعل). أما كون الجعالة عقداً جائزاً؛ فلأنها عقدٌ يجوز على مجهولٍ. فكانت جائزةً، كالمضاربة. وأما كون كل واحدٍ من الجاعل، والمجعول له: له فسخها؛ فلأن ذلك شأن كل عقدٍ جائز. وأما كون العامل لا يستحق شيئاً إذا فسخ الجعالة؛ فلأنه إنما يستحق الجعل بعد الفراغ من عمله، ولم يحصل.

وأما كون الجاعل عليه أجرة عمل العامل إذا فسخها بعد الشروع؛ فلأنه إنما عمل بعوضٍ، ولم يسلم له بسببٍ من جهة غيره. فوجب على الجاعل أجرة عمله، كما لو فسخ المضاربة بعد الشروع في العمل. وأما كون القول قول الجاعل إذا اختلفا في أصل الجعل أو قدره؛ فلأنه منكرٌ والأصل يعضده. قال: (ومن عمل لغيره عملاً بغير جُعْل فلا شيء له. إلا في ردّ الآبق فإن له في الشرع ديناراً أو اثني عشر درهماً. وعنه: إن ردّه من خارج المصرِ فله أربعون درهماً). أما كون من عمل لغيره عملاً بغير جُعْل في غير ردّ الآبق لا شيء له؛ فلأنه بذل نفعه من غير جُعل. أشبه ما لو نوى التبرع به. وأما كونه له في ردّ الآبق شيء بالشرع، فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الآبقِ إذا جاء به خارجاً من الحرم ديناراً» (¬1). ولأنه قول علي وعمر وابن عمر وابن مسعود، ولم يعرف لهم مخالفٌ. فكان إجماعاً. وعن أحمد: لا شيء لمن ردّه؛ لأنه عمل في ملك غيره عملاً بغير إذنه. فلم يستحق شيئاً، كما لو ردّ جمله. والأول أصح، لما تقدم ذكره. ولأن في استحقاق الجعل في ردّ الآبق من غير شرط حثاً على ردّه، وصيانة له عن الرجوع إلى دار الحرب، وارتداده عن دينه. فيجب أن يكون مشروعاً لهذه المصلحة. وبهذا فارق الجمل الشارد فإنه لا يفضي إلى ذلك. فعلى هذه إن ردّه من داخل المصرِ فله دينار أو اثني عشر درهماً: أما الأول؛ فلأنه يروى عن ابن مسعود. وأما الثاني؛ فلأن الدينار مقدر في الشرع بذلك في كثير من المواضع. فليكن كذلك هاهنا. وإن ردّه من خارج المصر ففيه روايتان: ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 200 كتاب اللقطة، باب الجعالة.

إحداهما: أنه له ديناراً أو اثني عشر درهماً: أما الأول، فلما تقدم من الحديث. وأما الثاني (¬1)؛ فلأنها بدل عنه لما تقدم. وثانيهما: أن له أربعين درهماً؛ لما روى أبو عمرو الشيباني قال: «قلت لعبدالله بن مسعود: إني أصبتُ عبيداً أباقاً فقال: لكَ أجرٌ وغنيمة. فقلتُ: هذا الأجر فما الغنيمة؟ فقال: من كل رأسٍ أربعينَ درهماً» (¬2). وقال أبو إسحاق: «أُعْطيتُ الجعل في زمن عمر أربعين درهماً». وهذا يدل على أنه مستفيض بين أهل العصر الأول. واختار هذه الرواية الخلال، وقال: حديث عبدالله بن مسعود أصح إسناداً. قال: (ويأخذ منه (¬3) ما أنفق عليه في قوته وإن هرب منه في طريقه، فإن مات السيد استحق ذلك في تركته). أما كون الرّاد يأخذ ما أنفقه على الآبق في قوته؛ فلأنه مأذون له في الإنفاق من جهة الشرع لحرمة النفس. وبهذا فارق من قضى دين غيره بغير إذنه حيث وقع فيه خلاف. بخلاف الآبق. وأما قول المصنف رحمه الله: وإن هرب منه (¬4) في طريقه؛ ففيه تنبيهٌ على أن الهرب لا يسقط النفقة؛ لأنها وقعت مأذوناً فيها شرعاً وقد وُجدت فاستحق الرجوع بها، كما لو أذن مالكه في الإنفاق عليه ثم هرب. وفيه إشعارٌ بأن الجعل لا يُستحق إلا (¬5) بالرد سواء كان ذلك متاعاً وجده ثم ضاع، أو عبداً وجده ثم هرب لكونه ذكر ذلك في النفقة دون الجعل. وصرح بذلك في المغني. وعلل عدم الاستحقاق في العبد: بأن الجعل مرتبٌ على الرد؛ لأن القائل يقول: من ردّ عبدي. ثم قال: فإن قيل: أليس الجعل في اللقطة معلقاً على مجرد الوجدان، كقوله: من وجد لقطتي فله دينار؟ ¬

_ (¬1) سقط لفظي: وأما الثاني من هـ. (¬2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (14911) 8: 208 كتاب البيوع، باب الجعل في الآبق. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 200 كتاب اللقطة، باب الجعالة. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) مثل السابق. (¬5) مثل السابق.

[قيل: قرينة الحال تدل على اشتراط الرّد، إذ المقصود الرّد لا نفس الوجدان] (¬1). وإنما اكتفى بذكر الوجدان؛ لأنه سبب الرّد. وأما كون الرّاد يستحق ما تقدم ذكره في تركة السيد إذا مات؛ فلأن ذلك وجب له. فكان له في تركة السيد، كسائر الحقوق الثابتة عليه. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

باب اللقطة

باب اللقطة قال الخليل: اللُّقطة بفتح القاف: اسم للملتقِط، كالضُّحَكةِ، والهُزَأَةِ، والهُمَزةِ، واللمزةِ، وبالسكون: اسم للمال الملقوط كالضُّحْكةِ الذي يُضحك منه، والهُزْأة الذي يُهزَأ به. وقال (¬1) الأصمعي وابن الأعرابي والفراء: هي بفتح القاف اسم للمال أيضاً. والأصل فيها ما روى زيد بن خالد الجهني قال: «سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق. فقال: اعرف وِكَاءَهَا وعِفَاصَهَا ثم عَرِّفْهَا سنة. فإن لم تعرف فاسْتَنْفِقْهَا. ولتكن وَدِيعةً عندك. فإذا جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه. وسُئل عن ضالة الإبل فقال: مالكَ ولها دعها فإن معها حِذاءَهَا وسِقَاءَهَا تَرِدُ الماءَ وتأكلُ الشجرَ حتى يجدها ربُّها. وسُئل عن الشاة فقال: خذها. فإنما هيَ لكَ أو لأخيكَ أو للذئب» (¬2). متفق عليه. الوكاء: الخيط الذي يشد به المال. والعفاص: الوعاء الذي فيه المال. قال المصنف رحمه الله: (وهي: المال الضائع من ربه. وتنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا تتبعه الهمّة، كالسَّوط، والشِّسْع، والرغيف: فيملك بأخذه بلا تعريف). أما قوله رحمه الله: وهي المال الضائع من ربه؛ فبيان لمعنى اللقطة شرعاً. وأما كونها تنقسم ثلاثة أقسام؛ فلأن منها: ما يملك بلا تعريف، ومنها: ما لا يملك البتة، ومنها: ما يملك بالتعريف. وسيأتي بيان ذلك مفصلاً في مواضعه (¬3). ¬

_ (¬1) في هـ: قال. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2296) 2: 856 كتاب في اللقطة، باب ضالة الغنم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1722) 3: 1349 كتاب اللقطة. (¬3) في هـ: مواضعها.

وأما كون ما لا تتبعه الهمة كالذي مثله المصنف رحمه الله يُملك بأخذه بلا تعريف، فلما روى جابر قال: «رخصَ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في العصا، والسوطِ، والحبلِ، وأشباههِ يلتقطُه الرجلَ ينتفعُ به» (¬1). رواه أبو داود. وروي عنه عليه السلام: «أنهُ أصابَ تمرةٍ. فقال: لولا أني أخشَى أن تكونَ صدقةً لأكلتُها» (¬2) متفق عليه (¬3). و«أصاب رجل تمرة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لو لمْ تأتِها لأتتْك». ولم ينكر عليه أكلها. وأما قوله رحمه الله: كالسَّوْط والشِّسْع والرغيف؛ فبيان لصور من صور ما لا تتبعه الهمّة، وتُملك بغير تعريف. قال: (الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع، كالإبل، والبقر، والخيل، والبغال، والظباء، والطير، والفهود، ونحوها: فلا يجوز التقاطها. ومن أخذها ضمنها. فإن دفعها إلى نائب الإمام زال عنه الضمان). أما كون الإبل لا يجوز التقاطها؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «دعها فإن معها حذاءها وسقاءها» (¬4). وعن عمر رضي الله عنه: «من أخذَ ضالةً فهوَ ضالّ» (¬5). وأما كون البقر لا يجوز التقاطها، فـ «لأن جرير بن عبدالله طردَ بقرةً لحقتْ بالبقرِ حتى توارتْ. وقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يُؤْوِي الضالّةَ إلا ضَالّ» (¬6). والحجة فيه: أنه فَهِم من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم شموله للبقر. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1717) 2: 138 كتاب اللقطة، باب في الشح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2299) 2: 857 كتاب في اللقطة، باب إذا وجد تمرة في الطريق. وأخرجه مسلم في صحيحه (1071) 2: 752 كتاب الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... (¬3) في هـ: رواه ابن ماجة. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) أخرجه مالك في الموطأ (50) 2: 581 كتاب الأقضية، باب القضاء في الضوال. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 191 كتاب اللقطة، باب ما يجوز له أخذه وما لا يجوز مما يجده. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (1720) 2: 139 كتاب اللقطة، باب في الشح. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2503) 2: 836 كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل والبقر والغنم. وأخرجه أحمد في مسنده (19169) 4: 362.

ولأن البقر لها قوة تمتنع بها عن صغار السباع. فهي كالإبل. وأما كون باقي الصور لا يجوز التقاطها؛ فلأن فيها قوة تمتنع بها عن صغار السباع. أشبهت الإبل. ولم يذكر المصنف رحمه الله الحمير وهي ملحقة بذلك عند الأصحاب؛ لأن لها قوة. أشبهت البقر. وصرح في المغني بأنها ملحقة عنده بالشاة. وعلل ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «معها حذاءها وسقاءها» (¬1). وعلل في الغنم بأنها معرضة لأخذ الذئب إياها، والحمير مساوية للغنم في علتها مفارقة للإبل في علتها؛ لأنها لا صبر لها عن الماء، وبِقِلَّةِ صبرها يضرب المثل فيقال: ما بقي من مدته إلا ظِمء حمار. وأما كون من أخذها يضمنها؛ فلأنه أخذ ملك غيره بغير إذنه، ولا إذن الشرع له. فضمنه، كالغاصب. وأما كونه يزول الضمان عنه إذا دفعها إلى نائب الإمام؛ فلأن للإمام نظراً في ضوال الناس. بدليل أن له أخذها. قال: (الثالث: سائر الأموال، كالأثمان، والمتاع، والغنم، والفصلان، والعجاجيل، والأفلاء: فمن لا يأمن نفسه عليها ليس له أخذها. فإن فعل ضمنها ولم يملكها وإن عرّفها. ومن أمن نفسه عليها وقوي على تعريفها فله أخذها. والأفضل تركها. وعند أبي الخطاب: إن وجدها بمَضْيَعَة فالأفضل أخذها). أما كون من لا يأمن نفسه على الأشياء المذكورة ليس له أخذها؛ فلأن في أخذه لها تضييعاً لمال الغير. فحرم، كإتلافه. وأما كونه يضمنها إذا فعل ذلك؛ فلأنه متعدٍّ بأخذها (¬2). فضمنها، كالغاصب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: متعذر يأخذها.

وأما كونه لا يملكها وإن عرّفها؛ فلأن السبب المحرم لا يفيد الملك. دليله: السرقة. والتقاط هذه محرم؛ لما تقدم. فلا يستفاد به الملك. وأما كون من يأمن نفسه عليها ويقوى على تعريفها له أخذها؛ فلأن الشرع أذن له في ذلك؛ لأنه قال عليه السلام مرة: «اعرف عفاصها ووكاءها» (¬1) وقال في الشاة: «خذها» (¬2). ولأن في ذلك حفظاً لمال غيره، فإن لم يكن واجباً فلا أقل من أن يكون جائزاً. وأما كون الأفضل ترك الالتقاط على المذهب؛ فلأن ذلك قول ابن عباس وابن عمر، ولم يعرف لهما مخالف. فكان إجماعاً. ولأنه يعرض نفسه لأكل الحرام، وتضييع الواجب من التعريف، وأداء الأمانة فيها. فكان تركه أولى، كولاية مال اليتيم. وأما كون الأفضل أخذها عند أبي الخطاب إذا وجدها بمَضْيَعَة؛ فلما فيه من الحفظ المطلوب شرعاً. قال: (ومتى أخذها. ثم ردّها إلى موضعها، أو فرّط فيها: ضمنها). أما كون الآخذ يضمن إذا ردّ بعد الأخذ؛ فلأنها أمانة حصلت في يده. فلزمه حفظها، كالوديعة، وإذا ردّها فقد ضيّعها. وأما كونه يضمن إذا فرّط فيها؛ فلأن كل أمانةٍ تُضمن بالتفريط. فكذلك هذه. قال: (وهي على ثلاثة أضرب: حيوان، فيتخيّر بين أكله وعليه قيمته، وبين بيعه وحفظ ثمنه، وبين حفظه والإنفاق عليه من ماله. وهل يرجع بذلك؟ على وجهين). أما قول المصنف رحمه الله: وهي على؛ فراجع إلى ما تقدم من قوله: الثالث سائر الأموال. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونها على ثلاثة أضرب؛ فلأن منها: حيواناً، كالشاة، ومنها: ما يخشى فساده، كالطبيخ، ومنها: ما سوى ذلك. وأما كون الملتقط يتخيّر في الحيوان بين أكله في الحال وعليه قيمته، وبين بيعه وحفظ ثمنه، وبين حفظه والإنفاق عليه من ماله: أما الأكل؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» (¬1). جعلها له في الحال ثم سوّى بينه وبين الذئب، والذئب يأكلها، فإذا أكله كان عليه قيمته؛ لأنه إذا كان عليه قيمة ما يضطر إليه إذا أكله. فلأن يكون عليه قيمة (¬2) ما ذُكر بطريق الأولى. فعلى هذا يحفظ صفته ويعرّفه عاماً فإذا جاء صاحبه غرمه له. وأما بيعه وحفظ ثمنه؛ فلأنه إذا كان له أكله فلأن يكون له بيعه بطريق الأولى. وأما حفظه والإنفاق عليه من ماله؛ فلأن في ذلك حفظه على صاحبه عيناً ومالاً. وأما كونه يرجع بما أنفقه على الحيوان ناوياً للرجوع بما أنفقه على وجهٍ؛ فلأنه أنفق على اللقطة لحفظها. فكان من مال صاحبها، كمؤونة تجفيف الرطب والعنب. وقد روي عن عمر بن عبدالعزيز «أنه قضى فيمن وجدَ ضالةً فأنفقَ عليها وجاءَ ربُها بأنه يغرمُ له ما أنفق» (¬3). وأما كونه لا يرجع على وجهٍ؛ فلأنه أنفق على مال غيره بغير إذنه فلم يرجع، كما لو بنى داره. وفارق ذلك التجفيف من حيث: إن ذلك أحفظ. بخلاف إبقاء الحيوان. ولأن نفقة التجفيف لا تتكرر، ونفقة الحيوان تتكرر حتى ربما استغرقت ثمنه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) أخرجه بن أبي شيبة في مصنفه (21136) 4: 374 كتاب البيوع، في الرجل يأخذ البعير الضال فينفق عليه.

قال: (الثاني: ما يُخشى فساده. فيتخيّر بين بيعه وأكله. إلا أن يمكن تجفيفه كالعنب فيفعل ما يرى الحظ فيه لمالكه، وغرامة التجفيف منه. وعنه: يبيع اليسير، ويرفع الكثير إلى الحاكم). أما كون الملتقط يتخير فيما يُخشى فساده، كالطبيخ والبطيخ (¬1) والتمر الرطب (¬2) إذا كان لا يمكن تجفيفه. بين بيعه وبين أكله على المذهب: أما البيع؛ فلأن فيه إبقاء لمالية ذلك. وأما الأكل؛ فلأنه إذا كان له أكل ما لا يتلف بتقدير البقاء فلأن يكون له أكل ما لا يبقى بطريق الأولى. فعلى هذا إن باعه حفظ ثمنه، وإن أكله غرم قيمته. ولم يصرح المصنف رحمه الله بذلك؛ اكتفاء بما تقدم. إذ هما سواء في المعنى. وأما كونه يبيع اليسير، ويرفع الكثير إلى الحاكم على رواية؛ فلأن اليسير يتسامح به. بخلاف الكثير. والأول أولى، لأنه مالٌ أبيحَ له التصرف فيه بالأكل والصدقة. فأبيح له أن يتولى بيع الكثير منه واليسير، كمال نفسه. أو مال أبيح له بيعه عند عدم الحاكم. فجاز عند وجوده، كمال مَوْلِيِّه. وأما كونه يفعل ما يرى فيه الحظ لمالكه فيما يُخشى فساده ويمكن تجفيفه كالعنب والرطب ونحوهما؛ فلأن ذلك أمانة في يده، وفعل الحظ في الأمانة مُتعين. فإن قيل: كيف جاز بيع الحيوان دون هذا؟ قيل: لأن في ترك الحيوان ضرراً وهو النفقة عليه، وخيفة موته. بخلاف هذا. وأما كون غرامة التجفيف منه؛ فلأنه من مصلحته. فكان منه، كما لو كان ذلك ليتيم. قال: (الثالث: سائر المال فيلزمه حفظه). أما قول المصنف رحمه الله: سائر المال؛ فيشمل ما عدا ما تقدم ذكره، كالأثمان، والمتاع، وغيرهما. ¬

_ (¬1) في أ: كالبطيخ والطبيخ. (¬2) في ج: والأثمار الرطبة.

وأما كون الملتقط يلزمه حفظ ذلك؛ فلأنه أمانةٌ في يده. فلزمه حفظه، كالوديعة. قال: (ويعرِّف الجميع بالنداء عليه في مجامع الناس، كالأسواق، وأبواب المساجد في أوقات الصلوات حولاً كاملاً: من ضاع منه شيء أو نفقة). أما كون الملتقِط يُعَرِّف جميع ما تقدم ذكره بالنداء عليه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به زيد بن خالد (¬1) وأبي بن كعب (¬2). ولأن إيصال اللقطة إلى صاحبها مع القدرة عليه واجبٌ، ولا يتم ذلك إلا بالتعريف، وما لا يتم الواجبُ إلا به واجب. وأما كون التعريف كما ذكره المصنف (¬3)؛ فلأنه طريقٌ إلى إيصال الحق إلى مستحقه. وفيه تنبيهٌ على أنه يشتمل على أربعة أضرب: مكانه، وزمانه، ومدته، وكيفيته: أما مكانه فكما ذكر المصنف من الأسواق وأبواب المساجد؛ لأن المقصود إشاعة ذكرها، وذلك طريق إليه. وقد روي عن عمر رضي الله عنه «أنهُ أمرَ واجدَ اللقطةِ بتعريفها على بابِ المسجد» (¬4). وفي قوله رحمه الله: وأبواب المساجد إشعارٌ بأن التعريف لا يفعل في المسجد، وإن كان مجمَع الناس؛ لأن المسجد لم يُبْن (¬5) لذلك. وقد روى أبو هريرة عن النبي ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: «أخذت صرة مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عرفها حولا. فعرفتها حولا. فلم أجد من يعرفها. ثم أتيته. فقال: عرفها حولا. فعرفتها فلم أجد. ثم أتيته ثلاثا. فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها. فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها. فاستمتعت». أخرجه البخاري في صحيحه (2294) 2: 855 كتاب في اللقطة، باب وإذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1723) 3: 1350 كتاب اللقطة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1374) 3: 658 كتاب الأحكام، باب ما جاء في اللقطة وضالة الإبل والغنم. وأخرجه أحمد في مسنده (20416) 5: 126. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (18620) 10: 136 كتاب اللقطة. (¬5) في هـ: يكن.

صلى الله عليه وسلم: «من سمعَ رجلاً ينشدُ ضالةً في المسجد فليقل: لا أدّاها الله إليكَ. فإن المساجدَ لم تُبْنَ لهذا» (¬1) [رواه مسلم] (¬2). وأما زمانه فكما ذكره المصنف رحمه الله من أوقات الصلوات. والمعتبر فيه النهار دون الليل؛ لأن النهار مَجْمع الناس وتيقظهم فيه. دون الليل. وأما مدته فحول كامل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن خالد الجهني: «عرفها سنة» (¬3). ولأن السَّنَة لا تتأخر عنها القوافل غالباً، وتمضي فيها الأوقات المشتملة على الحر والبرد والاعتدال. فصلحت مدةً، كمدة أجل العنِّين. وأما كيفيته، فكما ذكره المصنف قبلُ. وقال في المغني: يَذكر جنسها. فيقول: من ضاع منه ذهب أو فضة أو دراهم أو دنانير. ولا يذكر الوصف، فإنه لا يؤمن أن يسمعه أحد فيعرف. ثم يذكره. فيأخذها. قال: (وأجرة المنادي عليه. وقال أبو الخطاب: ما لا يُملك بالتعريف، وما يُقصد حفظه لمالكه: يرجع بالأجرة عليه). أما كون أجرة المنادي على المعرّف على المذهب؛ فلأنه سببٌ لتملكها. فكانت الأجرة عليه، كما لو اكترى شخصاً يقطع له مباحاً. وأما كون أجرة ما لا يملك بالتعريف، وما يُقصد حفظه لمالكه يرجع بها على المالك على قول أبي الخطاب؛ فلأنه من مؤونة إيصالها إليه. فكان على مالكها، كأجرة مخزنها ورعيها (¬4) وتجفيفها. ونسب المصنف رحمه الله في المغني ما لا يُملك بالتعريف إلى ابن عقيل، وما يُقصد تعريفه إلى أبي الخطاب. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (568) 1: 397 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد. وأخرجه أبو داود في سننه (473) 1: 128 كتاب الصلاة، باب في كراهية إنشاد الضالة في المسجد. (¬2) زيادة من ج. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) في هـ: وراعيها.

قال: (فإن لم يُعرف دخل في ملكه بعد الحول حكماً، كالميراث. وعند أبي الخطاب: لا يملكه حتى يختار ذلك. وعن أحمد: لا يَملك إلا (¬1) الأثمان. وهي ظاهر المذهب. وهل له الصدقة بغيرها؟ على روايتين. وعنه: لا تملك لقطة الحرم بحال). أما كون ما لم يُعرف يدخل في ملك الملتقط بعد الحول حكماً، كالميراث على الأول؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بكونها له فقال في حديث زيد بن خالد: «فإن لم تعرفْ فاستنفقْها» (¬2). وفي لفظ: «فهي كسبيلِ مالِك» (¬3). وفي لفظ: «فانتفِعْ بها». وفي لفظ: «فشأنكَ بها» (¬4). وأما كونه لا يملك ذلك عند أبي الخطاب حتى يختار ذلك (¬5)؛ فلأنه يملك بعوض. فلم يحصل إلا باختيار المتملك، كالبيع. وأما كونه لا يَملك إلا الأثمان في ظاهر المذهب؛ فلأنه يروى عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود. ولأنها لقطة لا تُملك في الحرم. فلا تملك في غيره، كالإبل. ولأن الخبر ورد في الأثمان، وغيرها لا يساويها، لعدم الغرض المتعلق بعينها. فمثلها يقوم مقامها من كل وجهٍ. بخلاف غيرها. وظاهر كلام المصنف رحمه الله في قوله: فإن لم يعرف دخل في ملكه أن العروض تُملك كالأثمان؛ لأنه عمّم. ثم ذكر عن أحمد رواية: أنها لا تملك. وقد رجح الأول في المغني؛ لأنه ذكر نحواً مما تقدم. ثم قال: ولنا عموم الأحاديث في ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2506) 2: 837 كتاب اللقطة، باب اللقطة. (¬4) سيأتي ذكره قريباً. (¬5) في هـ: يختاره.

اللقطة جميعها «فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: عرِّفهَا سنةً -ثم قال في آخره: - فانتفعْ بها أو فشأنكَ بها» (¬1). وفي حديث عياض: «منْ وَجَدَ لُقطَةً» (¬2). وهو عام (¬3). وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! كيف ترى في متاعٍ يوجد في الطريق الميتاء، أو قرية مسكونة؟ فقال: عرّفه سنةً. فإن جاء صاحبه، وإلا فشأنكَ به» (¬4) رواه الأثرم والجوزجاني. ورويا «أن سفيانَ بن عبدالله وجد عَيْبَةً فأتى بها عمر بن الخطاب. فقال: عرِّفهَا سنة. فإن عُرِفَتْ وإلا فهيَ لك. زاد الجوزجاني: فلم تُعرفْ. فلقيَهُ بها في العام (¬5) المقبل فذكرها له. فقال عمر: هيَ لكَ. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَنا بذلك» (¬6). ولأن ما جاز التقاطه يمُلك (¬7) بالتعريف، كالأثمان. وأما كون الملتقِط له الصدقة بالملتقَط الذي لا يُملك على روايةٍ؛ فلما روي عن ابن مسعود «أنه اشترى جاريةً. فذهبَ صاحبها. فجعلَ يتصدقُ بالثمنِ ويقولُ: لصاحبها. فإن أبى قبلنَا، وعلينا الثمن. ثم قال: هكذَا يُصنعُ باللقطة» (¬8). ولأن الإنسان ينتفع بماله تارة لمعاشه، وتارة لمعاده. فإذا تعذّر المعاشُ انصرف إلى المعاد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2243) 2: 836 كتاب المساقاة، باب شرب الناس والدواب من الأنهار. وأخرجه مسلم في صحيحه (1722) 3: 1347 كتاب اللقطة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1709) 2: 136 كتاب اللقطة، باب في الشح. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2505) 2: 837 كتاب اللقطة، باب اللقطة. (¬3) في ج: وهو لفظ عام. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1710) 2: 136 كتاب اللقطة، باب في الشح. وأخرجه النسائي في سننه (2494) 5: 44 كتاب الزكاة، باب المعدن. (¬5) في هـ: بها العامل. (¬6) أخرجه الدارمي في سننه (2595) 2: 182 كتاب البيوع، باب في اللقطة. (¬7) في هـ: ملك. (¬8) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (18631) 10: 139 كتاب اللقطة.

ولا بد أن يُلحظ في هذه: الضمان إذا جاء طالبها، كالأموال التي في يده لا يعلم مالكها، وحديث ابن مسعود يدل عليه. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأنه تصرّف في مال الغير بغير إذنه. قال المصنف في المغني: هذا قولٌ قديمٌ رَجع عنه. وأما كون لقطة الحرم لا تملك على روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مكة: لا تَحِلُ ساقطتُها إلا لمُنشد» (¬1) متفق عليه. قال أبو عبيدة: المُنشِد: المعرّف، والناشد: الطالبُ. فيكون معناه: لا تحل لقطة مكة إلا لمن يعرّفها؛ لأنها خُصّت بهذا من بين سائر البلدان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهَى عن لُقطةِ الحاجّ» (¬2) رواه مسلم. قال ابن وهب: يعني يتركها حتى يجدها صاحبها. والأول أصح، لما تقدم من عموم الأحاديث. ولأنه أحد الحرمين. أشبه حرم المدينة. ولأنها أمانة. فلا يختلف حكمها بالحل والحرم، كالوديعة. وقوله عليه السلام: «إلا لمنشد» (¬3) يحتمل أنه يريد إلا لمن عرّفها عاماً. وتخصيصها بذلك لتأكيدها لا لتخصيصها، كقوله عليه السلام: «ضالةُ المسلمِ حَرقُ النَارِ» (¬4)، وضالة الذمي تُقاس عليها. ولأن في ذكر ذلك فائدة هي مفقودة في غير مكة وذلك أنه ربما تُوُهّم أنه لا فائدة في تعريف لقطةِ مكة من حيث إن الناس يتفرّقون شرقاً وغرباً. فنص على التعريف قطعاً لذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2302) 2: 857 كتاب في اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1355) 2: 988 كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها ... (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1724) 3: 1351 كتاب اللقطة، باب في لقطة الحاج. وأخرجه أبو داود في سننه (1719) 2: 139 كتاب اللقطة، باب في الشح. وأخرجه أحمد في مسنده (16100) 3: 499. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (2502) 2: 836 كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل والبقر والغنم.

والقول بأن التعريف مطلقاً مرجوحٌ بالنسبة إلى تعريف السنة، لأن اللفظ وإن كان مطلقاً هنا فهو مقيدٌ في بقية الأحاديث. والقول بأن المنشد: الطالب إن (¬1) لم يُمنع فهو مرجوحٌ بالنسبة إلى استعماله بمعنى المعرف (¬2). ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في ج: استعمالها بمعنى العرف.

فصل [في التصرف باللقطة] قال المصنف رحمه الله: (ولا يجوز له التصرّف في اللقطة حتى يَعْرف وِعاءها، ووكاءها، وقَدْرها، وجنسها، وصفتها). أما كون الملتقط لا يجوز له التصرف في اللقطة حتى يعرف وعاءها، ووكاءها، وقدرها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك كله فقال لزيد بن خالد: «اعرف وكاءَهَا وعِفَاصَهَا» (¬1)، وفي حديث أبي بن كعب: «اعرف وعاءَهَا ووكاءَهَا وعدَدَهَا» (¬2). وأما كونه لا يجوز له التصرف حتى يعرف جنسها وصفتها؛ فلأنه إذا تصرّف فيها انعدمت عينها. فإذا لم يعرف جنسها وصفتها لم يبق سبيلٌ إلى معرفتها. قال: (ويستحب ذلك عند وجدانها، والإشهاد عليها). أما كونه يستحب معرفة ذلك عند وجدان اللقطة؛ فلأن فيه تحصيلاً للعلم بذلك. فإذا جاء صاحبها فوصفها غلب على ظنه صدقه. فيجوز دفعها إليه. وأما كونه يستحب الإشهاد عليها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ وجدَ لقطةً فليشهدْ ذَوَيْ عَدل» (¬3) رواه أبو داود [والنسائي وابن ماجة] (¬4). فإن قيل: هذا أمرٌ، وظاهر الأمرِ الوجوب. قيل: مُسَلَّم. إلا أنه يُحمل على الاستحباب إذا دلّ عليه الدليل، وقد وُجد ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1709) 2: 136 كتاب اللقطة، باب في الشح. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2505) 2: 837 كتاب اللقطة، باب اللقطة. ولم أره في النسائي. (¬4) زيادة من ج.

هنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن خالد (¬1) وأبي بن كعب (¬2) بالتعريف دون الإشهاد. فلو وجب الإشهاد لذكره (¬3). لا سيما وقد سُئل عن حكم اللقطة. ولأنه أخذ على وجهِ الأمانة. فلا يفتقرُ إلى الإشهاد، كالوديعة. قال: (فمتى جاء طالبها. فوصفها: لزمه دفعها إليه بنمائها المتصل. وزيادتها المنفصلة لمالكها قبل الحول، ولواجدها بعده في أصح الوجهين). أما كون الملتقط يلزمه دفع اللقطة إلى صاحبها الواصف لها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن جاءكَ أحد يخبرك بعددها ووعاءها ووكاءها فادفعها إليه» (¬4). قال ابن المنذر: هذا الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث زيد: «اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه» (¬5) يعني إذا ذكر صفاتها؛ لأن ذلك هو المذكور في صدر الحديث. وأما كونه يلزمه دفع نمائها المتصل؛ فلأنه نماء ملكه. ولأنه لا يمكن انفصاله. ولأن ذلك يتبع في الفسوخ والعقود. وأما كون زيادتها المنفصلة لمالكها قبل الحول؛ فلأنها نماء ملكه. وأما كونها لواجدها بعد الحول في وجهٍ، فلأنه ملكها بانقضاء الحول. فيكون النماء المنفصل نماء ملكه. وأما كونها لصاحب اللُّقطة في وجهٍ؛ فبالقياس على المفلس إذا استُرجعت منه العين بعد أن زادت زيادة متميزة، وعلى الابن إذا استرجَع أبوه ما وهبه له بعد زيادته. ¬

_ (¬1) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في هـ: لذكر. (¬4) وذلك في حديث أبي، وقد سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) سبق ذكر حديث زيد وتخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وصحح المصنف رحمه الله الأول. ثم قال: وكذا نقول: الصحيح في الموضعين المذكورين: أن الزيادة المذكورة لا تتبع الأصل. ثم الفرق بينهما وبين اللقطة أن الملتقط يضمن النقص. فتكون الزيادة له ثم ليس على من ذُكر ضمان النقص. فأمكن أن لا تضمن (¬1) الزيادة. قال: (وإن تلفت، أو نقصت قبل الحول: لم يضمنها. وإن كان بعده ضمنها). أما كون الملتقط لا يضمن اللقطة إذا تلفت أو نقصت قبل الحول؛ فلأنها أمانة في يده. فلم يضمن إذا لم يفرط (¬2) فيها، كالوديعة. وأما كونه يضمن ذلك بعده؛ فلأنها دخلت في ملكه بانفصاله وتلفت من ماله، ولا فرق حينئذٍ بين التفريط وعدم التفريط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فاستنفقها فإذا طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه» (¬3)، وليس المراد العين؛ لأنه أمره بإنفاقها فعلم أن المراد الضمان، وقد أوجبه (¬4) عليه من غير تفصيل. قال: (وإن وصفها اثنان قسمت بينهما في أحد الوجهين، وفي الآخر: يقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها. وإن أقام آخر بينة أنها له أخذها من الواصف. فإن تلفت ضمنها من شاء من الواصف والدافع إليه. إلا أن يدفعها بحكم حاكم فلا ضمان عليه. ومتى ضمن الدافع رجع على الواصف). أما كون اللقطة تقسم (¬5) بين الواصفين في وجهٍ، فلأنهما استويا في السبب الموجب للدفع. أشبه ما لو استويا في السبب (¬6) الموجب للنَّقل. وأما كونه يقرع بينهما في وجهٍ، فلأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. قال المصنف في المغني: والذي قلناه أصح -يعني القرعة-؛ لأنها أشبه بالأصول. فيما إذا تداعيا شيئاً في يد غيرهما. ¬

_ (¬1) في هـ: تملك. (¬2) في هـ: يفطر. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) في ج: أوجبها. (¬5) في هـ: تنقسم. (¬6) سقط لفظي: في السبب من أ.

فعلى هذا (¬1) من قرع صاحبه أخذها؛ لأن ذلك فائدة القرعة، ويحلف لاحتمال أنها ليست له. وأما كون من أقام بينة أنها له يأخذها من الواصف؛ فلأن البينة أقوى من الوصف. وأما كونه يُضَمِّنها من شاء من الواصف والدافع إليه إذا تلفت وكان الدفع بغير حكم حاكم: أما تضمين الواصف؛ فلأنه أخذ مال غيره بغير إذنه. فتلف عنده. وأما تضمين الدافع؛ فلأنه دفع المال إلى غير صاحبه. أشبه ما لو دفع الوديعة إلى غير مُودعها إذا غلب على ظنه أنه مالكها. وأما كونه لا يضمن الدافع إذا كان بحكم الحاكم؛ فلأنها أُخذت منه كرهاً. فلا ينسب إلى تفريط. وأما كون الدافع إذا ضَمن يرجع على الواصف؛ فلأن التلف حصل في يده. واشترط المصنف في المغني في الرجوع على الواصف: أن لا يكون الدافع أقر له (¬2) بالملك بلفظه؛ لأنه إذا اعترف بذلك فقد اعترف أن الواصف هو المحق وأن صاحب البينة ظلمه. وفي كلام المصنف هنا إشعارٌ بأن صاحب البينة إذا ضَمَّن الواصف لا يرجع الواصف على الدافع. وصرح به في المغني؛ لأن التلف حصل في يده. ولأن الدافع لو ضَمِن لرجع على الواصف. فكيف يرجع الواصف عليه؟ . ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) ساقط من هـ.

فصل [في الملتقط] قال المصنف رحمه الله: (ولا فرق بين كون الملتقط غنياً أو فقيراً، مسلماً أو كافراً، عدلاً أو فاسقاً يأمن نفسه عليها. وقيل: يُضم إلى الفاسق أمينٌ في تعريفها وحفظها). أما كونه لا فرق بين كون الملتقط غنياً أو فقيراً، مسلماً أو كافراً؛ فلعموم ما تقدم من الأدلة. وأما كونه لا فرق بين كونه عدلاً أو فاسقاً يأمن نفسه عليها على المذهب؛ فلما ذكر. وأما كونه يُضم إلى الفاسق أمينٌ فيما ذُكر على قولٍ؛ فلأن الفاسق لا يؤمن على مال غيره، ولا يمكن انتزاعها من يده؛ لأن له فيها حق التملك (¬1). ونصّ المصنف رحمه الله على التعريف؛ لأن الفاسق قد ينقص شيئاً من صفاتها أو يغيّره. فافتقر ذلك إلى مشاركة الأمين، كالحفظ. قال: (وإن وجدها صبي أو سفيه قام وليه بتعريفها. فإذا عرّفها فهي لواجدها). أما كون ولي الصبي والسفيه يقوم بتعريف اللقطة؛ فلأن واجدها ليس من أهل التعريف، وهو يقوم في ماله. فكذلك يقوم في لقطته. وأما كونها لواجدها إذا عرّفها وليه؛ فلأن سبب الملك الوجدان. فاختص بمن وجد منه. وفي قيام الولي (¬2) بما ذكر إشعارٌ بأنه (¬3) يصح التقاط الصبي والسفيه، وهو صحيح؛ لدخولهما في عموم الأخبار. ولأن ذلك نوع كسب. فصح منهما، كالاصطياد. ¬

_ (¬1) في ج: الملك. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) في هـ: بأن.

قال: (وإن وجدها عبد فلسيده أخذها منه وتركها معه يتولى تعريفها إذا كان عدلاً. وإن لم يأمن العبد سيده عليها لزمه سترها عنه. فإن أتلفها قبل الحول فهي في رقبته. وإن أتلفها بعده فهي في ذمته). أما كون السيد له أخذ اللقطة من عبده؛ فلأنها من كسب العبد، وأكسابُه لسيده، وللسيد انتزاع كسبه من يده. وأما كونه له تركها في يده مع عدالته؛ فلأنها من كسبه، وله ترك كسبه في يده. وفي كلام المصنف رحمه الله ما يُشعر بصحة التقاط العبد بغير إذن سيده. وقد صرح به في المغني، لعموم الأخبار. ولأن الالتقاط سببٌ يَملك به الصبي، ويصح منه. فصح من العبد، كالاحتطاب. ولأن من جاز له قبول الوديعة بغير إذن سيده جاز له أن يأخذ اللقطة، كالحر. فإن قيل: اللقطة قبل الحول أمانة وولاية (¬1)، وبعده تملكٌ، والعبد ليس من (¬2) أهل ذلك. قيل: أما كونها ولاية؛ فباطل بالصبي والمجنون. وأما كونها تملكاً؛ فصحيح. والعبد أهلٌ له. بدليل أنه يصح منه الاصطياد والاحتشاش وغير ذلك. وأما كون العبد يلزمه سترها عن سيده إذا لم يأمنه عليها؛ فلأنه يلزمه حفظها، وذلك وسيلةٌ إليه. وأما كونها في رقبته إذا أتلفها قبل الحول؛ فلأن ذلك من جنايته. فتعلق برقبته، كسائر جناياته. وفي كلامه إشعارٌ بأنها إذا تلفت بغير تفريطٍ لا ضمان عليه. وصرح به في المغني؛ لأنه يصح التقاطه. فلم يضمن إذا لم يفرّط، كالحر. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) مثل السابق.

وأما كونها في ذمته إذا أتلفها بعده؛ فلأنه غير متعدٍ في إتلافها بعد الحول بالنسبة إلى صاحبها. فوجب تعلقها بذمته لا برقبته. بخلاف إتلافها قبل الحول فإنه متعدٍّ (¬1). قال: (والمكاتب كالحر. ومن بعضه حرٌّ فهي بينه وبين سيده. إلا أن يكون بينهما مهايأة فهل تدخل في المهايأة؟ على وجهين). أما كون المكاتب هنا كالحر؛ فلأن حكمه كالحر في سائر أكسابه. فكذلك في هذا (¬2). وأما كون اللقطة بين من بعضه حر وبين سيده إذا لم يكن بينهما مهايأة؛ فلأنها من كسبه، وكسبه بينهما فكذا هذا. وأما كونها تدخل في المهايأة إذا كانت بينهما مهايأة. وهي: أن يتفق السيد ومن بعضه حر على أن تكون المنافع يوماً لهذا ويوماً لهذا، أو يومين ويومين، أو يوماً ويومين (¬3) على الاتفاق في الملك والاختلاف على وجهٍ؛ فلأنها من كسبه. دخلت، كسائر الأكساب. وأما كونها لا تدخل على وجهٍ؛ فلأنها من الأكساب النادرة. والنادر لا يُعلم وجوده. فلا يدخل في المهايأة. قال المصنف في المغني: وحكم سائر الأكساب النادرة من الوصية والركاز (¬4) والهدية ونحو ذلك حكم اللقطة. والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) في هـ: متعذر. (¬2) في هـ: فكذلك هنا. (¬3) سقط جملة: أو يوماً ويومين من هـ. (¬4) في هـ: والزكاة.

باب اللقيط

باب اللقيط اللَّقيط: فعيل بمعنى مفعول، كقولهم: قتيل وجريح بمعنى مقتول ومجروح. والالتقاط واجب، لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2]. ولأن فيه إحياءَ النفس. فكان واجباً، كما لو اضطر إلى طعامه. وهذا الوجوب على الكفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن الباقين؛ لأن الغرض يحصل بذلك. قال المصنف رحمه الله: (وهو الطفل المنبوذ. وهو حرٌ يُنفق عليه من بيت المال إن لم يكن معه ما يُنفق عليه). أما قول المصنف رحمه الله: وهو الطفل المنبوذ؛ فبيان لمعنى اللقيط. والمنبوذ: الذي نُبذ. أي: طُرح. وأما كون اللقيط حراً. فقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن اللقيط حرٌّ. ولأن الأصل في الآدمي الحرية؛ لأن الله خلق آدم وبنيه أحراراً. وإنما يحصل الرق بعارضٍ. فإذا لم يُعلم ذلك العارض بقي على حكم الأصل. وأما كونه يُنفق عليه من بيت المال إن لم يكن معه ما يُنفق عليه؛ فلأن ميراثه مصروف إليه. فكانت نفقته فيه، كالوارث. وروي عن عمر رضي الله عنه: «أنه قال في اللقيط: علينا نفقته» (¬1) وفي رواية: «من بيت المال» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 202 كتاب اللقطة، باب التقاط المنبوذ وأن لا يجوز تركه ضائعاً. (¬2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (13838) 7: 449 كتاب الطلاق، باب اللقيط.

قال: (ويُحكم بإسلامه. إلا أن يوجد في بلد الكفار ولا مسلم فيه فيكون كافراً. فإن كان فيه مسلم فعلى وجهين). أما كون اللقيط يحكم بإسلامه إذا وجد في بلاد الإسلام، كالبصرة، والكوفة، ودمشق، ومصر، وما أشبه ذلك. وإن كان فيها أهل الذمة؛ فلظاهر الدار. ولأن الإسلام يَعلو ولا يُعلى. وأما كونه كافراً إذا وجد في بلاد الكفار، كبلاد الهند، والروم، وما أشبهها إذا لم يكن فيها مسلم كتاجرٍ ونحوه؛ فلأنه لم يوجد فيها مسلمٌ يمكن إلصاق اللقيط إليه. ولأن الحكم للدار وهي دار كُفر. وأما كونه يحكم بإسلامه إذا كان فيها مسلم على وجهٍ؛ فتغليب للإسلام. وأما كونه يحكم بكفره على وجهٍ؛ فتغليب للدار. وكل موضع حكم بإسلام اللقيط فهو بطريق الظهور لا بطريق اليقين. بدليل أنه لو أقام كافرٌ بينة أنه ابنه وُلد على فراشه حُكم له به. قال: (وما وجد معه من فراش تحته، أو ثياب، أو مال في جيبه، أو تحت فراشه، أو حيوان مشدود بثيابه: فهو له. وإن كان مدفوناً تحته، أو مطروحاً قريباً منه: فعلى وجهين). أما كون ما وجد مع اللقيط من فراش تحته، أو ثياب عليه، أو مال في جيبه، أو تحت فراشه، أو حيوان مشدود بثيابه: له؛ فلأن الطفل يملك، وله يد صحيحة. بدليل أنه يرث، ويصح أن يشتري له وليه ويبيع له. ومن له ملك صحيح فله يدٌ صحيحة، كالبالغ. وأما كون المدفون تحته، والمطروح قريباً منه: له على وجهٍ؛ فبالقياس على المتصل به. ولأن ذلك يُحكم به للبائع. فكذلك الطفل. ألا! ترى أن الرجل يقعد في السوق ومتاعه حوله، ويحكم له باليد، وكذلك الجمّال يَترك جمله قريباً منه.

وأما كونه لا يكون له على وجهٍ؛ فلأنه منفصلٌ عنه. فلا يكون له، كما لو كان بعيداً. وقال المصنف في المغني: قال ابن عقيل يعني في المدفون: إن كان الحفر (¬1) طرياً فهو له، وإلا فليس له. وهو صحيح؛ لأنه إذا كان طرياً غلب على الظن أن الذي ألقاه دفنه لكونه ملك المنبوذ. بخلاف العكس. قال: (وأولى الناس بحضانته واجده إن كان أميناً. وله الإنفاق عليه مما وجد معه بغير إذن حاكم. وعنه: ما يدل على أنه لا ينفق عليه إلا بإذنه). أما كون أولى الناس بحضانة اللقيط واجده إن كان أميناً؛ فلأن عمر رضي الله عنه أقرّ اللقيط في يد واجده (¬2). ولأنه سبق إليه فكان أولى به؛ لقوله عليه السلام: «من سبق إلى ما لم يسبقْ إليه أحدٌ فهو أحق به» (¬3). واشترط المصنف الأمانة في الواجد؛ لأن عمر أقرّ اللقيط في يد واجده بعد أن علم أنه رجلٌ صالح. ولأن ذلك ولاية. فلا يجوز أن يليها غير عدلٍ، كسائر الولايات. وأما كونه له الإنفاق عليه مما وجد معه بغير إذن حاكمٍ على المذهب؛ فلأنه جُعل أميناً على اللقيط. فكان له الإنفاق عليه من ماله بغير إذن الحاكم، كالوصي (¬4). وأما كونه لا يُنفق عليه إلا بإذنه على روايةٍ؛ فلأنه إنفاقٌ على صبي. فلم يجز بغير إذن الحاكم، كما لو أنفق على صغيرٍ مودَعٍ (¬5) عندَه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 202 كتاب اللقطة، باب التقاط المنبوذ وأن لا يجوز تركه ضائعاً. ولفظه ما روي عن سنين أبي جميلة قال: «وجدت ملقوطاً فأتيت به عمر رضي الله تعالى عنه فقال: عريفي يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال عمر: أكذلك هو؟ قال نعم، قال: فاذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته». (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) في هـ: كما لو وصى. (¬5) في هـ: مودوع.

قال صاحب النهاية فيها: والصحيح قولنا يعني الأول؛ لأن الظاهر أن اللقيط لا ولي له. فجاز أن يُجعل الملتقط ولياً له. وبهذا فارق الصبيُّ المودَعَ. فإن الولاية عليه لغير المستودَع ثابتة. قال: (وإن كان فاسقاً، أو رقيقاً، أو كافراً، واللقيط مسلم أو بدوياً ينتقل في المواضع، أو وجده في الحضر فأراد نقله إلى البادية: لم يقرّ في يده). أما كون اللقيط لا يقرّ في يد الفاسق؛ فلأنه ليس في حفظ اللقيط إلا الولاية، ولا ولاية لفاسق. وفارق اللقطة من وجهين: أحدهما: أن في اللقطة معنى التكسب، وليس هنا إلا الولاية. الثاني: أن اللقطة إذا انتزعت منه رُدّت إليه بعد الحول. بخلاف اللقيط فإنه لا يردّ إليه. وأما كونه لا يقرّ في يد الرقيق؛ فلأنه مستحق الخدمة والمنفعة لسيده. ولأنه لا يثبت على اللقيط إلا الولاية، وليس العبدُ من أهلها. وأما كونه لا يُقرّ في يد الكافر إذا كان اللقيط مسلماً؛ فلأن الكافر لا ولاية له على مسلم. ولأنه لا يؤمن أن يفتن المسلم عن دينه. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعارٌ بأن اللقيط إذا كان كافراً يقرّ في يده. وصرح به في المغني؛ لأن الولاية تثبت لبعض الكفار على بعض. وأما كونه لا يقرّ في يد بدويٍ ينتقل في المواضع؛ فلأن فيه إتعاباً للصبي بتنقله. وأما كونه لا يقرّ في يد من وجده في الحضر فأراد نقله إلى البادية؛ فلأنه ينقل اللقيط إلى شدة العيش وجفائه، وفي الأثر: «من بَدَا فقد جَفَا» (¬1). ولأن فيه تعسراً لمداواته، ومراجعة الطبيب، وانقطاع النسب، وتفويت التأديب والعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (9681) 2: 440.

قال: (وإن التقطه في البادية مقيم في حلّهٍ، أو من يريد نقله إلى الحضر: أقرّ معه). أما كون اللقيط يقرّ مع المقيم في حلّه بحيث لا يرحل لطلب الماء والكلأ؛ فلأنه كالمقيم في قرية. وأما كونه يقرّ مع من يريد نقله إلى الحضر؛ فلأنه أنفع له، ويحصل له من الفوائد ما تقدم ذكره. قال: (وإن التقطه في الحضر من يريد النقلة إلى بلد آخر فهل يقر في يده؟ على وجهين). أما كون اللقيط يُقرّ (¬1) في يد من ذكر على وجهٍ؛ فلأن البلد كالبلد. وأما كونه لا يقرّ على وجهٍ؛ فلأن بلده أقرب إلى ظهور نسبه. قال: (وإن التقطه اثنان قُدم الموسر منهما على المعسر، والمقيم على المسافر. فإن تساويا وتشاحّا أُقْرِع بينهما). أما كون الموسر من الملتقطين يقدم على المعسر، والمقيم على المسافر؛ فلأن ذلك أحظ للقيط، وأَعْوَد لمصلحته. وأما كونهما يقرع بينهما إذا تساويا وتشاحّا؛ فلأنه لا يمكن تسليمه إليهما؛ لما فيه من الضرر اللاحق بالطفل؛ لأنه إذا كان عند أحدهما يوماً وعند الآخر يوماً اختلفت عليه الأغذية والأُنْس والأُلْف. فإذاً يتعين دفعه إلى أحدهما، ولا يمكن ذلك إلا (¬2) بقرعة؛ لأن حقَّهما متساوٍ. ¬

_ (¬1) في هـ: لا يقر. (¬2) ساقط من هـ.

قال: (فإن اختلفا (¬1) في الملتقط منهما قُدم من له بينة، فإن لم يكن لهما بينة قُدّم صاحب اليد، فإن كان في أيديهما أقرع بينهما، فإن لم يكن لهما يد فوصفه أحدهما قُدّم، وإلا سلمه الحاكم إلى من يرى منهما أو من غيرهما). أما كونه يقدم من له بينة على من لا بينة له؛ فلأن البينة تقطع الخصومة، وتُظهر صاحب الحق من غيره. وأما كونه يُقدم صاحب اليد إذا لم تكن بينة؛ فلأن اليد دليلٌ على استحقاق الإمساك ز دليله: الأموال. ولأنه يغلب على الظن أنه هو الملتقط. بخلاف من لا يد له. وأما كونه يقرع بينهما إذا كان في أيديهما؛ فلأنهما تساويا في السبب، ولم يمكن تسليمه إليهما لما تقدم. فتعينت القرعة، كما تقدم. وأما كون الواصف يقدم بالوصف إذا لم تكن يدٌ؛ فلأن اللقيط نوع من اللقطة. فيقدم فيه بالوصف، كلقطة المال. ولأن الوصف دليل على قوة اليد. فكان مُقدماً به. وأما كون الحاكم يسلم اللقيط إلى من يرى [منهما أو من غيرهما إذا لم يكن وصف؛ فلأنه لم يوجد لأحدهما شيء يقتضي ترجيحه. فكانت الخيرة للحاكم] (¬2) في دفعه إلى من يحضنه، كغير اللقيط إذا لم يكن له قريبٌ، أو كان له جماعة لا مزيّة لأحدهم على الآخر. ¬

_ (¬1) في هـ: وإن اختلف. (¬2) ساقط من هـ.

فصل [في أحكام اللقيط] قال المصنف رحمه الله: (وميراث اللقيط وديته إن قُتل لبيت المال. وإن قُتل عمداً فوليه الإمام: إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية). أما كون ميراث اللقيط وديته إن قُتل لبيت المال؛ فلأنه مسلم لا عَصَبة له (¬1) ولا ذا فرضٍ. فكان ماله وديته لبيت المال، كغير اللقيط. وأما كون وليه الإمام؛ فلأن الإمام ولي من لا ولي له، وهذا لا وليَّ له. وأما كونه إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية إذا قُتل عمداً، فكسائر الأولياء. ولا بد أن يُلحظ هنا أن ذلك خِيَرَة مصلحة لا خيرة تَشَهِّي؛ لأن الإمام يتعين عليه فعل الأصلح. بخلاف بقية الأولياء. قال: (وإن قُطع طرفُه عمداً انتُظر بلوغه. إلا أن يكون فقيراً، أو مجنوناً: فللإمام العفو على مالٍ ينفق عليه). أما كون اللقيط يُنتظر بلوغه إذا قُطع طرفه ولم يكن فقيراً ولا مجنوناً؛ فلأن مستحق الاستيفاء المجني عليه، وهو حينئذٍ لا يصلح له. فانتظر بلوغه ليستوفي حقه عند أهليته للاستيفاء. وأما كون الإمام له العفو على مالٍ ينفق عليه منه إذا كان فقيراً أو مجنوناً؛ فلأن الانتظار هنا لا ينتهي إلى حدٍ معلوم؛ لأن الجنون قد لا يفارقه. وفارق هذا ما إذا كان الصغير فقيراً عاقلاً من حيث إن الصغر له حدٌ معلوم ينتهي إليه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

قال: (وإذا ادعى الجاني عليه، أو قاذفُه: رقَّه. وكذبه اللقيط بعد بلوغه: فالقول قول اللقيط. وإن ادعى إنسان أنه مملوكه لم يقبل إلا ببينة تشهد أن أمته ولدته في ملكه. ويحتمل أن لا يعتبر قولها في ملكه). أما كون القول قول اللقيط في نفي رقه؛ فلأنه محكومٌ بحريته. ولأن قوله يعضده الأصل. إذ الأصل عدم رقه. وأما كون من ادعى أنه مملوكه لا يقبل إلا ببينة؛ فلأن مجرد الدعوى لا تكفي في انتزاع المدعي. والأصل فيه قوله عليه السلام: «لو يُعطَى الناسُ بِدعواهُم لادعَى أُناسٌ دِماءَ رجالٍ وأموالهم. ولكن البينةَ على المدعي واليمينَ على من أنكر» (¬1). وأما كونه يقبل قوله مع البينة؛ فلأن البينة تُظهر الحق. وأما كون البينة تشهد أن أمته ولدته في ملكه على المذهب؛ فلأنها إذا ولدت قبل ملكه لها يَصْدُق أنها ولدته. فلا بدّ من قولها في ملكه ليخرج ذلك. وليس مراد المصنف رحمه الله أنه لا بدّ من بينة تشهد على الصفة المذكورة بل لو أقام بينة بأن اللقيط مملوكه كانت كافية، ولم يحتج إلى أن أمته ولدته في ملكه؛ لأنه يجوز أنه اشتراه أو اتهبه أو نحو ذلك. وصرح بذلك في المغني، وقال: إن شهدت بينة أنه عبده أو ملكه حكم بها وإن لم يذكر سبب الملك، كما لو شهدت بملك دارٍ أو عبد. وأما كونه يحتمل أن لا يعتبر قول البينة في ملكه؛ فلأن قوله (¬2) أن أمته ولدته بمنزلة قولها في ملكه. والأول أصح، لما تقدم ذكره. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4277) 4: 1656 كتاب التفسير، باب: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1711) 3: 1336 كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه. (¬2) في هـ: قولها.

قال: (وإن أقرّ بالرق بعد بلوغه لم يقبل. وعنه: يقبل. وقال القاضي: يقبل فيما عليه روايةً واحدةً، وهل يقبل في غيره؟ على روايتين). أما كون اللقيط لا يقبل إقراره بالرق بعد بلوغه من غير تفصيلٍ على المذهب؛ فلأنه يُبطل حق الله تعالى من الحرية المحكوم بها. وأما كونه يقبل على روايةٍ؛ فلأنه مجهول الحال. أقرّ بالرق. فقبل، كما لو أقر غير اللقيط بالرق. واشترط المصنف رحمه الله في المغني في هذا: أن لا يكون أقرّ بالحرية قبل ذلك؛ لأنه إذا أقرّ بذلك اعترف بالحرية، وهي حقٌ لله تعالى. ولأنه يكون مكذباً لقوله بقوله. فلم يقبل إقراره، كما لو أقرّ بمالٍ ثم جحده. وأما كونه يقبل فيما عليه رواية واحدة على قول القاضي؛ فلأن الضرر يعود على نفسه. فلا تلحقه التهمة. وأما كونه هل يقبل في غيره؟ على روايتين؛ فوجههما ما تقدم. قال: (وإن قال: إني كافر لم يُقبل قوله، وحكمه حكم المرتد. وقيل: يُقْبل قوله. إلا أن يكون قد نطق بالإسلام وهو يعقله). أما كونه لا يُقبل قوله في ذلك على المذهب؛ فلأنه محكوم بإسلامه. وأما كون حكمه على ذلك حكم المرتد؛ فلأنه أقرّ بالكفر. فعلى هذا إن تاب وإلا قُتل؛ لأن المرتد هكذا يُفعل به. وأما كونه يقبل قوله إذا لم يكن نطق بالإسلام وهو يعقله على قولٍ؛ فلأن إسلامه لم يثبت يقيناً. وأما كونه لا يقبل قوله إذا كان نطق بالإسلام؛ فلأن إسلامه ثبت يقيناً فلم يقبل إقراره بالكفر، كالمسلم إذا أقرّ بكفر نفسه. والأصح أنه لا يقبل مطلقاً؛ لأن الحكم بالإسلام ملحقٌ بالإسلام اليقيني، واللقيط محكومٌ بإسلامه.

فصل [إذا ادعى اللقيط إنسان] قال المصنف رحمه الله: (وإن أقرّ إنسانٌ أنه ولده أُلحق به مسلماً كان أو كافراً، رجلاً أو امرأة، حياً كان اللقيط أو ميتاً. ولا يتبع الكافر في دينه إلا أن يقيم بينة أنه ولد على فراشه. وعنه: لا يلحق بامرأة ذات زوج (¬1). وعنه: إن كان لها إخوة أو نسب معروف لم يلحق بها، وإلا لحق). أما كون الولد المقرّ به يلحق بالمقِرّ؛ فلأن الإقرار به محضُ مصلحةٍ للطفل لاتصالِ نسبه، ولا مضرة على غيره فيه. فقبل، كما لو أقر له (¬2) بمال. وأما كونه يُلحق به مسلماً كان أو كافراً؛ فلأن الكافر يثبت له النكاح والفراش. فيلحق به، كالمسلم. وأما كونه يلحق به رجلاً كان أو امرأة على المذهب؛ فلأن المرأة أحد الأبوين. فيثبت النسب بدعواها، كالأب. وأما كونه يُلحق به حياً كان اللقيط أو ميتاً؛ فلأنهما سواء معنى. فوجب استواءهما حكماً. وأما كون اللقيط لا يتبع الكافر في دينه إذا لم يُقم بينة أنه ولد على فراشه؛ فلأن اللقيط محكومٌ بإسلامه بظاهر الدار. فلا يقبل قول الكافر في كفره بغير بينة، كما لو كان معروف النسب. ولأنها دعوى تخالف الظاهر. فلم تقبل بمجردها، كدعوى رقه. وإنما قبل في النسب؛ لعدم الضرر، والكفر بخلافه فإن فيه ضرراً عظيماً؛ لأنه سبب الخزي في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) مثل السابق.

وأما كونه يَتبع الكافر في دينه إذا أقام بينة بأن اللقيط ولد على فراشه؛ فلأنه حينئذ تحققت الولادة، والولد المحقق يتبع والده في دينه. وأما كونه لا يُلحق بامرأة ذات زوج على روايةٍ؛ فلأن في لحوق النسب بها وهي ذات زوج إلحاقاً للنسب بزوجها، وذلك غير جائز. وأما كونه لا يلحق بها إذا كان لها إخوة أو نسب معروف وكونه يلحق بها إذا لم يكن كذلك على روايةٍ؛ فلأنه يلزم من لحوق النسب بها في الأول لحوق النسب بالإخوة والنسب المعروف، وهو غير جائز. بخلاف الثاني. قال: (وإن ادّعاه اثنان أو أكثر لأحدهما بينة قدم بها. وإن تساووا في بينة أو عدمها عُرض معهما على القافة، أو مع أقاربهما إن ماتا: فإن ألحقته بأحدهما لحق به، وإن ألحقته بهما لحق بهما. ولا يُلحق بأكثر من أمٍ واحدة. وإن ادّعاه أكثر من اثنين فأُلحق بهم لحق بهم وإن كثروا. وقال ابن حامد: لا يُلحق بأكثر من اثنين. وإن نفته القافة عنهم، أو أشكل عليهم، أو لم يوجد قافةٌ ضاع نسبه في أحد الوجهين، وفي الآخر: يترك حتى يبلغ فينسب إلى من شاء منهم. أومأ إليه أحمد). أما (¬1) كونه يقدم من له بينة من المدعين؛ فلأن البينة تُظهر أنه صاحب الحق. وأما كونه يُعرض على القافة معهما أو مع أقاربهما إن ماتا إذا تساووا في البينة أو عدمها؛ فلأن ذلك طريقٌ إلى ترجيح أحدهما على الآخر. فشرع، كقيام البينة. فإن قيل: القافة ما هي؟ قيل: قومٌ من العرب عُرف منهم الإصابة في معرفة الأنسابِ، واشتهر ذلك في بني مدلج رهط مجزز، وسراقة بن مالك بن جعشم. والأصل فيها ما روي عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم دَخلَ عليها مسروراً تَبْرُقُ أساريرُ وجههِ. فقال: ألم تَرَيْ أن مُجَزِّزَاً المدلجي نظرَ آنفاً إلى زيد ¬

_ (¬1) في هـ: وأما.

وأسامة وقد غَطيَا رؤوسَهمَا وبدتْ أقدامُهمَا. فقال: إن هذه الأقدامَ بعضها من بعض» (¬1). متفق عليه. وجه الحجة: أنه لو لم يجز الاعتماد على القافة لما سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا اعتمد عليه. ولأن عمر رضي الله عنه قضى به بحضرة الصحابة فلم يدفعه أحد ولم ينكره. فكان إجماعاً. ولأنه حكم بظن غالبٍ ورأي راجحٍ ممن هو من أهل الخبرة. فجاز قبوله، كقول (¬2) المقومين. وأما كونه يلحق بأحدهما إذا ألحقته القافة به؛ فلأنه تَرَجّح بقولها. أشبه من قامت له بينة. وأما كونه يلحق بهما إذا ألحقته بهما؛ فـ «لأنه يروى عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهرٍ. فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعاً. فجعله بينهما» (¬3). رواه سعيد بن منصور في سننه. وروى بإسناده عن الشعبي قال: «وعليّ يقول: هو ابنهما (¬4) وهما أبواه يرثهما ويرثانه». رواه الزبير بن بكار بإسناده عن عمر. ولا يعرف لهما في الصحابة مخالف. وأما كونه لا يُلحق بأكثر من أمٍّ واحدة؛ فلأن كونه ابناً لهما محال يقيناً فلم يجز أن يحكم به، كما لو كان أكبر منهما. وفارق الرجلين من حيث إن انخلاق الولد منهما ليس بمعلوم الاستحالة. وأما كونه يُلحق بأكثر من اثنين على المذهب؛ فلأنه إذا جاز إلحاقه باثنين جاز بأكثر من ذلك؛ لأن المعنى في الموضعين واحد. وأما كونه لا يلحق بأكثر من اثنين على قول ابن حامد؛ فلأن إلحاقه باثنين ثبت بالأثر. فيجب أن يقتصر عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6388) 6: 2486 كتاب الفرائض، باب القائف. وأخرجه مسلم في صحيحه (1459) 2: 1081 كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد. (¬2) في هـ: كقبول. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 263 كتاب الدعوى والبينات، باب القافة ودعوى الولد. (¬4) في هـ: بنيهما.

قال المصنف في المغني: المعنى في الاثنين موجود فيما زاد. فيجب أن يُقاس عليهما. وأما كون من نفته القافة عنهم، أو أشكل عليهم، أو لم توجد قافةٌ: يضيع نسبه في وجهٍ قاله أبو بكر؛ فلأنه لا دليلَ عليه. أشبه من لم يدّعِ نسبه أحد. وأما كونه يُترك حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء في وجهٍ قاله ابن حامد؛ فلأن الإنسان يميل طبعه إلى قريبه دون غيره. ولأن ذلك يُروى عن عمر رضي الله عنه. وقول المصنف رحمه الله: أومأ إليه أحمد. يعني الإمام أحمد. قال: (وكذلك الحكم إن وطئ اثنان امرأة بشبهةٍ، أو جاريةٍ مشتركة بينهما في طهر واحد، أو وطئت (¬1) زوجة رجل، أو أم ولد له بشبهة وأتت بولد يمكن أن يكون منه فادعى الزوج أنه من الواطئ: أُري القافة معهما. ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون ذكراً عدلاً مجرباً في الإصابة). أما كون الحكم فيما إذا وطئ اثنان امرأة بشبهة، أو جارية مشتركة بينهما في طهرٍ واحدٍ فأتت بولد كالحكم فيما تقدم في أنها ترى معهما القافة؛ فلأن عمر فعل ذلك وجعل الولد بين الواطئين لمّا قال القائف: «قد اشتركا فيه» (¬2)، ولو لم (¬3) يكن له أثرٌ في ذلك لم يحتج إلى ذكره. ولأن ذلك يحتمل كونه من هذا، وكونه من هذا. فأري القافة، كاللقيط إذا ادعى نسبه اثنان. وأما كون الحكم في بقية الصور المذكورة كذلك؛ فلأنها تساويه معنى. فوجب أن تساويه حكماً. وأما كون القائف لا يُقبل قوله إلا أن يكون ذكراً عدلاً مجرباً في الإصابة؛ فلأن ذلك يجري مجرى الحكم. فاعتبر فيه ذلك، كالحاكم. ¬

_ (¬1) في هـ: وطئ. (¬2) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في هـ: ولم.

ولأن ذلك يفتقر إلى نظرٍ واجتهاد، والمرأة قاصرةٌ عنهما، والفاسقُ لا يُقبل خبره. ومن لم يكن مجرباً في الإصابة لم يغلب على الظن صدقه. فلم تطمئن النفس إلى قوله.

كتاب الوقف

كتاب الوقف الوقف: مصدر وقف. يقال: وَقَفْتُ وقفاً، ولا يُقال: أوقَفْتُ إلا في لُغة شاذةٍ. وهو من القُرَبِ المندوبِ إليها. والأصل فيه ما روى عبدالله بن عمر قال: «أصابَ عمرُ أرضاً بخيبرَ. فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستأمرُه فيها. فقال: يا رسولَ الله! إني أصبتُ أرضاً بخيبرَ. لم أُصِبْ مالاً أنفسُ عندي منه فما تأمرني فيها؟ قال: إن شئتَ حبستَ أصلهَا وتصدقتَ بثمرتها. غير أنه لا يباعُ أصلُها ولا يوهبُ ولا يورثُ. قال: فتصدقَ بها عمر في الفقراءِ، وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضيف. لا جناحَ على من وليها أن يأكلَ منها، أو يُطعم صَديقاً بالمعروفِ غير مُتَأَثِّلٍ فيه، أو غيرَ متمولٍ فيه» (¬1). متفق عليه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ماتَ ابنُ آدم انقطعَ عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفعُ به من بعده، أو ولدٍ صالح يدعُو لَه» (¬2). وعن جابر: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف. قال المصنف رحمه الله: (وهو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة. وفيه روايتان: إحداهما: أنه يحصل بالقول والفعل الدال عليه؛ مثل: أن يبني مسجداً ويأذن للناس في الصلاة فيه، أو يجعل أرضه مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها، أو سقاية ويشرعها لهم. والأخرى: لا يصح إلا بالقول). أما قول المصنف رحمه الله: وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة؛ فبيان لمعنى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2586) 2: 982 كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف. وأخرجه مسلم في صحيحه (1632) 3: 1255 كتاب الوصية، باب الوقف. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1631) 3: 1255 كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته. وأخرجه أبو داود في سننه (2880) 3: 117 كتاب الوصايا، باب ما جاء في الصدقة عن الميت. وأخرجه الترمذي في جامعه (1376) 3: 660 كتاب الأحكام، باب في الوقف. وأخرجه النسائي في سننه (3651) 6: 251 كتاب الوصايا، فضل الصدقة عن الميت. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

الوقف شرعاً. وقد دل عليه قوله عليه السلام: «إن شئتَ حبستَ أصلَها وتصدقتَ بثمرتها» (¬1). وأما ما يحصل الوقف به. فعلى ضربين: أحدهما: متفق عليه. وهو القول؛ لأنه صريح فيه. فحصل به؛ كحصول سائر العقود بصرائحها. وثانيهما: الفعل. وفي حصول الوقف به روايتان: إحداهما: يحصل؛ لأن العرف جارٍ بذلك. وفيه دلالة على الوقف. فجاز أن يحصل به؛ كالقول. والثانية: لا يحصل به؛ لأنه تحبيس أصلٍ على وجهِ القربة. فوجب أن يفتقر إلى القول؛ كالوقف على الفقراء. قال المصنف رحمه الله في المغني: ظاهر المذهب أن الوقف يحصل بالفعل مع القرائن الدالة عليه مثل ما تقدم. ويعضد ذلك: أن القرائن جارية مجرى صريح القول في كثير من المواضع. فليكن هاهنا كذلك. بيانه: أن من قدّم إلى ضيفٍ طعاماً كان ذلك إذناً في الأكل، ومن ملأ خابية ماء ووضعها على الطريق كان ذلك تسبيلاً لمائها، وجاز لكل أحدٍ الشربُ منها، ومن نثرَ على الناس شيئاً من اللوز والسكر وغيرهما أُبيح التقاطه. وقد تقدم أن البيع بالمعاطاة جائز (¬2)؛ لدلالة الحال. فكذلك هاهنا. قال: (وصريحه: وقفت وحبّست وسبّلت، وكنايته: تصدّقت وحرّمت وأبدّت. فلا يصح الوقف بالكناية إلا أن ينويه أو يقرن به أحد الألفاظ الباقية، أو حكم الوقف فيقول: تصدّقت صدقةً موقوفةً، أو محبّسةً، أو مُسَبَّلةً، أو محرّمةً، أو مؤبّدةً، أو لا تُباع، ولا تُوهب، ولا تُورث). أما كون القول الذي يحصل به الوقف له صريحٌ وكناية؛ فلأن الصريح: ما ثبت به الشيء من غير انضمام أمر زائد. والكناية: ما يفتقر ثبوت الشيء به إلى أمرٍ زائدٍ. وكلاهما موجودٌ في الوقف. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه من حديث عمر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ص: 52.

وأما كون الصريح ثلاثة ألفاظ: وقفت وحبّست وسبّلت؛ فلأن هذه الثلاثة ثبت لها عرف الاستعمال بين الناس، ويُفهم الوقف منها عند الإطلاق. فصارت صريحةً في الوقف؛ كلفظ الطلاق في التطليق. وأما كون تصدّقت وحرّمت وأبّدت كناية؛ فلأنها لم يثبت لها عُرف الاستعمال. ولأن الصدقة تستعمل في الزكاة. والتحريم يستعمل في الظهار والأيمان. والتأبيد يحتمل تأبيد التحريم وتأبيد الوقف. فعلى هذا لا بدّ من انضمام شيء إليها لتترجّح إفادتها للوقف. وذلك أشياء: أحدها: النية؛ لأنها تميز المراد من غيره. ولأن كناية الطلاق مع نيته تكون موجبةً لوقوع الطلاق. فكذلك كناية الوقف مع نيته تكون موجبةً لحصول الوقف. وثانيها: أن يقرن (¬1) به أحد الألفاظ الباقية من الصرائح. والكناية كما مثل المصنف رحمه الله؛ لأن اللفظ يترجح بذلك؛ لإرادة الوقف. وثالثها: أن يقرن به حكم الوقف كقول المصنف رحمه الله: لا تباع ولا توهب ولا تورث؛ لأن ذلك يزيل الاشتراك. قال: (ولا يصح إلا بشروطٍ أربعة: أحدها: أن يكون في عين يجوز بيعها، ويمكن الانتفاع بها دائماً مع بقاء عينها؛ كالعقار، والحيوان، والأثاث، والسلاح). أما كون الوقف لا يصح إلا بالشروط الآتي ذكرها؛ فلما يُذكر فيها. وأما كون أحدها: أن يكون في عينٍ يجوز بيعها، ويمكن الانتفاع بها دائماً مع بقاء عينها؛ فلما يأتي ذكره بعدُ. وأما كونه يصح في ذلك؛ فلأن ما نقلَ: الوقفُ فيه شأنه كذلك. فيثبت فيه بالنص، ويقاس عليه ما في معناه. وأما قول المصنف رحمه الله: كالعقار ... إلى آخره؛ فتمثيل لما يصح وقفه. ¬

_ (¬1) في هـ: يقر.

وقد دلّ حديث (¬1) عمر على صحة وقف العقار (¬2)، وحديث أم معقل على صحة وقف الحيوان ولفظه: «جاءتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله! إنّ أبا معقل جعلَ ناضِحَهُ في سبيلِ اللهِ وإني أريدُ الحجَ أفأركبه؟ فقال: اركبيه. فإن الحجَ والعمرةَ من سبيلِ الله» (¬3). وحديث خالد على صحة وقفِ الأثاث والسلاح. ولفظه (¬4): «وأما خالد فإنه قد احتبسَ أدْرَاعَهُ وأعتَادَهُ في سبيلِ الله» (¬5) متفق عليه. قال: (ويصح وقف المشاع. ويصح وقف الحلي على اللُّبس والعارية. وعنه: لا يصح). أما كون وقف المشاع يصح؛ فلأن في حديث عمر «أنه أصابَ مائة سهمٍ من خيبرَ. فأمرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بوقفها» (¬6). ولأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وذلك يحصل في المشاع؛ كحصوله في المفرز. وأما كون وقف الحلي على اللُّبس والعارية يصح على المذهب؛ فلأن ذلك عينٌ يمكن الانتفاع بها مع بقائها. فصح وقفُها؛ كالعقار. وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأنه من جنس أحد النقدين. فلم يصح وقفه؛ كالدنانير والدراهم. والأول أصح؛ لأن المفسد في الدنانير والدراهم عدم الانتفاع بعينها، وهذا في الحلي معدوم. ¬

_ (¬1) في هـ: دل عليه حديث. (¬2) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (27326) 6: 406. (¬4) ساقط من هـ. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (1399) 2: 534 كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: {وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل لله}. وأخرجه مسلم في صحيحه (983) 2: 666 كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها. (¬6) أخرجه النسائي في سننه (3604) 6: 232 كتاب الأحباس، باب حبس المشاع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2397) كتاب الصدقات، باب من وقف.

قال: (ولا يصح الوقف في الذمة كعبدٍ ودارٍ، ولا غير معين كأحد هذين، ولا وقف ما لا يجوز بيعُه كأم الولدِ والكلب، وما لا ينتفع به مع بقائه دائماً كالأثمان والمطعوم والرياحين). أما كون الوقف في الذمة لا يصح؛ فلأن معنى الوقف إبطال ملكٍ في عين. [فلا يصح إلا في عينٍ] (¬1)؛ كالعتق. وأما كون وقف غير معينٍ لا يصح؛ فلأن الوقف تمليكٌ للعين أو للمنفعة. فلا يصح في غير معينٍ؛ كالإجارة. وأما كون وقف ما لا يجوز بيعه لا يصحُ؛ فلأن الوقف نقلٌ للملكِ في العين. فلم يصح فيما لا يجوز بيعه؛ كهبته. وأما كون وقف ما لا يُنتفع به مع بقائه دائماً؛ كالأثمان: لا يصح؛ فلأن النفع بذلك لا يمكن إلا بإتلاف عينه، وذلك ينافي تأبيدَ الوقف. وفي قول المصنف رحمه الله: وما لا ينتفع به مع بقائه دائماً كالأثمان والمطعوم والرياحين نظرٌ؛ لأن المطعوم والرياحين لا تبقى دائماً فلا يصح التمثيل به. وصحة الكلام دائرة مع أحد أمرين: حذف التمثيل بهما، والاكتفاء بالتمثيل بالأثمان، أو حذف مع بقائه؛ لأن المطعوم والرياحين يصح أن يقال أنهما لا ينتفع بهما دائماً؛ لكون نفعهما يحصل في بعض الزمن دون بعضٍ فيكون التمثيل بهما صحيحاً. قال: (الثاني: أن يكون على برٍّ؛ كالمساكين، والمساجد، والقناطر، والأقارب مسلمين كانوا أو من أهل الذمة). أما كون الثاني من شروط صحة الوقف: أن يكون على برٍّ؛ فلأن المقصود من الوقف التقربُ إلى الله عز وجل. فإذا لم يكن الوقف على برٍّ لم يحصل المقصود من الوقف. وأما قول المصنف رحمه الله: "كالمساكين ... إلى مسلمين"؛ فتمثيلٌ للبر الذي يصح الوقف عليه. وأما كون الوقف يصح على الأقارب مسلمين كانوا أو من أهل الذمة؛ فلأن ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

القريب الذمي موضع القربة. بدليل جواز الصدقة عليه. قال: (ولا يصح على الكنائسِ، وبيوت النارِ، وكتابة التوراة، والإنجيلِ، ولا على حربيٍ، ولا مرتد). أما كون الوقف على الكنائس وبيوت النار لا يصح؛ فلأنها بيوت الكفر. وأما كونه لا يصح على كتابة التوراة والإنجيل؛ فلأنها كتب مبدّلة منسوخة. ولذلك «غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى مع عمر صحيفةً فيها شيء من التوراة. وقال: أفي شَكٍ أنتَ يا ابن الخطاب؟ ألم آتِ بها بيضاءَ نقية. لو كان أخِي موسى حَياً ما وَسِعَهُ إلا اتباعي» (¬1). ولولا أن ذلك معصيةً ما غضب منه. وأما كونه لا يصح على حربيٍّ ولا مرتدٍّ؛ فلأن أموالهم مباحةٌ في الأصل، ويجوز أخذها منهم بالقهر والغلبة. فما تجدد لهم أولى. والوقف لا يجوز أن يكون مباح الأخذ؛ لأنه تحبيس الأصل. قال: (ولا يصح على نفسه في إحدى الروايتين. وإن وقف على غيره واستثنى الأكل منه مدة حياته صح). أما كون وقف الشخص على نفسه لا يصح على روايةٍ؛ فلأن الوقف تمليك إما للرقبة أو للمنفعة (¬2)، وكلاهما لا يصح هنا؛ لأن الشخص لا يجوز أن يملك نفسه، كما لا يجوز أن يبيع ماله من نفسه. وأما كونه يصح على روايةٍ؛ فلأن عمر لما وقف قال: «لا بأسَ على من وليها أن يأكلَ منها أو يُطعمَ صَديقاً غير مُتَمَوِّلٍ فيه» (¬3)، وكان ذلك الوقف في يده إلى أن مات. ولأنه إذا وقف وقفاً عاماً كالمساجد والسقايات كان له الانتفاع به. فكذا إذا خصّه بانتفاعه. وظاهر كلام المصنف هنا: أن الصحيح عدمُ الصحة. وصرح به غيره من الأصحاب. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (15195) 3: 387. (¬2) في هـ: والمنفعة. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وقال صاحب النهاية فيها: الأصح قولُنا يعني الصحة. وقال المصنف في المغني بعد الحكم بالصحة: قال ابن عقيل: وهي أصح. ووجهه ما تقدم. وقد روي عن عثمان رضي الله عنه «أنه لما وقفَ بئرَ رومة قال: دَلْوِي فيها كالدِّلاء» (¬1). وأما كونه يصح استثناء الأكل مما وقفه على غيره مدة حياته؛ فلأن عمر رضي الله عنه شرطَ الأكلَ للوالي عليها والإطعام، وكان هو الوالي عليها (¬2). قال: (الثالث: أن يقف على معين يَملك. ولا يصح على مجهول؛ كرجلٍ، ومسجد. ولا على حيوانٍ لا يَملك؛ كالعبدِ، والحملِ، والملكِ، والبهيمة). أما كون الثالث من شروط صحة الوقف: أن يقف على معين يملك؛ فلأن الوقف تمليك. فلم يصح على غير معين لا يملك؛ كالهبة. فإن قيل: فعلى قولنا: العبد يَملك هل يصح الوقف عليه؟ قيل: لا؛ لأنه لا يملك ملكاً لازماً، وكذا لو كان مكاتباً؛ لأن ملكه غير مستقر. فإن قيل: لو وقف على المساجدِ جاز وهي لا تملك. قيل: الوقف على المساجد مقصودٌ فيه أهلها وهم المسلمون؛ لأن النفع خاصٌ بهم. فالملكُ إذاً حاصل. فإن قيل: فيجب أن يصح الوقف على الكنيسة، ويكون الوقف على أهل الذمة. قيل: الجهة التي عُين صرف الوقف فيها ليست نفعاً بل هي محرّمة معصيةٌ يزدادُ الواقف (¬3) بها عقاباً. بخلاف المساجد. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (3703) 5: 627 كتاب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه. وأخرجه النسائي في سننه (3608) 6: 235 كتاب الأحباس، باب وقف المساجد. (¬2) سبق ذكر حديث عمر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في هـ: الوقف.

قال: (الرابع: أن يقف ناجزاً. فإن علقه على شرطٍ لم يصح. إلا أن يقول: هو وقفٌ بعد موتي فيصح في قول الخرقي. وقال أبو الخطاب: لا يصح). أما كون الرابع من شروط صحة الوقف: أن يقف ناجزاً؛ فلأنه نقلٌ للملك. أشبه البيع. والناجزُ كقولك: وقفتُ داري على كذا. ولا خلاف في صحته إذا اجتمعت فيه شروطه (¬1). وأما المعلّق فله صورتان: إحداهما: أن يقول: إذا جاء زيدٌ، أو رأسُ الشهر، أو ما أشبه ذلك: فداري وقفٌ. فهذا لا يصح؛ لأنه تعليق للوقف على شرطٍ، والوقفُ تمليكٌ، وتعليق التمليك على شرطٍ لا يصح. والثانية: أن يقول: هو وقفٌ بعد موتي. وفيها وجهان: أحدهما: يصح؛ لأن ذلك وصيةٌ. فصح؛ كالوصية لرجلٍ بدار. والثاني: لا يصح؛ لما تقدم قبل. وخرّج أبوالخطاب من كلام الخرقي صحة الوقف في المسألتين؛ لاستوائهما في التعليق. وقال المصنف في المغني: والذي أراه أن كلام الخرقي على حقيقته في إجازة تعليقه بشرط الموت خاصةً دون غيره؛ لما تقدم من أن ذلك في معنى الوصية. وهذا مفقودٌ في غيره. ¬

_ (¬1) في هـ: شروط.

فصل [في اشتراط القبول] قال المصنف رحمه الله: (ولا يشترط القبول. إلا أن يكون على آدمي معين ففيه وجهان؛ أحدهما: يشترط ذلك. فإن لم يقبله أو ردّه بطل في حقه دون من بعدَه، وكان كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز يُصرف في الحال إلى من بعده. وفيه وجه آخر: أنه إن كان من لا يجوز يُعرف انقراضُه كرجلٍ معينٍ صُرفَ إلى مَصرفِ الوقف المنقطع إلى أن ينقرض ثم يُصرف إلى من بعده). أما كون القبول في الوقف على غير آدميٍّ معينٍ؛ كالمساجد والقناطر وما أشبه ذلك لا يشترط؛ فلأن القبول لا يتصور في ذلك. فلو اشترط القبول لامتنع صحة الوقف فيه. وأما كونه يشترط إذا كان على آدميٍّ معينٍ؛ كزيدٍ وعمروٍ وما أشبههما في وجه؛ فلأنه تبرع لآدمي معين. فاشترط فيه القبول؛ كالهبة والوصية. وأما كونه لا يشترط في وجهٍ؛ فلأنه أحد أنواع الوقف. فلم يشترط فيه القبول؛ كالوقف على غير معين. ولأنه إزالة ملكٍ لا يباع ولا يوهب. فلم يشترط فيه القبول؛ كالعتق. واختلف قول الأصحاب في الصحيح من هذين الوجهين فقال صاحب النهاية في مختصره: يشترط على الأصح. ووجهه ما تقدم. وظاهر كلام المصنف رحمه الله في المغني عدم اشتراط القبول؛ لأنه علل اشتراط القبول بما ذكر (¬1). ثم نقضه بالعتق. وفرّق بين العتق والوصية من حيث: إن الوقف لا يختص بالمعين (¬2) بل يتعلق به حق من يأتي من البطون في المستقبل. وما ذكر من الفرق موجودٌ بعينه في الهبة، والأشبه أن يبنى ذلك على أن الملك هل ينتقل إلى الموقوف عليه أم لا؟ ¬

_ (¬1) في هـ: ذكره. (¬2) في هـ: بالعين.

فإن قيل: بالانتقال. قيل: باشتراط القبول، وإلا فلا؛ لأن الفرق بين المعين وغير المعين ظاهرٌ. لم يبق إلا تردد الشبه بين العتق وبين الوصية والهبة. فعلى قولنا: ينتقل الملكُ إلى الموقوف عليه يكون الشبه حينئذٍ بالهبة والوصية أكثر من الشبه بالعتق لكون الملك ينتقل في الهبة والوصية إلى الموهوب له والموصى له. بخلاف العتق فإنه لا ينتقل إلى العبد. وإذا ثبت رجحان الشبه حينئذٍ ثبت اشتراط القبول؛ لأن العمل بالراجح متعين. فإن قيل: فما الحكم في انتقال الملك؟ قيل: فيه روايتان سيأتي ذكرهما مفصلاً إن شاء الله؛ إلا أن المصنف رحمه الله صرح في المغني بأن ظاهر المذهب الانتقال. فعلى هذا يترجح اشتراط القبول. وفي قول المصنف رحمه الله: على آدميٍ معينٍ إشعارٌ بأنه لو وقف على آدميٍّ غير معينٍ؛ كالفقراء والفقهاء وما أشبه ذلك لم يشترط القبول. وهو صحيح؛ لأن القبول يكون من المستحق، وهو هاهنا غير معين. فلم يشترط فيه؛ كالمذكور قبل. وأما كون الوقف يبطل في حق من لم يقبله على القول باشتراطه؛ فلأنه تمليكٌ لم يوجد شرطه. فبطل؛ كالهبة. وأما كونه يبطل في حق من ردّه؛ فلأنه يبطل بعدم القبول لما ذكر قبل (¬1)، فلأن يبطل بالرد بطريق الأولى. وظاهر كلام المصنف أن البطلان بالرد من فروع اشتراط القبول؛ لأنه عطفه على عدم القبول، وهو من فروعه. فعلى هذا إذا قلنا: لا يشترط لم يبطل بردّه، وصرح به في المغني. ووجهه أن جانب الموقوف عليه (¬2) بالنسبة إلى القبول والرد غير ملحوظٍ. فردّهُ كعدمه. وقال صاحب النهاية فيها: لا خلاف أنه يرتد بردّه؛ كالوكيل إذا ردّ الوكالة، وإن لم يشترط لها القبول. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) ساقط من هـ.

وأما كونه لا يبطل في حق من بعده؛ فلأن المُبطل وُجد من (¬1) الأول فاختص به. ولأنه لا قبول في حق من بعده؛ لأن مقتضاه أن يُقارن الإيجابَ. وهو متعذرٌ فيمن بعده. وأما كون ذلك إذا بطل في حق من لم يقبل أو ردّ؛ كما لو وقف على من لا يجوز الوقف عليه ثم على من يجوز؛ فلأنهما يشتركان في بطلان الوقف على الجهة الأولى. فوجب أن يشتركا في حكمه. وأما كون الوقف على من لا يجوز ثم على من يجوز يُصرف في الحال إلى من بعده وجهاً واحداً إذا كان من لا يجوز (¬2) لا يعرف انقراضه كالمجهول؛ فلأن الواقف قصد صيرورةَ الوقفِ إليه في الجملة، ولا حالة يمكن انتظارها. فوجب الصرفُ إليه؛ لئلا يفوتَ غرضُ الواقف. ولأن ذكر من لا يجوز الوقف عليه كعدمه. فوجب أن يُصرف إلى من يجوز؛ كما لو صرّح به. وأما كونه يُصرف في الحال إلى من بعده إذا كان من لا يجوز يُعرف انقراضه كعبده وأم ولده على المذهب؛ فلأنه أحد نوعي الوقف. أشبه الذي قبله. وأما كونه يُصرف مَصرف الوقف المنقطعِ -وسيأتي ذكره بعد- إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه على وجهٍ؛ فلأن ذلك إحدى حالتي الانقطاع. أشبهت الأخرى. ثم يصرف إلى من يجوز الوقف عليه؛ لأنه مُرتبٌ عليه. قال: (وإن وقف على جهةٍ تنقطع ولم يذكر له مآلاً، أو على من يجوز ثم على من لا يجوز، أو قال: وقفتُ وسكتَ: انصرف بعد انقراض من يجوز الوقف عليه إلى ورثةِ الواقفِ وقفاً عليهم في إحدى الروايتين. والأخرى إلى أقرب عصبته. وهل يختص به فقراؤهم؟ على وجهين. وقال القاضي في موضعٍ: يكون وقفاً على المساكين). أما كون الوقف ينصرف في المواضع المذكورة بعد انقراض من يجوز الوقف ¬

_ (¬1) في هـ: في. (¬2) سقط لفظي: لا يجوز من هـ.

عليه إلى ورثة الواقف على روايةٍ؛ فلأنهم هم الذين صرفَ الله إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه. فكذلك تُصرف إليهم صدقتُه التي لم يُعين لها مصرفاً. وأما كونه ينصرف إلى أقرب عصبته على روايةٍ؛ فلأن أقرب عصبته خُص بالعقل عنه وبالميراث بالولاء. فكذلك بهذا. فعلى هذا لا يدخل في ذلك الزوجات ولا البنات المنفردات ولا ولدُ الأم؛ لأنهم ليسوا بعصبةٍ. ولا من بعدَ من العصبة؛ لأنه ليس بأقرب. وأما كون ذلك يختص به فقراؤهم على وجهٍ؛ فلأنهم أكمل. والظاهرُ أن الواقف يقصد ذلك. وأما كونه لا يختص به فقراؤهم على وجهٍ؛ فلأنه مُسْتَحَقٌّ بالقرابة. فلم يختص به الفقراء؛ كسهم ذوي القربى. وأما كونه وقفاً على المساكين على قول القاضي؛ فلأنهم هم المصرف غالباً. فكذا هاهنا. وكلام المصنف رحمه الله مشعرٌ بأشياء: أحدها: أن الوقف في الصور المذكورة صحيح. وتحقيق الكلام فيه: أن الوقف متصلٌ ومنقطع. فالمتصل: أن يقف على جهةٍ يجوز الوقف عليها كزيدٍ أو عمروٍ أو ما أشبه ذلك، ثم على جهةٍ لا يجوز انقراضها بحكم العادة كالمساكين والفقراء والعلماء وما أشبه ذلك، أو وقف ابتداءً على الجهة المذكورة (¬1). فهذا لا خلاف في صحته؛ لأنه متصلٌ، ويتناوله حديث عمر رضي الله عنه (¬2). والمنقطع على أربعة أضرب: أحدها: منقطعُ الابتداءِ والوسطِ والانتهاءِ؛ كالوقف على أم ولده ثم على رجلٍ. فهذا لا يصح؛ لأن الأول والثاني (¬3) لا يصح الوقف عليه، ولم يذكر مآلاً يرجع الوقف إليه. فإن قيل: هلاّ صح وكان لورثته أو لأقرب عصبته؛ كما لو وقف على من ¬

_ (¬1) في هـ: أو يقصد ابتداء الجهة المذكورة. (¬2) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) ساقط من هـ.

يجوز الوقف عليه ولم يذكر له مآلاً؟ قيل: لأن الصحة فيما ذكر وُجدت في جهة من جهات الوقف، وسومح في ذكر المآل نظراً إلى كونه معلوماً بالعُرف. بخلاف هذه الصورة. فإنه لم يوجد فيها شيءٌ حكم بالصحة فيه. وثانيها: منقطعُ الابتداء دون الانتهاء؛ كالوقف على من لا يجوز الوقف عليه ثم على المساكين. فهذا يصح؛ لأنه جمع في الوقف بين من لا يجوز وبين من يجوز. فصح؛ كما لو وقف على من يجوز ثم على من لا يجوز. ومصرفه ما تقدم ذكره. وثالثها: منقطعُ الوسطِ؛ كالوقف على من يجوز الوقف عليه ثم على من لا يجوز ثم على المساكين. فهذا أيضاً يصح؛ لأنه إذا صح منقطع الأول فلأن يصح متصله بطريق الأولى. ومصرفه بعد موت من يجوز ما تقدم ذكره؛ لأن الوسط هنا كالأول هناك. ورابعها: منقطعُ الانتهاء؛ كالوقف على من يجوز الوقف عليه كزيدٍ وعمروٍ وما أشبههما، ولم يذكر مآلاً، أو على من ذُكر ثم على جهةٍ يُعلم بحكم العادة انقراضها كبني فلان وليسوا بقبيلة. فهذا أيضاً يصح؛ لأنه وقفٌ معلومُ المصرِف في الجملة. فصح؛ كما لو كان متصل الانتهاء. ولأن الإطلاق إذا كان له عرفٌ حمل عليه؛ كنقد البلد. وعُرْف المصرف هاهنا أولى الجهات به، وهم من ذكر. فكأنه عنى ذلك. وثانيها: أن قوله: بعد انقراض من يجوز الوقف عليه يخرج الحكم المذكور فيما إذا قال: وقفتُ وسكتَ؛ لأنه ليس فيه من يجوز الوقف عليه حتى يُصرف بعد انقراضه إلى من تقدم ذكره. والحكم فيهما واحدٌ؛ لاشتراكهما في عدم تعيين جهة الصرف. وثالثها: أن قوله بعد ذكر الورثة: وقفاً عليهم: يدل بمنطوقه على أنه إذا انصرف الوقف إلى الورثة يكون ذلك وقفاً، وبمفهومه على أنه إذا انصرف إلى أقرب العصبة لا يكون وقفاً؛ لأنه ذكر ذلك في إحدى الروايتين دون الأخرى. قال المصنف في المغني بعد الحكم بالوقف للورثة: قال القاضي: ويكون وقفاً

عليهم. ثم قال: وظاهر كلام الخرقي خلافه؛ لأنه ترك ذكر الوقف هاهنا. وقال في الرواية الأخرى: يكون وقفاً على أقرب العصبة. فتخصيصه إحدى الروايتين بذكر الوقف يدل على أنه لا يكون وقفاً على الأخرى. فإذاً الحاصل من كلام المصنف رحمه الله (¬1) هنا: تخصيص الورثة بكونه وقفاً عليهم، وفي المغني حاكياً عن الخرقي تخصيص العصبة بكونه وقفاً عليهم. فيخرج في المسألة فيها (¬2) وجهان: أحدهما (¬3): يكون وقفاً؛ لأنه إنما صرف إليهم بوقف مالكه له، والوقف يقتضي التأبيد. وثانيهما: لا يكون وقفاً؛ لأنهم صرف إليهم لكونهم أولى، وذلك لا يستلزم الوقف. قال: (وإن قال: وقفتُه سنة لم يصح. ويحتمل أن يصح. ويصرف بعدها مصرف المنقطع). أما كون وقف ما ذكر لا يصح على المذهب؛ فلأن ذلك ينافي التأبيد. وأما كونه يحتمل أن يصح؛ فلأن غاية ما يُقَدَّر في ذلك أنه منقطع الانتهاء، وقد بيّنا صحته. وأما كونه يُصرف بعد السنة مصرف المنقطع؛ فلأنه منقطع الانتهاء. فكان مصرفُه مصرفَه. قال: (ولا يُشترط إخراج الوقف عن يده في إحدى الروايتين). أما كون الوقف لا يشترط إخراجه عن يد الواقف في رواية؛ فلأن الوقف تبرعٌ يمنع البيع والهبة والميراث. فلزم بمجرده؛ كالعتق. فعلى هذا إذا تلفّظ بالوقف بشرطه لزم وإن لم يُخرجه عن يده. وأما كونه يشترط ذلك في روايةٍ؛ فلأنه تبرعٌ. فلم يلزم بمجرده؛ كالهبة والوصية. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: فيهما. (¬3) ساقط من هـ.

والأولى أصح. قاله صاحب النهاية فيها وفي مختصره؛ لما تقدم. وفارق الهبة والوصية من حيث إنها تمليك. والوقف تحبيس الأصل وتمليك المنفعة. فكان بالعتق أشبه. فكان ملحقاً به.

فصل [في أحكام الموقوف عليه] قال المصنف رحمه الله: (ويَملك الموقوفُ عليه الوقفَ. وعنه: لا يملكه. ويملك صوفَهُ، ولبنَهُ، وثمرتَهُ، ونفعَه). أما كون الموقوف عليه يملك الوقف على المذهب؛ فلأن الوقف نقلٌ للملك. فملكه المنتقل إليه؛ كالهبة والوصية. وأما كونه لا يملكه على روايةٍ؛ فلأنه إزالة ملكٍ عن العين والمنفعة، على وجهِ القربة (¬1). بتمليك المنفعة. فلم ينتقل إلى صاحب المنفعة؛ كالعتق. ولأنه لو انتقل إليه؛ لافتقر إلى قبوله؛ كسائر الأملاك. والأول أولى؛ لما ذكر. ولأنه سببٌ لم يخرج به الملك عن الماليّة. فوجب أن ينتقل إليه؛ كالهبة والبيع. وفارق العتق من حيث إنه إخراج عن حكم الماليّة. ولأنه لو كان تمليكاً للمنفعة المجردة لم يلزم؛ كالعارية والسكنى. وكلام الإمام أحمد في الرواية الأخرى محمولٌ على أن الموقوف عليه لا يملك التصرف في الرقبة. جمعاً بين الروايتين. فإن قيل: فعدم ملكه التصرف (¬2) فيها يدل على عدم ملكه لها. قيل: لا يلزم من عدم التصرف في الرقبة عدم الملك. بدليل أم الولد. فإنه يملكها، ولا يملك التصرف في رقبتها. وأما كونه يملك صوفه ولبنه؛ فلأنهما كثمرته وهو يملكها؛ لما يأتي. وأما كونه يملك ثمرته؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «إن شئتَ حَبَّستَ أصلَها وتصدّقتَ بثمرتها» (¬3). وأما كونه يملك نفعه؛ فلأن ذلك من نمائه. فكان للموقوف عليه؛ كالثمرة. ¬

_ (¬1) في هـ: والقربة. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأن المقصود من الوقف الانتفاع بمنافعه؛ لأن الرقبة لا يمكن الانتفاع ببيعها ولا هبتها ولا سائر ما يوجب نقل الملك فيها. قال: (وليس له وطء الجارية. فإن فعل فلا حد عليه ولا مهر. وإن أتت بولدٍ فهو حرٌّ، وعليه قيمته يشترى بها ما يقوم مقامه، وتصير أم ولده تعتق بموته، وتجب قيمتها في تركته يشترى بها مثلها تكون وقفاً). أما كون الموقوف عليه ليس له وطء الجارية الموقوفة؛ فلأنه لا يؤمن (¬1) حبلها. فتنقص قيمتُها وتتلف. ولأن ملكه ناقص، والوطء لا يُباح معه. وأما كونه لا حد عليه؛ فلأن شبهة الملك تَدرأ الحد. فكيف الملك نفسه. وأما كونه لا مهر عليه؛ فلأنه لو وجب لوجب له، والإنسان لا يجب عليه شيء وجب لنفسه. وأما كون الولد حراًّ؛ فلأنه من وطء شبهة. وأما كون الواطئ عليه قيمتُه؛ فلأنه فوّت رقّه. وأما كونه يشترى بالقيمة ما يقوم مقامه؛ فلأن القيمة بدلٌ عن الوقف. فوجب أن تردّ في مثله. وأما كون الموطوءة تصير أم ولدٍ للواطئ؛ فلأنه أحبلها بِحُرٍّ في ملكه. فإن قيل: إذا قلنا لا يملك الموقوفُ عليه الوقفَ هل تصير أم ولده؟ قيل: لا. صرح به المصنف في المغني. وعلله بأنه وطئ غير مملوكته. وأما كونها تعتق بموته؛ فلأن هذا شأن أم الولد (¬2). وأما كون قيمتها تجب في تركته؛ فلأنه أتلفها على من بعده من البطون. وأما كونه يشترى بالقيمة مثل الموطوءة تكون وقفاً فلينجبر على البطن الثاني ما فاتهم. قال: (وإن وطئها أجنبي بشبهةٍ فأتت بولدٍ: فالولد حرٌ، وعليه المهر لأهل ¬

_ (¬1) في هـ: يؤمن من. (¬2) في هـ: ولد.

الوقف، وقيمة الولد. وإن أُتْلفت فعليه قيمتها يشترى بها مثلهما (¬1). ويحتمل أن يملك قيمة الولد هاهنا، ولا تلزمه قيمته إن أولدها). أما كون الولد فيما ذكر حراًّ؛ فلأنه من وطءِ شبهة. وأما كون الواطِئ عليه المهر لأهل الوقف؛ فلأنه عوض المنفعة، وهي مستحقة لأهل الوقف. وأما كونه عليه قيمة الولد؛ فلأن رقِّه فات بسببٍ من جهته. وأما كونه عليه قيمة الأم إذا أتلفت (¬2)؛ فلأنه إتلافٌ حصل في ملك الغير أو في مستحق الغير. فوجبت القيمة؛ كما لو أتلفت مملوكة لإنسان، أو أم ولده. وأما كونه يشترى بقيمتها مثلهما على المذهب؛ فلما تقدم. ولأنه أقرب إلى الوفاء بشرط الواقف. وقوله: يشترى بهما: المراد قيمة الأم وقيمة الولد؛ لما ذكر. وأما كونه يحتمل أن يملك الموقوف عليه قيمة الولد فيما ذكر هاهنا وأنه لا يلزمه قيمة الولد إن أولدها: أما الأول؛ فلأنه يملك النماء والولد من النماء. وأما الثاني؛ فلأن ما لا يملك قيمته لا تلزمه قيمته. قال: (وله تزويج الجارية، وأخذ مهرها. وولدها وقف معها. ويحتمل أن يملكه). أما كون الموقوف عليه له تزويج الجارية؛ فلأنه عقدٌ على منفعتها. فكان للموقوف عليه ذلك؛ كالإجارة. وأما كونه له أخذ مهرها؛ فلأنه بدل المنفعة، وهو يستحق المنفعة. وأما كون ولدها وقفاً معها على المذهب؛ فلأن ولد كل ذات رحم يثبت لها حرمةٌ حكمُه حكمها؛ كأمّ الولد والمكاتبة. وأما كونه يحتمل أن يملكه؛ فلأنه من نمائها. أشبه بقيّة نمائها. ولأن نسبة الولد إلى الوالدة كنسبة الثمرة إلى الشجرة، وهو يملك ثمرة الشجرة. فكذلك يملك ولد الموقوفة. ¬

_ (¬1) في هـ: مثلها. (¬2) في هـ: تلفت.

قال: (وإن جنى الوقف خطأ فالأرش على الموقوف عليه. ويحتمل أن يكون في كسبه). أما كون أرش جناية الوقف خطأ على الموقوف عليه على المذهب؛ فلأنه ملكه. ولأنه لا يمكن تعلقها برقبته؛ لأنه لا يجوز بيعه. فيتعين أن يكون على الموقوف عليه. وأما كونه يحتمل أن يكون في كسبه؛ فلأنه لما تعذر تعلقه برقبته لما ذكر وجب أن يتعلق بأقرب الأشياء بالرقبة، والكسب أقربها. ولأن النكاح لما تعذر تعلق حقوقه برقبة الزوج تعلقت بكسبه. فكذلك هاهنا. قال: (وإذا وقف على ثلاثة، ثم على المساكين: فمن مات منهم رجع نصيبه إلى الآخرين). أما كون ما ذُكر يرجع إلى الآخرين؛ فلأنهما من الموقوف عليهم أولاً، وعودُه إلى المساكين مشروطٌ بانقراض الثلاثة؛ لأنه رتّبَ الاستحقاق بلفظ: "ثم" التي هي للترتيب. فيكون استحقاق المساكين متأخراً عن استحقاق الثلاثة. وأما قوله: على ثلاثة فمن باب (¬1) التمثيل؛ لأن حكم الاثنين والأربعة ونحوهما كذلك. ¬

_ (¬1) في هـ: مات.

فصل [في شرط الواقف] قال المصنف رحمه الله: (ويُرجع إلى شرط الواقف في قسمه على الموقوف عليه، وفي التقديم والتأخير، والجمع والترتيب، والتسوية والتفضيل، وإخراج من شاء بصفة وإدخاله بصفة، وفي الناظر فيه، والإنفاق عليه، وسائر أحواله. فإن لم يشترط ناظراً فالنظر للموقوف عليه. وقيل: للحاكم، وينفق عليه من غلته). أما كونه يُرجع إلى شرط الواقف في جميع ما تقدم ذكره؛ فلأن الوقف متلقىً من جهته. فاتبع شرطه. ولأن عمر وقف وشرط فيه شروطاً (¬1)، ولو لم يجب اتباع الشرط لم يكن في اشتراطه فائدة. و«لأن ابن الزبير وقفَ على ولدهِ، وجعل لِلْمَرْدُودَةِ من بناتهِ أن تَسكنَ غيرَ مُضرةٍ ولا مُضرٍ بها. فإذا استغنتْ بزوجٍ فلا حقَ لها فيه» (¬2). فعلى هذا: معنى القسمة أن يقول: لزيدٍ كذا ولعمروٍ كذا (¬3). ومعنى التقديم: أن يَقف على أولاده مثلاً، ويقول: يقدم الأفقه منهم، أو الأدين، أو ما أشبه ذلك. ومعنى التأخير أن يقول: لولد بني فلان كذا بعد أخذ ولدي (¬4) فلان كذا. ومعنى الجمع: أن يقف على أولاده وأولاد أولاده ونسله وعقبه. ومعنى الترتيب: أن يجعل استحقاق بطن مرتباً على غيره وله ألفاظ: أحدها: أن يقف على أولاده ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم. ¬

_ (¬1) سبق ذكر حديث عمر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) علقه البخاري في صحيحه 3: 1021 كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضاً أو بئراً واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين. وأخرجه الدارمي في سننه (3295) 2: 289 كتاب الوصايا، باب في الوقف. (¬3) في هـ: كذا وكذا. (¬4) ساقط من هـ.

الثاني: أن يقف على أولاده وإن نزلوا: الأعلى فالأعلى، أو الأقرب فالأقرب، أو الأول فالأول. الثالث: أن يقف على أولاده. فإذا انقرضوا فعلى أولاد أولاده. ومعنى التسوية: أن يقف على أولاده بينهم بالسوية. ومعنى التفضيل أن يقول: للواحد الثلث وللآخر الثلثان. ومعنى إخراج من شاء بصفة وإدخاله بصفة ما تقدم من قصة ابن الزبير في بناته (¬1) ونحوه. ومعنى الناظر أن يقول: فلان الناظرُ. فإن مات ففلان. ومعنى الإنفاق أن يقول: يعمّر الوقف من المكان الفلاني أو من الكل. وأما كون النظر للموقوف عليه على المذهب إذا لم يشترط ناظراً؛ فلأن الريع له، والرقبة: على الصحيح. وأما كونه للحاكم على قولٍ؛ فلأن له النظر بالولاية العامة. فحيث لم يصرح الواقف بناظرٍ يجب أن يدخل تحت ولايته العامة. ولا بد أن يُلحظ في الخلاف المذكور كون الموقوف عليه معيناً. فإن كان غير معين كالفقراء ونحو ذلك كان النظر للحاكم (¬2) بلا خلاف؛ لأن ما تقدم من العلة في كون النظر للموقوف عليه موجود في الموقوف عليه المعين مفقودة في الموقوف عليه غير المعين. وأما كونه يُنفق عليه من غلته؛ فلأن في الإنفاق عليه إبقاءً له، ولا جهة له أولى من ريعه. ولأن العرف يقتضي ذلك. فيكون مُراداً عرفاً. ولا بد أن يلحظ في هذا القول أن الواقف لم يعين جهة الإنفاق في الوقف. جمعاً بينه وبين ما تقدم. ¬

_ (¬1) سبق ذكره قريباً. (¬2) ساقط من أ.

قال: (وإن وقف على ولده، ثم على المساكين: فهو لولده الذكور والإناث بالسوية. ولا يدخل فيه ولد البنات. وهل يدخل ولد البنين؟ على روايتين). أما كون الوقف المذكور للذكور والإناث؛ فلأن اللفظ يشمل الكل. وأما كونه بالسوية بينهم؛ فلأنه أضافه إليهم إضافة على السواء. فكان بينهم على السوية؛ كما لو وهب لهم شيئاً أو وصّى لهم بشيء أو أقرّ لهم به. ولأن الله تعالى لما شرّك بين ولد الأم في الميراث (¬1) كانوا فيه على السواء. فكذا هاهنا. وأما كونه لا يدخل فيه ولد البنات؛ فلأنه لا ينسب إليه. وأما كونه يدخل ولد البنين على روايةٍ؛ فلأن ولد الابن ينتسب إليه ويدخل في الإطلاق؛ لأن الله تعالى لما قال: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] دخل فيه ولد الابن. وأما كونه لا يدخل على روايةٍ؛ فلأن ولد الابن لا يُسمى ولداً حقيقة بل مجازاً، وآية الميراث دلت قرينةٌ على إرادةِ الولد وإن سفل. فحمل اللفظ على مجازه لا على حقيقته. قال: (وإن وقف على عقبه، أو ولد ولده، أو ذريته: دخل فيه ولد البنين. ونقل عنه: لا يدخل فيه ولد البنات. ونقل عنه في الوصية: يدخلون فيه، وذهب إليه بعض أصحابنا وهذا مثله. وقال أبو بكر وابن حامد: يدخلون في الوقف إلا أن يقول: على ولد ولدي لصلبي فلا يدخلون). أما كون ولد البنين يدخل في ذلك؛ فلأنه ولد ولده حقيقة وانتساباً. فدخل في ذلك. وأما كون ولد البنات لا يدخل على المذهب؛ فلأنه لا ينتسب إليه. قال الشاعر: بَنونا بنو أبنائنا، وبناتُنا ... بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدِ ولأن الله تعالى لما قال: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] لم يدخل فيه ¬

_ (¬1) وذلك في قوله تعالى: {وإن كان رجلٌ يورث كلالة أو امرأةٌ ... إلخ} [النساء: 12].

ولد البنات، وكذا قوله: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} (¬1) [النساء: 11]. ولذلك لا تحجب الأم ولد البنت (¬2). فإن قيل: الكلام في شمول ولد الولد لذلك لا في شمول الولد له. قيل: المراد من الآية الولد وولد الولد وإن سفل. بدليل دخول ولد الابن بالاتفاق فكأنه قال: يوصيكم الله في أولادكم وأولاد أولادكم. وهلمّ جرّا. وأما كونه يدخل على قول بعض أصحابنا؛ فلأن أحمد نص عليه في الوصية. وحكم الوقف والوصية واحد. والحجة فيه أن الله تعالى قال: {ونوحاً هدينا من قبلُ ومن ذريته داود وسليمان} إلى قوله: {وعيسى} [الأنعام: 84 - 85] وهو ابن ابنته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن: «إن ابني هذا سيد» (¬3)، وكان ابن ابنته. ولأن ولد البنت يدخل في التحريم الدال عليه: {حُرِّمت عليكم أمهاتُكم وبناتُكم} [النساء: 23]. وأما كونه يدخل إذا لم يقل: على ولد ولدي لصلبي على قول أبي بكر؛ فلما تقدم من الأدلة. وأما كونه لا يدخل إذا قال ذلك على قوله؛ فلأنه ليس من صلبه. وسوّى المصنف رحمه الله هنا بين قول ابن حامدٍ وبين قول أبي بكر. وقال في المغني: قال ابن حامد: يدخل فيه ولد البنات. ثم قال: وقال أبو بكر: إن قال: لصلبي لم يدخل، وإلا دخل. قال: (وإن وقف على بنيه، أو بني فلان: فهو للذكور خاصة. إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم). أما كون الوقف للذكور خاصة إذا لم يكن بنو فلان قبيلة؛ فلأن "بني" وضع لذلك حقيقة قال الله تعالى: {أَصْطَفى البناتِ على البنين} [الصافات: 153]، وقال تعالى: {أَمِ اتخذ مما يخلقُ بناتٍ وأصفاكم بالبنين} [الزخرف: 16]، وقال: {زُيِّنَ للناس ¬

_ (¬1) في أ: فإن كان له ولد فلأمه السدس. (¬2) في هـ: تحجب الأم عن الثلث ولد البنت. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2557) 2: 962 كتاب الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي رضي الله عنهما: «ابني هذا سيد ... ».

حبُّ الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران: 14]، وقال: {المالُ والبنونَ زينةُ الحياة الدنيا} [الكهف: 46]. وقد أخبر في موضع آخر أنهم لا يشتهون البنات بقوله: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون? وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مُسْوَداًّ وهو كظيم} [النحل: 57 - 58]. وأما كونه يدخل فيه النساء إذا كانوا قبيلة؛ فلأنه يقال: جاريةٌ من بني هاشم، وامرأةٌ من بني بكر. ولذلك لما قال الله: {يا بني آدم} [الأعراف: 26]، ولما قال: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70]: دخل فيه الذكر والأنثى. وأما كونه لا يدخل فيه أولاد النساء من قبيلةٍ غير القبيلة المذكورة؛ فلأنهم (¬1) لا ينتسبون إلى القبيلة الموقوف عليها بل إلى غيرها فلم يدخل في مسمى الوقف عليها. قال: (وإن وقف على قرابته، أو على قرابة فلان: فهو للذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشمٍ بسهم ذوي القربى. وعنه: إن كان يصلُ قرابته من قبل أمه في حياته صُرف إليهم، وإلا فلا). أما كون الوقف المذكور للذكر والأنثى من أولاد من ذُكر على المذهب؛ فلما علل المصنف. رُوي «أن الله تعالى لما أنزل: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى} [الحشر: 7]-يعني قربى النبي صلى الله عليه وسلم- أعطى النبيُّ صلى الله عليه وسلم قرابته إلى بني هاشمٍ. لم يجاوزهم. ولم يعط من هو أبعد منهم؛ كبني عبد شمسٍ وبني نوفلٍ، ولا قرابته من جهة أمه وهم بنو زهرة» (¬2). فيجب حمل مطلق كلام ¬

_ (¬1) في أ: فلأنه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2980) 3: 146 كتاب الخراج، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى. ولفظه عن جبير بن مطعم قال: «لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب، وترك بني نوفل وبني عبد شمس، فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وقرابتنا واحدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد. وشبك بين أصابعه». وأخرجه النسائي في سننه (4137) 7: 130 كتاب قسم الفيء. نحوه.

الموصي على المطلق من كلام الله، ويجب تفسيره بما فسره به. فإن قيل: أعطى بني المطلب وهم كبني عبد شمس. قيل: قد علل إعطاءهم بأنهم لم يفارقوا بني هاشمٍ في جاهليةٍ ولا إسلام. وأما كونه يُصرف إلى قرابة الأم (¬1) وهم أقرباؤه من جهة أمه إن كان يصلهم في حياته، وإلا فلا على روايةٍ؛ فلأن عطيتهم في حياته قرينةٌ دالةٌ على إرادتهم بالعطية؛ لما تقدم. والأول أصح؛ لما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ولأنهم (¬2) لا يجوز إعطاؤهم إذا لم يكن يصلهم في حال حياته. فكذلك إذا كان يصلهم. ويمكن أن يجعل إعطاؤهم في حال حياته دليلاً على عدم دخولهم؛ لأنه لو أراد مساواة الحي بالميت لصرح بدخولهم. قال: (وأهل بيته بمنزلة قرابته. وقال الخرقي: يُعطى من قبل أبيه وأمه). أما كون أهل بيته بمنزلة قرابته على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحلُ الصدقةَ لي ولا لأهلِ بيتي» (¬3)، وفي حديث زيد بن أرقم: «أُذَكِّرُكُمُ الله في أهلِ بيتي. قال: قلنا: منْ أهلُ بيته؟ نساؤه. قال: لا. أصله وعشيرتهُ الذين حرموا الصدقة بعدَه: آلُ علي، وآلُ العباس، وآلُ جعفر، وآلُ عقيل» (¬4). وأما كونه يُعطى من قبل أبيه وأمه على قول الخرقي؛ فلأنه من أهل بيته. قال: (وقومه ونسباؤه كقرابته. والعترة هم: العشيرة. وذووا رحمه: كل قرابةٍ له من جهة الآباء والأمهات). أما كون قومه ونسبائه كقرابته؛ فلأنهما سواء معنى. فكذا يجب أن يكون ¬

_ (¬1) في هـ: الأهم. (¬2) في هـ: ولأنه. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (17699) 4: 186. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (2408) 4: 1873 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

حكماً. وأما كون العترة هم العشيرة؛ فلأن ابن قتيبة قال ذلك. ويروى عن أبي بكر أنه قال: «نحن عترة النبي صلى الله عليه وسلم» (¬1). وأما كون ذوي رحمه كل قرابة له من جهة الآباء والأمهات؛ فلأن الرحم يشملهما وهي في القرابة من جهة الأم أكثر استعمالاً. فإذا لم يجعل ذلك مرجحاً فلا أقل من أن لا يجعل مانعاً. قال: (والأيامى والعزاب: من لا زوج له من الرجال والنساء. ويحتمل أن يختص الأيامى بالنساء، والعزاب بالرجال). أما كون الأيامى من لا زوج له من الرجال والنساء على المذهب: أما من الرجال؛ فلأن الشاعر قال: فإن تنكحي أنكح، وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم وأما من النساء فظاهر؛ لأنه يختص بهن على قول. فلأن يدخلْنَ فيه بطريق الأولى. قال الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى} [النور: 32]. والمراد النساء ممن ذكر، وفي الحديث: «أعوذ بالله من بوار الأيم». وأما كون العزاب من لا زوج له من الرجال والنساء على المذهب؛ فلأنه يقال: رجل عزب، وامرأة عزبة. ولأن الرجل إنما سمي عزباً؛ لانفراده وهذا موجودٌ في المرأة. وأما كونه يحتمل أن يختص الأيامى بالنساء، والعزاب بالرجال؛ فلأن ذلك هو المتبادر إلى الفهم عُرفاً. فوجب حمل اللفظ عليه. قال: (فأما الأرامل فهن النساء اللاتي فارقهن أزواجهن. وقيل: هو للرجال والنساء). أما كون الأرامل هن النساء اللاتي فارقهن أزواجهن على المذهب؛ فلأن هذا الاسم لا يفهم منه في العُرف إلا ذلك. وأما كون ذلك للرجال وللنساء على قولٍ؛ فلأن الشاعر قال: هذي الأرامل قد قَضَّيْتَ حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر والأول أولى؛ للعرف. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 166 كتاب الوقف، باب الصدقة في العترة.

ولأن الأرامل جمع أرملة. فلا يكون جمعاً للذكر؛ لأن اختلاف (¬1) المفرد يقتضي اختلاف الجمع. والشِّعْرُ المذكور لا حجة فيه؛ لأنه لو شمل لفظ الأرامل الذكر والأنثى لقال: حاجتهم؛ لأن تذكير الضمير عند اجتماع المذكر والمؤنث لازم. فإن قيل: لم سمى نفسه أرملاً؟ قيل: تجوُّزاً. ولهذا وصف نفسه بأنه ذَكَر. قال: (وإن وقف على أهل قريته، أو قرابته: لم يدخل فيهم من يخالف دينه. وفيه وجه آخر: أن المسلم يدخل وإن كان الواقف كافراً). أما كون من يخالف دينُه دينَ الواقف لا يدخل في الوقف المذكور مسلماً كان أو كافراً على المذهب؛ فلأن الظاهر من حال الموصي أنه لم يرد من يخالف دينه لما بينهما من المنافاة. فيكون ذلك قرينة صارفة للفظ عن عمومه. ولأن الله تعالى لما أطلق آية الميراث، والأمر بإعطاء ذي القربى: لم يدخل فيهم الكفار. فكذلك هذا. وأما كون المسلم يدخل في ذلك وإن كان الواقف كافراً على وجهٍ؛ فلأن عموم اللفظ يدل على ذلك. والأولى جعل الوقف لهم فلا يُصرف الوقف عن الأولى مع اقتضاء اللفظ له. بخلاف الذمي. والأول أولى؛ لأن المانع من دخول الكافر في وقف المسلم القرينة المذكورة، وهي موجودة إذا كان الواقف مسلماً وفي أهل قريته وقرابته كافر. فوجب استواؤهما في المنع. قال: (وإن وقف على مواليه، وله موال من فوق ومن أسفل: تناول جميعهم. وقال ابن حامد: يختص الموالي من فوق). أما (¬2) كون ما ذكر يتناول الجميع على المذهب؛ فلأن الاسم يتناول الجميع حقيقة وعُرفاً. فدخل الجميع في ذلك؛ كما لو وقف على إخوته، وله إخوة لأبوين وإخوة لأب. ولأنه لو حلف: لا كلمتُ مواليّ حنث بكلام أيهم كان. فكذا هاهنا. وأما كونه يختص الموالي من فوق على قول ابن حامد؛ فلأنه أقوى جَنَبَةً. ¬

_ (¬1) في هـ: الاختلاف. (¬2) في هـ: وأما.

بدليل ثبوت الميراث لهم. قال: (وإذا وقف على جماعةٍ يمكن حصرهم واستيعابهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم، وإلا جاز تفضيل بعضهم على بعض والاقتصار على واحدٍ منهم. ويحتمل أن لا يجزئه أقل من ثلاثة). أما كونه يجب التعميم والتسوية فيما إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم واستيعابهم كبني فلان الذين ليسوا قبيلة؛ فلأن اللفظ يقتضي ذلك ولا مانع منه. فوجب أن يكون الأمر كذلك؛ كما لو أقرّ لهم بشيء أو وهبهم شيئاً. وأما كونه يجوز تفضيل بعضهم على بعض إذا لم يكن فيهم ذلك كالفقراء والمساكين وبني هاشم ويني تميم وما أشبه ذلك؛ فلأن الملحوظ في مثل ذلك الجنس لا كل فرد. وأما كونه يجوز الاقتصار على واحدٍ منهم على المذهب؛ فلأن مقصود الواقف أن لا يتجاوز الجنس، وذلك يحصل بالدفع إلى واحدٍ منهم. وأما كونه يحتمل أن لا يجزئه أقل من ثلاثة؛ فلأنها أقل الجمع. وحكى المصنف في المغني أن الأول قياس المذهب، والثاني رواية عن أحمد. قال: (ولا يُدفع إلى واحدٍ أكثرُ من القدر الذي يُدفع إليه من الزكاة إذا كان الوقف على صنفٍ من أصناف الزكاة. والوصية كالوقف في هذا الفصل). أما كونه لا يُدفع إلى صنفٍ من أصناف الزكاة أكثرُ من القدر الذي يُدفع إليه من الزكاة إذا كان الوقف على ذلك كالفقراء والمساكين، أو بقية الأصناف المذكورة في باب الزكاة؛ فلأن مطلق كلام الآدمي محمول على مطلق كلام الله تعالى. فعلى هذا إن كان الموقوف عليه الفقراء لم يدفع إلى واحدٍ منهم زيادةٌ على خسمين درهماً؛ لأنه لا يعطى أكثر من ذلك من الزكاة على ظاهر المذهب، وإن كان غارماً أو مكاتباً لم يُعطَ أكثر من غرمه وكتابته؛ لأنه لا يعطى أكثر من ذلك في الزكاة. وأما كون الوصية كالوقف في هذا الفصل؛ فلأنها تساويه معنى. فوجب أن تساويه حكماً.

فصل [الوقف عقد لازم] قال المصنف رحمه الله: (والوقف عقدٌ لازم. لا يجوز فسخه بإقالةٍ ولا غيرها. ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه فيباع ويصرف ثمنه في مثله). أما كون الوقف عقداً لازماً؛ فلأن جوازه ينافي مقتضاه؛ لأن مقتضاه التأبيد، وذلك لا يقبل الزوال. وأما كونه لا يجوز فسخه بإقالةٍ ولا غيرها؛ فلأن ذلك شأن العقود اللازمة المقتضية للتأبيد. وأما كونه لا يجوز بيعه إذا لم تتعطل منافعه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «إن شئتَ حَبَّستَ أصلَها وسبّلتَ ثمرتها. غيرَ أنه لا يباعُ أصلُها ولا يوهبُ ولا يورث» (¬1). وأما كونه يباع إذا تعطلت منافعه؛ كدارٍ انهدمت، أو أرض خربت وعادت مَوَاتاً ولم يمكن عمارتها؛ فلما روي عن عمر «أنه كتبَ إلى سعد لما بلغه أنه قد نقبَ بيت المال بالكوفة: أن انقل المسجد الذي بالتمَّارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد. فإنه لن يزال في المسجد مصل». وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يُظهر أحدٌ خلافه. فكان إجماعاً. ولأن في بيعه استبقاءَ الوقف بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته؛ كما لو استولد الموقوف عليه الجارية الموقوفة أو قتلها. ولأن الجمود على العين مع تعطيلها تضييع للغرض. ولأن الهدي لو عطب ذُبح في الحال، وإن كان يختص بموضع دون موضع؛ لأنه لما لم يكن استبقاء المنفعة بالكلية استوفي منها ما أمكن. فكذا هاهنا. وأما كونه يُصرف ثمنه في مثله؛ فلأنه أقرب إلى غرض الواقف. وظاهر قول المصنف رحمه الله: في مثله يقتضي أن ذلك متعين. وقال في المغني: ظاهر كلام الخرقي لو صرف في غير جنسه جاز؛ لأن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

المقصود المنفعة لا الجنس. قال: (وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد). أما كون الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو؛ مثل: أن يتحطم بحيث لا يصلح للقتال؛ كالوقف إذا تعلطت منفعته في كونه يباع؛ فلأنه مثله معنى. فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما كونه يُشترى بثمنه ما يصلح للجهاد؛ فلأجل المحافظة على غرض الواقف. قال: (وكذلك المسجد إذا لم يُنتفع به في موضعه. وعنه: لا تباع المساجد. لكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر. ويجوز بيع بعض آلته وصرفها في عمارته). أما كون المسجد المذكور كالوقف المتقدم ذكره في جواز البيع على المذهب؛ فلما تقدم ذكره فيه. وأما كونه لا يجوز بيعه في رواية؛ فلأن المسجد آكد من غيره. بدليل جواز وضع الخشب على غيره دونه. فعلى هذا ينقل آلته إلى مسجدٍ آخر؛ لما فيه من النفع العائد إلى الوقف. ويباع بعض آلته؛ لأجل عمارة ذلك. قال: (وما فضل من حصره وزيته عن حاجته جاز صرفه إلى مسجد آخر والصدقة به على فقراء المسلمين). أما كون ما فضل مما ذكر يجوز صرفه إلى مسجدٍ آخر؛ فلأنه انتفاع في جنس ما وقف له. فكان صرفاً له في مثله. ولأن ذلك يجري مجرى الهدي إذا عطب قبل مَحِلِّه، والهدي يفعل به ذلك. فكذا هذا. وأما كونه يتصدق بذلك على فقراء المسلمين؛ فلأن نفع المسجد عامٌ، ونفع الفقراء كذلك. وقال أبو الخطاب: على فقراء جيرانه؛ لأنهم أحق بمعروفه.

قال: (ولا يجوز غرس شجرة في المسجد. فإن كانت مغروسة فيه جاز الأكل منها. قال أبو الخطاب: إذا لم يكن (¬1) بالمسجد حاجة إلى ثمنها. فإن احتاج صرف ذلك في عمارته). أما كونه لا يجوز غرس شجرة في المسجد؛ فلأنه تصرف بغير إذن الواقف وشرطه. وأما كونه يجوز الأكل منها إذا كانت مغروسة فيه؛ فلأن الشجرة تبعٌ للمسجد. فكما يجوز لكل أحد الانتفاع به. فكذلك له الأكل من الشجرة التي فيه. وأما كونه لا يجوز الأكل إذا كان المسجد محتاجاً إلى ثمنها؛ فلأن حاجة المسجد مقدمة على غيره. فعلى هذا يصرف ثمنها في عمارته؛ لأنها مقدمة على غيرها. فإن قيل: قول المصنف رحمه الله: قال أبو الخطاب للتنبيه على الخلاف أو على تقييد ما أَطلق قبلُ. قيل: ظاهره التقييد لا الخلاف؛ لأنه ذكره بغير واو. ولأن المسجد إذا كان محتاجاً لا وجه لجواز الأكل، ولذلك (¬2) قال بعض أصحابنا: إنما جاز الأكل؛ لأن الجيران عادتهم عمارة المسجد؛ فإذا لم يفعلوا ذلك تعين صرف ثمن ما فيه من الشجرة في عمارته. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: وكذلك.

باب الهبة والعطية

باب الهبة والعطية الهبة والعطية والصدقة والهدية معانيها متقاربة. وقد يقوم بعضها مقام بعضٍ. إلا أن الأغلب أن من قَصد بعطائه التقرب سمي صدقة، ومن قصد المحبة سمي هدية. والهبة والعطية تشمل الكل. وكل ذلك مندوبٌ إلى فعله؛ لما فيه من التوسعة على الغير. وقد حثّ الله سبحانه وتعالى على ذلك في مواضع من كتابه: - منها: قوله تعالى: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين} [البقرة: 177]. - ومنها قوله تعالى: {إن تُبدو الصدقات فَنِعِمَّا هي وإن تُخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]. - ومنها (¬1) قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حُبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} [الإنسان: 8]. وفي الحديث: «من أطعمَ مُؤمناً طَعاماً أطعمهُ اللهُ من ثمارِ الجنة، ومن سقاهُ ماءً على ظَمأٍ سقاهُ اللهُ من الرحيقِ المختومِ، ومن كسَا عُرياناً كساهُ الله من خُضْرِ الجنة» (¬2). رواه بنحوه أبو داود والترمذي. وقال: «تهادوا تحابوا» (¬3). وفي السنة من ذلك كثيرٌ لا يكاد يحصى. قال المصنف رحمه الله: (وهي: تمليكٌ في حياته بغير عوض. فإن شَرط فيها عوضاً معلوماً صارت بيعاً. وعنه: يغلب فيها حكم الهبة. وإن شرط ثواباً ¬

_ (¬1) في هـ: منها. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1682) 2: 129 كتاب الزكاة، باب في فضل سقي الماء. وأخرجه الترمذي في جامعه (2449) 4: 633 كتاب صفة القيامة. (¬3) أخرجه مالك في موطئه (16) 2: 693 كتاب حسن الخلق، باب ما جاء في المهاجرة. عن عطاء بن أبي مسلم الخراساني. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 169 كتاب الهبات، باب التحريض على الهبة والهدية صلة بين الناس، عن أبي هريرة.

مجهولاً لم يصح. وعنه أنه قال: يرضيه بشيء. فعلى هذا إن لم يرض فله الرجوع فيها، أو في عوضها إن كانت تالفة). أما قول المصنف رحمه الله: "وهي تمليكٌ في حياته بغير عوضٍ"؛ فبيان لمعنى الهبة والعطية؛ لأنهما هما المذكوران قبل. وقوله: "تمليك" يخرج ما ليس بتمليك؛ كالعارية. فإنها إباحة. وقوله: "في حياته" يخرج الوصية؛ لأنها تمليكٌ بعد الموت. وقوله: "بغير عوض" يخرج عقود المعاوضات؛ كالبيع والإجارة ونحوهما. وأما كون الهبة تصير بيعاً إذا شَرط فيها عوضاً معلوماً على المذهب؛ فلأنها تمليكٌ بعوضٍ معلوم. فكانت بيعاً؛ كما لو قال: ملكتكَ هذا بدرهم. وأما كونها يغلب فيها حكم الهبة على روايةٍ؛ فلأنه وجد لفظها الصريح. فكان المغلب فيها الهبة؛ كما لو لم يشرط عوضاً. وفائدة هذا الخلاف أنه إذا قيل: أنها بيعٌ ثبت فيها ضمان الدرك والخيار والشفعة وسائر أحكام البيع. وإذا قيل: أنها هبةٌ يغلب فيها حكم الهبة، لا يثبت فيها الأحكام المختصة بالبيع. وأما كونها لا تصح إذا شرط فيها ثواباً مجهولاً على المذهب؛ فلأن الجهالة في عقود المعاملات يفسدها، وهي موجودة (¬1) هاهنا. وأما كونه يرضيه بشيء على رواية؛ فلأن شرط الثواب ينفي التمليك بلا شيء، وروى أبو هريرة «أن أعرابياً وهبَ للنبي صلى الله عليه وسلم ناقةً. فأعطاهُ ثلاثاً فأبى. فزادَهُ ثلاثاً فأبى. فزادَهُ ثلاثاً فلما كملت تسعاً قال: رضيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد هَمَمْتُ أن لا أتّهِبَ إلا من قُرشِي أو أنْصَارِي أو ثَقَفِي أو دَوْسِي» (¬2). وظاهر هذه الرواية أن الهبة المشروط فيها العوض المجهول تصح. قال المصنف في المغني: ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أنها تصح؛ لأنها عقدٌ، تصح بغير عوض. فلأن تصح بعوضٍ مجهولٍ بطريق الأولى. وأما كون الواهب على هذه الرواية إن لم يرض فله الرجوع فيها؛ فلأنه يروى ¬

_ (¬1) في هـ: موجود. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (2687) 1: 295.

عن عمر أنه قال: «من وهبَ هبةً أراد بها الثواب فهو على هبتهِ يرجعُ فيها إذا لم يرضَ منها» (¬1). وأما كونه له الرجوع في عوضها إن كانت تالفة؛ فلأن كل عينٍ يجب ردّها إذا كانت باقية يجب ردّ عوضها إذا كانت تالفة. قال: (وتحصل الهبة بما يتعارفه الناس هبة من الإيجاب والقبول والمعاطاة المقترنة بما يدل عليها، وتلزم بالقبض. وعنه: تلزم في غير المكيل والموزون بمجرد الهبة). أما كون الهبة تحصل بما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن الهبة تمليكٌ. فتجب بالإيجاب والقبول والمعاطاة؛ كالبيع. ولأن الهبة أسهل من البيع. بدليل أنه يصح أن يكون عوضها مجهولاً على روايةٍ فإذا صح البيع بالمعاطاة. فلأن تصح الهبة بها بطريق الأولى. وأما كونها تلزم بالقبض فلا شبهة فيه؛ لأن القبض يؤكدها. وهو مشعرٌ بأنها لا تلزم بغير قبض. وهو صحيح. والأصل فيه ما روت عائشة «أن أبا بكر رضي الله عنه نَحَلَها جداد عشرين وَسْقاً من ماله بالغَابَةِ. فلما مرض قال يا بُنية! ما أحد أحبُ إليّ غنًى بعدي منكِ. ولا أحد أعزُّ عليّ فقراً منك. وكنت نَحَلْتُكِ جَداد عشرين وَسْقاً وددت أنكِ حُزْتِيه أو قبضتيه. وهو اليوم مال الوارث أخواكِ وأختاكِ. فاقتسموه على كتاب الله» (¬2). ويروى ذلك عن عمر (¬3)، ولم يعرف لهما مخالف فكان كالإجماع. ولو لزمت بغير القبض لما كان الأمر كذلك. ولأنها هبةٌ غير مقبوضةٍ. فلم تلزم بغير قبض؛ كالطعام المأذون في أكله. وأما كون غير المكيل والموزون يلزم بمجرد الهبة على روايةٍ؛ فلأن الهبة عقد لازم ينقل الملك. فلم يقف لزومه على القبض؛ كالبيع. ولأنه تبرع. فلا يفتقر فيه إلى القبض؛ كالوقف والوصية. والأول أصح؛ لما ذكر. ودليل الرواية الأخرى منقوض بالمكيل والموزون. فإنه عقد لازم وتبرع مع ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 182 كتاب الهبات، باب المكافأة في الهبة. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (40) 2: 576 كتاب الأقضية، باب ما لا يجوز من النحل. (¬3) أخرجه مالك في الموطأ (41) الموضع السابق.

اشتراط القبض فيه. قال: (ولا يصح القبض إلا بإذن الواهب. إلا ما كان في يد المتّهب فيكفي مضي زمن يتأتّى قبضه فيه. وعنه: لا يصح حتى يأذن في القبض. وإن مات الواهب قام وارثُه مقامَه في الإذن والرجوع). أما كون القبض لا يصح إلا بإذن الواهب إذا لم يكن في يد المتّهب؛ فلأنه لا يجب على الواهب تقبيضه. فوجب أن لا يصح القبض إلا بإذنه؛ كالرهن. وأما كونه يكفي مضي زمن يتأتّى قبضه فيه إذا كان في يد المتّهب على المذهب؛ فلأن إقراره له في يده بمنزلة إذنه في القبض. فلا حاجة إلى إذن صريح. وأما كونه لا يصح قبضه حتى يأذن الواهب فيه على روايةٍ؛ فكما لو لم يكن في يده. وأما كون وارث الواهب يقوم مقامه في الإذن والرجوع؛ فلأن كل واحدٍ منهما مستحقاً للواهب. فانتقل إلى وارثه؛ لقوله عليه السلام: «منْ تَرَكَ حَقاً فلِوَرثتِه» (¬1). قال: (وإن أبرأ الغريم غريمه من دينه، أو وهبه له، أو أَحَلَّه منه: برئت ذمته، وإن رد ذلك ولم يقبله). أما كون الغريم تبرأ ذمته إذا أبرأه غريمه من دينه؛ فلأنه إسقاط. فلم يفتقر إلى القبول؛ كالعتق والطلاق والقصاص والشفعة. وبهذا فارق هبة العين؛ لأن ذلك تمليكٌ، وهذا إسقاط. وأما كونه تبرأ ذمته إذا وهبه له أو أَحَلَّه؛ فلأن هبة ما في الذمة والإحلال منه؛ كالإبراء معنى. فكذا يجب أن يكون حكماً. قال: (وتصح هبةُ المشاع وكل ما يصح بيعه). أما كون هبة المشاع تصح؛ فلأن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2268) 2: 845 كتاب الاستقراض، باب الصلاة على من ترك دَيناً. عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه: «من ترك مالاً فلورثته». وأخرجه مسلم في صحيحه (1619) 3: 1237 كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته. عنه مثله.

قال: «سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءهُ رجلٌ ومعه كُبّةٌ من شَعْر. فقال: أخذتُ هذه من المغنم (¬1) لأصلح بَرْدَعَةً لي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لك» (¬2). وهذه هبة مشاع. و«لما جاء (¬3) وفد هوازن يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم [أن يرد عليهم] (¬4) ما غنم منهم. فقال: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» (¬5). وأما كون هبة ما يصح بيعه تصح؛ فلأن الهبة تمليك. فإذا صح البيع في شيء. علم أنه قابل للتمليك. قال: (ولا تصح هبةُ المجهول، ولا ما لا يُقدر على تسليمه). أما كون هبة المجهول لا تصح؛ فلأن الهبة عقد تمليك. فلم تصح في المجهول؛ كالبيع. فإن قيل: الوصية تمليكٌ وتصح. قيل: قد خولف في الوصية في أشياء. بخلاف الهبة. ثم يمكن أن يقال تمليك في حياة. أشبه البيع. فلا ترد إذاً؛ لأنها تمليكٌ بعد الموت. قال: (ولا يجوز تعليقها على شرط، ولا شرط ما ينافي مقتضاها؛ نحو: أن لا يبيعها ولا يهبها. ولا توقيتها؛ كقوله: وهبتك هذا سنة. إلا في العُمْرَى. وهو أن يقول: أعمرتُكَ هذه الدار، أو أَرْقَبْتُكَها، أو جعلتُها لك عمركَ أو حياتكَ: فإنه يصح. وتكون للمعمر ولورثته من بعده. وإن شرط رجوعها إلى المعمر (¬6) عند موته، أو قال: هي لآخرنا موتاً: صح الشرط. وعنه: لا يصح وتكون للمعمر ولورثته). أما كون الهبة لا يجوز تعليقها على شرطٍ؛ نحو أن يقول: إن جاء زيدٌ فقد ¬

_ (¬1) في هـ: الغنم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2694) 3: 63 كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال. وأخرجه النسائي في سننه (3688) 6: 263 كتاب الهبة، هبة المشاع. (¬3) في هـ: جاز، وهو تصحيف. (¬4) ساقط من هـ. (¬5) أخرجه النسائي في سننه (3688) 6: 263 كتاب الهبة، هبة المشاع. (¬6) سقط لفظي: إلى المعمر من هـ.

وهبتك هذه الدار، وما أشبه ذلك؛ فلأنها تمليكٌ في حياة لمعين. فلم يجز تعليقها على شرطٍ؛ كالبيع. وأما كونها لا يجوز فيها شرط ما ينافي مقتضاها؛ كما مثل المصنف رحمه الله؛ فلأنها عقدٌ شرط فيه ما ينافي مقتضاه. فلم يجز؛ كالبيع. وأما كونها لا يجوز توقيتها في غير [العمرى؛ كما مثل المصنف رحمه الله؛ فلأنه تعليقٌ لانتهاء الهبة. أشبه ابتداؤها. وأما كون] (¬1) العمرى والرقبى تصح؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العمرى جائزة لأهلها والرقبى جائزة لأهلها» (¬2). رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُعْمِرُوا ولا تُرْقِبُوا» (¬3). نهى. والنهي يقتضي الفساد. قيل: لو اقتصر على ذلك لكان كذلك. لكنه لم يقتصر بل قال بعده: «فمنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فهي للذي أُعْمِرَهَا حياً وميتاً» (¬4). فيكون النهي إذاً ورد على سبيل الإعلام بأن من أعمر أو أرقب بعد ذلك يكون للمعمر والمرقب (¬5) ولورثته من بعده. وأما كونها للمعمر ولورثته من بعده؛ فلقوله عليه السلام: «فهيَ للذي أُعْمِرَهَا حياً وميتاً ولِعَقِبِه» (¬6) رواه مسلم. وأما كونها إذا شرط رجوعها إلى المعمر عند موته، أو قال: هي لآخرنا موتاً يصح على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون على شروطهم» (¬7)، ولما ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3558) 3: 295 كتاب البيوع، باب في الرقبى. وأخرجه الترمذي في جامعه (1351) 3: 633 كتاب الأحكام، باب ما جاء في الرقبى. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3556) 3: 295 كتاب البيوع، باب من قال فيه ولعقبه. وأخرجه النسائي في سننه (3732) 6: 273 كتاب العمرى، ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى. (¬4) سيأتي تخريجه في الحديث التالي. (¬5) في هـ: والمرقبى. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه (1625) 3: 1246 كتاب الهبات، باب العمرى. (¬7) أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح. وأخرجه الترمذي في جامعه (1352) 3: 634 كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس.

روى جابر قال: «إنما العُمْرَى التي أجازَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولَ: هي لكَ ولعَقِبِكَ. فأما إذا قال: هي لكَ ما عِشْتَ. فإنها ترجعُ إلى صَاحبهَا» (¬1). متفق عليه. وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأنه لو صح لكانت العمرى والرقبى هبة مؤقتة، والهبة لا يجوز توقيتها. فإن قيل: مقتضى هذا أن لا تصح العمرى والرقبى. قيل: الشرط ليس على المعمر، وإنما هو على الورثة، وإذا (¬2) كان كذلك لم يكن الشرط مع المعقود معه بل مع غيره. فلم يؤثر في البطلان (¬3). وأما كون ذلك للمعمر ولورثته؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فهيَ للذي أُعمرَهَا حياً وميتاً ولعَقِبِه» (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: «لا رقبى. فمن أرقبَ شيئاً فهو له حياته وموته» (¬5). ولأن الشرط إذا فسد بقي مطلق العقد، وذلك موجبٌ لنقله إلى الورثة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1625) 3: 1246 كتاب الهبات، باب العمرى. ولم أجده في البخاري. (¬2) في هـ: إذا. (¬3) في ج: في الصحة. (¬4) سبق تخريجه قريباً. (¬5) أخرجه النسائي في سننه (3732) 6: 273 كتاب العمرى، ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2382) 2: 796 كتاب الهبات، باب الرقبى.

فصل [في عطية الأولاد] قال المصنف رحمه الله: (والمشروع في عطية الأولاد القسمة بينهم على قدر ميراثهم. فإن خص بعضهم أو فضّله فعليه التسوية بالرجوع أو إعطاء الآخر حتى يستووا. فإن مات قبل ذلك ثبت للمعطي. وعنه: لا يثبت وللباقين الرجوع. اختاره أبو عبدالله بن بطة). أما كون المشروع في عطية الأولاد ما ذُكر؛ فلأن الله تعالى قسم الميراث بينهم كذلك، وأولى ما اقتدي بقسمة الله تعالى. وفي الحديث عن النعمان بن بشير قال: «تصدقَ عليّ أبي ببعض ماله. فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضَى حتى يَشهدَ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أَكُلَّ ولدكَ أعطيتَ مثلَه؟ قال: لا. قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم. فرجعَ أبي. فردَّ تلكَ الصدقة» (¬1). وفي لفظ: «لا تُشهدني على جَور» (¬2). وفي لفظ: «سوِّ بينهم» (¬3). حديث صحيح متفق عليه. ولأن تخصيص بعضهم أو تفضيله يورث البغضة والعداوة وقطيعة الرحم فمنع منه؛ كتزويج المرأة على عمتها وخالتها. ولأن العطية في الحياة إحدى حالتي العطية. فوجب أن يكون كحالة الموت. ولأن العطية في الحياة استعجال لما يكون بعد الموت. فيجب أن يكون على حسبه؛ كما أن معجل الزكاة يخرجها على صفة أدائها بعد وجوبها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2447) 2: 914 كتاب الهبة وفضلها، باب الإشهاد في الهبة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1623) 3: 1242 كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2507) 2: 938 كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جورٍ إذا أشهد. وأخرجه مسلم في صحيحه (1623) 3: 1243 الموضع السابق. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (18385) 4: 268.

ولأن الذكر أحوج من الأنثى. من قبل أن الصداق والنفقة على الذكر، والأنثى بالعكس. وفي قول المصنف رحمه الله: في عطية الأولاد تنبيهٌ على أن عطية الأقارب غيرهم لا يشرع فيها ذلك. وصرح بذلك في المغني؛ لأنها عطية لغير الأولاد. فلم يجب ذلك فيها؛ كما لو كانوا غير وارثين. ولأن (¬1) الأصل إباحة تصرف الإنسان في ماله كيف شاء. وإنما وجب ذلك بين الأولاد بالخبر، وليس (¬2) غيرهم في معناهم. فيبقى على مقتضى الأصل. وقال أبو الخطاب: حكمهم حكم الأولاد؛ لأنهم في معناهم. وفرّق المصنف بينهم من حيث إن الأولاد استووا في بر والدهم، وفي الحديث: «أيسركَ أن يَسْتَوُوا في بِرّكَ؟ قال: نعم. قال: سوِّ بينهم» (¬3). ولأن الأب يرجع في عطية ابنه. فيتمكن من التسوية بالرجوع. بخلاف بقية الأقارب. وأما كون المعطي المذكور: عليه التسوية بالرجوع، أو إعطاء الآخر حتى يستووا؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض ألفاظه: «سوِّ بينهم» (¬4). ولأن كل واحدٍ من الأمرين تسوية. وأما كون ذلك يثبت للمعطى له إذا مات المعطي على المذهب؛ فلأن أبا بكر رضي الله عنه لما وهب لعائشة النحل قال: «وددتُ لو أنكِ حُزْتِيه» (¬5). فلو تمكّن الوارث من أخذه بعد الحيازة لم يكن في ذلك فائدة. ولأنها عطية لولده. فلزمت بالموت؛ كما لو انفرد. وأما كونه لا يثبت على رواية؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جوراً بقوله: «لا أَشهد ¬

_ (¬1) في هـ: فلأن. (¬2) في هـ: ليس. (¬3) أخرجه النسائي في سننه (3680) 6: 260 كتاب النحل، ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر النعمان بن بشير في النحل. نحوه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2375) 2: 795 كتاب الهبات، باب الرجل ينحل ولده. نحوه. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

على جَور» (¬1). والجور حرام لا يحل للفاعل فعله ولا للمعطى له تناوله، والموت لا يخرجه عن كونه جوراً. فيجب ردّه. و«لأن أبا بكر وعمر أمراَ قيسَ بن سعد بِرَدّ قسمةِ أبيه حين ولدَ لهُ ولدٌ لم يكنْ لهُ علمٌ بِه». فعلى هذا لبقية ورثة المعطي الرجوع؛ لأنه لم يثبت للمعطى له. فكان لبقية ورثة المعطي الرجوع كموروثهم (¬2). ولأن الرجوع حق لموروثهم. فكان لهم؛ لقوله عليه السلام: «من تَرَكَ حقاً فلوَرَثَتِه» (¬3). قال: (وإن سوّى بينهم في الوقف، أو وقف ثلثه في مرضه على بعضهم: جاز. نصّ عليه. وقياس المذهب: أن لا يجوز). أما كون التسوية بين أولاده في الوقف؛ مثل: أن يجعل للذكر مثل الأنثى يجوز. بخلاف الهبة على المنصوص؛ فلأن الوقف لا ينتقل رقبته إلى الموقوف عليه على قول، وعلى القول بالانتقال ينتقل على وجهٍ من القصور؛ لأنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا التصرف في رقبته بحالٍ. بخلاف الهبة. ولأنه يجوز أن يخصص بعضهم بالوقف دون بعض؛ لأن الزبير خصص المردودة من بناته دون المستغنية (¬4). فلأن يجوز التفضيل بينهم بطريق الأولى. وأما كونها لا يجوز على قياس المذهب؛ فلأن الصحيح من المذهب أن الموقوف عليه يملك الوقف لما تقدم. وعلى تقدير عدم الملك هو يملك المنفعة بلا خلافٍ وهي المقصودة. وبالغ القاضي حتى قال: المستحب في الوقف التسوية؛ لأن القصد القربة على وجه الدوام وقد استووا فيها. وقال المصنف في المغني (¬5): ما ذكره القاضي لا أصل له. وهو ملغى بالميراث ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: وأما كون الباقين من ورثة المعطي لهم الرجوع؛ فلأنه لم يثبت للمعطى. فكان لبقية ورثة المعطى كمورثهم. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) ساقط من هـ.

والعطية. وحديث الزبير يدل على الاختصاص لمعنى مقصودٍ، وذلك يجوز مثله في العطية. فلا فرق. وأما كونه يجوز وقف ثلثه على بعض ورثتِه في مرضِ موتهِ على المذهبِ؛ «فلأنّ عمرُ جعلَ أمرَ وقفهِ إلى حفصةَ تَأكلُ منه وتشتري رَقيقاً» (¬1). ولأن الوقف ليس في معنى المال؛ لأنه لا يجوز التصرف فيه. فهو كعتق الوارث. وأما كونه لا يجوز على قياس المذهب؛ فلما تقدم. وظاهر كلام المصنف رحمه الله: أنه لا نقل عن الإمام فيما ذكر من أنه لا يجوز؛ لأنه جعل ذلك قياس المذهب. وفي وقف الثلث روايةٌ مصرحٌ بها. ذكرها أبو الخطاب وغيره. ورجح المصنف رحمه الله في المغني عدم الجواز وعلله بنحو ما تقدم. ولأنه تخصيصٌ لبعض الورثة بماله في مرضه. فمنع منه؛ كالوصية. وحديث عمر ليس فيه تخصيص لبعض الورثة بالوقف؛ لأنه جعل (¬2) إليها الولاية، وليس ذلك وقفاً عليها. قال: (ولا يجوز لواهبٍ أن يرجع في هبته. إلا الأب. وعنه: ليس له الرجوع. وعنه: له الرجوع إلا أن يتعلق به حق أو رغبة؛ نحو: أن يتزوج الولد أو يفلس). أما كون الواهب لا يجوز أن يرجع في هبته إذا كان غير أب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العائدُ في هبتهِ كالعائدِ في قَيْئِه» (¬3)، وفي لفظ: «كالكلبِ يعودُ في قَيْئِه» (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2879) 3: 117 كتاب الوصايا، باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2478) 2: 924 كتاب الهبة، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته. وأخرجه مسلم في صحيحه (1622) 3: 1241 كتاب الهبات، باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2449) 2: 915 كتاب الهبة، باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها. وأخرجه مسلم في الموضع السابق.

متفق عليه. وأما كون الأب يجوز أن يرجع على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليسَ لأحدٍ أن يُعطي عطيةً فيرجعَ فيها. إلا الوالدَ فيما يعطي ولدَه» (¬1) رواه الترمذي. وقال: حديث صحيح. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يَرجعُ واهبٌ في هبتهِ. إلا الوالدَ من ولَدِه» (¬2). وأما كونه ليس له الرجوع على روايةٍ؛ فلعموم ما تقدم. وأما كونه له الرجوع إن لم يتعلق بالموهوب حقٌ أو رغبة، وكونه ليس له الرجوع إن تعلق به ما ذكر على روايةٍ: أما الأول؛ فلعموم الأحاديث المتقدمة. وأما الثاني؛ فلما فيه من الإضرار بالغير. وصار ذلك شبيهاً بالعبد المأذون إذا لزمه ديون فإنها تتعلق بذمة سيده على روايةٍ؛ لأن السيد حينئذٍ كالغارّ لمن عامله وهذا موجودٌ هنا. قال: (وإن نقصت العين، أو زادت زيادة منفصلة: لم تمنع الرجوع والزيادة للابن. ويحتمل أنها للأب. وهل تمنع المتصلة الرجوع؟ على روايتين). أما كون الزيادة المنفصلة لا تمنع الرجوع؛ فلأن الرجوع في الأصل دون النماء ممكن. وأما كون الزيادة للابن على المذهب؛ فلأنها حدثت في ملكه. وأما كونه يحتمل أنها للأب؛ فلأنها زيادة في الموهوب. فملكها الأب؛ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3539) 3: 291 كتاب البيوع، باب الرجوع في الهبة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1299) 3: 593 كتاب البيوع، باب ما جاء في الرجوع في الهبة. وأخرجه النسائي في سننه (3690) 6: 265 كتاب الهبة، رجوع الوالد فيما يعطي ولده وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2377) 2: 795 كتاب الهبات، باب من أعطى ولده ثم رجع فيه. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (3689) 6: 264 كتاب الهبة، رجوع الوالد فيما يعطي ولده وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2378) 2: 796 كتاب الهبات، باب من أعطى ولده ثم رجع فيه.

كالمتصلة. وأما كون المتصلة تمنع الرجوع على المذهب؛ فلأن الرجوع بدون الزيادة المتصلة متعذرٌ، وبها يلزم منه أخذ ملك الغير. وأما كونها لا تمنع على روايةٍ؛ فلأنها زيادة. فلم تمنع الرجوع؛ كالمنفصلة. قال: (وإن باعه المتهب، ثم رَجَع إليه بفسخٍ أو إقالةٍ: فهل له الرجوع؟ على وجهين. وإن رجع إليه ببيعٍ أو هبةٍ لم يملك الرجوع). أما كون ما يَرجع إلى الموهوب له بفسخٍ أو إقالةٍ هل للواهب الرجوع؟ على وجهين؛ فلأن منشأه أن الملك العائد بذلك هل هو كالملك الذي لم يزُل، أم لا؟ وفيه خلافٌ تقدم ذكره في المفلس. فعلى القول بأنه كالملك الذي لم يزل يرجع؛ لأنه كالمشبه (¬1) به. وعلى القول بأنه كالذي زال لا يرجع لذلك. وأما كون ما رجع إليه (¬2) ببيعٍ أو هبةٍ لا يملك الواهب الرجوع فيه؛ فلأن الملك ثانياً غير الملك أولاً. قال: (وإن وهبه (¬3) المتهب لابنه لم يملك أبوه الرجوع. إلا أن يرجع هو). أما كون الأب لا يملك الرجوع إذا لم يرجع ابنه؛ فلأن ملك الابن زال. فلم يملك أبوه الرجوع؛ كما لو وهبه لغير ابنه. وأما كونه يملك الرجوع إذا رجع إليه؛ فلأن المانع من الرجوع زوال ملك الابن، وقد عاد إليه. ¬

_ (¬1) في هـ: كالشبه. (¬2) في هـ: به. (¬3) في هـ: هبه.

قال: (وإن كاتبه أو رهنه لم يملك الرجوع. إلا أن ينفكّ الرهن وتنفسخ الكتابة. وعن أحمد في المرأة تهب زوجها مهرها: إن كان سألها ذلك ردّه إليها رضيت أو كرهت؛ لأنها لا تهب له إلا مخافة غضبه أو إضرارٍ بها بأن يتزوج عليها). أما كون الواهب لا يملك الرجوع في المكاتب والمرهون ما داما كذلك؛ فلأن حق المرتهن والمكاتب متعلقٌ بذلك، والرجوع يبطله. فلم يجز؛ لما فيه من الإضرار بالغير. وأما كونه يملك الرجوع إذا انفك الرهن وانفسخت الكتابة؛ فلأن المنع كان لحق المرتهن والمكاتب، وقد زال. وأما قول المصنف: وعن أحمد في المرأة تهب زوجها إلى آخره فتنبيهٌ على أن المرأة إذا وهبت زوجها مهرها لها أن ترجع به في روايةٍ مع الشرط المذكور وإن كانت غير أبٍ؛ لأنه لما قال قَبْلُ: ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته كان ذلك شاملاً للزوجة وغيرها. وفي الزوجة خلافٌ ذكره هاهنا، وعلله بما تقدم ذكره. وتحقيق الكلام في ذلك: أن في الزوجة في الجملة إذا وهبت زوجها روايات: إحداها: لا رجوع لها؛ لما تقدم. والثانية: لها الرجوع؛ لأنه روي عن عمر أنه قال: «إن النساءَ يعطينَ أزواجهنّ رَهْبَةً ورغبَة. فأيما امرأةٍ أعطتْ زَوْجَهَا شيئاً ثم أرادَتْ أن تَقْتَصِرَهُ: فهيَ أحقُ بِه» (¬1) رواه الأثرم. والثالثة: إن وهبته مهرها عن مسألة فلها الرجوع ويجب على الزوج ردّه إليها وإن كرهت؛ لأن الظاهر من حالها يدل على عدم طيب نفسها بذلك وإباحة ذلك مشروطة بطيب النفس. بدليل قوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفساً} [النساء: 4]. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (16562) 9: 115 كتاب المواهب، باب هبة المرأة لزوجها.

فصل [في مال الولد] قال المصنف رحمه الله: (وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء. ويتملكه مع حاجته وعدمها في صغره وكبره إذا لم تتعلق حاجة الابن به). أما كون الأب له أن يأخذ من مال ولده ما شاء؛ فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أطيبَ ما أكلتُمْ من كَسْبِكمْ، وإن أولادَكمْ من كَسْبِكُم» (¬1). رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي اجتاحَ مالي. فقال: أنتَ ومالُكَ لأبِيك» (¬2). رواه الطبراني في معجمه. ورواه غيره وزاد (¬3): «إن أولادَكُمْ من أطيبِ كَسبكم. فَكلُوا من أموالهم» (¬4). وأما كونه له أن يتملكه؛ فلأنه من جاز له أخذ شيء جاز له أن يتملكه. دليله: الأشياء المباحة. وأما كونه له ذلك مع الحاجة وعدمها ومع صغر الولد وكبره؛ فلعموم ما تقدم. وإنما اشترط عدم حاجة الولد في ذلك؛ لأن حاجة الإنسان مقدمة على دَيْنه. فلأن تقدم على أبيه بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3529) 3: 289 كتاب البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده. أخرجه الترمذي في جامعه (1358) 3: 639 كتاب الأحكام، باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده. واللفظ له. وأخرجه النسائي في سننه (4450) 7: 241 كتاب البيوع، باب الحث على الكسب. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2290) 2: 768 كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (6961) 7: 230 عن سمرة، و (10019) 10: 99 عن ابن مسعود. وأخرجه في الصغير 1: 8 عن ابن مسعود أيضاً. (¬3) في هـ: وزاد غيره. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (2292) 2: 769 كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده.

قال: (وإن تصرف فيه قبل تملكه ببيعٍ أو عتق أو إبراء من دينٍ لم (¬1) يصح تصرفه. وإن وطئ جارية ابنه فأحبلها صارت أم ولدٍ له، وولده حرٌ لا تلزمه قيمته، ولا مهر، ولا حد. وفي التعزير وجهان). أما كون الأب لا يصح تصرفه في مال ولده قبل تملكه؛ فلأن الأب لا يملك ملك ولده. بدليل أن الابن كامل التصرف في ماله يصح بيعه له وهبته ووطء جاريته، ولو كان ذلك لغيره أو مشتركاً لم يجز جميع ذلك. وكون الأب له حق الانتزاع. بدليل ما تقدم لا يلزم منه صحة التصرف. دليله: ما إذا وهبه شيئاً فإنه له أن يرجع فيه مع أنه لا يصح تصرفه فيه. وأما كون جارية ولده تصير أم ولدٍ له إذا أحبلها؛ فلأن إحبال الأب لها يوجب نقل ملك الجارية إليه. وحينئذٍ يكون الوطء مصادفاً للملك، وذلك يوجب صيرورتها أم ولدٍ له. ضرورة مصادفة الوطء الملك. وأما كون الولد حراً؛ فلأنه من وطء شبهة. [وأما كون الأب لا تلزمه قيمة الولد ولا مهر؛ فلأن الابن لا يجب له على أبيه شيء؛ لما يأتي. وأما كونه لا يلزمه حدٌ؛ فلأنه وطءٌ بشبهة] (¬2)، وذلك يدرأ الحد. وأما كونه يعزر في وجه؛ فلأنه وطئ وطئاً محرماً لا حد فيه. أشبه ما لو وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره. وأما كونه لا يعزر (¬3) في وجهٍ؛ فلأنه لا يقتص منه بالجناية على ولده. فلا يعزر بالتصرف في ماله. قال: (وليس للابن مطالبة أبيه بدين، ولا قيمة متلفٍ، ولا أرش جنايةٍ، ولا غير ذلك. والهدية والصدقة نوعان من الهبة). أما كون الابن ليس له مطالبة أبيه بدينٍ؛ فلما روي «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبيهِ يقتضيهِ دَيناً عليه فقال: أنتَ ومالُكَ لأبِيك». رواه الخلال بإسناده. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) مثل السابق. (¬3) في هـ: يعز.

وروى الزبير بن بكار بإسناده «أن رجلاً استقرضَ من ابنهِ (¬1) مالاً. فحبسهُ فأطالَ في حبسهِ. فاستعدَى عليه الابنُ عليَّ بن أبي طالب. وذكرَ قصتهُ في شعرٍ. فأجابهُ أبوه بشعرٍ أيضاً. فقال علي بن طالب: قد سمعَ القاضي ... ومن ربى الفَهَم المال للشيخ جزاء بالنعم ... يأكله برغم أنف من رَغَم من قال قولاً غير ذا فقد ظلم ... وجار في الحكم وبئس ما جَرَم». ولأن ذلك إحدى نوعي الحقوق. فلم يملك الابن مطالبة أبيه به؛ كحقوق الأبدان. وأما كونه ليس له مطالبته ببقية ما ذُكر؛ فلأنه بالتلف والجناية يصير في ذمته. فهو دينٌ أو كالدين. وأما كون الهدية والصدقة نوعين من الهبة؛ فلأن الهبة التبرع بالمال في الحياة. فإن قصد بها المحبة كانت هدية، وإن قصد بها القربة كانت صدقة. ولأنهما اسمان يشملهما اسم الهبة. وذلك شأن نوعي الجنس. دليله: الإنسان والفرس مع الحيوان. ¬

_ (¬1) في هـ: أبيه.

فصل في عطية المريض قال المصنف رحمه الله: (أما المريض غير مرض الموت، أو مرضاً غير مخوفٍ؛ كالرمد، ووجع الضرس، والصّداع، ونحوه: فعطاياه كعطايا الصحيح سواء. تصح من جميع ماله. وإن كان مرض الموت المخوف؛ كالبرْسامِ، وذات الجنب، والرّعاف الدائم، والقيام المتدارك، والفالج في ابتدائه، والسّل في انتهائه، وما قال عدلان من أهل الطب (¬1) أنه مخوف: فعطاياه كالوصية في أنها لا تجوز لوارثٍ ولا تجوز لأجنبيٍ بزيادةٍ على الثلث إلا بإجازة الورثة؛ مثل: الهبة والعتق والكتابة والمحاباة). أما كون عطايا المريض غير مرض الموت أو مرضاً غير مخوف كعطايا الصحيح سواء تصح من جميع ماله؛ فلأن مقتضى الدليل صحة تصرف الإنسان في جميع ماله. تُرك العمل به في عطية المريض المرض المخوف المتصل بالموت؛ لما يأتي. فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما كون عطايا المريض مرض الموت المخوف؛ كما مثل المصنف رحمه الله؛ كوصيته في أنها لا تجوز لوارثٍ ولا لأجنبيٍ بزيادةٍ على الثلث: أما في العتق؛ فلما روى عمران بن حصين «أن رجلاً أعتقَ ستةَ أعبدٍ له عندَ موتهِ لم يكن له مالٌ غيرهم. فبلغَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعاهمْ فجزأهمْ ثلاثةَ أجزاءٍ. فأقرعَ بينهمْ. فأعتقَ اثنينِ وأَرَقَّ أربعة. وقالَ لهُ قَولاً شَديداً» (¬2). رواه مسلم. وأما في بقية التصرفات؛ فلأن العتق إذا لم يجز إلا من الثلث مع سرايته. فغيره أولى. ولأن العطية في المرض عطية في حال الظاهر منه الموت. فلم يجز لوارثٍ بشيء ¬

_ (¬1) في هـ: الطيب، وهو تصحيف. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1668) 3: 1288 كتاب الأيمان، باب من أعتق شركاً له في عبد. وأخرجه أبو داود في سننه (3958) 4: 28 كتاب العتق، باب فيمن أعتق عبيداً له لم يبلغهم الثلث. وأخرجه الترمذي في جامعه (1364) 3: 645 كتاب الأحكام، باب ما جاء فيمن يعتق مماليكه عند موته وليس له مال غيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ولا لأجنبيٍ بزيادةٍ على الثلث؛ كالوصية. وأما المرض غير (¬1) المخوف والمخوف؛ فكما ذكر المصنف رحمه الله. قال: (فأما الأمراض الممتدة؛ كالسل، والجذام، والفالج في دوامه. فإن صار صاحبها صاحب فراشٍ فهي مخوفة، وإلا فلا. وقال أبو بكر: فيه وجه آخر أن عطيته من الثلث). أما كون الأمراض المذكورة مخوفة إذا صار صاحبها صاحبَ فراش، وغير مخوفة إذا لم يصر على المذهب؛ فلأن العادة قاضية بذلك. وأما كون العطية من الثلث فيما ذكر من غير تفصيلٍ على قول أبي بكر؛ فلأنها مخوفة في الجملة. فوجب إلحاقها بالمخوف من غير تفصيلٍ؛ لمكان المخوف في الجملة. وحكى المصنف في المغني أن أبا بكر ذكر في صاحب الأمراض الممتدة وجهاً: أن عطيته من صلب ماله. ثم علله بأنه لا يخاف تعجيل الموت منه وإن كان لا يبرأ فهو كالهرم. وظاهر هذا التناقض. إلا أن يكون أبو بكر قال مرة: هو من الثلث ومرة هو من صلب المال. بيان التناقض إذا لم يكن كذلك: أن ما قاله في المغني: إما أن يحمل على غير صاحب الفراش أو عليهما: أما الأول؛ فظاهر. وأما الثاني؛ فلأن أحد مدلوليه غير صاحب الفراش فيجيء المعنى المذكور قبل. فإن قيل: هلاّ يحمل على صاحب الفراش؟ قيل: لأنه إن أريد الخصوص به صارت العطية من صاحب الفراش من صلب المال. فلا يتوجه قول أبي بكر أن عطية غير صاحب الفراش من الثلث؛ لأن من يخشى تلفه غالباً لا تكون عطيته من الثلث. فما ظنك بمن لا يخشى موته غالباً، وإن أريد به هو وغير صاحب الفراش فقد تقدم. وطريق السلامة من التناقض أن يكون النقل وجده مرة (¬2) كذا ومرة كذا. قال: (ومن كان بين الصفين عند التحام الحرب، أو في لجّة البحر عند هيجانه، ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) ساقط من هـ.

أو وقع الطاعون ببلده، أو قُدم ليُقْتَصّ منه، والحامل عند المخاض: فهو كالمريض. قال الخرقي: وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر. وقيل عن أحمد: ما يدل على أن عطايا هؤلاء من المال كله). أما كون من كان بين الصفين ... إلى الحامل عند المخاض كالمريض على المذهب؛ فلأن الغالب في هذه الصور حصول التلف. فكان ملحقاً بالمريض المخوف مرضه؛ لأنه في معناه من جهة الخوف. وأما كون الحامل إذا صار لها ستة أشهر كالمريض على قول الخرقي؛ فلأن ذلك وقت يمكن فيه الولادة، وهي من أسباب التلف. قال المصنف في المغني: والصحيح أنه إذا ضربها الطلق كان مخوفاً؛ لأنه ألمٌ شديدٌ يخاف منه التلف. وأما قبل ذلك فلا؛ لعدم الألم، واحتمال وجوده خلاف العادة. فلا يثبت الحكم لاحتمالٍ (¬1) بعيد. وأما كون عطايا من تقدم ذكره من المال كله على قولٍ عن أحمد؛ فلأنه لا مرض بهم. أشبهوا الصحيح الخالي عما ذكر. قال: (وإن عجز الثلث عن التبرعات المنجزة بُدئ بالأول فالأول. فإن تساوت قسّم بين الجميع بالحصص. وعنه: يقدم العتق). أما كون ما ذُكر يُبدأ بالأول فالأول؛ فلأن الأول فالأول استحق الثلث. فلم يسقط بما بعده. وأما كونه يقسم بين الجميع بالحصص على المذهب إذا تساوت؛ فلأنهم تساووا في الحق. فقسم بينهم بالحصص؛ كالميراث. وأما كونه يقدم العتق على روايةٍ؛ فلأنه آكد لكونه مبنياً على السراية والتغليب. قال: (وأما معاوضة المريض بثمن المثل فتصح من رأس المال، وإن كانت مع وارث. ويحتمل: أن لا تصح لوارث). أما كون معاوضة المريض بما ذكر تصح مع غير وارثٍ فلا شبهة فيه؛ لأنه إنما ¬

_ (¬1) في هـ: باحتمال.

يعتبر من الثلث التبرع. وليس هذا تبرعاً. وأما كونها تصح مع الوارث على المذهب؛ فلأنه لا تبرع فيها ولا تهمة. أشبه الأجنبي. وأما كونه يحتمل أن لا تصح؛ فلأنه لا يصح إقراره له. فلا يصح بيعه بالقياس عليه. فإن قيل: في إقراره له تهمة. بخلاف المعاوضة بثمن المثل. قيل: وفي المعاوضة تهمة؛ لأنه يحتمل أن يواطئه ويظهر دفع الثمن وليس الأمر كذلك في الباطن. قال: (وإن حابا وارثه: فقال القاضي: يبطل في قدر ما حاباه ويصح فيما عداه وللمشتري الخيار؛ لأن الصفقة تبعضت في حقه فإن كان له شفيع فله أخذه. فإن أخذه فلا خيار للمشتري. وإن باع المريض أجنبياً وحاباه وكان شفيعه وارثاً فله الأخذ بالشفعة؛ لأن المحاباة لغيره). أما (¬1) كون المعاوضة تبطل في قدر المحاباة؛ فلأن المحاباة (¬2) كالوصية، والوصية لوارث باطلة. فكذا المحاباة. وأما كونها تصح فيما عداه؛ فلأن البيع اقتضى الصحة والمانع منه فيما تقدم المحاباة. وهي هاهنا مفقودة. وأما كون المشتري له الخيار؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من أن الصفقة تبعضت في حقه وذلك أنه يصح البيع في بعض المبيع دون بعض، وذلك تبعيضٌ. وفيه ضرر. وأما كون الشفيع له أخذه إذا كان له؛ فلأن الشفعة تجب بالبيع الصحيح، وقد وُجد. وأما كون المشتري لا خيار له إذا أخذه الشفيع؛ فلأن ضرره يزول بأخذه؛ لأن الخيار ثبت لضرر التشقيص والتبعيض، وبأخذه بالشفعة يزول ذلك. وأما كون الوارث له الأخذ بالشفعة إذا باع المريض أجنبياً شريكاً له وحاباه؛ ¬

_ (¬1) في هـ: وأما. (¬2) سقط لفظي: فلأن المحاباة من هـ.

فلما علل المصنف رحمه الله من أن المحاباة لغيره. وفي تعليله تنبيهٌ على الفرق بين أن تكون المحاباة له، وبين أن تكون المحاباة لغيره ثم اتصلت إليه؛ لأن أصل المحاباة إنما منع منها في حق الوارث؛ لما فيها من التهمة في إيصال المال إلى بعض الورثة المنهي عنه شرعاً، وهذا المعنى مفقود فيما إذا أخذ بالشفعة ما وقعت فيه المحاباة. قال: (ويعتبر الثلث عند الموت. فلو أعتق عبداً لا يملك غيره، ثم ملك مالاً يَخرج من ثلثه تبينّا أنه عتق كله. وإن صار عليه دين يستغرقه (¬1) لم يعتق منه شيء). أما كون الثلث يعتبر في العطية عند الموت؛ فلأن العطية ملحقةٌ بالوصية، والثلث فيها يعتبر عند الموت. فكذا ما أُلحق بها. وأما كوننا نتبين أن العبد عتق كله إذا أعتقه وهو لا يملك غيره، ثم ملك مالاً يخرج من ثلثه؛ فلأنه يخرج من الثلث حين الموت، وذلك هو المعتبر؛ لما تقدم. وأما كونه لا يعتق من العبد شيءٌ إذا صار عليه دينٌ يستغرقه؛ فلأن العتق إنما ينفذ من الثلث بعد الدين، وهذا لم يُخَلِّف شيئاً يَفْضُل عن الواجب من الدين. ¬

_ (¬1) في هـ: يستغرق قيمته.

فصل [فيما تفارق العطية الوصية] قال المصنف رحمه الله: (وتفارق العطية الوصية في أربعة أشياء: أحدها: أنه يُبدأ بالأول فالأول منها. والوصايا يُسوّى بين المتقدم والمتأخر منها. والثاني: أنه لا يملك الرجوع في العطية. بخلاف الوصية. الثالث: أنه يعتبر قبوله للعطيّة عند وجودها، والوصية بخلافه). أما كون العطية تفارقُ الوصية في البداءة بالأول فالأول منها دون الوصايا؛ فلأن الأول فيها راجحٌ على ما بعده. ضرورة سبقه له في الاستحقاق. بخلاف الأول في الوصية فإنه وإن سبق في القول إلا أنه مساوٍ لما بعده في النقل عند الموت. وأما كونها تفارقها في أن المعطي لا يملك الرجوع فيها. بخلاف الوصية؛ فلأن الهبة تلزم بالإيجاب والقبول والقبض، وذلك موجودٌ في العطية دون الوصية. ولأن قوله عليه السلام: «العائدُ في هبتهِ كالعائدِ في قَيْئه» (¬1) يدل على عدم الرجوع في العطية، وليست الوصية في معناها. وأما كونها تفارقها في أنه يعتبر القبول للعطية عند وجودها. بخلاف الوصية؛ فلأن العطية تمليكٌ في الحال. فاعتبر قبولها عند وجود ذلك. بخلاف الوصية فإنها تمليكٌ بعد الموت. فاعتبر عند وجوده. قال: (والرابع: أن الملك يثبت في العطية من حينها، ويكون مُراعاً. فإذا خرج من الثلث عند الموت تبينا أن الملك كان ثابتاً من حينه. فلو أعتق في مرضه عبداً أو وهبه لإنسان ثم كسب في حياة سيده شيئاً ثم مات سيده فخرج من الثلث كان كسبه له إن كان معتقاً وللموهوب له إن كان موهوباً، وإن خرج بعضه فلهما من كسبه بقدر ذلك). أما كون العطية تفارق الوصية في أن الملك يثبت فيها من حين العطية. بخلاف الوصية؛ فلأنها تمليكٌ في الحال. فوجب أن تثبت حينئذٍ. عملاً بموجبه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون الملك مراعاً؛ فلأن الثلث معتبرٌ عند الموت. وأما كوننا نتبين ثبوت الملك حين العطية إذا خرج من الثلث عند الموت؛ فلأن المانع من ثبوته كونه زائداً على الثلث. وقد تبين خلافه. وأما كون الكسب للمعتق إن كان معتقاً، وللموهوب له إن كان موهوباً فيما إذا أعتق في مرضه عبداً أو وهبه لإنسان ثم كسب في حياة سيده شيئاً ثم مات سيده فخرج من الثلث؛ فلأن الكسب تابعٌ لملك الرقبة. فإذا خرج من الثلث تبينا أن العتق والهبة نافذان فيه. فيتعين كون الكسب للمعتق، والموهوب له للتبعية. وأما كون المعتق والموهوب له لهما من الكسب بقدر ما يخرج إذا خرج بعضه؛ فلما ذكر من أن الكسب تابعٌ للرقبة. قال: (فلو أعتق عبداً لا مال له سواه. فكسب مثل قيمته قبل موت سيده: فقد عتق منه شيء، وله من كسبه شيء، ولورثة سيده شيئان فصار العبد وكسبه نصفين يعتق منه نصفه وله نصف كسبه وللورثة نصفهما. وإن كسب مثلي قيمته: صار له شيئان، وعتق منه شيء، وللورثة شيئان. فيعتق ثلاثة أخماسه وله ثلاثة أخماس كسبه والباقي للورثة. وإن كسب نصف قيمته: عتق منه شيء، وله نصف شيء من كسبه، وللورثة شيئان. فيعتق ثلاثة أسباعه، وله ثلاثة أسباع كسبه، والباقي للورثة. وإن كان موهوباً لإنسان فله من العبد بقدر ما عتق منه، وبقدره من كسبه). أما كون ما عتق في جميع ما تقدم شيئاً مُنَكَّراً؛ فلأن به ينفك الدَّوْر. وذلك أنه قد تقدم أن الكسب يتبع ما تنفذ (¬1) فيه العطية دون غيره، وذلك يلزم من الدَّوْر؛ لأن للعبد من كسبه بقدر ما عتق وباقيه لسيده فيزداد به مال السيد وتزداد الحرية لذلك ويزداد حقه من كسبه فينقص به حق السيد من الكسب وينقصُ بذلك قدر المعتق منه. وأما كون العبد له من كسبه شيءٌ إذا كسب مثل قيمته، وكونه يصير له شيئان إذا كسب مثلي قيمته، وكونه له نصف شيء إذا كسب نصف قيمته؛ فلما ¬

_ (¬1) في هـ: نفذ.

تقدم من أن الكسب يتبع العتق. فإذا عتق شيء وكان كَسَب مثل قيمته كان له من كسبه شيء؛ لأنه مثله. وإذا كان كسبه مثلي قيمته صار له شيئان؛ لأنهما مثلاه. وإذا كان كَسَب نصف قيمته كان له نصف شيء؛ لأنه مثله. وأما كون الورثة لهما شيئان في جميع ما ذكر؛ فلأن لهم مثلي ما عتق. وأما كون المعتق نصف العبد إذا كسب مثل قيمته؛ فلأن العبد إذا كانت قيمته مثلاً مائة وكسب مائة وقسمت ذلك على أربعة أشياء: شيء للمعتق، وشيء للعبد بكسبه، وشيئين للورثة حصل لكل شيء خمسون: فيعتق من العبد نصفه؛ لأنه عتق منه شيء. وقد تبين أن الشيء خمسون، وذلك نصف العبد، ويحصل من كسبه خمسون؛ لأن له بكسبه شيئاً، وقد تبين أنه خمسون، ويحصل للورثة مائة؛ لأن لهم منه شيئين. ثم إذا أردت تصحيح ذلك فَضُمَّ قيمة القدر المعتق إلى ما في يد الورثة يكن (¬1) الجميع مائة وخمسين. فقد عتق منها قدرُ خسمين وهو قدرُ الثلث. وقول المصنف رحمه الله: فصار العبد وكسبه نصفين معناه: أنه صار مقسوماً نصفين؛ لأن العبد لما استحق بعتقه شيئاً، وبكسبه شيئاً: كان له في الجملة شيئان، وللورثة شيئان. ومعلوم أن ذلك إذا اجتمع يكون للعبد نصفٌ وللورثة نصف إلا أن قسمة العبد والكسب على أربعة أشياء أجود من ضم الأشياء. ثم يقسم نصفين؛ [لأن بالأول يبين مقدار الشيء فيعلم مقدار العتق. بخلاف القسمة نصفين] (¬2) فإنه يحتاج إلى نظرٍ آخر؛ ليبين مقدار العتق. وأما كون المعتق ثلاثةَ أخماس العبد إذا كسب مثلي قيمته؛ فلأن العبد إذا كانت قيمته مثلاً مائة، وكسبه مثلي قيمته وهما مائتان، وقسمت مجموع ذلك وهو ثلاثمائة على خمسة أشياء: ثلاثة للعبد، وشيئين للورثة وجدت كل شيء يعدل ستين، وذلك ثلاثة أخماس العبد. وأما كون المعتق ثلاثةَ أسباعه إذا كَسَب نصف قيمته؛ فلأن العبد إذا كانت قيمته مثلاً سبعين، وكسب خمسة وثلاثين، وقسمت المائة والخمسة على ثلاثة ¬

_ (¬1) في هـ: يكون. (¬2) ساقط من هـ.

أشياء ونصف: للعبد شيء بعتقه، ونصف شيء بكسبه، وللورثة شيئان: وجدت الشيء يعدل ثلاثين، وذلك ثلاثة أسباع العبد. وأما كون الباقي للورثة في جميع ما ذكر؛ فلأنه ملكهم. وأما كون الموهوب له: له من العبد بقدر ما عتق؛ فلأن القدر الموهوب يعدل القدر المعتق. وأما كونه له من كسبه بقدر ما ملك من العبد؛ فلأن الكسب يتبع الملك. فيلزم أن يملك من الكسب بقدر ما ملك من العبد. قال: (وإن أعتق جارية ثم وطئها، ومهر مثلها نصف (¬1) قيمتها: فهو كما لو كَسَب نصف قيمتها يعتق منها ثلاثة أسباعها). أما كون المهر كالكسب؛ فلأن مهر الأمة من كسبها فكأنها كسبت نصف قيمتها. وأما كونها يعتق منها ثلاثة أسباعها؛ فلأنها لو كسبت نصف قيمتها لعتق منها ثلاثة أسباعها؛ لما تقدم. فكذا فيما هو بمنزلته، وفي هذا نظر من حيث إن الكسب يزيد به ملكُ السيد، وذلك يقتضي الزيادة في العتق، والمهر ينقصه، وذلك يقتضي نقصان العتق. قال: (ولو وهبها مريضاً آخر لا مال له أيضاً. فوهبها الثاني للأول: صحت هبة الأول في شيء، وعاد إليه بالهبة الثانية ثلثه بقي لورثة الآخر ثلثا شيء وللأول شيئان فلهم ثلاثة أرباعها ولورثة الثاني ربعها). أما كون الهبة في هذه المسألة تصح في شيء مُنَكَّرٍ؛ فلأن فيها دوراً؛ لأن هبة الأول لا تُعلم إلا أن يُعلم مقدار العائد بالهبة الثانية، ولا يُعلم العائد بالهبة الثانية حتى يعلم مقدار ما تصح فيه الهبة الأولى. فإن قيل: ينبغي أن يكون لورثة الأول شيئان وثلث؛ لأن لهم مقابلة الهبة أولاً شيئين، وقد عاد إليهم ثلث شيء بالهبة الثانية. قيل: لا؛ لأنهم لا يستحقون إلا مثلي قدر التبرع عند الموت، وقدره عند ¬

_ (¬1) في هـ: مثلها مثل نصف.

الموت شيء. فلو كان لهم شيئان وثلث لكان ذلك أكثر من مثلي التبرع. قال: (وإن باع مريض فقيراً لا يملك غيره يساوي ثلاثين بقفيز يساوي عشرة: فأَسْقط قيمة الرديء من قيمة الجيد، ثم انسب الثلث إلى الباقي وهو عشرة من عشرين تجده نصفها. فيصح البيع في نصف الجيد بنصف الرديء، ويبطل فيما بقي). أما كون قيمة الرديء تسقط من قيمة الجيد؛ فليعلم الباقي حتى ينسب الثلث إليه. وأما كونه ينسب الثلث إلى الباقي؛ فليعلم مقدار ما يصح البيع فيه؛ لأن الصحة تتبع النسبة. وأما كونه فيما ذكر نصفها. فظاهر. وأما كونه يصح البيع في بعض الجيد ببعض الرديء؛ فلأن ذلك مقابلة بعض المبيع بقسطه من الثمن عند تعذر أخذ جميعه بجميع الثمن. أشبه ما لو اشترى سلعتين بثمن. فانفسخ البيع في إحداهما لعيبٍ أو غيره. وأما كون ذلك النصف؛ فلأنه تابعٌ للنسبة، وقد تبين أنها هنا بالنصف. وعلى هذا فَقِسْ. وأما كونه يبطل فيما بقي؛ فلانتفاء المقتضي للصحة. فإن قيل: هلاّ صح في الجيد بقدر قيمة الرديء، ويبطل في غيره؟ قيل: لوجهين: أحدهما: أنه يفضي إلى الربا؛ لأنه حينئذٍ يصح في ثلث الجيد بكل الرديء، وذلك رباً. وثانيهما: أن المحاباة في البيع وصية، وفيما ذكر إبطال لها؛ لأنه لا يحصل بها شيء، وفي صحة النصف المذكور إشعارٌ بصحة بيع المريض المذكور وإن اشتمل على محاباة. وهو صحيح؛ لأنه بيعٌ. فيدخل في عموم قوله: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275]. ولأنه بيع صَدَر من أهله في محله. فصح؛ كغير المريض.

ولأن غاية ما (¬1) في ذلك المحاباة، وله فعلها صريحاً. فلأن يكون له فعلها ضمناً بطريق الأولى. قال: (وإن أصدق امرأة عشرة لا مال له غيرها، وصداقُ مثلها خمسة فماتت قبله ثم مات: فلها بالصداق خمسة، وشيء بالمحاباة. رَجَع إليه نصف ذلك بموتها. صار له سبعة ونصف إلا نصف شيء يعدل شيئين. اجبرها بنصف شيء، وقابل يخرج الشيء ثلاثة: فلورثته ستة ولورثتها أربعة. وإن مات قبلها ورثته وسقطت المحاباة. نص عليه. وعنه: تعتبر المحاباة من الثلث. قال أبو بكر: هذا قولٌ قديمٌ رَجع عنه). أما كون المرأة لها بالصداق خمسة فيما إذا ماتت قبله ثم مات؛ فلأنها مهر مثلها. وأما كونها لها شيء بالمحاباة؛ فلأن المحاباة كالوصية ولو أوصى (¬2) لها بذلك لكان لها شيء. فكذا المحاباة. وأما كون نصف الخمسة والشيء يَرجع إلى الزوج بموتها؛ فلأن الزوج يرث نصف ما لامرأته إذا لم يكن لها ولدٌ، والأمر هاهنا كذلك. وأما كون الزوج يصير له سبعة ونصف إلا نصف شيء؛ فلأنه كان له خمسة إلا شيئاً، وورث اثنين ونصفاً (¬3) ونصف شيء. وأما كون ذلك يعدل شيئين؛ فلأنه مثلا ما استحقته المرأة بالمحاباة وذلك شيء. وأما كونه يجبر بنصف شيء؛ فليعلم. وأما كونه يقابل. ومعناه: أنه يزداد على الشيئين نصف شيء؛ فليقابل ذلك النصف المزاد. وأما كون الشيء يخرج ثلاثة؛ فلأن السبعة والنصف إذا قسمت على شيئين ونصفٍ كان الشيء ثلاثة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: وصى. (¬3) في هـ: ونصف.

وأما كون ورثة الزوج لهم ستة؛ فلأن لهم شيئين. وأما كون ورثة المرأة لهم أربعة؛ فلأن المرأة بقي (¬1) لها من العشرة اثنان ونصف ونصف شيء، وقد تبين أن الشيء ثلاثة فنصفه أحد ونصفٌ. فإذا ضممتها إلى الاثنين والنصف كانت أربعة. وإن أردت إيضاح ذلك فقل: صح الصداق في خمسة وشيء: أما الخمسة؛ فلأنها مهر المثل، ومهر المثل يعتبر من رأس المال. وأما الشيء فبالمحاباة، ونكر (¬2) ليعلم بعد ذلك. ثم رَجَع إليه نصف الخمسة والشيء بالإرث؛ لأنه زوجها. ويجب أن يقدر أنها لا ولد لها؛ لأن الزوج إنما يرث ذلك مع عدمه فيصير مجموع ما له من الأصل والميراث سبعةً ونصفاً إلا نصف شيء؛ لأنه كان قد بقي له من العشرة خمسة إلا شيئاً. ثم ورث اثنين ونصفاً ونصف شيء. فإذا أضفت ذلك إلى ما بقي له كان ذلك. اجبر نصف شيء بنصف شيء تكن سبعة ونصفاً، وقابل تكن شيئين ونصفاً. فالسبعة والنصف تعدل (¬3) شيئين ونصفاً. فإذا قسمتها على ذلك خرج الشيء ثلاثة. وحينئذٍ يصح أن يقال: صح الصداق في ثمانية رجع إلى الزوج أربعة وله من الأصل اثنان. صارت الجملة ستة وبقي لورثة الزوج أربعة. وأما كون المرأة ترث الزوج إذا مات قبلها؛ فلأنها زوجته. وأما كون المحاباة تسقط على منصوص أحمد؛ فلأنها محاباة لوراث. وكلام المصنف رحمه الله مشعرٌ بأن سقوط المحاباة من أجل الإرث؛ لأنه ذكره مرتباً عليه، وذِكْر الحكم مرتباً على الوصف مشعرٌ بأنه علته. فعلى هذا لو كانت غير وارثة كالكافرة ونحوها لم تسقط المحاباة؛ لعدم العلة. وأما كون المحاباة تعتبر من الثلث على رواية؛ فلأنها حين المحاباة لم تكن وارثة. والأولى أصح؛ لما تقدم. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: وذكر. (¬3) في هـ: تدل.

والعبرة في المحاباة بالموت؛ لأنها معتبرةٌ بالموت في الثلث. فكذا في كونها وارثة.

فصل قال المصنف رحمه الله: (ولو ملك ابن عمه فأقر في مرضه أنه أعتقه في صحته عتق ولم يرثه. ذكره أبو الخطاب؛ لأنه لو ورثه لكان إقراره لوارث وكذلك على قياسه: لو اشترى ذا رحمه المحرم في مرضه وهو وارثه، أو وصى له به، أو وهب له فقبله في مرضه. وقال القاضي: يعتق ويرث). أما كون ابن العم يعتق بالإقرار المذكور؛ فلأن إقرار المريض في ذلك كإقرار الصحيح. وأما كونه لا يرثه على ما ذكره أبو الخطاب؛ فلما ذكر المصنف من أنه لو ورثه لكان إقراراً لوارث. وتحقيقه: أنه يلزم من إرثه بطلان إقراره. ثم يلزم منه بطلان إرثه لبطلان الإقرار المثبت له. وأما كونه يرث على قول القاضي؛ فلأنه حرٌ حين موت موروثه ليس بقاتل (¬1) ولا مخالفٍ لدينه. أشبه ما لو لم يقرّ به. وأما كون بقية الصور المذكورة كصورة (¬2) الإقرار؛ فلأنها في معناها. قال: (ولو أعتق أمته وتزوجها في مرضه لم ترثه على قياس الأول. وقال القاضي: ترثه). أما كون الأمة المذكورة لا ترث زوجها على قياس الأول؛ فلأن إرثها يفضي إلى بطلان عتقها؛ لما تقدم ذكره. وأما كونها ترثه على قول القاضي؛ فلما تقدم في تعليل قوله فيما ذكر قبل. ¬

_ (¬1) في هـ: يقابل. (¬2) في هـ: كصور.

قال: (ولو أعتقها وقيمتها مائة، ثم تزوجها وأصدقها مائتين لا مال له سواهما وهي مهر مثلها، ثم مات: صح العتق ولم تستحق العتق؛ لئلا يفضي إلى بطلان عتقها ثم يبطل صداقها. وقال القاضي: تستحق المائتين). أما كون العتق يصح؛ فلأنه صَدَر من أهله في محلّه. وأما كون الزوجة لا تستحق الصداق على قول غير القاضي؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من التعليل. ووجه إفضاء استحقاق الصداق إلى بطلان العتق: أنها إذا استحقت الصداق لم يبق له شيء سوى قيمة الأمة المقدر بقاؤها. فلا ينفذ العتق في كلها؛ لكون الإنسان محجوراً عليه في التصرف في مرضه في جميع ماله، وإذا بطل العتق في البعض بطل النكاح، وإذا بطل النكاح بطل الصداق. وأما كونها تستحق المائتين على قول القاضي؛ فلأنهما مستحقان بعقد (¬1) المعاوضة. أشبه ما لو تزوج غيرها. قال: (وإن تبرع بثلث ماله، ثم اشترى أباه من الثلثين: فقال القاضي: يصح الشراء ولا يعتق. فإذا مات عتق على الورثة إن كانوا (¬2) ممن يعتق عليهم. ولا يرث؛ لأنه لم يعتق في حياته). أما كون الشراء يصح؛ فلأن شراء المريض صحيح. وأما كون الأب لا يعتق في الحال؛ فلأن ابنه اشتراه بما هو مُسْتَحَقٌّ للورثة بتقدير موته. وأما كونه يعتق على ورثة المشتري إذا مات؛ فلأنهم ملكوا من يعتق عليهم. واشترط المصنف رحمه الله: أن يكونوا ممن يعتق عليهم؛ مثل: أن يكونوا أولاد ابنه؛ لأن الجد يعتق على أولاد ابنه احترازاً من أن يكونوا ممن لا يعتق عليهم كإخوة ابنه لأمه وما أشبه ذلك. وأما كونه لا يرث؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله؛ لأن من شرط الإرث كونه حراً حين الموت، ولم يوجد. ¬

_ (¬1) في هـ: بقدر. (¬2) في هـ: كان.

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا الوصايا: جمع وصية. مثل: العطايا جمع عطية. والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {كُتِب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إنْ ترك خيراً الوصيةُ} [البقرة: 180]، وقوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أودين} [النساء: 11]. وأما السنة؛ فما روى سعد بن أبي وقاص قال: «جاءني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عامَ حجةِ الوداعِ يعودني من وجعٍ اشتدّ بي. فقلتُ: يا رسولَ الله! قد بلغَ بي من الوجعِ ما ترى. وأنا ذو مالٍ (¬1) ولا يرثني إلا ابنةٌ. أفَأَتصدّقُ بثلُثَي مالي؟ قال: لا. قلتُ: فبالشطرِ؟ قال: لا. قلت: فبالثلثِ؟ قال: الثلثُ والثلثُ كثير. إنكَ أن تذرَ ورثتكَ أغنياء، خيرٌ من أن تَذَرَهُمْ عالةً يتكَفّفُونَ الناس» (¬2). وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حَقُ (¬3) امرئٍ مسلمٍ، لهُ شيء يُوصي فيهِ، يَبيتُ ليلتينِ إلا ووصيتهُ مكتوبةٌ عندَه» (¬4) متفق عليهما. قال المصنف رحمه الله: (وهي: الأمر بالتصرف بعد الموت. والوصية بالمال هي: التبرع به بعد الموت. وتصح من البالغ الرشيد، عدلاً كان أو فاسقاً، رجلاً أو امرأة، مسلماً أو كافراً. ومن السفيه في أصح الوجهين. ومن الصبي العاقل إذا جاوز العشر. ولا تصح ممن له دون السبع. وفيما بينهما روايتان). أما قول المصنف رحمه الله: وهي الأمر بالتصرف بعد الموت؛ فهو بيان لمعنى أحد ضربي الوصية، وذلك أن الوصية على ضربين أحدهما: أن يوصي إلى رجل على ولده، أو في تفريق ثلثه، أو ما أشبه ذلك. فهذه هي الأمر بالتصرف بعد الموت. ¬

_ (¬1) في هـ: وأنا ومالي. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1233) 1: 435 كتاب الجنائز، باب رثَى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1628) 3: 1253 كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث. (¬3) في هـ: ما من حق. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2587) 3: 1005 كتاب الوصايا، باب الوصايا ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1627) 3: 1249 كتاب الوصية.

وفي قوله: بعد الموت احترازاً من الوكالة؛ فإنها أمرٌ بالتصرف لكن في الحياة. وأما قوله: والوصية بالمال (¬1) هي التبرع به بعد الموت؛ فبيان لمعنى الضرب الآخر وذلك أن الضرب الثاني: أن يوصي مثلاً لزيد بشيء. فهذه هي التبرع بالمال بعد الموت. وفي قوله: بعد الموت احترازاً عن الهبة؛ فإنها تبرعٌ بالمال لكن في الحياة. وأما قوله: وتصح من البالغ ... إلى آخره فعائدٌ إلى الوصية بالمال؛ لأن الوصية على الولد لا تصح من فاسقٍ ولا سفيهٍ، ولا يتصور من صبيٍّ لم يجاوز العشر. أما كون الوصية بالمال من البالغ الرشيد تصح فلا شبهة فيها؛ لأن ذلك يصح تصرفه في ماله حياته. فكذا مماته. وأما كونها تصح من الفاسق كالعدل؛ فلاشتراكهما في صحة تصرفهما في الحياة. وأما كونها تصح من المرأة كالرجل، ومن الكافر كالمسلم؛ فلما ذكر في الفاسق والعدل. وأما كون السفيه تصح وصيته في أصح الوجهين؛ فلأنه إنما حجر عليه لحفظ ماله، وليس في وصيته إضاعة لماله؛ لأنه إن عاش كان له، وإن مات كان له ثوابه، وهو حينئذٍ لا يحتاج إلا إلى الثواب. وأما كونها لا تصح في وجهٍ؛ فلأنه تصرف. فلم يصح من السفيه؛ كبيعه. وأما كونها تصح من الصبي العاقل إذا جاوز العشر؛ فـ «لأن صَبياًّ من غسان له عشرُ سنين أوصَى لأخوالٍ له. فرفعَ ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فأجازَ وصيتَه» (¬2) رواه سعيد. ولأنه يميز بين ما ينفعه وما يضره، ولهذا ضُرِبَ في الصلاة (¬3). ولأنه لا ضرر عليه في ذلك؛ لما ذكر في السفيه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (431) 1: 127 كتاب الوصايا، باب وصية الصبي. (¬3) روى عبدالملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» أخرجه أبو داود في سننه (494) 1: 133 كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة.

وأما كونها لا تصح ممن له دون سبع سنين؛ فلأنه لا تمييز له. وأما كونها تصح ممن له سبع ولم يجاوز العشر في روايةٍ؛ فلأنه يميز في الجملة، ولذلك أُمِرَ بالصلاة. وأما كونها لا تصح في روايةٍ؛ فلأنه ضعيف الرأي، ضعيف الأخذ لنفسه. فكان إلحاقه (¬1) بمن له دون سبع سنين أولى. قال: (ولا تصح من غير عاقلٍ؛ كالطفل، والمجنون، والمبرسم. وفي السكران وجهان). أما كون الوصية من غير عاقلٍ؛ كالطفل، والمجنون، والمبرسم: لا تصح؛ فلأنه لا حكم لكلامهم، ولا تصح عبادتهم ولا شيء من تصرفاتهم. فكذا الوصية بل أولى؛ لأنه إذا لم يصح إسلامه ولا صلاته التي لا ضرر فيها. فلئلا يصح بذله لمالٍ يتضرر به وارثه بطريق الأولى. ولأنه تصرفٌ يفتقر إلى إيجاب وقبول. فلم يصح ممن ذكر؛ كالبيع والهبة. وأما كون وصية السكران لا تصح من وجهٍ؛ فلأنه زائل العقل. أشبه المجنون. وأما كونها تصح في وجهٍ؛ فلأنه يقع طلاقه. فصحت وصيته بالقياس عليه. وفرّق المصنف في المغني بين الطلاق والوصية من حيث: إن الطلاق وقع تغليظاً؛ لارتكابه المعصية. بخلاف الوصية فإنه لا ضرر عليه فيها بل الضرر على وارثه. قال: (وتصح وصية الأخرس بالإشارة. ولا تصح وصية من اعتقل لسانه بها. ويحتمل أن تصح). أما كون وصية الأخرس تصح بالإشارة؛ فلأن إشارته أُقيمت مقام نطقه في طلاقه ولعانه وغيرهما. فكذلك يجب أن تقوم مقامه في وصيته. وأما كون وصية من اعتقل لسانه لا تصح بالإشارة على المذهب؛ فلأنه غير مأيوس من نطقه. فلم تصح وصيته بالإشارة؛ كالقادر على الكلام. ¬

_ (¬1) في هـ: إلحقاقه.

وأما كونها يحتمل أن تصح؛ فلأنه غير قادرٍ على الكلام. أشبه الأخرس. قال: (وإن وجدت وصيته بخطه صحت. ويحتمل أن لا تصح حتى يشهد عليها). أما كون الوصية المذكورة تصح على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما حقُ امرئٍ مسلمٍ، له شيء يوصِي فيه، يبيتُ ليلتينِ إلا ووصيتهُ مكتوبةٌ عندَ رأسِه» (¬1). فلو لم تكن الكتابة كافية لم يكن في كتابة الوصية فائدة. والشرع لا يحثّ على ما لا فائدة فيه. وأما كونها يحتمل أن لا تصح حتى يشهد عليها؛ فلأن المثبت للشيء شهادة الشهود لا الكتابة. بدليل البيع والهبة وغير ذلك من العقود. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في حكم الوصية] قال المصنف رحمه الله: (والوصية مستحبةٌ لمن ترك خيراً. وهو: المال الكثير بخمس ماله. ويكره لغيره إن (¬1) كان له ورثة. فأما من لا وارث له فتجوز وصيته بجميع ماله. وعنه: لا تجوز إلا بالثلث). أما كون الوصية لمن ترك خيراً مستحبة؛ فلأن الله تعالى قال: {كُتِب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيراً الوصيةُ} [البقرة: 180]. نُسخ الوجوب وهو المنع من الترك. بقي الرجحان وهو المستحب. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقولُ الله عز وجل: يا ابنَ آدمَ! جعلتُ لكَ نصيباً من مالكَ حينَ أخذتُ بِكَظْمِكَ لأُطَهِّرَكَ وأُزَكِّيك» (¬2). رواه ابن ماجة. وكل شيء حصل التطهير والتزكية يكون فعله مستحباً. وأما قول المصنف رحمه الله: لمن ترك خيراً فمشعرٌ بأن الوصية لا تستحب لمن لم يترك خيراً. وهو صحيح؛ لأن الله تعالى شرط ترك الخير بقوله: {إن ترك خيراً} [البقرة: 180]، والمعلّق على شرطٍ عدمٌ عند عدمه. وأما كون الخير هو المال الكثير؛ فلأنه هكذا فُسّر، واختلف العلماء في مقداره فروي عن الإمام أحمد: أنه إذا ترك دون الألف لا يستحب له الوصية. فيدل على أنه لو ترك ألفاً فصاعداً يستحب له الوصية. ومن شرط الاستحباب عنده: أن يترك كثيراً فيلزم أن يكون ذلك كثيراً عنده. وعن علي: أربعمائة دينار. وعن ابن عباس: سبعمائة درهم. وقال المصنف رحمه الله في المغني: الذي يقوى عندي أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة فلا تستحب الوصية؛ لأن النبي علل المنع بقوله: «إنكَ أن ¬

_ (¬1) في هـ: وإن. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2710) 2: 904 كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث.

تذرَ ورثتكَ أغنياء خيرٌ من أن تدعهمْ عالةً يتكففونَ الناس» (¬1). فدل على أن المتروك إذا كان يَفضل عن غنى الورثة يكون عنده كثيراً. وأما كون القدر الموصى به على سبيل الاستحباب الخمس؛ فلما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه «أنه أوصى (¬2) بالخمس. وقال: رضيتُ بما رضيَ اللهُ لنفسهِ به. يعني قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]» (¬3). وعن علي: «لأن أُوصي بالخمسِ أحبُّ إلىّ من الربع» (¬4). وأما كون الوصية تكره لغير من ترك خيراً إن كان له ورثة؛ فلأنه عدل عن صلة أقاربه المحاويج إلى الأجانب. وعن الشعبي «ما منْ مالٍ أعظم أجراً من مال يتركه الرجل (¬5) لولدهِ يغنيهمْ به عن الناس». [ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علل المنع من الوصية بزيادة على الثلث بأنه يدع ورثته عالة يتكففون الناس] (¬6). وهو موجودٌ هاهنا. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ابدأ بنفسكَ ثم بمنْ تَعُول» (¬7)، والورثة ممن يعول. فلا يقدم عليهم الأجانب. وأما كون من لا وارث له تجوز وصيته بجميع ماله على المذهب؛ فلأن المنع من الوصية بأكثر من الثلث لحق الوارث. فإذا لم يكن وارثٌ وجب أن يزول المنع لزوال علته. وأما كونه لا يجوز إلا بالثلث على روايةٍ؛ فلأن له من يعقل عنه. فمُنِع من ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في هـ: وصى. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (16363) 9: 66 كتاب الوصايا، كم يوصي الرجل من ماله. (¬4) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (16361) الموضع السابق. (¬5) في هـ: ما من مال يترك الرجل. (¬6) ساقط من هـ. (¬7) أخرجه مسلم في صحيحه (997) 2: 692 كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة. وأخرجه النسائي في سننه (4652) 7: 304 كتاب البيوع، بيع المدبر. ولفظهما: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل من أهلك شيء فلذي قرابتك ... ».

الزيادة على الثلث من أجله؛ كالوارث. ولأن لبيت المال حقاً في ماله. أشبه الوارث. قال: (ولا يجوز لمن له وارث بزيادةٍ على الثلث لأجنبي، ولا لوارثه بشيء إلا بإجازة الورثة. إلا أن يوصي لكل وارثٍ بمعين بقدر ميراثه فهل يجوز؟ على وجهين). أما كون الوصية لمن له وارث لا تجوز لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثلث بغير إجازة الورثة (¬1)؛ فلما تقدم من حديث سعد بن أبي وقاص (¬2). وأما كونها لا تجوز لوارثه بشيء غير معين بغير إجازة الورثة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله أَعطَى كلَّ ذِي حقّ حقهُ. فلا وصيةَ لوارِث» (¬3) رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي. وقال: حديث صحيح. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من عطية بعض ولده في الصحة مع إمكان تلافي العدل وقوة الملك. ففي حال مرضه وموته أولى. وأما كون الوصية لكل وارثٍ بمعينٍ بقدر ميراثه؛ كرجلٍ مات وخلّف ابناً، وبنتاً، وعبداً قيمته مائة، وأمة قيمتها خمسون. فأوصى بالعبد للابن، وبالأمة (¬4) للبنت: تصح بغير إجازة كل واحدٍ منهما للآخر على وجهٍ؛ فلأن حق الوارث في القدر لا في العين. بدليل ما لو عاوض المريض بعض ورثته أو أجنبياً. وأما كونها لا تصح إلا بإجازة كل واحدٍ (¬5) منهما للآخر على وجهٍ؛ فلأن في الأعيان غرضاً صحيحاً. فكما لا يجوز إبطال حق الوارث من القدر. فكذا لا يجوز من العين. ¬

_ (¬1) في هـ: الثلث. (¬2) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2870) 3: 114 كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث. وأخرجه الترمذي في جامعه (2121) 4: 434 كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث. وأخرجه النسائي في سننه (3642) 6: 247 كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2712) 2: 905 كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث. وأخرجه أحمد في مسنده (17705) 4: 187. (¬4) في هـ: للعبد للابن وللأمة. (¬5) في هـ: وحد.

وأما كون جميع ذلك يجوز بإجازة الورثة؛ فسيأتي ذكره فيما بعد. إن شاء الله تعالى. قال: (وإن لم يف الثلث بالوصايا تحاصّوا فيه، وأدخل النقص على كل واحد بقدر وصيته. وعنه: يقدم العتق). أما كون أرباب الوصايا يتحاصّون في الثلث إذا لم يف بها، وكون النقص يدخل على كل واحدٍ بقدر وصيته على المذهب؛ فلأنهم تساووا في الأصل وتفاوتوا في المقدار. فوجب أن يتحاصّوا. ويدخل النقص على ما ذكر؛ كالورثة إذا كانت مسألتهم عائلة. وأما كون العتق يُقدم على روايةٍ؛ فلأنه آكد. بدليل سرايته ونفوذه في الملك المحجور عليه في التصرف فيه كالرهن ونحوه، والمؤكد مقدم على غيره. قال: (وإن أجاز الورثةُ الوصيةَ جازت. وإجازتهم تنفيذٌ في الصحيح من المذهب لا تفتقر إلى شروط الهبة. ولا تثبت أحكامها فيها. [فلو كان المجيزُ أباً للمجاز له لم يكن له الرجوع فيه، ولو كان المجاز عتقاً كان الولاء للموصي يختص به عصبته، ولو كان وقفاً على المجيزين صح. وعنه: ما يدل على أن الإجازة هبةٌ فتنعكس هذه الأحكام] (¬1». أما كون الوصية إذا أجازها الورثة جازت؛ فلأن المنع من أجلهم فإذا جازوا وجب أن يجوز لزوال علة المنع. وعن الإمام أحمد: لا تجوز لوارثٍ وإن أجازها بقية الورثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا وَصيةَ لوارِث» (¬2)، وذلك عامٌ مع الإجازة وعدمها. والأول أصح؛ لما تقدم. ولأنه تصرفٌ صدر من أهله في محله. فصح؛ كما لو وصى لأجنبيٍ بزيادةٍ على الثلث فأجازه الورثة. والخبر المذكور قد روي فيه: « ... إلا أن يجيز الورثة» (¬3). ثم لو خلا من الاستثناء فمعناه: لا وصية لازمةٌ أو نافذة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (93) 4: 98 كتاب الفرائض، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرجه أيضا بمعناه (94) عن ابن عباس.

وأما كون إجازة الورثة تنفيذاً على الصحيح من المذهب؛ فلأنها إمضاءٌ لقول الموروث، ولا معنى للتنفيذ إلا ذلك. فعلى هذا لا تفتقر إلى شروط الهبة ولا تثبت فيها أحكامها؛ لأنها ليست بهبة. وأما كونها هبةً على روايةٍ؛ فلأن الورثة يتمكنون من إبطالها. فإذا أمضوها فكأنهم (¬1) وهبوا ذلك من عندهم. ولأن الوصية موقوفةٌ على قولهم. أشبه ما لو لم يتقدم ذلك وصية (¬2). فعلى هذا تفتقر إلى شروط الهبة من الإيجاب والقبول والقبض وما أشبه ذلك، وتثبت فيها أحكامها. فيملك المجيز الرجوع إن كان ممن يملكه في الهبة، وما أشبه ذلك. وسيذكر إن شاء الله تعالى (¬3). وهذا الخلاف مبني على أن الوصية لوارثٍ بشيء أو لأجنبيٍ بزيادةٍ على الثلث هل هي صحيحة موقوفة على إجازة الورثة، أم لا تصح بالكلية؟ فإن قيل: هي صحيحةٌ (¬4) كانت إجازتهم تنفيذٌ؛ لأن (¬5) الإجازة تنفيذٌ في الحقيقة. وإن قيل: هي باطلةٌ كانت إجازتهم هبة؛ لأن وجود الوصية من الموروث كالعدم. ولأن هذا شأن الباطل. وقد تقدم أن الصحيح في المذهب أن الوصية فيهما صحيحة، وإنما تقف على الإجازة. فلتكن إجازة الورثة تنفيذاً على الصحيح؛ لأن المبني على الشيء يتبعه صحة وفساداً. فعلى هذا للاختلاف فوائد: ·? منها: أن رجلاً لو (¬6) أوصى لابن أخيه بشيءٍ زائدٍ على الثلث وكان أبو ابن الأخ وارثاً لأخيه فأجاز لابنه: ¬

_ (¬1) في هـ: فكأنما. (¬2) في هـ: الوصية. (¬3) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) في هـ زيادة: موقوفةٌ على إجازة الورثة. (¬5) في هـ: إلا أن. (¬6) ساقط من هـ.

فإن قيل: الإجازة تنفيذٌ لم يملك الرجوع؛ لأن الأب يرجع فيما وهب لا فيما وهبه (¬1) غيره. وإن قيل: هي هبة فله الرجوع؛ لما تقدم في باب الهبة (¬2). ·? ومنها: أن رجلاً لو أعتق عبداً زائداً على الثلث فأجاز الورثة العتق: فإن قيل: الإجازة تنفيذ كان الولاء للموصي؛ لأنه هو الذي أعتقه، وفي الحديث: «إنما الولاءُ لمن أَعتَق» (¬3). فتختص به عصبته؛ كما لو أعتقه في صحته. وإن قيل: الإجازة هبة كان الولاء مشتركاً بين كل الورثة من العصبة وغيرهم؛ كما لو باشروا عتق عبدٍ مشتركٍ بينهم. ·? ومنها: أن رجلاً لو وقف على بنيه شيئاً: فإن قيل: الإجازة تنفيذٌ صح الوقف روايةً واحدة؛ لأن الواقف عليهم أبوهم لا هم. وإن قيل: الإجازة هبة خُرِّج في صحة الوقف الروايتان المذكورتان في باب الوقف فيما إذا وقف إنسان على نفسه. هذا شرح كلام المصنف رحمه الله. واعلم أن كلام المصنف رحمه الله يحتاج إلى زيادة تحرير وذلك أن قوله: فلو كان المجيز أباً لم يكن له الرجوع فيه، ولو كان المجاز عتقاً كان الولاء للموصي يختص به عصبته، ولو كان وقفاً على المجيزين صح. وعنه: ما يدل على أن الإجازة هبة فتنعكس هذه الأحكام. يُفهم منه أنه إذا قيل: الإجازة هبة كان للأب الرجوع في جميع ما وصى به لابنه، وكان جميع الولاء مشتركاً بين العصبة وبين غيرهم من الورثة، وكان الوقف في صحة جميعه روايتان: والأول: مدخول من حيث إن الأب لا يملك الرجوع في قدر الثلث روايةً واحدةً، وإنما الخلاف في الزائد على الثلث. والثاني: مدخول من حيث إن العصبة يختصون بثلث الولاء روايةً واحدةً، وإنما ¬

_ (¬1) في هـ: وهب. (¬2) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2579) 2: 972 كتاب الشروط، باب الشروط في الولاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (1504) 2: 1141 كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق.

الخلاف فيما زاد. والثالث: مدخول من حيث إن الوقف يصح في قدر الثلث روايةً واحدةً من هذه الجهة، وإنما الخلاف فيما زاد. وتحرير العبارة في ذلك أن يقول: فلو كان المجيز أباً لم يكن له الرجوع في الزائد على الثلث. ولو كانت الوصية عتقاً كان ثلثا الولاء كالثلث في اختصاصه بالعصبة. ولو كانت وقفاً على المجيزين صح فيما زاد على الثلث. ثم بعد ذلك يقول: وعنه هي هبة. فتنعكس هذه الأحكام. ولقائل أن يقول: لفظ الإجازة مشعرٌ بأنها في موضع يفتقر إليها وذلك إنما يكون في الزائد على الثلث أو في الوصية لوارث فكان كلام المصنف رحمه الله في جميع ما ذكر عائداً (¬1) إلى الزائد على الثلث. ويؤيد ذلك أن قوله: ولو كان المجاز معناه: ولو كان الذي تعتبر إجازته. وهذا صحيح إلا أنه فيه غموضٌ لا يكاد يُفهم، ولذلك صرح بقية المصنفين بالحكم بالنسبة إلى جميع الوصية وفصّلوا كما ذكرت لك. ثم يصح أن يقال: أوصى زيدٌ بعتق عبدٍ لا مال له سواه فأجاز الورثة وصيته. ويُفهم منه مجموع الوصية لا بعضها. قال: (ومن أوصى له وهو في الظاهر وارث فصار عند الموت غير وارثٍ صحت الوصية له (¬2). وإن وصى له وهو غير وارث فصار وارثاً بطلت؛ لأن اعتبار الوصية بالموت). أما كون الوصية تصح في الصورة الأولى وتبطل في الثانية؛ فلما علل المصنف رحمه الله. وأما تعليله ففيه تنبيهٌ على الفرق بين الوصية وبين الإقرار؛ لأنه لو أقرّ لوارثٍ ثم صار عند الموت غير وارثٍ لم يصح الإقرار. بخلاف العكس؛ لأن الإقرار لوارثٍ مُنع منه للتهمة وهي موجودة عند الإقرار لا عند الموت. بخلاف الوصية فإن المانع كونه وارثاً عند الموت؛ لأنها حالة التمليك. ¬

_ (¬1) في هـ: عائد. (¬2) ساقط من هـ.

قال: (ولا تصح إجازتهم وردّهم إلا بعد موت الموصي. وما قبل ذلك لا عبرة به). أما كون إجازة الورثة وردّهم قبل الموت لا تصح؛ فلأنها (¬1) حقٌ لم يملكوه. فلم يصح فيما ذكر؛ كالمرأة تسقط مهرها قبل النكاح، والشفيع يسقط شفعته قبل البيع. [وأما كون ذلك يصح بعد الموت؛ فلأنه حق لهم حينئذ؛ كالمرأة تسقط مهرها بعد النكاح، والشفيع يسقط شفعته بعد البيع] (¬2). ولأنه إسقاطُ حقٍّ ملكوه. فصح؛ كسائر الحقوق. وأما قول المصنف رحمه الله: وما قبل ذلك لا عبرة به فزيادة إيضاح وبيان؛ لأن الإجازة والرد (¬3) إذا لم يصحا قبل الموت عُلم أنه لا عبرة بذلك في ذلك الوقت. قال: (ومن أجاز الوصية ثم قال: إنما أجزتُ لأنني ظننت المال قليلاً فالقول قوله مع يمينه. وله الرجوع بما زاد على ظنه في أظهر الوجهين. إلا أن يقوم عليه بينة. وإن كان المجاز عيناً فقال: ظننتُ باقي المال كثيراً: لم يقبل قوله في أظهر الوجهين). أما كون القول قول المجيز في الصورة الأولى في وجهٍ مع عدم البينة؛ فلأن الإجازة: إما تنفيذ وإما هبة، وكلاهما لا يصح في المجهول، وقد ادّعاه مع كونه مجهولاً. ولأنه يحتمل صدقه فلا يحصل للموصى له نقل الملك. ويحتمل كذبه فيحصل له ذلك. وإذا احتمل واحتمل وجب بقاء الأمر على ما كان عملاً بالاستصحاب. وأما كونه لا يقبل قوله فيها في وجهٍ؛ فلأنه قولٌ يُسقط حق الغير بعد الإقرار به. فلم يقبل؛ كالإنكار بعد الإقرار. والأول أظهر؛ لما تقدم. ¬

_ (¬1) في هـ: فلأنهما. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) في هـ: والمراد.

والفرق بين ذلك وبين الإقرار ظاهر، وذلك أن الموجب للملك هنا قوله: أجزته ولم يتحقق، وفي الإقرار ليس كذلك. ضرورة كونه مالكاً قبله، وإنما الإقرار أظهره. وأما كون ذلك مع يمينه؛ فلأنه يحتمل كذبه. وأما كونه يرجع بما زاد على ظنه إذا قيل القول قوله؛ فلأنه إذا قيل القول قوله لم يكن الموجب للنقل متحققاً بالنسبة إليه. وأما كونه لا يقبل قوله وجهاً واحداً إذا قامت عليه البينة؛ فلأنها تكذبه. ولم يتعرض المصنف رحمه الله إلى صفة ما تقوم به البينة، وصرح أبو الخطاب بأنها تشهد أنه كان عالماً بمقدار الزيادة حين إجازته. وأما كونه في الصورة الثانية لا يقبل قوله في أظهر الوجهين؛ فلأن العبرة بالموصى به وهو معلومٌ [لا جهالة فيه] (¬1). وأما كونه يقبل قوله في وجهٍ؛ فلأنه يمكن صدقه. ولأنه قد يسمح بذلك ظناً منه أنه يبقى له ما يكفيه. فإذا بان بخلافه لحقه الضرر في الإجازة. فقبل قوله؛ كالمسألة قبلها. وأما كون الأول أظهر بخلاف ما تقدم؛ فلما ذكر. وفيه تنبيهٌ على الفرق بين هذه المسألة وبين المسألة قبلها من حيث: إن المجاز هنا معلوم، وفي التي قبلها هو غير معلوم. [فإن قيل: ما صورة المسألتين؟ قيل: صورة الأولى: أن تكون الوصية بجزءٍ كالنصف أو الثلثين أو ما أشبههما. فيجيز الوصية بناء على أن المال المخلف عن موروثه قليل كمائةٍ أو نحوها ثم يبين له أنه كثيرٌ كألفٍ أو نحوه. فيدعي أنه إنما أجاز بناء على ذلك. فيقبل قوله فيما زاد على ظنه، وهو في مسألة النصف مائة وخمسون، وفي مسألة الثلثين ثلثمائة. ويبقى للموصى له في مسألة النصف ثلثمائة وخمسون؛ لأنه له ثلث الألف ثلثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث وقد أجاز له ستة عشر وثلثين؛ لأن ذلك هو ما بين ثلث المائة المظنونة ونصفها. وفي مسألة الثلثين له ثلثمائة وستة وستون ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

وثلثان؛ لأنه له ثلث الألف ثلثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث وقد أجاز له ثلاثة وثلاثين وثلثاً؛ لأن ذلك هو ما بين ثلث المائة المظنونة وثلثيها. وصورة الثانية: أن تكون الوصية بعبدٍ معينٍ قيمته ستمائة. فيجيز الوصية بناء على أن باقي المال المخلّف عن موروثه كثيرٌ كألف. ثم يبين له أنه قليل كستمائة. فيدعي أنه إنما أجاز بناء على ذلك. فعلى الأظهر جميع العبد للموصى له، وعلى الآخر له ثلثا العبد وتسعه؛ لأنه له ثلث المال بالأصل وهو أربعمائة وقد أجاز له ستة وستين وثلثين؛ لأن ذلك هو ما بين ثلث الألف وستمائة المظنونة قيمة العبد. فإن قيل: الفرق المتقدم ذكره إنما يتحقق بين المشاع والمعين لا بين العين وغير العين، وكلام المصنف رحمه الله مشعرٌ بالعكس. قيل: ما ذكر صحيح. غير أن العين يلزم منها أن تكون معينة. ومدار الفرق على ذلك لا على العين] (¬1). قال: (ولا يثبت الملك للموصى له إلا بالقبول بعد الموت. فأما قبوله وردّه قبل الموت فلا عبرة به). أما (¬2) كون الملك للموصى له لا يثبت إلا بالقبول؛ فلأن الوصية تمليكٌ لمن هو من أهل الملك. فلم يثبت إلا بالقبول؛ كالهبة والبيع. ولا بد أن يُلحظ أن الموصى له معين. فإن كان غير معين (¬3) كالفقراء والمساكين وبني هاشم: لم يفتقر ثبوت الملك في الوصية إلى القبول، ولزمت بمجرد الموت؛ لأن اعتبار القبول من جميعهم متعذرٌ. فسقط؛ كالوقف عليهم. وأما كون القبول بعد الموت؛ فلأن الوصية تمليكٌ بعد الموت. فكان القبول حينئذ. وأما كون القبول والرد قبل الموت لا عبرة به؛ فلأن قبل الموت لم يثبت للموصى له حق، ولذلك لم يصح ردّ الورثة ولا إجازتهم قبل الموت. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: وأما. (¬3) سقط لفظي: غير معين من هـ.

قال: (وإن مات الموصَى له قبل موت (¬1) الموصي بطلت الوصية. وإن ردّها بعد موته بطلت أيضاً. وإن مات بعده وقبل الرد والقبول قام وارثه مقامه. ذكره الخرقي. وقال القاضي: تبطل الوصية على قياس قوله). أما كون الوصية تبطل [إذا مات الموصى له قبل موت الموصي] (¬2)؛ فلأنها عطية صادفت المعطي ميتاً. فبطلت؛ كما لو وهب لميتٍ شيئاً. وأما كونها تبطل إذا ردّها بعد موته؛ فلأنه أسقط حقه في حال يملك قبوله وأخذه. أشبه عفو الشفيع عن الشفعة بعد البيع. ولا بد أن يُلحظ في هذا البطلان أن يكون الرد بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له. فلو قَبِل وقبض، أو قَبِل ولم يقبض، وكان غير مكيلٍ أو موزونٍ ثم ردّ: لم تبطل الوصية؛ لأن ملكه استقر عليه. أشبه ما لو ردّ سائر ملكه. وأما كون وارث الموصى له يقوم مقامه إذا مات بعد الموصي وقبل الرد والقبول على ما ذكره الخرقي؛ فلأن الرد والقبول حقٌ ثبت للموروث. فثبت للوارث بعد موته؛ لقوله عليه السلام: «من ترك حقاً فلِوَرَثَتِه» (¬3)، وكخيار الرد بالعيب. وأما كونها تبطل على قول القاضي على قياس قول الإمام أحمد؛ فلأن هذا في معنى سقوط خيار المجلس، والشرط، والشفعة بالموت، ولا يقوم الوارث في ذلك مقام موروثه. نص عليه أحمد. فكذا هنا. ولأن الوصية عقدٌ يفتقر إلى القبول. فيبطل بموت الموصي قبل القبول؛ كالهبة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) مثل السابق. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن قبلها بعد الموت ثبت الملك حين القبول في الصحيح. فما حدث قبله من نماء منفصل فهو للورثة، وإن كان متصلاً تبعها. وإن كانت الوصية بأمة فوطئها الوارث قبل القبول وأولدها: صارت أم ولد له، ولا مهر عليه، وولده حر لا تلزمه قيمته، وعليه قيمتها (¬1) للموصي. وإن أوصى لرجلٍ بزوجته فأولدها قبل القبول: لم تصر أم ولد له، وولده رقيق. ومن أوصي له بأبيه فمات قبل القبول. فقبل ابنه: عتق الموصى به حينئذٍ ولم يرث شيئاً. ويحتمل أن يثبت الملك حين الموت فتنعكس هذه الأحكام). أما كون الملك يثبت مع كمال الشروط فيه حين القبول لا قبله على الصحيح من المذهب؛ فلأن الوصية تمليكٌ لمعين تفتقر إلى القبول. فلم يسبق الملك فيها القبول؛ كسائر العقود. ولأن القبول من كمال السبب، والحكم لا يتقدم سببه. ولأن الملك في الماضي لا يجوز تعليقه بشرط مستقبل. فعلى هذا ما حدث قبل القبول من نماء منفصل فهو للورثة؛ لأنه نماء ملكهم. وإن كان متصلاً تبع العين الموصى بها؛ لأنه لا يمكن انفصاله. فتبعت الأصل؛ كالفسوخ والرجوع في الهبة. وإن كانت الوصية بأمة فوطئها الوارث قبل القبول وأولدها: صارت أم ولده؛ لأنه وطئ مملوكته. ولا مهر عليه؛ لأن الإنسان لا يجب عليه مهر من وطء مملوكته. وولده حر؛ لأنه من وطء في ملك. ولا تلزمه قيمته؛ لأنه لا حق لأحدٍ فيه بل انعقد جزءاً من وطء في ملكه. وعليه قيمة الأمة للموصي؛ لأنه فوّتها عليه. أشبه ما لو أتلفها. وإن وصى لرجلٍ بزوجته فأولدها قبل القبول لم تصر أم ولد له. وولده رقيق؛ لأنه من وطء في ملك غيره. وإن وصى له بأبيه فمات قبل القبول فقبل ابنه: عتق الموصى به عند قبول ¬

_ (¬1) في هـ: قيمته.

الابن؛ لأن الملك حينئذ وجد. والقاتل له ابن ابنه. فعتق عليه؛ لكونه من ذوي رحمه. ولم يرث من ابنه شيئاً؛ لأنه كان عبداً عند موته. وأما كونه يحتمل أن يثبت الملك حين الموت؛ فلأن ما وجب انتقاله بالقبول وجب انتقاله من جهة الموجب عند الإيجاب؛ كالهبة والبيع. ولأنه لا يجوز ثبوت الملك للميت؛ لأنه لم يبق محلاً له. بدليل: ما لو وصى له بشيء فإنه لا يصح. ولا للوارث؛ لأن الله تعالى قال: {من بعد وصية يوصي بها أودين} [النساء: 11]. ولأن الإرث بعد الوصية. فعلى هذا تنعكس الأحكام المذكورة قبلُ. فيكون النماء المنفصل للموصى له مع المتصل؛ لأنه نماء ملكه. وإذا كان الموصى به أمة فأولدها الوارث قبل القبول لم تصر أم ولده؛ لأنه وطءٌ في غير ملك. وعليه المهر؛ لأنه وطئ مملوكة غيره. وولده رقيق لذلك. وإذا كانت الوصية لشخصٍ بأبيه عتق من حين الموت؛ لأنه دخل في ملك ابنه وورث ابنه؛ لأنه كان حراً عند موته.

فصل [في الرجوع في الوصية] قال المصنف رحمه الله: (ويجوز الرجوع في الوصية. فإذا قال: قد رجعتُ في وصيتي أو أبطلتُها ونحو ذلك: بطلت). أما كون الوصية يجوز الرجوع فيها؛ فلأنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «يغيرُ الرجل ما شاءَ من وَصيتِه» (¬1). ولأنها تمليك. فملك الموصي الرجوع فيه قبل تنجيزه؛ كهبة ما يفتقر إلى قبض قبل تقبيضه. وأما كونها تبطل إذا قال: قد رجعتُ في وصيتي أو أبطلتُها ونحو ذلك؛ فلأن ذلك دالٌ على الرجوع حقيقة. قال: (وإن قال في الموصى به: هذا لورثتي، أو ما أوصيتُ به لفلان فهو لفلان: كان رجوعاً. وإن وصى به لآخر ولم يقل ذلك فهو بينهما). أما كون قول الموصي في الموصى به: هذا لورثتي، أو ما أوصيتُ به لفلان فهو لفلان رجوعاً؛ فلأنه صرّح باستحقاق الورثة، وفلان الآخر لما أوصى به أوّلاً، وذلك يقتضي كونه مستحقاً للورثة وللموصى له ثانياً وهو ينافي استحقاق الموصى له أوّلاً. وأما كون الموصى به بين الموصى له أولاً وثانياً إذا أوصى به لآخر ولم يقل ما تقدم ذكره؛ فلأنه تعلق به حق كل واحدٍ منهما على السواء. فاشتركا فيه؛ كما لو قال: هو بينهما. قال: (وإن باعه، أو وهبه، أو رهنه: كان رجوعاً. وإن كاتبه، أو دبّره، أو جحد الوصية: فعلى وجهين). أما كون بيع الموصى به وهبته رجوعاً؛ فلأن كل واحدٍ منهما ينقل الملك، وذلك ينافي الوصية. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 281 كتاب الوصايا، باب الرجوع في الوصية وتغييرها.

ولأن كونه مملوكاً قابلاً للنقل عند تمليكه شرطٌ للصحة، وذلك غير حاصلٍ فيما بيع أو وهب عند الموت. وأما كون رهنه رجوعاً؛ فلأن الرهن يراد للبيع. أشبه ما لو باعه. ولأن الوصية نقلٌ للملك عند الموت، وذلك يعتمد القابلية له، والقابلية للنقل غير موجودة فيما رهنه. بدليل: أنه لو باع المرهون لم يصح. وأما كون كتابته رجوعاً على وجهٍ؛ فلأنها بيعٌ. أشبهت البيع. وأما كونها لا تكون رجوعاً على وجهٍ؛ فلأن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم. وأما كون تدبيره رجوعاً على وجهٍ؛ فلأن تدبيره أقوى من الوصية به؛ لأنه يتنجز بالموت. بخلاف الوصية فإنها تفتقر إلى القبول. والوصية به في بعض الصور رجوع. فما هو أقوى منها أولى. وأما كونه لا يكون رجوعاً على وجهٍ؛ فلأنه لا ينقل الملك. أشبه ما لو لم يدبره. وأما كون جحود الوصية رجوعاً على وجهٍ؛ فلأن الجحود يدل على أنه لا يريد إيصاله إلى الموصى له. وأما كونه لا يكون رجوعاً؛ فلأن ذلك لا يزيل ملكه. أشبه ما لو أجّره. قال: (وإن خلطه بغيره على وجهٍ لا يتميز، أو أزال اسمه فطحن الحنطة أو خبز الدقيق، أو جعل الخبز فتيتاً، أو نسج الغزل، أو نجّر الخشبة باباً ونحوه، أو انهدمت الدار، أو أزال اسمها: فقال القاضي: هو رجوع. وذكر أبو الخطاب: فيه وجهين. وإن وصى له بقفيزٍ من صَبُرَةٍ، ثم خلط الصبرة بأخرى: لم يكن رجوعاً). أما كون ما ذكر غير خلط الصبرة رجوعاً على قول القاضي؛ فلأن الخلط المذكور جَعَله على وجهٍ لا يمكن تسليمه، وإزالة الاسم أخرجته عن دخوله في الاسم الدالّ على الموصى به. وأما كونه على وجهين على ما ذكر أبو الخطاب؛ فلأن دليل الرجوع وعدمه موجودان فيه: أما الرجوع؛ فلما تقدم. وأما عدمه؛ فلأن الموصى به باقٍ.

أشبه ما لو غسل الثوب. وأما كون خلط الصبرة الموصى بقفيزٍ منها بصبرة أخرى لا يكون رجوعاً؛ فلأنه كان مشاعاً ولم يَزَل. فهو باق على صفته. بخلاف ما تقدم فإنه كان معيناً ثم زال ذلك، وذلك يمنع من تسليمه إليه. قال: (وإن زاد في الدار عمارة أو انهدم بعضها فهل يستحقه الوصي (¬1)؟ على وجهين). أما كون الوصي (¬2) يستحق العمارة على وجهٍ؛ فلأنها تبعٌ للدار. وأما كونه لا يستحقها على وجهٍ؛ فلأنه لم يوص له بها. وأما كونه يستحق ما انهدم على وجه؛ فلأنه داخل في وصيته. بدليل ما لو ينهدم. وأما كونه لا يستحقه على وجهٍ؛ فلأنه انتقل إلى اسم آخر غير الذي كان تسمى به. قال: (وإن وصى لرجلٍ ثم قال: إن قَدِم فلان فهو له. فقدم في حياة الموصي: فهو له. وإن قدم بعد موته فهو للأول في أحد الوجهين، وفي الآخر: هو للقادم). أما كون الموصى به للقادم إذا قدم في حياة الموصي؛ فلأن المالك وصى له به معلقاً على شرط، وقد وجد. فيترتب عليه مقتضاه. وأما كونه له إذا قدم بعد موت الموصي على وجهٍ؛ فلأنه استحقه بالموت وملكه بالقبول. فلم ينقل إلى غيره؛ كسائر الأملاك المملوكة بالقبول. وأما كونه للقادم على وجهٍ؛ فلأنه موصى له به بشرط قدومه وقد وجد. والأول أصح؛ لما تقدم. والشرط يجب فيه لحظ حياة الموصي؛ لأنه بعد الموت أجنبي منه. ¬

_ (¬1) في هـ: الموصى. (¬2) مثل السابق.

فصل [تخرج الواجبات من رأس المال] [قال المصنف رحمه الله] (¬1): (وتخرج الواجبات من رأس المال أوصى بها أو لم يوص. فإن وصى معها بتبرع اعتبر الثلث من الباقي). أما كون الواجبات تخرج من رأس المال؛ فلأن ذلك يجب عليه وفاؤه في حياته من غير اعتراضٍ للورثة عليه. فكذلك بعد وفاته. وأما كون ذلك كذلك أوصى بالواجبات أو لم يوص؛ فلوجوب الوفاء في الحالين. وأما كون الثُّلُث يعتبر من الباقي إذا وصى مع الواجبات بتبرع؛ فلأن الواجبات يجب إخراجها من رأس المال؛ لما تقدم. فيكون جميع ماله الذي يملك التصرف في ثلثه الباقي بعد أداء الواجبات. وإذا كان الباقي بعد أداء الواجبات هو جميع ماله وجب اعتبار الثلث منه. قال: (وإن قال: أخرجوا الواجب من ثلثي. فقال القاضي: يُبدأ به. فإن فضل من الثلث شيء فهو لصاحب التبرع وإلا بطلت وصيته. وقال أبو الخطاب: يزاحم به أصحاب الوصايا. فيحتمل على هذا أن يُقَسِّم الثلث بينهما ويتمم الواجب من رأس المال فيدخله الدَّور). أما (¬2) كون الواجب يُبدأ به إذا قال الموصي ما ذُكر على قول القاضي؛ فلأنه آكد من التبرع. فقُدِّم عليه؛ لأن التأكيد له أثر. وأما كون الفاضل من الثلث عن ذلك لصاحب التبرع؛ فلأنه كان يستحق جميع ما أوصي له به لولا مزاحمة الواجب. فإذا زالت المزاحمة استحق الفضلة عملاً بوصيته السالمة عن المزاحمة. وأما كون الوصية تبطل إذا لم يفضل شيء من الثلث؛ فلأنها لم تصادف ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: وأما.

محلاً. أشبه من وُصي له بشيء فلم يخلّف الميت (¬1) شيئاً. وأما كونه يزاحم به أصحاب الوصايا على قول أبي الخطاب؛ فلأنهما استويا في الوصية بهما. أشبها الموصى لهما. فعلى هذا يحتمل أن يقسم الثلث بينهما على قدر حَقَّيْهما؛ كالموصى لهما. ويتمم الواجب من رأس المال؛ لأنه لا بدّ من وفائه ولم يبق من الثلث ما هو محل له. ويدخله الدَّور؛ لأنه لا يُعلم قدر الثلث حتى يُعلم ما هو تتمة الواجب، ولا يعلم تتمة الواجب حتى يُعلم ما يستحقه بالمزاحمة، ولا يُعلم ما يستحقه بالمزاحمة حتى يعلم الثلث. فإن قيل: لم (¬2) قال المصنف رحمه الله: فيحتمل على هذا؟ قيل: لأن المزاحمة ليست صريحة فيه؛ لأن قول القاضي يصدق عليه أيضاً أن الواجب زاحم الوصايا؛ لأنه إذا أخذ الواجب أولاً صدق أنه زوحم به أصحاب الوصايا. قال: (فلو كان المال ثلاثين، والواجب عشرة، والوصية عشرة: جعلتَ تتمة الواجب شيئاً يكن الثلث عشرة إلا ثلث شيء بينهما: للواجب خمسة إلا سدس شيء. يُضم إليه شيئاً يكن عشرة. فتجبر الخمسة بسدس شيء من الشيء يبقى خمسة أسداس شيء يعدل خمسة فالشيء ستة ويحصل للوصي الآخر أربعة). أما كون تتمة الواجب تجعل شيئاً؛ فلأنه غير معلوم، وفي التنكير في الحال تعريف لذلك في المآل. وأما كون الثلث يكون عشرة إلا ثلث شيء؛ فلأنك إذا أسقطت شيئاً من ثلاثين يكون ثلثها ذلك. وأما كون ذلك بين الواجب والوصية؛ فلتساويهما في القدر. وأما كون الواجب له خمسة إلا سدس شيء؛ فلأن له نصف ما ذُكر، وذلك نصفه. ¬

_ (¬1) في ج: الموصي. (¬2) في هـ: له.

وأما كون الشيء يضم إليه؛ فلأنه تتمته. وأما كون ذلك يكون عشرة؛ فلأن الشيء ستة خرج منه سدسٌ جبراً للخمسة. فيبقى خمسة وخمسة أسداس، وذلك عشرة. وكان الأجود أن يُقال هاهنا: تكن خمسة وخمسة أسداس شيء. وأما كون الخمسة تجبر بسدس شيء؛ فلتبقى بلا كسر. وأما كون الشيء يبقى منه خمسة أسداس؛ فظاهر. وأما كون ذلك يعدل خمسة؛ فلأن الخمسة وخمسة الأسداس تعدل عشرة خمسة تعدل خمسة يبقى خمسة أسداس تعدل خمسة. وأما كون الشيء ستة؛ فلأن الخمسة إذا عدلت خمسة أسداس كان كل سدس يعدل واحداً. فيكون الشيء ستة ضرورة. فإن قيل: كيف طريق عمل ذلك؟ قيل: أن تجعل تتمة الواجب شيئاً مُنَكَّراً -لما تقدم من أن المسألة المذكورة يدخلها الدَّور- ثم تسقطه من جميع المال. ثم تنظر كم بقي. فتأخذ ثلثه. ثم تقسمه على قدر الواجب والتبرع. فلو كان أحدهما مثل الآخر كما ذكره المصنف رحمه الله قسمته بينهما نصفين. ولو كان أحدهما مثلي الآخر قسمته أثلاثاً ثم تضم الشيء المنكر المخرج من رأس المال إلى ما حصل للواجب من الثلث؛ لأنه يكمله حقه ويجبر المجهول الحاصل بالقسمة. فما بقي من الشيء فاجعله باقياً على تنكيره مع (¬1) العدد الذي جبرته. فتقول في مسألة المصنف: أسقط شيئاً من ثلاثين. يبقى ثلاثون إلا شيئاً. ثلثها عشرة إلا ثلث شيء. مقسومة نصفين يكون نصيب الواجب خمسة إلا سدس شيء. ضُم إليها الشيء تصير خمسة إلا سدس شيء وشيئاً. اجبر سدس الشيء المستثنى من الخمسة بسدس شيء يكون المجموع خمسة وخمسة أسداس شيء [تعدل عشرة؛ لأنها جميع حقه. أسقط خمسة بخمسه تبقى خمسة أسداس شيء] (¬2) تعدل خمسة فالشيء إذاً ستة. ثم ارجع (¬3) إلى الأول فقل ¬

_ (¬1) في هـ: من. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) في هـ: إذا رجع.

الشيء ستة. بقي أربعة وعشرون ثلثها ثمانية مقسومة بينهما نصفين: يكون لصاحب الواجب أربعة. ضمها إلى الستة يبقى عشرة. وهو حق الواجب. ولو كان الواجب خمسة عشر والتبرع خمسة فأسقط تتمة الواجب من المال واقسم ثلثه بين الواجب والتبرع أرباعاً يكن الواجب سبعة ونصفاً ونصف شيء وربع شيء يعدل خمسة عشر قابل سبعة ونصفاً بسبعة ونصف يبقى نصف شيء وربعه يعدل سبعة ونصفاً فالشيء إذاً عشرة.

باب الموصَى له قال المصنف رحمه الله: (تصح الوصية لكل من يصح تمليكه من مسلم وذمي ومرتد وحربي. وقال ابن أبي موسى: لا تصح لمرتد). أما كون الوصية تصح لكل من يصح تمليكه من مسلم وذمي؛ فلأن الوصية تمليكٌ عند الموت. فإذا كان الموصى له ممن يصح تمليكه وجب أن تكون صحيحة؛ كما لو باعه شيئاً أو وهبه له ونحو ذلك. وأما كونها تصح لمرتدٍّ على المذهب؛ فقياسٌ على الذمي. وأما كونها لا تصح له على قول ابن أبي موسى؛ فلأنه مستحق القتل. يغلب على الظن موته به. أشبه الميت. وأما كونها تصح لحربي؛ فلأنه يصح تمليكه. أشبه الذمي وفارق المرتد. وإن اشتركا في استحقاق القتل من حيث إنه (¬1) لا يغلب على الظن موته به لعدم القدرة عليه. قال: (وتصح لمكاتبه ومُدَبّره وأم ولده). أما (¬2) كون الوصية تصح لمكاتبه؛ فلأنه معه كالأجنبي في المعاملات. فكذلك في الوصية. ولأنه يملك المال بالعقد. فصحت الوصية له؛ كالحر. وأما كونها تصح لمدبّره وأم ولده؛ فلأن كل واحدٍ منهما يعتق عند الموت. فيكون حينئذٍ قابلاً للتمليك، وقد روي عن عمر رضي الله عنه «أنه وصَّى لأمهاتِ أولادهِ بأربعة آلاف أربعة آلاف». رواه سعيد (¬3). قال: (وتصح لعبد غيره. فإذا قبلها فهي لسيده). أما كون الوصية تصح لعبد غيره؛ فلأنه يصح اكتسابه. فصحت الوصية له؛ ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: وأما. (¬3) سقط لفظي: رواه سعيد من هـ.

كالحر. وأما كونها لسيده إذا قبلها؛ فلأنها كسبٌ من أكساب العبد. فكان لسيده؛ كالصيد. قال: (وتصح لعبده بمشاع كثلثه. فإذا وصى له بثلثه عتق وأخذ فاضل الثلث، وإذا لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث). أما كون الوصية لعبده تصح (¬1) بمشاعٍ كما مثل المصنف رحمه الله؛ فلأن ذلك وسيلةٌ إلى عتقه. أشبه ما لو وصى بعتقه. وأما كونه يعتق إذا وصى له بثلثه؛ فلأنه كل الثلث أو بعضه فيتعين الوصية فيه نظراً إلى تحصيل العتق. ويعتق؛ لأنه ملك نفسه. وأما كونه يأخذ ما فضل من الثلث؛ فلأنه حرٌ وقد أوصي له بالثلث. فاستحق بقيته؛ كالحر. وأما كونه يعتق منه بقدر الثلث إذا لم يخرج منه؛ فلأن وصيته تصح في ذلك. ومفهوم كلام المصنف رحمه الله: أنه لا يعتق منه أكثر من ذلك. وهو صحيح؛ لأن الوصية لا تنفذ في الزائد عن الثلث إلا بإجازة الوارث ولم توجد. قال: (وإن وصى له بمعين أو بمائة لم يصح. وحكي عنه أنه يصح). أما كون الوصية لعبد الموصي (¬2) بما ذكر لا تصح على المذهب؛ فلأنه يصير ملكاً للورثة فيملكون وصيته فكأنه وصى لورثته بما يرثونه. فلم يصح؛ لعدم الفائدة فيه. وأما كونها تصح على روايةٍ؛ فلأن تلك إحدى الوصيتين. فصحت؛ كما لو وصى له بمشاع في مال. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) سقط لفظي: لعبد الموصي من هـ.

قال: (وتصح للحمل إذا علم أنه كان موجوداً حين الوصية بأن تضعه لأقل من ستة أشهر إن كانت ذات زوج، أو سيد يطؤها أو لأقل من أربع سنين إن لم يكن كذلك في أحد الوجهين. وإن وصى لمن تحمل هذه المرأة لم يصح). أما كون الوصية تصح للحمل؛ فلأنه يرث، والوصية تجري مجرى الميراث من حيث إنها انتقال المال من إنسان بعد موته إلى الموصى له بغير عوض؛ كانتقال الميراث إلى الوارث. وقد سمى الله الميراث وصية بقوله: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11]. ولأن الوصية أوسع من الميراث؛ لأنها تصح للمخالف في الدين والعبد. بخلاف الميراث. وأما كون العلم بوجوده حين الوصية شرطاً لصحتها؛ فلأنه إذا لم يكن موجوداً تكون الوصية لحمل يحدث، وذلك غير صحيح؛ لما يذكر بعدُ. وإذا اشتُرط كونه موجوداً فلا بد من العلم بذلك ليتحقق الشرط. وأما قول المصنف رحمه الله: بأن تضعه فبيان (¬1) لطريق العلم به. فعلى هذا يُنظر فإن كانت المرأة ذات فراش من زوجٍ أو سيدٍ (¬2) يطؤها ووضعته لستة أشهر فما دون. عُلم أنه كان موجوداً؛ لاستحالة أن يولد لأقل من ذلك. ولم يذكر المصنف رحمه الله ستة أشهر ولا بد منها فإنها إذا وضعت لستة أشهر علم أيضاً أنه كان موجوداً؛ لاستحالة [أن يولد ولد لأقل من ذلك] (¬3). وصرح به في المغني. وإن وضعته لأكثر من ذلك لم يعلم كونه موجوداً حين الوصية؛ لاحتمال حدوثه بعد الوصية. وإن لم تكن ذات فراش، أو كان لها فراش إلا أنه لم يكن (¬4) يطأ ووضعته لأربع سنين فما دون: ففيه وجهان: ¬

_ (¬1) في هـ: بيان. (¬2) في هـ: فإن كانت المرأة ذات زوج أو سيدها. (¬3) ساقط من هـ. (¬4) زيادة من ج.

أحدهما: تصح الوصية؛ لأنه محكومٌ بوجوده لاحقٌ بأبيه. والثاني: لا يصح؛ لأنه مشكوك في وجوده. فلم يصح مع الشك فيه. ولا يلزم من لحوق النسب صحة الوصية. فإن النسب يثبت بالاحتمال. والكلام في قول المصنف: لأقل من أربع سنين كالكلام في قوله: لأقل من ستة أشهر. وإن وضعته لأكثر من ذلك لم يعلم وجوده لا حقيقة ولا حكماً. وأما كون الوصية لمن تحمل هذه المرأة لا تصح؛ فلأن الوصية تمليكٌ. فلا تصح للمعدوم. ولأن الوصية أُجريت مجرى الميراث. ولو حدث حملٌ يرث عند موت قريبه لو كان موجوداً لم يرث. فكذلك الوصية. فإن قيل: لو وقف على من يحدث من ولده أو لد ولده صح. فالوصية أولى؛ لأنها تصح بالمعدوم والمجهول. قيل: الوقف يراد للدوام. فمن ضرورته إثباته للمعدوم. قال: (وإن قتل الوصي الموصي بطلت وصيته. وإن جرحه ثم أوصى له فمات من الجرح لم تبطل في ظاهر كلامه. وقال أصحابنا في الوصية: للقاتل روايتان). أما كون الوصية تبطل إذا قتل الوصي الموصي؛ فلأنه قصد تعجيل وصيته. فعورض بنقيض قصده؛ كالوارث إذا قتل موروثه، والزوج إذا طلّق زوجته في مرض موته. وأما كونها لا تبطل إذا جرحه ثم أوصى له فمات من الجرح في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأن الوصية بعد الجرح صدرت من أهلها في محلها، ولم يطرأ عليها ما يبطلها. فصحت عملاً بالمقتضي للصحة السالم عن المبطل. وأما كون الوصية للقاتل فيها روايتان على قول الأصحاب سواء وصى له فقتله أو جرحه جرحاً صالحاً للزهوق ثم وصى له؛ فلدلالة الدليل عليهما: أما على البطلان في الأولى؛ فلما تقدم. وأما في الثانية؛ فلأنه قاتلٌ. فبطلت وصيته؛ كالأولى. وأما على عدمه فيهما؛ فلأن الهبة تصح للقاتل. فكذلك الوصية.

والأولى ما ذكر المصنف رحمه الله من الفرق (¬1) بين القاتل بعد الوصية وبين من وُصي له بعد الجرح من حيث: إن القاتل بعد الوصية استعجل وصيته بقتل الموصي. فعورض بنقيض قصده. بخلاف من جرح ثم وُصي له فإنه لا ينسب إليه استعجال وصيته؛ لأنها لم تكن موجودة بعد. قال: (وإن وصى لصنفٍ من أصناف الزكاة، أو لجميع الأصناف: صح. ويعطى كل واحدٍ منهم القدر الذي يعطاه من الزكاة). أما (¬2) كون الوصية تصح لمن ذُكر؛ فلأنه أهلٌ للتمليك. بدليل الزكاة، والوصية تمليك. ولأن الوقف يصح عليه؛ لما ذكر في موضعه. فلأن تصح الوصية له بطريق الأولى. وأما كون كل واحدٍ منهم يعطى من الوصية المذكورة ما يعطى من الزكاة؛ فلأن مطلق كلام الآدمي يحمل على المقيد من كلام الله. قال: (وإن وصى لكَتْب القرآن، أو العلم، أو لمسجدٍ، أو لفرسٍ حبيسٍ ينفق عليه: صح. وإن مات الفرس رُدّ الموصى به أو باقيه إلى الورثة). أما كون الوصية لأحد ما ذُكر تصح؛ فلأن كل واحدٍ من ذلك فيه قُربة. فصحت الوصية له؛ كالفقير. وأما كون الموصى به للفرس أو باقيه يُردّ إلى الورثة إذا مات؛ فلأنه لما بطل محل الوصية وجب الرد على الورثة؛ كما لو ردّ الموصى له الوصية. قال: (وإن وصى في أبواب البر صُرف في القُرَب. وقيل عنه: يصرف في أربع جهات: في أقاربه، والمساكين، والحج، والجهاد. وعنه: فداء الأسرى مكان الحج). أما كون ما وصي به في أبواب البرّ يُصرف في القُرب على ما ذكر المصنف ¬

_ (¬1) سقط لفظي: من الفرق من هـ. (¬2) في هـ: وأما.

رحمه الله [هنا وهو اختياره] (¬1)؛ فلأن القُرب هي أبواب البر. وأما كونه يُصرف في الأقارب والمساكين والحج والجهاد على روايةٍ قيلت عن الإمام وهي المذهب؛ فلأن أبواب البر وإن كانت عامة في كل قربةٍ إلا أن الظاهر من حال الموصي أنه أراد المشهور من ذلك، والجهات الأربع هي أشهر القرب. وأما كون فداء الأسرى مكان الحج على روايةٍ؛ فلأن فيه تخليص رقبةٍ مؤمنةٍ من أيدي الكفار. ولأن تخليص الأسير يتضمن نفع المخلص ونفع نفسه. بخلاف الحج فإنه لا يتضمن إلا نفع من حج عنه. قال المصنف في المغني: يعني اختصاص الجهات المذكورة ليس على سبيل اللزوم والتحديد بل يجوز صرفه في جهات البر كلها؛ لأن اللفظ للعموم فيجب حمله على عمومه. وفيه إشعارٌ بكون قوله أولاً: صُرف في القرب على جهة الاختيار منه لا أنه (¬2) منقولٌ عن أحد من الأصحاب. ولذلك نبّه عليه عند شرحه. ويعضده أن أبا الخطاب لم ينقل أنه في غير الجهات المذكورة. قال: (وإن وصى أن يحج عنه بألفٍ صُرف في حجةٍ بعد أخرى حتى ينفذ. ويدفع إلى كل واحدٍ قدر ما يحج به). أما كون الوصية بما ذكر تُصرف في حجةٍ بعد أخرى حتى ينفذ؛ فلأن مقتضى الوصية صرف المال فيما وصي به، وقد وصى بألفٍ في حجٍ. فيجب أن يُصرف في حجةٍ بعد حجة. وأما كونه يُدفع إلى كل واحدٍ قدر ما يحج به؛ فلأن حاجته إلى ذلك يقتضي ذلك. وفيما ذكر إشعارٌ بأنه لا يجوز أن يزاد من يحج على ما يحتاج إليه. وهو صحيح؛ لأنه تصرف بطريق النظر. فلم تجز الزيادة على ما تقتضيه العادة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: لأنه.

قال: (وإن قال: يُحج عني حجة بألف دفع الكل إلى من يحج. فإن عيّنه في الوصية فقال: يحج عني فلان بألف فأبى الحج (¬1) وقال: اصرفوا إليّ الفضل لم يُعْطَه وبطلت الوصية). أما كون الكل فيما ذُكر يدفع إلى من يحج عن الموصي؛ فلأنه أوصى به في حجة واحدةٍ. فوجب أن يعمل بها. وأما كون الفضل لا يعطى للموصى له إذا كان معيناً وأبى أن يحج وقال: اصرفوا إليّ ذلك؛ فلأنه إنما أوصي له بالزيادة بشرط الحج ولم يوجد. وأما كون الوصية تبطل؛ فلأن الموصى له لم يقبل الوصية وامتنع من فعلها. أشبه ما لو أوصي له بمال فردّه. [فإن قيل: بطلان الوصية مشعرٌ بأن المال الموصى به للورثة، وذلك ظاهر في أنه لا يحج عنه. وذلك مشكل من وجوه: أحدها: أن الوصية المذكورة فيها حقٌّ للحج وحقٌّ للموصى له. فردّه يُبطل حقه. فَلِمَ يبطل حق غيره. ولذلك زاد بعض من أذن له المصنف رحمه الله في الإصلاح في حقه. وثانيها: أنه قال في الكافي: فإن أبى المعين الحج صرف إلى من يحج عنه نفقة المثل والباقي للورثة. وبين ذلك وبين ما تقدم تناقض. وثالثها: أن الموصي إذا كان ممن وجب عليه الحج، ولم يحج تعين الحج عنه. ولذلك قال صاحب المحرر فيه: ومتى أبى المعيَّن أن يحج أقيم غيره بنفقة المثل والفضل للورثة. قيل: الجوابُ عن إشعار بطلان الوصية بأن المال الموصى به للورثة صحيح وهو كذلك. وعن قوله: وذلك ظاهر في أنه لا يحج عنه من الموصى به لكونه موصى به لا في أنه لا يحج عنه مطلقاً؛ لأن الكلام لا دلالة له على ذلك. وكونه لا يحج عنه من المال الموصى به لكونه موصى به صحيح؛ لأن الوصية إذا بطلت بطل تعين الحج من الموصى به. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

وعن قوله: الوصية فيها حقٌ للحج فكيف يبطل برد المعين: بأن اللفظ المذكور دالٌ على حج المعين لا على الحج مطلقاً. وقد تعذر حصول ما دل اللفظ عليه بردّه فيبطل. وعن زيادة بعض من أذن له المصنف رحمه الله بأنها زيدت لنفي ما توهم أولاً؟ ويرد عليها: أنها توهم عدم بطلان الوصية بالنسبة إلى الحج حتى أن ذلك يقتضي الحج من الموصى به؛ لكونه موصى به. وليس كذلك؛ لما تقدم ذكره. وعن قوله في الكافي: صُرف إلى من يحج عنه نفقة المثل: بأن ذلك ليس صريحاً في الصرف من الوصية بل يجوز أن يكون من التركة ونحن نقول به. لا يقال ظاهره ذلك، لأنا نقول يجب حمله على ما ذكر؛ لما تقدم. على أن كلامه عام فيمن عليه حج ومن لا حج عليه وليس ذلك مراداً، ولذلك صرح صاحب المحرر فيه بأن من أوصى ولا حج عليه بطلت الوصية بالرّد. وإذا حمل كلامه على ما ذكر لا تناقض. وعن قوله: أن الموصي إذا كان ممن يجب الحج عليه تعين الحج عنه: بأنه يتعين الحج عنه من تركته أم من المال الموصى به؟ الأول: مسلم، والثاني: ممنوع. وعن قوله: ولذلك قال صاحب المحرر فيه ما تقدم: بأنه ليس في قوله تصريحٌ بأن ذلك من الموصى به. فإن قيل: ظاهره ذلك كقوله: والفضل للورثة. ولأنه حكم ببطلان الوصية فيما إذا كان الموصي لا حج عليه وسكت عن ذلك هنا. قيل: يجب صرفه عن ظاهره؛ لما تقدم. والحكم ببطلان الوصية فيمن لا حج عليه والسكوت عن ذلك هنا لنفي التوهم المتقدم ذكره] (¬1). قال: (وإن وصى لأهل سِكَّته فهو لأهل دربه. وإن وصى لجيرانه تناول أربعين داراً من كل جانب. وقال أبو بكر: مستدار أربعين داراً). أما كون الوصية لأهل سِكَّته لأهل دربه؛ فلأن دربه سكته وقد أضافها إليه. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فتعين كون المراد ذلك. وأما كون الوصية لجيرانه يتناول أربعين داراً من كل جانب على المذهب؛ فلما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجارُ أربعونَ داراً هكذَا وهكذَا وهكذَا». رواه الإمام أحمد. وأما كون ذلك مستدار أربعين داراً على قول أبي بكر؛ فلأن أولئك أقرب ممن ذكر. والأول أولى؛ لما تقدم من الحديث. قال: (وإن وصى لأقرب قرابته وله أب وابن فهما سواء. والجد والأخ سواء. ويحتمل تقديم الابن على الأب، والأخ على الجد، والأخ من الأب. والأخ من الأم سواء، والأخ من الأبوين أحق منهما). أما كون الأب والابن سواء في الوصية لأقرب قرابته على المذهب؛ فلأن كل واحدٍ منهما يليه في القرب. فلم يكن أحدهما أقرب من الآخر. وأما كون الجد والأخ سواء؛ فلأن كل واحدٍ منهما يدلي بالأب. فكانا سواء. وأما كونه يحتمل تقديم الابن على الأب، والأخ على الجد؛ فلأن الوصية يُلحظ فيها الصلة. فينبغي أن تحمل حالة الموت على حالة الحياة، وصلة الحي إلى ابنه وأخيه أكثر من أبيه وجده. وأما كون الأخ من الأب والأخ من الأم سواء؛ فلأنهما في درجةٍ واحدة. [فإن قيل: كيف يسوّى بين الأخ من الأب وبين الأخ من الأم؟ ولو وصى لقرابته لم يدخل في ذلك الأخ من الأم على المذهب، ومن لا يدخل في القرابة لا يدخل في أقرب القرابة؟ قيل: ذلك مخرّج على الرواية الأخرى. ذكره صاحب المغني فيه. فأما على المذهب فلا؛ لما ذكر] (¬1). وأما كون الأخ من الأبوين أحق منهما؛ فلأنه يساويهما في إحدى الجهتين ويمتاز بالأخرى. فله مزيد قُرب. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل [لا تصح الوصية لكنيسة] قال المصنف رحمه الله: (ولا تصح الوصية لكنيسةٍ، ولا بيت نارٍ، ولا لكَتْب التوراة والإنجيل، ولا لملكٍ، ولا لميتٍ، ولا بهيمة). أما كون الوصية لا تصح للثلاثة الأول؛ فلأن كل ذلك معصية. فلم تصح الوصية له؛ كالوقف عليه. وأما كونها لا تصح للثلاثة الأُخَر؛ فلأن الوصية تمليكٌ والثلاثة لا تقبل التمليك؛ لما تقدم. قال: (وإن وصّى لحيٍ وميتٍ يَعلم موته فالكل للحي. ويحتمل أن لا يكون له إلا النصف. وإن لم يَعلم فللحي نصف الموصى به). أما كون الكل للحي إذا عَلم الموصي موت الآخر على المذهب؛ فلأنه إذا وصّى بذلك مع علمه بموته فكأنه قصد الوصية للحي وحده. فيكون له وحده؛ كما لو صرّح به. وأما كونه يحتمل أن لا يكون له (¬1) إلا النصف؛ فلأنه أضاف الوصية إليهما. فإذا لم يكن أحدهما محلاً للتمليك بطلت (¬2) في نصيبه وبقي نصيب الحي وهو النصف. وأما كونه له نصف الموصى به وجهاً واحداً إذا لم يَعلم؛ فلأنه أضاف الوصية إليهما، ولا قرينة تدل على عدم إرادة الآخر؛ لأنه لم يَعلم موته، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون للحي إلا النصف. عملاً بالمقتضي السالم عن القرينة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: فبطل.

قال: (وإن وصّى لوارثه وأجنبي بثلث ماله. فرد الورثة: فللأجنبي السدس. وإن وصى لهما بثلثي ماله: فكذلك عند القاضي. وعند أبي الخطاب: له الثلث كله). أما كون الأجنبي له السدس في الوصية بالثلث؛ فلأنه لما وصى لهما (¬1) بذلك اقتضى أن يكون لكل واحدٍ منهما السدس. فصح السدس للأجنبي؛ لأنه لا اعتراض للورثة عليه، وبطل سدس الوارث؛ لأن الوصية له لا تصح إلا بإجازة الورثة. وأما (¬2) كون الحكم كذلك عند القاضي في الوصية بالثلثين؛ فلأن الورثة لما ردوا الوصية بقي الثلث بينهما، وسدس الوارث يسقط بالرد. فيبقى للأجنبي السدس. وأما كونه له الثلث كله عند أبي الخطاب؛ فلأنه موصى له بالثلث، وإنما يرجع إلى السدس عند مزاحمة الوارث، والوارث هنا سقط بالرد. فوجب أن يكون للأجنبي الثلث عملاً بوصيته السالمة عن المعارض. قال: (وإن وصّى بماله لابنيه وأجنبي. فردا وصيته فله التسع عند القاضي، وعند أبي الخطاب: له الثلث. وإن وصى لزيد وللفقراء والمساكين بثلثه فلزيدٍ التسع). أما كون الأجنبي له التسع عند القاضي إذا وصّى بماله لابنيه وأجنبي فردا وصيته؛ فلأن بالرد رجعت الوصية إلى الثلث، والموصى له هنا ثلاثة: ابنان وأجنبي. فيكون للأجنبي التسع؛ لأنه ثلث الثلث. وأما كونه له الثلث عند أبي الخطاب؛ فلأن الأجنبي موصى له بالثلث، وبالرد بطلت وصية الوارث. فوجب أن يكون له الثلث عملاً بالوصية السالمة عن المزاحم. وأما كون زيدٍ له التسع إذا وصى له وللفقراء والمساكين بثلثه؛ فلأنه جعل ثلثه لجهاتٍ ثلاثٍ. فوجب أن يقسم بينهما؛ كما لو قال: لزيدٍ وعمروٍ وبكرٍ. ¬

_ (¬1) في هـ: لها. (¬2) في هـ: أما.

باب الموصَى به قال المصنف رحمه الله: (تصح الوصية بما لا يُقدر على تسليمه؛ كالآبق، والشارد، والطير في الهواء، والحمل في البطن، واللبن في الضرع. وبالمعدوم كالذي تحمل أمته، أو شجرته أبداً، أو في مدة معينة. فإن حصل منه شيء فهو له، وإلا بطلت الوصية). أما كون الوصية تصح بما لا يُقدر على تسليمه؛ فلأنها تصح بالمعدوم لما يأتي؛ فلأن تصح بالموجود بطريق الأولى. وأما كونها تصح بالمعدوم؛ فلأن الغرر والخطر ليس بمانعٍ في الوصية؛ لأنه ليس في مقابلتها عوض يتضرر صاحبها بفواته. بخلاف البيع. وأما قول المصنف رحمه الله: كالآبق والشارد والطير في الهواء والحمل في البطن واللبن في الضرع؛ فتمثيلٌ لما لا يُقدر على تسليمه. وقوله: كالذي تحمل أمته أو شجرته تمثيل للمعدوم. وأما قوله: أبداً أو في مدة معينة؛ فتنبيهٌ على أن الوصية بالمعدوم على ضربين: أحدهما: أن يكون الحمل فيما ذكر للموصى له على التأبيد. وثانيهما: أن يكون له ذلك مدة معينة كسنة دون ما عداها. وأما كون ما يحصل من ذلك للموصى له به؛ فلأن الوصية صحت. فوجب أن يكون الموصى به للموصى له. وأما كون الوصية تبطل إذا لم يحصل من ذلك للموصى به شيء؛ فلأنها لم تصادف محلاً. أشبه ما لو وصى بثلث ماله. فلم يخلّف شيئاً. قال: (وإن وصى له بمائة لا يملكها صح. فإن قدر عليها عند الموت أو على شيء منها (¬1)، وإلا بطلت). أما كون الوصية بمائة لا يملكها الموصي تصح؛ فلأن غاية ما يُقَدَّر في ذلك ¬

_ (¬1) في هـ: منهما.

أنها معدومة، والوصية بالمعدوم صحيحة. وأما كونها تبطل إذا لم يقدر عليها عند الموت ولا بقي شيء منها؛ فلأن الوصية لم تصادف محلاً. قال: (وتصح الوصية بما فيه نفعٌ مباحٌ من غير المال؛ كالكلب، والزيت النجس. فإن لم يكن للموصي مال فللموصى له ثلث ذلك. وإن كان له مال فجميع ذلك للموصى له وإن قل المال في أحد الوجهين، وفي الآخر: له ثلثه. وإن لم يكن له كلبٌ لم تصح الوصية به (¬1». أما كون الوصية تصح بما فيه نفعٌ مباحٌ من غير المال؛ فلأن الوصية تفيد اختصاصاً بالموصى له. فصحت بما ذكر؛ كالإرث. وبه فارقت البيع؛ لأن البيع يعتمد المال. وأما كون الموصى له: له (¬2) ثلث ذلك إذا لم يكن للموصي مال؛ فلأن الوصية إنما تنفذ في الثلث. وأما كونه له جميع ذلك إذا كان للموصي مال وإن قلّ في وجهٍ؛ فلأن الثلث أكثر منه. وأما كونه له ثلثه (¬3) لا غير في وجهٍ؛ فلأن ذلك ليس من جنس المال، وإنما هو حق منفرد. فلم يكن له جميعه؛ لئلا يلزم أن يكون له شيء ليس للورثة مثلاه. وأما كون الوصية بالكلب لا تصح إذا لم يكن له كلبٌ؛ فلأنها لم تصادف محلاً يثبت الحق فيه. قال: (ولا تصح الوصية بما لا نفع فيه؛ كالخمر، والميتة، ونحوهما). أما كون الوصية بما لا نفع فيه لا تصح؛ فلأنه خالٍ عن مقصودٍ شرعيٍ من وجه ما. ولأن من جملة ذلك الخمر، وقد حث الشرع على إراقته وإعدامه. فلم يناسب الحال صحة الوصية به. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) مثل السابق. (¬3) في هـ: ثلث.

ولأن ذلك لو كان في يد شخص لأجبر على إزالته. فلئلا يُقَرّ عليه أحد من جهة غيره بطريق الأولى. وأما قول المصنف رحمه الله: كالخمر والميتة ونحوهما؛ فتعداد لصور لا نفع فيها. قال: (وتصح بالمجهول؛ كعبدٍ، وشاةٍ. ويعطى ما يقع عليه الاسم. فإن اختلف الاسم بالحقيقة والعرف؛ كالشاة في العرف للأنثى. والبعير والثور هو في العرف للذكر وحده، وفي الحقيقة للذكر والأنثى: غلب العرف. وقال أصحابنا: تغلب الحقيقة. والدابة: اسم للذكر والأنثى من الخيل والبغال والحمير). أما كون الوصية بالمجهول كعبدٍ وشاةٍ تصح؛ فلأن الموصى له يخلّف الميت في الثلث؛ كما يخلّفه الوارث في الثلثين، والوارث يخلّف موروثه في ثلثيه مع الجهالة. فكذلك الموصى له. وأما كونه يعطى ما يقع عليه الاسم؛ فلأن بذلك يخرج عن عهدة الوصية. وأما كونه يُغلب العرف على اختيار المصنف إذا اختلف الاسم بالحقيقة والعرف؛ فلأن ذلك هو المراد غالباً. بدليل تبادره إلى الفهم. ولأن الشارع لو خاطب أقواماً بشيء لهم فيه عرف. فحملوه على ما يعرفونه: لم يعدوا مخالفين. فعلى هذا لو كانت الوصية بشاةٍ أعطي الموصى له أنثى؛ لأنها لها في العرف. ولو كانت ببعيرٍ أو ثورٍ أعطي الذكر وحده؛ لأن كل واحدٍ منهما له في العرف. وأما كونه يُغلب الحقيقة على قول أصحابنا؛ فلأنها الأصل. فعلى هذا يعطى الموصى له ذكراً أو أنثى؛ لأن كل واحدٍ (¬1) من ذلك يسمى شاة وبعيراً وثوراً حقيقة. وأما كون الدابة اسماً للذكر والأنثى من الخيل والبغال والحمير؛ فلأن ذلك هو المتعارف. قال: (ومن وصى له بغير معين؛ كعبدٍ من عبيده: صح. ويعطيه الورثة ما ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

شاءوا منهم في ظاهر كلامه. وقال الخرقي: يعطى واحداً بالقرعة. فإن لم يكن له عبيد لم تصح الوصية في أحد الوجهين، وتصح في الآخر. ويشترى له ما يسمى عبداً. وإن كان له عبيد فماتوا إلا واحداً تعينت الوصية فيه. فإن قتلوا كلهم فله قيمة أحدهم على قاتله). أما كون الوصية بغير معينٍ كعبدٍ من عبيده تصح؛ فلأن الجهالة في هذا أقل من الجهالة في عبدٍ، وقد صحت فيه؛ لما تقدم. فلأن تصح هاهنا بطريق الأولى. وأما كون الموصى له يعطيه الورثة ما شاءوا من تلك العبيد في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأنه يتناوله الاسم. فيرجع إلى رأيهم فيه؛ كما لو وُصّي له بحظٍ أو جزء. وأما كونه يُعطى واحداً بالقرعة على قول الخرقي؛ فلأنهم استووا بالنسبة إلى استحقاقه. فأقرع بينهم؛ كما لو أعتق واحداً منهم. وذكر المصنف رحمه الله في الكافي قول الخرقي رواية. وأما كون الوصية لا تصح إذا لم يكن له عبيد في وجهٍ؛ فلأنه وصى بما لا يملك. أشبه ما لو وصى بدارٍ ولا دار له. وأما كونها تصح في وجهٍ؛ فلأنه لما تعذّرت الصفة بقي أصل الوصية. فعلى هذا يشترى له ما يسمى عبداً؛ لأن الاسم يتناوله فيخرج به عن عهدة الوصية. وأما كون الوصية تتعين في الحي إذا كان له عبيدٌ فماتوا إلا واحداً؛ فلأنه لم يبق غيره. وأما كون الموصى له له قيمة أحدهم على قاتله إذا قتلوا كلهم؛ فلأن حقه في واحدٍ منهم وقد قتلهم كلهم. فوجب عليه ضمانه؛ كما لو قتل شخص عبد غيره. قال: (وإن وصّى له بقوسٍ، وله أقواسٌ للرمي والندف والبندق فله قوس النشاب؛ لأنه أظهرها. إلا أن تقترن به قرينة تصرف إلى غيره. وعند أبي الخطاب: له واحد منها كالوصية بعبدٍ من عبيده). أما كون الموصى له بقوس له قوس النشاب فيما ذكر إذا لم تقترن به قرينة

تصرف إلى غيره؛ فلما علل المصنف رحمه الله من أنه أظهرها. وأما كونه له واحد منها على قول أبي الخطاب؛ فلأنه في معنى الوصية بعبدٍ من عبيده. وأما كونه له ما تقترن به قرينة تصرف إليه؛ فلأن القرينة كالصريح. قال: (وإن وصى له بكلبٍ أو طبلٍ وله منها مباح ومحرم انصرف إلى المباح. وإن لم يكن له إلا محرم لم تصح الوصية). أما كون الوصية تنصرف إلى المباح فيما ذُكر؛ فلأن وجود المحرم كعدمه شرعاً. ولأنه لو صرح بالوصية بالمحرم لم تصح. فلئلا يشمله اللفظ عند الإطلاق بطريق الأولى. وأما كون الوصية لا تصح إذا لم يكن له إلا محرم؛ فلأن الوصية بالمحرم معصية. فلم تصح؛ كما لو وصى للكنيسة. قال: (وتنفذ الوصية فيما علم من ماله وما لم يعلم. وإذا وصى بثلثه فاستحدث مالاً دخل ثلثه في الوصية. وإن قُتل وأُخذت ديته فهل تدخل الدية في الوصية؟ على روايتين. وإن وصى بمعين بقدر نصف الدية فهل تحسب الدية على الورثة من الثلثين؟ على وجهين). أما كون الوصية تنفذ فيما عُلم من ماله وما لم يعلم؛ فلأن كليهما من ماله. فدخل في وصيته؛ كالآخر. ولأن المعدوم يدخل في ذلك؛ فلأن يدخل الموجود (¬1) غير المعلوم بطريق الأولى. وأما كونه يدخل ثلث ما استحدثه في الوصية؛ فلأن وصيته بثلث ما يملك عند موته، والحادث مملوكٌ له عند موته. وأما كون الدية تدخل في الوصية ففيه روايتان مبنيتان على أنها هل تثبت للميت ثم تنتقل إلى الورثة أو تثبت للورثة ابتداء؟ وفيه روايتان: ¬

_ (¬1) في هـ: المجود.

إحداهما: تثبت للميت؛ لأنها بدلُ نفسه ونفسُه له. ولأن دية الأطراف له. فكذلك دية النفس. فعلى هذه يدخل ثلثها في وصيته؛ لأنها من ماله. وثانيهما: يثبت للورثة ابتداء؛ لأن سببها الموت. فلا يجوز الوجوب قبله؛ لأن الحكم لا يتقدم سببه. ولأن الميت بالموت يزول ملكه. فكيف يتجدد له ملك؟ . فعلى هذه لا يدخل ثلثها في الوصية؛ لأن الدية ليست ملكه بل ملك الورثة. والأولى أولى؛ لما ذكر. والسبب الموجب للدية: الجرح الصالح للزهوق وهو موجودٌ في حياته، والموت شرط. فلا يلزم من الوجوب سبقه على السبب. وتجدد الملك للميت غير ممتنعٍ. بدليل من نصب شبكة ثم مات فوقع فيها صيدٌ فإنه يكون للميت يقضى منه دينه ووصيته. وهو متجدد. وأما كون الدية هل تحسب على الورثة من الثلثين؟ على وجهين إذا وصى بمعين بقدر (¬1) نصف الدية؛ فلأنه (¬2) ما تقدم ذكره يجري في ذلك؛ لأنه إن قيل: الدية للميت حسبت (¬3) على الورثة؛ لأنها من ماله. وإن (¬4) قيل: هي لهم لم تحسب عليهم؛ لأنها ليست من ماله. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: فإنه. (¬3) في هـ: حسب. (¬4) في هـ: فإن.

فصل [في الوصية بالمنافع] قال المصنف رحمه الله: (وتصح الوصية بالمنفعة المفردة. فلو وصّى لرجلٍ بمنافع أمته أبداً أو مدة معينة صح). أما كون الوصية تصح بالمنفعة المفردة؛ فلأن المنفعة تملك بعقد المعاوضة. فوجب أن تصح الوصية بها؛ كالأعيان. ولأن الوصية هبة المنفعة بعد الموت. فوجب أن تصح كهبتها حياةً في العارية. وأما كون الوصية بمنافع أمته أبداً أو مدة معينة تصح؛ فلأن الوصية بذلك وصية بمنفعة، والوصية بالمنفعة تصح؛ لما تقدم. قال: (وإذا وصّى بها أبداً فللورثة بيعها وعتقها. وقيل: لا يصح بيعها إلا لمالك نفعها. ولهم ولاية تزويجها وأخذ مهرها في كل موضع وجب؛ لأن منافع البضع لا تصح الوصية بها. وقال أصحابنا: مهرها للوصي). أما كون الورثة لهم بيع الأمة الموصى بمنفعتها أبداً وعتقها على المذهب؛ فلأن البيع والعتق يقعان على الرقبة وهي مملوكة. وأما كونها لا يصح بيعها إلا لمالك نفعها على قول؛ فلأن بيع ما لا نفع فيه لا يصح، وبيعها لغير مالك نفعها بيعٌ لما لا نفع فيه مملوك لغير البائع. وإنما صح بيعها لمالك نفعها؛ لأنه يتضمن خلوص العين له رقبة ومنفعة، وفي ذلك نفع. فيكون البيع مشتملاً على نفع. بخلاف غيره. وأما كونهم لهم ولاية تزويجها وأخذ مهرها في كل موضعٍ وجب على قول غير الأصحاب؛ فلما علل المصنف من أن منافع البضع لا تصح الوصية بها. وإنما لم تصح الوصية بها؛ لأن (¬1) عارية الأمة للوطء لا يجوز. فكذا الوصية. وإذا لم تصح الوصية بها بقيت للورثة. فكان لهم العقد عليها وأخذ ما يقابلها في كل موضعٍ وجب. ¬

_ (¬1) في هـ: لأنها.

وأما كون مهرها للوصي على قول أصحابنا؛ فلأنه بدل المنفعة، وهي مستحقة له. قال: (وإن وُطئت بشبهةٍ فالولد حرٌ، وللورثة قيمة ولدها عند الوضع على الواطئ). أما كون الولد حراً؛ فلأن وطء الشبهة كالوطء في النكاح لمكان الشبهة. وأما كون الورثة لهم قيمة ولدها؛ فلأنه امتنع رقّه. فوجب جبر ما فات من رقّه. وأما كون القيمة عند الوضع؛ فلأنه حينئذٍ وجد؛ لأنه قبل الوضع لا يُعلم قيمته. فوجب اعتبار أول حالة يعلم بها. وأما كون القيمة على الواطئ؛ فلأنه هو المفوّت. قال: (وإن قتلت فلهم قيمتها في أحد الوجهين. وفي الآخر: يشترى بها ما يقوم مقامها). أما كون الورثة لهم قيمة المقتولة في وجهٍ؛ فلأن الإتلاف صادف الرقبة، وفوات المنفعة حصل ضمنا. وأما كونها يشترى بها ما يقوم مقامها في وجهٍ؛ فلأن الحق يعود على مثل ما كان. ولأنه لو قتل جارية موقوفة اشترى بقيمتها ما يقوم مقامها. فكذا هاهنا. قال: (وللوصي استخدامها وإجارتها وإعارتها. وليس لواحدٍ منهما وطئها. وإن ولدت من زوجٍ أو زناً فحكمه حكمها). أما كون الوصي له ما تقدم ذكره؛ فلأن جميع ما ذكر من منفعتها وهو موصى له بها. وأما كونه ليس لواحدٍ من الوصي ومالك الرقبة وطئها؛ فلأن الوصيَّ الرقبةُ لغيره، والوطء لا يجوز إلا في نكاحٍ أو ملك رقبةٍ، وكلاهما منتفٍ هاهنا. ومالك الرقبة المنفعة لغيره، والوطء منفعة. وأما كون حكم ما ولدت من زوجٍ أو زناً حكم أمه؛ فلأن الولد يتبع الأم.

فكان حكمه حكمها؛ كولد أم الولد والمكاتبة. قال: (وفي نفقتها ثلاثة أوجهٍ؛ أحدها: أنها في كسبها. والثاني: على مالكها. والثالث: على الوصي). أما كون نفقة الموصى بمنفعتها في كسبها في وجهٍ؛ فلأنه (¬1) يتعذر إيجاب النفقة على مالك الرقبة؛ لكونه لا نفع له، وعلى مالك المنفعة؛ لكونه لا رقبة له. فلم يبق إلا أن يجب في كسبها. وأما كونها على مالك الرقبة في وجهٍ؛ فلأنه مالكها. فوجبت عليه نفقتها؛ كنفقة العبد المستأجر. وأما كونها على الوصي في وجهٍ؛ فلأن النفع له. فكانت النفقة عليه؛ كنفقة الزوجة. قال: (وفي اعتبارها من الثلث وجهان: أحدهما: يعتبر جميعها من الثلث. والثاني: تقوّم بمنفعتها ثم تقوّم مسلوبة المنفعة فيعتبر ما بينهما). أما كون الموصى بمنفعتها يعتبر جميعها من الثلث في وجهٍ؛ فلأن المنفعة مجهولة لا يمكن تقويمها. فوجب اعتبار جميعها. وأما كونها تقوّم بمنفعتها ثم تقوّم مسلوبة المنفعة فيعتبر ما بينهما في وجهٍ؛ فلأن المنفعة هي الموصى بها. وإنما يعتبر من الثلث الموصى به. فعلى هذا طريق العلم بذلك أن يقال: قيمتها بمنفعتها مائة ومسلوبة المنفعة عشرة فالوصية تسعون. فلو كان له مالٌ غير العبد مبلغه مائة وسبعون صحت الوصية في المنفعة كلها؛ لأنها تخرج من الثلث. وعلى الوجه الأول تصح في تسعة أعشارها؛ لأن الموصى به مائة والثلث تسعون ونسبة التسعين إلى المائة ما ذُكر. ¬

_ (¬1) في هـ: أما كون نفقة الموصى بمنفعتها فلا.

قال: (وإن وصى لرجلٍ برقبتها، ولآخر بمنفعتها: صح. وصاحب الرقبة كالوارث فيما ذكرنا). أما كون الوصية بما ذُكر تصح؛ فلاشتمال كل واحدةٍ من الوصيتين على المصلحة: أما اشتمال وصية صاحب المنفعة عليها؛ فظاهر. وأما اشتمال وصية صاحب الرقبة عليها؛ فلأنه ينتفع بعتقها وولائها وبيعها في الجملة. وأما كون صاحب الرقبة كالوارث فيما ذكر المصنف مما (¬1) تقدم ذكره؛ فلأن كل واحدٍ منهما مالكها. قال: (وإن وصى لرجلٍ بمكاتبه صح. ويكون كما لو اشتراه. وإن وصى له بمال الكتابة أو بنجمٍ منها صح). أما (¬2) كون الوصية بالمكاتب تصح؛ فلأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأما كون الموصى له يكون كما لو اشتراه؛ فلأن (¬3) الوصية تمليكٌ. أشبهت الشراء. فعلى هذا متى أدى عتق. وإن عجز فللموصى له فسخ الكتابة. وأما كون الوصية بمال الكتابة أو بنجمٍ منها تصح؛ فلأنه مالٌ معلومٌ. فصحت الوصية به؛ كما لو أوصى له بمائةٍ من ماله. قال: (وإن وصّى برقبته لرجلٍ وبما عليه لآخر صح. فإن أدى عتق. وإن عجز فهو لصاحب الرقبة وبطلت وصية صاحب المال فيما بقي عليه). أما كون الوصية برقبة المكاتب لرجلٍ وبما عليه لآخر تصح؛ فلأن كل واحدٍ من الرقبة والمال مملوكٌ للموصي، وكون المال ليس بمستقرٍّ لا أثر له؛ لأن الوصية تصح بالمعدوم. فلأن تصح بغير المستقر بطريق الأولى. وأما كون المكاتب يعتق إذا أدى؛ فلأن هذا شأن المكاتب. وأما كونه لصاحب الرقبة إذا عجز؛ فلأنه موصى له برقبته. فإن قيل: فلم عتق بتقدير الأداء؟ ¬

_ (¬1) في هـ: فيما. (¬2) في هـ: وأما. (¬3) في هـ: لأن.

قيل: لأن العتق مقدمٌ على حق الموصي. فلأن يقدم على حق الموصى له بطريق الأولى. وأما كون وصية صاحب المال تبطل فيما بقي؛ فلأن الباقي لم يصادف محلاً. ومفهوم كلام المصنف أن الموصى له بالمال أخذ بعضه ثم طرأ العجز. فلو فرض العجز قبل أخذ شيءٍ بطلت وصيته في كل المال؛ لما ذكر.

فصل [إذا تلف الموصى به] قال المصنف رحمه الله: (ومن أوصي له بشيء بعينه فتلف قبل موت الموصي أو بعده: بطلت الوصية. وإن تلف المال كلُّه غيره بعد موت الموصي فهو للموصى له. وإن لم يأخذه زماناً قوّم وقت الموت لا وقت الأخذ). أما كون الوصية بشيء معين تبطل إذا تلف (¬1)؛ فلأنها لم تصادف عند الاستحقاق محلاً. فإن قيل: إذا تلفت قبل الموت فظاهرٌ. فلمَ تبطل إذا تلفت بعده؟ قيل: لأن الوصية إنما تستحق بالقبول. فلما تلفت قبله لم تصادف القبول محلاً. فإن قيل: كلام المصنف عامٌ. فلمَ قيد ذلك بقبل القبول؟ قيل: لأنه لا بد منه؛ لأن التلف لو حصل بعد القبول كانت الوصية صحيحة، والتلف حدث بعد ملكه لها. وأما كون الموصى به للموصى له إذا تلف المال كله غيره بعد موت الموصي؛ فلأن العبرة بالموت، وحينئذٍ كان يخرج من الثلث. فلا يعتبر تغيّره. ولأنه لو تلف الموصى به كان من ضمان الموصى له. فكذلك إذا تلف بقية المال يكون من ضمان الورثة. وأما كون الموصى به (¬2) يُقوّم وقت الموت لا وقت الأخذ إذا لم يأخذه الموصى له (¬3) زماناً؛ فلأن وقت الموت وقتُ لزوم الوصية. فوجب اعتبار القيمة فيه؛ لأن اعتبار وقت اللزوم أولى من اعتبار غيره. قال: (وإن لم يكن له (¬4) سوى المعين إلا مالٌ غائب، أو دين في ذمة موسر، أو ¬

_ (¬1) في هـ: تلف المال. (¬2) في هـ: به. (¬3) سقط لفظي: الموصى له من هـ. (¬4) ساقط من هـ.

معسر: فللموصى له ثلث الموصى به. وكلما اقتضى من الدين شيء أو حضر من الغائب شيء ملك من الموصى به قدر ثلثه حتى يملكه كله. وكذلك الحكم في المدبر). أما كون الموصى له فيما ذُكر له ثلث الموصى به؛ فلأنه لا مانع من ذلك. ومفهومه: أنه لا يكون له أكثر من ذلك. وإن كان يخرج من ثلث جميع ماله. وهو صحيح؛ لأنه لا يجوز أن يأخذ شيئاً إلا إذا أخذ الورثة مثليه؛ لأنه ربما تلف المال الغائب. فيؤدي إلى ضرر الورثة. وأما كونه كلما اقتضى من [الدين شيء أو حضر من] (¬1) الغائب شيء يملك من الموصى به قدر ثلثه حتى يملكه كله؛ فلأنه موصى له به يخرج من ثلثه. وإنما منع من ذلك قبل ذلك؛ لأجل حق الورثة، وقد زال. وأما كون الحكم في المدبر كالحكم في الوصية بالمعين؛ فلأن التدبير وصية بالعتق. فكان حكمه حكم الوصية لآدمي. فعلى هذا إذا دبّر عبده ثم مات وله مالٌ غائب، أو دين في ذمة موسرٍ، أو معسرٍ عتق من العبد قدر ثلثه، وكلما اقتضى من الدين شيء أو حضر من الغائب شيء عتق من العبد بقدر ثلثه حتى يعتق كله. قال: (وإن وصى له بثلث عبدٍ فاستحق ثلثاه فله الثلث الباقي. وإن وصى له بثلث ثلاثة أعبدٍ فاستحق اثنان منهم أو ماتا فله ثلث الباقي). أما كون الموصى له بثلث عبدٍ له الثلث الباقي إن (¬2) استحق ثلثاه؛ فلأن الوصية بثلثٍ مشاعٍ. فمتى صادفت (¬3) ملكاً وجب أن تصح، وذلك حاصلٌ هاهنا؛ لكون ثلث العبد ملكه. ولا بد أن يُلحظ أن الموصي له مال يخرج ثلث العبد من ثلثه؛ لأنه إذا لم يكن له غير العبد لم تصح الوصية إلا في تسعه إلا أن يجيز الورثة. وأما كونه له ثلث الباقي فيما إذا أوصى له بثلث ثلاثة أعبد فاستحق منهم ¬

_ (¬1) مثل السابق. (¬2) في هـ: وإن. (¬3) في هـ: صادف.

اثنان أو ماتا؛ فلأن الوصية مشاعةٌ في كل واحدٍ. فإذا تبين أن عبدين مستحقان للغير أو ماتا تبين بطلان الوصية بثلثيهما؛ لأن شرط صحة الوصية: أن يكون الموصى به مملوكاً للموصي، ولم يوجد ذلك في العبدين المستحقين أو الميتين ووجد ذلك في العبد الباقي. فوجب أن تصح فيه. عملاً بمقتضيه السالم عن معارضه. قال: (وإن وصى له (¬1) بعبدٍ لا يملك غيره قيمته مائة، ولآخر بثلث ماله وملكه غير العبد مائتان فأجاز الورثة: فللموصى له بالثلث ثلث المائتين وربُع العبد، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه). أما كون الموصى له بالثلث له (¬2) ثلث المائتين؛ فلأنه موصى له بالثلث ولا معارض له في المائتين. فوجب أن يكون له ثلثها. عملاً بوصيته السالمة عن المعارض. وأما كونه له ربع العبد؛ فلأنه موصى له بثلثه وللآخر بكله، والشيء لا يزيد على كله، وليس طرح وصية أحدهما أولى من الآخر. فوجب ازدحامهما في العبد، وجعل كل ثلث ربعاً؛ كالعول (¬3) في الميراث. وأما كون الموصى له بالعبد له (¬4) ثلاثة أرباعه؛ فلأن الكل ثلاثة أثلاث، وقد صار كل ثلثٍ ربعاً. قال: (وإن ردّوا فقال الخرقي: للموصى له بالثلث سدس المائتين وسدس العبد، وللموصى له بالعبد نصفه. وعندي أنه يقسم الثلث بينهما على قدر مالهما في حال الإجازة: لصاحب الثلث خمس المائتين وعشر العبد ونصف عشره، ولصاحب العبد ربعه وخمسه). أما كون الموصى له بالثلث له سدس المائتين وسدس العبد وللموصى له بالعبد نصفه إذا ردّ الورثة على قول الخرقي؛ فلأن الوصية ترجع في الرد إلى الثلث، ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) في هـ: كالقول. (¬4) ساقط من هـ.

وثلث المال هنا مائة، والوصية مائتان، والعبد قيمته مائة، وثلث المال قدره (¬1) مائة. نسبة الثلث الذي هو مائة إلى الوصية التي هي مائتان بالنصف. فمن أوصي له بشيءٍ يجب أن يرجع إلى نصفه. فالموصى له بثلث المال له نصفه وهو سدس العبد وسدس المائتين، والموصى له بالعبد له نصفه؛ لأنه نصف وصيته. وأما كون الثلث يقسم بين الموصى لهما على قدر مالهما في حال الإجازة عند المصنف رحمه الله؛ فلأن وصية صاحب العبد دون وصية صاحب الثلث؛ لأنه وصى له بشيء شَرَّك معه غيره فيه، وصاحب الثلث أفرده بشيء لم يشرك معه غيره فيه. فوجب أن يقسم بينهما؛ كما ذكر؛ كسائر الوصايا. وأما كون صاحب الثلث على هذا له خمس المائتين وعشر العبد ونصف عشره، وصاحب العبد له ربعه وخمسه؛ فلأنهما كان لهما في حال الإجازة العبد قيمته مائة وثلث المائتين وهو ستة وستون وثلثا درهم، ونسبة الثلث إلى ذلك ثلاثة أخماسه. فمن له شيءٌ يرد إلى ثلاثة أخماسه: فالموصى له بالثلث كان له ستة وستون وثلثان فترد إلى ثلاثة أخماسها وهي أربعون وذلك خمس المائتين وكان له من العبد ربعه، قيمته خمسة وعشرون فترد إلى ثلاثة أخماسها وهي خمسة عشر وذلك قيمة عشر العبد ونصف عشره، والموصى له بالعبد كان له ثلاثة أرباعه قيمتها خمسة وسبعون فترد إلى ثلاثة أخماسها، وهي خمسةٌ وأربعون، وذلك قيمة ربع العبد وخمسه. فيكون له من العبد ذلك. قال: (وإن كانت الوصية بالنصف مكان الثلث فأجازوا فله مائة وثلث العبد، ولصاحب العبد ثلثاه. وإن ردّوا فلصاحب النصف ربع المائتين وسدس العبد ولصاحب العبد ثلثه. وقال أبو الخطاب: لصاحب النصف خمس المائتين وخمس (¬2) العبد، ولصاحب العبد خمساه. وهو قياس قول الخرقي). أما كون الموصى له بالنصف له مائة مكان الثلث إذا أجاز (¬3) الورثة على قول ¬

_ (¬1) في هـ: قده. (¬2) في هـ: وسدس. (¬3) في هـ: أجازوا.

غير أبي الخطاب؛ فلأن المائتين موصاً له (¬1) بنصفها، ولا مزاحم فيها. فاستحق نصفها، وذلك مائة. وأما كونه له ثلث العبد؛ فلأنه موصى له بنصفه، وللآخر بكله، وذلك نصفان. فرجع النصف إلى الثلث. وأما كون صاحب العبد له ثلثاه؛ فلأن له نصفين، وقد رجع النصف إلى الثلث. وأما كون الموصى له بالنصف له ربع المائتين وسدس العبد، وصاحب العبد له ثلثه إذا ردّ الورثة على اختيار المصنف؛ فلأن لهما في حال الإجازة العبد قيمته مائة، ومن المائتين مائة. فمجموع ذلك مائتان، ونسبة الثلث إليهما بالنصف. فمن له شيءٌ يرد إلى نصفه: لصاحب نصف المائتين ربعها وله من العبد سدسيه (¬2)؛ لأن له ثلثه في حال الإجازة، ولصاحب العبد ثلثه؛ لأن له في حال الإجازة ثلثيه. وأما كون صاحب النصف له خُمس المائتين وخمس العبد، وصاحب العبد له خمساه على قول أبي الخطاب؛ فلأن الوصية هنا بمائتين وخمسين بالعبد وقيمته مائة وبنصف المال وهو مائة وخمسون. ونسبة الثلث إلى ذلك بالخمسين. فمن أوصي له بشيء يردّ إلى خمسيه: فالموصى له بالنصف له خمس المائتين وخمس العبد؛ لأن ذلك خمسا وصيته، وللموصى له بالعبد خمساه كذلك. وإنما قال المصنف رحمه الله: وهو قياس قول الخرقي أي (¬3) فيما تقدم؛ لأن العمل فيهما على نمطٍ واحد. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) في هـ: سدسه. (¬3) ساقط من هـ.

قال: (والطريق فيها: أن ينظر ما حصل لهما في حال الإجازة فينسب إليه ثلث المال، ويعطى كل واحدٍ مما كان له في الإجازة بمثل نسبة الثلث إليه. وعلى قول الخرقي: تنسب الثلث إلى وصيتهما جميعاً، ويعطى كل واحدٍ مما له في الإجازة مثل تلك النسبة). أما كون الطريق كما ذكره؛ فلأنه موصلٌ إلى المقصود. وأما كونها (¬1) مختلفة؛ فلاختلاف الحكم المتقدم في ذلك. وعلى طالب بيان ذلك: تأمل ما تقدم ذكره؛ للاختلاف في الأحكام المذكورة. قال: (وإن وصى له بثلث ماله، ولآخر بمائة، ولثالث بتمام الثلث. فلم يزد الثلث عن (¬2) المائة: بطلت وصية صاحب التمام وقسمت الثلث بين الآخرين على قدر وصيتهما. وإن زاد عن المائة فأجاز الورثة نفذت الوصية على ما قال الموصي. وإن ردوه فلكل واحدٍ نصف وصيته عندي. وقال القاضي: ليس لصاحب التمام شيء حتى تكمل المائة لصاحبها، ثم يكون له ما فضل عنها. ويجوز أن يزاحم به، ولا يعطيه؛ كولد الأب مع ولد الأبوين في مزاحمة الجد). أما كون وصية صاحب التمام تبطل إذا لم يزد الثلث عن المائة؛ فلأنها لم تصادف محلاً. فبطلت؛ كما لو وصى له بمائة فمات ولا شيء له. وأما كون الثلث يقسم بين الآخرَيْن؛ فلأنه مستحَقٌّ لهما لا غير. وأما كون القسمة على قدر وصيتهما؛ فلأنهما إنما استحقا بها. فعلى هذا إن كان المال مَثَلاً ثلثمائة: كان الموصى له بالثلث يدلي بمائة، والموصى له بمائة يدلي بها. فإذا قسم الثلث بينهما وهو مائة كان بينهما نصفين. فيكون لكل واحدٍ خمسون. وأما كون الوصية تنفذ على ما قال الموصي إذا زاد الثلث عن المائة وأجاز الورثة؛ فلأن الحق للورثة. فإذا رضوا بإسقاطه سقط. فإن قيل: ماذا يحصل لكل واحد؟ قيل: إذا كان المال مثلاً ستمائة حصل للموصى له بالثلث مائتان، ولصاحب ¬

_ (¬1) في هـ: كونهما. (¬2) في هـ: على.

المائة مائة، وللموصى له بتمام الثلث مائة. وأما كون كل واحدٍ له نصف وصيته عند المصنف إذا ردّ الورثة؛ فلأن الإجازة وقعت بالثلثين، ونسبة الثلث إلى الثلثين بالنصف. فمن له شيء يرجع إلى نصفه. وأما كون صاحب التمام ليس له شيءٌ حتى تكمل المائة لصاحبها ثم يكون له ما فضل عنها على قول القاضي؛ فلأنه إذا لم يفضل عن الثلث من المائة شيء لم تصادف وصيته محلاً. وأما كونه يجوز أن يزاحم به ولا يعطيه كولد الأب مع ولد الأبوين في مزاحمة الجد؛ فبالقياس عليه. فعلى هذا إذا كان المال مَثَلاً ستمائة قسّم الثلث بينهم على أربعة؛ لأن صاحب الثلث يدلي بمائتين، وصاحب المائة بمائة، وصاحب تمام الثلث بمائة. فيحصل لصاحب الثلث نصف الثلث وهو مائة، ولصاحب المائة مائة (¬1): خمسون بمائته (¬2)، وخمسون بمزاحمة صاحب التمام. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في هـ: بوصيته.

باب الوصية بالأنصباء والأجزاء الأنصباء: جمع نصيب؛ مثل: صديق وأصدقاء. والأجزاء جمع جزء؛ مثل: قفل وأقفال (¬1). قال المصنف رحمه الله: (إذا وصى له بمثل نصيب وارثٍ معينٍ فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة. فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه (¬2) وله ابنان فله الثلث، وإن كانوا ثلاثة فله الربع. فإن كان معهم بنت فله التسعان). أما كون الموصى له بمثل نصيب وارث معين له مثل نصيب ذلك الوارث؛ فلأن الموصي جعل إرثه أصلاً، وجعل للموصى له مثل نصيبه. فوجب أن يكون له مثل نصيبه من غير زيادة ولا نقصان؛ لأنهما ينافيان (¬3) المثلية. وأما قول المصنف رحمه الله: مضموماً إلى المسألة. فمعناه: أنه يؤخذ مثل نصيب المعين ويزاد على ما تصح منه مسألة الورثة؛ لأنه لو أخذ مثله من الأصل ثم قسم الباقي على الورثة لحصل المعين أقل من الموصى له وذلك ينافي المثلية. وسيظهر هذا بالعمل فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما كون الموصى له بمثل نصيب ابنه له الثلث إذا كان للموصى ابنان؛ فلأن ذلك مثل ما يحصل لابنه، وذلك أن الثلث إذا خرج بقي ثلثا المال فإذا قسم ذلك على الابنين كان لكل ابنٍ ثلث. وأما كونه له الربع إذا كان البنون ثلاثة؛ فلما ذكر قبل. وأما كونه له التسعان إذا كان مع البنين الثلاثة بنت؛ فلأن البنت بواحدٍ والبنين الثلاثة بستة، والموصى له باثنين فتكون الجملة تسعة: للموصى له ابنان وهما تسعا المال ولكل ابنٍ تسعان وللبنت تسع. قال: (وإن وصّى له بنصيب ابنه فكذلك في أحد الوجهين، وفي الآخر: لا ¬

_ (¬1) سقط لفظي: قفل وأقفال من هـ. (¬2) في هـ: أبيه. (¬3) في هـ: ينافان.

تصح). أما كون الوصية بنصيب ابنه كالوصية بمثل نصيب ابنه في وجهٍ؛ فلأنه أمكن تصحيح كلام الموصى بحمله على المجاز. فوجب أن يصح؛ كما لو طلّق بلفظ الكناية أو أعتق. وأما كونها لا تصح في وجهٍ؛ فلأنها وصية بحق الوارث؛ لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة. فلم تصح؛ كما لو أوصى بدار ابنه أو بما يأخذه. والأولى أولى؛ لأنه لو أوصى بجميع ماله صح. وإن تضمنت الوصيةُ بذلك الوصيةَ بنصيب الورثة كلهم. فكذلك هاهنا. ولأن الحقيقة متى تعذرت تعين المجاز وقد تعذرت الحقيقة هاهنا؛ لأن الأصل في كلام المكلف الصحة. فإن قيل: ما المجاز هاهنا؟ قيل: هو من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. والتقدير بمثل نصيب ابنه، وذلك شائعٌ وسائغٌ في القرآن والشعر. قال: (وإن وصى بضعف نصيب ابنه (¬1) أو بضعفيه فله مثله مرتين. وإن وصى بمثل ثلاثة أضعافه فله ثلاثة أمثاله. هذا الصحيح عندي. وقال أصحابنا: ضعفاه (¬2) ثلاثة أمثاله وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفاً زاد مرةً واحدة). أما كون الموصى له بضعف نصيب ابن الموصي: له مثل نصيبه مرتين؛ فلأن ضعف الشيء مثلاه قال الله تعالى: {إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 75]، والمراد به: مِثلا الحياة ومِثلا الممات. وقال الله تعالى: {وما آتيتم من زكاةٍ تريدون وجه الله فأولئك هم المُضْعِفون} [الروم: 39]. ويروى عن عمر رضي الله عنه «أنهُ أضعفَ الزكاة على نصارى بني تغلب فكان يأخذُ من المائتين عشرة» (¬3). ¬

_ (¬1) في هـ: أبيه. (¬2) في هـ: له. (¬3) أخرجه أبو عبيد في الأموال (71) ص: 32 كتاب سنن الفيء، باب أخذ الجزية من عرب أهل الكتاب.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ضعف الشيء هو ومثله. وأما كون الموصى له بضعفي نصيب ابن الموصي: له مثلاه أيضاً عند المصنف؛ فلأن الله تعالى قال: {فآتت أكلها ضعفين} [البقرة: 265]. قال عكرمة: تحمل في كل عام مرتين. وقال: {يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] والمراد مرتان؛ لأن الله تعالى قال: {نؤتها أجرها مرتين} [الأحزاب: 31]، ويبعد أن يجعل على الفاحشة ثلاثاً؛ لأن المعهود من كرمه تقليل الجزاء على السيئة لا تكثيره. وأما كونه له ثلاثة أمثاله على قول أصحابنا؛ فلأن أبا عبيدة قال: ضعف الشيء هو ومثلاه. وأما كون الموصى به كلما زاد ضعفاً زاد مرةً عند الكل على اختلاف أحوالهم؛ فلأن الزيادة لا بدّ لها من أثر، وأقل الأعداد المرة. فعلى هذا ثلاثة أضعاف نصيب ابنه أربعة أمثاله وأربعة أضعافه خمسة أمثاله. وعلى هذا فقس. قال: (وإن وصّى بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه: كان له مثل ما لأقلهم نصيباً. فلو كان له ابنٌ وأربع زوجات صحت من اثنين وثلاثين: لكل امرأة سهم، وللوصي (¬1) سهم يزاد عليها فتصير من ثلاثة وثلاثين). أما كون الموصى له بمثل ما ذُكر يكون له مثل ما لأقل الورثة نصيباً؛ فلأنه المتيقن. فلا يعدل عنه (¬2) إلى غيره مع الشك فيه. وأما كون المسألة المذكورة تصح من اثنين وثلاثين؛ فلأن أصلها من ثمانية؛ لأن فيها ثمناً، وما بقي (¬3) للزوجات سهم من ثمانية. على أربعة لا تصح ولا توافق. اضرب أربعة في ثمانية تكن اثنين وثلاثين. وأما كون الوصي (¬4) له سهم؛ فلأن كل زوجة لها سهم وذلك أقل الورثة نصيباً. ¬

_ (¬1) في هـ: وللموصي. (¬2) في هـ: منه. (¬3) في هـ: وبقي. (¬4) في هـ: الموصي.

وقد تقدم أن الموصى له بمثل نصيب أحد ورثة الموصي: له مثل ما لأقلهم نصيباً. وأما كون السهم الموصى به يضم إلى المسألة؛ فلما ذكر قبل. فعلى هذا تكون المسألة المذكورة من ثلاثة وثلاثين: للموصى له سهم، وللزوجات أربعة، وللابن ثمانية وعشرون. قال: (فلو أوصى له بمثل نصيب وارث لو كان فله (¬1) مثل ما له لو كانت الوصية وهو موجود. فلو كان الوارث أربعة بنين: فللوصي السدس، وإن كانوا ثلاثة فله الخمس). أما كون الموصى له بما ذُكر له مثل ما لو كانت الوصية وهو موجود؛ فلأنه قَدَّر وجوده بقوله: لو كان. وأما كونه له السدس إذا كان الوارث أربعة بنين؛ فلأنهم أربعة، والوارث المقدر وجوده، والموصى له. ومجموع ذلك ستة. وأما كونه له الخمس إذا كان الوارث ثلاثة؛ فلأنهم ثلاثة، والوارث المقدر وجوده، والموصى له. ومجموع ذلك خمسة. فإن قيل: من كم يصح ما ذكر؟ قيل: تصح المسألة الأولى من أربعة وعشرين؛ لأن الموصى له: له (¬2) سهم من ستة يبقى خمسة. على أربعة لا تصح ولا توافق. اضرب ستة في أربعة تكن أربعة وعشرين: للموصى له أربعة، ولكل ابنٍ خمسة. وعلى هذا فقس المسألة الثانية. قال: (ولو كانوا أربعة فأوصى بمثل نصيب خامس لو كان إلا مثل نصيب سادس لو كان: فقد أوصى له بالخمس إلا السدس بعد الوصية فيكون له سهم يزاد (¬3) على ثلاثين سهماً. وتصح من اثنين وستين: له منها سهمان ولكل ابنٍ خمسة عشر). أما كون الموصى له بما ذُكر موصى له بالخمس إلا السدس: أما الأول؛ فلأن ¬

_ (¬1) في هـ: قبله فله. (¬2) ساقط من هـ. (¬3) في هـ: فقد أوصى له بالخمس إلا السدس فيكون لهم فيزاد.

الخامس لو كان موجوداً لاستحق الخمس وهو موصى له بمثله. وأما الثاني؛ فلأن الموصي استثنى مثل نصيب سادس لو كان، ولو كان السادس موجوداً لاستحق السدس. وأما كونه له سهم يزاد على ثلاثين سهماً؛ فلما ذكر قبل. وأما كون المسألة تصح من اثنين وستين؛ فلأنك تأخذ مالاً إذا استثنيت سدسه من خمسه يبقى بعده سهم صحيح، وأقل ما يمكن ذلك في ثلاثين؛ لأن خمسها ستة وسدسها [خمسة. فإذا أخذت] (¬1) خمسة من ستة بقي واحد. ثم ضم السهم الحاصل بالوصية إلى المال لما ذكر قبل. فإذا أعطيت الموصى له السهم وقسّمت الثلاثين على الورثة الأربعة يطلع لكل واحدٍ سبعة ونصف. اضرب واحداً وثلاثين في مخرج النصف وهو اثنان تكن اثنين وستين. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

فصل في الوصية بالأجزاء قال المصنف رحمه الله: (إذا وصّى له بجزءٍ، أو حظٍّ، أو نصيبٍ، أو شيءٍ: فللورثة أن يعطوه ما شاءوا. وإن وصى له بسهمٍ من ماله ففيه ثلاث روايات: إحداهن: له السدس بمنزلة سدسٍ مفروضٍ إن لم تكمل فروض المسألة أو كانوا عصبة أعطي سُدساً كاملاً، وإن كملت فروضها أعيلت به. وإن عالت أعيل معها. والثانية: له سهمٌ مما تصح منه المسألة ما لم يزد على السدس. والثالثة: له مثل نصيب أقل الورثة ما لم يزد على السدس). أما كون ورثة الموصي: لهم أن يعطوا الموصى له بجزءٍ أو حظٍ أو نصيبٍ أو شيءٍ ما شاءوا؛ فلأن أي شيء أعطوه يقع عليه ذلك. وأما كون الموصى له بسهمٍ له السدس على المذهب؛ فلأن ابن مسعود روى «أن رجلاً أوصَى لرجلٍ بسهمٍ من المالِ فأعطاهُ النبي صلى الله عليه وسلم السدس» (¬1). ولأن السهم في كلام العرب السدس. قال إياس بن معاوية: السهم في كلام العرب السدس. وإذا كان كذلك وجب صرفه إليه؛ كما لو تلفظ به. ولأنه قول علي وابن مسعود، ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن السدس أقل مفروضٍ يرثه ذو قرابةٍ. فوجب أن تنصرف الوصية إليه لتيقُّنه. وأما كون السدس المذكور بمنزلة سدسٍ مفروضٍ؛ فلأنه يساويه معنى. فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما قول المصنف: إن لم تكمل فروض المسألة ... إلى قوله: أعيل معها ¬

_ (¬1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 213 كتاب الوصايا، باب فيمن أوصى بسهم من ماله، وعزاه للطبراني في الأوسط.

فتفصيلٌ لقوله (¬1): له السدس بمنزلة سدس مفروض؛ لأن الموصى له تارة يعطى السدس كاملاً من غير عولٍ، وتارة يعطاه عائلاً به فقط، وتارة يعطاه عائلاً به وبغيره. وأما كونه يعطى سدساً كاملاً إذا لم تكمل فروض المسألة؛ فلأنه لا مزاحم له. ضرورة أن المسألة تَسَعُه وتسَعُ أرباب الفروض. ولأن سدسه بمنزلة سدسٍ مفروضٍ، وصاحب السدس المفروض يعطى سدساً كاملاً. فكذلك من هو بمنزلته. وأما كونه يعطى سدساً كاملاً إذا كان الورثة عصبة؛ فلأن الفرض يقدم على العصبة. فإن قيل: ما مثال المسألتين؟ قيل: أما مثال ذلك إذا لم تكمل فروض المسألة (¬2): فأن يخلّف بنتاً وبنت ابن وأُماً. فالمسألة من ستة، وترجع بالرد إلى خمسة، وللموصى له سدس فيكمل به (¬3) المال. وأما مثال ذلك إذا كانت الورثة عصبة: فأن يخلّف خمسة بنين فالمسألة من ستة: لكل ابنٍ سهم، وللموصى له سهم. وأما كون فروض المسألة تُعال بالسدس الموصى به إذا كملت؛ فلأنه يزاد عليها. فيلزم العول. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: ما لو مات (¬4) الموصي وترك أختين لأب وأختين لأم. فالمسألة من ثلاثة: للأختين لأب اثنان، وللأختين لأم سهم. على اثنين لا يصح. اضرب ثلاثة في اثنين تكن ستة. ثم أضف السدس وهو سهم إلى ذلك تكن سبعة: لكل أختٍ لأب سهمان، ولكل أختٍ لأم سهم، وللموصى له سهم. ¬

_ (¬1) في هـ: قوله. (¬2) في هـ: قيل فرض المسألة. (¬3) في هـ: فكمل بها. (¬4) في هـ: قيل مات.

وأما كون السهم الموصى به يُعال مع المسألة [إذا عالت؛ فلأن سهمه يُضاف إلى المسألة العائلة. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: أن يزاد في المسألة] (¬1) المذكورة أمٌّ. فالمسألة من ستة، وتعول إلى سبعة، وتصير بالسهم الموصى به إلى ثمانية: لكل أختٍ لأب سهمان، ولكل أختٍ لأم سهم، وللموصى له سهم. وأما كون الموصى له بسهم له سهم مما تصح منه المسألة ما لم تزد على السدس على روايةٍ؛ فلأن الظاهر من حال الموصي أنه قصد سهام مسألته فانصرف إليها؛ كما لو قال: فريضتي كذا وكذا سهماً. له منها سهم. وإنما اشترط في ذلك عدم الزيادة على السدس؛ لأن السدس أقل سهم يرثه ذو فرضٍ فلا يزاد عليه؛ لأن الزائد مشكوكٌ فيه. وأما كونه له مثل نصيب أحد الورثة ما لم يزد على السدس على روايةٍ؛ فلأن نصيب أحد الورثة اليقين. فلا يزاد عليه. قال: (وإن وصّى له بجزءٍ معلومٍ كثلثٍ وربعٍ: أَخَذْتَه من مخرجه فدفعته إليه وقسَّمت الباقي على مسألة الورثة. إلا أن يزيد على الثلث ولا يجيزوا له فيفرض له الثلث ويقسم الثلثين عليها). أما كون عامل المسألة يأخذ الجزء (¬2) من مخرجه؛ فليكون (¬3) ذلك صحيحاً. فعلى هذا إذا كانت الوصية بثلث فالمخرج ثلاثة، وإن كانت بالربع فالمخرج أربعة. وأما كونه يدفع ذلك إلى الموصى له إذا لم يزد على الثلث ولا يجيزه الورثة؛ فلأن الموصى له به. فلا يتوقف على قول أحد. وأما كونه يقسّم الباقي على مسألة الورثة؛ فلأن ذلك حقه. فعلى هذا لو كانوا (¬4) ابنين والوصية بالثلث كان لكل واحدٍ سهم. ولو كانوا ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) سقط لفظي: يأخذ الجزء من هـ. (¬3) في هـ: فيلكن. (¬4) في هـ: كان.

ثلاثة والوصية بالربع كان لكل واحدٍ سهم. ولو كانوا ابنين ضربنا الأربعة في اثنين تكن ثمانية: لكل ابنٍ ثلاثة، وللموصى له سهمان. وأما كونه يفرض للموصى له الثلث إذا زاد الموصى به على الثلث ولا يجيزوه الورثة؛ فلأن الوصية بالزائد على الثلث لا تنفذ في الزائد مع عدم الإجازة وحينئذٍ يتعين فرض الثلث؛ لأنه لا يعتبر فيه ذلك. وأما كونه يقسّم الثلثين على مسألة الورثة؛ فلما تقدم. وسيتضح ذلك بعد إن شاء الله تعالى. قال: (وإن وصّى بجزئين أو أكثر: أَخَذْتَها من مخرجها، وقسّمت الباقي على المسألة. فإن زاد على الثلث وردّ الورثة جعلت السهام الحاصلة للأوصياء ثلث المال، ودفعتَ الثلثين إلى الورثة. فلو وصى لرجل بثلث ماله ولآخر بربعه، وخلّف ابنين: أخذتَ الثلث والربع من مخرجهما سبعة من اثني عشر يبقى خمسة للابنين إن أجازا (¬1)، وإن ردّا جعلت السبعة ثلث المال فتكون المسألة من أحدٍ وعشرين). أما كون عامل المسألة يأخذ الجزئين أو أكثر من مخرجها، وكونه يقسّم الباقي على المسألة؛ فلما تقدم في الجزء. وأما كونه يجعل السهام الحاصلة للأوصياء ثلث المال إذا ردّ الورثة؛ فليقسم ذلك بين الأوصياء بلا كسر. وأما كونه يدفع الثلثين إلى الورثة؛ فلأنهما حقهم. فعلى هذا لو وصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بربعه، وخلّف ابنين كانت المسألة من اثني عشر؛ لأنها مخرج الثلث والربع؛ لأن الثلث من ثلاثة والربع من أربعة فاضرب ثلاثة في أربعة كانت اثني عشرة. فإن أجاز الورثة كان للموصى لهما سبعة من اثني عشر وكان للابنين خمسة. وتصح من أربعة وعشرين: للموصى ¬

_ (¬1) في هـ: أجازوا.

له بالثلث ثمانية، وللموصى له بالربع ستة، ولكل ابنٍ خمسة. وإن ردّا (¬1) كانت المسألة من أحد وعشرين: للموصى لهما ثلث ذلك سبعة بينهما على قدر وصيتهما. فيكون للموصى له بالثلث أربعة، وللموصى له بالربع ثلاثة، وثلثان للابنين لكل واحدٍ سبعة. قال: (وإن أجازا لأحدهما دون الآخر، أو أجاز أحدهما لهما دون الآخر، أو أجاز كل واحدٍ لواحد: فاضرب وفق مسألة الإجازة وهو ثمانية في مسألة الرد تكن مائة وثمانية وستين: للذي أجيز له سهمه من مسألة الإجازة مضروب في وفق مسألة الرد، وللذي ردّ عليه سهمه من مسألة الرد في وفق مسألة الإجازة، والباقي للورثة، وللذي أجاز لهما نصيبه من مسألة الإجازة في وفق مسألة الرد، وللآخر سهمه من مسألة الرد في وفق مسألة الإجازة، والباقي بين الوصيتين على سبعة). أما (¬2) كون عامل المسألة المذكورة يضرب وفق مسألة الإجازة في مسألة الرد؛ فلتصح المسألتان من عددٍ واحد. وأما كون وفق مسألة الإجازة ثمانية؛ فلأنها من أربعةٍ وعشرين لما تقدم. ومسألة الرد من أحدٍ وعشرين، وبينهما توافق بالأثلاث، وثلث مسألة الإجازة ثمانية. وأما كون ذلك يكون مائة وثمانية وستين؛ فلأن الثمانية التي هي وفق مسألة الإجازة إذا ضربت في أحدٍ وعشرين كان مبلغ الخارج بالضرب ذلك. وأما كون الذي أجيز له سهمه من مسألة الإجازة مضروب في وفق مسألة الرد؛ فلأنه مجاز له. وأما كون الذي ردّ عليه له (¬3) سهمه من مسألة الرد مضروب في وفق مسألة الإجازة؛ فلأنه مردودٌ عليه. وأما كون الباقي للورثة؛ فلأنه حقهم. ¬

_ (¬1) في هـ: رد. (¬2) في هـ: وأما. (¬3) ساقط من هـ.

فعلى هذا إن أجازا للموصى له بالثلث دون صاحب الربع كان له من مسألة الإجازة ثمانية؛ لأنها ثلثها وهو موصى له بذلك. مضروبةٌ في وفق مسألة الرد وهو سبعة: تكون ستة وخمسين. وذلك ثلث جميع العدد المذكور، وكان للموصى له بالربع ثلاثة من مسألة الرد مضروبة في وفق مسألة الإجازة وهو ثمانية يكون ذلك أربعة وعشرين، والباقي وهو ثمانية وثمانون: للابنين لكل ابنٍ أربعة وأربعون. وإن أجازا (¬1) للموصى له بالربع كان له سهمه من مسألة الإجازة وهو ستة مضروبة في وفق مسألة الرد وهو سبعة تكن اثنين وأربعين، وكان للموصى له بالثلث المردود عليه سهمه من مسألة الرد وهو أربعة مضروبة في وفق مسألة الإجازة وهي ثمانية تكن اثنين وثلاثين والباقي وهو أربعة وتسعون: للابنين لكل ابنٍ سبعة وأربعون. وأما كون الذي أجاز لهما نصيبه من مسألة الإجازة في وفق مسألة الرد؛ فلأنه مجيز. وأما كون الآخر له سهمه من مسألة الرد في وفق مسألة الإجازة؛ فلأنه رادٌّ. وأما كون الباقي بين الوصيتين على سبعة؛ فلأنه لهما فيقسّم بينهما على قدر حقوقهما. فعلى هذا للذي أجاز خمسة من مسألة الإجازة مضروبة في سبعة وفق مسألة الرد تكون خمسة وثلاثين، وللذي ردّ سبعة من مسألة الرد مضروبة في ثمانية وفق مسألة الإجازة تكون ستة وخمسين، والباقي وهو سبعة وسبعون مقسوم بين الوصيتين على سبعة لصاحب الثلث أربعة وأربعون، ولصاحب الربع ثلاثة وثلاثون. فإن قيل: لم يذكر المصنف رحمه الله ما للمجاز له والمردود عليه وما للمجيز وللراد إذا أجاز كل واحدٍ لواحد؟ قيل: إذا أجاز الأكبر مَثَلاً لصاحب الثلث والأصغر لصاحب الربع: كان لصاحب الثلث نصف ما كان يحصل له في الإجازة وهو ثمانية وعشرون، ونصف ما كان يحصل له في الرد وهو ستة عشر. فمجموع ذلك أربعة وأربعون، وكان لصاحب الربع كذلك وهو أحدٌ وعشرون في الإجازة واثنا عشر في الرد ومجموع ¬

_ (¬1) في هـ: أجازوا.

ذلك ثلاثة وثلاثون، وكان للأكبر المجيز لصاحب الثلث أربعة وأربعون وللأصغر المجيز لصاحب الربع سبعة وأربعون، وإذا أجاز الأكبر لصاحب الربع والأصغر لصاحب الثلث كان لصاحب الربع ثلاثة وثلاثون ولصاحب الثلث أربعة وأربعون، وللأكبر ما كان للأصغر وهو سبعة وأربعون، وللأصغر ما كان للأكبر وهو أربعة وأربعون.

فصل [إذا زادت الوصايا على المال] قال المصنف رحمه الله: (وإن زادت الوصايا على المال عملت فيها عملك في مسائل العول. فإذا وصّى بنصف وثلث وربع وسدس: أخذتَها من اثني عشر وعالت إلى خمسة عشر. فيقسّم المال كذلك إن أجيز لهم، أو الثلث إن ردّ عليهم). أما كون عامل مسائل الوصايا إذا زادت على المال يعمل فيها كالعمل في مسائل العول؛ فلأن أصحاب الوصايا اشتركوا في استحقاق المال. أشبهوا الوارث الذين عالت مسائلهم. وأما كونه يأخذ الوصايا بنصف وثلث وربع وسدس من اثني عشر؛ فلأن أقل عددٍ له نصف وثلث وربع وسدس ذلك. وأما كونها تعول إلى خمسة عشر؛ فلأن النصف ستة، والثلث أربعة، والربع ثلاثة، والسدس اثنان. وأما كون المال كله يقسم على أرباب الوصايا على قدر حقوقهم -وهو المعني بقول المصنف: كذلك إن أجيز لهم -؛ فلأن الورثة أجازوا، ولم يبق لهم فيه شيء. وأما كون الثلث يقسّم عليهم كما تقدم إذا ردّ عليهم؛ فلأن الوصية به لا حق لأحدٍ فيه، والزائد لا حق لهم فيه؛ لأن الوصية لا تنفذ في الزيادة على الثلث إلا بالإجازة ولم توجد. فعلى الإجازة: لصاحب النصف ستة، ولصاحب الثلث أربعة، ولصاحب الربع ثلاثة. وعلى الرد تصح المسألة من خمسة وأربعين إذا كان الوارث ابناً واحداً أو ابنين أو ثلاثة أو خمسة أو ستة أو عشرة: لأرباب الوصايا خمسة عشر مقسومة على ما تقدم ذكره، والباقي بين الورثة على حسب عددهم. قال: (وإن وصّى لرجلٍ بجميع ماله، ولآخر بنصفه: فالمال بينهما على ثلاثةٍ إن أجيز لهما، والثُّلُث على ثلاثة مع الردّ). أما كون المال يقسّم بين الموصى لهما على ثلاثةٍ إذا أجيز لهما؛ فلأن الموصى له بالكل يدلي بمثلي وصية صاحب النصف.

فعلى هذا لصاحب الكل اثنان من ثلاثة ولصاحب النصف واحد. وأما كون الثلث يقسم بينهما على ثلاثةٍ؛ فلما تقدم قبل. فعلى هذا تصح المسألة من تسعة: ثلاثة للموصى لهما على ما تقدم، وستة للورثة. قال: (فإن أجيز لصاحب المال وحده: فلصاحب النصف التسع، والباقي لصاحب المال في أحد الوجهين، وفي الآخر: ليس له إلا ثلثا المال التي كانت له في حال الإجازة لهما. ويبقى التسعان للورثة). أما كون صاحب النصف له التسع إذا أجيز لصاحب المال وحده؛ فلأن الثلث بينه وبينه. فيقسم بينهما على ثلاثة كما تقدم: لصاحب النصف ثلُثُه وذلك هو التسع. وأما كون الباقي -وهو ثمانية أتساع- لصاحب المال في وجهٍ؛ فلأنه موصى له بالمال كله، وإنما منع من ذلك في حال الإجازة لهما لمزاحمة صاحبه له. فإذا زالت المزاحمة في الباقي كان له. وأما كونه ليس له إلا ثلثا ما كان له في حال الإجازة في وجهٍ؛ فلأن الإجازة له وحده بمنزلة الإجازة لهما، وليس له في حال الإجازة لهما إلا ذلك. فكذلك فيما هو بمنزلته. وأما كون التسعين يبقيان للورثة؛ فلأنه لا مزاحم لهم فيهما. ضرورة أخذ كل واحدٍ من الموصى له ما وُصي له. قال: (وإن أجازوا لصاحب النصف وحده: فله النصف في الوجه الأول، وفي الآخر: له الثلث، ولصاحب المال التسعان). أما كون صاحب النصف له النصف إذا أجيز له وحده في الوجه الأول؛ فلأنه موصى له به، ولا مزاحم له فيه. وأما كونه له الثلث في الآخر؛ فلأنه لو أجيز لهما لم يكن له سوى الثلث. فكذلك إذا أجيز له وحده. وأما كون صاحب المال له التسعان على الوجهين؛ فلأن له ثلثي المال وهما ذلك.

قال: (وإن أجاز أحد الابنين لهما: فسهمه بينهما على ثلاثة. وإن أجاز لصاحب المال وحده دفع إليه كل ما في يده أو [ثلثيه على اختلاف الوجهين. وإن أجاز لصاحب النصف وحده (¬1) دفع إليه نصف ما في يده ونصف سدسه أو] (¬2) ثلثه). أما كون سهم الابن المجيز للموصى لهما بينهما على ثلاثةٍ؛ فلأنه إذا أجاز لم يبق له في سهمه شيء. فيجب أن يكون بين الموصى لهما على قدر وصيتهما. فإن قيل: ما طريقة العمل هاهنا؟ قيل: أن تأخذ مالاً لنصفه ثلث، وذلك ستة: ثلاثةٌ منها سهمُ الابن المجيز: للموصى له بالمال اثنان، وللموصى له بالنصف واحد. يبقي ثلاثة: للموصى لهما ثلثها وهو سهم على ثلاثة لا يصح. اضرب ستة في ثلاثة تكن ثمانية عشر: لصاحب المال من نصيب المجيز ستة، ومن نصيب الراد (¬3) سهمان، ومجموع ذلك ثمانية ولصاحب النصف من نصيب المجيز ثلاثة، ومن نصيب الراد (¬4) واحد، ومجموع ذلك أربعة، وللراد ستة، ولا شيء للمجيز. وإن شئت أخذت مالاً له ثلث مقسوم على ثلاثة، وهو تسعة: للموصى لهما ثلاثة من الأصل يبقى ستة لكل ابنٍ ثلاثة. ثم المجيز يعطى سهمه لهما فيصير لهما ستة مقسومة بينهما أثلاثاً: لصاحب المال أربعة ويبقى للراد ثلاثة لا يعطيها أحداً. وإن شئت قلت: مخرج الثلث من ثلاثة: للموصى لهما ثلث. يبقى سهمان: سهم (¬5) للراد وسهم للمجيز يدفعه إلى الموصى لهما. فيصير لهما (¬6) سهمان بينهما. على ثلاثة لا يصح. اضرب ثلاثة في ثلاثة تكن تسعة، واقسم كما تقدم. وأما كون المجيز لصاحب المال وحده يدفع إليه كل ما في يده أو ثلثيه على اختلاف الوجهين؛ فلما تقدم في المسألة قبل. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في هـ: الرد. (¬4) في هـ: الرد. (¬5) ساقط من أ. (¬6) ساقط من هـ.

وأما كون المجيز لصاحب النصف وحده يدفع إليه نصف ما في يده ونصف سدسه أو ثلثه؛ فلما تقدم من أن صاحب النصف إذا أجيز له وحده له النصف أو الثلث. فعلى قولنا: له النصف يأخذ هاهنا نصف ما في يد الابن المجيز ونصف سدسه؛ لأن الموصى له كان يستحق بتقدير إجازة الابنين النصف وهو أربعة ونصف: منها من الثلث سهم. بقي ثلاثة ونصف حاصلة بإجازة الابنين. فيستحق بإجازة أحدهما نصف ذلك وهو سهم ونصف وربع، وذلك نصف ما في يد الابن ونصف سدسه. وعلى قولنا: له الثلث يأخذ هاهنا ثلث ما في يد الابن المجيز؛ لأنه كان يستحق بتقدير إجازة الابنين ثلاثة: منها سهم من الثلث يبقى سهمان حاصلة بإجازة الابنين. فيستحق بإجازة أحدهما نصف ذلك، وهو سهم، وذلك ثلث ما في يد الابن.

فصل في الجمع بين الوصية بالأجزاء والأنصباء قال المصنف رحمه الله: (إذا خلّف ابنين ووصى لرجلٍ بثلث ماله ولآخر بمثل نصيب ابنٍ: ففيه وجهان: أحدهما: لصاحب النصيب ثلث المال عند الإجازة، وعند الرد يقسّم الثلث بين الوصيين نصفين. والثاني: لصاحب النصيب مثل ما يحصل لابن وهو ثلث الباقي وذلك التسعان عند الإجازة، وعند الرد يقسّم الثلث بينهما على خمسة). أما كون صاحب النصيب له ثلث المال عند الإجازة على الوجه الأول؛ فلأنه موصى له بمثل نصيب ابن، وفي المسألة ابنان. فيكون المال بينهم على ثلاثة، للموصى له بمثل نصيب ابن ثلثها. فإن قيل: ينبغي أن تخرج الوصية بالثلث ثم يكون للموصى له بمثل نصيب ابن مثل نصيب أحدهم، وذلك لا يبلغ الثلث. قيل: لو كان كذلك لترتبت وصيةٌ على وصية، والوصايا لا يترتب بعضها على بعض. وأما كون الثلث يقسّم بين الوصيين نصفين عند الرد؛ فلأن كل واحدٍ يدلي بمثل صاحبه. وأما كون صاحب النصيب له مثل ما يحصل لابنٍ على الوجه الثاني؛ فلأنه لو كان له أكثر من ذلك لأخذ أكثر من ابن، والموصي (¬1) قد سوّى بينهما. وأما كون ذلك ثلث الباقي؛ فلأن ذلك الحاصل لكل ابنٍ؛ لأن الثلث إذا خرج للموصى له بقي الثلثان بين الابنين (¬2) والموصى له بنصيب ابنٍ على ثلاثة لكل واحدٍ ثلث ذلك. ¬

_ (¬1) في هـ: فالموصي. (¬2) في هـ: الاثنين.

وأما كون ذلك التسعين عند الإجازة؛ فلأن الموصى له بالثلث إذا أخذ ثلثه بقي سهمان على ثلاثةٍ لا تصح. اضرب ثلاثة في ثلاثة تكن تسعة: لصاحب الثلث ثلاثة، ولصاحب النصيب اثنان، ولكل ابنٍ اثنان. وأما كون الثلث يقسّم بينهما على خمسةٍ عند الرد؛ فلأن صاحب الثلث له ثلاثة، وصاحب النصيب له اثنان وتلك خمسة، ولكل ابنٍ خمسة. قال: (وإن كان الجزء الموصى به النصف خرج فيها وجهٌ ثالث. وهو: أن يكون لصاحب النصيب في حال الإجازة ثلث الثلثين، وفي الرد يقسّم الثلث بينهما على ثلاثة عشر سهماً (¬1): لصاحب النصف تسعة، ولصاحب النصيب أربعة). أما كون صاحب النصيب له ثلث الثلثين في حال إجازة الورثة؛ فلأن الثلثين حق الورثة وهو شريكهم. فيكون له (¬2) ثلث ذلك لا ينقص شيئاً إلا بإجازته. وأما كون الثلث يقسّم بينهما على ثلاثة عشر في الرد؛ فلأن صاحب النصف له النصف، وصاحب النصيب له التسعان، ومجموعهما ستة أتساع ونصف. اضرب ذلك في مخرج النصف تكن ثلاثة عشر. وأما كون صاحب النصف له تسعة وصاحب النصيب له أربعة؛ فلأن من له شيء صار له مثلاه، وصاحب النصف كان له أربعة ونصف فيكون له تسعة وصاحب النصيب كان له سهمان فيكون له أربعة. فعلى هذا يكون لصاحب النصف في الإجازة ثمانية عشر، ولصاحب النصيب ثمانية، ولكل ابنٍ خمسة. وفي الرد: لصاحب النصف تسعة، ولصاحب النصيب أربعة، ولكل ابنٍ ثلاثة عشر. فإن قيل: على الوجهين الأولين كم للموصى لهما؟ قيل: على الأول لصاحب النصف في الإجازة ستة من اثني عشر، ولصاحب الثلث أربعة، ولكل ابنٍ سهم. وفي الرد: الثلث بينهما على عشرة، ولكل ابنٍ عشرة. وعلى الثاني لصاحب النصف في الإجازة ثلاثة من ستة، ولصاحب ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) ساقط من هـ.

النصيب سهم، ولكل ابنٍ سهم. وفي الرد: الثلث بينهما على أربعة، ولكل ابنٍ أربعة. قال: (وإن وصى لرجلٍ بمثل نصيب أحدهما، ولآخر بثلث باقي المال: فعلى الوجه الأول لصاحب النصيب ثلث المال، وللآخر: ثلث الباقي تسعان والباقي للورثة. وعلى الوجه الثاني: يدخلها الدور). أما كون صاحب النصيب له ثلث المال على الوجه الأول؛ فلما تقدم. وأما كون الآخر له ثلث الباقي تسعان؛ فلأنه موصى له به؛ لأنه موصى له بثلث الباقي، وقد بقي ثلثان. فليكن له ثلثها، وذلك تسعان. فعلى هذا تصح المسألة من تسعة: لصاحب النصيب ثلاثة، وللآخر اثنان، ولكل ابنٍ اثنان. وأما كون المسألة يدخلها الدَّوْر على الوجه الثاني؛ فلأن صاحب النصيب له مثل نصيب ابن بعد إخراج وصية الآخر، والعلم بنصيبه موقوفٌ على العلم بنصيب الموصى له بثلث ما يبقى، ونصيب الموصى له بثلث ما يبقى موقوفٌ على العلم بنصيب صاحب النصيب. قال: (ولعملها طرقٌ: أحدها: أن تجعل المال ثلاثة أسهم ونصيباً تدفع النصيب إلى الموصى له بنصيب ابن، وللآخر ثلث الباقي سهم يبقى سهمان لكل ابنٍ سهم، وذلك هو النصيب. فصحت من أربعة). أما كون عمل المسألة المذكورة لها طرق؛ فلأنها تارة تُعمل بالمجهول، وتارة بالجبر، وتارة بغير ذلك. وأما كون أحد الطرق أن يجعل العاملُ المالَ ما ذُكر؛ فظاهر. وأما كونه يجعلُ المال ثلاثة ونصيباً؛ فليخرج ثلث الباقي سهماً صحيحاً. ولو كانت الوصية بربع الباقي جعل ثلث المال أربعة ونصيباً ليخرج ربع الباقي سهماً صحيحاً. وعلى هذا فقس. وأما كونه يدفع النصيب إلى الموصى له بنصيب ابن (¬1)؛ فلأنه موصى له ¬

_ (¬1) ساقط من هـ.

بذلك. وأما كون الآخر له ثلث الباقي سهم؛ فكذلك. وأما كون الباقي سهمين لكل ابنٍ سهم؛ فظاهر. وأما كون ذلك السهم هو النصيب؛ فلأنه الذي حصل لكل ابن. وأما كون المسألة تصح من أربعةٍ؛ فلأنه قد ثبت أن النصيب سهم فإذا كان المال ثلاثة ونصيباً، والنصيب سهماً عُلم أن جميع المال أربعة. فلو كانت الورثة ثلاثة كان لكل ابنٍ ثلثا سهم. فيعلم (¬1) أن المال ثلاثة وثلثا سهمٍ. ابسطها من جنس الكسر تكن أحد عشر: لصاحب النصيب اثنان، ولصاحب ثلث الباقي ثلاثة، ولكل ابنٍ اثنان. وعلى هذا فقس. قال: (وبالجبر تأخذ مالاً تُلْقي منه نصيباً وثلث الباقي. يبقى ثلثا مال إلا ثلثي نصيب يعدل نصيبين. اجبرها بثلثي نصيبٍ وزد مثل ذلك على النصيبين (¬2): يبقى ثلثا مال يعدل نصيبين وثلثين. ابسط الكل أثلاثاً من جنس الكسر يصير مالين يعدل ثمانية أنصباء. اقلب فاجعل المال ثمانية والنصيب اثنين). أما كون عامل المسألة المذكورة بالجبر يأخذ ما ذُكر؛ فلأنه طريق من الطرق. وسمي بذلك؛ لأن الكسر الذي فوق السهام يجبر. وأما كونه يأخذ مالاً مجهولاً؛ فلأن العلم به ابتداءً لا يمكن؛ لما ذكر من الدَّوْر. وأما كونه يلقي النصيب وهو وصية صاحب النصيب وثلث الباقي وهو وصية الآخر من المال؛ فليعلم الباقي بعد ذلك كله حتى يقسّم على الورثة. وأما كون الباقي بعد ذلك ثلثي المال إلا (¬3) ثلثي نصيب؛ فلأن العامل لما أسقط النصيب ثم أراد أن يسقط ثلث الباقي وهو ثلث مال إلا ثلث نصيب: احتاج إلى جبر ثلث النصيب. فإذا جبره وأسقط من المال ثلثاً بقي معه ثلثا مال إلا ثلثي نصيب. ¬

_ (¬1) في هـ: فنعلم. (¬2) في هـ: النصيب. (¬3) في هـ: لا.

وأما كون ذلك يعدل نصيبين؛ فلأن ذلك جميع حق الورثة وهما ابنان (¬1). وأما كونه يجبر الكسر بثلثي نصيب؛ فليبقى بلا كسر. وأما كونه يزيد مثل ذلك على النصيبين؛ فليقابل ذلك الكسر المجبور به. وأما كون الباقي بعد ذلك ثلثي مال؛ فظاهر. وأما كونه يعدل نصيبين؛ فلما تقدم من أن ذلك جميع حق الورثة. وأما كونه يبسط الكل أثلاثاً من جنس الكسر؛ فليخرج بلا كسر. وأما كون ذلك يصير مالين يعدل ثمانية أنصباء؛ فلأن ثلثي المال إذا بسط أثلاثاً صار مالين، والنصيبين والثلثين إذا بسطا أثلاثاً صارا ثمانية أنصباء. وأما كون العامل للمسألة المذكورة يقلب فيجعل المال ثمانية والنصيب اثنين؛ فليعلم المال والنصيب. قال: (وإن شئت قلت: للابنين سهمان. ثم تقول: هذا بقيةُ مالٍ ذهب ثلثه فزد عليه مثل نصفه يصير ثلاثة. ثم زد مثل نصيب ابنٍ يصير أربعة). أما كون عامل المسألة المذكورة إن شاء قال ما ذكر؛ فلأنه طريقٌ من الطرق، ويسمى المنكوس. وأما كون الابنين لهما سهمان؛ فلأن ذلك أقل ما يمكن من عدد صحيح. وأما كونه يقول: هذا بقية مالٍ ذهب ثلثه فزد عليه مثل نصفه؛ فلأن الوصية بثلث الباقي. فإن كانت بربع الباقي فتقول: هذا بقية مال ذهب ربعه فزد عليه مثل ثلثه، وإن كانت بخمس الباقي فتقول: هذا بقية (¬2) مالٍ ذهب خمسه فزد عليه مثل ربعه. وأما كون ذلك يصير ثلاثة؛ فلأن السهم إذا زيد على اثنين صار ثلاثة. وأما كونه يزد على الخارج مثل سهم ابنٍ؛ فلأن الموصى له بالنصيب له مثل ابن. وأما كون ذلك يصير أربعة؛ فلأن نصيب الابن سهم. فإذا أضيفت إلى ثلاثة صار ذلك أربعة. ¬

_ (¬1) في هـ: وهم اثنان. (¬2) ساقط من هـ.

فعلى هذا تصح مسألة المصنف رحمه الله من أربعة: اثنان للابنين، ومثل نصيب الابنين واحد (¬1) صار ذلك ثلاثة، ونصيب ابن سهم صار المجموع أربعة: للموصى له بالنصيب سهم، وللموصى له بثلث الباقي سهم، ولكل ابنٍ سهم. قال: (وإن كانت وصية الثاني بثلث ما يبقى من النصف فبالطريق الأولى تجعل المال ستة ونصيبين. تدفع النصيب إلى الموصى له به، وللآخر ثلث بقية النصف سهماً، وإلى أحد الابنين نصيباً يبقى خمسة للابن الآخر. فالنصيب خمسة والمال ستة عشر، وبالجبر تأخذ مالاً تلقي منه نصيباً وثلث باقي النصف يبقى خمسة أسداس مال إلا ثلثي نصيب يعدل نصيبين. اجبرها تكن خمسة أسداس مال يعدل نصيبين وثلثين. ابسط الكل أسداساً واقلب وحوّل يصير المال ستة عشر والنصيب خمسة). أما كون عامل المسألة بالطريق الأول يجعل المال ستة ونصيبين؛ فليكون الباقي من النصف بعد النصيب له ثلث صحيح يأخذه الموصى له به. ولو كانت الوصية بربعٍ جعل المال ثمانية ونصيبين. ولو كانت نصف ما يبقى من النصف جعل المال أربعة ونصيبين. وأما كونه يدفع النصيب إلى الموصى له به، وثلث بقية النصف الآخر بينهما؛ فلأنهما موصى لهما بذلك. وأما كونه يدفع إلى أحد الابنين نصيباً؛ فلأنه يستحق مثل ما يستحق صاحب النصيب. وأما كون الباقي خمسة للابن الآخر؛ فلأنه لم يبق حق لغيره. وأما كون النصيب خمسة؛ فلأنه مثل ما أخذ الابن. وأما كون المال ستة عشر؛ فلأنه لما كان ستة ونصيبين، وكل نصيب خمسة لزم أن يكون ستة عشر. فعلى هذا مسألة المصنف رحمه الله: لصاحب النصيب خمسة يبقى من النصف ثلاثة: للموصى له بثلث باقي النصف ثلثها سهم. يبقى عشرة لكل ابن خمسة. ¬

_ (¬1) في هـ: الابن واحداً.

والمسألة الثانية: ثمانية ونصيبان: لصاحب النصيب نصيب. يبقى ثمانية ونصيب: للموصى له بربع باقي النصف سهم. يبقى سبعة ونصيب. يدفع إلى أحد الابنين نصيب يبقى سبعة للابن الآخر. فالنصيب إذاً سبعة والمال اثنان وعشرون: لصاحب النصيب سبعة [يبقى من النصف أربعة للموصى له بربع ما يبقى من النصف سهم] (¬1). يبقى أربعة عشر لكل ابنٍ سبعة. والمسألة الثالثة: أربعة ونصيبان، والنصيب ثلاثة والمال عشرة. وأما كونه بالجبر يأخذ مالاً يلقي منه نصيباً وثلث باقي النصف؛ فلما تقدم ذكره. وأما كون الباقي خمسة أسداس مال إلا ثلثي نصيبٍ؛ فلأن المال إذا ألقي منه نصيبٌ بقي مال (¬2) إلا نصيباً. فإذا ألقي منه ثلث باقي النصف وهو سدس مال إلا ثلث نصيبٍ جبر ثلث النصيب هنا بثلث من النصيب الأول. ثم أُسقِط من المال سدسٌ كاملٌ. تعين (¬3) كون الباقي خمسة أسداس مال إلا ثلثي نصيب. وأما كون ذلك يعدل نصيبين؛ فلأنه يعدل حق اثنين. وأما كونه يجبر ذلك؛ فليخرج بلا كسر. وأما كون ذلك يعدل نصيبين وثلثين؛ فلأنه لما أجبر المال بثلثي نصيب احتيج إلى أن يزاد النصيب على ما يقابل ذلك. وأما كونه يبسط ذلك أسداساً؛ فلتخرج المسألة بلا كسر. وأما كونه يقلب ويحول. ومعناه: أن يجعل المال النصيب والنصيب المال؛ فليعلم النصيب والمال. وأما كون المال ستة عشر؛ فلأن النصيبين وثلثين ستة عشر سدساً. وأما كون النصيب خمسة؛ فلأن ما تقدم خمسة أسداس. قال: (وإن خلّف أماً وبنتاً وأختاً، وأوصى بمثل نصيب الأم وسبع ما بقي، ولآخر بنصيب الأخت وربع ما بقي، ولآخر بمثل نصيب البنت وثلث ما بقي: ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: مالاً. (¬3) في هـ: تعون.

فقل: مسألة الورثة من ستة. وهي بقية مالٍ ذهب ثلثه فزد عليه مثل نصفه ثلاثة ثم زد عليه مثل نصيب البنت: تكن اثني عشر. فهي بقية مالٍ ذهب ربعه. فزد عليه ثلثه، ومثل نصيب الأخت: صارت ثمانية عشر. فهي بقية مالٍ ذهب سبعه. فزد عليه سدسه، ومثل نصيب الأم: تكن اثنين وعشرين). أما كون مسألة الورثة من ستة؛ فلأن فيها سدساً ونصفاً وما بقي وذلك من ستة للأم سهم، وللبنت ثلاثة، والباقي للأخت؛ لأنها مع البنت عصبة. وأما كون الستة بقية مال ذهب ثلثه ... إلى آخره؛ فظاهر لا يحتاج إلى شرح. وبيان تصحيح ذلك: أن الستة مثل نصفها ثلاثة فإذا أضيف إليها ذلك صارت تسعة. ثم يضاف إليها ثلاثة هي نصيب البنت صارت اثني عشر مثل ثلثها أربعة، ونصيب الأخت سهمان صارت ثمانية عشر مثل سدسها ثلاثة، ونصيب الأم سهم صارت اثنين وعشرين: للموصى له بمثل نصيب الأم وسبع الباقي أربعة، وللموصى له بمثل نصيب البنت وثلث الباقي ستة، وللأم سهم، وللبنت ثلاثة، وللأخت سهمان. قال: (وإن خلّف ثلاثة بنين ووصى بمثل نصيب أحدهم إلا ربع المال: فخذ مخرج الكسر أربعة، وزد عليه ربعه تكن خمسة وهو نصيب كل ابن. فزد على عدد البنين واحداً واضربه في مخرج الكسر تكن ستة عشر. أعط الموصى (¬1) له نصيباً وهو خمسة واستثن (¬2) منه ربع المال أربعة يبقى له سهم، ولكل ابنٍ خمسة). أما كون عامل المسألة المذكورة يأخذ مخرج كسر الاستثناء؛ فليخرج ذلك بلا كسر. وقد تقدم أن مخرج الربع أربعة والثلث ثلاثة والنصف اثنان وهلمّ جرّا. فإذاً مخرج كسر الاستثناء هنا أربعة. وأما كونه يزيد على مخرج الكسر ربعه؛ فلأن الربع مستثنى. وأما كون ذلك يكون خمسة؛ فظاهر. وأما كون الخمسة نصيب كل ابنٍ؛ فلما يبين بعد. وأما كونه يزيد على عدد البنين واحداً؛ فلأن ذلك طريق إلى معرفة الموصى ¬

_ (¬1) في هـ: للموصى. (¬2) في هـ: وستين.

به. وأما كونه يضربه في مخرج الكسر؛ فليخرج ذلك بلا كسر. وأما كون المال يكون ستة عشر فظاهر؛ لأن أربعة في أربعة ستة عشر. وأما كونه يعطي الموصى له نصيباً وهو خمسة، ويستثني منه ربع المال أربعة؛ فلأنه موصى له بنصيب، وقد تبين أنه خمسة إلا ربع المال، وقد تبين أنه أربعة. وأما كون كل ابنٍ له خمسة؛ فلأن الباقي بعد الوصية خمسة عشر وهم (¬1) ثلاثة. وبه ظهر أنه النصيب. قال: (وإن قال: إلا ربع الباقي بعد النصيب: فزد على عدد البنين سهماً وربعاً، واضربه في المخرج يكن سبعة عشر له سهمان، ولكل ابنٍ خمسة). أما كون عامل المسألة المذكورة يزيد على عدد البنين سهماً وربعاً؛ فلأن ذلك طريقٌ إلى معرفة الموصى به. وأما كونه يضربه في مخرج الكسر؛ فلما تقدم. وأما كون المال يكون سبعة عشر؛ فظاهر. وأما كون الموصى له بما ذكر له سهمان؛ فلأن النصيب خمسة لما يأتي. فإذا أسقط من سبعة عشر بقي اثنا عشر. فإذا أسقط منها ربع المال وهو ثلاثة بقي من النصيب سهمان. وأما كون كل ابنٍ له خمسة؛ فلأن المال بعد الوصية خمسة عشر وهم ثلاثة. قال: (وإن قال: إلا ربع الباقي بعد الوصية جعلتَ المخرج ثلاثة وزدتَ عليه واحداً يكن أربعة فهو النصيب، وزد على سهام البنين سهماً وثلثاً (¬2)، واضربه في ثلاثة يكن ثلاثة عشر سهماً: له سهم، ولكل ابنٍ أربعة). أما كون عامل المسألة المذكورة يجعل المخرج ثلاثة ويزيد عليه واحداً؛ [فلأن ذلك طريقٌ إلى معرفة النصيب. وأما كون ذلك أربعة؛ فظاهر. ¬

_ (¬1) في هـ: وهو. (¬2) في هـ: وثلثه.

وأما كون ذلك هو النصيب؛ فلما يبين بعد. وأما كون عامل المسألة المذكورة يزيد على سهام البنين سهماً وثلث سهم] (¬1)؛ فلأن ذلك طريق إلى معرفة الموصى به. وأما كونه يضرب ذلك في ثلاثة؛ فليخرج ذلك بلا كسر. وأما كون ذلك يكون ثلاثة عشر؛ فظاهر. وأما كون الموصى له بما ذكر له سهم من ثلاثة عشر؛ فلأنه موصى له بنصيب، وقد تبين أنه أربعة إلا ربع الباقي بعد الوصية، وقد تبين أنه ثلاثة (¬2) فيبقى له سهم. وأما كون كل ابنٍ له أربعة؛ فلأن الباقي بعد الوصية اثنا عشر على ثلاثة لكل واحدٍ أربعة. فإن قيل: ما الفرق بين النصيب والوصية؟ قيل: النصيب هو الحاصل للابن الموصى به تقديراً لا حصولاً. والوصية: الحاصل للموصى له لا المقدر. فإن قيل: ما طريق العمل (¬3) في ذلك؟ قيل: أن تنظر إلى (¬4) الاستثناء فتأخذ مخرج الجزء الذي هو أقل منه وهو هنا ثلاثة. فلو كان الاستثناء الخمس جعلت المخرج من أربعة ثم تزيد على المخرج واحداً يصير أربعة في الأولى (¬5) وخمسة في الثانية فيكون النصيب. ثم تزيد على سهام البنين سهماً وثلثاً إن كان المخرج من ثلاثة، وسهماً وربعاً إن كان المخرج من أربعة يصير ذلك في الأولى أربعة وثلثاً، وفي الثانية خمسة وربعاً. ثم تضرب ذلك في مخرج الكسر يكون في الأولى ثلاثة عشر، وفي الثانية أحداً (¬6) وعشرين: للموصى له سهم منهما، ولكل ابنٍ من الأولى أربعة، ومن الثانية خمسة. ¬

_ (¬1) ساقط من هـ. (¬2) في هـ: ثلاثة عشر. (¬3) في هـ: العلم. (¬4) في هـ: في. (¬5) إلى هنا انتهت نسخة هـ. (¬6) في أ: أحد.

وبيان التصحيح: أن النصيب في الأولى أربعة والباقي بعد الوصية عشرون خمسها أربعة. فإذا استثنيت أربعة من خمسة بقي واحد، وهو الذي حصل له. قال: (ولا يليقُ بهذا الكتاب التطويل بأكثر من هذا). يعني: أن هذا العلم المختص بالوصايا كثيرٌ واسع، وله طرقٌ متعددةٌ كثيرةٌ. إلا أن هذا الكتاب مختصر. فلم يَلق به أكثر مما ذكر.

باب الموصى إليه قال المصنف رحمه الله تعالى: (تصح وصية المسلم إلى كل مسلمٍ عاقلٍ عدلٍ، وإن كان عبداً أو مراهقاً أو امرأة أو أم ولد. ولا تصح إلى غيرهم. وعنه: تصح إلى الفاسق، ويضم الحاكم إليه أميناً. وإن كانوا على غير هذه الصفات ثم وجدت عند الموت فهل تصح؟ على وجهين). أما كون وصية المسلم تصح إلى كل مسلمٍ عاقلٍ عدلٍ؛ فلأنه لا مانع فيمن ذكر يمنع الصحة؛ لحصول الإسلام والعقل والعدالة فيه. وفيه إشعارٌ بأن من شرط صحة الوصية على كل مسلم: أن يكون مسلماً فلا تصح إلى كافر؛ لأنه ليس له من أهل الولاية على مسلم. وأن يكون عاقلاً فلا تصح إلى من لا عقل له كالطفل والمجنون؛ لأنهما ليسا أهلاً للولاية على مالهما فلئلا يكونا أهلاً للولاية على غيرهما بطريق الأولى. وأن يكون عدلاً على الأول (¬1). فلا تصح الوصية إلى فاسقٍ؛ لأنه غير مأمون. وأما كونها تصح إلى الفاسق على روايةٍ ويضم الحاكم إليه أميناً؛ فلأن في ذلك جمعاً بين حفظ المال، وتحصيل نظر الموصي. وأما كونها تصح إلى من ذكر وإن كان عبداً؛ فلأن العبد من أهل الأمانة. أشبه الحر. وأما كونها تصح وإن كان مراهقاً؛ فلأن المراهق كالبالغ في إمكان التصرف. فإذا كان موصوفاً بهذه الأوصاف وجب أن تصح الوصية إليه؛ كالبالغ. وأما كونها تصح وإن كان امرأة؛ فـ «لأن عمرَ أوصى إلى حَفصَة» (¬2). ولأن المرأة من أهل الشهادة. أشبهت الرجل. وأما كونها تصح وإن كان أم ولدٍ؛ فلأن أم الولد حرة عند نفوذ الوصية. ¬

_ (¬1) في ج: المذهب. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 161 كتاب الوقف؛ باب جواز الصدقة المحرمة وإن لم تقبض.

ولأن العبد القن تصح الوصية إليه؛ لما تقدم. فلأن تصح إلى أم الولد المنعقد سبب حريتها بطريق الأولى. وأما كونها تصح إلى من لم يكن على هذه الصفات ثم يوجد عند الموت على وجهٍ؛ فلأن الوصي إنما يتمكن من التصرف في الوصية عند الموت. فاعتبر شرط التصرف حينئذٍ لا قبله. وأما كونها لا تصح على وجهٍ؛ فلأن الصفات المذكورة معتبرةٌ حال الموت. فوجب أن تعتبر حالة العقد؛ كسائر العقود. قال: (وإذا وصّى إلى واحدٍ وبعده إلى آخر فهما وصيتان. إلا أن يقول: قد أخرجت الأول. وليس لأحدهما الانفراد بالتصرف إلا أن يجعل ذلك إليه. وإن مات أحدهما أقام الحاكم مقامه أميناً، وكذا إذا فسق. وعنه: يضم إليه أمين). أما كون من ذكرا وصيين إذا لم يقل الموصي: قد أخرجت الأول؛ فلأنه أوصى إليهما، وأمكن الجمع بينهما. وأما كون الثاني الوصي إذا قال الموصي: قد أخرجت الأول؛ فلأنه أوصى إليه، وصرح بعزل الأول وهو يملك ذلك. وأما كون أحد الوصيين ليس له الانفراد بالتصرف إذا لم يجعل ذلك إليه؛ فلأن الموصي لم يرض إلا بأمانتهما. فلم يجز لأحدهما الانفراد؛ كالوكيلين. وأما كونه له ذلك إذا جعل إليه ذلك؛ فلأن تصرفه مستفاد منه فإذا جعل ذلك إليه كان كما لو وصى إليه وحده. وأما كون الحاكم إذا مات أحد الوصيين اللذين ليس لأحدهما الانفراد يقيم مقامه أميناً؛ فلأن الموصي لم يرض بنظر أحدهما. وأما كون من فسق كذلك على الأول (¬1)؛ فلأن الفسق ينافي الوصية. فوجب أن يقيم الحاكم مقامه أميناً؛ كما لو مات. وأما كونه يضم إليه أمين على روايةٍ؛ فلما تقدم. قال: (ويصح قبول الوصية في حياة الموصي وبعد موته. وله عزل نفسه متى ¬

_ (¬1) في ج: المذهب.

شاء. وعنه: ليس له ذلك بعد موته. وللموصي عزله متى شاء). أما كون قبول الوصية في حياة الموصي وبعد موته يصح؛ فلأن الوصية إذن في التصرف فجاز قبولها عقيب الإذن كالوكالة وبعد الموت كالوصية بالمال. وأما كون الوصي له عزل نفسه متى شاء؛ فلأنه متصرفٌ بالإذن. أشبه الوكيل. وأما كونه ليس له ذلك بعد موت الموصي على روايةٍ؛ فلأنه غرّه بالتزام وصيته، ومنعه بذلك الإيصاء إلى غيره. وأما كون الموصي له عزل الوصي متى شاء؛ فلأنه نائبٌ عنه. فملك عزله؛ كالوكيل. قال: (وليس للوصي أن يوصي إلا أن يجعل إليه ذلك. وعنه: له ذلك). أما كون الوصي ليس له أن يوصي إذا لم يجعل إليه ذلك على المذهب؛ فلأنه متصرفٌ بالإذن. أشبه الوكيل. وأما كونه له ذلك على روايةٍ؛ فلأنه متصرفٌ. فكان له ذلك؛ كالأب. والأول أصح؛ لما تقدم. والفرق بين الوصي والأب: أن الأب متصرفٌ بغير تولية أحد. قال: (ولا تصح الوصية إلا في معلومٍ يملك الموصي فعله؛ كقضاء الدين، وتفريق الوصية، والنظر في أمر الأطفال). أما كون الوصية لا تصح إلا في معلومٍ؛ فليعلم الموصى إليه ما وصي به إليه ليحفظه ويتصرف فيه. وأما كونها لا تصح إلا فيما يملك الموصي فعله كما مثل المصنف؛ فلأن الوصي نائبه فإذا لم يكن الموصي يملك ذلك. فلئلا يملك ذلك نائبه بطريق الأولى.

قال: (وإذا أوصى إليه في شيء لم يصر وصياً في غيره. فإذا أوصى إليه بتفريق ثلثه فأبى الورثة إخراج ثلث ما في أيديهم أخرجه كله مما في يده. وعنه: يخرج ثلث ما في يده ويحبس باقيه حتى يخرجوا). أما (¬1) كون من وصي إليه بشيء لا يصير وصياً في غيره؛ فلأنه متصرفٌ بالإذن، ولا إذن في غير ما وصي إليه فيه. فلم يكن وصياً فيه؛ كالأجنبي. وأما كون من أوصى إليه بتفريق الثلث يخرجه كله مما في يده إذا أبى الورثة إخراج ثلث ما في أيديهم على المذهب؛ فلأن حق الموصي متعلقٌ بأجزاء التركة كلها. فجاز أن يخرج وصيته ذلك مما في يده تحصيلاً لمقصود الموصي. وأما كونه يخرج ثلث ما في يده ويحبس باقيه حتى يخرجوا على روايةٍ: أما الأول؛ فلأنه موصى به، ولا حق للورثة فيه، وثلثاه ليسا كذلك. وأما الثاني؛ فلأن إخراج بقية الثلث واجب، وذلك وسيلةٌ إليه. قال المصنف في المغني: يمكن حمل الروايتين على اختلاف حالين: فالرواية الأولى: محمولة على أن المال كان جنساً واحداً؛ لأنه لا فائدة في انتظار إخراجهم مما في أيديهم. والرواية الثانية: محمولة على أن المال كان أجناساً؛ لأن الوصية تتعلق بثلث كل جنسٍ. فليس له أن يخرج عوضاً عن ثلث ما في أيديهم مما في يده؛ لأنه معاوضة. فلا يجوز بغير رضاهم. قال: (وإن أوصى بقضاء دينٍ معينٍ فأبى ذلك الورثة قضاه بغير علمهم. وعنه: فيمن عليه دين لميت وعلى الميت دين أنه يقضي دين الميت إن لم يخف تبعة). أما كون الموصى إليه يقضي الدين الموصى به بغير علم الورثة إذا أبوا ذلك على المذهب؛ فلأن الورثة لا حق لهم إلا بعد وفاء الدين. وأما كونه يقضيه إذا لم يخف تبعة؛ فلأن ما تقدم ذكره قائمٌ فيه ولا معارض له. ومفهوم ذلك أنه له أن لا يقضيه إذا خاف التبعة. وهو صحيح؛ لأنه يتضرر بسببه، وهو منفي شرعاً. ¬

_ (¬1) في أ: وأما.

ولأن من كان عليه دين لغيره أو اعترف صاحب المال أنه وكيله لم يلزمه الدفع إليه خوفاً من تبعة الرجوع عليه بتقدير إنكار الموكل. فهاهنا أولى. قال: (وتصح وصية الكافر إلى مسلم، وإلى من كان عدلاً في دينه). أما كون وصية الكافر إلى مسلمٍ تصح؛ فلأن المسلم يصح أن يكون وصياً لمسلم. فلأن يصح أن يكون وصياً لكافرٍ بطريق الأولى. ولأن المسلم مقبول الشهادة على الكافر وعلى غيره. وأما كونها تصح إلى من كان عدلاً في دينه؛ فلأنه يجوز أن يكون ولياً له. فجاز أن يكون وصياً له؛ كالمسلم. وحكى المصنف رحمه الله تعالى في الكافر وجهاً: أنها لا تصح؛ لأن الكافر أسوأ حالاً من الفاسق. قال: (وإذا قال: ضع ثلث مالي حيث شئت، أو أعطه من شئت لم يجز له أخذه ولا دفعه إلى ولده. ويحتمل جواز ذلك لتناول اللفظ له). أما كون الموصى إليه بما ذكر لا يجوز له أخذ الموصى به على المذهب؛ فلأنه تمليك ملكه بالإذن. فلا يجوز أن يكون قابلاً له؛ كما لو وكله في بيع سلعة لم يجز له بيعها من نفسه. وأما كونه لا يجوز له دفعه إلى ولده على المذهب؛ فلأنه يتّهم في حقه. أشبه أخذه له. وأما كونه يحتمل جواز ذلك؛ فلما علل المصنف رحمه الله تعالى، وذلك: أن تناول اللفظ يقتضي جواز ذلك؛ لأن (¬1) تناول اللفظ مشتركٌ بين ذلك وبين الأجنبي، والأجنبي يجوز الدفع إليه. فكذلك ما ذكر هنا. وقال المصنف رحمه الله في المغني: يحتمل أن ينظر إلى القرائن. فإن دلت على جواز ذلك جاز، وإلا فلا. ¬

_ (¬1) في أ: لا.

قال: (وإن دعت الحاجة إلى بيعٍ لبعض العقار لقضاء دين الميت أو حاجة الصغار، وفي بيع بعضه نقص: فله البيع على الكبار والصغار). أما كون الوصي (¬1) له البيع على الكبار والصغار لقضاء دين الميت؛ فلأن الدين متعلقٌ بكل جزءٍ من التركة. بدليل: ما لو هلك بعضها فإن الدين يوفّى من الباقي. ولأن التركة باقية على حكم ملك الميت. ملك الوصي (¬2) أن يتصرف فيها بالحظ والمصلحة. وأما كونه له البيع على الكل مع حاجة الصغار وفي بيع البعض نقص؛ فلأن الوصي (¬3) مأمور بالإصلاح والتصرف على وجه الحظ والمصلحة. فإذا لم يمكن ذلك مع دعوى الحاجة إلا بنقصٍ: جاز له ذلك دفعاً للحاجة، وتحصيلاً للمصلحة المشترطة عليه. ولأنه متى تعارض حقّ كبير وصغير فإنه يقدم حق الصغير؛ لكون التصرف في ماله مشروطاً بالغبطة. بخلاف الكبير (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: الموصى. (¬2) مثل السابق. (¬3) مثل السابق. (¬4) ذكر في حاشية أما يلي: لم يذكر الشارح قول الشيخ: (ويحتمل أنه ليس له البيع على الكبار وهو أقيس) وهذا الاحتمال هو اختيار الشيخ. ووجهه: بأنه لا يجب على الإنسان بيع ملكه ليزداد ثمن ملك غيره؛ كما لو كان شريكهم غير وارثٍ. وقد قبل صاحب المحرر جواز البيع على الكبار بما إذا امتنعوا أو تحابوا. ولم يحكِ خلافاً. والله تعالى أعلم.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض الفرائض: جمع فريضة. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العلمُ ثلاثةٌ، وما سوى ذلك فهو فضلٌ: آيةٌ مُحْكَمَة، وسنةٌ قائمَة، وفريضةٌ عادلَة» (¬1). رواه أبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَعلموا الفرائضَ وعَلموه. فإنهُ نصفُ العلمِ. وهو يُنسى. وهو أولُ شيء يُنزع من أمتي» (¬2). أخرجه ابن ماجة. قال المصنف: (وهي: قسمة المواريث. وأسباب التوارث ثلاثة: رحم، ونكاح، وولاء. لا غير. وعنه: أنه يثبت بالموالاة، والمعاقدة، وإسلامه على يديه، وكونهما من أهل الديوان. ولا عمل عليه). أما قول المصنف رحمه الله تعالى: وهي قسمة المواريث؛ فبيان لمعنى (¬3) الفرائض شرعاً. وأما كون أسباب التوارث ثلاثة؛ فلأن سبب التوارث تارة يكون رحماً، وتارة نكاحاً، وتارة ولاء. وأما كون الرحم -وهي القرابة- أحد أسباب التوارث؛ فلأن الله تعالى قال: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11]، وقال: {وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأة وله أخ أو أختٌ فلكل واحدٍ منهما السدس ... الآية} [النساء: 12]، وقال: {يستفتونك قل الله يُفْتيكم في الكَلالة ... الآية} [النساء: 176]، وقال: {وألوا الأرحام بعضُهم أولى ببعض في كتاب الله ... الآية} [الأنفال: 75]. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2885) 3: 119 كتاب الفرائض، باب ما جاء في تعليم الفرائض. وأخرجه ابن ماجة في سننه (54) 1: 21 المقدمة، باب اجتناب الرأي والقياس. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2719) 2: 908 كتاب الفرائض، باب الحث على تعليم الفرائض. وأخرجه الدارقطني في سننه (1) 4: 67 كتاب الفرائض. (¬3) في أ: للمعنى.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلحِقُوا الفرائضَ لأهلِهَا. فما بَقِيَ فهوَ لأَوْلَى رجلٍ ذَكَر» (¬1). متفق عليه. وروى جابر قال: «جاءتْ امرأةُ سعدِ بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتَيْهَا من سعد. فقالت: هاتانِ ابنتا سعد قُتل أبوهما معكَ يومَ أحدٍ شهيداً، وإن عمهما (¬2) أخذَ مالهما ولا يُنكحان إلا ولهما مال. قال: يَقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث. فبعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما. فقال: أعطِ ابنتي سعدٍ الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقيَ فهوَ لك» (¬3). رواه أبو داود والترمذي. وأما كون النكاح ثاني أسباب التوارث؛ فلأن الله تعالى قال: {ولكم نصف ما ترك أزواجُكم إن لم يكن لهنّ ولد ... الآية} [النساء: 12]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بنتي سعد: «أعط أمهما الثمن» (¬4). وأما كون الولاء ثالث أسباب التوارث؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الولاء لمن أعتق» (¬5). وقال: «الولاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النسبِ لا تُبَاعُ ولا تُوهَب» (¬6). وروي عن عبدالله بن شداد قال: «كان لبنت حمزة مولى أعتقته. فتركَ ابنته ومولاته. فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم بنته النصفَ وأعطى مولاته بنتَ حمزةَ النصف» (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6356) 6: 2478 كتاب الفرائض، ميراث الجد مع الأب والإخوة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1615) 3: 1233 كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر. (¬2) في أ: عمها. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2891) 3: 120 كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب. وأخرجه الترمذي في جامعه (2092) 4: 414 كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث البنات. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2720) 2: 908 كتاب الفرائض، باب فرائض الصلب. (¬4) سبق قريباً. (¬5) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬6) أخرجه ابن حبان في صحيحه (4950) 11: 325 كتاب البيوع، ذكر العلة التي من أجلها نهي عن بيع الولاء وعن هبته. وأخرجه الحاكم في مستدركه (7990) 4: 379 كتاب الفرائض. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬7) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (174) 1: 73 كتاب الفرائض، باب ميراث المولى مع الورثة.

وأما كون أسباب التوارث الأسباب الثلاثة لا غير؛ فلأن الإرث يستدعي دليلاً، والأصل عدمه. وأما كون التوارث يثبت بالموالاة والمعاقدة على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {والذين عَقَدَت أيمانُكم فآتوهم نَصِيبهم} [النساء: 33]. أي من الإرث. «كان الرجل في ابتداء الإسلام يقول للرجل: دمي دمك، ومالي مالك، تنصرني وأنصرك، وترثني وأرثك. فيتعاقدان (¬1) الحلف بينهما على ذلك. فيتوارثان به دون القرابة» (¬2). والأول أصح؛ لأن ذلك نُسخ بقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ... الآية} [الأنفال: 75]. وأما كونه يثبت بإسلام الشخص على يدي غيره على روايةٍ؛ فلما روى راشد بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلمَ على يديه رجل فهوَ مولاهُ يرثهُ ويَدِي عنه» (¬3). رواه سعيد. وروي عن تميم الداري أنه قال: «يا رسول الله! ما السنةُ في الرجلِ يسلمُ على يدي (¬4) الرجل؟ فقال: هوَ أولى (¬5) الناسَ بمحيَاهُ ومماتِه» (¬6). رواه أبو داود والترمذي. وقال: لا أظنه متصلاً. والأول أصح؛ لما تقدم من النسخ المذكور، والأخبار المذكورة ضعيفة. وأما كونه يثبت بكونهما من أهل الديوان على روايةٍ؛ فلأنه يروى عن عمر رضي الله عنه. ذكره أبو الخطاب في تهذيبه. ¬

_ (¬1) في ج: فيتعاقلان. (¬2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (19167) 10: 305 - 306 كتاب الفرائض، باب الحلفاء. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (201) 1: 78 كتاب الفرائض، باب من أسلم على الميراث قبل أن يقسم. ويدي عنه: أي يعطي الدية ويؤديها عنه. (¬4) في أ: يد. (¬5) في ج: أحق. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (2918) 3: 127 كتاب الفرائض، باب في الرجل يسلم على يدي الرجل. وأخرجه الترمذي في جامعه (2112) 4: 427 كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الذي يسلم على يدي الرجل. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2752) 2: 919 كتاب الفرائض، باب الرجل يسلم على يدي الرجل.

والأول أصح؛ لما تقدم. وفعل عمر محمول على أنه فعل ذلك للمصلحة لا للإرث. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: ولا عمل عليه؛ فعائد إلى ما ذكر من أن الإرث يثبت بالموالاة والمعاقدة وإسلامه على يديه، وكونهما من أهل الديوان على رواية. وإنما ذلك كذلك؛ لأن الأصح غيره. وقد تقدم دليله. قال: (والمجمع على توريثهم من الذكور عشرة: الابن، وابنه وإن نزل، والأب، وأبوه وإن علا، والأخ من كل جهة، وابن الأخ إلا من الأم، والعم وابنه كذلك، والزوج، ومولى النعمة. ومن الإناث سبع: البنت، وبنت الابن، والأم، والجدة، والأخت، والمرأة، ومولاة النعمة). أما كون عدد المجمع على توريثهم سبعة عشر: عشرة من الذكور، وسبعاً من الإناث؛ فلأن تفصيلهم يدل على ذلك. وأما كونهم مجمعاً على توريثهم فذكره غير واحدٍ من أهل العلم، وقد دل النص على توريثهم: أما الابن وابنه وإن نزل؛ فلأن الله تعالى قال: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11]، وقال عليه السلام: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» (¬1) متفق عليه. وأما الأب؛ فلأن الله تعالى قال: {ولأبويه لكل واحدٍ منهما السدس} [النساء: 11]. وأما الجد وإن علا فيحتمل أن يدخل في عموم قوله: {ولأبويه} [النساء: 11]؛ كما دخل ابن الابن في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11]. ويحتمل أن يثبت إرثه بأن النبي صلى الله عليه وسلم ورثه السدس (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما الأخ من كل جهةٍ. والمراد به من الأبوين أو من الأب أو من الأم: أما الأخ من الأبوين أو الأب؛ فلأن الله تعالى قال: {وهو يرثها إن لم يكن لها ولد} [النساء: 176]. وأما الأخ من الأم؛ فلأن الله تعالى قال: {وله أخ أو أخت فلكل واحدٍ منهما السدس} [النساء: 12]. وأما ابن الأخ من الأبوين أو من الأب والعم وابنه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أبقت الفرائض فلأولى رجلٍ ذكر» (¬1)، وقال في حديث بنتي سعدٍ للعم: «وما بقي فهو لك» (¬2). وأما الزوج؛ فلأن الله تعالى قال: {ولكم نصفُ ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد} [النساء: 12]. وأما مولى النعمة والمراد به المعتق؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الولاء لمن أعتق» (¬3)، وقال: «الولاءُ لحمة كلحمة النسب» (¬4). وأما البنت؛ فلقوله تعالى: {وإن كانت واحدةً فلها النصفُ} [النساء: 11]. وأما بنت الابن؛ فلأنها بمنزلة بنت. فإذا أخذت البنت النصف تعين كون السدس لها؛ لأن فرض البنتين الثلثان لقوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} [النساء: 11]. فإن قيل: ظاهر هذا الجمع فلم حكم بالثلثين للبنتين؟ قيل (¬5): لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «أعط ابنتي سعد الثلثين» (¬6): بيّنَهُ. قاله المفسرون. وسيأتي بيان ذلك مستقصى في موضعه إن شاء الله تعالى (¬7). وأما الأم؛ فلأن الله تعالى قال: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} [النساء: 11]، وقال: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11]. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) ساقط من أ. (¬6) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬7) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما الجدة؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطعمها السدس» (¬1) رواه أبو داود. وأما الأخت فقد تكون لأبوين وقد تكون لأب وقد تكون لأم: أما التي لأبوين أو لأب؛ فلأن الله تعالى قال: {وله أخت فلها نصف ما ترك} [النساء: 176]. وأما الأخت لأم؛ فلأن الله تعالى قال: {وله أخ أو أخت فلكل واحدٍ منهما السدس} [النساء: 12]. وأما المرأة؛ فلأن الله تعالى قال: {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ... الآية} [النساء: 12]. وأما مولاة النعمة والمراد بها المعتقة؛ فلدخولها في قوله عليه السلام: «إنما الولاء لمن أعتق» (¬2). و «الولاء لحمة كلحمة النسب» (¬3). قال: (والوارث ثلاثة: ذوو فرض، وعصبات، وذوو رحم). أما كون الوارث ثلاثة؛ فلأن الوارث تارة يكون ذا فرض، وتارة عصبة، وتارة ذا رحم. وأما "ذو" فهو بمعنى صاحب. وأما "الفرض" فهو التقدير. ومنه: فَرَض القاضي النفقة. أي قدّرها. فذو الفرض معناه: صاحب التقدير. أي: الذي قُدّر له شيء معلوم في كتابٍ أو سنة. وأما "العصبة" فهو الوارث بغير تقدير. والعصَبةُ مأخوذ من العَصْبِ وهو الشدة، ومنه: عصابة الرأس. والمعنى هنا: أن الميت يشتدّ أزره وجانبه بولده وبأبيه وبإخوته وما أشبه ذلك. وأما "ذو الرحم" فهو الذي يدلي بقرابة الأم. فإن قيل: في هذا إشكالان: أحدهما: أن ولد الأم يدلي بقرابة الأم وليس بذي رحم في الميراث. وثانيهما: أن بنات العم وبنات الأخ من ذوي الأرحام ولا يدلون بقرابة الأم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2895) 3: 122 كتاب الفرائض، باب في الجدة. (¬2) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قيل: أما ولد الأم فهو ذو رحم حقيقة إلا أنه لما ورث بالفرض صار هذا الوصف مغموراً بالنسبة إليه؛ لأنه إذا اجتمع سببان أحدهما أقوى من الآخر يصير الأضعف مغموراً بالنسبة إلى الأقوى. لا سيما إذا كان أحد السببين في الجملة ليس بسببٍ مع وجود الآخر؛ كميراث ذي الرحم مع ذي الفرض. ومما (¬1) يبين أنه في الحقيقة ذو رحمٍ أنه لو كان عبداً فملكه عتق عليه؛ لأنه ذو رحمه. وأما بنات العم والأخ (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: وكما. (¬2) بياض في الأصول.

باب ميراث ذوي الفروض

باب ميراث ذوي الفروض الميراث أصله: مِوْراث (¬1). انقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وذوي جمع ذو. والفروض: جمع فرض. وقد تقدم أن "ذو" معناها: صاحب. وأن الفرض معناه: التقدير. فمعنى ذوي الفروض: أصحاب التقادير. قال المصنف رحمه تعالى: (وهم عشرة: الزوجان، والأبوان، والجد، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت من كل جهة، والأخ من الأم؛ فللزوج الربع إذا كان لها ولد أو ولد ابن، والنصف مع عدمهما. وللمرأة الثمن إذا كان له ولد أو ولد ابن، والربع مع عدمهما). أما كون ذوي الفروض عشرة؛ فلأن كل من ذُكر له فرض؛ لما يأتي ذكره في موضعه، وهم عشرة. فإن قيل: ما تقدم مشعرٌ بأمرين: أحدهما: أن ذوي الفروض عشرة. وقد ذكرت الدلالة عليه. وثانيهما: أن غير العشرة لا يكون من ذوي الفروض، ولم يذكر الدلالة عليه. قيل: دليله الإجماع. ولأن الأصل عدم التقدير. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: الزوجان ... إلى قوله: والأخ من الأم؛ فتعداد للعشرة، وبيان المراد بها. وأما كون الزوج له الربع مع من ذُكر والنصف مع عدمه، وكون المرأة لها الثمن مع من ذكر والربع مع عدمه؛ فلأن الله تعالى قال: {ولكم نصفُ ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولدٌ فلكم الربع مما تركن من بعد وصية ¬

_ (¬1) في أ: مورث.

يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم} [النساء: 12]. فإن قيل: الحجب من النصف إلى الربع ومن الربع إلى الثمن بالولد ظاهر فلم يحصل ذلك الحجب بولد الابن؟ قيل: لأنه ولد بدليل دخوله في: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11]. والمراد بقول المصنف: وللمرأة الثمن المرأة الواحدة فأكثر إلى أربع؛ لاستواء الكل في قدر الميراث. فإن قيل: فلم جعل الجماعة مثل الواحدة؟ قيل: لأنه لو فرض لكل واحدةٍ الربع وهن أربع لأخذن المال كله وزاد فرضهن على فرض الزوج.

فصل [في أحوال الأب] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وللأب ثلاثة أحوال: حال يرث فيها السدس بالفرض. وهي مع ذكور الولد أو ولد الابن، وحال يرث بالتعصيب. وهي مع عدم الولد وولد الابن، وحال يجتمع له الفرض والتعصيب. وهي مع إناث الولد أو ولد الابن) (¬1). أما كون الأب له ثلاثة أحوال؛ فلأنه تارة يرث بالفرض، وتارة بالتعصيب، وتارة بهما. وأما كون إحدى أحواله: حالاً يرث فيها السدس بالفرض. وهي مع ذكور الولد أو ولد الابن؛ فلأن الله تعالى قال: {ولأبويه لكل واحدٍ منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} [النساء: 11]. فإن قيل: الولد يقع على الذكر والأنثى. فلم خصص هنا بالذكر؟ قيل: لأن الغرض الإرث بالفرض لا غير. ولو كان الولد أنثى لاجتمع له مع الفرض التعصيب؛ لما يأتي. وأما كون إحدى أحواله: حالاً يرث فيها بالتعصيب وهي مع عدم الولد وولد الابن؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11] أضاف المال إليهما، وجعل للأم الثلث. فكان الباقي للأب. وهذا شأن التعصيب. وأما كون إحدى أحواله: حالاً يجتمع له فيها الإرث بالفرض والتعصيب. وهي مع إناث الولد أو ولد الابن؛ فلأنه إذا كان في المسألة بنت أو بنات أخذ ¬

_ (¬1) في أ: وللأب ثلاثة أحوال: حال يرث فيها بالتعصيب وهي مع عدم الولد وولد الابن، وحال يرث فيها السدس بالفرض وهي مع ذكور الولد أو ولد الابن، وحال يرث فيها بالفرض وبالتعصيب وهي مع إناث الولد أو ولد الابن.

السدس بالفرض؛ لقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحدٍ منهما السدس مما ترك (¬1) إن كان له ولد} [النساء: 11]، ويرث الباقي بعد فرض البنت أو البنات بالتعصيب؛ لقوله عليه السلام: «فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذكر» (¬2) متفق عليه. والأب حينئذٍ أولى رجلٍ ذكر. ¬

_ (¬1) قوله: {مما ترك} سقط من الأصل. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في حكم ميراث الجد] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وللجد هذه الأحوال الثلاثة وحال رابعٌ. وهي مع الإخوة والأخوات من الأبوين أو الأب فإنه يقاسمهم كأخ. إلا أن يكون الثلث خيراً له فيأخذه، والباقي لهم). أما كون الجد له الأحوال الثلاثة المتقدم ذكرها؛ فلأنه أبٌ وقد ورّثه رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس (¬1). رواه سعيد بن منصور. وأما كونه له حال رابع. وهي: مع الإخوة والأخوات من الأبوين أو الأب؛ فلأنه يرث معهم في الجملة؛ لأنه لا سبيل إلى إسقاطه بالإخوة والأخوات، ولا بالعكس؛ لاستوائهما في سبب الاستحقاق؛ لأن كل واحدٍ منهما يدلي بالأب: الجد؛ لأنه أبوه. والأخ؛ لأنه ابنه. وقرابة البنوّة لا تنقص عن قرابة الأبوّة. بل ربما كانت أقوى؛ لأن الأبوّة ربما سقطت بالبنوّة. فإذا لم يسقط بهم فلا أقل من أن لا يسقطوا به. وأما كونه يقاسمهم كأخٍ إذا لم يكن الثلث خيراً له؛ فلما تقدم من الاستواء المذكور. وأما كونه يأخذ الثلث إذا كان خيراً له والباقي للإخوة؛ فلأن زيد بن ثابت هكذا كان يصنع (¬2) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرضكم زيد» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (38) 1: 44 باب الجد. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 244 كتاب الفرائض، باب ميراث الجد. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (39) 1: 45 باب الجد. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (4) 1: 28 كتاب الفرائض، باب الحث على تعليم الفرائض. وأخرجه الحاكم في مستدركه (7962) 4: 372 كتاب الفرائض. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

قال: (فإن كان معهم ذو فرضٍ أخذ فرضه. ثم للجد الأحظ من: المقاسمة كأخٍ، وثلث الباقي، وسدس جميع المال). أما كون ذي الفرض يأخذ فرضه؛ فلأن ذلك له؛ لما تقدم في موضعه. وأما كون الجد له الأحظ من: المقاسمة بعد إخراج فرض ذي الفرض، ومن ثلث الباقي، ومن سدس جميع المال؛ فلأن ذلك له مع عدم فرض ذي الفرض. فكذا مع وجوده بعد إخراج نصيبه. فإن قيل: مع عدم ذي الفرض (¬1) كان له ثلث الجميع. قيل: ما يؤخذ بالفرض كأنه ذهب من المال فصار ثلث الباقي بمنزلة ثلث الجميع. فعلى هذا إذا زاد الإخوة عن اثنين أو من يَعْدِلُهم من الإناث فلا حظ له في المقاسمة. ومتى نقصوا عن ذلك فلا حظ له في ثلث الباقي. ومتى نقصت الفروض عن النصف فلا حظ له في السدس. وإذا كانت الفروض النصف استوى السدس وثلث الباقي. ومتى كانت الإخوة اثنين استوى ثلث الباقي والمقاسمة. قال: (فإن لم يفضل عن الفرض إلا السدس فهو له وسقط من معه منهم. إلا في الأكدرية وهي: زوجٌ وأمٌ وأختٌ وجدٌ: فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، وللأخت النصف، ثم يقسم نصف الأخت وسدس الجد بينهما على ثلاثة. فتضربها في المسألة وعولها وهو تسعة يكون سبعة وعشرين: للزوج تسعة، وللأم ستة، وللجد ثمانية، وللأخت أربعة. ولا يعول من مسائل الجد غيرها. ولا يفرض لأختٍ مع جدٍ إلا فيها). أما كون السدس للجد إذا لم يفضل عن الفرض إلا ذلك؛ فلأنه لا يجوز نقصانه عن السدس؛ لأنه يرثه مع الولد فمع غيره بطريق الأولى. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم الجد السدس (¬2)، ولا يجوز أن ينقص منه. وأما كون من مع الجد من الإخوة والأخوات من الأبوين أو الأب يسقط فيما ذكر إذا لم تكن الأكدرية؛ فلأنهم عصبة، وقد استوعبت الفروض المال. ¬

_ (¬1) في أزيادة: فكذا مع وجوده. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون الأخت لا تسقط في الأكدرية؛ فلأن زيداً قضى فيها بذلك (¬1). والذي حمله على عولها أنه لو لم يفرض للأخت لسقطت، وليس في الفريضة من يسقطها. والذي حمله على ضم نصف الأخت إلى سدس الجد أنها لا ترث معه إلا بحكم المقاسمة. وسميت الأكدرية؛ لأنها كدرت أصول زيد؛ لأنه لا عول عنده في مسائل الجد وقد أعالها. ولا فرض عنده لأختٍ مع جدٍ وقد فرض لها معه. ولأنه جمع سهامهما (¬2) ثم قسمها ولا نظير له. وقيل: سميت أكدرية؛ لأن عبدالملك بن مروان سأل عنها رجلاً اسمه: الأكدر فأفتى فيها على مذهب زيد وأخطأ فيها فنسبت إليه. وأما قول المصنف رحمه الله: وهي زوجٌ وأمٌ وأختٌ وجدٌ؛ فبيان للأكدرية. وأصلها من ستة؛ لأن فيها سدساً ونصفاً، وتعول إلى تسعة؛ لأن الزوج له النصف ثلاثة، وللأم لها الثلث سهمان، والأخت لها النصف ثلاثة، والجد له السدس سهم. ثم يجمع سهم الأخت والجد وهو أربعة فيقسم بينهما على ثلاثة لا تصح فتضرب ثلاثة في تسعة تكون سبعة وعشرين، ثم من له شيء من أصل المسألة مضروب في المسألة: فللزوج ثلاثة مضروبة في ثلاثة بتسعة، وللأم اثنان في ثلاثة بستة، وللأخت والجد أربعة في ثلاثة باثني عشر بينهما أثلاثاً: للجد ثمانية، وللأخت أربعة. وأما كونه لا يعول من مسائل الجد غيرها، ولا يفرض لأخت مع الجد إلا فيها؛ فلأن ذلك مذهب زيد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفرضكم زيد» (¬3). قال: (وإن لم يكن فيها زوج فللأم الثلث، وما بقي بين الجد والأخت على ثلاثة فتصح من تسعة، وتسمى: الخرقاء؛ لكثرة اختلاف الصحابة فيها). أما كون المسألة المذكورة تصح من تسعة؛ فلأن أصلها من ثلاثة؛ لأن فيها ثلثاً، وما بقي للأم الثلث سهم. يبقى سهمان بين الجد والأخت على ثلاثة، لأن ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (65) 1: 50 كتاب الفرائض، باب: قول عمر في الجد. وأخرجه الدارمي في سننه (2926) 2: 244 كتاب الفرائض، باب الأكدرية. (¬2) في أ: سهامها. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

المقاسمة هنا أحظ له واثنان على ثلاثة لا تصح فتضرب ثلاثة في ثلاثة تكون تسعة: للأم ثلاثة، وللجد أربعة، وللأخت اثنان. وأما كونها تسمى الخرقاء؛ فلما ذكر المصنف؛ لأن الأقوال لما كثرت كأنها خرقتها. فإن قيل: ما كثرة اختلاف الصحابة فيها؟ قيل: سبعة أقوال: قول الصديق رضي الله عنه وموافقيه: للأم الثلث، والباقي للجد. وقول زيد وموافقيه وهو ما تقدم. وقول عليّ: للأخت النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس. وقول عمر وعبدالله: للأخت النصف، وللأم ثلث الباقي، وما بقي للجد. وقول ابن مسعود: للأخت النصف، والباقي بين الجد والأم نصفين فتصح من أربعة. وعن عثمان: المال بينهم أثلاثاً. قال: (وولد الأب كولد الأبوين (¬1) في مقاسمة الجد إذا انفردوا. فإن اجتمعوا عادّ ولد الأبوين الجد بولد الأب. ثم أخذوا منهم ما حصل لهم. إلا أن يكون ولد الأبوين أختاً واحدة فتأخذ تمام النصف وما فضل لهم. ولا يتفق هذا في مسألة فيها فرض غير السدس). أما كون ولد الأب كولد الأبوين في مقاسمة الجد إذا انفردوا؛ فلأن حكم ميراثهم في غير هذا الموضع. فكذا في هذا. وأما كون ولد الأبوين يعادّ الجد بولد الأب؛ فلأن الجد لا يُسقط ولد الأب بدليل ميراثه معه إذا انفرد. فإن قيل: ما معنى عادّ؟ قيل: زاحم. وأما كون ولد الأبوين يأخذون جميع ما حصل لولد الأب إذا لم يكن ولد الأبوين أختاً واحدة، وكون الأخت الواحدة من ولد الأبوين تأخذ تمام النصف؛ فلأنهما أولى بذلك منه. بدليل ما لو اجتمعا ولا جدّ. ¬

_ (¬1) في أ: الابن.

فعلى هذا ولد الأبوين إن كان ذكراً أو أختين أخذ جميع ما في يد ولد الأب؛ لأنه حقه. وإن كان أختاً واحدةً لم تأخذ إلا تمام النصف؛ لأن فرضها لا يزيد على نصفٍ، وما بقي فهو لولد الأب؛ لأنه إنما يؤخذ منه لكون ولد الأبوين أولى وقد زالت أولويته هنا؛ لاستكمال حقه. وأما كون ما ذكر لا يتفق في مسألة فيها فرض غير السدس فبالسَّبْر. قال: (فإذا كان جدٌ، وأختٌ من أبوين، وأختٌ من أبٍ: فالمال بينهم على أربعة: للجد سهمان، ولكل أختٍ سهم، ثم رجعت الأخت من الأبوين فأخذت ما في يد أختها كله). أما كون المال فيما ذكر بين الجد والأختين المذكورتين على أربعة؛ فلأن المقاسمة أحظ للجد فيجعل كأختين. يكون ذلك أربعة: للجد سهمان، ولكل أختٍ سهم. وأما كون الأخت من الأبوين ترجع فتأخذ ما في يد أختها كله؛ فلما تقدم من أنها تستحق تمام النصف. قال: (فإن كان معهم أخٌ من أبٍ: فللجد الثلث، وللأخت النصف. يبقى للأخ وأخته السدس على ثلاثة. فتصح من ثمانية عشر). أما كون الجد له الثلث؛ فلأنه أحظ له. وأما كون الأخت لها النصف؛ فلأنها أخت لأبوين. وأما كون ما يبقى للأخ وأخته؛ فلأنهما عصبة لكونهما لأب. وأما كون ذلك السدس؛ فظاهر. وأما كونه على ثلاثةٍ؛ فلأن الأخ باثنين والأخت بواحد. وأما كون المسألة المذكورة تصح من ثمانية عشر؛ فلأن العدد المنكسر عليه ثلاثة. فإذا ضربتها في أصل المسألة وهي ستة تكون ثمانية عشر. قال: (فإن كان معهم أمٌ: فلها السدس، وللجد ثلث الباقي، وللأخت النصف، والباقي لهم. فتصح من أربعة وخمسين. وتسمى: مختصرة زيد). أما كون الأم لها السدس؛ فلأن ذلك فرضها مع الإخوة.

وأما كون الجد له ثلث الباقي؛ فلأنه أحظ له. وأما كون الأخت لها النصف؛ فلأنها لأبوين. وأما كون الباقي للأخ وأخته؛ فلأنهما (¬1) عصبته لكونهما لأب. وأما كون المسألة تصح من أربعة وخمسين؛ فلأن أصلها من ستة، لأن فيها سدساً ونصفاً: للأم سهم، وللأخت ثلاثة، وللجد ثلث الباقي. لا تصح فابسط ذلك أثلاثاً تكن ثمانية عشر: للأم السدس ثلاثة، وللجد ثلث الباقي خمسة، وللأخت تسعة. يبقى سهم على ثلاثة لا تصح فاضرب ثمانية عشر في ثلاثة يكون أربعة وخمسين: للأم ثلاثة في ثلاثة بتسعة، وللجد خمسة في ثلاثة بخمسة عشر، وللأخت تسعة في ثلاثة بسبعة وعشرين. يبقى ثلاثة: للأخ سهمان، وللأخت سهم. وأما كونها تسمى مختصرة زيد؛ لكونه لو قاسم بالجد لانتقلت الستة إلى ستة وثلاثين: للأم ستة، وللجد عشرة، وللأخت ثمانية عشر. يبقى سهمان على ثلاثة لا تصح فتضرب ستة وثلاثين في ثلاثة يكون مائة وثمانية ترجع بالاختصار إلى أربعة وخمسين. قال: (فإن كان معهما أخٌ آخر صحت من تسعين، وتسمى تسعينية زيد). أما كون المسألة المذكورة تصح من تسعين؛ فلأن السهم الباقي المذكور ينقسم حينئذٍ على خمسة. فتضرب ثمانية عشر في خمسة يكون تسعين: للأم ثلاثة في خمسة بخمسة عشر، وللجد خمسة في خمسة بخمسة وعشرين، وللأخت تسعة في خمسة بخمسة وأربعين. يبقى خمسة لكل أخٍ سهمان، وللأخت سهم. وأما كونها تسمى تسعينية زيد؛ فلأن زيداً صححها من تسعين. ¬

_ (¬1) في أ: فلأنها.

فصل [في أحوال الأم] قال المصنف رحمه الله: (وللأم أربعة أحوال: حال لها السدس. وهي: مع وجود الولد، أو ولد الابن، أو اثنين من الإخوة والأخوات. وحال لها الثلث. وهي: مع عدم هؤلاء. وحال لها ثلث ما بقي وهي في (¬1) زوج وأبوين وامرأة وأبوين. لها ثلث الباقي بعد فرض الزوجين). أما كون الأم لها أربعة أحوال؛ فلأنها تارة ترث السدس، وتارة الثلث، وتارة ثلث ما بقي، وتارة بالفرض، والتعصيب في رواية. وسيأتي (¬2) دليل ذلك كله في مواضعه. وأما كون أحد أحوالها: حالاً لها السدس. وهي: مع وجود الولد، أو ولد الابن، أو اثنين من الإخوة والأخوات: أما مع وجود الولد؛ فلأن الله تعالى قال: {ولأبويه لكل واحدٍ منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} [النساء: 11]. وأما مع ولد الابن؛ فلأنه ولد فيدخل فيما تقدم. وإنما لم يكن ولد البنت كذلك؛ لأن نسبته إلى أبيه لا إلى أمه، ومنه قول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد وأما مع وجود اثنين من (¬3) الإخوة والأخوات؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن كان له إخوةٌ فلأمه السدس} [النساء: 11]. فإن قيل: الإخوة جمع. وأقله ثلاثة. فلم انحجبت عن الثلث إلى السدس باثنين؟ ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: سيأتي. (¬3) في أ: مع.

قيل: «لأن ابن عباس قال لعثمان: ليس الأخوان إخوة في لسان قومك. فلم تحجب الأم؟ فقال: لا أستطيع أن أرد شيئاً كان قبلي ومضى في البلدان وتوارث به الناس» (¬1). وفي هذا دليل على إجماع الصحابة على ذلك قبل حدوث المخالف. ولأن كل حجب تعلق بعدد كان أوله اثنين؛ كحجب البنات لبنات الابن، والأخوات من الأبوين للأخوات من الأب. ولأن الله تعالى قال: {وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 176]، وهذا ثابت في أخ وأخت. ومن أهل اللغة من يجعل الاثنين جمعا حقيقة، ومنهم من يستعمله مجازا فيصرف إليه بالدليل. وأما كون أحد أحوالها: حالاً لها الثلث وهي مع عدم من تقدم ذكره؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن لم يكن له ولدٌ وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11]. وأما كون أحد أحوالها: حالاً لها ثلث ما بقي. وهي: في زوج وأبوين وامرأة وأبوين؛ فـ «لأن عمر رضي الله عنه قضى لها بثلث ما بقي بعد فرض الزوجين» (¬2). وتابعه عثمان وابن مسعود وزيد بن ثابت. فإن قيل: فرض الأم عند عدم الولد وولد الابن والاثنين من الإخوة والأخوات الثلث؛ لما تقدم. وليس في هذه المسألة واحد ممن ذكر، وقد احتج ابن عباس على ذلك؛ بعموم الآية. قيل: الحجة معه لولا إجماع الصحابة على مخالفته. ولأن الأم لو أخذت ثلث المال كله في مسألة الزوج لأخذت أكثر من الأب. وذلك لا يجوز. ولأن الفريضة لو جمعت أبوين كان للأم ثلث الباقي؛ كما لو كان معهم بنت. فعلى هذا مسألة الزوج تصح من ستة: للزوج ثلاثة، وللأب سهمان، وللأم سهم. ومسألة المرأة تصح من أربعة: للمرأة سهم، وللأب سهمان، وللأم سهم. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في مستدركه (7960) 4: 372 كتاب الفرائض. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31044، 31045) 6: 243 كتاب الفرائض، في امرأة وأبوين من كم هي؟

قال: (وحال رابعٌ: وهي: إذا لم يكن لولدها أبٌ؛ لكونه ولد زناً أو منفياً بلعان: فإنه ينقطع تعصيبه من جهة من نفاه. فلا يرثه هو ولا أحد من عصباته، وترث أمه وذوو الفروض منه فروضهم وعصبته عصبة أمه (¬1). وعنه: أنها هي عصبته فإن لم تكن فعصبتها عصبته). أما كون الأم لها حال رابع؛ فلأن لها حالاً تكون فيها عصبة لولدها في روايةٍ. وذلك في صورتين: أحدهما: إذا كان ولدها من الزنا؛ لأنه لا ينتسب إلى الزاني. فيجب أن يكون الحكم في الميراث منه كحكم ولد الملاعنة؛ لاستوائهما في انقطاع نسبهما من الزاني والملاعن. وثانيهما: إذا كان ولدها منفياً بلعان. وأما كون المنفي بلعان ينقطع تعصيبه من جهة من نفاه؛ فلأن في حديث سهل بن سعد في المتلاعنين: «ففرّقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضَى أن لا يُدعَى ولدهَا لأب» (¬2) رواه أبو داود. وفي حديث ابن عمر: «وألحق الولد بالمرأة» (¬3) متفق عليه. وأما كون من نفاه لا يرث المنفي؛ فلأنه لما انقطع بينهما التعصيب أشبه الأجنبي. وأما كونه لا يرثه أحدٌ من عصبات من نفاه؛ فلأنه إذا لم يرثه من نفاه فلأن لا يرثه عصباته وهم يدلون به بطريق الأولى. وأما كون الأم وذوي الفروض يرثون قدر فروضهم؛ فلأن أصحاب الفروض يقدَّمُون على العصبة. وأما كون عصبته عصبة أمه على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا ¬

_ (¬1) في أ: وترثه أمه وذوو الفرض منهم وعصبته وعصبة أمه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2256) 2: 277 أبواب الطلاق، باب في اللعان. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6367) 6: 2480 كتاب الفرائض، باب ميراث الملاعنة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1494) 2: 1132 كتاب اللعان.

الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذكر» (¬1)، وعصبات أمه أولى رجل بالملاعن عليه. وعن علي «أنه ألحق ولد الملاعنة بعصبة أمه» (¬2). وأما كون أمه عصبته على روايةٍ فإن لم تكن فعصبتها عصبته؛ فلما عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلَ ميراثَ ابن الملاعنةِ لأمه ولورثتِهَا من بعدِهَا» (¬3) رواه أبو داود. وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحُوزُ المرأةُ ثلاثةَ مواريث: عَتيقَهَا ولقِيطَهَا وولَدَهَا الذي لاعنتْ عليه» (¬4). رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن غريب. وعن عبدالله بن عبيد (¬5) بن عمير قال: «كتبتُ إلى صديقٍ لي من أهلِ المدينةِ من بني زُريقٍ أسألُه عن ولدِ الملاعنة لمن قضَى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكتبَ إليَّ سألتُ. فأُخبرتُ أنه قضى به لأمّهِ. هي بمنزلةِ أبيهِ وأمّه» (¬6). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31320) 6: 276 كتاب الفرائض، في ابن الملاعنة إذا ماتت أمه من يرثه ومن عصبته. وأخرجه الدارمي في سننه (2957) 2: 248 كتاب الفرائض، باب في ميراث ابن الملاعنة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2908) 3: 125 كتاب الفرائض، باب ميراث ابن الملاعنة. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2906) 3: 125 كتاب الفرائض، باب ميراث ابن الملاعنة. وأخرجه الترمذي في جامعه (2115) 4: 429 كتاب الفرائض، باب ما جاء ما يرث النساء من الولاء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2742) 2: 916 كتاب الفرائض، باب تحوز المرأة ثلاث مواريث. (¬5) في أ: عبيد الله. (¬6) أخرجه الدارمي في سننه (2955) 2: 247 كتاب الفرائض، باب في ميراث ابن الملاعنة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 259 كتاب الفرائض، باب ميراث ولد الملاعنة. وأخرجه أبو داود في المراسيل 8 ص: 191 باب ما جاء في الفرائض، ولفظه: عن عبدالله بن عبيد عن رجل من أهل الشام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولد الملاعنه عصبته أمه».

قال: (فإذا خلّف أماً وخالاً: فلأمه الثلث وباقيه للخال، وعلى الرواية الأخرى: الكل للأم. وإن كان معهم أخ فله السدس والباقي له أو للأم على الرواية الثانية). أما كون من خلّف أماً وخالاً لأمه الثلث وباقي المال للخال على الرواية الأولى؛ فلأن فرض الأم والحالة هذه الثلث، والباقي لعصبة الميت وهو الخال؛ لأنه أخو أمه. وأما كون الكل للأم على الرواية الأخرى؛ فلأنها صاحبة فرض وعصبته عليها. فتأخذ الثلث بالفرض والباقي بالتعصيب. وأما كون الأخ له السدس إذا كان مع الأم والخال؛ فلأن فرض الأخ من الأم السدس. وأما كون الباقي للخال على الرواية الأولى وللأم على الرواية الثانية؛ فلما تقدم ذكره. ولا بد أن يلحظ في الباقي أنه بعد ثلث الأم وسدس الأخ؛ لأنه لولا ذلك لما كان للأم شيء على الرواية الأولى، وليس كذلك وفاقاً. قال: (وإذا مات ابنُ ابنٍ ملاعنةٍ وخلّف أمه وجدته: فلأمه الثلث وباقيه للجدة على إحدى الروايتين، وهذه جدة ورثت مع أمٍّ أكثر منها). أما كون الثلث للأم؛ فلأنه فرضها في هذه المسألة. وأما كون باقي المال للجدة على إحدى الروايتين؛ فلأنها هي الملاعنة وهي عصبة الملاعن عليه على روايةٍ فيكون لها الباقي؛ لأنها عصبة أبيه وعصبة أبي الشخص عصبة له. فإن قيل: على الرواية الأخرى ما الحكم؟ قيل: يكون الباقي للأم؛ لأنه إذا قيل ليست الجدة عصبة له كان الباقي للأم بالرد؛ لأن الميت لا عصبة له، ولا صاحب فرضٍ غيرها. وأما كون هذه جدة ورثت مع أمّ أكثر منها؛ فلأنها ورثت الثلثين مع إرث الأم الثلث، وذلك إرث جدةٍ مع أمٍّ، وهو أكثر من نصيب الأم. وإنما ورثت

معها؛ لأن الجدة عصبةٌ على روايةٍ. وإنما ورثت أكثر منها؛ لأن العصبة له الباقي، والباقي هنا أكثر، ويعايا بهذه المسألة؛ لأن الجدة ورثت مثلي (¬1) الأم. ¬

_ (¬1) في أ: مثل.

فصل [في حكم ميراث الجدات] (وللجدّات السدس. واحدةً كانت أو أكثر إذا تحاذين). أما كون الجدة الواحدة لها السدس؛ فلما روى قبيصة بن ذُؤيب قال: «جاءتِ الجدةُ إلى أبي بكر تطلبُ ميراثها. فقال: ما لكِ في كتاب الله شيء وما علمتُ لكِ في سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء. ولكن ارجعي حتى أسألَ الناسَ. فقال المغيرة بن شعبة: حضرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فقال: هل معكَ غيرك؟ فشهد له محمد بن مسلمة. فأمضاهُ لها أبو بكر» (¬1). وأما كون الجدات لهن ذلك وإن كثرن؛ فلأن تكملة الحديث المذكور: «فلما كان عمرُ جاءت الجدة الأخرى. فقال: ما لكِ في كتابِ الله شيء وما كان القضاءُ الذي قضى به أبو بكر إلا في غيرك، وما (¬2) أنا بزائدٍ في الفرائضِ شيئاً. ولكن تعودُ إلى السدس. فإن اجتمعتما (¬3) فهو لكما. وأيكما خَلتْ به فهو لها» (¬4). رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: إذا تحاذين فشرط في كونهن لهن ذلك؛ لأن بعضهن (¬5) إذا كان أقرب من بعض له حكم يأتي بيانه بعد (¬6) إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في الحديث الآتي. (¬2) في أ: وأما. (¬3) في أ: اجتمعا. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2894) 3: 121 كتاب الفرائض، باب في الجدة. وأخرجه الترمذي في جامعه (2101) 4: 420 كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2724) 2: 909 كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة. (¬5) سقط لفظي: لأن بعضهن من أ. (¬6) زيادة من ج.

قال: (فإن كان بعضُهن أقرب من بعض: فالميراث لأقربهن. وعنه: أن القربى من جهة الأب لا تحجب البعدى من جهة الأم). أما كون الميراث لأقرب الجدات من جهة الأم كانت الجدة أو من جهة الأب؛ فلأن الأقرب أبداً يحجب الأبعد. دليله: الآباء والأبناء. وأما كون القربى من جهة الأب لا تحجب البعدى من جهة الأم على روايةٍ؛ فلأن الذي تدلي به الجدة (¬1) من جهة الأب لا يحجب الجدة من جهة الأم فلأن لا يحجبها هي وهي تدلي به أولى. وبهذا فارقتها التي من جهة الأم فإنها تدلي بالأم وهي تحجب جميع الجدات. قال: (ولا يرث أكثر من ثلاث جدات: أم الأم، وأم الأب، وأم الجد. ومن كان من أمهاتهن وإن علت درجتهن. فأما أم أبي الأم وأم أبي الجد فلا ميراث لهما). أما كون الجدات لا يرث منهن أكثر من ثلاث وهن من ذكرن ومن كان من أمهاتهن؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم ورّثَ ثلاثَ جداتٍ: ثنتين من قبلِ الأبِ، وواحدة من قبلِ الأم» (¬2). أخرجه أبو عبيد والدارقطني. وروى سعيد عن إبراهيم أنه قال: «كانوا يورّثون من الجدات ثلاثاً: ثنتين من قبل الأب: وواحدةٍ من قبل الأم» (¬3). وفي ذلك دلالة على التحديد وعدم إرث الزائد على الثلاث. وأما كون أم أبي الأم، وأم أبي الجد: لا ميراث لهما؛ فلأنهما من ذوي الأرحام. والمراد: نفي الإرث بكونهما جدتين لا بكونهما من ذوي الأرحام؛ لأن الكلام في ميراث الجدة المستحقة بنفسها لا بسبب غيرها. ¬

_ (¬1) في أ: الجد. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (76) 4: 91 كتاب الفرائض. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (79) 1: 54 كتاب الفرائض، باب الجدات. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (94) 1: 57 كتاب الفرائض، باب الجدات.

قال: (والجدات المتحاذيات: أمُّ أمِّ أمٍّ، وأمُّ أمِّ أبٍ، وأمُّ أبي أبٍ. وترث الجدة وابنها حيٌ. وعنه: لا ترث). أما كون الجدات المتحاذيات من ذُكر؛ فلتساويهن في كون كل واحدةٍ ليس بينها وبين ولد ولدها غير واحدة، ولا يتصور ذلك في أول جدةٍ؛ لأن من الثلاث أم الجد فلا تحاذيها إلا ثاني جدةٍ. وأقل ما يمكن ذلك مثْل الذي مثّل المصنف رحمه الله. وأما كون الجدة ترث وابنها حيٌ على المذهب؛ فلما روى ابن مسعود قال: «أولُ جدةٍ أطعمَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السدسَ: أم أبٍ معَ ابنها وابنُها حَي» (¬1). رواه الترمذي. وأما كونها لا ترث على روايةٍ؛ فلأنها تدلي بابنها. فلم ترث معه؛ كالجد مع الأب، وأم الأم مع الأم. والأول أصح؛ للحديث. ولأنها ترث ميراث الأم لا ميراث الأب. فلا تحجب به؛ كأم الأم. فإن قيل: لو كان ابنها عماً. قيل: ترث معه قولاً واحداً؛ لأنها لا تدلي به البتّة. قال: (وإن اجتمعت جدةٌ ذات قرابتين مع أخرى فلها ثلثا السدس في قياس قوله، وللأخرى ثلثه). أما كون الجدة ذات القرابتين لها ثلثا السدس؛ فلأن الجدة شخص ذات قرابتين ترث بكل واحدةٍ (¬2) منهما منفردة. فوجب أن ترث بكل واحدة (¬3) منهما إذا اجتمعا؛ كابن العم إذا كان أخاً لأم أو زوجاً. فإن قيل: ما المراد من قول المصنف: في قياس قوله؟ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (2102) 4: 421 كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة مع ابنها. (¬2) في أ: واحد. (¬3) مثل السابق.

قيل: يحتمل أنه أراد القياس على المجوس؛ لأنهم يرثون بجميع قراباتهم، ويحتمل أنه أراد القياس على ابن العم المذكور. والضمير في قوله راجع إلى الإمام أحمد؛ لأنه يقول بالإرث بالجهتين في المسألتين.

فصل [في حكم ميراث البنات] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وللبنت الواحدة النصف. فإن كانت (¬1) اثنتين فصاعداً فلهن الثلثان). أما كون البنت الواحدة لها النصف؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن كانت واحدةً فلها النصف} [النساء: 11]. وأما كون الاثنتين فصاعداً (¬2) لهما الثلثان: فاختلف أهل العلم في علته. فقيل: هي قوله: {فإن كُنّ نِساءً فوقَ اثنتين فلهن ثُلُثا ما ترك} [النساء: 11]. والتقدير: فإن كن نساءً اثنتين، وفوق صِلَة؛ كقوله تعالى (¬3): {فاضربوا فوق الأعناق} [الأنفال: 12] أي: اضربوا الأعناق. ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية أرسل إلى أخي سعد بن الربيع فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين» (¬4)؛ لأن قوله يقع مبيناً لكلام الله لا سيما إذا كان عقيبه. ويؤيده أيضاً أن سبب الآية قصة ابنتي سعد. وقيل: السنة الثابتة. وقيل: التنبيه؛ لأن الله تعالى جَعَل للأختين الثلثين بقوله: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} [النساء: 176]؛ لأنه إذا جعل للأختين الثلثين فالبنتان أولى؛ لأنهما أقرب منهما. وقيل: الإجماع. وقيل: القياس. وأما كون أكثر من ثنتين لهن الثلثان؛ فللآية المذكورة. ¬

_ (¬1) في أ: كانا. (¬2) ساقط من أ. (¬3) زيادة من ج. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وبنات الابن بمنزلة البنات إذا لم يكن بنات. فإن كانت بنت وبنات ابنٍ: فللبنت النصف، ولبنات الابن واحدةً كانت أو أكثر من ذلك السدس تكملة الثلثين. إلا أن يكون معهن ذكر فيعصبهن فيما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين). أما كون بنات الابن بمنزلة البنات إذا لم يكن بنات؛ فلأن بنت الابن بنته كما أن ابن الابن ابنه، وإذا كان كذلك دخلن في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم (¬1) الآية} [النساء: 11]. وإنما اشترط في كون بنات الابن بمنزلة البنات عدم البنات؛ لأن البنات الموجودات يأخذن الثلثين فلم يبق لبنات الابن من فرض البنات شيء. وكان ينبغي أن يقول: إذا لم يكن له بنتان؛ لأن بنات الابن لا يرثن مع البنتين شيئاً؛ لما ذكر. وأما كون البنت لها النصف مع بنات الابن؛ فلأنه فرض الواحدة؛ لما تقدم. وأما كون بنات الابن واحدة كانت أو أكثر لهن السدس تكملة الثلثين إذا لم يكن معهن ذكر؛ فلأن فرض البنات وإن كثرن الثلثان: أخذت البنت النصف؛ لأنه مفروض لها، والاسم متناولها حقيقةً فبقي البقية تمام الثلثين. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بنت الابن مع البنت السدس» (¬2). وأما كونهن إذا كان معهن ذكر يعصبهن فيما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين؛ فلأن قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] يشمل بنات الابن إذا كان معهن ذكر. ولأنه في درجتهن فيعصبهن؛ كالابن مع أخواته. قال: (وإن استكمل البنات الثلثين سقط بنات الابن. إلا أن يكون معهن أو أنزل منهن ذكرٌ فيعصبهن فيما بقي). أما كون بنات الابن تسقط إذا استكملت البنات الثلثين ولم يكن معهن من تقدم ذكره؛ فلأنهن يرثن ميراث البنات ولم يبق منه شيء. ¬

_ (¬1) سقط لفظي: في أولادكم من أ. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31069) 6: 245 كتاب الفرائض، في ابنة وأخت وابنت ابن.

[وأما كونهن إذا كان معهن ذكر يعصبهن فيما بقي؛ فلما تقدم قبل] (¬1). وأما كونهن إذا كان معهن ذكر أنزل منهن يعصبهن فيما بقي؛ فلأنه ابنٌ في الجملة. أشبه الابن الذي معهن. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

فصل [في حكم ميراث الأخوات] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وفرض الأخوات من الأبوين مثل فرض البنات سواء. والأخوات من الأب معهن؛ كبنات الابن مع البنات سواء. إلا أنه لا يعصبهن إلا أخوهن). أما كون فرض الأخوات من الأبوين مثلَ فرض البنات سواء: للواحدة النصف وللاثنتين فصاعداً الثلثان؛ فلأن الله تعالى قال: {وله أختٌ فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولدٌ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} [النساء: 176]. وأما كون الأخوات من الأب مع الأخوات من الأبوين؛ كبنات الابن مع البنات سواء غير ما استثنى؛ فلأنهن يرثن ميراث الأخوات؛ كما يرث بنات الابن ميراث البنات. فعلى هذا إذا كان له أختٌ لأبوين وأخواتٌ لأب أخذت التي لأبوين النصف؛ لأنه فرض الأخت الواحدة، وللأخوات السدس تكملة الثلثين. فإن كان معهن أخ عصبهن؛ لأن قوله تعالى: {وإن كانوا إخوةً رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظِّ الأنثيين} [النساء: 176] يشملهم. وإن كان للميت أختان لأبوين فصاعداً سقط الأخوات لأبٍ؛ لأنه لم يبق من فرض الأخوات شيء. إلا أن يكون معهن أخ فيعصبهن ويرثن الباقي؛ لما تقدم من شمول الآية لذلك. وأما كونهن لا يعصبهن غير أخيهن. بخلاف بنات الابن؛ فلأن ابن الأخ ليس بأخ. بخلاف ابن الابن (¬1) فإنه ابن. ¬

_ (¬1) في أ: ابن ابن الابن.

قال: (والأخوات مع البنات عصبةٌ يرثن ما فضل؛ كالإخوة. وليست لهن معهن فريضة مسماة). أما كون الأخوات مع البنات عصبة؛ فـ «لأن ابن مسعود قال في بنت وبنت ابن وأخت (¬1): لأقضين فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف ولبنت الابن السدس، وما بقي فللأخت» (¬2). رواه البخاري وغيره. وأما كونهن يرثن ما فضل كالإخوة؛ فلأن هذا شأن العصبة. وأما كونهن ليست لهن معهن فريضة مسماةٌ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرض للأخت مع البنت شيئاً في الحديث المذكور. بل جعل لها ما بقي، وليس هذا شأن صاحب الفرض. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6355) 6: 2477 كتاب الفرائض، باب ميراث ابنة ابن مع ابنة. وأخرجه أبو داود في سننه (2890) 3: 120 كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب. وأخرجه الترمذي في جامعه (2093) 4: 415 كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث ابنة الابن مع ابنة الصلب. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2721) 2: 909 كتاب الفرائض، باب فرائض الصلب. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

فصل [في حكم ميراث ولد الأ م] قال المصنف رحمه الله: (وللواحد من ولد الأم السدس. ذكراً كان أو أنثى. فإن كانا اثنين فصاعداً فلهم الثلث بينهم بالسوية). أما كون الواحد من ولد الأم له السدس؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةً وله أخٌ أو أختٌ فلكل واحدٍ منهما السدس} [النساء: 12]. وأما كونه له ذلك ذكراً كان أو أنثى؛ فلأن الله تعالى سوى بينهما في قوله: {وله أخٌ أو أختٌ فلكل واحدٍ منهما السدس} [النساء: 12]. وأما كون الاثنين فصاعداً منهم لهم الثلث بالسوية؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} [النساء: 12]، والشركة تقتضي التسوية. بدليل ما لو وصى لهم أو وهب لهم شيئاً.

فصل في الحجب قال المصنف رحمه الله تعالى: (يَسقط الجد بالأب، وكل جدٍ بمن هو أقرب منه، والجدات بالأم، وولد الابن بالابن، وولد الأبوين بثلاثة: بالابن، وابنه، والأب). أما كون الجد يسقط بالأب؛ فلأنه يدلي به. وأما كون كل جدٍ يسقط بمن هو أقرب منه؛ فلأن القريب بالنسبة إلى البعيد أب. وأما كون الجدات تسقط بالأم؛ فلأنهن يرثن ميراثها. ولا فرق بين الجدة التي من قبل الأم وبين الجدة التي من قبل الأب؛ لما ذكر. أما الجدة التي من قبل الأم فظاهر؛ لأنها تدلي بالأم فأسقطتها. وأما التي من قبل الأب؛ فلأنها (¬1) لو ورثت بالأب لما ورثت معه؛ لأن الشخص يسقط بمن يدلي به. وأما كون ولد الابن يسقط بالابن؛ فلأن الابن ولد حقيقة. بخلاف ولد الابن. ولأن ولد الابن يُدلي بالابن. وأما كون ولد الأبوين يسقط بالابن وابنه؛ فلأن الله تعالى شرط في ميراثهم عدم الابن؛ لأنه قال: {إن امرؤٌ هلك ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ... الآية} [النساء: 176]. فإن قيل: الولد يشمل الذكر والأنثى. فلم خصصتُمُ الحجب بالذكر؟ قيل: لأن ما تقدم دل على أن الأخوات مع البنات عصبة. فيخرج من الآية ذلك. عملاً بالدليل. فيبقى فيما عداه على مقتضاه. ¬

_ (¬1) في أ: فلأنهما.

وأما كونه يسقط بالأب؛ فلأن الله تعالى شرط في ميراث ولد الأبوين كون الميت كلالة؛ لأنه قال: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤٌ هلك ... الآية} [النساء: 176]. والكلالة: من لا ولد له ولا والد. فإن قيل: مقتضى ذلك أن تحجبه الأم أيضاً. قيل: نعم. إلا أنه دل الدليل على ميراثه معها فيبقى فيما عداه على مقتضاه. قال: (ويَسقط ولد الأب بهؤلاء الثلاثة، وبالأخ من الأبوين). أما كون ولد الأب يَسقط بالثلاثة المذكورة؛ فلأنها تُسقط ولد الأبوين فولد الأب بطريق الأولى. وأما كونه يَسقط بولد الأبوين؛ فلأن علياً رضي الله عنه روى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضَى بالدينِ قبلَ الوصيةِ، وأن أعيانَ بني الأم يتوارثونَ دونَ بني العلاتِ الرجلُ يرثُ أخاهُ لأبيهِ وأمهِ دونَ أخيهِ لأبيه» (¬1). رواه الترمذي. ولأن ولد الأبوين أولى؛ لقوة قرابته بالأم. قال: (ويَسقط ولد الأم بأربعة: بالولد ذكراً كان أو نثى، وولد الابن، والأب، والجد). أما كون ولد الأم يسقط بالأربعة المذكورة؛ فلأن الله تعالى شرط في ميراثه كون الميت كلالة؛ لأنه قال: {وإن كان رجلٌ يورَثُ كلالةً أو امرأةٌ وله أخٌ أو أختٌ ... الآية} [النساء: 12]. والكلالة: من لا ولد له ولا والد. وأما كونه يسقط بالولد ذكراً كان أو نثى؛ فلأن اللفظ عامٌ، ولم يقم دليلٌ على تخصيص الذكر. فيجب العمل بالعامّ السالم عن المخصص له (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (2094) 4: 416 كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الإخوة من الأب والأم. (¬2) ساقط من أ.

باب العصبات

باب العصبات قد تقدم معنى العصبة (¬1). وهم على ضربين: أحدهما: عصبةٌ بنفسه. وهو: كل ذكرٍ يرث بنفسه، أو بذكرٍ ليس بينه وبين الميت أنثى؛ كالابن والأب والجد ونحوهم. وثانيهما: عصبةٌ لغيره؛ كالبنت مع أخيها، والأخت مع أخيها. قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهم عشرة: الابن، وابنه، والأب، وأبوه، والأخ، وابنه إلا من الأم، والعم، وابنه كذلك، ومولى النعمة، ومولاة النعمة). أما قول المصنف رحمه الله تعالى: وهم عشرة؛ فبيان لعدد من يرث بالتعصيب. وقد تقدم دليل إرثهم (¬2). وإنما استثنى (¬3) الأخ من الأم وابن الأخ من الأم؛ لأنهما ليسا عصبة. ولأن الأخ من الأم صاحب فرض وابن الأخ من الأم من ذوي الأرحام. وأما قوله: كذلك في قوله: والعم وابنه كذلك فمعناه: أن العم من الأم وابن العم من الأم ليسا عصبةً؛ لأنهما من ذوي الأرحام. قال: (وأحقهم بالميراثِ أقربهم ويسقط بهم (¬4) من بَعُد). أما كون أحق العصبة بالميراث أقربهم؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أبقت الفروض فهو لأولى رجلٍ ذكر» (¬5). ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها. فما بقي فلأولى رجل ذكر». وقد سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في أ: وأما استثناء. (¬4) في ج: به. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 237 كتاب الفرائض، باب ترتيب العصبة.

وأما كون أقربهم يُسقط من بَعُدَ؛ فلأن الأقرب إذا استحق الميراث لم يبق للأبعد شيء، ولا معنى للسقوط إلا ذلك. قال: (وأقربهم الابن ثم ابنه وإن نزل، ثم الأب ثم الجد وإن علا، ثم الأخ من الأبوين، ثم من الأب، ثم ابن الأخ من الأبوين، ثم من الأب، ثم أبناؤهم وإن نزلوا، ثم الأعمام، ثم أبناؤهم كذلك، ثم أعمام الأب، ثم أبناؤهم، ثم أعمام الجد، ثم أبناؤهم كذلك أبداً (¬1)، لا يرث بنو أبٍ أعلى مع بني أبٍ (¬2) أقرب منه وإن نزلت درجتهم. وأولى ولد كل أبٍ أقربهم إليه. وإن استووا فأولاهم من كان لأبوين). أما كون أقرب العصبات الابن؛ فلأنه أقرب من ابنه، لأنه لا واسطة بينه وبين أبيه. بخلاف ابن الابن. ولأن ابن ابنه يُدلي به. ولأنه ولدٌ حقيقة. بخلاف ابن ابنه. وأولى من أبيه؛ لأن الله تعالى بدأ به في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم ... الآية} [النساء: 11]. ولم يجعله عصبة معه في قوله: {ولأبويه لكل واحدٍ منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} [النساء: 11]. وأولى من الأخ ومن بعده؛ لقربه وبُعْدِهم. ولأنه أولى من الأب؛ لما تقدم. والأب أولى ممن ذكر؛ لأنهم (¬3) يُدلون به. وأما كون ابن الابن كالابن؛ فلأنه ابنٌ، ولذلك يدخل في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11]. وأما كون الأب أقرب من الجد؛ فلما تقدم في الابن مع ابنه. وأما كون الجد وإن علا أولى من الإخوة في الجملة؛ فلأن له إيلاداً وتعصيباً. أشبه الأب. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق. (¬3) في أ: لأنه.

فإن قيل: في كلام المصنف رحمه الله تعالى إشعارٌ بتقديم الجد على الإخوة مطلقاً؟ قيل: ليس مراده ذلك بل التقديم في الجملة كما ذكرت. وبيان تقديمه في الجملة: أن المسألة إذا استكملتها الفروض سقط الأخ دون الجد. وإنما أطلق المصنف القول هنا اكتفاءً بتفصيل حكم الجد مع الإخوة فيما تقدم (¬1). وأما كون الأخ من الأبوين أولى من الأخ من الأب؛ فلما تقدم من حديث علي (¬2). ولأنه ساواه في قرابة الأب، وترجّح بقرابة الأم. وأما كون الإخوة أولى من أبنائهم؛ فلأنهم يُدلون بهم. وأما كون ابن الأخ من الأبوين أولى من ابن الأخ من الأب؛ فلأنه ترجّح بقرابة الأم. أشبه الأخ من الأبوين مع الأخ من الأب. وأما كون بني الإخوة أولى من أبنائهم؛ فلأنهم يُدلون بهم. وأما كون ابن الأخ من الأبوين، أو ابن الأخ من الأب وإن نزل أولى من الأعمام؛ فلأن ابن الأخ من ولد الأب، والعم من ولد الجد. وأما كون الأعمام أولى من أبنائهم؛ فلأنهم يدلون بهم. وقول المصنف رحمه الله تعالى: ثم أبناؤهم (¬3) كذلك معناه: أن ابن العم لأبوين أولى من ابن العم لأب؛ لما ذكر في الإخوة. وأما كون الأعمام من الأبوين أولى من الأعمام من الأب؛ فلترجح الأعمام من الأبوين بقرابة الأم. وأما كون ابن العم من الأبوين أولى من ابن العم (¬4) من الأب؛ فلأنه يُدلي بمن هو أولى منه. وأما كون أعمام الأب أولى من أبنائهم؛ فلأنهم يُدلون بهم. ¬

_ (¬1) في أ: فيما يأتي. ور ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في أ: وأبناءهم. (¬4) في أ: من العم.

وأما كون أعمام الأب أولى من أعمام الجد؛ فلما ذكر في كون الإخوة أولى من الأعمام. وأما كون أعمام الجد أولى من أبنائهم؛ فلأنهم يُدلون بهم. وأما كون ولد كل أبٍ أولاهم أقربهم إليه؛ فلأنه أقرب من غيره، وذلك دليل الأولوية. دليله: الابن مع ابنه. قال: (وإذا انقرض العصبة من النسب (¬1) ورث المولى المعتِق، ثم عصباته من بعده). أما كون المعتِق يرث؛ فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الولاء لمن أعتق» (¬2) وقوله: «الولاء لحمة كلحمة النسب» (¬3). وأما كونه يرث إذا انقرض العصبة من النسب؛ فلأن الولاء مشبه به. ولأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الميراثُ للعصبةِ. فإن لم يكن عصبةً فللمولى». ويروى «أن رجلاً أعتق عبداً. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى في ماله؟ قال: إذا لم يدع وارثاً فهو لك» (¬4). وأما كون عصبات المعتِق يرثون المعتَق بعده؛ فلأنهم يُدلون به. ¬

_ (¬1) في أ: النسبة. (¬2) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 240 كتاب الفرائض، باب الميراث بالولاء.

قال: (وأربعة من الذكور يعصِّبون أخواتهم فيمنعونهنّ الفرض، ويقتسمون (¬1) ما ورثوا للذكر مثل حظ الأنثيين. وهم: الابن وابنه، والأخ من الأبوين، والأخ من الأب. ومن عداهم من العصبات ينفرد الذكور بالميراث دون الإناث. وهم بنو (¬2) الإخوة والأعمام وبنوهم). أما كون أربعة من الذكور يعصبون أخواتهم، ويمنعونهن (¬3) الفرض، ويقتسمون ما ورثوا للذكر مثل حظ الأنثيين؛ فلما تقدم (¬4) ذكره في مواضعه. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: وهم الابن وابنه والأخ من الأبوين والأخ من الأب؛ فبيان لهم. وأما كون الابن من الأربعة المذكورة؛ فلأن الله تعالى قال: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]. جعل الإرث عند اجتماع الذكور والإناث بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين من غير فرضٍ للأنثى. ولو كانت وحدها لفرضَ لها لقوله: {وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء: 11]. وأما كون ابن الابن منهم؛ فلأنه ابنٌ. أشبه أباه. وأما كون الأخ من الأبوين والأخ من الأب منهم؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن كانوا إخوةً رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 176]. ولو كانت الأخت وحدها لفُرِضَ لها؛ لقوله تعالى: {وله أختٌ فلها نصف ما ترك} [النساء: 176]. وأما كون من عدا الأربعة المذكورين من العصبات ينفرد الذكور بالميراث دون الإناث؛ فلأن أخواتهم من ذوي الأرحام. بخلاف من تقدم. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: وهم بنو الأخ والأعمام وبنوهم؛ فبيان لمن ينفرد من الذكور بالميراث دون الإناث. ¬

_ (¬1) في أ: ويقتسموا. (¬2) في أ: بني. (¬3) في أ: يمنعونهن. (¬4) في أ: يأتي.

قال: (وابن ابن الابن يعصبُ من بإزائه من أخواته وبنات عمه ويعصب من أعلى منه من عماته وبنات عم أبيه إذا لم يكن لهن فرض، ولا يعصبُ من أنزل منه. وكلما نزلت درجته زاد في تعصيبه قَبيل آخر). أما كون ابن ابن الابن يعصب من بإزائه ممن (¬1) ذكر؛ فلأن ابن ابن الابن يسمى ولداً فيكون داخلاً في قوله: {للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]. وأما كونه يعصب من أعلى منه ممن ذكر؛ فلما ذكر. ولأنه إذا عصب الأنزل فلأن يعصب الأعلى بطريق الأولى. وإنما اشترط في تعصيب الأنزل الأعلى عدم الفرض؛ لأنه إذا عصب فلا يخلو: إما أن يقاسمه أو لا، والأول باطلٌ؛ لما فيه من مشاركة الأبعد الأقرب صاحب الفرض. والثاني مثله؛ لأنه ورث فكيف لا يرث معه؟ . وأما كونه لا يعصب من أنزل منه؛ فلأنه لو عصبه لاقتضى مشاركته، والأبعد لا يشارك الأقرب. وأما كونه كلما نزلت درجته زاد في تعصيبه قبيل آخر؛ فلأنه يعصب من بإزائه فيزدادُ القبيلَ الذي بإزائه. قال: (ومتى كان بعض بني الأعمام زوجاً أو أخاً لأمٍ أخذ فرضه وشارك الباقين في تعصيبهم). أما كون من ذكر يأخذ فرضه؛ فلأن الفرض مقدمٌ على التعصيب. وأما كونه يشارك الباقين في تعصيبهم؛ فلأنه ساواهم فيه. قال: (وإذا اجتمع ذو فرضٍ وعصبة بُدئ بالفرض فأخذ فرضه وما بقي للعصبة). أما كون ذي الفرض يبدأ به فيما ذكر فيأخذ فرضه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها» (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: من. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون ما بقي للعصبة؛ فلأن تكملة الحديث المتقدم: «فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذكر» (¬1). متفق عليه. قال: (فإن استغرقت الفروضُ المالَ فلا شيء للعصبة؛ كزوج، وأم، وإخوة لأمٍ، وإخوة لأبوين أو لأب: للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة من الأم الثلث. وسقط سائرهم. وتسمى المشرّكة والحمارية إذا كان فيها (¬2) إخوة لأبوين). أما كون العصبة لا شيء لهم إذا استوعبت الفروض المال؛ فلأن العصبة مع ذي الفرض يرثُ الفاضلَ، ولا فاضلَ هنا. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: كزوجٍ وأم وإخوة لأم (¬3) وإخوة لأبوين أو لأب؛ فتمثيل لصورةٍ تستغرق الفروض المال، ولا شيء فيها للعصبة. ولذلك قال: للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة للأم الثلث وسقط سائرهم أي الإخوة لأبوين أو لأب. فإن قيل: كيف (¬4) سقط الإخوة من الأبوين مع الإخوة من (¬5) الأم والكل سواء في الأخوّة لأم؟ قيل: لأن الإخوة من الأبوين عصبة مع غير إخوةٍ لأمٍ فكذا معهم. ولأن الله تعالى جعل لولدي الأم فما فوق الثلث فلم يجز لأحدٍ أن يشارك معهم غيرهم؛ لأنه يلزم مخالفة ظاهر القرآن ومخالفة قوله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها» (¬6). وأما كون المسألة المذكورة تسمى المشرّكة والحمارية إذا كان فيها إخوة ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في أ: فيهما. (¬3) سقط لفظي: وإخوة لأم من أ. (¬4) ساقط من أ. (¬5) في أ: مع. (¬6) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

لأبوين؛ فـ «لأن عمر رضي الله عنه أسقطَ ولدَ الأبوينِ فقالَ بعضهم: يا أمير المؤمنين! هَبْ أن أبانَا كانَ حماراً. أليست أُمّنا واحدة؟ فشرّك بينهم» (¬1). وإنما اشترط المصنف أن يكون فيها إخوة لأبوين؛ لأن الإخوة لأب يسقط بالإجماع ولا يشاركون الإخوة لأم؛ لأن كل قبيلٍ لا يشارك غيره في نصيبه المفروض له. بخلاف الإخوة للأبوين مع الإخوة لأم. ولأنهم تساووا في قرابة الأم. وإنما شرّك بينهم عمر وغيره من أهل العلم؛ لما ذكر قبل. وهذه التسمية تقع على مسألة فيها زوج وأم أو جدة واثنان فصاعداً من ولد الأم وعصبة من ولد الأبوين. فإن قيل: فما الجواب عن تشريك عمر (¬2). قال: (ولو كان مكانهم أخوات لأبوين أو لأبٍ عالت إلى عشرة. وسميت ذات الفروخ). أما كون المسألة المذكورة تعول إلى عشرة؛ فلأن فيها نصفاً وثلثاً وسدساً. فإن قيل: ما أصلها، ومن كم تصح؟ قيل: أما أصلها فمن ستة؛ لأن فيها سدساً ولا ربع معه ولا ثمن. وأما صحتها فمن عشر إذا كان كل قبيلٍ من الإخوة والأخوات (¬3) اثنين: للزوج ثلاثة، وللأم سهم (¬4)، ولكل واحدةٍ من الأخوات لأم سهم، ولكل واحدةٍ من الأخوات لأبوين أو لأبٍ سهمان. وأما كونها تسمى ذات الفروخ؛ فلأنها عالت بثلثيها. شبّه كثرة عولها بمن لها أفراخ كثيرة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى 6: 256 كتاب الفرائض، باب المشركة. عن زيد بن ثابت في المشركة قال: «هبوا أباهم كان حماراً ما زادهم الأب إلا قرباً. وأشرك بينهم في الثلث». (¬2) بياض في الأصول أكثر من نصف سطر. (¬3) ساقط من أ. (¬4) في أ: سهمان.

باب أصول المسائل

باب أصول المسائل قال المصنف رحمه الله تعالى: (الفروض ستة. وهي نوعان: نصف، وربع، وثمن، وثلثان، وثلث، وسدس). أما كون الفروض ستة؛ فلأن الفروض المحدودة في كتاب الله ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس. وأما كونها نوعين؛ فلأن النصفَ ونصفَه ونصفَ نصفِه نوع، والثلثين ونصفهما ونصف نصفهما نوع. ولذلك قال المصنف: نصف ... إلى آخره. قال: (وهي تَخرج من سبعة أصول: أربعة لا تعول، وثلاثة تعول. فالتي لا تعول هي: ما كان فيها فرض واحد أو فرضان من نوع واحد: فالنصف وحده من اثنين، والثلث وحده، أو مع الثلثين من ثلاثة، والربع وحده، أو مع النصف من أربعة، والثمن وحده، أو مع النصف من ثمانية. فهذه التي (¬1) لا تعول). أما كون الفروض الستة تخرج من سبعة أصولٍ؛ فلأن النصف من اثنين، والربع من أربعة، والثمن من ثمانية، والثلثين والثلث من ثلاثة، والسدس من ستة، والربع مع السدس أو الثلث أو الثلثين من اثني عشر، والثمن مع السدس أو الثلثين من أربعةٍ وعشرين. وأما كون أربعةٍ منها لا تعول وثلاثة تعول فبالسَّبْر. وأما كون التي لا تعول هي: ما كان فيها فرض واحد أو فرضان من نوع واحدٍ (¬2)؛ فلما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق.

قيل: مثال الفرض الواحد بنت، وأخت لأبوين، أو لأب: للبنت النصف، والباقي للأخت. ومثال الفرضين من نوعٍ واحدٍ (¬1): بنت وزوجة وأخت كما تقدم: للبنت النصف، وللزوجة الثمن، والباقي للأخت. واحترز بقوله: من نوع واحدٍ عن أن يكون الفرضان من نوعين. فإن ذلك قد يعول. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: فالنصف وحده من اثنين، والثلث وحده، أو مع الثلثين من ثلاثة، والربع وحده، أو مع النصف من أربعة، والثمن وحده، أو مع النصف من ثمانية. فهذه التي لا تعول؛ فبيان لأصول المسائل التي لا تعول. قال: (وأما التي تعول فهي: التي يجتمع فيها فروض أو فرضان من نوعين). أما كون التي تعول هي: التي يجتمع فيها فروض أو فرضان من نوعين؛ فلما يأتي بيانه. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثال الفروض: زوج، وأخت لأب، وأخت لأم. أصلها من ستة؛ لأن فيها سدساً ونصفاً ونصفاً، وتعول إلى سبعة. ومثال الفرضين من نوعين: أم، وأخت لأب، وزوج. أصلها من ستة؛ لأن فيها نصفاً وثلثاً، وتعول إلى ثمانية. قال: (فإذا اجتمع مع النصف سدس، أو ثلث، أو ثلثان فهي من ستة، وتعول إلى عشرة. ولا تعول إلى أكثر من ذلك). أما كون النصف إذا اجتمع مع (¬2) ما ذكر مسألته من ستة؛ فلأن فيها نصفاً مع سدس وثلثاً مع ثلثين. وأما كونها تعول إلى عشرة؛ فلما تقدم في المسألة المسماة بذات الفروخ (¬3). ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: معها. (¬3) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولا بد أن يلحظ في ذلك أنها تعول إلى سبعة، وإلى ثمانية، وإلى تسعة، وإلى عشرة. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثال عولها إلى سبعة وإلى ثمانية تقدم في مثال الفروض والفرضين من نوعين. ومثال عولها إلى تسعة: أختان لأبٍ وزوجٍ وأمٍ وجدٍ (¬1). ومثال عولها إلى عشرة: المسألة المتقدم ذكرها المسماة بذات الفروخ. وأما كونها لا تعول إلى أكثر من ذلك؛ فلأنه لا يجتمع في مسألة أكثر من نصف ونصف وثلثين. قال: (وإن اجتمع مع الربع أحد الثلاثة فهي من اثني عشر، وتعول على الأفراد إلى سبعة عشر، ولا تعول إلى أكثر من ذلك). أما كون ما اجتمع مع الربع من الثلاثة. والمراد بها السدس والثلث والثلثان مسألته من اثني عشر؛ فلأن فيها ربعاً وسدساً. وأما كونها تعول على الأفراد إلى سبعة عشر؛ فلأن الربع تارةً يكون معه سدسٌ؛ كزوجةٍ وأمٍ وأختٍ لأمٍ (¬2) وأختٍ لأبٍ فتعول إلى ثلاثة عشر، وتارة يكون معه الثلث؛ كما لو كان في المسألة المذكورة أختان لأمٍ فتعول إلى خمسة عشر، وتارة يكون معه الثلثان؛ كما لو كان في المسألة الأخيرة أختان لأبٍ فتعول إلى سبعة عشر. وأما كونها لا تعول إلى أكثر من ذلك فالسَّبْر. ¬

_ (¬1) في ج: وأخٍ لأم. (¬2) سقط لفظي: وأخت لأم من أ.

قال: (وإن اجتمع مع الثمن سدس أو ثلثان فأصلها من أربعة وعشرين. وتعول إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلى أكثر من ذلك. وتسمى البخيلة؛ لقلة عولها، والمنبرية؛ «لأن علياً سئل عنها على المنبر فقال: صار ثمنها تسعاً» (¬1». أما كون ما اجتمع فيه مع الثمن سدس أو ثلثان مسألته من أربعة وعشرين؛ فلأن أقل عدد له ثمن وسدس أو ثلثان صحيحان ذلك. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثال الثمن والسدس: زوجة وأم وبنت وعم. ومثال الثمن والثلثان: زوجة وبنات وعم. وأما كونها تعول إلى سبعة وعشرين؛ فلأنها إذا جعل بدل البنت في الأولى أخوات لأب وبدل العم أخت لأم، وفي الثانية كذلك مع زيادة أخت أخرى لأم: عالت إلى ذلك. وأما كونها تسمى البخيلة والمنبرية؛ فلما ذكره المصنف رحمه الله تعالى. وإنما قال علي ذلك؛ لأن الزوجة كانت تستحق الثمن وهو من أربعة وعشرين: ثلاثة صارت تستحق ذلك من سبعة وعشرين، والثلاثة تسعها. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 253 كتاب الفرائض، باب العول في الفرائض.

فصل في الرد قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا لم تستوعب الفروض المال ولم يكن عصبة رُدّ الفاضل على ذوي الفروض بقدر فروضهم إلا الزوج والزوجة). أما كون الفاضل فيما ذكر يُردّ على ذوي الفروض غير الزوج والزوجة؛ فلأن الله تعالى قال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال: 75]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك مالاً فللوارث» (¬1). متفق عليه. ولأنه يروى عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس. وأما كون الرد بقدر فروضهم؛ فلأن غرماء المفلس يقتسمون ماله بقدر ديونهم. فكذا الوارث. وعن الإمام أحمد: لا يرد على ولد الأم مع الأم، ولا على جدةٍ مع ذي سهم؛ لأنه يروى عن ابن مسعود. والأول ظاهر المذهب وأصح؛ لما ذكر. ولأنهم تساووا في السهام. فوجب أن يتساووا فيما يقرع عليها. ولأن الفريضة لو عالت لدخل النقص على الجميع فالرد يجب أن يعمهم أيضاً. وأما كون الزوج والزوجة لا يرد عليهما؛ فلأن دليل الرد قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال: 75]، والزوج والزوجة لا يدخلان في ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5056) 5: 2054 كتاب النفقات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ترك كلاً أو ضياعاً فإلي». وأخرجه مسلم في صحيحه (1619) 3: 1237 كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته.

قال: (فإن كان المردود عليه واحداً أخذ المال كلَّه، وإن كان فريقاً من جنسٍ واحدٍ كبناتٍ أو أخواتٍ (¬1) اقتسموه كالعصبة. وإن اختلفت أجناسهم فخذ عدد سهامهم من أصل ستة واجعله أصل مسألتهم). أما كون المردود عليه يأخذ المال كله إذا كان واحداً؛ فلأنه لا مزاحم له. وأما كونهم يقتسمونه كالعصبة إذا كانوا فريقاً من جنس كما مثل المصنف رحمه الله تعالى؛ فلأنهم استووا فيه فاقتسموه؛ كالعصبة. وأما كون عامل المسألة يأخذ عدد سهامهم من أصل ستةٍ ويجعله (¬2) أصل مسألتهم إذا اختلفت أجناسهم؛ فلأن مسائل الرد إذا لم يكن فيها زوج أو زوجة لا تكون إلا من ستة؛ لأن الاثني عشر شرطها: أن يكون فيها ربع ولا يفرض ذلك لغير زوجٍ أو زوجةٍ، والأربعة والعشرين شرطها: أن يكون فيها ثمن ولا يفرض ذلك لغير زوجة. قال: (فإن كانا سدسين كجدةٍ وأخ من أم فهي من اثنين. وإن كان مكان الجدة أم فهي من ثلاثة. وإن كان مكانها أخت لأبوين فهي من أربعة. وإن كان معها أخت لأب فهي من خمسة. ولا تزيد على هذا أبداً؛ لأنها لو زادت سدساً آخر لكمل المال). أما كون مسألة الرد من اثنين إذا كان فيها سدسان كما مثل المصنف رحمه الله تعالى؛ فلأن كل واحدٍ منهما يدلي بمثل ما يدلي به الآخر. أشبه ما لو أدلى كل واحدٍ بنصف. وأما كونها من ثلاثة إذا كان مكان الجدة (¬3) أم؛ فلأن الأم تدلي بمثل الأخ. أشبه الإخوة لأم مع الأخوات لأب. وأما كونها من أربعةٍ إذا كان مكان (¬4) الأم أخت لأبوين؛ فلأن الأخت لأبوين تدلي بثلاثة أمثال الأخ. أشبه ثلاثة بنين مع الزوج (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: وأخوات. (¬2) في أزيادة: من. (¬3) في أ: الجد. (¬4) ساقط من أ. (¬5) في أ: ثلاث بنين مع الزوجة.

وأما كونها من خمسة إذا كان معها أخت لأب؛ فلأن للأخت لأبوين (¬1) ثلاثة أسداس، وللأخت لأب السدس، وللأخ السدس. وأما كونها لا تزيد على خمسة؛ فلما ذكر المصنف من أنها لو زادت سدساً آخر لكمل المال. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: ما لو كان في المسألة المذكورة أم؛ لأنها حينئذٍ لا تكون مسألة رد؛ لأن الرد هو أن يفضل عن ذوي الفروض شيء ولا فضل هنا؛ لأن الأخ لأم له السدس سهم، والأخت لأبوين (¬2) لها النصف ثلاثة، والأخت لأب لها السدس تكملة الثلثين سهم، والأم لها السدس؛ لأن الأختين يحجبانها عن الثلث وهو سهم صار المجموع ستة. قال: (وإن انكسر على فريقٍ منهم ضربته في عدد سهامهم؛ لأنه أصل مسألتهم). أما كون عامل المسألة يضرب عدد الفريق المنكسر عليه في عدد سهامهم؛ فلتصحيح المسألة. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: أن تكون الجدة في المسألة الأولى ثنتين؛ لأن السهم الحاصل لها منكسر عليها فاضرب عدد الفريق المنكسر عليه في اثنين يكن ذلك أربعة: للجدتين سهمان لكل واحدةٍ سهم، وللأخ سهمان (¬3). فإن قيل: ضمير المفعول في قول المصنف رحمه الله: ضربته على ما يعود؟ قيل: يعود على الفريق. والمعنى ضربت عدد الفريق المنكسر عليه كما ذكرته أولاً. وصرح المصنف رحمه الله بذلك في الكافي فقال: وإن انكسر سهم فريق عليهم ضربت عددهم في عدد سهامهم. ¬

_ (¬1) في أ: الأخت للأبوين. (¬2) في أ: وللأخت للأبوين. (¬3) في أ: سهم.

فإن قيل: ضمير سهامهم إلى ما يعود؟ قيل: إلى جميع الورثة. ولذلك قال: لأنه أصل مسألتهم. ومعلوم أن سهام الفريق المنكسر عليه ليس أصل مسألتهم. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: لأنه أصل مسألتهم؛ فتعليل لضرب عدد الفريق المنكسر عليه في عدد سهام جميع الورثة. قال: (فإن كان معهم أحد الزوجين فأعطه فرضه من أصل مسألته، واقسم الباقي على مسألة الرد وهو ينقسم إذا كانت زوجة، ومسألة الرد من ثلاثة: فللزوجة الربع، والباقي لهم، وتصير المسألة من أربعة). أما كون أحد الزوجين يعطى فرضه من أصل مسألته؛ فلأن المعتبر أولاً مسألة أحد الزوجين لا مسألة الرد؛ لأن سهمه يخرج أولاً ثم يرد على الباقي. وأما كون الباقي يقسم على مسألة الرد؛ فلأنه (¬1) لا مزاحم لهم فيه. وأما كونه ينقسم فيما ذكر؛ فلأن مسألة أحد الزوجين ومسألة الرد تصحان من أصل واحدٍ؛ لأنه إذا كانت زوجة ومسألة الرد من ثلاثة: كأمٍ وأخٍ لأمٍ مسألة الزوجة (¬2) من أربعة: لها سهم يبقى ثلاثة مسألة الرد مقسومة على ثلاثة: للأم سهمان، وللأخ سهم. قال: (وفي غير هذا تضرب مسألة الرد في مسألة الزوج فما بلغ فإليه تنتقل المسألة). أما كون غير هذا والمراد به غير مسألة (¬3) فيها زوجة، ومسألة الرد من ثلاثة تضرب مسألة الرد في مسألة الزوجة؛ فلتصح المسألتان من عددٍ واحد. وأما كون ما بلغ تنتقل إليه المسألة؛ فلأنه العدد المنتهى إليه. وسيأتي ذلك كله مبيناً إن شاء الله تعالى (¬4). ¬

_ (¬1) في أزيادة: لهم. (¬2) في أ: الزوج. (¬3) في أ: المسألة. (¬4) في باب تصحيح المسائل ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (فإذا كان زوج وجدة وأخ من أم فمسألة الزوج من اثنين، ومسألة الرد من اثنين تضرب أحدهما في الأخرى تكن أربعة. وإن كان مكان الزوج زوجة ضربت مسألة الرد في أربعة تكن ثمانية. وإن كان مكان الجدة أخت لأبوين انتقلت إلى ستة عشر. وإن كان مع الزوجة بنت وبنت ابن انتقل إلى اثنين وثلاثين. وإن كان معهم جدة صارت من أربعين. ثم تصحح بعد ذلك على (¬1) ما يذكره). أما كون مسألة الزوج من اثنين؛ فلأن فرضه النصف ومخرجه من اثنين. وأما كون مسألة الرد من اثنين إذا كان مع الزوج جدة وأخ لأم؛ فلأن فيها سدسان. وأما كون أحدهما تُضرب في الأخرى؛ فليصحا من عددٍ واحد. وأما كون المسألة تكون أربعة؛ فلأنك إذا ضربت اثنين في اثنين كانت أربعة. وأما كون مسألة الرد تضرب في أربعة إذا كان مكان الزوج زوجة؛ فلأن مسألة الزوجة من أربعة؛ لأن لها ربعاً ومخرجه من أربعة. وأما كونها تكون ثمانية؛ فلأنك إذا ضربت أربعة في اثنين كانت ثمانية. وأما كونها تنتقل إلى ستة عشر إذا كان مكان الجدة أخت (¬2) لأبوين؛ فلأن مسألة الرد حينئذٍ من أربعة؛ لأن فيها أربعة أسداس. فإذا ضربت أربعة في أربعة كانت ستة عشر. وأما كونها تنتقل إلى اثنين وثلاثين إذا كان مع الزوجة بنت وبنت ابن؛ فلأن مسألة الزوجة من ثمانية؛ لكونها تستحق الثمن مع وجود البنت. ومسألة الرد من أربعة؛ لأن فيها أربعة أسداس: ثلاثة أسداس للبنت، وسدس لبنت الابن. فإذا ضربت ثمانية في أربعة كانت اثنين وثلاثين. وأما كونها تصير من أربعين إذا كان معهم جدة؛ فلأن مسألة الرد حينئذٍ من خمسة؛ كزيادتها سدساً للجدة. فإذا ضربت ثمانية في خمسة صارت أربعين. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: أختاً.

وأما كونها تُصحح بعد ذلك على ما يذكره المصنف رحمه الله تعالى في باب تصحيح المسائل؛ فلأنه مبين فيه. فعلى هذا إذا كانت سهام الزوجة منكسرة؛ لكون الميت له أكثر من زوجةٍ واحدةٍ أو كانت سهام أهل الرد منكسرةً عليهم. فصحح ذلك على ما يذكر [بعد إن شاء الله تعالى] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ج.

باب تصحيح المسائل

باب تصحيح المسائل قال المصنف رحمه الله تعالى: (إذا لم ينقسم سهام فريق عليهم قسمة صحيحة فاضرب عددهم في أصل المسألة وعولها إن كانت عائلة ثم يصير لكل واحدٍ من الفريق مثل ما كان لجماعتهم إلا أن يوافق عددهم سهامهم بنصفٍ أو ثلثٍ أو غير ذلك من الأجزاء فيجزئك ضرب وفق عددهم، ثم يصير لكل واحدٍ وفق ما كان لجماعتهم). أما كون الفريق الذي لم ينقسم عليهم سهامهم قسمة صحيحة ولم يوافق عددهم سهامهم يضرب عددهم في أصل مسألتهم إن لم تكن عائلة وفيها وفي عولها إن كانت عائلة؛ فليخرج سهام كل واحدٍ بلا كسر. فإن قيل: ما مثال ذلك إذا لم تكن المسألة عائلة؟ قيل: زوجة وخمسة بنين. أصلها من ثمانية: للزوجة الثمن سهم، والباقي وهو سبعة على خمسة لا تصح ولا توافق. اضرب خمسة في ثمانية يكن أربعين: للزوجة سهم في خمسة بخمسة. تبقى خمسة وثلاثون مقسومة على خمسة لكل ابنٍ سبعة. وهو ما كان منكسراً على جماعتهم، ولذلك قال المصنف: ثم يصير لكل واحدٍ من الفريق مثل ما كان لجماعتهم. ومثال ذلك مع العول: زوج وأم وخمس بنات. أصل المسألة من اثني عشر وتعول إلى ثلاثة عشر: للزوج الربع ثلاثة، وللأم السدس اثنان، وللبنات الثلثان ثمانية لا تنقسم على عددهم ولا توافق اضرب خمسة في ثلاثة عشر تكن خمسة وستين: للزوج ثلاثة في خمسة بخمسة عشر، وللأم سهمان في خمسة بعشرة، وللبنات ثمانية في خمسة بأربعين على خمس لكل واحدٍ ثمانية وهو ما كان منكسراً على جماعتهم. وأما كون الفريق المذكور إذا وافق عددهم سهامهم بنصفٍ أو ثلثٍ أو ربعٍ أو خمسٍ أو سدسٍ أو سبعٍ أو ثمنٍ أو تسعٍ أو عشرٍ يجزئ ضرب وفق عددهم في أصل

المسألة إن لم تكن عائلة، وفيها وفي عولها إن كانت عائلة؛ فلأن سهام كل واحدٍ تخرج صحيحة بذلك. فلا حاجة إلى ضرب عدد الفريق في ذلك. فإن قيل: ما مثال ذلك إذا لم تكن المسألة عائلة؟ قيل: زوجة، وأربعة عشر ابناً. أصلها من ثمانية: للزوجة الثمن سهم، والباقي وهو سبعة بين البنين لا تصح وتوافق بالأسباع اضرب وفق البنين وهو سهمان في ثمانية تكن ستة عشر: للزوج سهم في اثنين باثنين، وللبنين سبعة في اثنين بأربعة عشر لكل ابنٍ سهم وهو وفق ما كان لجماعتهم؛ [لأن الذي كان لجماعتهم] (¬1) سبعة ووفقها هنا سهم؛ لأن الموافقة بالأسباع. ومثال ذلك مع العول: زوج وأم وعشر بنات. أصل المسألة من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر: للزوج ثلاثة، وللأم سهمان، وللبنات ثمانية على عشرٍ لا تصح وتوافق بالأنصاف فاضرب الخمسة التي هي وفق العدد في أصل المسألة وعولها تكن خمسة وستين: للزوج ثلاثة في خمسة بخمسة عشر، وللأم اثنان في خمسة بعشرة، وللبنات ثمانية في خمسة بأربعين لكل بنتٍ أربعة وهي وفق ما كان لجماعتهم؛ لأن الذي كان لجماعتهم ثمانية ووفقها هنا أربعة؛ لأن الموافقة بالأنصاف. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

قال: (وإن انكسر على الفريقين أو أكثر وكانت متماثلة كثلاثةٍ وثلاثة: اجتزأت بأحدها. وإن كانت متناسبة وهو: أن تنسب الأقل إلى الأكثر بجزء من أجزائه كنصفه أو ثلثه أو ربعه: اجتزأت بأكثرها، وضربته في المسألة وعولها. وإن كانت متباينة ضربت بعضها في بعضٍ فما بلغ ضربته في المسألة وعولها. وإن كانت متوافقة كأربعة وستة وعشرة ضربت وفق أحدهما في الآخر، ثم وافقت بين ما بلغ وبين الثالث وضربت وفق أحدهما في الآخر، ثم اضرب ما معك في أصل المسألة وعولها إن كانت عائلة فما بلغ فمنه تصح). أما كون ما انكسر على فريقين يجتزأ فيه (¬1) بأحد الأعداد المتماثلة وبأكثر الأعداد المتناسبة؛ فلأن الغرض من الضرب خروج السهام بلا كسرٍ، وذلك حاصل بما ذكر. وأما كون ذلك يضرب في المسألة وعولها؛ فلما تقدم فيما إذا كان الكسر على فريق. وأما كون المتباينة يضرب بعضها في بعض؛ فلأن السهام لا تخرج بلا كسر إلا بذلك. وأما كون ما بلغ من ذلك يضرب في المسألة وعولها؛ فلما ذكر قبل. وأما كون المتوافقة تضرب وفق أحدهما في الآخر؛ فلما تقدم من أن الغرض من التصحيح خروج السهام بلا كسرٍ، وذلك حاصل بضرب الوفق. وأما كون ما بلغ من ذلك يوافق بينه وبين العدد الثالث؛ فلأنه قد تكون بينهما موافقة. فيكفي فيه ضرب الوفق. وأما كون وفق أحدهما يضرب في الآخر؛ فكالعدد إذا كان بينه وبين سهامه موافقة. وأما كون ما مع الضارب من ذلك يضرب في أصل المسألة وعولها؛ فلما تقدم في الفريق الواحد. فإن قيل: ما المعنيّ بالأعداد المذكورة؟ ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

قيل: التماثل هو: أن يكون العدد مثل الآخر كثلاثة وثلاثة (¬1). والتناسب هو: أن يكون العدد نصف الآخر أو ربعه أو نحوهما كثلاثة وستة. والتباين هو: ما لم يكن فيه تماثل ولا تناسب ولا توافق. والتوافق هو: أن يكون العدد يوافق الآخر بنصفٍ أو ربعٍ أو نحوهما كأربعةٍ وستةٍ، وكل نوعٍ من ذلك يكون تارة فريقين، وتارة ثلاثة. وتكون في مسألة عائلة، وفي مسألة غير عائلة، ويخرّج في كل نوع أربعة مسائل: - مسائل التماثل: الأولى: ثلاث أخوات لأبٍ، وثلاث لأمٍ. المسألة من ثلاثة: للأخوات للأب (¬2) سهمان لا يصح عليهن ولا يوافق، وللأخوات للأم (¬3) سهم كذلك والعددان متماثلان فاضرب أحد العددين في أصل المسألة تكن تسعة: لكل أختٍ لأبٍ سهمان، ولكل أختٍ لأمٍ سهم. الثانية: ثلاث جدات، وثلاث أخوات لأبوين، وثلاث إخوة لأبٍ. المسألة من ستة: للجدات سهم لا يصح ولا يوافق، وللأخوات للأبوين (¬4) أربعة كذلك، وللإخوة سهم كذلك، وكل الأعداد متماثلة فاضرب أحدها في ستة تكن ثمانية عشر. الثالثة: أن يزاد في المسألة الأولى جدة. المسألة من ستة وتعول إلى سبعة وتصح من إحدى وعشرين. الرابعة: أن يجعل بدل الإخوة في المسألة الثانية أخوات لأمٍ. المسألة عائلة إلى سبعة، وتصح من أحدٍ وعشرين أيضاً. - مسائل التناسب: الأولى: ثلاث أخوات لأبٍ، وست لأمٍ. المسألة من ثلاثة فاضربها في أكثر العددين وهو هنا ستة تكن ثمانية عشر. ¬

_ (¬1) في أ: والثلاثة. (¬2) في أ: الأب. (¬3) في أ: لأم. (¬4) في أ: لأبوين.

الثانية: زوجتان، وثمان جدات، وستة عشر أخاً لأبٍ. المسألة من اثني عشر: للزوجتين ثلاثة لا تصح ولا توافق، وللجدات اثنان لا تصح وتوافق بالأنصاف. فترجع الجدات إلى أربع والإخوة سبعة لا تصح ولا توافق والأعداد بعد رد أحدها (¬1) إلى نصفه متناسبة؛ لأن الاثنين نصف الأربعة، والأربعة ربع الستة عشر. فاضرب أكثرها وهو هنا ستة عشر في المسألة وهي اثنا عشر تكن مائة واثنين وتسعين (¬2). الثالثة: ثلاث أخوات لأبٍ، وأختان لأمٍ، وست جدات. المسألة من ستة وتعول إلى سبعة، وعدد الأخوات لأب يناسب عدد الجدات؛ لأنه نصفه. فاضرب ستة في سبعة تكن اثنين (¬3) وأربعين. الرابعة: اثنتا (¬4) عشرة أختاً لأبٍ، وثلاث لأمٍ، وست جداتٍ. المسألة من ستة وتعول إلى سبعة والثلث ربع الاثنتي عشر (¬5) والست نصفها. فاضرب اثني عشر في سبعةٍ تكن أربعة وثمانين. - مسائل التباين: الأولى: سبعة بنين، وأربع جدات. المسألة من ستة والعددان متباينان فاضرب سبعة في أربعة تكن ثمانية وعشرين، ثم اضرب ذلك في أصل المسألة وهي ستة تكن مائة وثمانية وستين (¬6). الثانية: أربع زوجاتٍ، وثلاث جدات، وخمسة إخوة. المسألة من اثني عشر والأعداد كلها متباينة فاضرب أربعة في ثلاثة تكن اثني عشر، ثم في خمسة تكن ستين، ثم في أصل المسألة تكن سبعمائة وعشرين. ¬

_ (¬1) في أ: أحدهما. (¬2) في أ: وهو هنا ستة في المسألة وهي اثنا عشر تكن اثني وسبعين. (¬3) في أ: اثني. (¬4) في أ: اثنتي. (¬5) في أ: عشرة. (¬6) في أ: أصل المسألة وهي سبعة تكن مائة وستة وتسعين.

الثالثة: خمس أخوات لأب، وثلاث لأم، وجدة. المسألة من ستة وتعول إلى سبعة والعددان متباينان فاضرب ثلاثة في خمسة تكن خمسة عشر، ثم اضربها في سبعة تكن مائة وخمسة. الرابعة: أن يكون عدد الجدات أربعاً فاضرب ما بلغ من ضرب ثلاثة في خمسة وهو خمسة عشر في أربعة تكن ستين، ثم اضرب ذلك في سبعة تكن أربعمائة وعشرين. - مسائل التوافق: الأولى: أربع زوجات، وستة بنين. المسألة من ثمانية: للزوجات سهم لا يصح عليهن ولا يوافق، وللبنين سبعة كذلك، والعددان متوافقان بالأنصاف فاضرب أربعة في وفق الستة وهو ثلاثة يكن اثني عشر، ثم اضرب ذلك في المسألة يكن ستة وتسعين. الثانية: ست جدات، وتسع بنات، وخمسة عشر أخاً. المسألة من ستة والأعداد متوافقة بالأثلاث فقف أحدها وهو الجدات مثلاً واضرب تسعة في وفق الخمسة عشر وهو خمسة يكن خمسة وأربعين بينهما وبين الموقوف موافقة بالأثلاث. فاضرب خمسة وأربعين في وفق الموقوف وهو اثنان يكن تسعين، ثم اضرب ذلك في المسألة يكن خمسمائة وأربعين. وقد مثّل المصنف رحمه الله تعالى الأعداد المتوافقة بأربعةٍ وستةٍ وعشرةٍ، ولم يقع لي بين أعداد لا تَوَافُق بينها وبين السهام، وأظنه لا يقع في نفس الأمر فلذلك عدلت عنه. بل يقع بين أعداد يوافق بعضها سهامه؛ كأربع زوجات، وأربع وعشرين جدة، وعشرة بنين. المسألة من أربعة وعشرين: للزوجات ثلاثة على أربع، وللجدات أربعة على أربع وعشرين لا يصح ويوافق فترجع إلى ستة وبينها وبين الأربع والعشرة موافقة بالأنصاف فقف العشرة مثلاً واضرب الستة في وفق الأربع يكن اثني عشر بينها وبين العشرة موافقة بالأنصاف فاضرب اثني عشر في خمسة يكن ستين، ثم اضرب ذلك في أربعة وعشرين يكن ألفاً وأربعمائة وأربعين.

الثالثة: تسع أخوات لأبٍ، وخمس عشرة أختاً لأمٍ، وجدةٍ. المسألة من ستة وتعول إلى سبعة: للأخوات للأب (¬1) أربعة لا تصح ولا توافق، وللأخوات للأم (¬2) اثنان كذلك، وللجدة سهم يصح عليها، والعددان متوافقان بالأثلاث فاضرب تسعة في خسمة تكن خمسة وأربعين، ثم اضرب ذلك في سبعة تكن ثلثمائة وخمسة (¬3) عشر. المسألة الرابعة: مثل الثالثة إلا أن الجدات أحد وعشرون (¬4). فقف الأخوات لأبٍ مثلاً واضرب خمسة عشر في سبعة تكن مائة وخمسة بينها وبين الموقوف موافقة بالأثلاث. فاضرب ذلك في ثلاثةٍ تكن ثلثمائة وخمسة عشر، ثم اضرب ذلك في المسألة تكن ألفين ومائتين وخمسة. قال: (فإذا أردت القسمة فكل من له شيء من أصل المسألة مضروب في العدد الذي ضربته في المسألة فما بلغ فهو له إن كان واحداً، وإن كانوا جماعة قسمته عليهم). أما كون كل من له شيء من أصل المسألة مضروباً في العدد المضروب في المسألة؛ فلأن بذلك يعلم ماله. وأما كون ما بلغ من ذلك له إن كان واحداً ومقسوماً عليهم إن كانوا جماعة؛ فلأن الذي له شيء من أصل المسألة تارة يكون واحداً فيكون الذي بلغ له، وتارة يكون جماعة فيكون الذي بلغ مقسوماً عليهم. وبيان ذلك يظهر في المسألة الثالثة التي تلي آخر المسائل فإنها صحت من ثلثمائة وخمسة عشر: للجدة سهم من أصل المسألة فاضربه في خمسة وأربعين؛ لأنها هي المضروبة في أصل المسألة تكن خمسة وأربعين وهي واحدة فجميع ذلك لها، وللأخوات للأب (¬5) من أصل المسألة أربعة. فاضربها في خمسة وأربعين تكن مائة ¬

_ (¬1) في أ: لأب. (¬2) في أ: لأم. (¬3) في أ: وخمس. (¬4) في أ: إحدى وعشرون. (¬5) في أ: لأب.

وثمانين وهن جماعة فاقسم ذلك عليهن يكن لكل واحدةٍ عشرون، وللأخوات للأم (¬1) اثنان من أصل المسألة فاضربها في خمسة وأربعين تكن تسعين وهن جماعة فاقسمها عليهن تكن لكل واحدةٍ ستة. وعلى هذا فقس بقية المسائل. وإنما عدلت عن قسمة الأخيرة التي تليها؛ لأنها تجمع واحداً وجماعةً فقصدت في قسمتها بيان قول المصنف رحمه الله: فهو له إن كان واحداً ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) في أ: لأم.

باب المناسخات

باب المناسخات قال المصنف رحمه الله تعالى: (ومعناها: أن يموت بعض ورثة الميت قبل قسمة تركته. ولها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون ورثة الثاني يرثونه على حسب ميراثهم من الأول مثل أن يكونوا (¬1) عصبة لهما. فاقسم المال بين من بقي منهم. ولا ينظر إلى الميت الأول). أما قول المصنف رحمه الله: ومعناها أن يموت بعض ورثة الميت قبل قسم تركته؛ فبيان لمعنى المناسخات. وأما كونها لها ثلاثة أحوال؛ فلأن الوارث تارة يرث الثاني على حسب ما ورث الأول، وتارة لا يرث منه شيئاً، وتارة ما عدا الحالين المذكورين. وسيأتي بيان ذلك كله في مواضعه. وأما كون أحدها: أن يكون ورثة الثاني يرثونه على حسب ميراثهم من الأول؛ فظاهر. وأما قول المصنف رحمه الله: مثل أن يكونوا (¬2) عصبة لهما؛ فبيان لما تقدمه. وأما كون المال يقسّم على من بقي ولا ينظر إلى الميت الأول؛ فلأن من (¬3) بقي هم أصحاب المال وهو بينهم بالسوية. فلا حاجة إلى النظر إلى الميت الأول (¬4). فإن قيل: ما مثال ذلك؟ ¬

_ (¬1) في أ: يكون. (¬2) مثل السابق. (¬3) في أ: ما. (¬4) ساقط من أ.

قيل: مثاله أربعة إخوة، وأخت. مات أخ ثم مات آخر. فالأخ والأخت الباقيان عصبة للأول والثاني. فالمال بينهما على ثلاثة: للأخ سهمان، وللأخت سهم. قال المصنف في المغني: وقد يتفق هذا في أصحاب الفروض في مسائل يسيرة؛ كرجل مات عن امرأةٍ، وثلاثة بنين، وبنت. فإن للمرأة من الأولى سهماً مثل سهم البنت وكنصف سهم ابنٍ وكذلك لها من الثانية. هذا لفظه. وفي المسألة حذف تقديره: كرجلٍ مات عن امرأةٍ وثلاثة بنين وبنت ثم مات أحد البنين والمرأة أمّهم. وتحقيق المسألة: أن الأولى تصح من ثمانية: للمرأة منها سهم، وللبنت سهم، ولكل ابنٍ سهمان. والثانية تصح من ستة: للأم سهم، وللبنت سهم، ولكل ابنٍ سهمان. فللأم من الثانية لكونها أماً مثل ما لها من الأولى؛ لكونها زوجة فلا حاجة إلى العمل بل اقسم المال كله (¬1) على ستة كما تقدم في العصبة لهما. قال: (الثاني: أن يكون ما بعد الميت الأول (¬2) من الموتى لا يرث بعضهم بعضاً؛ كإخوة خلّف كل واحدٍ منهم بنيه فاجعل مسائلهم كعددٍ انكسرت عليهم سهامهم، وصحح على ما ذكرنا في باب التصحيح). أما كون مسائل من ذكر تجعل كعددٍ انكسرت عليهم سهامهم؛ فلأن كل مسألة لمستحقها فهي كالعدد المذكور. وأما كونها تصحح على ما ذكر في باب التصحيح؛ فلأن المسائل كالأعداد. وطريق تصحيحها ما تقدم في الباب المذكور (¬3) فكذا ما يشبهها. فعلى هذا قل: مسألة الأول من ثلاثة؛ لأن الميت أبو الإخوة الثلاثة، أو أخوهم، ثم انظر في مسألة الثاني والثالث هل ينقسم سهمه على وارثه أم لا؟ فإن انقسم فلا كلام، وإن لم ينقسم ولم يوافق كمسألة المصنف رحمه الله تعالى فإنه (¬4) جعل لكل أخٍ بنين وذلك جمع، وأقله ثلاثة، وسهمه لا يصح عليهم ولا يوافق. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) في أ: الأولى. (¬3) باب تصحيح المسائل ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) في أ: لأنه.

فصحح المسألة الثانية والثالثة والرابعة، وانظر هل الثلاث متباينات أو متوافقات أو متناسبات أو متماثلاث. وهو المعني بجعل المسائل كعددٍ انسكرت عليهم سهامهم. فإن كانت المسائل متبايناتٍ فاضرب بعضها في بعض، ثم اضرب ما بلغ في المسألة الأولى. وهو المعني بقوله: وصحح على ما ذكرنا؛ لأنه هكذا صحح الأعداد المتباينة. وإن كانت متوافقة فاضرب بعضها في وفق بعض، ثم في (¬1) المسألة الأولى. وإن كانت متناسبةً فاضرب أكثرها في الأولى. وإن كانت متماثلة فاضرب إحداها في المسألة الأولى. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثال المتباينة: مات أحد الإخوة وخلّف ابنين، والآخر ثلاثة، والآخر خمسة. فمسألة كل واحدٍ بعدد أولاده. فاضرب اثنين في ثلاثة تكن ستة، ثم في خمسة تكن ثلاثين، ثم في المسألة الأولى تكن تسعين. ومثال المتوافقة: أن يخلّف الأول أربعة، والثاني ستة، والثالث تسعة، والستة توافق الأربعة والتسعة. فاضرب ستة في اثنين يكن اثني عشر، ثم انظر هل بين ذلك وبين التسعة موافقة تجدها هنا بالثلث. فاضرب اثني عشر في ثلاثة تكن ستة وثلاثين، ثم اضرب ذلك في المسألة الأولى تكن مائة وثمانية. ومثال المتناسبة: أن يخلّف الأول اثنين، والثاني أربعة، والثالث ثمانية. فاضرب ثمانية في المسألة الأولى تكن أربعة وعشرين. ومثال المتماثلة: أن يخلّف الأول اثنين، والثاني اثنين، والثالث اثنين. فاضرب اثنين في المسألة الأولى تكن ستة. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

قال: (الثالث: ما عدا ذلك. فصحح مسألة الأول، وانظر ما صار إلى الثاني فاقتسمه على مسألته. فإن انقسم صحت المسألتان مما صحت به الأولى؛ كرجل خلّف امرأة وبنتاً وأخاً ثم ماتت البنت وخلّفت زوجاً وبنتاً وعمها فإن لها أربعة، ومسألتها من أربعة فصحت المسألتان من ثمانية، وصار للأخ أربعة). أما قول المصنف رحمه الله تعالى: ما عدا ذلك فالمراد ما عدا الحالين المذكورين قبل، ويشمل ذلك صوراً: أحدها: أن يكون في المسألة من يرث من الأول دون الثاني وبالعكس كما مثل المصنف رحمه الله. فإن المرأة لا ترث من الثاني، وزوج البنت وبنتها لا ترثان من الأول. فطريق العمل أن تصحح المسألة الأولى وهي من ثمانية؛ لأن فيها نصفاً وثمناً، وما بقي للمرأة الثمن سهم، وللبنت النصف أربعة، والباقي للأخ وهو ثلاثة، ثم ينظر ما صار إلى الثاني وهو هنا أربعة؛ لأن الميت البنت فتقسمها على مسألة ورثتها وهي من أربعة؛ لأن فيها ربعاً ونصفاً وما بقي للزوج الربع سهم، وللبنت النصف اثنان، وللعم ما بقي سهم فيكون مجموع ما حصل له من الأولى والثانية أربعة ثلاثة من الأولى، وسهم من الثانية. وثانيها: أن يكون في المسألة من يرث من الأولى دون الثانية وورثة الثاني هم بقية ورثة الأول؛ كرجلٍ خلّف زوجة، وسبعة بنين، ثم مات أحد البنين فالمسألة الأولى من ثمانية: للزوجة سهم، ولكل ابنٍ سهم. والمسألة الثانية من سبعة: لكل أخٍ سهم، ومجموع ما حصل لكل واحدٍ سهمان. وثالثها: أن يكون في المسألة من يرث من الثاني دون الأول؛ كرجلٍ خلّف ثلاثة بنين فمات أحدهم وخلّف زوجة وأخويه. مسألة الأول من ثلاثة، والثاني من أربعة. ورابعها: أن يكون ورثة الأول لا يرثون الثاني على حسب ما ورثوا الأول؛ كرجلٍ مات وخلّف أماً وأخوين، ثم مات أحد الأخوين وخلّف أمه وأخاه. مسألة الأول من ستة، وتصح من اثني عشر. ومسألة الثاني من ثلاثة وسهمه من الأول خمسة وذلك على ثلاثة لا يصح ولا يوافق فاضرب اثني عشر في خمسة يكن ستين.

قال: (فإن لم ينقسم وافقتَ بين سهامه ومسألته، ثم ضربتَ وفق مسألته في المسألة الأولى، ثم كل من له شيء من الأولى مضروب في وفق (¬1) الثانية. ومن له شيء من الثانية مضروب في وفق سهام الميت الثاني؛ مثل: أن تكون الزوجة أماً للبنت في مسألتنا فإن مسألتها من اثني عشر توافق سهامها بالربع فترجع إلى ربعها ثلاثة تضربها في الأولى تكن أربعة وعشرين). أما (¬2) كون عامل المسألة يوافق بين السهام والمسألة؛ فلما تقدم. وأما كونه يضرب وفق المسألة في المسألة الأولى؛ فلأن ذلك كافٍ في خروج ذلك بلا كسر. وأما كون كل من له شيء من الأولى مضروباً في وفق الثانية ... إلى آخره؛ فلأن به (¬3) يعلم مقدار ما لكل واحد. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: مثل أن تكون الزوجة أماً للبنت في مسألتنا؛ فبيان لمسألة يقع التوافق بين سهام الثاني ومسألته. والمراد بقوله: في مسألتنا في المسألة الأولى. وأما قوله: فإن مسألتها من اثني عشر. فالمراد به مسألة البنت. وإنما كانت من ذلك؛ لأن فيها سدساً وربعاً ونصفاً. وأما كون مسألتها توافق سهامها بالربع؛ فلأن لها من الأولى أربعة وبينها وبين اثني عشر موافقة بالأرباع. وأما كون مسألتها ترجع إلى ربعها ثلاثة؛ فلأنها وفقها. وأما كون الثلاثة تضرب في المسألة الأولى وهي ثمانية؛ فلتصح المسألتان من عددٍ واحد. وأما كونها تكون أربعة وعشرين؛ فلأن الثلاثة إذا ضربت في ثمانية يكون كذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: وأما. (¬3) في أ: فلأنه.

فعلى هذا يقال: للمرأة من الأولى سهمٌ مضروبٌ في ثلاثة بثلاثة، وللأخ ثلاثة في ثلاثة بتسعة، وللزوج من المسألة الثانية ثلاثة مضروبة في أحد بثلاثة؛ لأن الواحد وفق ما خلّف الميت الثاني؛ لأن البنت ورثت من المسألة الأولى أربعة والواحد وفقها؛ لأنه ربعه، وللبنت ستة في أحدٍ بستة، وللأم سهمان في أحدٍ بسهمين، وللعم سهم في أحدٍ بسهم. فمجموع ما حصل لهم من المسألتين أربعة وعشرون وهو الذي صحت فيه المسألتان. فعلى هذا فقس. قال: (وإن لم توافق سهامه مسألته ضربت الثانية في الأولى، وكل من له شيء من الأولى مضروب في الثانية، ومن له شيء من الثانية مضروب في سهام الثاني؛ مثل: أن تخلّف البنت (¬1) بنتين فإن مسألتهما تعول إلى ثلاثة عشر تضربها في الأولى تكن مائة وأربعة، وتعمل على ما ذكرنا). أما كون المسألة الثانية تضرب في الأولى؛ فلما تقدم غير مرة. وأما كون كل (¬2) من له شيء من الأولى مضروباً في الثانية ... إلى آخره؛ فلما تقدم. وأما قول المصنف رحمه الله: مثل أن تخلّف البنت بنتين؛ فبيان لمسألةٍ لا توافق سهام الميت مسألته. وأما كون مسألة البنت تعول إلى ثلاثة عشر؛ فلأن فيها ثلثين بثمانية، وربعاً بثلاثة، وسدساً باثنين. وأما كونها تضرب في الأولى؛ فلما تقدم. وأما كونها تكون مائة وأربعة؛ فلأن ثلاثة عشر إذا ضربت في ثمانية يكون ذلك. وأما كونها تعمل على ما ذكر قبل؛ فلما ذكر. فعلى هذا يقال: للمرأة من الأولى سهم مضروب في ثلاثة عشر بثلاثة عشر، وللأخ ثلاثة في ثلاثة عشر بتسعة وثلاثين، وللزوج من الثانية ثلاثة في أربعة باثني ¬

_ (¬1) في أ: الميت. (¬2) ساقط من أ.

عشر؛ لأن الأربعة هي التي ورثتها البنت الميتة، وللبنتين ثمانية في أربعة باثنين وثلاثين، وللأم سهمان في أربعة بثمانية. قال: (فإن مات ثالث جمعت سهامه مما صحت منه الأوليان وعملت فيها عملك في مسألة الثاني مع الأول. وكذلك يصنع في الرابع ومن بعده). أما كون سهام الثالث مما صحت منه الأوليان يجمع؛ فلأن ذلك كله له. وأما كون العامل يعمل في المسألة الثالثة مثل العمل في مسألة الثاني مع الأول؛ فلأنها في معناها. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثاله: رجل مات وخلّف زوجة وسبعة بنين. المسألة من ثمانية: للزوجة سهم، ولكل ابنٍ سهم. مات أحدهم وخلّف زوجة وبنتاً والإخوة. المسألة من ثمانية وتصح من ستة عشر: للميت الثاني من المسألة الأولى سهم على ستة عشر لا تصح ولا توافق. اضرب ستة عشر في ثمانية تكن مائة وثمانية وعشرين: للزوجة من الأولى سهم في ستة عشر بستة عشر، ولكل ابنٍ ستة عشر، وللزوجة من الثانية سهمان في سهم بسهمين، وللبنت ثمانية في سهم بثمانية، ولكل أخٍ سهم في سهم بسهم. ثم مات أحد الإخوة وخلّف زوجةً وبنتاً وبقية إخوته فمجموع ما حصل له من المسألتين سبعة عشر: ستة عشر بالبنوّة، وسهم بالأخوّة، ومسألته من ثمانية، وتصح من أربعين، وليس بينها وبين ما له من الميراث سبعة عشر موافقة فاضرب أربعين في مائة وثمانية وعشرين تكن خمسة آلاف ومائة وعشرين: لزوجة الأول ستمائة وأربعون، ولزوجة الثاني ثمانون، ولزوجة الثالث خمسة وثمانون، ولبنت الثاني ثلثمائة وعشرون، ولبنت الثالث ثلثمائة وأربعون، ولكل أخٍ من الأولى والثانية والثالثة سبعمائة. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: وكذلك يصنع في الرابع ومن بعده فمعناه: إذا مات أربعة فأكثر يصنع بهم مثل ما صنعت فيما تقدم. وقد تبين (¬1) كيفية العمل فلا حاجة إلى إعادتها. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في ج: تقدم.

باب قسمة التركات

باب قسمة التركات القَسْم مصدر قولك: قسم يقسم قسماً. ويقال: قسمة أيضاً. قال الله تعالى: {تلك إذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} [النجم: 22]. والتركات: جمع تركة وهو: ما يُخلّفُ الميت. قال المصنف رحمه الله تعالى: (إذا خلّف تركةً معلومةً فأمكنك نسبة نصيب كل وارثٍ من المسألة فأعطه مثل تلك النسبة من التركة. وإن شئت قسمت التركة على المسألة وضربت الخارج بالقسم في نصيب كل وارثٍ فما اجتمع فهو نصيبه. وإن شئت ضربت سهامه في التركة وقسمتها على المسألة فما خرج فهو نصيبه. وإن شئت في مسائل المناسخات قسمت التركة على المسألة الأولى ثم أخذت نصيب الثاني فقسمته على مسألته وكذلك الثالث. وإن كان بين المسألة والتركة موافقة فوافق بينهما واقسم وفق التركة على وفق المسألة). أما كون من أمكنه نسبة نصيب كل وارثٍ من المسألة يعطيه من التركة المعلومة مثل تلك النسبة. وإن شاء قسم التركة على المسألة وضرب الخارج بالقسم في نصيب كل وارث فما اجتمع فهو نصيبه. وإن شاء ضرب سهامه في التركة وقسمها على المسألة فما خرج فهو نصيبه؛ فلأن كل واحد من الطرق الثلاثة يحصل العلم بمقدار نصيب كل وارث. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثاله: امرأة خلّفت زوجاً وأبوين وابنتين. وتركت أربعين ديناراً. فعلى الأول وهو: أن تنسب نصيب كل وارثٍ وتعطيه مثل تلك النسبة من التركة أن يقال: للزوج ثلاثة من خمسة عشر وهي خمسها فله خمس التركة وهو ثمانية دنانير، ولكل واحدٍ من الأبوين اثنان وهما ثلثا خمس المسألة فله ثلثا خمس التركة وذلك

خمسة دنانير وثلث دينار، ولكل واحدةٍ من البنتين أربعة وهي خمس المسألة وثلث خمسها فلها (¬1) خمس التركة وثلث خمسها وذلك عشرة دنانير وثلثا دينار. وعلى الثاني وهو: أن تقسم التركة على المسألة وتضرب الخارج بالقسم في نصيب كل وارث أن يقال: لكل سهمٍ ديناران وثلثا دينار: للزوج ثلاثة مضروبة في اثنين وثلاثين بثمانية، ولكل أبٍ سهمان في اثنين وثلاثين بخمسة وثلث، ولكل بنتٍ أربعة في اثنين وثلاثين بعشرة وثلثين. وعلى الثالث وهو: أن تضرب سهام الوارث في التركة وتقسم ما بلغ على المسألة فما خرج فهو نصيبه أن يقال: للزوج ثلاثة مضروبة في أربعين بمائة وعشرين. فإذا قسمت ذلك على المسألة وهي خمسة عشر تكن ثمانية، ولكل أبٍ اثنان مضروبان في أربعين بثمانين فإذا قسمت ذلك على المسألة تكون خمسة وثلثاً، ولكل بنتٍ أربعة مضروبة في أربعين بمائة وستين. فإذا قسمت ذلك على المسألة تكون عشرة وثلثا دينار. فإن قيل: ما طريق العلم بنصيب كل وارثٍ إذا لم يمكن نسبته من المسألة لكون (¬2) المسألة عدداً أصم؟ قيل: ثنتان هما الأخريان؛ لأن الطرق لما كانت ثلاثاً ولم تمكن النسبة هنا وهي الأولى (¬3) بقي ما بعدها. وأما كون عامل ما ذكر يقسم التركة على المسألة الأولى في مسائل المناسخات إذا شاء، ثم يأخذ نصيب الثاني فيقسمه على مسألته، وكذلك الثالث؛ فلأن ذلك يحصل العلم بنصيب كل وارث. أشبه ما تقدم. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: رجل مات وترك أربعة بنين. فإذا قسمت الأربعين كان لكل واحدٍ عشرة، ثم مات أحدهم وخلّف زوجةً وإخوته فمسألته من أربعةٍ فإذا قسمت عليها العشرة كان للزوجة ديناران ونصف، ولكل أخٍ كذلك. ثم مات أحدهم وخلّف ¬

_ (¬1) في أ: فله. (¬2) في أ: لكل. (¬3) في أ: ولم تكن النسبة هنا وهي الأول.

زوجته وأخويه فمسألته من أربعة، وتصح من ثمانية. فإذا قسمت ما له من المسألة الأولى والثانية وهو اثنا عشر ديناراً ونصف كان للزوجة ثلاثة دنانير وثمن، ولكل أخٍ أربعة ونصف ثمن. مجموع ما حصل للأخوين الباقيين من الأولى والثانية والثالثة سبعة عشر وثمن ونصف ثمن. وأما كون المسألة والتركة إذا كان بينهما موافقة يوافق بينهما؛ فلأن ذلك متى أمكن لم يُعدل إلى غيره؛ لأن العدد متى صح من عددٍ قليل لا يصار إلى عددٍ أكثر منه. وقد تقدم بيان ذلك في مسائل الموافقة فلا حاجة إلى إعادته. وأما كون وفق التركة يقسم على وفق المسألة؛ فلأن ذلك يحصل به العلم بالنصيب. قال: (وإن أردت القسمة على قراريط الدينار فاجعل عدد القراريط؛ كالتركة المعلومة واعمل على ما ذكرنا). أما كون عامل ما ذكر يجعل عدد القراريط كالتركة المعلومة؛ فلأن العدد المذكور أصل؛ لكون القسمة عليه. فهو كالتركة المعلومة. وأما كونه يعمل على ما ذكر قبل؛ فلما ذكر. فإن قيل: كم قراريط الدينار؟ قيل: في عُرف أهل دمشق أربعة وعشرين قيراطاً. فإذا أردت قسمة السهام الكثيرة على ذلك فاجعل التركة كلها قراريط. فإذا كانت التركة دينارين وقيراطين (¬1). فابسط الكل قراريط تكن خمسين ثم اعمل كما تقدم فيما إذا كانت التركة دنانير. وقال المصنف في المغني: إذا أردت قسمة المسألة على قراريط الدينار فلك طريقان: أحدهما: أن تنظر ما تركت منه العدد فإنه لا بد أن يتركب من ضرب عددٍ في عدد. فانسب أحد العددين إلى أربعة وعشرين إن كان أقل منها، وخذ من العدد الآخر مثل تلك النسبة فما كان فهو لكل قيراط. وإن كان أكثر من أربعة ¬

_ (¬1) في أ: وقرطين.

وعشرين قسمته عليها فما خرج بالقسم فاضربه في العدد الآخر فما بلغ فهو نصيبه. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: ستمائة. فإذا أردت قسمتها فاعلم أنها متركبة من ضرب عشرين في ثلاثين فانسب العشرين إلى أربعة وعشرين تكن نصفها وثلثها فخذ نصف الثلثين وثلثها خمسة وعشرين فهو سهم القيراط. وإن قسمت الثلثين على أربعة وعشرين خرج بالقسم سهم وربع فاضربها تكن خمسة وعشرين كما قلنا. وثانيهما: أن تنظر عدداً إذا ضربته في أربعة وعشرين ساوى المقسوم أو قاربَه فإذا بقيت منه بقية ضربتها في عدد آخر حتى يبقى أقل من المقسوم عليه ثم يجمع العدد الذي ضربته إليه وتنسب تلك البقية من المقسوم عليه فتضمها إلى العدد فيكون ذلك سهم القيراط. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثاله في مسألتنا أن تضرب عشرين في أربعة وعشرين تكون أربعمائة وثمانين، ثم تضرب خمسة في أربعة وعشرين تكون مائة وعشرين، وتضم الخمسة إلى العشرين فيكون ذلك سهام القيراط فإذا عرفت سهام القيراط فانظر من له سهام فأعطه بكل سهم من سهام القيراط قيراطاً فإن بقي له من السهام ما لا يبلغ قيراطاً فانسبه إلى سهام القيراط وأعطه منه مثل تلك النسبة. قال: (وإن كانت التركة سهاماً من عقار كثلث وربع ونحو ذلك. فإن شئت أن تجمعها من قراريط الدينار وتقسمها على ما قلنا. وإن شئت وافقت بينها وبين المسألة وضربت المسألة أو وفقها في مخرج سهام العقار، ثم كل من له شيء من المسألة مضروب في السهام الموروثة من العقار أو في وفقها فما كان فانسبه من المبلغ فما خرج فهو نصيبه). أما كون التركة إذا كانت سهاماً من عقار إن شاء عامل المسألة أن يجمع وإن شاء أن يوافق؛ فلأن كل واحدٍ من ذلك يحصل العلم بالمقصود. ويظهر من ذلك أن العمل المذكور له طريقان:

أحدهما: أن يجمع العامل السهام من قراريط الدينار. فيجدها فيما فرض من الثلث والربع أربعة عشر؛ لأنه قد تقرر أن الدينار في عرف أهل دمشق أربعة وعشرون ثم يقسم ذلك على المسألة. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: امرأة خلّفت زوجاً وأماً وأختاً. المسألة من ثمانية: للزوج ثلاثة هي ربعها وثمنها فله ربع أربعة عشر (¬1) قيراطاً وثمنها وهو خمسة قراريط وربع، وللأم سهمان هما ربع التركة فلها ربع أربعة عشر (¬2) قيراطاً وهو ثلاثة ونصف، وللأخت مثل الزوج. الطريق الثانية: أن يأخذ المخلّف من مخرجه وهو هنا اثنا عشر؛ لأن المخلّف ثلث وربع. ثم تنظر هل بين المخلف وبين ذلك موافقة؟ فإن لم يكن بينهما موافقة كالمسألة المذكورة؛ لأن المخلّف سبعة من اثني عشر وليس بين السبعة والثمانية موافقة. فاضرب المسألة وهي ثمانية في مخرج السهام وهي اثنا عشر تكن ستة وتسعين: للزوج ثلاثة من السهام مضروبة في السهام المخلّفة تكون أحداً وعشرين. ثم انسب ذلك من ستة وتسعين تجده ثمنها ونصف وربع ثمنها فله من الدار مثل تلك النسبة، وللأخت كذلك، وللأم سهمان في سبعة بأربعة عشر. ثم انسبها مما ذكر تجدها نصف سدس ونصف ثمن فلها من الدار مثل تلك النسبة. وإن كان بينهما موافقة مثل: أن يكون نصف وربع دار فبينهما موافقة بالأنصاف فاضرب وفق المسألة وهو أربعة في مخرج السهام وهو ثمانية؛ لأن ذلك مخرج النصف والربع يكن اثنين وثلاثين: للزوج ثلاثة، والمسألة مضروبة في وفق السهام وهو ثلاثة بتسعة ونسبتها من اثنين وثلاثين ربعها وربع ثمنها فله ربعها، وللأخت كذلك، وللأم سهمان مضروبان في ثلاثة بستة. ¬

_ (¬1) في أ: أربع عشر. (¬2) مثل السابق.

وأما قول المصنف رحمه الله: ثم كل من له شيء من المسألة مضروب في السهام الموروثة من العقار أو في (¬1) وفقها ... إلى آخره؛ فبيان لكيفية القسمة. وقد اتضح ذلك بما تقدم ذكره. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

باب ذوي الأرحام

باب ذوي الأرحام ذوي الأرحام يرثون في الجملة؛ لأن الله تعالى قال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال: 75]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخالُ وارثُ منْ لا وارثَ لَه» (¬1) قال الترمذي: هذا حديث حسن. فإن قيل: المراد أن من ليس له إلا خال فلا وارث له؛ كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له، والماء طيب من لا طيب له، والصبر حيلة من لا حيلة له. قيل: هذا فاسدٌ لوجوه: أحدها: أنه قال: «يرث ماله» (¬2) وفي لفظ: «يرثه» (¬3). وثانيها: أن الصحابة رضي الله عنهم فهمُوا ذلك. وهو قول عمر وعلي وعبدالله وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء. وثالثها: أنه سماه وارثاً. والأصل الحقيقة. وما ذكر من استعمال ذلك في النفي فمعارض بأنه يستعمل للإثبات؛ كقولهم: يا عماد من لا عماد له، ويا سند (¬4) من لا سند له، ويا ذخر من لا ذخر له. ويؤيد ذلك ما روى واسع بن حبان قال: «توفيَ ثابتُ بن الدحداحةِ ولم يدعْ وارثاً ولا عصبةً. فرفعَ شَأنهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فدفعَ مالهُ إلى ابن أختهِ أبي لبابةَ بن عبد المنذر» (¬5) رواه سعيد. ورواه أبو ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (2103) 4: 421 كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الخال. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2737) 2: 914 كتاب الفرائض، باب ذوي الأرحام. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2901) 3: 123 كتاب الفرائض، باب في ميراث ذوي الأرحام. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2899) 3: 123 كتاب الفرائض، باب في ميراث ذوي الأرحام. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2634) 2: 879 كتاب الديات، باب الدية على العاقلة فإن لم يكن عاقلة ففي بيت المال. (¬4) في أ: وسند. (¬5) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (164) 1: 70 كتاب الفرائض، باب: العمة والخالة.

عبيد في الأموال إلا أنه قال: «ولم يخلّف إلا ابنة أخ له. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بميراثه لابنة أخيه». ولأنه ذو قرابة فيرث كذوي الفروض. ولأنه ساوى سائر الناس في الإسلام وزاد عليهم بالقرابة فكان أولى بماله منهم. ولأنه أحق الناس بصلة حياته. فكذلك بعد موته. فإن قيل: ما شرط إرثهم؟ قيل: أن لا يكون ذو فرض ولا عصبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما حكم بالميراث للخال إلا عند عدم الوارث. ولأن أصحاب الفروض منصوص على فروضهم، ولذلك قدمت على العصبة (¬1)، والعصبة يستحقون ما فضل عنه؛ لقوله عليه السلام: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما فضل فهو لأولى رجلٍ ذكر» (¬2). ولأن صاحب الفروض والعصبة أقرب إلى الميت من ذي الرحم فكان أولى بميراثه. قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهم: كل قرابة ليس بذي فرض ولا عصبة. وهم أحد عشر صنفاً: ولد البنات، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام، وبنو الإخوة من الأم، والعم من الأم، والعمات، والأخوال، والخالات، وأبو الأم، وكل جدةٍ أدلت بأب بين أمّين أو بأب أعلا من الجد، ومن أدلى بهم). أما قول المصنف رحمه الله تعالى: وهم كل قرابة ليس بذي فرض ولا عصبة؛ فبيان لذوي الأرحام. وقوله: كل قرابة يخرج الأجنبي. وقوله: ليس بذي فرض يخرج أصحاب الفروض. وقوله (¬3): ولا عصبة يخرج العصبات. ¬

_ (¬1) في أ: العصب. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) ساقط من أ.

وأما قوله: وهم أحد عشر صنفاً؛ فبيان لأصنافهم ليعلم ذلك فيرتب عليه تنزيل من أدلى بكل صنف. قال: (ويرثون بالتنزيل. وهو: أن يجعل كل شخصٍ بمنزلة من أدلى به. فيجعل ولد البنات والأخوات؛ كأمهاتهم، وبنات الإخوة والأعمام وولد الإخوة من الأم؛ كآبائهم، والأخوال والخالات وأبا الأم؛ كالأم، والعمات والعم من الأم كالأب. وعنه: كالعم. ثم يجعل نصيب كل وارث لمن أدلى به). أما كون ذوي الأرحام يرثون بالتنزيل كما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلأنهم فرع في الميراث على غيرهم. فوجب إلحاقهم بمن هو فرع له، وقد روي عن علي وعبدالله رضي الله عنهما: «أنهما نزلا بنت البنت منزلة البنت، وبنت الأخ منزلة الأخ، وبنت الأخت منزلة الأخت، والعمة منزلة الأب، والخالة منزلة الأم» (¬1). وروي عن الإمام أحمد أن العمة كالعم؛ لأنه يروى عن علي رضي الله عنه في رواية عنه. والصحيح أنها بمنزلة الأب؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمةُ بمنزلةِ الأبِ إذا لم يكنْ بينهما أب». رواه الإمام أحمد. ولأن الأب أقوى جهات العمة (¬2). فوجب تنزيلها منزلته. فلو خلّف الميت بنت بنت، وبنت أخت، أو بنت أخ لأبوين أو لأب، أو بنت عم المال بينهما نصفين. ولو كان معهما خالة فالمسألة من ستة: لبنت البنت ثلاثة، وللخالة سهم، والباقي لبنت الأخ أو العم. ولو كان معهم عمة فعلى تنزيلها منزلة الأب: لها سهمان من ستة، وتسقط بنت الأخ وبنت العم؛ لأن الأب يسقط الأخ والعم، وعلى تنزيلها منزلة العم لا شيء لها مع بنت الأخ؛ لأن الأخ يسقط العم، ولها نصف الباقي مع بنت العم. ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (155) 1: 68 كتاب الفرائض، باب العمة والخالة. وأخرجه الدارمي في سننه (2977) 2: 250 كتاب الفرائض، باب في ميراث ذوي الأرحام. كلاهما عن عبدالله. (¬2) في أ: العم.

قال: (فإن أدلى جماعة بواحد (¬1) واستوت منازلهم منه فنصيبه بينهم بالسوية ذكرهم وأنثاهم سواء. وعنه: للذكر مثل حظ الأنثيين إلا ولد الأم. وقال الخرقي: يسوى بينهم إلا الخال والخالة). أما كون نصيب المدلى به بين من أدلى به؛ فلاشتراك الكل في الإدلاء به الموجب للإرث. وإنما قيد الادلاء بواحدٍ واشترط استواء منازلهم من المدلى به؛ لأن حكم الجماعة إذا أدلوا بجماعةٍ وحكم الجماعة إذا أدلوا بواحدٍ واختلفت منازلهم من المدلي غير ذلك. وسيأتي ذكره بعد مبيناً إن شاء الله تعالى. وأما كون النصيب المتقدم ذكره بين من ذكر سواء على المذهب؛ فلأنهم يرثون بالرحم المجرد فاستوى ذكورهم (¬2) وإناثهم؛ كولد الأم. وأما كونه للذكر مثل حظ الأنثيين غير ولد الأم على روايةٍ؛ فلأن ميراثهم معتبر بغيرهم. فوجب أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين؛ كالأولاد. وأما استثناء ولد الأم من الرواية المذكورة؛ فلأنه يدلي بمن ذكرهم وأنثاهم سواء. وأما التسوية بينهم إلا الخال والخالة على قول الخرقي: أما التسوية في غير الخال والخالة؛ فلما تقدم. وأما عدم التسوية بين الخال والخالة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخال أباً والخالة أماً فقال: «الخالُ والدٌ إذا لم يكنْ دونَهُ أمٌ والخالةُ أم»، وفي آخر: «الخالةُ أمٌ إذا لم يكنْ بينهما أم» (¬3). قال: (وإذا كان ابنٌ وبنت أخت وبنت أختٍ (¬4) أخرى: فلبنت الأخت وحدها النصف، وللأخرى وأخيها النصف بينهما). أما كون بنت الأخت وحدها لها النصف؛ فلأنها تدلي بأمها وذلك لها. ¬

_ (¬1) في أ: واحدة. (¬2) في أ: ذكرهم. (¬3) ذكره ابن حجر في التلخيص. وعزاه إلى ابن المبارك في البر والصلة. تلخيص الحبير 4: 22. (¬4) سقط لفظي: وبنت أخت من أ.

وأما كون النصف بين بنت الأخت الأخرى وأختها؛ فلأنهما يدليان بالأخت الأخرى وذلك لها. قال: (وإن اختلفت منازلهم من المدلى به جعلته كالميت وقسّمت نصيبه بينهم على ذلك؛ كثلاث خالات مفترقات (¬1) وثلاث عمات مفترقات فالثلث بين الخالات على خمسة أسهم، والثلثان بين العمات كذلك واجتزأ بأحدهما، واضربها في ثلاثة تكن خمسة عشر: للخالة التي من قبل الأب والأم ثلاثة، وللتي من قبل الأب سهم، وللتي من قبل الأم سهم، وللعمة التي من قبل الأب والأم ستة أسهم، وللتي من قبل الأب سهمان، وللتي من قبل الأم سهمان). أما كون المدلى به يجعل كالميت؛ فلأن جهة اختلاف المنازل منه يظهر بذلك. وأما كون نصيبه يقسم بينهم على ذلك؛ فلأنه يجعل كالميت، والميت يقسم على ورثته بحسب منازلهم. فكذا هذا. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: كثلاث خالات مفترقات وثلاث عمات مفترقات؛ فبيان لاختلاف منازل ذوي الأرحام من المدلى به؛ لأن الخالات يدلين بالأم، والعمات يدلين بالأب. وأما قوله: فالثلث ... إلى آخره؛ فبيان لسهم كل جهة وطريق لصحة المسألة. ويتضح ذلك بأن يقسم نصيب المدلى به بين ورثته. فنصيب الأم وهو الثلث بين أخواتها وهن أخت لأبوين وأخت لأب وأخت لأم. وهو المعنيّ بقول المصنف: مفترقات، ونصيب الأب بين أخواته كذلك. فأصل مسألة ذوي الأرحام هاهنا من ثلاثة؛ لأن فيها ثلثاً وكل واحدٍ من القبيلين مسألته من ستة فترجع بالرد إلى خمسة فسهم كل قبيل لا ينقسم على مسألته ولا يوافق والعددان متماثلان فاضرب أحدهما في ثلاثة تكن خمسة عشر: للخالات ثلثها مقسومة كما ذكر المصنف، وللعمات عشرة مقسومة كما ذكر. ¬

_ (¬1) في الأصول: متفرقات.

قال: (وإن خلّف ثلاثة أخوال مفترقين: فللخال من الأم السدس، والباقي للخال من الأبوين. وإن كان معهم أبو أم أسقطهم كما يسقط الأب الإخوة. وإن خلّف ثلاث بنات عمومة مفترقين فالمال لبنت العم من الأبوين وحدها). أما كون الخال من الأم له السدس والباقي للخال من الأبوين فيما إذا خلّف ثلاثة أخوال مفترقين؛ فلأن الأم لو كانت هي الميتة لأسقط أخوها لأبويها أخاها لأمها. فكذلك من يدلي بها يسقط الأخ للأبوين الأخ لأب. فعلى هذا المسألة من ستة؛ لأن فيها سدساً: للخال لأمٍ السدس سهم، وللخال لأبوين الباقي خمسة. وأما كون أبي الأم يسقط الأخوال فيما إذا كان معهم فقد نبّه المصنف رحمه الله تعالى على الموجب لإسقاطهم؛ لأن حكم من يدلي مثل حكم المدلى به، والأب المدلى به يسقط الإخوة فكذا أبو الأم المدلى به يسقط الإخوة. وأما كون المال لبنت العم من الأبوين وحدها فيما إذا خلّف ثلاث بنات عمومة مفترقين؛ فلأن كل واحدٍ منهم بمنزلة من تدلي به، وبنت العم لأبوين تدلى به وهو مسقطٌ للعم لأبٍ (¬1) والعم لأم. قال: (وإن أدلى جماعة منهم بجماعة قسمت المال بين المدلى بهم كأنهم أحياء. فما صار لكل وارثٍ فهو لمن أدلى به). أما كون المال يقسّم بين المدلى بهم كأنهم أحياء؛ فلأنهم أصل من أدلي بهم. وأما كون ما صار لكل وارثٍ لمن أدلى به؛ فلأنهم ورّاثه. فإن قيل: ما مثال ما إذا أدلى جماعة بجماعة؟ قيل: ثلاث بنات أختٍ لأبوين، وثلاث بنات أختٍ لأب، وثلاث بنات أختٍ لأم، وثلاث بنات عم. اقسم المال بين الأخوات والعم وهو المراد بقوله: بين المدلى بهم (¬2): فيكون للأخت للأبوين النصف، وللأخت للأب السدس تكملة الثلثين، وللأخت للأم السدس سهم، والباقي وهو سهم للعم. ثم اقسم نصيب كل وارثٍ على ورثته: فنصيب الأخت للأبوين ثلاثة على بناتها صحيح عليهن، ونصيب ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: به.

الأخت للأب سهم على بناتها لا تصح ولا توافق، ونصيب الأخت للأم كذلك، والأعداد متماثلة فاجتزئ ببعضها. فاضرب في أصل المسألة تكن ثمانية عشر: لبنات الأخت للأبوين تسعة لكل بنتٍ ثلاثة، ولبنات الأخت للأب ثلاثة لكل واحدةٍ سهم، ولبنات الأخت للأم كذلك، ولبنات العم كذلك. قال: (وإن أسقط بعضهم بعضاً عملت على ذلك). أما كون العمل على ذلك؛ فليعلم. فإن قيل: ما المراد بذلك؟ قيل: يحتمل أن يراد به العمل على الإسقاط. ويحتمل أن يراد به على نحو ما تقدم. وأما مثال ذلك: فأن يجعل بدل بنات الأخت لأبوين بنات أخ لأبوين. فالمسألة من ستة: لبنات الأخت لأم سهم، ويسقط بنات الأخت لأب، وبنات العم؛ لأن الأخ لأبوين يُسقط الأخ لأب والعم. وتصح المسألة من ثمانية عشر أيضاً: لبنات الأخت لأم ثلاثة لكل واحدةٍ سهم، ولبنات الأخ لأبوين (¬1) خمسة عشر لكل واحدةٍ خمسة. قال: (وإن كان بعضهم أقرب من بعضٍ فمن سبق إلى الوارث ورث وأسقط غيره. إلا أن يكونا من جهتين فينزل البعيد حتى يلحق بوارثه سواء سقط به القريب أو لا كبنت بنت بنت، وبنت أخ لأم. المال لبنت بنت البنت). أما كون من سبق إلى الوارث يرث؛ فلسبقه. وأما كونه يسقط غيره إذا كانا (¬2) من جهةٍ واحدةٍ كبنت بنتٍ، وبنت بنت (¬3) البنت؛ فلأن القريب يرث ويسقط البعيد. بدليل: ما لو خلّف ابناً وابنه. فكذا هاهنا. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: كان. (¬3) ساقط من أ.

وأما كون البعيد ينزل حتى يلحق بوارثه إذا كانا (¬1) من جهتين كما مثل المصنف رحمه الله تعالى؛ فلأن العبرة بالمدلى به لا بالوارث بطريقه. وأما كون المال لبنت بنت البنت دون بنت الأخ لأم؛ فلأنها بمنزلة البنت، وبنت الأخ بمنزلة الأخ من الأم. ولو خلّف بنتاً وأخاً لأمٍ كان المال كله للبنت دون الأخ. قال: (والجهات أربع: الأبوّة والأمومة والبنوّة والأخوّة. وذكر أبو الخطاب العمومة جهة خامسة، وهو مفضٍ إلى إسقاط بنت العم من الأبوين ببنت العم من الأم، وبنت العمة. ولا (¬2) نعلم به قائلاً). أما كون الجهات التي يرث بها ذوي الأرحام أربعاً؛ فلأن المدلى به تارة يكون أباً، وتارة يكون أماً، وتارة يكون ابناً، وتارة يكون أخاً. ولذلك عقب المصنف رحمه الله تعالى ذلك بقوله: الأبوّة إلى الأخوّة. فإن قيل: لا دلالة فيما ذكر على الحصر. قيل: الغرض هنا ذكر الجهات التي يرث بها ذوي الأرحام لا الحصر؛ لأن نفي الخامسة بعد يدل على الحصر في الأربع. فعلى هذا العم يدلي بالأبوّة، والخال يدلي بالأمومة، وبنات البنت بالبنوّة، وبنات الأخت بالأخوّة. وأما كون العمومة جهةً خامسةً على ما ذكر أبو الخطاب؛ فلأن العم وارث. فوجب أن يكون جهة؛ كالأب. وأما كون ذلك مفضياً إلى إسقاط بنت العم من الأبوين ببنت العم من الأم (¬3) وبنت العمة؛ فلأن بنت العم من الأم وبنت العمة تدليان بالأب، وبنت العم من الأبوين تدلي بأبيها وهو عم، والأب يسقط العم. ¬

_ (¬1) في أ: كان. (¬2) في أ: وما. (¬3) في أ: الأب.

وأما قول المصنف رحمه الله: ولا نعلم به قائلاً؛ فتضعيفٌ لما ذكر أبو الخطاب؛ لأن عدم علمه بذلك مع كثرة اطلاعه يدل على عدم القول به، ويلزم من ذلك محذور. وفيما قال المصنف رحمه الله نظرٌ من وجهين: أحدهما: من حيث إن إدلاء بنت العم من الأم وبنت العمة بالأب فيه روايتان. فعلى جعل العمومة جهة لأبي الخطاب أن يقول: لا ننزل من ذكر منزلة الأب فلا يفضي إلى الإسقاط المذكور. وثانيهما: أن العمومة إذا لم تجعل جهة فبم يورّث بنت العم من الأبوين وبنت العم من الأم والعمة إذا نزلوا منزلة العم. وأجيب عن الثاني بأن الجهة جهة (¬1) أخوّة؛ لأن العم أخو الأب إلا أنه عدل عن قياس بقية الجهات من حيث إن العبرة بأبوّة الميت وبنوّته وأخوّته. قال: (ومن أمتّ بقرابتين ورث بهما). أما معنى أمتّ فأدلى. يقال: متّ (¬2) بكذا إذا أدلى به. وأما كون من أمتّ بقرابتين يرث بهما؛ فلأنه شخص له جهتان لا ترجيح فيهما. فورث بهما؛ كالزوج إذا كان ابن عم، وابن العم إذا كان أخاً من أم. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل مثاله: ابن بنت بنتٍ هو ابن ابن بنتٍ أخرى، ومعه بنت بنت بنت أخرى: للابن الثلثان، والثلث للبنت. قال: (وإن اتفق معهم أحد الزوجين أعطيته فرضه غير محجوبٍ ولا معاولٍ وقسّمت الباقي بينهم كما لو انفردوا. ويحتمل أن يقسّم الفاضل عن الزوج بينهم كما يقسّم بين من أدلوا به). أما كون أحد الزوجين يعطى فرضه؛ فلما تقدم من الآيتين الدالتين عليه. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: أمتّ.

وأما كونه غير محجوبٍ (¬1) بذي الرحم؛ فلأن ميراثه ثابت بالنص فلا يحجب عنه إلا بمثله. ولأن قوله: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم ... الآية} [النساء: 12] يدل على أنه لا يحجب عنه إلا بالولد، وبنت البنت منتسبة إلى غيره. فلا يدخل في ذلك. ولأن ذا الرحم لا يرث مع ذي فرض. وإنما ورث معه هاهنا؛ لأن أحد الزوجين لا يرد عليه. وأما كونه غير معاولٍ؛ فلما ذكر. وأما كون الباقي يقسم بين ذوي الرحم كما لو انفردوا على المذهب؛ فلأن صاحب الفرض إذا أخذ فرضه كأنّ الميت لم يخلّف إلا ذلك. وأما كون الفاضل عن الزوج يحتمل أن يقسّم بينهم كما يقسّم بين من أدلوا به؛ فلأنه الأصل الذي وقع به إرثهم. وسيتضح بعد إن شاء الله تعالى. وهذا الخلاف إنما يقع في مسألة فيها من يُدلي بذي فرضٍ ومن يدلي بعصبة. أما إذا أدلى جميعهم بذي فرضٍ أو عصبةٍ فلا خلاف فيه. هكذا ذكر المصنف رحمه الله تعالى في المغني. قال: (فإذا خلّفت (¬2) زوجاً وبنت بنت، وبنت (¬3) أخت: فللزوج النصف، والباقي بينهما نصفين على الوجه الأول، وعلى الآخر يقسّم بينهما على ثلاثة: لبنت البنت سهمان، ولبنت الأخت سهم). أما كون الباقي بين بنت البنت وبنت الأخت نصفين على الوجه الأول؛ فلأن بنت البنت لها النصف وبنت الأخت لها الباقي وهو النصف. فالمسألة أصلها من اثنين وتصح من أربعة: للزوج سهمان (¬4)، ولبنت البنت سهم، ولبنت الأخت سهم. ¬

_ (¬1) في أ: وأما كونه يحجب. (¬2) في أ: خلّف. (¬3) ساقط من أ. (¬4) في أ: اثنان.

وأما كونه بينهما على ثلاثةٍ على الآخر؛ فلأن من أدلوا به بنت وأخت ومعهما زوج: فللزوج الربع، وللبنت النصف، وللأخت الباقي وهو الربع. فالبنت تدلي بمثل الأخت فيقسّم الفاضل على الزوج بين بنت البنت، وبنت الأخت أثلاثاً. فالمسألة أصلها من اثنين وتصح من ستة: للزوج ثلاثة، ولبنت البنت سهمان، ولبنت الأخت سهم. قال: (ولا يعول من مسائل ذوي الأرحام إلا مسألة واحدة وشبهها وهي: خالةٌ وست بنات ست أخوات مفترقاتٍ تعول إلى سبعة). أما كون مسائل ذوي الأرحام غير المستثنى لا يعول منها شيء فمعلوم بالسّبْر. وأما كون المستثنى يعول فيه: أما في المسألة؛ فلأن الخالة لها السدس؛ لأنها تدلي بالأم، وفرض الأم مع الإخوة السدس، ولبنات الأختين من الأبوين الثلثان، ولبنات الأختين لأم الثلث. فأصلها (¬1) من ستة وتعول إلى سبعة. وأما في شبهها؛ فلأن العول ليس مختصاً بعين هذه المسألة بل تجري فيها وفي كل مسألةٍ فيها من يقوم مقام الأم أو الجدة. ومن يقوم مقام الأخوات المفترقات ممن يأخذ المال كله بالفرض، ولهذا قال المصنف: إلا مسألة واحدة وشبهها. إذا تقرر العول؛ فالمسألة المذكورة من سبعة. واعلم أنها تصح منها إن كانت البنات بنتي أختين لأبوين، وبنتي أختين لأم، وبنتي أختين لأب: لولد الأبوين الثلثان أربعة لكل واحدةٍ سهمان، ولولد الأم سهمان لكل واحدةٍ سهم، وللخالة سهم. ¬

_ (¬1) في أ: ولبنات الأخت لأبوين الثلثان ولبنات الأخوات لأم الثلث وأصلها.

باب ميراث الحمل

باب ميراث الحمل الأصل في ميراث الحمل ولداً كان أو غيره: عموم الأدلة المقتضية للإرث. قال المصنف رحمه الله تعالى: (إذا مات عن حملٍ يرثه وطالب بقيّة الورثة بالقسمة وقفت له نصيب ذكرين إن كان نصيبهما أكثر، وإلا وقفت نصيب أنثيين، ودفعت إلى من لا يحجبه الحمل أقل ميراثه. ولا يدفع إلى من يُسقطه شيئاً). أما كون قاسم تركة الميت عن حملٍ يقف للحمل نصيب اثنين؛ فلأن ولادة التوأمين كثير معتاد. فلم يجز النقصان عنه؛ لأنه معتاد. ولا الزيادة عليه؛ لأنه نادر وإذا كان كذلك تعين ما ذكر. وأما كون النصيب المذكور نصيب ذكرين إن كان أكثر من نصيب أنثيين وإلا نصيب (¬1) أنثيين؛ فلأنه قد يكون صاحب الأكثر فيتعين وقفه له. فإن قيل: ما مثال كون نصيب ذكرين أكثر؟ قيل: كثير. من ذلك: رجل مات عن امرأةٍ وابنٍ وحملٍ؛ لأن مسألته من ثمانية وتصح من أربعة وعشرين: للذكرين أربعة عشر، وذلك أكثر من نصيب أنثيين. فإن قيل: ما مثال كون نصيب الأنثيين أكثر؟ قيل: رجل مات عن امرأةٍ وأبوين وحملٍ؛ لأن مسألته من أربعة وعشرين وتصح من سبعة وعشرين: للأنثيين منها ستة عشر، وذلك أكثر من نصيب ذكرين. فإن قيل: ما يشترط في وقف النصيب للحمل؟ قيل: أمران: أحدهما: أن يكون الحمل ممن يرث. فإن كان ممن لا يرث لم يقف القاسم له شيئاً؛ لأنه لا شيء له. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

وثانيهما: أن يطلب بقية الورثة قسم التركة؛ لأنهم إذا لم يطلبوا ذلك بقي الأمر على ما هو عليه حتى تضع المرأة الحمل. وأما كون قاسم التركة يدفع إلى من لا يحجبه الحمل أقل ميراثه؛ فلأنه اليقين، وما زاد مشكوك فيه. والمراد بقول المصنف رحمه الله: من لا يحجبه من لا يسقطه لا من لا ينقصه لقوله بعد: ولا يدفع إلى من يسقطه شيئاً. ولأن من لا ينقصه ليس لمن معه أقل من ذلك أو أكثر. فإن قيل: ما مثال من لا يحجبه ومثال من لا ينقصه؟ قيل: أما الأول فرجلٌ مات عن امرأةٍ وحملٍ؛ لأن بتقدير خروج الحمل حياً للمرأة الثمن، وبتقدير خروجه ميتاً لها الربع، والثمن أقل من الربع فيدفع إليها الثمن لا الربع. وأما الثاني فالمسألة المتقدم ذكرها أولاً، لأن فيها ابناً، وللمرأة معه الثمن وُلِدَ الحمل حياً أوْ لا. وأما (¬1) كونه لا يدفع إلى من يسقطه شيئاً؛ فلأن الظاهر خروج الحمل حياً وهو يسقط الموجود فلم يدفع إليه مع الشك في استحقاقه. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثاله رجلٌ مات وخلّف ثلاث أخوات مفترقاتٍ وامرأةً وحملاً؛ لأن الولد الذكر يسقط الأخوات من كل جانبٍ، والحمل يحتمل كونه ذكراً. قال رحمه الله: (فإذا وُضع الحمل دفعتَ إليه نصيبه ورددت الباقي إلى مستحقه). أما كون القاسم يدفع نصيب الحمل إليه إذا وضعته أمه؛ فلأن ذلك حقه. وأما كونه يرد الباقي إلى مستحقه؛ فلأن ذلك حقهم. واعلم أنه تارة لا يفضل عن نصيب الحمل الموقوف له شيء؛ كما لو ظهر الحمل ذكرين في الأولى وأنثيين في الثانية؛ لأن المسألتين تصحان على ما كانتا عليه، وتارة يفضل منه؛ كما لو ظهر ذكراً في الأولى والثانية؛ لأن الأولى تصح من ستة ¬

_ (¬1) من هنا سقط قدر سبع لوحات من أ.

عشر: للمرأة سهمان، ولكل ابنٍ سبعةٍ. والثانية من أربعة وعشرين: للمرأة ثلاثة، وللأبوين ثمانية، وللحمل ثلاثة عشر.

فصل [متى يرث المولود] قال المصنف رحمه الله: (وإذا استهلّ المولود صارخاً وَرِثَ ووُرِّثَ. وفي معناه: العطاسُ والتنفسُ والارتضاعُ وما يدل على الحياة. فأما الحركة والاختلاج فلا تدل على الحياة). أما كون المولود يرثُ إذا استهلّ صارخاً؛ فلأن أبا هريرة رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا استَهَلّ المولودُ وُرِّثَ» (¬1) رواه أبو داود. وعن جابر مثله. رواه ابن ماجة (¬2). فإن قيل: ما معنى استهلّ المولود؟ قيل: صاح عند الولادة. قاله الجوهري. فإن قيل: لم قال المصنف: استهلّ صارخاً؟ قيل: لينبّه بذلك على حياة الحمل. وفيه نظر؛ لأن صارخاً إن جعل حالاً كان فيه إشعارٌ بانفكاك الاستهلال عنه، وإن جعل مميزاً فكذلك؛ لأنه لا يأتي إلا بعد ما يحتمل الأمرين. والتفسير المتقدم ذكره يأباه. وأما كونه يورث إذا استهل؛ فلأن المصحح للإرث الحياة. فكذا يجب أن يكون في كونه موروثاً. وأما العطاسُ والتنفسُ والارتضاعُ وما يدل على الحياة في معنى الاستهلال؛ فلأن من اتصف بما ذُكر حي. فيثبت له أحكام الحياة؛ كالمستهل. وأما كون الحركة والاختلاج لا تدل على الحياة؛ فلأن ذلك يحصل من المذبوح. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2920) 3: 128 كتاب الفرائض، باب في المولود يستهل ثم يموت. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2751) 2: 919 كتاب الفرائض، باب إذا استهل المولود ورث.

ولأن اللحم يختلج لا سيما إذا خرج من مكان ضيق يضم أجزاؤه إلى مكان فسيح. قال رحمه الله: (وإن ظهر بعضه فاستهلّ ثم انفصل ميتاً لم يرث. وعنه: يرث). أما كون من ذكر لا يرث في روايةٍ؛ فلأنه لم يخرج جميعه حياً. أشبه ما لو مات قبل خروج شيء منه. وأما كونه يرث في روايةٍ؛ فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا استَهَلّ المولودُ وُرِّثَ» (¬1). قال رحمه الله: (وإن ولدت توأمين فاستهلّ أحدهما وأشكل: أقرع بينهما. فمن خرجت قرعته فهو المستهل). أما كون التوأمين يقرع بينهما إذا استهلّ أحدهما وأشكل؛ فلأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. فشرعت القرعة؛ كما لو أعتق أحد العبدين. وأما قول المصنف رحمه الله: وأشكل؛ فمشعرٌ بأن التوأمين إذا استهلّ أحدهما تارة يشكل أمر ميراث المستهل؛ كما لو كانا ذكراً وأنثى وليسا بولدي أم، وتارة لا يشكل؛ كما لو كانا ذكرين أو أنثيين أو ذكراً أو أنثى وهما ولدا أم؛ لأن ميراث الذكر في غير ولدي الأم أكثر من ميراث الأنثى. بخلاف الذكر مع الذكر والأنثى مع الأنثى، وبخلاف الذكر مع الأنثى في ولدي الأم؛ لأنهما سواء. وأما كون المستهل من خرجت له القرعة؛ فلأن ذلك فائدتها. ولأنه لو أقرع بين العبدين اللذين أعتق أحدهما لكان الذي خرجت له القرعة هو المعتق. فكذا إذا أقرع بين التوأمين يكون من خرجت له القرعة هو المستهل. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

باب ميراث المفقود

باب ميراث المفقود قال المصنف رحمه الله: (وإذا انقطع خبره لغيبةٍ ظاهرُها السلامة؛ كالتجارة ونحوها: انتُظر به تمام تسعين سنة من يوم ولد. وعنه: ينتظر أبداً. وإن كان ظاهرها الهلاك؛ كالذي يُفقد من بين أهله، أو في مفازةٍ مهلكةٍ؛ كالحجاز، أو بين الصفين حال الحرب، أو في البحر إذا غرقت سفينته: انتُظر به تمام أربع سنين ثم يقسم ماله. وعنه: التوقف). أما كون من انقطع خبره لغيبةٍ ظاهرُها السلامة كما مثل المصنف رحمه الله تعالى ينتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد على المذهب؛ فلأن الأصل الحياة، والغالب أنه لا يعيش أكثر من ذلك. وأما كونه ينتظر أبداً على رواية؛ فلأن الأصل حياته. ولأن التقدير لا يصار إليه إلا بتوقيفٍ، ولا توقيف هنا. وأما كون من كانت غيبته ظاهرها الهلاك كما مثل المصنف رحمه الله ينتظر به تمام أربع سنين ثم يقسم ماله على المذهب؛ فلأن الصحابة اتفقت على تزويج امرأته. وإذا ثبت ذلك في النكاح مع الاحتياط للأبضاع. ففي المال أولى. ولأن الظاهر هلاكه. أشبه ما لو مضت مدة لا يعيش في مثلها. وأما كونه يتوقف فيه على روايةٍ؛ فلأن حياته وموته متعارضان. فوجب التوقف. قال رحمه الله: (فإن مات موروثه في مدة التربص: دفع إلى كل وارثٍ اليقين ووقف الباقي. فإن قدم أخذ نصيبه وإن لم يأت فحكمه حكم ماله. ولباقي الورثة أن يصطلحوا على ما زاد عن نصيبه فيقتسموه). أما كون اليقين فيما ذكر يدفع إلى كل وارثٍ؛ فلأنه مستحقٌ له على كل تقدير.

وأما كون الباقي يوقف؛ فلأنه لا يعلم مستحقه. أشبه الذي ينقص نصيبه بالحمل. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: زوجٌ وأمٌ وأختٌ وجدٌ وأخٌ مفقود. مسألة موته من سبعة وعشرين؛ لأنها الأكدرية، ومسألة حياته من ثمانية عشر سهماً موافقة بالأتساع. فاضرب تسع أحدهما في الأخرى تكن أربعة وخمسين: للزوج النصف من مسألة الحياة، والثلث من مسألة الموت فيعطى الثلث؛ لأنه اليقين، وللأم التسعان من مسألة الموت، والسدس من مسألة الحياة فتعطى السدس، وللجد ستة عشر سهماً من مسألة الموت، وتسعة من مسألة الحياة فيعطى التسعة، وللأخت ثمانية من مسألة الموت، وثلاثة من مسألة الحياة فتعطى ثلاثة، ويبقى خمسة عشر موقوفةٌ للمفقود بتقدير حياته ستة، وتسعة زائدة عن نصيبه. وأما كون المفقود إذا قدم يأخذ نصيبه؛ فلأنه وُقف من أجله، وهو المستحق له. فوجب أن يأخذه؛ كما لو كان غير مفقودٍ عند الموت. وأما كون حكم نصيبه حكم ماله إذا لم يأت؛ فلأنه محكوم له به. أشبه سائر ماله. وأما كون باقي الورثة لهم أن يصطلحوا على ما زاد عن نصيبه فيقتسموه؛ فلأنه حقهم لا يخرج عنهم. فعلى هذا للزوج وللأم والأخت والجد في المسألة المذكورة قبل أن يصطلحوا على التسعة المتقدم ذكرها؛ لأنها زائدة عن نصيب الأخ المفقود.

باب ميراث الخنثى

باب ميراث الخنثى قال المصنف رحمه الله: (وهو الذي له ذكرٌ وفرج امرأةٍ. فيعتبر بمباله. فإن بال، أو سبق بوله من ذكره فهو رجل. وإن سبق من فرجه فهو امرأة. وإن خرجا معاً اعتبر أكثرهما). أما قول المصنف رحمه الله: وهو ... إلى امرأةٍ؛ فبيان لمعنى الخنثى. وقال في المغني: أو ثُقْبٌ في مكان الفرج يخرج منه البول. كأنه لم يعتبر نفس الفرج بل أحد أمرين: إما الفرج أو ثقباً كما ذكر. وأما كون الاعتبار بمباله؛ فلأن ابن المنذر قال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الخنثى يورّث من حيث يبول: إن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سئلَ عن مولودٍ له قبل وذكرٌ من أين يورّث؟ قال: من حيثُ يَبول» (¬1). ولأنه يروى عن علي ومعاوية (¬2). ولأن البول أعم العلامات؛ لوجوده صغراً وكبراً. وأما كونه رجلاً إذا بال من ذكره، وامرأة إذا بال من فرجه؛ فلما تقدم ذكره. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 261 كتاب الفرائض، باب ميراث الخنثى. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (124) عن معاوية و (125) عن علي 1: 62 - 63 باب ما جاء في الخنثى. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (19204) 10: 308 كتاب الفرائض، خنثى ذكر. عن علي. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31355) 6: 280 كتاب الفرائض، في الخنثى يموت كيف يورث. عن علي. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 261 كتاب الفرائض، باب ميراث الخنثى. عن علي. وأخرجه الدارمي في سننه (2966 - 2966) 2: 249 كتاب الفرائض، باب في ميراث الخنثى. عن علي.

وأما كونه رجلاً إذا سبق بوله من ذكره، وامرأة إذا سبق من فرجه؛ فلأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه أتي بخنثى من الأنصار. فقال: ورِّثوه من أول ما يبول منه». وأما كونه يعتبر أكثرهما إذا خرجا معاً؛ فلأن للكثرة مزية لإحدى العلامتين. فوجب اعتبارها؛ كالسبق. قال رحمه الله: (فإن استويا فهو مشكل. فإن كان يرجى انكشاف حاله وهو الصغير أعطي هو ومن معه اليقين، ووُقف الباقي حتى يبلغ فيظهر فيه علامات الرجال: من نبات لحيته، وخروج المني من ذكره. أو علامات النساء: من الحيض ونحوه). أما كون الخنثى مشكلاً إذا استويا فيما تقدم ذكره من وجود البول فيهما، وعدم السبق، وكثرته في أحدهما؛ فلأنه حينئذٍ لا مزية لأحد أمريه على الآخر. وأما كونه يُرجى انكشاف حاله؛ فلأنه تارة يكون صغيراً فيُرجى زوال إشكاله بما ذكره المصنف رحمه الله، وتارة كبيراً لا يُرجى ذلك. وأما كون من يُرجى انكشاف حاله يعطى هو ومن معه اليقين، ويوقف الباقي حتى يبلغ فيظهر فيه العلامات المذكورة؛ فلما ذكر في مسألة الحمل. وأما كونه ينكشف حاله بالعلامات المذكورة؛ فلأن كل علامةٍ منها مختصة بصاحبها. فوجب أن يكون الحكم لها، وحينئذٍ ينكشف حاله. فيزول الإشكال. قال رحمه الله: (وإن يئس من ذلك بموته، أو عدم العلامات بعد بلوغه: أعطي نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى). أما كون الخنثى يُيأس من انكشاف حاله بالموت؛ فظاهر. وأما كونه يُيأس من ذلك بعدم العلامات بعد البلوغ؛ فلأنه إذا بلغ ولم يوجد شيء من العلامات التي ذكرها المصنف رحمه الله لا يعلم كونه رجلاً أو امرأة لوجود السبب الموجب لكونه رجلاً أو امرأة السالم عما يعارضه. وأما كونه يُعطى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى؛ فلأنه قول ابن عباس، ولم يعرف له في الصحابة منكر.

ولأن حاليه تساويا. فوجب التسوية بين حكميهما؛ كما لو تداعى نفسان داراً بأيديهما ولا بينة لهما. ولأنه إذا لم يورّث بذلك: فإما أن يورّث بأسوء حاليه، وإما أن يوقف. والأول باطل؛ لأنه ليس بأولى من توريث من معه بذلك فتخصيصه لا دليل عليه. والثاني باطل؛ لأنه لا غاية له تنتظر. وفيه تضييع المال مع يقين استحقاق الورثة له. قال رحمه الله: (فإذا كان مع الخنثى بنتٌ وابنٌ جعلتَ للبنت أقل عدد له نصف وهو سهمان، وللذكر أربعة، وللخنثى ثلاثة. وقال أصحابنا: تعمل المسألة على أنه ذكر ثم على أنه أنثى ثم تضرب أحدهما أو وفقها في الأخرى إن اتفقتا، وتجتزئ بأحدهما إن تماثلتا أو بأكثرهما إن تناسبتا، وتضربها في اثنين. ثم من له شيء من إحدى المسألتين مضروب في الأخرى أو في وفقها أو تجمع ما له منهما إن تماثلتا). أما كون البنت يجعل لها أقل عدد له نصف وهو قول القاضي واختيار المصنف؛ فلأن الخنثى له نصف ميراثها. فلم يكن بد مما ذكر؛ ليخرج النصف المذكور بلا كسر. وأما كون ذلك سهمين؛ فظاهر. وأما كون الذكر له أربعة؛ فلأن له مثلي ما للأنثى. وأما كون الخنثى له ثلاثة؛ فلأن له نصف ميراث أنثى وهو سهم ونصف ميراث ذكر وهو سهمان. وأما كون المسألة تُعمل على أنه ذكرٌ ثم على أنه أنثى على قول أصحابنا؛ فلأنه له حالين. فلم يكن بُدٌّ من اعتبارهما. وأما كون أحدهما يضرب في الأخرى إن تباينتا ويضرب وفق أحدهما في الأخرى إن اتفقتا ويجتزئ بأحدهما إن تماثلتا أو بأكثرهما إن تناسبتا؛ فلما تقدم في مسألة غير الخنثى. وأما كون ما بلغ من ذلك على اختلاف أنواعه يضرب في اثنين فلأجل الحالين. فإن قيل: ما مثال المسائل المذكورة؟

قيل: أما مع التباين فابنٌ وبنتٌ وخنثى. مسألة الذكورية من خمسة، والأنوثية من أربعة. اضرب خمسة في أربعة تكن عشرين، ثم في اثنين تكن أربعين: للخنثى من مسألة الذكورية اثنان في أربعة بثمانية. ومن مسألة الأنوثية سهم في خمسة بخمسة المجموع ثلاثة عشر. وأما مع التوافق فزوجٌ وأمٌ وولد أبٍ خنثى. مسألة الذكورية من ستة: للزوج النصف، وللأم الثلث، والباقي لولد الأب. ومسألة الأنوثية من ثمانية: للزوج والأم ما ذكر قبل، ولولد الأب النصف ثلاثة، وبين الستة والثمانية موافقة بالأنصاف فاضرب ستة في أربعة تكن أربعة وعشرين، ثم في حالين تكن ثمانية وأربعين: للزوج من مسألة الذكورية ثلاثة في أربعة باثني عشر. ومن مسألة الأنوثية ثلاثة في ثلاثة بتسعة، ومجموع ذلك أحد وعشرون، وللأم من مسألة الذكورية سهمان في أربعة بثمانية. ومن مسألة الأنوثية سهمان في ثلاثة بستة، والمجموع أربعة عشر، وللخنثى من مسألة الذكورية سهم في أربعة بأربعة. ومن مسألة الأنوثية ثلاثة في ثلاثة بتسعة، والمجموع ثلاثة عشر. وأما مع التماثل فزوجةٌ وولدٌ خنثى وعمٌ. مسألة الذكورية من ثمانية؛ لأن فيها ثمناً وما بقي. ومسألة الأنوثية كذلك؛ لأن فيها ثمناً ونصفاً وما بقي فاجتزئ بأحدهما ثم اضربها في حالين تكن ستة عشر: للزوجة منها سهمان، وللخنثى من الأولى سبعة، ومن الثانية أربعة صار ذلك أحد عشر، وللعم من الثانية ثلاثة، ولا شيء له من الأولى؛ لأن كون الخنثى ذكراً يسقطه. وأما مع التناسب فأمٌ وبنتٌ وولدٌ خنثى وعمٌ. مسألة الذكورية من ستة، وتصح من ثمانية عشر. ومسألة الأنوثية من ستة، وتصح منها وهي تناسب الأولى بالثلث فاجتزئ بأكثرهما وهو هنا ثمانية عشر، ثم اضرب ذلك في حالين تكن ستة وثلاثين، ثم من له شيء من أقل العددين مضروبٌ في مخرج نسبة أقل المسألتين إلى الأخرى، ثم تضاف إلى ماله من أكثرهما. فعلى هذا للأم من مسألة الأنوثية سهم مضروب في مخرج نسبتها إلى مخرج مسألة الذكورية وهو ثلاثة تكن ثلاثة، ثم يضاف ذلك إلى ما لها من مسألة الذكورية وهو ثلاثة تكن ستة، وللبنت منها سهمان مضروبان في ثلاثة تكن ستة،

ثم يضاف ذلك إلى ما لها من مسألة الذكورية وهو خمسة تكن أحد عشر، وللخنثى من مسألة الأنوثية سهمان مضروبان في ثلاثة تكن ستة، ثم يضاف إلى ما له من مسألة الذكورية وهو عشرة تكن ستة عشر، وللعم من مسألة الأنوثية سهم مضروب في ثلاثة تكن ثلاثة، ولا شيء له من مسألة الذكورية؛ لأن الذكر يحجبه. وأما قول المصنف رحمه الله: ثم من له شيء من إحدى المسألتين مضروب في الأخرى أو في وفقها؛ فبيان لطريق استخراج نصيب كل واحدٍ في مسألتي التباين والتوافق. وقد اتضح ذلك بما ذكرته في كل واحدةٍ منها. وأما قوله: أو تجمع ماله منهما إن تماثلتا؛ فبيان لطريق استخراج نصيب كل واحدٍ في مسألة التماثل. وقد اتضح ذلك أيضاً بما ذكرته فيها. ولم يذكر المصنف رحمه الله طريق استخراج نصيب كل واحدٍ في مسألة التناسب وقد ذكرته فتنبّه له واعمل به. قال رحمه الله: (وإن كانا خنثيين أو أكثر نزّلتهم بعدد أحوالهم. وقال أبو الخطاب: تنزّلهم حالين: مرة ذكوراً، ومرة إناثاً. والأول أولى). أما كون الخنثيين أو أكثر ينزّلون بعدد أحوالهم على قول غير أبي الخطاب؛ فلأنه أعدل؛ لإعطاء كل واحدٍ بحسب ما فيه من الاحتمال. فتجعل للاثنين أربعة أحوال، وللثلاثة ثمانية، وللأربعة ستة عشر، وللخمسة اثنان وثلاثون حالاً، ثم تجمع ما لهم في الأحوال كلها وتقسم على قدر أحوالهم. مثال ذلك في الخنثيين: ابن وخنثيان. مسألة الذكورية من ثلاثة لكل خنثى سهم. ومسألة الأنوثية من أربعة لكل خنثى سهم. ومسألة ذكورية أحدهما وأنوثية الآخر من خمسة: للمقدر ذكوريته سهمان، وللآخر سهم وبالعكس فاجتزئ بإحدى الصورتين المقدّر فيها ذكورية أحدهما وأنوثية الآخر؛ لتماثلهما، واضرب بقية الأحوال بعضها في بعض؛ لتباينها تكن ستين، ثم اضرب ذلك في عدد الأحوال تكن مائتين وأربعين. وإذا أردت القسمة فاجمع نصيب الخنثيين في الأحوال الأربعة من الستين تجده مائة واثنين وأربعين؛ لأن لهما في حال الذكورية ثلثي المال وهو أربعون، وفي حال الأنوثية نصف المال وهو ثلاثون، وفي حال يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى ثلاثة أخماس المال وهو ستة وثلاثون، ومن الحال الأخرى كذلك. وإذا جمعت ذلك

يكون المجموع ما ذكر، ثم اقسم ذلك على أربعة تكن خمسة وثلاثين ونصفاً: لكل واحدٍ سبعة عشر ونصف وربع، ثم اضرب نصيب كل واحدٍ في أربعة يصبح لكل خنثى أحد وسبعون، وللابن ثمانية وتسعون. وعلى هذا فقس. ومثال ذلك في ثلاث خناثى: ابنٌ وثلاث خناثى. مسألة الذكورية من أربعة، والأنوثية من خمسة، وذكورية الأكبر وأنوثية الآخرين من ستة، وذكوريته وذكورية الأوسط وأنوثية الآخر من سبعة، وذكوريته وذكورية الأصغر وأنوثية الأوسط من سبعة، وأنوثية الأكبر وذكورية الآخرين من سبعة، وأنوثية الأكبر والأوسط وذكورية الآخر من ستة، وأنوثيته وأنوثية الأصغر وذكورية الأوسط من ستة. اجتزئ بالستة عما يماثلها وكذا السبعة يبقى أربعة وخمسة وستة وسبعة اضرب بعضها في بعض تكن أربعمائة وعشرين. ثم اضرب ذلك في ثمانية تكن ثلاثة آلاف وثلثمائة وستين. وإذا أردت القسمة فاجمع نصيب الخناثى من الأحوال كلها تكن ألفين وثلثمائة وسبعة؛ لأن لهم من مسألة الذكورية ثلاثة أرباع المال وهو من أربعمائة وعشرين ثلثمائة وخمسة عشر. ومن مسألة الأنوثية ثلاثة أخماسه وهو مما ذكر مائتان واثنان وخمسون. ومن مسألة ذكورية الأكبر فقط ثلثاه وهو مائتان وثمانون. ومن مسألة ذكوريته وذكورية الأوسط خمسة أسباعه وهو ثلثمائة. ومن مسألة ذكوريته وذكورية الأصغر كذلك. ومن مسألة أنوثيته فقط كذلك. ومن مسألة أنوثيته وأنوثية الأوسط ثلثاه. ومن مسألة أنوثيته وأنوثية الأصغر كذلك. وإذا جمعت ذلك يكون المجموع ما ذكر، ثم اقسم ذلك على ثمانية تكن مائتين وثمانية وثمانين وربعاً وثمناً لكل خنثى ستة وتسعون وثمن. ثم اضرب ذلك في ثمانية يكن سبعمائة وسبعة وستين، وللابن ألف وثلاثة وخمسون. وأما كونهم ينزلون حالين فقط على قول أبي الخطاب؛ فلأنه هكذا في الواحد فكذا فيما زاد عليه. وعمل أبو الخطاب الأولى في التهذيب فقال لهما في حال الذكورية ثلثا المال، وفي حال الأنوثية نصفه فاجمع لهما نصف ذلك وهو ثلث المال وربعه، وتصح من أربعةٍ وعشرين: لكل خنثى سبعة، وللابن عشرة. وعمل الثانية فقال: لهم في حال الذكورية: ثلاثة أرباع المال. وفي حال الأنوثية: ثلاثة

أخماسه فاجمع لهم نصف ذلك يكن ربع المال وثمنه وخمسه وعشره. وتصح من ثمانين: لكل خنثى ثمانية عشر، وللابن ستة وعشرون. وعلى هذا فقس.

باب ميراث الغرقى ومن عمي موتهم

باب ميراث الغرقى ومن عمي موتهم الغرقى جمع غريق. ومعنى عَمِيَ: خَفي. وفيه حذف تقديره: ومن عمي كيفية موتهم. والمراد بهم: ما أشبه الغرقى من الهدمى وغيرهم. قال المصنف رحمه الله: (إذا مات متوارثان وجهل أولهما موتاً؛ كالغرقى والهدمى واختلف ورّاثهما في السابق منهما فقد نقل عن أحمد رحمه الله في امرأةٍ وابنها ماتا. فقال زوجها: ماتت فورثناها، ثم مات ابني فورثته. وقال أخوها: مات ابنها فورثته ثم ماتت فورثناها: أنه يحلف كل واحدٍ منهما على إبطال دعوى صاحبه، ويكون ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين. ذكرها الخرقي. وهذا يدل على أنه يقسّم ميراث كل ميتٍ للأحياء من ورثته دون من مات معه. وظاهر المذهب: أن كل واحدٍ من الموتى يرث صاحبه من تلاد ماله دون ما ورثه من الميت معه). أما كون ميراث كل ميتٍ يقسّم للأحياء من ورثته دون من مات معه على ما ذكره الخرقي رحمه الله في المسألة المذكورة الدالة عليه؛ فلأنه يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وزيد وابن عباس والحسن بن علي رضي الله عنهم. وأما كون كل واحدٍ من الموتى يرث صاحبه على ظاهر المذهب من تلاد ماله وهو ماله بالأصالة دون ما ورثه من الميت معه. وتسمى طارفة؛ فلأنه قول عمر وعلي. قال الشعبي: «وقع الطاعون بالشام عام عمواس فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم. فكتب إلى عمر في ذلك فكتب: أن ورثوا بعضهم من بعض» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (232) 1: 85 كتاب الفرائض، باب الغرقى والحرقى.

ولأنه يروى عن إياس بن عبد المزني «أن النبي صلى الله عليه وسلم سًئلَ عن قوم وقع عليهم بيت. فقال: يرث بعضهم بعضاً» (¬1). وأجاب بعض أصحابنا عن قول أحمد رحمه الله في امرأة وابنها بأنه يحتمل اختصاصه بما إذا ادعى وارث كلِّ ميتٍ بأن موروثه كان آخرهما موتاً؛ لأن مع التداعي تتوجه اليمين على المدعى عليه. وظاهر كلام المصنف رحمه الله ترجيح توريث الأحياء. واحتج في المغني بأمور: منها: أن قتلى اليمامة وصفين والحرة لم يورّث بعضهم من بعض. ومنها: ما روى جعفر بن محمد عن أبيه: «أن أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه توفيت هي وابنها. فالتقت الصيحتان في الطريق. فلم يدر أيهما مات قبل صاحبه. فلم ترثه ولم يرثها» (¬2). ومنها: أن شرط التوارث حياة الوارث بعد موت الموروث وهو غير معلوم. فلا يثبت التوارث مع الشك في شرط. ولأنه لم تعلم حياته حين موت موروثه. فلم يرثه؛ كالحمل إذا وضعته ميتاً. ولأن الأصل عدم التوارث. فلا يثبت بالشك. ولأن توريث كل واحدٍ منهم خطأ يقيناً؛ لأنه يحتمل أن يكون مَوْتُهما معاً. وقال جواباً عن حديث إياس المتقدم: الصحيح أن هذا إنما هو عن إياس نفسه وأنه هو المسؤول. وليس يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا (¬3). رواه سعيد في سننه. قال: (فيقدر أحدهما مات أولاً ويورّث الآخر منه، ثم يقسّم ما ورثه منه على الأحياء من ورثته، ثم يصنع بالثاني كذلك. فعلى هذا لو غرق أخوان أحدهما ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (234) الموضع السابق. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (19159) 10: 297 كتاب الفرائض، باب الغرقى. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31329) 6: 277 كتاب الفرائض، في الغرقى من كان يورث بعضهم من بعض. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (240) 1: 86 كتاب الفرائض، باب الغرقى والحرقى. (¬3) ر تخريج الحديث السابق.

مولى زيدٍ والآخر مولى عمروٍ صار مال كل واحدٍ منهما لمولى الآخر. وعلى القول الأول مال كل واحدٍ منهما لمولاه. وهو أحسن إن شاء الله تعالى). أما قول المصنف: فيقدر ... إلى قوله: كذلك؛ فبيان لصفة توريث كل واحدٍ من الموتى. وأما قوله: فعلى هذا ... إلى آخره؛ فبيان لصورة من صور الحكم المذكور. وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنه إذا قدّر موت مولى زيد أوّلاً استحق ميراثه أخوه ثم يدفع ذلك إلى ورثته الأحياء وهو مولاه. فصار مال مولى زيدٍ لعمروٍ. وهكذا يقدر في مولى عمرو. وأما قوله: وعلى القول الأول مال كل واحد لمولاه؛ فبيان لما يتفرع على القول المذكور. والمراد به ما تقدم من أنه يقسّم ميراث كل ميتٍ للأحياء من ورثته دون من مات معه. وإنما كان مال كل واحدٍ لمولاه على ذلك؛ لأن الحي من ورثته مولاه. وأما قوله: وهو أحسن إن شاء الله؛ فترجيح لذلك. وقد تقدم نقلاً ودليلاً. فإن قيل: اذكر من مسائل ذلك شيئاً للإيضاح. قيل: منها: ما إذا خلّف كل واحدٍ من الأخوين المذكورين بنتاً وزوجةً. فمن لم يورث بعضهم من بعضٍ صحح مسألة كل واحدٍ من ثمانية: لامرأته الثمن، ولابنته النصف، والباقي لمولاه. ومن ورثهم جعل الباقي لأخيه، ثم قسّمه بين ورثة أخيه على ثمانية، ثم اضربها في الثمانية الأولى. فصحت من أربعة وستين: لامرأته ثمانية، ولابنته اثنان وثلاثون، ولامرأة أخيه ثمن الباقي ثلاثة، ولابنته اثنا عشر، ولمولاه الباقي تسعة. ومن ذلك: أخوان غرقا أحدهما أكبر من الآخر، وخلّف الأكبر بنتاً، والأصغر بنتين، ولهما أمٌ وعمٌ. فمن ورث كل واحدٍ من صاحبه قدّر موت الأكبر أوّلاً. فماله بين ورثته وهم: بنته وأمه وأخوه، ولا شيء لعمه. المسألة من ستة: لأمه سهم، ولابنته ثلاثة، ولأخيه سهمان بين ورثته وهم: ابنتاه وأمه وعمه مسألته من ستة وسهمان على ستة لا تصح وتوافق بالأنصاف فاضرب ستة في ثلاثة تكن ثمانية عشر: لأمه ثلاثة، ولابنته تسعة، ولأخيه ستة: لأمه سهم، ولابنتيه أربعة، ولعمه

سهم. ثم قدّر موت الأصغر أولاً مسألته من ستة: لابنتيه أربعة، ولأمه سهم، ولأخيه الباقي وهو سهم بين ورثته وهم: أمه وابنته وعمه فمسألته من ستة وسهم لا تصح ولا توافق فاضرب ستة في ستة تكن ستة وثلاثين: لابنتيه أربعة وعشرون، ولأمه ستة، ولأخيه ستة: لابنته ثلاثة، ولأمه سهم، ولعمه سهمان. فمجموع ما للأم أربعة من مال الأكبر، وسبعة من مال الأصغر، ومجموع ما للعم من الأكبر سهم، ومن الأصغر سهمان. ومجموع ما لبنت الأكبر اثنا عشر: تسعة من أبيها، وثلاثة مما ورث أبوها. ولابنتي الأصغر أربعة وعشرون من أبيهما، وأربعة مما ورث أبوهما من أخيه. ومن جعل الميراث للأحياء دون الأموات جعل مال الأكبر لابنته وأمه وعمه فمسألته من ستة: ثلاثة لابنته، وسهم لأمه، وسهمان لعمه. و [من] (¬1) جعل مال الأصغر لابنتيه وأمه وعمه فمسألته أيضاً من ستة: لابنتيه أربعة، ولأمه سهم، ولعمه سهم. وعلى هذا فقس. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

باب ميراث أهل الملل

باب ميراث أهل الملل الملل: جمع ملة. وهي الطريقة. قال رحمه الله: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. إلا أن يسلم قبل قسم ميراثه فيرثه. وعنه: لا يرثه. وإن عتق عبدٌ بعد موت موروثه وقبل القسم لم يرث وجهاً واحداً). أما كون المسلم لا يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم إذا لم يسلم قبل قسم ميراثه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ» (¬1). متفق عليه. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارثُ أهل ملتين شتى» (¬2). رواه أبو داود. وأما كون الكافر إذا أسلم قبل قسم ميراث موروثه يرث على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلمَ على شيءٍ فهوَ لَه» (¬3) رواه سعيد. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل قَسْم قُسِمَ في الجاهليةِ فهوَ على ما قُسِمَ. وكل قَسْمٍ أدركَهُ الإسلامُ. فإنه على قَسْمِ الإسلام» (¬4) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6383) 6: 2484 كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1614) 3: 1233 كتاب الفرائض. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2911) 3: 125 كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2731) 2: 912 كتاب الفرائض، باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (189 - 190) 1: 76 كتاب الفرائض، باب من أسلم على الميراث قبل أن يقسم. عن عروة بن الزبير. وعن ابن أبي مليكة. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2914) 3: 126 كتاب الفرائض، باب فيمن أسلم على ميراث. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2485) 2: 831 كتاب الرهون، باب قسمة الماء.

و «لأن عمر وعثمان قضيا أن من أسلم على ميراث قبل أن يقسم فله نصيبه» (¬1). وكان ذلك بمحضرٍ من الصحابة ولم ينكر. فكان إجماعاً. وأما كونه لا يرث على روايةٍ؛ فلعموم ما تقدم. والأول هو الصحيح؛ لما ذكر. ولأن فيه ترغيباً في الإسلام وحثاً على الدخول فيه وذلك مطلوب شرعاً. وأما كون العبد إذا عتق بعد موت موروثه وقبل القسم لا يرث وجهاً واحداً؛ فلأن مقتضى الدليل عدم إرث من فيه مانعٌ منه حين الموت. خولف في الكافر إذا أسلم على المذهب؛ لما ذكر. فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. وقياس العتق على الإسلام لا يصح لوجهين: أحدهما: أن العتق ليس من اختيار المعتق. فليس في الحكم بإرثه حثٌّ له على ذلك. بخلاف الإسلام فإنه من اختيار من أسلم، وفي الحكم بإرثه حثٌّ له على الدخول فيه. وثانيهما: أن الإسلام أعظم القرب والطاعات فلا يقاس عليه ما ليسَ في معناه. قال رحمه الله: (ويرثُ أهل الذمة بعضهم بعضاً إن اتفقت أديانهم، وهم ثلاث ملل: اليهودية، والنصرانية، ودين سائرهم). أما كون أهل الذمة يرث بعضهم بعضاً إذا اتفقت أديانهم؛ فلأن المانع من الإرث اختلاف الدين وهو غير موجود. فوجب الحكم بالإرث عملاً بالمقتضي له السالم عن المعارض. وأما كون أهل الذمة ثلاث ملل؛ فلأن اليهودية ملة، والنصرانية ملة، ودينُ سائرهم ملة. أما كون كل واحدةٍ من اليهودية والنصرانية ملة فظاهر؛ لأن لكل واحدةٍ منهما كتاباً وأحكاماً وشرائع غير الأخرى. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (9894) 6: 26 كتاب أهل الكتاب، المسلم يموت وله ولد نصراني. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عثمان مختصرا (185) 1: 75 كتاب الفرائض، باب: من أسلم على الميراث قبل أن يقسم.

وأما كون دين سائرهم ملةً ثالثةً؛ فلأنهم يشملهم كونهم لا كتاب لهم. فعلى هذا لا يرث يهودي نصرانياً، ولا مجوسياً ولا وثنياً، ولا نصراني يهودياً ولا وثنياً ولا بالعكس؛ لاختلاف الملة. قال رحمه الله: (وإن اختلفت لم يتوارثوا. وعنه: يتوارثون. ولا يرث ذمي حربياً ولا حربي ذمياً ذكره القاضي. ويحتمل: أن يتوارثا). أما كون من اتحدت ملتهم واختلف دينهم؛ كالمجوس وعبدة الوثن وما أشبه ذلك يتوارثون على المذهب؛ فلأن العمومات من النصوص للإرث تقتضي توريثهم، ولم يرد بتخصيصهم نصٌ ولا إجماعٌ. ولا يصح قياسهم على غيرهم. فوجب العمل بالعموم. ولأن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يَتوارثُ أهلُ ملتين شتّى» (¬1) يدل بمفهومه على أن الملة الواحدة يتوارثون. ولأن ضبط التوريث بالإسلام والكفر دليل على أن العبرة باختلاف الملل. وأما كونهم لا يتوارثون على روايةٍ؛ فلأن دينهم مختلف. أشبه اختلاف الملل. وأما كون الذمي لا يرث حربياً ولا الحربي ذمياً على ما ذكره القاضي؛ فلأن الموالاة منقطعةٌ بينهما. وأما كونهما يحتمل أن يتوارثا؛ فلأن ملتهما واحدة. فوجب أن يتوارثا؛ كالذمي من الذمي، والحربي من الحربي. قال رحمه الله: (والمرتد لا يرث أحداً. إلا أن يسلم قبل قسم الميراث. فإن مات في ردته فماله فيء. وعنه: أنه لورثته من المسلمين. وعنه: أنه لورثته من أهل الدين الذي اختاره). أما كون المرتد لا يرث أحداً إذا لم يسلم قبل قسم الميراث؛ فلأنه ليس بمسلمٍ حتى يرث المسلم، وليس حكمه مساوياً للكافر حتى يرث الكافر. بيان عدم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

المساواة: أن المرتد لا يُقَر على كفره، ولا تحل ذبيحته، ولا نكاح نساء من انتقل إلى دينهم. ولأن المرتد تزول أملاكه الثابتة له أو استقرارها. فلئلا يثبت له ملكٌ بطريق الأولى. وأما كونه يرثه إذا أسلم قبل قسم الميراث؛ فلما تقدم في الكافر الأصلي. وأما كون ماله إذا قتل في ردته فيئاً على المذهب؛ فلما يأتي. وأما كونه لورثته من المسلمين على روايةٍ؛ فلأنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم. قال زيد بن ثابت: «بعثني أبو بكر رضي الله عنه عند رجوعه إلى أهل الردة أن اقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين». ولأن ردته ينتقل بها ماله. فوجب أن ينتقل إلى ورثته المسلمين؛ كما ينتقل بالموت. وأما كونه لورثته [من أهل] الدين [الذي] (¬1) اختار دينهم؛ فلأنه كافر فورثته. أهل دينه؛ كالحربي وسائر الكفار. والأول أصح؛ لأنه لا يستحق ميراثه المسلم ولا من انتقل إلى دينه. فوجب جعله فيئاً؛ كمال من لا وارث له. أما كونه لا يستحقه المسلم؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرثُ المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ» (¬2)، وقال: «لا يَتوارثُ أهلُ مِلتين شتّى» (¬3). ولأنه كافر فلا يرثه مسلم؛ كالكافر الأصلي. ولأن ماله ملك مرتد. أشبه الذي كسبه في ردته. وأما كونه لا يستحقه أهل دينه الذي اختاره؛ فلأنه لا يرثهم. فوجب أن لا يرثوه؛ كغيرهم من أهل الأديان. ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأنه يخالفهم في حكمهم فإنه لا يقر، ولا تحل ذبيحته ولا نكاحه لو كان امرأة.

فصل [في حكم ميراث المجوس] قال المصنف رحمه الله: (وإن أسلم المجوس أو تحاكموا إلينا ورّثوا بجميع قراباتهم. فإذا خلّف أمه وهي أخته من أبيه وعماً ورثت الثلث بكونها أماً، والنصف بكونها أختاً، والباقي للعم. فإن كان معهما أختٌ أخرى لم ترث بكونها أماً إلا السدس؛ لأنها انحجبت بنفسها وبالأخرى). أما كون المجوس إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا (¬1) يورّثون بجميع قراباتهم؛ فلأنه قول عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس. ولأن الله تعالى فرض للأم الثلث، وللأخت النصف. فإذا كانت الأم أختاً وجب إعطاؤها ما فرض الله لها في الآيتين؛ كالشخصين. ولأنهما قرابتان ترث بكل واحدةٍ منهما منفردةً لا تحجب أحدهما الأخرى ولا ترجيح فيهما. فوجب أن ترث بهما مجتمعين؛ كالزوج إذا كان ابن عم (¬2)، وابن العم إذا كان أخاً لأم، وكذا ذو الرحم (¬3) المدلي بقرابتين. [وأما كون الأم ترث الثلث والنصف إذا خلف أمه وهي أخته من أبيه؛ فلأن الأم فرضها الثلث، والأخت فرضها النصف؛ لما تقدم] (¬4). وأما كون الباقي للعم؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» (¬5). وأما كون الأم لا ترث بكونها أماً إلا السدس إذا كان معها أخت أخرى؛ فلما ذكر المصنف من أنها انحجبت بنفسها وبالأخرى. وذلك أنه قد تقدم أن الأم ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) إلى هنا نهاية السقط من أ. (¬3) في أ: وكذا الرحم. (¬4) ساقط من أ. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

تنحجب من الثلث إلى السدس بالأختين، وأن الأم ترث هنا؛ لكونها أختاً فيكون في المسألة أختان، وذلك يوجب أن لا ترث الأم إلا السدس؛ لأنه كما جاز أن ترث بالجهتين جاز أن تنحجب بالجهة التي ترث بها إذا كان مثلها تحجب. وفي هذا الباب مسائل لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى؛ لقلة وقوعها. واللائق أن يذكر بعضها ليتضح طريق ذلك: - منها: مجوسي تزوج ابنته فأولدها بنتاً ثم مات عنها (¬1) وعن عم: فللبنتين الثلثان، والباقي للعم. وتصح من ثلاثة. ولا ترث الكبرى بالزوجية شيئاً؛ لما يأتي بعد إن شاء الله تعالى. فإن ماتت الكبرى فللصغرى المال كله؛ لأنها بنتها وأختها. وإن ماتت الصغرى أولاً فللكبرى النصف والثلث؛ لأنها أمٌ وأخت (¬2)، والباقي لعم الأب. - ومنها: مجوسي تزوج أمه فأولدها بنتاً ثم مات فلأمه السدس، ولابنته النصف. ولا ترث أمه بالزوجية شيئاً؛ لما يأتي، ولا ابنته؛ لكونها أختاً لأم؛ لأن ولد الأم يسقط بالولد وهو موجود هنا فيكون إذاً قد حجَبت نفسها بنفسها. فإن ماتت الكبرى بعده فقد خلّفت بنتاً هي بنت ابن فلها الثلثان بالقرابتين. فإن ماتت الصغرى بعده فقد خلّف أماً هي أم أب فلها الثلث بالأمومة لا غير؛ لأن الجدة من كل جهةٍ تحجب الأم فتكون إذاً قد حجبت نفسها بنفسها. - ومنها: مجوسي تزوج ابنته فأولدها بنتاً، ثم تزوج ابنته الصغرى فأولدها بنتاً، ثم مات وماتت الكبرى بعده فقد خلّفت أختيها لأبيها أحدهما بنتها والأخرى بنت بنتها: فلبنتها النصف، والباقي بينهما؛ لكونهما أختين. ولا ترث الأخت الأخرى؛ لكونها بنت بنت؛ لأن بنت البنت تحجب بالبنت (¬3) وهي موجودة هنا. ولأن بنت البنت من ذوي الأرحام وهي لا ترث مع ذي فرض. وإن ماتت الوسطى فقد خلّفت أختيها أحدهما أمها والأخرى بنتها: فلأمها السدس، ولبنتها النصف، والباقي بينهما؛ لكونهما أختين. فإن ماتت الصغرى بعده ¬

_ (¬1) في المبدع: عنهما 6: 237. (¬2) في أ: وبنت. (¬3) في أ: البنت.

فقد خلّفت أختيها لأبيها أحدهما أمها، والأخرى جدتها: فلأمها السدس، والباقي بينهما؛ لكونهما أختين وقد انحجبت الأم بنفسها وبأمها عن السدس. ولا ترث الجدة؛ لوجود الأم. قال: (ولا يرثون بنكاح ذوات المحارم، ولا بنكاحٍ لا يقرون عليه لو أسلموا). أما كون المجوس لا يرثون بنكاح ذوات المحارم؛ كرجلٍ تزوج أمه أو بنته أو أخته أو ما أشبه ذلك؛ فلأنه لا خلاف في ذلك. قال المصنف في المغني: لا نعلم خلافاً بين المسلمين في أنهم لا يرثون بنكاح ذوات المحارم. وأما كونهم لا يرثون بنكاحٍ لا يُقرون عليه في الإسلام؛ كمن تزوج مطلقة ثلاثاً؛ فلأنه باطل لا يقر عليه فلم يترتب عليه إرث؛ كالمسلم الذي نكاحه باطل. وفي تقييد المصنف رحمه الله تعالى عدم الإرث بنكاحٍ لا يقر عليه إشعار بالتوارث بنكاحٍ يقر عليه؛ كمن تزوج امرأة بغير شهود؛ لأنه نكاح يقر عليه. فوجب أن يترتب الإرث عليه؛ كالأنكحة الصحيحة. وفي بعض الأنكحة خلاف في استحقاق الإرث مبني على الخلاف في أنه هل يقر عليه أم لا؟ . من ذلك: مجوسي تزوج امرأة في عدتها فظاهر كلام الإمام أحمد أنهما يتوارثان؛ لأنه قال: إذا أسلما وقد نكحها في العدة أُقرّا عليه. وقال القاضي: إن أسلما بعد انقضاء العدة أُقرّا، وإن أسلما قبله لم يُقرّا. فعلى هذا إن مات أحدهما قبل انقضاء العدة لم يتوارثان، وإن مات بعده توارثا. وتأوّل القاضي كلام أحمد على من أسلم بعد انقضاء العدة.

باب ميراث المطلقة

باب ميراث المطلقة قال المصنف رحمه الله تعالى: (إذا طلّقها في صحته، أو مرضٍ غير مخوفٍ، أو غير مرض الموت طلاقاً بائناً: قطع التوارث بينهما، وإن كان رجعياً لم يقطعه ما دامت في العدة). أما كون الطلاق البائن يقطع التوارث بين الزوجين في الأحوال الثلاثة المتقدم ذكرها؛ فلأن التوارث سببه الزوجية، وهي معدومةٌ هاهنا. وأما كون الطلاق الرجعي لا يقطع ذلك ما دامت في العدة؛ فلأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه، ويملك إمساكها بغير رضاها، ولا ولي، ولا شهود، ولا صداق جديد. قال: (وإن طلّقها في مرض الموت المخوف طلاقاً لا يتهم فيه بأن سألته الطلاق، أو علّق طلاقها على فعل لها منها بد ففعلته، أو علّقه في الصحة على شرطٍ فوجد في المرض، أو طلّق من لا ترث كالأمة والذمية فعتقت وأسلمت: فهو كطلاق الصحيح في أصح الروايتين). أما كون الطلاق في الصور المذكورة؛ كطلاق الصحيح في قطع التوارث على روايةٍ؛ فلأن مقتضى الدليل المنع من الإرث لحصول البينونة بالطلاق. ترك ذلك فيمن قصد حرمانها الإرث لمعارضته بنقيض قصده، وللحديث الآتي ذكره (¬1) فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. وأما كونه ليس كذلك على روايةٍ؛ فلأنه طلاق في مرضٍ (¬2). أشبه الطلاق الآتي ذكره. ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) في أ: فلأن طلاق في مرضه.

وأما كون الصحيح الأول؛ فلما تقدم من أن مقتضى الدليل قطع الطلاق الإرث. ترك العمل به في الطلاق الآتي ذكره. فيبقى فيما عداه مع أنه لا يصح إلحاقه؛ لقيام الفرق بينهما، وهو وجود التهمة في الآتي دون الطلاق المذكور. قال: (وإن كان متّهماً بقصد حرمانها الميراث؛ مثل: أن يطلقها ابتداءً، أو علّقه على فعلٍ لا بد لها منه؛ كالصلاة ونحوها ففعلته، أو قال للذمية أو للأمة: إذا أسلمت أو عتقت فأنت طالق، أو علم أن سيد الأمة قال لها: أنت حرة غداً فطلقها اليوم: ورثته ما دامت في العدة ولم يرثها. وهل ترثه بعد العدة أو ترثه المطلقة قبل الدخول؟ على روايتين. فإن تزوجت لم ترثه). أما كون المطلّقة ترث الزوج إذا كان متهماً في طلاقها؛ فـ «لأن عثمان رضي الله عنه ورّث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبدالرحمن بن عوف، وكان طلقها في مرضه فبتّها» (¬1). واشتهر ذلك في الصحابة. فلم ينكر فكان إجماعاً. ويروى أن عثمان قال لعبدالرحمن: لئن مت لأورثنها منك. قال: قد علمت ذلك. ولأنه قصد قصداً فاسداً في الميراث. فعورض بنقيض قصده؛ كالقاتل القاصد استعجال الميراث. وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: مثل إن طلقها ... إلى قوله: ورثته؛ فتعداد لصور الطلاق المتهم فيه. أما كون طلاقها ابتداءً منها؛ فللحديث المذكور. وأما كون تعليقه على فعل لا بد لها منه؛ كالصلاة منها؛ فلأنها تضطر إلى فعل ذلك. فتعليقه عليه؛ كتنجيزه. وأما كون تعليقه طلاق الذمية والأمة على إسلامها وعتقها منها؛ فلأن قصد الحرمان ظاهرة فيه؛ لكونه رتّب الطلاق على الموجب للإرث. وأما كون طلاقه الأمة اليوم إذا علم أن سيدها قال لها: أنت حرة غداً منها؛ فلأن الظاهر أن الحامل على الطلاق صيرورتها حرة غداً. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 362 كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في توريث المبتوتة في مرض الموت.

وأما كون الزوج لا يرث الزوجة في الصورة المذكورة؛ فلأن مقتضى البينونة قطع التوارث. خولف في الزوجة للحديث، ومعارضة لقصده. فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. وأما كون المطلقة ترث المطلق بعد انقضاء العدة (¬1) بأحد الأسباب المتقدم ذكرها على روايةٍ؛ فلما روى أبو سلمة بن عبدالرحمن: «أن أباه طلّق أمه وهو مريضٌ فمات فورثته بعد انقضاء العدة» (¬2). ولأن سبب توريثها فراره من (¬3) ميراثها، وهو موجود هنا. وأما كونها لا ترثه على روايةٍ؛ فلأنها تباح لزوجٍ آخر فلم ترثه؛ كما لو كان الطلاق في الصحة. ولأن توريثها بعد العدة يفضي إلى توريث أكثر من أربع نسوة. فلم يجز؛ كما لو تزوجت. فإن قيل: ما الصحيح من هاتين الروايتين؟ قيل: الأول. عملاً بالحديث والمعنى. قال المصنف في المغني: المشهور عن أحمد أنها ترثه في العدة وبعدها ما لم تتزوج. وأما كون المطلقة قبل الدخول ترث المطلق على روايةٍ ولا ترثه على روايةٍ؛ فلأنها كالتي انقضت عدتها معنى. فكذا يجب أن تكون حكماً. وأما كون من انقضت عدتها ومن لا عدة عليها لا ترثه إذا تزوجت؛ فلأنها ترث زوجها الثاني فلا ترث الأول؛ لأن الإرث من حكم النكاح. فلا يجوز اجتماعه مع نكاحٍ آخر؛ كالعدة. ولأنها فعلت باختيارها ما ينافي نكاح الأول. أشبه ما لو كان فسخ النكاح من جهتها. ¬

_ (¬1) في أ: وأما كون المطلقة ترث بعد انقضاء العدة المطلق. (¬2) أخرجه مالك في الطلاق، باب طلاق المريض 2: 448/ 40. (¬3) في أ: في.

قال: (وإن أكره الابنُ امرأة أبيه في مرض أبيه على ما يفسخ نكاحها لم يقطع ميراثها. إلا أن تكون له امرأة سواها. وإن فعلت في مرض موتها ما يفسخ نكاحها لم يسقط ميراث زوجها). أما كون إكراه الابن امرأة أبيه في مرض أبيه (¬1) على ما يفسخ نكاحها؛ كإكراهها على استدخال آلته: لا يقطع التوارث إذا لم يكن له زوجة سواها؛ فلأنه قصد حرمانها الميراث. أشبه ما لو طلقها أبوه. وأما كون ذلك يقطع التوارث إذا كان له زوجة سواها؛ فلأن قصد الحرمان هنا غير موجود؛ لكونه لا يرجع إليه. وفي الإطلاق نظر؛ لأن أباه إذا كان له زوجتان أحدهما أمّه والأخرى أجنبية فإذا وطئ الابن الأجنبية لا ينتفي عنه قصد الحرمان. لا يقال: هو منتفٍ؛ لأن ميراثها لا يرجع إليه؛ لأن ذلك يرجع إلى أمه وهو متهم في حقها، وكذلك لا تقبل شهادة الولد لوالديه (¬2). وأما كون الزوج لا يسقط ميراثه إذا فعلت المرأة ما يفسخ نكاحها وهي مريضة؛ كرضاع امرأة صغيرة لزوجها، أو رضاع زوجها الصغير، أو ارتدت فماتت في مرضها؛ فلأنها إحدى الزوجتين. فلم يسقط فعلها ميراث الآخر؛ كالزوج. قال: (فإن خلّف زوجات نكاح بعضهن فاسدٌ: أقرع بينهن. فمن أصابتها (¬3) القرعة فلا ميراث لها). أما كون من خلّف زوجات نكاح بعضهن فاسد يقرع بينهن؛ فلأن ذلك يزيل الإبهام. فشرع هنا؛ كالعتق والطلاق. ولا بد أن يلحظ أن من نكاحها فاسد لا يعرف؛ لأنه لا حاجة إلى القرعة إذا عرفت. وأما كون من أصابتها القرعة لا ميراث لها؛ فلأن القرعة تعينها والإرث يعتمد النكاح الصحيح. ¬

_ (¬1) في أ: موته. (¬2) في أ: الوالد لولده. (¬3) في أ: أصابته.

قال: (وإذا طلّق أربع نسوة في مرضه فانقضت عدتهن وتزوج أربعاً سواهن: فالميراث للزوجات. وعنه: أنه بين الثمان). أما كون الميراث بين الزوجات أو بين الثمان على الاختلاف؛ فمبني على ما تقدم من أن المطلقة في مرض الموت هل ترث ما لم تتزوج؟ فيه روايتان: أحدهما: ترث. فعلى هذا يكون الميراث بين الثمان. والثانية: لا ترث. فعلى هذا يكون الميراث بين الزوجات عند موته لا للمطلقات. وأما الصحيح من ذلك فقد تقدم أن الصحيح أنها ترثه ما لم تتزوج. فعلى هذا الصحيح هنا أن الميراث بين الثمان. والذي نقل أبو الخطاب أن الميراث هل هو بين المطلقات أو بين الثمان؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه بين المطلقات؛ لأنهن يرثن ما كن يرثن، والذي كن يرثن جميع الميراث. فكذلك بعد تزَوّجه (¬1). وثانيهما: أنه بين الثمان؛ لأن المطلقات إذا ورثن وقد مضى نكاحهن. فلأن ترث الزوجات ونكاحهن باقٍ بطريق الأولى. قال المصنف رحمه الله تعالى: وليس هذا -يعنى كونه بين المطلقات- بصحيح؛ لأن المطلقة إنما ترث ما كانت ترث لو لم يطلقها، ولو لم يطلقها وتزوج عليها واحدةً لم ترث إلا نصف ميراث الزوجات. فكذا إذا طلقها. ¬

_ (¬1) في أ: تزويجه.

باب الإقرار بمشارك في الميراث

باب الإقرار بمشارك في الميراث قال المصنف رحمه الله تعالى: (إذا أقرّ الورثة كلهم بوارث للميت فصدقهم، أو كان صغيراً: ثبت نسَبُه وإرْثه. سواء كانوا جماعة أو واحداً، وسواء كان المقرّ به يحجب المقر أو لا يحجبه (¬1)؛ كأخ يقر بابن للميت). أما كون من أقرّ الورثة كلهم بأنه وارث الميت فصدقهم ثبت نسَبُه؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول عبد بن زَمعةَ لما ادعى نسب وليدةَ أبيه. وقال: هذا أخِي ولدَ على فِراشِ أبِي» (¬2). وأثبت نسَبَهُ منه. ولأن الوارث يقوم مقام موروثه. بدليل أنه يثبت باعترافه ما يثبت باعتراف الموروث على نفسه من الدين وغيره. فكذا النسب. ولأن الوارث تَخَلّفَ الموروث في حقوقه وهذا منها. وأما كونه يثبت إرْثه؛ فلأن نسَبه قد ثبت. أشبه من ثبت نسبه ببنية. وإنما اشترط تصديقه إذا كان كبيراً؛ لأن الإقرار بالنسب إقرار (¬3) فاشترط تصديق المقر له (¬4)؛ كالإقرار بالمال. وإنما اكتفي بصغره؛ لأن الصغير لا يعتبر قوله فقبل الإقرار بنسبه، وإن لم يصدقه؛ كما لو أقر له بمال. وأما كون من أقرّ الورثة كما تقدم يثبت نسَبُه وإرْثه سواء كان المقر به جماعة أو واحداً (¬5)؛ فلأنهما سواء في الإقرار بدين. فكذلك في الإقرار بغيره. ¬

_ (¬1) في أ: يحجب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6384) 6: 2484 كتاب الفرائض، باب إثم من انتفى من ولده ومن ادعى أخاً أو ابن أخ. وأخرجه مسلم في صحيحه (1457) 2: 1080 كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقي الشبهات. (¬3) في أ: إقرارا. (¬4) في أ: به. (¬5) في أ: واحد.

وأما كون الحكم كما ذكر سواء كان المقر به يحجب المقر أو لا يحجبه (¬1)؛ كأخٍ يقر بابن للميت؛ فلأن العبرة بكونه وارثاً حالة الإقرار، أو بكونه وارثاً لولا الإقرار. بدليل أنه لو اعتبر كونه وارثاً في الحقيقة لم يثبت النسب إذا أقر بمشارك في الميراث؛ لأنه يكون إقراراً من بعض الورثة، وكلا المعنيين موجود فيما إذا أقر بمن يحجبه. قال: (وإن أقرّ بعضهم لم يثبت نسبه. إلا أن يشهد منهم عدلان أنه ولد على فراشه، أو أن الميت أقر به). أما كون من أقر به بعض الورثة كابنٍ له أخ يقر بآخر دون أخيه لا يثبت نسبه إذا لم يشهد منهم عدلان كما ذكر المصنف رحمه الله تعالى؛ فلأن ثبوت النسب ليس متمحضاً له بل مشتركاً بينه وبين أخيه. ولأن المقر وحده لا يقوم مقام الميت. وأما كونه يثبت نسبه (¬2) إذا شهد منهم عدلان بما ذكر؛ فلأنهما بينة عادلة. فثبت النسب بهما؛ كالأجانب. ولأنهما لو شهدا على غير موروثهما قُبل. فكذلك يقبل على موروثهما. وأما كون إحدى صفتي الشهادة أنه ولد على فراشه؛ فلأن ذلك القدر يلحق النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الولدُ للفِراشِ وللعَاهِرِ الحَجَر» (¬3). وأما كون الأخرى أن الميت أقر به؛ فلأن الميت لو أقر بنسبه ثبت. فإذا قامت البينة على إقراره بأنه وارثه يثبت نسبه لثبوت إقراره بالبينة المستند لثبوت النسب. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق. (¬3) هو تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه.

قال: (وعلى المقر أن يدفع إليه فضل ما في يده عن ميراثه فإذا أقر أحد الابنين بأخ فله ثلث ما في يده، وإن أقر بأخت فلها خمس ما في يده. فإن لم يكن في يد المقر فضل فلا شيء للمقر به). أما كون المقِر عليه أن يدفع إلى المقَر به فضل ما في يد المقر عن ميراثه؛ فلأنه تبين بإقراره أنه لا يستحقه وأن المستحق لذلك المقر به. فوجب دفعه إليه؛ لأنه حقه. وأما كون المقر به له ثلث ما في يد المقر إذا أقرّ أحد الابنين بأخ؛ فلأن في يده النصف وهو لا يستحق إلا الثلث فالسدس مستحق للمقر به وهو ثلث النصف. وأما كون الأخت لها خمس ما في يده إذا أقر بها؛ فلأن في يده النصف وهو لا يستحق إلا الخمسين. فنصف الخمس مستحق للمقر بها وهو خمس ما في يده. وأما كون المقر به لا شيء له إذا لم يكن في يد المقر فضل؛ [فلأن المقر به لا] (¬1) يستحق إلا الفاضل عن حقه، ولا فاضل معه. وسيأتي مثاله: فيما إذا خلّف أخاً من [أبٍ وأخاً من] (¬2) أمٍ فأقر الأخ من الأم وحده بأخٍ من أبوين. قال: (وإذا خلّف أخاً من أبٍ وأخاً من أمٍ فأقرّا بأخٍ من أبوين ثبت نسبه وأخذ ما في يد الأخ من الأب). أما كون نسب الأخ من الأبوين يثبت فيما ذكر؛ فلإقرار كل الورثة به. وأما كونه يأخذ ما في يد الأخ من الأب؛ فلأنه تبين بإقراره أنه لا حق له وأن الحق للمقر له. ضرورة كون الأخ من الأبوين يحجب الأخ من الأب. قال: (وإن أقرّ به الأخ من الأب وحده أخذ ما في يده ولم يثبت نسبه). أما كون الأخ من الأبوين المقر به يأخذ ما في يد الأخ من الأب المقر؛ فلما تقدم. وأما كونه لا يثبت نسبه؛ فلأن كل الورثة لم تقر به، وشرط ثبوت النسب إقرار الكل لما تقدم. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق.

قال: (وإن أقرّ به الأخ من الأم وحده أو أقرّ بأخٍ سواه فلا شيء له). أما كون الأخ من الأبوين المقر به لا شيء له إذا أقر به الأخ من الأم وحده؛ فلأن الأخ من الأم يستحق مع أخيه السدس فلا فاضل في يده عن حقه. وأما كون الأخ سواه المقر به لا شيء له إذا أقر به الأخ من الأم؛ فلما ذكر قبل. قال: (وطريق العمل: أن تضرب مسألة الإقرار في مسألة الإنكار وتدفع إلى المقر سهمه من مسألة الإقرار في مسألة الإنكار، وإلى المنكر سهمه من مسألة الإنكار في مسألة الإقرار، وما فضل فهو للمقر له). أما كون طريق العمل ما ذكر من الضرب؛ فلأن به يظهر ما للمقر وللمنكر وما يفضل. وأما كون المقِر يدفع إليه سهمه من مسألة الإقرار في مسألة الإنكار؛ فلأنه مقر. وأما كون (¬1) المنكر يدفع إليه سهمه من مسألة الإنكار في مسألة الإقرار؛ فلأنه منكر. وأما كون ما فضل هو للمقر له؛ فلأنه تبين بالعمل أنه الذي له. فعلى هذا قل في المسألة الأولى وهي: ما إذا (¬2) أقرّ أحد الابنين بأخٍ: مسألة الإقرار من ثلاثة، والإنكار من اثنين. فاضرب أحدهما في الأخرى؛ لأنهما متباينتان تكن ستة: للمقر سهم من مسألة الإقرار في اثنين باثنين، وللمنكر سهم من مسألة الإنكار في ثلاثة بثلاثة يبقى سهم للمقر به (¬3)؛ لأنه الفاضل وهو ثلث ما بقي في يد المقر؛ لأن النصف في يده، وقد تبين هنا أنه ثلاثة. وقل في الثانية وهي: إذا أقرّ أحد الابنين بأخت: مسألة الإقرار من خمسة، ومسألة الإنكار من اثنين، واضرب خمسة في اثنين؛ لما تقدم تكن عشرة: للمقر ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: إذا ما. (¬3) في أ: له.

سهمان من خمسة في اثنين بأربعة، وللمنكر سهم من اثنين في خمسة بخمسة يبقى سهم للأخت؛ لأنه الفاضل وهو خمس ما في يد المقر؛ لما تقدم. وقل (¬1) في الثالثة وهي: إذا أقر أخ من أب وأخ من أم بأخٍ من أبوين: مسألة الإقرار من ستة ولا إنكار فيها، وما كان للمقر فهو للمقر به؛ لأنه أولى منه بالميراث؛ لكونه أخاً لأبوين، والمقر أخاً من أب. وقل في الرابعة وهي: إذا أقر بأخ من أبوين الأخ من الأب وحده: مسألة الإقرار من ستة ولا حاجة إلى ذكر مسألة الإنكار؛ لأن المنكر حالة في الإقرار، والإنكار بالنسبة إلى المال واحدة فله سهم من ستة يبقى خمسة هي للأخ للأبوين؛ لما تقدم. ولا شيء له في الخامسة وهي: إذا أقر بأخٍ من أبوين من الأم وحده أو أقرّ بأخ سواه؛ لما تقدم في تعليلها. قال: (ولو خلّف ابنين فأقرّ أحدهما بأخوين فصدقه أخوه في أحدهما: ثبت نسب المتفق عليه فصاروا ثلاثة. ثم تضرب مسألة الإقرار في مسألة الإنكار تكن اثني عشر: للمنكر سهم من الإنكار في الإقرار أربعة، وللمقر سهم من الإقرار في مسألة الإنكار ثلاثة، وللمتفق عليه إن صدق المقر مثل سهمه. وإن أنكره مثل سهم المنكر، وما فضل للمختلف فيه وهو سهمان في حال التصديق وسهم في حال الإنكار. وقال أبو الخطاب: لا يأخذ المتفق عليه من المنكر في حال التصديق إلا ربع ما في يده. وصححها من ثمانية: للمنكر ثلاثة، وللمختلف فيه سهم، ولكل واحدٍ من الأخوين سهمان). أما كون المتفق عليه يثبت نسبه؛ فلإقرار كل الورثة به. وأما كون مسألة الإقرار تضرب في مسألة الإنكار على قول غير أبي الخطاب؛ فلأجل التصحيح كما تقدم. وأما كون الحاصل بالضرب اثني عشر؛ فلأن مسألة الإقرار من أربعة فإذا ضربتها في مسألة الإنكار وهي ثلاثة تكن اثني عشر. ¬

_ (¬1) في أ: وقيل.

وأما كون المنكر له أربعة؛ فلأن له سهماً من مسألة الإنكار مضروباً في مسألة الإقرار. وأما كون المقِر له ثلاثة؛ فلأنه له سهماً من مسألة الإقرار مضروباً في مسألة الإنكار. وأما كون المتفق عليه له مثل سهم المقر إن صدقه؛ فلأنه مقر. ومثل سهم المنكر إن أنكره؛ فلأنه منكر. وأما كون المختلف فيه له سهمان في حال التصديق وسهم في حال الإنكار؛ فلأن ذلك هو الفاضل. وأما كون المتفق عليه لا يأخذ إلا ربع ما في يد المنكر في حال التصديق على قول أبي الخطاب؛ فلأنه لا يدعي أكثر منه؛ لأنه يدعي أنهم أربعة فيلزم أن لا يكون له في يد المنكر سوى أربعة. وأما كونه صححها من ثمانية؛ فلأن أصل المسألة من اثنين والمقر به يستحق ربع ما في يد المنكر فابسط المسألة أرباعاً تكن ثمانية: للمنكر ثلاثة؛ لأنه كان يستحق أربعة أخذ منها المتفق عليه ربعها بقي ثلثه، وللمختلف فيه سهم؛ لأنه يستحق ربع ما في يد المقر بهما وذلك أربعة، وللمقر بهما سهمان؛ لأنه كان يستحق أربعة خرج منها سهم للمتفق عليه، وسهم للمختلف فيه بقي اثنان للآخر. قال: (وإن خلّف ابناً فأقر بأخوين بكلامٍ متصلٍ: ثبت نسبهما. سواء اتفقا أو اختلفا. ويحتمل أن لا يثبت نسبهما مع اختلافهما). أما كون نسب الأخوين المقر بهما يثبت نسبهما (¬1) إذا اتفقا؛ فلاتفاقهما مع إقرار الابن بهما. وأما كونه يثبت إذا اختلفا على المذهب؛ فلأن الإقرار بهما صادف كل الورثة. ولأن كل واحدٍ من المقر بهما لم يكن في الظاهر وارثاً حالة الإقرار. فلم يعتبر تصديقه. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

وأما كونه يحتمل أن لا يثبت مع اختلافهما؛ فلأن الإقرار بكل واحدٍ منهما لم يصدر من كل الورثة. والأول أصح؛ لما تقدم. قال: (وإن أقرّ بأحدهما بعد الآخر أعطى الأول نصف ما في يده، والثاني ثلث ما بقي في يده. ويثبت نسب الأول. ويقف ثبوت نسب الثاني على تصديقه. وإن أقرّ بعض الورثة بامرأةٍ للميت لزمه من إرثها بقدر حصته). أما كون المقرّ يعطي الأخ المقر به أولاً نصف ما في يده؛ فلأنه أقر أنه أخوه وتصديقه بغيره (¬1) معتبر؛ لأنه ثبت كونه وارثاً. فوجب كون المسألة بالنسبة إليه مقسومة على اثنين. فوجب أن يدفع إليه نصف التركة؛ لكونه واحداً من اثنين. وأما كونه يعطي الثاني ثلث ما بقي في يده وهو السدس؛ فلأنه فاضل عن حقه؛ لأنه أقرّ أن الأولاد ثلاثة، والواحد يستحق الثلث لا غير. وأما كون نسب الأول يثبت؛ فلأنه أقرّ به كل الورثة. وأما كون ثبوت نسب الثاني يقف على تصديق المقر به؛ فلأن الأول أقرّ به بعد ثبوت نسب الثاني. فلم يكن إقراراً من كل الورثة. وأما كون المقر بامرأةٍ للميت يلزمه من إرثها بقدر حصته؛ فلأنه أقرّ أن ذلك فاضلٌ عن حقه. فوجب دفعه إليها؛ كما لو أقرّ بابن. قال: (وإذا قال رجل: مات أبي وأنت أخي فقال: هو أبي ولست بأخي: لم يقبل إنكاره. وإن قال: مات أبوك وأنا أخوك قال: لست أخي: فالمال كله للمقر به). أما كون المقَرّ به لا يقبل إنكاره في الصورة الأولى؛ فلأن الإقرار والإنكار إنما يعتبر من الوارث، وقد سبق كون الأب أباً للآخر فهو وارثه ظاهراً لا غيره. وأما كون المال كله للمقَرّ به في الصورة الثانية؛ فلأنه لما قال: مات أبوك. فقد أقر بكونه هو الوارث وذلك يوجب كون الميراث له. وقوله بعد ذلك: وأنا أخوك دعوى وقد أنكرها المقر له وذلك يوجب أن لا يكون له شيء من المال. ¬

_ (¬1) في أ: لغيره.

قال: (وإن قال: ماتت زوجتي وأنت أخوها قال: لست بزوجها: فهل يقبل إنكاره؟ على وجهين). أما كون إنكار الأخ يقبل على وجهٍ؛ فلأن خصمه قد اعترف أنه أخوها وهو منكرٌ للزوجية، والأصل معه. وأما كونه لا يقبل على وجهٍ؛ فلما تقدم في قوله: مات أبي وأنت أخي فقال: لستَ بأخي.

فصل قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا أقرّ من أعيلت له المسألة بمن يزيل العول؛ كزوج وأختين أقرت أحدهما بأخٍ. فاضرب مسألة الإقرار في مسألة الإنكار تكن ستة وخمسين، واعمل على ما ذكرنا: يكن للزوجة أربعة وعشرين، وللمنكرة ستة عشر، وللمقرة سبعة، يبقى تسعة للأخ. فإذا صدقها الزوج فهو يدعي أربعة، والأخ يدعي أربعة عشر، والمقر به من السهام تسعة. فاقسمها على سهامهم لكل سهمين سهم. فيحصل للزوج سهمان، وللأخ سبعة). أما كون من أعيلت له المسألة إذا أقرّ بمن يزيل العول يضرب مسألة الإقرار في مسألة الإنكار؛ فلما تقدم. وأما قول المصنف: كزوجٍ وأختين أقرت أحدهما بأخ؛ فتمثيل لذلك؛ لأن مسألةً فيها زوج وأختان من ستة وتعول إلى سبعة فإذا أقرت إحدى الأختين بأخٍ صارت مسألة الإقرار من اثنين؛ لأن فيها نصفاً وما بقي. وتصح من ثمانية؛ لأن الزوج له سهم يبقى سهم على أربعة لا يصح ولا يوافق فاضرب اثنين في أربعة تكن ثمانية. وأما كون السهام ستة وخمسين؛ فلأنك إذا ضربت مسألة الإقرار وهي ثمانية في مسألة الإنكار وهي سبعة تكون ستة وخمسين. وأما كون الزوج له أربعة وعشرون، وللمنكرة ستة عشر، وللمقرة سبعة، والباقي تسعة للأخ؛ فلأن الزوج له ثلاثة من مسألة الإنكار في ثمانية بأربعة وعشرين، والأخت المنكرة لها اثنان من مسألة الإنكار في ثمانية بستة عشر، والمقرة لها سهم من مسألة الإقرار وهي ثمانية في سبعةٍ بسبعة يبقى تسعة: للأخ والمال ستة

وخمسون (¬1): خرج منها أربعة وعشرون للزوج، وستة عشر للأخت المنكرة، وسبعة للأخت المقرة وهي للأخ؛ لأنها الفاضل. فإن انضم إلى إقرار الأخت تصديق الزوج قسّمت التسعة بينهما على حسب ما تدعيان استحقاقه وذلك هنا ثمانية عشر؛ لأن الزوج يدعي أربعة، لأن له نصف المال ثمانية وعشرين قبض منها أربعة وعشرين بقي أربعة، والأخ يدعي أربعة عشر؛ لأنه يدعي أنه يستحق ربع المال. فاقسم التسعة على الثمانية عشر يحصل لكل سهمين سهم. فيكون للزوج سهمان مضافان إلى أربعة وعشرين تكون ستة وعشرين، وللأخ سبعة. قال: (فإن كان معهم أختان لأمٍّ. فإذا ضربت وفق مسألة الإقرار في مسألة الإنكار كانت اثنين وسبعين: للزوج ثلاثة من مسألة الإنكار في وفق مسألة الإقرار أربعة وعشرين، وللأختين (¬2) من الأم ستة عشر، وللأخت المنكرة ستة عشر، وللمقرّة (¬3) ثلاثة، يبقى في يدها ثلاثة عشر: للأخ منها ستة، يبقى سبعة لا يدعيها أحد ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: تقر في يد المقرّة. والثاني: تؤخذ إلى بيت المال. والثالث: تقسّم بين المقرّة والزوج والأختين من الأم على حسب ما يحتمل أنه لهم). أما كون مسألة الإقرار تضرب في مسألة الإنكار؛ فلما تقدم. وأما كون ذلك اثنين وسبعين؛ فلأن مسألة الإقرار من ستة؛ لأن فيها نصفاً وثلثاً، وما بقي هو هنا سهم على أربعة لا يصح ولا يوافق. فاضرب ستة في أربعة تكن أربعة وعشرين. ومسألة الإنكار من ستة وتعول إلى تسعة؛ لأن فيها نصفاً ¬

_ (¬1) في أ: يبقى تسعة لأنها ستة وخمسون. (¬2) في أ: وللأخت. (¬3) في أ: وللمقر.

وثلثين وثلثاً، وبين الأربعة والعشرين وبين التسعة موافقة بالأثلاث. فإذا ضربت ثمانية في تسعة يكن اثنين وسبعين كما ذكر المصنف. وأما كون الزوج له أربعة وعشرون، والأختين من الأم لهما ستة عشر، والمنكرة لها ستة عشر، والمقرة لها ثلاثة؛ فلأن الزوج له ثلاثة من مسألة الإنكار مضروبة في وفق مسألة الإقرار وهو ثمانية بأربعة وعشرين، والأختين للأم لهما اثنان من مسألة الإنكار مضروبان في ثمانية بستة عشر، والأخت المنكرة لها سهمان مضروبان في ثمانية بستة عشر، والمقرّة لها سهم من مسألة الإقرار مضروب في وفق مسألة الإنكار وهو ثلاثة بثلاثة. وأما كون الباقي ثلاثة عشر؛ فلأن مجموع ما أخذ تسعة وخمسون فيبقى من اثنين وسبعين ثلاثة عشر. وأما كون الأخ له منها ستة؛ فلأن له سهمين من مسألة الإقرار مضروبين في وفق مسألة الإنكار وهو ثلاثة بستة يبقى سبعة لا يدّعيها أحد؛ لاستكمال كل واحدٍ حقه. وأما كون السبعة تقر في يد المقرة في وجهٍ؛ فلأنها لا يدعيها أحداً. وأما كونها تؤخذ إلى بيت المال؛ فلأنه موضع الأموال التي لا أرباب لها. وأما كونه يقسم بين المقرّة والزوج والأختين من الأم على حسب ما يحتمل أنه لهم. وهو هنا ثلاثة وثلاثون في وجهٍ؛ فلأن المقرة يحتمل أن مسألتها عائلة. واشتبه عليها الحال فأقرت بمن لا يستحق شيئاً فحينئذٍ كانت تستحق ستة عشر كالمنكرة أخذت منها ثلاثة بقيت ثلاثة عشر، والزوج يحتمل أن مسألته غير عائلة فيستحق ستة وثلاثين؛ لأنه حينئذٍ يستحق النصف أخذ منها أربعة وعشرين بقي له اثنا عشر، والأختين لأم يحتمل أن مسألتهما كمسألة الزوج وحينئذٍ تستحقان الثلث أخذتا منه ستة عشر بقي لهما (¬1) ثمانية فجملة ذلك ثلاثة وثلاثون. فاقسم ذلك الباقي عليه لا يصح ولا يوافق. فاضرب ثلاثة وثلاثين في اثنين وسبعين تكن ألفين وثلثمائة وستة وسبعين. وكل من له شيء من اثنين وسبعين فاضربه في ثلاثة وثلاثين. وكل من له شيء من ثلاثة وثلاثين فاضربه في سبعة. وسيظهر كيفية ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

العمل والقسمة في شرح قوله: فإن صدق الزوج المقرّة ... إلى آخره إن شاء الله تعالى. قال: (فإن صدّق الزوج المقرّة فهو يدّعي اثني عشر، والأخ يدعي ستة يكونان ثمانية عشر، ولا تنقسم عليها الثلاثة عشر ولا توافقها فاضرب ثمانية عشر في أصل المسألة. ثم كل من له (¬1) شيء من اثنين وسبعين مضروب في ثمانية عشر. وكل من له شيء (¬2) من ثمانية عشر مضروب في ثلاثة عشر. وعلى هذا تعمل ما ورد عليك). أما كون الزوج يدعي اثني عشر؛ فلأنه يدعي أن له النصف وهو هنا ستة وثلاثون أخذ منها أربعة وعشرين بقي اثنا عشر. وأما كون الأخ يدعي ستة؛ فلأنه يدعي أنه هو وأختاه لهم أربعة من أربعة وعشرين مضروبة في وفق مسألة الإنكار وهو ثلاثة يكون اثني عشر له نصفها. وأما كون الثمانية عشر تضرب في أصل المسألة؛ فلانكسارها على المقسومة عليه. فعلى هذا مبلغ ما ترتفع من الضرب ألف ومائتان وستة وتسعون. وأما قول المصنف: ثم كل من له شيء ... إلى آخره؛ فبيان للقسمة. فعلى هذا الأختان لأم لهما من اثنين وسبعين ستة عشر. فاضربها في ثمانية عشر تكن مائتين وثمانية وثمانين، والأخت المنكرة لها ستة عشر [في ثمانية عشر بمائتين و] (¬3) ثمانية وثمانين، والمقرة لها ثلاثة في ثمانية عشر بأربعة وخمسين، والزوج له أربعة وعشرون في اثنين وسبعين بأربعمائة واثنين وثلاثين. ومن الثمانية عشر اثنا عشر مضروبة في ثلاثة عشر بمائة وستة وخمسين، والأخ له ستة في ثلاثة عشر بثمانية وسبعين صار مجموع ذلك ألفاً ومائتين وستة وتسعين وهو مبلغ ما ارتفع من الضرب. ¬

_ (¬1) في أ: لها. (¬2) ساقط من أ. (¬3) مثل السابق.

وأما قول المصنف: وعلى (¬1) هذا تعمل ما ورد عليك؛ فتنبيه على طريق عمل ما يرد عليك من هذا؛ لأنه مثل ما ذكر معنى فكذا يجب أن يكون عملاً. ¬

_ (¬1) في أ: أنه على.

باب ميراث القاتل

باب ميراث القاتل قال المصنف رحمه الله تعالى: (كل قتلٍ مضمون بقصاص أو ديةٍ أو كفارةٍ يمنع القاتل ميراث المقتول سواء كان عمداً أو خطأ بمباشرةٍ أو سبب، صغيراً كان القاتل أو كبيراً). أما كون القتل يمنع القاتل الإرث في الجملة؛ فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليسَ لقاتلٍ شيء» (¬1). رواه ابن عبدالبر. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منْ قتلَ قتيلاً فإنهُ لا يرثهُ، وإن لم يكنْ لهُ وارثٌ غيرهُ، وإن كانَ والدهُ أو ولده» (¬2) رواه الإمام أحمد. وروي عن عمر «أنه أعطى دية (¬3) ابن قتادة المذحجي لأخيه دون أبيه وكان قد حذفه بسيف فقتله» (¬4). واشتهر ذلك بين الصحابة ولم يُنكر فكان إجماعاً. وقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس لقاتل شيء» (¬5). رواه مالك في موطئه. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 186 كتاب قتال أهل البغي، باب العادل يقتل الباغي أو الباغي يقتل العادل ... (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 220 كتاب الفرائض، باب لا يرث القاتل. (¬3) ساقط من أ. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 72 كتاب الديات، باب أسنان دية العمد إذا زال فيه القصاص. ولفظه: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن قتادة بن عبدالله كانت له أمة ترعى غنمه فبعثها يوماً ترعاها فقال له ابنه منها: حتى متى تستأمي أمي والله لا تستأمها أكثر مما استأميتها فأصاب عرقوبه فطعن في خاصرته فمات قال: فذكر ذلك سراقة بن مالك بن جعشم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: وائتني من قابل ومعك أربعون أو قال: عشرون ومائة من الإبل قال: ففعل فأخذ عمر رضي الله عنه منها ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة فأعطاها إخوته ولم يورث منها أباه شيئاً. وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقاد والد بولد لقتلتك أو لضربت عنقك». (¬5) أخرجه أحمد في مسنده (347) 1: 49. وأخرجه مالك في موطئه (10) 2: 660 كتاب العقول، باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه.

ولأن توريث القاتل يفضي إلى تكثير القتل؛ لأن الوارث ربما استعجل موت موروثه ليأخذ ماله؛ كما فعل الاسرائيلي الذي قتل عمه فأنزل الله فيه (¬1) قصة البقرة. وأما كون كل قتل مضمون بقصاص؛ كالقتل العمد، أو دية كالخطأ، أو كفارة؛ كمن رمي إلى صف الكفار ولم يعلم أن فيهم مسلماً، وكان فيهم موروثه المسلم سواء كان عمداً أو خطأ بمباشرة أو سبب، صغيراً كان القاتل أو كبيراً: يمنع القاتل ميراث المقتول؛ فلأنه قاتل. فيدخل في الأحاديث المتقدم ذكرها غير مساوٍ لغير المضمون. فوجب المنع عملاً بالمقتضي السالم عن المعارض. قال: (وما لا يضمن بشيء من هذا؛ كالقتل قصاصاً أو حداً أو دفعاً عن نفسه، وقتل العادل الباغي، والباغي العادل: فلا يمنع. وعنه: لا يرث الباغي العادل ولا العادل الباغي فيُخَرَّج منه أن كل قاتلٍ لا يرث). أما كون ما لا يضمن من القتل كالقتل قصاصاً أو حداً أو دفعاً عن نفسه لا يمنع الإرث على المذهب؛ فلأن فاعله فعل فعلاً مأذوناً فيه. فلم يمنع الميراث؛ كما لو أطعمه وسقاه فأفضى إلى تلفه. ولأنه حرم الميراث فيما تقدم كيلا يفضي إلى إيجاد القتل المحرم، وزجراً عن إعدام النفس المعصومة وهو مفقود هنا. بل كونه مانعاً من الإرث مفضٍ إلى منع إقامة الحد الواجب، واستيفاء الحق المشروع. وإذا ثبت كونه غير مانعٍ من الإرث وجب كونه وارثاً؛ لعموم الأدلة المقتضية للإرث السالمة عن المانع. وأما كون قتل العادل الباغي لا يمنع الإرث على روايةٍ؛ فلما تقدم ذكره. وأما كونه يمنعه على ذلك؛ فلعموم الحديث المتقدم ذكره. وأما كون قتل الباغي العادل لا يمنع الإرث على روايةٍ؛ فلأنه غير مضمون. أشبه قتل العادل الباغي. وأما كونه يمنعه على روايةٍ؛ فلعموم الحديث المتقدم ذكره. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

وأما كون قتل العادل الباغي يُخَرَّج منه أن كل قاتل لا يرث؛ فلأن العادل مأذون له في القتل. فإذا منع من الإرث مع الإذن جاز أن يمنع منه كل قاتل؛ لأن أعلى مراتبه: أن يكون مأذوناً له في ذلك. ويعضده عموم الأحاديث في القاتل. والأول أولى؛ لما ذكر.

باب ميراث المعتق بعضه

باب ميراث المعتق بعضه قال المصنف رحمه الله تعالى: (لا يرثُ العبدُ ولا يورَث. سواء كان قِناًّ أو مدبراً أو مكاتباً أو أم ولد). أما كون العبد القِنّ لا يرِث؛ فلأن فيه نقصاً منع كونه موروثاً؛ لما يأتي. فمنع كونه وارثاً؛ كالمرتد. وأما كونه لا يورَث؛ فلأنه لا مال له، أو ملكه ناقص غير مستقر يزول إلى سيده بزوال ملكه فيه بدليل قوله عليه السلام: «منْ باعَ عبداً وله مالٌ فمالهُ للبائعِ إلا أن يَشترطهُ المبتَاع» (¬1). ولأن السيد أحق بأكسابه في حياته. فكذلك بعد مماته. وأما كون المدبر لا يرِث ولا يورَث؛ فلأن فيه جميع أحكام العبودية. وأما كون أم ولد لا ترِث ولا تورَث؛ فلأنها رقيقة جاز فيها جميع أحكام الرق إلا ما ينقل الملك أو يراد له؛ كالرهن. وليس شيء منهما من ذلك. وأما كون المكاتب لا يرِث ولا يورَث؛ فلأنه عبد ما بقي عليه درهم هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2250) 2: 838 كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1543) 3: 1173 كتاب البيوع، باب من باع نخلاً عليها ثمر. كلاهما من حديث ابن عمر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3926) 4: 20 كتاب العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت. ولفظه: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المكاتبُ عبدٌ ما بقيَ عليه من مكاتبته درهم».

قال: (فأما المعتق بعضه فما كَسَبَه بجزئه الحر فلورثته. ويرث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية). أما كون ما كَسَب المعتق بعضه بجزئه الحر لورثته؛ فلأنه يورَث بذلك لما يأتي بعد. وأما كونه يرث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية؛ فلأن ابن عباس روى أن النبي صلى الله عليه وسلم «قال في العبد يعتقُ بعضُه: يرِثُ ويورَثُ على قدرِ ما عتقَ منه». ولأنه يجب أن يثبت لكلِّ بعض حكمه؛ كما لو كان الآخر مثله، وقياساً لأحدهما على الآخر. قال: (فإذا كانت بنت وأم نصفهما حر وأب حر: فللبنت بنصف حريتها نصف ميراثها وهو الربع، وللأم مع حريتها ورق البنت الثلث، والسدس مع حرية البنت فقد حجبتها حريتها عن السدس فبنصف حريتها تحجبها عن نصفه يبقى لها الربع لو كانت حرة فلها بنصف حريتها نصفه وهو الثمن، والباقي للأب. وإن شئت نزّلتهم أحوالاً كتنزيل الخناثى). أما كون البنت المذكورة لها بنصف حريتها نصف ميراثها؛ فلأنها لو كانت كاملة الحرية لكان لها النصف. فوجب أن يكون لها بنصف حريتها نصفه. وأما كونه الربع؛ فلأن نصف النصف ربع. وأما كون الأم لها الثمن؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله وذلك أن يقول: لها السدس مع رق البنت، ونصف السدس مع حرية البنت فلها نصف السدس وربعه مع رق نصف البنت وذلك ثمن. وأما كون الباقي للأب؛ فلأنه له السدس بالفرض، وما بقي بعده بالتعصيب؛ لأنه أولى رجل ذكر. وأما كون عامل المسألة إن شاء نزّلهم أحوالاً كتنزيل الخناثى؛ فلأن لهم شبهاً بهم. فوجب تنزيلهم أحوالاً كتنزيلهم. فعلى هذا تقول في المسألة المذكورة في حال حرية البنت والأم: للبنت النصف، وللأم السدس، والباقي للأب، وهو الثلث. وفي حال رقهما: المال كله للأب. وفي حال رق البنت وحدها: للأم الثلث، وللأب الثلثان. وفي حال رق الأم

وحدها: للبنت النصف، والباقي للأب. فللبنت في الأحوال الأربعة مال كامل؛ لأن لها ذلك في حالين، ولا شيء لهما في الحالين الآخرين. فإذا قسمته على الأحوال الأربعة حصل لها الربع، وللأم نصف المال. فإذا قسمته على الأحوال الأربعة حصل لها الثمن، وهذا أحد طريقي العمل. والأخرى أن يقول: مسألة الحرية فيهما من ستة، ومسألة الرق فيهما من واحد، ومسألة رق البنت وحدها من ثلاثة، ومسألة رق الأم وحدها من اثنين، والواحد والثلاثة والاثنان تدخل في ستة فاضرب ستة في الأحوال الأربعة تكن أربعة وعشرين: للبنت ثلاثة في حال، وثلاثة في حال صار ذلك ستة، وللأم سهمان في حال وسهم في حال صار ذلك ثلاثة، وللأب المال كله في حال، والثلث في حال، والنصف في حال، والثلثان في حال صار ذلك خمسة عشر. قال: (وإذا كان عصبتان نصف كل واحدٍ منهما حر؛ كالأخوين: فهل تكمل الحرية فيهما؟ يحتمل وجهين). أما كون الحرية تكمل فيما ذكر على وجهٍ؛ فلأن نصفي شيء شيءٌ كامل. ولأن ذلك قياس قول علي. فعلى هذا إن كانا وارثين نصفهما حر كما مثل المصنف ورثا المال كله، وإن كان نصف أحدهما حراً وربع الآخر حراً ورثا ثلاثة أرباع المال وعلى هذا فقس. وأما كون الحرية لا تكمل على وجهٍ؛ فلأنها (¬1) لو كملت لم يظهر للرق أثر؛ لأنهما في الصورة المتقدمة يرثان المال نصفين، وهذا شأن كامل الحرية. قال: (وإن كان أحدهما يحجب الآخر كابنٍ وابن ابنٍ فالصحيح أنها لا تكمل). أما كون الصحيح في حرية من ذكر أنها لا تكمل؛ فلأن الشيء (¬2) لا يكمل بما يُسقطه، ولا يجمع بينه وبين ما ينافيه. وأما كونها يجري فيها الخلاف المتقدم؛ فلما تقدم. ¬

_ (¬1) في أ: فلو أنها. (¬2) في أ: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وهم.

باب الولاء

باب الولاء قال الله تعالى: {فإن لم تعلموا ءاباءهم فإخوانُكم في الدين ومَوَاليكم} [الأحزاب: 5]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الولاء لمن أعتق» (¬1) متفق عليه. وقال عليه السلام: «الولاء لحمة كلحمة النسب» (¬2). قال المصنف رحمه الله تعالى: (كل من أعتق عبداً أو عتق عليه برحمٍ أو كتابةٍ أو تدبيرٍ أو استيلادٍ أو وصيةٍ بعتقه: فله عليه الولاء، وعلى أولاده من زوجةٍ معتقةٍ، أو من أمته، وعلى معتقيه ومعتقي أولاده وأولادهم ومعتقهم أبداً ما تناسلوا). أما كون الولاء للمعتِق على المعتَق بالمباشرة فظاهر؛ لأن الحديث يتناوله بصريحه. وأما كونه له على من يعتق عليه بأحد الأسباب المذكورة؛ فلأنه عتق بسبب من جهته. أشبه ما لو باشره بالعتق. وأما كون الولاء له على أولاد من له عليه الولاء وإن نزلوا؛ فلأن الولد تابع له. ولأنه إذا كان الولاء له على الأصل. فلأن يكون له على الفرع بطريق الأولى. ولأن الولد جزءٌ من الوالد أو كالجزء. فإذا كان الولاء له على الوالد. فلأن يكون له على جزئه أو ما هو كجزئه بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2060) 2: 759 كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطاً في البيع لا تحل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1504) 2: 1141 كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

واشترط المصنف رحمه الله تعالى في الولاء على الأولاد: أن يكونوا من زوجةٍ معتقة أو من أمته؛ لأن الزوجة إن كانت حرة الأصل لم يكن على الأولاد ولاء؛ لما سيأتي دليله في موضعه إن شاء الله تعالى. والأمة إن كانت لغيره كان الولد عبداً، وإن عتق كان ولاؤه لمعتقه. وأما كون الولاء له على معتقي المعتق ومعتقي أولاده؛ فلأن الولاء يثبت على المعتق للإنعام عليه والمنعِمُ على المنعَمِ عليه مُنعِمٌ عليه. وأما كونه له ذلك على معتقي أولاد معتقيه وأولاد معتقي أولاد معتقيه (¬1)؛ فلأن نسبة الوالد إليهم كنسبة ولد المعتق إليه. وأما كونه له ذلك على معتقي أولاد معتقي أولاد معتقيه (¬2) وإن بعد ذلك؛ فلأن المنعم على المنعم على من أعتقه منعم على من أعتقه وإن بعد. قال: (ويرث به عند عدم العصبة من النسب، ثم يرث به عصباته من بعده الأقرب فالأقرب. وعنه: في المكاتب إذا أدى إلى الورثة أن ولاءه لهم. وإن أدى إليهما فولاؤه بينهما. ومن كان أحد أبويه حر الأصل ولم يمسّه رقٌ فلا ولاء عليه). أما كون المعتِق يرث بالولاء عند عدم العصبة؛ فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم (¬3) «الولاء لحمة كلحمة النسب» (¬4)، ومن توريث النبي صلى الله عليه وسلم له عند عدم العصبة، ومن توريثه بنت حمزة من الذي أعتقته (¬5). وأما كون عصباته من بعده ترث؛ فلأنه حق من حقوقه. فوجب أن ترث به عصباته؛ كالنسب. وأما كون ذلك للأقرب فالأقرب؛ فلأن الإرث بالولاء مشبه بالإرث بالنسب. فوجب أن يثبت فيه حكمه. ¬

_ (¬1) في أ: على أولاد معتقه وأولاد معتقي أولاد معتقه. (¬2) في أ: معتقه. (¬3) زيادة من ج. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون ولاء المكاتب إذا أدى إلى الورثة لهم على روايةٍ؛ فلأن المكاتب عبد فإذا مات السيد انتقل إلى الورثة مكاتباً. فإذا أدى عتق عليهم؛ كما لو اشتراه شخص فأدى إليه. وأما كون ولائه بينهما إذا أدى إليهما على روايةٍ؛ فلأن العتق (¬1) يتبع الأداء في رواية. وأما كون من كان أحد أبويه حر الأصل ولم يمسه رقٌّ لا ولاء عليه؛ فلأن الأم إن كانت حرة الأصل فالولد يتبعها في انتفاء الرق إذا كان الأب رقيقاً. فلأن يتبعها في نفي الولاء وحده أولى. والأب إن كان حر الأصل فالولد يتبعه فيما إذا كان عليه ولاء بحيث يصير الولاء عليه لموالي أبيه (¬2). فلأن يتبعه في سقوط الولاء عنه بطريق الأولى. قال: (ومن أعتق سائبةً أو في زكاته أو نذره أو كفارته ففيه روايتان: أحدهما: له عليه الولاء. والثانية: لا ولاء له عليه. وما رجع من ميراثه ردّ في مثله يُشترى به رقابٌ يعتقهم). أما كون العتق سائبة فأن يقول لعبده: أعتقتك سائبة، أو أعتقتك ولا ولاء لي عليك. وأما كون الولاء للمعتِق على المعتَق سائبةً في روايةٍ؛ فلدخوله في قوله عليه السلام: «الولاءُ لمن أعتَقْ» (¬3). وأما كونه لا ولاء له عليه وما رجع من ميراثه يُشترَى به مثله في روايةٍ؛ فلأنه جعله لله. و«لأن ابن عمرَ أعتقَ عبداً سائبة فماتَ فاشترى بمالهِ رِقاباً فأعتقهُم». ¬

_ (¬1) في أ: المعتق. (¬2) في أ: ابنه. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال المصنف في المغني: والأول أصح في الأثر والنظر؛ لما روي عن عطاء «أن طارق بن المرقع أعتقَ سوائبَ فماتُوا فكتبَ عمر: أن ادفعْ مالَ الرجلِ إلى مولاهُ فإن قبلهُ وإلا فاشترِ بهِ رِقاباً فأعتقهمْ عنْه» (¬1). وروي «أن رجلاً جاء إلى عبدالله فقال: إني أعتقت عبداً لي وجعلته سائبة فمات وترك مالاً ولم يدع وارثاً. فقال عبدالله: أنت وليّ نعمته ... مختصر» (¬2) رواه مسلم. وأما فعل ابن عمر فمحمول على الورع (¬3)؛ لأن في ذلك جمعاً بين فعله وقوله مع موافقة الآثار المذكورة. وأما كون الولاء للمعتِق على المعتَق في زكاته في روايةٍ؛ فلدخوله في الحديث. ولأن عائشة اشترت بريرة بشرط العتق (¬4) وهو يوجب العتق، ولم يمنع ذلك ثبوت الولاء لها عليها. وأما كونه لا ولاء له عليه في روايةٍ؛ فلأنه أعتقه من غير ماله. فلم يكن له الولاء عليه؛ كما لو دفعها إلى الساعي فاشترى بها وأعتق، وكما لو دفع إلى المكاتب مالاً فأداه في كتابته. والفرق بين ذلك وبين اشتراط العتق: أنه في الاشتراط أعتق ماله. وأما كون الولاء للمعتِق على المعتَق في نذره أو كفارته في روايةٍ، وكونه لا ولاء له عليه في روايةٍ؛ فلاشتراكه مع المعتق في كونه من شيء واجب عليه صرفه في جهته. ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (223) 1: 83 كتاب الفرائض باب ميراث السائبة. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 300 كتاب الولاء، باب من أعتق عبداً له سائبة. (¬2) أخرجه البيهقي في الموضع السابق. ولم أره في مسلم (¬3) في أ: الفروع. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2060) 2: 759 كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطاً في البيع لا تحل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1504) 2: 1141 كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق.

قال: (ومن أعتق عبدَه عن ميتٍ أو حيٍّ بلا أمره فولاؤه للمعتق. وإن أعتقه عنه بأمره فالولاءُ للمعتق عنه). أما كون الولاء للمعتِق فيما إذا أعتق عبده عن غيره بلا أمره؛ فلأنه معتق فدخل في قوله عليه السلام: «وإنما الولاء لمن أعتق» (¬1). وأما كون الولاء للمعتق عنه فيما إذا أعتقه عنه بأمره؛ فلأنه نائبٌ عنه في الإعتاق. فكان الولاء للمعتق عنه؛ كما لو باشره. قال: (فإذا قال: أعتق عبدك عني وعليّ ثمنه ففعل فالثمن عليه والولاء للمعتق عنه. وإن قال: أعتقه والثمن عليّ ففعل فالثمن عليه والولاء للمعتق). أما كون الثمن على القائل في المسألة الأولى والولاء للمعتق عنه؛ فلأنه أعتق عنه بشرط العوض فتقدر ابتياعه منه ثم توكيله في عتقه (¬2) ليصح عتقه عنه فيكون الثمن عليه والولاء له؛ كما لو ابتاعه منه ثم وكله في عتقه. وأما كون الثمن عليه في المسألة الثانية؛ فلأنه جعل له جعلاً على إعتاق عبده. فلزمه ذلك بالعمل؛ كما لو قال: من بنى هذا الحائط فله دينار فبناه إنسان. وأما كون الولاء للمعتق؛ فلأنه لم يأمره بإعتاقه عنه ولا قصد به المعتق ذلك. فلم يوجد ما يقتضي صرفه إليه فيبقى للمعتق؛ لما تقدم في الحديث. قال: (وإن قال الكافر لرجلٍ: أعتق عبدك المسلم عني وعليّ ثمنه ففعل فهل يصح؟ على وجهين) (¬3). أما كون ما ذكر لا يصح على وجهٍ؛ فلأنه تلزم من الصحة ثبوت الملك المقدر للكافر على المسلم، والمقدر كالمحقق، وثبوت المحقق لا يجوز؛ لما فيه من الصَّغَار. فكذلك ثبوت ما يشبهه. وأما كونه يصح على وجهٍ؛ فلأنه يحصل له نفعٌ عظيم في مقابلة ثبوت الملك المقدر؛ لأن خلاص الرقبة فيه نفع عظيم؛ لأنه يصير متهيئاً للطاعات وإكمال القربات. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في أ: ثم عتقه. (¬3) في أ: وعليّ ثمني ففعل فهل يصح فعلى وجهين.

قال: (ومن أعتق عبداً يُباينه في دينه فله ولاؤه وهل يرث به؟ على روايتين: أحدهما: لا يرث؛ لكن إن كان له عصبة على دين المعتَق ورثَه. وإن أسلم الكافر منهما ورث المعتِق روايةً واحدة). أما كون من أعتق عبداً يباينه في دينه له ولاؤه؛ فلأنه معتق. فيدخل في عموم قوله عليه السلام: «وإنما الولاء لمن أعتق» (¬1). وأما كونه يرث به (¬2) على روايةٍ؛ فلأنه يروى عن علي أنه قال: «الولاءُ شعبةٌ منَ الرّق» (¬3). وأما كونه لا يرث به على روايةٍ؛ فلقوله عليه السلام: «لا يرثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ» (¬4). ولأنه ميراث. فمنعه منه تباين الدين؛ كميراث النسب. قال المصنف في المغني: وهذا -يعني عدم الإرث- أصح في الأثر والنظر. وظاهر كلام أحمد الإرث به (¬5)؛ لأنه شبهه بالرق فلم يصر تباين الدين. بخلاف الإرث بالنسب. فعلى هذا إذا مات معتق وخلّف مولاه المباين له في دينه وعصبة له على وفق دين المعتق يكون ميراثه لمولاه على الرواية الأولى ولعصبة مولاه على الثانية. وإن أسلم الكافر من السيد والمعتق ورثه السيد قولاً واحداً؛ لأن الولاء له ولا مانع من الإرث. فوجب ثبوته عملاً بالمقتضي السالم عن المعارض. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في أ: يرثه. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 302 - 303 كتاب الولاء، باب: المولى المعتَق إذا مات ولم يكن له عصبة قام المعتِق مقام العصبة. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) ساقط من أ.

فصل [في إرث النساء من الولاء] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ولا يرثُ النساء من الولاء إلا ما أعتقن، أو أعتق من أعتقن، أو كاتبن، أو كاتب من كاتبن. وعنه: في بنت المعتق خاصة ترث. والأول أصح). أما كون النساء لا يرثن بالولاء من لم يعتقنه (¬1) وإن أعتقه موروثهن على المذهب؛ فلأن المرأة من موروثها المعتق بمنزلة النسب من الأخ والعم ونحوهما فولده من العتيق بمنزلة ولد أخيه وعمه، ولا ترث منهم الأنثى. فكذلك هاهنا. وأما كونهن يرثن ما أعتقن ... إلى آخره؛ فلأن عائشة أعتقت بريرة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: «إنما الولاء لمن أعتق» (¬2) متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: «تحوزُ المرأةُ ثلاثةُ مواريث: عَتيقَهَا ولقِيطَهَا وولَدَهَا الذي لاعنتْ عليه» (¬3). قال الترمذي: حديث حسن. ولأن المرأة منعمة بالإعتاق. أشبهت الرجل. وأما كون بنت المعتق خاصة ترث على روايةٍ؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ورّث بنت حمزة من الذي أعتقه حمزة (¬4). وأما كون الأول أصح؛ فلأن البنت من النساء فلا ترث معتق ابنها كسائر النساء. وأما الحديث فقال عبدالله بن شداد: «كان لبنت حمزة مولى أعتقته فمات وترك ابنته ومولاته بنت حمزة. فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطى ابنته النصف وأعطى مولاته بنت حمزة النصف -قال عبدالله بن شداد: أنا أعلم بها لأنها أختي ¬

_ (¬1) في أ: يعتقه إلى آخره. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

من أمي أمنا سلمى-» (¬1). رواه اللبان بإسناده. وقال: هذا أصح مما روى إبراهيم. يعني أن الولاء (¬2) كان لحمزة. قال: (ولا يرث منه ذو فرضٍ إلا الأب والجد يرثان السدس مع الابن، والجد يرث الثلث مع الإخوة إذا كان أحظ له). أما كون ذي الفرض غير الأب والجد لا يرث من الولاء؛ كالأخ من الأم والزوج إذا لم يكونا ابني عم؛ فلأنه مختص بالعصبات، وليس من ذكر عصبة بحال. وأما كون الأب يرث السدس مع الابن؛ فلأنه عصبة في الجملة، وهو يرث السدس مع الابن في غير الولاء. فكذا في الولاء. وأما كون الجد يرث ذلك مع الابن؛ فلأنه يرث ذلك معه مع عدم الأب في غير الولاء. فكذا فيه. وأما كونه يرث الثلث مع الإخوة إذا كان أحظ له؛ فلأنه يرث ذلك معهم في غير الولاء. فكذلك في الولاء. قال: (والولاء لا يورث وإنما يورث به ولا يباعُ ولا يوهب). أما كون الولاء لا يورث وإنما يورث به؛ لأنه قول عمر وعلي وزيد بن ثابت وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عمر وأبي مسعود البدري وأسامة بن زيد [رضي الله عنهم] (¬3). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالنسب (¬4)، والنسب لا يورَث وإنما يورَث به. وأما كونه لا يباع ولا يوهب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهَى عن بيعِ الولاءِ وهبتِه» (¬5). [متفق عليه] (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (174) 1: 73 كتاب الفرائض، باب ميراث المولى مع الورثة. (¬2) في أ: المولى. (¬3) زيادة من ج. (¬4) وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «الولاء لحمة كلحمة النسب». وقد سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (2398) 2: 896 كتاب العتق، باب بيع الولاء وهبته. وأخرجه مسلم في صحيحه (1506) 2: 1145 كتاب العتق، باب النهي عن بيع الولاء وهبته. (¬6) زيادة من ج.

قال: (وهو للكِبَر (¬1). فإذا مات المعتق وخلف عتيقه وابنين فمات أحد الابنين بعده عن ابن، ثم مات العتيق فالميراث لابن المعتق. وإن مات الابنان بعده وقبل مولاه وخلّف أحدهما ابناً والآخر تسعة فولاؤه بينهم على عددهم لكل واحدٍ عشرة). أما قول المصنف رحمه الله تعالى: وهو للكِبَر (¬2)؛ فمعناه أن المعتق يرثه من عصبات سيده أقربهم إليه وأولاهم بميراثه يوم مات. قال ابن سيرين: إذا مات المعتق نظر إلى أقرب الناس إلى الذي أعتقه فيجعل ميراثه له. وسيتضح ذلك بالمسألة المذكورة بعد. وأما كون الميراث لابن المعتق دون ابن ابنه فيما إذا مات المعتق وخلّف عتيقه وابنين فمات أحد الابنين بعده عن ابن ثم مات المعتق؛ فلأن ابن المعتق أقرب عصبة السيد؛ لأن السيد لو مات وترك ابنه وابن ابنه كان ميراثه لابنه دون ابن ابنه. وأما كون الولاء بين البنين على عددهم لكل واحدٍ عشرة فيما إذا مات الابنان بعده وقبل المولى وخلّف أحدهما ابناً والآخر تسعة؛ فلأن السيد لو مات كان ميراثه بينهم كذلك. فكذلك ميراث مولاه. قال: (وإذا اشترى رجلٌ وأخته أباهما أو أخاهما فعتق ثم اشترى عبداً فأعتقه، ثم مات المعتق، ثم مات مولاه: ورثه الرجل دون أخته. وإذا ماتت المرأة وخلّفت ابنها وعصبتها ومولاها فولاؤه لابنها، وعقله على عصبتها). أما كون الإرث في المسألة الأولى للرجل دون أخته؛ فلأنه عصبة المعتق، والأخت مولاة المعتق، وعصبة المعتق مقدمة على معتق المعتق. وأما كون الولاء لابن المرأة وعقله على عصبتها؛ فلما روى زياد بن أبي مريم «أن امرأةً أعتقتْ عبداً لها ثمّ توفيتْ، وتركتْ ابناً لها وأخاها ثم توفي مولاَهَا من بعدها. فأتَى أخو المرأةِ وابنَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميراثِهِ. فقال عليه السلام: ميراثُهُ ¬

_ (¬1) في أ: الكبر. (¬2) في أ: الكبر.

لابنِ المرأةِ. فقالَ أخوهَا: لوْ جَرَّ جريرةً كانتْ عليّ ويكون ميراثهُ لهذا؟ قال: نعم» (¬1). وروى إبراهيم قال: «اختصمَ عليّ والزبير في مولىَ صفية. فقال عليّ: مولى عمتي وأنا أعقلُ عنه، وقال الزبير (¬2): مولى أمي وأنا أرثُه. فقضى عمر للزبير بميراثِهِ، وقضى علَى عليٍّ بالعقل» (¬3). رواه الإمام أحمد وسعيد في السنن رضي الله عنهما. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في سننه (3005) 2: 253 كتاب الفرائض، باب الولاء. (¬2) في أ: قال الزبير. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (274) 1: 94 كتاب الفرائض، باب الرجل يعتق فيموت ويترك ورثة ثم يموت المعتق.

فصل في جر الولاء قال المصنف رحمه الله تعالى: (كل من باشرَ العتق أو عتق عليه لا ينتقل عنه بحال. فأما إن تزوج العبد معتقة فأولدها فولاء ولدها لمولى أمه. فإن أعتق العبد سيده انجرّ ولاء ولده إليه، ولا يعود إلى موالي الأم بحال). أما كون ولاء من باشر العتق أو عتق عليه لا ينتقل عنه بحال؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الولاء له. ولأن غيره ليس مثله في النعمة. ولأن مقتضى الدليل أن لا ينتقل حق عن مستحقه. خولف فيمن اشترى أبا من عليهم الولاء تبعا لأمهم للحديث. فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. وأما كون الولاء لمولى الأم فيما إذا تزوج العبد معتقة فأولدها؛ فلأن مولى الأم هو سبب الإنعام على الولد؛ لكونه انعتق بعتق أمه. وأما كون الولاء ينجرّ إلى سيد العبد إذا أعتقه فلما روى عبدالرحمن عن الزبير «أنه لما قدمَ خيبر رأى فتيةً لُعْساً فأعجبهُ ظرْفُهم وجمالُهم. فسألَ عنهم. فقيلَ: موالي رافع بن خديج وأبوهم مملوك لآلِ الحرقة. فاشترَى الزبيرُ أباهمْ فأعتقه، وقال لأولاده: انتسبوا إليّ فإن ولاءكمْ لي. فقال رافع: الولاءُ لي فإنهم عتقُوا بعتقي أمهم. فاحتكمُوا إلى عثمان فقضَى بالولاءِ للزبير» (¬1). فاجتمعت الصحابة عليه. ولأن الانتساب إلى الأب تعذر لما كان عبداً. فإذا عتق زال ذلك. فوجب عوده؛ لزوال التعذر. وأما كون الولاء لا يعود إلى موالي الأم بحال. والمراد بذلك: أنه إذا انقرض موالي الأب لا يرجع الولاء إلى موالي الأم بل يكون لبيت المال؛ فلأن الولاء جرى ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 307 كتاب الولاء، باب ما جاء في جر الولاء.

مجرى الانتساب ولو انقرض الأب وآباؤه لم تعد النسبة (¬1) إلى الأم. فكذلك الولاء. وإذا لم تعد إلى موالي الأم، ولم يبق من موالي الأب أحد تعين كونه لبيت المال؛ كما لو مات المعتق ولا موالي له. قال: (وإن أعتق الجد لم يجرّ ولاءهم في أصح الروايتين. وعنه: يجره). أما كون معتق الجد لا يجر ولاء ولد ولده على روايةٍ؛ فلأنه لا نص فيه. وأما كونه يجره على روايةٍ؛ فلأنه أب في الجملة. فجره؛ كالأب. ولأن الجد يقوم مقام الأب في التعصيب وأحكام النسب. فكذلك في جر الولاء. وأما (¬2) كون الأولى وهي أصح في المذهب؛ فلأن الأصل بقاء الولاء لمستحقه. خولف هذا الأصل فيما إذا أعتق الأب؛ للاتفاق عليه. والجد لا يساويه بدليل أنه لو أعتق الأب بعد الجد جره عنه موالي الجد إليه، ولو أسلم الجد لم يتبعه ولد ولده. ولأن الجد يدلي بغيره. فيبقى فيما عداه على مقتضى الأصل. قال: (وإن اشترى الابن أباه عتق عليه وله ولاؤه وولاء إخوته، ويبقى ولاؤه لمولى أمه؛ لأنه لا يجر ولاء نفسه). أما كون الابن إذا اشترى أباه يعتق عليه؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «منْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فهوَ حُرّ» (¬3). وأما كونه له ولاؤه؛ فلأنه عتق بسبب شرائه له فكان ولاؤه له؛ كما لو باشره بالعتق. وأما كونه له ولاء إخوته؛ فلأنهم تبع لأبيهم. وأما كون ولائِه يبقى لمولى أمه؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله تعالى. ¬

_ (¬1) في أ: يعد النسب. (¬2) في أ: أما. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3949) 4: 26 كتاب العتق، باب فيمن ملك ذا رحم محرم. وأخرجه الترمذي في جامعه (1365) 3: 492 كتاب الأحكام، باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2524) 2: 843 كتاب العتق، باب من ملك ذا رحم محرم فهو حر.

قال: (وإن اشترى الولد عبداً فأعتقه، ثم اشترى العتيق أبا معتقه فأعتقه: ثبت له ولاؤه وجر ولاء معتقه فصار كل واحدٍ منهما مولى الآخر. ومثله لو أعتق الحربي عبداً ثم سبى العبد مُعتقه فأعتقه فلكل واحد منهما ولاء صاحبه). أما كون الولاء يثبت للعتيق على أبي معتقه؛ فلأنه معتقُه. وأما كونه يجر ولاء معتقه؛ فلأنه أعتق أباه. وأما كون كل واحدٍ منهما يصير مولى الآخر؛ فلأن الولد مولى المعتق؛ لأنه أعتقه والمعتق مولى الولد؛ لأنه أعتق أباه. ولا بد أن يلحظ أن الولد كان من معتقه ليكون الولاء عليه لمولى أمه حتى ينجر ولاؤه إلى المعتق بشراء أبيه. ولو قدر أن الولد من حرة الأصل لم يكن عليه ولاء فضلاً أن ينجر إلى أحد. وأما كون الحربي إذا أعتق عبداً ثم سبى العبد معتقه فأعتقه مثل ما تقدم ذكره؛ فلأنهما سواء معنى فكذا يجب (¬1) أن يكون حكماً. وأما كون كل واحدٍ منهما له ولاء صاحبه؛ فلأن كل واحدٍ منعم على الآخر بخلاص رقبته من الرق. ¬

_ (¬1) في أ: يجوز.

فصل في دور الولاء قال المصنف رحمه الله تعالى: (إذا اشترى ابنٌ وبنت معتقة أباهما فعتق عليهما: صار ولاؤه لهما نصفين، وجر كل واحدٍ منهما نصف ولاء صاحبه، ويبقى نصفه لمولى أمه). أما كون ولاء الأب المعتق يصير لابنه وبنته المشتريين له نصفين؛ فلأن كل واحدٍ عتق عليه نصفه. وأما كون كل واحدٍ منهما يجر نصف ولاء (¬1) صاحبه؛ فلأن ولاء الولد تابع لولاء الأب. وأما كون نصفه يبقى لمولى أمه؛ فلأن الشخص لا يجر ولاء نفسه. قال: (فإن مات الأب ورثاه أثلاثاً. وإن ماتت البنت بعده ورثها أخوها بالنسب ثم إذا مات أخوها فماله لمواليه وهم: أخته وموالي أمه: فلموالي أمه النصف (¬2)، والنصف الآخر لموالي الأخت وهم: أخوها وموالي أمها. فلموالي أمها نصف ذلك وهو الربع يبقى الربع وهو الجزء الدائر؛ لأنه خرج من الأخ وعاد إليه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لموالي الأم. والثاني: أنه لبيت المال؛ لأنه لا مستحق له). أما كون الابن والبنت يرثان الأب أثلاثاً؛ فلأن ميراث النسب مقدمٌ على الولاء، وميراث النسب للذكر مثل حظ الأنثيين. وأما كون الأخ يرث أخته بالنسب؛ فظاهر. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: بالنصف.

وأما كون مال الأخ لمواليه؛ فلأنه لا مناسب له. وأما كون النصف لموالي الأم والنصف الآخر لموالي الأخت (¬1)؛ فلأن الولاء بينهما نصفين. وأما كون الربع من النصف الذي لموالي الأخت لموالي الأم؛ فلأن ولاء الأخت بين الأخ وموالى الأخت نصفين. وأما كون الربع هو الجزء الدائر؛ فلما ذكر المصنف. وأما كونه لموالي الأم في وجهٍ؛ فلأنهم أولى من غيرهم (¬2). وأما كونه لبيت المال في وجهٍ؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من أنه لا مستحق له. ¬

_ (¬1) في أ: لموالي الأخت لموالي الأم. (¬2) في أ: فلأنه أولى من غيره.

كتاب العتق

كتاب العتق (¬1) العتق في اللغة: الخلوص. ومنه: عتاق الخيل وعتاق الطير. سميت بذلك: لخلوصهما. وسمي البيت الحرام عتيقاً: لخلوصه من أيدي الجبابرة. وهو في الشرع: تحرير الرقبة وتخليصها من الرقّ. والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [المجادلة: 3]، وقوله تعالى: {فك رقبة} [البلد: 13]. وأما السنة؛ فما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أَعتقَ رقبةً مؤمنةً أعتقَ اللهُ بكلِ إرْبٍ منه إرْباً منه من النار. حتى أنه ليعتق اليد باليد والرجل بالرجل والفرج بالفرج» (¬2). متفق عليه. وأما الإجماع؛ فأجمعت الأمة في الجملة على صحة العتق وحصول القربة. قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهو من أفضل القُرَب. والمستحب عتق من له كسب. فأما من لا قوة له ولا كسب فلا يستحب عتقه ولا كتابته). أما كون العتق من أفضل القرب؛ فلأن الله تعالى جعله كفارة للقتل، والظهار، والوطء في رمضان، والأيمان. وجعله النبي صلى الله عليه وسلم فكاكاً لمعتقه من النار (¬3). وأما كون المستحب عتق من له كسب؛ فلأنه إذا أعتق يجد ما ينفق عليه ولا يبقى عَيْلة ولا محتاجاً. وأما كون من لا قوة له ولا كسب لا يستحب عتقه ولا كتابته؛ فلأن في عتقه وكتابته نقلاً له من حالة الغنى بنفقة السيد إلى السؤال والفقر. قال: (ويحصل العتق بالقول والملك). أما كون العتق يحصل بالقول؛ فظاهر. وسيأتي ذكره بعد. ¬

_ (¬1) ورد العنوان في أ: باب العتق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6337) 6: 2469 كتاب كفارات الأيمان، باب قول الله تعالى: {أو تحرير رقبة}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1509) 2: 1147 كتاب العتق، باب فضل العتق. (¬3) عن كعب بن مرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار». أخرجه ابن ماجة في السنن (2522) 2: 843 كتاب العتق، باب: العتق.

وأما كونه يحصل بالملك؛ فبأن يملك أباه أو ابنه أو أخاه وما أشبه ذلك. وسيأتي دليله في موضعه إن شاء الله تعالى (¬1). قال: (فأما القول فصريحه لفظ: العتق والحرية كيف صرفا. وكنايته: خليتك، والحق بأهلك، واذهب حيث شئت ونحوها). أما كون العتق له صريح وكناية؛ فلأنه إزالة قيد. أشبه الطلاق. وأما كون صريحه لفظ العتق والحرية؛ فلأنهما وردا في الكتاب والسنة ومثلهما (¬2): أعتقتك، وحررتك، وأنت معتق وأنت حر أو محرر أو عتيق. وفي قول المصنف رحمه الله: كيف صرفا نظر؛ لأن من تصاريف لفظ العتق والحرية الفعل المضارع نحو قولك: أُعْتِقُك وأحررك. وذلك لا يوقع العتق وفاقاً. وأما كون كنايته (¬3) ما ذكر؛ فلأن فيه معنى الإزالة. فجاز أن يكنى به عن العتق؛ كالطلاق. قال: (وفي قوله: لا سبيل لي عليكَ، ولا سلطان لي عليكَ، ولا ملك لي عليكَ، ولا رق لي عليكَ، وفككت رقبتكَ، وأنت مولاي، وأنت لله، وأنت سائبة: روايتان إحداهما: أنه صريح، والأخرى كناية). أما كون ما ذكر صريحاً على روايةٍ؛ فلأنه يتضمن العتق. فكان صريحاً؛ كما لو قال: أعتقتك. وأما كونه كناية على رواية؛ فلأنه يحتمل غير العتق. قال: (وفي قوله: لأمته أنت طالق أو أنت حرام روايتان: إحداهما: أنه كناية، والأخرى: لا يعتق به وإن نوى). أما كون ما ذكر كناية على روايةٍ؛ فلأن الرق أحد الملكين في الآدمي. فيزول بلفظ الطلاق والحرام إذا نوى لهما العتق؛ كملك النكاح. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في أ: ومثالهما. ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

وأما كونه لا يعتق به وإن نوى على روايةٍ؛ فلأن الرق ملك لا يستدرك بالرجعة. فلم يزل بما ذكر؛ كملك بقية المال. قال: (وإن قال لعبده وهو أكبر منه: أنت ابني: لم يعتق. ذكره القاضي. ويحتمل أن يعتق). أما كون العبد المقول له ما ذُكر لا يعتق على المذهب؛ فلأن كذب سيده محقق. فلم يعتق؛ كما لو قال لأمة وهي أصغر منه: هذه أمي. وأما كونه يحتمل أن يعتق؛ فلأن سيده اعترف بما تثبت به حريته. أشبه ما لو أقر بحريته. قال: (وإذا أعتق حاملاً عتق جنينها إلا أن يستثنيه. وإن أعتق ما في بطنها دونها عتق وحده). أما كون الجنين يعتق بعتق أمه مع عدم استثنائه؛ فلأنه تابع لأمه. بدليل دخوله في البيع وغيره. وأما كونه لا يعتق مع استثنائه؛ فـ «لأن ابن عمر أعتق أمة واستثنى ما في بطنها». ولأنها ذات حملٍ. فصح استثناء حملها كما لو باع نخلة لم تؤبر فاشترط ثمرتها. وأما كون ما في بطنها يعتق وحده إذا أعتقه دون أمه؛ فلأن الأم ليست تابعة له. فلم تعتق بعتقه؛ كما لو أعتقه بعد الولادة. قال: (وأما الملك فمن ملك ذا رحمٍ محرمٍ عتق عليه. وعنه: لا يعتق إلا عمود النسب). أما كون من ملك ذا رحمٍ محرمٍ من عمودي النسب؛ كالولد وإن نزل، والوالد وإن علا من عمودي النسب؛ كالأخ وأولاده وإن نزلوا والعم وما أشبه ذلك ممن يحرم نكاحه: يعتق عليه على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ مَلكَ ذا رَحِمٍ محرمٍ فهوَ حُر» (¬1) رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3949) 4: 26 كتاب العتق، باب فيمن ملك ذا رحم محرم. وأخرجه الترمذي في جامعه (1365) 3: 646 كتاب الأحكام، باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2524) 2: 843 كتاب العتق، باب من ملك ذا رحم محرم فهو حر. وأخرجه أحمد في مسنده (20217) 5: 18.

ولأن غير عمودي النسب ذو رحم محرم. فعتق عليه بالملك؛ كعمودي النسب. وأما كون غير عمودي النسب لا يعتق على روايةٍ؛ فلأن نفقة غيرهما لا تجب على قول. والأول أولى؛ لعموم الخبر. قال: (وإن ملك ولده من الزنا لم يعتق في ظاهر كلامه. ويحتمل أن يعتق). أما كون ولد الزنا لا يعتق بالملك في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأن أحكام الولد غير ثابتة فيه وهي الميراث، وعدم الحجب، والمحرمية، ووجوب الإنفاق، وثبوت الولاية. فكذا في العتق بالملك. وأما كونه يحتمل أن يعتق؛ فلأنه حر حقيقة وقد ثبت فيه حكم تحريم التزويج. ولهذا لو ملك ولده المخالف له في الدين عتق عليه مع انتفاء الأحكام المذكورة. قال: (وإن ملك سهماً ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله وعليه قيمة نصيب شريكه. وإن كان معسراً لم يعتق عليه إلا ما ملك). أما كون من ملك سهماً مما ذُكر وهو موسر يعتق عليه كله: أما السهم؛ فلأن كل سببٍ إذا وجد في الكل، عتق به: إذا وجد في البعض عتق به؛ كالإعتاق. وأما بقية الكل؛ فلأنه إذا أعتقه سرى مع اليسار. فكذلك إذا ملكه باختياره. وشرط المصنف رحمه الله في ذلك: أن يكون مملوكاً بغير الميراث؛ لأنه مملوك بغير اختياره. وسيأتي ذكره. وأما كونه عليه قيمة نصيب شريكه؛ فلأنه فوّته عليه. أشبه ما لو جرح غيره فمات من سراية الجرح.

وأما كونه لا يعتق عليه إلا ما ملك إذا كان معسراً؛ فلأن المباشرة مع الإعسار لا يسري بها العتق. فالعتق بالملك بطريق الأولى. قال: (وإن ملكه بالميراث لم يعتق منه إلا ما ملك. موسراً كان أو معسراً. وعنه: أنه يعتق عليه نصيب الشريك إن كان موسراً). أما كون ما ملكه بالميراث لا يعتق منه إلا ما ملك. موسراً كان أو معسراً على المذهب؛ فلأنه ملكه بغير اختياره. فلم يصح إلحاقه؛ كما لو باشر عتقه. وأما كون نصيب الشريك يعتق عليه إن كان موسراً على رواية؛ فلأنه سهم ملكه. فيسري إلى نصيب شريكه. أشبه ما لو ملكه بالتسري. وإنما لم يعتق إذا كان معسراً رواية واحدة؛ لأنه لو باشر عتقه وهو معسر لم يسر. فلأن لا يسري بالملك بالميراث بطريق الأولى. قال: (وإن مَثَّل بعبده فجدع أنفه أو أذنه ونحو ذلك عتق عليه نص عليه. قال القاضي: والقياس أن لا يعتق). أما كون من مثّل بعبده يعتق عليه على المنصوص؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مثّل بعبده فهو حر» (¬1). رواه الإمام أحمد. وأما قول المصنف: فجدع أنفه أو أذنه ونحو ذلك؛ فتمثيل للتمثيل بالعبد، وتعداد لصور منه. وأما كون القياس أن لا يعتق على قول القاضي؛ فلأن ذلك جناية على ماله. فلم يوجب زوال ملكه عنه. أشبه ما لو جنى على دابته. قال: (وإذا أعتق السيد عبده فماله للسيد. وعنه: أنه للعبد). أما كون مال من أُعتق لسيده على المذهب؛ فلما روي عن ابن مسعود: «أنه قال لغلامه عمير: يا عمير! إني أريد أن أعتقك عتقاً هنيئاً. فأخبرني بمالك. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما رجل أعتق عبده أو غلامه فلم يخبره بماله فماله لسيده». رواه الأثرم. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (8102) 4: 409 كتاب الحدود.

ولأن العبد وماله كانا جميعاً للسيد. فإذا أزال الملك عن أحدهما وجب أن يبقى الملك على الآخر؛ كما لو باعه. وأما كونه للعبد على روايةٍ؛ فلما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعتقَ عبداً وله مال فالمال للعبد» (¬1). رواه الإمام أحمد. والأول أصح؛ لما ذكر. وحديث ابن عمر ضعّفه الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (14364) 3: 309.

فصل [إذا أعتق جزءاً من عبده] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا أعتق جزءاً من عبده معيناً أو مشاعاً عتق كله. وإن أعتق شركاً له في عبد وهو موسر بقيمة باقيه عتق كله، وعليه قيمة باقيه يوم العتق لشريكه. وإن أعتقه شريكه بعد ذلك لم يثبت له فيه عتق. وإن كان معسراً لم يعتق إلا نصيبه وبقي حق شريكه فيه. وعنه: يعتق كله ويُستسعى العبد في قيمة باقيه غير مَشقوق عليه). أما كون من أعتق جزءاً من عبده معيناً كان الجزء أو مشاعاً يعتق عليه كله؛ فلأن العتق يسري في عبد الغير لما يأتي. فلأن يسري في عبدٍ له خاصة بطريق الأولى. وأما كون من أعتق شركاً له في عبد وهو موسر بقيمة باقيه يعتق كله، وعلى المعتق قيمة باقيه لشريكه؛ فلما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعتقَ شِركاً له في عبدٍ، فكان معه ما يبلغُ قيمةَ العبد، قوّم عليه قيمةَ عدل، وعَتَقَ عليه جميعَ العبد» (¬1). وأما كون القيمة يوم العتق؛ فلأنه يوم التلف. وأما كون الشريك إذا أعتقه بعد ذلك لا يثبت له فيه عتق؛ فلأن عتق المعتَق لا يصح. وأما كون المعتِق لا يعتق إلا نصيبه إذا كان معسراً على المذهب؛ فلأن مقتضى الدليل أن لا يعتق على أحدٍ نصيب شريكه. خولف ذلك في اليسار للحديث. فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2386) 2: 892 كتاب العتق، باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أمة بين الشركاء. وأخرجه مسلم في صحيحه (1501) 3: 1286 كتاب الأيمان، باب من أعتق شركاً له في عبد.

وأما كون حق شريكه يبقى فيه؛ فلأن العتق لم يسر إليه. وأما كون العبد يعتق كله ويُستسعى في قيمة باقيه غير مشقوق عليه على رواية؛ فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعتقَ شِقْصاً له في مملوكٍ فعليه أن يعتقه كله إن كانَ له مال، وإلا استُسْعَي العبدُ غيرَ مَشْقُوق عليه» (¬1). رواه أبو داود. قال: (وإذا كان العبد لثلاثة: لأحدهم نصفه، ولآخر ثلثه، ولآخر سدسه. فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس معاً وهما موسران عتق عليهما، وضمنا حق شريكهما فيه نصفين، وصار ولاؤه بينهما أثلاثاً. ويحتمل أن يضمناه على قدر ملكيهما فيه). أما كون العبد يعتق على صاحبي النصف والسدس؛ فلما تقدم. وأما كونهما يضمنان حق شريكهما فيه نصفين على المذهب؛ فلأن كل واحدٍ منهما لو انفرد بالعتق لضمن الكل. فإذا وجد سبب التلف منهما وجب الضمان عليهما. وأما كون ولاء العبد بينهما أثلاثاً؛ فلأن صاحب النصف عتق عليه النصف بالمباشرة والسدس بالسراية وذلك ثلثا العبد. وصاحب السدس عتق عليه السدس بالمباشرة والسدس بالسراية وذلك ثلث العبد. وأما كونه يحتمل أن يضمناه على قدر ملكيهما فيه؛ فلأن التلف حصل بإعتاق ملكيهما. وما وجب بسبب الملك كان على قدره؛ كالنفقة واستحقاق الشفعة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2360) 882 كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1503) 2: 1140 كتاب العتق، باب ذكر سعاية العبد. وأخرجه أبو داود في سننه (3938) 4: 24 كتاب العتق، باب من ذكر السعاية في هذا الحديث.

قال: (وإذا أعتق الكافر نصيبه من مسلمٍ وهو موسرٌ سرى إلى باقيه في أحد الوجهين). أما كون إعتاق الكافر الموسر نصيبه من مسلم يسري إلى باقيه في وجهٍ؛ فلأنه تقويمُ متلفٍ. فاستوى فيه المسلم والكافر؛ كتقويم المتلفات. وأما كونه لا يسري في وجه؛ فلأنه لا يجوز أن يتملكه. بخلاف المسلم. قال: (وإذا ادعى كل واحدٍ من الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه منه وهما موسران فقد صار العبد حراً به؛ لاعتراف كل واحدٍ منهما بحريته، وصار مدعياً على شريكه قيمة حقه منه، ولا ولاء عليه لواحدٍ منهما. وإن كانا معسرين لم يعتق على واحدٍ منهما. وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق حينئذٍ ولم يسر إلى نصيبه. وقال أبو الخطاب: يعتق جميعه. وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً عتق نصيب المعسر وحده). أما (¬1) كون العبد يصير حراً إذا ادعى كل واحدٍ من الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه منه وهما موسران؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله تعالى. وأما كون كل واحدٍ منهما يصير مدعياً على شريكه قيمة حقه عليه؛ فلأنه يدعي أنه عتق عليه بالسراية. وأما كون العبد لا ولاء عليه لواحدٍ منهما؛ فلأنه لا يدعيه واحدٌ منهما إذْ كل واحدٍ منهما يقول لصاحبه: أنت المعتق وولاؤه لك لا حق لي فيه. وأما كونه لا يعتق على واحدٍ منهما إذا كانا معسرين؛ فلأنه لا يقبل قول واحدٍ منهما على شريكه في نصيبه. ولا سراية مع الإعسار. فلم يوجد الاعتراف بالحرية. وأما كون من اشترى نصيب صاحبه يعتق عليه حينئذٍ؛ فلأنه معترفٌ بحريته. وأما كونه لا يسري إلى نصيبه الذي كان له على قول غير أبي الخطاب؛ فلأن السراية فرعُ الإعتاق ولم يوجد منه ذلك. وإنما حكم عليه بالعتق؛ لاعترافه أن شريكه أعتقه. ¬

_ (¬1) في أ: وأما.

وأما كونه يعتق جميعه على قول؛ فلأن الحكم بالعتق شبيهٌ بنفس العتق. وأما كون نصيب المعسر يعتق وحده إذا كان أحدهما موسراً والآخر معسراً؛ فلأنه اعترف بأن الموسر أعتق نصيبه، وذلك يوجب السراية. فعتق نصيبه؛ لاعترافه بما يوجب العتق. قال: (وإذا قال أحد الشريكين: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر فأعتق الأول وهو موسر: عتق كله عليه. وإن كان معسراً عتق على كل واحدٍ منهما نصيبه). أما كون العبد يعتق كله على المعتق الأول: أما نصيبه؛ فلأنه أعتقه. وأما نصيب شريكه؛ فلأنه لما أعتق نصيبه كان موسراً. فسرى إلى نصيب شريكه فعتق بالسراية؛ لما تقدم. وأما كون كل واحدٍ منهما يعتق عليه نصيبه إذا كان المعتق الأول معسراً؛ فلأن عتق المعسر لا يسري إلى نصيب الشريك. فوقع عتق الشريك؛ لأنه وجد شرط عتقه ولم يوجد ما يمنع وقوعه. قال: (وإن قال: إذا أعتقت (¬1) نصيبك فنصيبي حر مع نصيبك فأعتق نصيبه: عتق عليهما موسراً كان أو معسراً). أما كون النصيب المذكور يعتق على من ذكر مع اليسار؛ فلأن عتق شريكه يقع مقارناً للعتق المعلق. ضرورة قوله: مع نصيبك. فلم تجد السراية محلاً؛ لأنها لا توجد إلا بعد عتق الأول لنصيبه. وأما كونه يعتق عليهما مع الإعسار؛ فلما تقدم. ¬

_ (¬1) في أ: أعتقتك. وما أثبتناه من المقنع.

فصل [يصح تعليق العتق بالصفات] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ويصح تعليق العتق بالصفات؛ كدخول الدار ومجيء الأمطار. ولا يملك إبطالها بالقول. وله بيعه وهبته ووقفه وغير ذلك. فإن عاد إليه عادت الصفة. إلا أن تكون قد وجدت منه في حال زوال ملكه فهل تعود بعوده؟ على روايتين). أما كون تعليق العتق بالصفات كما ذَكر المصنف يصح؛ فلأنه إزالة قيد. فصح تعليقه بما ذكر؛ كالطلاق. وأما كون المعلِّق لا يملك إبطال الصفات بالقول. والمراد: إبطال تعليق العتق بالصفات؛ فلأنه ألزم نفسه شيئاً. فلم يملك إبطاله بالقول؛ كالنذر. وأما كونه له بيع المعلَّق عتقه بالصفات وهبته ووقفه وغير ذلك؛ فلأن ملكه باق عليه؛ لكون العتق لا يقع إلا بعد وجود الشرط؛ لأن المعلق بشرط عَدَمٌ عند عدمِ الشرط. وأما كون المعلَّق عتقه بصفة؛ كدخول الدار ونحوه إذا باعه سيده ثم عاد إليه تعود الصفة إذا لم تكن وجدت فيه في حال زوال ملكه؛ فلأن التعليق وتحقق الشرط موجودان في ملكه. فوجب العتق؛ كما لو لم يزل ملكه عنه. وأما كونها لا تعود إذا كانت قد وجدت منه فيما ذكر على رواية منصوصة عن الإمام أحمد؛ فلأن العتق المعلق بشرط لا يقتضي التكرار. فإذا وجد مرة انحلت اليمين. وقد وجدت الصفة في الملك الغير فانحلت يمينه. فلم تعد بعد ذلك. وأما كونها تعود على رواية مخرجة من المنصوص عنه في الطلاق؛ فلأن العتق في معناه. ولأن التعليق وتحقق الشرط وجدا في ملكه. أشبه ما تقدم.

وفرّق المصنف رحمه الله تعالى في المغني بين الطلاق والعتاق من حيث: إن الطلاق في النكاح الأول يحتسب به عليه في النكاح الثاني وينقص به عدد طلقاته. بخلاف الملك باليمين. قال: (وتبطل الصفة بموته. فإن قال: إن دخلت الدار بعد موتي فأنت حر، أو أنت حر بعد موتي بشهر فهل يصح ويعتق بذلك؟ على روايتين. وإن قال: إن دخلتها فأنت حر بعد موتي فدخلها في حياة السيد صار مدبراً، وإلا فلا). أما كون الصفة تبطل بموت المعلِّق؛ فلأن ملكه يزول بموته. فتبطل الصفة بموته؛ كسائر تصرفاته. وأما كون من قال ما ذكر في الصورتين المتقدم ذكرهما لا يصح على رواية؛ فلأنه جعل العتق معلقاً بصفة توجد بعد زوال ملكه. فلم يصح؛ كما لو قال: إن دخلت الدار بعد بيعي إياك فأنت حر. فعلى هذا لا يعتق المعلَّق عتقه بذلك؛ لعدم صحة التعليق. وأما كونه يصح على رواية؛ فلأنه إعتاقٌ بعد الموت. فصح؛ كما لو قال: أنت حر بعد موتي. فعلى هذا يعتق؛ لأن صحة التعليق توجب وقوع العتق عند شرطه ضرورة. وأما كون العبد يصير مدبراً إذا قال سيده: إن دخلت الدار بعد موتي فأنت حر فدخلها في حياة السيد؛ فلأنه وجد شرط القول المذكور وهو مقتضٍ للتدبير. وأما كونه لا يصير مدبراً إذا لم يدخل الدار في حياة السيد؛ فلأنه جعل الموت ظرفاً لوقوع الحرية، وذلك يقتضي سبق دخول الدار في الحياة. ضرورة أنه الشرط. إذ الشرط لا بد من سبقه الجزاء. قال: (فإن قال: إن ملكتُ فلاناً فأنت حر، وكل مملوك أملكه فهو حر: فهل يصح؟ على روايتين. وإن قاله العبد لم يصح في أصح الوجهين). أما كون الحر إذا قال ذلك يصح على رواية؛ فلأنه أضاف العتق إلى حال يملك عتقه. أشبه ما لو كان التعليق في ملكه.

وأما كونه لا يصح على رواية؛ فلأنه لا يملك تنجيز العتق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عِتقَ قبلَ مُلكٍ» (¬1) رواه أبو داود الطيالسي. فلا يملك تعليقه؛ كالنكاح. وأما كون العبد إذا قال ذلك لا يصح في وجه؛ فلأن العبد لا يملك. فلم يصح التعليق منه. وأما كونه يصح في وجهٍ؛ فبالقياس على الحر. وأما كون الأول أصح؛ فلما ذكر من الفرق بينهما. قال: (وإن قال: آخر مملوك اشتريته فهو حر، وقلنا بصحة الصفة فملك عبيداً ثم مات: فآخرهم حر من حين الشراء، وكسبه له). أما كون آخر العبيد فيما ذُكر حراً؛ فلأن الحرية علقت على الاتصاف بالآخرية، وقد وجدت في الآخر. وأما كون الحرية من حين الشراء؛ فلأنه تبين بالموت أنه آخرهم من حينئذ. فإن قيل: لم أخّر الحكم بذلك إلى الموت؟ قيل: لجواز أن يشتري بعده آخر. فلا يكون آخر عبد استثنى له. وأما كون كسبه له؛ فلأن الكسب يتبع الحرية. قال: (وإن قال لأمته: آخر ولد تلدينه فهو حر. فولدت حياً ثم ميتاً: لم يعتق الأول. وإن ولدت ميتاً ثم حياً عتق الثاني. وإن ولدت توأمين وأشكل الآخر منهما أقرع بينهما). أما كون الأول في الصورة الأولى لا يعتق؛ فلأنه ليس بآخر ولدٍ ولدته. وأما كون الثاني في الصورة الثانية يعتق؛ فلأنه آخر ولدٍ ولدته. وأما كون التوأمين يقرع بينهما؛ فلأن أحدهما يستحق العتق. فأقرع بينهما؛ كما لو قال: أحدكما حر. وكما لو أعتق عبداً من عبيده ثم جهل عينه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (1767) 243.

قال: (ولا يتبع ولدُ المعتقة بالصفة أمَّه في العتق في أصح الوجهين. إلا أن تكون حاملاً به حال عتقها، أو حال تعليق عتقها). أما كون ولد المعتقة بالصفة لا يتبع أمه إذا لم تكن حاملاً به حال عتقها أو حال تعليق عتقها في وجه؛ فلأن التعليق ووجود الصفة لا تعلق لهما بالولد. فلم تصح التبعية. وأما كونه يتبعها في وجهٍ؛ فبالقياس على ولد المدبرة. وأما كون الأول أصح؛ فلأن الفرق بين المعلق عتقها بصفة والمدبرة ثابت؛ لأن ولد المدبرة يعتق إذا مات السيد وهي حية أو ميتة. بخلاف ولد المعلق عتقها بصفة فإنه لا يعتق حتى يوجد العتق في أمه. وأما كونه يتبعها إذا كانت حاملاً به حال عتقها؛ فلأن الحمل كعضو من أعضاء أمه. دليله: ما لو أعتقها وهي حامل فإنه يعتق بعتقها. فكذا هاهنا. وأما كونه يتبعها إذا كانت حاملاً به حال تعليق عتقها؛ فلأن التعليق أحد سببي العتق. أشبه الآخر. قال: (وإذا قال لعبده: أنت حر، وعليك ألف، أو على ألف: عتق ولا شيء عليه. وعنه: إن لم يقبل العبد لم يعتق. والصحيح في قوله: أنت حر على ألف أنه لا يعتق حتى يقبل). أما كون العبد يعتق ولا شيء عليه في الصورتين المتقدم ذكرهما على الأول؛ فلأنه أعتقه بغير شرط وجعل علته عوضاً لم يقبله. فوقع به العتق ولم يلزمه شيء. وأما كونه لا يعتق على رواية إذا لم يقبل العتق؛ فلأن السيد قصد المعاوضة. فإذا لم يقبل العبد وجب أن يبقى الحال على ما كان. وأما كون الصحيح في قوله: أنت حر على ألف أنه لا يعتق حتى يقبل؛ فلأن قصد العوض فيه ظاهر، وقد يستعمل بإزاء الشرط. أشبه ما لو قال: أعتقتك بشرط أن تعطيني ألفاً. بخلاف قوله: وعليك ألف فإنه لا رابطة بينه وبين العتق.

قال: (وإن قال: أنت حر على أن تخدمني سنة فكذلك. وقيل: إن لم يقبل [لم يعتق] (¬1) رواية واحدة). أما كون قول: أنت حر على أن تخدمني سنة كما تقدم؛ فلأنه في معنى قوله: أنت حر على ألف. وأما كون المقول له لا يعتق رواية واحدة إذا لم يقبل على قول؛ فلأن قَصْد المعاوضة فيما ذكر أظهر. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع.

فصل [إذا قال كل مملوك لي حر] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا قال: كل مملوكٍ لي حر: عتق عليه مدبروه، ومكاتبوه، وأمهات أولاده، وشقص يملكه). أما كون قائل ما ذكر يعتق عليه مدبروه؛ فلأن كل واحدٍ منهم مملوكٌ له وقد حرره. وأما كونه يعتق عليه مكاتبوه؛ فكذلك. وأما كونه يعتق عليه أمهات أولاده وشقصٌ يملكه؛ فلأن كلاً منهما داخلٌ في مسمى المملوك، وقد حرره. قال: (وإن قال: أحد عبديَّ حر: أُقرع بينهما. فمن تقع عليه القرعة فهو حر من حين عتقه. وإن مات أقرع الورثة. وإن مات أحد العبدين أقرع بينه وبين الحي). أما كون العبدين فيما إذا قال: أحد عبديَّ حر يقرع بينهما؛ فلأن أحدهما استحق العتق ولم يعلم عينه. أشبه ما لو أعتق المريض عبيداً لا يملك غيرها. بيان المشابهة بينهما: أن من أعتق عبيداً لا يملك غيرها وهو مريض مرض الموت لم ينفذ عتقه إلا في الثلث فبعضهم مستحق للعتق. وقد أقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم (¬1) فكذلك تشرع القرعة في هذه الصورة؛ لكون البعض مستحقاً للقرعة لا الكل. وأما كون من تقع عليه القرعة حراً؛ فلأن فائدتها ذلك. وأما كون ذلك من حين الإعتاق؛ فلأن القرعة مثبتة لا منشئة. وأما كون الورثة تقرع إذا مات المعتق؛ فلأنهم يَقُومون مقام الميت. ¬

_ (¬1) سيأتي ذكره وتخريجه من حديث عمران بن حصين ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون الميت يقرع بينه وبين الحي إذا مات أحد العبدين؛ فلأن العتق مستحق في أحدهما قبل الموت. فعلى هذا إن وقعت القرعة على الميت حكم بموته حراً، وإن وقعت على الحي عتق، وحكم بموت الآخر رقيقاً. قال: (وإن أعتق عبداً ثم أُنْسيه: أُخْرج بالقرعة. وإن علم بعدها أن المعتق غيره عتق وهل يبطل عتق الأول؟ على وجهين). أما كون العبد المعتق المنسيّ عتقه يُخرج بالقرعة؛ فلما تقدم. وأما كون غير من خرجت له القرعة إذا عَلم بعدها أنه المعتق يعتق؛ فلأنه أعتقه، وقد تبين أمره. وأما كون عتق الأول يبطل على وجه؛ فلأنه تبين أنه ليس المعتق. وأما كونه لا يبطل على وجه؛ فلأن العتق إذا وقع لا يرتفع.

فصل [إذا أعتق في مرض موته] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإن أعتق في مرض موته ولم تُجِز الورثة: اعتبر من ثلثه. وإن أعتق جزءاً من عبده في مرضه أو دبره وثلثه يحتمل جميعه عتق جميعه. وعنه: لا يعتق إلا ما أعتق). أما كون من أعتق في مرضه ولم تُجِز الورثة [يعتبر من ثلثه] (¬1)؛ فلما روى عمران بن حصين «أن رجلاً أعتقَ ستةَ مملوكين له عندَ موتهِ. لم يكن له مالٌ غيرهم. فدعاهمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فجزأهمْ أثلاثاً. ثم أقرعَ بينهمْ. فأعتقَ اثنينِ وأَرَقَّ أربعة. وقالَ لهُ قَولاً شَديداً» (¬2). رواه مسلم. ولأن المعتق تصرف فلم ينفذ من غير الثلث عند عدم إجازة الورثة؛ كالهبة ونحوها. وأما كون من أعتق جزءاً من عبده في مرضه وثلثه يحتمل جميعه يعتق جميعه على المذهب؛ فلأن عتق الشخص لجزء من عبده موجب للسراية؛ لما تقدم. وأما كون من دبّر جزءاً منه وثلثه يحتمل جميعه يعتق جميعه على المذهب؛ فلأن التدبير إعتاق لبعض عبده عند موته فعتق جميعه؛ كما لو أعتقه في حياته. واشترط المصنف في عتق الجميع: أن يكون ثلث المريض يحتمله؛ لأن تصرف المريض بالمباشرة في الزائد عن الثلث لا يصح. فلأن لا يسري فيه بطريق الأولى. وأما كونه لا يعتق في الصورتين إلا ما أعتق على رواية؛ فلأن المريض محجور عليه في المرض. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1668) 3: 1288 كتاب الأيمان، باب من أعتق شركاً له في عبد. وأخرجه أبو داود في سننه (3958) 4: 28 كتاب العتق، باب فيمن أعتق عبيداً له لم يبلغهم الثلث. وأخرجه الترمذي في جامعه (1364) 3: 645 كتاب الأحكام، باب ما جاء فيمن يعتق مماليكه عند موته وليس له مال غيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قال: (وإن أعتق في مرضه شركاً له في عبد أو دبَّره وثلثه يحتمل باقيه: أعطى الشريك وكان جميعه حراً في إحدى الروايتين، والأخرى: لا يعتق إلا ما ملك منه). أما كون المعتِق المذكور يعطي الشريك -أي قيمة باقيه- بتقدير الحكم بالحرية؛ فلعموم قوله عليه السلام: «وأعطى شركاءهم حصصهم» (¬1). ولأنه أتلف عليه باقيه بالعتق. أشبه ما لو قتله. وأما كون جميعه حراً على رواية؛ فلأن تصرف المريض فيما لم يجاوز الثلث كتصرف الصحيح. ولو أعتق الصحيح شِركاً له في عبد سرى إلى نصيب الشريك. فكذلك المريض. وأما كونه لا يعتق منه إلا ما ملك منه على روايةٍ؛ فلأنه بموته يزول ملكه إلى الورثة فلا يبقى له شيء يعطي منه. والصحيح حرية جميعه فيما أعتق؛ لما تقدم من أن تصرف المريض في ثلثه كتصرف الصحيح في ماله. بخلاف ما إذا دبر؛ لما ذكر من أنه يزول ملكه بموته فلا يبقى له ما يعطي الشريك. قال المصنف في المغني: قال القاضي: الرواية في سراية العتق حال الحياة أصح. والرواية في وقوفه في التدبير أصح. قال: (ولو أعتق في مرض موته ستة أعبد قيمتهم سواء وثلثه يحتملهم ثم ظهر عليه دين يستغرقهم: بيعوا في دينه. ويحتمل أن يعتق ثلثهم). أما كون العبيد المذكورين يباعون في دين المعتق؛ فلأن عتقهم فيما ذكر كالوصية، والدين مقدم على الوصية، ولهذا قال علي رضي الله عنه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الدين قبلَ الوصية» (¬2). فكذلك فيما هو كالوصية. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه من حديث ابن عمر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (2122) 4: 435 كتاب الوصايا، باب ما جاء يبدأ بالدين قبل الوصية. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2715) 2: 906 كتاب الوصايا، باب الدين قبل الوصية.

ولأن الدين مقدم على الميراث بالاتفاق، ولهذا تباع التركة في قضاء الدين. وقال تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء: 11]. والميراث مقدم على الوصية في الثلثين. وما يُقدم على الميراث يجب أن يقدم على الوصية. وأما كونهم يحتمل أن يعتق ثلثهم؛ فلأن تصرف المريض في ثلثه صحيح، وقد تصرف بالعتق. قال: (وإن أعتقهم فأعتقنا ثلثهم، ثم ظهر له مال يخرُجون من ثلثه: عتق من أرقّ منهم. وإن لم يظهر له مال جزأناهم ثلاثة أجزاء، كل اثنين جزءاً، وأقرعنا بينهم بسهم حرية وسهمي رق. فمن خرج له سهم الحرية عتق، ورقّ الباقون). أما كون من أرقّ ممن ذكر يعتق إذا ظهر للمعتق مال يخرجون من ثلثه؛ فلأن المنع من عتقهم إنما كان لاعتقاد أنهم لا يخرجون من الثلث وقد تبين خلافه. فوجب عتق الكل. عملاً بموجبه السالم عن المعارض. وأما كونهم يجزؤون ثلاثة أجزاء ويقرع بينهم إذا لم يظهر لهم مال؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم جَزَّأَ الأعبد الستة أثلاثاً، ثم أقرع بينهم» (¬1). وأما كون كل اثنين جزءاً؛ فليحصل التثليث. ولا بد أن يلحظ أن العبيد متساووا القيمة والعدد؛ كثلاثة أو ستة أو تسعة، وما أشبه ذلك. قيمة كل واحدٍ مثلُ قيمة الآخر. فإن كانوا متساوي العدد مختلفي القيمة؛ كستة أعبد، قيمة اثنين ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، واثنين ألفان ألفان، واثنين (¬2) ألف ألف: جعلت الاثنين اللذين قيمتهما أربعة آلاف جزءاً، وكل واحدٍ من اللذين قيمتهما ألف ألف مع كل واحدٍ من الذين قيمتهما ثلاثة آلاف ثلاثة (¬3) آلاف جزءاً. وكل واحدٍ من اللذين قيمتهما ألف ألف مع كل واحدٍ من اللذين قيمتهما ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف جزءاً. وأما كون القرعة بسهم حرية وسهمي رِقّ؛ فلأن الحرية نافذة في الثلث، والرق باق في الثلثين. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في أ: اثنان. (¬3) في أزيادة: أربعة.

وأما كون من خرج له سهم الحرية يعتق ويرق الباقون؛ فلأن فائدة القرعة ذلك. قال: (فإن كانوا ثمانيةً فإن شاء أقرع بينهم بسهمي حرية وخمسة رق وسهم لمن ثلثاه حر، وإن شاء جزأهم أربعة أجزاء، وأقرع بينهم بسهم حرية وثلاثة رق، ثم أعاد القرعة بينهم لإخراج من ثلثاه حر، وإن فعل غير ذلك جاز). أما كون من يَقْرع بين الثمانية إن شاء أقرع بينهم كما ذكر، وإن شاء جزأهم وأقرع بينهم كما ذكر؛ فلأن الغرض إخراج الثلث بالقرعة. فكيف اتفق ذلك حصل الغرض. وأما كونه يَقرع بينهم بسهمي حرية وسهم رق وسهم لمن ثلثاه حر؛ فلأن المستحق للعتق الثلث وذلك عبدان وثلثا عبد. وأما كونه يجزؤهم أربعة أجزاء؛ فلأنه يمكن جعل كل اثنين جزءاً. وأما كونه يقرع بينهم بسهم حرية وثلاثة رق؛ فليظهر الفريق المعتق من غيره. وأما كونه يعيد القرعة؛ فليظهر من ثلثاه حر. وأما كونه إذا فعل غير ذلك يجوز؛ فلما تقدم من أن الغرض إخراج الثلث بالقرعة وهو موجود فيما ذكر. فإن قيل: ما مراد المصنف بذلك؟ قيل: مراده والله أعلم أنه يجزؤهم ثلاثة أجزاء: ثلاثة وثلاثة واثنين. ثم يقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق. فإن وقع سهم الحرية على الثلاثة أعيدت القرعة بينهم بسهم عتق وسهم رق. فمن وقع عليه سهم العتق عتق ثلثاه. قال: (وإن أعتق عبدين قيمة أحدهما مائتان والآخر ثلاثمائة جمعت قيمتهما وهي خمسمائة فجعلتها الثلث ثم أقرعت بينهما. فإن وقعت على الذي قيمته مائتان ضربته في ثلاثة تكن ستمائة، ثم نسبت منه خمس المائة يكن العتق فيه خمسة أسداسه، وإن وقعت على الآخر عتق منه خمسة أتساعه. وكل شيء يأتي من هذا فسبيله أن يضرب في ثلاثة ليخرج بلا كسر). أما كون عامل المسألة المذكورة يجمع قيمتي العبدين؛ فليعلم مبلغهما. وأما كونه يجعل ذلك الثلث؛ فلئلا يكون فيه كسر فتعسر النسبة إليه.

وأما كونه يقرع بينهما؛ فلتمييز المعتق منهما. وأما كونه يضرب قيمة من قيمته مائتان في ثلاثة؛ فكما عمل في مجموع القيمة. وأما كونه ينسب خمسمائة منها؛ فلأنها الثلث تقديراً. وأما كون العتق إذا وقعت القرعة على العبد الذي قيمته مائتان خمسة أسداسه؛ فلأن خمسمائة من ستمائة خمسة أسداسها. وأما كونه إذا وقعت على العبد الذي قيمته ثلاثمائة خمسة أتساعه؛ فلأنه إذا ضربت قيمته وهي ثلاثمائة في ثلاثة كانت سبعمائة. فإذا نسبت خمس المائة منها كانت خمسة أتساعها. وأما كون كل شيء يأتي من هذا فسبيله أن يضرب في ثلاثة؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله تعالى من قوله: ليخرج بلا كسر. قال: (وإن أعتق واحداً من ثلاثة أعبد فمات أحدهم في حياته أقرع بينه وبين الحيين. فإن وقعت على الميت رق الآخران، وإن وقعت على أحد الحيين عتق إذا خرج من الثلث). أما كون الميت يقرع بينه وبين الحيين؛ فلتمييز المعتق منهم. وأما كون القرعة إذا وقعت على الميت رقّ الآخران؛ فلأنه تبين أنه لا عتق فيهما. وأما كونها إذا وقعت على أحد الحيين يعتق؛ فلأن القرعة مميزة. واشترط المصنف في هذه الصورة: الخروج من الثلث في العتق؛ لأن تصرف المريض معتبر من الثلث. ولم يشترط في الصورة الأولى؛ لأن الميت إن كان وقف الثلث فلا إشكال فيه، وإن كان أكثر فالزائد على الثلث هلك على مالكه، وإن كان أقل فلا يعتق من الآخرين شيء؛ لأنه لم يعتق إلا واحداً. وأما إذا وقعت على أحد الحيين فلا بد من اعتبار القيمة؛ لأن العبرة بالثلث عند الموت، والميت قبله هلك من أصل المال.

قال: (وإن أعتق الثلاثة في مرضه فمات أحدهم في حياة السيد فكذلك في قول أبي بكر. والأولى أن يقرع بين الحيين ويسقط حكم الميت). أما كون حكم الثلاثة إذا أعتقهم في مرضه فمات أحدهم في حياة السيد كحكم الواحد المعتق من الثلاثة إذا مات أحدهم في قول أبي بكر؛ فلأنهما سواء معنى. فكذا يجب أن يكون حكماً. فإن قيل: حكم عتق الثلاثة ليس كحكم عتق أحدهم في بعض الصور؛ لأن الميت لو كانت قيمته أقل من الآخرين. فإذا وقعت القرعة عليه عتق من أحد الآخرين تكملة الثلث في عتق الثلاثة. وليس كذلك في عتق أحدهم. قيل: غرض المصنف رحمه الله تعالى التشبيه في نفس القرعة وعتق أحدهم من غير تعرض لقيمة. أو يحمل قوله: على عبيد قيمتهم متساوية، وتكون فائدة تقييده: العتق بالخروج من الثلث احتمال كونه مالكاً لشيء غير العبيد. وأما كون الأولى أن يقرع بين الحيين ويسقط حكم الميت: أما القرعة بين الحيين؛ فلأن الحق فيهما وهو محتاج إلى التمييز. فشرعت القرعة بينهما؛ كما لو أعتق اثنين. وأما سقوط حكم الميت؛ فلأن الهلاك صادف حقاً مشتركاً في الكل. فوجب هلاكه على الكل. وإذا هلك على الكل لم يبق للميت حكم.

باب التدبير

باب التدبير التدبير: مصدر دبّر. يقال: دبر تدبيراً؛ كما يقال: سلم تسليماً. قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهو: تعليق العتق بالموت. ويعتبر من الثلث). أما قول المصنف: وهو تعليق العتق بالموت؛ فبيان لمعنى التدبير شرعاً. وسمي العتق بعد الموت تدبيراً؛ لأنه إعتاق في دبر الحياة؛ لأن الوفاة دبر الحياة. يقال: دابر الرجل مدابرة إذا مات. والأصل في صحته السنة والإجماع: أما السنة فما ورى جابر «أن رجلاً أعتق مملوكاً له عن دبر» (¬1). متفق عليه. وأما الإجماع فقال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من دبّر عبده أو أمته ولم يرجع عن ذلك حتى مات، والمدبر يخرج من الثلث بعد قضاء الدين إن كان عليه، وإنفاذ وصاياه إن كان وصى، وكان السيد بالغاً جائز التصرف: أن الحرية تجب له أو لها. وأما كونه يعتبر من الثلث؛ فلأنه تبرع بعد الموت. فاعتبر من الثلث؛ كسائر الوصايا. قال: (ويصح من كل من تصح وصيته. وصريحه لفظ: العتق والحرية المعلقين بالموت. ولفظ: التدبير، وما تصرف منها). أما كون التدبير يصح من كل من تصح وصيته؛ فلأنه تصرف بعد الموت. أشبه الوصية. وأما كون صريحه لفظ: العتق المعلق بالموت؛ كأنت عتيق بعد موتي، وما تصرف منه؛ كأنت معتق بعد موتي. ولفظ: الحرية المعلق بالموت؛ كأنت حر بعد ¬

_ (¬1) سيأتي ذكر الحديث وتخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

موتي، وما تصرف منه؛ كأنت محرر بعد موتي. ولفظ: التدبير، وما تصرف منه؛ كأنت مدبّر ودبّرتك وما أشبهه؛ فلأن جميع ذلك لا يحتمل غير التدبير. وقد تقدم (¬1) أن الفعل المضارع المتصرف من العتق والحرية لا يقع به شيء. فكذلك هنا. قال: (ويصح مطلقاً ومقيداً بأن يقول: إن متُّ من مرضي هذا، أو عامي هذا فأنت حر أو مدبر). أما (¬2) كون التدبير يصح مطلقاً ومقيداً؛ فلأنه تعليق للعتق على شرط. فصح مطلقاً ومقيداً؛ كتعليق العتق بعد الموت. وأما كون المقيد كما مثل المصنف رحمه الله تعالى؛ فلأنه قيد المرض والعام بكونه "هذا". وهو تقييد خاص. وقد يكون غير خاص لجواز تعلق العتق على صفة؛ مثل أن يقول: إن دخلت الدار، أو إن قدم زيد، أو إن شفى الله مريضي فأنت مدبر، أو حر. وفي هذا الضرب لا يصير مدبراً في الحال؛ لأنه علق التدبير بشرط فإذا وجد صار مدبراً يعتق بعد الموت. ولو وجد الشرط بعد الموت لم يعتق؛ لأن إطلاق الشرط يقتضي وجوده في الحياة. قال: (وإن قال: متى شئت فأنت مدبر فمتى شاء في حياة السيد صار مدبراً. وإن قال: إن شئت فأنت مدبر فقياس المذهب أنه كذلك. وقال أبو الخطاب: إن شاء في المجلس صار مدبراً، وإلا فلا). أما كون المقول له: متى شئت فأنت مدبر يصير مدبراً متى شاء في حياة السيد؛ فلأن "متى" اسم غير مختص بزمان. فإن قيل: لم قيدت المشيئة بحياة السيد؟ قيل: لأن ذلك شرط. وقد تقدم أن إطلاق الشرط يقتضي وجوده في الحياة. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في أ: وأما.

وأما كون قياس المذهب في قوله: إن شئت فأنت مدبر كذلك فإنه لا فرق في المذهب بين قول الرجل لزوجته: إن شئتِ فأنتِ طالق، وبين قوله: متى شئتِ فأنتِ طالق من حيث: إن كل واحدٍ منهما لا يتقيد بالمجلس. وأما كونه يصير مدبراً إن شاء في المجلس وإلا فلا في قول أبي الخطاب؛ فلأن المشيئة كالاختيار. ولو قال الرجل لزوجته: اختاري نفسك تقيد بالمجلس فكذلك المشيئة. وفرّق المصنف رحمه الله تعالى في بعض كتبه بين: اختاري، وبين تعليق الطلاق على المشيئة من حيث: إن "اختاري" ليس بشرط، وإنما هو تخيير فتقيد بالمجلس؛ كخيار المجلس. وهذا الفرق متجه هنا. قال: (وإذا قال: قد رجعت في تدبيري أو قد أبطلته لم يبطل؛ لأنه تعليق العتق بصفة. وعنه: يبطل؛ كالوصية). أما كون التدبير لا يبطل بذلك على المذهب؛ فلما علله المصنف. وأما كونه يبطل على رواية؛ فلأن نفوذه يتوقف على الموت. أشبه الوصية. وتحقيق الكلام في ذلك: أن في التدبير شبهين: أحدهما: بالعتق المعلق بالصفة؛ لاشتراكهما في التعليق. فعلى لحظ هذا الشبه لا يبطل التدبير بالإبطال؛ لما تقدم في العتق. والثاني: بالوصية؛ لاشتراكهما في عدم النفوذ إلا من الثلث، وفي كونهما تبرعاً بعد الموت. فعلى لحظ هذا الشبه يبطل بالإبطال؛ لأن الوصية تبطل بالإبطال. فكذلك ما يشبهها. قال: (وله بيع المدبر وهبته. وإن عاد إليه عاد التدبير. وعنه: لا يباع إلا في الدَّيْن. وعنه: لا تباع الأمة خاصة). أما كون السيد له بيع المدبر مطلقاً سواء كان عليه دين أو لم يكن على المذهب؛ فلما روى جابر «أن رجلاً أعتق مملوكاً له عن دُبُر. فاحتاج. فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتريه منه؟ فباعه من نعيم بن عبدالله بثمانمائة درهم. فدفعها إليه، وقال: أنت أحوج» (¬1). متفق عليه. ولأنه عتق بصفة فلم يمنع البيع؛ كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر. وأما كونه لا يباع إلا في الدَّين على رواية؛ فلأن الدين يقدم على العتق المحقق في بعض المواضع. فلأن يقدم على ما العقد فيه سبب الحرية بطريق الأولى. وأما كون الأمة لا تباع خاصة على روايةٍ؛ لأن في جواز بيعها إباحة لفرجها، وتسليط مشتريها على وطئها مع وقوع الخلاف في بيعها، وحِلِّها. بخلاف المدبر. قال المصنف في المغني: هذا -يعني الأول- هو الصحيح؛ لما تقدم من الحديث. والقياس مع وجوده لا يصح فوجب العمل به؛ لأنه لم يعارضه معارض. وأما كونه له هبته؛ فلأنه كبيعه معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وحكمه في الخلاف المتقدم ذكره كحكم بيعه، ذكره المصنف في الكافي. ولعله اكتفى هنا -أي في المقنع- بذكر البيع عن الهبة؛ لظهور تساويها في المعنى. وأما كون التدبير يعود إذا عاد المدبر إلى ملك السيد على الرواية الأولى؛ فلأنه علق عتقه بصفة. فإذا باعه ثم اشتراه عادت الصفة؛ كما لو قال: أنت حر إن دخلت الدار ثم باعه ثم اشتراه. وقال القاضي: العود مبني على أن التدبير هل هو تعليق للعتق بصفة أم وصية؟ فإن قيل: هو تعليق عاد بالعود، وإن قيل: هو وصية فلا يعود؛ لأن الموصى به لو باعه الموصي ثم اشتراه لم تعد الوصية. قال: (وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها فهو بمنزلتها. ولا يتبعها ولدها من قبل التدبير). أما كون ولد المدبرة الحادث بعد تدبيرها بمنزلتها؛ فلأن عمر وابنه وجابراً قالوا: «ولدها بمنزلتها» (¬2). ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة. فكان إجماعاً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2034) 2: 753 كتاب البيوع، باب بيع المزايدة. وأخرجه مسلم في صحيحه (997) 3: 1289 كتاب الأيمان، باب جواز بيع المدبر. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 348 كتاب عتق أمهات الأولاد، باب ولد أم الولد من غير سيدها بعد الاستيلاد. عن عبدالله بن عمر.

ولأن الأم استحقت العتق بموت سيدها. فوجب أن يتبعها ولدها؛ كأم الولد. وأما كون المدبرة لا يتبعها ولدها من قبل التدبير؛ فلأنه لا يتبع في العتق المنجز فلأن لا يتبع في المعلق بطريق الأولى. قال: (وله إصابة مدبرته. فإن أولدها بطل تدبيرها). أما كون السيد له إصابة مدبرته. والمراد بالإصابة: الوطء؛ فلأن المدبرة مملوكته فتدخل في قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3]. ولأن ثبوت العتق بالموت لا يمنع وطأها؛ كأم الولد. وأما كونه إذا أولدها يبطل تدبيرها؛ فلأن الاستيلاد أقوى من التدبير. فأبطله؛ لأن الضعيف لا يجامع القوي؛ كالنكاح والملك. قال: (وإذا كاتب المدبر أو دبر المكاتب جاز). أما كون كتابة المدبر تجوز؛ فلأن الأثرم روى عن أبي هريرة وابن مسعود والحسن جوازه. ولفظ أبي هريرة عن مجاهد قال: «دبّرتِ امرأة من قريش خادماً. ثم أرادت أن تُكاتبه قال: فكتب الرسول إلى أبي هريرة فقال: كاتبيهِ. فإن أدّى كتابته فذلك، وإن حدثَ بكِ حدثٌ عَتَق» (¬1). ولأن التدبير إن كان عتقاً بصفة لم يمنع الكتابة؛ كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر ثم كاتبه، وإن كان وصية فالوصية بالمكاتب جائزة. وأما كون تدبير المكاتب يجوز؛ فلأن المصنف قال في المغني: لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنه تعليق عتق بصفة وهو يملك إعتاقه أو وصيته وهو يملك ذلك فيها. قال: (فإن أدّى عتق وإن مات سيده قبل الأداء عتق إن حَمَل الثلث ما بقي من كتابته. وإلا عتق منه بقدر الثلث وسقط من الكتابة بقدر ما عتق. وهو على الكتابة فيما بقي). أما كون المكاتب إذا أدى يعتق؛ فلأن شأن المكاتب ذلك؛ لما تقدم. وهو مكاتب. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 314 كتاب المدبر، باب كتابة المدبر.

ولأن مفهوم قوله عليه السلام: «المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم» (¬1): نفيُ العبودية عنه عند حصول الأداء. وأما كونه إذا مات سيده قبل الأداء يعتق؛ فلأن شأن المدبر ذلك وهو مدبر. وأما قول المصنف: إن حَمَل الثلث ما بقي من كتابته؛ فلأن المدبر يعتبر في عتقه بالتدبير خروجه من الثلث. وأما كون قدر الثلث يعتق إن لم يخرج كله من الثلث؛ فلأن ذلك لا مانع له. وأما كون الكتابة يسقط منها بقدر ما عتق؛ فلانتفاء محلها بالعتق. وأما كونه على الكتابة فيما بقي؛ فلأن محلها لم يعارضه شيء. فعلى هذا لو خرج نصفه من الثلث عتق بصفة، وسقط نصف الكتابة، وبقي نصفه مكاتباً. فإن قيل: الذي يحتسب من الثلث ما هو؟ قيمة المدبر وقت موت سيده أم قدر الكتابة. قيل: قيمته؛ لأن المدبر لو لم يكن مكاتباً لاعتبرت قيمته. فإن قيل: كلام المصنف ينافي ذلك؛ لأنه اعتبر الكتابة. قيل: يحمل على أنها وفق القيمة؛ لأن الظاهر وقوع الكتابة بالقيمة. ولقائل أن يقول: أن الظاهر وقوعها بأكثر من القيمة لوجهين: أحدهما: أن مالها مؤجل، والتأجيل له قسط من الثمن. والثاني: أنها بيع بعض ماله ببعضه فلو لم يزد على القيمة لما رغب فيها. ثم في كلام المصنف رحمه الله تعالى إشكال من وجه آخر؛ لأنه قال: إن حمل الثلث ما بقي من كتابته والمسألة مفروضة فيمن لم يؤد من الكتابة شيئاً؛ لأنه قال: وإن مات سيده قبل الأداء، وكأن المصنف رحمه الله تعالى قصد متابعة الخرقي في هذا اللفظ. فإن قيل: لم عدل المصنف عن بطلان الكتابة إلى قوله: وسقط من الكتابة بقدر ما عتق؟ ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قيل: لأن سقوط مال الكتابة بحسب العتق لا خلاف فيه بخلاف بطلانها في نفسها. فإن اختياره أنها لا تبطل صرح به في المغني؛ لأن السيد إذا كانت عنده لم يملك إبطالها؛ لأنها عقد لازم. وإنما صح تدبيره؛ لأنه إسقاط لحقه الذي عليه. وحكى عن الأصحاب أنهم قالوا: يبطل بحصول العتق بالتدبير. وفائدة الخلاف: أن ما في يد المكاتب له عند المصنف إذا عتق بالتدبير؛ لأنه بمنزلة ما لو أبرأه، ولورثة السيد عند الأصحاب؛ لأن حكم الكتابة قد ارتفع. قال: (وإذا دبّر شِركاً له في عبدٍ لم يسرِ إلى نصيب شريكه. وإن أعتق شريكه سرى إلى المدبر وغرم قيمته لسيده. ويحتمل أن يسري في الأول دون الثاني). أما كون من دبّر شركاً له في عبد لا يسري إلى نصيب شريكه على المذهب؛ فلأن التدبير تعليقٌ للعتق على صفة. فلم يسر؛ كما لو علقه بدخول الدار. وأما كون شريكه إذا أعتق يسري إلى المدبر ويغرم قيمته لسيده على المذهب؛ فلأن ذلك داخل في عموم قوله عليه السلام: «من أعتقَ شِركاً له في عبد فكان له ما يبلغ قيمةَ العبد، قوّم عليه قيمةَ عَدل، وأعطى شركاءه حصصهم» (¬1). وأما كونه يحتمل أن يسري في الأول؛ فلأن المدبر بعضه استحق العتق بموت سيده. فسرى إلى نصيب شريكه؛ كأم الولد. وأما كونه يحتمل أن لا يسري في الثاني؛ فلأن الشريك قد استحق الولاء على العبد بموته. فلم يكن للآخر إبطاله. قال: (وإذا أسلم مدبّر الكافر لم يقر في يده، وتُرِك في يد عدل ينفق عليه من كسبه وما فضل لسيده. وإن أعوز فعليه تمامه. إلا أن يرجع في التدبير ونقول بصحة رجوعه فيجبر على بيعه). أما كون مدبر الكافر إذا أسلم لا يقر في يد سيده؛ فلأن المسلم لا يقر في يد الكافر. وأما كونه يترك في يد عدل -وإن كان الواجب في عبد الكافر إذا أسلم بيعه- إذا لم يرجع في التدبير ... إلى آخره؛ فلأن في البيع إبطال سبب العتق فكان في تركه في يد عدل إبقاء لسبب العتق، وانتظاراً لعتقه. وذلك أصلح وأولى. وقال المصنف في المغني: يحتمل أن يؤمر بإزالة ملكه عنه ويجبر عليه؛ لئلا يبقى كافر مالكاً لمسلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونه ينفق عليه من كسبه؛ فلأنه أولى الأشياء به. وأما كون ما فضل لسيده؛ فلأنه مملوكه وذلك شأن المملوك. وأما كون تمام النفقة إذا أعوز الكسب على الكافر؛ فلأنه مملوكه ونفقة المملوك على السيد وإن لم يكن له كسب. وأما كون السيد يجبر على بيعه ولا يترك في يد عدل إذا قبل بصحة الرجوع على ما فيه من الخلاف؛ فلأن الكافر لا يقر على استمرار ملكه على المسلم. قال: (ومن أنكر التدبير لم يحكم عليه إلا بشاهدين. وهل يحكم عليه (¬1) بشاهدٍ وامرأتين أو بشاهدٍ ويمين العبد؟ على روايتين. وإذا قتل المدبّر سيده بطل تدبيره). أما كون من أنكر التدبير لا يحكم عليه بغير ما ذكر؛ فلأنه منكر، والقول قول المنكر. وأما كونه يحكم عليه بشاهدين؛ فلأن الشاهدين بينة، وهي تُظهر الحق. ولا بد من لحظ عدالة الشاهدين؛ لأن ذلك شرط في البينة. وأما كونه يحكم عليه بشاهدٍ وامرأتين أو شاهدٍ ويمين على روايةٍ؛ فبالقياس على البيع. وأما كونه لا يحكم عليه بذلك على روايةٍ؛ فلأن الغرض إثبات الحرية وتكميل الأحكام. فلا يثبت ذلك إلا بشهادة عدلين؛ كالنكاح والطلاق. وأما كون المدبر إذا قتل سيده يبطل تدبيره؛ فلأنه قصد استعجال العتق بالقتل المحرم الذي جعل شرطاً لعتقه فعوقب بنقيض قصده. فسلب الموت حكمه في العتق الذي قصد القتل لأجله؛ قطعاً لاتخاذ ذلك وسيلة إلى العتق؛ كما حُرم القاتل الميراث. ولأن التدبير وصية أو في معنى الوصية وكلاهما يبطل بالقتل. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع.

باب الكتابة

باب الكتابة الكتابة مصدر كاتب. يقال: كاتب عبده كتابة ومكاتبة. قال المصنف رحمه الله: (وهي: بيع العبد نفسه بمال في ذمته. وهي مستحبة لمن يُعلم فيه خيراً. وهو: الكسب والأمانة. وعنه: أنها واجبة إذا ابتغاها من سيده أجبر عليها). أما قول المصنف رحمه الله: وهي بيع العبد نفسه بمال في ذمته؛ فبيان لمعنى الكتابة شرعاً. وأما كونها مستحبة في الجملة؛ فلما فيها من تخليص الرقبة من الرق. وأما كونها غير واجبة على المذهب؛ فلأنها إعتاق بعوض. فلا تجب؛ كالاستستعاء. وأما كونها واجبة على رواية؛ فلأن الله تعالى قال: {فكاتبوهم} [النور: 33] وظاهر الأمر الوجوب، وروي «أن ابن سيرين أبا محمد ابن سيرين كان عبداً لأنس بن مالك فسأله أن يكاتبه فأبى. فأخبر سيرينُ عمر بن الخطاب بذلك. فرفع الدرّة على أنس وقرأ عليه: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} [النور: 33]. فكاتبه أنس» (¬1). وأما كونها إذا ابتغاها العبد من سيده فامتنع يجبر عليها؛ فلأن هذا شأن الواجب. والأولى هي الصحيحة في المذهب؛ لما ذكر. والآية محمولة على الاستحباب. وقول عمر يخالفه نقل أنس. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 319 كتاب المكاتب، باب من قال: يجب على الرجل مكاتبة عبده قوياً أميناً ومن قال: لا يجبر عليها.

وأما قوله: لمن يُعلم فيه خيراً؛ فتنبيهٌ على أن كون العبد فيه خير يعلمه السيد شرط للاستحباب أو الوجوب؛ لأن الله تعالى شرط ذلك حيث قال: {إن علمتم فيهم خيراً} [النور: 33]. وفسر المصنف الخير بالكسب والأمانة؛ لأنه المناسب لإيقاع الكتابة. ونسب ذلك في المغني إلى الشافعي. ونقل عن أحمد فيه أن الخير: صدق، وصلاح، ووفاء بمال الكتابة. وهو قريب من الأول. قال: (وهل تكره كتابة من لا كسب له؟ على روايتين). أما كون كتابة من ذُكر تكره على روايةٍ؛ فلأن كتابة من لا كسب له إضرار (¬1) بالمسلمين، وجعله كَلاًّ وعيالاً عليهم مع ثبوت نفقته الواجبة على سيده. وأما كونها لا تكره على روايةٍ؛ فلأن بريرة كاتبها أهلها ولا حرفة لها. فلم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). قال (ولا تصح إلا من جائز التصرف. وإن كاتب المميز عبده بإذن وليه صح. ويحتمل أن لا يصح. وإن كاتب السيد عبده المميز صح). أما كون الكتابة لا تصح إلا من جائز التصرف؛ فلأنها عقد معاوضة. فلم تصح من غير جائز التصرف؛ كالبيع ونحوه. وأما كون كتابة المميز عبده بإذن وليه تصح على المذهب؛ فلأن تصرف المميز بإذن وليه صحيح في غير الكتابة. فكذلك فيها. وأما كونها يحتمل أن لا تصح؛ فلأن المميز غير مكلف. فلم يصح منه عقد الكتابة؛ كالمجنون. وأما كون كتابة السيد عبده المميز يصح؛ فلأنه مميز والمصلحة له في العتق لخلاصه من الرق. أشبه البالغ. ¬

_ (¬1) في أ: إضراراً. (¬2) سيأتي ذكر حديث بَريرة وتخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (ولا تصح إلا بالقول. وتنعقد بقوله: كاتبتك على كذا وإن لم يقل: فإذا أديت إليّ فأنت حر. ويحتمل أن يشترط قوله أو نيته). أما كون الكتابة لا تصح إلا بالقول؛ فلأنها إما بيع وإما تعليق للعتق على الأداء، وكلاهما لا يصح إلا بالقول. وأما كونها تنعقد بقوله: كاتبتك على كذا وإن لم يقل: فإذا أديت إليّ فأنت حر على المذهب؛ فلأنه صريح في الكتابة. فانعقد به؛ كصريح البيع وغيره. وأما كونه يحتمل أن يشترط قوله أو نيته؛ فلأن الكتابة في المعنى تعليقٌ للعتق على الأداء. فلا بد من التلفظ به أو نيته. قال: (ولا تصح إلا على عوض معلومٍ مُنَجَّمٍ نجمين فصاعداً. يُعلم قدر ما يؤدي في كل نجم. وقيل: تصح على نجمٍ واحد. وقال القاضي: تصح على عبد مطلق وله الوسط). أما كون الكتابة لا تصح إلا على عوض معلوم على المذهب؛ فلأن الكتابة عقد معاوضة. فلا يصح مع جهل العوض؛ كالبيع. ولأن الكتابة بيع. فاشترط فيها العلم بالعوض؛ كسائر البياعات. وأما كونه منجماً والمعنِيُّ به أن لا يكون حالاًّ؛ فلأن جماعة من الصحابة عقدوا الكتابة. ولم ينقل عن واحدٍ منهم أنها عقدها حالّة، ولو كان ذلك يجوز لم يتفق جميعهم على تركه. ولأن الكتابة عقد معاوضة يعجز عن أداء عوضها حالاًّ. فكان من شرطه التأجيل؛ كالسلم. وأما كون العوض مُنَجَّماً نجمين فصاعداً. فقال الإمام أحمد: من الناس من يقول: نجمان، ومنهم من يقول: نجم، ونجمان أحب إليّ. وظاهره أنه ذهب إلى أنه لا يجوز أقل من نجمين. ووجهه: أن الكتابة مشتقة من الضم. فوجب افتقارها إلى نجمين؛ ليحصل الضم. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: «الكتابة على نجمين».

وعن عثمان رضي الله عنه: «أنه غضب على عبد له فقال: لأعاقبنك، ولأكاتبنك على نجمين» (¬1). وقال ابن أبي موسى: تصح على نجمٍ واحدٍ؛ لأنه عقدٌ يشترط فيه التأجيل. فجاز أن يكون إلى أجلٍ واحد؛ كالسلم. ولأن اعتبار التأجيل؛ ليتمكن من تسليم العوض، وهذا يحصل بنجمٍ واحد. وأما كون قدر ما يؤدي في كل نجمٍ يعلم؛ فلئلا يؤدي إلى المنازعة. وأما كون الكتابة على عبدٍ مطلق وله الوسط على قول القاضي؛ فلأنه كذلك عنده في النكاح والخلع. فليكن كذلك في الكتابة. قال: (وتصح على مال وخدمة سواء تقدمت الخدمة أو تأخرت). أما كون الكتابة على ما ذكر؛ فلأن كل واحدٍ منهما يصح أن يكون عوضاً في غير الكتابة. فكذلك يجب أن يصح فيها. وأما كونها تصح سواء تقدمت الخدمة أو تأخرت؛ فلأن تقدمها أو تأخرها لا يخرجها عن كونها تصح أن تكون عوضاً. وفي قول المصنف رحمه الله ذلك إشعار بصحة كونها حالّة. فإن قيل: لم صح الحلول في الخدمة دون المال (¬2)؟ قيل: لأن المنع من الحلول في المال إنما كان لئلا يتحقق عجزه عن أداء العوض وهذا مفقود في الخدمة؛ لأنه قادر عليها. قال: (وإذا أدى ما كوتب عليه أو أُبرئ منه: عتق. وما فضل في يده فهو له. وعنه: أنه إذا ملك ما يؤدي صار حراً ويجبر على أدائه). أما كون من أدى ما كوتب عليه أو أُبرئ منه يعتق؛ فلأن موضوع الكتابة العتق بتقدير الأداء أو الإبراء. فيجب أن يحصل عند حصول أحدهما. ولأن رقبته بالأداء أو الإبراء تمحضت له. فوجب أن يعتق عملاً بالملك المقتضي له السالم عن معارضة حق السيد. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 320 كتاب المكاتب، باب مكاتبة الرجل عبده أو أمته على نجمين فأكثر بمال صحيح. (¬2) بياض في أمقدار كلمة، ولعل الصواب ما أثبتناه.

وأما كون ما فضل في يده [له] (¬1)؛ فلأنه مالكٌ له. بدليل صحة تصرفه فيه قبل العتق. وفي تعليق العتق بالأداء أو الإبراء إشعار بأنه لا يصير حراً إذا ملك ما يؤدي وذلك صحيح على المذهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم» (¬2) رواه أبو داود. وأما كونه يصير حراً بذلك على رواية؛ فلما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان لإحداكن مُكاتبٌ وكان عنده ما يُؤدي فلتحتجبْ منه» (¬3). رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ولأنه مالك لوفاء الكتابة. أشبه ما لو أدّاه. فعلى هذا إن أدى ما عليه من الكتابة فلا كلام، وإن امتنع أجبر عليه؛ لأنه حقٌّ واجب. أشبه سائر الحقوق الواجبة. وإن هلك بقي في ذمته؛ لأنه هلك بعد الحكم بعتقه. فلم يرتفع العتق وتعين ثبوته في الذمة؛ لأنها محل الحق. والأول المذهب؛ لما تقدم. ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما عبدٍ كاتبَ على مائة أوقيةٍ فأدّاها إلا عشرةَ أواقٍ فهو عبد، وأيما عبدٍ كاتبَ على مائة دينارٍ فأدّاها إلا عشرةَ دنانيرَ فهو عبد» (¬4)، وفي لفظ: «[من] كاتبَ عبدهُ على مائة ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3926) 4: 20 كتاب العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3928) 4: 21 كتاب العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت. وأخرجه الترمذي في جامعه (1261) 3: 562 كتاب البيوع، باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2520) 2: 842 كتاب العتق، باب المكاتب. قال السندي: ذكر البيهقي عن الشافعي ما يدل على أن الحديث لا يخلو من ضعف؛ لأن راويه نبهان. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3927) 4: 20 كتاب العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت.

أوقيةٍ فأدّاها إلا عشرةَ أواقٍ -أو قال: عشرة دراهم- ثم عَجَزَ فهو رقيق» (¬1). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب. ولأنه عتق عُلّق بعوض. فلم يعتق قبل أدائه؛ كما لو قال: إذا أديت إليّ ألفاً فأنت حر. قال: (فلو مات قبل الأداء كان ما في يده لسيده في الصحيح عنه. وعلى الرواية الأخرى: لسيده بقية كتابته، والباقي لورثته). أما كون ما في يد المكاتب لسيده في الصحيح عن الإمام أحمد إذا مات قبل الأداء؛ فلأن الصحيح أنه لا يعتق إلا بالأداء؛ لما تقدم. ولم يوجد. وأما كون بقية كتابته له والباقي لورثته على الرواية الأخرى؛ فلأنه يعتق بملك الوفاء. فيكون لسيده ما ذكر، والباقي لورثته. ويمكن أن يحمل الكلام المذكور على أن الكتابة هل تنفسخ بموت المكاتب إذا خلف وفاء؟ وفيه روايتان: إحداهما: تنفسخ؛ لأنه مات قبل أداء الكتابة. فوجب أن تنفسخ؛ كما لو لم يكن له وفاء. ولأنه عتق معلق بشرط مطلق. فينقطع بالموت؛ كما لو قال: إذا أديت إليّ ألفاً فأنت حر. فعلى هذا يكون المال الذي في يده لسيده؛ لأنه عبده. والثانية: لا تنفسخ؛ لأنه عقد معاوضة. فلم تنفسخ بموت أحد المتعاقدين؛ كالآخر. والمراد السيد. فعلى هذا يكون للسيد قدر الكتابة أو بقيتها؛ لأنه يستحقه. والباقي لورثة المكاتب؛ لأنه حقهم. والأول أصح؛ لما ذكر. والفرق بين العبد وبين السيد: أن حق العقد متعلق بعين العبد وهو ثبوت حريته، وذلك متعذر بالموت. بخلاف السيد. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1260) 3: 561 كتاب البيوع، باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي. وما بين المعكوفين زيادة من الجامع.

قال: (وإذا عُجلت الكتابة قبل مَحِلِّها لزم السيد الأخذ وعتق. ويحتمل أن لا يلزمه ذلك إذا كان في قبضه ضرراً). أما كون السيد يلزمه أخذ ما ذكر إذا لم يكن فيه ضرر؛ فلأن تعجيله محض مصلحة. فلزم قبوله؛ كما لو دفع إليه أجودَ من حقه من جنسه. ولأنه يروى «أن رجلاً أتى عمر. فقال: يا أمير المؤمنين! إني كاتبت على كذا وكذا، وإني أيسرت بالمال. فأتيته بالمال. فزعم أنه لا يأخذها إلا نُجُوماً. فقال عمر: يا برقا! خذ هذا المال فاجعله في بيت المال، وأدّ إليه نُجُوماً في كل عام. وقد عتق هذا. فلما رأى ذلك سيده أخذ المال» (¬1). وعن عثمان نحوه (¬2). رواه عنهما سعيد بن منصور في سننه. ولأن الأجل حق لمن عليه الدين فإذا عجله فقد رضي بإسقاط حقه. فيجب أن يسقط؛ كسائر الحقوق. وأما كونه إذا عجله وفي قبضه ضرر. وهو: ما يختلف حديثه وقديمه، أو يحتاج إلى مؤونة في حفظه، أو يدفعه في حال خوفٍ يخاف ذهابه، أو يفسد؛ كالعنب والرطب، أو ما يخاف تلفه؛ كالحيوان: يلزمه أخذه على المذهب؛ فلأن عمر وعثمان قضيا بأخذه من غير تفصيل. فعلى هذا يعتق. وأما كونه يحتمل أن لا يلزمه أخذه فيما ذكر على روايةٍ؛ فلأن بقاء المكاتب في هذه المدة في ملكه حقٌّ له، ولم يرض بزواله. فلم يزل؛ كما لو علق عتقه على شرط لم يعتق قبله. وظاهر كلام المصنف هاهنا أنه إذا لم يكن في قبضه ضرر لا خلاف في لزوم أخذه؛ لأنه قيّد الخلاف بالضرر. وقال في المغني: أن الروايتين عن الإمام أحمد مطلقتان، وأن الصحيح في المذهب اللزوم، وأن القاضي قال: المذهب عندي التفصيل. وذكر في الكافي: أنه إن كان ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 335 كتاب المكاتب، باب تعجيل الكتابة. (¬2) أخرجه البيهقي في الموضع السابق.

في قبضه ضرر لم يلزمه قبضه؛ لما فيه من الضرر، وإن لم يكن في قبضه ضرر ففيه روايتان. قال: (ولا بأس أن يعجل المكاتب لسيده ويضع عنه بعض كتابته). أما كونه لا بأس بما ذكر فلأن الملحوظ في الكتابة جانب المكاتب لا جانب السيد. وأما كونه لا بأس بما ذكر في دين الكتابة دون غيره؛ فلأن دين الكتابة غير مستقر وليس بدين في الحقيقة. بخلاف غيره فإنه مستقرٌ ودين في الحقيقة. قال: (وإذا أدى وعتق. فوجد السيد بالعوض عيباً: فله أرشه، أو قيمته. ولا يرتفع العتق). أما كون السيد له الأرش أو القيمة؛ فلأن إطلاق العقد يقتضي السلامة. فإذا تعذر رد المكاتب رقيقاً وجب أحدهما؛ لأن فيه جبر ما اقتضاه إطلاق العقد. وأما كونه لا يرتفع العتق؛ فلأن العتق إتلاف. فإذا حكم بوقوعه لم يبطل؛ كعقد الخلع. ولأنه ليس المقصود منه المال. أشبه الخلع. والله أعلم.

فصل [فيما يملك المكاتب] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ويملك المكاتب أكسابه، ومنافعه، والشراء، والبيع، والإجارة، والاستئجار، والسفر، وأخذ الصدقة، والإنفاق على نفسه وولده ورقيقه، وكل ما فيه صلاح المال). أما كون المكاتب يملك أكسابه ومنافعه والتصرف ... إلى قوله وأخذ الصدقة؛ فلأن عقد الكتابة إنما عقد لتحصيل العتق، ولا يحص ل إلا بأداء عوضه، ولا يمكنه إلا بملك أكسابه والتصرف بحسب اختياره على وجه المصلحة. وأما كونه يملك كل ما فيه صلاح المال؛ فلما في ذلك من الصلاح. قال: (فإن شرط عليه أن لا يسافر ولا يأخذ الصدقة فهل يصح الشرط؟ على وجهين). أما كون الشرط المذكور يصح على وجهٍ؛ فلأن له فيه غرضاً صحيحاً وهو أن لا يطعمه أوساخ الناس. وأما كونه لا يصح على وجه؛ فلأن ذلك وسيلة إلى تحصيل عتقه. فلم يصح اشتراط عدمه؛ كما لو اشترط عليه بأن لا يبيع ولا يشتري. قال: (وليس له أن يتزوج، ولا يتسرى، ولا يتبرع، ولا يقرض، ولا يحابي، ولا يقتص من عبده الجاني على بعض رقيقه، ولا يعتق، ولا يكاتب: إلا بإذن سيده. وولاء من يعتقه ويكاتبه لسيده). أما (¬1) كون المكاتب ليس له أن يتزوج بغير إذن سيده؛ فلأنه عبد. فيدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما عبدٍ تزوج بغير إذن مواليهِ فهوَ عَاهِر» (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: وأما. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2078) 2: 228 كتاب النكاح، باب في نكاح العبد بغير إذن سيده. وأخرجه الترمذي في جامعه (1112) 3: 420 كتاب النكاح، باب ما جاء في نكاح العبد بغير إذن سيده.

ولأن على السيد في ذلك ضرراً؛ لأنه يحتاج أن يؤدي المهر والنفقة من كسبه، وربما عجز. فيرق ويرجع إليه ناقص القيمة. وأما كونه له ذلك بإذن سيده؛ فلأن مفهوم الحديث يدل عليه. ولأن المنع لحقه فإذا أذن له فقد أسقط حقه. ولأنه لو أذن للعبد القن في النكاح صح منه. فالمكاتب أولى. وأما كونه ليس له أن يتسرى بغير إذن؛ فلأن ملكه غير تام. ولأن على السيد في ذلك ضرراً. فإنه ربما أحبلها وعجز عن أداء مال الكتابة فإذا فسخت عاد ماله إليه ناقصاً؛ لأن الحبل مخوفٌ في بنات آدم. وأما كونه له ذلك إذا أذن له سيده؛ فلأنه لو أذن للعبد القن في التسري جاز. فالمكاتب أولى. وأما كونه ليس له أن يتبرع بغير إذن سيده؛ فلأنه محض ضرر. فمنع منه؛ كالعبد القن. وأما كونه له ذلك إذا أذن له فيه؛ فلأن الحق له. وأما كونه ليس له أن يقرض بغير إذنه؛ فلأنه بعرضية أن لا يرجع إليه؛ لأن المقترض ربما أفلس أو مات ولا شيء له. وأما كونه له ذلك إذا أذن له فيه؛ فلأن الحق له. وأما كونه ليس له أن يحابي بغير إذنه؛ فلأنه تبرع. فمنع منه؛ كالهبة. ولأن في ذلك ضرراً على السيد. وأما كونه له ذلك إذا أذن فيه؛ فلما تقدم. وأما كونه ليس له أن يقتص من عبده الجاني على بعض رقيقه؛ فلأنه إتلاف لماله باختياره. ولأن في ذلك ضرراً على السيد.

وقال القاضي: له ذلك؛ لأنه من مصالح ملكه؛ لأنه إذا لم يستوف ذلك صار وسيلة إلى إقدام بعضهم على بعض. وأما كونه ليس له أن يعتق بغير إذن سيده؛ فلأنه محض تبرع. أشبه الهبة. وأما كونه له ذلك بإذن سيده؛ فلما تقدم غير مرة. وأما كونه ليس له أن يكاتب بغير إذنه؛ فلأنه ليس له أن يعتق. فلم يكن له أن يكاتب؛ كالمأذون له في التجارة. وأما كونه له ذلك إذا أذن له فيه؛ فلأن الحق له. فإذا أذن فيه صار كسائر الحقوق. وأما كون ولاء من يعتقه ويكاتبه لسيده؛ فلأنه إذا ثبت له الولاء على المكاتب. فلأن يثبت على من أنعم على المكاتب بطريق الأولى. قال: (ولا يكفّر بالمال. وعنه: له ذلك بإذن السيد). أما كون المكاتب ليس له أن يكفر بالمال إذا لم يأذن له سيده في ذلك؛ فلأنه عبد. ولأنه في حكم المعسرين. بدليل أنه لا يلزمه زكاة ولا نفقة قريب، وله أخذ الزكاة. وأما كونه ليس له ذلك إلا إذا أذن له سيده فيه على المذهب؛ فلما تقدم. وأما كونه له ذلك على رواية؛ فلأن الحق للسيد وقد أذن فيه. وهذا الخلاف في الجواز لا في الوجوب؛ لأنه لو وجب عليه التكفير بالمال لكان عليه في ذلك ضرر؛ لما فيه من إفضائه إلى تفويت الحرية. فلم يجب التكفير بالمال؛ كالتبرع. قال: (وهل له أن يرهن أو يضارب بماله؟ يحتمل وجهين). أما كون المكاتب ليس له أن يرهن أو يضارب على وجه؛ فلأن في ذلك ضرراً على السيد؛ لأن الرهن ربما استحق لتعذر الوفاء، وبيع في الدين، والمضاربة ربما خسر فيها، وربما كان فيها غرر من حيث: إنه سلم ماله لغيره. وأما كونه له ذلك على وجه؛ فلأن دين الرهن والمضاربة سببان للربح. أشبه الاستدانة من غير رهن، والمضاربة بمال الغير.

قال: (وليس له شراء ذوي رحمه إلا بإذن سيده. وقال القاضي: له ذلك. وله أن يَقْبَلهم إذا وهبوا له أو أوصي له بهم إذا لم يكن فيه ضرر بماله. ومتى ملكهم لم يكن له بيعهم. وله كسبهم وحكمهم حكمه فإن عتق عتقوا، وإن رق صاروا رقيقاً للسيد. وكذلك الحكم في ولده من أمته). أما كون المكاتب ليس له شراء ذوي رحمه إلا بإذن سيده على المذهب؛ فلأنه تصرف يؤدي إلى إتلاف ماله. فإنه يخرج من ماله ما يجوز له التصرف فيه في مقابلة ما لا يجوز له التصرف فيه. فصار كالهبة. وأما كونه له ذلك على قول القاضي؛ فلأنه يصح أن يشتريهم غير المكاتب. فصح أن يشتريهم؛ كغير ذوي رحمه. وما ذكر من أنه يخرج من ماله ما لا يجوز له التصرف فيه فمقابل بحصول الكسب والانتفاع بهم، وبهذا فارق الهبة فإنه لا نفع فيها. وأما كونه له أن يقبلهم إذا وهبوا له أو وصي له بهم إذا لم يكن فيه ضرر بماله؛ فلأنه ليس في القبول إتلاف مال ولا ضرر. مع أنه سبب لتحصيل الحرية بتقدير الأداء، وذلك مطلوب شرعاً. وأما كونه ليس له أن يبيعهم متى ملكهم؛ فلأن مقتضى الحال أنهم يعتقون عليه؛ لأنهم ملكه. إلا أنه لما كان في ذلك ضرراً على السيد لم يترتب على المقتضي مقتضاه فاقتضى وقوف الحال إلى أن يتبين هل يعتق أو يرق؟ . وأما كونه له كسبهم؛ فلأنهم مماليكه. وأما كون حكمهم حكمه؛ فلأنهم تبع له. وأما كونهم إذا عتق عتقوا وإذا رق صاروا رقيقاً للسيد؛ فلما ذكر في التبعية. ولأن ملكه استقر عليهم حينئذٍ وهم ذوو رحمه. فعتقوا عليه؛ كغيره. ولأن مقتضى الدليل أنهم يعتقون بمجرد الملك لكن عارضه حق للسيد وقد زال. فوجب أن يعمل المقتضي عمله. وأما كون حكم ولده من أمته كذلك؛ فلأنه من ذوي رحمه. فكان حكمه حكم ما تقدم ذكره.

قال: (وولد المكاتبة الذي ولدته في الكتابة يتبعها. وإن اشترى المكاتب زوجته انفسخ نكاحها). أما كون ولد المكاتبة المذكور يتبع المكاتبة؛ فلأن الكتابة سبب للعتق. فسرى إلى الولد؛ كالاستيلاد. وفي قول المصنف رحمه الله تعالى: الذي ولدته في الكتابة إشعار بأن الولد قبل الكتابة لا يتبعها وهو صحيح؛ لأنه لو باشرها بالعتق لم يتبعها ولدها. فلأن لا يتبعها في الكتابة بطريق الأولى. وأما كون المكاتب إذا اشترى زوجته ينفسخ نكاحها؛ فلأن المكاتب يملك ما يشتريه. بدليل أنه تثبت له الشفعة على سيده، ولسيده عليه، ويجري الربا بينه وبينه. قال: (وإن استولد أمته فهل تصير أم ولدٍ له يمتنع عليه بيعها؟ على وجهين). أما كون من استولد أمته تصير أم ولدٍ له يمتنع عليه بيعها على وجه؛ فلأنه مستولد به. أشبهت مستولدة الحر. وأما كونها لا تصير أم ولدٍ له يمتنع عليه بيعها على وجهٍ؛ فلأنها حملت بمملوك في ملكٍ غير تام. قال المصنف في المغني: والمذهب أنها تصير أم ولدٍ؛ لأن ولدها له حرمة الحرية. ولهذا لا يجوز بيعه.

فصل [فيما يملك السيد من المكاتب] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ولا يملك السيد شيئاً من كسبه ولا يبيعه درهماً بدرهمين. وإن جنى عليه فعليه أرش جنايته). أما كون السيد لا يملك شيئاً من كسب المكاتب؛ فلأن المكاتب يملكه. والمال الواحد لا يتوارد عليه مالكان في وقتٍ واحد. وأما كونه لا يبيعه درهماً بدرهمين؛ فلأن المكاتب مع سيده؛ كالأجنبي. وأما كونه إذا جنى عليه: عليه أرش جنايته؛ فلما ذكر من أنه معه؛ كالأجنبي. قال: (وإن حبسه مدةً فعليه أرفق الأمرين به من إنظاره مثل تلك المدة، أو أجرة مثله). أما كون السيد إذا حبس مكاتبه عليه أرفق الأمرين المذكورين؛ فلأن عقد الكتابة ملحوظٌ فيه حظ المكاتب. وأما كون أحدهما إنظاره مثل تلك المدة؛ فلأن ذلك نظير ما فاته. وأما كون الآخر أجرة مثله لمدة الحبس؛ فلأنه منعه من التصرف لوفاء ما عليه وفوّت منفعته في تلك المدة. أشبه ما لو حبس عبداً له صنعة. قال: (وليس له أن يطأ مكاتبته إلا أن يشترط. فإن وطئها ولم يشترط، أو وطئ أمتها فلها عليه المهر، ويؤدب، ولا يبلغ به الحد. وإن شرط وطئها فلا مهر لها عليه). أما كون السيد ليس له أن يطأ مكاتبته مع عدم الاشتراط؛ فلأن الكتابة عقد أزال ملك استخدامها، ومنع ملك عوض منفعة البضع فيما إذا وطئت بشبهة. فأزال حل وطئها؛ كالبيع.

وأما كونه له ذلك مع الاشتراط؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمنون على شروطهم» (¬1). ولأنه شرط منفعتها فوجب أن يصح؛ كما لو اشترط استخدامها. يحقق هذا أن ملكه باق عليها. وإنما منع من وطئها؛ لحقها. فإذا اشترطه جاز؛ كالخدمة. وأما كون السيد عليه المهر إذا وطئ المكاتبة ولم يشترط، أو وطئ أمتها؛ فلأنه عوض شيء مستحق المكاتبة. فكان لها؛ كبقية منافعها. ولا فرق بين المطاوعة والإكراه: أما مع الإكراه؛ فظاهر. وأما مع المطاوعة؛ فلأن الحد سقط عن السيد للملك. فوجب لها المهر؛ كما لو وطئ امرأة لشبه عقد. فإنها تستحق المهر مع المطاوعة. وأما كونه يؤدب؛ فلأن وطئه وطءٌ حرام. وأما كونه لا يبلغ به الحد؛ فلأن الحد يدرأ بالشبهات، والمكاتب مملوك. بدليل قوله عليه السلام: «المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم» (¬2). وأما كونه لا مهر عليه إذا شرط وطئها؛ فلأنه وطء مأذون فيه؛ لما تقدم من صحة اشتراطه. قال: (ومتى ولدت منه صارت أم ولده وولده حر. فإن أدت عتقت. وإن مات قبل أدائها عتقت وسقط ما بقي من كتابتها. وما في يدها لها إلا أن يكون بعد عجزها. وقال أصحابنا: هو لورثة سيدها. وكذلك الحكم فيما إذا أعتق المكاتب سيده). أما كون المكاتبة متى ولدت من السيد تصير أم ولده؛ فلأنها علقت بحرٍ في ملكه. وأما كون ولده حراً؛ فلأنه من مملوكته. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح. وأخرجه الترمذي في جامعه (1352) 3: 634 كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونها تعتق بأدائها؛ فلأن كتابتها لم تبطل؛ لأن الكتابة عقد لازم من جهة سيدها. وأما كونها تعتق بموت السيد؛ فلأن ذلك شأن أم الولد. وأما كون ما بقي من كتابتها تسقط؛ فلأنها عتقت بغير الكتابة. وأما كون ما بقي في يدها إذا مات السيد ولم تعجز: لها على قول غير الأصحاب؛ فلأن العتق إذا وقع في الكتابة لم يبطل حكمها وكان بمنزلة الإبراء من نجوم الكتابة. وذكر المصنف في المغني: أن ذلك قول القاضي وابن عقيل. وأما كونه لورثة سيدها على قولهم؛ فلأنها عتقت بحكم الاستيلاد. فكان ما في يدها لورثة سيدها؛ كما لو لم تكن مكاتبة. وأما كونه للورثة إذا عجزت قبل موت سيدها؛ فلأنها عادت إلى ملك السيد بالعجز. وأما كون الحكم فيما إذا أعتق المكاتب سيده كالحكم فيما تقدم ذكره؛ فلأن عتقه بالمباشرة كعتقها بالاستيلاد. فوجب استواؤهما في الحكم. وقال المصنف في المغني: يحتمل أن يفرق بينهما من حيث: إن الإعتاق يكون برضى من المعتق فيكون رضى منه بإعطائها مالها. والعتق بالاستيلاد يحصل بغير رضى الورثة واختيارهم فلا يستسع المكاتب شيئاً من ماله. قال: (وإن كاتب اثنان جاريتهما ثم وطئاها فلها المهر على كل واحدٍ منهما. وإن ولدت من أحدهما صارت أم ولدٍ له، ويغرم لشريكه نصف قيمتها. وهل يغرم نصف قيمة ولدها؟ على روايتين). أما كون المكاتبة لها المهر على كل واحدٍ من سيدها إذا وطئاها؛ فلأن الوطء يوجب المهر، وقد وجد ذلك منهما. وأما كونها تصير أم ولدٍ للذي أولدها منهما؛ فلأنها علقت بحرٍّ في شيء ملك بعضه، وذلك موجب للسراية؛ لأن الاستيلاد أقوى من العتق. بدليل أنه يصح من المجنون وينفذ من الأب في جارية ابنه، وينفذ من رأس المال في مرض الموت. وأما كون الذي أولدها يغرم نصف قيمتها لشريكه؛ فلأنه أتلفها عليه بصيرورتها أم ولد.

وأما كونه يغرم نصف قيمة ولدها على روايةٍ؛ فلأنه كان من سبيل هذا النصف: أن يكون مملوكاً لشريكه فقد أتلف رقه على شريكه بفعله. فكان عليه نصف قيمته. وأما كونه لا يغرم ذلك على رواية؛ فلأنه انتقل إليه نصيب شريكه من حين العلوق، وفي تلك الحال لم تكن له قيمة. قال: (وإن أتت بولدٍ فألحق بهما صارت أم ولد لهما يعتق نصفها بموت أحدهما وباقيها بموت الآخر. وعند القاضي: لا يسري استيلاد أحدهما إلى نصيب شريكه إلا أن يعجز فينظر حينئذٍ فإن كان موسراً قوّم عليه نصيب شريكه، وإلا فلا). أما كون الموطوءة المذكورة تصير أم ولدٍ لهما إذا أتت بولدٍ فألحق بهما؛ فلأن الولد منسوبٌ إليهما. وأما كون نصفها يعتق بموت أحدهما؛ فلأنه هو الذي يملكه. وأما كون استيلاد أحدهما لا يسري إلى نصيب شريكه على قول القاضي إذا لم تعجز؛ فلأن المكاتبة انعقد فيها سبب الحرية، ولمكاتبها عليها الولاء، وفي السراية إبطال لذلك. وأما كون المكاتبة إذا عجزت ينظر في مكاتبها؛ فلأن له حالة يسري فيها، وحالة لا يسري فيها. وأما كون نصيب شريكه الموسر يُقَوَّم عليه؛ فلأن استيلاد الموسر موجب للسراية في الرقيق، وقد تحقق الرق هنا. وأما كون نصيب شريك غير الموسر لا يُقَوَّم عليه؛ فلأن الاستيلاد غير الموسر لا يسري عند القاضي، وهذا قوله فبناه على أصله.

فصل [في بيع المكاتب] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ويجوز بيع المكاتب. ومشتريه يقوم مقام المكاتِب فإن أدى إليه عتق وولاؤه له. وإن عجز عاد قِناًّ له. وإن لم يعلم أنه مكاتب فله الرد أو الأرش. وعنه: لا يجوز بيعه). أما كون بيع المكاتب يجوز على المذهب؛ فلما روت عائشة أنها قالت: «جاءت بريرة إليّ. فقالت: يا عائشة! إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني. قالت عائشة: إن أحبّ أهلك أن أَعُدَّها لهم ويكون ولاؤك لي ففعلت. فعرضت ذلك عليهم فأبوا. فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لا يمنعك ذلك منها ابتاعي وأعتقي ... مختصر» (¬1) متفق عليه. قال ابن المنذر: بيعت بريرة بعلم النبي صلى الله عليه وسلم وهي مكاتبة ولم ينكر ذلك. وأما كون مشتريه يقوم مقام المكاتِب؛ فلأنه بدل عنه. وفيه إشعار بأن الكتابة لا تنفسخ بالبيع؛ كالنكاح والإجارة. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن بيع السيد مكاتبه على أن تبطل كتابته ببيعه إذا كان ماضياً فيها مؤديا ما يجب عليه من نجومه في أوقاتها غير جائز. وأما كونه إذا أدى إليه يعتق وولاؤه له، وإذا عجز يعود قِناًّ له؛ فلأن حكمه هكذا كان مع البائع وقد ثبت مساواة المشتري له. وأما كونه له الرد أو الأرش إذا لم يعلم أنه مكاتب؛ فلأن الكتابة نقص؛ لأنه لا يقدر على التصرف فيه وقد انعقد سبب الحرية فيه. أشبه الأمة المزوجة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2060) 2: 759 كتاب البيوع، باب: إذا اشترط شروطاً في البيع لا تحل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1504) 2: 1141 كتاب العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق.

وأما كون بيع المكاتب لا يجوز على رواية؛ فلأنه عقد يمنع استحقاق الكسب. فمنع البيع؛ كالذي لا نفع فيه. قال: (وإن اشترى كل واحدٍ من المكاتبين الآخر صح شراء الأول وبطل شراء الثاني. سواء كانا لواحدٍ أو لاثنين. وإن جهل الأول منهما فسدَ البيعان). أما كون شراء الأول يصح؛ فلأن تصرفه نافذ، وبيع السيد مكاتبه جائز. وأما كون شراء الثاني يبطل؛ فلأن العبد لا يملك سيده؛ لأنه يفضي إلى تناقض الأحكام إذْ كل واحدٍ يقول لصاحبه: أنا مولاك ولي ولاؤك، وإن عجزت صرت لي رقيقاً. وأما كون ذلك كذلك سواء كانا لواحدٍ أو لاثنين؛ فلأن العلة كون العبد لا يملك سيده، وهي موجودة في الموضعين. وأما كون البيعين يفسدان إذا جهل الأول؛ فلأنه يجري مجرى نكاح الوليين إذا أشكل الأول منهما. قال: (وإن أسر العدو المكاتب فاشتراه رجلٌ فأحبَّ سيده أخذه أخذه (¬1) بما اشتراه له. وإلا فهو عند مشتريه مبقى على ما بقي من كتابته يعتق بالأداء وولاؤه له). أما كون السيد إذا أحبّ أخذ مكاتبه يأخذه بما اشتراه الغير من العدو فمبني على ما إذا استولى الكفار على مال المسلم، ثم استولى عليه المسلمون، ثم وجده صاحبه بعد القسمة، وفيه روايتان تقدم ذكرهما في الجهاد (¬2). وأما كونه إذا لم يحبّ أخذه فهو عند مشتريه مبقى على ما بقي من كتابته؛ فلأن الكتابة عقدٌ لازمٌ لا يبطل بالبيع؛ فلأن لا يبطل بالأسر بطريق الأولى. وأما كونه يعتق بالأداء؛ فلأنه مكاتبٌ قد أدى كتابته. وأما كون ولائه للمشتري؛ فلأنه معتقه. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع. (¬2) 2: 578.

فصل [إذا جنى المكاتب] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإن جنى على سيده أو أجنبي فعليه فداء نفسه مقدماً على الكتابة. وقال أبو بكر: يتحاصّان). أما كون المكاتب إذا جنى: عليه فداء نفسه؛ فلأنه هو الجاني، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجني جانٍ إلا على نفسِه» (¬1). ولأنه كالحر في باب المعاملات. فكذلك في الجنايات. وأما كون ذلك مقدماً على الكتابة على المذهب؛ فلأن أرش الجناية مستقر، والكتابة غير مستقرة. وأما كون الجناية والكتابة يتحاصان على قول أبي بكر؛ فلأنهما اشتركا في الاستحقاق. والأول المعمول به في المذهب؛ لما ذكر من الترجيح. قال: (وإن عتق فعليه فداء نفسه، وإن عجز فلسيده تعجيزه إن كانت الجناية عليه. وإن كانت على أجنبي ففداه سيده وإلا فسخت الكتابة وبيع في الجناية). أما كون المكاتب عليه فداء نفسه إذا عتق؛ فلأنها كانت عليه قبل العتق. فكذلك بعده. وأما كون السيد له تعجيزه إذا عجز وكانت الجناية على نفسه؛ فلأن الأرش حق له. فكان له تعجيزه إذا عجز عنه؛ كمال الكتابة. وأما كونه له فداؤه إذا كانت الجناية على أجنبي؛ فلأنه لو كان عند المالك فداه. فكذلك هنا. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (2159) 4: 461 كتاب الفتن، باب ما جاء دماؤكم وأموالكم عليكم حرام. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3055) 2: 1015 كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر.

وفيه إشعار بأن السيد إذا اختار الفداء لم يكن للأجنبي فسخ الكتابة وبيعه في الجناية. وهو صحيح؛ لأن الفسخ كان لحق المجني عليه وقد زال ذلك (¬1) بالفداء. وأما كون الكتابة تفسخ ويباع الجاني في الجناية إذا لم يفده السيد؛ فلأن حق المجني عليه مقدّم على حق السيد؛ لأن أرش الجناية يتعلق بعين المكاتب. بخلاف السيد فإن حقه معلّق بالذمة. ولأنه إذا قدّم حق المجني عليه على السيد في العبد القن. فلأن يقدّم في المكاتب بطريق الأولى. ولقائل أن يقول: لا حاجة إلى فسخ الكتابة؛ لأن حق المجني عليه يندفع ببيعه مكاتباً. فإن قيل: ربما كان أرش الجناية أكثر من قيمته مكاتباً. قيل: يجب أن لا يستحق أكثر من ذلك؛ لأنه إنما يستحق قيمة الجاني عليه هنا مكاتب لا قن. قال: (وإن أعتقه السيد فعليه الفداء. والواجب في الفداء أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته. وقيل: يلزمه فداؤه بأرش الجناية كاملة). أما كون السيد عليه فداء الجاني إذا أعتقه؛ فلأنه فوّت تسليم الرقبة إلى المجني عليه. فكان عليه فداؤه؛ كما لو قتله. وأما كون الواجب في الفداء أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته على المذهب؛ فلأن الأقل إن كان القيمة فهو لا يستحق إلا الرقبة والقيمة بدل عنها؛ لأن حقه في المالية لا في العين. وإن كان الأقل أرش الجناية فهو لا يستحق أكثر منه؛ لأن الإنسان لا يستحق أكثر مما جني عليه. وأما كونه يلزمه فداؤه بأرش الجناية كاملة على قول؛ فلأنه تعذر تسليمه إلى المجني عليه من جهته. أشبه ما لو جنى عبده غير الجاني وامتنع من تسليمه. ¬

_ (¬1) في أ: لذلك، ولعل الصواب ما أثبتناه.

قال: (وإن لزمته ديون تعلّقت بذمته يُتبع بها بعد العتق). أما كون ديون المكاتب تتعلق بذمته لا برقبته؛ فلأن حال الاستدانة كان حكمه حكم الأحرار، وديون الأحرار متعلقة بذمتهم لا برقبتهم. وأما كونه يُتبع بها بعد العتق إذا عجز عنها؛ فلأن ذلك حال يساره.

فصل [الكتابة عقد لازم] قال المصنف رحمه الله تعالى: (والكتابة عقدٌ لازمٌ من الطرفين لا يدخلها خيار ولا يملك أحدهما فسخها، ولا يجوز تعليقها على شرطٍ مستقبل. ولا تنفسخ بموت السيد ولا جنونه ولا الحجر عليه. ويعتق بالأداء إلى سيده أو مَن يقوم مقامه من الورثة أو غيرهم). أما كون الكتابة عقداً لازماً من الطرفين؛ فلأنها بيعٌ والبيع من العقود اللازمة. وأما كون الخيار لا يدخلها؛ فلأن السيد دخل على أن الحظ للمكاتب والخيار إنما يثبت لاستدراك الغبن. فإذا كان أصلها لمصلحة المكاتب لم يشرع الخيار؛ لمناقضة الأصل. وأما كون أحدهما لا يملك فسخها؛ فلأن ذلك شأن العقود اللازمة. وأما كونها لا يجوز تعليقها على شرطٍ مستقبل؛ فلأنها عقد معاوضة. فلم يجز تعليقه على شرط؛ كالبيع. وأما كونها لا تنفسخ بموت السيد ولا جنونه ولا الحجر عليه؛ فلأنها عقد لازم. فلم تنفسخ بشيء من ذلك؛ كالبيع والإجارة. وأما كون المكاتب يعتق بالأداء إلى سيده أو مَن يقوم مقامه من الورثة أو غيرهم؛ فلأن الكتابة موضوعها العتق بتقدير الأداء. فإذا وجد وجب أن يترتب عليه ما يقتضيه. قال: (فإن حلَّ نجم فلم يؤده فللسيد الفسخ. وعنه: لا يعجز حتى يحلّ نجمان. وعنه: لا يعجز حتى يقول: قد عجزت). أما كون السيد له فسخ الكتابة إذا حلّ نجم على المكاتب فلم يؤده على المذهب؛ فلأنه حق له. فكان له الفسخ بالعجز؛ كما لو أعسر المشتري ببعض ثمن المبيع قبل قبضه.

وأما كونه لا يُعَجّز حتى يحلّ نجمان على روايةٍ؛ فلما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لا يردّ المكاتب في الرق حتى يتوالى عليه نجمان» (¬1). ولأنه عقد اعتبر فيه التنجيم؛ لإرفاق العبد. فيعتبر فيه ما هو أرفق له. وأما كونه لا يُعَجّز حتى يقول: قد عجزت؛ فلأن فوات العوض لا يتحقق إلا بذلك. قال: (وليس للعبد فسخها بحال. وعنه: له ذلك). أما كون العبد المكاتب ليس له فسخ الكتابة بحال على المذهب؛ فلأن الكتابة سبب الحرية، وفيها حق لله تعالى، وفي فسخها إبطال لذلك الحق. وأما كونه له ذلك على روايةٍ؛ فلأن معظم مقصودها له. فإذا رضي بإسقاط حقه سقط. قال: (ولو زوّج ابنته من مكاتبه ثم مات انفسخ النكاح. ويحتمل أن لا ينفسخ حتى يعجز). أما كون النكاح المذكور ينفسخ على المذهب؛ فلأن زوجته تملكه أو تملك سهماً منه. فانفسخ نكاحها؛ كما لو اشترته أو اشترت سهماً منه. ولا بد أن يلحظ في هذه المسألة أشياء: أحدها: أن الحرية ليست من شروط صحة النكاح. وثانيها: أن يزوجها بإذنها. وثالثها: أن تكون وارثه. فلو كان بينهما اختلافُ دين، أو كانت قاتلة فالنكاح بحاله؛ لأنها ما ملكته ولا شيئاً منه. وأما كونه يحتمل أن لا ينفسخ حتى يعجز؛ فلأنها لا ترثه. وإنما يملك نصيبها من الدين الذي في ذمته. بدليل أن الوارث إذا أبرأ المكاتب عتق وكان الولاء للميت، ولو ملكه كان الولاء له. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (21406) 4: 399 كتاب البيوع والأقضية، من رد المكاتب إذا عجز. ولفظه: عن علي قال: «إذا تتابع على المكاتب نجمان فدخل في السنة فلم يؤد نجومه رد في الرق».

والصحيح الأول؛ لأن المكاتب ملك للسيد لا يعتق بموته. فوجب أن ينتقل إلى ورثته؛ كسائر أملاكه. ولأنه لا يجوز لها أن تبتدئ نكاحه، ولو لم تملكه جاز لها ذلك. وإنما كان الولاء للميت؛ لأنه وجد منه سبب العتق فنسب إليه. قال: (ويجب على سيده أن يؤتيه ربع مال الكتابة: إن شاء وضعه عنه، وإن شاء قبضه ودفعه إليه. فإن أدى ثلاثة أرباع المال وعجز عن الربع عتق. ولم تنفسخ الكتابة في قول القاضي وأصحابه. وظاهر قول الخرقي: أنه لا يعتق حتى يؤدي جميع الكتابة). أما كون سيد المكاتب يجب عليه أن يؤتيه ربع مال الكتابة؛ فلأن الله تعالى قال: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33]. أمر والأمر للوجوب. قال علي رضي الله عنه في تفسيرها: «ضعوا عنهم ربع مال الكتابة» (¬1). وأما كونه إن شاء وضعه عنه وإن شاء قبضه منه ثم دفعه إليه؛ فلأن الغرض التخفيف عن المكاتب، وذلك حاصل بكل واحدٍ منهما. وأما كون المكاتب إذا أدى ثلاثة أرباع المال وعجز عن الربع يعتق ولا تنفسخ الكتابة في قول القاضي وأصحابه؛ فلأنه عجز عما يجب دفعه إليه. فوجب أن يعتق وأن لا تنفسخ الكتابة؛ كما لو لم يبق عليه شيء أصلاً. ولأنه عجز عن حقٍّ له. فلم تتوقف حريته على أدائه؛ كأرش جناية سيده عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (5034 - 5038) 3: 198 - 199 كتاب العتق، باب تأويل قول الله جل ثناؤه: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}.

وأما كونه لا يعتق حتى يؤدي جميع مال الكتابة في ظاهر قول الخرقي؛ فلقوله عليه السلام: «المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم» (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [إذا كاتب عبيدا كتابة واحدة] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا كاتب عبيداً له كتابةً واحدةً بعوضٍ واحدٍ: صح، ويقسط العوض بينهم على قدر قيمتهم. ويكون كل واحد منهم مكاتباً بقدر حصته يعتق بأدائها ويعجز بالعجز عنها وحده. وقال أبو بكر: العوض بينهم على عددهم. ولا يعتق واحد منهم حتى يؤدي جميع الكتابة. وإن اختلفوا بعد الأداء في قدر ما أدى كل واحدٍ منهم فالقول قول من يدعي أداء قدر الواجب عليه). أما كون من كاتب عبيداً له بعوض واحد يصح؛ فلأن الكتابة بيع. فصح عقدها على جماعة جملة واحدة بعوضٍ واحد؛ كالبيع. وأما كون العوض يُقَسَّط بينهم على قدر قيمتهم على المذهب؛ فلأن البيع إذا تناول جماعة وجب تقسيط العوض بينهم كذلك. فكذلك الكتابة. وأما كون كل واحدٍ منهم يكون مكاتباً بقدر حصته يعتق بأدائها ويعجز بالعجز عنها وحده على ذلك؛ فلأن الحصة بمنزلة القِنّ المنفرد. وأما كون العوض على عددهم على قول أبي بكر؛ فلأنه أضافه إليهم إضافةً واحدة. فكان بينهم بالسواء؛ كما لو أقر لهم بشيء. وأما كونه لا يعتق واحد منهم حتى يؤدي جميع الكتابة؛ فلأن الكتابة مقدر فيها قول السيد: متى أديتم فأنتم أحرار. ولو صرح بذلك لم يعتق واحد حتى يوجد الأداء من الكل. قال المصنف في المغني: الأول أصح؛ لما تقدم. وما ذكر منتقض بتقسيط العوض بالقيمة فيما لو اشترى شقصاً وسيفاً بثمن واحد. وبهذا فارق الإقرار؛ لأنه ليس عوضاً.

وأما كون القول قول من يدعي أداء قدر الواجب عليه إذا اختلفوا بعد الأداء في قدر ما أدى كل واحدٍ منهم؛ فلأن الظاهر من حاله أداء ما وجب عليه. فوجب قبول قوله فيه؛ لاعتضاده بالظاهر. قال: (ويجوز أن يكاتب بعض عبده. فإذا أدّى عتق كله). أما كون السيد يجوز أن يكاتب بعض عبده؛ فلأنه يجوز له أن يبيع بعضه. فكذلك كتابته. وأما كون من كوتب بعضه فيما ذكر إذا أدى يعتق كله؛ فلأنه عتق بعضه بالكتابة. فوجب أن يعتق كله؛ كما لو بوشر بعضه بالعتق. قال: (ويجوز كتابة حصته من العبد المشترك بغير إذن شريكه. فإن أدى ما كوتب عليه ومثله لسيده الآخر عتق كله إن كان الذي كاتبه موسراً وعليه قيمة حصة شريكه. وإن أعتق الشريك قبل أدائه عتق عليه كله إن كان موسراً وعليه قيمة نصيب المكاتب. وقال القاضي: لا يسري إلى النصف المكاتب إلا أن يعجز فيقوم عليه حينئذ). أما كون كتابة الإنسان حصته من عبده المشترك بغير إذن شريكه يجوز؛ فلأن الكتابة عقد معاوضة. فجازت بغير إذن الشريك؛ كالبيع. وأما كون المكاتب المذكور إذا (¬1) أدى ما كوتب عليه ومثله لمالك بعضه الآخر يعتق كله إن كان الذي كاتبه موسراً؛ فلأن بعضه يعتق بأداء الكتابة. فيسري إلى نصيب الشريك؛ كما لو باشر نصيبه بالعتق. وأما كون المكاتب عليه قيمة حصة شريكه؛ فلأنه فوّت الحصة على مالكها لإتلافها بالعتق. أشبه ما لو قتله. وأما كون الشريك إذا أعتق نصيبه قبل أداء المكاتب يعتق عليه كله على المذهب إن كان موسراً؛ فلأن نصيبه عتق بالمباشرة. فسرى إلى نصيب شريكه؛ لكون المكاتب عبداً ما بقي عليه درهم. ¬

_ (¬1) في أزيادة: ما.

ولأن الشريك لو أعتق شقصاً من عبد غيره (¬1) لعتق عليه. فكذلك المكاتب. واشترط المصنف رحمه الله تعالى في عتق كله: كون المعتق موسراً؛ لأن عتق المعسر لا يسري؛ لما فيه من الضرر اللاحق لشريكه من فوات ملكه، وعدم عوضه. وأما كونه عليه قيمة نصيب المكاتب إذا سرى العتق إليه؛ فلأنه فوّت عليه ملكه بالعتق. فوجب عليه ضمانه؛ كما لو قتله. وفي كلام المصنف إشعارٌ بأنه يجب عليه قيمة حصة شريكه مكاتباً وهو صحيح؛ لأنه إنما تجب عليه قيمة ما أتلف، وإنما أتلف مكاتباً. وأما كون العتق المذكور لا يسري إلى النصف المكاتب على قول القاضي إذا لم يعجز المكاتب؛ فلأن سراية العتق يفضي إلى إبطال الولاء، ونقله عن سيده الذي كاتبه بعد انعقاد سببه في حقه. وأما كونه يقوم على المعتق إذا عجز؛ فلأنه عاد قناً فلا يفضي إلى المحذور المذكور. قال: (وإن كاتبا عبدهما جاز. سواء كان على التساوي أو التفاضل. ولا يجوز أن يؤديَ إليهما إلا على التساوي). أما كون السيدين إذا كاتبا عبدهما يجوز. تساوى العوض أو تفاضل؛ فلأن الكتابة عقد معاوضة. فجاز من الشريكين متساوياً ومتفاضلاً؛ كالبيع. وأما كون المكاتب لا يجوز أن يؤدي إليهما إلا على التساوي؛ فلأنهما سواء في الملك. فيجب استواؤهما في الأداء. ولأنه ربما عجز فيصير رقيقاً، ويتساويان في كسبه. فيرجع أحدهما على صاحبه بما في يده من الفضل بعد انتفاعه به مدة. ¬

_ (¬1) في أزيادة: مكاتب

قال: (فإذا كمل أداؤه إلى أحدهما قبل الآخر عتق كله عليه. وإن أدى إلى أحدهما دون صاحبه لم يعتق. إلا أن يكون بإذن الآخر فيعتق. ويحتمل أن لا يعتق). أما كون من كمل الأداء إليه قبل الآخر يعتق كله عليه؛ فلأن نصيبه يعتق بالأداء. فيسري إلى نصيب شريكه. وأما كون من أدّى إلى أحدهما دون صاحبه بغير إذنه لا يعتق؛ فلأن العتق لا يحصل بأداء مال الغير. وأما كون من أدّى بإذن الآخر يعتق على المذهب؛ فلأن المكاتب محجور عليه لحق سيده. فإذا أذن له صح الأداء، وإذا صح الأداء وقع العتق؛ لحصول الأداء الصحيح. وأما كونه يحتمل أن لا يعتق؛ فلأن حق السيد في ذمة المكاتب، وما في يد المكاتب ملك له. فإذا أذن السيد فيه لا ينفذ؛ كما لو لم يأذن. والأول أولى؛ لأن ما ذكر ثانياً يبطل بما إذا أذن له في التبرع.

فصل [إذا اختلفا في الكتابة] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإن اختلفا في الكتابة فالقول قول من ينكرها. وإن اختلفا في قدر عوضها فالقول قول السيد في أحد الروايتين. وإن اختلفا في وفاء مالها فالقول قول السيد. فإن أقام العبد شاهداً وحلف معه، أو شاهداً وامرأتين: ثبت الأداء وعتق). أما كون القول قول من ينكر الكتابة إذا اختلفا فيها؛ فلأن القول قول المنكر في البيع والإجارة وسائر العقود. فكذلك هاهنا. وأما كون القول قول السيد إذا اختلفا في قدر عوضها في رواية؛ فلأنه اختلاف في الكتابة. فكان القول قول السيد؛ كما لو اختلفا في أصل الكتابة. وأما كون السيد والمكاتب يتحالفان ويترادّان عقد الكتابة في رواية؛ فلأنهما اختلفا في عوض المبيع. وذكر المصنف رحمه الله تعالى في المغني رواية ثالثة: أن القول قول المكاتب؛ لأنه منكرٌ للزيادة، والقول قول المنكر. ولأنه مدعى عليه فيدخل في عموم قوله عليه السلام: «البينةُ على المُدّعِي، واليمينُ على المدّعَى عليه» (¬1). والأول المذهب. قاله القاضي. والفرق بين الكتابة وبين البيع: أن الأصل عدم ملك كل واحدٍ من المتعاقدين للعوض الذي بذله صاحبه. وفي الكتابة الأصل: أن السيد مالك لعبده وكسبه، والعوض من كسبه. فإذا كان الأصل أنه ملكه كان القول قوله فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1341) 3: 626 كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.

ولأن الحاصل بأيمانهما في الكتابة كالحاصل بيمين السيد بمفردها (¬1)؛ لأنهما إذا تحالفا فسخا الكتابة وعاد العبد رقيقاً للسيد وأخذ كسبه. وإذا حلف السيد وحده وقلنا أن قوله مقدم فغاية ما فيه أن يعجز العبد نفسه ويفسخ السيد، وإنكار المكاتب الزائد معارض بإنكار السيد المعاوضة إلا بذلك. وأما كون القول قول السيد إذا اختلفا في وفاء مال الكتابة؛ فلأنه منكر للوفاء، والقول قول المنكر. وأما كون الأداء يثبت إذا أقام العبد شاهداً وحلف معه، أو شاهداً وامرأتين؛ فلأن ذلك من قبيل الأموال، والشاهد واليمين والرجل والمرأتان مقبول في ذلك. وأما كون العبد يعتق؛ فلأن الأداء إذا ثبت عتق المكاتب لتلازمهما. ¬

_ (¬1) في أ: بمقرها، ولعل الصواب ما أثبتناه.

فصل [في الكتابة الفاسدة] قال المصنف رحمه الله تعالى: (والكتابة الفاسدة مثل أن يكاتبه على خمرٍ، أو خنزيرٍ يغلب فيها حكم الصفة في أنه إذا أدى عتق فلا يعتق بالإبراء). أما كون الكتابة بما ذكر فاسدة؛ فلأنها عقد معاوضة. ففسدت بما ذكر؛ كالبيع. وأما كون الكتابة الفاسدة يغلب فيها حكم الصفة؛ فلأن الكتابة تتضمن أمرين: أحدهما: المعاوضة. والثاني: الصفة. وهي أن تقول: إذا أديت فأنت حر. فإذا لم تصح المعاوضة بقيت الصفة. فيجب أن يعتق إذا أدى فيها؛ لوجود الصفة. وقال المصنف في المغني: قال أحمد: إذا كاتب كتابة فاسدة. فأدى: عتق ما لم تكن الكتابة محرمة. وظاهره (¬1) أنه لا يعتق بالأداء فيها. وجُمع بينهما: بأن العتق محمول على كتابة فيها صفة، والقول بعدم العتق محمول على كتابة ليس فيها صفة. وأما كونه لا يعتق فيها بالإبراء؛ فلأن المال غير ثابت في العقد. بخلاف الكتابة الصحيحة. قال: (وتنفسخ بموت السيد وجنونه والحجر للسفه. ولكل واحدٍ منهما فسخها). أما كون الكتابة المذكورة تنفسخ بما ذكر على المذهب؛ فلأن الكتابة الفاسدة عقدٌ جائز من الطرفين لا تؤول إلى اللزوم. فانفسخت بما ذكر؛ كالوكالة. ¬

_ (¬1) في أ: وظاهر، ولعل الصواب ما أثبتناه.

فعلى هذا إذا مات وأدّى إلى الورثة لم يعتق؛ لأن المعاوضة انفسخت، والصفة بطلت بالموت. وأما كون كل واحدٍ منهما له فسخها؛ فلأنها ليست بعقد صحيح حتى تكون كإرثه. فإن قيل: أن يملك السيد فسخها إذا كان فيها صفة؛ كقوله: إن أديت كذا فأنت حر. قيل: لأن المقصود المعاوضة، والصفة مبنية عليها. بخلاف الصفة المجردة. قال: (ويملك السيد أخذَ ما في يده. وإن فضل عن الأداء فضلٌ [فهو لسيده). أما كون السيد يأخذ ما في يده؛ فلأن كسب العبد لسيده بحكم الأصل، والعقد هاهنا فاسد. وأما كون ما فضل] (¬1) عن الأداء لسيده؛ فلأنه عتق بالصفة لا بالمعاوضة، وما فضل في يده بعد الأداء يكون للسيد؛ لبقائه على ملكه. وقال المصنف في المغني: ما فضل في يده له؛ لأنه عقد كتابة يحصل فيه المعقود عليه وهو العتق. فكان الفضل له؛ كالصحيح. قال: (وهل يتبع المكاتبة ولدها فيها؟ على وجهين). أما كون ولد المكاتبة يتبعها في الكتابة الفاسدة على وجه؛ فبالقياس على الصحيحة. ولأن المعلق عتقها على صفة يتبعها ولدها. فكذلك هاهنا. وأما كونه لا يتبعها على وجه؛ فلأن تبع الولد في الصحيحة إنما كان بحكم العقد. وهذا المعنى مفقود هاهنا، وولد المعلق عتقها بصفة فيه منع؛ لأنه لا يتبعها على وجه. ¬

_ (¬1) ساقط من أ، وما أثبتناه من الشرح الكبير 12: 484.

قال: (وقال أبو بكر: لا تنفسخ بالموت ولا الجنون ولا الحجر. ويعتق بالأداء إلى الوارث). أما كون الكتابة المذكورة لا تنفسخ بما ذكر على قول أبي بكر؛ فلأن الفاسدة كالصحيحة في وقوع العتق وفي تبعية الولد وذوي الرحم. فكذلك في الفسخ. ولأن للشرع تشوف إلى العتق. وما ذكر وسيلة إلى العتق. فوجب الحكم به؛ تحصيلاً للمطلوب الشرعي. وأما كون المكاتب فيها يعتق بالأداء إلى الوارث على قوله؛ فلما تقدم من تشوف الشرع إلى العتق. ولأن الفاسدة كالصحيحة فيما تقدم. فكذا في العتق.

باب أحكام أمهات الأولاد

باب أحكام أمهات الأولاد أمهات الأولاد: جمع أم ولد. وهي الأَمَة التي ولدت من سيدها في ملكه. والأصل في إباحة وطئهن قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون? إلا على أزواجهم أو ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} [المؤمنون: 5 - 6]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أم ولدٍ وهي مارية القبطية أمّ إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم. وكان علي بن الحسين والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسالم بن عبدالله بن عمر أمهاتهم أمهات أولاد. ويروى أن الناس رغبوا في اتخاذ أمهات الأولاد حين رَأَوا هؤلاء الأئمة من أمهات الأولاد. قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا علقت الأمة من سيدها فوضعت منه ما يتبين فيه خلق الإنسان صارت له بذلك أم ولد. فإذا مات عتقت وإن لم يملك غيرها. وإن وضعت جسماً لا تخطيط فيه فعلى روايتين). أما كون الأمة تصير أم ولدٍ لسيدها إذا علقت منه فوضعت ما يتبين فيه خلق الإنسان؛ فلأنه إذا تبين فيه ذلك علم أنه ولد. فيلزم صيرورتها أم ولد. وأما كونها تعتق بموته؛ فلأن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ولدت منه أمته: فهي معتَقةٌ عن دبرٍ منه» (¬1). وعنه قال: «ذُكرتْ أمُّ إبراهيمَ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعتَقَهَا وَلَدُهَا» (¬2). أخرجهما ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2515) 2: 841 كتاب العتق، باب أمهات الأولاد. وأخرجه أحمد في مسنده (2939) 1: 320. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2516) 2: 841 كتاب العتق، باب أمهات الأولاد. وأخرجه الدارقطني في سننه (22) 4: 131 كتاب المكاتب.

وأما كونها تعتق وإن لم يملك غيرها؛ فلأنها تعتق من رأس المال؛ لأن ذلك إتلاف حصل بسبب حاجة أصلية. فكان من رأس المال. أشبه ما لو أتلفه في أكل ونحوه. وأما كونها تصير أم ولدٍ إذا وضعت جسماً لا تخطيط فيه على رواية؛ فلأنها ولدت مبتدأ آدمي. أشبه ما لو تخطط. وأما كونها لا تصير أم ولدٍ على روايةٍ فإن ذلك لا يسمى ولداً، وعتقها منه على صيرورتها أم ولد. ويشترط في الخلاف المذكور: أن يشهد ثقات من القوابل أنه مبتدأ خلق آدمي؛ لأنها إذا وضعت نطفة أو علقة لم تصر أم ولدٍ وفاقاً. قال: (وإن أصابها في ملك غيره بنكاحٍ أو غيره ثم ملكها حاملاً عتق الجنين ولم تصر أم ولد. وعنه: تصير). أما كون الجنين المذكور يعتق؛ فلأنه ابنه وقد دخل في ملكه. وأما كون أمه لا تصير أم ولد على المذهب؛ فلأنها لم تعلق في ملكه. أشبه ما لو اشتراها بعد الوضع. وأما كونها تصير على رواية؛ فلأن لحرية البعض أثر في تحرير الجميع. بدليل ما لو أعتق بعضها. والحمل له حكم البعضية. بدليل ما لو أعتقها. فإن الحمل يدخل فيه. قال: (وأحكام أم الولد أحكام الأمة: في الإجارة، والاستخدام، والوطء، وسائر أمورها. لا فيما ينقل الملك في رقبتها؛ كالبيع والهبة والوقف، أو ما يراد له؛ كالرهن. وعنه: ما يدل على جواز بيعها مع الكراهة، ولا عمل عليه). أما كون أحكام أم الولد أحكام الأمة في غير ما ينقل الملك في رقبتها وما يراد له؛ فلأنها مملوكة. أشبهت الأمة. فعلى هذا يجوز إجارتها؛ كالأمة، أو يقال: مملوكة ينتفع بها. فجازت إجارتها؛ كالمدبرة، أو يقال: عتقها معلق بالموت. أشبهت المدبرة. ويجوز استخدامها؛ كالأب. ولأنها إذا جاز إجارتها فلأن يجوز استخدامها بطريق الأولى.

ويجوز وطؤها؛ كالأمة. ولأن الوطء نوع نفع. أشبه الاستخدام. ولأنها داخلة في قوله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: 6]. ويجوز ما عدا ذلك مما لا ينقل الملك ولا يراد له؛ لأن ذلك لا ينافي انعقاد سبب الحرية فيها. وأما كون أحكامها فيما ينقل الملك؛ كالبيع والهبة والوقف، وما يراد له؛ كالرهن يخالف أحكام الأمة؛ فلأن ذلك ينافي انعقاد سبب الحرية ويبطله. فعلى هذا لا يجوز بيعها؛ لما روي «أن رجلاً باع أم ولده. فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فقال: أبعْدَما اختلط دماؤكم ودماؤهن ولحومكم ولحومهن: بعتموهن. ارددها ارددها» (¬1). وعن عبيدة قال: «خطب عليّ الناس. فقال: شاورني عمر في أمهات الأولاد أن أعتقهن فقضى بها عمر حياته وعثمان حياته فلما ولّيت رأيت أن أرقهن. فقال عبيدة: رأي عمر وعلي في الجماعة أحب إلينا من رأي علي وحده» (¬2). وعن الإمام أحمد: أنه يجوز مع الكراهة: أما الجواز؛ فلقول علي وفعله. وعن جابر: «بِعْنَا أمهاتِ الأولادِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ. فلما كان عمرُ نَهانَا فانتهَيْنَا» (¬3). رواه أبو داود. وأما الكراهة؛ فللاختلاف في ذلك. والأولى الصحيحة؛ لما ذكر، ولما تقدم من قوله عليه السلام: «أيما أمةٍ ولدت من سيدها فهي حرةٌ عن دبر» (¬4)، وقول ابن عباس: «ذُكرت أم إبراهيمَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أَعتقَها ولَدُها» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (13248) 7: 296 كتاب الطلاق، باب ما يعتقها السقط. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (2049) 2: 61 كتاب الطلاق، باب ما جاء في أمهات الأولاد. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 343 كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الرجل يطأ أمته بالملك فتلد له. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3954) 4: 27 كتاب العتق، باب في عتق أمهات الأولاد. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فلا يجوز هبتها ولا وقفها؛ لأنهما يزيلان الملك. أشبه بالبيع. ولا يجوز الرهن؛ لأن المقصود به البيع عند تعذر الاستيفاء. فلم يجز؛ لمناقضته الأصل. قال: (ثم إن ولدت من غير سيدها فلولدها حكمها من العتق بموت سيدها سواء عتقت أو ماتت قبله). أما كون حكم ولد أم الولد من غير سيدها حكمها في العتق؛ فلأن الولد تبع لأمه في الرق والحرية. فليتبعها في سبب الحرية. وأما كون حكم الولد كذلك سواء عتقت الأم أو ماتت قبل موت السيد؛ فلأن سبب الحرية قد انعقد وهو شبيه بنفس العتق. فكما لا يرتفع العتق بعد وقوعه فكذلك لا يرتفع السبب بعد وقوعه. فإن قيل: ولد المكاتبة يتبعها في الكتابة فإذا بطلت الكتابة في الأم بطلت في الولد. قيل (¬1): لأن سبب العتق فيهما: إما الأداء في العقد، أو وجود الصفة. وببطلان الكتابة تعذر كل واحدٍ منهما. بخلاف أم الولد فإن السبب موت السيد، ولا يتعذر ذلك بموت الأم. قال: (وإن مات سيدها وهي حامل منه فهل تستحق النفقة لمدة حملها؟ على روايتين). أما كون من ذكرت تستحق النفقة على روايةٍ؛ فلأنه لو أعتقها وهي حاملٌ استحقت النفقة. فكذا إذا عتقت بموته. وأما كونها لا تستحقها على رواية؛ فلأن زوجته لو مات عنها حاملاً لم يكن لها عليه نفقة. فكذلك أم الولد. قال: (وإذا جنت أم الولد فداها سيدها بقيمتها أو دونها. وعنه: عليه فداؤها بأرش الجناية كله. وإن عادت فجنت فداها أيضاً. وعنه: يتعلق ذلك بذمتها). أما كون السيد يفدي أم الولد إذا جنت؛ فلأنها امتنع بيعها بسببه فيلزمه فداؤها؛ كما لو منع بيع الجانية غير أم الولد. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

وأما كونه يفديها بقيمتها إذا ساوت أرش الجناية أو نقصت عنه أو دونها إن لم يكن كذلك على المذهب؛ فلما تقدم ذكره في سيد الجاني. وأما كونه عليه فداؤها بأرش الجناية كله على رواية؛ فلما تقدم فيه أيضاً. قال المصنف رحمه الله في المغني: لا يفدى بأرش الجناية بالغاً ما بلغ؛ لأنه لا يملك (¬1) تسليمها للبيع. بخلاف القن. وأما كونه يفديها أيضاً إذا عادت فجنت على المذهب؛ فلأنها جناية. أشبهت الأول. وأما كون ذلك يتعلق بذمتها على روايةٍ؛ فلأن تكرر الفداء على السيد مع منعه من بيعها يضرّ به. فوجب تعليقه بذمتها. قال: (وإن قتلت سيدها عمداً فعليها القصاص. وإن عفوا على مال، أو كانت الجناية خطأ: فعليها قيمة نفسها، وتَعتق في الموضعين). أما كون أم الولد إذا قتلت سيدها عمداً عليها القصاص؛ فلأنها دونه أو مثله، وفي القصاص مصلحة للزجر عن تعاطي قبيح القتل. وأما كونها عليها قيمة نفسها إذا عفا مستحق القصاص على مال، أو كانت الجناية خطأ؛ فلأن اعتبار الجناية في حق الجاني بحال الحياة. بدليل ما لو جنى عبد فأعتقه سيده. وهي في حال الجناية أمة فإنها إنما عتقت بالموت الحاصل بالجناية فيكون عليها فداء نفسها بقيمتها كما يُفدى العبد الجاني بقيمته. وقال المصنف في المغني: ويجب أن يقال: إذا كانت الدية أقل من القيمة أن تجب الدية؛ لأنه لا يلزم الجاني أكثر من أرش جنايته. ¬

_ (¬1) في أ: يملكها، ولعل الصواب ما أثبتناه.

وأما كونها تعتق في الموضعين -أي: في الجناية العمد والخطأ-؛ فلأنها لا ينتقل الملك فيها، وقد زال ملك سيدها عنها بموته. قال: (ولا حد على قاذفها. وعنه: عليه الحد). أما كون أم الولد لا حد على قاذفها على روايةٍ؛ فلأنها أمة حكمها حكم الإماء في أكثر الأحكام. فوجب أن يلحق القذف بها القذف بالأمة بل أولى؛ لأن الحد على روايةٍ يحتاط لإسقاطه، ويدرأ بالشبهات. وأما كونه عليه الحد؛ فلأنه يروى عن عمر. ولأن لها معنى مَنَع بيعها وإرثها. أشبهت الحرة. قال المصنف في المغني: والأول أصح.

فصل [إذا أسلمت أم ولد الكافر] قال المصنف رحمه الله تعالى: (إذا أسلمت أم ولد الكافر أو مدبرته منع من غشيانها، وحيل بينه وبينها، وأجبر على نفقتها إن لم يكن لها كسب. فإن أسلم حلت له، وإن مات قبل ذلك عتقت. وعنه: أنها تستسعي في حياته وتعتق). أما كون الكافر يمنع من غشيان أم ولده ومدبرته إذا أسلمت. والمراد بها: وطئها؛ فلأن وطء المشرك للمسلمة لا يجوز. وأما كونه يحال بينه وبينها؛ فلئلا يتلذذ بها ويخلو؛ لأن ذلك مفضٍ إلى الوطء المحرم. وأما كونه مجبر على نفقتها؛ فلأنه مالك لها. وفيه إشعار بجواز إبقاء ملكه عليها وهو صحيح على المذهب؛ لأنه لم يوجد سببٌ يوجب زوال ذلك فوجب إبقاؤها على ما كانت عليه. وعن الإمام أحمد: أنها تستسعي في حياته؛ لأنه لا سبيل إلى بيعها، ولا إلى إقرار الملك عليها؛ لما فيه من إثبات ملك الكافر على المسلمة، ولا إلى عتقها مكاناً؛ لما فيه من الضرر فوجب الاستسعاء؛ لأن فيه جمعاً بين الحقين. فعلى هذا إذا أدّت عتقت. والأول أصح؛ لما ذكرت؛ لأن في الاستسعاء إلزاماً لها الكسب بغير رضاها، وإلزاماً له في خروجها عن ملكه. واشترط المصنف رحمه الله تعالى في وجوب النفقة: أن لا يكون لها كسب؛ لأنها إذا كان لها كسب وجبت فيه. فلا حاجة إلى إيجابها عليه. فإن قيل: الكلام في أم الولد والمدبرة، وأم الولد لا يجوز بيعها بخلاف المدبرة. قيل: في بيع المدبرة خلاف. فإن قيل بجوازه كان حكمها حكم القن، وإن قيل بعدم جوازه ساوت أم الولد. وعليه يحمل كلام المصنف رحمه الله تعالى.

وأما كونها تحل له إذا أسلم؛ فلأن المانع كفره وقد زال. فوجب حل الوطء؛ لدخولها في قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: 6] السالم عن معارضة الكفر. وأما كونها تعتق بموته؛ فلأنها أم ولده واستيلاده لها صحيح؛ كما لو أعتقها. فوجب عتقها؛ كالمسلم. قال: (وإذا وطئ أحد الشريكين الجارية فأولدها صارت أم ولدٍ له، وولده حر، وعليه قيمة نصيب شريكه. وإن كان معسراً كان في ذمته). أما كون الجارية المشتركة تصير أم ولدٍ بوطء أحد الشريكين؛ فلأنه وطء في ملك له. أشبه ما لو كانت كلها له. ولأن العتق يخرج ملك الغير فلأن يخرج بالاستيلاد بطريق الأولى. وأما كون ولده حراً؛ فلأنه وطء في محل له فيه ملك. أشبه ما لو وطئ زوجته في الحيض أو الإحرام. وأما كون الواطئ عليه قيمة نصيب شريكه؛ فلأنه أتلفه عليه. فإن كان موسراً وجب دفعه إلى شريكه، وإن كان معسراً بقي في ذمته؛ لأن الله تعالى أوجب إنظاره بقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرة} [البقرة: 280]. قال: (وإن وطئها بعد (¬1) ذلك فأولدها فعليه مهرها. وإن كان عالماً فولده رقيق). أما كون الشريك الثاني عليه مهرها إذا وطئها بعد ما تقدم؛ فلأنه وطئ أمة غيره؛ لأن نصيبه انتقل إلى الواطئ الأول بالاستيلاد. وأما كون ولده رقيقاً إذا كان عالماً؛ فلأن الوطء حرام، والولد تبع لأمه، وهي رقيقة. فوجب كونه رقيقاً. قال: (وإن جَهل إيلاد شريكه أو أنها صارت أم ولدٍ له فولده حر، وعليه فداؤه يوم الولادة. ذكره الخرقي. وعند القاضي وأبي الخطاب: إن كان الأول معسراً لم يسر استيلاده. وتصير أم ولدٍ لهما يعتق نصفها بموت أحدهما. وإن ¬

_ (¬1) في المقنع: وطئها الثاني بعد.

أعتق أحدهما نصيبه بعد ذلك وهو موسرٌ فهل يقوم عليه نصيب شريكه؟ على وجهين). أما كون ولد من جَهل إيلاد شريكه حراً؛ فلأنه وطء شبهة. وأما كونه عليه فداؤه؛ فلأنه فوّت رقه على مالك الأمة. وأما كون الفداء يوم الولادة؛ فلأن قبل ذلك لا يمكن تقويمه. وأما كون الأول لا يسري استيلاده فعلى قولهما يصير أم ولدٍ لهما؛ لأن كل واحدٍ قد أحبلها ويعتق نصفها بموت أحدهما؛ لأن ذلك نصيبه. وقد ثبت له حكم الاستيلاد، ويتكمل عتقها بموت الآخر كذلك. ولم يذكره المصنف رحمه الله تعالى؛ لظهوره. وأما كون من أعتق نصيبه بعد ذلك وهو موسر يُقَوّم عليه نصيب شريكه على وجه. فكما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه من الأمة القن. وأما كونه لا يقوم عليه على وجهٍ؛ فلأن التقويم في معنى البيع، وبيع النصيب المذكور لا يجوز. فكذلك تقويمه. والأول أصح؛ لأن حكم الاستيلاد أقوى من العتق. بدليل أنه يصح من المجنون بخلاف العتق. والله تعالى أعلم.

كتاب النكاح

كتاب النكاح النكاح في اللغة: الجمع. ومنه قولهم: أنكحنا الفرى فسنرى. أي جمعنا حمار الوحش وأمه (¬1) فسيرى ما يتولد منهما. يضرب مثلاً للأمر يجتمعون له ثم يفترقون عنه. ومنه قول الشاعر: أنكحت ضم خفاها خف يَعْمَلَةٍ أي جمعت بين خفيها (¬2) وبين خف الناقة. ومنه قول الشاعر: أيها المنكح الثُّرَيّا سُهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان أي فكيف يجتمعان. وفي الشرع: هو العقد. وقيل: هو الوطء. وقال القاضي: الأشبه بأصلنا أنه حقيقة فيهما؛ لقولنا بتحريم موطوءة الأب بملك اليمين أو شبهه؛ لدخوله في قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء: 22]. والصحيح أنه العقد؛ لأنه أشهر استعمالاً. ولأنه يصح نفيه عن الوطء؛ لأنه يقال في الزنا: سفاح. وليس بنكاح. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وُلدتُ من نكاحٍ لا منْ سِفَاح» (¬3). ولأنه يقال في السُّرية: ليست بزوجة ولا منكوحة. وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3]. وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: «يا معشرَ الشباب! من استطاعَ منكمُ الباءَةَ فليتزوّج .. مختصر» (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) في أ: ابنه. (¬2) في أ: خفاها. واليَعْمَلة: الناقة النجيبة المطبوعة على العمل. الصَّحاح، مادة عمل. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 190 كتاب النكاح، باب نكاح أهل الشرك وطلاقهم. ولفظه قوله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من نكاحٍ غير سفاح». (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (4778) 5: 1950 كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج .. ». وأخرجه مسلم في صحيحه (1400) 2: 1018 كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ..

وأما الإجماع فأجمع المسلمون في الجملة على مشروعيته. قال المصنف رحمه الله تعالى: (النكاح سنة. والاشتغال به أفضل من التخلي لنوافل العبادة؛ إلا أن يخاف على نفسه مُواقعة المحظور بتركه فيجب عليه. وعنه: أنه واجب على الإطلاق). أما كون النكاح سنة إذا لم يخف على نفسه مواقعة المحظور على المذهب؛ فلأن فعله راجح على تركه مع جواز تركه: أما رجحان فعله؛ فلأن الله ورسوله أمرا به. وأدنى أحوال الأمر رجحان الفعل. ولأن في فعله خروجاً عن العهدة الآتي ذكرها بعد. وأما جواز تركه؛ فلأن الله تعالى علّقه بالاستطابة فقال: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3]. والواجب لا يعلق على الاستطابة. ولأن تكملة الآية: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3]. ولا خلاف في أنه لا يجب زيادة على واحدة. وأما كون الاشتغال به أفضل من التخلي لنوافل العبادة؛ فلأن الله تعالى أمر به رسوله. وقال عليه السلام: «ولكني أصومُ وأفطرُ، وأصلِّي وأرْقُدُ، وأتزوجُ النساء. فمن رغبَ عن سُنتي فليسَ مني» (¬1). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وبالغ في العدد. وفعل ذلك أصحابه. ولا يَشْتغل هو ولا أصحابه إلا بالأفضل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4776) 5: 1949 كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح. وأخرجه مسلم في صحيحه (1401) 2: 1020 كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ..

وعن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: «هل تزوَّجتَ؟ قلتُ: لا. قال: فتزوّجْ. فإنّ خيرَ هذه الأمةِ أكثرُها نساءً» (¬1). أخرجه البخاري. ولأن مصالحه أكثر: فإنه يشتمل على إحراز الدين، وتحصين المرأة، وحفظها، والقيام بواجبها، وإيجاد النسل، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من المصالح الراجح إحداها على العبادة. فمجموعها أولى. فإن قيل: هل يدخل من لا شهوة له في الأصل؛ كالعِنّين، أو من خلقت له ثم ذهبت بكبر أو مرض؟ قيل: فيه وجهان: أحدهما: يستحب له النكاح. وهو ظاهر كلام المصنف. وقال القاضي: هو ظاهر أحمد. ووجه ذلك ما تقدم من العموم. وقد جاء: «من دعاك إلى غير التزويج فقد دعاك إلى غير أمر الإسلام». والثاني: المستحب لهذا التخلي لنوافل العبادة والاشتغال بشأنه؛ لأنه لا يحصل مصالح النكاح ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعلّه لا يتمكن من أدائها مع عدم حاجته إلى سبب ذلك. ويمنع زوجته من التحصين بغيره ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه. والعمومات المتقدمة محمولة على من له شهوة لما فيها من القرائن الصارفة إليه. وظاهر كلام أحمد أنه لا فرق بين القادر والعاجز «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبحُ وما عندهُم شيء، ويمسي وما عندهُم شيء» (¬2). و«لأنه عليه السلام زوّج رجلاً لم يقدر على خاتم حديد، ولا وجدَ إلا إزارَه ولم يكن له ردَاء» (¬3). أخرجه البخاري. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4782) 5: 1951 كتاب النكاح، باب كثرة النساء. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (4147) 2: 1389 كتاب الزهد، باب معيشة آل محمد صلى الله عليه وسلم، ولفظه: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسُ محمدٍ بيده! ما أصبحَ عند آلِ محمدٍ صاعُ حبٍ ولا صاعُ تمر». قال في الزوائد: إسناد صحيح و. رواه ابن حبان في صحيحه. قلت: وأصل الحديث. رواه البخاري في صحيحه في كتاب البيع. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4829) 5: 1968 كتاب النكاح، باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح. وأخرجه مسلم في صحيحه (1425) 2: 1040 كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن ..

ولأن الله هو الرزاق. وربما كان التزويج سبباً لغناه. وأما كون من يخاف على نفسه مواقعة المحظور وهو الزنا بترك النكاح يجب عليه؛ فلأن صون النفس عن الحرام واجب، والنكاح طريق إليه. فيجب دفعا لذلك الحرام. وأما كونه واجباً على الإطلاق على روايةٍ؛ فلظاهر قوله تعالى: {فانكحوا} [النساء: 3]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «تناكَحُوا تناسَلُوا» (¬1). والأول أصح؛ لما تقدم. وما ذكر محمول على الندب؛ لما تقدم. قال: (ويستحب تَخَيُّر: ذات الدين، الولود، البكر، الحسيبة، الأجنبية). أما كون تخيّر ذات الدين يستحب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُنكحُ المرأةُ: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها (¬2). فاظفَرْ بذاتِ الدين. تَربَتْ يداك» (¬3) متفق عليه. وأما كون تخير الولود يستحب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر: أتزوجتَ يا جابر! قال: نعم. قال: بكرًا أم ثيبًا؟ قال: قلتُ: بل ثيبًا. قال: فهلا أخذتَ بكرًا تُلاعِبُها وتُلاعِبُك» (¬4). متفق عليه. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكَمْ بالأبكَار. فإنهنّ أعذبُ أفْوَاهاً وأفتحُ أرْحَاماً» (¬5). رواه أحمد. وفي روايةٍ: «وأَنْتَقُ أرْحَاماً وأرضَى باليسِير» (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 5: 391. (¬2) زيادة من الحديث. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4802) 5: 1958 كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين. وأخرجه مسلم في صحيحه (1466) 2: 1086 كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (4791) 5: 1954 كتاب النكاح، باب تزويج الثيبات. وأخرجه مسلم في صحيحه (715) 2: 1087 كتاب النكاح، باب استحباب ذات الدين. (¬5) أخرجه ابن ماجة في سننه (1861) 1: 598 كتاب النكاح، باب تزويج الأبكار. ولفظه: «عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأنتق أرحاما وأرضى باليسير». (¬6) ر تخريج الحديث السابق.

وأما كون تخير الحسيبة يستحب؛ فلما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تخيّروا لنطَفِكُمْ. فانكِحُوا الأكْفَاءَ، وأنكِحُوا إليهم» (¬1). رواه ابن ماجة. ولأن ولد الحسيبة ربما أشبه أهلها ونزع إليهم. ويقال: إذا أردت أن تتزوج امرأة فانظر إلى أبيها أو أخيها. أي: إذا أردت نكاح امرأة فانظر إلى نسبها. والنسب الحسب. وأما كون تخير الأجنبية يستحب؛ فلأن ولدها أنجب. ولهذا يقال: اغترب. أي: انكحوا الغرائب. ولأنه لا يؤمن في النكاح إفضاؤه إلى الطلاق. فيكون سبباً للعداوة. فإذا كانت الزوجة قريبة كانت قطيعة للرحم المأمور بصلتها. قال: (ويجوز لمن أراد خطبة امرأة النظر إلى وجهها من غير خلوة بها. وعنه: له النظر إلى ما يظهر غالباً؛ كالرقبة واليدين والقدمين). أما كون من أراد خطبة امرأة يجوز له النظر إليها في الجملة؛ فلأن جابراً روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خطبَ أحدكمُ المرأةَ. فإن استطاعَ أن ينظرَ إلى ما يدعوهُ إلى نكاحِها فليفعل. قال: فخطبتُ امرأةً فكنتُ أتخبأُ لها حتى رأيتُ منها ما دعَاني إلى نِكاحِها. فتزوجتها» (¬2). رواه أبو داود. ولأن النكاح عقد يقتضي التمليك فكان للعاقد النظر إلى المعقود عليه؛ كالنظر إلى الأمة المستامة. وأما كونه يجوز له النظر إلى وجهها فقط على الأول؛ فلأنه ليس بعورة. والغرض يحصل به؛ لأنه مجمع المحاسن. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (1968) 1: 633 كتاب النكاح، باب الأكفاء. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2082) 2: 228 كتاب النكاح، باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها.

وأما كونه يجوز له النظر إلى ما يظهر غالباً كما تقدم بيانه على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في النظر إليها مطلقاً علم أنه أذن في النظر إلى جميع ما يظهر منها غالباً. إذ لا يمكن إفراد الوجه بذلك. ولأنه يظهر غالباً. فأبيح النظر إليه؛ كالوجه. وأما كون النظر المذكور من غير خلوة بها؛ فلأنها كانت محرمة، ولم يَردْ الشرع بغير النظر. فبقيت الخلوة على التحريم. ولأنه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخلونّ الرجلُ بامرأةٍ فإن الشيطانَ ثالثهما» (¬1). رواه أحمد. قال: (وله النظر إلى ذلك، وإلى الرأس، والساقين من الأمة المستامة، ومن ذوات محارمه. وعنه: لا ينظر من ذوات محارمه إلا إلى الوجه والكفين). أما كون الرجل له النظر إلى الأمة المستامة؛ فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك ليعرف ما يشتري. وظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى هنا أن النظر الجائز يختص بالوجه والرقبة واليدين والقدمين والرأس والساقين؛ لأن المقصود يحصل بذلك. وقال في الكافي: يجوز النظر إلى ما عدا العورة؛ لأن ذلك محتاج إلى معرفته. فجاز النظر إليه؛ كالوجه. وفي تقييد الأمة بالمستامة دليل على عدم جواز النظر إلى الأمة إذا لم تكن مستامة. وفيه وجهان: إحداهما: لا يجوز؛ لعموم قوله: {ولا يبدين زينتهن ... الآية} [النور: 31] مع أنه لا حاجة تدعو إليه. ولأن خوف الفتنة مشترك بين الحرة والأمة. فوجب اشتراكهما في الحرمة. والثاني: يجوز؛ «لأن عمر رأى أمةً متكممة فضربها بالدرّة، وقال: يا لَكَاع! تتشبّهين بالحرائر» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1171) 3: 474 كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات. وأخرجه أحمد في مسنده (15269) طبعة إحياء التراث. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6235) 2: 41 كتاب الصلوات، في الأمة تصلي بغير خمار.

وروى أبو حفص «أن عمرُ كان لا يدع أمةً تقنع في خلافته. قال: إنما القناعُ للحرائر» (¬1). ولو كان نظر ذلك محرماً لم يَمنع منه بل أمر به. وقد روى أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذَ صفية قال الناس: لا نَدري أجعلَها أمّ المؤمنين أمْ أمّ ولد؟ فقالوا: إن حجَبَها فهي أم المؤمنين، وإنْ لم يحجبها فهي أمّ ولدٍ. فلما ركبَ وطّى لها خلفه ومدَّ الحجابَ بينها وبين الناس» (¬2) متفق عليه. وأما كونه له النظر إلى ذوات محارمه في الجملة؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن ... الآية} [النور: 31]، وقال تعالى: {لا جناح عليهن في آبائهن ... الآية} [الأحزاب: 55]. والمراد بذوات محارمه من يحرم نكاحها عليه على التأبيد بنسب؛ كالأم، والبنت. أو نسب مباح؛ كأم الزوجة، وابنتها. وأما كونه له النظر منهنّ إلى الوجه والرقبة واليدين والقدمين والرأس والساقين ونحو ذلك مما يظهر غالباً على الأول؛ فلما روت زينب بنت أبي سلمة «أنها ارتضعتْ من أسماءَ امرأة الزبير. قالت: فكنتُ أراه أباً. وكان يدخل عليّ وأنا أمشّط رأسي، وربما أخذَ ببعض قرونِ رأسي، ويقول: أقبلِي عليّ» (¬3). رواه الشافعي في مسنده. إذا ثبت ذلك في الرأس فالبواقي في معناه. وأما كونه لا ينظر منهنّ إلا إلى الوجه والكفين على روايةٍ؛ فلأن ابن عباس قال في تفسير قوله تعالى: «{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31] يعني وجهها وكفيها» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6241) 2: 42 الموضع السابق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4797) 5: 1956 كتاب النكاح، باب اتخاذ السراري ومن أعتق جاريته .. وأخرجه مسلم في صحيحه (1365) 2: 1045 كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها. (¬3) أخرجه الشافعي في مسنده (77) 2: 25 كتاب النكاح، باب فيما جاء في الرضاع. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 225 كتاب الصلاة، باب عورة المرأة الحرة. عن ابن عباس رضي الله عنه. وفي 2: 226 كتاب الصلاة، باب عورة المرأة الحرة. عن عائشة رضي الله عنها.

قال: (وللعبد النظر إليهما من مولاته). أما كون العبد له النظر إلى مولاته؛ فلأن الله تعالى قال: {أو ما ملكت أيمانهن} [النور: 31]. وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان لإحداكُنّ مُكَاتَبْ فملكَ ما يُؤدي. فلتحتَجِبْ منه» (¬1). رواه أبو داود والترمذي وصححه. مفهومه عدم احتجابها قبل ذلك. وعن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبدٍ قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوبٌ إذا قنَّعَتْ به رأسَها لم يبلغْ رجلَها، وإذا غطّت به رجلَها لم يبلغْ رأسَها. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تَلْقَى. قال: إنه ليسَ عليكِ بأس. إنما هو أبوكِ وغلامُك» (¬2). رواه أبو داود. وأما كونه له النظر إلى وجهها وكفها وهو المراد بقوله: إليهما؛ فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك. فإن قيل: حديث أنس يدل على أنه له النظر إلى رأسها ورجلها. قيل: ذكر المصنف في الكافي أن له النظر إلى ما يظهر منها غالباً. فيكون فيه الخلاف الذي في الخاطب (¬3). ووجهه ما ذكر من الحديث أو الحاجة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3928) 4: 21 كتاب العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت. وأخرجه الترمذي في جامعه (1261) 3: 562 كتاب البيوع، باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2520) 2: 842 كتاب العتق، باب المكاتب. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4106) 4: 62 كتاب اللباس، باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته. (¬3) ص: 533.

قال: (ولغير أولي الإرْبةِ من الرجال؛ كالكبير، والعِنّين، ونحوهما: النظر إلى ذلك. وعنه: لا يباح). أما كون غير أولي الإربة له النظر إلى الوجه والكفين على المذهب فلقوله تعالى: {أو التابعين غير أولي الإربة} [النور: 31]. فإن قيل: ما المراد بغير أولي الإربة؟ قيل: غير أولي الحاجة. وعن مجاهد وقتادة: «هو الذي لا إربَ له في النساء». وعن ابن عباس نحوه. وأما كونه لا يباح له ذلك على روايةٍ؛ فلعموم الأدلة المقتضية للمنع. قال: (وللشاهد والمبتاع النظر إلى وجه المشهود عليها، ومن تعامله. وللطبيب النظر إلى ما تدعو الحاجة إلى نظره). أما كون الشاهد له النظر إلى وجه المشهود عليها (¬1) فلتقع الشهادة على عينها. وأما كون المبتاع له النظر إلى وجه من تعامله فليعلمها بعينها حتى يرجع عليها بالدرك. وفي ذكر المبتاع تنبيه على المؤجرة ونحو ذلك، ويؤكده قوله: ومن تعامله. وصرح به في المغني؛ لأن حكم الكل سواء لأن ذلك في معنى المبتاع. وأما كون الطبيب له النظر إلى ما تدعو الحاجة إلى نظره من المتطببة أو المتطبب؛ فلأنه موضع حاجة. وقد روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكّم سعدًا في بني قريظةَ كان يكشفُ عن مؤْتَزَرِهِم»؛ لأنه موضع حاجة. وهذا مثله. وعن عثمان: «أنه أُتيَ بغلامٍ قد سرقَ فقال: انظروا إلى مؤُتزرِه. فلم يجدوه أنبتَ. فلم يقطعه» (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: عليه. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 97 كتاب الحجر، باب البلوغ بالإنبات.

قال: (وللصبي المميز غير ذي الشهوة النظر إلى ما فوق السرة وتحت الركبة. فإن كان ذا شهوة فهو كذي المحرم. وعنه: كالأجنبي). أما كون الصبي المميز غير ذي الشهوة له النظر إلى ما فوق السرة وتحت الركبة؛ فـ «لأن أبا طيبة حجمَ نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام». ولأن من ذكر لا شهوة له. أشبه الطفل. ولأن المحرم للرؤية في حق البالغ كونه محلاً للشهوة. وهو مفقود هاهنا. وأما كون الصبي ذي الشهوة كذي المحرم على المذهب؛ فلأن الله عز وجل فرق بين البالغ وغيره بقوله: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما} [النور: 59]. ولو لم يكن للصبي ذي الشهوة النظر لما كان بينه وبين البالغ فرق. وأما كونه كالأجنبي على روايةٍ فلمساواته البالغ في الشهوة. وإنما لم يشترط عدم الشهوة في الآية؛ لأن الغالب عدمها فيمن لم يبلغ. قال: (وللمرأة مع المرأة، والرجل مع الرجل: النظر إلى ما عدا ما بين السرة والركبة. وعنه: أن الكافرة مع المسلمة كالأجنبي). أما كون المرأة مع المرأة لها النظر إلى ما عدا ما بين السرة والركبة؛ فلأن الله تعالى قال: {أو نسائهن} [النور: 31]. وأما كون الكافرة كالمسلمة في ذلك على المذهب؛ فلأن النساء الكوافر من اليهوديات وغيرهن كن يدخلن على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن يحتجبن، ولا أُمرن بالحجاب. وعن عائشة: «جاءت يهودية تسألُها فقالت: أعاذكِ الله من عذابِ القبرِ. فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ... وذكر الحديث» (¬1). متفق عليه. ولأن الحجب بين الرجال والنساء لمعنى لا يوجد بين المسلمة والكافرة. فوجب أن لا يثبت الحجاب بينهما كالمسلم مع الكافر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1002) 1: 356 كتاب الكسوف، باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف. وأخرجه مسلم في صحيحه (903) 2: 621 كتاب الكسوف، باب ذكر عذاب القبر في صلاة الخسوف.

وأما كون الرجل مع الرجل له النظر إلى ما عدا ما بين السرة والركبة؛ فلأن تخصيص العورة بالنهي دليل على إباحة النظر إلى غيرها. وأما كون الكافرة مع المسلمة كالأجنبي على روايةٍ؛ فلأن قوله: {أو نسائهن} [النور: 31] ينصرف إلى المسلمات. فلو جاز للكافر النظر لم يبق للتخصيص فائدة. قال: (ويباح للمرأة النظر من الرجل إلى غير العورة. وعنه: لا يباح). أما كون المرأة يباح لها النظر من الرجل إلى ما ذُكر على المذهب؛ فلأن عائشة قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يستُرني بردائِه وأنا أنظرُ إلى الحبشةِ يلعبُونَ في المسجد» (¬1) متفق عليه. و«لأنه عليه السلام قال لفاطمة بنت قيس: اعتدّي في بيتِ ابن أم مكتوم فإنه رجلٌ أعمى تضَعين ثيابَكِ فلا يَراك» (¬2) متفق عليه. ولأنهن لو منعن النظر لوجب على الرجال الحجب لئلا ينظرون إليهم كما يؤمر النساء بالحجاب لئلا ينظر الرجال إليهن. وأما كونها لا يباح لها ذلك على روايةٍ؛ فلما وري عن أم سلمة قالت: «كنتُ قاعدةً عند النبي صلى الله عليه وسلم أنا وحفصة. فاستأذنَ ابن أم مكتوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتجبنَ منه. فقلتُ: يا رسول الله! ضريرٌ لا يُبصر. قال: أو عمْيَاوانِ أنتما لا تُبْصِرانِه؟ » (¬3). رواه أبو داود. ولأن الله تعالى أمر النساء بغض أبصارهن كما أمر الرجال به. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (443) 1: 173 كتاب المساجد، باب أصحاب الحراب في المسجد. وأخرجه مسلم في صحيحه (892) 2: 607 كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1480) 2: 1115 كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها. ولم أره في البخاري. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4112) 4: 63 كتاب اللباس، باب في قوله عز وجل: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}. وأخرجه الترمذي في جامعه (2778) 5: 102 كتاب الأدب، باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال ..

ولأن النساء أحد نوعي الآدمي. فحرم عليهن النظر إلى النوع الآخر قياساً على الرجال. يحققه أن المعنى المحرم للنظر خوف الفتنة وهو في المرأة أبلغ؛ لأنها أشد شهوة وأقل عقلاً. قال: (ويجوز النظر إلى الغلام لغير شهوة. ولا يجوز النظر إلى أحد ممن ذكرنا لشهوة). أما كون النظر إلى الغلام لغير شهوة يجوز؛ فلأنه ذكر. أشبه الملتحي. وأما كون النظر إلى أحد ممن ذكر لا يجوز لشهوة؛ فلأنه وسيلة إلى إيقاع المحذور. قال: (ولكل واحد من الزوجين له النظر إلى جميع بدن الآخر ولمسه، وكذلك السيد مع أمته). أما كون كل واحد من الزوجين له النظر إلى جميع بدن الآخر؛ فلأن النظر إنما حرم لئلا يقع في المحظور. وذلك منتفٍ هاهنا لجواز الوطء. وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: «قلتُ: يا رسول الله! عوراتُنا ما نأتي منها وما نَذَر؟ قال: احفظْ عورتَكَ إلا من زوجتِكَ أو ما ملكتْ يمينُك» (¬1). وإذا لم يحفظ عورته منها لم تحفظ عورتها منه؛ لاشتراكهما في المعنى. وفي تعميم النظر المذكور إشعار بجواز النظر إلى الفرج. وهو صحيح ويدل عليه الحديث المتقدم. ولأنه محل استمتاع. فجاز النظر إليه؛ كبقية البدن. لكن يكره النظر إليه؛ لأن عائشة قالت: «ما رأيتُه من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا رآهُ مني». وفي لفظٍ قالت: «ما رأيتُ فرجَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قط» (¬2). رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (2769) 5: 97 كتاب الأدب، باب ما جاء في حفظ العورة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1920) 1: 618 كتاب النكاح، باب التستر عند الجماع. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (662) 1: 217 كتاب الطهارة وسننها، باب النهي أن يرى عورة أخيه.

وقيّد صاحب المستوعب الكراهة بحالة الطمث وهي الحيض. وفيه معنى؛ لأن الوطء في الحيض حرام. فإذا نظر إلى الفرج ربما كان سبباً إلى الوطء الحرام. فأما إذا لم يكن حراماً فلا أقل من أن يكون مكروها. وأما كون كل واحد منهما له لمس جميع بدن الآخر؛ فلأن الوطء جائز. فلأن يجوز اللمس بطريق الأولى. ولأنه لو حرم اللمس لحرم النظر لئلا يدعو إليه. ولأنه لو حرم اللمس لما أمكن التحرز عنه حالة الوطء. وأما كون السيد مع أمته كذلك؛ فلأنهما في معنى الزوجين. ولأن الأمة داخلة في الحديث المتقدم ذكره. وفي قول المصنف رحمه الله تعالى: مع أمته نظر؛ لأنه يدخل في ذلك أمته المزوجة والمجوسية والوثنية ونحو ذلك، وليس له النظر إلى شيء من ذلك ولا لمسه؛ لما يذكر في موضعه. وجعل بعض الأصحاب سُرِّيَتَه بدل أمته. وفيه نظر أيضاً؛ لأنه يخرج منه أمته التي ليست بسُرِّية. وله النظر إليها ولمسها. وجعل بعضهم أمته المباحة له بدل أمته (¬1). وهو أجود مما تقدم ذكره لسلامته عما ذكر فيه. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

فصل [في خطبة المعتدة] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ولا يجوز التصريح بخطبة المعتدة، ولا التعريض بخطبة الرجعية. ويجوز في عدة الوفاة والبائن بطلاق ثلاث. وهل يجوز في عدة البائن بغير الثلاث؟ على وجهين). أما كون التصريح بخطبة المعتدة لا يجوز؛ فلأن الله تعالى قال: {ولكن لا تواعدوهن سراً} [البقرة: 235]. والمراد بالسر النكاح. قاله أهل التفسير. ولأنه قال: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} [البقرة: 235]. خص التعريض بنفي الحرج وذلك يدل على وجود الحرج في التصريح، وذلك يدل على عدم جواز التصريح. ولأن التصريح لا يحتمل غير النكاح. فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار بانقضاء عدتها قبل انقضائها. وأما كون التعريض بخطبة الرجعية لا يجوز؛ فلأنها زوجة. أشبهت التي في صلب النكاح. وأما كون التعريض في عدة الوفاة والمطلقة بالثلاث يجوز؛ فلما تقدم من الآية. ولما روت فاطمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها لما طلّقها زوجها ثلاثاً: إذا حلَلْتِ فآذِنيني» (¬1) وفي لفظ: «لا تَسْبِقيني نفسك» (¬2). وفي لفظ: «لا تَفُوتِينَا بنفْسِك» (¬3). وكل ذلك تعريض بالخطبة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1480) 2: 1114 كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1480) 2: 1115 الموضع السابق. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1480) 2: 1116 الموضع السابق.

وأما كون التعريض في عدة البائن بغير الثلاث؛ كالمختلعة، والمطلقة بالكناية الظاهرة على قول يجوز على وجه؛ فلعموم الآية. ولأنها بائن. أشبهت المطلقة بالثلاث. وأما كونه لا يجوز على وجه؛ فلأن الزوج يملك أن يستبيحها. أشبهت الرجعية. قال: (والتعريض نحو قوله: إني في مثلك لراغب، ولا تُفَوِّتيني بنفسك. وتجيبه ما يُرغب عنك، وإن قضى شيء كان، ونحوهما). أما كون التعريض نحو ما ذكر؛ فلأن الغرض يحصل بذلك. وقد دل الحديث المتقدم عليه. وأما كون الإجابة ما ذكر؛ فلأن ذلك كافٍ في الغرض وشبيه بالتعريض. قال: (ولا يحل لرجل أن يخطب على خطبة أخيه إن أُجيب. وإن رُدَّ حل وإن لم يعلم الحال فعلى وجهين). أما كون الرجل لا يحل له أن يخطب على خطبة أخيه إذا أجيب؛ فلما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخطبُ أحدكم على خطبةِ أخيه» (¬1). وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخطبُ الرجلُ على خطبةِ أخيه حتى يَنكِحَ أو يَترُك» (¬2) متفق عليهما. ولأن في ذلك إفساداً على الخاطب الأول، وفيه إيقاع العداوة بين الناس. ولذلك نهى عليه السلام عن بيعِ الرجل على بيعِ أخيه (¬3). وأما كونه يحل له ذلك إذا رُدَّ؛ فلما روت فاطمة بنت قيس: «أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت: أن معاوية وأبا جهم خطباها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما معاوية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4848) 5: 1975 كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1412) 2: 1032 كتاب النكاح، باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4849) 5: 1976 الموضع السابق. وأخرجه مسلم في صحيحه (1413) 2: 1033 الموضع السابق. (¬3) ر. الحديث السابق والذي قبله.

فصُعلوكٌ لا مالَ له، وأما أبو جهم فلا يَضَعُ عصاهُ على عاتِقِه، انكحي أسامة بن زيد» (¬1) متفق عليه. ولأن تحريم خطبتها على هذا الوجه إضرارٌ بالمرأة؛ لأنه لا يشاء أحد أن يمنع المرأة النكاح إلا منعها بخطبته لها. و«لأن عمر بن الخطاب خطبَ امرأة على جرير بن عبدالله البجلي، وعلى مروان بن الحكم، وعلى عبدالله بن عمر. فدخل على المرأة وهي جالسةٌ في بيتها. فقال عمر: إن جرير بن عبدالله يخطبُ وهو سيدُ أهلِ المشرق، ومروان يخطبُ وهو سيدُ شبابِ قريش، وعبدالله بن عمر وهو من قد علمتُم، وعمر بن الخطاب. فقالت: أميرُ المؤمنين قال: نعم. فقالت: قد أنكحت بأمير المؤمنين أنكحوه». ذكره ابن عبدالبر. وأما كونه يحل له إذا لم يعلم الحال على وجهٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فاطمة لأسامة بعد أن أخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها. وأما كونه لا يحل له على وجه؛ فلعموم النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه. قال: (والتعويل في الرد والإجابة عليها إن لم تكن مجبرة. وإن كانت مجبرة فعلى الولي). أما كون التعويل في الرد والإجابة على المرأة إن لم تكن مجبرة؛ فلأنها أحق بنفسها من وليها. ولو أجاب الولي ورغبت هي عن النكاح كان الأمر أمرها. وأما كون ذلك على الولي إذا كانت مجبرة؛ فلأنه يملك تزويجها بغير اختيارها. فكان العبرة به لا بها. قال: (ويستحب عقد النكاح مساء يوم الجمعة. وأن يخطب قبل العقد بخطبة ابن مسعود. وأن يُقال للمتزوج: بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1480) 2: 1114 كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها. ولم أره في البخاري.

وعافية. وإذا زُفّت إليه قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه). أما كون العقد يستحب مساء يوم الجمعة؛ فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مسوا بالإملاكِ فإنه أعظمُ للبركة». ولأنه أقرب إلى مقصوده وأقل لانتظاره. وأما كونه يستحب يوم الجمعة؛ فلأن جماعة من السلف استحبوا ذلك: منهم ضَمْرة بن حبيب، وراشد بن سعد، وحبيب بن عتبة. وأما كون العاقد يستحب له أن يخطب بخطبة قبل العقد؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأُ فيه بالحمدُ للهِ فهوَ أقطَع» (¬1). رواه ابن المنذر. وأما كونه يخطب بخطبة ابن مسعود؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه إياها. وما هذا شأنه أولى من غيره. فإن قيل: ما خطبة بن مسعود؟ قيل: ما روى ابن مسعود قال: «علّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم التشهدَ في الحاجة. إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنِا. من يهدهِ اللهُ فلا مُضلَ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه. ويقرأ ثلاث آياتٍ: {اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102]، {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} [النساء: 1]، {اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا ... الآية} [الأحزاب: 70]» (¬2). رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. وإضافة الخطبة إلى ابن مسعود في كلام المصنف لتأكيد الخطبة بها. لا لأن الخطبة لا تستحب بغيرها نقلاً وتعليلاً: أما الأول؛ فلأن الإمام أحمد بن حنبل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4840) 4: 261 كتاب الأدب، باب الهدى في الكلام. ولفظه: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم». وأخرجه ابن ماجة في سننه (1894) 1: 610 كتاب النكاح، باب خطبة النكاح. قال السندي: الحديث قد حسنه ابن الصلاح والنووي. واللفظ له. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2118) 2: 238 كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح. وأخرجه الترمذي في جامعه (1105) 3: 413 كتاب الجمعة، باب ما جاء في خطبة النكاح.

كان إذا حضر عقد نكاح لم يُخطب فيه بخطبة ابن مسعود قام وتركهم. رواه الخلال. وسئل: أيجب أن تكون الخطبة مثل قول ابن مسعود؟ فوسع في ذلك. رواه حرب. وأما الثاني؛ فلأن الغرض الخطبة. وذلك حاصل بغيرها. وروي عن ابن عمر «أنه كان إذا دُعيَ ليزوِّج قال: [لا تُفضّضُوا] علينا الناسَ. الحمدُ [لله] وصلى الله على محمدٍ. إن فلانًا خطبَ إليكم فإن أنكحتُموه فالحمدُ لله، وإن رددتموهُ فسبحانَ الله» (¬1). وأما كون المتزوج يستحب أن يقال له ما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلما روى أبو هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رَفَّأَ الإنسانَ قال: باركَ اللهُ لكَ، وباركَ عليكَ، وجمعَ بينكما في خيرٍ وعافية» (¬2). رواه أبو داود. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قال لعبدالرحمن لما تزوج: باركَ اللهُ عليكَ، أوْلِمْ ولو بشاة» (¬3). رواه البخاري. وأما كونه يستحب أن يقول: اللهم إني أسألك خيرها ... إلى آخره إذا زفت إليه؛ فلأن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تزوجَ أحدكمُ امرأةً أو اشترى خادمًا فليقل: اللهم إني أسألكَ خيرَها وخيرَ ما جبلتَها عليه، وأعوذُ بكَ من شرّها وشرّ ما جبلتَها عليه» (¬4). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 181 كتاب النكاح، باب كيف الخطبة. وما بين الأقواس من السنن. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2130) 2: 241 كتاب النكاح، باب ما يقال للمتزوج. وأخرجه الترمذي في جامعه (1091) 3: 400 كتاب النكاح، باب ما جاء فيما يقال للمتزوج. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1905) 1: 614 كتاب النكاح، باب تهنئة النكاح. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (3570) 3: 1378 كتاب فضائل الصحابة، باب إخاءُ النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2160) 2: 248 كتاب النكاح، باب في جامع النكاح.

باب أركان النكاح وشروطه

باب أركان النكاح وشروطه أركان الشيء هي: أجزاء ماهيته. والماهية لا تتم بدون جزئها. فكذا الذي لا يتم بدون ركنه. والشرط ما ينتفي المشروط لانتفائه. وليس جزءاً من الماهية. قال المصنف رحمه الله تعالى: (وأركانه: الإيجاب والقبول. ولا ينعقد الإيجاب إلا بلفظ النكاح والتزويج بالعربية لمن يحسنهما، أو بمعناهما الخاص بكل لسان لمن لا يحسنهما. فإن قدر على تعلمها بالعربية لم يلزمه في أحد الوجهين. والقبول أن يقول: قبلت هذا النكاح أو ما يقوم مقامه في حق من لا يحسن). أما كون الإيجاب والقبول ركني النكاح؛ فلأن ماهيته مركبة منهما ومتوقفة عليهما؛ لما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما كون الإيجاب. وهو: اللفظ الصادر من قبل الولي أو من يقوم مقامه: لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج بالعربية لمن يحسنهما؛ فلأنهما اللذان وردا في القرآن، واستعملهما الصحابة وغيرهم إلى زمننا هذا. ولأن العادل عنهما مع معرفته لهما عادل عن اللفظ الذي ورد في القرآن مع القدرة عليه. أشبه من عدل عن لفظ التكبير مع القدرة عليه. فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه زوج رجلاً امرأة. فقال: مُلِّكْتَها بما معكَ من القرآن» (¬1). رواه البخاري. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4847) 5: 1975 كتاب النكاح، باب إذا قال الخاطب للولي: زوجني فلانة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1425) 2: 1040 كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن ..

قيل: قد روي في الحديث بعينه أنه قال: «زَوّجْتُكَهَا» (¬1) و «أُنكِحتَها» (¬2) و «زوّجْناَكَهَا» (¬3) من طرق صحيحة: فإما أن يكون قد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك، أو يحمل على أن الراوي روى بالمعنى ظناً منه أن معناهما واحد. وعلى كلا التقديرين لا يبقى فيه حجة. وأما كونه لا ينعقد إلا بمعناهما الخاص بكل لسان لمن لا يحسنهما؛ فلأن ذلك في لغته نظير الإنكاح والإزواج في العربية. ولأن العادل عن ذلك عادل عن اللفظ الخاص إلى غيره. أشبه العربي إذا عدل عن اللفظ الخاص فيها. وأما كون القادر على تعلم ذلك لا يلزمه في وجه؛ فلأن النكاح عقد معاوضة. فلم يجب تعلم أركانه؛ كالبيع. وأما كونه يلزمه في وجه؛ فلأن ما كانت العربية شرطاً فيه لزم تعلمها مع القدرة؛ كالتكبير. وأما القبول. وهو: اللفظ الصادر من قبل الزوج أو من يقوم مقامه: أن يقول ما ذكره المصنف؛ فلأنه كالإيجاب معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. فإن قيل: فإن اختلف لفظ الإيجاب والقبول فقال الولي: زوجتك فقال الزوج: قبلت هذا النكاح، أو قال: أنكحتك فقال: قبلت هذا التزويج. قيل: يصح؛ لأن الكل وافٍ بالغرض مع كونه موضوعاً له في العربية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4854) 5: 1977 كتاب النكاح، باب التزويج على القرآن وبغير صداق. ولفظه: «أنكحتكها». (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4741) 4: 1919 كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2186) 2: 811 كتاب الوكالة، باب وكالة المرأة الإمام في النكاح.

قال: (فإن اقتصر على قول: قبلت، أو قال الخاطب للولي: أزوجتَ؟ قال: نعم. وللمتزوج: أقبلتَ؟ قال: نعم: صح. ذكره الخرقي. ويحتمل أن لا يصح). أما كون من اقتصر على قول: قبلت يصح النكاح على المذهب؛ فلأنه صريح في الجواب. فصح به النكاح؛ كما يصح به البيع وسائر العقود. وأما كون الولي إذا قال: نعم بعد قول الخاطب له: أزوجت؟ والمتزوج إذا قال: نعم بعد قول الخاطب له: أقبلت؟ يصح النكاح على المذهب؛ فلأن معنى نعم قبلت هذا التزويج. ولذلك لما قال الله تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا قالوا نعم} [الأعراف: 44] كان إقراراً منهم بوجدان ما وعدهم ربهم حقاً. ولو قيل لرجل: ألي عليك ألف؟ قال: نعم. كان مقراً به إقرارًا لا يفتقر إلى التفسير. ومثله قطع اليد في السرقة. فوجب أن يصح التزويج به؛ كما لو صرح بالمعنى. وأما كونه يحتمل أن لا يصح النكاح بما ذكر في المسألتين المذكورتين قبل؛ فلأن قول الولي: زوجتك وقول الزوج: قبلت هذا التزويج ركنا العقد. فلم يصح بدونهما. قال: (وإن تقدم القبول الإيجاب لم يصح. وإن تراخى عنه صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه. فإن تفرقا قبله (¬1) بطل الإيجاب. وعنه: لا يبطل). أما كون القبول إذا تقدم الإيجاب في باب النكاح لا يصح بلا خلاف في المذهب سواء كان بلفظ الماضي كقولك: تزوجتُ ابنتك فيقول: زوجتك، أو بلفظ الطلب كقولك: زوجني ابنتك فيقول: زوجتك، أو بلفظ الاستفهام كقولك: أتزوجني ابنتك؟ فيقول: زوجتك؛ فلأن القبول إنما يكون للإيجاب. فمتى وجد قبله لم يكن قبولاً لعدم معناه. ولأنه لو تقدم بلفظ الاستفهام لم يصح في موضع وفاقاً. فكذلك إذا تقدم بلفظ الماضي أو الطلب. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع.

فإن قيل: ما الفرق بين النكاح والبيع على إحدى الروايتين؟ قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أنه لا يشترط للبيع صيغة الإيجاب والقبول. بل يصح بالمعاطاة. وثانيهما: أنه لا يتعين فيه اللفظ. بل يصح بأيّ لفظ كان مما يؤدي المعنى. فإن قيل: فما الفرق بين النكاح والخلع؟ قيل: الفرق بينهما ظاهر لأن الخلع يصح بتعليقه على الشروط. بخلاف النكاح. وأما كون القبول إذا تراخى عن الإيجاب يصح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه؛ فلأن حكم المجلس حكم حالة العقد. بدليل القبض فيما يشترط القبض فيه، وبثبوت الخيار في عقود المعاوضات المحضة. واشترط المصنف في صحة القبول في المجلس: أن لا يتشاغلا بما يقطعه لأن مع التشاغل يعدّ كالمعرض عن الإيجاب. فلم يصح القبول بعده؛ كما لو رده. وأما كون الإيجاب يبطل إذا تفرق الولي والزوج قبل القبول على المذهب؛ فلأن التفرق قبل القبول إعراض عن الإيجاب. أشبه ما لو رده. وأما كونه لا يبطل على روايةٍ فبالقياس على القبول في المجلس. فإن قيل: ما صورة القبول بعد التفرق؟ قيل: ما روي عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه قيل له: إن رجلاً مضى إلى قوم. فقالوا له: زوّج فلاناً. قال: زوّجته على ألف. فرجعوا إلى الزوج فأخبروه. فقال: قد قبلت. هل يكون هذا نكاحاً؟ قال: نعم. قال القاضي: هذا محمول على أنه وكل من قبل العقد في المجلس.

فصل [في شروط النكاح] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وشروطه خمسة: أحدها: تعيين الزوجين. فإذا قال: زوجتك ابنتي وله بنات لم يصح حتى يشير إليها، أو يسميها، أو بصفتها بما تتميز به. وإن لم يكن له إلا ابنة واحدة: صح. ولو قال: إن وضعت زوجتي ابنة فقد زوجتكها لم يصح). أما كون شروط النكاح خمسة؛ فلأنها تعيين الزوجين، ورضاهما، والولي، والشهادة، وكون الرجل كفءاً للمرأة. وسيأتي دليل ذلك كله في مواضعه. أما كون أحدهما: تعيين الزوجين؛ فلأنه عقد معاوضة. أشبه البيع. ولأن مقصود النكاح العين. فلم يصح بدون التعيين؛ كالبيع. وأما كون من قال: زوجتك ابنتي وله بنات لا يصح إذا لم يميزها بما ذُكر؛ فلأن تعيين الزوجة شرط لما تقدم ولم يوجد. وأما كونه يصح إذا ميزها بالإشارة؛ مثل أن يقول: زوجتك ابنتي هذه؛ فلأن التعيين يحصل بذلك. وأما كونه يصح إذا ميزها بالتسمية؛ مثل أن يقول: فلانة، أو بالصفة؛ مثل أن يقول: الطويلة أو البيضاء أو ما أشبه ذلك وليس في بناته من يتّصف بذلك إلا واحدة؛ فلأن ذلك قائم مقام التعيين لأن الغرض من التعيين العلم بالمعقود عليها وذلك حاصل فيما ذكر. وأما كون من قال: زوجتك ابنتي ولم يكن له إلا بنت واحدة يصح؛ فلأن عدم التعيين إنما جاء من التعدد ولا تعدد هاهنا. وأما كون من قال: إن وضعت زوجتي ابنة فقد زوجتك بها لا يصح؛ فلأنه تعليق للنكاح على شرط، والنكاح لا يصح تعليقه.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله تعالى: (الثاني: رضا الزوجين. فإن لم يرضيا، أو أحدهما: لم يصح. إلا الأب له تزويج أولاده الصغار والمجانين وبناته الأبكار بغير إذنهم. وعنه: لا يجوز له تزويج ابنة تسع سنين إلا بإذنها. وهل له تزويج الثيب الصغيرة؟ على وجهين. والسيد له تزويج إمائه الأبكار والثيب وعبيده الصغار بغير إذنهم. ولا يملك إجبار عبده الكبير. ويحتمل مثل ذلك في الصغير أيضاً). أما كون الثاني من شروط صحة النكاح رضا الزوجين غير ما استثني؛ فلأن العقد لهما. فاشترط رضاهما؛ كالبيع. وأما كونهما إذا لم يرضيا أو أحدهما لا يصح غير ما استثني؛ فلأن الرضى شرط ولم يوجد. وأما كون الأب له تزويج أولاده الصغار؛ فـ «لأن ابن عمر زوّجَ ابنه وهو صغير. فاختصما إلى زيدٍ فأجازاهُ جميعًا» (¬1). ولأن الأب يتصرف في ماله بغير تولية. فجاز له تزويجه؛ كابنته الصغيرة. وأما كونه له تزويج أولاده المجانين؛ فلأنهم لا قول لهم فكان لأبيهم تزويجهم كأولاده الصغار. وظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى هنا أنه لا فرق بين المجنون البالغ وغير البالغ. وصرح به في المغني. وقال: هو ظاهر كلام أحمد لاستوائهما في المعنى الذي جاز التزويج من أجله. وقال القاضي: لا يجوز تزويج بالغ إلا إذا كان محتاجاً بأن تظهر منه أمارات الشهوة باتباع النساء ونحوه لأنه لا مصلحة له في الزواج إلا بذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي مختصراً في السنن الكبرى 7: 143 كتاب النكاح، باب الأب يزوج ابنه الصغير.

وقال أبو بكر عبدالعزيز: ليس للأب تزويجه بحال؛ لأنه رجل. فلا يملك الأب إجباره؛ كالعاقل. والأول أولى؛ لأنه إذا جاز تزويج الصغير مع عدم حاجته إلى قضاء شهوته وحفظه عن الزنا. فالبالغ أولى. وأما كونه له تزويج بناته الأبكار اللاتي لهن دون تسع سنين بغير إذنهن فلا خلاف فيه. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن نكاح الأب ابنته الصغيرة جائز إذا زوجها من كفء. وقد دل على ذلك قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} [الطلاق: 4]. أي عدتهن كذلك ولا تكون العدة ثلاثة أشهر إلا من طلاق في نكاح. فدل على أنها تزوج ثم تطلق ولا إذن لها يعتبر. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «تزوّجني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنةُ ستٍ، وبنى بي وأنا ابنةُ تسع» (¬1) متفق عليه. وروي «أن قدامة بن مظعون تزوّجَ ابنة الزبير حين نفست». وأما كونه له تزويج اللاتي لهن تسع سنين فصاعداً على المذهب؛ فلما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأيمُ أحقُ بنفسِهَا من وليّها. والبكرُ تُستأذَنُ، وإذنُها صُمَاتُها» (¬2). رواه أبو داود. قسم النساء قسمين. فأثبت الحق لأحدهما، وذلك يدل على نفيه عن الآخر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (3681) 3: 1414 كتاب فضائل الصحابة، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة .. وأخرجه مسلم في صحيحه (1422) 2: 1038 كتاب النكاح، باب تزويج الأب البكر الصغيرة. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1421) 2: 1037 كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت. وأخرجه أبو داود في سننه (2098) 2: 232 كتاب النكاح، باب في الثيب. وأخرجه الترمذي في جامعه (1108) 3: 416 كتاب النكاح، باب ما جاء في استئمار البكر والثيب. وأخرجه النسائي في سننه (3261) 6: 84 كتاب النكاح، استئذان البكر في نفسها.

وأما كونه لا يجوز له تزويج ابنة تسع سنين إلا بإذنها على روايةٍ؛ فلأنها بلغت سناً تصلح للبلوغ. أشبهت البالغة. ولم يتعرض المصنف إلى البالغة وفيها عن الإمام أحمد رواية لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُنكحُ الأيّمُ حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكرُ حتى تُستأذن. قالوا: يا رسول الله! فكيف إذنُها؟ قال: أن تسْكُت» (¬1). متفق عليه. ولأنها جائزة التصرف في مالها بنفسها. فلم يكن للأب تزويجها بغير إذنها؛ كالثيّب. وأما كونه له تزويج الثيّب الصغيرة على وجه؛ فلأنها كالغلام في الصغر. فكان له تزويجها؛ كولده الصغير. وأما كونه ليس له ذلك على وجه فبالقياس على الثيّب الكبيرة. ويظهر من ذلك ومن العموم المتقدم أن الثيب إن يكنّ بالغات لم يكن للأب تزويجهن إلا بإذنهن. وهو صحيح. ووجهه ما تقدم. ولأنه قال عليه السلام: «الأيمُ أحقُ بنفسِها من وليّها» (¬2). وعنه أنه قال: «ليسَ للوَلي معَ الثيبِ أمرٌ» (¬3). رواهما النسائي وأبو داود. ولأنهن رشيدات عالمات بالمقصود من النكاح. فلم يكن للأب تزويجهن؛ كابنه البالغ. وأما كون السيد له تزويج إمائه الأبكار والثيب بغير إذنهن؛ فلأن النكاح عقد على المنافع. فكان للسيد عقده؛ كالإجارة. وأما كونه له تزويج عبيده الصغار بغير إذنهم على المذهب؛ فلأنه إذا كان له تزويج ابنه الصغير. فلأن يكون له تزويج عبده الصغير بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4843) 5: 1974 كتاب النكاح، باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1419) 2: 1036 كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت. (¬2) سبق تخريحه قريباً. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2100) 2: 233 كتاب النكاح، باب في الثيب. وأخرجه النسائي في سننه (3263) 6: 85 كتاب النكاح، استئذان البكر في نفسها.

وأما كونه لا يملك إجبار عبده الكبير؛ فلأنه خالص حقه. فلم يملك إجباره عليه؛ كالطلاق. وأما كونه يحتمل مثل ذلك في الصغير أيضاً فبالقياس عليه. قال: (ولا يجوز لسائر الأولياء تزويج كبيرة إلا بإذنها. إلا المجنونة لهم تزويجها إذا ظهر منها الميل إلى الرجال. وليس لهم تزويج صغيرة بحال. وعنه: لهم ذلك ولهم الخيار إذا بلغت. وعنه: لهم تزويج ابنة تسع سنين بإذنها). أما كون سائر الأولياء لا يجوز لهم تزويج كبيرة عاقلة إلا بإذنها؛ فلأنهم لا يجوز لهم تزويج صغيرة لما يأتي فلأن لا يجوز تزويج كبيرة بطريق الأولى. ولأن غير الأب لا يساوي الأب. وفي تزويج الأب الكبيرة البكر خلاف. فيلزم أن لا يجوز ذلك كغيره قولاً واحداً لأنه لو جاز لكان مثل الأب أو أحسن حالاً منه. وأما كونهم لهم (¬1) تزويج المجنونة إذا ظهر منها الميل إلى الرجال؛ فلأنه لو لم يجز في هذه الحال لأدى إلى الوقوع في المحظور وذلك مطلوب العدم. وأما كونهم ليس لهم تزويج صغيرة بحال على المذهب؛ لما روي «أن قدامة بن مظعون زوّجَ ابنةَ أخيه من عبدالله بن عمر فرُفعَ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إنها يتيمة ولا تُنكحُ إلا بإذنِها» (¬2). والصغيرة لا إذن لها. وأما كونهم لهم ذلك على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3]. دلت الآية بمفهومها أن تزويجها إذا أقسطوا جائز. وقد فسرته عائشة رضي الله عنها بذلك. فعلى هذا يكون لها الخيار إذا بلغت لتستدرك ما فاتها. وأما كونهم لهم تزويج ابنة تسع سنين بإذنها على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُستأمرُ اليتيمةُ فإن سكتتْ فهو إذنُها، وإن أبتْ فلا جَوازَ عليها» (¬3). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في أ: له. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (6101) طبعة إحياء التراث. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2093) 2: 231 كتاب النكاح، باب في الاستئمار. وأخرجه النسائي في سننه (3270) 6: 87 كتاب النكاح، البكر يزوجها أبوها وهي كارهة. وأخرجه أحمد في مسنده (7519) 2: 259.

وهذه الروايةٍ أقوى دليلاً؛ لأن في القول بها جمعاً بين الآية والأخبار. وهذا ظاهر كلام المصنف في الكافي. فإن قيل: لم قيد ذلك بالتسع؟ قيل: لأنها حينئذ تصير عارفة بما يضرها وينفعها فتظهر فائدة استئذانها وقد نبهت عائشة على ذلك حيث قالت: «إذا بَلغتِ الجاريةُ تسع سنين فهيَ امرأة» (¬1). وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولأنها تصلح حينئذ للنكاح وتحتاج إليه. أشبهت البالغة. قال: (وإذن الثيب الكلام وإذن البكر الصمات). أما كون إذن الثيب الكلام فلا خلاف فيه. ولأن الإذن في الأمر إذا ... (¬2) لا يكون إلا بالكلام. فكذلك هاهنا. وأما كون إذن البكر الصمات؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: «كيفَ إذنُها؟ قال: أن تَسكُت» (¬3). وعن عائشة أنها قالت: «يا رسول الله! البكرُ تستحِي. قال: رضاها صمتُها» (¬4). متفق عليه. وفي روايةٍ: «واليتيمةُ تُستأمرُ وصمتُها إقرارُها» (¬5). رواه النسائي. ¬

_ (¬1) ذكره الترمذي في جامعه 3: 418 كتاب النكاح، باب ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج. وذكره البيهقي في السنن الكبرى 1: 320 كتاب الحيض، باب السن التي وجدت المرأة حاضت فيها. (¬2) طمس في أقدر كلمة. (¬3) سبق تخريجه ص: 554. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (4844) 5: 1974 كتاب النكاح، باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1420) 2: 1037 كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (2100) 2: 233 كتاب النكاح، باب في الثيب. وأخرجه النسائي في سننه (3263) 6: 85 كتاب النكاح، استئذان البكر في نفسها.

وفي روايةٍ: «تُستأمرُ اليتيمةُ في نفسِها فإن سكتتْ فهو إذنُها» (¬1). ولا فرق بين الأب وغيره فيما ذُكر؛ لأنه صرح بأن إذن اليتيمة الصمت، واليتيمة من لا أبَ لها. قال: (ولا فرق بين الثيوبة بوطء مباح أو محرم. فأما زوال البكارة بأصبع أو وثبة فلا يغير صفة الإذن). أما كونه لا فرق بين ما ذكر؛ فلعموم ما تقدم. ولأن البكر إنما اقتصر على صماتها لأجل حيائها وذلك مفقود في الموطوءة. لا سيما بوطء محرم. وأما كون زوال البكارة بأصبع أو وثبة لا يغير صفة الإذن؛ فلأن المعنى الذي وجب الاكتفاء بالصمات في البكر لأجله موجود هاهنا لأن الحياء لا يزول بزوال البكارة بإصبع أو وثبة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريباً.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله تعالى: (الثالث: الولي. فلا نكاح إلا بولي. فإن زوجت المرأة نفسها أو غيرها لم يصح. وعنه: لها تزويج أمتها ومعتقتها. فيُخَرَّج منه صحة تزويج نفسها بإذن وليها وتزويج غيرها بالوكالة. والأول المذهب). أما كون الثالث من شروط صحة النكاح: الولي؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نِكاحَ إلا بِوَلي» (¬1). صححه أحمد وابن معين. وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما امرأةٍ نكحتْ نفسَها بغيرِ إذن وليّها فنكاحُها باطلٌ باطلٌ باطلٌ» (¬2). رواه أبو داود وابن ماجة والأثرم. فإن قيل: الحديث الأول يمكن حمله على نفي الكمال، والثاني يدل بمفهومه على صحة النكاح بإذن الولي وأنتم لا تقولون به. ثم قد دل قوله تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 232] على صحة نكاحها. فصح منها؛ كبيع أمتها. قيل: مقتضى الحديث الأول نفي حقيقة النكاح؛ إلا أنه لما لم يمكن ذلك وجب حمله على نفي الصحة؛ لأنه أقرب إلى نفي الحقيقة. لا سيما إذا اعتضد بقوله في الحديث الآخر: «باطلٌ باطلٌ» (¬3). ولقائل أن يقول: بل هو على مقتضاه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2085) 2: 229 كتاب النكاح، باب في الولي. وأخرجه الترمذي في جامعه (1101) 3: 407 كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1881) 1: 605 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي. وأخرجه أحمد في مسنده (19761) 4: 418. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2083) 2: 229 كتاب النكاح، باب في الولي. وأخرجه الترمذي في جامعه (1102) 3: 407 كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1879) 1: 605 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي. وأخرجه أحمد في مسنده (24417) 6: 66. (¬3) سبق تخريجه قريباً.

في نفي الحقيقة؛ لأن كلام الشرع محمول على الحقائق الشرعية لا على الحقائق اللغوية، والحقيقة الشرعية لا توجد بغير ولي. وأما الحديث الثاني فلا مفهوم له لأنه خرج مخرج الغالب. أشبه قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حُجُوركم} [النساء: 23]. وأما الآية فالعضل الامتناع من التزويج. ويدل عليه «أنها نزلت في معقل بن يسار حين امتنع من تزويج أخته فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فزوجها» (¬1). وأما الإضافة إليهن؛ فلأنهن محل له. وأما كون المرأة إذا زوجت نفسها لا يصح على المذهب؛ فلما تقدم من قوله: «لا نِكاحَ إلا بِوَلي» (¬2)، وقوله: «أيما امرأةٍ نكحتْ نفسَهَا بغيرِ إذنِ وليّها فنكاحُها باطلٌ باطلٌ باطلٌ» (¬3). ولأن الولي شرط في النكاح. ولم يوجد. وأما كونها إذا زوجت غيرها لا يصح على المذهب؛ فلأنها إذا كانت قاصرة عن تزويج أمتها على روايةٍ. [فلأن تكون قاصرة عن تزويج غيرها بطريق الأولى. وأما كونها لها تزويج أمتها على روايةٍ] (¬4)؛ فلأنها مالكتها، وولايتها عليها تامة. فكان لها تزويجها؛ كالسيد. ولأنها لها بيعها وإجارتها. فكان لها تزويجها؛ كسيدها. وأما كونها لها تزويج معتقتها على روايةٍ؛ فلأن الولاية كانت لها عليها. فوجب استصحابها. ولأن الولاء كالملك. ¬

_ (¬1) عن معقل بن يسار قال: «كانت لي أخت تُخطب إليَّ فأتاني ابن عم لي، فأنكحتها إياه، ثم طلقها طلاقًا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إليَّ أتاني يخطبها فقلت: لا والله لا أُنكحها أبدًا، قال: ففيّ نزلت هذه الآية {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن .. الآية} قال: فكفرت عن يميني فأنكحتها إياه». أخرجه أبو داود في سننه (2087) 2: 230 كتاب النكاح، باب في العضل. (¬2) سبق تخريجه قريباً. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) زيادة يقتضيها السياق.

وأما كون صحة تزويج نفسها بإذن وليها وصحة تزويج غيرها بالوكالة يُخَرَّج من صحة تزويج نفسها من مُعْتَقِها. فلأنها إذا كانت أهلاً لمباشرة تزويج أمتها أو مُعْتَقِها. فلأن تكون أهلاً لتزويج نفسها وغيرها بالوكالة بطريق الأولى. وأما كون الأول المذهب؛ فلما تقدم. ولأن العلة في منعها صيانتها عن مباشرة ما شعر بوقاحتها ورعونتها وميلها إلى الرجال. فوجب أن لا تباشر النكاح تحصيلاً لذلك. والفرق بين تزويج أمتها ومعتقتها وبين تزويج نفسها أن الولاية عليها إنما ثبتت لتحصيل الكفاءة، وذلك مفقود في الأمة والمعتقة. قال: (وأحق الناس بنكاح المرأة الحرة أبوها ثم أبوه وإن علا. ثم ابنها وإن نزل. ثم أخوها لأبويها ثم لأبيها. وعنه: يقدم الابن على الجد، والتسوية بين الجد والأخ، وبين الأخ للأبوين والأخ للأب. ثم بنو الإخوة وإن سفلوا. ثم العم ثم ابنه. ثم الأقرب فالأقرب من العصبات على ترتيب الميراث. ثم المولى المنعم ثم عصباته من بعده الأقرب فالأقرب. ثم السلطان). أما كون أحق الناس بنكاح المرأة الحرة أباها؛ فلأنه أكمل من غيره نظراً وأتمُّ شفقة، ويختص بولاية المال، ويجوز أن يشتري لها من ماله، وله من مالها إذا كانت صغيرة. ولأن الله تعالى جعل الولد موهوباً لابنه قال الله تعالى: {ووهبنا له يحيى} [الأنبياء: 90]، وقال إبراهيم: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسمعيل وإسحاق} [إبراهيم: 39]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتَ ومالُكَ لأبيك» (¬1). ولأن غير الأب: إما يدلي به؛ كالجد والإخوة. وإما فرع بالنسبة إليه؛ كالابن. ومن أدلى بشخص لا يثبت له معه حق. والأصل راجح على الفرع. فإن قيل: الابن أولى بالميراث. فيجب أن يكون أولى بالنكاح. قيل: الميراث اقتضى ذلك. وكمال شفقة الأب معارض له. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2291) 2: 769 كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، عن جابر بن عبدالله. وأخرجه أحمد في مسنده (6902) 2: 204 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

فإن قيل: لم قيدت الولاية بكون المرأة حرة؟ قيل: لأن ولي الأمة سيدها. وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وأما كون أحق الناس بذلك بعد أبيها أباه وإن علا وهو الجد؛ فلأن له إيلاداً وتعصيباً. أشبه الأب. وأما كون أحق الناس بذلك بعد الجد ابنها؛ فلأنه أولى بالميراث من غيره. فكذا في النكاح. ترك ذلك في الأب؛ لكمال شفقته، وفي الجد؛ لأن له إيلاداً وتعصيباً. فيبقى فيما عداهما على مقتضاه. وفي كونه أحق بذلك من غيره تنبيه على ثبوت ولايته. وصرح به المصنف في المغني. ووجهه: ما روت أم سلمة «أنها لما انقضت عدتُها أرسلَ إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطُبُها. فقالت: يا رسول الله! ليسَ أحدٌ من أوليائي شاهد. قال: ليسَ من أوليائكِ شاهدٌ ولا غائبٌ يكرَهُ ذلك. فقالت لابنها: قمْ يا عمر! فزوّجْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). رواه النسائي. ولأنه عدلٌ من عصبتها. أشبه أخاها. وأما كون أحق الناس (¬2) بذلك بعد ابنها ابنه وإن نزل؛ فلما ذكر في أبيها. وأما كون أحق الناس بعد ابنها وإن نزل أخاها لأبويها ثم لأبيها؛ فلما ذكر أيضاً. وأما كون الابن يقدم على الجد على روايةٍ؛ فلأنه أولى بالميراث منه. وأما كون الجد والأخ سواء على روايةٍ؛ فلأنهما يستويان في الميراث. فيستويان في ولاية النكاح. وأما كون الأخ من الأبوين والأخ من الأب سواء على روايةٍ؛ فلأنهما استويا في الجهة التي تستفاد منها الولاية وهي العصوبة التي من جهة الأب. فاستويا في ولاية النكاح؛ كما لو كانا من أب. وأما قرابته من الأم فلا يرجح بها هنا؛ لأنها لا مدخل لها في النكاح. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (3254) 6: 81 كتاب النكاح، انكاح الابن أمه. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

فإن قيل: ما الصحيح من الروايتين؟ قيل: صحح صاحب الخلاصة التسوية. وقال المصنف في المغني: هو المنصوص. ووجهه ما ذكر. وظاهر كلامه رحمه الله تعالى هنا ترجيح الأخ للأبوين. وصرح به في المغني. ونقض عدم الترجيح بما لا مدخل له في الميراث بالولاء من حيث إنه يقدم الأخ للأبوين على الأخ للأب. مع أن النساء لا مدخل لهن في الولاء. وأما كون أحق الناس بذلك بعد الأخ الإخوة وإن سفلوا ثم العم ثم ابنه ثم الأقرب فالأقرب من العصبات على ترتيب الميراث؛ فلأنهم كذلك في الميراث. فكذلك في الولاية؛ لأن الولاية مبناها على النظر والشفقة وذلك يعتبر بمظنته وهي القرابة. فمتى كان الإنسان أحق بالميراث فهو أحق بالولاية. ولا يُلزم عليه الأب لما تقدم من معاوضة كمال شفقته لذلك. وأما كون أحق الناس بذلك بعد العصبات المولى المنعم ثم عصباته من بعده الأقرب فالأقرب؛ فلأنهم أولى الناس بميراثه. وفي قول المصنف رحمه الله تعالى: بعد المولى المنعم ثم عصباته الأقرب فالأقرب؛ تنبيه على كون ابن المولى المنعم أحق من أبيه بخلاف النسب. وهو صحيح. صرح به المصنف وغيره. ووجهه: أن مقتضى الدليل تقديم الابن على الأب لتقديمه عليه في الميراث. تُرك العمل به في السبب لرجحان الأب عليه بكمال الشفقة المعتمدة على القرابة، وذلك منتفٍ هاهنا لعدم القرابة المرجحة. وأما كون أحق الناس بذلك بعد المولى المنعم وعصباته السلطان؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فالسلطانُ وليُّ من لا وليَّ له» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2083) 2: 229 كتاب النكاح، باب في الولي. وأخرجه الترمذي في جامعه (1102) 3: 407 كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1879) 1: 605 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي. وأخرجه أحمد في مسنده (24417) 6: 66.

وعن أم حبيبة «أن النجاشي زوّجَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عنده» (¬1). رواه أبو داود. ولأن السلطان له ولاية عامة. بدليل أنه يلي المال ويحفظ الضوال. فكانت له الولاية في النكاح؛ كالأب. والمراد بالسلطان هنا: الإمام أو الحاكم أو من فوّض أحدهما إليه ذلك. قال: (فأما الأمة فوليها سيدها. فإن كانت لامرأة فوليها ولي سيدتها. ولا يزوجها إلا بإذنها). أما كون ولي الأمة سيدها؛ فلأنه يملك منافعها. فملك تزويجها؛ كإجارتها. وأما كون ولي الأمة إذا كانت لامرأة ولي سيدتها؛ فلأنه قد ثبت أنه لا ولاية للمرأة. فوجب أن يليها ولي سيدتها؛ لأنه أحق بالناس بها بعدها. ولأنه إذا ثبت له الولاية على سيدتها. فلأن تثبت عليها بطريق الأولى. وأما كونه لا يزوجها إلا بإذنها؛ فلأنها مالها. ولا يجوز التصرف في مال الرشيدة بغير إذنها وبغير نطقها في هذا الإذن وإن كانت بكراً؛ لأن صماتها إنما اكتفي به في تزويج نفسها لحيائها وهو مفقود هنا؛ لأنها لا تستحي من تزويج أمتها. قال: (ويشترط في الولي: الحرية، والذكورية، واتفاق الدين، والعقل. وهل يشترط بلوغه وعدالته؟ على روايتين). أما كون الولي يشترط فيه الحرية؛ فلأن العبد لا ولاية له على نفسه. فعلى غيره أولى. وأما كونه يشترط فيه الذكورية؛ فلأن ولاية النكاح ولاية. والولاية يعتبر فيها الكمال. والمرأة قاصرة ناقصة تثبت الولاية عليها لقصورها عن النظر لنفسها. فلئلا تثبت لها ولاية على غيرها بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2086) 2: 229 كتاب النكاح، باب في الولي.

وأما كونه يشترط فيه اتفاق الدين. ومعناه: أن يكون مسلماً كالزوجة المسلمة، أو كافراً كالزوجة الكافرة؛ فلأن الكافر لا ولاية له على المسلمة؛ لأن الله تعالى قال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71]. قال ابن المنذر: أجمع عامة من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا. قال الإمام أحمد: بلغنا «أن علياً أجاز نكاح الأخ ورد نكاح أب وكان نصرانياً». والمسلم لا ولاية له على كافرة؛ لأن الله تعالى قال: {والذين كفروا بعضُهم أولياءُ بعض} [الأنفال: 73]. وأما كونه يشترط فيه العقل فلا خلاف فيه؛ لأن الولاية إنما تثبت نظراً للمولى عليه عند عجزه عن النظر لنفسه، ومن لا عقل له لا يمكنه النظر ولا يلي نفسه. فغيره أولى. ولا فرق بين من لا عقل له لصغر؛ كالطفل، وبين من ذهب عقله بجنون أو كبر كالشيخ إذا أفند (¬1)؛ لاشتراك الكل في العدم. فأما المغمى عليه والذي يجنّ في بعض الأوقات فلا تزول ولايتهما: أما المغمى عليه؛ فلأن مدته يسيرة. أشبه النوم. ولذلك لا تثبت الولاية عليه وتجوز على الأنبياء عليهم السلام. وأما من يجنّ في بعض الأوقات؛ فلأنه لا يستمر زوال عقله. أشبه المغمى عليه. وأما كونه يشترط بلوغه على روايةٍ؛ فلأن الولاية يعتبر لها كمال الحال، ومن لم يبلغ قاصر لثبوت الولاية عليه. وأما كونه لا يشترط على روايةٍ؛ فلأنه إذا بلغ عشراً تصح وصيته وطلاقه وتثبت له الولاية كالبالغ. قال المصنف في المغني: والأول اختيار أبي بكر وهو الصحيح. وأما كونه يشترط عدالته على روايةٍ؛ فلما روى ابن عباس أنه قال: «لا نِكاحَ إلا بولي مُرشِد» (¬2). ¬

_ (¬1) الفند: ضعف الرأي من الهرم. المصباح. مادة فند. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 126 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بشاهدين عدلين. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15917) 3: 441 كتاب النكاح، من قال: لا نكاح إلا بولي أو سلطان. ولفظه: «لا نكاح إلا بولي أو سلطان مرشد».

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاحَ إلا بولي وشاهدَي عدلٍ. وأيما امرأةٍ أَنكحَها وليٌ مسخوطٌ عليه فنكاحُها باطل» (¬1). ولأنها ولاية نظرية. فلا يستبد بها الفاسق؛ كولاية المال. وأما كونه لا يشترط عدالته على روايةٍ؛ فلأنه يلي نكاح نفسه. فتثبت الولاية على غيره؛ كالعدل. ولأن سبب الولاية القرابة، وشرطها النظر. وهذا قريب ناظر. فوجب أن يلي؛ كالعدل. قال: (فإن كان الأقرب طفلاً أو كافراً أو عبداً: زوج الأبعد. وإن عضل الأقرب زوج الأبعد. وعنه: يزوج الحاكم). أما كون الأبعد يزوج إذا كان الأقرب طفلاً أو كافراً أو عبداً؛ فلأن الأقرب فاقد لشرط الولاية فوجوده كعدمه. فوجب أن تثبت للأبعد؛ كما لو مات الأقرب. وأما كونه يزوج إذا عضل الأقرب على المذهب؛ فلأنه تعذر التزويج من جهة الأقرب. فانتقل الولاية إلى الأبعد؛ كما لو جُنّ. ولأنه يفسق بالعضل. فتنتقل الولاية عنه؛ كما لو شرب الخمر. وأما كون الحاكم يزوج على روايةٍ اختارها أبو بكر؛ فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن اشتَجَرُوا فالسلطانُ وليُّ من لا وليَّ له» (¬2). والحاكم نائب عنه. ولأن ذلك حق عليه امتنع من أدائه. فقام الحاكم مقامه؛ كما لو كان عليه دين امتنع من قضائه. والأول أصح؛ لما ذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 124 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي مرشد. (¬2) سبق تخريجه ص: 562.

والحديث لا حجة فيه؛ لأنه قال: «وليُّ من لا وليَّ له» وهذه لها ولي. ثم يمكن حمله على ما إذا عضل الكل. ويؤيده قوله: «فإن اشتَجَرُوا»؛ لأنه ضمير جمع. والفرق بين الولاية والدَّين من وجوه: أحدها: أن الولاية حق للولي، والدَّين حق عليه. وثانيها: أن الولاية تنتقل عنه لعارض من فسق أو جنون أو موت، والدَّين لا ينتقل. وثالثها: أن الولاية يعتبر في بقائها العدالة وقد زالت بالعضْل، والدَّين لا يعتبر في بقائه ذلك. قال: (وإن غاب غيبة منقطعة زوج الأبعد. وهي: ما لا تُقطع إلا بكلفة ومشقة في ظاهر كلامه. وقال الخرقي: ما لا يصل إليه الكتاب أو يصل فلا يجيب عنه. وقال القاضي: ما لا تقطعه القافلة في السنة إلا مرة. وعن أحمد: إذا كان الأب (¬1) بعيد السفر زوج الأبعد فيحتمل أنه أراد ما تقصر فيه الصلاة). أما كون الأبعد يزوج إذا غاب الأقرب غيبة منقطعة؛ فلأن الأقرب تعذر التزويج منه. فوجب أن ينتقل إلى من يليه؛ كما لو جُنّ أو مات. وأما كون الغيبة المنقطعة هي ما لا تقطع إلا بكلفة ومشقة في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأن التحديدات توقيفية، ولا توقيف في هذه المسألة. فوجب الرد إلى ما يتعارف الناس. وهو ما ذكر. قال المصنف في المغني: هذا أقرب الأقوال إلى الصواب. ونسبه إلى أبي بكر. وأما كونها ما لا يصل إليه الكتاب أو يصل فلا يجيب عنه في قول الخرقي؛ فلأن مثل هذا متعذر مراجعته. فتكون منقطعة. وأما كونها ما لا تقطعه القافلة في السنة إلا مرة في قول القاضي؛ فلأن الكفء يُنتظر سنة ولا ينتظر أكثر منها. فيلحق الضرر بترك تزويجها. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع.

وأما كون ما تقصر فيه الصلاة يحتمل أن يراد من قول أحمد: إذا كان الأب بعيد السفر زوج الأبعد؛ فلأن ذلك هو السفر البعيد الذي علقت عليه الأحكام. قال: (ولا يلي كافر نكاح مسلمة بحال؛ إلا إذا أسلمت أم ولده في وجه). أما كون (¬1) الكافر لا يلي نكاح مسلمة غير أم ولده؛ فلأنه لا ولاية لكافر عليها البتة؛ لأن الله تعالى قال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71]. ولأن ابن المنذر قال: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم. وأما كونه لا يلي نكاح أم ولده في وجه؛ فلما ذكر من الآية. ولأنها مسلمة. فلا يلي نكاحها؛ كابنته. فعلى هذا يزوجها الحاكم. وأما كونه يليه في وجه؛ فلأنها مملوكته. فيلي نكاحها؛ كالمسلم. ولأنه عقد عليها. فيليه؛ كإجارتها. قال: (ولا يلي مسلم نكاح كافرة إلا سيد الأمة أو ولي سيدتها أو السلطان). أما كون المسلم لا يلي نكاح كافرة إذا لم يكن سيد أمة أو ولي سيدتها أو السلطان؛ فلأن الله تعالى قال: {والذين كفروا بعضُهم أولياءُ بعض} [الأنفال: 73]. ولأن مختلفي الدين لا يرث أحدهما الآخر ولا يعقل عنه. فلم يل عليه؛ كما لو كان أحدهما رقيقا. وأما كونه يلي ذلك إذا كان سيد الأمة؛ فلأنه عقد على منافعها. فوليه وإن اختلف ديناهما؛ كإجارتها. وأما كونه يلي ذلك إذا كان ولي سيدتها؛ فلأنه يلي نكاح سيدها. فلأن يلي نكاحها بطريق الأولى. وأما كونه يلي ذلك إذا كان السلطان؛ فلأن ولايته عامة على أهل دار الإسلام، والكافرة من أهل الدار. فثبتت له الولاية عليها؛ كالمسلمة. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

قال: (ويلي الذميُّ نكاح موليته الذمية من الذمي. وهل يليه من مسلم على وجهين). أما كون الذمي يلي نكاح موليته الذمية من الذمي؛ فلأنه مساوٍ لها. فوليه؛ كالمسلم ولي المسلمة. وأما كونه يليه من مسلم على وجه فللمساواة المذكورة. وأما كونه لا يليه على وجه؛ فلأن فيه صغاراً على المسلم. قال: (وإذا زوج الأبعد من غير عذر للأقرب، أو زوج أجنبي: لم يصح. وعنه: يصح ويقف على إجازة الولي). أما كون ما ذُكر لا يصح على المذهب؛ فلأنه تصرف في حق الغير بغير إذنه. فلم يصح؛ كما لو باع ماله. وقول المصنف رحمه الله تعالى: من غير عذر للأقرب؛ فيه تنبيه على أنه إذا كان معذوراً بأن كان غائباً أو ما أشبه ذلك يصح نكاح الأبعد. وقد تقدم بيانه. فإن قيل: فقد عطف الأجنبي عليه فيجب أن يساويَ الأبعد في ذلك. قيل: لا؛ لأن الغيبة تجعل الأقرب كالمعدوم. فيتحقق الأبعد. وهذا المعنى مفقود في الأجنبي. والعطف يقتضي مساواة المعطوف المعطوف عليه في أصل العطف لا في كل ما يتعلق به. وأما كونه يصح ويقف على إجازة الولي على روايةٍ؛ فلأنه عقد معاوضة. فصح ووقف على الإجازة؛ كالبيع في روايةٍ. ولأنه عقد يقف على الفسخ. فصح ووقف على الإجارة؛ كالوصية. والبيع من الأجنبي لا يصح على الصحيح. والفرق بين هذا وبين الوصية أن الوصية يتراخى فيها القبول وتجوز بعد الموت فهي معدول بها عن سائر التصرفات.

قال: (ووكيل كل واحد من هؤلاء يقوم مقامه وإن كان حاضراً. ووصيه في النكاح بمنزلته. وعنه: لا تستفاد ولاية النكاح بالوصية. وقال ابن حامد: لا يصح إلا أن لا يكون لها عصبة). أما كون وكيل كل واحدٍ من الأولياء يقوم مقامه وإن كان حاضراً؛ فلأن الوكالة في النكاح تصح؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكّل أبا رافع في تزويج ميمونة» (¬1). و «وكّل عمرو بن أمية في تزويج أم حبيبة» (¬2). ولأنه عقد معاوضة. فصح التوكيل فيه؛ كالبيع. وإذا صحت الوكالة فيه قام الوكيل مقامه كالوكيل في البيع وغيره. ولا فرق في الصحة بين الوكالة في القبول وبين الوكالة في الإيجاب، ولا بين كونها مُطْلقة؛ مثل: أن يوكله في تزويج من يرى بشرطه، وبين كونها مؤقتة؛ مثل: أن يوكله في تزويج رجل بعينه أو امرأة بعينها، ولا بين كون الولي مجبراً؛ كالأب، أو غير مجبر؛ كالجد ونحوه؛ لأن الكل سواء معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وفي قول المصنف: ووكيل كل واحد من هؤلاء يقوم مقامه؛ إشعارٌ بأن وكيل المجبر يملك الإجبار ووكيل غير المجبر لا يملك الإجبار لأنه أقام مقام نفسه. فوجب أن يثبت له ما هو لموكله. وفي قوله: وإن كان حاضراً تنبيه على أن الوكالة ليس من شرطها الغيبة. ولأن الحاجة كما تدعو إلى الوكالة للغيبة. فكذلك تدعو إليها مع الحضور لكون الموكل يأنف مباشرة العقد ومثله لم تجر العادة بمباشرته. وأما كون وصي كل واحد من الأولياء في النكاح بمنزلته على المذهب واختاره الخرقي؛ فلأنها ولاية نائبه. فجازت وصيته بها؛ كولاية المال. ولأن الوصية نيابة بعد الموت. فجازت الوصية بها؛ كالوكالة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (841) 3: 200 كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم. وأخرجه أحمد في مسنده (27240) 6: 393. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 139 كتاب النكاح، باب الوكالة في النكاح.

وأما كون ولاية النكاح لا تستفاد بالوصية على روايةٍ؛ فلأنها ولاية تنتقل إلى غيره. فلم يجز أن يوصى بها؛ كالحضانة. ولأنه لا ضرر على الوصي في تضييعها ووضعها عند من لا يكافئها. فلم تثبت له الولاية؛ كالأجنبي. وأما كونها لا تصح على قول ابن حامد إذا كان لها عصبة؛ فلأنه يسقط حقهم. وأما كونها تصح إذا لم يكن لها عصبة فلعدم ذلك. قال: (وإذا استوى الأولياء في الدرجة صح التزويج من كل واحد منهم. والأولى تقديم أفضلهم ثم أسنهم. وإن تشاحوا أقرع بينهم. فإن سبق غير من وقعت له القرعة فزوج صح في أقوى الوجهين). أما كون التزويج من كل واحد من الأولياء يصح إذا استووا في الدرجة كالإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم؛ فلأن القرابة متحققة في كل واحد منهم. وأما الأولى تقديم أفضلهم؛ فلأنه أكمل من المفضول. وأما كون الأولى بعد ذلك تقديم أسنهم؛ فلأنه شيء يقدم به في غير هذا الموضع فكذا هاهنا. وقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم على ترجيح الأسن في حديث محيصة وحويصة وعبدالرحمن بن سهل؛ لأنه لما تكلم عبدالرحمن وكان أصغرهم قال: «كبّر كبّر -أي قدّم الأكبر- فتكلّم حويصة» (¬1). وأما كونهم إذا تشاحوا يقرع بينهم؛ فلأن الحقوق إذا تساوت شرعت القرعة. دليله أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يُقرعُ بين نسائهِ إذا سَافر» (¬2)؛ لأن حقوقهم متساوية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (3002) 3: 1158 كتاب الجزية، باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره .. وأخرجه مسلم في صحيحه (1669) 3: 1294 كتاب القسامة، باب القسامة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2453) 2: 916 كتاب الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها .. وأخرجه مسلم في صحيحه (2770) 4: 2129 كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.

وأما كون غير من وقعت له القرعة إذا سبق فزوج يصح في وجه؛ فلأن القرعة لم تبطل ولايته. فلم يبطل نكاحه. وأما كونه لا يصح في وجه؛ فلأن القرعة تعين المستحق. فلم يكن لغيره التزويج؛ لتعين غيره. وأما كون الأول أقوى؛ فلأنه تزويج صدر من ولي كامل الولاية. فصح؛ كما لو انفرد. قال: (وإن زوج اثنان ولم يعلم السابق منهما فسخ النكاحان. وعنه: يقرع بينهما فمن قرع أُمر الآخر بالطلاق ثم يجدد القارع نكاحه). أما كون النكاحين فيما ذُكر يفسخان على المذهب؛ فلأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون نكاحه هو الصحيح ولا سبيل إلى الجمع ولا معرفة الزوج فيفسخ لإزالة الزوجية. وأما كونهما يقرع بينهما على روايةٍ؛ فلأن القرعة تزيل الإبهام. وأما كون من لم يقرع يؤمر بالطلاق فلاحتمال أنه هو الزوج. فيكون من قرع ناكحاً زوجة غيره. وأما كون القارع يجدد نكاحه؛ فلأن المزوجة إن كانت زوجته لم يضره ذلك وإن لم تكن زوجته صارت زوجته بالتجديد. قال: (وإذا زوج السيد عبده الصغير من أمته جاز أن يتولى طرفي العقد. وكذلك ولي المرأة مثل ابن العم والمولى والحاكم إذا أذنت له في نكاحها فله أن يتولى طرفي العقد. وعنه: لا يجوز حتى يوكل غيره في أحد الطرفين). أما كون السيد إذا زوج عبده الصغير من أمته يجوز أن يتولى طرفي العقد؛ فلأنه ملك ذلك بحكم المُلك لا بحكم الإذن. وأما كون غيره ممن ذكر إذا أذنت له موليته في نكاحها: له ذلك على المذهب؛ فـ «لأن عبدالرحمن بن عوف قال لأمّ حكيم ابنة قارظٍ: أتجعلينَ أمرَكِ إليَّ؟ قالت: نعم. قال: تزوجتُك» (¬1). رواه البخاري. ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 5: 1972 كتاب النكاح، باب إذا كان الولي هو الخاطب.

ولأنه يملك الإيجاب والقبول. فجاز أن يتولاهما؛ كما لو زوج السيد عبده الصغير من أمته. ولأنه عقد وُجد فيه الإيجاب من ولي ثابت الولاية، والقبول من زوج هو أهل للقبول. فصح؛ كما لو وجدا من رجلين. وقد روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقَ صفيةَ وجعلَ عتقَها صداقَها» (¬1). وإنما اشترط (¬2) الإذن في النكاح؛ لأن من ذكر لا يملك الإجبار عليه. ولا يدفع الإذن المذكور الإذن لوليها أن ينكحها نفسه؛ لأن الإذن المطلَق لا يجوز معه (¬3) أن يُنكحها نفسه لأن قرينة الحال تؤذن بإنكاح الغير. وأما كونه لا يجوز حتى يوكل غيره في أحد الطرفين على روايةٍ؛ فلما روي عن عبدالملك بن عمير «أن المغيرةَ بن شعبة أمرَ رجلاً أن يزوّجه امرأة. المغيرة أولى بها منه» (¬4). رواه أبو داود. ولأنه عقد ملكه بالإذن. فلم يجز أن يتولى طرفيه؛ كالبيع. ولأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُ نكاحٍ لا يحضرهُ أربع فهو سِفاح: زوج، وولي، وشاهدان». قال: (وإذا قال السيد لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك صح. وإن طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصف قيمتها. وعنه: لا يصح حتى يستأنف نكاحها بإذنها فإن أبت ذلك فعليها قيمتها). أما كون السيد إذا قال لأمته ما تقدم ذكره يصح على المذهب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقَ صفيةَ وجعل عتقَها صداقَها» (¬5) متفق عليه. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريباً. (¬2) في أ: اشترطت. (¬3) في أ: لأن الإذن المطلقة لا يجوز معها. (¬4) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 5: 1972 كتاب النكاح، باب إذا كان الولي هو الخاطب. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (3964) 4: 1538 كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1365) 2: 1045 كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها.

وأما كونه يرجع عليها بنصف قيمتها إذا طلقها قبل دخوله بها؛ فلأن الطلاق قبل الدخول يقتضي الرجوع في نصف ما فرض لها، وقد فرض لها نفسها ولا سبيل إلى الرجوع في الرق بعد زواله. فرجع بنصف قيمة نفسها. والعبرة بالقيمة حالة الإعتاق لأنها حالة الإتلاف. وأما كون السيد إذا قال ما تقدم ذكره لا يصح حتى يستأنف نكاحها بإذنها على روايةٍ؛ فلأنه لم يوجد إيجاب وقبول. فلم يصح؛ لعدم وجود أركانه كما لو قال: أعتقتك وسكت. ولأنها بالعتق تملك نفسها. فيجب أن يعتبر رضاها؛ كما لو فصل بين العتق وجَعْلِه صداقاً. وأما كونها عليها قيمتها إذا أبت ذلك؛ فلأنه أزال ملكه بعوض لم يسلم له. فرجع إلى قيمته؛ كالبيع الفاسد.

فصل [الشرط الرابع] قال المصنف رحمه الله تعالى: (الرابع: الشهادة. فلا ينعقد إلا بشاهدين عدلين ذكرين بالغين عاقلين وإن كانا ضريرين. وعنه: ينعقد بحضور فاسقين، ورجل وامرأتين، ومراهقَيْن عاقلَيْن). أما كون الرابع من شروط النكاح: الشهادة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نِكاحَ إلا بولي وشاهدَي عدل» (¬1). رواه الخلال بإسناده. وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا بُدَّ في النكاحِ من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدان» (¬2). رواه الدارقطني. ولأنه يتعلق به حق غير المتعاقدين وهو الولد. فاشترطت الشهادة فيه؛ لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه. بخلاف البيع. وأما كونه لا ينعقد إلا بشاهدين عدلين على المذهب فلقوله: «وشاهدَي عدل» (¬3). ولأن النكاح لا يثبت بشهادة فاسقين. فلم ينعقد بحضورهما؛ كالمجنونين. وأما كونه ينعقد بحضور فاسقين على روايةٍ؛ فلأنه ينعقد بالشهادة على روايةٍ. فلأن ينعقد بحضور فاسقين على روايةٍ بطريق الأولى. ولأن الشهادة على النكاح تَحَمّل. فصحت من الفاسق؛ كسائر التحملات. قال المصنف في المغني: وعلى كلتي الروايتين لا تعتبر حقيقة العدالة بل ينعقد بحضور مستوري الحال؛ لأن النكاح يكون في القرى والبادية وبين عامة الناس ممن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 565. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (19) 3: 224 كتاب النكاح. (¬3) سبق تخريجه ص: 565.

لا يعرف بحقيقة العدالة. فاعتبار ذلك يشق. فاكتفي بظاهر الحال، وكون الشاهد مستوراً لم يظهر فسقه. وأما كونه لا ينعقد إلا بحضور ذكرين على المذهب؛ فلما روى الزهري قال: «مضت السنةُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تجوزَ شهادة النساءِ في الحدودِ، ولا في النكاحِ، ولا في الطلاق». رواه أبو عبيد في الأموال. ولأنه عقد ليس بمال ولا المقصود منه المال ويحضره الرجال في غالب الأحوال. فلم ينعقد بشهادة النساء؛ كالحدود. وأما كونه ينعقد بحضور رجل وامرأتين على روايةٍ؛ فلأنه عقد معاوضة. فانعقد بشهادة رجل وامرأتين؛ كالبيع. وأما كونه لا ينعقد إلا بحضور بالغين عاقلين على المذهب؛ فلأن الصبي ليس من أهل الشهادة. وأما كونه ينعقد بحضور مراهقَيْن عاقلَيْن على روايةٍ؛ فلأن المراهق العاقل يصح تحمله. أشبه شهادته على البيع. وأما كونه ينعقد بما تقدم ذكره وإن كانا ضريرين؛ فلأنها شهادة على قول. فصحت من الضريرين؛ كالشهادة بالاستفاضة. قال: (ولا ينعقد نكاح مسلم بشهادة ذميين. ويتخرج أن ينعقد إذا كانت المرأة ذمية). أما كون نكاح المسلم لا ينعقد بشهادة ذميين؛ فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «وشاهدَي عدل» (¬1). ولأنه نكاح مسلم. فلم ينعقد بشهادة ذميين؛ كنكاح المسلمين. وأما كونه يتخرج أن ينعقد إذا كانت المرأة ذمية؛ فلأن شهادة بعض أهل الذمة تقبل على بعض في روايةٍ. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 565.

قال: (ولا ينعقد بحضور أصمّين ولا أخرسين. وهل ينعقد بحضور عدوين أو ابني الزوجين أو أحدهما؟ على وجهين. وعنه: أن الشهادة ليست من شروط النكاح). أما كون النكاح لا ينعقد بحضور أصمّين؛ فلأنهما لا يسمعان العقد. فكان وجودهما كعدمهما. وأما كونه لا ينعقد بحضور أخرسين؛ فلأنهما لا يتمكنان من الأداء. وأما كونه ينعقد (¬1) بحضور عدوين أو ابني الزوجين أو أحدهما على وجه؛ فلعموم قوله عليه السلام: «إلا بولي وشاهدَي عدل» (¬2). ولأنه ينعقد بهما نكاح غير هذا الزوج. فانعقد بهما نكاحه؛ كسائر العدول. وأما كونه لا ينعقد بما ذُكر على وجه؛ فلأن العدو لا تقبل شهادته على عدوه، والابن لا تقبل شهادته لوالده. وأما كون الشهادة ليست من شروط النكاح على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوّجَ صفيةَ بغير شهود (¬3). ولأن الحسن بن علي وابن عمر وابن الزبير فعلوه. ولأنه عقد معاوضة. أشبه البيع. ¬

_ (¬1) في أ: لا ينعقد. (¬2) سبق تخريجه ص: 565. (¬3) سبق ذكره ص: 572.

فصل [الشرط الخامس] قال المصنف رحمه الله تعالى: (الخامس: كون الرجل كفءاً لها في إحدى الروايتين. فلو رضيت المرأة والأولياء بغيره لم يصح، والثانية: ليس بشرط. وهي أصح، لكن إن لم ترض المرأة والأولياء جميعهم فلمن لم يرض الفسخ، فلو زوج الأب بغير كفء برضاها فللإخوة الفسخ. نص عليه). أما كون الخامس من شروط النكاح: كون الرجل كفءاً للمرأة في إحدى الروايتين؛ فلأن عمر رضي الله عنه قال: «لأمنعن تزوّجَ ذواتِ الأحسابِ إلا من الأكفاء» (¬1). رواه الخلال. و«لأن سلمان قال لجرير: إنكم يا معشرَ العرب لا نتقدمُ في صلاتكُم ولا ننكح نساءكم. إن الله فضلكُم علينا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم». وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُنكحُوا النساء إلا الأكْفاءَ، ولا يزوّجُهن إلا الأولياء» (¬2). رواه الدارقطني. وقد ضُعّف. ذكره ابن عبدالبر. فعلى هذا لو رضيت المرأة والأولياء بغير كفء لم يصح؛ لأن ما كان شرطاً لا يسقط برضى أحد. ولأن التزويج مع فقد الكفاءة تصرف في حق من يحدث من الأولياء بغير إذنه. فلم يصح؛ كما لو زوجت المرأة بغير إذنها. وأما كون ذلك ليس بشرط في روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (195) 3: 298 كتاب النكاح، باب المهر. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (11) 3: 245 الموضع السابق.

و «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تنكحَ أسامة بن زيد مولاه. فنكحَها بأمره» (¬1) متفق عليه. و«زَوَّجَ أباهُ زيد بن حارثة ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية» (¬2). ولأن الكفاءة لا تخرج عن كونها حقاً للمرأة أو للأولياء أو لهما. فلم يشترط وجودها؛ كالسلامة من العيوب. وأما كون هذه الروايةِ أصح. والمراد به عند المصنف لا في المذهب؛ فلأن ما ذكر في الأولى يمكن حمله على الاعتبار في الجملة لا على الاشتراط. وأما كون من لم يرض من الأولياء له الفسخ؛ فلأنه يلحقه بذلك عار ويأتيه صغار. فملك الفسخ رفعاً لذلك. ولأنه نقص وقع في العقد. فأثبت الخيار؛ كالعيب. و«لأن رجلاً زوج ابنته ليرفع خَسِيسَتَهُ فجعل لها النبي صلى الله عليه وسلم الخيار» (¬3). وأما كون الإخوة لهم الفسخ على المنصوص إذا زوج الأب المرأة بغير كفء برضاها؛ فلأن الأخ ولي في حال يلحقه العار بفقد الكفاءة. فملك الفسخ؛ كالولي المساوي. قال: (والكفاءة: الدين والمنصب. فلا تزوج عفيفة بفاجر ولا عربية بعجمي. والعرب بعضهم لبعض أكْفاء، وسائر الناس بعضهم لبعض أكْفاء. وعنه: لا تزوج قرشية لغير قرشي، ولا هاشمية لغير هاشمي. وعنه: أن الحرية والصناعة واليسار من شروط الكفاءة، فلا تزوج حرة بعبد، ولا بنت بزاز بحجام، ولا بنت تانئ بحائك، ولا موسرة بمعسر). أما كون الدِّين. وهو: العفة من الكفاءة فلا خلاف فيه في المذهب؛ لأن الفاسق مرذول مردود الشهادة والرواية. غير مأمون على النفس والمال. مسلوب ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1480) 2: 1114 كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها. ولم أره في البخاري. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (206) 3: 301 كتاب النكاح، باب المهر. (¬3) أخرجه النسائي في سننه (3269) 6: 86 كتاب النكاح، البكر يزوجها أبوها وهي كارهة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1874) 1: 602 كتاب النكاح، باب من زوج ابنته وهي كارهة.

الولايات. ناقص عند الله وعند خلقه. قليل الحظ في الدنيا والآخرة. ولا يجوز أن يكون كفءاً للعفيفة. فعلى هذا لا تزوج عفيفة بفاجر؛ لفقد العفة التي هي من الكفاءة. وأما كون المنصب وهو النسب من الكفاءة لا خلاف فيه أيضاً في المذهب؛ فلأن عمر رضي الله عنه قال: «لأمنعنَ ذواتَ الأحسابِ إلا من الأكْفاء. قيل له: وما الأكفاء؟ قال: في الحسَب». رواه أبو بكر عبدالعزيز بإسناده. ولأن العرب يعدون الكفاءة في النسب، ويأنفون من نكاح الموالي، ويرون ذلك نقصاً وعاراً. فوجب أن تعتبر في الكفاءة؛ كالدِّين. فعلى هذا لا يزوج عربية بعجمي؛ لفقد النسب الذي هو من الكفاءة. وأما كون العرب بعضهم لبعض أكفاء على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج ابنته عثمان، وزوج أبا العاص ابن الربيع زينب وهما من بني عبد شمس، وزوج علي عمر ابنته أم كلثوم، وتزوج عبدالله بن عمر بن عثمان فاطمة ابنة الحسين بن علي، وتزوج مصعب بن الزبير أختها سكينة، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة ابنة الزبير بن عبدالمطلب ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوج أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس وهي قرشية. ولأن سائر الناس بعضهم لبعض أكفاء إن تفاضلوا في شرف بعضهم على بعض. فكذلك العرب. وأما كون القرشية لا تزوج لغير قرشي والهاشمية لغير هاشمي على روايةٍ؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله اصطفَى كِنانةَ من ولدِ إسماعيلَ، واصطفَى من كِنانةَ قُريشاً، واصطفَى من قريشٍ بني هاشِم» (¬1). ولأن العرب فضلت الأمم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقريش أخص به من سائر الناس، وبنو هاشم أخص به من قريش. والأول أولى؛ لأن الثاني يدل على الفضيلة لا على أنها من الكفاءة، وإلا لما كان لفاطمة مكافئ. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (2276) 4: 1782 كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الترمذي في جامعه (3605) 5: 583 كتاب المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما كون الحرية من شروط الكفاءة على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر بريرة حين عتقت تحت عبدٍ (¬1). ولو لم يكن للحرية أثر لما كان كذلك. ولأن نقص الرق كبير وضرره بيِّن. فإنه مشغول عن امرأته بحقوق سيده، ولا ينفق نفقة الموسرين، ولا ينفق على ولده. وأما كون الصناعة من شروطه على روايةٍ؛ فلأن الحياكة والحجامة والحراسة والكساحة والدباغة والزبالة والقيافة نقص بالنسبة إلى أصحاب الصنائع الجليلة كالتجارة في عرف الناس. أشبه نقص النسب. وقد جاء في حديث: «العربُ بعضهم لبعضٍ أكفاء إلا حَائِكًا أو حجّامًا» (¬2). قيل للإمام أحمد: كيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه. يعني أنه ورد موافقًا لأهل العرف. وأما كون اليسار من شروطه على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحسَبُ المالُ» (¬3)، وقال: «إن أحسابَ الناسِ بينهم في هذه الدنيا هذا المال» (¬4)، وقال لفاطمة بنت قيس لما أخبرته أن معاوية خطبها: «أما معاوية فصعلوكٌ لا مالَ له» (¬5). ولأن على الموسرة ضرراً في إعسار زوجها لإخلاله بنفقتها ومؤونة أولاده. ولهذا ملكت الفسخ لإخلاله بالنفقة. فكذلك إذا كان مقارناً. ولأن ذلك في عرف الناس يتفاضلون فيه كتفاضلهم في النسب وأبلغ. قال ابن الحجاج السهمي: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2234) 2: 270 كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد. وأخرجه أحمد في مسنده (25796) 6: 209. (¬2) أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد 19: 165. وقال: هذا منكر موضوع. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (3271) 5: 390 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجرات. وأخرجه ابن ماجة في سننه (4219) 2: 1410 كتاب الزهد، باب الورع والتقوى. (¬4) أخرجه النسائي في سننه (3225) 6: 64 كتاب النكاح، الحسب. وأخرجه أحمد في مسنده (22481) طبعة إحياء التراث. (¬5) سبق تخريجه ص: 544.

قلَّ مالي. قد جتئماني بنكر سألتَاني الطلاق أن رأتاني (¬1) ويْكأن من يكن له نسب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضر فكان من شروطه الكفاءة؛ كالنسب. فعلى هذا لا تزوج حرة بعبد؛ لانتفاء الحرية في العبد، ولا بنت بزاز بحجام؛ لانتفاء الاستواء في الصنعة، ولا بنت تانئ بحائك؛ لانتفاء اليسار. لا يقال: الحائك قد يكون موسراً لأن الغالب عليه خلاف ذلك، والعبرة بالغالب. فإن قيل: ما التانئ؟ قيل: كثير المال. ¬

_ (¬1) زيادة من الشرح الكبير 7: 469.

باب المحرمات في النكاح

باب المحرمات في النكاح قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهن ضربان: محرمات على الأبد. وهن أربعة أقسام: أحدها: المحرمات بالنسب). أما كون المحرمات ضربين؛ فلأن منهن من يحرم في كل حال وذلك هو المراد بالمحرمات على الأبد، ومن يحرم في حال ويحل في حال. وذلك هو المراد بقوله بعدُ: الضرب الثاني: المحرمات إلى أمد. وأما كون المحرمات على الأبد أربعة أقسام؛ فلأن منهن من يحرم بالنسب، ومن يحرم بالرضاع، ومن يحرم بالمصاهرة، ومن يحرم بالملاعنة. وسيأتي تفصيل ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى. وأما كون أحد الأقسام الأربعة: المحرمات بالنسب؛ فظاهر. والأصل في تحريمهن الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم ... الآية} [النساء: 23]. وأما السنة؛ فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الرَّضاعةَ تحرِّمُ ما تحرِّمُ الولادة» (¬1). وأما الإجماع فأجمعت الأمة على تحريم ما نص الله على تحريمه. قال: (وهن سبع: الأمهات. وهن: الوالدة والجدات من قبل الأب والأم وإن علون، والبنات من حلال أو حرام وبنات الأولاد وإن سفلوا، والأخوات من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2938) 3: 1131 أبواب الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1444) 2: 1068 كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.

الجهات الثلاث، وبنات الأخ، وبنات الأخت وأولادهم وإن سفلوا، والعمات، والخالات وإن علون. ولا تحرم بناتهن). أما كون المحرمات بالنسب سبعاً؛ فلأنهن الأمهات، والبنات، والأخوات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، والعمات، والخالات. وأما كون الأمهات من المحرمات بالنسب فلقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23]. ويدخل في ذلك الوالدة؛ لأن اسم الأم (¬1) حقيقة فيها، والجدات أم الأم وأم الأب وإن علت درجتهن؛ لأن الاسم يصح أن يتناولهن. وقد جاء: «أن أبا هريرة ذكر هاجر أم إسماعيل فقال: تلكَ أمُّكمْ يا بني ماءِ السماء» (¬2). وفي الدعاء: «اللهم! صلّ على أبينا آدم وأمّنا حواء». وأما كون البنات منهن؛ فلأن الله تعالى قال: {وبناتُكم} [النساء: 23]. ويدخل في ذلك القريبة والبعيدة، وبنت الابن وإن نزلت الدرجة؛ لأن كل امرأة بنت آدم كما أن كل رجل ابن آدم. قال الله تعالى: {يا بني آدم} [الأعراف: 26]. ولا فرق بين كون البنت من حلال أو حرام لأن قوله تعالى: {وبناتُكم} [النساء: 23] يشملها. ولأن البنت من الحرام ابنة مخلوقة من مائه. أشبهت البنت من الحلال. ولأن المخلوق من مائه حقيقة لا يختلف بالحل والحرمة. ويدل عليه «قول النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة هلال بن أمية: انظروه -يعني ولدها- فإن جاءتْ به على صفةِ كذا فهو لشريك بن سَحْماء» (¬3). يعني الزاني. ولأن البنت مخلوقة من مائه. أشبهت المخلوقة من وطء الشبهة. فإن قيل: البنت من الحرام لا يجري التوارث بينها وبين الزاني، ولا تعتق عليه إذا ملكها، ولا يلزمه نفقتها. فلا تحرم؛ كالأجانب. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3179) 3: 1225 كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا}. وأخرجه مسلم في صحيحه (2371) 4: 1840 كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4468) 4: 1771 كتاب تفسير القرآن، باب: قوله عز وجلّ {والذي يرمون أزواجهم}.

قيل: تَخَلُّفُ بعض الأحكام لا يوجب الحل. بدليل ما لو كانت ابنته رقيقة أو مخالفة لدينه. وأما كون الأخوات من الجهات الثلاث أي من الأبوين أو الأب أو الأم: منهن؛ فلأن الله تعالى قال: {وأخواتُكم} [النساء: 23]. وأما كون بنات الأخ وبنات الأخت منهن؛ فلأن الله تعالى قال: {وبناتُ الأخ وبناتُ الأخت} [النساء: 23]. ويدخل في ذلك أولادهم وإن سفلوا؛ لأن بنت بنت الأخ أو بنت بنت الأخت: بنت أخ وبنت أخت. وأما كون العمات والخالات منهن؛ فلأن الله تعالى قال: {وعماتُكم وخالاتُكم} [النساء: 23]. ويدخل في ذلك العمة والخالة قريبة كانت أو بعيدة لما ذكر. ولأنه قد تقدم أن كل جدة أم فكل أخت لها خالة. وأما كون بناتهن لا يحرمن؛ فلأن الله تعالى أباحهن لنبيه بقوله: {وبناتِ عمك وبناتِ عماتك وبناتِ خالك وبناتِ خالاتك} [الأحزاب: 50]. وحكم الأمّة حكمه ما لم يدل دليل على تخصيصه. ولأنهن لم يدخلن في التحريم فيدخلن في عموم قوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24]. قال: (القسم الثاني: المحرمات بالرضاع. ويحرم به ما يحرم بالنسب سواء). أما كون القسم الثاني المحرمات بالرضاع؛ فلأنه يلي المحرمات بالنسب وهي القسم الأول. وأما كونهن يحرمن بالرضاع؛ فلأن الله تعالى قال: {وأمهاتُكم اللاتي أرضعنكم وأخواتُكم من الرضاعة} [النساء: 23]. وأما كونه يحرم به ما يحرم من النسب سواء؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحرمُ من الرَّضاع ما يحرمُ من النَّسَب» (¬1) متفق عليه. وفي روايةِ مسلم: «الرّضاع يُحرّم ما تحرّم الولادة» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2502) 2: 935 كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1447) 2: 1071 كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2503) 2: 936 الموضع السابق. وأخرجه مسلم في صحيحه (1444) 2: 1068 كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.

و «قال النبي صلى الله عليه وسلم في درة بنت أبي سلمة: إنها لو لم تكن رَبيبتي في حجْرِي ما حلتْ لي. إنها ابنةُ أخي من الرضاعةِ. أرضعتني وأباها ثُوَيْبةُ» (¬1) متفق عليهن. قال: (القسم الثالث: المحرمات بالمصاهرة). أما كون القسم الثالث: المحرمات بالمصاهرة؛ فلأنه يلي الثاني. وأما كونهن يحرمن؛ فلأن الله تعالى قال: {وأمهاتُ نسائكم} [النساء: 23]، وقال: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء: 22] وقال: {وحلائلُ أبنائكم} [النساء: 23]. فإن قيل: ما المُصَاهَرة؟ قيل: هي مصدر صَاهَرَ. يقال: صاهرَ الرجلُ يصاهرُ مصَاهَرة. فإن قيل: ما المراد بالمحرمات بالمصاهرة؟ قيل: المحرمات على الأبد من أهل المرأة والرجل؛ لأن أهل الرجل أصهار عند بعض العرب؛ كما أن أهل المرأة أصهار. قال الجوهري: الأصهار أهل بيت المرأة. عن الخليل. قال: ومن العرب من يجعل الصِّهْرَ من الأحْمَاء والأخْتان جميعاً. قال: (وهن أربع: أمهات نسائه، وحلائل آبائه فيحرمن بمجرد العقد دون بناتهن، والربائب. وهن: بنات نسائه اللاتي دخل بهن دون اللاتي لم يدخل بهن. فإن متن قبل الدخول فهل تحرم بناتهن؟ على روايتين). أما كون المحرمات بالمصاهرة أربعاً؛ فلأنهن أمهات نسائه، وحلائل آبائه، وأبنائه، والربائب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4813) 5: 1961 كتاب النكاح، باب: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1449) 2: 1072 كتاب الرضاع، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة.

وأما كون أمهات نسائه يحرمن؛ فلأن الله تعالى قال: {وأمهاتُ نسائكم} [النساء: 23]. وأما كون حلائل آبائه يحرمن؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء: 22]. وأما كون حلائل أبنائه يحرمن؛ فلأن الله تعالى قال: {وحلائلُ أبنائكم} [النساء: 23]. وأما كون من ذكر يحرم بمجرد العقد؛ فلأن المحرم في أمهات نسائه كون المرأة أم أمرأته وفي حلائل آبائه وأبنائه كونها حليلة أبيه وابنه، وذلك موجود حين العقد. وأما كون بنات أمهات نسائه وبنات حلائل آبائه وأبنائه لا يحرمن بذلك؛ فلأن المحرم ما ذكر، وهو مفقود فيهن. فيدخلن في عموم قوله: {وأُحِلّ لكم ما وراءَ ذلكم} [النساء: 24]. وأما كون الربائب يحرمن؛ فلأن الله تعالى قال: {وربائبُكم اللاتي في حُجوركم من نسائكمُ اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23]. وأما كونهن بنات نسائه اللاتي دخل بهن دون اللاتي لم يدخل بهن؛ فلأن الله تعالى قيد التحريم بذلك. ولأن الله تعالى قال: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء: 23]. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [أن النبي صلى الله عليه وسلم] (¬1) قال: «من تزوجَ امرأةً فطلّقهَا قبلَ أن يَدخُلَ بها لا بأسَ أن يتزوجَ ربيبتهُ، ولا يحلُ له أن يتزوجَ بأمِّهَا». رواه أبو حفص بإسناده. فإن قيل: كما قيّد بالدخول فكذلك قيّد بكونها في الحجور. قيل: القيد إذا خُرّج مخرج الغالب لم يُحتجّ بمفهومه. وهو هنا قد خُرّج مخرج الغالب. بخلاف قوله: {اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23]. ¬

_ (¬1) زيادة من الشرح الكبير 7: 475.

وأما كون بنات من مُتن قبل الدخول يحرمن على روايةٍ؛ فلأن الموت أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق والعدة. فيقوم مقامه في التحريم. وأما كونهن لا يحرمن على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى شرط في التحريم نفس الدخول. فلو قام الموت مقامه؛ لكان الشرط أحد الأمرين. ولأن بنتَ من مات بنتُ امرأة لم يدخل بها. فلم يحرم؛ لقوله: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء: 23]، ، ولما تقدم من حديث عمرو بن شعيب. قال: (ويثبت تحريم المصاهرة بالوطء الحلال والحرام. فإن كانت الموطوءة ميتة أو صغيرة فعلى وجهين). أما كون تحريم المصاهرة يثبت بالوطء الحلال والحرام؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تَنكحوا ما نَكح آباؤكم من النساء} [النساء: 22] يعمهما؛ لأن الوطء الحرام يسمى نكاحاً. قال الشاعر: إذا زنيت فأجد نكاحًا وفي الآية قرينة تصرفه إلى الوطء لا إلى العقد وهو قوله تعالى: {إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلا} [النساء: 22]. وهذا التغليظ إنما يكون في الوطء. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ينظرُ اللهُ إلى وجهِ رجلٍ نظرَ إلى فرج امرأةٍ وابنتِهَا» (¬1). وعن وهب بن منبّه: «ملعونٌ من نظرَ إلى فرج امرأةٍ وابنتِهَا». رواه الجوزجاني بإسناده. ولأن ما تعلق بالوطء المباح تعلق بالمحظور؛ كوطء الحائض. ولأن النكاح يفسده الوطء بالشبهة. فأفسده الوطء الحرام؛ كالإحرام. وأما كونه يثبت بوطء الميتة على وجه؛ فلأن الوطء ينشر الحرمة المؤبدة. فلم يختص بالحياة؛ كالرضاع. وأما كونه لا يثبت على وجه؛ فلأنه ليس بسبب للبضعية. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 589.

ولأن التحريم يتعلق باستيفاء منفعة الوطء، والموت يبطل المنافع، والرضاع إنما حرم من أجل إنبات اللحم وهو حاصل من لبن الميتة. وأما كونه يثبت بوطء الصغيرة على وجه؛ فلأنه وطءٌ لآدمية حرة في القُبُل. أشبه وطء الكبيرة. وأما كونه لا يثبت به على وجه؛ فلأنه ليس بسبب للبضعية. قال: (وإن باشر امرأة أو نظر إلى فرجها أو خلا بها لشهوة فعلى روايتين). أما كون تحريم المصاهرة يثبت بمباشرة امرأة لشهوة كتقبيل ومس ونحوه على روايةٍ؛ فلأنه نوع استمتاع. فتعلق به تحريم المصاهرة؛ كالوطء في الفرج. وأما كونه لا يثبت بها على روايةٍ؛ فلأنها مباشرة لا توجب الغسل. فلم يثبت التحريم؛ كالمباشرة لغير شهوة. ولأن التحريم إما بنص أو إجماع أو قياس، والكل مفقود هنا. فإن قيل: تقييد المصنف ما ذكر بالمرأة: مشعرٌ بأن من لا تكون امرأة كالمراهقة والطفلة ليست كذلك. قيل: قال في المغني: الخلاف في اللمس والنظر فيمن بلغت سناً يمكن الاستمتاع منها كابنة تسع فما زاد. فأما الطفلة فلا يثبت فيها ذلك. ثم قال: وقد روي عن أحمد في بنت سبع إذا قبّلها حرمت عليه أمها. ثم قال: قال (¬1) القاضي: هذا عندي محمول على السن الذي توجد معه الشهوة. فإن قيل: النظر إلى الفرج مقيد في كلام المصنف رحمه الله تعالى بالشهوة ومطلق في الحديث. قيل: لا بد من تقييده بذلك؛ لأن المباشرة لغير شهوة لا يثبت بها التحريم. فالنظر بطريق الأولى. وتقييد المصنف النظر بكونه إلى فرجها: مشعرٌ بأن النظر إلى سائر بدنها لشهوة لا يثبت به التحريم روايةً واحدة. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

وقال في المغني: وأما النظر إلى سائر البدن فلا ينشر الحرمة. ثم قال: والصحيح خلاف ذلك فإن غير الفرج لا يقاس عليه لما بينهما من الفرق. ثم قال: ولا خلاف نعلمه في أن النظر إذا وقع من غير شهوة لا ينشر حرمة؛ لأن اللمس الذي هو أبلغ منه لا يؤثر إذا كان لغير شهوة فالنظر أولى. وأما كون التحريم يثبت بالنظر إلى فرجها لشهوة على روايةٍ؛ فلما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نظرَ إلى فرجِ امرأةٍ: لم تحلَّ له أمُها وبنتُها» (¬1)، وفي لفظ: «لا ينظرُ اللهُ إلى رجلٍ نظرَ إلى فرجِ امرأةٍ وبنتها» (¬2). وأما كونه لا يثبت به على روايةٍ؛ فلعموم قوله: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24]. ولأنه نظر. فلم يوجب التحريم؛ كالنظر إلى الوجه. والخبر ضعيف قاله الدارقطني. وقيل: هو موقوف على ابن مسعود. ثم يمكن حمله على الوطء بطريق الكتابة. وأما كون التحريم يثبت بالخلوة لشهوة على روايةٍ؛ فلأنها تكمل الصداق. فنشرت الحرمة؛ كالوطء. وأما كونه لا يثبت بها على روايةٍ؛ فلأن في ذلك مخالفة لقوله تعالى: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء: 23]. ولأنها غير منصوص على التحريم بها. فتحل من وجدت فيها؛ لعموم قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24]. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (16229) 3: 469 كتاب النكاح، الرجل يقع على أم امرأته أو ابنة امرأته ما حال امرأته؟ عن أبي هانئ. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (16228) 3: 469 كتاب النكاح، الرجل يقع على أم امرأته أو ابنة امرأته ما حال امرأته؟ وأخرجه الدارقطني في سننه (92) 3: 268 كتاب النكاح، باب المهر. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 170 كتاب النكاح، باب الزنا لا يحرم الحلال. كلهم رووه موقوفا على ابن مسعود.

قال: (وإن تلوط بغلام حرم على كل واحد منهما أمُّ الآخر وابنته، وعند أبي الخطاب هو كالوطء دون الفرج. وهو الصحيح). أما كون كل واحد ممن ذُكر يحرم عليه أمُّ الآخر وابنته على المذهب؛ فلأن اللواط وطء في الفرج. فنشر الحرمة إلى من ذكر؛ كوطء المرأة. وأما كون التلوط عند أبي الخطاب كالوطء دون الفرج؛ فلأنه لا يتعلق به أحكام وطء المرأة من الإحلال ونحوه. فكذا التحريم. وأما كون قول أبي الخطاب هو الصحيح؛ فلأن من ذكر غير منصوص على تحريمهن. فيدخلن في عموم قوله تعالى: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24]. ولا يصح قياسهن على النساء؛ لأن الوطء في المرأة يكون سبباً للبضعية، ويوجب المهر، ويلحق به النسب، وتصير المرأة به فراشاً، وتثبت أحكاماً لا يثبتها اللواط. فلا يجوز إلحاقه به؛ لعدم العلة وانقطاع الشبه. ولذلك لو أرضع الرجل طفلاً لم يثبت به أحكام التحريم. فهاهنا أولى. قال: (القسم الرابع: الملاعنة تحرم على الملاعن على التأبيد؛ إلا أن يُكَذِّب نفسه فهل تحل؟ على روايتين). أما كون القسم الرابع من المحرمات: الملاعنة؛ فلأنه يلي القسم الثالث. وأما كون الملاعنة من المحرمات؛ فلما روى سهل بن سعد قال: «مضت السنةُ في المتلاعنين أن يفرّق بينهما لا يجتمعا أبداً» (¬1). رواه الجوزجاني بإسناده. وروي مثل هذا عن عمر بن الخطاب. وأما كونها تحرم على المتلاعن على التأبيد إذا لم يكذب نفسه؛ فلما ذكر من الحديث قبل. وأما كونها تحرم عليه إذا أكذب نفسه على روايةٍ؛ فلعموم ما ذكر. ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الجلد والتكذيب. فلم يرتفع بالتكذيب؛ كالرضاع. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2250) 2: 274 كتاب الطلاق، باب في اللعان.

وأما كونها تحل على روايةٍ؛ فلأنه لما أكذب نفسه صارت شبيهة بحالها قبل الملاعنة وهي حينئذ حلال. فكذلك فيما يشبهه.

فصل [المحرمات إلى أمد] قال المصنف رحمه الله تعالى: (الضرب الثاني: المحرمات إلى أمد. وهي نوعان: أحدهما: المحرمات لأجل الجمع. فيحرم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها أو خالتها). أما كون الضرب الثاني: المحرمات إلى أمد؛ فلأنه يلي الضرب الأول. وأما كونهن نوعين؛ فلأن منهن من يحرم لأجل الجمع، ومنهن من يحرم لعارض يزول؛ كزوجة الغير. وسيأتي ذكره بعد إن شاء الله تعالى. وأما كون الجمع بين الأختين يحرم؛ فلأن الله تعالى قال: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23]. ولا فرق بين الأختين من نسب أو رضاع. حرتين أو أمتين أو حرة وأمة. من أبوين كانتا أو من أب أو أم. قبل الدخول أو بعده؛ لعموم الآية. وأما كون الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها يحرم؛ فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُجمعُ بين المرأةِ وعمتها، ولا بين المرأةِ وخالتها» (¬1). متفق عليه. وفي روايةِ أبي داود: «لا تُنكح المرأةُ على عمتها، ولا العمةُ على بنتِ أخيها، ولا المرأةُ على خالتها، ولا الخالةُ على بنت أُختها. لا تُنكحُ الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكُبرى» (¬2). ولأن العلة في الجمع بين الأختين إيقاع العداوة بين الأقارب، وإفضاؤه إلى قطيعة الرحم المحرم. وهو موجود فيما ذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4820) 5: 1965 كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1408) 2: 1028 كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2065) 2: 224 كتاب النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء.

فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24]؟ قيل: هو مخصوص بما ذكر. قال: (فإن تزوجهما في عقد واحد لم يصح، وإن تزوجهما في عقدين أو تزوج إحداهما في عدة الأخرى سواء كانت بائناً أو رجعية فنكاح الثانية باطل). أما كون من تزوج من يحرم الجمع بينهما كما تقدم في عقد واحد لا يصح؛ فلأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى. وأما كون نكاح الثانية باطلاً إذا تزوج من ذكر في عقدين أو تزوج إحداهما في عدة الأخرى؛ فلأنه يحصل به الجمع وهو المحرم. فاختص البطلان به. وأما كون البائن فيما ذكر والرجعية سواء؛ فلاشتراكهما في العدة. قال: (وإن اشترى أخت امرأته أو عمتها أو خالتها: صح ولم يحل له وطؤها حتى يطلق امرأته وتنقضي عدتها). أما كون من اشترى أخت امرأته وعمتها أو خالتها يصح؛ فلأن الشراء يراد لغير الوطء. بخلاف العقد. والمحرم الجمع في العقد أو الوطء. وليس الشراء واحداً منهما ولا لازماً له. وأما كونه لا يحل له وطؤها حتى يطلق امرأته وتنقضي عدتها؛ فلأن بوطئها يحصل الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها في الوطء وذلك حرام؛ لأن الجمع في العقد حرام لما تقدم. وإنما حرم؛ لأنه وسيلة إلى الوطء. فلأن يحرم الجمع في الوطء بطريق الأولى. قال: (وإن اشتراهن في عقد واحد صح. فإن وطئ إحداهما لم تحل له الأخرى حتى يحرم على نفسه الأولى بإخراج عن ملكه أو تزويج ويعلم أنها ليست بحامل. فإن عادت إلى ملكه لم يصب واحدة منهما حتى يحرم الأخرى. وعنه: ليس بحرام ولكن ينهى عنه). أما كون من اشترى الأختين أو المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها في عقد واحد يصح؛ فلما تقدم من أن الشراء يراد لغير الوطء. بخلاف العقد.

ولأنه إذا جاز شراء الأخت على أختها وشراء المرأة على عمتها وشراؤها على خالتها. فلأن يجوز شراؤهما في عقدٍ واحدٍ بطريق الأولى. وأما كونه إذا وطئ إحداهما لا تحل له الأخرى حتى يحرم على نفسه الأولى بما تقدم ذكره؛ فلأن بوطئه لها يحصل الجمع المحرم. وكلام المصنف مشعر بأمرين: أحدهما: أنه إذا اشتراهن جملة واحدة فله وطء إحداهن؛ لأنه لا يحصل به الجمع. فلم يحرم؛ كما لو كانت في ملكه وحدها. وذكر أبو الخطاب أنه لا يجوز؛ لأنه لا مزية لأحدهن على الأخرى. وثانيهما: أن كل من حرم وطؤها لما تقدم ذكره تحل له إذا أخرج الأولى عن ملكه أو زوجها؛ لأن المحذور الذي هو الجمع يزول بذلك. واشترط المصنف رحمه الله تعالى مع ذلك: أن يعلم أنها ليست حاملاً؛ لأنها إذا كانت حاملاً لم يجز وطء الأخرى؛ لأنه يكون جامعاً ماءه في رحم بنتين يحرم الجمع بينهما. أشبه ما لو تزوج إحداهما في عدة الأخرى. ولقائل أن يقول: لا حاجة إلى هذا الشرط؛ لأن شرط الإباحة أحد أمرين: إما إخراج عن ملكه، وإما تزويج. وكلاهما لا يصح إلا بعد العلم بأن الموطوءة غير حامل. ويمكن الجواب عنه بأن في البيع روايةِ أنه لا يجوز من غير استبراء. وعلى القول بالمنع فإن من صور الإخراج عن الملك: العتق، ولا يشترط فيه العلم بأنها ليست حاملاً. فإن قيل: ينفي إرادة العتق قوله: فإن عادت إلى ملكه إذ المعتقة لا تعود إلى ملك السيد. قيل: يحمل قوله: فإن عادت على بعض الصور كالمبيعة والموهوبة ونحو ذلك. وفي اشتراط المصنف الإخراج عن ملكه أو التزويج إشعار بأن الموطوءة لو حرمها سيدها أو حرم وطئها بسبب غير ذلك لم تحل له الأخرى. وهو صحيح. وقد صرح في المغني بأنه لو حرمها لم تبح له الأخرى لأن تحريمه إما لا يحرم أو يحرم

تحريماً ترفعه الكفارة. وكذلك لو رهنها لم تحل له الأخرى؛ لأن المنع من وطئها لحق المرتهن لا لتحريمها ولهذا يحل له بإذنه في وطئها. ولأنه يقدر على فكها متى شاء واسترجاعها إليه. فإن قيل: فلو كاتبها. قيل: لا تحل له الأخرى؛ لأن الكتابة لا تزيل الملك قبل الأداء. وأما كونه إذا عادت إلى ملكه لا يصيب واحدة منهما حتى يحرّم الأخرى؛ فلأن الثانية صارت فراشاً وقد رجعت إليه التي كانت فراشاً. فحرمت كل واحدة منهما بكون الأخرى فراشاً؛ كما لو انفردت به. ولأنه مختلف في حرمته. فلا أقل من الكراهة. قال: (وإن وطئ أمته ثم تزوج أختها لم يصح عند أبي بكر وظاهر كلام الإمام أحمد أنه يصح ولا يطؤها حتى يحرم الموطوءة. فإن عادت إلى ملكه لم يطأ واحدة منهما حتى يحرم الأخرى). أما كون التزوج المذكور لا يصح عند أبي بكر؛ فلأن ذلك يُصَيِّر المتزوج بها فراشاً. فلم يجز؛ كالوطء. ولأنه فعل في الأخت ما ينافي إباحة المفترشة. فلم يجز؛ كالوطء. قال المصنف رحمه الله تعالى في المغني: قال القاضي: هو ظاهر كلام أحمد. وأما كونه يصح على ظاهر الإمام أحمد؛ فلأنه سبب يستباح به الوطء. فجاز أن يرد على وطء الأخت ولا يبيح؛ كالشراء. وأما كون ذلك ظاهر كلام الإمام أحمد فنقله المصنف في المغني عن أبي الخطاب. وقد تقدم قول القاضي أن الظاهر من كلامه عكسه. وأما كون المتزوج لا يطأ المتزوج بها حتى يُحرم الموطوءة؛ فلئلا يكون جامعاً في الوطء. فإن قيل: لا يلزم من الوطء الجمع لأنه بمجرد النكاح يجب أن تحرم المفترشة؛ لأن النكاح أقوى من الوطء بملك اليمين فإذا اجتمعا وجب التقديم للأقوى.

قيل: لا يسلم أن النكاح أقوى من ملك اليمين بل القول بالعكس أولى؛ لأنه لو اشترى زوجته انفسخ النكاح. وعلى تقدير التسليم فالسبق يعارضه، وملك اليمين سابق. وأما كونه إذا عادت أمته إلى ملكه لا يطأ واحدة منهما حتى يحرم الأخرى؛ فلما تقدم ذكره في المسألة قبل. قال: (ولا يحل للحر أن يجمع بين أكثر من أربع، ولا للعبد أن يتزوج أكثر من اثنتين. وإن طلق إحداهن لم يجز أن يتزوج أخرى حتى تنقضي عدتها). أما كون الحر لا يحل له أن يجمع بين أكثر من أربع؛ فلأن الله تعالى قال: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3]. يعني اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشر نسوة: أَمسِكْ أربعًا وفارِقْ سائِرهُن» (¬1). رواه الترمذي. وأما كون العبد لا يحل له أن يتزوج أكثر من اثنتين؛ فلأن الحكم بن قتيبة قال: «أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا ينكح إلا اثنتين». وروي «أن عمرُ سألَ الناس عن ذلك. فقال عبدالرحمن بن عوف: لا يتزوجُ إلا اثنتين». رواه الإمام أحمد. وهذا قول صحابي لشخص من الصحابة ولم ينكر أحد من الصحابة فكان إجماعاً. وأما كون الحر أو العبد إذا طلق إحدى من تقدم ذكرهن لا يجوز أن يتزوج أخرى حتى تنقضي عدتها: أما مع الطلاق الرجعي فظاهر لأن الرجعية زوجة فلو جاز له تزويج أخرى لكان الحر جامعاً بين خمس والعبد جامعاً بين ثلاث. وأما مع الطلاق البائن؛ فلأن بعض أحكام النكاح باق. فمنعَ الحر من تزوج خامسة والعبد من تزوج ثالثة؛ كما لو كان الطلاق رجعياً. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 647.

فصل [المحرمات لعارض] قال المصنف رحمه الله تعالى: (النوع الثاني: محرمات لعارض يزول. فيحرم عليه نكاح زوجة غيره والمعتدة منه والمستبرئة منه). أما كون النوع الثاني: محرمات لعارض؛ فلأنه يلي المحرمات لأجل الجمع وهو الأول. وأما كون المحرمات هنا لعارض يزول؛ فلأن زوجة غيره والمعتدة من غيره والمستبرأة من غيره إنما حرمن عليه لأجل ذلك الغير، وذلك يزول بطلاق ذلك الغير وانقضاء العدة ومدة الاستبراء. وأما كون نكاح زوجة غيره يحرم عليه؛ فلأن الله تعالى قال: {والمحصناتُ من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتابَ الله عليكم} [النساء: 24]. وأما كون نكاح المعتدة من غيره يحرم عليه؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يبلغَ الكتابُ أجله} [البقرة: 235]. وأما كون نكاح المستبرأة من غيره يحرم عليه؛ فلأنها في معنى المعتدة منه. ولأن إباحة نكاح الثلاثة يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، وذلك محذور مطلوب العدم. قال: (وتحرم الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، ومطلقته ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، والمحرمة حتى تحل). أما كون الزانية تحرم حتى تتوب؛ فلأن الله تعالى قال: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} [النور: 3]. ولأنه لا يؤمن أن يلحق به ولداً من غيره. فحرمت؛ كالمعتدة.

وأما كونها تحرم قبل أن تنقضي عدتها: أما على الزاني؛ فلأن ولدها لا يلحق به. فيفضي نكاحه لها إلى اشتباه من لا يلحق نسبه بأحد ممن يلحق نسبه به. وأما على غير الزاني؛ فلأنها معتدة من غيره. وأما كون مطلقته ثلاثاً تحرم حتى تنكح زوجاً غيره؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230]. والمراد بالنكاح هنا الوطء؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة رفاعة لما أرادت أن ترجع إليه بعد أن طلقها ثلاثًا وتزوجت بعده عبدالرحمن بن الزَّبير: لا. حتى تَذوقِي عُسَيْلَتَه» (¬1). فإن قيل: مفهوم كلام المصنف هنا أن مطلقته ثلاثاً تحل له إذا نكحت زوجاً غيره؛ لأنه جعل ذلك غاية لتحريمها. وليس كذلك؛ لأن حلها يقف على طلاق الزوج الثاني، وعلى انقضاء العدة منه. قيل: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن تحريمها بكونها مطلقة ثلاثاً يزول بذلك لكن عقيب ذلك التحريم تحريم آخر وهو كونها زوجة غيره ما لم يطلقها فإذا طلقها تكون معتدة من غيره وكلاهما محرم لما تقدم، وكذلك تحرم عليه بذلك وإن كانت مطلقته دون الثلاث. وثانيهما: أنه قد تقدم أنه محرم عليه نكاح زوجة غيره والمعتدة من غيره. فاكتفى بذلك عن التصريح به هنا. فإن قيل: هلا اكتفى بذلك في الزانية لأنه لم يقتصر على قوله: حتى تتوب بل قال: وتنقضي عدتها؟ قيل: عدة الزانية مختلف فيها فجيء بالتصريح بها للتأكيد. بخلاف عدة النكاح فإنها متفق عليها فلا حاجة إلى التأكيد فيها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2496) 2: 933 كتاب الشهادات، باب شهادة المختبي. وأخرجه مسلم في صحيحه (1433) 2: 1055 كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها ..

وأما كون المُحْرمة تحرم حتى تحل؛ فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَنكحُ المحرمُ ولا يُنكحُ ولا يَخطُب» (¬1). رواه مسلم. ولأنه عارضٌ منع الطيب. فمنع النكاح؛ كالعدة. قال: (ولا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال ولا لمسلم نكاح كافرة إلا حرائر أهل الكتاب. فإن كان أحد أبويها غير كتابي أو كانت من نساء بني تغلب فهل تحل؟ على روايتين). أما كون المسلمة لا يحل لها نكاح كافر بحال؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221]، وقال سبحانه وتعالى: {فإن علمتموهن مؤمناتٍ فلا تَرجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهنّ} [الممتحنة: 10]. وأما كون المسلم لا يحل له نكاح كافرة غير حرائر أهل الكتاب؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمنّ} [البقرة: 221]، وقال: {ولا تُمْسكوا بعِصَم الكوافر} [الممتحنة: 10]. وأما كونه يحل له نكاح حرائر أهل الكتاب؛ فلأن الله تعالى قال: {والمحصناتُ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن} [المائدة: 5]. ولأن الصحابة أجمعت عليه. فإن قيل: عموم ما تقدم يدل على عدم حل أهل الكتاب أيضاً؛ لأنهن مشركات. قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: ما روي عن ابن عباس أن قوله: {ولا تَنكحوا المشركات} [البقرة: 221] نسخ بالآية في المائدة. وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان (¬2)، والآية التي في المائدة متأخرة عنها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1409) 2: 1031 كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته. (¬2) في أ: لأنها متقدمان. وما أثبتناه من الشرح الكبير 7: 508.

والثاني: أن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب. بدليل قوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} [البينة: 1]، وقوله: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 6]، وقوله: {لتجدنّ أشد الناس عداوةً للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82]، وقوله: {ما يَوَدُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} [البقرة: 105]، وسائر آي (¬1) القرآن تَفصل بينهما. وقيد المصنف أهل الكتاب بالحرائر؛ لأن الإماء يأتي حكمهن إن شاء الله تعالى. وأما كون من كان أحد أبويها غير كتابي لا تحل على روايةٍ؛ فلأنها متولدة بين من يحل ومن لا يحل. فلم يحل؛ كالسِّمَع والبغل. وأما كونها تحل على روايةٍ؛ فلعموم الآية المقتضية للحل. ولأنها كتابية تقر على دينها. أشبه من أبويها كتابيان. وذكر المصنف في المغني هذا احتمالاً وسوى بين من أحد أبويها غير كتابي وبين من أبواها غير كتابيين. وأما كون من كانت من نساء بني تغلب لا تحل على روايةٍ؛ فلأنه يروى عن علي رضي الله عنه. ولأنهم يحتمل أنهم دخلوا في دين الكفر بعد التبديل. وأما كونها تحل على روايةٍ؛ فلأنها من أهل الكتاب فتدخل في عموم الآية المقتضية للحل. ولأن بني تغلب أهل كتاب يقرُّون على دينهم ببذل المال. فحل نكاح نسائهم؛ كأهل الكتاب. قال المصنف في المغني: هذا الصحيح عن الإمام أحمد. وهو مروي عن عمر ابن الخطاب وابن عباس. قال الأثرم: ما علمت أحداً كرهه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علياً. ¬

_ (¬1) في أ: لا يحل. وما أثبتناه من الشرح الكبير 7: 508.

قال: (وليس للمسلم وإن كان عبداً نكاح أمة كتابية. وعنه: يجوز). أما كون المسلم ليس له نكاح أمة كتابية وإن كان عبداً على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {من فتياتِكم المؤمنات} [النساء: 25]. وأما كونه له ذلك على روايةٍ؛ فلأنها تحل بملك اليمين. فحلت بالنكاح؛ كالمسلمة. والأول ظاهر المذهب. قاله المصنف في المغني. وفرّق بين المسلمة والكافرة من حيث: إن نكاح المسلمة لا يؤدي إلى استرقاق الكافر ولدها؛ لأن الكافر لا يقر ملكه على مسلمة، والكافرة تكون ملكاً للكافر ويقر ملكه عليها وولدها لسيدها. ولأنه قد اعتورها نقصان الكفر والملك. فإذا اجتمعا منعا؛ كالمجوسية لما اجتمع فيها نقص الكفر وعدم الكتاب منع من نكاحها. وقول المصنف: وإن كان عبداً تنبيه على أن النقص الحاصل فيه بالرق لا يؤثر في كونه له نكاح الأمة الكتابية؛ لأن الأدلة المقتضية للمنع عامة في الحر والعبد. ولأن ما حرم على الحر نكاحه لأجل دينه حرم على العبد؛ كالمجوسية. قال: (ولا يحل لحر مسلم نكاح أمة مسلمة؛ إلا أن يخاف العنت، ولا يجد طَوْلاً لنكاح حرة ولا ثمن أمة. وإن تزوجها وفيه الشرطان ثم أيسر أو نكح حرة فهل يبطل نكاح الأمة؟ على روايتين). أما كون الحر المسلم لا يحل له نكاح أمة مسلمة إذا لم يخف العنت ولا يجد ما ذُكر؛ فلأن الله تعالى قال: {ومن لم يستطع منكم طَوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتِكم المؤمنات -إلى قوله-: ذلك لمن خشي العنت منكم} [النساء: 25]. شرط في جواز ذلك عدم استطاعة الطول وخشية العنت. ولأن في نكاح الأمة إرقاق ولده مع الغنى. فلم يجز؛ كما لو كان تحته حرة. وأما كونه يحل له ذلك إذا وجد فيه الشرطان؛ فللآية المذكورة.

فإن قيل: الآية دلت على اشتراط الطَّول للحرة المؤمنة فما وجه اشتراط الطَّول للحرة الكتابية أو ثمن الأمة؟ قيل: لأن القادر على ذلك غير خائف العنت. ولأنه قدر على صيانة ولده عن الرق. فلم يجز له إرقاقه؛ كما لو قدر على نكاح مؤمنة. وأما كونه إذا تزوج أمة وفيه الشرطان ثم أيسر لا يبطل نكاح الأمة على روايةٍ؛ فلأن عدم استطاعة الطَّول أحد شرطي إباحة نكاح الأمة. فلم يعتبر استدامته؛ كخوف العنت. وأما كونه يبطل على روايةٍ؛ فلأنه إنما أبيح للحاجة. فإذا زالت الحاجة لم يجز له استدامة؛ كمن أبيح له أكل الميتة لضرورته فإذا وَجَد الحلال لم يستدمه. وذكر المصنف في المغني هذا وجهاً. وفرّق بين مسألة الطَّول ومسألة الميتة من حيث: إن أكل الميتة بعد القدرة ابتداء للأكل. بخلاف عادم الطَّول فإنه إذاً غير مبتدئ للنكاح وإنما هو مستديم. وأما كونه إذا تزوج أمة ثم نكح حرة لا يبطل نكاح الأمة على روايةٍ؛ فلأنه لا يبطله اليسار في روايةٍ. فكذا لا يبطله نكاح الحرة. وأما كونه يبطل على روايةٍ؛ فلأنه يبطله اليسار في روايةٍ فلأن يبطله نكاح الحرة بطريق الأولى. قال: (وإن تزوج حرة أو أمة فلم تعفه ولم يجد طولاً لحرة أخرى فهل له نكاح أمة أخرى؟ على روايتين. قال الخرقي: وله أن ينكح من الإماء أربعاً إذا كان الشرطان فيه قائمين). أما كون من ذكر له نكاح أمة أخرى على روايةٍ؛ فلأنه خائف العنت عادم طول حرة. أشبه من لا زوجة تحته وفيه الشرطان. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأنه تحته زوجة. والأولى أولى؛ لما تقدم ذكره. ولذلك قال المصنف: قال الخرقي ... إلى آخره؛ لأن فيه تأكيداً لجوازه. وكونه تحته زوجة لا أثر له؛ لأن المعنى الذي أبيح

من أجله نكاح الأمة: الشرطان المتقدم ذكرهما. فإذا وجدا فيما ذكر وجب أن يباح. عملاً بالعلة. قال: (وللعبد نكاح الأمة. وهل له أن ينكحها على حرة؟ على روايتين. وإن جمع بينهما في العقد جاز. ويتخرج أن لا يجوز). أما كون العبد له نكاح الأمة وإن فقد الشرطين؛ فلأنه مساوٍ لهما. فلم يعتبر فيه وجود الشرطين؛ كالحر مع الحرة. وأما كونه له أن ينكحها على روايةٍ؛ فلما ذكر قبل. ولأنه لو اشترط عدم الحرة لاشترط عدم القدرة عليها كما في حق الحر. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأنه مالك لبضع حرة. فلم يكن له أن يتزوج أمة؛ كالحر. وعن سعيد بن المسيب: «تُنكحُ الحرةُ على الأمة، ولا تُنكحُ الأمةُ على الحرّة» (¬1). وأما كونه إذا جمع بينهما في العقد يجوز على المذهب؛ فلأن كل واحدة (¬2) يجوز له إفرادها بالعقد. فجاز له الجمع بينهما؛ كالأمتين. وأما كونه يتخرج أن لا يجوز؛ فلأنه جمع. أشبه ما لو تزوج الأمة على الحرة. فإن قيل: الخلاف في الجمع المذكور مطلقاً أم على قولنا ليس له أن يتزوج الأمة على الحرة. قيل: على الثاني. صرح به صاحب المحرر. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في موطئه (29) 2: 423 كتاب النكاح، باب نكاح الأمة على الحرة. ولفظه: «لا تنكح الأمة على الحرة إلا أن تشاء الحرة فإن طاعت الحرة فلها الثلثان من القسم». (¬2) في أ: واحد، ولعل الصواب كما أثبتناه

قال: (وليس له نكاح سيدته، ولا للحر أن يتزوج أمته ولا أمة ابنه. ويجوز للعبد نكاح أمة ابنه). أما كون العبد ليس له نكاح سيدته؛ فلأن أبا الزبير قال: «سألت جابراً عن العبد ينكح سيدته. فقال: جاءتِ امرأةٌ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحنُ بالجابيةِ وقد نَكحتْ عبدَها فانتهرَها عمر وهمَّ أن يرجُمَهَا. وقال: لا يحلُّ لك». ولأن أحكام النكاح مع أحكام الملك يتنافيان من حيث إن كل واحدٍ منهما يقتضي أن يكون الآخر في حكمه يسافر سفره ويقيم بإقامته وينفق عليه. وأما كون الحر ليس له أن يتزوج أمته؛ فلأن ملك الرقبة يقيد ملك المنفعة وإباحة البضع، ولا يجتمع مع عقد لضعف منه. وأما كونه ليس له أن يتزوج أمة ابنه؛ فلأن له فيها شبهة الملك. بدليل قوله عليه السلام: «أنتَ ومالُكَ لأبيك» (¬1). أشبه الملك. وأما كون العبد يجوز له نكاح أمة ابنه؛ فلأنه لا شبه له فيها. بخلاف الحر. قال: (وإن اشترى الحر زوجته انفسخ نكاحها. وإن اشتراها ابنه فعلى وجهين). أما كون زوجة الحر إذا اشتراها زوجها ينفسخ نكاحها؛ فلما تقدم من منافاة أحكام الملك أحكام النكاح والملك أقوى؛ لأنه يفيد ملك الرقبة والمنفعة، والنكاح لا يفيد إلا ملك المنفعة. ولأن النكاح يوجب للمرأة حقوقاً يمنعها ملك اليمين من القَسْم والملك فانفسخ بالملك لئلا يجتمع معه ما لا يوافقه. وأما كونها إذا اشتراها ابنه ينفسخ نكاحها على وجه؛ فلأن ملك الابن كملك الأب في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد. فكان كملكه في فسخ النكاح. وأما كونها لا ينفسخ نكاحها بذلك على وجه؛ فلأنه لا يملكها بملك الابن. فلم يفسخ نكاحها؛ كما لو ملكها أجنبي. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 560.

قال: (ومن جمع بين محرمة ومحللة في عقد واحدٍ فهل يصح فيمن تحل؟ على روايتين). أما كون العقد كما ذكر يبيح فيمن تحل على المذهب؛ فلأنها لو انفردت لكان العقد عليها صحيحاً. فكذلك إذا جمعها مع محرمة. وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأن العقد تناول محرَّمة ومحلّلة. فلم يصح فيهما؛ كما لو باع خلاً وخمراً. قال: (ومن حرم نكاحها حرم وطئها بملك اليمين؛ إلا إماء أهل الكتاب). أما كون من حرم نكاحها وليست من إماء أهل الكتاب يحرم وطؤها؛ فلأن النكاح إذاً حرم لكونه طريقاً إلى الوطء. فلأن يحرم الوطء بنفسه بطريق الأولى. وأما كون إماء أهل الكتاب لا يحرم وطؤهن بملك اليمين وإن حرم نكاحهن؛ فلأن حرمة النكاح إنما كان من أجل إرقاق الولد وإبقائه مع كافرة، وهو معدوم في الوطء بملك اليمين.

فصل [في نكاح الخنثى] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ولا يحل نكاح خنثى مشكل حتى يتبين أمره. نص عليه. وقال الخرقي: إذا قال: أنا رجل لم يمنع من نكاح النساء، ولم يكن له أن ينكح بغير ذلك بعد، وإن قال: أنا امرأة لم ينكح إلا رجلاً. فلو تزوج امرأة ثم قال: أنا امرأة انفسخ نكاحه، ولو زُوِّج برجل ثم قال: أنا رجل لم يقبل قوله في فسخ النكاح). أما كون الخنثى المشكل لا يحل نكاحه حتى يتبين أمره على منصوص الإمام أحمد؛ فلأنه مشكوك في حله للرجال والنساء. فلم يحل نكاحه حتى يتبين أمره؛ كما لو اشتبهت أخته بأجنبية. وأما كونه لا يمنع من نكاح النساء إذا قال: أنا رجل على قول الخرقي؛ فلأن كونه رجلاً معنى يعرف من جهته وليس فيه إيجاب حق على غيره. فوجب أن يقبل منه؛ كما يقبل قول المرأة في انقضاء عدتها، وإذا قبل قوله في ذلك لم يمنع من نكاح النساء كغيره. وأما كونه لا يكون له أن ينكح بغير ذلك بعد؛ فلأنه أقر بتحريمه. ولأنه إذا ادعى غير الأول يكون مكذباً لنفسه مدعياً دعوى تناقض قوله الأول. فلم يلتفت إليه؛ كالإنكار بعد الإقرار. وأما كونه لا ينكح إلا رجلاً إذا قال: أنا امرأة؛ فلأنه يقبل قوله في كونه امرأة لما تقدم. والمرأة ليس لها أن تنكح رجلاً فكذا الخنثى المذكور. وأما كونه ينفسخ نكاحه إذا قال: أنا امرأة بعد أن تزوج امرأة؛ فلأن النكاح له وقد أقر ببطلانه. وأما كونه لا يقبل قوله في فسخ النكاح إذا قال: أنا رجل بعد أن زُوِّج برجل؛ فلأن النكاح حق عليه. فلم يقبل قوله في إسقاط حق الغير.

باب الشروط في النكاح

باب الشروط في النكاح قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهي قسمان: صحيح؛ مثل: اشتراط زيادة في المهر، أو نقد معين، أو أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها ولا يتسرى: فهذا صحيح لازم إن وفى به، وإلا فلها الفسخ). أما كون شروط النكاح قسمين صحيحاً وفاسداً؛ فلأنه عقد معاوضة. فكانت شروطه قسمين صحيحاً وفاسداً؛ كالبيع. ويدل على أن من شروطه ما يكون صحيحاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحقَ ما وفَّيتُم به من الشروطِ ما استحلَلتُم به الفُروج» (¬1). رواه سعيد. وفي لفظٍ: «إن أحقَّ الشروطِ أن تُوفُّوا بها ما استحللتُم به الفُروج» (¬2). متفق عليه. وأما قول المصنف: مثل اشتراط زيادة المهر ... إلى آخره؛ فبيانٌ للشروط الصحيحة وتعداد لها. وأما كون ذلك كله صحيحاً؛ فلأنه داخل فيما تقدم. ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمنونَ على شُروطهم» (¬3) يشمل ذلك كله. وروي «أن رجلاً تزوّجَ امرأةً وشرطَ لها دارها ثم أرادَ نقلها فخاصموه إلى عمر. فقال: لها شرطها. فقال الرجل: إذًا يُطلِّقْننا. فقال عمر: مقاطعُ الحقوقِ عندَ الشروط» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (658) 1: 180 كتاب النكاح، باب ما جاء في الشرط في النكاح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4856) 5: 1978 كتاب النكاح، باب الشروط في النكاح. وأخرجه مسلم في صحيحه (1418) 2: 1035 كتاب النكاح، باب الوفاء بالشروط في النكاح. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح. (¬4) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (662) 1: 181 كتاب النكاح، باب ما جاء في الشرط في النكاح. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 249 كتاب الصداق، باب الشروط في النكاح.

ولأن شرط الزيادة في المهر والنقد المعين صحيح وفاقاً، وشرط كل واحد مما بقي شرط لها فيه منفعة ومقصود لا يمنع مقصود النكاح. فكان صحيحاً؛ كما لو شرط في البيع نقداً معيناً. وأما كون ذلك كله لازماً إن وفى به وإلا فلها الفسخ؛ فلأنه لو شرط في البيع كون المبيع كاتباً أو صانعاً أو ما أشبه ذلك كان حكمه ما ذُكر. فكذا هذا. قال: (وإن شرط لها طلاق ضرتها فقال أبو الخطاب: هو صحيح. ويحتمل أنه باطل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَسألِ المرأةُ طلاقَ أُختِها لتكْتَفِئَ ما في صَحْفَتَها، ولْتَنْكِحْ، فإنَّ لها ما قُدِّرَ لها» (¬1». أما كون شرط ذلك صحيحاً على ما قال أبو الخطاب؛ فلأن لها في ذلك نفعاً. أشبه ما لو شرطت دارها. وأما كونه يحتمل أنه باطل؛ فلما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من الحديث. وهذا الاحتمال هو اختيار المصنف وقدمه في المغني. وقال عن قول أبي الخطاب: لم أره لغيره. وذكر ما يدل على فساده من الحديث المذكور، وما روى أبو هريرة قال: «نَهى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن تَشترطَ المرأةُ طلاقَ أُختِها» (¬2). رواهما البخاري. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6227) 6: 2435 كتاب القدر، باب: {وكان أمر الله قدراً مقدوراً}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1408) 2: 1029 كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2577) 2: 971 كتاب الشروط، باب الشروط في الطلاق.

فصل [في شروط النكاح الفاسدة] قال المصنف رحمه الله تعالى: (القسم الثاني: فاسد. وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ما يُبطل النكاح. وهو ثلاثة أشياء: أحدها: نكاح الشغار. وهو: أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، ولا مهر بينهما. فإن سموا مهراً صح. نص عليه، وقال الخرقي: لا يصح). أما كون هذا القسم الثاني؛ فلأنه يلي الأول. وأما كونه فاسداً؛ فلأن شروط النكاح لما كانت قسمين صحيحاً وفاسداً وكان الأول هو الصحيح كان الثاني هو الفاسد. وأما كونه ثلاثة أنواع؛ فلأنه تارة يُبطل العقد، وتارة لا يُبطله، ويكون تارة (¬1) في إبطاله له خلاف. وسيأتي ذكر ذلك في مواضعه. وأما كون الذي يُبطله ثلاثة أشياء؛ فلأنه تارة يكون نكاح شغار، وتارة نكاح محلل، وتارة نكاح متعة. وأما كون أحد الأشياء التي تبطل النكاح نكاح الشغار؛ فلما روى ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشِّغَار» (¬2) متفق عليه. وروى أبو هريرة مثله (¬3). أخرجه مسلم. وعن (¬4) عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا جَنَبَ ولا جَلَبَ ولا شِغَارَ في الإسلام» (¬5). ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4822) 5: 1966 كتاب النكاح، باب الشغار. وأخرجه مسلم في صحيحه (1415) 2: 1034 كتاب النكاح، باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1416) 2: 1035 الموضع السابق. (¬4) في أ: عن. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (1123) 3: 431 كتاب النكاح، باب ما جاء في النهي عن نكاح الشغار. وأخرجه النسائي في سننه (3335) 6: 111 كتاب النكاح، الشغار.

ولأنه جعل كل واحد من العقدين سلفاً في الآخر. فكان باطلاً؛ كما لو قال: بعني ثوبك على أن أبيعك ثوبي. وأما قول المصنف: وهو أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ولا مهر بينهما؛ فبيانٌ لمعنى نكاح الشغار. وفي حديث ابن عمر: «الشِّغَارُ أن يزوجه ابنتَه على أن يزوجه ابنتَه وليسَ بينهما صَداق» (¬1) متفق عليه. وفي حديث أبي هريرة: «الشغارُ أن يقولَ الرجلُ للرجل: زوِّجني ابنتكَ وأُزوِّجُكَ ابنتي» (¬2). رواه مسلم. وأما كون ذلك يصح إذا سموا مهراً على منصوص الإمام أحمد؛ فلما تقدم من الحديث. ولأن الشغار ملحوظ فيه الخلو؛ لأنه مأخوذ من شَغَر الكلب إذا رفع رجله ليبول، وهذا المعنى مفقود هاهنا. وأما كونه لا يصح على قول الخرقي؛ فـ «لأن العباس بن عبدالله بن العباس أنكحَ عبدالرحمن بن الحكم ابنته على أن يُنكحه الآخر ابنته، وكانا جعلا صَداقاً. فكتب معاويةُ إلى مروان فأمرَه أن يفرّق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشِّغَارُ الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬3). ولأنه شَرط نكاح إحداهما لنكاح الأخرى. فلم يصح؛ كما لو لم يسميا صداقاً. ويحققه أن عدم التسمية ليس بمفسد. بدليل نكاح المفوضة فعلم أن المفسد هو الشرط وقد وجد. ولأنه سلف في عقد. فأفسده؛ كما لو قال: بعتك ثوبي بعشرة على أن تبيعني ثوبك بعشرين. ¬

_ (¬1) سبق تخريج حديث ابن عمر قريباً. (¬2) سبق تخريج حديث أبي هريرة قريباً. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2075) 2: 227 كتاب النكاح، باب: في الشغار.

والأول أصح؛ لأن حديث ابن عمر متفق عليه وهو يوافق المعنى. فكان الأخذ به أولى. قال: (والثاني: نكاح المحلِّل. وهو: أن يتزوجها على أنه إذا أحلها طلقها. فإن نوى ذلك من غير شرط لم يصح أيضا في المذهب، وقيل: يكره ويصح). أما كون ثاني الأشياء التي تبطل النكاح نكاح المحلِّل؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعنَ اللهُ المحلِّلَ والمحلَّلَ له» (¬1). رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أُخبركم بالتيسِ المستعارِ؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله! قال: هو المحلِّلُ. لعنَ اللهُ المحلِّلَ والمحلَّلَ له» (¬2). رواه ابن ماجة. وعن عمر: «لا أُوتى بمحل ومحلل له إلا رجمتهما». رواه الأثرم. ولو لم يبطل ذلك النكاح لما لعن فاعله ولا رجم. وأما قول المصنف: وهو أن يتزوجها على أنه إذا أحلها طلقها؛ فبيانٌ لمعنى نكاح المحلل. وأما كونه لا يصح إذا نوى ذلك من غير شرط في ظاهر المذهب؛ فلما روي عن ابن عمر: «أن رجلاً قال له: امرأة تزوجتها أُحِلُّها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم. قال: لا. إلا نكاح رغبة. إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها. قال: وإن كنا نعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحًا. وقال: لا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2076) 2: 227 كتاب النكاح، باب في التحليل. وأخرجه الترمذي في جامعه (1119) 3: 427 كتاب النكاح، باب ما جاء في المحل والمحلل له. وأخرجه النسائي في سننه (3416) 6: 149 كتاب الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثًا وما فيه من التغليظ. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1935) 1: 622 كتاب النكاح، باب المحلل والمحلل له. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1936) 1: 623 كتاب النكاح، باب المحلل والمحلل له. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 208 كتاب النكاح، باب ما جاء في نكاح المحلل. وأخرجه الحاكم في المستدرك (2806) 2: 217 كتاب الطلاق.

وأما كونه يكره ويصح على قول: أما الكراهة؛ فلأنه مختلف في صحته، وأما الصحة؛ فلأنه عقد خلا عن شرط يفسده. أشبه ما لو طلقها لغير الإحلال أو ما لو نوت المرأة ذلك. ولأن العقد إنما يبطل بما شرط لا بما قصد (¬1). بدليل ما لو اشترى عبداً بشرط أن لا يبيعه لم يصح، ولو نوى أن لا يبيعه صح. قال: (الثالث: نكاح المتعة. وهو: أن يتزوجها إلى مدة). أما كون ثالث الأشياء التي تبطل النكاح نكاح المتعة؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّمَ مُتعةَ النساء» (¬2). رواه أبو داود. وفي لفظٍ: «يا أيها الناس! إني كنتُ أذنتُ لكم في الاستمتاع. ألا! وإن اللهَ قد حرّمها إلى يومِ القيامة» (¬3). رواه ابن ماجة. وعن علي «أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نهى عن متعةِ النساءِ يومَ خيبر» (¬4) أخرجه الأئمة. وأما قول المصنف: وهو أن يتزوجها إلى مدة؛ فبيانٌ لمعنى المتعة المحرمة. والمراد ذكر المدة في العقد؛ مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهراً أو سنة أو إلى انقضاء الموسم أو إلى قدوم الحاج ونحو ذلك. فإن لم يذكر المدة في العقد بل نوى الطلاق بعد شهراً أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد: كان النكاح صحيحاً؛ لأن الرجل ليس عليه أن ينوي حبس امرأته. ¬

_ (¬1) في أ: عقد، وما أثبتناه من الشرح الكبير 7: 533. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2073) 2: 227 كتاب النكاح، باب في نكاح المتعة. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (1962) 1: 631 كتاب النكاح، باب النهي عن نكاح المتعة. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (3979) 4: 1544 كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1407) 2: 1027 كتاب النكاح، باب نكاح المتعة .. وأخرجه أبو داود في سننه (2073) 2: 227 كتاب النكاح، باب في نكاح المتعة. عن ربيع بن سبرة عن أبيه. وأخرجه الترمذي في جامعه (1121) 3: 429 كتاب النكاح، باب ما جاء في تحريم نكاح المتعة. وأخرجه النسائي في سننه (3366) 6: 126 كتاب النكاح، تحريم المتعة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1961) 1: 630 كتاب النكاح، باب النهي عن نكاح المتعة. وأخرجه أحمد في مسنده (1207) طبعة إحياء التراث.

قال: (ونكاح شرط فيه طلاقها في وقت، أو علق ابتداءه على شرط؛ كقوله: زوجتك إذا جاء رأس الشهر أو إن رضيت أمها: فهذا كله باطل من أصله). أما كون نكاح شُرط فيه طلاق الزوجة باطلاً من أصله؛ فلأنه شرط مانع من بقاء النكاح. أشبه المتعة. وأما كون نكاح عُلق ابتداؤه على شرط باطلاً من أصله؛ فلأن النكاح عقد معاوضة. فبطل بتعليقه على شرط؛ كالبيع. قال: (النوع الثاني: أن يشترط أن لا مهر لها، أو لا نفقة، أو يقسم لها أكثر من امرأته الأخرى أو أقل: فالشرط باطل، ويصح النكاح). أما كون الشرط باطلاً؛ فلأنه ينافي مقتضى العقد. ولأنه يتضمن إسقاط حقوق تجب بالعقد قبل انعقاده. فتبطل؛ كما لو أسقط الشفيع شفعته قبل البيع. وأما كون النكاح يصح؛ فلأن الشرط يعود إلى معنى زائد في العقد لا يشترط ذكره ولا يضر الجهل به. فلم يبطله؛ كما لو شرط في العقد صداقاً محرماً. ولأن النكاح يصح مع الجهل بالعوض. فجاز أن يصح مع الشرط الفاسد المذكور؛ كالعتق. قال: (الثالث: أن يشترط الخيار، أو إن جاءها بالمهر في وقت وإلا فلا نكاح بينهما: فالشرط باطل، وفي صحة النكاح روايتان). أما كون الشرط باطلاً؛ فلأنه ينافي مقتضى العقد. وأما كون النكاح يصح في روايةٍ؛ فلأنه يصح مع المجهول. فيصح مع الشرط الفاسد؛ كالعتق. وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلأن عقد النكاح يجب أن يكون ثابتاً لازماً. فنافاه الشرط وأبطله.

فصل [إذا اختلف الشرط] قال المصنف رحمه الله تعالى: (فإن تزوجها على أنها مسلمة فبانت كتابية فله الخيار. وإن شرطها كتابية فبانت مسلمة فلا خيار له. وقال أبو بكر: له الخيار). أما كون الزوج له الخيار إذا تزوج على الزوجة مسلمة فبانت كتابية؛ فلأنه نقص وضرر يتعدى إلى الولد. أشبه ما لو شرطها حرة فبانت أمة. وأما كونه لا خيار له إذا شرطها كتابية فبانت (¬1) مسلمة على المذهب؛ فلأنه زاده خيراً. وأما كونه له الخيار على قول أبي بكر؛ فلأنه قد يكون له غرض في عدم وجوب العبادات. قال: (وإن شرطها أمة فبانت حرة فلا خيار له. وإن شرطها بكراً أو نسيبة أو جميلة أو شرط نفي العيوب التي لا يفسخ بها النكاح فبانت بخلافه فهل له الخيار؟ على وجهين). أما كون الزوج لا خيار له إذا شرط الزوجة أمة فبانت حرة؛ فلأنه ازداد بذلك خيراً. أشبه المبيع إذا شُرط فيه شرطٌ فبان الشرط خيراً مما شرط. وأما كونه لا خيار له إذا شرطها بكراً ... إلى آخره على وجه؛ فلأن النكاح لا يُرد بعيبٍ سوى العيوب السبعة. فلا يُرد بمخالفة الشرط؛ كما لو شرطت ذلك في الرجل. وأما كونه له الخيار على وجه؛ فلأنها صفة مقصودة. أشبه ما تقدم. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

قال: (وإن تزوج أمة يظنها حرة فأصابها وولدت منه: فالولد حر، ويفديهم بمثلهم يوم ولادتهم ويرجع بذلك على من غره، ويفرق بينهما إن لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء، وإن كان ممن يجوز له ذلك فله الخيار. فإن رضي المقام معها فما ولدت بعد ذلك فهو رقيق). أما كون الولد فيما ذُكر حراً؛ فلأن الزوج يظنه حراً. فأثر اعتقاده في حريته؛ كما لو وطئ أمة اشتراها يظنها ملكاً لبائعها فإذا هي مغصوبة. وأما كون الزوج يفدي أولاده؛ فلأن عمر وعلياً وابن عباس قضوا بذلك. وعن الإمام أحمد: لا يجب الفداء؛ لأن الولد انعقد حراً. فلم يملكه سيد الأمة فلم يجب فداؤه. والأول أولى لقضاء الصحابة. ولأن الولد نماء الأمة المملوكة وقد فوّت رقه. فوجب فداؤه؛ لفوات رقه بفعله. وأما كونه يفديهم بمثلهم على المذهب؛ فلما روى سعيد بن المسيب قال: «بِعتُ جاريةً لرجلٍ من العرب وانتمت إلى بعضِ العربِ. فتزوّجها رجلٌ من بني عذرة، ثم إن سيدها دبّ فاستاقها واستاقَ ولدها. فاختصموا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقضى على العذري بفداءِ ولده بغيره مكانَ كل غلامٍ بغلام، ومكانَ كل جاريةٍ بجارية». وعن الإمام أحمد رضي الله عنه: يفديهم بقيمتهم؛ لأن الحيوان ليس بمثل. وعنه: هو مخير بين المثل والقيمة؛ لأنهما جميعاً مرويان عن عمر رضي الله عنهما. وقال المصنف في المغني: الصحيح أنه يضمن بالقيمة؛ كسائر المضمونات المتقومات. وأما كون الفداء معتبراً يوم الولادة؛ فلأن الصحابة المقدم ذكرهم قضوا بذلك. ولأن المذكور محكوم بحريته عند الوضع. فوجب أن يضمنه حينئذ؛ لفوات رقه حينئذ.

وأما كون الزوج يرجع بالفداء على من غرّه؛ فلأن الصحابة المتقدم ذكرهم قضوا بذلك. ولم يذكر المصنف الرجوع بالمهر، والمذهب أنه يرجع به. قال القاضي: لأن عمر قضى به. ولأن العاقد ضمن له سلامة الوطء كما ضمن له سلامة الولد. فكما يرجع عليه بقيمته. فكذلك يرجع بالمهر. وعن الإمام أحمد: لا يرجع بالمهر. وأجازه أبو بكر؛ لأنه وجب عليه في مقابلة نفع وصل إليه وهو الوطء. فلم يرجع به؛ كما لو اشترى مغصوباً فأكله. بخلاف قيمة الولد فإنه لم يحصل في مقابلته عوض؛ لأنها وجبت بحرية الولد، وحرية الولد للولد لا لأبيه. وأما كونه يفرق بينه وبين الأمة إن كان (¬1) ممن لا يحل له نكاح الإماء. وهو من يجد الطَّول أو لا يخشى العنت؛ فلأنّا تبيّنا أن النكاح فاسد من أصله لعدم شرطه. وأما كونه له الخيار إن كان ممن يجوز له ذلك. وهو من لا يجد الطول ويخشى العنت؛ فلأنه عقد غُرّ فيه أحد الزوجين بحرية الآخر. فثبت له الخيار؛ كالآخر. وأما كون ما ولدت الزوجة بعد ذلك رقيقاً إذا رضي بالمقام مع الأمة؛ فلأن المانع من رقهم في المغرور اعتقاد الزوج حريتها، وقد زال ذلك بالعلم. قال: (وإن كان المغرور عبداً فولده أحرار، ويفديهم إذا عتق، ويرجع به على من غرّه). أما كون ولد العبد المغرور أحراراً؛ فلأنه ساوى الحر في السبب الموجب للحرية، وهو الاعتقاد. وأما كون العبد يفديهم إذا عتق فلفوات الرق المستحق. وإنما تأخر الفداء إلى العتق؛ لأنه لا مال له في الحال. وفيه وجه: أنه يتعلق برقبته قياساً على جنايته. ¬

_ (¬1) في أ: لم يكن. ولعل الصواب ما أثبتناه.

وفرّق المصنف بين الفداء وبين الجناية من حيث: إن الجناية من فعله. بخلاف الفداء فإنه لم يجئ في عتقهم، وإنما عتقوا من طريق الحكم. وأما كونه يرجع على من غره؛ فلما تقدم في الحرة. قال: (وإن تزوجت رجلاً على أنه حر أو تظنه حراً فبان عبداً فلها الخيار). أما كون الزوجة لها الخيار فيما ذكر؛ فلأن الخيار لما ثبت للعبد إذا غُرّ من أمة ثبت للأمة إذا غُرت بعبد. وأما كون قول المصنف: وإن تزوجت رجلاً؛ فيعمتد أن المرأة أمة أو أن حرية الرجل ليست من شروط النكاح؛ لأنها لو كانت حرة وكانت حرية الزوج شرطاً لصحة النكاح لم يكن لها خيار؛ لأن النكاح باطل من أصله والخيار يعتمد الصحة.

فصل [إذا عتقت الأمة وزحها حر] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإن عتقت الأمة وزوجها حر فلا خيار لها في ظاهر المذهب. وإن كان عبداً فلها الخيار في فسخ النكاح، ولها الفسخ بغير حكم حاكم). أما كون الأمة لا خيار لها إذا عتقت وزوجها حر في ظاهر المذهب؛ فلأنها كافأت زوجها في الكمال. فلم يثبت لها الخيار؛ كما لو أسلمت الكتابية تحت مسلم. وعن الإمام أحمد رضي الله عنه: لها الخيار؛ لما روت عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر بريرةَ، وكان زوجها حرًّا» (¬1). رواه النسائي. والأول أصح؛ لما تقدم. وأما خبر عائشة رضي الله عنها فيرويه عنها الأسود، وروى عنها القاسم بن محمد وعروة «أن زوج بريرة كان عبدًا» (¬2). وهما أخص بها من الأسود؛ لأنهما ابن أخيها وابن أختها. وروى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها «أن زوج بريرة كان عبدًا» (¬3). فتتعارض روايتاه وتبقى رواية غيره سالمة عن المعارض. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2235) 2: 270 أبواب الطلاق، باب من قال كان حرًا. وأخرجه الترمذي في جامعه (1155) 3: 461 كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج. وأخرجه النسائي في سننه (3450) 6: 163 كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها حر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2078) 1: 671 كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا أعتقت. وأخرجه أحمد في مسنده (25405) 6: 170. (¬2) ر. تخريج الحديث التالي. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2233، 2234) 2: 270 كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد. وأخرجه أحمد في مسنده (25796) 6: 209.

وقال ابن عباس: «كان زوجُ بريرةَ عبدًا أسود لبني المغيرة يقال له مُغيث» (¬1). رواه البخاري وغيره. وأما كونها لها (¬2) الخيار إذا كان عبداً؛ فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «كاتبتْ بريرة فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها، وكان عبداً فاختارتْ نفسَها» (¬3). رواه مالك في الموطأ وأبو داود والنسائي. ولأن عليها ضرراً في كونها حرة تحت العبد. فكان لها الخيار؛ كما لو تزوجت حرة شخصاً على أنه حر فبان عبداً. وأما كونها لها الفسخ بغير حكم حاكم؛ فلأنه مجمع عليه غير (¬4) مجتهد فيه. فلم يفتقر إلى حكم حاكم؛ كالرد بالعيب في المبيع. بخلاف خيار العيب في النكاح فإنه مجتهد فيه. فافتقر إلى حكم حاكم؛ كالفسخ للإعسار. قال: (فإن أُعتق قبل فسخها أو أمكنته من وطئها بطل خيارها). أما كون خيار الزوجة يبطل إذا عتق الزوج قبل فسخها؛ فلأن الخيار لدفع الضرر بالرق وقد زال بإعتاقه. فسقط؛ كالمبيع إذا زال عيبه. وأما كونه يبطل إذا أمكنته من وطئها قبل ذلك؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث بريرة: «وإن وَطِئَها فلا خِيارَ لها» (¬5). رواه الإمام أحمد والأثرم. وفي روايةٍ أبي داود: «فإن قَربَكِ فلا خِيارَ لك» (¬6). فإن قيل: إسقاط الخيار مرتب على نفس الوطء لا على ما إذا أمكنته. قيل: الوطء يقع على صورتين: أحدهما: في حال طوعها، والتمكين إذاً حاصل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4978) 5: 2023 كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تحت العبد. وأخرجه أبو داود في سننه (2231) 2: 270 كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد. (¬2) في أ: له. (¬3) أخرجه النسائي في سننه (3451) 6: 164 كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك. (¬4) زيادة يقتضيها السياق. (¬5) أخرجه أحمد في مسنده (16670) 4: 65. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (2236) 2: 271 أبواب الطلاق، باب حتى متى يكون لها الخيار.

وثانيهما: في حال إكراهها وذلك لا يسقط الخيار؛ لأنها معذورة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيانِ وما استكرهُوا عليه» (¬1). فعلى هذا يجب حمل الحديث على الصورة الأولى جمعاً بين الآثار وطرداً للقواعد. قال: (فإن ادعت الجهل بالعتق وهو مما يجوز جهله أو الجهل بملك الفسخ فالقول قولها، وقال الخرقي: يبطل خيارها علمت أو لم تعلم). أما كون القول قول الزوجة إذا ادعت الجهل بالعتق وهو مما يجوز جهله؛ مثل: أن يعتقها سيدها ببلد آخر على قول غير الخرقي؛ فلأن القول المذكور محتمل للصدق ويعضده الأصل؛ لأن الأصل عدم العلم. وفي تقييد ذلك بذلك إشعارٌ بأن العتق إن كان مما لا يجوز الجهل به؛ مثل: أن يكون ببلد المعتقة، واشتهر ذلك: لم يكن القول قولها؛ لأنه خلاف الظاهر. وأما كون القول قولها إذا ادعت الجهل بملك الفسخ على القول المتقدم ذكره؛ فلأن ذلك لا يعرفه إلا خواص الناس فيعضد صدقها الظاهر. وأما كون الخيار يبطل على قول الخرقي علمت أو لم تعلم؛ فلما تقدم من الحديث. وعن حفصة: «أنها قالت لامرأة عتقت تحت زوجها: أمْرُكِ بيدكِ ما لم يمسَّكِ فإن مسَّكِ فليس لكِ من الأمرِ شيء» (¬2). رواه مالك. وعن ابن عمر «لها الخيارُ ما لم يمسَّها» (¬3). ولأنه خيار عيب. فيسقط بالتصرف فيه مع الجهالة؛ كخيار الرد بالعيب. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2043) 1: 659 كتاب الطلاق، باب طلاق المكرة والناسي. (¬2) أخرجه الإمام مالك في موطئه (27) 2: 441 كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخيار. (¬3) أخرجه مالك في موطئه (26) 2: 441 الموضع السابق.

قال: (وخيار المعتقة على التراخي ما لم يوجد منها ما يدل على الرضا. فإن كانت صغيرة أو مجنونة فلها الخيار إذا بلغت وعقلت وليس لوليها الاختيار عنها). أما كون خيار المعتقة على التراخي؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عَتَقَتِ المرأةُ فهي بالخيارِ ما لم يطَأْهَا إن شاءتْ فارقَتْه» (¬1). رواه الإمام أحمد والأثرم. ولأنه (¬2) قول ابن عمر وأخته حفصة. قال ابن عبدالبر: لا أعلم لابن عمر وحفصة مخالفاً في الصحابة. ولأن الحاجة داعية إلى ذلك. فثبت؛ كخيار القصاص أو خيار لدفع ضرر متحقق. أشبه خيار القصاص. وأما كون الصغيرة والمجنونة لها الخيار إذا بلغت وعقلت؛ فلأنهما حينئذ صار لكلامهما حكم. بخلاف ما قبل ذلك. وأما كون وليهما ليس له الاختيار عنهما؛ فلأنه خيارٌ طريقه الشهوة. أشبه خيار القصاص. قال: (فإن طلقت قبل اختيارها وقع الطلاق. وإن عتقت المعتدة الرجعية فلها الخيار. فإن رضيت بالمقام فهل يبطل خيارها؟ على وجهين). أما كون الطلاق يقع إذا طلقت قبل اختيارها؛ فلأنه صادف نكاحاً. وأما كون المعتدة الرجعية لها الخيار إذا عتقت؛ فلأن نكاح الرجعية باق قبل الفسخ ولها في الفسخ فائدة؛ لأنها لا تأمن رجعته إذا لم يفسخ. وفي تقييده المعتدة بالرجعية إشعار بأن البائن لا خيار لها. وهو صحيح صرح به في المغني وغيره؛ لأن الفسخ إنما يكون في نكاح ولا نكاح للبائن. وأما كون الخيار يبطل إذا رضيت بالمقام معه على وجه؛ فلأنها رضيت بالمقام مع جريانها إلى البينونة وذلك ينافي الخيار. وأما كونه لا يبطل على وجه؛ فلأنها حالة يصح فيها اختيار المقام. فصح فيها اختيار الفسخ؛ كصلب النكاح. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (16670) 4: 65. (¬2) في أ: لأنه.

قال: (ومتى اختارت المعتقة الفرقة بعد الدخول فالمهر للسيد. وإن كان قبله فلا مهر. وقال أبو بكر: لسيدها نصف المهر). أما كون المهر للسيد إذا اختارت المعتقة الفرقة بعد الدخول؛ فلأن المهر استقر بالدخول. فيكون لمالكها حينئذ. وأما كونه لا مهر إذا اختارت الفرقة قبل الدخول على المذهب؛ فلأن الفرقة جاءت من قبلها. فسقط مهرها؛ كما لو أسلمت أو ارتدت أو أرضعت من يفسخ نكاحها رضاعه. وأما كون نصف المهر للسيد على قول أبي بكر؛ فلأنه وجب للسيد فلا يسقط بفعل غيره. وأجاب المصنف في المغني عن هذا بأنه وإن وجب للسيد لكن بواسطتها. وفيه نظر؛ لأن الأمة لو نكحت لم يسقط مهرها للمطاوعة كالحرة؛ لأنه حق للسيد. فلا يسقط بالبذل وفيه ما ذكر. قال: (وإن أعتق أحد الشريكين وهو معسر فلا خيار لها، وقال أبو بكر: لها الخيار). أما كون المعتق بعضها لا خيار لها على قول غير أبي بكر؛ فلأنه لا نص فيها ولا هي في معنى الحرة الكاملة؛ لأنها كاملة الأحكام وذلك مفقود في المعتق بعضها. وإنما اشترط المصنف رحمه الله تعالى اعتبار المعتق في ذلك لأنه لو كان موسراً لعتق الباقي بالسراية. فيكون لها الخيار؛ كحريتها كلها. وأما كونها لها الخيار على قول أبي بكر؛ فلأنها أكمل منه؛ لأنها ترث وتورث، وتحجب بقدر ما فيها من الحرية. وحكى المصنف في المغني قول أبي بكر روايةً. ونصر الأول لما تقدم. وقال: العقد صحيح فلا يفسخ بالمختلف فيه وهذه مختلف فيها. قال: (وإن أعتق الزوجان معاً فلا خيار لها. وعنه: ينفسخ نكاحهما). أما كون المعتقة مع زوجها لا خيار لها على المذهب؛ فلأن الحرية الطارئة بعد عتقها تمنع الفسخ. فالمقارنة أولى؛ كإسلام الزوجين.

وأما كون نكاحهما ينفسخ على روايةٍ ففيه بُعد، وكذلك لم يذكر المصنف لهذه دليلاً في المغني. وحمله على ما إذا وهب عبده سُرِّية وأذن له في التسري بها ثم أعتقهما جميعاً. وذكر أن جماعة رووا ذلك عن الإمام أحمد وأن الإمام احتج على ذلك بما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن عبداً له كان له سُرِّيتان فأعتقهما وأعتقه فنهاه أن يقربهما إلا بنكاحٍ جديد». ولأنها بإعتاقها خرجت عن أن تكون مملوكة. فلم يبح له التسري بها؛ كالحرة الأصلية. ثم قال: وأما إذا كانت امرأته فعتقا لم ينفسخ نكاحه بذلك؛ لأنه إذا لم ينفسخ بإعتاقها وحدها فلئلا ينفسخ بإعتاقهما معاً أولى.

باب حكم العيوب في النكاح

باب حكم العيوب في النكاح قال المصنف رحمه الله تعالى: (العيوب المثبتة للفسخ ثلاثة أقسام: أحدها: ما يختص الرجال. وهو شيئان: أحدهما: أن يكون الرجل مجبوباً قد قطع ذكره، أو لم يبق منه إلا ما لا يمكن الجماع به. فإن اختلفا في إمكان الجماع بالباقي فالقول قولها. ويحتمل أن القول قوله). أما كون العيوب المثبتة للفسخ ثلاثة أقسام؛ فلأن منها ما يختص الرجال، ومنها ما يختص النساء، ومنها ما يشترك فيه الرجال والنساء. أما كون ما يختص الرجال (¬1) شيئين؛ فلأن منها ما يكون جَباً، ومنها ما يكون عِنّة. وأما كون أحد الشيئين المذكورين: أن يكون الرجل مجبوباً قد قطع ذكره، أو لم يبق منه إلا ما لا يمكن الجماع معه؛ فلأن ذلك يمنع المقصود من النكاح. أشبه العنة. بل أولى؛ لأنه لا يرجى زواله. بخلاف العنة. وأما كون القول قول الزوجة إذا اختلفت هي والزوج في إمكان الجماع بالباقي على المذهب؛ فلأنها تدّعي شيئاً يعضده الحال فكان القول قولها، وذلك أن الذكر يضعف بالقطع. ولأنها ادعت عدم الوطء والأصل معها. وأما كونه يحتمل أن القول قوله؛ فلأنهما لو اختلفا في العنة كان القول قوله. فكذا هاهنا. ولأن له ما يمكن الجماع بمثله. أشبه من له ذكر قصير. ¬

_ (¬1) في أ: النساء.

قال: (الثاني: أن يكون عِنِّيناً لا يمكنه الوطء. فإن اعترف بذلك أُجّل سنة منذ ترافعه. فإن وطئ فيها، وإلا فلها الفسخ). أما كون ثاني الشيئين اللذين يختصان الرجال من العيوب المثبتة للفسخ: أن يكون الرجل عنيناً لا يمكنه الوطء؛ فلأن عمر رضي الله عنه قضى به (¬1). ولأن العنة معنى لا يمكن معه الوطء وذلك هو المقصود من النكاح. وأما كون الزوج يؤجل سنة منذ ترافعه الزوجة؛ فلأن عمر رضي الله عنه أجَّلَ العنّين سنة (¬2). ولأن ذلك العجز يحتمل أن يكون مرضاً. فضُربت له سنة لتمر به الفصول الأربعة: فإن كان من يبس زال في فصل الرطوبة، وإن كان من رطوبة زال في فصل الحرارة، وإن كان من انحراف مزاج زال في زمن الاعتدال. فإذا زالت الفصول الأربعة واختلفت عليه الأهوية (¬3) ولم يزل: علم أنه خلقة. وحكي عن أبي عبدالله أن أهل الطب يقولون: الداء لا يستجن في البدن أكثر من سنة ثم يظهر. وأما كون الزوجة لها الفسخ عند عدم الوطء في السنة؛ فلأنه يثبت عنته. فيثبت الفسخ؛ لما تقدم. قال: (وإن اعترفت أنه وطئها مرة بطل كونه عِنِّيناً. وإن وطئها في الدبر أو وطئ غيرها لم تزل العنة. ويحتمل أن تزول). أما كون الزوج يبطل كونه عِنِّيناً إذا اعترفت الزوجة أنه وطئها مرة؛ فلأنه قد تحققت قدرته على الوطء في هذا النكاح، وذلك يبطل عنته. ولأن حقوق الزوجة من استقرار المهر والعدة تثبت بالوطء مرة واحدة، وقد وجد. وأما كونه لا تزول عنته إذا وطئها في الدبر على المذهب؛ فلأنه ليس بمحل للوطء. أشبه الوطء دون الفرج. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في الحديث التالي. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (221) 3: 305 كتاب النكاح، باب المهر. (¬3) في أ: واختلفت الهواء. وما أثبتناه من الشرح الكبير 7: 571.

وأما كونه لا تزول عنته بوطء غيرها على المذهب؛ فلأن حكم كل امرأة معتبر بنفسها. ولأن الفسخ لدفع الضرر الحاصل بالعجز عن وطئها، وهو موجود هنا وإن وطئ غيرها. وأما كونه يحتمل أن تزول؛ فلأن العنة خلقة وجبلّة. فلا يختلف باختلاف المحل والنساء. ولأن ذلك يروى عن سمرة وعمر بن عبدالعزيز. وهذا الاحتمال هو اختيار ابن عقيل، ومقتضى قول أبي بكر. ذكره المصنف في المغني. قال: (وإن ادعى أنه وطئها وقالت أنها عذراء وشهد بذلك امرأة ثقة: فالقول قولها، وإلا فالقول قوله). أما كون القول قول الزوجة أنها عذراء إذا شهد بذلك امرأة ثقة؛ فلأن بكارتها أكذبت الزوج. إذ الوطء مع بقاء البكارة متعذر. وأما كون القول قول الزوج إذا لم تشهد امرأة ثقة بذلك؛ فلأن الشاهد تكذبه البكارة وهي منتفية. قال: (وإن كانت ثيباً فالقول قوله. وعنه: القول قولها. وقال الخرقي: يُخلى معها في بيت ويقال له: أخرج ماءك على شيء. فإن ادعت أنه ليس بمني جعل على النار فإن ذاب فهو مني وبطل قولها). أما كون القول قول الزوج على روايةٍ؛ فلأنه لا يعلم إلا من جهته. والأصل السلامة. وأما كون القول قول الزوجة على روايةٍ؛ فلأن الأصل عدم الإصابة. وأما كون الزوج يُخلى معها في بيت على قول الخرقي؛ فلأن ذلك طريق إلى العلم بصدقه أو كذبه. وأما كونه يقال له: أخرج ماءك على شيء؛ فلأن الإنزال علامة على عدم عنته؛ لأن العنّين يضعف عنه. فإذا أنزل واعترف أنه مني تبين صدقه وتحقق كذبها.

وأما كون الخارج يُجعل على النار إذا ادعت أنه ليس بمني؛ فلأن ذلك طريق إلى العلم بأنه مني؛ لأن المني لا يشبه إلا بياض البيض المنتن، وذلك يحترق بجعله في النار. وأما كونه منيًّا إذا ذاب؛ فلأن ذلك شأنه لا شأن ما يشبهه. وأما كون قولها يبطل عند ذلك فلتحقق كذبها أنه ليس بمني. فإن قيل: إذا عجز عن إخراج مائه. قيل: القول قولها؛ لأن الظاهر معها. فإن قيل: ما الصحيح في الخلاف المذكور؟ قيل: حكى المصنف في المغني إذا كانت ثيباً فالقول قوله في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلامه هنا لأنه قدم ذلك، ودليله ما تقدم. ولأنه يدعي سلامة العقد والأصل معه. وقال في موضع منه أيضاً: الصحيح ما قال الخرقي لدلالة الخبر والمعنى عليه. ثم قال: والصحيح أن القول قوله كما لو ادعى الوطء في الإيلاء. ثم قال: واعتبار خروج الماء ضعيف لأنه قد يطأ ولا يُنزل وقد يُنزل في غير وطء. فإن ضعف الذكر لا يمنع سلامة الظهر ونزول الماء. وقد يعجز السليم القادر على الوطء في بعض الأحوال. وليس كل من عجز في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات يكون عنِّيناً ولذلك جعلت مدته سنة. والله أعلم.

فصل [القسم الثاني] قال المصنف رحمه الله تعالى: (القسم الثاني: يختص النساء. وهو شيئان: الرَّتَق. وهو: كون الفرج مسدودًا لا مسلك للذكر فيه، وكذلك القَرْن والعَفَل. وهو: لحم يحدث فيه يسده. وقيل: القَرْن عظم والعَفَل رغوة فيه تمنع لذة الوطء). أما كون القسم الثاني يختص النساء فظاهر. وأما كونه شيئين؛ فلأنه تارة يكون مسداً، وتارة يكون انخراقاً. وأما كون كل واحد من الرَّتَق والقَرْن والعَفَل مثبتاً لخيار الفسخ؛ فلأنه يمنع من استيفاء مقصود النكاح. أشبه الجب والعنة. ولأن المرأة أحد العوضين في النكاح. فجاز ردها بعيب؛ كالصداق. أو أحد العوضين في عقد النكاح فجاز رده بالعيب. أو أحد العوضين. فثبت له الخيار بالعيب في الآخر؛ كالمرأة. وأما معنى ذلك فالرَّتَق بتحريك الراء والتاء كون الفرج مسدوداً يعني ملتصقاً لا يدخل الذكر فيه. قاله أبو الخطاب. قال الجوهري: الرَتَق مصدر قولك: امرأةٌ رَتْقَاءُ، بَيِّنةَ الرَتَق، لا يستطاع جماعُها لارْتتاق ذلك الموضع منها. وقد رَتَقْتُ الفتق أَرْتُقُهُ فارْتَتَقَ. أي: التأَم. وقال القاضي: الرتق والقرن والعفل لحم ينبت في الفرج. والقَرْن بفتح القاف وسكون الراء قيل: لحم كما تقدم. وقيل: عظم. والعَفَل بفتح العين والفاء قيل: لحم كما تقدم. وقيل: رغوة تمنع لذة الوطء. قاله أبو حفص. وقال الجوهري: هو شيء يخرج في قبل المرأة كالأُدْرة التي للرجال، والأُدْرة: نفخة في الخصية.

قال: (والثاني: الفتق. وهو: انخراق ما بين السبيلين، وقيل: انخراق ما بين مخرج البول والمني). أما كون الفتق مثبتاً للخيار أيضاً؛ فلأن فيه تنفيراً من الوطء. وربما فات مقصود الوطء. أشبه الجب والعنة وغيرهما من العيوب المثبتة للفسخ. وأما كون الفتق انخراق ما بين السبيلين على المذهب؛ فلأنه مصدر قولك: امرأة فتقاء. وهي المنفتقة الفرج؛ فلأن فيه تنفيراً. أشبه انخراق ما بين السبيلين.

فصل [القسم الثالث] قال المصنف رحمه الله تعالى: (القسم الثالث: مشترك بينهما. وهو: الجذام، والبرص، والجنون سواء كان مُطْبقاً أو يخنقُ في الأحيان. فهذه الأقسام يثبت فيها خيار الفسخ روايةً واحدة). أما كون الثالث مشتركاً بين الرجل والمرأة فظاهر؛ لأنه يقع بكل واحد منهما. وأما كون كل واحد من الجذام والبرص مثبتاً للفسخ؛ فلأنهما يثيران نفرة في النفس تمنع قربان أحدهما الآخر ويخشى تعديه إلى النفس والنسل، وذلك وسيلة مانعة من الاستمتاع. فأثبت كل واحد منهما لكل واحد فسخ النكاح؛ كالجَبِّ والعنّة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه تزوج امرأةً فرأى بكَشْحِهَا بياضا. فقال لها: البسي ثيابكِ والحقي بأهلِك» (¬1). وأما كون الجنون مثبتاً للفسخ أيضاً؛ فلأنه يثير النفرة المذكورة، ويخاف ضرره. وأما كون ما ذكر كذلك سواء كان مطبقاً أو يخنق في الأحيان. والمراد كونه دائماً أو يعتوره وقتاً دون وقت؛ فلأن النفس لا تسكن إلى من هذه حياته. وأما قول المصنف: فهذه الأقسام يثبت بها خيار (¬2) الفسخ روايةً واحدة؛ فتأكيد لما سبق، وتصريح بأنه لا خلاف عن الإمام أحمد في ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (15602) طبعة إحياء التراث. ولفظه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها وضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضا فانحاز عن الفراش. ثم قال: خذي عليك ثيابك ولم يأخذ مما أتاها شيئا». (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

فصل [في العيوب المختلف فيها] قال المصنف رحمه الله تعالى: (واختلف أصحابنا في البَخَر. وهو: نتن الفم. وقال ابن حامد: نتن في الفرج يثور عند الوطء، واستطلاق البول، والنجو، والقروح السيالة في الفرج، والباسور، والناصور، والخصاء. وهو: قطع الخصيتين، والسل. وهو: سل البيضتين، والوجاء. وهو: رضّهما، وفي كونه خنثى مشكلاً، وفيما إذا وجد أحدهما بصاحبه عيباً به مثله، أو حدث به العيب بعد العقد: هل يثبت الخيار؟ على وجهين. وإن علم بالعيب وقت العقد، أو قال: قد رضيت به معيباً، أو وجد منه دلالة على الرضا من وطء أو تمكين مع العلم بالعيب: فلا خيار له). أما كون البَخَر يثبت الخيار على وجه؛ فلأنه يثير نفرة. أشبه البرص. وأما كون البخر الذي يثبت الخيار نتن الفم على المذهب؛ فلأن النفرة تحصل بذلك. وأما كونه نتناً في الفرج يثور عند الوطء على قول ابن حامد؛ فلأن النفرة تحصل بذلك أيضاً. قال المصنف في المغني: إن أراد به أن يسمى بخراً ويثبت به الخيار، وإلا فلا معنى له. وأما كون استطلاق البول والغائط يثبت الخيار على وجه؛ فلأن النفرة تحصل به ويخشى تعدي النجاسة. وأما كون كل واحد من القروح السيالة في الفرج، والباسور. وهو: علة تحدث في المقعدة، والناصور. وهو: علة تحدث حوالي المقعدة يُثبت الخيار على وجه؛ فلأنه في معنى البَخَر.

وأما كون الخصاء يُثبت الخيار (¬1) على وجه؛ فلأن فيه نقصاً وعاراً يمنع الوطء. وقد روي «أن عمرَ رضي الله عنه قال لرجلٍ تزوجَ امرأةً وهو خصي: أَعْلمتها؟ قال: لا. قال: أعلمها ثم خيّرها». رواه أبو عبيد. وأما كون كل واحد من السل والوجاء يثبته على وجه؛ فلأنه في معنى الخصاء. وأما كون كونه خنثى مشكلاً يثبته على وجه؛ فلأن فيه نقصاً وعاراً ومضرة. أشبه الخصاء. وأما كون أحدهما إذا وجد بصاحبه عيباً به مثله يثبت الخيار على وجه؛ فلأن الذي يُثبت الخيار وجود العيب، وهو متحقق هنا. ولأن المساواة لا تبطل الخيار الثابت. بدليل ما لو غر عبداً بأمة. وأما كون من حدث به العيب بعد العقد يثبته على وجه؛ فلأنه عيب حدث للمعقود عليه. فأثبت الخيار؛ كالإجارة. وأما كون شيء مما تقدم لا يُثبت الخيار على وجه: أما في العيوب المذكورة؛ فلأنها لا نص فيها ولا إجماع ولا قياس؛ لأن الفرق بين المنصوص وبين ذلك كله ثابت. وأما إذا وجد بصاحبه عيباً مثله؛ فلأنهما متساويان ولا مزية لأحدهما على صاحبه. أشبها الصحيحين. وأما فيما إذا حدث به عيب بعد العقد؛ فلأنه عيب حدث بالمعقود عليه قبل لزوم العقد. أشبه الحادث بالمبيع. وأما كون من علم بالعيب وقت العقد، أو قال: قد رضيت به معيباً، أو وجد منه دلالة على الرضا من وطء أو تمكين مع العلم بالعيب لا خيار له؛ فلأنه عيب يثبت الخيار. فبطل مع ما ذكر؛ كالعيب في المبيع. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

قال: (ولا يجوز الفسخ إلا بحكم حاكم. فإن فسخ قبل الدخول فلا مهر، وإن فسخ بعده فلها المهر المسمى. وقيل عنه مهر المثل ويرجع به على من غرّه من المرأة والولي. وعنه: لا يرجع). أما كون الفسخ المذكور لا يجوز إلا بحكم حاكم؛ فلأنه مجتهد فيه. فاحتاج إلى حكم حاكم؛ كفسخ الاعسار بالنفقة. وفارق خيار المعتقة من جهة كونه معتقا عليه. وأما كونه لا مهر إذا فسخ قبل الدخول؛ فلما يأتي بعده. ولا فرق بين كون الزوجة هي الفاسخة أو الزوج في أن لا مهر قبل الدخول؛ لأن الفسخ إن كان منها فالفرقة من جهتها. فيسقط مهرها؛ كما لو أفسدته برضاع زوجة له أخرى. وإن كان منه فإنما فسخ لعيب بها دلسته بالإخفاء وصار الفسخ كأنه منها. فإن قيل: هلا جعل فسخها لعيبه كأنه منه لحصوله بتدليسه. قيل: العوض من الزوج في مقابلة منافعها فإذا اختارت فسخ العقد مع استدامة ما عقد عليه رجع العوض إلى العاقد معها، وليس من جهتها عوض في مقابلة منافع الزوج، وإنما ثبت لها الخيار لأجل ضرر يلحقها لا لتعذر ما استحقت عليه في مقابلته عوضاً. فافترقا. وأما كون المرأة لها المهر إذا فسخ العقد بعد الدخول؛ فلأن المهر يجب بالعقد ويستقر بالدخول. فلا يسقط بحادث بعده. وكذلك لا يسقط بردتها ولا يفسخ من جهتها. وأما كونه المسمى على المذهب؛ فلأنها فرقة بعد الدخول في نكاح صحيح فيه مسمى صحيح. فوجب المسمى؛ كغير المعيبة، وكالمعتقة تحت عبد. ويدل على أن النكاح صحيح أنه وجد بشروطه وأركانه. فكان صحيحاً؛ كما لو لم يفسخه. ولأنه لو لم يفسخ لكان صحيحاً. فكذلك إذا فسخه كنكاح الأمة إذا عتقت تحت عبد. ولأنه يترتب عليه أحكام الصحة من ثبوت [مهر المثل.

وأما كونه عليه مهر] (¬1) المثل على روايةٍ منقولة عن الإمام أحمد؛ فلأن الفسخ استبدال العقد. فصار كالعقد الفاسد. وأما كون الزوج يرجع بذلك على من غرّه من المرأة أو الولي على المذهب؛ فلما روى ابن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب: «أيما رجل تزوّجَ بامرأة بها جنونٌ أو جذامٌ أو برصٌ فلها صَدَاقَهَا وذلك لزوجهَا غُرْمٌ على وَليِّها» (¬2). ولأنه غره في النكاح بما يثبت الخيار. فكان المهر على الغارّ؛ كما لو غره بحرية أمة. وقول المصنف رحمه الله تعالى: من المرأة؛ يرجع عليها لأنها غارة. أشبهت الولي. وأما كونه لا يرجع على روايةٍ؛ فلأنه يروى عن علي رضي الله عنه. ولأنه ضمن ما استوفى بدله وهو الوطء. فلا يرجع به على غيره؛ كما لو كان المبيع معيباً فأكله. قال المصنف في المغني: الصحيح أن المذهب [أنه يرجع] (¬3) روايةً واحدة. قال الإمام أحمد: كنت أذهب إلى قول علي بن أبي طالب فهبته فملت إلى قول عمر: إذا تزوجها فرأى جذاماً أو مرضاً فإن لها المهر لمسيسه إياها ووليها ضامن الصداق. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه مالك في موطئه (9) 2: 416 كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق والحباء. (¬3) زيادة من الشرح الكبير 7: 583.

فصل قال المصنف رحمه الله تعالى: (وليس لولي صغيرة أو مجنونة ولا سيد أمة تزويجها معيباً، ولا لولي كبيرة تزويجها به بغير رضاها. فإن اختارت الكبيرة نكاح مجبوب أو عنّين لم يملك منعها. وإن اختارت نكاح مجنون أو مجذوم أو أبرص فله منعها في أصح الوجهين. وإن علمت العيب بعد العقد أو حدث به لم يملك إجبارها على الفسخ). أما كون ولي الصغيرة والمجنونة وسيد الأمة ليس له تزويجها من به أحد العيوب التي تثبت الفسخ؛ فلأن التزويج المذكور يعتمد النظر والحظ، ولا حظ في هذا العقد. فعلى هذا إذا وقع العقد مع العلم بالعيب لم يصح لأنه عقد لهن عقداً لم يجز عقده. فلم يصح؛ كما لو باع عقار الصبي بغير غبطة ولا حاجة. وإن لم يعلم بالعيب صح كما لو اشترى لهن معيباً لا يعلم عيبه. ويجب عليه الفسخ إذا علم؛ لأن غلبة النظر بما فيه الحظ، والحظ في الفسخ. ويحتمل أن لا يصح العقد؛ لأنه زوجهن ممن لا يملك تزويجهن به. فلم يصح؛ كما لو زوجهن بمن يحرم عليهن. وأما كون ولي الكبيرة ليس له تزويجها بمن ذكر بغير رضاها؛ فلأنها تملك الفسخ إذا علمت به بعد العقد. فلأن تملك المنع بطريق الأولى. وأما كون الولي لا يملك منع الكبيرة إذا اختارت نكاح مجبوب أو عنّين؛ فلأن ضرر ذلك مختص بها. وأما كونه له منعها إذا اختارت نكاح مجنون أو مجذوم أو أبرص في أصح الوجهين؛ فلأن عليها فيه ضرراً دائماً وعاراً عليها وعلى أهلها. فملك منعها منه، كالتزويج بغير كفء.

وأما كونه لا يملك منعها في وجه؛ لأن الضرر عليها. أشبه المجبوب. والأول أصح لا شتماله على ضررها وضرر أهلها بخلاف المجبوب. وذكر المصنف في المغني الخلاف المذكور في كل عيب. وحكى عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه قال: ما يعجبني أن يزوجها بعنين وإن رضيت الساعة تكره إذا دخلت عليه لأن من شأنهن النكاح ويعجبهن من ذلك ما يعجبنا. ثم قال: وذلك لأن الضرر في ذلك دائم والرضى غير موثوق بدوامه ولا تتمكن من التخلص إذا كانت عالمة في ابتداء العقد وربما أفضى إلى الشقاق. والعداوة فيتضرر وليها وأهلها فملك الولي منعها كما لو أرادت زواج من ليس (¬1) بكفء. والصحيح التفرقة بين الجَبّ والعنة وبين سائر العيوب المذكورة. ولأن الجب والعنة ضرر يختص بها. بخلاف بقية العيوب. فإن ضررها متعد إلى الولد. وأما كونه لا يملك إجبارها على الفسخ إذا علمت العيب بعد العقد أو حدث به؛ فلأن حق الولي في ابتداء العقد لا في دوامه. بدليل أنه يملك منعها من تزوج عبد، ولو عتقت تحت عبد لم يملك إجبارها على الفسخ. ¬

_ (¬1) في أ: ليست. وما أثبتناه من الشرح الكبير.

باب نكاح الكفار

باب نكاح الكفار قال المصنف رحمه الله تعالى: (وحكمه حكم نكاح المسلمين فيما يجب به، وتحريم المحرمات. ويُقرون على الأنكحة المحرمة ما اعتقدوا حلها ولم يرتفعوا إلينا. وعنه: في مجوسي تزوج كتابية أو اشترى نصرانية: يحول بينهما الإمام فيَخْرج من هذا أنهم لا يُقرون على نكاح مُحَرَّم). أما كون حكم نكاح الكفار حكم نكاح المسلمين فيما ذكر؛ فلأن أنكحتهم صحيحة؛ لأن الله تعالى أضاف النساء إليهم فقوله: {وامرأته حمالة الحطب} [المسد: 4]، وقوله: {امرأة فرعون} [التحريم: 11]. وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وُلدتُ من نكاحٍ لا من سِفَاح» (¬1). وإذا كانت صحيحة وجب فيها ما يجب في أنكحة المسلمين وحرم فيها ما يحرم فيها، لاشتراكهما في الصحة. فعلى هذا يقع طلاقهم ويصح ظهارهم وإيلاؤهم ويجب المهر بعقدهم والقَسْم وتحصل الإباحة للزوج الأول وغير ذلك من الأحكام. قال: ويقرون على الأنكحة الفاسدة ما اعتقدوا حلها ولم يرتفعوا إلينا على المذهب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر» (¬2). ولم يتعرض لأنكحتهم مع علمه بأنهم يستبيحون نكاح محارمهم. ولا يقرونهم على كفرهم فلأن يقرون على نكاح يعتقدون حله بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 529. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2987) 3: 1151 أبواب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب.

وأما كون المجوسي إذا تزوج كتابية أو اشترى نصرانية يحول بينهما الإمام على روايةٍ؛ فلأنه نكاح فاسد. أشبه المسلم إذا نكح نكاحاً فاسداً. وأما كونه يُخَرَّج من هذا أن الكفار لا يقرون على نكاح محرّم؛ فلأن الحيلولة المذكورة تقتضي عدم الإقرار، وإنما كان كذلك لكون النكاح فاسدا، وهذا موجود في نكاح غير المجوسي. فإن قيل: قد نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه يملك الحيلولة المذكورة لأن النصارى لهم كتاب. وعلل أبو بكر بأن علينا في ذلك ضرراً يعني تحريم أولاد النصرانية. قيل: في التخريج على ذلك إذاً نظر لأن ظاهر تعليل الإمام وأبي بكر ينفي هذا التخريج لأن الحيلولة إذا كانت لمعنى وجب أن يكون في المُخَرَّج. وكلا التعليلين مفقود في الأنكحة الفاسدة لأن من نكاحها يحرم لها دين ولا يحرم نكاح ولدها (¬1). فوجب اقتصار الحيلولة على المنصوص لانتفاء العلة المقتضية للحيلولة في غيره. قال: (وإن أسلموا أو ترافعوا إلينا في ابتداء العقد لم نُمْضِه إلا على الوجه الصحيح. وإن كان في أثنائه لم يتعرض لكيفية عقدهم، بل إن كانت المرأة ممن لا يجوز ابتداء نكاحها كذات محرمه ومن هي في عدتها أو شرط الخيار في نكاحها متى شاء أو مدة هما فيها أو مطلقة ثلاثاً فرق بينهما، وإلا أقرا على النكاح). أما كون الإمام لا يمضي نكاح الكفار إلا على الوجه الصحيح إذا أسلموا أو ترافعوا إليه في ابتداء العقد؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42]، وقال: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49]. ولأنه لا حاجة إلى عقده. بخلاف ذلك. وأما كونه لا يتعرض لكيفية عقدهم إذا أسلموا أو ترافعوا في أثنائه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أسلم في زمنه خلقٌ كثير وجَمٌ غفير فأقرَّهم على أنكحتهم ولم يسألهم النبي ¬

_ (¬1) كذا في أ.

صلى الله عليه وسلم عن شروط النكاح ولا عن كيفيته. وهذا أمر علم بالتواتر والضرورة. فكان يقيناً. وأما كونه يفرق بين الزوجين إذا كانت الزوجة ممن لا يجوز ابتداء نكاحها كما مثل المصنف؛ فلأن الاستدامة أضعف من الابتداء. فإذا لم يجز الابتداء وهو أقوى فلأن لا تجوز الاستدامة وهي أضعف بطريق الأولى. وأما كونهما يقران على نكاحهما إذا لم تكن المرأة كما ذكر؛ فلما تقدم ذكره من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (وإن قهر حربي حربية فوطئها أو طاوعته واعتقداه نكاحاً أقرا، وإلا فلا). أما كون الحربيين يقران على ما ذكر إذا اعتقداه نكاحاً؛ فلأن الصحيح في الكتابي اعتقاده الحل وهو موجود هنا. وأما كونهما لا يقران إذا لم يعتقداه نكاحاً؛ فلأن المصحح اعتقاد كونه نكاحاً، وهو منتف هاهنا. قال: (وإن كان المهر مسمى صحيحاً أو فاسداً قبضته استقر وإن كان فاسداً لم تقبضه فرض لها مهر المثل). أما كون المهر المسمى الصحيح يستقر قبض أو لم يقبض؛ فلأنه مسمى صحيح في نكاح صحيح. فوجب استقراره بشرطه؛ كتسمية المسلم. وأما كون الفاسد المقبوض يستقر؛ فلأنا لا نتعرض إلى ما فعلوه. ولأن المُحَرّم إذا قبضوه لا يتعرض إليه. بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا} [البقرة: 278]. أمر بترك ما بقي دون ما قُبض. وقال تعالى: {فمن جاءه موعظةٌ من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله} [البقرة: 275]. ولأن التعرض إليهم تنفيراً لهم عن الإسلام. فعفي عنه؛ كما عفي عما تركوه من الفرائض. ولأنهم تقابضوا بحكم الشرك وبرئت ذمة من هو عليه منه كما لو تبايعوا بيعاً فاسداً وتقابضوا. وأما كون المرأة يفرض لها مهر المثل إذا كان فاسداً ولم تقبضه؛ فلأن مهر المثل يفرض في التسمية الفاسدة إذا كانت الزوجة مسلمة، وكذلك الكافرة.

فصل [إذا أسلم الزوجان] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا أسلم الزوجان معاً، أو أسلم زوج الكتابية فهما على نكاحهما). أما كون الزوجين على نكاحهما إذا أسلما معاً أي دفعة واحدة؛ فلأنه لم يوجد منهما اختلاف دين. وقد روى ابن عباس «أن رجلاً جاءَ مسلماً على عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءت امرأته (¬1) مسلمةٌ بعدَه. فقال: يا رسولَ الله! إنها كانتْ أسلمتْ معي. فردَّها عليه» (¬2). وقول المصنف: معاً؛ يدل على أنه شرط كونهما على نكاحهما بلفظهما بالإسلام دفعة واحدة. وصرح به في المغني لأن اختلاف الدين مفسد للنكاح وبمجرد سبق أحدهما للآخر بالإسلام يحصل الاختلاف. ويحتمل أن يقف على المجلس لأن حكم المجلس حكم العقد. بدليل القبض ونحوه. ولأن اتفاقهما على النطق بكلمة الإسلام دفعة واحدة يتعذر. فلو اعتبر ذلك لوقعت الفرقة بين كل مسلمين إلا في الشاذ النادر. وأما كونهما على نكاحهما إذا أسلم زوج الكتابية؛ فلأن نكاح الكتابية يجوز ابتداؤه فالاستمرار أولى. ¬

_ (¬1) في أ: امرأة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2238) 2: 271 أبواب الطلاق، باب إذا أسلم أحد الزوجين.

قال: (وإن أسلمت الكتابية أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول انفسخ النكاح. فإن كانت هي المسلمة فلا مهر لها. وإن أسلم قبلها فلها نصف المهر. وعنه: لا مهر لها). أما كون النكاح ينفسخ إذا أسلمت الكتابية أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول؛ فلأن دينهما اختلف. فلم يجز استمراره؛ كابتدائه. وأما كون الزوجة لا مهر لها إن كانت هي المسلمة؛ فلأن الفرقة حصلت من جهتها. أشبه ما لو ارتدت. وعن الإمام أحمد رضي الله عنه لها نصف المهر ذكره المصنف في المغني وأبو الخطاب وغيرهما؛ لأن الفرقة حصلت من جهة الزوج بإبائه الإسلام وامتناعه منه وهي فعلت ما فرض الله عليها. أشبه ما لو علّق طلاقها على الصلاة فصلت. وفرّق المصنف بين إسلامها وبين التعليق من حيث: إن التعليق من جهة الزوج بخلاف الإسلام فإنه لا أثر له فيه البتة. وأما كونه لها نصف المهر على المذهب إذا أسلم قبلها؛ فلأن الفرقة حصلت من جهة الزوج. أشبه ما لو طلقها. وأما كونها لا مهر لها على روايةٍ؛ فلأن الفرقة حصلت بإبائه الإسلام. فكان من جهتها. ولأن في إيجاب المهر عليه تنفيراً له عن الإسلام لأنه يجتمع عليه فسخ النكاح مع وجوب المهر. قال: (وإن قالت: أسلمَ قبلي. وأنكرها: فالقول قولها. وإن قال: أسلمنا معاً فنحن على النكاح وأنكرته فعلى وجهين). أما كون القول قولها إذا قالت: أسلم قبلي وأنكرها؛ فلأنها تدعي استحقاق شيء أوجبه العقد وهو يدعي ما يسقطه. فلم يقبل قوله؛ لأن الأصل عدمه. وهذا تفريع على أنها تستحق نصف المسمى إذا سبقها بالإسلام. أما على الروايةِ الأخرى فلا فائدة في اختلافهما. وأما كون القول قولها إذا قالا: أسلمنا معاً فنحن على النكاح وأنكرته على وجه؛ فلأن الظاهر معها إذ يتعذر اتفاق إسلامهما دفعة واحدة.

وأما كون القول قول الزوج على وجه؛ فلأن الأصل بقاء النكاح والفسخ طارئ عليه. فكان القول قول من يوافق قوله الأصل؛ كالمنكر. وهذا الخلاف مبني على أنه يعتبر إسلامهما دفعة واحدة. أما إذا قيل: العبرة بالمجلس فينبغي أن يكون القول قول الزوج قولاً واحداً لأن الظاهر ينتفي حينئذ. قال: (وإن أسلم أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة. فإن أسلم الثاني قبل انقضائها فهما على نكاحهما، وإلا تبينا أن الفرقة وقعت حين أسلم الأول. فعلى هذا لو وطئها في عدتها ولم يسلم الثاني فعليه المهر، وإن أسلم فلا شيء لها، وإذا أسلمت قبله فلها نفقة العدة، وإن كان هو المسلم فلا نفقة لها، وإن اختلفا في السابق منهما فالقول قولها في أحد الوجهين. وعنه: أن الفرقة تتعجل بإسلام أحدهما كما قبل الدخول، وأما الصداق فواجب بكل حال). أما كون الأمر يوقف على انقضاء العدة على المذهب فيما إذا أسلم أحد الزوجين قبل الدخول؛ فلما روى ابن شهاب قال: «كان بين إسلامِ صفوانَ بن أمية وامرأته بنت الوليد بن المغيرة نحوٌ من شهر. أسلمتْ يوم الفتح وبقيَ صفوان حتى شهد حنيناً والطائف وهو كافر. فلم يفرّق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما واستقرّت عنده امرأتُه بذلك النكاح» (¬1). رواه مالك في الموطأ. وقال ابن عبدالبر: وشُهرة هذا الحديث أقوى من إسناده. وقال ابن شهاب: «أسلمتْ أم حكيم يوم الفتح وهربَ زوجُها عكرمةُ حتى أتى اليمن. فارتحلتْ حتى قدمت عليه اليمن فدعتهُ إلى الإسلام. فأسلمَ وقدمَ فبايعَ النبي صلى الله عليه وسلم. فثَبَتَا على نِكاحِهِما» (¬2). و«لأن أبا سفيان أسلمَ عام الفتح قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة ولم تسلم هند حتى فتحت مكة فثبتا على نكاحهما» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في موطئه (44 - 45) 2: 428 - 429 كتاب النكاح، باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله. (¬2) أخرجه مالك في موطئه (46) 2: 429 الموضع السابق. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 186 كتاب النكاح، باب من قال: لا ينفسخ النكاح بينهما بإسلام أحدهما ...

وقال ابن شبرمة: «كان الناسُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يسلمُ الرجلُ قبلَ المرأة والمرأةُ قبل الرجل فأيُّهما أسلمَ قبلَ انقضاءِ عدّةِ المرأةِ فهيَ امرأتهُ. فإن أسلمَ بعدَ العدةِ فلا نكاحَ بينهما» (¬1). ولأنه لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته. فإن قيل: فما الفرق بين المدخول بها وغير المدخول بها؟ قيل: غير المدخول بها لا عدة لها. فتتعجل البينونة؛ كما لو طلقها واحدة. وأما كون الزوجين على نكاحهما إذا أسلم الثاني قبل انقضاء العدة؛ فلما ذكر قبل. ولأن فائدة وقوف الأمر ذلك. وأما كوننا نتبين أن الفرقة وقعت حين أسلم الأول إذا لم يسلم الآخر؛ فلأن سبب الفرقة اختلاف الدين. فوجب أن تحتسب الفرقة منه؛ كالطلاق. وأما كون الزوج عليه مهر المثل إذا وطئها في عدتها ولم تسلم هي؛ فلأنه تبين أنه وطئ بائناً منه. أشبه ما لو وطئ مختلعة في عدتها. وأما كونها لا شيء لها إذا أسلم هو؛ فلأنه وطئ زوجته. وأما كونها لها نفقة العدة إذا أسلمت قبله؛ فلأنها محبوسة بسببه. ولأنه يتمكن من بقاء نكاحها واستمتاعه منها بإسلامه معها فكانت لها النفقة كالرجعية. وأما كونها لا نفقة لها إذا كان هو المسلم؛ فلأنه لا سبيل لها إلى استيفاء نكاحها وتلافي حالها. أشبهت البائن. وأما كون القول قولها إذا اختلف في السابق منهما في وجه؛ فلأن الأصل وجوب النفقة وهو يدعي سقوطها. وأما كون القول قوله في وجه؛ فلأنه منكر، والقول قول المنكر. وأما كون الفرقة تتعجل بإسلام أحدهما كما قبل الدخول على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تُمسكوا بعِصَم الكوافر} [الممتحنة: 10]. ¬

_ (¬1) أخرج البيهقي نحوه في السنن الكبرى عن ابن عباس 7: 187 كتاب النكاح، باب من قال: لا ينفسخ النكاح بينهما بإسلام أحدهما ...

ولأن فسخ النكاح لا يختلف قبل الدخول وبعده كالرضاع. والأول أصح؛ لما تقدم من إسلام الجم الغفير والخلق الكثير في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يُعلم أنه فرق بين أحد وبين زوجته. وأما كون الصداق واجباً بكل حال؛ فلأنه استقر بالدخول. فلم يسقط بشيء.

فصل [إذا ارتد أحد الزوجين] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإن ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح. ولا مهر لها إن كانت هي المرتدة. وإن كان هو المرتد فلها نصف المهر). أما كون النكاح ينفسخ بردة أحد الزوجين قبل الدخول فلأنه اختلاف دين يمنع الإصابة. فأوجب فسخ النكاح؛ كما لو أسلم أحد الزوجين الوثنيين. وأما كون الزوجة لا مهر لها إن كانت هي المرتدة؛ فلأن الفسخ من جهتها. وأما كونها لها نصف المهر إذا كان هو المرتد؛ فلأن الفسخ من جهته. فهو كما لو طلقها قبل الدخول. قال: (وإن كانت الردة بعد الدخول فهل تتعجل الفرقة أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين. وإن كان هو المرتد فلها نفقة العدة. وإن كانت هي المرتدة فلا نفقة لها). أما كون الفرقة بعد الدخول تتعجل بالردة أو تقف على انقضاء العدة على روايتين. أي المتقدم ذكرهما (¬1)؛ فلما مضى من توجيههما فيما إذا أسلم أحد الزوجين غير الكتابيين حينئذٍ؛ لأن هذا في معناه. وأما كون الزوجة لها نفقة العدة إذا كان الزوج هو المرتد؛ فلأنه يتمكن من الاستمتاع بها بأن تسلم. فكانت النفقة عليه؛ كالرجعية. وأما كونها لا نفقة لها إذا كانت هي المرتدة؛ فلأنه لا سبيل للزوج إلى تلافي نكاحها. فلم يكن لها نفقة؛ كما بعد العدة. ¬

_ (¬1) ص: 642.

قال: (وإن انتقل أحد الكتابيين إلى دين لا يقر عليه فهو كردته). أما كون انتقال من ذُكر إلى ما ذُكر كردته؛ فلأنه رجوع عن دينه إلى دين لا يقر عليه. فكان حكمه حكم المرتد؛ لاشتراكهما في المعنى. وأما كون بيان ما يقر عليه وما لا يقر عليه فقد تقدم ذكره في موضعه فلا حاجة إلى إعادته.

فصل [إذا أسلم وتحته من يحرم جمعهن] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإن أسلم كافر وتحته أكثر من أربع نسوة فأسلمن معه اختار منهن أربعاً وفارق سائرهن. فإن لم يختر أجبر عليه. وعليه نفقتهن إلى أن يختار منهن أربعاً). أما كون من أسلم وتحته أكثر من أربعة نسوة فأسلمن معه يختار منهن أربعاً ويفارق سائرهن؛ فـ «لأن غيلان بن سلمةَ أسلمَ وتحتَهُ عشرُ نسوةٍ فأسلمنَ معهُ فأمرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم أن يختارَ منهن أربعاً» (¬1). رواه الترمذي وابن ماجة. وفي لفظ: «اخترْ منهُنّ أربعاً وفارقْ سائرهن» (¬2). وروى قيس بن الحارث قال: «أسلمتُ وتحتي ثمان نسوة. فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اخترْ منهنّ أربعاً» (¬3). رواه أبو داود وابن ماجة. فإن قيل: ما صفة الاختيار؟ قيل: يقول: اخترت نكاح هؤلاء، أو أمسكتهن، أو اخترت حبسهن، أو إمساكهن، أو نكاحهن، أو ما أشبه ذلك. وإذا وقع الاختيار فالعدة منه؛ لأن البينونة تحصل عنده. ويحتمل أن يكون من حين الإسلام؛ لأن البينونة الحقيقية إنما حصلت بالإسلام وإنما الاختيار بَيّن محلها. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1128) 3: 435 كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده عشر نسوة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1953) 1: 628 كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة. (¬2) أخرجه الشافعي في مسنده (43) 2: 16 كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح. ولفظه: «أمسكْ أربعاً وفارقْ سائرهن». (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2241) 2: 272 أبواب الطلاق، باب في من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1952) 1: 628 الموضع السابق.

وأما كون من ذكر يجبر على الاختيار إذا لم يختر؛ فلأنه حق عليه يمكنه فعله وهو ممتنع منه. فأجبر عليه؛ كإيفاء الدين. بيان أنه حق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به غيلان وقيساً (¬1)، وأمره للوجوب. وإذا وجب عليهما وجب على من ساواهما في المعنى الذي وجب الاختيار من أجله؛ لوجود العلة. ولقوله عليه السلام: «حُكمي على الواحدِ حُكمي على الكُل» (¬2). وأما كونه عليه نفقتهن إلى أن يختار؛ فلأنهن في حبسه لأن له أن يختار من شاء منهن. فإن قيل: هذا اختيار الحاكم كالمُولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق. قيل: الخيار هاهنا خيار تشهي، ولا سبيل إليه إلا بمعرفة منه. قال: (فإن طلق الجميع ثلاثاً أقرع بينهن فأُخرج بالقرعة أربعٌ منهن، وله نكاح البواقي). أما كون المطلقات بما ذكر يقرع بينهن؛ فلتمييز الزوجات اللواتي هن محل الطلاق. وأما كون أربع منهن يخرجن بالقرعة؛ فلأن ذلك فائدة الإقراع. وأما كون المطلق له نكاح البواقي فلأنهن لم يطلقن منه. وشرط هذا النكاح: أن تنقضي عدة المطلقات. ذكره المصنف في المغني؛ لئلا يكون جامعاً بين أكثر من أربع. واشترط المصنف رحمه الله تعالى هنا في طلاق الجميع: أن يكون ثلاثاً؛ لأنه لو طلقهن أقل من ذلك لكان طلاقهن رجعياً، ويقرع بينهن وبين المختارات؛ لما سبق. ¬

_ (¬1) سبق ذكر حديثي غيلان وقيس قريباً. (¬2) قال الزركشي في كتابه المعتبر (ص: 157): لا يعرف بهذا اللفظ. ولكن معناه ثابت أخرجه الترمذي في جامعه (1597) 4: 151 كتاب السير، باب ما جاء في بيعة النساء. بلفظ: «إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامراة واحدة». وأخرجه النسائي في سننه (4181) 7: 149 كتاب البيعة، بيعة النساء. بلفظ: «إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة».

قال: (وإن ظاهر أو آلى من إحداهن فهل يكون اختيارًا لها؟ على وجهين). أما كون ذلك اختياراً لها على وجهٍ؛ فلأن حكم الظهار والإيلاء لا يثبت في غير زوجة. وأما كونه لا يكون اختياراً لها على وجهٍ؛ فلأنه يصح في غير زوجة. قال: (وإن مات فعلى الجميع عدة الوفاة. ويحتمل أن يلزمهن أطول الأمرين من ذلك، أو ثلاثة قروء). أما كون الجميع عليهن عدة الوفاة على المذهب؛ فلأن الزوجات لم يتعين منهن. وأما كونه يحتمل أن يلزمهن أطول الأمرين مما ذكر فلأن كل واحدةٍ منهن يحتمل أن تكون مختارة أو مفارقة. وعدة المختارة عدة الوفاة، وعدة المفارقة ثلاثة قروء فأوجبنا أطولهما لتنقضي العدة بيقين؛ كما قلنا فيمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها. قال: (والميراث لأربع منهن بالقرعة). أما كون الميراث لأربع منهن؛ فلأنه لا يجوز أن يرث أكثر من أربع؛ لأن الميراث هنا بالزوجية، ولا زوجية فيما زاد على الأربع. وأما كون ذلك بالقرعة؛ فلأن المستحق مبهم. أشبه ما إذا أعتق أحد عبديه عيناً ثم أنسيه. قال: (وإن أسلم وتحته أختان اختار منهما واحدة. وإن كانتا أماً وبنتاً فسد نكاح الأم. وإن كان دخل بالأم فسد نكاحهما). أما كون من أسلم وتحته أختان يختار واحدة منهما؛ فلما روى الضحاك بن فيروز (¬1) الديلمي عن أبيه قال: «أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله! إني ¬

_ (¬1) في أ: فيروز بن الضحاك.

أسلمتُ وتحتي أُختان. فقال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اختر أيتَهُما شِئْت» (¬1). رواه ابن ماجة. وأما كون نكاح الأم يفسد إذا كانت أماً وبنتاً؛ فلأنها تحرم بنفس العقد لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما رجلٍ نكحَ امرأةً فدخلَ بها أو لم يَدخلْ فلا يحلُّ لهُ نِكاحُ أمِّهَا» (¬2). رواه ابن ماجة. وأما كون نكاحهما يفسد إذا كان دخل بالأم: أما الأم؛ فلما تقدم. وأما البنت؛ فلأنها تحرم بالدخول؛ لما تقدم في موضعه، وقد وجد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2243) 2: 272 كتاب الطلاق، باب في من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان. وأخرجه الترمذي في جامعه (1130) 3: 436 كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1951) 1: 627 كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أختان. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1117) 3: 425 كتاب النكاح، باب ما جاء فيمن يتزوج المرأة ثم يطلقها. ولم أقف عليه في ابن ماجة.

فصل [إذا أسلم وتحته إماء] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإن أسلم وتحته إماء فأسلمن معه وكان في حال اجتماعهم على الإسلام ممن يحل له نكاح الإماء فله الاختيار منهن، وإلا فسد نكاحهن). أما كون من أسلم وتحته إماء فأسلمن معه له الاختيار منهن إذا كان في حال اجتماعهم على الإسلام ممن يحل له الإماء. والمراد به: أن يكون خائف العنت عادماً لطَوْل الحرة وثمن الأمة؛ فلأنه يجوز (¬1) له أن يبتدئ نكاح الأمة. فلأن يجوز له الاستدامة بطريق الأولى. فإن قيل: كم يختار منهن؟ قيل: واحدة. فإن لم تعفه فهل له أن يختار ولو إلى أربع؟ فيه روايتان مضى توجيههما في نكاح الأمة (¬2). وقوله: وكان في حال اجتماعهم: فيه تنبيه على أن شرطي الحل يشترط وجودهما حال الاجتماع على الإسلام؛ لأنه حال الاختيار. ولا يشترط وجودهما حين إسلامه وحده؛ لأنه ليس وقت الاختيار. وسيتضح ذلك بما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى. وأما كون نكاح الإماء يفسد إذا كان من أسلم ممن لا يحل له نكاح الإماء وهو من لم يخف العنت أو كان واجداً للطَّول المتقدم ذكره؛ فلانتفاء شرط الصحة. ¬

_ (¬1) في أ: لا يجوز. والصواب ما أثبتناه. (¬2) ص: 594.

قال: (وإن أسلم وهو موسر فلم يسلمن حتى أعسر: فله الاختيار منهن. وإن أسلمت إحداهن بعده ثم عتقت ثم أسلم البواقي فله الاختيار منهن. وإن عتقت ثم أسلمت ثم أسلمن لم يكن له الاختيار من البواقي. وإن أسلم وتحته حرة وإماء فأسلمت الحرة في عدتها قبلهن أو بعدهن انفسخ نكاحهن). أما كون من أسلم وهو موسرٌ فلم تسلم زوجاته حتى أعسر: له الاختيار منهن؛ فلأن الشروط تعتبر في وقت الاختيار، وهو وقت اجتماعهم على الإسلام، وهو حينئذٍ عادم للطول خائف للعنت. وأما كونه له الاختيار إذا أسلمت إحداهن بعده ثم عتقت ثم أسلم البواقي؛ فلأن الاعتبار بحالة الاختيار وحالة الاختيار حالة اجتماعهم على الإسلام وهن في تلك الحالة إماء. وأما كونه ليس له الاختيار إذا عتقت ثم أسلمت ثم أسلمن؛ فلأن بعضهن حالة الاجتماع على الإسلام حرة، ومن تحته حرة لم يكن له أن يختار أحداً من البواقي؛ لأنه اختيار مع وجود حرة. ولا بد أن يُلحظ فيمن عتقت ثم أسلمت حصول الإعفاف بها واحدة كانت أو أكثر. فإن لم يحصل جاز له أن يختار من البواقي ما يحصل به الإعفاف حتى يكمل أربعاً؛ لما تقدم في إحدى الروايتين. وأما كون نكاح الإماء ينفسخ إذا أسلم وتحته حرة وإماء فأسلمت الحرة في عدتها قبلهن أو بعدهن؛ فلأنه قادرٌ على الحرة فلا يختار أمَة. قال: (وإن أسلم عبدٌ وتحته إماء فأسلمن معه ثم أُعتق فله أن يختار منهن. وإن أسلم وأُعتق ثم أسلمن فحكمه حكم الحر لا يجوز أن يختار منهن إلا بوجود الشرطين فيه). أما كون العبد إذا أسلم وتحته إماء فأسلمن معه ثم أُعتق له أن يختار منهن؛ فلأنه زوج له الاختيار كغيره. والمراد: اختيار اثنتين لا غير؛ لأنه ثبت له الاختيار وهو عبد؛ لأن إسلامهن قبل عتقه والاختيار في حالة الإسلام.

وأما كون حكم من أسلم وأُعتق ثم أسلم زوجاته الإماء حكم الحر. والمراد به: أن له أن يختار أربعاً كالحر؛ فلأنه في وقت الاختيار ممن يحل له نكاح أربع، والاختيار أسهل من الابتداء فإذا جاز الابتداء فلأن يجوز الإمساك بطريق الأولى. وأما كونه لا يجوز أن يختار منهن إلا بوجود الشرطين فيه؛ فلأن الأمة لا يجوز له نكاحها إلا بوجودهما؛ لما تقدم.

كتاب الصداق

كتاب الصداق الصَّداق: هو العوض في النكاح. وله أسام: الصداق، والصدقة، والمهر، والنِّحلة، والفريضة، والأجر، والعلائق، والعقر، والحباء. وقد جاء ذلك مستعملاً: أما الصداق؛ ففيما روت عائشة: «أنها سُئلت عن صداق النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت: ثنتا عشرة أوقية ونش» (¬1) وفي حديث صفية: «جعل عتقها صداقها» (¬2). وأما الصدقة؛ ففي قوله تعالى: {وآتوا النساء صَدُقاتهن نِحْلة} [النساء: 4]؛ لأن الصَّدُقات جمع صدقة. وأما المهر؛ ففي حديث ابن مسعود: «لها مهرُ نسائها» (¬3). وأما النِّحلة؛ ففيما تقدم. قال الجوهري: يقال أعطاها مهرها نِحْلة. بالكسر. وأما الفريضة والأجر؛ ففي قوله تعالى: {فآتوهن أجورهن فريضة} [النساء: 24]. وأما العلائق؛ ففي قوله عليه السلام: «أدوا العلائِق. قالوا يا رسول الله! وما العلائق؟ قال: ما تراضَى به الأهلون» (¬4). وأما العقر؛ ففي قول عمر رضي الله عنه: «لها عقر نِسائِها». وأما الحباء؛ ففي قول الشاعر: أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم يعني: وكان الصداق من أدم. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 656. (¬2) سيأتي تخريجه قريباً. (¬3) أخرجه النسائي في سننه (3354) 6: 121 كتاب النكاح، إباحة التزويج بغير صداق. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (10) 3: 244 كتاب النكاح، باب المهر.

قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهو مشروع في النكاحٍ. ويستحب تخفيفه، وأن لا يعرى النكاح عن تسميته، وأن لا يزيد على صداق أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته. وهو: خمسمائة درهم). أما كون الصداق مشروعاً في النكاح فالأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وأُحِلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم مُحْصِنِين غيرَ مسافحين} [النساء: 24]، وقوله تعالى: {وآتوهن أجورهن} [النساء: 25]، {وآتوا النساء صدقاتهن نِحْلة} [النساء: 4]. وأما السنة؛ فما روى أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على عبدالرحمن بن عوف درع زعفران. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَهْيَم؟ قال يا رسول الله! تزوجتُ امرأة. فقال: ما أصدقتها؟ فقال: وزن نواةٍ من ذهب» (¬1). وعنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقَ صفيةَ وجعلَ عتقَها صَدَاقَهَا» (¬2) متفق عليهما. وأما الإجماع فإجماع المسلمون في الجملة على مشروعية الصداق في النكاح. وأما كون تخفيفه يستحب؛ فلما روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعظمُ النساء بركةً أيسرهن مؤونة» (¬3) رواه أبو حفص بإسناده. وعن عمر رضي الله عنه قال: «لا تغالوا في صُدُقَ النساء. فإنه لو كان مكرمة أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن الرجل ليغالي بصدقة امرأته حتى يكونَ لها عداوةٌ في قلبه. وحتى يقول: كُلِّفْتُ لكمْ عِلْقَ (¬4) القِرْبة» (¬5) أخرجه النسائي وأبو داود مختصراً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4872) 5: 1983 كتاب النكاح، باب الوليمة ولو بشاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1427) 2: 1042 كتاب النكاح، باب الصداق ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4798) 5: 1956 كتاب النكاح، باب من جعل عتق الأمة صداقها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1365) 2: 1045 كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (25162) 6: 145. (¬4) في أ: عرق. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (2106) 2: 235 كتاب النكاح، باب الصداق. وأخرجه الترمذي في جامعه (1114) 3: 422 كتاب النكاح، باب منه. وأخرجه النسائي في سننه (3349) 6: 118 كتاب النكاح، القسط في الأصدقة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1887) 1: 607 كتاب النكاح، باب صداق النساء. وأخرجه أحمد في مسنده (340) 1: 48.

وأما كون النكاح يستحب أن لا يعرى عن تسميته؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزوج بناته وغيرهن ويتزوج. فلم يكن يخلى ذلك من صداق. و«قال للذي زوجه الموهوبة: هل من شيء تصدقها به؟ فالتمس. فلم يجد شيئًا. قال: التمس ولو خاتمًا من حديد» (¬1). ولأنه أقطع للنزاع فيه. وأما كون المتزوج يستحب له أن لا يزيد على صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما فيه من التأسّي بهن، والاتباع لفعلهن. وأما كون صداقهن خمسمائة درهم؛ فلما روي: «أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن صداق النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت: ثنتا عشرة أوقية ونش. فقال: أبو سلمة: ما نَش؟ فقالت: نصف أوقية» (¬2) أخرجه النسائي وأبو داود. والأوقية: أربعون درهماً. قال: (ولا يتقدّر أقلّه ولا أكثره. بل كل ما جاز أن يكون ثمناً جاز أن يكون صداقاً من قليل وكثير، وعين ودين، ومعجل ومؤجل، ومنفعة معلومة؛ كرعاية غنمها مدة معلومة، وخياطة ثوب، ورد عبدها من موضعٍ معين. وإن كانت مجهولة؛ كرد عبدها أين كان، وخدمتها فيما شاءت: لم يصح. وإن تزوجها على منافعه مدة معلومة فعلى روايتين. وكل موضعٍ لا تصح التسمية وجب مهر المثل). أما كون الصداق لا يتقدر أقله؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزوج الموهوبة: التمس ولو خاتمًا من حديد» (¬3). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 660. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1426) 2: 1042 كتاب النكاح، باب الصداق. وأخرجه أبو داود في سننه (2105) 2: 234 كتاب النكاح، باب الصداق. وأخرجه النسائي في سننه (3347) 6: 116 كتاب النكاح، القسط في الأصدقة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1886) 1: 607 كتاب النكاح، باب صداق النساء. (¬3) سيأتي تخريجه ص: 660.

وعن عامر بن ربيعة «أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضيتِ من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم. فأجازه» (¬1). رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقًا ملء يده طعامًا كانت حلالاً له» (¬2). رواه الإمام أحمد. ولأن قوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24]: يدخل فيه القليل والكثير. ولأنه بدل منفعتها. فجاز ما تراضيا عليه من المال؛ كالبيع والإجارة وغيرهما من عقود المعاوضة. وأما كونه لا يتقدّر أكثره؛ فلأنه لا توقيف فيه بإجماع أهل العلم. قاله ابن عبدالبر. وقال الله عز وجل: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً} [النساء: 20]. وروي: «أن عمرُ أصدقَ أم كلثوم ابنة علي أربعينَ ألفاً» (¬3) رواه أبو حفص بإسناده. وعن أبي سعيد: «ملء مَسْكِ ثور ذهباً». وعن مجاهد: «سبعين ألف مثقال». وأما كونه يجوز بكل ما يجوز أن يكون ثمناً من قليل ... إلى قوله: ومنفعة معلومة؛ فلأنه أحد العوضين. أشبه عوض المبيع، والمبيع يجوز بذلك كله. وقد نبه الله تعالى على جواز كون الصداق منفعة معلومة بقوله: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حِجَج} [القصص: 27]. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1113) 3: 420 كتاب النكاح، باب ما جاء في مهور النساء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1888) 1: 608 كتاب النكاح، باب صداق النساء. وأخرجه أحمد في مسنده (15711) 3: 445. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (14866) 3: 355. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (16381) 3: 483 كتاب النكاح، من تزوج على المال الكثير وزوج به.

وأما قول المصنف رحمه الله تعالى: "كرعاية غنمها ... إلى قوله: من موضع معين"؛ فبيان لصور (¬1) من صور المنفعة المعلومة وتعداد لها. وأما كونه لا يصح إذا كانت المنفعة مجهولة؛ كرد عبدها أين كان، أو خدمتها فيما شاءت؛ فلأنه مجهول في عقد معاوضة. فلم يصح؛ كالعوض المجهول في البيع. وأما كونه إذا تزوجها على منافعه مدة معلومة يصح على روايةٍ؛ فلضبط منافعه بالمدة. وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأنها متبوعة فتفضي إلى الجهالة. وأما كون المهر يجب في كل موضعٍ لا تصح التسمية؛ فلأن فساد العوض يقتضي رد المعوض. وقد تعذر رده لصحة النكاح. فوجب قيمته وهو مهر المثل؛ كمن اشترى شيئاً بثمنٍ فاسد فقبض المبيع وتلف في يده فإنه يجب عليه رد قيمته. قال: (وإن أصدقها تعليم أبوابٍ من الفقه، أو الحديث، أو قصيدةٍ من الشعر المباح: صح. فإن كان لا يحفظها لم يصح. ويحتمل أن يصح، ويتَعلَّمُها ثم يُعلِّمُها. وإن تعلَّمتها من غيره لزمه أجرة تعليمها. وإن طلقها قبل الدخول وقبل تعليمها فعليه نصف الأجرة. ويحتمل أن يعلمها نصفها. وإن كان بعد تعليمها رجع عليها بنصف الأجرة). أما كون تعليم ما ذُكر يصح أن يكون صداقاً؛ فلأنه يصح أخذ الأجرة على ذلك كله. فصح أن يكون صداقاً؛ كمنافع الدار. وأما كونه لا يصح ذلك على المذهب إذا كان لا يحفظ ذلك؛ فلأنه أصدقها شيئاً لا يَقدر عليه. فلم يصح؛ كما لو استأجر من لا يحسن الخياطة لخياطة ثوبه. وأما كونه يحتمل أن يصح ويتعلمها ثم يعلمها: أما الصحة؛ فلأنه متمكن من تعلمها. فلم يكن عاجزاً بالكلية. وأما تعلمها وتعليمها؛ فليخرج عن عهدة ما وجب عليه. ¬

_ (¬1) في أ: لصوره.

وأما كونه يلزمه أجرة تعليمها إذا تعلمتها من غيره؛ فلأنه لما تعذر الوفاء بالواجب وجب الرجوع إلى بدله؛ كما لو وجب لها عليه مثليٌّ فعدم. فإنها تنتقل إلى القيمة. والتعليم بعد التعليم متعذر وبدله أجرته. فوجب الرجوع إليه. وأما كونه إذا طلقها قبل الدخول وقبل تعليمها عليه نصف الأجرة على المذهب؛ فلأنه لما طلقها بانت منه. فتعذر تعليمها؛ لكونها أجنبية لا يأمن الفتنة. وإذا تعذر تعليمها وهي تستحق نصف الصداق لطلاقها قبل الدخول وجب الرجوع إلى نصف أجرة التعليم لما تقدم. وأما كونه يحتمل أن يعلمها نصفها؛ فلأن ذلك موضع حاجة. أشبه سماع كلامها في المعاملات. واشترط المصنف في المغني: أن يكون التعليم من وراء حجاب، ولا بد منه؛ لأن النظر إلى الأجنبية حرام. وأما كونه يرجع عليها بنصف الأجرة إذا كان الطلاق بعد التعليم؛ فلأنه بالطلاق قبل الدخول يستحق الرجوع عليها بنصف ما أصدقها. لكن الرجوع بنصف التعليم متعذر. فوجب الرجوع في بدله وهو نصف الأجرة لما تقدم. قال: (وإن أصدقها تعليم شيء من القرآن معين لم يصح. وعنه: يصح. ولا يحتاج إلى ذكر قراءة مَنْ. وقال أبو الخطاب: يحتاج إلى ذلك). أما كون تعليم شيء من القرآن معين لا يصح أن يكون صداقاً على المذهب؛ فلأن الفروج لا تستباح إلا بالأموال؛ لأن الله تعالى قال: {أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24]، وقال: {ومن لم يستطع منكم طَوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات} [النساء: 25]. والطَّوْل: المال. وأما كون ذلك يصح أن يكون صداقاً على روايةٍ؛ فلما روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة. فقالت: إني وهبت نفسي لك. فقامت طويلاً. فقال له رجل: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال: هل عندك من شيء تصدقها؟ فقال: ما عندي إلا إزاري. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك. فالتمس شيئًا. قال: لا أجد شيئاً. قال: التمس ولو

خاتمًا من حديد. فالتمس. فلم يجد شيئًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن» (¬1) متفق عليه. ولأن تعليم القرآن منفعة معلومة مباحة. فجاز جعلها صداقًا؛ كتعليم قصيدة من الشعر المباح. فعلى هذه الرواية لا بد من تعيين ما يعلمها. فيقول: آية كذا، أو سورة كذا؛ لأنه إذا لم يعين ذلك يكون مجهولاً مفضياً إلى المنازعة والمخاصمة. وهل يحتاج إلى قراءة مَنْ؟ فيه وجهان: أحدهما: يحتاج؛ لأن القراءات بعضها صعب كقراءة حمزة، ومنها سهل كقراءة غيره. فافتقر ذلك إلى التعيين؛ كتعيين الآيات. والثاني: لا يحتاج إلى التعيين؛ لأن الاختلاف في ذلك يسير. والصحيح في المذهب: أن تعليم القرآن لا يكون صداقاً؛ لما تقدم. وأما حديث الموهوبة فقيل معناه: زوجتكها؛ لأنك من أهل القرآن؛ كما زوج أبا (¬2) طلحة على إسلامه فروى ابن عبد البر بإسناده «أن أبا طلحة أتى أم سليم يخطبها قبل أن يُسلم. فقالت: أتزوج بكَ وأنتَ تعبد خشبة؟ إن أسلمتَ تزوجتُ بك. فأسلم أبو طلحة. فتزوجها على إسلامه». ثم ليس في الحديث الصحيح ذكر التعليم. ويحتمل أنه كان خاصًا به، ويؤيده ما روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّج رجلاً على سورة من القرآن. ثم قال: لا تكون لأحد بعدك مهرًا» (¬3). رواه النجاد. ولأن تعليم القرآن لا يجوز أن يقع إلا قربة لفاعله. فلم يجز أن يكون صداقًا؛ كالصلاة والصوم وتعليم الإيمان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4842) 5: 1973 كتاب النكاح، باب السلطان ولي. وأخرجه مسلم في صحيحه (1425) 2: 1040 كتاب النكاح، باب الصداق. (¬2) ساقط من أ. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (642) 1: 176 كتاب النكاح، باب تزويج الجارية الصغيرة.

قال: (وإن تزوج نساء بمهرٍ واحدٍ، أو خالعهن بعوضٍ واحدٍ: صح، ويقسم بينهن على قدر مهورهن في أحد الوجهين، وفي الآخر: يقسم بينهن بالسوية). أما كون ما ذكر يصح؛ فلأن الغرض في الجملة معلوم. فلم يؤثر فيه جهالة ما لكل واحدةٍ؛ كما لو اشترى أربعة أعبد من رجل بثمن واحد. وأما كون المهر والعوض يقسم بينهن على قدر مهورهن في وجهٍ. وهو للقاضي وابن حامد؛ فلأن الصفقة إذا وقعت على شيئين مختلفي القيمة وجب تقسيط العوض بينهما بالقيمة؛ كما لو باع شقصاً وسيفاً، أو كما لو باع عبدين فوجد أحدهما حراً أو مغصوباً. فكذلك هاهنا. وأما كونه يقسم بينهن بالسوية في وجهٍ. وهو لأبي بكر؛ فلأنه أضافه إليهن إضافة واحدة. فكان بينهن بالسوية؛ كما لو وهبه لهن، أو أقر لهن، وكما لو اشترى جماعة ثوباً بأثمان مختلفة ثم باعوه مرابحة أو مساومة فإن الثمن بينهم بالسوية وإن اختلفت رؤوس الأموال. ولأن القول بتقسيطه يفضي إلى جهالة العوض لكل واحدةٍ منهن وذلك يفسده. وظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى في المغني تصحيح الأول؛ لأنه أجاب عن مسألة (¬1) المتاجرة بالمنع. وبتقدير التسليم أن القيمة فيها واحدة. بخلاف ما ذكر. وعن الإقرار والهبة بأنه ليس فيهما قيمة. بدليل ما تقدم. ¬

_ (¬1) في أ: المسألة.

فصل [في كون الصداق معلوماً] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ويشترط أن يكون معلوماً؛ كالثمن. وإن أصدقها داراً غير معينة أو دابة: لم يصح. وإن أصدقها عبداً مطلقاً لم يصح. وقال القاضي: يصح، ولها الوسط. وهو: السندي). أما كون الصداق يشترط أن يكون معلوماً كالثمن؛ فلأن الصداق عوض في عقد معاوضة. فاشترط كونه معلوماً؛ كالعوض في البيع والإجارة. ولأن غير المعلوم مجهول لا يصح عوضاً في البيع. فلم يصح تسميته؛ كالمُحرّم. وأما كون من أصدق داراً غير معينة أو دابة لا يصح؛ فلأن الصداق يشترط أن يكون معلوماً لما تقدم، وذلك مفقود فيما ذكر. وأما كون من أصدق عبداً مطلقاً لا يصح على المذهب؛ فلأنه غير معلوم. وأما كونه يصح على قول القاضي؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العلائق: ما تراضى عليه الأهلون» (¬1). ولأنه موضع ثبت فيه العوض في الذمة بدلاً عما ليس المقصود فيه المال. فثبت مطلقاً؛ كالدية. ولأن جهالة التسمية هنا أقل جهالة [من مهر المثل، و] (¬2) إن كانت مهر المثل صح. فكذلك هنا. فإن قيل: تصحيح القاضي ذلك مطلقاً أو بقيد؟ قيل: بل بقيد. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 654. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

قال صاحب المغني فيه: أن القاضي يصحح المهر مجهولاً ما لم تزد جهالته على جهالة مهر المثل كعبدٍ وفرسٍ من جنس معلوم. فلو كان دابة أو حيواناً ونحو ذلك لم يصح؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة الوسط. وأما كون الزوجة لها الوسط على قوله؛ فلأنه أقرب إلى العدل. وأما كون الوسط السندي؛ فلأن الأعلى التركي، والأسفل الزنجي، والسندي بينهما. فيكون الوسط. والأول أصح؛ لما ذكر. وأما الخبر فالمراد ما تراضوا عليه مما يصلح عوضاً. بدليل سائر ما لا يصلح. وأما الدية فإنها تثبت بالشرع لا بالعقد. وهي خارجة عن القياس في تقديرها، ومن وجبت عليه. فلا ينبغي أن تجعل أصلاً. ثم الحيوان الثابت فيها موصوف بسنه مقدر بقيمته. فكيف يقاس عليه العبد المطلق؟ . وأما كون جهالة المطلق أقل من جهالة مهر المثل فممنوع؛ لأن العادة في القبائل والقرى أن (¬1) يكون لنسائهم مهر لا يكاد يختلف إلا بالثيوبة والبكارة. فيكون إذاً معلوماً. قال: (وإن أصدقها عبداً من عبيده لم يصح. ذكره أبو بكر. وروي عن أحمد: أنه يصح، ولها أحدهم بالقرعة. وكذلك يُخَرّج إذا أصدقها دابة من دوابه، أو قميصاً من قمصانه ونحوه). أما كون الصداق لا يصح أن يكون عبداً من عبيده على ما ذكره أبو بكر؛ فلأنه مجهول. فلم يصح؛ كما لو باعه عبداً من عبيده. وأما كونه يصح على روايةٍ؛ فلأن الجهالة يسيرة ويمكن التعيين بالقرعة. وأما كون الزوجة لها أحدهم بالقرعة؛ فلأنه إذا صح أن يكون صداقاً استحقت واحداً غير معين. فشرعت له القرعة مميزة؛ كما لو أعتق أحد العبدين. وأما كون بقية الصور يخرج فيها كذلك؛ فلأنها في معناه. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

قال: (وإن أصدقها عبداً موصوفاً صح. وإن جاءها بقيمته، أو أصدقها عبداً وسطاً وجاءها بقيمته، أو خالعته على ذلك فجاءته بقيمته: لم يلزمهما قبولها. وقال القاضي: يلزمهما ذلك). أما كون الصداق يصح أن يكون عبداً موصوفاً؛ فلأنه يصح أن يكون عوضاً في البيع. فصح أن يكون عوضاً في النكاح. ولأن الصفة تنزله منزلة المرئي. فجاز جعله صداقاً؛ كالمعين. وأما كون الزوجين لا يلزمهما قبول القيمة على المذهب في ذلك، وفيما إذا أصدقها عبداً وسطاً وجاءها بقيمته، وفيما إذا خالعها على ذلك وجاءته بقيمته؛ فلأن المستحق عبد بعقد معاوضة. فلم يلزم قبول القيمة عوضاً عوضاً عنه؛ كالمسلم فيه. ولأنه عبد وجب صداقاً أو عوض خلع. فلم يلزم قبول القيمة فيه؛ كما لو كان معيباً. وأما كونهما يلزمهما ذلك على قول القاضي؛ فلأنه مستحق في الذمة. فلزم قبول القيمة فيه؛ كالإبل في الدية. والأول أصح؛ لما ذكر. وأما الدية فلا يلزم فيها أحد قيمة الإبل وإنما الأثمان أصل في الذمة كالإبل فلزم فيه القبول؛ لأن ذلك أصل لا على طريق القيمة. بخلاف هذه المسألة. ثم الدية خارجة عن القياس فلا يقاس عليها. ثم القياس على عقود المعاوضات أولى من القياس على غير عقود المعاوضات. قال: (وإن أصدقها طلاق امرأة له أخرى لم يصح. وعنه: يصح. فإن فات طلاقها بموتها فلها مهرها في قياس المذهب). أما كون الصداق لا يصح أن يكون طلاق امرأة له أخرى على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسأل المرأةُ طلاقَ أختها لتَكْتفِئَ ما في صَحْفتَها، ولْتنكِحْ فإنما لها ما قدِّرَ لها» (¬1) حديث صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6227) 6: 2435 كتاب القدر، باب {وكان أمر الله قدراً مقدوراً}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1408) 2: 1029 كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل لرجلٍ أن ينكحَ امرأةً بطلاقِ أخرى» (¬1). ولأن ذلك ليس بمال، والمهر لا يكون إلا مالاً؛ لقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24]. ولأن هذا لا يصح ثمناً في بيع، ولا أجراً في إجارة. فلم يصح صداقاً؛ كالمنافع المحرمة. فعلى هذا يكون لها مهر المثل؛ لما تقدم. وأما كون ذلك يصح على روايةٍ؛ فلأنه فعل لها فيه فائدة ونفع لما يحصل لها من الراحة بطلاقها من مقاسمتها وضررها والغيرة منها. فصح جعل ذلك صداقاً؛ كعتق أبيها وخياطة قميصها. وأما كون الزوجة لها مهر ضرتها في قياس المذهب إذا بان طلاقها بموت؛ فلأنه سمى لها صداقاً لم يصل إليه فكان لها قيمته؛ كما لو أصدقها عبداً فخرج حراً. وقول المصنف رحمه الله تعالى: في قياس المذهب مشعر بالخلاف. وصرح به في المغني فقال: ويحتمل أن لها مهر مثلها؛ لأن الطلاق لا قيمة له. قال: (وإن تزوجها على ألفٍ إن كان أبوها حياً، وألفين إن كان ميتاً لم يصح. نص عليه. وإن تزوجها على ألفٍ إن لم يكن له زوجة، وألفين إن كان له زوجة: لم يصح في قياس التي قبلها. والمنصوص أنه يصح). أما كون من تزوج امرأة على ألفٍ إن كان أبوها حياً، وألفين إن كان ميتاً لا يصح؛ فلأن سبيل ذلك سبيل الشرطين. فلم يصح؛ كالبيع. ولأنه في معنى بيعتين في بيعه. فلم يصح؛ كما لو قال (¬2) بعتك بعشرة نقداً أو بعشرين نسئاً. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (6647) 2: 177. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

وأما كونه لا يصح إذا تزوجها على ألفٍ إن لم يكن له زوجة، وألفين إن كان له زوجة في قياس التي قبلها؛ فلأنها في معناها. وأما كونه يصح على المنصوص؛ فلأنها قد يكون لها غرض صحيح. فإن قيل: الإمام أحمد رضي الله عنه نص على الصحة في هذه المسألة، وقد تقدم أنه نص على عدم الصحة في التي قبلها فهلا اتحدا؟ قيل: من الأصحاب من قال: يُخَرّج فيهما روايتان: أحدهما: الصحة فيهما؛ لأن أحد الألفين معلوم، والثاني: معلق على شرط. فإن وجد الشرط كان زيادة في الصداق، والزيادة فيه جائزة. والثانية: الفساد فيهما؛ لما تقدم. ومن الأصحاب من قال: بعدم الصحة في الأول، وبالصحة في الثاني لما يأتي من الفرق بينهما. قال المصنف في المغني: والأول أولى، يعني القول بالفساد- فيهما. وأجاب عن القول بأن هذا تعليق على شرط: فإن هذا لا يصح لوجهين: أحدهما: أن الزيادة لا يصح تعليقها على شرط. فلو قال: إن مات أبوك فقد زدتك في صداقك ألفاً لم يصح ولم تلزم الزيادة عند موت الأب. والثاني: أن الشرط هاهنا لم يتجدد في قوله: إن كان لي زوجة، أو كان أبوك ميتاً. ثم قال: ويمكن الفرق بين المسألة التي نص على إبطال التسمية فيها وبين التي نص على الصحة فيها: بأن التي نص على الصحة فيها جعل الزيادة فيها ليس للمرأة فيه غرض يصح بذل العوض فيه وهو كون أبيها ميتاً. بخلاف التي صحت التسمية فيها فإن خلو المرأة من ضرة تضرّ بها وتقاسمها وتضيّق عليها من أكبر أغراضها. ثم قال: فعلى هذا يمنع قياس إحدى الصورتين على الأخرى، ولا يكون في كل مسألة إلا رواية واحدة. قال: (وإذا قال العبد لسيدته: أعتقيني على أن أتزوجك فأعتقته على ذلك: عتق ولم يلزمه شيء). أما كون العبد يعتق؛ فلأن سيدته أعتقته.

وأما كونه لا يلزمه شيء؛ فلأن النكاح يحصل به الملك للزوج. فلم يلزمه ذلك؛ كما لو اشترطت عليه أن تملكه داراً. قال: (وإذا فرض الصداق مؤجلاً ولم يذكر مَحِل الأجل: صح في ظاهر كلامه. ومَحِله الفرقة عند أصحابنا، وعند أبي الخطاب: لا يصح). أما كون فرض الصداق مؤجلاً من غير ذكر محل الأجل يصح في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأن لذلك عرفاً. فوجب أن يصح ويحمل عليه. وأما كون محله الفرقة عند الأصحاب؛ فلأن المطلق يحمل على العرف. والعُرف تركُ المطالبة بالصداق إلى حين الفرقة. فحمل عليه فيصير حينئذٍ معلوماً. وأما كون ذلك لا يصح عند أبي الخطاب والمراد به الفرض؛ فلأنه عوضٌ مجهولُ المحِل. فلم يصح الفرض معه؛ كالثمن في البيع. فعلى هذا يجب مهر المثل لعدم صحة التسمية.

فصل [في الصداق الفاسد] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإن أصدقها خمراً، أو خنزيراً، أو مالاً مغصوباً: صح النكاح، ووجب مهر المثل. وعنه: أنه يعجبه استقبال النكاح. اختاره أبو بكر. والمذهب صحته). أما كون النكاح يصح فيما ذكر كله على المذهب؛ فلأنه نكاح لو كان عوضه صحيحاً لكان صحيحاً. فوجب أن يكون صحيحاً وإن كان عوضه فاسداً؛ كالخلع. ولأنه عقد لا يفسد بجهالة العوض. فلم يفسد بتحريمه؛ كالخلع. وأما كون مهر المثل يجب؛ فلفساد التسمية. وأما كون استقبال النكاح يعجب الإمام أحمد ويختاره أبو بكر؛ فلأنه معوضٌ جعل عوضه محرماً. أشبه نكاح الشغار. وأما كون المذهب الصحة؛ فلما تقدم. ولأن فساد العوض لا يزيد على عدمه، ولو عدم لكان صحيحاً. فكذا إذا فسد. وقول الإمام أحمد رضي الله عنه: يعجبني استقبال النكاح محمول على الاستحباب. قال: (وإن تزوجها على عبدٍ فخرج حراً، أو مغصوباً، أو عصيراً فبان خمراً: فلها قيمته. وإن وجدت به عيباً فلها الخيار بين أخذ أرشه أو ردّه، وأخذ قيمته). أما كون الزوجة لها قيمة ما ذُكر فيما إذا تزوجها على عبدٍ فخرج حراً أو مغصوباً، أو عصيراً فبان خمراً؛ فلأنها رضيت بما سمى لها، وتسليمه ممتنع لكونه غير قابل لجعله صداقاً. فوجب الانتقال إلى القيمة؛ لأنها بدله.

وفي كون الزوجة لها القيمة: إشعارٌ بأنها لا تستحق مهر المثل. وصرح به في المغني؛ لأنها لما رضيت بما سمي لها لم يكن لها الانتقال إلا إلى بدل ما رضيت به. ولا بد أن يلحظ أن المغصوب لو كان مثلياً كان لها مثله لا قيمته؛ كما لو استحق عليه مثلٌ بغير الصداق. فإن قيل: ما يصنع بالعصير وهو مثلي. بدليل ضمانه بمثله في غصبه؟ قيل: يجب حمله على عصير عدم مثله، أو يعبّر هنا؛ كما عبر في باب الغصب: في أصله. وأما كونها لها الخيار بين ما ذكر فيما إذا وجدت بذلك عيباً؛ فلأنه عوض في عقد معاوضة. فثبت الخيرة فيه بين أخذ الأرش والبدل؛ كالمبيع المعيب.

فصل [إذا شرط الأب له شيئا] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها: صح، وكانا جميعاً مهرها. فإن طلقها قبل الدخول بعد قبضهما رجع عليها بألف، ولم يكن على الأب شيء مما أخذ. وإن فعل ذلك غير الأب فالكل لها دونه). أما كون الأب يصح أن يشرط له شيئاً من مهر ابنته؛ فلأنه لو شرط الكل لنفسه صح. فلأن يصح أن يشرط البعض بطريق الأولى. بيان صحة اشتراط الكل لنفسه: أن شعيباً زوّج موسى ابنته على رعاية غنمه. وذلك اشتراط لنفسه. ولأن للوالد الأخذ من مال ولده. بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «أنتَ ومالُكَ لأبيك» (¬1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أولادكم من أطيب كسبكم. فكلوا من أموالهم» (¬2). أخرجه أبو داود، ونحوه للترمذي. وقال: حديث حسن. فإذا اشترط لنفسه شيئاً من مهر ابنته يكون ذلك أخذًا من مال ابنته. وأما كون الزوج يرجع عليها بألف إذا طلقها قبل الدخول بعد قبضهما؛ فلأن صداقها ألفان. فوجب الرجوع عليها بألف؛ لأنه نصف الصداق. وأما كون الأب لا شيء عليه مما أخذ؛ فلأنه أخذ من مال ابنته ألفاً. فلا يجوز للزوج الرجوع عليه بشيء. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2291) 2: 769 كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، عن جابر بن عبدالله. وأخرجه أحمد في مسنده (6902) 2: 204 عن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3530) 3: 289 كتاب البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده، عن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرجه الترمذي في جامعه (1358) 3: 639 كتاب الأحكام، باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده، عن عائشة.

وفي قول المصنف: بعد قبضهما إشعار بأن الطلاق لو كان قبل القبض لم يكن الحكم كذلك. وهو صحيح؛ لأنه إذا لم يقبض الصداق لم يرجع بل يسقط عنه نصف المسمى، وبقي عليه ألف للزوجة يأخذ الأب منه ما شاء. قاله المصنف في المغني. وقال القاضي: يكون بينهما نصفين. وقال: نقله مهنا عن أحمد لأنه شرط لنفسه النصف ولم يحصل من الصداق إلا ما قال المصنف في المغني. وليس هذا القول على سبيل الإيجاب؛ فلأن للأب أن يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء. وأما كون الكل لها إذا فعل ذلك غير الأب دون ذلك الغير؛ فلأن جميع ما اشترطه عوض في تزويجها. فيكون صداقاً لها؛ كما لو جعله لها. وليس للغير أن يشترط من مال الغير شيئاً إذا لم يكن أباً فحينئذٍ يقع الاشتراط لغواً ويكون الكل لها. ولا فرق بين كون الغير جَداًّ أو غيره؛ لاستوائهما في كونهما ليس لهما الأخذ من مال الزوجة. قال: (وللأب تزويج ابنته البكر والثيب بدون صداق مثلها وإن كرهت. وإن فعل ذلك غيره بإذنها صح، ولم يكن لغيره الاعتراض. وإن فعله بغير إذنها وجب مهر المثل. ويحتمل أن لا يلزم الزوج إلا المسمى، والباقي على الولي؛ كالوكيل في البيع). أما كون الأب له تزويج ابنته بدون صداق مثلها؛ فلما روي: «أن عمر رضي الله عنه خطبَ الناس. فقال: ألا! لا تُغالُوا في صُدُق النساء. فما أصدقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من نسائه ولا أحداً من بناته أكثر من ثنتي عشرةَ أوقية» (¬1). وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر أحد منهم فكان ذلك اتفاقاً منهم على أن له أن يزوج بذلك وإن كان ذلك دون مهر المثل. وعن سعيد بن المسيب: «أنه زوجَ بنته بدرهمين». وهو من سادات قريش شرفاً وديناً وعلماً. ومن المعلوم أنه لم يكن مهر مثلها. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2106) 2: 235 كتاب النكاح، باب الصداق.

ولأنه ليس المقصود من النكاح العوض، وإنما المقصود السكن، والازدواج، ووضع المرأة في منصب عند من يكفلها ويصونها. والظاهر من حال الأب مع تمام شفقته وتمام نظره أنه لا ينقصها من صداقها إلا بتحصيل المعاني المقصودة من النكاح. فلا ينبغي أن يمنع من تحصيل المقصود بتفويت غيره. وأما كونه له ذلك بكراً كانت أو ثيباً طائعة كانت أو مكرهة؛ فلأن المصحح تحصيل المعاني المذكورة. وهو مشترك بين البكر والثيب والمطاوعة والمكرهة. فإن قيل: الأب لا يملك تزويج ابنته الثيب الكبيرة قولاً واحداً. فكيف يملك تزويجها بدون مهر مثلها وهي كارهة؟ قيل: يتصور ذلك بأن تأذن له في أصل النكاح دون قدر المهر. وظاهر كلام ابن عقيل في الفصول: أن الأب إنما يملك التزويج بدون مهر المثل لمن يملك إجبارها. لأنه قال فيه: وإذا زوج الأب ابنته التي يملك إجبارها وهي الصغيرة رواية واحدة، والبكر البالغ في إحدى الروايتين بدون مهر مثلها: يثبت المسمى ولم يبلغ تسميته، ولا يثبت مهر المثل. ولو لم يختص الحكم بالمجبرة لم يكن حاجة إلى ما ذكره. وهذا أرجح من جهة النظر؛ لأن من لا يملك إجبارها على النكاح كيف يملك نقصها من مهر مثلها؟ . ولأن الأب إذا لم يملك الإجبار ساوى بقية الأولياء. فيجب أن يساويهم في عدم التنقيص من مهر المثل. وأما كون ذلك يصح إذا فعله غير الأب بإذنها؛ فلأن الحق لها. فإذا رضيت بإسقاطه سقط. ولأنه إذا صح في بعض الصور بغير إذنها تحصيلاً للمصلحة. فلأن يصح بإذنها بطريق الأولى. وأما كون غير من ذكر لا يكون له الاعتراض؛ فلأن الحق في ذلك متمحض لها دون غيرها. بخلاف تزويجها من غير كفء. وأما كون مهر المثل يجب على المذهب إذا فعله غير الأب بغير إذنها؛ فلأنه ليس له ذلك؛ لأن مقتضى الدليل أنه ليس لأحدٍ تنقيصها من مهر المثل لما عليها في

ذلك من الضرر. تُرك العمل به في الأب لما تقدم. فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. وإذا لم يكن له ذلك لغت تسميته ووجب مهر المثل؛ كالخالي عن التسمية. وأما كونه يحتمل أن لا يلزم الزوج إلا المسمى؛ فلأنه ما التزم غيره. فعلى هذا تكون الزيادة على الولي؛ لأنه مفرط. أشبه الوكيل في البيع. وقال المصنف في المغني: قال أحمد: أخاف أن يكون ضامناً. فعلى هذا يكون الاحتمال منقولاً عن الإمام أحمد رضي الله عنه، وتجعل رواية له؛ لأنه كثيراً ما يقول: أخاف، وتجعل مذهباً له. قال: (وإن زوّج ابنه الصغير بأكثر من مهر المثل صح ولزم ذمة الابن. فإن كان معسراً فهل يضمنه الأب؟ يحتمل وجهين). أما كون الأب إذا زوج ابنه الصغير بأكثر من مهر المثل يصح؛ فلأن تصرف الأب ملحوظ فيه المصلحة لولده. فكما صح أن يزوج ابنته بدون مهر المثل للمصلحة فكذا يصح أن يزوج ابنه بأكثر من مهر المثل تحصيلاً للمصلحة. وأما كون الصداق يلزم ذمة الابن؛ فلأن العقد له. فكان بذله عليه؛ كثمن المبيع. وأما كون الأب يضمن ذلك إذا كان الابن معسراً على وجهٍ؛ فلأنه مباشر له غارّ للزوجة بابنه. أشبه الغارّ في النكاح. وأما كونه لا يضمنه على وجهٍ؛ فلأنه ناب فيه عن غيره. فلم يضمنه؛ كثمن مبيعه أو كالوكيل. قال القاضي: هذا أصح. وذكر المصنف رحمه الله تعالى هذين الاحتمالين في المغني روايتين. قال: (وللأب قبض صداق ابنته الصغيرة بغير إذنها. ولا يقبض صداق الثيب الكبيرة إلا بإذنها. وفي البكر البالغ روايتان). أما كون الأب له قبض صداق ابنته الصغيرة بغير إذنها؛ فلأنه وليها ويملك إجبارها على النكاح وقبض سائر أموالها بغير إذنها. فكذلك قبض صداقها.

وأما كونه لا يقبض صداق الثيب الكبيرة إلا بإذنها؛ فلأنه لا يلي مالها ولا يملك إجبارها على النكاح. فافتقر ذلك إلى إذنها؛ كسائر حقوقها. وأما كون البكر البالغ فيها روايتان؛ فلأنه هل يملك إجبارها على النكاح؟ فيه روايتان. فإن قيل: يملكه: ملك قبض مهرها؛ كالبكر الصغيرة، وإن قيل: لا يملكه: لا يملك؛ كالبنت الكبيرة.

فصل [في صداق العبد] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإن تزوج العبد بإذن سيده على صداق مسمى صح. وهل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين. وإن تزوج بغير إذنه لم يصح النكاح. فإن دخل بها وجب في رقبته مهر المثل. وعنه: يجب خمسا المسمى. اختارها الخرقي). أما كون تزويج العبد بإذن سيده على صداق مسمى يصح؛ فلأن الحجر عليه لحق سيده. فإذا أسقط حقه سقط. وأما كونه يتعلق برقبته على روايةٍ؛ فلأنه وجب بفعله. أشبه جنايته. وأما كونه يتعلق بذمة سيده على روايةٍ؛ فلأنه حق تعلق بالعبد برضا السيد. فتعلق بذمة سيده؛ كدين التجارة المأذون فيها. وأما كون تزويج العبد بغير إذن سيده لا يصح؛ فلما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر» (¬1). رواه أبو داود وابن ماجة. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما عبدٍ تزوجَ بغير إذن مَواليهِ فهو زان» (¬2). وفيه مقال. وروي موقوفاً على ابن عمر. ولأنه تزويج فقد شرطه. فلم يصح؛ كما لو تزوجها بغير شهود. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2078) 2: 228 كتاب النكاح، باب في نكاح العبد بغير إذن سيده. وأخرجه الترمذي في جامعه (1111) 3: 419 كتاب النكاح، باب ما جاء في نكاح العبد بغير إذن سيده. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1959) 1: 630 كتاب النكاح، باب تزويج العبد بغير إذن سيده. وأخرجه أحمد في مسنده (15073) 3: 377. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1960) 1: 630 كتاب النكاح، باب تزويج العبد بغير إذن سيده. قال في الزوائد: في إسناده مِندَل، وهو ضعيف.

وأما كون مهر المثل يجب إذا دخل بها على روايةٍ؛ فلأنه استحل فرجها وذلك موجب للمهر؛ لقوله عليه السلام: «أيما امرأةٍ نكحت نفسها بغير إذنِ وليها فنكاحها باطل فإن أصابها فلها المهرُ بما استحل من فرجها» (¬1). ولأنه استوفى منافع البضع. فكان المهر المتقدم ذكره واجباً؛ كسائر الأنكحة الفاسدة. وأما كونه في رقبته؛ فلأنه من جنايته. وأما كون خمسي المسمى يجب على روايةٍ؛ فلأن عثمان بن عفان قال ذلك. قال: (وإن زوج السيد عبده أمته لم يجب مهر. ذكره أبو بكر. وقيل: يجب ويسقط). أما كون ما ذكر لا يجب به مهر على المذهب؛ فلأنه لو وجب لوجب لسيدها، والسيد لا يجب له على عبده مال. وأما كونه يجب على قول؛ فلئلا يخلو العقد من مهر. وأما كونه يسقط حينئذ؛ فلتعذر إتيانه. قال: (وإن زوج عبده حرة ثم باعها العبدَ بثمن في الذمة تحول صداقها أو نصفه إن كان قبل الدخول إلى ثمنه. وإن باعها إياه بالصداق صح قبل الدخول وبعده. ويحتمل أن لا يصح قبل الدخول). أما كون الصداق المذكور أو نصفه يتحول إلى ثمن العبد إذا باعه سيده لزوجته قبل الدخول بثمن في الذمة؛ فلأن ذلك متعلق برقبة العبد. فوجب أن ينتقل إلى بدله وهو الثمن. وأما كون السيد إذا باعها إياه بالصداق يصح قبل الدخول وبعده على المذهب؛ فلأن الصداق يصلح أن يكون ثمناً لغير العبد. فكذا للعبد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2083) 2: 229 كتاب النكاح، باب في الولي. وأخرجه الترمذي في جامعه (1102) 3: 407 كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1879) 1: 605 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي.

وأما كونه يحتمل أن لا يصح قبل الدخول؛ فلأن شراء الزوجة زوجها يوجب فسخ نكاحها على وجهٍ، وذلك يوجب سقوط صداقها. فيبطل كونه ثمناً.

فصل [في ملك المرأة الصداق] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وتملك المرأة الصداق المسمى بالعقد. فإن كان معيناً؛ كالعبد والدار فلها التصرف فيه. ونماؤه لها وزكاته. ونقصانه وضمانه عليها. إلا أن يمنعها قبضه فيكون ضمانه عليه. وعنه: فيمن تزوج على عبدٍ ففقئت عينه إن كانت قد قبضته فهو لها، وإلا فهو على الزوج. فعلى هذا: لا يدخل في ضمانها إلا بقبضه. وإن كان غير معينٍ؛ كقفيز من صبرة لم يدخل في ضمانها، ولم تملك التصرف فيه إلا بقبضه كالمبيع). أما كون المرأة تملك الصداق المسمى بالعقد؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزوج الذي قال: لا أجد إلا إزاري: إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك» (¬1). ولو لم تملكه المرأة بالعقد لكان الإزار له. ولأن النكاح عقد يملك به المعوض. فملك به العوض كاملاً؛ كالبيع. وأما كونها تملك التصرف فيه إذا كان معيناً كالعبد والدار؛ فلأنه ملكها. فكان لها التصرف فيه؛ كسائر أملاكها. وأما كون نمائه لها وزكاته عليها ونقصانه عليها إذا لم يمنعها قبضه؛ فلأن ذلك كله من توابع الملك، وهو موجود هاهنا. وأما كون ضمانه عليها على المذهب إذا لم يمنعها قبضه؛ فلأن ذلك من توابع الملك الخالي عن الغصب، وهو موجود هنا. وأما كون ضمانه عليه إذا منعها قبضه؛ فلأنه غاصب أو بمنزلته. وأما كونه لا يدخل في ضمانها إلا بقبضه على روايةٍ؛ فلأنه غير مقبوضٍ. فلم يضمنه قياساً على المبيع في روايةٍ. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 660.

وأما كون غير المعين كقفيز من صَبُرة لا يدخل في ضمانها ولا تملك التصرف فيه إلا بقبضه كالمبيع. فقد نبه المصنف رحمه الله تعالى على تعليل ذلك بقوله: كالمبيع؛ لأن الحكم في المبيع غير المعين كذلك. والجامع بين الصداق والمبيع كون كل واحدٍ منهما عوضاً في عقد معاوضة. وذكر في المغني: أن الصداق إن كان مكيلاً أو موزوناً فهو من ضمان الزوج قبل القبض، وإن كان غيرهما ففيه وجهان بناء على المبيع. وفي هذا تنبيه على إلحاق الصداق بالمبيع. فعلى هذا يُخَرّج فيه أربع روايات؛ لأن في المبيع قبل القبض أربع روايات: إحداهن: الفرق بين المعين وغيره. والثانية: الفرق بين المكيل والموزون وغيرهما. والثالثة: الفرق بين المطعوم وغيره. والرابعة: كل مبيعٍ لا يضمنه المشتري قبل قبضه. فيُخَرّج جميع ذلك في الصداق؛ لتحقق المشابهة بينهما. قال: (وإن قبضت صداقها ثم طلقها قبل الدخول رجع بنصفه إن كان باقياً ويدخل في ملكه حكماً كالميراث. ويحتمل أن لا يدخل حتى يطالب به ويختار. فما ينمى قبل ذلك فهو لها). أما كون الزوج يرجع بنصف الصداق إن كان باقياً إذا طلق قبل الدخول؛ فلأن الطلاق قبل الدخول يوجب تنصيف الصداق. بدليل قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237]. وأما كونه يدخل ذلك في ملكه حكماً كالميراث على المذهب؛ فلأن قوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237]: يدل عليه؛ لأن التقدير: "فنصف ما فرضتم لكم أو لهن" وذلك يقتضي كينونة النصف له أو لها بمجرد الطلاق. ولأن الطلاق سبب يملك به بغير عوض. فلم يفتقر إلى اختياره؛ كالإرث. ولأنه سبب لنقل الملك. فنقل الملك بمجرده؛ كالبيع وسائر الأسباب. وأما كونه يحتمل أن لا يدخل حتى يطالب به ويختار فقياس على الشفيع.

وأما كون النماء الحادث قبل الاختيار لها على ذلك؛ فلأنه نماء ملكها لأن التقدير أنه لا يملك إلا باختياره. فهو قبل الاختيار على ملك الزوجة. قال: (فإن كان الصداق زائداً زيادة منفصلة رجع في نصف الأصل، والزيادة لها. وإن كانت متصلة فهي مخيرة بين دفع نصفه زائداً وبين دفع نصف قيمته يوم العقد. وإن كان ناقصاً خيّر الزوج بين أخذه ناقصاً وبين أخذ نصف قيمته وقت العقد). أما كون الزوج يرجع في نصف الأصل فيما إذا زاد زيادة منفصلة؛ كالولد والثمرة والكسب؛ فلأن الظاهر قبل الدخول يقتضي الرجوع في نصف الصداق، وقد أمكن الرجوع فيه من غير ضرر على أحد. فوجب أن يثبت حكم الرجوع عملاً بالمقتضي السالم عن المعارض. وأما كون الزيادة المنفصلة للزوجة؛ فلأنها نماء ملكها. وأما كون الزوجة فيما إذا زاد زيادة متصلة مخيرة بين دفع نصف الأصل زائداً وبين دفع نصف قيمته يوم العقد؛ فلأنها إن اختارت دفع نصف الأصل زائداً كان ذلك إسقاطاً لحقها من الزيادة وذلك لها. وإن اختارت دفع نصف قيمته كان ذلك لها؛ لأنه لا يلزمها دفع نصف الأصل زائداً لاشتماله على الزيادة التي لا يمكن فصلها عنه. وإذا كان كذلك كان رد نصف الأصل متعذراً وتعينت القيمة؛ كالإتلاف وغيره. وأما كون الزوج مخيراً بين أخذ النصف ناقصاً وبين أخذ نصف القيمة وقت العقد؛ فلأنه إن اختار أخذ النصف ناقصاً كان ذلك إسقاطاً لحقه، وذلك له. وإن اختار أخذ نصف القيمة وقت العقد كان ذلك له؛ لأنه لا يلزمه قبوله ناقصاً لما فيه من الضرر عليه. وإذا لم يلزمه أخذ عينه تعينت القيمة.

قال: (وإن كان تالفاً أو مستحقاً بدين أو شفعة فله نصف قيمته يوم العقد؛ إلا أن يكون مثلياً فيرجع بنصف مثله. وقال القاضي: له القيمة أقل ما كانت من يوم العقد إلى يوم القبض). أما كون الزوج له نصف قيمة (¬1) الصداق غير المثليّ كالعبد والدار وما أشبه ذلك إذا تلف أو استحق كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى؛ فلأن تعذر الرجوع في عينه يوجب الرجوع في نصف القيمة لأنها بدل نصفه. دليله الإتلاف. وأما كون القيمة معتبرة بيوم العقد على المذهب؛ فلأن الزيادة بعد ذلك تكون ملكاً (¬2) للزوجة لكونها نماء لملكها. فلا يجوز تقويمها بعد العقد؛ لكونه تقويماً بملك غيره. وإذا لم يعتبر بعد العقد وجب اعتبارها يوم العقد لأن ذلك مما يصح الاستناد إليه. وأما كون الزوج له القيمة أقل ما كانت من يوم العقد إلى يوم القبض على قول القاضي؛ فلأنه لو نقص في يده كان ضمانه عليه. قال صاحب النهاية فيها: الأول أصح؛ لأن المعين لا يفتقر الملك فيه إلى قبض. فلا يضمن باليد. وأما كونه يرجع بنصف المثلي كالدراهم والدنانير والحبوب وما أشبه ذلك؛ فلأنه أقرب مماثلة ومشابهة لحقه. ولهذا ضمن المثلي في الإتلاف بالمثل لا بالقيمة. قال: (وإن نقص الصداق في يدها بعد الطلاق فهل تضمن نصفه؟ يحتمل وجهين. وإن قال الزوج: نقص قبل الطلاق، وقالت: بعده فالقول قولها مع يمينها). أما كون ما ذُكر يحتمل وجهين؛ فلأن لحظ ما تقدم من الخلاف فيما إذا نقص الصداق المتعين في يد الزوج يوجب ذلك. ولأن كل واحدة من المسألتين تشبه الأخرى معنى فلتساويها حكماً. فعلى هذا إذا قيل: يضمن هناك تضمن هي هنا، وإذا قيل: لا يضمن هناك لم تضمن هاهنا. ¬

_ (¬1) في أ: قيمته. (¬2) في أ: ملك.

وأما كون القول قولها إذا قال الزوج: نقص قبل الطلاق، وقالت: بعده؛ فلأن الأصل براءة ذمتها. ولا بد أن يلحظ في هذا أنه إذا نقص الصداق في يد الزوجة بعد الطلاق لا يضمنه؛ لأنه إذا كان مضموناً بعده كما يضمن قبله فلا فائدة في الاختلاف. قال: (والزوج هو الذي بيده عقدة النكاح. فإذا طلق قبل الدخول فأيهما عفى لصاحبه عما وجب له من المهر وهو جائز الأمر في ماله برئ منه صاحبه. وعنه: أنه الأب. فله أن يعفو عن نصف مهر ابنته الصغيرة إذا طلقت قبل الدخول). أما كون الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح في ظاهر المذهب؛ فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ولي العقدة: الزوج» (¬1). رواه الدارقطني. وأما كونه الأب على روايةٍ؛ فلأن الذي بيده عقدة النكاح بعد الطلاق هو الولي. ولأن الله تعالى خاطب الأزواج بخطاب المواجهة ثم قال: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة: 237]. وهذا خطاب غائب. فعلى هذه الرواية للولي أن يعفو عن نصف مهر موليته. لكن بشروط: أحدها: أن يكون أباً؛ لأنه هو الذي يلي مالها، ولا يتهم في حقها بوجه. وثانيها: أن تكون الزوجة صغيرة؛ لأنها هي التي يلي الأب مالها. دون الكبيرة. وثالثها: أن تكون بكراً؛ لأن الثيب لا يملك الأب تزويجها. والأول أصح؛ لما تقدم. ولأن الله تعالى قال (¬2): {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة: 237]. وليس عفو الولي عن مهر موليته أقرب للتقوى. ولأن مهر المرأة حق لها. فلا يملك الولي إسقاطه؛ كسائر حقوقها. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (128) 3: 279 كتاب النكاح، باب المهر. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

ولأن الصغير لو رجع إليه مهر زوجته أو نصفه لانفساخ النكاح برضاع أو شبهة لم يكن لوليه العفو رواية واحدة. فكذلك ولي الصغيرة. وأما خطاب الغيبة بعد المواجهة فتابع في الكلام. ومنه قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها} [يونس: 22]، ومنه قول النابغة: يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت ... وطال عليها سالف الأبد فعلى هذه أي الزوجين أبرأ الآخر مما وجب له عليه برئ منه؛ لأنه أبرأه من حقه الواجب له. فبرئ منه؛ كالبراءة من دينه. واشترط المصنف كون المبرئ جائز التصرف؛ لأن إبراء غير جائز التصرف؛ كالصبي والسفيه ونحو ذلك: لا يصح.

فصل [في الإبراء من الصداق] قال المصنف رحمه الله: (إذا أبرأت المرأة زوجها من صداقها أو وهبته له ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصفه. وعنه: لا يرجع بشيء. وإن ارتدت قبل الدخول فهل يرجع عليها بجميعه؟ على روايتين). أما كون الزوج يرجع على زوجته فيما إذا ما أبرأته من صداقها أو وهبته له ثم طلقها قبل الدخول بنصفه على المذهب؛ فلأن الطلاق قبل الدخول يقتضي الرجوع في نصف الصداق. وقد وجد ولا أثر لكونها أبرأته أو وهبته له؛ لأن ذلك حصل بعقد مستأنف. فلم يمنع استحقاق الرجوع في النصف؛ كما لو وهبته لأجنبي فوهبه الأجنبي للزوج. وأما كونه لا يرجع على روايةٍ؛ فلأن نصف الصداق يتعجل له. وقال المصنف في الكافي: إن كان الصداق عيناً فوهبتها لزوجها ثم طلقها قبل الدخول ففيه روايتان، وإن كان ديناً أبرأته منه وقلنا: لا يرجع ثَمَّ فهاهنا أولى، وإن قلنا: يرجع ثَمَّ خُرّج هاهنا وجهان: أحدهما: يرجع؛ لأنه عاد إليه بغير الطلاق. أشبه العين. والثاني: لا يرجع؛ لأن الإبراء إسقاط وليس بتمليك. وأما كونه يرجع عليها بجميعه إذا ارتدت بعد الإبراء والهبة ففيه روايتان إحداهما: ما تقدم. قال: (وكلُّ فرقة جاءت من الزوج كطلاقه وخلعه وإسلامه وردته، أو من جهة أجنبي كالرضاع ونحوه قبل الدخول: يتنصف بها المهر بينهما). أما كون المهر يتنصف بالطلاق؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن طلقتموهن من قبل أن تَمَسُّوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصفُ ما فرضتم} [البقرة: 237].

وأما كونه يتنصف ببقية ما ذكره المصنف؛ فلأنها فرقة لا من جهتها. فاقتضت التنصيف المذكور؛ كما لو طلقها. قال: (وكلُّ فرقة جاءت من قِبَلها؛ كإسلامها وردتها وإرضاعها مَن ينفسخ به نكاحها، وفسخها لعيبه أو إعساره، وفسخه لعيبها: يسقط به مهرها ومتعتها). أما كون ما ذُكر يُسقط المهر والمتعة ما خلا فسخ الزوج لعيبها؛ فلأنها أتلفت المعوض قبل التسليم. فسقط العوض؛ كما لو أتلفت المبيع قبل تسليمه. وأما كون فسخ الزوج لعيبها يسقط به ذلك؛ فلأنه بسببٍ من جهتها. وقد تقدم بيانه في موضعه (¬1)، وتقدم أيضاً أنها إذا أسلمت لا يسقط مهرها على روايةٍ (¬2)؛ لأنها فعلت ما وجب عليها. والانفساخ لأنه لم يوافقها على فعل الواجب. قال: (وفرقة اللعان تُخَرّج على روايتين. وفي فرقة بيع الزوجة من الزوج وشرائها له وجهان. وفرقة الموت يستقر بها المهر كله كالدخول. ولو قتلت نفسها لاستقر مهرها كاملاً). أما كون فرقة اللعان تخرج على روايتين؛ فلأن النظر إلى كون الفسخ عقيب لعانها يقتضي أن يكون كفسخها لعيبه، والنظر إلى أن سبب اللعان القذف الصادر من الزوج يقتضي أن يكون كفسخه. وأما كون فرقة بيع الزوجة من الزوج وشرائها له فيها وجهان؛ فلأن النظر إلى أن الزوجة شاركت في الفسخ يقتضي أن يكون كفسخها، والنظر إلى أن الزوج شارك فيه يقتضي أن يكون كفسخه. وذكر المصنف رحمه الله تعالى في المغني في شرائها له روايتين في النكاح عند قوله وفي شرائه لها وجهين مخرجين على الروايتين في شرائها له. ¬

_ (¬1) ص: 626. (¬2) ص: 634.

وأما كون فرقة الموت يستقر بها المهر كله؛ فلما روى معقل بن سنان «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بِرْوع بنت واشق، وكان زوجها مات ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقًا. فجعل لها مهر نسائها لا وَكْس ولا شطط» (¬1). ولأنه عقد ينتهي بموت أحدهما. فاستقر به العوض؛ كانتهاء الإجارة. وأما كونها يستقر مهرها كاملاً إذا قتلت نفسها؛ فلأنها فرقة حصلت بالموت وانتهاء النكاح. فاستقر بها المهر؛ كما لو ماتت حتف أنفها. فإن قيل: إذا قتلت نفسها فقد أتلفت المعوض قبل تسليمه. فيجب أن يسقط العوض؛ كالردة. قيل: الردة لم ينته معها العقد فالتلف حاصل مع عدم انتهائه. فكأنها قطعته. بخلاف القتل فإنه انتهى به. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 691.

فصل [في اختلاف الزوجين في الصداق] قال المصنف رحمه الله تعالى: (إذا اختلف الزوجان في قدر الصداق فالقول قول الزوج مع يمينه. وعنه: القول قول من يدعي مهر المثل منهما. فإن ادعى أقل منه وادعت أكثر منه ردا إليه بلا يمين عند القاضي في الأحوال كلها. وعند أبي الخطاب: تجب اليمين. فإن قال: تزوجتك على هذا العبد قالت: بل على هذه الأمة خرج على الروايتين). أما كون القول قول الزوج مع يمينه في قدر الصداق على روايةٍ؛ فلأنه منكر للزيادة ومدعى عليه. فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «اليمين على المدعَى عليه» (¬1). وأما كون القول قول من يدعي مهر المثل منهما على روايةٍ؛ فلأن الظاهر صدق من يدعيه. فكان القول قوله. قياساً على المنكر في سائر الدعاوي وعلى المودع إذا ادعى التلف أو الرد. فإن قيل: لم لا يتحالفان كالبيع؟ قيل: لأنه عقد لا ينفسخ بالتحالف. فلم يشرع فيه؛ كالعفو عن دم العمد. ولأن القول بالتحالف يفضي إلى إيجاب أكثر مما يدعيه أو أقل مما يقر لها به؛ لأنه إذا شُرع التحالف والعقد غير قابل للفسخ يجب مهر المثل. فلو كان مائة وادعت ثمانين فقال: بل هو خمسون وقيل بالتحالف والرجوع إلى مهر المثل وجب لها عشرون يتفقان على أنها غير واجبة. ولو ادعت مائتين فقال: بل هو مائة وخمسون سقط خمسون يتفقان على وجوبها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4277) 4: 1656 كتاب التفسير، باب {إن الذين يشترون بعهد الله ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (1711) 3: 1336 كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه.

وأما كونهما يُردّان إلى مهر المثل إذا ادعى الزوج أقل منه وادعت الزوجة أكثر منه؛ فلأن ذلك فائدة قبول قول من يدعيه. وأما كون ذلك بلا يمين عند القاضي؛ فلأنها دعوى في نكاح. أشبهت الدعوى في أصل النكاح. وأما كون اليمين تجب عند أبي الخطاب؛ فلأنه اختلاف فيما يجوز بدله فوجب أن تجب فيه اليمين؛ كالدعاوي في سائر الأموال. فإن قيل: ما معنى قول المصنف رحمه الله: في الأحوال كلها؟ قيل: الدعوى توافق تارة قول المرأة، وتارة قول الزوج، وتارة تدعي المرأة أكثر والرجل أقل وغير ذلك من صور الاختلاف. وقد صرح المصنف بنفي اليمين هنا عند القاضي وإثباتها عند أبي الخطاب. وقال في المغني: إذا ادعى أقل من مهر المثل وادعت أكثر منه رد إلى مهر المثل. ولم يذكر أصحابنا يميناً، والأولى أن يتحالفا. فإن ما يقوله كل واحدٍ منهما محتمل للصحة. فلا يعدل عنه إلا بيمين من صاحبه؛ كالمنكر في سائر الدعاوي. ولأنهما تساويا في عدم الظهور. فشرع التحالف؛ كما لو اختلف المتبايعان. وفيما قاله في المغني نظر من وجهين أحدهما (¬1) أنه قال: ولم يذكر أصحابنا يميناً مع أنه قد صرح هنا بقول القاضي نفياً وأبي الخطاب إثباتاً. وثانيهما: أنه قال: فشرع التحالف، ومفهومه أن كل واحدٍ منهما تجب عليه اليمين نفياً وإثباتاً فيقول هو: ما أصدقتها كذا ولقد أصدقتها كذا. وتقول هي: ما أصدقني كذا وإنما أصدقني كذا، ويحققه قياس ذلك على المتبايعين، ويمكن الجواب عن الثاني بأن المعوض حلف الزوج أنه ما أصدقها الذي ادعته وحلفت الزوجة أنه ما أصدقها الذي ادعاه. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

وأما كون الزوج إذا قال: تزوجتك على هذا العبد فقالت: بل على هذه الأمة تخرج على روايتي القول قول الزوج أو قول من يدعي مهر المثل؛ فلأنه اختلاف في مهر. أشبه ما تقدم. فعلى هذا إذا قيل: القول قول من يدعي مهر المثل فوافق قيمة الأمة مثلاً مهر المثل هل تجب لها عينها أو قيمتها فيه وجهان: أحدهما: تجب عين الأمة؛ لأنه قبل قولها في القدر فكذلك في العين. والثاني: تجب لها قيمتها؛ لأن قولها إنما وافق الظاهر في القدر لا في العين. قال: (وإن اختلفا في قبض المهر فالقول قولها. وإن اختلفا فيما يستقر به المهر فالقول قوله). أما كون القول قول المرأة في قبض المهر؛ فلأنها منكرة لشيء الأصل عدم وجوده. ولأنها تنكر قبض حقها. فكان القول قولها؛ كما لو أنكرت قبض دين لها عليه. وأما كون القول قول الزوج فيما يستقر به المهر؛ فلأن الأصل عدمه. والمراد بما يستقر به المهر: المسيس والخلوة والوطء ونحو ذلك. قال: (وإن تزوجها على صداقين سرٍّ وعلانية: أُخذ بالعلانية، وإن كان قد انعقد بالسر. ذكره الخرقي. وقال القاضي: إن تصادقا على السر لم يكن لها غيره. وإن قال: هو عقد واحد أسررته ثم أظهرته وقالت: بل هو عقدان فالقول قولها مع يمينها). أما كون الزوج يؤخذ بالعلانية إذا تزوجها على صداقين سر وعلانية وإن كان قد انعقد بالسر على ما ذكره الخرقي وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في روايةِ الأثرم؛ فلأنه وجد منه بذل الزائد على مهر السر. فوجب ذلك عليه؛ كما لو زادها على صداقها. وأما كونه يلزم السر إن تصادقا عليه على قول القاضي؛ فلأنه هو الذي يثبت به النكاح. ولأن العلانية ليست بعقد ولا تتعلق بشيء. فلم يجب به مهر.

وقول القاضي أظهر؛ لأن المهر من توابع العقد، وما ذكر من أنه بذل الزائد فيه نظر من حيث إنه لم يقصد حقيقة البذل، وإنما وقع لعارض. فإن قيل: العلانية مع السر تارة تكون أكثر مع تأخره، وتارة تكون أكثر مع تقدمه، وتارة تكون أقل مع تأخره، وتارة تكون أقل مع تقدمه. وقد ذكر الأول فما حكم ما عداه؟ قيل: إذا كان أكثر مع تقدمه لزم الزوج مهر العلانية؛ لأنه الذي انعقد به النكاح ووقوع السر بعده لا يسقط العلانية فوجب الحكم به، وإذا كان أقل مع تأخره لزمه مهر السر؛ لأنه وجب عليه بعقده ولم تسقطه العلانية فوجب الحكم ببقاء وجوبه. وإذا كان أقل مع تقدمه لم أعلم فيه نقلاً. لكن ينبغي أن يكون حكمه حكم الحالة الأولة؛ لأن دليل الوجهين متجه فيها. وأما كون القول قول المرأة مع يمينها إذا قال الزوج: هو عقد واحد أسررته ثم أظهرته. فقالت المرأة: بل هو عقدان؛ فلأن الظاهر أن الثاني عقد صحيح يفيد حكماً كالأول. فوجبا عليه لاعترافه بتعدده صُورة، وظهور كون الثاني غير الأول.

فصل في المفوضة يقال: المفوّضة بكسر الواو وفتحها. فالكسر على أن الفعل مضاف إليها على أنها فاعلة؛ مثل: مُقَوِّمة، والفتح على أنه مضاف إلى وليها. ومعنى التفويض لغة: الإهمال. ومنه قول الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا يعني مهملين. فكأن المرأة أهملت أمر المهر حيث لم يسمه. قال المصنف رحمه الله تعالى: (والتفويض على ضربين: تفويض البضع. وهو: أن يزوج الأب ابنته البكر، أو تأذن المرأة لوليها في تزويجها بغير مهر. وتفويض المهر. وهو: أن يتزوجها على ما شاءت أو شاء، أو شاء أجنبي ونحو ذلك: فالنكاح صحيح، ويجب مهر المثل بالعقد). أما قول المصنف رحمه الله تعالى: والتفويض على ضربين فبيان لمعنى التفويض شرعاً. وقد تقدم وجه اشتقاقه لغة وتعداد تصريفه، وأنه يكون تارة تفويض البضع، وتارة تفويض المهر. وأما كون النكاح صحيحاً مع ذلك؛ فلأن الله تعالى قال: {لا جُناح عليكم إن طلقتمُ النساء ما لم تَمَسُّوهن أو تَفرضوا لهن فريضة} [البقرة: 236]. وروي عن ابن مسعود «أنه سئل عن رجلٍ تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقًا ولم يدخل بها حتى مات. فقال ابن مسعود: لها صداق نسائها لا وَكْس ولا شَطط، وعليها العدة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بِرْوع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت» (¬1) أخرجه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2116) 2: 237 كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات. وأخرجه الترمذي في جامعه (1145) 3: 450 كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها.

ولأن القصد من النكاح الوصلة والاستمتاع دون الصداق. فصح من غير ذكره؛ كالنفقة. وأما كون مهر المثل يجب؛ فلما تقدم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وأما كونه يجب بالعقد؛ فلأنها تملك المطالبة. فكان واجباً بالعقد؛ كالمسمى. ولأنه لو لم يجب بالعقد ما استقر بالموت؛ كما في العقد الفاسد. ولأن النكاح لا يخلو عن المهر. والقول بعدم وجوبه بالعقد يفضي إلى خلوه منه. مع أنه يقع صحيحاً. قال: (ولها المطالبة بفرضه. فإن فرضه الحاكم لم يجز إلا بمقداره. وإن تراضيا على فرضه جاز ما اتفقا عليه من قليل وكثير). أما كون المفوضة لها المطالبة بفرض المهر؛ فلأن عقد النكاح يقتضي استحقاق المعوض. فكان لها المطالبة بتبيان قدره. وأما كونه لا يجوز فرضه إلا بقدره إذا فرضه الحاكم؛ فلأن الزيادة ميل عليه والنقصان ميل عليها والعدل تجنب (¬1) الميل. ولأنه إنما يفرض بدل البضع. فوجب أن يتقدر به؛ كالسلعة إذا تلفت. وأما كونه يجوز ما اتفقا عليه من قليل وكثير؛ فلأن الحق لهما لا يعدوهما. ولأنه إذا فرض لها كثيراً فقد بذل لها من ماله فوق ما يلزمه، وإن رضيت باليسير فقد رضيت بدون ما يجب لها. قال: (وإن مات أحدهما قبل الإصابة ورثه صاحبه، ولها مهر نسائها. وعنه: يتنصف بالموت؛ إلا أن يكون قد فرضه لها). أما كون من مات من الزوجين قبل الإصابة يرثه صاحبه؛ فلأن في حديث ابن مسعود المتقدم ذكره: «ولها الميراث» (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) سبق تخريج حديث ابن مسعود ص: 691.

وأما كون المرأة لها مهر نسائها على المذهب؛ فلأن في حديث ابن مسعود المذكور: «لها مهرُ نسائها لا وَكْسَ ولا شَطَط» (¬1). وأما كونه يتنصف بالموت على روايةٍ إلا أن يكون قد فرضه الحاكم؛ فلأن الموت فرقة وردت على تفويض صحيح قبل فرض ومسيس. فلم يجب لها مهر المثل؛ كفرقة الطلاق. وأما كونه لا يتنصف إذا كان الحاكم قد فرضه؛ فلأن الفرض يجعله كالتسمية، ولو سمي ثم مات لوجب كله. فكذا إذا فرضه. والأول أصح؛ لحديث ابن مسعود. ولأن الموت معنى يكمل به المسمى. فكمل به مهر المثل للمفوضة؛ كالدخول. وقياس الموت على الطلاق غير صحيح؛ لأن الموت يتم به النكاح فيكمل به الصداق، والطلاق يقطعه ويزيله قبل إتمامه، ولذلك وجبت العدة بالموت قبل الدخول ولم تجب بالطلاق قبل (¬2) الدخول. قال: (وإن طلقها قبل الدخول لم يكن لها عليه إلا المتعة على الموسِع قدره، وعلى المُقْتِر قدره. فأعلاها خادم، وأدناها كسوة تجزئها في صلاتها. وعنه: يرجع في تقديرها إلى الحاكم. وعنه: يجب لها نصف مهر المثل). أما كون المفوضة لا يكون لها على الزوج إلا المتعة إذا طلقها قبل الدخول بها على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن} [البقرة: 236]. أمر بالمتعة لا بغيرها، والأمر للوجوب، والأصل براءة ذمته من غيرها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 691. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

وقال تعالى: {وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقًا على المتقين} [البقرة: 241]، وقال تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدةٍ تَعْتَدُّونها فمتعوهن} [الأحزاب: 49]. وأما كونها يجب لها نصف مهر المثل على روايةٍ؛ فلأنه نكاح صحيح يوجب مهر المثل بعد الدخول. فيوجب نصفه بالطلاق قبله؛ كما لو سمى محرما. والأول أصح؛ لما تقدم. ولأن الله تعالى قسّم المطلقات قسمين أوجب المتعة لمن لم يسم لها إذا طلقت قبل الدخول، ونصف المسمى لمن سمي لها. وذلك يدل على اختصاص كل قسم بحكمه. بيان قسمته قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسِع قدره وعلى المُقْتِر قَدَرُه متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين? وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصفُ ما فرضتم} [البقرة: 236 - 237]. فعلى هذه المتعة على الموسع قدره وعلى المقتر قدره؛ كقوله تعالى: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} [البقرة: 236]. وأعلاها خادم وأدناها كسوة؛ لأن ابن عباس قال: «أعلا المتعة خادم ثم دون ذلك النفقة ثم دون ذلك الكسوة». وقُيّدت الكسوة بما تجزئها في صلاتها؛ لأن ذلك أقلَّ الكسوة. وعن الإمام أحمد: يرجع في تقديرها إلى الحاكم؛ لأنه أمرٌ لم يرد الشرع بتقديره. وهو يحتاج إلى الاجتهاد. فيجب الرجوع فيه إلى الحاكم؛ كسائر المجتهدات. قال: (وإن دخل بها استقر مهر المثل. وإن طلقها بعد ذلك فهل تجب المتعة؟ على روايتين. أصحهما: لا تجب). أما كون مهر المثل يجب إذا دخل بالمفوضة؛ فلأن الدخول يوجب استقرار المسمى. فكذا مهر المثل؛ لاشتراكهما في المعنى الموجب للاستقرار. وأما كون المتعة لا تجب إذا طلقها بعد ذلك على روايةٍ؛ فلأنه وجب لها مهر المثل. فلم تجب لها المتعة؛ لأن المتعة كالبدل مع مهر المثل.

وأما كونها تجب على روايةٍ؛ فلما تقدم من قوله: {وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقًا على المتقين} [البقرة: 241]. والأول أصح؛ لأنه قد تقدم أن الله تعالى قسّم المطلقات قسمين، وأوجب المتعة لغير المفروض لهن، ونصف المسمى للمفروض لهن. وذلك يدل على اختصاص كل قسم بحكمه.

فصل [في مهر المثل] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ومهر المثل معتبر بمن يساويها من نساء عصباتها؛ كأختها وعمتها وبنت أخيها وعمها. وعنه: يعتبر جميع أقاربها؛ كأمها وخالتها). أما كون مهر المثل معتبراً بمن يساويها من نساء عصباتها؛ كما مثل المصنف رحمه الله تعالى على المذهب؛ فلأنه قد روي في قصة بِرْوع «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بمثل مهر نساء قومها» (¬1). ولأن شرف المرأة معتبر في مهرها، وشرفها بعصباتها؛ لأنهم نساؤها. وأما كونه يعتبر جميع أقاربها كأمها وخالتها على روايةٍ؛ فلأن مطلق القرابة له أثر في الجملة. ولأن أمها وخالتها يشملهم قول ابن مسعود: «لها مهرُ نسائها» (¬2). والأول أولى؛ لما تقدم. ولأن الأم قد تكون مولاة، وبنتها شريفة، وبالعكس. وقول ابن مسعود مطلق فيقيد بقوله عليه السلام: «بمثل مهر نساء قومها» (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 691. (¬2) مثل السابق. (¬3) مثل السابق.

قال: (وتعتبر المساواة في المال والجمال والعقل والأدب والسن والبكارة والثيوبة والبلد. فإن لم يكن من نسائها إلا دونها زيدت بقدر فضيلتها. وإن لم يوجد إلا فوقها نقصت بقدر نقصها. وإن كان عادتهم التخفيف على عشيرتهم دون غيرهم اعتبر ذلك. وإن كان عادتهم التأجيل فُرض مؤجلاً في أحد الوجهين. وإن لم يكن لها أقارب اعتبر بنساء بلدها ثم بأقرب النساء شبها بها). أما كون المساواة تعتبر بما ذكر؛ فلأن مهر المثل بدل متلف فاعتبرت الصفات المقصودة فيه. وكل صفة مما ذكر مقصودة. فوجب اعتبارها. وأما كون المفوضة إذا لم يكن من نسائها إلا دونها [زيدت بقدر فضيلتها؛ فلأن زيادة فضيلتها تقتضي زيادة في المهر] (¬1). فوجب أن يترتب عليها الزيادة بحسبها. وأما كونها إذا لم يوجد من نسائها إلا فوقها تنقص بقدر نقصها؛ فلأن النقص له أثر في تنقيص المهر. فوجب أن يترتب عليه النقص بحسبه. وأما كون التخفيف المذكور يعتبر؛ فلأن العادة لها أثر في المقدار. فكذا في التخفيف على العشيرة. فإن قيل: مهر المثل بدل متلف. فوجب أن يختلف باختلاف المتلف؛ كسائر المتلفات. قيل: النكاح يخالف سائر المتلفات من حيث إن المقصود بها المالية خاصة. فلم تختلف باختلاف المتلف. والنكاح المقصود به أعيان الزوجين فاختلف باختلافهما. ولأن سائر المتلفات لا تختلف باختلاف الفوائد والمهر يختلف باختلاف الفوائد. وأما كون المهر يفرض مؤجلاً إذا كانت عادتهم التأجيل في وجهٍ؛ فلأن مهر مثلها مؤجل. وأما كونه يفرض حالاًّ في وجهٍ؛ فلأنه بدل مثله. فوجب أن يكون حالاًّ؛ كقِيَم سائر المتلفات. ¬

_ (¬1) زيادة من الشرح الكبير 8: 95.

وأما كون بنساء بلدها يعتبر إذا لم يكن لها أقارب؛ فلأن شبهها بهن أقرب من نساء سائر البلاد. فوجب اعتباره؛ لأن له أثراً في الجملة. وأما كون أقرب النساء شبهاً بها يعتبر بعد ذلك؛ فلأن القرب المذكور له أثر. فوجب اعتباره عملاً بذلك الأثر.

فصل [في المهر في النكاح الفاسد] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وأما النكاح الفاسد فإذا افترقا قبل الدخول بطلاق أو غيره: فلا مهر فيه. وإن دخل بها استقر عليه المسمى. وعنه: يجب مهر (¬1) المثل. وهي أصح. فلا يستقر بالخلوة. وقال أصحابنا: يستقر). أما كون النكاح الفاسد لا مهر فيه إذا افترق الزوجان قبل الدخول بطلاق أو غيره؛ فلأن المهر استدعى عقداً صحيحاً أو وطءاً، ولم يوجد واحد منهما. وأما كون المسمى يستقر على الزوج إذا دخل بالزوجة في النكاح الفاسد على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأةٍ نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل. فإن دخل بها فلها المهرُ بما استحل من فرجها» (¬2). والألف واللام للعهد، والمعهود المسمى. ولأن المهر يجب في مقابلة الوطء، وقد وجد. وأما كون مهر المثل يجب على روايةٍ وهي أصح؛ فلأن العقد الفاسد وجوده كعدمه. أشبه ما لو وطئها لا في عقد. وقوله صلى الله عليه وسلم: «فلها المهر» لا يستلزم المسمى؛ لاحتمال إرادة مهر المثل. وأما كون المهر لا يستقر بالخلوة عند المصنف؛ فلأن المهر في النكاح الفاسد إنما يوجبه الوطء لا العقد. بدليل أنه لا يتنصف بالطلاق. ولأن الخلوة هنا لا في نكاح صحيح. أشبه الخلوة بالأجنبية. وأما كونه يستقر على قول أصحابنا؛ فلأن الابتذال بالخلوة فيه كالابتذال بذلك في النكاح الصحيح. فوجب أن يستقر به؛ كالصحيح. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع. (¬2) سبق تخريجه ص: 676.

قال: (ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهةٍ والمكرهة على الزنا، ولا يجب معه أرش البكارة. ويحتمل أن يجب للمكرهة). أما كون المهر يجب للموطوءة بشبهةٍ والمكرهة على الزنا؛ فلأن الواطئ مستحل لفرج كل واحدٍ منهما. فيجب لها المهر عليه؛ لقوله عليه السلام: «فلها المهرُ بما استحلَّ من فرجها» (¬1). فإن قيل: ما معنى قوله عليه السلام: «بما استحَلَّ من فَرجها»؟ فيل: الاستحلال الفعل في غير موضع الحِلّ. ومنه قوله عليه السلام: «ما آمنَ بالقرآنِ من استحلَّ محارمُه» (¬2). ولأن الموجب للمهر في النكاح الفاسد الوطء، وقد وجد هنا. وفي قول المصنف رحمه الله: والمكرهة تنبيه على أن المطاوعة لا مهر لها. وصرح به في الكافي؛ لأنها باذلة لما يوجب البدل لها (¬3). فلم يجب لها شيء؛ كما لو أذنت في قطع يدها. فإن قيل: المطاوعة إذا كانت أمة كالحرة؟ . قيل: لا؛ لأن المهر للسيد لا لها. فلم يسقط بذلها؛ كما لو أذنت في قطع يدها. وأما كونه لا يجب مع المهر في الصورتين المذكورتين أرش البكارة؛ فلأنه وطء ضُمِن بالمهر. فلم يجب معه أرش؛ كالوطء في النكاح الصحيح. وأما كونه يحتمل أن يجب للمكرهة مع المهر الأرش المتقدم ذكره؛ فلأنه إتلاف جزء. فوجب عوضه؛ كما لو جرحها ثم وطئها. والأول أولى؛ لما ذكر. ولأن المهر بدل المنفعة المستوفاة بالوطء، وبدل المتلف لا يختلف بكونه في عقد فاسد وكونه تمحض عدواناً. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 676. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (2918) 5: 180 كتاب فضائل القرآن. (¬3) زيادة من الكافي 3: 77.

ولأن الأرش يدخل في المهر لكون الواجب لها مهر المثل، ومهر البكر يزيد على مهر الثيب ببكارتها. فكانت الزيادة في المهر مقابلة لما أتلف من البكارة فلا يجب عوضها مرة ثانية. قال: (وإذا دفع أجنبية فأذهب عذرتها فعليه أرش بكارتها. وقال القاضي: يجب مهر المثل. وإن فعل ذلك الزوج ثم طلق قبل الدخول لم يكن عليه إلا نصف المسمى). أما كون من دفع أجنبية فأذهب بكارتها عليه أرش بكارتها على قول غير القاضي؛ فلأنه أتلف البكارة. فلزمه أرشها؛ كما لو أتلف منها جزءاً لم يرد الشرع فيه بتقدير. وأما كون مهر المثل يجب على قول القاضي؛ فلما روي «أن رجلاً كانت عنده يتيمة. فخافت امرأته أن يتزوج بها. فاستعانت بنسوة ضبطنها لها فأفسدت عذرتها وقالت لزوجها: فَجَرَت. فأخبر علياً رضي الله عنه بذلك. فأرسل إلى امرأته والنسوة. فلما أتينه لم يلبثن أن اعترفن بما صنعن. فقال للحسن بن علي: اقض فيها. فقال: الحد على من قذفها، والمهر عليها وعلى الممسكات» (¬1). ولأنه إتلاف يُستحق به مهر المثل في العقد. فإذا أتلفه أجنبي وجب مهر المثل؛ كمنفعة البضع. ونسب المصنف في المغني قول القاضي إلى الإمام أحمد فقال فيه: قال أحمد: لها صداق نسائها. وكلامه فيه مشعر بترجيحه. وأما كون الزوج إذا فعل ذلك ثم طلق قبل الدخول لا يكون عليه إلا نصف المسمى؛ فلأنها مطلقة قبل الدخول. فلم يستحق أكثر من نصف المسمى؛ كسائر المطلقات قبل الدخول. ولأنه أتلف ما استحق إتلافه بالعقد. فلم يضمنه؛ كما لو أتلف عذرة أمته. وقال في المغني: يتخرج أن يجب الصداق كاملاً؛ لأن أحمد رضي الله عنه قال: إن فعل ذلك أجنبي عليه الصداق. ففيما يفعله الزوج أولى. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (17463) 4: 30 كتاب النكاح، ما قالوا في المرأة تفسد المرأة بيدها ما عليها في ذلك؟

وتقريره: أن ما يجب الصداق به ابتداء أحق بتقديره. ويتخرج من كلام أحمد وجوب أرش البكارة مع نصف المسمى إن قيل الواجب على الأجنبي أرشها لا مهر المثل؛ لأنه قاسه على الأجنبي فينبغي أن يعطى حكمه من حيث الإتلاف ويعاد عليه بنصف المسمى لكونه مُطَلِّقاً قبل الدخول. قال: (وللمرأة منع نفسها حتى تقبض مهرها. فإن تبرعت بتسليم نفسها ثم أرادت المنع فهل لها ذلك؟ على وجهين). أما كون المرأة لها منع نفسها حتى تقبض مهرها؛ فلأن في إجبارها على تسليم نفسها أولاً خطر إتلاف البضع والامتناع من بذل الصداق. فلا يمكن الرجوع في البضع. وبه يظهر الفرق بين النكاح وبين البيع؛ لأن البائع إذا سلم المبيع أولاً فبتقدير تعذر الثمن يمكنه فسخ البيع والرجوع في عين المبيع. ويشترط في المنع المذكور: أن يكون الصداق حالاًّ فإن كان مؤجلاً لم يملك المنع؛ لأن رضاها بتأجيله رضًى منها بتسليم نفسها قبل قبضه. دليله تأجيل الثمن. ولا فرق بين حلوله بعد تأجيله وبين عدم حلوله. صرح به في المغني؛ لأن التسليم قد وجب عليها فاستقر قبل قبضه. فلم يكن لها أن تمتنع منه. وأما كونها إذا تبرعت بتسليم نفسها ثم أرادت المنع لها ذلك على وجهٍ وهو لابن حامد؛ فلأنه تسليم يوجبه عليها العقد. فكان لها أن تمتنع منه قبل قبض صداقها؛ كما لو لم تتبرع بتسليم نفسها. وأما كونها ليس لها ذلك على وجهٍ وهو لابن بطة وابن شاقلا؛ فلأن التسليم استقر به العوض برضى المُسَلِّم. فلم يكن لها أن تمتنع منه بعد ذلك؛ كما لو سلم البائع المبيع. وفي هذا تنبيه على الفرق بين المتبرع بالتسليم وعدمه. وهو قادح في صحة القياس المذكور قبل. وفي قول المصنف رحمه الله تعالى: تبرعت بتسليم نفسها: إشعارٌ بأنها لو أكرهت على التسليم كان لها الامتناع بعد ذلك. وصرح به الشيخ في المغني. وقاسه على المبيع المكره بائعه على تسليمه.

قال: (وإن أعسر بالمهر قبل الدخول فلها الفسخ. وإن أعسر بعده فعلى وجهين. ولا يجوز الفسخ (¬1) إلا بحكم حاكم). أما كون المرأة لها الفسخ بإعسار الزوج بالمهر قبل الدخول؛ فلأنه تعذر وصولها إلى عوض العقد قبل تسليم المعوض. فكان لها الفسخ؛ كما لو أعسر المشتري بالثمن قبل تسليم المبيع. وأما كونها إذا أعسر بعده ففيه وجهان؛ فلأن ما تقدم من الخلاف في أنها هل لها منع نفسها بعد تسليمها حتى تقبض مهرها؟ يقتضي ذلك: فإن قيل: لها منع نفسها كان لها هنا الفسخ؛ لأنه حينئذ في معنى الفسخ قبل الدخول. وإن قيل: ليس لها المنع لم يكن لها هنا الفسخ؛ كما لو أفلس بدين آخر لها. وأما كون الفسخ لا يجوز إلا بحكم حاكمٍ؛ فلأنه فسخ مجتهد فيه. أشبه الفسخ للاعسار بالنفقة ونحوه. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع.

باب الوليمة

باب الوليمة قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهي: اسم لدعوة العرس خاصة. وهي مستحبة). أما قول المصنف رحمه الله تعالى: وهي اسم لدعوة العرس خاصة: فبيانٌ لمعنى الوليمة لغة. قال ثعلب وغيره من أهل اللغة: الوليمة اسم للطعام في العرس خاصة. لا تقع على غيره. وقال بعض الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: الوليمة تقع على كل طعام لسرورٍ حادث؛ إلا أن استعمالها في العرس أكثر. قال المصنف في المغني: وقول أهل اللغة أقوى؛ لأنهم أهل اللسان وهم أعرف بموضوعات اللغة. فإن قيل: أسماء بقية الدعوات ما هي؟ قيل: دعوة الختان تسمى العذيرة والأعذار، ودعوة الولادة تسمى الخرس والخرسة، ودعوة البناء تسمى الوكِيرة، ودعوة القدوم من الغيبة تسمى النقيعة. قال الشاعر: كل الطعام تشتهى ربيعة ... الخرس والأعذار والنقيعة ودعوة الصبي إذا حذق تسمى الحذاق. ويعم الكل المأدبة؛ لأنها اسم لكل دعوة لها سبب أو لا سبب لها. وصاحبها يسمى الآدب. قال الشاعر: نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر الجفلى: الدعوة العامة. والنقرى: الدعوة الخاصة.

وأما كون الوليمة مستحبة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها عبدالرحمن بن عوف فقال: «أوْلم ولو بشاة» (¬1). ولأنه عليه السلام فعلها. قال أنس: «ما أولمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما أولمَ على زينب. جعل يبعثني فأدعو له الناس. فأطعَمَهم خبزًا ولحمًا حتى شبعوا» (¬2). فإن قيل: قوله: «أولم»: أمر، والأمر للوجوب. فيجب أن تكون واجبة. ولأن الإجابة إليها واجبة. فيجب أن تكون واجبة؟ قيل: أما الأمر فيجوز أن يراد به الاستحباب. وقد قام دليلٌ على إرادته لأنه أمر في حديث عبدالرحمن بشاة. ولو كان الأمر للوجوب لوجبت الشاة. وذلك منتفٍ لوجهين: أحدهما: الإجماع. وثانيهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بحيْس» (¬3) متفق عليه. و«أولم على بعض نسائهِ بمدَّين من شَعير» (¬4) رواه البخاري. ولأن دعوة العرس طعام لسرور. فلم تكن واجبة؛ كسائر الأطعمة. ووجوب الإجابة لا يستلزم وجوب الفعل. دليله السلام فإنه ليس بواجب وإجابته واجبة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (3722) 3: 1432 كتاب فضائل الصحابة، باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1427) 2: 1042 كتاب النكاح، باب الصداق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4877) 5: 1983 كتاب النكاح، باب من أولم على بعض نسائه أكثر من بعض. وأخرجه مسلم في صحيحه (1428) 2: 1048 كتاب النكاح، باب زواج زينب بنت جحش. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4874) 5: 1983 كتاب النكاح، باب الوليمة ولو بشاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1365) 2: 1047 كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (4877) 5: 1983 كتاب النكاح، باب الوليمة ولو بشاة.

قال: (والإجابة إليها واجبة إذا عيّنه الداعي المسلم في اليوم الأول. فإن دعاه الجفلى؛ كقوله: يا أيها الناس! تعالوا إلى الطعام، أو دعاه فيما بعد اليوم الأول، أو دعاه ذمّي: لم تجب الإجابة). أما كون الإجابة إلى وليمة العرس واجبة في الجملة؛ فلأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دُعيَ أحدكم إلى وليمةً فليأتها» (¬1). وفي لفظ: «أجيبوا هذه الدعوة إذا دُعيتم إليها» (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «شرُ الطعام طعامُ الوليمة يُدعى إليها الأغنياء ويُتركُ الفقراء. ومن لم يجب فقد عصَى الله ورسوله» (¬3). [قال: (وسائر الدعوات والإجابة إليها مستحبة غير واجبة. وإذا حضر وهو صائم صوماً واجباً لم يفطر، وإن كان نفلاً أو كان مفطراً استحب الأكل. وإن أحب دعا وانصرف). أما كون سائر الدعوات والإجابة إليها غير واجبة؛ فلما روي عن عثمان بن أبي العاص: «أنه دعي إلى ختان فأبى أن يجيب. وقال: إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬4). رواه الإمام أحمد. وما كونها تستحب فلقوله عليه السلام: «إذا دعي أحدكم فليجب عُرسا كان أو غير عرس» (¬5). رواه أبو داود. ولأن فيه جبر قلب الداعي وتطييبه. وأما كونه إذا حضر وهو صائم صوماً واجباً لا يفطر؛ فلأن] (¬6) الأكل غير واجب لما يأتي. فلا يترك واجباً لأجل مستحب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4878) 5: 1984 كتاب النكاح، باب حق إجاية الوليمة والدعوة ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1429) 2: 1052 كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4884) 5: 1985 كتاب النكاح، باب إجابة الداعي في العرس ونحوه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1429) 2: 1053، الموضع السابق. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1432) 2: 1054، الموضع السابق. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (17938) 4: 217. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3738) 3: 339 كتاب الأطعمة، باب: ما جاء في إجابة الدعوة. (¬6) ساقط من أ. وقد تم استدراك المتن من المقنع. والباقي من الكافي 3: 80 - 81.

وأما كونه يستحب له الأكل إذا كان صائماً نفلاً؛ فلأن فيه إجابةً لأخيه المسلم، وإدخالَ السرور على قلبه. وقد روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في دعوة ومعه جماعة. فاعتزل رجل من القوم ناحية. فقال: إني صائم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلّف لكم. كُلْ. ثم صم يومًا مكانه إن شئت» (¬1). وأما كونه إن أحب دعا وانصرف؛ فلأنه داخل في قوله عليه السلام: «فإن كان صائماً فليدْعُ» (¬2). ولأن الأكل غير واجب لما يأتي. فلم يجب أن يترك صومه وإن كان نفلاً. فعلى هذا يستحب له أن يُعلم صاحب الدعوة بأنه صائم ليعلم عذره وتزول عنه التهمة في ترك الأكل. وعن عبدالله: «إذا عُرضَ على أحدكم الطعامَ وهو صائم فليقل: إني صائم» (¬3). وعن عثمان بن عفان: «أنه أجاب عبد المغيرة وهو صائم. فقال: إني صائم ولكني أحببت أن أجيب الداعي فأدعو له بالبركة». رواه أبو حفص. وأما كونه استحب له الأكل إذا كان مفطراً؛ فلما تقدم في الصائم نفلاً. ولأنه إذا استحب للصائم أن يفطر من أجل الأكل؛ فلأن يستحب للمفطر الأكل بطريق الأولى. وإنما لم يَجب الأكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دُعي أحدكم فليُجِب. فإن شاءَ أكلَ وإن شاءَ ترك» (¬4). حديث صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 462 كتاب الصيام، باب التخيير في القضاء إن كان صومه تطوعًا. بمعناه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3737) 3: 340 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في إجابة الدعوة. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (9442) 2: 318 كتاب الصيام، من كان يقول: إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (7483) 4: 200 كتاب الصيام، باب الرجل يدعى إلى طعام وهو صائم. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1430) 2: 1054 كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة. أخرجه أبو داود في سننه (3740) 3: 341 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في إجابة الدعوة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1751) 1: 557 كتاب الصيام، باب من دعى إلى طعام وهو صائم.

فإن قيل: قوله عليه السلام: «فإن كان مفطرًا فليطعَم» (¬1) يقتضي وجوب الأكل. ولأن المقصود الأكل. فيجب أن يكون واجباً. قيل: أما الخبر فمحمول على الاستحباب لما ذكرنا من الحديث لما فيه من الجمع الذي لا يمكن عكسه. وأما كون المقصود الأكل فيبطل بالصائم فرضاً. فإنه يجب عليه الإجابة مع أنه ممنوع من الأكل. فعلى هذا المقصود الإجابة وقد وجدت من المفطر إن لم يأكل. قال: (فإن دعاه اثنان أجاب أولهما. فإن استويا أجاب أدينهما، ثم أقربهما جواراً). أما كون من دعاه اثنان يجيب أولهما؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن سبقَ أحدهما فأجبِ الذي سبق ... مختصر» (¬2) رواه أبو داود. ولأن إجابته وجبت بدعوته. فلم تزل بدعوة الثاني. وكلام المصنف رحمه الله مشعرٌ بأنه لا يجيب دعوة الثاني. وهو صحيح. لكن بشرط أن لا يتسع الوقت لإجابتهما؛ لأنه لو وجبت عليه إجابة الثاني مع عدم اتساع الزمن لأوجبنا عليه ما لا يمكنه فعله إلا يترك واجب مثله بل أرجح منه؛ لأن حق الأول سابق. فإن اتسع الوقت لهما وجبت إجابتهما للنصوص المتقدمة السالمة عما ذكر قبل. وأما كونه يجيب أدينهما مع تساويهما في الدعوة؛ مثل أن تتفق دعوتهما في وقت واحد؛ فلأن كثرة الدِّين لها أثر في التقديم. دليله الإمامة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1431) 2: 1054 كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة. (¬2) سيأتي تخريجه في الحديث الآتي.

وأما كونه يجيب أقربهما جواراً مع تساويهما في الدعوة والدِّين؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتمعَ داعيان فأجبْ أقربَهما بابًا فإنَّ أقربَهما بابًا أقربَهما جوارًا» (¬1) رواه أبو داود. وعن عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله! إن لي جارين. فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منكِ بابًا» (¬2) رواه البخاري. فإن قيل: فإن كان أحدهما أقرب والآخر أدين. قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى هنا أنه يجيب الأدين؛ لأن الدين درجة رفيعة فكيف بالأدين. وقال في المغني: يقدم أقربهما منه باباً فإن استويا فأدينهما. وظاهره أنه يجيب الجار الأقرب دون غيره وإن كان أدين منه؛ لأن القرب في الجوار مأخوذ من الحديث، والكثرة في الدين مأخوذة من الأصول. قال: (وإن علم أن في الدعوة منكراً كالزمر والخمر وأمكنه الإنكار حضر وأنكر، وإلا لم يحضر). أما كون من ذكر يحضر وينكر إذا أمكنه الإنكار؛ فلأن فيه تحصيل فرضين فرض الإجابة وفرض إزالة المنكر. وأما كونه لا يحضر إذا لم يمكنه الإنكار؛ فلأن عليه ضرراً في الحضور. ولأنه يحرم عليه مشاهدة المنكر مع إمكان عدم مشاهدته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدةٍ يُدارُ عليها الخمر» (¬3). رواه أبو حفص. ولأنه يشاهد المنكر من غير حاجة إليه. فمنع منه؛ كما لو شاهده مع القدرة على إزالته. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3756) 3: 344 كتاب الأطعمة، باب إذا اجتمع داعيان أيهما أحق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2455) 2: 916 كتاب الهبة وفضلها، باب بمن يبدأ بالهدية. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (2801) 5: 113 كتاب الأدب، باب ما جاء في دخول الحمام.، عن جابر بن عبدالله. وأخرجه أحمد في مسنده (125) 1: 20 عن عمر.

فإن قيل: الحديث يدل على المنع من الحضور في موضع فيه محرم من غير تقييد بإمكان الإنكار. قيل: ذلك مستثنى لدلالة الدليل عليه. قال: (وإن حضر فشاهد المنكر أزاله وجلس. فإن لم يقدر انصرف. فإن علم به ولم يره ولم يسمعه فله الجلوس). أما كون من حضر فشاهد المنكر يزيله ويجلس؛ فلأن فيه جمعاً بين مصلحتي الإنكار، ومقصود الإجابة الشرعية. وأما كونه ينصرف إذا لم يقدر على الإزالة؛ فلأن القعود مع مشاهدة المحرم حرام لما تقدم. وأما الجلوس إذا علم به ولم يره ولم يسمعه؛ فلأن المحرم رؤية المنكر وسماعه ولم يوجد واحد منهما. قال: (وإن شاهد ستوراً معلقة فيها صور الحيوان [لم يجلس إلا أن تزال. وإن كانت مبسوطة أو على وسادة فلا بأس بها). أما كون من شاهد ستوراً معلقة فيها صور الحيوان] (¬1) لم يجلس إذا لم تزل؛ فلأن ستر الجدران بذلك حرام؛ لما روت عائشة قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة بنمط فيه تصاوير. فلما رآه قال: أتسترين بستر فيه تصاوير؟ فهتكه. فجعلتُ منه منتبذتين. فكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم متكئا على أحدهما» (¬2) رواه ابن عبدالبر. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: أتيتُكَ البارحةَ. فلم يمنعني أن أكونَ دخلتُ إلا أنه كان على البابِ سترٌ فيه تماثيل. وكان في البيتِ كلب» (¬3). ¬

_ (¬1) ساقط من أ. وقد تم استدراك المتن من المقنع، والباقي زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2347) 2: 876 كتاب المظالم، باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر أو تخرق الزقاق. بلفظ: «أنها كانت اتخذت على سهوةٍ لها سترًا فيه تماثيل فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم، فاتخذت من نُمرقتين فكانتا في البيت يجلس عليهما». (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4158) 4: 74 كتاب اللباس، باب في الصور. وأخرجه الترمذي في جامعه (2806) 5: 115 كتاب الأدب، باب ما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة ولا كلب.

وقول المصنف رحمه الله: لم يجلس: ظاهرُه أنه ممنوع من الجلوس. ودليله ظاهر؛ لأن الستر المتقدم منكر لما تقدم. فيحرم على المشاهد له الجلوس؛ لما تقدم. وقال في المغني: أما دخول منزل فيه صورة فليس بمحرم. وإنما أبيح ترك الدعوة من أجله عقوبة للداعي بإسقاط حرمته لاتخاذه المنكر في داره. فلا يجب على من رآه في منزل الداعي الخروج في ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه فإنه قال في روايةِ الفضل بن زياد: إذا رأى صوراً على الستر لم يكن رآها حين دخل قال: هو أسهل من أن يكون على الجدار. قيل له: فإن لم يره إلا عند وضع الخوان أيخرج؟ قال: لا تضيق علينا. ولكن إذا رأى هذا وبخهم ونهاهم. يعني لا يخرج. هذا لفظه. واحتج على ذلك بـ «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلَ الكعبة فرأى فيها صورةَ إبراهيم وإسماعيل» (¬1). وبأن علياً دخل ومعه جماعة من المسلمين الكنيسة لما عمل النصارى طعاماً لعمر حين قدم الشام فجعل علي ينظر إلى الصور. وبأن دخول البيَع والكنائس غير حرام وفيها الصور. فكذلك المنازل. فإن قيل: فقد جاء في الحديث: «أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة» (¬2). وذلك مشعر بالتحريم. ولأنه لو لم يكن محرمًا لما جاز ترك الإجابة الواجبة من أجله. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2027) 2: 214 أول كتاب المناسك، باب في دخول الكعبة. (¬2) عن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة». أخرجه البخاري في صحيحه (3144) 3: 1206 كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ... وأخرجه مسلم في صحيحه (2106) 3: 1665 كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان ...

قيل: أما عدم دخول الملائكة فلا يوجب تحريم الدخول عليها. بدليل أنها لا تدخل بيتاً فيه كلب. ولا يحرم علينا دخوله، وأنها لا تصحب رفقة فيها جرس. ولا يحرم علينا صحبتهم. وأما ترك الإجابة الواجبة من أجله فقد تقدم أن ذلك إنما كان عقوبة للداعي لاتخاذه المنكر في داره. ولأن فيه زجراً له عن فعله. وفيما ذكره المصنف رحمه الله تعالى في المغني نظر؛ لأن التصوير في الحائط أو الستر إذا كان محرماً فأيُّ فرق بين مشاهدة ذلك وبين مشاهدة الخمر ونحوه؟ . وما ذكر من جواز دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وفيها صورة إبراهيم وإسماعيل، ودخول علي والمسلمين بيعة النصارى. فيمكن الفرق بينه وبين الدار المصورة والستر المعلق المصور من حيث إن صاحب الدار معتقد حرمة ذلك ملتزم بحكم شرعنا المحرم له. بخلاف الكنائس والبيع فإن أصحابها معتقدون حل ذلك غير ملتزمين بحكم شرعنا. وهم مقرون على ذلك؛ لأنهم مقرون على كفرهم؛ فلأن يقروا على ذلك بطريق الأولى. وأما كونه يجلس إذا أزيلت الستور المتقدم ذكرها؛ فلأن المحرم للجلوس مشاهدة ذلك. فوجب أن ينتفي عند انتفائه. وأما كونه لا بأس بالستور المتقدم ذكرها إذا كانت مبسوطة؛ فلأن فيه إهانة لها وابتذالاً. ولأن تحريم تعليقها إنما كان لما فيه من التعظيم والإعزاز والتشبه بالأصنام التي تعبد وتتخذ آلهة. وكل ذلك مفقود في البسط. وأما كونه لا بأس بها إذا كانت على وسادة؛ فلأن عائشة قالت: «فجعلتُ منه -يعني من النمط الذي فيه تصاوير- منتبذتين. كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على أحدهما» (¬1). رواه ابن عبدالبر. وفي حديث أبي هريرة المتقدم ذكره: «أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: مُر بالستر فلتقطع منه وسادتان منبوذتان يوطآن. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 710. (¬2) سبق تخريج حديث أبي هريرة ص: 710.

ولأن في ذلك إهانة. أشبه البسط. فإن قيل: الكلام في الجلوس لدعوة العرس فما بال المصنف لم يتعرض له في بسط ما فيه صورة حيوان وجعله على وسادة؟ قيل: قد تقدم أن المبيح لعدم الجلوس فعل صاحب الدعوة المحرم في داره فإذا تبين أن فعل ذلك ليس بمحرم علم انتفاء المبيح. فيفهم منه الجلوس؛ لانتفاء المبيح لعدمه. قال: (وإن ستر الحيطان بستورٍ لا صور فيها أو فيها صور غير الحيوان فهل تباح؟ على روايتين). أما كون ما ذكر لا يباح على روايةٍ؛ فلأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن تستر الجدر» (¬1) رواه الخلال. وعن عبدالله: «أن أبا أيوب قال له: يا عبدالله! تسترون الجدر؟ لا أطعم لكم طعامًا ولا أدخل لكم بيتًا» (¬2). رواه الأثرم. وعن عبدالله بن يزيد الخطمي «أنه دعي إلى طعام. فرأى البيتَ منجداً. فقعد خارجاً وبكى. فقيل: ما يبكيك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد رقعَ بردةً له بقطعة أدم. فقال: تطالعت عليكم الدنيا -ثلاثاً-. فقال: أنتم اليوم خير أم إذا غدت عليكم قصعة وراحت أخرى، ويغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، وتسترون بيوتكم؛ كما تستر الكعبة. قال عبدالله: أفلا أبكي وقد بقيت حتى رأيتكم تسترون بيوتكم؛ كما تستر الكعبة». وأما كون ذلك يباح على روايةٍ؛ فلأن ابن عمر فعله، وفُعل في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، وقد رجّح المصنف في المغني هذه الرواية. فإن قيل: الحرمة المذكورة مطلقة في كل حال أو يشترط في ذلك عدم الحاجة. ¬

_ (¬1) أخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير 1: 170. (¬2) ذكره البخاري في صحيحه تعليقا مختصراً 5: 1986 كتاب النكاح، باب هل يرجع إذا رأى منكراً في الدعوة؟ وقال ابن حجر: وصله أحمد في كتاب الورع، ومسدد في مسنده. فتح الباري 9: 158.

قيل: بل يشترط في ذلك عدم الحاجة. فإن دعت الحاجة إليه من حرٍّ أو بردٍ فلا بأس به. ذكره المصنف رحمه الله تعالى في المغني. وعلل بأنه استعمال في حاجة. أشبه ستر الباب وما يلبسه على بدنه. فعلى هذا يحمل كلام المصنف هنا على عدم الحاجة جمعاً بين نقليه في كتابيه. وينبغي أن يلحظ إباحة عدم الإجابة والجلوس في الدعوة الواجبة إجابتها على الروايتين جميعاً؛ لأن المصنف قال في المغني: وإن كان لغير حاجة فهو مكروه وعذر في الرجوع وترك الإجابة. وإذا كانت الكراهة عذراً فالحرمة بطريق الأولى. قال: (ولا يباح الأكل بغير إذن. والدعاء إلى الوليمة إذن فيه). أما كون الأكل لا يباح بغير إذن؛ فلأن المأكول من مال الغير. فلا يباح بغير إذنه؛ كلبس ثوبه وركوب دابته. وأما كون الدعاء إلى الوليمة إذناً في الأكل؛ فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دُعيَ أحدكم [إلى طعامٍ] فجاءَ مع الرسولِ فذلكَ إذنٌ له» (¬1) رواه أبو داود. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «إذا دُعيتَ فقد أُذن لك». رواه الإمام أحمد. قال: (والنِّثار والتقاطه مكروه. وعنه: لا يكره. ومن حصل في حجره شيء منه فهو له). أما كون النِّثار والتقاطه مكروهاً على المذهب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهَى عن النُّهبَى والمثلَة» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (5190) 4: 348 كتاب الأدب، باب في الرجل يُدعى أيكون ذلك إذنه. وما بين المعكوفين زيادة من السنن. وأخرجه أحمد في مسنده (10907) 2: 533. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2342) 2: 875 كتاب المظالم، باب النهي بغير إذن صاحبه. وأخرجه أحمد في مسنده (18732) 4: 306.

ولأن فيه تزاحماً وقتالاً. وربما أخذه من يكره صاحب النثار أخذه (¬1) لحرصه وشرهه ودناءة نفسه. فإن قيل: ظاهر النهي التحريم. فيجب أن يكون حراماً. لا سيما وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحلُّ النهبَى ولا المثلة» (¬2) رواه البخاري. قيل: ذلك الإجماع فإنه لا خلاف في الإباحة ذكره المصنف في المغني. ولأنه نوع إباحة لمال. فلم يكن محرماً؛ كسائر الإباحات. وأما كون ذلك لا يكره على روايةٍ؛ فلما روى عبدالله بن قرط قال: «قُرِّبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسُ بدناتٍ أو ست فطفِقْنَ يزدلِفْنَ إليه بأيتِهن يبدأُ. فنحرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال كلمة لم أسمعها. فسألتُ من قَرُبَ منه فقال: قال: من شاءَ اقتطَع» (¬3) رواه أبو داود. وهذا جار مجرى النثار والتقاطه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه دُعيَ إلى وليمة رجل من الأنصار. ثم أتوا بنهب فأنهبَ عليه. قال الراوي: ونظرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يزاحمُ الناسَ أو نحو ذلك. قال: قلت: يا رسول الله! أوما نهيتنا عن النهبى؟ قال: نهيتكم عن نهبة العساكر». ولأنه نوع إباحة. أشبه إباحة الطعام. وأما كون من حصل في حجره شيء منه فهو له؛ فلأنه مباح حصل في حجره. فكان له؛ كما لو وثبت سمكة من البحر فوقعت في حجره. ¬

_ (¬1) زيادة من الشرح الكبير 8: 119. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (4326) 7: 201 كتاب الصيد، باب تحريم أكل السباع. ولم أره في البخاري. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1765) 2: 148 كتاب المناسك، باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ.

قال: (ويستحب إعلان النكاح والضرب عليه بالدف). أما كون ما ذكر يستحب؛ فلما روى محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصلُ ما بين الحلال والحرام الصوتُ والدفُ في النكاح» (¬1) رواه النسائي. وقال عليه السلام: «أعلنُوا النكاح، واضربوا عليه بالغِربَال» (¬2) رواه ابن ماجة. وأما كونه لا يجب؛ فلأن كثيراً من الصحابة تزوج وما فعله. وعن عائشة «أنها زوجت يتيمة رجلاً من الأنصار. فكانت عائشة رضي الله عنها فيمن أهداها إلى زوجها. قالت: فلما رجعنا. قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قُلتم يا عائشة؟ قالت: سلّمنا ودعونا بالبركة ثم انصرفنا. فقال: إن الأنصارَ قوم فيهم غزَل. ألا قلتم: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم» (¬3) رواه ابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (3369) 6: 127 كتاب النكاح، باب إعلان النكاح بالصوت وضرب الدف. وأخرجه الترمذي في جامعه (1088) 3: 398 كتاب النكاح، باب ما جاء في إعلان النكاح. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1896) 1: 611 كتاب النكاح، باب إعلان النكاح. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1895) 1: 611 كتاب النكاح، باب إعلان النكاح. عن عائشة. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (1900) 1: 612 كتاب النكاح، باب الغناء والدف.

باب عشرة النساء

باب عشرة النساء قال المصنف رحمه الله تعالى: (يلزم كل واحدٍ من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف. وأن لا يمطله بحقه، ولا يظهر الكراهة لبذله). أما كون كل واحدٍ من الزوجين يلزمه معاشرة الآخر بالمعروف؛ فلأن الله تعالى قال: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19]، وقال: {ولهن مِثْلُ الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228]. قال أبو زيد: تتقون الله فيهن؛ كما عليهن أن يتقين الله فيكم. وأما كون كل واحدٍ منهما يلزمه أن لا يمطل الآخر بحقه؛ فلأن المطل بالحق مع القدرة عليه حرام. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَطْلُ الغني ظُلم» (¬1). وأما كون كل واحدٍ منهما يلزمه أن لا يظهر الكراهة لبذله؛ فلأن ذلك من المعاشرة بالمعروف. قال: (وإذا تم العقد وجب تسليم المرأة في بيت الزوج إذا طلبها وكانت حرة يمكن الاستمتاع بها ولم تشترط دارها. وإن سألت الإنظار أنظرت مدة جرت العادة بإصلاح أمرها فيها. وإن كانت أمة لم يجب تسليمها إلا بالليل). أما كون تسليم المرأة يجب إذا تم العقد؛ فلأن بالعقد استحق الاستمتاع بها. وذلك لا يحصل إلا بالتسليم. وأما كونه في بيت الزوج؛ فلأن الحق له. فملك تعيين موضعه. وأما كونه يشترط لهذا الوجوب طلب الزوج لها؛ فلأن الحق له. فلا يجب بدون الطلب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2166) 2: 799 كتاب الحوالات، باب في الحوالة وهل يرجع في الحوالة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1564) 3: 1197 كتاب المساقاة، باب تحريم مطل الغني ...

وأما كونه يشترط له أن تكون حرة؛ فلأن الأمة لا يجب تسليمها مطلقاً بل ليلاً لأن النهار تكون في خدمة سيدها. وأما كونه يشترط له أن تكون يمكن الاستمتاع بها؛ فلأن التسليم إنما وجب ضرورة استيفاء الاستمتاع الواجب. فإذا لم يمكن الاستمتاع بها لم يكن واجباً. والإمكان معتبر بتسع سنين نص عليه الإمام أحمد وذلك «لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلَ بعائشة وهي ابنة تسع» (¬1). وقال القاضي: هو معتبر بحالها واحتمالها؛ لأنها قد تكون كبيرة لا يمكنها وصغيرة يمكنها. وحمل كلام الإمام على الغالب؛ لا أنه قصد التحديد لأن الإمكان قد يتخلف عن ذلك. فكيف يجب التسليم؟ وحقيقة الإمكان منتفية. وأما كونه يشترط له أن لا تشترط دارها؛ فلأن ذلك شرط لازم عندنا. وأما كون المرأة تنظر مدة جرت العادة بإصلاح أمرها فيها إذا سألت الإنظار؛ فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك. ولأن في قوله عليه السلام: «لا تطرقُوا النساءَ ليلاً حتى تَمْتشِطَ الشَّعِثَةُ وتستحِدَّ المغِيبَة» (¬2) تنبيهاً على الإمهال المذكور؛ لأنه إذا منع من الطروق وأمر بإمهالها لتصلح أمرها مع تقدم صحبته لها. فلأن تمهل هذه بطريق الأولى. فإن قيل: كم مقدار ذلك؟ قيل: قدره المصنف في المغني باليومين والثلاثة؛ لأن ما تحتاج إليه يمكن فعله في ذلك. وأما كون الأمة لا يجب تسليمها إلا بالليل؛ فلأنها مملوكة. عُقد على إحدى منفعتيها. فلم يجب تسليمها في غير وقتها؛ كما لو أجرها لخدمة النهار. فإنه لا يجب تسليمها بالليل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4841) 5: 1973 كتاب النكاح، باب تزويج الأب ابنته من الإمام. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4791) 5: 1954 كتاب النكاح، باب تزويج الثيبات. وأخرجه مسلم في صحيحه (715) 1: 1527 كتاب الإمارة، باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلاً لمن ورد من سفر.

قال: (وله الاستمتاع بها ما لم يشغلها عن الفرائض من غير إضرار بها. وله السفر بها إلا أن تشترط بلدها). أما كون الزوج له الاستمتاع بالزوجة ما لم يشغلها عن الفرائض ولم يضر بها؛ فلأن المقصود من النكاح الاستمتاع. فإذا لم يشغلها عن الفرائض ولم يضر بها وجب عليها التمكين منه. وقد نبه على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث حث على طاعة الزوج، وقد روي عنه أنه قال: «من باتتْ مهاجرةً فراشَ زوجها لعنتْها الملائكةُ حتى ترجع» (¬1) متفق عليه. وأما كونه ليس له الاستمتاع بها إذا شغلها عن الفرائض؛ فلأن وقت ذلك مستثنى بأصل الشرع. وأما كونه له السفر بها إذا لم تشترط بلدها؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بنسائه» (¬2). ولأن حاجته تدعو إلى الاستمتاع في السفر. وهو حق عليها. ولا يمكن إلا بالسفر معه. فكان له عليها ذلك. ضرورة تحصيل الاستمتاع الواجب. فإن قيل: له السفر بها مطلقاً أم بشرط الأمن؟ قيل: بل بشرط الأمن؛ لأن في سفرها مع الخوف ضرراً عليها. والضرر لا يزال بالضرر. وأما كونه ليس له السفر بها إذا اشترطت بلدها؛ فلأن اشتراط ذلك يلزم الوفاء؛ لما تقدم في الشروط اللازمة (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4898) 5: 1994 كتاب النكاح، باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1436) 2: 1059 كتاب النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها. (¬2) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه». أخرجه البخاري في صحيحه (2453) 2: 916 كتاب الهبة وفضلها، باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز ... (¬3) ص: 600.

قال: (ولا يجوز وطؤها في الحيض ولا في الدبر). أما كون وطء المرأة في الحيض لا يجوز؛ فلأن الله تعالى قال: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يَطْهُرن} [البقرة: 222]. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفرَ بما أُنزلَ على محمد» (¬1) رواه الأثرم. وأما كون وطئها في الدبر لا يجوز؛ فلما تقدم. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يستحيي من الحق. لا تأتوا النساء في أعجازهن» (¬2). وعن أبي هريرة وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله إلى رجلٍ جامع امرأةً في دبرها» (¬3). رواهما ابن ماجة. فإن قيل: قوله تعالى: {نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: 223] يقتضي الخيرة في إتيانها في أي موضع شاء. قيل: هو كذلك إلا الدبر؛ لما روى جابر قال: «كان اليهود يقولون: إذا جامعَ الرجلُ امرأته في فرجها من ورائها جاء الولدُ أحوَل. فأنزل الله تعالى: {نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [النساء: 223] أي: من بين يديها ومن خلفها. غير أن لا يأتيها إلا في المأْتِي» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3904) 4: 15 كتاب الطب، باب في الكاهن. وأخرجه الترمذي في جامعه (135) 1: 242 أبواب الطهارة، باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض. وأخرجه ابن ماجة في سننه (639) 1: 209 كتاب الطهارة وسننها، باب النهي عن إتيان الحائض. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1924) 1: 619 كتاب النكاح، باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1165) 3: 469 كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن. عن ابن عباس. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1923) 1: 619 كتاب النكاح، باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن. عن أبي هريرة. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (4254) 4: 1645 كتاب التفسير، باب {نساؤكم حرث لكم ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (1435) 2: 1058 كتاب النكاح، باب جواز جماعه امرأته في قبلها، من قدامها.

وفي روايةٍ: «يأيتها مقبلةً ومدبرةً إذا كان ذلك في الفرج» (¬1). فإن قيل: إذا كان الوطء فيه حراماً. فهل يجب به الحد؛ كاللواط؟ قيل: لا؛ لأن الحد يُدرأ بالشبهة. وهي موجودة هنا. بخلاف وطء الأجنبية في دبرها فإنه يجب به حد اللواط؛ لأنه لا شبهة فيه. قال: (ولا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، ولا عن الأمة إلا بإذن سيدها). أما كون الزوج لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها؛ فلما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعزلَ عن الحرة إلا بإذنها» (¬2). رواه الإمام أحمد وابن ماجة. ولأن لها في الولد حقاً وعليها في العزل ضرراً. وقال المصنف في المغني: يحتمل أن يكون استئذانها مستحباً؛ لأن حقها في الوطء دون الإنزال. بدليل أنه يَخْرج به من الفيئة والعنة. ثم قال: والأول أولى. وأما كونه لا يعزل عن الأمة إلا بإذن سيدها؛ فلأن الولد حق له. فاشترط إذنه. ولم يذكر المصنف في المغني إذن السيد بحال. قال: فأما زوجته الأمة فيحتمل جواز العزل عنها بغير إذنها استدلالاً بمفهوم هذا الحديث. يعني حديث الحرة. وقال ابن عباس: «تُستأذنُ الحرةُ ولا تُستأذنُ الأمة». ولأن عليه ضرراً في استرقاق ولده. بخلاف الحرة. ويحتمل أن لا يجوز إلا بإذنها؛ لأنها زوجة تملك المطالبة بالوطء في الفيئة والفسخ عند تعذره بالعنة وترك العزل من تمامه. فلم يجز إلا بإذنها؛ كالحرة. والمراد بقول المصنف هنا: ولا عن الأمة: الأمة المعقود عليها لا الأمة المملوكة للواطئ؛ لأنه قال في المغني: ويجوز العزل عن أمته بغير إذنها. نص ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 196 كتاب النكاح، باب إتيان النساء في أدبارهن. عن ابن عباس. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1928) 1: 620 كتاب النكاح، باب العزل. قال في الزوائد: في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف. وأخرجه أحمد في مسنده (212) 1: 31. كلاهما عن عمر.

عليه؛ لأنها لا حق لها في الوطء ولا في الولد ولذلك لم تملك المطالبة بالقسم ولا الفيئة. فلأن لا تملك المنع من العزل بطريق الأولى. قال: (وله إجبارها على الغسل من الحيض والجنابة والنجاسة واجتناب المحرمات، وأخذ الشعر الذي تعافه النفس؛ إلا الذمية فله إجبارها على غسل الحيض، وفي سائر الأشياء روايتان). أما كون الزوج له إجبار زوجته المسلمة على جميع ما تقدم ذكره؛ فلأنه دائر بين واجب عليها وبين شيء يقف كمال الاستمتاع عليه. وأما كونه له إجبار زوجته الذمية على غسل الحيض؛ فلأن حل الوطء موقوف عليه. وأما كونه له إجبارها على سائر الأشياء في روايةٍ؛ فلأن كمال الاستمتاع يقف عليه. إذ النفس تعاف وطء من عليها غسل، أو شربت مسكراً، أو لها شعر. وأما كونه ليس له إجبارها على ذلك في روايةٍ؛ فلأن غسل الجنابة والنجاسة واجتناب المحارم عندنا غير واجب عليها وإزالة الشعر غير مشروع عندها. وقال المصنف في المغني: شعر العانة إذا خرج عن العادة فله إجبارها على إزالته رواية واحدة.

فصل [في حقوق الزوجة] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ولها عليه: أن يبيت عندها ليلة من كل أربع ليال. وإن كانت أمة فمن كل ثمان ليال. وقال أصحابنا: من كل سبع. وله الانفراد بنفسه فيما بقي). أما كون الزوجة الحرة لها على زوجها أن يبيت عندها ليلة من كل أربع؛ «فلأن كعب بن سور كان جالسًا عند عمر بن الخطاب فجاءت امرأة. فقالت: يا أمير المؤمنين! ما رأيتُ رجلاً قط أفضل من زوجي. والله! إنه ليبيتُ ليله قائمًا ويظلُ نهارهُ صائمًا. فاستغفرَ لها وأثنى عليها واستحيت المرأةُ وقامت راجعة. فقال كعب: يا أمير المؤمنين! هلا أعديتَ المرأة على زوجها. فقال: وما ذاك؟ فقال: إنها جاءت تشكوه. إذا كانت هذه حاله في العبادة متى يتفرغ لها. فبعث عمر إلى زوجها. وقال لكعب: اقض بينهما. فإنك فهمتَ من أمرهما ما لم أفهم. قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن. فأقضي له بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة. فقال عمر: والله! ما رأيك الأول بأعجب إليَّ من الآخر. اذهب فأنت قاضٍ على البصرة». وفي روايةٍ: فقال عمر: «نعم القاضي أنت». وهذه قضية اشتهرت ولم تنكر. فكانت إجماعًا. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدالله بن عمرو (¬1) بن العاص: «إن لزوجك عليك حقًا» (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: قال لعمرو. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4903) 5: 1995 كتاب النكاح، باب لزوجك عليك حق. وأخرجه مسلم في صحيحه (1159) 1: 817 كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرّر به ...

ولأنه لو لم يكن لها عليه حق لكان له تخصيص إحدى زوجتيه؛ كالزيادة في النفقة على قدر الواجب. وإذا ثبت وجوب الحق في الجملة وجب تقديره بما ذكر؛ لحكم كعب بن سور وتصويب عمر له. وأما كون الزوجة الأمة لها على زوجها أن يبيت عندها ليلة من كل ثمان عند المصنف؛ فلأن الأمة على النصف من الحرة. وأما كون ذلك من كل سبع عند أصحابنا؛ فلأن أكثر ما يمكن أن يجمع معها ثلاث حرائر فتبقى السابعة لها. فإن قيل: من أين لك أن الليلة من الثمان اختيار المصنف؟ قيل: لأن في قوله: وقال أصحابنا إشعاراً بذلك. وصرح به في المغني فقال بعد أن حكى أن لها ليلة من سبع: والذي يقوى عندي أن لها ليلة من ثمان لتكون على النصف مما للحرة. فإن حق الحرة من كل ثمان ليلتان ليس لها أكثر من ذلك. فلو كان للأمة ليلة من سبع لزاد على النصف ولم يكن للحرة ليلتان وللأمة ليلة. ولأنه إذا كان تحته ثلاث حرائر وأمة. فلم يرد أن يزيد لهن على الواجب فقسم بينهن سبعاً فماذا يصنع في الليلة الثامنة؟ إن أوجبنا عليه مبيتها عند الحرة فقد أوجبنا عليه زيادة على الواجب، وإن باتها عند الأمة جعلها كالحرة ولا سبيل إليه. وعلى ما اخترته تكون هذه الليلة الثامنة له، إن أحب انفرد بها فيها وإن أحب بات عند الأولى مستأنفاً للقسم. وأما كونه له الانفراد بنفسه فيما بقي؛ فلما تقدم من حديث كعب بن سور. قال: (وعليه وطؤها في كل أربعة أشهر مرة إن لم يكن عذر. وإن سافر عنها أكثر من ستة أشهر فطلبت قدومه لزمه ذلك إن لم يكن عذر. فإن أبى شيئاً من ذلك ولم يكن عذر فطلبت الفرقة فرّق بينهما. وعنه: ما يدل أن الوطء غير واجب فيكون هذا كله غير واجب). أما كون الزوج عليه وطء زوجته في كل أربعة أشهر مرة إن لم يكن عذر على المذهب؛ فلأنه لو لم يكن واجباً لم يصر باليمين على تركه واجباً؛ كسائر ما لا يجب.

ولأن النكاح شرع لمصلحة الزوجين ودفع الضرر عنهما، وهو مفضٍ إلى دفع ضرر الشهوة عن المرأة كإفضائه إلى دفع ذلك عن الرجل. فيجب تعليله بذلك ويكون النكاح حقاً لهما. ولأنه لو لم يكن لها فيه حق لما وجب استئذانها في العزل؛ كالأمة المملوكة له. وإنما اشترط عليه كون المدة أربعة أشهر؛ لأن الله تعالى قدر في حق المولي ذلك. ولو وجب الوطء في أقل من ذلك لوجب على المولي في تلك المدة. وإنما اشترط أن لا يكون عذر كمرض ونحوه لأن صاحب العذر معذور. فلم يجب عليه من أجل عذره. وأما كونه يلزمه القدوم إذا سافر عنها أكثر من ستة أشهر فطلبت ذلك ولم يكن عذر؛ فلما روى زيد بن أسلم قال: «بينما عمر بن الخطاب يحرس المدينة فمر بامرأة في بيتها وهي تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وطال عليّ أن لا خليل ألاعبه فوالله لولا خشية الله وحده ... لحرك من هذا السرير جوانبه فسأل عنها عمر. فقيل له: فلانة. زوجها غائب في سبيل الله. فأرسل إليها امرأة تكون معها وبعث إلى زوجها فأقفله. ثم دخل على حفصة فقال: يا بنية! كم تصبر المرأة على زوجها؟ فقالت: سبحان الله! مثلك يسأل مثلي عن هذا. فقال: لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك. فقالت: خمسة أشهر أو (¬1) ستة أشهر. فوقّت للناس في مغازيهم ستة أشهر: يسيرون شهراً، ويقيمون أربعة أشهر، ويسيرون شهراً راجعين». وفي قول المصنف: إن لم يكن عذر تنبيه على أن السفر إذا زاد على ستة أشهر وكان لعذرٍ لم يلزمه القدوم؛ لأن صاحب العذر يعذر من أجل عذره. ¬

_ (¬1) زيادة من الشرح الكبير 8: 139.

وأما كونه يفرّق بينهما إذا أبى الزوج شيئاً ولم يكن عذر فطلبت الفرقة؛ فلأنها تعذر عليها ما وجب لها مولياً. فملك الفرقة به؛ كما لو كان زوجها مولياً فطلبت منه الوطء فأبى. وأما كون الوطء غير واجب عليه على روايةٍ؛ فلأنه حق له فلا يكون واجباً عليه كسائر حقوقه. وأما قول المصنف: فيكون هذا كله غير واجب: فالمراد به أنه إذا قيل الوطء لا لا يجب: لا يجب عليه القدوم من السفر وإن طال، ولا يفسخ النكاح بعدم قدومه؛ لأن جميع ذلك من موانع وجوب الوطء وقد انتفى. قال: (ويستحب أن يقول عند الجماع: "بسم الله. اللهم! جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني". ولا يكثر الكلام حال الوطء. ولا ينزع إذا فرغ قبلها حتى تفرغ). أما كون الزوج يستحب له أن يقول عند الجماع: بسم الله. اللهم! جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني؛ فلما روى ابن عباس قال: «لو أن أحدكم حين يأتي أهله قال: [بسم الله]. اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فولد بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا» (¬1) متفق عليه. وقال عطاء في تفسير قوله تعالى: {وقدموا لأنفسكم} [النساء: 223]: هي التسمية عند الجماع. وأما كون المجامع لا يكثر الكلام حال الوطء؛ فلما روى قبيصة بن ذؤيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكثروا الكلام عند مجامعة النساء فإن منه يكون الخرس والفأفاء» (¬2). رواه أبو حفص العكبري. والمراد بقوله: ولا يكثر: الكراهة. صرح به في المغني، وعلله بما تقدم، وبأنه يكره الكلام حالة البول، وحالةُ الجماع في معناه وأولى بذلك منه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6025) 5: 2347 كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا أتى أهله. وأخرجه مسلم في صحيحه (1434) 2: 1058 كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع. وما بين المعكوفين من الصحيحين. (¬2) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (44901) 16: 354 كتاب النكاح، محظورات المباشرة.

وأما كونه لا ينزع إذا فرغ قبلها حتى تفرغ؛ فلما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جامع الرجل أهله فليقصدها. فإذا قضى حاجته فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها» (¬1) رواه أبو حفص العكبري. ولأن في ذلك ضررًا ومنعًا لها من قضاء شهوتها. والمراد أيضاً بقوله: ولا ينزع ... إلى آخره: أنه يكره له النزع قبل فراغها. ذكره المصنف رحمه الله تعالى في المغني. قال: (وله الجمع بين وطء نسائه وإمائه بغسلٍ واحد. ويستحب الوضوء عند معاودة الوطء). أما كون الزوج له الجمع بين وطء نسائه وإمائه بغسلٍ واحدٍ؛ فلما روى أنس قال: «سكبتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غُسلاً واحدًا في ليلةٍ واحدة» (¬2) رواه أبو حفص العكبري. ولأن حدث الجنابة لا يمنع الوطء. بدليل إتمام الجماع. وأما كون الوضوء عند معاودة الوطء يستحب؛ فلما روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جامعَ الرجلُ أول الليل ثم أرادَ أن يعودَ فليتوضأ» (¬3) رواه مسلم. ¬

_ (¬1) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (44837) 16: 344 كتاب النكاح، المباشرة وآدابها ومحظوراتها. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (588) 1: 194 كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء فيمن يغتسل من جميع نسائه غسلاً واحدًا. ولفظه: عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في غسل واحد». (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (308) 1: 249 كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له ...

قال: (ولا يجوز له الجمع بين زوجتيه (¬1) في مسكنٍ واحدٍ إلا برضاهما. ولا يجامع إحداهما بحيث تراه الأخرى أو غيرها. ولا يحدّثها بما جرى بينهما). أما كون الزوج لا يجوز له الجمع بين زوجتيه في مسكنٍ واحدٍ بغير رضاهما؛ فلأن في الجمع ضرراً بهما لما بينهما من العداوة والغَيْرة، والجمع يثير المخاصمة والمقاتلة. وأما كونه له ذلك برضاهما؛ فلأن الحق لهما فإذا رضيتا بإسقاطه سقط. وأما كونه لا يجوز له أن يجامع إحداهما بحيث تراه الأخرى؛ فلما ذكر قبل. فإن قيل: هل يجوز ذلك مع الإذن كالجمع في المسكن الواحد؟ قيل: لا. وكلام المصنف هنا مشعر به؛ لأنه استثنى ذلك في السكنى دون المجامعة. وصرح به في المغني فقال: إن رضيتا بأن يجامع واحدة واحدة بحيث تراه الأخرى لم يجز؛ لأن فيه دناءة وسخفاً وسقوط مروءة. وأما كونه لا يجوز له ذلك بحيث تراه غير الضرة؛ فلأن فيه ما ذكر من الدناءة والسخف وسقوط المروءة، وربما كان وسيلة إلى وقوع الرائية في الفاحشة؛ لأنها قد تثور شهوتها بذلك فيؤدي إلى المحذور المذكور. وأما كونه لا يحدّث الضرة بما جرى بينهما؛ فلأن ذلك سبب لإثارة الغيرة وبغض إحداهما الأخرى. قال: (وله منعها من الخروج عن منزله. فإن مرض بعض محارمها أو مات استحب له أن يأذن لها في الخروج إليه). أما كون الزوج له منع زوجته من الخروج عن منزله؛ فلما روى أنس «أن رجلاً سافرَ ومنع زوجته من الخروج عن منزله. فمرضَ أبوها. فاستأذنتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادةِ أبيها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخالفي زوجك. فأوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم: قد غفرتُ لها بطاعةِ زوجها». رواه ابن بطة. ولأن طاعة الزوج واجبة والعيادة وشبهها غير واجبة. فلم يجز ترك الواجب لغير الواجب. ¬

_ (¬1) في أ: الأخرى، وما أثبتناه من المقنع.

وأما كونه يستحب له أن يأذن لها في ذلك إذا مرض بعض محارمها أو مات؛ فلأن ذلك وسيلة إلى صلة الرحم. ولأن في منعها القطيعة والحمل على مخالفة والديها إن كانا هما الممنوع من الخروج إليهما. قال: (ولا تملك المرأة إجارة نفسها للرضاع والخدمة بغير إذن زوجها. وله أن يمنعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر إليها ويخشى عليه). أما كون المرأة لا تملك إجارة نفسها لما تقدم ذكره بغير إذن زوجها؛ فلأن الزوج يملك الاستمتاع بها، وكونها تملك ذلك يؤدي إلى فوات حقه. فلم تملكه؛ كما لا تملك منعه من الوطء. وأما كون الزوج له أن يمنعها من رضاع ولدها إذا لم يضطر إليها ويخشى على الولد؛ فلأن إرضاع ولدها ليس بواجب عليها، وحق الزوج واجب عليها. فجاز أن يمنع الواجب ما ليس بواجب. وأما كونه ليس له ذلك إذا اضطر إليها وخشي على الولد؛ فلأنه حينئذ يتعين عليها إرضاعه ويترجح على حق الزوج. فإنه إحياء نفس وذلك راجح للمصلحة في نظر الشارع. وليس الاضطرار المذكور مختصاً بالولد بل لو فرض في غير الولد أنه لم توجد مرضعة سواها تعين عليها إرضاعه تقدماً على حق الزوج لما فيه من الإحياء المذكور.

فصل في القسم قال المصنف رحمه الله تعالى: (وعلى الرجل أن يساويَ بين نسائه في القَسْم. وعماد القسم الليل؛ إلا لمن معيشته بالليل كالحارس). أما كون الرجل عليه أن يساوي بين نسائه في القَسْم؛ فلأن الله تعالى قال: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19]. وليس مع الميل معروف. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» (¬1). وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل. ثم يقول: اللهم! هذا قسَمي فيما أملك فلا تلُمني فيما لا أملك» (¬2) رواهما أبو داود. وأما كون عماد القسم الليل لغير من معيشته بالليل كالحارس؛ فلأن الليل للسكن والإيواء يأوي فيه الآدمي إلى منزله وينام في فراشه مع زوجته عادة. والنهار للمعاش والكسب والاشتغال. قال الله تعالى: {وجعل الليل سكنا} [الأنعام: 96]، وقال تعالى: {وجعلنا الليل لباسًا? وجعلنا النهار معاشًا} [النبأ: 10 - 11]، وقال: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} [القصص: 73]. أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2133) 2: 242 كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء. وأخرجه الترمذي في جامعه (1141) 3: 447 كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر. وأخرجه النسائي في سننه (3942) 7: 63 كتاب عشرة النساء، ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1969) 1: 633 كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء. وأخرجه أحمد في مسنده (8549) 2: 347. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2134) 2: 242 كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء.

وأما كون عماد قَسْم من معيشته بالليل كالحارس ونحوه النهار؛ فلأن الليل في حقهم كالنهار في حق غيرهم. قال: (وليس له البداءة بإحداهن ولا السفر بها إلا بقرعة. فإذا بات عندها بقرعة أو غيرها لزمه المبيت عند الثانية). أما كون الزوج ليس له البداءة بإحدى زوجاته ولا السفر بها بغير قرعة؛ فلأن فعل ذلك تفضيل لها والتسوية واجبة. ولأنهن متساويات في الحق فوجب المصير إلى القرعة؛ لأنها المرجحة. وفي الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد السفرَ ببعض نسائه أقرعَ بينهن» (¬1). ولو جاز ذلك بغير قرعة لفعله ولو مرة تبييناً للجواز. وأما كونه يلزمه المبيت عند الثانية إذا بات عند غيرها بقرعة أو غيرها؛ فلأنه يجب عليه التسوية في القَسْم لما تقدم. وقد حصل لغيرها مبيت ليلة فوجب المبيت عند الثانية لتحصل التسوية الواجبة. قال: (وليس عليه التسوية بينهن في الوطء بل يستحب). أما كون الزوج ليس عليه التسوية بين الزوجات في الوطء؛ فلأن الله تعالى قال: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء: 129]. قال أبو عبيدة السلماني: في الحب والجماع. ولأن الجماع طريقه الشهوة والميل ولا سبيل إلى التسوية في ذلك. وأما كونه يستحب له التسوية إن أمكن؛ فلأنه أبلغ في العدل. ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يسوي بين نسائه حتى في القُبَلْ». وحكم الاستمتاع دون الفرج حكم الوطء؛ لأنه إذا لم يجب التسوية في الجماع ففي دواعيه أولى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4913) 5: 1999 كتاب النكاح، باب القرعة بين النساء إذا أراد سفرًا. وأخرجه مسلم في صحيحه (2445) 4: 1894 كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها.

قال: (ويَقسم لزوجته الأمة ليلة والحرة ليلتين وإن كانت كتابية. ويَقسم للحائض والنفساء والمريضة والمعيبة). أما كون الرجل يقسم لزوجته الأمة ليلة والحرة ليلتين؛ فلما روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: «إذا تزوج الحرة على الأمة قسم للأمة ليلة وللحرة ليلتين» (¬1). رواه الدارقطني. ولأن الحرة يجب تسليمها ليلاً ونهارًا. فكان حظها أكثر في الإيواء. وأما قول المصنف: وإن كانت كتابية فتنبيه على أن الحرة الكتابية في القسم كالحرة المسلمة. وصرح به في المغني فقال: والمسلمة والكتابية سواء في القسم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القسم بين المسلمة والذمية سواء. ولأن القسم من حقوق الزوجية. فاستوت فيه المسلمة والكتابية؛ كالنفقة والسكنى. فإن قيل: فما الفرق بين الحرة والأمة؟ قيل: الأمة لا يتم تسليمها ولا يحصل لها الإيواء التام. بخلاف الحرة. وأما كونه يقسم للحائض والنفساء والمريضة والمعيبة؛ فلأن القصد الإيواء والسكن والأنس وحاجتهن داعية إلى ذلك. قال: (فإن دخل في ليلتها إلى غيرها لم يجز إلا لحاجة داعية. فإن لم يلبث عندها لم يقض. وإن لبث أو جامع لزمه أن يقضي لها (¬2) مثل ذلك من حق الأخرى). أما كون الزوج لا يجوز له الدخول إلى غير من الليلة لها إذا لم تكن حاجة داعية؛ فلأنه ترك الواجب عليه لا لحاجة. وأما كونه يجوز له لحاجة داعية مثل: أن تكون ضرتها منزولاً بها فيريد أن يحضرها أو توصي إليه أو نحو ذلك مما لا بد منه عرفاً؛ فلأن ذلك حالة ضرورة وحاجة فأبيح به ترك الواجب إلى قضائه في وقت آخر. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (148) 3: 285 كتاب النكاح، باب المهر. (¬2) زيادة من المقنع.

وقول المصنف رحمه الله تعالى: في ليلتها: مشعرٌ بأنه له فعل ذلك في نهارها الذي هو تبع لليلة وإن لم تكن الحاجة داعية. وصرح به في المغني فقال: يجوز الدخول في النهار إلى المرأة في يوم غيرها لحاجة من دفع نفقة أو عيادة أو سؤال عن أمر يحتاج إلى معرفته أو زيارتها لبعد عهدهما ونحو ذلك؛ لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليَّ في يوم غيري فينال مني كل شيء إلا الجماع» (¬1). وأما كونه لا يقضي إذا لم يلبث عندها؛ فلأنه لا فائدة فيه لقلته. وأما كونه يلزمه أن يقضي لها مثل ذلك من حق الأخرى إذا لبث أو جامع؛ فلأن التسوية واجبة ولا يحصل إلا بذلك. ولا فرق في القضاء المذكور وعدمه بين ما إذا كان ممنوعاً من الدخول؛ مثل: أن يدخل لغير حاجة، أو غير ممنوع؛ مثل: أن يدخل لحاجة؛ لأنه زمن مستحق للغير أو زمن لا يقضى لقلته. فاستوى فيه صاحب الحاجة وغيره. قال: (وإن أراد النقلة من بلدٍ إلى بلدٍ وأخذ إحداهن معه والأخرى مع غيره لم يجز إلا بقرعة. ومتى سافر بها بقرعة لم يقض. وإن كان بغير قرعة لزمه القضاء للأخرى). أما كون الرجل لا يجوز له أخذ إحدى نسائه معه والأخرى مع غيره إذا أراد النقلة من بلدٍ إلى بلدٍ بغير قرعة؛ فلأن فعل ذلك ميل. فلم يجز لما تقدم. بخلاف فعله بقرعة. وأما كونه لا يقضي إذا سافر بها بقرعة؛ فلأن عائشة ذكرت السفر بالقرعة ولم تذكر القضاء. ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود نحوه في سننه عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التى هو يومها فيبيت عندها». (2135) 2: 242 كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء.

ولأن التي تسافر معه يلحقها من مشقة السفر بإزاء ما يحصل لها من السكن، ولا يحصل لها من السكن مثل ما يحصل في الحضر. فلو قضى للحاضرات لكان قد مال على المسافرة. وأما كونه يلزمه القضاء للأخرى إذا كان بغير قرعة؛ فلأنه خص بعضهن بمدة على وجهٍ تلحقه التهمة فيه. فيلزمه القضاء؛ كما لو كان حاضراً. فإن قيل: قد تقدم أنه لو قضى للحاضرة لأدى إلى الميل؛ لأن المسافرة لا يحصل لها من السكن مثل ما يحصل للحاضرة. قيل: هو كذلك؛ إلا أنه لا يمكن إسقاط القضاء بالكلية لما فيه أيضاً من الميل. ومن أن ذلك يصير وسيلة إلى المسافرة بمن يريد. وإذا تعارض القضاء وعدمه وجب القضاء لكن على مثل ما أقام مع المسافرة؛ لأنه أقرب القولين إلى عدم الميل. فعلى هذا لا يلزمه قضاء مدة السير لأنها لم يحصل لها من ذلك إلا التعب والمشقة. ولأنه لو جعل للحاضرة في مقابلته مبيتاً عندها واستمتاعاً بها لمال كل الميل. قال: (وإن امتنعت من السفر معه، أو من المبيت عنده، أو سافرت بغير إذنه: سقط حقها من القسم. وإن أشخصها هو فهي على حقها من ذلك. وإن سافرت لحاجتها بإذنه فعلى وجهين). أما كون حق الزوجة من القسم يسقط إذا امتنعت مما ذكر أو سافرت بغير إذنه؛ فلأن القسم للأُنس وقد تعذر بسببٍ من جهتها. فيسقط؛ كما لو تعذر ذلك قبل دخوله بها. وأما كونها على حقها من ذلك إذا أشخصها هو؛ فلأنه ما فات بسبب من جهتها وإنما فات بتفويته. فلم يسقط حقها؛ كما لو أتلف المشتري المبيع فإنه لا يسقط حق البائع بتسليم ثمنه إليه. فإن قيل: ما معنى أشخصها؟ قيل: أن يبعثها لحاجة أو يأمرها بالنقلة من بلدها. ذكره المصنف رحمه الله تعالى في المغني.

وأما كون حقها يسقط إذا سافرت لحاجتها بإذن الزوج على وجهٍ؛ فلأن الاستيفاء تعذر بسبب من جهتها. أشبه ما لو سافرت بغير إذنه. وأما كونه لا يسقط على وجهٍ؛ فلأن سفرها بإذنه. أشبه ما لو سافرت معه. فإن قيل: ما المراد بسفرها لحاجتها؟ قيل: أن تسافر لتجارة لها أو زيارة أو حج تطوع أو عمرة أو نحو ذلك. فإن قيل: ما الصحيح من الوجهين المذكورين؟ قيل: ظاهر كلام صاحب المغني فيه ترجيح السقوط؛ لأنه علله بنحو ما تقدم. وفرّق بين سفرها لحاجته بإذنه وبين سفرها معه بأن القسم لم يتعذر بسفرها معه. بخلاف سفرها بإذنه. قال: (وللمرأة أن تهب حقها من القَسْم لبعض ضرائرها بإذنه وله فيجعله لمن شاء منهن. فمتى رجعت في الهبة عاد حقها). أما كون المرأة لها أن تهب حقها لبعض ضرائرها بإذن الزوج؛ فـ «لأن سَوْدة وهبت يومها لعائشة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة» (¬1). وعن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على صفية في شيء. فقالت صفية لعائشة: هل لك أن تُرضي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولك يومي؟ قالت: فقعدت إلى جنب رسول الله. قال: إليك يا عائشة! إنه ليس يومك. قلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأخبرته بالأمر. فرضي عنها» (¬2) رواه ابن ماجة. واشترط المصنف رحمه الله تعالى في الهبة المذكورة إذن الزوج؛ لأن حقه على الواهبة فلا ينتقل إلى غيرها إلا برضاه. وأما كونها لها أن تهب ذلك للزوج؛ فلأن الحق لها فلمن نقلته انتقل إليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4914) 5: 1999 كتاب النكاح، باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها وكيف يقسم ذلك. وأخرجه مسلم في صحيحه (1463) 2: 1085 كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (1973) 1: 634 كتاب النكاح، باب المرأة تهب يومها لصاحبتها.

وأما كون الزوج له الخيرة في جعله لمن شاء؛ فلأنه قام مقام الواهبة. فكما كان لها الخيرة في جعله فيمن تشاء. فكذلك القائم مقامها. وأما كون حق الواهبة يعود إذا رجعت في الهبة؛ فلأنها هبة لم تقبض. والمراد بالعود المذكور: العود في المستقبل؛ لأن ذلك الذي لم يقبض: أما الماضي فليس لها الرجوع فيه؛ لأنها هبة اتصل بها القبض. فعلى هذا إذا رجعت في أثناء ليلتها لزم الزوج الانتقال. وإن لم يعلم حتى أتم الليلة لم يقض لها شيئاً؛ لأن التفريط منها. قال: (ولا قَسْم عليه في ملك يمينه. وله الاستمتاع بهن كيف شاء. ويستحب التسوية بينهن، وأن لا يعضلهن إن لم يرد الاستمتاع بهن). أما كون السيد لا قَسْم عليه في ملك يمينه؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3]. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية وريحانة. فلم يكن يقسم لهما. ولأن الأمة لا حق لها في الاستمتاع. ولذلك لا يثبت لها الخيار بكون السيد مجبوباً أو عنيناً، ولا يضرب لها مدة الإيلاء. وأما كون التسوية بينهن تستحب؛ فلأنه أطيب لقلوبهن وأبعد من النفرة والبغضة. وأما كون أن لا يعضلهن إن لم يرد الاستمتاع بهن يستحب؛ فلأن إعفافهن وصونهن عن احتمال الوقوع في المحظور مطلوب (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

فصل [إذا تزوج بكرا] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار. وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً. فإن أحبّت أن يقيم عندها سبعاً فعل وقضاهن للبواقي). أما كون الزوج إذا تزوج بكراً يقيم عندها سبعاً ثم يدور على نسائه، وإذا تزوج ثيباً يقيم عندها ثلاثاً ثم يدور؛ فلما روى أبو قلابة عن أنس قال: «من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوج ثيباً أقام عندها ثلاثًا ثم قسم» (¬1). قال أبو قلابة: لو شئت لقلت أن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. وأما كونه إذا أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعاً فعل وقضاهن للبواقي؛ فلما روي عن أم سلمة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثاً. وقال: إنه ليس بكِ هوانٌ على أهلك. إن شئتِ سبّعتُ لك، وإن سبّعتُ لكِ سبّعتُ لنسائي» (¬2). رواه مسلم. وفي لفظ: «إن شئتِ ثلَّثتُ ثم دُرْتُ» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4916) 5: 2000 كتاب النكاح، باب إذا تزوج الثيب على البكر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1461) 2: 1084 كتاب الرضاع، باب قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1460) 2: 1083 الموضع السابق. وأخرجه أبو داود في سننه (2122) 2: 240 كتاب النكاح، باب في المقام عند البكر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1917) 1: 617 كتاب النكاح، باب الإقامة على البكر والثيب. وأخرجه أحمد في مسنده (26547) 6: 292. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1460) 2: 1083 كتاب الرضاع، باب قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف.

قال: (وإن زُفّت إليه امرأتان قدم السابقة منهما، ثم أقام عند الأخرى، ثم دار. فإن زُفّتا معاً قدم إحداهما بالقرعة، ثم أقام عند الأخرى). أما كون الزوج يقدم السابقة فيما إذا زفّت إليه امرأتان إحداهما قبل الأخرى؛ فلأن حقها سبق. وأما كونه يقيم بعد فعل الواجب عليه للأولى عند الأخرى؛ فلأن حقها واجب عليه لما تقدم. تُرك العمل به في مدة الأولى؛ لأنه عارضه ورجح عليه. فإذا زال المعارض وجب العمل بالمقتضي لحق الأخرى السالم عن المعارض. وأما كونه يدور بعد ذلك؛ فليأتي بالواجب عليه من حق الدَّوْر. وأما كون تقديم إحداهما بالقرعة إذا زُفّتا معاً؛ فلأنهما استويا في سبب الاستحقاق، والقرعة مرجحة عند التساوي. وأما كونه يقيم عند الأخرى بعد فعل ما عليه للأخرى؛ فلما تقدم. قال: (وإن أراد السفر فخرجت القرعة لإحداهما سافر بها ودخل حق العقد في قسم السفر، وإذا قدم بدأ بالأخرى فوفاها حق العقد). أما كون الزوج يسافر بمن خرجت لها القرعة؛ فلأن حقها ترجح بالقرعة. وأما كون حق العقد يدخل في قسم السفر؛ فلأنه نوع قسم يختص بها. وأما كونه يبدأ بالأخرى فيوفيها حق العقد؛ فلأنه حق وجب لها قبل سفره لم يؤده إليها. فلزمه قضاؤه؛ كما لو لم يسافر بالأخرى معه. وقال المصنف في المغني: فيه وجهان: أحدهما: يقضي لها ذلك؛ لما ذكر. والثاني: لا يقضيه لها؛ لئلا يكون تفضيلاً لها على التي سافر بها. ثم قال: ويحتمل أن يستأنف قضاء العقد لكل واحدةٍ منهما ولا يحتسب على المسافرة بمدة سفرها؛ كما لا يحتسب به عليها فيما عدا حق العقد. ثم قال: وهذا أقرب إلى الصواب من إسقاط حق العقد الواجب بالشرع بغير مسقط.

قال: (وإذا طلق إحدى نسائه في ليلتها أثم فإن تزوجها بعد ذلك قضى لها ليلتها). أما كون الزوج يأثم إذا طلق إحدى نسائه في ليلتها؛ فلأنه يوصل إلى منعها حقها. وأما كونه إذا تزوجها بعد ذلك يقضي لها ليلتها؛ فلأنه أمكنه أداء ما عليه من الحق بعد العجز. فلزمه ذلك؛ كما لو كان عليه دَيْن فأعسر ثم قدر عليه. قال: (وله أن يخرج في نهار ليل القسم لمعاشه وقضاء حقوق الناس). أما كون الزوج له الخروج في نهار ليل القسم لمعاشه وقضاء حقوق الناس؛ فلأنه لا قسم عليه في النهار. وقد تقدم ذلك في قول المصنف رحمه الله تعالى: وعماد القسم الليل (¬1). وأما كون المصنف قيد ذلك بالنهار فليشعر بأن الزوج ليس له ذلك في الليل. وقال رحمه الله تعالى في المغني: فإن خرج في النهار أو أول الليل أو آخره الذي جرت العادة بالانتشار فيه والخروج إلى الصلوات جاز؛ لأن المسلمين يخرجون لصلاة العشاء وصلاة الفجر قبل طلوعه. فعلى هذا يحمل التقييد المذكور على نفي ما عداه بما ذكره في المغني؛ لأنه صريح. وذلك راجح على المفهوم. ¬

_ (¬1) ص: 730.

فصل في النشوز قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها. وإذا ظهر منها أمارات النشوز بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع أو تجيبه متبرمة متكرهة: وَعَظَهَا. فإن أصرّت هَجَرَها في المضجع ما شاء. وفي الكلام فيما دون ثلاثة أيام. فإن أصرّت فله أن يضربها ضرباً غير مُبَرِّح). أما قول المصنف: وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها فبيان لمعنى نشوز المرأة. وهو: مأخوذ من النَّشَز. وهو الارتفاع. فكأنه لما عصته فيما يجب عليها قد ارتفعت عما فرض الله عليها من طاعته. وأما كون الزوج يَعِظُها إذا ظهر منها أمارات النشوز؛ فلأن الله تعالى قال: {واللاتي تخافون نشوزهن فعِظُوُهن} [النساء: 34]. وأما كونه يهجرها في المضجع قبل الضرب؛ فلأن الله تعالى قال: {واهجروهن في المضاجع} [النساء: 34]. وعن ابن عباس: «لا تُضاجعها في فراشك». وأما كون الهجر المذكور ما شاء؛ فلأن القرآن مطلق. فلا يقيد بغير دليل. وأما كونه يهجرها في الكلام فيما دون ثلاثة أيام؛ فلأنه ليس بمنهي عنه. ولأن فيه زجراً لها عن العصيان. وتقييد المصنف الكلام بما دون ثلاثة أيام: مشعرٌ بأنه لا يجوز فيما زاد على ذلك. وهو صحيح فيما فوق الثلاثة؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (¬1). وأما كونه إذا أصرّت له أن يضربها ضرباً غير مبرح؛ فلأن الله قال: {واضربوهن} [النساء: 34]. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4911) 4: 278 كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم.

فإن قيل: الآية دلت على الضرب عند خوف النشوز ولم يشترط الإصرار على النشوز وعلى الضرب من غير تقييد. فلم قيد بغير المبرح؟ قيل: الجواب عن الأول أن الآية فيها إضمار تقديره: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع فإن أصررن فاضربوهن"؛ كما قال سبحانه وتعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33]. والذي يدل على هذا أنه رتب هذه العقوبات على خوف النشوز ولا خلاف في أنه لا يضربها لخوف النشوز قبل إظهاره. والجواب عن الثاني: أن إصرارها على منع حق زوجها ليس أبلغ من فعلها الفاحشة. وقد اشترط في ضربها على ذلك أن لا يكون مبرحاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكم عليهن أن لا يُوطئنَ فرشكُم أحداً تكرهونه. فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح» (¬1) رواه مسلم. ومعنى غير مبرح: غير شديد. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 1: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، عن جابر بن عبدالله.

قال: (فإن ادعى كل واحد ظلم صاحبه له (¬1) أسكنهما الحاكم إلى جانب ثقة يشرف عليهما، ويلزمهما الإنصاف. فإن خرجا إلى الشقاق والعداوة بعث الحاكم حكمين حرين مسلمين عدلين، والأولى أن يكونا من أهلهما برضاهما وتوكيلهما فيكشفان عن حالهما ويفعلان ما يريانه من جَمْع بينهما، أو تفريقٍ بطلاق، أو خلع. فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا. وعنه: أن الزوج إن وكل في الطلاق بعوض أو غيره، ووكلت المرأة في بذل العوض برضاهما، وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك. وإن غاب الزوجان أو أحدهما لم ينقطع نظرهما على الأولى ولم ينقطع على الثانية). أما كون الحاكم يسكن الزوجين إلى جانب ثقة يشرف عليهما ويلزمهما الإنصاف إذا ادعى كل واحدٍ ظلم صاحبه له؛ فلأن ذلك وسيلة إلى كفهما عن التعدي، وذلك مطلوب شرعاً. وأما كونه يبعث حكمين إذا خرجا إلى الشقاق؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها} [النساء: 35]. وأما كون الحكمين حرين؛ فلأن العبودية نقص. وقال صاحب المغني فيه: الأولى أن يقال: إن كانا وكيلين لم تعتبر الحرية؛ لأن توكيل العبد جائز، وإن كانا حكمين اعتبرت؛ لأن الحاكم لا يجوز أن يكون عبداً. وأما كونهما مسلمين عدلين؛ فلأنهما إن كانا حكمين كان اشتراط ذلك ظاهراً؛ لكون الحاكم لا يجوز أن يكون إلا مسلماً عدلاً. وإن كانا وكيلين؛ فلأن الوكالة إذا تعلقت بنظر الحاكم لم يجز أن يكون الوكيل إلا مسلماً عدلاً؛ كما لو نصب وكيلاً لصبي أو سفيه. وأما قول المصنف: والأولى أن يكونا من أهلهما برضاهما وتوكيلهما: فمشعرٌ بأمور: أحدها: أن كون الحكمين من أهلهما راجح في نظر الشرع ولا شبهة فيه؛ لقوله تعالى: {حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها} [النساء: 35]. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع.

ولأنهما إذا كانا من أهلهما كانا أعلم بحالهما وأشفق عليهما. وثانيهما: أنه يجوز أن يكونا من غير أهلهما؛ لأن الأهلية ليست شرطاً في الحكم. ولأن في الوكالة وهماً لا يخرجان عنهما. وذلك يوجب حمل الأمر في الآية على الرجحان لا على الراجح المانع من النقص. وثالثها: أن كون الحكمين برضا الزوجين وتوكيلهما راجح في نظر الشرع أيضاً. ولا شبهة فيه؛ لما فيه من الخروج من الخلاف الآتي ذكره. ورابعها: أنه يجوز أن يكونا بغير رضا الزوجين ولا توكيلهما. وأما كونهما يكشفان عن حالهما ويفعلان ما يريانه من جمع بينهما أو تفريق بطلاق أو خلع؛ فلأن الغرض من بعثهما إزالة ما بينهما من الشقاق والعداوة. وما ذكر طريق إليه. وفي حديث علي رضي الله عنه الآتي ذكره: «إن رأيتُما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما». وأما كون الزوجين إذا امتنعا من التوكيل لم يجبرا؛ فلأنهما رشيدان والبضع حق للزوج والمال حق للزوجة. فلم يجبرا على التوكيل فيهما كغيرهما من الحقوق. وعدم إجبارهما مشعر بأن الحاكم ليس له أن يبعث حكمين بغير رضاهما. وهو صحيح على المذهب؛ لأنه حق لهما. فلم يجز لغيرهما التصرف إلا بالوكالة. وأما كون الزوج إن وكل في الطلاق والمرأة في بذل العوض وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك؛ فلعموم قوله تعالى: {فابعثوا} [النساء: 35]. ولأن الله تعالى سماهما حكمين ثم قال: {إن يريدا إصلاحاً} [النساء: 35] خاطب الحكمين بذلك ولم يعتبر رضا الزوجين. وعن أبي عبيدة السلماني «أن رجلاً وامرأة أتيا علياً رضي الله عنه مع كل واحدٍ منهما فئام من الناس. فقال علي: ابعثوا حكمين حكماً من أهله، وحكماً من أهلها. فبعثوا حكمين. ثم قال علي للحكمين: هل تدريان ما عليكما من الحق؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما. فقالت المرأة:

رضيت بكتاب الله عليّ ولي. وقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت حتى ترضى بما رضيت به» (¬1). رواه أبو بكر بإسناده. ويشترط في كونهما حكمين شرطان آخران لم يذكرهما هنا: أحدهما: كونهما عالمين بالجمع والتفريق؛ لأنهما يتصرفان في ذلك. فيعتبر علمهما به. وثانيهما: كونهما ذكرين؛ لأن الحاكم لا يجوز إلا أن يكون ذكراً. وأما كون الحكمين ينقطع نظرهما إذا غاب الزوجان أو أحدهما على الرواية الأولى ولا ينقطع على الثانية؛ فلأن الوكيل ينعزل بجنون موكله. بخلاف الحاكم فإنه لا يمنع أن يحكم مع جنون المحكوم عليه. وقال المصنف في المغني بعد ذكر الغيبة: وإن كان حاكماً لم يجز له الحكم؛ لأن من شرط ذلك بقاء الشقاق وحضور المتداعيين ولا يتحقق ذلك مع الجنون. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (188 - 189) 3: 295 كتاب النكاح، باب المهر. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (11883) 6: 512 كتاب الطلاق، باب الحكمين.

كتاب الخلع

كتاب الخلع سمي الخلع خلعاً لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها. قال الله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187]. قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وتخشى أن لا تقيم حدود الله في حقه فلا بأس أن تفتدي نفسها منه. وإن خالعته لغير ذلك كره ووقع الخلع. وعنه: لا يجوز). أما كون المرأة لا بأس أن تفتدي نفسها من الرجل إذا كانت مبغضة له وتخشى أن لا تقيم حدود الله؛ فلأن الله قال: {فإن خفتم أن لا يُقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]. وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس. فقال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت -لزوجها-. فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه حبيبة بنت سهل ذكرت ما شاء الله أن تذكر. وقالت حبيبة: كلما أعطاني عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: خذ منها. فأخذ منها وجلست في أهلها» (¬1) حديث صحيح. وفي روايةٍ للبخاري قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ما أنقِمُ على ثابت بن قيس في دين ولا خُلُق إلا أني أخافُ الكفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترُدين عليه حديقتَه؟ قالت: نعم. فردّت عليه. وأمرهُ ففارقَها» (¬2). وأما كون الخلع لغير ذلك يكره؛ فلأن تركه ترجح على فعله وفعله يجوز: أما الأول؛ فلأنه مختلف في جوازه، وأما الثاني؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئًا} [النساء: 4]. وأما كونه يقع؛ فلأنه يجوز فعله. أشبه الذي قبله. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5276) 9: 307 كتاب الطلاق، باب الخلع. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4973) 5: 2022 كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه.

وأما كونه لا يجوز على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا أن لا يُقيما حدود الله} [البقرة: 229]. وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأةٍ سألت زوجَها الطلاقَ من غير ما بأس فحرامٌ عليها رائحةُ الجنة» (¬1) رواه أبو داود. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المختَلِعَاتُ والمنتَزعَاتُ هن المنافِقَاتُ» (¬2) رواه الإمام أحمد واحتج به. ولأنه إضرار بها وبزوجها وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة. فلم يجز؛ لقوله عليه السلام: «لا ضررَ ولا إضرارَ في الإسلام» (¬3). وظاهر كلام المصنف هنا ترجيح الجواز، وفي المغني ترجيح الحرمة لأنه قال: والحجة مع من حرمه، وخصوص الآية في التحريم يجب تقديمها على عموم آية الجواز مع ما عضدها من الأخبار. وحكي عن ابن المنذر أنه قال -يعني جواباً عن قوله تعالى: {فكلوه} [النساء: 4]-: لا يلزم من الجواز في غير عقدٍ الجواز في المعاوضة. بدليل الربا حرمه الله تعالى في العقد وأجازه في الهبة. فإن قيل: على روايةِ عدم الجواز يقع الخلع. قيل: لا؛ لأنه إذا كان حراماً لم يقع صحيحاً؛ كبيع درهمين بدرهم. ولأنه إذا عضلها الزوج لتفتدي كان حراماً وباطلاً وسيأتي ذكرهما بعد إن شاء الله تعالى. فكذا لا يقع الخلع المذكور على روايةِ الحرمة؛ لاشتراكهما إذاً فيهما. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2226) 2: 268 أبواب الطلاق، باب في الخلع. وأخرجه الترمذي في جامعه (1187) 3: 493 كتاب الطلاق، باب ما جاء في المختلعات. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2055) 1: 662 كتاب الطلاق، باب كراهية الخلع للمرأة. وأخرجه أحمد في مسنده (22493) 5: 283. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1186) 3: 492 كتاب الطلاق واللعان، باب ما جاء في المختلعات. ولم يذكر لفظ: «والمنتزعات» من حديث ثوبان رضي الله عنه. وأخرجه النسائي في سننه (3461) 6: 168 كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع. وأخرجه أحمد في مسنده (9094) طبعة إحياء التراث. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (85) 4: 228 كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك.

قال: (فأما إن عضلها لتفتدي نفسها منه ففعلت فالخلع باطل والعوض مردود والزوجية بحالها؛ إلا أن يكون طلاقاً فيكون رجعياً). أما كون الخلع فيما ذكر باطلاً؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} [النساء: 19]. ولأن مفهوم قوله: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229] يدل على الجناح إذا لم يخافا ألا يقيما حدود الله. ولأنه عقد ألزمت على بذل عوضه بغير حق. فكان باطلاً؛ كالثمن في البيع، والأجر في الإجارة. وأما كون العوض مردوداً؛ فلأن العقد باطل. وأما كون الزوجية بحالها فيما عدا المستثنى؛ فلأن المقتضي للفرقة الخلع الصحيح ولم يوجد. وأما كونه رجعياً إذا كان طلاقاً؛ فلأن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق أو نوى بالخلع الطلاق كان طلاقاً رجعياً لما يأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: ما المراد بقوله: عضلها؟ قيل: ضارّها بالضرب والتضييق عليها أو منعها حقها من المنفعة والقسم ونحو ذلك. وليس كل صورة وجد فيها ذلك يكون الخلع باطلاً بل يصح ذلك في مواضع: - منها: أنه لو ضربها على نشوزها أو منعها حقها من أجله لم يحرم خلعها؛ لأن ذلك لا يمنعها أن لا يخافا أن لا يقيما حدود الله. وفي بعض حديث حبيبة لزوجها «فضربهَا فكسرَ بعضها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خُذْ بعضَ مالِها وفَارقْها» (¬1) رواه أبو داود. - ومنها: لو ضربها لسوء خلقه لا يريد بذلك أن تفتدي لم يحرم أيضاً خلعها لأنه لم يعضلها لتذهب ببعض ما آتاها. لكن عليه إثم الظلم. - -? ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2228) 2: 269 كتاب الطلاق، باب في الخلع.

- ومنها: أنها لو أتت بفاحشة فعضلها لتفتدي نفسها لم يحرم خلعها لأن الله تعالى قال: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينة} [النساء: 19]. والاستثناء من النهي إباحة. ولأنها متى زنت لم يأمن أن تلحق به ولداً من غيره وتفسد فراشه فلا تقيم حدود الله في حقه فتدخل في قوله: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]. وإذا لم يحرم فيما ذكر لا يكون (¬1) باطلاً لأن المقتضي للبطلان الحرمة وهي منتفية. وإذا كان كذلك يجب تخصيص قول المصنف عضلها لتفتدي بما عدا الصورة الأولى والثالثة. أما الثانية فإنها تخرج بقوله: لتفتدي إذ العضل في الثانية منتف. قال: (ويجوز الخلع من كل زوج يصح طلاقه مسلماً كان أو ذمياً. فإن كان محجوراً عليه دفع المال إلى وليه وإن كان عبداً دفع إلى سيده. وقال القاضي: يصح القبض من كل من يصح خلعه). أما كون الخلع يجوز من كل زوج يصح طلاقه حتى الذمي والسفيه والصبي المميز والعبد؛ فلأن كل واحد منهم زوج يصح طلاقه. فصح خلعه بالقياس عليه بل أولى لأنه إذا صح البطلان بغير شيء؛ فلأن يصح بشيء بطريق الأولى. وأما كون المال يدفع إلى ولي المخالع إذا كان محجوراً عليه وإلى سيده إذا كان عبداً على المذهب؛ فلأن كل واحد من المحجور عليه والعبد ليس أهلاً لقبض المال. وأما كون قبضه يصح من كل من يصح خلعه على قول القاضي؛ فلأنه يصح منه أحد ركني المعاوضة، وهو العقد. فيصح منه قبض العوض الذي هو الركن الآخر قياساً لأحد الركنين على صاحبه. قال صاحب النهاية فيها: والأول أصح؛ لأن النظر له في صحة العقد دون قبضه. ¬

_ (¬1) في أ: يقيم.

قال: (وهل للأب خلع زوجة ابنه الصغير أو طلاقها؟ على روايتين. وليس له خلع ابنته الصغيرة بشيء من مالها). أما كون الأب له خلع زوجة ابنه الصغير على روايةٍ؛ فلأنه يصح أن يزوجه بعوض؛ فلأن يصح أن يطلق عليه بعوض بطريق الأولى. لا يقال التزويج إدخال ملك، والخلع إخراج ملك؛ لأن الأب كامل الشفقة فلا يفعل ذلك إلا والمصلحة لولده فيه. وأما كون الأب ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلما ذكر من أن الخلع إخراج ملك. فلم يكن للأب ذلك؛ كهبة ماله. وأما كونه له طلاق زوجة ابنه الصغير على روايةٍ؛ فلأن الصغير بمنزلة المعتوه في استحقاق الحجر. وقد روي عن ابن عمر «أنه طلق على ابن له معتوه». رواه الإمام أحمد. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطلاقُ لمن أخذَ بالساق» (¬1) رواه ابن ماجة. وعن عمر أنه قال: «إنما الطلاقُ بيد الذي يحلُّ له الفرج». ولأنه إسقاط لحقه. فلم يملكه؛ كالإبراء من الدين وإسقاط القصاص. ولأن طريقه الشهوة. فلم يدخل في الولاية. وأما كونه ليس له خلع ابنته الصغيرة بشيء من مالها؛ فلأن في ذلك تضييعاً لمالها، وإسقاطاً لما يجب لها على الزوج من النفقة والكسوة وغير ذلك. قال: (ويصح الخلع مع الزوجة ومع الأجنبي). أما كون الخلع يصح مع الزوجة؛ فلما تقدم من الآية، وحديث حبيبة بنت سهل مع زوجها ثابت بن قيس (¬2). وأما كونه يصح مع الأجنبي كقول أجنبي لزوج المرأة: طلق امرأتك بألف عليّ؛ فلأنه بذل ماله في مقابلة إسقاط حق عن غيره. فصح؛ كما لو قال: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2081) 1: 672 كتاب الطلاق، باب طلاق العبد. (¬2) سبق ذكره ص: 745.

أعتقتك عبدك فلان، أو قال: ألق متاعك في البحر وعليّ ثمنه: صح ولزمه ذلك مع أنه لا يسقط حقاً عن أحد. فهاهنا أولى. ولأنه حق على المرأة يجوز أن يسقط عنها بعوض. فجاز لغيرها؛ كالدين. قال: (ويصح بذل العوض فيه من كل جائز التصرف. فإن خالعت الأمة بغير إذن سيدها على شيء معلوم كان في ذمتها تُتبع به بعد العتق). أما كون بذل العوض في الخلع يصح من كل جائز التصرف؛ فلأنه عقد معاوضة. فصح من كل جائز التصرف؛ كسائر العقود. وأما كون الأمة إذا خالعت بغير إذن سيدها على شيء معلوم يكون في ذمتها؛ فلأن المخالع رضي بذلك. فعلى هذا تتبع به بعد العتق؛ كما لو استدان العبد غير المأذون له. وأما كون ما ذكر في ذمتها مشعر بصحة خلع الأمة بغير إذن سيدها. وهو صحيح لأنه إذا صح الخلع مع الأجنبي؛ فلأن يصح مع الزوجين بطريق الأولى. فإن قيل: هذا إذا خالعها على شيء في الذمة، أما إذا خالعها على عين في يدها. قيل: هذا (¬1) إذا خالعها على شيء في الذمة. فأما إذا خالعها على عين فقال الخرقي: يثبت في ذمتها مثله أو قيمته إن لم يكن مثلياً لأنها لا تملك العين وما في يدها من شيء فهو لسيدها فيلزمها بذلها؛ كما لو خالعها على عبد فخرج حراً أو مستحقاً. وقال المصنف في المغني: قياس المذهب أنه لا شيء له لأنه إذا خالعها على عين وهو يعلم أنها أمة فقد علم أنها لا تملك العين فيكون راضياً بغير عوض فلا يكون له شيء؛ كما لو قال: خالعتك على هذا المغصوب أو على هذا الحر. وقال: يمكن حمل كلام الخرقي على أنها ذكرت لزوجها أن سيدها أذن لها في الخلع بهذه العين ولم تكن صادقة أو جَهل أنها لا تملك العين ويكون اختياره فيما إذا خالعها على مغصوب أنه يرجع عليها بقيمته. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

فإن قيل: هذا الحكم إذا خالعت الأمة بغير إذن سيدها فما الحكم إذا خالعت بإذنه؟ قيل: يصح؛ لأنه إذا صح بغير إذنه. فلأن يصح بإذنه بطريق الأولى. ويتعلق بذمة السيد في قياس المذهب؛ كما لو أذن لعبده في الاستدانة. ويحتمل أن يتعلق برقبتها لأنه من جنايتها. قال: (وإن خالعته المحجور عليها لم يصح الخلع ووقع طلاقه رجعياً). أما كون خلع المحجور عليها لا يصح؛ فلأنه تصرف في المال وليست من أهله لأن الولي ليس له الإذن في التبرعات. والمراد بالمحجور عليها المحجور عليها لحظ نفسها كالصبية والسفيهة والمجنونة. فأما المفلسة فلا يصح بغير إذن غرمائها لأنها ممنوعة من التبرع لأجلهم، ويصح بإذنهم لأنها من أهل التصرف. ولهذا يصح تصرفها في ذمتها. بخلاف المحجور عليها لحظ نفسها. وأما كون طلاق المخالع يقع رجعياً؛ فلأنه طلاق لا عوض فيه. فوجب وقوعه رجعياً؛ لسلامته عما ينافيه. ولا بد أن يلحظ في الخلع المذكور أنه وقع بلفظ الطلاق أو أنه نوى به ذلك لأن ذلك طلاق وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو المفاداة ولم ينو الطلاق فهو كالخلع بغير عوض وسيأتي حكمه. وقال المصنف في المغني: ويحتمل أن لا يقع الخلع هاهنا لأنه إنما رضي به بعوض ولم يحصل له ولا أمكن الرجوع في بدله. ولا بد أن يلحظ في الطلاق أنه بغير الثلاث فإن كان بالثلاث لم يقع رجعياً لأن الثلاث لا رجعة معها. قال: (والخلع طلاق بائن؛ إلا أن يقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو المفاداة ولا ينوي به الطلاق فيكون فسخاً لا ينقص به عدد الطلاق في إحدى الروايتين، وفي الأخرى: هو طلاق بائن بكل حال). أما كون الخلع طلاقاً إذا لم يقع بأحد الألفاظ المذكورة قبلُ فلا خلاف فيه لوجود صريحه أو كنايته المقترنة بالنية.

وأما كونه بائناً؛ فلأن الله تعالى قال: {فيما افتدت به} [البقرة: 229] وإنما يكون فداء إذا خرجت من قبضته وسلطانه، ولو لم يكن بائناً لكانت له الرجعة وكانت تحت حكمه وقبضته. ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة. فلو جازت الرجعة لعاد الضرر. وأما كونه طلاقاً إذا وقع بغير الألفاظ المذكورة قبل ونوى به الطلاق؛ فلأنه كناية نوى به الطلاق. فكان طلاقاً؛ كما لو كان بغير عوض. وأما كونه فسخاً إذا وقع بأحد الألفاظ الثلاثة التي ذكرها المصنف ولم ينو طلاقاً في روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229]، وقال: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229] ثم قال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعدُ حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230] ذكر تطليقتين والخلع وطلقة بعدها فلو كان الخلع طلاقاً لكان أربعاً. ولأنه فرقة خلت عن صريح الطلاق ونيته. فكانت فسخاً؛ كسائر الفسوخ. فعلى هذا لا ينقص به عدد الطلاق. وأما كونه طلاقاً أيضاً في روايةٍ؛ فلأنها بذلت العوض للفرقة، والفرقة التي يملك الزوج إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ. فوجب أن يكون طلاقاً. ولأنه أتى بكناية الطلاق قاصداً فراقها. فكان طلاقاً؛ كغير الخلع. فعلى هذا ينقص به عدد الطلاق، ويكون بائناً بكل حال؛ لأن هذا شأن الخلع إذا كان طلاقاً. وفائدة الاختلاف: الاعتداد بالواقع: فإن قيل: هو طلاق وخالعها ثلاثاً لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. وإن قيل: هو فسخ كانت حلالاً له من غير زوج آخر.

قال: (ولا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق ولو واجهها به. وإن شرط الرجعة في الخلع لم يصح الشرط في أحد الوجهين، وفي الآخر: يصح الشرط ويبطل العوض). أما كون المعتدة من الخلع لا يقع بها طلاق وإن واجهها به؛ فلأنه قول ابن عباس وابن الزبير ولا يعرف لهما مخالف في عصرهما. ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد. فلم يلحقها طلاقه؛ كالمطلقة قبل الدخول. وأما كون شرط الرجعة في الخلع لا يصح في وجهٍ؛ فلأنه ينافي مقتضى العقد. ولأن الخلع لفظ مقتض للبينونة. فإذا شرطت الرجعة معه بطل الشرط؛ كالطلاق الثلاث. واقتضاء المصنف على أن الشرط لا يصح دليل على تصحيح الخلع. وصرح به في المغني؛ لأن الخلع لا يفسد بكون عوضه فاسداً. فلم يفسد بفساد شرطه؛ كالنكاح. وأما كونه يصح الشرط ويبطل العوض في وجهٍ؛ فلأن شرط العوض والرجعة يتنافيان. فإذا شرطهما سقطا وبقي مجرد الطلاق، وتثبت الرجعة بالأصل لا بالشرط. ولأنه شرط في العقد ما ينافي مقتضاه. فأبطله؛ كما لو شرط أن لا يتصرف في المبيع. فإن قيل: إذا صححت العقد وأبطلت الشرط ماذا يجب له؟ قيل: المسمى في عقد النكاح لأن المسمى في عقد الخلع سقط لأنه لم يرض به عوضاً حتى ضم إليه الشرط. فإذا سقط الشرط وجب ضم النقصان الذي نقص من أجله إليه فيصير محمولاً. ويحتمل أن يجب المسمى في عقد الخلع لأنهما تراضيا به عوضاً. فلم يجب غيره؛ كما لو خلا عن شرط الرجعة.

فصل [في اشتراط العوض في الخلع] قال المصنف رحمه الله تعالى: (ولا يصح الخلع إلا بعوض في أصح الروايتين. فإن خالعها بغير عوض لم يقع. إلا أن يكون طلاقاً فيقع رجعياً، والأخرى: يصح بغير عوض. اختارها الخرقي). أما كون الخلع لا يصح إلا بعوض في روايةٍ؛ فلأن العوض ركن في عقد الخلع. فلم يصح إلا به؛ كالثمن في المبيع. وأما كونه إذا خالعها بغير عوض لا يقع إذا لم يكن طلاقاً؛ فلأن الشيء إذا لم يكن صحيحاً لم يترتب عليه شيء. دليله البيع وغيره، ووقوعه موجب لترتيب الأحكام عليه. وأما كونه يقع رجعياً إذا كان طلاقاً؛ فلأنه طلاق دون ثلاث لا عوض فيه. فكان رجعياً؛ كغيره. وأما كونه يصح بغير عوض في روايةٍ فكالطلاق. ولأن الأصل في مشروعية الخلع أن توجد من المرأة رغبة عن زوجها وحاجة إلى فراقه فتسأله فراقها. فإذا أجابها حصل المقصود من الخلع؛ كما لو كان بعوض. فعلى هذا لو خالعها بغير عوض وقع طلاقاً في مواضع الطلاق وفسخاً في مواضع الفسخ. وقد تقدم ذكر ذلك كله. وأما كون الأولى أصح في المذهب؛ فلما تقدم. ولأن الخلع إن كان فسخاً فالزوج لا يملك الفسخ إلا لعيب. بدليل ما لو قال: فسخت النكاح ولم ينو الطلاق فإنه لا يقع به شيء. بخلاف ما إذا دخله العوض فإنه يصير معاوضة. فلم يجتمع له العوض والمعوض. وإن كان طلاقاً

فليس بصريح منه اتفاقاً وإنما هو كناية، والكناية لا يقع بها الطلاق إلا بنية أو بدلها ولم توجد في واحد منهما. فإن قيل: إذا لم ينو في الخلع الذي فيه عوض لم توجد النية ولا بدلها. قيل: بلى؛ لأن العوض قائم مقام النية. قال: (ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. فإن فعل كره وصح. وقال أبو بكر: لا يجوز وترد الزيادة). أما كون المخالع لا يستحب له أن يأخذ من امرأته أكثر مما أعطاها؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثابت بن قيس أن يأخذَ من زوجته حديقتهُ ولا يزداد» (¬1) رواه ابن ماجة. وأدنى أحوال ذلك عدم الاستحباب. وأما كونه إذا فعل ذلك يكره؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كرهَ أن يأخذَ من المختلعةِ أكثرَ مما أعطاها» (¬2). رواه أبو حفص بإسناده. وكان في قول المصنف: ويكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها: غنية عن قوله: ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وعن قوله: كره؛ لأنه لا يلزم من الكراهة عدم الاستحباب. وأما كونه يصح على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]. وعن الرُّبَيِّع بنت معوذ أنها قالت: «اختلعتُ من زوجي بما دونَ عقاص رأسي. فأجاز ذلك علي وعثمان رضي الله عنهما» (¬3). ويروى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: «لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها وعقاص رأسها لكان ذلك جائزًا» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2056) 1: 663 كتاب الطلاق، باب المختلعة تأخذ ما أعطاها. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه 3: 255 كتاب النكاح، باب المهر. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 314 كتاب الخلع والطلاق، باب الوجه الذي تحل به الفدية. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (11850) 6: 504 كتاب الطلاق، باب المفتدية بزيادة على صداقها. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 315 كتاب الخلع والطلاق، باب الوجه الذي تحل به الفدية. (¬4) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (11853) 6: 505 الموضع السابق. وأخرجه البيهقي في الموضع السابق.

وأما كون ذلك لا يجوز على قول أبي بكر؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ ثابت بن قيس أن لا يزداد» (¬1). وأمره للوجوب، وكَره للمختلع أن يأخذ أكثر مما أعطاها. وظاهره التحريم. ولأنه مال في مقابلة فسخ. فلم تجز الزيادة على مقداره في ابتداء العقد؛ كالعوض في الإقالة. فعلى هذا ترد الزيادة لأنها غير جائزة. قال: (وإن خالعها بمحرم كالخمر والخنزير فهو كالخلع بغير عوض. وإن خالعها على عبد فبان حراً أو مستحقاً فله قيمته عليها، وإن بان معيباً فله أرشه أو قيمته ويرده). أما كون الخلع على محرم كالخلع بغير عوض؛ فلأن الخلع على ذلك مع العلم بتحريمه يدل على رضى فاعله بغير شيء. فإن قيل: هلا يصح الخلع ويجب مهر المثل؛ كما لو تزوجها على ذلك؟ قيل: خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم. فإذا رضي بغير عوض لم يكن له شيء؛ كما لو طلقها أو علق طلاقها على فعل فعلته. وفارق النكاح بأن دخول البضع في ملك الزوج متقوم. وأما كون الزوج له قيمة العبد على المرأة إذا خالعها على عبد فبان حراً أو مستحقاً؛ فلأن ذلك عين يجب تسليمها مع سلامتها. فوجب بدلها مع تعذرها؛ كالمغصوب. وأما كونه له أرشه أو قيمته ويرده إذا بان معيباً؛ فلأن الحكم كذلك في الصداق. فكذلك هاهنا. قال: (وإن خالعها على رضاع ولده عامين أو سكنى دار: صح. فإن مات الولد أو خربت الدار رجع بأجرة باقي المدة). أما كون الخلع على رضاع ولده عامين وسكنى دار يصح؛ فلأن ذلك مما يصح المعاوضة عليه في غير الخلع. ففي الخلع بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريباً.

وأما كون المخالع يرجع بباقي أجرة المدة إذا مات الولد أو خربت الدار؛ فلأنه تعذر استيفاء المعقود عليه. فوجب الرجوع بباقي أجرة المدة؛ كما لو أجره دابة شهراً بعشرة ثم ماتت في نصفه. قال: (وإن خالع الحامل على نفقة عدتها صح وسقطت). أما كون الخلع المذكور يصح؛ فلأن نفقة الحامل مقدرة واجبة بالشرع. فصح الخلع عليها؛ كالخلع على الرضاع. وأما كون النفقة تسقط؛ فلأنها صارت مستحقة له.

فصل [في الخلع بمجهول] قال المصنف رحمه الله تعالى: (يصح الخلع بالمجهول. وقال أبو بكر: لا يصح والتفريع على الأول). أما كون الخلع بالمجهول يصح على المذهب؛ فلأن الطلاق معنى يصح تعليقه بالشرط. فجاز أن يستحق به العوض المجهول؛ كالوصية. ولأن الخلع إسقاط لحقه من البضع وليس فيه تمليك شيء، والإسقاط تدخله المسامحة. ولذلك جاز بغير عوض على روايةٍ. وأما كونه لا يصح على قول أبي بكر؛ فلأنه معاوضة. فلم يصح بالمجهول؛ كالبيع. وأما كون التفريع على الأول؛ فلأنه المذهب. والفرق بينه وبين البيع أن البيع لا يصح بغير ثمن رواية واحدة. بخلاف الخلع فإنه يصح بغير عوض في روايةٍ. قال: (فإذا خالعها على ما في يدها من الدراهم أو ما في بيتها من المتاع فله ما فيهما. فإن لم يكن فيهما شيء فله ثلاثة دراهم وأقل ما يسمى متاعاً، وقال القاضي: يرجع عليها بصداقها في مسألة المتاع). أما كون المخالع على ما في يد امرأته من الدراهم أو ما في بيتها من المتاع له ما فيهما إذا كان فيهما شيء؛ فلأن ذلك هو المخالَع عليه. وجهالته لا تضر؛ لأن التفريع على صحة الخلع بالمجهول. فإن قيل: يستحق ما في اليد وإن كان أقل من ثلاثة دراهم. قيل: ظاهر كلام المصنف هنا يقتضي ذلك. وقال في المغني: فيه احتمالان: أحدهما ذلك لأنه الذي في اليد، والثاني: يستحق ثلاثة كاملة لأن اللفظ يقتضيها.

وأما كونه له ثلاثة دراهم وأقل ما يسمى متاعاً إذا لم يكن فيهما شيء على المذهب؛ فلأن ذلك أقل ما يقع عليه اسم الدراهم والمتاع حقيقة. وأما كونه يرجع عليها بصداقها في مسألة المتاع على قول القاضي؛ فلأنها فوتت عليه البضع ولم يحصل له العوض بجهالته. فوجب عليها قيمة ما فوتت، وهو الصداق. قال: (وإن خالعها على حمل أمتها أو ما تحمل شجرتها فله ذلك فإن لم يحملا فقال أحمد: ترضيه بشيء، وقال القاضي: لا شيء له). أما كون المخالع المذكور له ما تحمل الأمة والشجرة؛ فلأنه المخالع عليه، وكونه معدوماً لا أثر له لأنه يجوز مجهولاً لما تقدم. فكذا يجوز أن يكون معدوماً. فإن قيل: قول المصنف: على حمل أمتها يحتمل أنه أراد على حمل أمتها الموجودة. فلم حملته على الحمل الحادث؟ قيل: لوجوه: أحدها: أن قوله بعد: فإن لم يحملا ينفي إرادة الموجود. وثانيها: أنه هكذا ذكره في المغني. وثالثها: أنه إذا حمل على الموجود يوهم الفرق بين مسألة الأمة وبين مسألة حمل الشجرة ولا فرق بينهما. وأما كون المختلعة ترضي المخالع بشيء فيما إذا لم يحملا؛ فلأن لا يخلو الخلع عن عوض. قال المصنف في المغني: يحتمل قول أحمد: ترضيه بشيء أن له أقل ما يقع عليه اسم الثمرة أو الحمل. فتعطيه عن ذلك شيئاً أي شيء كان؛ مثل ما ألزمناه في مسألة المتاع لأن ذلك في معناه. وأما كونه لا شيء له على قول القاضي؛ فلأنه رضي بالحمل ولا حمل. وقال المصنف في المغني: لم يخالف القاضي الإمام أحمد بل تأول قوله: ترضيه بشيء على الاستحباب لأنه لو كان واجباً لقدره بتقدير يرجع إليه. فإن قيل: يلزم القاضي الفرق بين هاتين المسألتين وبين مسألتي الدراهم والمتاع.

قيل: نعم. والفرق بينهما أن المرأة في مسألة الدراهم والمتاع أوهمته أن معها دراهم وفي بيتها متاعاً لأنها خاطبته بلفظ يقتضي الوجود مع إمكان علمها به فكان له ما دل عليه لفظها إذا لم يكن في بيتها ولا يدها شيء؛ كما لو خالعته على عبد فوجد حراً. بخلاف هاتين المسألتين فإنها لم توهمه بل دخلت معه في العقد مع تساويهما في العلم في الحال ورضاهما بما فيه من الاحتمال. فلم يكن له شيء غيره؛ كما لو قال: خالعتك على هذا الحر. قال: (وإن خالعها على عبد فله أقل ما يسمى عبداً، وإن قال: إن أعطيتني عبداً فأنت طالق طلقت بأي عبد أعطته طلاقاً بائناً وملك العبد. نص عليه، وقال القاضي: يلزمها عبد وسط فيهما). أما كون المخالع على عبد له أقل ما يسمى عبداً على قول غير القاضي؛ فلأن العبد مسمى مجهول. فكان له أقل ما يسمى عبداً؛ كما لو خالعها على دراهم. وأما كون المرأة تطلق بأي عبد أعطته؛ فلأن الشرط عطية عبد وقد وجد. وأما كون الطلاق بائناً؛ فلأنه طلاق فيه عوض. وأما كون المخالعة تملك العبد؛ فلأنه عوض خروج البضع من ملكه. وأما كون المرأة يلزمها عبد وسط في مسألتي قوله: وإن خالعها على عبد وقوله: إن أعطيتني عبداً على قول القاضي فبالقياس على الصداق. قال: (وإن قال: وإن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق فأعطته إياه طلقت. وإن خرج معيباً فلا شيء له، وإن خرج مغصوباً لم يقع الطلاق. وعنه: يقع وله قيمته وكذلك في التي قبلها). أما كون المقول لها ما ذكر تطلق إذا أعطت العبد للقائل؛ فلأن الزوج شرط في طلاقها أن تعطيه العبد المشار إليه وقد أعطته إياه. فوجب أن يطلق؛ لتحقق شرطه. وأما كونه لا شيء له إذا خرج معيباً؛ فلأن الشرط عطية العبد المشار إليه وقد وجدت. ولأنه لو وجب أرش العيب للزمها شيء لم تلتزم به.

وأما كون الطلاق لا يقع إذا خرج مغصوباً على المذهب؛ فلأن العطية إنما تتناول ما يصح تمليكه، وما لا يصح تمليكه لا يكون معطيه له فإذاً لم يوجد شرط الطلاق. وأما كونه يقع على روايةٍ؛ فلأنه إذا عينه فقد قطع اجتهادها فيه فإذا أعطته إياه وجب تحقق الشرط. فيقع الطلاق؛ لتحققه. فعلى هذا له قيمته لأنه فات عليه عين العبد لكونه مستحقاً للغير فوجب له بدله وهو القيمة. والصحيح أنه لا يقع الطلاق ولا يستحق القيمة؛ لأن معنى العطية المتبادر إلى الفهم التمكين من تملكه. بدليل ما لو قال: إن أعطيتني عبداً فأنت طالق فإنها لا تطلق بعطية المغصوب. ولأن العطية هنا التمليك. بدليل حصوله فيما إذا كان العبد مملوكاً لها. وأما قول المصنف: وكذلك في التي قبلها: فمعناه أن الرواية المذكورة في التي قبلها تجيء هنا أيضاً لأنهما سواء معنى فكذا يجب أن تكون حكماً. قال: (وإن قال: إن أعطيتني ثوباً هروياً فأنت طالق فأعطته مروياً لم تطلق. وإن خالعته على هروي فبان مروياً فله الخيار بين رده وإمساكه. وعند أبي الخطاب: ليس له غيره إن وقع الخلع على عينه). أما كون المختلعة لا تطلق فيما إذا قال: إن أعطيتني ... إلى آخره؛ فلأن الشرط عطية ثوب هروي ولم يوجد؛ لأن المروي ليس بهروي. وأما كون المخالع له الخيار بين رد المروي وإمساكه فيما إذا خالعته على هروي في الذمة فبان مروياً؛ فلأن المروي ليس من نوع الهروي وإنما هو من جنسه. فالرد لأنه غير المعقود عليه، والإمساك لأنه من الجنس. وأما كونه له الخيار المذكور فيما إذا خالعته على هروي بعينه فخرج مروياً على المذهب؛ فلأن مخالفة الصفة بمنزلة العيب. وقد تقدم أن المخالع له الخيار إذا ظهر الذي وقع عليه العقد معيباً. فكذلك فيما هو بمنزلته. وأما كونه ليس له غيره عند أبي الخطاب؛ فلأن الخلع واقعٌ على عينه.

فإن قيل: كيف اقتضى قول المصنف الخلع في الذمة، وقوله: فبان مروياً مشعر بأن الخلع واقع على العين. قيل: اللفظ الأول وإن أشعر بذلك إلا أن اشتراطه وقوع الخلع على عينه عند أبي الخطاب بنفسه، ويؤذن بأن الكلام الأول عام إذ لو كان خاصاً بالخلع على غير الثوب لم يكن في اشتراط وقوع الخلع على الغير عند أبي الخطاب فائدة.

فصل قال المصنف رحمه الله تعالى: (إذا قال: إن أعطيتني، أو إذا أعطيتني، أو متى أعطيتني ألفاً فأنت طالق: كان على التراخي أيّ وقت أعطته ألفاً طلقت). أما كون ذلك كله على التراخي؛ فلأن ذلك يقتضي التراخي في غير الخلع فكذلك في الخلع. وتحريره أن يقال: علق الطلاق بشرط الإعطاء. فكان على التراخي؛ كسائر التعليق. أو يقال: علق الطلاق بحرف مقتضاه التراخي. فكان على التراخي؛ كسائر التعليق؛ كما لو خلا عن العوض. وأما كونها تطلق إذا أعطته الألف أي وقت كان؛ فلأن ذلك شأن التراخي. قال: (وإن قالت له: اخلعني بألف، أو على ألف، أو طلقني بألف، أو على ألف ففعل: بانت واستحق الألف). أما كون القائلة لما ذكر تبين إذا فعل الزوج ما سألته؛ فلأنه أجابها إلى ما سألته من الخلع الموجب للبينونة. فإن قيل: ما معنى قوله: ففعل؟ قيل: أن يقول: خلعتك بألف أو على ألف في جواب اخلعني، وأن يقول: طلقت بألف أو على ألف في جواب طلقني. وأما كون الزوج الفاعل لما ذكر يستحق الألف؛ فلأنه فعل ما جعل الألف في مقابلته.

قال: (وإن قالت: طلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثاً استحقها. وإن قالت: طلقني ثلاثاً بألف فطلقها واحدة لم يستحق شيئاً. ويحتمل أن يستحق ثلث الألف. وإن لم يكن بقي من طلاقها إلا واحدة ففعل استحق الألف علمت أو لم تعلم. ويحتمل أن لا يستحق إلا ثلثه إذا لم تعلم). أما كون الزوج يستحق الألف إذا قالت الزوجة: طلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثاً؛ فلأنه فَعَل ما سألته وزيادة لأن الثلاث واحدة واثنتان. وكذلك لو قال: طلقي نفسك ثلاثاً فطلقت نفسها واحدة وقع. فيستحق العوض بالواحدة وما وقع من الزيادة التي لم تبذل العوض لأجلها لا يستحق بها شيئاً. وأما كونه لا يستحق شيئاً على المذهب إذا قالت: طلقني ثلاثاً بألف فطلقها واحدة؛ فلأنها بذلت العوض في مقابلة شيء لم يجبها إليه. فلم يستحق شيئاً؛ كما لو قال في المسابقة: من سبق إلى خمس إصابات [فله ألف] (¬1) فسبق إلى بعضها، أو قالت: بعني عبديك بألف فقال: بعتك أحدهما بخمسمائة. وأما كونه يحتمل أن يستحق ثلث الألف؛ فلأنها استدعت منه فعلاً بعوض. فإذا فعل بعضه استحق بقسطه من العوض؛ كما لو قال: من رد عبيدي فله ألف درهم فرد ثلثهم. فإنه يستحق ثلث الألف. وأما كونه يستحق الألف إذا لم يكن بقي من طلاقها إلا واحدة ففعلها؛ فلأن الواحدة التي فعلها كملت الثلاث وحصلت ما يحصل من الثلاث من البينونة وتحريم العقد. فوجب العوض؛ كما لو طلقها ثلاثاً. وأما كونه علمت أو لم تعلم فتنبيه على التسوية بينهما على المذهب نظراً إلى تحصيل ما ذكر. وأما كونه يحتمل أن لا يستحق إلا ثلثه إذا لم تعلم؛ فلأنها بذلت العوض في مقابلة الثلاث ولم توجد. بخلاف ما إذا كانت عالمة. فإن معنى كلامها كمّل لي الثلاث. ¬

_ (¬1) زيادة من المغني 7: 262، ط دار الكتب.

قال: (وإن كان له امرأتان مكلفة وغير مكلفة فقال: أنتما طالقتان بألف إن شئتما فقالتا: قد شئنا: لزم المكلفة نصف الألف وطلقت بائناً، ووقع الطلاق بالأخرى رجعياً ولا شيء عليها). أما كون المكلفة يلزمها نصف الألف؛ فلأنه أضاف الألف إليهما على السواء. فاقتضى أن يكون الألف يقسط على قدر مهر كل واحدة منهما. وعلى قول أبي بكر يكون ذلك عليهما نصفين. وأما كونها تطلق بائناً؛ فلأنه طلاق بعوض. وأما كون الأخرى يقع بها الطلاق رجعياً؛ فلأن بذلها للعوض لا يصح لكونها غير مكلفة وإذا لم يصح بذلها للعوض كان الطلاق بلا عوض وذلك يكون رجعياً. فإن قيل: غير المكلفة تشمل الصغيرة والمجنونة ومشيئتهما غير صحيحة، والطلاق مشروط بمشيئة الزوجتين معاً. فيجب أن لا يقع الطلاق بواحدة منهما، ولا يلزم المكلفة شيء. وقد صرح المصنف بذلك في المغني. قيل: مراده بغير المكلفة المميزة ومشيئتها صحيحة. صرح به في المغني أيضاً. وكذلك ألحقه بعض من أذن له في ذلك في بعض النسخ. فإن قيل: أي شيء يدل على صحة مشيئة المميزة؟ قيل: الغلام إذا بلغ التمييز خير بين أبويه والجارية في معناه فيكون ذلك محلاً للمشيئة ودالاًّ على صحتها. وأما كونها لا شيء عليها؛ فلما تقدم من أن بذلها للعوض لا يصح. ولأن طلاقها وقع رجعياً وذلك ينافي لزوم شيء. قال: (وإن قال لامرأته: أنت طالق وعليك ألف طلقت ولا شيء عليها. وإن قال: على ألف أو بألف فكذلك. ويحتمل أن لا تطلق حتى تختار فيلزمها الألف). أما كون امرأة القائل لها: أنت طالق وعليك ألف: تطلق؛ فلأن زوجها أتى بصريح الطلاق.

وأما كونها لا شيء عليها؛ فلأنه لم يجعل العوض في مقابلة الطلاق ولا شرطا فيه، وإنما عطف ذلك على طلاقها. أشبه ما لو قال: أنت طالق وعليك الحج. وأما كون قوله: على ألف أو بألف كذلك على المذهب؛ فلأنه أوقع الطلاق غير معلق بشرط وجعل عليه عوضاً لم تبذله. فوقع رجعياً من غير عوض؛ كما لو قال: أنت طالق وعليك ألف. ولأن على ليست للشرط ولا للمعاوضة وكذلك لا يصح أن يقول: بعتك ثوبي على دينار. وأما كونه يحتمل أن لا تطلق حتى تختار وهو قول القاضي في المجرد؛ فلأن تقديره إن ضمنتِ لي ألفاً أو إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق. ولأن " على " تستعمل بمعنى الشرط. بدليل قوله تعالى: {إني أُريد أن أُنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني} [القصص: 27]، وقوله تعالى: {فهل نجعلُ لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سَدًّا} [الكهف: 94]، وقوله تعالى: {هل أَتَّبِعُك على أن تُعَلِّمن مما عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]. ولو قال في النكاح: زوجتك ابنتي على صداق كذا صح، فإذا وقع الطلاق بعوض لم يقع بدونه وجرى مجرى قوله: أنت طالق إن أعطيتني ألفاً، أو ضمنت لي ألفاً. وأما كونها يلزمها الألف على هذا الاحتمال؛ فلأن التقدير ما تقدم ذكره، وهو موجب لذلك.

فصل [إذا خالعته في مرض موتها] قال المصنف رحمه الله تعالى: (إذا خالعته في مرض موتها فله الأقل من المسمى أو ميراثه منها. وإن طلقها في مرض موته وأوصى لها بأكثر من ميراثها لم تستحق أكثر من ميراثها. وإن خالعها وحاباها فهو من (¬1) رأس المال). أما كون الزوج له الأقل من المسمى أو ميراث امرأته التي خالعته في مرض موتها؛ فلأن ذلك لا تهمة فيه. بخلاف الأكثر منهما فإن الخلع إن وقع بأكثر من الميراث تطرقت إليه التهمة من قصد إيصالها إليه شيئاً من مالها بغير عوض على وجهٍ لم تكن قادرة عليه. وصار ذلك شبيهاً بما لو وصت له أو أقرت له. وإن وقع بأقل من الميراث فالباقي هو أسقط حقه منه. فلم يستحقه. فتعين استحقاق الأقل منهما. وفي كونه له الأقل المذكور إشعار بصحة خلع المريضة في مرض موتها. وهو صحيح؛ لأنه عقد معاوضة. فصح منها في مرض موتها؛ كبيعها. وأما كونها لا تستحق أكثر من ميراثها إذا طلقها الزوج في مرض موته وأوصى لها بأكثر من ميراثها؛ فلأن الزائد على الميراث متهم فيه. فلم يستحقه؛ لما تقدم. وأما كون المحاباة في الخلع من رأس المال إن خالعها وحاباها؛ فلأنه إذا جاز الطلاق بلا عوض. فلأن يجوز بعوض فيه محاباة بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع.

قال: (وإذا وكل الزوجُ في خلع امرأته مُطْلقاً فخالع بمهرها فما زاد: صح. وما نقص عن المهر رجع على الوكيل بالنقص ويحتمل أن يتخير بين قبوله ناقصاً وبين رده وله الرجعة). أما كون خلع الوكيل بالمهر يصح فيما إذا وكله في خلع امرأته مُطْلقاً؛ فلأن الإطلاق يقتضي الخلع بمهرها لأن ذلك بدل البضع؛ كما أن إطلاق البيع يقتضي البيع بثمن المثل فإذا خالع به صح لأنه أتى بما اقتضاه الإطلاق. أشبه ما لو باع ما وكله في بيعه مطلقاً بثمن المثل. وأما كونه يصح فيما إذا خالع بأزيد منه؛ فلأنه زاده خيراً. وأما كون الزوج يرجع على الوكيل بالنقص إذا خالع بأنقص على المذهب؛ فلأن الخلع عقد معاوضة. أشبه البيع. وأما كونه يحتمل أن يتخير بين قبوله ناقصاً وبين رده؛ فلأن الحق له فإذا رضي بدونه وجب أن يصح. وأما كونه له الرجعة إذا رده؛ فلأن الطلاق قد وقع والعوض قد رد. قال: (وإن عين له العوض فنقص منه لم يصح الخلع عند ابن حامد، وصح عند أبي بكر. ويرجع على الوكيل بالنقص). أما كون الخلع المذكور لا يصح عند ابن حامد؛ فلأن الوكيل خالف موكله. فلم يصح تصرفه؛ كما لو وكله في خلع امرأته فخالع أخرى. ولأنه لم يؤذن له في الخلع بهذا العوض. فلم يصح منه كالأجنبي. وأما كونه يصح عند أبي بكر؛ فلأن المخالفة في قدر العوض لا تبطل الخلع؛ كحالة الإطلاق. ولأن البيع يصح مع مخالفة الوكيل في مقدار الثمن. فكذلك في الخلع. فعلى هذا يرجع بالنقص على الوكيل لما تقدم فيما إذا أطلق فخالع بدون مهرها. فإن قيل: فأي القولين أصح؟ قيل: قول أبي بكر لأن الفرق ثابت بين المخالعة في تعيين المعقود معه وبين المخالعة في تعيين العوض، وذلك كما أنه لو وكله في بيع عبده من زيد فباعه من

غيره لم يصح، ولو وكله في بيعه بعشرة فباعه بأقل يصح وضمن الوكيل النقصان. وقال المصنف في المغني: الأول أولى. قال: (وإن وكلت المرأة في ذلك فخالع في مهرها فما دون، أو بما عينته فما دون صح وإن زاد لم يصح. ويحتمل أن يصح وتبطل الزيادة). أما كون خلع الوكيل يصح إذا خالع بالمهر فما دون أو بما عينته فما دون؛ فلأنه فعل اقتضاه الإطلاق أو خيراً منه، أو ما اقتضاه بتعيينها أو خيراً منه. وأما كونه لا يصح فيما إذا زاد على المذهب؛ فلأنه خالعها في تعيينها أو فيما اقتضاه الإطلاق. فلم يصح؛ كما لو وكلته في الخلع بدراهم فخالع بعروض. وأما كونه يحتمل أن يصح؛ فلأن المخالفة في القدر لا توجب البطلان دليله البيع ومخالفة الوكيل الزوج. وأما كون الزيادة تبطل؛ فلأن الموكِّلة ما التزمتها ولا أذنت فيها. وفي بطلان الزيادة إشعار بأنها لا تلزم الوكيل. وفيه وجهان: أحدهما: أنه كذلك؛ لأنه لم يقبل العقد لنفسه وإنما قبله لغيره. والثاني: يلزم الوكيل؛ لأنه التزمها للزوج. فلزمه الضمان؛ كالمضارب إذا اشترى من يعتق على رب المال. قال: (وإذا تخالعا تراجعا بما بينهما من الحقوق. وعنه: أنها تسقط). أما كون المتخالعان يتراجعان بما بينهما من الحقوق على المذهب؛ فلأنه أحد نوعي الخلع. فلم يسقط به شيء؛ كالطلاق. وأما كونه يسقط على روايةٍ؛ فلأن عقد الخلع يقتضي انخلاع كل واحد من صاحبه. ولو بقيت الحقوق كما كانت لبقي بينهما علقة. وذلك ينافي الانخلاع. فعلى هذا إن خالعها قبل الدخول ولم تكن قبضت شيئاً من صداقها لم ترجع عليه، وإن كانت قبضته لم يرجع عليها. وعلى الأول يرجع كل واحد بما يستحقه وهو الأصح. فإن قيل: هل يشمل قول المصنف: وعنه أنها تسقط الحقوق التي لا تعلق لها بالنكاح كالديون ونحو ذلك؟

قيل: لا (¬1)؛ لأن ذلك لا تعلق للخلع به. ولا بد أن يُلحظ في الخلاف المذكور في التخالع أن يكون الخلع بغير لفظ الطلاق لأنه إذا كان بلفظ الطلاق لا يقتضي إسقاط شيء قولاً واحداً؛ لأن لفظ الطلاق لا دلالة له على ذلك ولذلك قيس المذهب عليه. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

فصل [إذا اختلفا في الخلع] قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا قال: خالعتك بألف فأنكرته، أو قالت: إنما خالعت غيري: بانت. والقول قولها مع يمينها في العوض. وإن قالت: نعم لكن ضمنه غيري لزمها الألف). أما كون الزوجة تبين؛ فلأن الزوج أقر بما يوجب ذلك لأنه ادعى الخلع وذلك يوجب البينونة. وأما كون القول قولها مع يمينها في نفي العوض؛ فلأنها منكرة لبذله، والقول قول المنكر مع يمينه. وأما كونها تلزمها الألف إذا قالت: نعم لكن ضمنه غيري؛ فلأنها اعترفت باستحقاقه عليها لأن نعم صريح في الجواب. ولأن وجوبه على غيرها بطريق الضمان يقتضي وجوبه عليها لأن الضامن فرع الأصل. قال: (وإن اختلفا في قدر العوض أو عينه أو تأجيله فالقول قولها مع يمينها. ويتخرج أن القول قول الزوج. ويحتمل أن يتحالفا ويرجعا إلى المهر المسمى أو مهر المثل إن لم يكن مسمى). أما كون القول قولها مع يمينها فيما تقدم ذكره على المذهب؛ فلأن القول قولها في أصله. فكان كذلك في قدره وصفته. ولأنها تنكر الزائد والتعيين والحلول، والقول قول المنكر مع يمينه. وأما كونه يتخرج أن القول قول الزوج؛ فلأن البضع يخرج عن ملكه. فكان القول قوله في عوضه؛ كالسيد مع مكاتبه.

وأما كونه يحتمل أن يتحالفا ويرجعا إلى المسمى أو مهر المثل إن لم يكن مسمى: أما التحالف؛ فلأنه اختلاف في العقد. فشرع فيه التحالف؛ كالبيع إذا اختلفا في الثمن. وأما الرجوع إلى المسمى أو مهر المثل إن لم يكن؛ فلأن البضع تلف بالخلع. فوجب الرجوع إلى البدل وهو ما ذكر؛ كما لو تلف المبيع ووقع التحالف. فإنه يجب بدله وهو المثل أو القيمة. قال: (وإن علق طلاقها بصفة ثم خالعها فوجدت الصفة ثم عاد فتزوجها فوجدت الصفة: طلقت. نص عليه. ويتخرج أن لا تطلق بناء على الرواية في العتق. واختاره أبو الحسن التميمي. وإن لم توجد الصفة حال البينونة عادت رواية واحدة). أما كون من علق طلاقها بصفة ثم خالعها ... إلى آخره؛ مثل: أن يقول الرجل لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم يخالعها ثم تدخل الدار ثم يتزوجها ثم تدخل الدار: تطلق على منصوص الإمام أحمد؛ فلأن عقد الصفة ووقوعها وجدا في النكاح. فوقع الطلاق؛ كما لو لم يتخلله بينونة. فإن قيل: الصفة انحلت بالدخول حال البينونة ضرورة أن إنْ لا تقتضي التكرار. قيل: إنما تنحل على وجهٍ تحنث به؛ لأن اليمين حل وعقد، والعقد يفتقر إلى الملك. فكذلك الحل، والحنث لا يحصل بفعل الصفة حال البينونة فلا تنحل اليمين به. وأما كونه يتخرج أن لا تطلق بناء على الرواية في العتق. وهي ما نقل عن الإمام أحمد أن الشخص لو قال لعبده: أنت حر إن دخلت الدار فباعه ثم اشتراه فإن رجع وقد دخل الدار لم يعتق. ولأن الصفة إذا وجدت لا تعود في العتق. فكذلك في الطلاق. بل ذلك في الطلاق أولى لأن العتق يتشوف الشارع إلى وقوعه. بخلاف الطلاق. وقال صاحب النهاية فيها: والأول أصح -يعني وقوع الطلاق-. وفرّق بين الطلاق والعتاق من حيث إن الأصل في الأبضاع الحرمة، وفي الأموال العصمة.

فإذا تعارض دليلا الطلاق وجب وقوعه؛ لأن الأصل حرمة الوطء. وإذا تعارض دليلا العتق وجب عدم وقوعه؛ لأن الأصل عصمة الملك. فإن قيل: لو طلقت بذلك لوقع الطلاق بشرط سابق على النكاح. ولا خلاف أنه لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم تزوجها فدخلت لم تطلق. فكذلك يجب أن يكون هاهنا. قيل: الفرق بين هذا وبين الأجنبية أن النكاح الثاني مبني على الأول في عدد الطلقات، وسقوط اعتبار العدد. وبهذا فرّق صاحب المغني فيه بين الطلاق والملك. وأما كون الصفة تعود رواية واحدة إذا لم توجد حال البينونة؛ فلأن اليمين لم تنحل بكون الدخول في حال البينونة لم يوجد. فإذا وجدت الصفة بعد التزويج وجب أن يعمل عليها؛ كما لو لم تكن بينونة.

[سقط كتاب الطلاق والرجعة والإيلاء والظهار واللعان والعدد والرضاع والنفقات]

كتاب الطلاق (¬1) ¬

_ (¬1) لا زال جزء من الشرح مفقوداً لم نقف عليه حتى الآن، ويشمل الجزء المفقود الكتب التالية: كتاب الطلاق، كتاب الرجعة، كتاب الإيلاء، كتاب الظهار، كتاب اللعان، كتاب العدد، كتاب الرضاع، كتاب النفقات. على أن تثبت في الطبعات القادمة بإذن الله في حالة العثور عليها. وقد أثبتنا المتن من كتاب المقنع. ¬

[نهاية السقط من المطبوعة]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ نهاية السقط من المطبوعة والذي استكمله المحقق من "المقنع" [تعليق من المكتبة الشاملة]

الممتع في شرح المقنع تصنيف زين الدين المنجى بن عثمان بن أسعد ابن المنجى التنوخي الحنبلي 631 - 695 هـ الجزء الرابع دراسة وتحقيق د. عبدالملك بن عبدالله بن دهيش

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات الجنايات جمع جناية. والجناية في اللغة: كل فعل عدوان على بدن أو مال. وفي الشرع: هي كل فعل عدوان على بدن. وتسمى فيه الجناية على المال غصباً ونهباً وسرقة وإتلافاً وخيانة. والجناية على البدن حرام بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق} [الأنعام: 151]، وقوله: {ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً} [الإسراء: 33]، وقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنم ... الآية} [النساء: 93]، وقوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة: 45]. وأما السنة؛ فما روى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُ دمُ امرئٍ مسلمٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفس، والتاركُ لدينهِ المفارقُ للجماعة» (¬1). متفق عليه. وروي عن عثمان بن عفان وعائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله (¬2). وأما الإجماع فأجمع المسلمون في الجملة على تحريم الجناية على البدن. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6484) 6: 2521 كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (1676) 3: 1302 كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4353) 4: 126 كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد، عن عائشة. و (4502) 4: 170 كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، عن عثمان. وأخرجه الترمذي في جامعه (2158) 4: 460 كتاب الفتن، باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، عن عثمان. وأخرجه النسائي في سننه (4057) 7: 103 كتاب تحريم الدم، الحكم في المرتد، عن عثمان. و (4048) 7: 101 الصلب، عن عائشة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [(القتل على أربعة أضرب: عمد وشبه عمد وخطأ وما أجري مجرى الخطأ. فالعمد: أن يقتله بما يغلب على الظن موته به عالماً بكونه آدمياً معصوماً). أما كون] (¬1) القتل على أربعة أضرب؛ فلأن منه ما يوجب القصاص وهو العمد، ومنه ما يوجب الدية مغلظة وهو شبه العمد، ومنه ما يوجبها غير مغلظة، وذلك تارة يكون الخطأ فيه محضاً وهو الخطأ، وتارة يكون غير محض وهو ما أجري مجرى الخطأ. وسيأتي ذكر ذلك كله في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال الخرقي: هو على ثلاثة أوجه: عمد وشبهه وخطأ لأن ما أجري مجرى الخطأ خطأ؛ لأن فاعله لم يقصده، أو هو من فعل من لا يصح قصده. فوجب كونه خطأ. وأما قول المصنف: فالعمد أن يقتله بما يغلب على الظن موته به (¬2) عالماً بكونه آدمياً؛ فبيان لمعنى العمد الموجب للقصاص شرعاً. وفي قولنا: "أن يقتله بما يغلب على الظن موته" احتراز من شبه العمد؛ مثل: أن يضربه بما لا يغلب على ظنه موته كالعصا والسوط (¬3) وأشباه ذلك. وفي قوله: "عالماً بكونه آدمياً" احتراز عن الخطأ؛ مثل: أن يرمي صيداً فيصيب آدمياً. وفي قوله: "معصوماً" احتراز عن الحربي وما أشبهه؛ لأنه غير معصوم. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق. (¬3) في أ: والصوط.

قال: (وهو تسعة أقسام: أحدها: أن يجرحه بما له مَوْر في البدن من حديد أو غيره؛ مثل: أن يجرحه بسكين، أو يغرزه بمسلة فيموت؛ إلا أن يغرزه بإبرة أو شوكة ونحوهما في غير مقتل فيموت في الحال ففي كونه عمداً وجهان. وإن بقي من ذلك ضَمِنًا حتى مات، أو كان الغرز بها في مقتل كالفؤاد والخصيتين: فهو عمد محض). أما كون القتل العمد تسعة أقسام؛ فلأنه ينقسم إلى الأقسام الآتي ذكرها وهي تسعة. وأما كون أحدها أن يجرحه بما له مَوْر في البدن. أي بما له نفوذ في البدن؛ كالمحدد من الحديد أو الرصاص أو النحاس أو الذهب أو الفضة أو الزجاج أو الحجر أو القصب؛ فلأنه قتل بما يغلب على الظن موته به فيدخل تحت (¬1) ما تقدم ذكره. وأما قول المصنف رحمه الله: مثل أن يجرحه بسكين أو يغرزه بمسلة فيموت؛ فتمثيل للقتل بما له مَوْر في البدن. وأما كون الغرز بإبرة أو شوكة ونحوهما في غير مقتل عمداً إذا مات في الحال في وجهٍ؛ فلأن الموت حصل بعد فعله. أشبه ما لو بقي ضمناً حتى مات. وأما كونه غير عمد (¬2) في وجهٍ؛ فلأن الظاهر أنه لم يمت منه؛ لأنه لا يقتل في الغالب. أشبه العصا. وأما كون الغرز بذلك في غير مقتل عمداً (¬3) محضاً [إذا بقي ضَمِناً حتى مات؛ فلأن الظاهر أنه مات منه. ومعنى قوله: بقي ضَمِناً] (¬4) أنه بقي متألماً بما أصابه. ومنه قول الشاعر: ما خلتني زلت بعدكم ضَمِناً ... أشكو إليكم حموة الألم ¬

_ (¬1) في أ: تحته. (¬2) في أ: شبه عمد. (¬3) في أ: وأما كون الغرز بإبرة عمداً. (¬4) ساقط من أ.

وأما كون الغرز بذلك في مقتل كما مثل المصنف رحمه الله عمداً محضاً؛ فلأن الإصابة بذلك في مقتل كالإصابة بالسكين في غير (¬1) مقتل. قال: (وإن قطع سَلَعة من أجنبي بغير إذنه فمات (¬2) فعليه القود. وإن قطعها حاكمٌ من صغير أو وليه فلا قود). أما كون من قطع سَلَعة من (¬3) أجنبي بغير إذنه فمات فعليه القود؛ فلأنه متعد بفعله. أشبه ما لو قتله. ولا بد أن يلحظ في الأجنبي هنا أن يكون لا ولاية له على من قطع السلعة منه؛ لا أن يكون بينه وبينه قرابة؛ لأن المسقط للقود عدم التعدي، وذلك يعتمد الولاية لا القرابة. وأما كون الحاكم أو الولي إذا قطع سَلَعة من صغير لا قود؛ فلأنه فعل ذلك لمصلحة الصغير المرصد لمثلها. فلم يجب القود؛ كما لو سقاه دواء فمات. ولا بد أن يلحظ في الحاكم أن يكون ولياً للصبي لما تقدم. وكان الأجود أن يقول: وإن قطعها من صغير وليُّه؛ لأنه يشمل الحاكم وغيره إذا كان كذلك. قال: (الثاني: أن يضربه بمثقل كبير فوق عمود الفسطاط، أو بما (¬4) يغلب على الظن أن يموت به كاللت والكوذين والسندان، أو حجر كبير، أو يلقي عليه حائطاً أو سقفاً، أو يلقيه من شاهق أو يُعيدالضرب بصغير، أو يضربه به في مقتل، أو في حال ضعف قوة من مرض أو صغر أو كبر أو في حر أو برد ونحوه). أما كون الثاني من الأقسام التسعة ما ذكر؛ فلأنه يلي الأول. وأما كونه عمداً؛ فلأن القتل بالمحدد إنما كان عمداً لكونه يغلب على الظن موته به. وهذا موجود في ذلك كله. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق. (¬3) مثل السابق. (¬4) في أ: عمودي الفسطاط وبما.

وفي كون القتل بذلك عمداً إشعار بوجوب القصاص. وهو صحيح؛ لأن من قتل بذلك مقتول ظلماً فيجب القصاص به على قاتله؛ لقوله تعالى: {ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً} [الإسراء: 33]. وعن أنس رضي الله عنه «أن يهوديًا قتل جاريةً على أوضاحٍ لها بحجرٍ. فقتله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين حَجرين» (¬1) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: من قُتلَ له قتيلٌ فهو بخيرِ النظرين: إما يُودَى، أو يُقاد» (¬2). رواه البخاري ومسلم. ولأن المثقل يقتل غالبًا. فوجب القصاص به؛ كالمحدد. وأما كون المصنف رحمه الله قيد الضرب بمثقل بكونه فوق عمود الفسطاط؛ فلأن الضرب لو كان بشيء كبير مثل عمود الفسطاط فما دون (¬3) لم يجب القصاص به؛ لما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن المرأةِ التي ضَربت جارتها بعمودِ فسطاطٍ فقتلتهاوجنينها: قضى في الجنين بغُرّةٍ، وقضى بديةِ المرأة على عاقِلَتِها» (¬4). والعاقلة لا تحمل ما يوجب القصاص. فإن قيل: ما عمود الفسطاط؟ قيل: عمود الخيمة. قال القاضي: المراد بالعمود المذكور ما فيه رقة ورشاقة. فأما العمود الذي يتخذه الترك وغيرهم لخيمهم فالقتل به عمد؛ لأنه يقتل غالباً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6483) 6: 2521 كتاب الديات، باب إذا قتل بحجر أو بعصا. وأخرجه مسلم في صحيحه (1672) 3: 1299 كتاب القسامة، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6486) 6: 2522 كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. وأخرجه مسلم في صحيحه (1355) 2: 988 كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها. (¬3) ساقط من أ. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1682) 3: 1310 كتاب القسامة، باب دية الجنين ...

وأما كونه مَثّل القتل بمثقل تارة باللت وتارة بالحجر فتنبيه على أنه لا فرق بين كون المثقل من حديد كاللت والكوذين والسندان وبين كونه من غير حديد كالحجر؛ لاشتراك الكل في كونه يقتل غالباً. ولأن القصاص هنا لكونه مثقلاً فلا أثر لكونه من حديد. وأما كون من يُلقي على شخص حائطاً أو سقفاً أو يلقيه من شاهق كمن يضربه بمثقل كبير فوق عمود الفسطاط؛ فلأن القتل بذلك في معنى القتل بالخشبة الكبيرة التي فوق العمود المذكور. وأما كون من يعيد الضرب بصغير كالعصا والحجر الصغير فيموت كمن يضربه بمثقل كبير فوق عمود الفسطاط؛ فلأن الإعادة تقوم مقام المثقل. [فلو مات من غير إعادة لم يجب القصاص لانتفاء الإعادة القائمة مقام المثقل] (¬1). وأما كون من يضربه بما ذكر في مقتل، أو ضعف من مرض أو صغر أو كبر أو حر أو برد ونحو ذلك: كذلك؛ فلأن ذلك إذا تعقبه الموت غلب على الظن أن القتل حصل به. فوجب القصاص؛ كالمثقل الكبير. قال: (الثالث: ألقاه في زُبْيَة أسد أو أنهشه كلباً أو سبعاً أو حية أو ألسعه عقرباً (¬2) من القواتل ونحو ذلك فقتله). أما كونه الثالث من الأقسام التسعة ما ذكر؛ فلأنه يلي الثاني. وأما كون الإلقاء في زُبْية أسد عمداً؛ فلأن الغالب أن الأسد يقتله فإذا تعمد الإلقاء عليه فقد تعمد قتله بما يقتل غالباً. وأما كون إنهاش الكلب أو السبع أو الحية وإلساع العقرب عمداً؛ فلأن كل واحد مما ذكر يغلب على الظن حصول القتل به. أشبه ما لو ضربه بمحدد فمات. قال: (الرابع: ألقاه في ماء يغرقه أو نار لا يمكنه التخلص منها فمات). أما كون الرابع من الأقسام التسعة ما ذكر؛ فلأنه يلي الثالث. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: لسعه عقرب.

وأما كون الإلقاء في ماء يغرقه أو نار لا يمكنه التخلص منها عمداً؛ فلأن الموت حصل بعد فعل يغلب على الظن إسناد القتل إليه. فوجب كونه عمداً؛ لما تقدم. وأما قول المصنف رحمه الله: في ماء يغرقه أو نار لا يمكنه التخلص منها؛ فتنبيه على أن الماء إذا كان لا يغرق مثله والنار يمكن التخلص منها لا يكون عمداً لأن ذلك لا يقتل غالباً. أشبه ما لو ضربه بمثقل صغير في موضع لا يقتله مثله غالباً. قال: (الخامس: خنقه بحبلٍ أو غيره، أو سد فمه وأنفه، أو عصر خصيتيه حتى مات). أما كون الخامس مما ذكر ما ذكر؛ فلأنه يلي الرابع. وأما كون كل واحد من الخنق وسد الفم مع الأنف وعصر الخصيتين عمداً؛ فلأن ذلك يقتل مثله غالباً. أشبه ما تقدم. وأما قول المصنف رحمه الله: أو سد فمه وأنفه فظاهره أنه يعتبر سد الفم والأنف جميعاً. وهو صحيح لأن الحياة في الغالب لا تفوت إلا بسدهما. وأنه لا فرق في السد والعصر بين طول المدة وقصرها. وقال في المغني: إن فعل ذلك في مدة يموت في مثلها غالباً فمات فهو عمد فيه القصاص. ولا بد من ذلك؛ لأن المدة متى كانت يسيرة لا يغلب على الظن أن الموت حصل به. قال: (السادس: حبسه ومنعه الطعام والشراب حتى مات جوعاً وعطشاً في مدة يموت في مثلها غالباً). أما كون السادس مما ذكر ما ذكر؛ فلأنه يلي الخامس. وأما كون الحبس والمنع من الطعام والشراب حتى يموت جوعاً وعطشاً في المدة المذكورة عمداً؛ فلأن الله تعالى أجرى العادة بالموت عنده فإذا تعمده الإنسان فقد تعمد القتل. وأما كون ذلك في مدة يموت في مثلها غالباً؛ فلأن الناس يختلفون في ذلك لأن الزمان إذا كان شديد الحر وكان الإنسان جائعاً مات في الزمن القليل، وإذا كان شبعاناً والزمان معتدل أو بارد لم يمت إلا في الزمان الطويل.

قال: (السابع: سقاه سماً لا يعلم به، أو خلط سماً بطعام فأطعمه، أو خلطه بطعامه فأكله ولا يعلم به: فمات فإن علم آكله به وهو بالغ عاقل أو خلطه بطعام نفسه فأكله إنسان بغير إذنه فلا ضمان عليه). أما كون السابع مما ذكر ما ذكر؛ فلأنه يلي السادس. وأما كون سقي السم لمن لا يعلم به عمداً؛ فلأنه فعل فعلاً يقتل مثله غالباً. فكان عمداً؛ كما لو ضربه بمحدد. وأما كون خلط السم بطعام وإطعامه إياه عمداً؛ فلأن ذلك في معنى سقيه السم لاشتراكهما في حصول الموت بكل واحد منهما. فإن قيل: روى أنس «أن يهوديةً أتتِ النبي صلى الله عليه وسلم بشاةٍ مسمومةٍ فأكلَ منها ولم يَقتُلْها» (¬1). قيل: لا حجة في ذلك؛ لأن أنساً لم يذكر أنه مات من ذلك أحد. والقصاص إنما يجب بشرط الموت ولذلك جاء في رواية أبي سلمة «أن بشرَ بن البراء (¬2) ماتَ فأرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فاعترفتْ فأمرَ بها فقُتِلَت» (¬3). أخرجه أبو داود. وأما كون خلط السم بطعام شخص إذا أكله غير عالمٍ بكونه مسموماً فمات عمداً؛ فلأن الشخص يغلب على الظن أكله لطعامه فإذا سمّه شخص فقد قصد قتله به غالباً. فكان ذلك عمداً؛ كما لو خلط طعام نفسه به ثم أطعمه إياه. وأما كونه لا ضمان عليه إذا علم الآكل بكون الطعام مسموماً؛ فلأنه أكله مع علمه بكونه قاتلاً. فلم يكن فيه ضمان؛ كما لو قدم له سكيناً فقتل نفسه بها.

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2474) 2: 923 كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين. وأخرجه مسلم في صحيحه (2190) 4: 1721 كتاب السلام، باب السم. (¬2) في الأصول: بشر بن العلاء، وما أثبتناه من السنن. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4510) 4: 173 كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلاً سماً أو أطعمه فمات أيقاد منه.

وأما قول المصنف رحمه الله: وهو بالغ عاقل؛ فمعناه أن يشترط لنفي الضمان أمران (¬1): البلوغ والعقل؛ فلأن فعل الصبي والمجنون لا عبرة به. ويشترط له أمر آخر لم يذكره المصنف رحمه الله وهو: العلم بكون السم قاتلاً؛ لأن من جهل ذلك لا يصح أن يقال علم بكونه قاتلاً. وأما كونه لا ضمان عليه إذا خلط شخصٌ طعام نفسه فأكله غيره بغير إذنه؛ فلأن صاحب الطعام لم يقتله وإنما الآكل قتل نفسه. ونظيره شخص حفر في داره بئراً فدخل غيره بغير إذنه فوقع (¬2) فيه. قال: (فإن ادعى القاتل بالسم أني لم أعلم أنه سم قاتل لم يقبل في أحد الوجهين، ويقبل في الآخر ويكون شبه عمد). أما كون من ادعى ما ذكر لا يقبل قوله في أحد الوجهين؛ فلأنه ادعى ما يسقط الواجب عليه. فلم يقبل قوله؛ كغيره من الإسقاطات. ولأن السم يقتل غالباً. فلم يقبل قوله في أنه لم يعلم أنه سُمٌّ قاتل؛ كما لو جرحه وقال: لم أعلم أنه يموت به. وأما كونه يقبل قوله في الوجه الآخر؛ فلأنه يجوز أن يخفى عليه أن السم قاتل. فيكون ذلك شبهة. فيسقط به القصاص. وأما كونه على هذا يكون شبه عمد؛ فلأنه من حيث إنه قصد فعل الشيء الداعي إلى القتل يشبه العمد فيكون شبه عمد لشبهه به. قال: (الثامن: أن يقتله بسحر يقتل غالباً). أما كون الثامن مما ذكر ما ذكر؛ فلأنه يلي السابع. وأما كون القتل بالسحر المذكور عمداً؛ فلأنه قتل بشيء يقتل مثله غالباً. أشبه ما لو ضربه بسكين. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في د: وقع.

وأما كون السحر يقتل غالباً؛ فلأنه متى كان لا يقتل غالباً لا يصح قياسه على السكين لقيام الفرق بينهما من حيث إن السكين تقتل غالباً، وذلك مفقود فيه. قال: (التاسع: أن يشهدا على رجل بقتل عمداً أو ردة أو زنا فيقتل بذلك ثم يرجعا ويقولا: عمدنا قتله أو يقول الحاكم: علمت كذبهما وعمدت قتله، أو يقول الولي ذلك: فهذا كله وشبهه عمد محض موجب للقصاص إذا كملت شروطه). أما كون التاسع مما ذكر ما ذكر؛ فلأنه يلي الثامن. وأما كون شهادة الشاهدين بما ذكر ورجوعهما وقولهما: عمدنا قتله عمداً؛ فلما روي «أن رجلين شهدَا عند علي رضي الله عنه على رجلٍ أنه سرق فقطَعَه. ثم رجعا عن شهادتهما. فقال علي: لو أعلمُ أنكما تعمّدتما لقطعتُ أيديكما» (¬1). ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبًا. فكان عمداً؛ كالذي تقدم. وأما كون الحاكم أو الولي إذا قال: علمت كذب الشاهدين وعمدت قتله عمداً؛ فلأن الحاكم والولي في معنى الشاهدين. فكان القتل الحاصل بسببهما عمداً؛ كالقتل الحاصل بسبب الشاهدين. وأما قول المصنف رحمه الله: فهذا كله وشبهه عمد محض موجب للقصاص؛ فإشارة إلى الأقسام التسعة المتقدم ذكرها. [وفيه تنبيه على أشياء: أحدها: أن العمد على ضربين: محض. وهو: ما لا شبهة فيه البتة وهو الأقسام التسعة المتقدم ذكرها] (¬2)، وغير محض كعمد الخطأ. وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله. وثانيها: أن العمد ليس مختصاً بما تقدم ذكره بل كل ما أشبهه كان ملحقاً به لشبهه به. وثالثها: أن العمد المحض موجب للقصاص لا غير. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 251 كتاب الشهادات، باب الرجوع عن الشهادة. (¬2) ساقط من أ.

أما كونه موجباً للقصاص فلا خلاف فيه بين أهل العلم وقد دلت الآيات والأخبار على ذلك: أما الآيات؛ فقوله تعالى: {ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سُلطاناً} [الإسراء: 33]، وقوله تعالى: {كُتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178]، وقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45]. وأما الأخبار؛ فقوله عليه السلام: «من قُتل له قتيلٌ فهو بخيرِ النظرين: إما أن يُقتل وإما أن يُفدى» (¬1) متفق عليه. وقوله عليه السلام: «من أصيبَ بدمٍ أو خَبَلٍ فهوَ (¬2) بالخيار بين إحدى ثلاث. فإن أرادَ الرابعةَ فخذوا على يديه: أن يقتُل، أو يعفُو، أو يأخذ الدية» (¬3). رواه أبو داود. وقوله عليه السلام: «فمنْ قُتِلَ له قتيلٌ بعد مَقالَتي هذه فأهلُهُ بين خِيَرَتَيْنِ: أن يَأخذُوا العَقْلَ، أو يَقتُلُوا» (¬4). وقوله عليه السلام: «العمدُ قودٌ إلا أن يعفوَ وليُّ المقتُول» (¬5). وقوله عليه السلام: «منْ قَتَلَ عامداً فهو قَوَد». رواه أبو داود وابن ماجة ولفظه: «منْ قُتِلَ عمداً فهوَ قَوَد» (¬6). وأما كون غير العمد لا يوجب للقصاص؛ فلأن غير ذلك: إما شبه عمد، وإما خطأ، وإما ما أجري مجرى الخطأ. والكل لا قصاص فيه. وسيأتي دليل ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ساقط من د. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4496) 4: 169 كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم. أخرجه ابن ماجة في سننه (2623) 2: 876 كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4504) 4: 172 كتاب الديات، باب ولي العمد يرضى بالدية. وأخرجه الترمذي في جامعه (1406) 4: 21 كتاب الديات، باب ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27757) 5: 435 كتاب الديات، من قال: العمد قود. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (4539) 4: 183 كتاب الديات، باب من قتل في عمياء بين قوم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2635) 2: 880 كتاب الديات، باب من حال بين ولي المقتول وبين القود أو الدية.

وأما قول المصنف رحمه الله: إذا كملت شروطه فصحيح؛ لأنه لا شبهة أن للقصاص شروطاً؛ مثل كون المقتول حراً مسلماً ونحو ذلك. ولا يمكن استيفاء الشيء قبل شرطه (¬1). ¬

_ (¬1) في أ: شروطه.

فصل [في شبه العمد] قال المصنف رحمه الله: (وشبه العمد: أن يقصد الجناية بما لا يقتل غالباً فيقتل؛ نحو: أن يضربه بسوط أو عصا أو حجر صغير أو يلكزه أو يلقيه في ماء قليل أو يسحره بما لا يقتل غالباً أو يصيح بصبي أو معتوه وهما على سطح فيسقطا أو يغتفل عاقلاً فيصيح به فيسقط ونحو ذلك). أما قول المصنف رحمه الله: أن يقصد الجناية بما لا يقتل غالباً؛ فهو بيان لمعنى شبه العمد. وسمي بذلك؛ لأنه قصد الفعل وأخطأ في القتل. ويسمى عمد الخطأ وخطأ العمد لاجتماع الخطأ والعمد فيه. فعلى هذا قصد المصنف رحمه الله بقوله: أن يقصد الجناية الاحتراز عن الخطأ، وبما لا يقتل غالباً الاحتراز عن العمد المحض. وأما قوله: نحو أن يضربه بسوط ... إلى آخره فتمثيل لصور شبه العمد وتعداد لها. ولا بد من بيان قصد الجناية في كل واحد منها وكون المجني به مما لا يقتل غالباً: أما قصد الجناية في كل واحد منها فظاهر. وأما كون المجني به مما لا يقتل غالباً: أما في السَّوط والعصا والحجر الصغير والكبير والإلقاء في الماء القليل؛ فلأن كل واحد من ذلك لم تجر العادة بقتله لأحد. وأما في السحر فقد جعل المصنف رحمه الله ذلك وصفاً فيه، والمرجع في ذلك إلى أهل العلم به فما كان لا يقتل غالباً فذلك شبهعمد وما كان يقتل غالباً فهو عمد محض. وقد تقدم الكلام فيه في أقسام العمد المحض. وأما فيما إذا صاح بصبي أو معتوه وهما على سطح فسقطا؛ فلأن الصياح في العادة لا يقتل غالباً. فإذا تعقبه الموت كان شبه عمد.

وأما فيما إذا اغتفل عاقلاً فصاح به فسقط؛ فلأن غفلته كحال الصبي والمعتوه. فوجب أن يثبت حكمهما فيه. فإن قيل: شبه العمد ما حكمه؟ قيل: لا قصاص فيه وتجب به الدية؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «اقتتلتِ امرأتانِ من هذيل. فرمتْ إحداهُما الأخرى بحجرٍ فقتلتها وما في بطنها. فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن ديةَ جنينها عبد أو وليدَة. وقضى بدية المرأةِ على عاقِلتها» (¬1). متفق عليه. وفي الحديث: «ألا! إن في قتلِ خطإِ العمدِ قتيل السوطِ والعصا مائةٌ من الإبل» (¬2). رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة. سماه خطأ العمد وأوجب فيه الدية لا القصاص. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6512) 6: 2532 كتاب الديات، باب جنين المرأة ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1681) 3: 1309 كتاب القسامة، باب دية الجنين ... (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4588) 4: 195 كتاب الديات، باب في دية الخطأ شبه العمد. وأخرجه النسائي في سننه (4797) 8: 42 كتاب القسامة، ذكر الاختلاف على خالد الحذاء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2627) 2: 877 كتاب الديات، باب دية شبه العمد مغلظة.

فصل [في قتل الخطأ] قال المصنف رحمه الله: (والخطأ على ضربين: أحدهما: أن يرمي الصيد، أو يفعل ما له فعله فيقتل إنساناً: فعليه الكفارة، والدية على عاقلته). أما كون الخطأ على ضربين؛ فلأنه تارة يكون على فاعله الكفارة وعلى عاقلته الدية، وتارة يكون فيه الكفارة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان. وأما كون أحد ضربي الخطأ: أن يرمي الصيد ... إلى قوله: إنساناً (¬1)؛ فلأن ابن المنذر قال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القتل الخطأ: أن يرمي الرامي شيئاً فيصيب غيره. لا أعلمهم يختلفون فيه. وأما كون القاتل بذلك عليه الكفارة؛ فلقوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92]. وأما كون الدية على عاقلته؛ فلأنها إذا وجبت الدية عليها في شبه العمد. فلأن تجب في الخطأ بطريق الأولى. ولأن الخطأ يكثر فلو وجبت الدية على القاتل لأجحف به. فناسب تعليقها بالعاقلة ليحصل مجموع الأمرين من إيفاء المجني عليه حقه مع عدم الإجحاف بالجاني. ¬

_ (¬1) في أ: أن يرمي الصيد فيصيب إنساناً.

قال: (الثاني: أن يقتل في دار الحرب من يظنه حربياً ويكون مسلماً, أو يرمى إلى صف الكفار فيصيب مسلماً ,أويتترس من الكفار بمسلم ويخاف على المسلمين إن لم يرمهم فيرميهم فيقتل المسلم: فهذا فيه الكفارة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان). أما كون الثاني من ضربي الخطأ: أن يقتل في دار الحرب ... إلى قوله: فيقتل المسلم فلا خلاف فيه. قاله المصنف رحمه الله في المغني. وأما كون قتل من يظنه حربياً ويكون مسلماً فيه الكفارة؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبةٍ مؤمنة} [النساء: 92]. وأما كون وجوب الدية على العاقلة فيه روايتان؛ فلأن النظر إلى أن الله تعالى صرح في أول الآية بالكفارة والدية وذكر هنا الكفارة دون الدية يقتضي عدم وجوب الدية، والنظر إلى عموم قوله: {وديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله} [النساء: 92]، وعموم قوله: «ألا! إن في قتلِ خطأِ العمد مائةٌ من الإبل» (¬1) يقتضي وجوبها. والأولى أصح (¬2)؛ لما ذكر. والخطأ المذكور لم يدخل فيما تقدم؛ لأنه صرح بذكره (¬3) وجعله قسماً مفرداً، والخبر مخصوص بقوله: {فإن كان من قوم عدو لكم} [النساء: 92]. وأما كون قتل المسلم في بقية ما ذكر فيه الكفارة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان؛ فلأنه يساوي ما تقدم معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في أ: ولأنه صرح بذلك.

قال: (والذي أجري مجرى الخطأ كالنائم ينقلب على إنسان فيقتله، أو يقتل بالسبب؛ مثل: أن يحفر بئراً أو ينصب سكيناً أو حجراً فيؤول إلى إتلاف إنسان. وعمد الصبي والمجنون، فهذا كله لا قصاص فيه، والدية على العاقلة، وعليه الكفارة في ماله). أما كون الذي أجري مجرى الخطأ كالنائم إلى المجنون؛ فلأنه يشارك الخطأ في الإتلاف. وإنما لم يجعل خطأ لعدم (¬1) القصد في الجملة. وقد تقدم أن بعض الأصحاب جعل الأقسام ثلاثة (¬2). فعلى هذا كل ما ذكر خطأ. وأما كونه لا قصاص فيه؛ فلأنه إذا لم يجب بالخطأ فلأن لا يجب بالذي يجري مجرى الخطأ بطريق الأولى. وأما كون الدية على العاقلة؛ فلأنه يجري مجرى الخطأ، والخطأ تجب ديته على العاقلة. فكذلك الذي يجري مجراه. وأما كون القاتل عليه الكفارة في ماله؛ فلأن الأمر كذلك في الخطأ. فكذا في الذي يجري مجراه. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

فصل [في قتل الجماعة بالواحد] قال المصنف رحمه الله: (وتقتل الجماعة بالواحد. وعنه: لا يقتلون. والمذهب الأول). أما كون الجماعة تقتل بالواحد على المذهب؛ فـ «لأن عمر بن الخطاب قتلَ سبعة من أهلِ صنعاء قتلوا رجلاً. وقال: لو تمالأَ عليه أهلُ صنعاءَ لقتلتُهم جميعًا» (¬1). وأما كونهم لا يقتلون على روايةٍ؛ فلأن مفهوم قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] يدل على أنه لا تؤخذ أكثر من نفس واحدة بنفس واحدة. ولأن كل واحد من الجماعة مكان للمقتول. فلا يؤخذ أبدال بمبدل واحد؛ كما لا تؤخذ ديات بمقتول واحد. ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع. فإن الحر لا يقتل بالعبد. فالتفاوت في العدد أولى. وأما كون المذهب الأول؛ فلأن إجماع الصحابة عليه منهم عمر وقد تقدم. ويروى عن علي رضي الله عنه «أنه قتلَ ثلاثة قتلُوا رجلاً» (¬2)، وعن ابن عباس رضي الله عنه: «أنه قتلَ جماعةً بواحدٍ» (¬3). ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف. ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد. فوجبت على الجماعة؛ كحد القذف. ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في صحيحه معلقاً 6: 2527 كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم. وأخرجه الشافعي في مسنده (333) 2: 100 كتاب الديات. (¬2) أخرج نحوه ابن أبي شيبة في مصنفه (27687) 5: 428 كتاب الديات، الرجل يقتله النفر. (¬3) أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عباس قال: «لو أن مئة قتلوا رجلاً قتلوا به» (18082) 9: 479 كتاب العقول، باب النفر يقتلون الرجل.

ولأنه لو سقط القصاص بالاشتراك لأدى ذلك إلى التسارع إلى القتل به. وفيه إسقاط لحكمة الردع والزجر. والفرق بين قتل الجماعة والدية أن الدم لا يتبعض. بخلاف الدية. قال: (وإن جرحه أحدهما جرحاً، والآخر مائة فهما سواء في القصاص والدية). أما كون أحد الجارحين إذا جرح جرحاً والآخر مائة هما سواء في القصاص والدية؛ فلأن كل واحد من الجرح والجراحات صالح لزهوق النفس، وذلك يوجب كونهما سواء في الزهوق. ويلزم من كونهما سواء [في الزهوق سواء] (¬1) في القصاص؛ لأن التساوي في موجب الشيء يلزم منه (¬2) التساوي في موجبه. وأما كونهما سواء في الدية؛ فلأنها بدل القصاص. قال: (وإن قطع أحدهما من الكوع ثم قطع الآخر من المرفق فهما قاتلان. وإن فعل أحدهما فعلاً لا تبقى الحياة معه كقطع حشوته أو مريئه أو ودجيه ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الأول ويعزر الثاني). أما كون أحد القاطعين إذا قطع من الكوع والآخر من المرفق هما قاتلان؛ فلأن كل واحد من القطعين يوجب القتل، وذلك يوجب كونهما قاتلين؛ لاشتراكهما في موجبه. وأما كون القاتل هو الأول إذا فعل فعلاً لا تبقى الحياة معه كما مثل المصنف رحمه الله ثم ضرب عنقه آخر؛ فلأن الحياة لا تبقى مع جنايته، وذلك يوجب كونه القاتل لا غير. وأما كون الثاني يعزر؛ فلأنه بمنزلة الجاني على الميت، والجناية على الميت توجب التعزير. فهاهنا مثله بل أولى لأنه أحسن حالاً من الميت. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: فيه.

قال: (وإن شق الأول بطنه أو قطع يده ثم ضرب الثاني عنقه: فالثاني هو القاتل، وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدية). أما كون الثاني فيما ذكر هو القاتل؛ فلأن المجني عليه لم يخرج بفعل الأول من حكم الحياة، وإذا كان كذلك فالمفوت للنفس هو الثاني. فيجب كونه هو القاتل. ضرورة تفويته النفس المحرم تفويتها. وأما كون الأول عليه ضمان ما أتلف؛ فلأنه حصل بجنايته. وأما كون ذلك بالقصاص تارة وبالدية أخرى؛ فلأن الجناية تارة تكون موجبة للقصاص كقطع اليد عمداً، وتارة لا تكون موجبة له كقطع اليد خطأ. قال: (وإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقَدّه: فالقاتل هو الثاني. وإن رماه في لجة فتلقاه حوت فابتلعه فالقود على الرامي في أحد الوجهين). أما كون القاتل هو الثاني إذا رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف (¬1) فقدّه؛ فلأنه فوّت حياته قبل المصير إلى حال يئس فيها من حياته. أشبه ما لو رماه رجل بسهم فبادره رجل فقطع عنقه قبل وصول السهم إليه. وأما كون القود على الرامي إذا رماه في لجة فتلقاه حوت فابتلعه في وجهٍ؛ فلأنه تسبب إلى قتله ولم يوجد مباشر. فصح إسناد القتل إليه. فوجب أن يعمل السبب عمله. وبه فارق ما تقدم من حيث إن الذي تلقى المقتول مباشر صالحٌ لإسناد القتل إليه. وأما كونه لا قود عليه في وجهٍ؛ فلأنه متسبب والإتلاف حصل بالمباشرة، وذلك يوجب قطع التسبب. والأول أصح؛ لأن السبب لا ينقطع إلا بشرط صلاحية إسناد التلف إلى المباشر، وهو مفقود هاهنا. قال: (وإن أكره إنساناً على القتل فقتل فالقصاص عليهما). أما كون القصاص فيما ذكر على المكره؛ فلأنه تسبب إلى قتله بشيء يفضي إليه غالباً. فوجب عليه القصاص؛ كما لو ألسعه حية، أو ألقاه إلى أسد في زُبْية. ¬

_ (¬1) في أ: بالسيف.

وأما كونه على المكره؛ فلأنه قتل شخصاً ظلماً لاستبقاء نفسه. أشبه ما لو قتله في المخمصة ليأكله. فإن قيل: المكرَه ملجأ. قيل: ذلك غير صحيح؛ لأنه متمكن من الامتناع، ولهذا يأثم بالقتل. فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عُفيَ لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬1). قيل: يحمل ذلك على غير القتل؛ لأن القتل عظيم، ولذلك يأثم به وفاقاً. قال: (وإن أمر من لا يميز أو مجنوناً أو عبده الذي لا يعلم أن القتل محرم بالقتل فقتل: فالقصاص على الآمر. وإن أمر كبيراً عاقلاً عالماً بتحريم القتل [به فقتل] (¬2): فالقصاص على القاتل). أما كون القصاص في المسألة الأولى على الآمر؛ فلأن القاتل هنا كالآلة. فوجب القصاص على الآمر؛ كما لو أنهشه حية، أو ألقاه في زُبْية أسد فقتلته أو قتله. وأما كونه على الثاني؛ فلأنه مباشر مكلف عالم بتحريم ما فعله. فكان القصاص عليه دون غيره. ولأن مقتضى الدليل وجوب القصاص على المباشر لأنه أقبح جناية من المتسبب. تُرك العمل به فيما تقدم للعذر من عدم العقل وبجهله بتحريم القتل. فبقي فيما عداه على مقتضى الدليل. فإن قيل: لم قال المصنف رحمه الله في صدر المسألة الأولى: من لا يميز وفي صدر المسألة الثانية: كبيراً؟ قيل: لأن (¬3) من يميز وليس كبيراً لا قصاص عليه ولا على الآمر، أما الأول؛ فلأنه غير مكلف، وأما الثاني؛ فلأن تمييزه يمنع أن يكون كالآلة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2043) 1: 659 كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في أ: يمكن.

قال: (وإن أمر السلطان بقتل إنسان بغير حق من يعلم ذلك فالقصاص على القاتل، وإن لم يعلم فعلى الآمر). أما كون القصاص على القاتل إذا علم كون الآمر بغير حق؛ فلأنه مباشر لا عذر له في فعله، وقد نبّه الشرع على ذلك. قال: «لا طاعةَ لمخلوقٍ (¬1) في معصيةِ الخالِق» (¬2). وعنه عليه السلام: «من أمركمْ من الولاةِ بغيرِ طاعةِ الله فلا تُطيعُوه» (¬3). ولأن غير السطان لو أمره بقتل من ذكر فقتله كان القصاص على القاتل. فكذلك لو أمره السلطان بذلك. وأما كونه على الآمر إن لم يعلم القاتل ذلك؛ فلأن القاتل معذور لوجوب طاعة الإمام فيما ليس بمعصية، والظاهر من حاله أنه لا يأمر إلا بالحق. وإذا تعين عدم كون القصاص عليه تعين كونه على الآمر لأن قوله مع ظاهر حاله أوجب قتله. أشبه ما لو ألسعه حية. فإن قيل: لو أمر غير السلطان بالقتل فقتل كان القصاص على القاتل بكل حال. فما الفرق؟ قيل: الفرق بينهما أن غير السلطان لا تجب طاعته وليس له القتل. بخلاف السلطان. ¬

_ (¬1) في د: للمخلوق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6830) 6: 2649 كتاب التمني، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1840) 3: 1469 كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ... (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (11657) 3: 67.

قال: (وإن أمسكَ إنساناً لآخر ليقتله فقتله: قُتل القاتل وحُبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين، والأخرى يقتل أيضاً. وإن كتَّفَ إنساناً وطرحه في أرض مسبعة أو ذات حيات فقتلته فحكمه حكم الممسك). أما كون القاتل فيما ذكر يُقتل؛ فلما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمسكَ الرجل وقتلَ الآخر يُقتل الذي قتلَ ويُحبس الذي أَمسك» (¬1). رواه الدارقطني. ولأنه مباشر للقتل الموجب للقود. وأما كون الممسك يحبس في روايةٍ؛ فلما تقدم من الحديث. وأما كون حبسه حتى يموت؛ فلأنه حَبَسه حتى مات. فيحبس حابسه حتى يموت؛ ليكون مماثلاً لما أتى به. ونظيره ما لو حبس رجلاً عن الطعام حتى مات فإنه يحبس عن الطعام حتى يموت. وأما كونه يقتل في روايةٍ؛ فلأن ذلك حصل من إمساكه ومباشرة رفيقه، وذلك يوجب الاشتراك في القتل، والاشتراك في القتل يوجب قتل جميع الشركة؛ لما تقدم (¬2). وأما كون حكم من كتَّفَ إنساناً وطرحه في أرض مسبعة أو ذات حيات فقتلته حكم الممسك؛ فلأنه يساويه معنى. فوجب أن يساويه حكماً. بيان المساواة المعنوية: أن تكتيفَهُ وطرحَهُ في أرضٍ موصوفة بما ذكر إمساك له ليقتل، وحكم الممسك قد تقدم ذكر الخلاف فيه وتعليله فلا حاجة إلى إعادته. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (176) 3: 140 كتاب الحدود. (¬2) ص: 22

فصل [حكم مشارك من لا يجب عليه القصاص] قال المصنف رحمه الله: (وإن اشترك في القتل اثنان لا يجب القصاص على أحدهما كالأب وأجنبي في قتل الولد، والحر والعبد في قتل العبد، والخاطئ والعامد: ففي وجوب القصاص على الشريك روايتان أظهرهما وجوبه على شريك الأب والعبد وسقوطه عن شريك الخاطئ). أما كون القصاص يجب على الشريك على روايةٍ؛ فلأن سقوطه عن شريكه لمعنى يختص به. فلم يتعد إلى غيره. بيانه: أن سقوطه عن الأب لأُبوَّتِهِ، وعن الحر لعدم مكافأة العبد له، وعن الخاطئ لخطئه. وكل ذلك مفقود في الشريك. فوجب عليه القصاص؛ للآيات والأخبار الدالة عليه السالمة عن معارضة ما ذكر. وأما كونه لا يجب عليه على روايةٍ؛ فلأنه تناول من لا قصاص عليه. فلم يجب عليه قصاص؛ لكون القتل لم يتمحض موجباً للقصاص. وأما كون أظهر الروايتين وجوبه على شريك الأب والعبد وسقوطه عن شريك الخاطئ؛ فلأن قتلهما عمد محض عدوان، وإنما سقط القصاص لمعنى مختص بما تقدم ذكره. أشبه ما لو سقط القصاص على أحد الأجنبيين بالعفو عنه. بخلاف شريك الخاطئ من حيث إن قتله لم يتمحض عمداً لوجود الخطأ في الفعل الذي حصل به خروج الروح. قال: (وفي شريك السبع وشريك نفسه وجهان). أما كون القصاص يجب على شريك السبع وشريك نفسه في وجهٍ؛ فلأنه قتل عمد متمحض. أشبه شريك الأب. وأما كونه لا يجب في وجهٍ؛ فلأنه شارك من لا يجب عليه قصاص. فلم يلزمه شيء؛ كشريك الخاطئ.

قال: (ولو جرحه إنسان عمداً فداوى جرحه بسم، أو خاطه في اللحم، أو فعل ذلك وليه أو الإمام: ففي وجوب القصاص على الجارح وجهان). أما كون وجوب القصاص فيما ذكر يجب على الجارح في وجهٍ؛ فلأنه شريك في القتل. فوجب عليه القصاص؛ لما تقدم. وأما كونه لا يجب عليه في وجهٍ؛ فلأن المداوي قصد مداواة النفس. فكان فعله عمد خطأ. فلم يجب القصاص على شريكه؛ لكونه شريك خاطئ. وقد تقدم أن شريكه لا يقتل على الصحيح. ضرورة أن فعله غير متمحض.

باب شروط القصاص

باب شروط القصاص قال المصنف رحمه الله: (وهي أربعة: أحدها: أن يكون الجاني مكلفاً. فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما. وفي السكران وشبهه روايتان أصحهما وجوبه عليه). أما كون شروط القصاص أربعة؛ فلأنه يشترط فيه كون الجاني مكلفاً، وكون المجني عليه مكافئاً للجاني، وكون المقتول معصوماً، [وكون الجاني غير أبي المجني عليه. وتلك أربعة شروط. وأما كون أحد شروط القصاص: أن يكون] (¬1) الجاني مكلفاً؛ فلأن القصاص عقوبة وغير المكلف ليس محلاً لها (¬2). وأما كون الصبي والمجنون لا قصاص عليهما؛ فلأن التكليف من شروطه وهو مفقود فيهما. وقد نبّه الشرع على عدم مؤاخذتهما حيث قال: «رُفِعَ القلمُ عن ثلاث: عن الصبي حتي يبلُغ، وعن المجنون حتى يُفيق ... » (¬3). وأما كون السكران فيه روايتان؛ فلأن النظر إلى التغليظ عليه يقتضي كون القصاص عليه، والنظر إلى أنه زائل العقل يقتضي أن لا يكون ذلك عليه؛ لأنه كالصبي والمجنون في ذلك. وأما كون أصح (¬4) الروايتين وجوبه عليه؛ فلأن فعله معصية فلا يناسب سقوط القصاص. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. وذكر بعد ذلك جملة: أما كون الجاني. (¬2) ساقط من أ. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4403) 4: 141 كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً. وأخرجه الترمذي في جامعه (1423) 4: 32 كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد. (¬4) ساقط من أ.

وأما كون شبه السكران كمن زال عقله بسبب غير معذور فيه كمن يشرب الأدوية المخيفة فيزول عقله فيه روايتان كالسكران؛ فلأنهما سواء معنى فكذا يجب أن يكون حكماً.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: أن يكون المجني عليه مكافئاً للجاني. وهو أن يساويه في الدين والحرية أو الرق. فيقتل كل واحد من المسلم الحر أو العبد والذمي الحر أو العبد بمثله، ويُقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر في الصحيح عنه. وعنه: يعطى الذكر نصف الدية إذا قُتل بالأنثى. وعنه: لا يُقتل العبد بالعبد إلا أن تستوي قيمتهما. ولا عمل عليه). أما كون الثاني من شروط القصاص: أن يكون المجني عليه مكافئاً للجاني؛ فلأن المجني عليه إذا لم يكن مكافئاً للجاني يكون أخذه به أخذاً (¬1) لأكثر من الحق. وأما كون مكافأة المجني عليه الجاني أن يساويه في الدين والحرية أو الرق (¬2): أما في الدين؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمنونَ تتكافَأُ دماؤُهم ويسعى بذمَّتِهمْ أدناهُم. لا يُقتلُ مؤمنٌ بكافر» (¬3). رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. وروى البخاري وأبو داود: «لا يُقتلُ مُسلمٌ بكافر» (¬4). وعن علي رضي الله عنه أنه قال: «من السنةِ أن لا يُقتل مؤمن بكافر» (¬5). رواه الإمام أحمد. ولأن الكافر منقوص بالكفر. فلا يقتل به المسلم؛ كالمستأمن. ¬

_ (¬1) في أ: أخذاً به. (¬2) في أ: والرق. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2751) 3: 80 أول كتاب الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر. وأخرجه النسائي في سننه (4735) 8: 20 كتاب القسامة، باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس. وأخرجه أحمد في مسنده (959) 1: 119. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (111) 1: 53 كتاب العلم، باب كتابة العلم. وأخرجه أبو داود في سننه (2751) 3: 80 أول كتاب الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر. (¬5) أخرجه الدارقطني في سننه (160) 3: 133 كتاب الحدود. ولم أره في أحمد.

فإن قيل: عموم الآيات والأخبار الدالة على قتل المسلم بالمسلم شاملة لقتل المسلم بالكافر. قيل: يجب تخصيصها بما ذكر. فإن قيل: فقد روى ابن البيلماني «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقادَ مسلماً بذمي. وقال: أنا أحقُ من وفَى بذمَّتِه» (¬1). قيل: قال الإمام أحمد: ليس له إسناد. وقال أيضاً: هو مرسل. وقال الدارقطني: ابن البيلماني ضعيف إذا أسند فكيف إذا أرسل. وأما في الحرية أو الرق؛ فلما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «من السنةِ أن لا يُقتل حرٌ بعبد» (¬2). وعن ابن عباس (¬3) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُقتلُ حرٌ بعبد» (¬4). رواه الدارقطني. ولأنهما شخصان لا يجري القصاص بينهما في الأطراف السليمة. فلم يجر في النفس؛ كالأب مع ابنه. ولأنه منقوص بالرق. فلم يقتل به الحر؛ لرجحانه عليه بوصف الحرية. وأما كون كل واحد من المسلم الحر أو العبد والذمي الحر أو العبد يقتل بمثله؛ فلحصول المكافأة بينهما. وأما كون الذكر يقتل بالأنثى؛ فلعموم قوله تعالى: {أن النفس بالنفس} [المائدة: 45]. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلَ يهودياً رضخَ رأسَ جاريةٍ من الأنصارِ. وأمرَ أن يُرضخَ رأسُه بين حجرين» (¬5). وفي كتابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: «وأنّ الرجلَ يُقتلُ بالمرأة» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 31 كتاب الجنايات، باب بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر وما جاء عن الصحابة في ذلك. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (160) 3: 133 كتاب الحدود. (¬3) في د: العباس. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (158) 3: 133 كتاب الحدود. (¬5) سبق تخريجه ص: 9 (¬6) سيأتي تخريجه ص: 112

ولأنهما شخصان يحد كل واحد منهما بقذف الآخر فقتل به (¬1)؛ كالرجل بالرجل (¬2). وأما كون الأنثى تقتل بالذكر فبطريق الأولى؛ لأنها دونه. وفي قول المصنف رحمه الله: في الصحيح عنه: نظر؛ لأنه مشعر بالخلاف فيما تقدم ولا خلاف في قتل الأنثى بالذكر بحال ولا في قتل الذكر بالأنثى في نفسه وإنما الخلاف في إعطاء ورثة الذكر إذا قتل بالأنثى نصف الدية. وإنما لم يعط ذلك في روايةٍ لأن ما تقدم ذكره دل على ذكر القصاص من غير تعرض إلى إعطاء شيء. وإنما يعطاه في روايةٍ لأن عقلها نصف عقله. فوجب أن يُعطى ما ذكر؛ ليحصل التساوي. والأول أصح لما تقدم واختلاف العقل لا أثر له. بدليل قتل الجماعة بالواحد، وقتل العبد بالعبد المختلفي القيمة. وأما كون العبد لا يقتل بالعبد إذا لم تستو قيمتهما في روايةٍ؛ فلأن العبد يرجح فيه جانب المال. فوجب أن لا يقتل إلا بمثله. والمذهب الأول؛ لأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد} [البقرة: 178]. ولأن تفاوت القيمة بمنزلة التفاوت في الفضائل. فوجب أن لا يمنع من القصاص؛ كالعلم والشَّرف ونحوهما. قال: (ويقتل الكافر بالمسلم، والعبد بالحر، والمرتد بالذمي وإن عاد إلى الإسلام. نص عليه). أما كون الكافر يقتل بالمسلم؛ فلما تقدم من قتل النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي لقتله الجارية المسلمة الأنصارية (¬3). ولأن المسلم أكمل منه. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) ساقط من أ. (¬3) سبق ذكره وتخريجه ص: 9

ولأن الكافر إذا قتل بمثله. فلأن يقتل بالمسلم بطريق الأولى. وأما كون العبد يقتل بالحر؛ فلأن الحر أكمل منه. أشبه قتل الكافر بالمسلم. وأما كون المرتد يقتل بالذمي؛ فلأن المرتد كافر يقتل بالذمي كالأصلي. ولأن المرتد أسوأ حالاً من الذمي؛ لأنه مهدر الدم. بخلاف الذمي. فعلى هذا لا فرق بين أن يبقى على ردته أو يعود إلى الإسلام لأن الاعتبار بالقصاص بحال الجناية. وحالة المرتد والذمي فيها (¬1) سواء بالنسبة إلى نفس الكفر. قال: (ولا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد؛ إلا أن يقتله وهو مثله أو يجرحه ثم يسلم القاتل أو الجارح أو يعتق ويموت المجروح: فإنه يقتل به). أما كون المسلم لا يقتل بالكافر والحر لا يقتل بالعبد إذا لم يقتله وهو مثله ... إلى آخره؛ فلما تقدم من عدم مكافأة أحدهما صاحبه. وأما كونه يقتل به إذا قتله وهو مثله، أو جرحه ثم أسلم القاتل أو الجارح، أو يعتق العبد ويموت (¬2) المجروح؛ فلأن المكافأة تعتبر عند القتل والجرح، وهو في تلك الحال مكافئ. فإن قيل: لم اعتبرت المكافأة عند ذلك؟ قيل: لأن القصاص عقوبة. فكان الاعتبار فيها بحالة الوجوب دون حالة الاستيفاء؛ كالحدود. ولأن القصاص حق وجب عليه قبل إسلامه وعتقه. فلم يُسقطه الإسلام؛ كسائر الحقوق. فإن قيل: قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُقتلُ مُسلمٌ بكافر» (¬3). وهذا مُسْلم. قيل: يحمل ذلك على المسلم إذا قتل الكافر ابتداء. ¬

_ (¬1) في أ: وحالتا المرتد والذمي فيهما. (¬2) في أ: أو يموت. (¬3) سبق تخريجه ص: 32

قال: (ولو جرح مسلم ذمياً أو حر عبداً ثم أسلم المجروح وعتق ومات: فلا قود وعليه دية حر مسلم في قول ابن حامد، وفي قول أبي بكر عليه في الذمي دية ذمي وفي العبد قيمته لسيده). أما كون الجارح فيما ذكر لا قود عليه؛ فلأن المكافأة معدومة حالة الجناية. وأما كونه عليه الدية؛ فلأن القود إذا تعذر تعينت الدية. وأما كونها دية حر مسلم في قول ابن حامد؛ فلأن الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية. بدليل ما لو قطع يدَي رجل ورجلَيه فتسري إلى نفسه: ففيه دية واحدة اعتباراً لحال استقرار الجناية لأنه لو لم يعتبر ذلك وجب ديتان. وأما كونها في الذمي دية ذمي، وفي العبد قيمته لسيده في قول أبي بكر؛ فلأن كل واحد من الذمي والعبد يجب بقتله ذلك وهو ذمي أو عبد حال الجناية. فكذلك إذا أسلم أو أعتق. قال: (وإن رمى مسلم ذمياً عبداً فلم يقع به السهم حتى عتق وأسلم فلا قود وعليه دية حر مسلم إذا مات من الرمية. ذكره الخرقي. وقال أبو بكر: عليه القصاص). أما كون الرامي المذكور لا قود عليه على ما ذكره الخرقي؛ فلأن القاتل لم يقصد إلى نفس مكافئة له حال الرمي. فلم يجب عليه قود؛ كما لو رمى حربياً أو مرتداً فأسلم. فعلى هذا يجب بذلك دية حر مسلم إذا مات من الرمية؛ لأن القود إذا تعذر تعينت الدية. وأما كونه عليه القصاص على قول أبي بكر؛ فلأنه قتل مكافئاً له ظلماً عمداً. أشبه ما لو كان حال الرمي كذلك. يحققه أن الاعتبار بحال الإصابة. بدليل ما لو رمى مسلماً فلم يصبه حتى ارتد أو مات فإنه لا يلزمه شيء. ولو اعتبر حال الرمي لوجب القود؛ لأنه مكلف حينئذ. والأول أصح؛ لما تقدم.

وأما كونه مكافئاً فغير مُسَلَّم؛ لأنه (¬1) لا يكافئه حال الرمي. قال: (ولو قتل من يعرفه ذمياً عبداً فبان أنه قد أسلم وعتق فعليه القصاص. وإن كان يعرفه مرتداً فكذلك. قاله أبو بكر. قال: . ويحتمل أن لا يلزمه إلا الدية). أما كون من قتل من يعرفه ذمياً عبداً عليه القصاص إذا بان المقتول مسلماً حراً؛ فلأنه قتلٌ عمدٌ عدوانٌ لمكافئ له. فلزم فاعله القصاص؛ كما لو كان معروفاً بالإسلام والحرية. وأما كون من قتل من يعرفه مرتداً كذلك على قول أبي بكر؛ فلما تقدم. وأما كونه يحتمل أن لا يلزمه إلا الدية على ما قاله أيضاً؛ فلأن الارتداد سلطه عليه. فلم يُناسب وجوب القصاص، ووجبت الدية؛ لئلا يفوت القصاص لا إلى بدل. وهذا الاحتمال وجه لبعض الأصحاب. فإن قيل: لم ذكر المصنف رحمه الله ذلك احتمالاً؟ قيل: لعله لم يحضره وقت كتابة ذلك الوجه المذكور. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يكون المقتول معصوماً. فلا يجب القصاص بقتل حربي ولا مرتد ولا زان محصن وإن كان القاتل ذمياً). أما كون الثالث (¬1) من شروط القصاص أن يكون المقتول معصوم الدم؛ فلأن القصاص إنما شرع حفظاً للدماء المعصومة وزجراً عن إتلاف البنية المطلوب بقاؤها، وذلك كله مفقود في غير المعصوم. وأما كون القصاص لا يجب بقتل حربي ولا مرتد ولا زان محصن؛ فلأن من شروطه عصمة الدم، وذلك منتف في كل واحد منهم: أما في الحربي فظاهر. وأما في المرتد؛ فلأن قتله واجب إلا أن يرجع. وأما في الزاني المحصن؛ فلأنه استحق الرجم بزناه. وأما قول المصنف رحمه الله: وإن كان القاتل ذمياً؛ فتنبيه على مساواة الذمي المسلم في ذلك؛ لأن القتل منهما صادف محلاً غير معصوم. قال: (ولو قطع مسلم أو ذمي يد مرتد أو حربي فأسلم ثم مات أو رمى حربياً فأسلم قبل أن يقع به السهم: فلا شيء عليه). أما كون من ذكر لا شيء عليه؛ فلأن الاعتبار في التضمين بحال ابتداء الجناية؛ لأنها الموجبة. وحالها لم يكن كل واحد من الحربي والمرتد المجني عليهما أهلاً لأن يُضمن. فلم يكن على الجاني شيء؛ لفوات الأهلية المشروطة لوجوب الضمان. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا قصاص على الجاني ولا دية. وهو صحيح؛ لأن المحل ليس أهلاً لواحد منهما لما تقدم. ¬

_ (¬1) في د: الثاني.

وأما قول المصنف رحمه الله: مسلم أو ذمي؛ فبيان لمساواة الذمي المسلم فيما ذكر. وقد تقدم دليله. قال: (وإن رمى مرتداً فأسلم قبل وقوع السهم به فلا قصاص، وفي الدية وجهان). أما كون ما ذكر لا قصاص أي فيه؛ فلما ذكر من أن الاعتبار بحال الجناية. وأما كونه (¬1) لا دية فيه في وجهٍ؛ فلما ذكر في القصاص. وأما كونه فيه الدية في وجهٍ؛ فلأن الرامي (¬2) مفرط حيث رمى المرتد وليس له رميه. بخلاف الحربي. قال: (وإن قطع يد مسلم فارتد ومات فلا شيء على القاطع في أحد الوجهين، وفي الآخر يجب القصاص في الطرف أو نصف الدية. وإن عاد إلى الإسلام ثم مات وجب القصاص في النفس في ظاهر كلامه. وقال القاضي: إن كان زمن الردة مما تسري فيه الجناية فلا قصاص فيه). أما كون القاطع المذكور لا قصاص عليه في النفس إذا ارتد المقطوع ومات مرتداً؛ فلأن الارتداد قطع (¬3) حكمَ السراية. وأما كونه لا قصاص عليه في الطرف في وجهٍ إن كان القطع عمداً؛ فلأن قطع اليد تبين أنه موجب للقصاص. فلم يكن موجباً للقطع، والقتل قد (¬4) سقط بالارتداد. وأما كونه يجب عليه القصاص في الطرف في وجهٍ؛ فلأن المجني عليه حال القطع كان مكافئاً والقتل بسبب القطع غير موجب للقصاص هنا. فوجب القطع؛ لانتفاء إفضائه إلى القصاص في النفس. وأما كونه لا دية عليه في وجهٍ إن كان القطع خطأ، وكونه يجب عليه نصف الدية في وجهٍ؛ فلما ذُكر في القصاص. ¬

_ (¬1) في د: كون. (¬2) في د: الذمي. (¬3) ساقط من أ. (¬4) في أ: وقد.

وأما كون القصاص في النفس يجب على القاطع إذا عاد المرتد المقطوع إلى الإسلام ثم مات في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأن الجاني والمجني عليه متكافئان في حال الجناية (¬1) والموت. فوجب القصاص؛ كما لو لم يرتد. وأما كونه لا قصاص فيه في قول القاضي إذا كان زمن الردة مما تسري فيه الجناية؛ فلأن القصاص يجب بالجناية من كل السراية. فإذا لم يوجد جميعها في حال الإسلام امتنع وجوبها في حال القصاص؛ كما لو عفى بعض المستحقين. ولهذا لو وجدت الردة في أحد الطرفين لم يجب القصاص. ¬

_ (¬1) في أ: الحياة.

فصل [الشرط الرابع] قال المصنف رحمه الله: (الرابع: أن لا يكون أباً للمقتول. فلا يقتل الوالد بولده وإن سفل. والأب والأم في ذلك سواء. ويقتل الولد بكل واحد منهما في أظهر الروايتين). أما كون الرابع من شروط القصاص أن لا يكون أباً للمقتول فإنه لو لم يكن من شروطه لقتل به لما تقدم ذكره، واللازم منتف لما يأتي. وأما كون الوالد لا يقتل بولده؛ فلما روى عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُقتلُ والدٌ بولدِه» (¬1). رواه ابن ماجة. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنتَ ومالُكَ لأبيكَ» (¬2). فحقيقته كونه ملكاً له فإذا لم تثبت حقيقة الملكية بقيت الإضافة شبهة في درء القصاص؛ لأنه يُدرأ بالشبهات. ولأن الوالد سبب إيجاده فلا ينبغي أن يتسلط الولد على إعدام من تسبب في إيجاده. وأما قول المصنف رحمه الله: وإن سفل؛ فمعناه وإن نزل. أي لا يقتل الوالد بولده وإن نزل لأن الجد وإن علا والد. فيدخل في الحديث. ولأن ذلك حكم يتعلق بالولادة. فاستوى فيه القريب والبعيد؛ كالمحرمية والعتق عليه إذا ملكه. ولأن المعنى الذي امتنع قتل الوالد القريب بولده موجود بعينه في البعيد. فوجب تساويهما في الحكم. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2662) 2: 888 كتاب الديات، باب لا يقتل الوالد بولده. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2291) 2: 769 كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده. وأخرجه أحمد في مسنده (6902) 2: 204.

وأما كون الأب والأم في ذلك سواء؛ فلأن الأم أحد الوالدين. فتدخل في عموم قوله عليه السلام: «لا يُقتلُ والدٌ بولده» (¬1). ولأنها أولى بالبر. فتكون أولى بنفي القتل عنها. وعن الإمام أحمد: لا يسقط القتل عن الأم لأن الأب يختص بأشياء. فليكن نفي القتل منها قياساً له عليها. والمذهب الأول؛ لما تقدم. فعلى هذا الجدة وإن علت من قبل الأم أو الأب كالأم؛ لما ذكر في الجد. وأما كون الولد يقتل بكل واحد من أبيه وأمه في أظهر الروايتين فلظواهر الآي والأخبار وموافقة القياس. وأما كونه لا يقتل بواحد منهما في روايةٍ؛ فلأنه ممن لا تقبل شهادته لهما لحق النسب. فلم يقتل بمن لا تقبل شهادته له؛ كالوالد مع ولده. وأما كون الأول أظهر الروايتين؛ فلما تقدم. ولأن كل واحدٍ من الأب والأم أعظم حرمة من الأجنبي وأوجب حظاً. فإذا قتل الشخص بالأجنبي. فلأن يقتل بأبيه وأمه بطريق الأولى. فإن قيل: فقد روي عن سراقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يُقادُ الأبُ من ابنه، ولا الابنُ من أبيه» (¬2). وروي عنه «أنه كان يقيدُ الابنَ من أبيه» (¬3). قيل: هما حديثان لا يعرفان ولا يوجدان في الكتب المشهورة وإن كان لهما أصل فهما متعارضان فيجب تساقطهما والعمل بالنصوص الواضحة غيرهما. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في أزيادة: وروي: «من ابنه». (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1399) 4: 18 كتاب الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا.

قال: (ومتى ورث ولده القصاص أو شيئاً منه أو ورث القاتل شيئاً من دمه: سقط القصاص. فلو قتل امرأته وله منها ولد أو قتل أخاها فورثته ثم ماتت فورثها أو ولده: سقط عنه القصاص). أما كون من ورث ولده القصاص أو شيئاً منه يسقط القصاص؛ فلأنه لو لم يسقط لوجب للولد على الوالد، والولد لا يجب له قصاص على الوالد لأنه إذا لم يجب له بالجناية عليه. فلأن لا يجب له بالجناية على غيره بطريق الأولى. وأما كون القاتل إذا ورث شيئاً من دمه يسقط القصاص؛ فلأنه لو لم يسقط لوجب القصاص له على نفسه، والقصاص لا يجب على من يجب له. وأما كون من قتل امرأته وله منها ولد يسقط عنه القصاص؛ فلأن ولده ورثه لأنه وارثها ولا حق فيه للزوج لأنه قاتل والقاتل لا يرث. وأما كون من قتل أخا امرأته (¬1) فورثته ثم ماتت فورثها أو ولده يسقط عنه القصاص؛ فلأن امرأته ترث النصف إن كان الأخ لأبيها أو لأبويها والسدس إن كان لأمها إذا كان معها من يرث بقية المال والجميع إذا لم يكن معها أحد وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا؛ لأنه قال: فورثته، وذلك يقتضي استغراقها الإرث فلما ماتت ورث هو شيئاً من الدم أو ورث ولده ذلك أو جميع إرثها وكل ذلك يسقط القصاص. وفي قول المصنف رحمه الله: فلو قتل امرأته بالفاء عقيب ما تقدم ذكره؛ تنبيه على أن الصور المذكورة من صور إرث الولد القصاص أو شيئاً منه، وقد تقدم تعليله. فإن قيل: ورثته مشعر بأن امرأته ورثت جميع القصاص. وقوله بعد: فورثها ولده مشعر بأن الولد ورث الجميع فيكون كما تقدم في الصورة الأولى ولم يبق لإرث الولد شيئاً منه صورة. قيل: إن حمل ذلك على ظاهره كان الأمر كذلك. وتصور إرث الولد شيئاً من القصاص بأن يكون لامرأته ولدان أحدهما منه والآخر من غيره، وإن حمل ¬

_ (¬1) في أ: أخاً لامرأته.

على أن الأخت في الأغلب إنما ترث النصف كان ذلك من صور إرث الولد شيئاً من القصاص. قال: (ولو قتل أباه أو أخاه فورثه أخواه ثم قتل أحدهما صاحبه سقط: القصاص عن الأول؛ لأنه ورث بعض دم نفسه). أما كون القصاص سقط عن القاتل الأول؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من التعليل. وأما كونه ورث بعض دم نفسه؛ فلأن أخويه يستحقان دم أبيهما فإذا قتل أحدهما صاحبه ورث القاتل الأول ما كان يستحقه المقتول؛ لأنه أخوه. فعلى هذا يستحق نصف دمه لأن دم الأب كان بين الأخوين نصفين. ضرورة أن القاتل لا يرث فإذا قتل أحد الأخوين أخاه انتقل إلى القاتل الأول جميع حقه. ضرورة أن أخاه القاتل لا يرث شيئاً، وذلك نصف دم الأب. قال: (ولو قتل أحد الابنين أباه والآخر أمه وهي زوجة الأب: سقط القصاص عن الأول لذلك، وله أن يقتص من أخيه ويرثه). أما كون القصاص يسقط عن الأول وهو قاتل الأب؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من التعليل المتقدم ذكره. وذلك أنه لما قتل أباه ورثه أخوه لأنه ابنه وأمه؛ لأنها زوجته فلما قتل الأخ أمه ورثهاأخوه قاتل الأب. فيجب أن يسقط عنه القصاص؛ لأنه ورث بعض دم نفسه وذلك ثمن دم الأب. وأما كون قاتل الأب له أن يقتص من أخيه قاتل الأم؛ فلأن دم أمه لقاتل الأب خاصة. ضرورة أن قاتلها لا يرث منها شيئاً. وأما كونه يرثه؛ فلأن القتل قصاص (¬1) لا يمنع الإرث وقد تقدم في باب ميراث القاتل. قال: (وإن قتل من لا يُعرف وادعى كفره أو رقه، أو ضرب ملفوفاً فقدَّه وادعى أنه كان ميتاً وأنكر وليه، أو قتل رجلاً في داره وادعى أنه دخل يكابره ¬

_ (¬1) في د: قصاصاً.

على أهله أو ماله فقتله دفعاً عن نفسه وأنكر وليه، أو تجارح اثنان وادعى كل واحد أنه جرحه دفعاً عن نفسه: وجب القصاص، والقول قول المنكر). أما كون من قتل من لا يُعرف وادعى كفره يجب القصاص عليه؛ فلأن الأصل عصمة الدماء فادعاؤه الكفر ادعاء مخالف للأصل. فلم يقبل قوله فيه وإذا كان كذلك كان قوله ذلك كعدمه. فوجب عليه القصاص؛ كما لو لم يدع كفره. وأما كون من قتل من ذكر وادعى رقه يجب القصاص عليه؛ فلأن الأصل الحرية كما أن الأصل العصمة ودعوى الكفر لما لم تقبل لمخالفتها الأصل فكذا دعوى الرق. وأما كون من ضرب ملفوفاً فقدَّه وادعى أنه كان ميتاً وأنكر وليه يجب القصاص عليه؛ فلأن الأصل الحياة. أشبه ما تقدم. وأما كون من قتل رجلاً في داره وادعى أنه دخل يكابره على أهله أو ماله فقتله دفعاً عن نفسه وأنكر وليه ذلك يجب القصاص عليه؛ فلأن الأصل عدم ما يدعيه. وقد روي عن علي رضي الله عنه: «فيمن (¬1) وجد مع امرأته رجلاً فقتله: إن لم يأتِ بأربعةِ شهداءَ فليعطَ بِرُمَّتِه» (¬2). وأما كون الاثنين إذا تجارحا وادعى كل واحد أنه جرح صاحبه دفعاً عن نفسه يجب القصاص عليهما؛ فلأن كل واحد منهما قاتل لصاحبه مدع عليه دعوى الأصل عدمها. فوجب أن يجب عليهما القصاص. عملاً بالأدلة المقتضية له السالمة عن معارضة الأصل. ¬

_ (¬1) في د: فمن. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27870) 5: 447 كتاب الديات، الرجل يجد مع امرأته رجلاً فيقتله. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 337 كتاب الأشربة، باب الرجل يجد مع امرأته الرجل فيقتله.

باب استيفاء القصاص

باب استيفاء القصاص قال المصنف رحمه الله: (ويشترط له ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون من يستحقه (¬1) مكلفاً. فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يجز استيفاؤه، ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون؛ إلا أن يكون لهما أب فهل له استيفاؤه لهما؟ على روايتين. فإن كانا محتاجين إلى النفقة فهل لوليهما العفو على الدية؟ يحتمل وجهين). أما كون استيفاء القصاص يشترط له ثلاثة شروط؛ فلما يأتي ذكره فيها (¬2). وأما كون أحدها أن يكون من يستحقه (¬3) مكلفاً؛ فلأن غير المكلف ليس أهلاً للاستيفاء لعدم تكليفه، ولذلك لم يصح إقراره ولا تصرفه. ولأن غير المكلف إما صبي أو مجنون، وكلاهما لا يؤمن منه الحيف على الجاني. لا يقال وليه يقوم مقامه لأن القصاص شرع للتشفي فلا يقوم وليه مقامه. وأما كون الصبي والمجنون لا يجوز لهما استيفاء القصاص؛ فلأن شرط استيفائه أن يكون من يستحقه مكلفاً، وذلك مفقود فيهما. وأما كون القاتل يحبس حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون؛ فلأن مستحق القصاص يستحق إتلاف نفسه ومنفعته. فإذا تعذر إتلاف النفس لمعارض بقي إتلاف المنفعة سالماً عن المعارض. فإن قيل: يجب أن يخلى سبيله كالمعسر. ¬

_ (¬1) في أ: أن يكون مستحقه. (¬2) في أ: فيهما. (¬3) في أ: أن يكون مستحقه.

قيل: الفرق بينهما أن الحبس هنا وسيلة إلى استيفاء الحق لأنه إذا بقي في الحبس حتى زال المانع من المستحق تمكن من استيفاء حقه. بخلاف المعسر فإن حبسه سبب لتعذر الاستيفاء لأنه يتعذر الكسب مع الحبس. وأما كون أبي (¬1) الصبي والمجنون له استيفاؤه لهما على روايةٍ؛ فلأن له ولاية كاملة (¬2) ولذلك ملك أن يبيع مال ابن نفسه لنفسه. بخلاف غيره. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأن مقصود مشروعية القصاص مفقود في الأب كغيره. وهذه أصح؛ لما ذكر. وأما كون وليهما له العفو على الدية إذا كانا محتاجين إلى النفقة يحتمل وجهين؛ فلأن النظر إلى (¬3) دفع حاجتهما مطلوبة وذلك طريق إليه يقتضي الجواز، والنظر إلى أن الدية أحد بدلي النفس. فلم يكن للولي استيفاؤه؛ كالقصاص يقتضي عدمه. قال: (وإن قتلا قاتل أبيهما أو قطعا قاطعهما قهراً: احتمل أن يسقط حقهما، واحتمل أن تجب لهما دية أبيهما في مال الجاني وتجب دية الجاني على عاقلتهما. وإن اقتصا ممن لا تحمل ديته العاقلة سقط حقهما وجهاً واحداً). أما كون من ذكرا يحتمل أن يسقط حقهما؛ فلأن القتل والقطع مستحق لهما فإذا فعلاهما قهراً وجب أن يسقط حقهما. ضرورة استيفاء المستحق لحقه. ولأن الصبي والمجنون لو كان لهما وديعة عند شخص فأخذاها منه قهراً سقط حقهما. فكذلك هاهنا. وأما كونه يحتمل أن تجب دية أبيهما لهما في مال الجاني، ودية الجاني على عاقلتهما: أما الأول؛ فلأن فعلهما لم يصادف محلاً فإذا تعذر القصاص وجب الدية المستحقة؛ لأنها بدله. ¬

_ (¬1) في أ: أن. (¬2) في أ: كاملاً. (¬3) في أ: أن.

وأما الثاني؛ فلأن فعل الصبي والمجنون (¬1) خطأ والخطأ تحمله العاقلة؛ لما يأتي بعد إن شاء الله تعالى. وأما كونهما يسقط حقهما وجهاً واحداً إذا اقتصا ممن لا تحمل ديته العاقلة؛ فلأن عدم السقوط قبلُ كان لأن دية فعلهما تحمله العاقلة فمحِل الدية مختلف. بخلاف ما لا تحمله العاقلة. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: اتفاق جميع الأولياء على استيفائه. وليس لبعضهم استيفاؤه دون بعض. فإن فعل فلا قصاص عليه وعليه لشركائه حقهم من الدية. ويسقط عن الجاني في أحد الوجهين وفي الآخر لهم ذلك في تركة الجاني ويرجع ورثة الجاني على قاتله). أما كون الثاني من شروط استيفاء القصاص اتفاق جميع مستحقي الدم على استيفائه؛ فلأن الاستيفاء حق مشترك لا يمكن تبعيضه. فلم يجز لأحد التصرف فيه بغير إذن شريكه؛ لأن في تصرفه إبطالاً لحق غيره، وذلك لا (¬1) يجوز. وأما كون بعضهم ليس له استيفاؤه دون بعض؛ فلأن اتفاق الكل شرط في جواز الاستيفاء ولم يوجد. وأما كون من اقتص منهم لا قصاص عليه؛ فلأنه قتل نفساً يستحق بعضها. فلم يجز قتله به؛ لأن النفس لا تؤخذ ببعض نفس. وأما كونه [عليه لشركائه حقهم من الدية في وجهٍ؛ فلأنه فوت عليهم حقهم من القتل. فكان بدله عليه] (¬2). فعلى هذا يسقط ذلك عن الجاني؛ لأن (¬3) المقتص قد وجب عليه فلا تجب على الجاني. وأما كونهم (¬4) لهم ذلك في تركة الجاني في وجهٍ؛ فلأن الواجب على الجاني إما القتل وإما الدية. فلما تعذر القتل تعينت الدية. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق. (¬3) في أ: فلأن. (¬4) في أ: كونه.

ولأنه فعل يتعذر معه القصاص. فوجبت الدية في تركته؛ كما لو مات حتف أنفه. فعلى هذا يرجع ورثة الجاني بذلك على القاتل لأنه أتلف بدل ذلك بغير حق. قال: (وإن عفى بعضهم سقط القصاص. وإن كان العافي زوجاً أو زوجة فللباقين حقهم من الدية على الجاني. فإن قتله الباقون عالمين بالعفو وسقوط القصاص به: فعليهم القود، وإلا فلا قود وعليهم ديته. وسواء كان الجميع حاضرين أو بعضهم غائباً). أما كون القصاص يسقط إذا عفى بعض مستحقي الدم؛ فلأن القتل عبارة عن زهوق الروح بآلة صالحة له، وذلك لا يتبعض فإذا أسقط بعض مستحقيه حقه منه تعذر استيفاؤه. وأما قول المصنف رحمه الله: وإن كان العافي زوجاً أو زوجة؛ ففيه تنبيه على أنهما يرثان من الدم. وسيأتي ذلك مصرحاً به إن شاء الله تعالى (¬1). فعلى هذا يسقط القصاص بعفوهما؛ لأنهما بعض مستحقي الدم. أشبها (¬2) بقية ذوي الفروض، وفي الحديث عن عمر رضي الله عنه «أن رجلاً قتلَ رجلاً. فقالت أختُ المقتول وهي زوجة القاتل: عفوتُ عن حقّي من القصاص. فقال عمر: اللهُ أكبر! عَتَقَ الرجُل» (¬3). وأما كون الباقين لهم حقهم من الدية على الجاني؛ فلأن تعذر القصاص يوجب الدية؛ لأنها تتعين عنده. وأما كونهم عليهم القود إذا قتلوه وكانوا عالمين بالعفو وسقوط القصاص؛ فلأنه قتل عمد عدوان. أشبه ما لو قتلوه ابتداء. وأما كونهم لا قود عليهم إذا لم يكونوا عالمين بالعفو؛ فلأن القاتل مع عدم علمه بالعفو كالقاتل مع عدم العفو، والقاتل مع عدم العفو لا قود عليه. فليكن هذا مثله. ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في د: أشبه. (¬3) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (18188) 10: 13 كتاب العقول، باب العفو.

وأما كونهم لا قود عليهم إذا لم يكونوا عالمين بسقوط القصاص بالعفو؛ فلأن مثل ذلك يخفى على كثير من الناس. فهو بمنزلة من لم يعلم العفو. وأما كونهم لا قود عليهم إذا لم يكونوا عالمين بهما فبطريق الأولى لأنه إذا كان انتفاء أحد الشيئين مؤثراً في عدم القود؛ فلأن يؤثر مجموعهما أولى. وأما كونهم عليهم ديته في كل موضع لا قود فيه؛ فلأن القتل قد (¬1) تعذر والدية بدله. فتتعين (¬2) عند تعذره. وأما كون ما ذكر كما ذكر سواء كان جميع مستحقي الدم حاضرين أو كان بعضهم غائباً؛ فلأنهما سواء معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. قال: (وإن كان بعضهم صغيراً أو مجنوناً فليس للبالغ العاقل الاستيفاء حتى يصيرا مكلفيْن في المشهور. وعنه: له ذلك). أما كون البالغ العاقل من مستحقي الدم ليس له الاستيفاء إذا كان بعض الورثة صغيراً أو مجنوناً حتى يصيرا مكلفيْن في المشهور -أي عن الإمام أحمد-؛ فلأن استيفاءه يفضي إلى إسقاط حق شريكه من التشفي. وأما كونه له ذلك في روايةٍ عنه؛ فلأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم وكان لعلي ورثة صغار (¬3). والأولى هي الصحيحة في المذهب؛ لما تقدم. ولأنه قتل غير متحتمثبت لجماعة معينين. فلم يكن لبعضهم استيفاؤه؛ كما لو كان بعضهم غائباً. وقَتْل الحسن لقاتل علي محمولٌ على أنه كان الإمام فقتله؛ لأنه شهر السلاحَ، وسعى في الأرض بالفساد. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: ومتعذره. (¬3) أخرجه الشافعي في الأم 4: 216.

قال: (وكل من ورث المال وَرِث القصاص على قدر ميراثه من المال حتى الزوجين وذوي الأرحام. ومن لا وارث له وليه الإمام إن شاء اقتص وإن شاء عفى). أما كون كل من ورث المال ورث القصاص حتى الزوجين وذوي الأرحام؛ فلأن القصاص أحدُ بَدَلي النفس. فكان موروثاً لمن يرث المال؛ كالدية. وفي الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورّث زوجة أُشَيْم من دية زوجها» (¬1). وأما كون من لا وارث له وليه الإمام؛ فلأن الإمام ولي من لا ولي له. وأما كون الإمام له الخيرة في القصاص والعفو؛ فلأن ذلك شأن الولي. إذا ثبت ما ذُكر فظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أن للإمام العفو على غير مال؛ لأنه أطلق العفو. وقال في المغني: وإن أحب العفو إلى غير مال لم يملكه؛ لأن ذلك للمسلمين ولا حظ لهم في هذا. ولم يحك فيه خلافاً. فعلى هذا يجب حمل كلامه هنا على العفو على مال حملاً لمطلق كلامه هنا على مقيده في المغني مع موافقة الدليل. وذلك أن خيرة الإمام هنا خيرة مصلحة لأنه نائب المسلمين. بخلاف خيرة الولي من الورثة فإنها لا تعتمد ذلك. وقد تقدم في غير موضع أن خيرة الإمام خيرة مصلحة فليكن هاهنا كذلك. وإذا كانت خيرة مصلحة لم يصح العفو على غير مال لعدم المصلحة فيه. فإن قيل: لو رأى الإمام المصلحة في ترك خراج إنسان جاز. فما الفرق؟ قيل: العدول عن القصاص إنما جاز لكون المصلحة للمسلمين في الدية، وعند تحقق المصلحة في الدية يمتنع أن تكون المصلحة في تركها. وعلى تقدير تصور المصلحة في ذلك الفرق بينهما أن الدية بدل متلف فلو جاز تركها لأدى إلى هدر كون التلف موجباً وذلك منتف. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2927) 2: 129 كتاب الفرائض، باب: في المرأة ترث من دية زوجها.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يُؤْمن في الاستيفاء التعدي إلى غير القاتل. فلو وجب القصاص على حامل أو حملت بعد وجوبه: لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ. ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه). أما كون الثالث من شروط استيفاء (¬1) القصاص أن يُؤْمن فيه التعدي إلى غير القاتل؛ فإن الله تعالى قال: {فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} [الإسراء: 33] والقتل المفضي إلى التعدي [إلى غير القاتل] (¬2) قتل فيه إسراف. وأما كون الحامل لا تقتل حتى تضع الولد؛ فلأن في قتلها قبل ذلك تعدياً إلى غير القاتل، وانتفاؤه شرط في جواز الاستيفاء. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قَتلتِ المرأةُ عمدًا لم تُقتلْ حتى تَضعَ ما في بطنِها إن كانتْ حاملاً ... مختصر» (¬3). رواه ابن ماجة. ولأن في ذلك قتل غير القاتل. فوجب أن يمنع منه. وأما كون من حملت بعد وجوب القصاص [لا تقتل حتى تضع الولد] (¬4)؛ كمن وجب (¬5) عليها القصاص وهي حامل؛ فلأنهما سواء في إفضاء قتلها إلى التعدي وقتل من ليس بقاتل. وأما كونها لا تقتل حتى تسقي الولد اللبأ؛ فلأنه لا يعيش غالباً إلا بذلك. وأما كونها تقتل حينئذ إذا وجد من يرضعه؛ فلأن تأخير قتلها إنما كان للخوف على ولدها وقد زال ذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2694) 2: 898 كتاب الديات، باب الحامل يجب عليها القود. (¬4) ساقط من أ. (¬5) مثل السابق.

وأما كونها تترك حتى تفطمه إذا لم يوجد من يرضعه؛ فلأن في حديث ابن ماجة: «لم تُقتلْ حتى تَضعَ وحتى تُكَفِّلَ ولدَها» (¬1). ولأن القتل إذا أُخر من أجل حفظ الحمل. فلأن يؤخر من أجل حفظ الولد بطريق الأولى. فإن قيل: الحديثان مطلقان وكلام المصنف رحمه الله مقيد بأن لا يوجد من يرضعه. قيل: يجب حملهما على ذلك؛ لأن العلة في كونها لا تقتل لأجل (¬2) الإفضاء إلى قتل الولد، وفيما إذا وجد من يرضعه لا يوجد ذلك. بخلاف ما إذا لم يوجد. قال: (ولا يقتص منها في الطرف حال حملها. وحكم الحد في ذلك حكم القصاص). أما كون الحامل لا يقتص منها في الطرف حال حملها؛ فلأن القصاص في الطرف لا يؤمن معه التعدي إلى تلف الولد. أشبه الاقتصاص في النفس. وأما كون حكم الحد في ذلك حكم القصاص؛ فلأنه يساويه معنى. فوجب أن يساويه حكماً. وفي حديث ابن ماجة المتقدم: «وإنْ زَنتْ لم تُرجمْ حتى تضعَ ما في بطنِها وحتى تُكَفِّلَ ولدَها» (¬3)، وفي حديث الغامدية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «اذهَبي حتى تُرضِعيه» (¬4). ¬

_ (¬1) تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه. (¬2) ساقط من د. (¬3) سبق تخريجه ص: 53 (¬4) أخرجه مالك في الموطأ (5) 2: 627 كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم.

قال: (فإن ادعت الحمل احتمل أن يقبل منها فتحبس حتى يتبين أمرها، واحتمل أن لا يقبل إلا ببينة). أما كون من ذكرت يحتمل (¬1) أن يقبل قولها؛ فلأنه يحتمل، وللحمل أمارات خفية لا تعلمها إلا هي. فوجب قبول قولها فيه؛ كالحيض. فلهذا تحبس حتى يتبين أمرها لأن ذلك طريق إلى تبيّنه وهو مطلوب شرعاً. وأما كونها يحتمل أن لا يقبل قولها إلا ببينة؛ فلأن الحق حالٌّ عليها. فلم يجز تأخيره بدعواها؛ كسائر الحقوق. قال: (وإن اقتص من حامل وجب ضمان جنينها على قاتلها. وقال أبو الخطاب: يجب على السلطان الذي مكّنه من ذلك). أما كون من اقتص من حامل يجب ضمان جنينها على قاتلها على قول غير أبي الخطاب؛ فلأنه هو المباشر. وأما كونه يجب على السلطان على قول أبي الخطاب؛ فلأنه مكنه من الإتلاف. فاختص به الضمان؛ كما لو أمر عبده الجاهل بتحريم القتل: به. إذا تقرر مأخذ الوجهين فلجريان الخلاف المذكور شرط وهو جهل الولي والسلطان بالحمل. فلو علمه السلطان وحده فالضمان عليه دون القاتل؛ لأن السلطان غير معذور. بخلاف القاتل فلو علمه القاتل وحده فالضمان عليه دون السلطان؛ لأنه هو المتلف ولم يسلطه السلطان على إتلاف الحمل؛ لأنه غير عالم به. [ولو علم كل واحد منهما به فالضمان على السلطان؛ لأنه هو الممكّن والذي يعرف الأحكام والقاتل] (¬2) يرجع إلى حكمه واجتهاده. هكذا ذكره المصنف في المغني إلا أنه ذكر بدل لفظة: السلطان: الحاكم. ¬

_ (¬1) في أ: أما قوله: فإن ادعت الحمل احتمل. (¬2) ساقط من أ.

فصل [في استيفاء القصاص] قال المصنف رحمه الله: (ولا يستوفى القصاص إلا بحضرة السلطان. وعليه تفقد الآلة التي يستوفى بها القصاص فإن كانت كالّة منعه الاستيفاء بها. ويَنظر في الولي فإن كان يحسن الاستيفاء ويقدر عليه أمكنه منه، وإلا أمره بالتوكيل. وإن احتاج إلى أجرة فمن مال الجاني). أما كون القصاص لا يستوفى إلا بحضرة السلطان؛ فلأنه أمر يفتقر إلى الاجتهاد، ويحرم الحيف فيه، ولا يؤمن مع قصد التشفي. فافتقر إلى حضور السلطان؛ ليؤمن ذلك. وأما كون السلطان عليه تفقد الآلة التي يستوفى بها القصاص؛ فلأن منها ما لا يجوز الاستيفاء به. وأما كونه يمنع الولي الاستيفاء بآلةٍ كالّةٍ؛ فلئلا يعذب المقتول، وقد روى شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيء فإذا قَتلتُم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذَبحتُم فأحسِنُوا الذِّبحة، وليحِدَّ أحدكُم شفرته وليرِحْ ذبيحَتَه» (¬1). وأما كونه يَنظر فيه؛ فلأنه قد لا يحسن الاستيفاء، وتمكينه حينئذ لا يجوز لما فيه من الضرر اللاحق بالقاتل. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1955) 3: 1548 كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة. وأخرجه أبو داود في سننه (2815) 3: 100 كتاب الأضاحي، باب في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1409) 4: 23 كتاب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة. وأخرجه النسائي في سننه (4412) 7: 229 كتاب الضحايا، باب حسن الذبح. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3170) 2: 1058 كتاب الذبائح، باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح.

وأما كونه يمكنه من الاستيفاء إذا كان يحسنه ويقدر عليه؛ فلأن القتل حق له. فكان له تمكينه من استيفائه بنفسه؛ كسائر الحقوق. وأما كونه يأمره (¬1) بالتوكيل إذا لم يحسن ذلك؛ فلأنه عاجز عن استيفاء حقه بنفسه، والوكيل أحد طريقي الاستيفاء، وقد تعذر غيره فتعين عليه (¬2) فعله. وأما كون أجرة الوكيل من مال الجاني إذا احتيج إليها؛ فلأنها أجرة لإيفاء ما عليه من الحق. فكانت لازمة له؛ كأجرة الكيال في الطعام المبيع. قال: (والولي مخير بين الاستيفاء بنفسه إن كان يحسن وبين التوكيل. وقيل ليس له أن يستوفي في (¬3) الطرف بنفسه بحال. وإن تشاحّ أولياء المقتول في الاستيفاء قدم أحدهم بالقرعة). أما كون الولي مخير إذا كان يحسن الاستيفاء في النفس بنفسه وبين التوكيل؛ فلأن التوكيل حق له. فكان له الخيرة فيه لما ذكر؛ كسائر الحقوق. وأما كونه مخيرا في الطرف وهو ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأن استيفاء الطرف أحد نوعي القصاص. أشبه النفس. وأما كونه ليس له أن يستوفي في الطرف بنفسه بحال على وجه؛ فلأنه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه. وأما كون أحد الأولياء يقدم في القرعة إذا تشاحوا في الاستيفاء؛ فلأن الحقوق إذا تساوت وعُدم الترجيح شُرعت القرعة؛ كما لو تشاحّوا في تزويج موليتهم. ولا بد أن يُلحظ في ذلك أنه إذا قدم أحدهم بالقرعة فقرع بينهم فوقعت عليه لا يجوز له أن يستوفي إلا بإذن بقية الأولياء؛ لأن الحق لهم فلا يجوز استيفاؤه بغير إذنهم. ¬

_ (¬1) في أ: يأمر. (¬2) ساقط من د. (¬3) مثل السابق.

فصل [في استيفاء القصاص في النفس] قال المصنف رحمه الله: (ولا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف في إحدى الروايتين، وفي الأخرى يفعل به كما فعل. فلو قطع يده ثم قتله فعل به ذلك، وإن قتله بحجر أو غرّقه أو غير ذلك فُعل به مثل فعلِهِ (¬1». أما كون القصاص في النفس لا يستوفى إلا بالسيف في إحدى الروايتين؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا قَوَدَ إلا بالسَّيف» (¬2). رواه ابن ماجة. وأما كونه يُفعل به كما فَعل في الأخرى؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126]، وقال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَضَخَ رأسَ اليهودي لرضْخِه رأسَ الجارية» (¬3). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ حَرَّقَ حرَّقنَاهُ، ومنْ غَرَّقَ غرَّقنَاه» (¬4). ولأن القصاص موضوع على المماثلة، ولفظه مشعر بها. فيجب أن يستوفى منه ما فعل؛ كما لو ضرب العنق آخر غيره. فعلى هذه الرواية لو قطع يده ثم قتله قطعت يده ثم قتل وإن قتله بحجر قتل بحجر، وإن غرقه غرق، وإن فعل به غير ذلك من أنواع القتل فُعل به ذلك. ¬

_ (¬1) في أ: مثل ما فعله. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2667) 2: 889 كتاب الديات، باب لا قود إلا بالسيف. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 43 كتاب الجنايات، باب عمد القتل بالحجر وغيره ...

قال: (وإن قطع يده من مفصل أو غيره أو أوضحه فمات فُعل به كفعله فإن مات وإلا ضربت عنقه. وقال القاضي: يقتل ولا يزاد على ذلك رواية واحدة). أما كون من ذكر يُفعل به كما فَعل على غير قول القاضي؛ فلما تقدم من الكتاب والسنة واعتبار المماثلة. وأما كونه يضرب عنقه إذا لم يمت بمثل فعله؛ فلأن قتله مستحق لكونه ترتب على فعله القتل. فإذا لم يحصل بمثل ما فعل تعين ضرب العنق؛ لكونه وسيلة إلى استيفاء القتل المستحق عليه. وأما كونه يقتل ولا يزاد على ذلك على قول القاضي؛ فلأن القصاص أحد بدلي النفس. فدخل القطع وغيره في القتل (¬1)؛ كالدية. ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل البنية وإتلاف الجملة وقد أمكن هذا بالقتل. فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه؛ كما لو قتل بسيف كالٍّ فإنه لا يقتل بمثله. قال: (وإن قتله بمحرم في نفسه كتجريع الخمر واللواط ونحوه قتل بالسيف رواية واحدة. ولا تجوز الزيادة على ما أتى به رواية واحدة، ولا قطع شيء من أطرافه فإن فعل فلا قصاص فيه وتجب فيه ديته سواء عفى عنه أو قتله). أما كون من ذكر يقتل بالسيف رواية واحدة؛ فلأن قتله بمثل فعله لا يجوز لكونه محرماً في نفسه، وإذا لم يجز مثل فعله تعين القتل بالسيف لأن قتله بمثل فعله غير ممكن لأنه محرم لعينه. فوجب العدول عنه. وأما كون الزيادة على ما أتى به القاتل لا تجوز رواية واحدة؛ فلأن الزيادة على فعله تعد عليه. فلم يجز؛ كما لو لم يكن قاتلاً. وأما كون قطع شيء من أطرافه لا يجوز؛ فلأن ذلك زيادة على ما أتى به. ¬

_ (¬1) في أ: القطع.

وأما كون فعل ذلك لا قصاص فيه؛ فلأن القصاص عقوبة تدرأ بالشبهات والشبهة هاهنا متحققة لأنه مستحق لإتلاف الطرف ضمناً لاستحقاقه إتلاف الجملة. وأما كونه تجب فيه ديته؛ فلأن قطع الطرف حصل بفعل تعد. فإذا تعذر القصاص وجبت الدية؛ كما لو لم يكن المقطوع مكافئاً. وأما كون ما ذكر كذلك سواء عفى عنه أو قتله؛ فلأن استحقاق إتلاف الطرف موجود في جانبي العفو والقتل.

فصل [إذا قتل واحد جماعة] قال المصنف رحمه الله: (وإن قتل واحد جماعة فرضوا بقتله قُتل لهم ولا شيء لهم سواه، وإن تشاحّوا فيمن يقتله منهم على الكمال أقيد للأول وللباقين دية قتيلهم، وإن رضي الأول بالدية أعطيها وقتل للثاني). أما كون الواحد إذا قتل جماعة فرضي أولياؤهم بقتله يقتل لهم؛ فلأن الحق لهم وقد اتفقوا على استيفائه. ولأن المحل تعلق به حقوق لا يتسع لها. فإذا رضي أصحابها بالقتل جاز؛ كما لو قتل عبد عبدين فرضي صاحبهما بأخذه بدلاً عنهما. ولأن أصحاب الحقوق إذا رضوا بقتله فقد رضوا ببعض حقهم. فجاز؛ كما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء. وأما كونهم لا شيء لهم غير القتل؛ فلأنهم قد رضوا بالقتل. فلم يكن لهم سواه. وأما كونه يقاد منه للأول إذا تشاحّ أولياء المقتولين فيمن يقتله على الكمال؛ فلأن المحل لا يتسع للكل، وحق الأول سابق. فقُدّم لسبقه. وأما كون الباقين لهم دية قتيلهم؛ فلأن القتل إذا فات بَقِيت الدية. وأما كون الأول يعطى الدية إذا رضي بها؛ فلأنه راضٍ بدون حقه. وأما كون القاتل يقتل للثاني؛ فلأن الأول إنما قدم عليه لسبقه وقد سقط حقه لرضاه بالدية. فوجب أن يقتل للثاني. عملاً بالمقتضي السالم عن معارضة السبق.

قال: (وإن قتل وقطع طرفاً قطعَ طرفه أولاً (¬1) ثم قتل لولي المقتول. وإن قطع أيدي جماعة فحكمه حكم القتل). أما كون من قتل وقطع طرفاً من آخر يقطع قبل أن يقتل؛ فلأنه لو بُدئ بالقتل لفات القطع، وفيه تفويت لحق المقطوع، وذلك يوجب تقديم القطع لما فيه من الجمع بين حقي القطع والقتل. وأما كونه يقتل بعد ذلك لولي المقتول؛ فلأنه لا معارض له. وأما كون حكم قطع أيدي الجماعة كحكم قتل الجماعة؛ فلأن القطع كالقتل؛ لأنه في معناه. فعلى هذا إن رضي الجماعة بقطع يده لهم قطعت ولا شيء لهم، وإن تشاحّوا قدم الأول لسبقه، وإن رضي الأول بالدية قطع للثاني. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

باب العفو عن القصاص

باب العفو عن القصاص العفو عن القصاص جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس: أما الكتاب فقوله تعالى: {كُتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان} [البقرة: 178]، وقوله تعالى بعد قوله: {-وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين- فمن تصدق به فهو كفارة له} [المائدة: 45]. وأما السنة؛ فقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رُفعَ إليه شيءٌ فيه قصاصٌ إلا أمرَ فيه بالعفو» (¬1). رواه أبو داود. وأما الإجماع فأجمع أهل العلم على جوازه. وأما القياس؛ فلأن القصاص حق له. فجاز له تركه؛ كسائر الحقوق. قال: (والواجب بقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية في ظاهر المذهب. والخيرة فيه إلى الولي فإن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفى إلى غير شيء. والعفو أفضل. فإن اختار القصاص فله العفو على الدية، وإن اختار الدية سقط القصاص ولم يملك طلبه. وعنه: أن الواجب القصاص عيناً وله العفو إلى الدية وإن سخط الجاني). أما كون الواجب بقتل العمد أحد شيئين القصاص، أو الدية في ظاهر المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة: 178]. أوجب الاتباع بمجرد العفو، ولو وجب بالعمد القصاص عيناً لم تجب الدية عند العفو المطلق. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4497) 4: 169 كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم.

وأما كون الواجب القصاص عيناً في روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ قُتِلَ عمداً فهوَ قَوَد» (¬1). ولأنه بدل متلف. فكان معيناً؛ كسائر المتلفات. وأما كون الأول في ظاهر المذهب؛ فلما تقدم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانَ في بني إسرائيلَ القصاصُ ولم تكنْ فيهمُ الديّةُ فأنزل اللهُ هذه الآية: {كُتب عليكم القصاص في القتلى ... الآية} [البقرة: 178]» (¬2). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ قُتِلَ له قتيلٌ فهو بخير النظرين: إما أن يُودَى، وإما يقاد» (¬3) متفق عليه. وروي عنه أنه قال: «ثم أنتمْ يا خُزاعةَ قد قَتلتُمْ هذا القتيلَ وإنا واللهِ عاقلتُه. فمن قَتَلَ بعدَهُ قَتيلاً فأهلُه بين خِيَرَتيْنِ: إن أحبُّوا قَتَلُوا وإن أحبُّوا أخذوا الديّة» (¬4). رواه أبو داود. ولأن الدية أحد بدلي النفس. فإذا وجبت كانت بدلاً عنها لا عن بدلها؛ كالقصاص. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فهوَ قَوَد» (¬5) فالمراد به وجوب القود، وذلك مما لا نزاع فيه. وأما قياس القتل على سائر المتلفات فلا يصح لأن الفرق بينه وبينها ظاهر، وذلك [أن القتل يخالف سائر المتلفات] (¬6) لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه، والقتل بخلافه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 15 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4228) 4: 1636 كتاب تفسير القرآن، باب: {يا أيها الذين آمنوا كتب ... }. وأخرجه النسائي في سننه (4781) 8: 36 كتاب القسامة، تأويل قوله عز وجل: {فمن عفي له من أخيه ... }. (¬3) سبق تخريجه ص: 9 (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4504) 4: 172 كتاب الديات، باب ولي العمد يرضى بالدية. (¬5) سبق تخريجه ص: 15 (¬6) ساقط من أ.

وأما كون الخيرة في الواجب بقتل العمد إلى الولي إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية على الرواية الأولى (¬1)؛ فلما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قُتلَ له قتيلٌ فهو بخير النظرين: إما يُودَى، أو يقاد» (¬2)، وقوله: «فمنْ قَتَل بعدهُ قَتيلاً فأهله بين خِيَرَتَيْنِ: إن أحبوا قَتلُوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» (¬3). وأما كونه إن شاء عفى إلى غير شيء؛ فلما تقدم أول الباب. وأما كون العفو أفضل؛ فلما تقدم من قوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارةٌ له} [المائدة: 45]. ولأن الله تعالى قال: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة: 237]، وقال: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر به (¬4). وأما كون من اختار القصاص له العفو إلى الدية؛ فلأن فيه مصلحة له وللجاني: أما له فلما في العفو عن القصاص من الفضيلة. وأما للجاني فلما فيه من سقوط القصاص عنه. وأما كون من اختار الدية سقط القصاص؛ فلأن من وجب له أحد شيئين يتعين حقه باختيار أحدهما، ويلزم من تعيينه سقوط الآخر. وأما كونه لا يملك طلب القصاص بعد ذلك؛ فلأن القصاص إذا سقط لا يعود. وأما كون المجني عليه ووليه (¬5) له العفو إلى الدية وإن سخط الجاني على الرواية الثانية وهي أن الواجب القصاص عيناً؛ فلأن الدية أقل منه. فكان له أن ينتقل إليها؛ لأنها أقل من حقه. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) سبق تخريجه ص: 9 (¬3) سبق تخريجه ص: 64 (¬4) كما ورد في حديث أنس بن مالك. وقد سبق ذكره ص: 63 (¬5) في أ: أو وليه.

قال: (وإن عفى مطلقاً وقلنا الواجب أحد شيئين فله الدية، وإن قلنا الواجب القصاص عيناً فلا شيء له. وإن مات القاتل وجبت الدية في تركته). أما كون من عفى مطلقاً وقيل الواجب أحد شيئين: له الدية؛ فلأن العفو المطلق يحمل على العفو عن القصاص لأن ذلك المتبادر والغالب، وإذا كان كذلك بقيت الدية غير معفو عنها. فتتعين. ضرورة أن سقوط أحد الواجبين يعين الآخر. وأما كونه لا شيء له إذا قيل الواجب القصاص عيناً؛ فلأن الدية غير واجبة. فإذا سقط الدم لم يبق له شيء. وأما كون القاتل إذا مات تجب الدية في تركته؛ فلأن القصاص تعذر من غير جهة ولي الجناية. فبقيت الدية؛ لأنها بدل القتل. قال: (وإذا قطع أصبعاً عمداً فعفى عنه ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على مال فله تمام الدية، وإن عفى إلى غير شيء فلا شيء له على ظاهر كلامه. ويحتمل أن له تمام الدية، وإن عفى مطلقاً انبنى على الروايتين في موجب العمد. وإن قال الجاني: عفوت مطلقاً أو عفوت عنها وعن سرايتها قال: بل عفوت إلى مال أو عفوت عنها دون سرايتها فالقول قوله مع يمينه). أما كون من قطع أصبعاً عمداً فعفى عنه ثم سرت جنايته إلى الكف أو النفس وكان العفو على مال للعافي تمام الدية؛ فلأن قصاص الذي تلف بالسراية ممتنع. ضرورة أنه لا يمكن استيفاؤه دون ما عفي عنه. وإذا كان كذلك تعين تمام الدية لأن كل موضع تعذر القصاص تعينت الدية، وقد أخذ بعضها فتعين له تمامها. وأما كونه إذا عفى إلى غير مال لا شيء له على ظاهر كلام أحمد؛ فلأن العفو عن الجناية عفو عن سرايتها وقد حصل العفو عن الإصبع. فوجب أن يحصل عن الذي سرى إليه. وأما كونه يحتمل أن له تمام الدية؛ فلأن المجني عليه إنما عفى عن دية الإصبع. فوجب أن يثبت له تمام الدية. ضرورة كونه غير معفو عنه.

وأما كون من عفى مطلقاً ينبني عفوه على الروايتين في موجب العمد (¬1)؛ فلأن الحكم يختلف باختلاف ذلك. فعلى هذا إذا قيل الواجب أحد الأمرين فهو كما لو عفى على مال، وإذا قيل الواجب القصاص عيناً فهو كما لو عفى إلى غير مال. وأما كون القول قول المجني عليه إذا قال له الجاني: عفوت مطلقاً، وقال: بل عفوت إلى مال؛ فلأنه منكر للعفو المطلق والقول قول المنكر. ولأن الجاني ادّعى وقوع العفو مطلقاً، والأصل عدمه. فالقول قول مدعي الأصل. وأما كون القول قوله إذا قال الجاني: عفوت عن الجناية وعن سرايتها، وقال: بل (¬2) عفوت عنها دون سرايتها؛ فلما ذكر من الوجهين قبل. وأما كون ذلك مع يمينه في المسألتين جميعاً؛ فلأن صدق الجاني محتمل. فوجب اليمين؛ ليكون النكول طريقاً إلى ثبوت دعواه. قال: (وإن قتل الجاني العافي فلوليه القصاص أو الدية كاملة. وقال القاضي: له القصاص أو تمام الدية). أما كون ولي العافي له القصاص فيما ذكر؛ فلأن قتله انفرد عن قطعه. أشبه ما لو كان القاطع غيره. وأما كونه له الدية كاملة وهو قول أبي الخطاب؛ فلأن القتل منفرد عن القطع. فلم يدخل حكم أحدهما في الآخر. ولأن القتل الصادر هنا موجب للقتل. فأوجب الدية كاملة؛ كما لو لم يتقدمه عفو. وأما كونه له تمام الدية على قول القاضي؛ فلأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال صار بمنزلة سرايته ولو سرى لم يجب إلا تمام الدية. فكذلك فيما هو بمنزلته. ¬

_ (¬1) ر ص: 63 (¬2) زيادة في د.

قال: (وإذا وكل رجلاً في القصاص ثم عفى ولم يعلم الوكيل حتى اقتص فلا شيء عليه. وهل يضمن العافي؟ يحتمل وجهين. ويتخرج أن يضمن الوكيل ويرجع به على الموكِّل في أحد الوجهين؛ لأنه غرّه، والآخر: لا يرجع به ويكون الواجب حالاّ في ماله. وقال أبو الخطاب: يكون على عاقلته). أما كون الوكيل لا شيء عليه إذا لم يعلم بالعفو حتى اقتص؛ فلأنه لا تفريط منه؛ لأن عفو الموكِّل حصل على وجه لا يمكن للوكيل استدراكه. فلم يلزمه ضمانه؛ كما لو عفى بعد ما رماه. وأما كون العافي هل يضمن؟ يحتمل وجهين؛ فلأن النظر إلى أن عفوه غير صحيح لحصوله في حال لا يمكن استدراك الفعل، وأن العفو منه إحسان يقتضي أن لا ضمان عليه، والنظر إلى أن قتل المعفو عنه حصل بأمره وتسليطه على وجه لا ذنب للمباشر فيه يقتضي أن الضمان عليه لأنه أمره به. أشبه ما لو أمر عبده الأعجمي بقتل معصوم فقتله. وأما كون الوكيل يتخرج أن يضمن؛ فلأنه لو علم بالعفو لوجب عليه القصاص. فإذا لم يعلم تعلق به الضمان؛ كما لو قتل مرتداً رجع إلى الإسلام ولم يعلم رجوعه. وأما كونه يرجع على العافي في وجهٍ؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من أنه غره لأنه سلطه على القتل وأمره به وعفى من غير إعلامه فَنُزِّل منزلة الغارّ في النكاح بحرية أمة وتزويج معيبة، ومنزلة من غصب طعاماً وقدمه إلى غيره وأمره بأكله فأكله. وأما كونه لا يرجع في وجهٍ؛ فلأن العفو إحسان فلا يقتضي الرجوع عليه. وأما كون الواجب على الوكيل حالاًّ في ماله وهو قول القاضي؛ فلأن قتله عمد محض أو عمد الخطأ، وذلك لا تحمله العاقلة لأنه قصد قتله وإن سقط القصاص لمعنى آخر (¬1) كقتل الأب. وأما كونه على عاقلته على قول أبي الخطاب؛ فلأنه جارٍ مجرى الخطأ لأنه معذور في قتله. أشبه من رمى صيداً فبان آدمياً.

_ (¬1) ساقط من أ.

قال: (وإن عفى عن قاتله بعد الجرح صح. وإن أبرأه من الدية أو وصى له بها فهي وصية لقاتل هل تصح؟ على روايتين: إحداهما: تصح ويعتبر من الثلث. ويحتمل أن لا يصح عفوه عن المال ولا وصيته به لقاتل ولا غيره إذا قلنا أنه يحدث على ملك الورثة). أما كون من عفى عن قاتله بعد الجرح يصح؛ فلأنه أسقط حقه بعد انعقاد سببه. فسقط؛ كما لو أسقط الشفعة بعد البيع. وأما كون من أبرأه من الدية يكون إبراؤه وصية لقاتل؛ فلأن معناها إن متُّ فأنتَ في حلٍ، وذلك وصيةٌ لقاتل. وأما كون من وصى له بها تكون وصيته وصية لقاتل؛ فلأنها وصية بمال. أشبه ما لو وصى له بعبده. وأما كون الوصية لقاتل هل تصح؟ على روايتين فقد تقدم ذكرهما ودليلهما في باب الموصى له (¬1). فعلى القول بعدم الصحة لا تفريع وعلى القول بالصحة يعتبر ذلك من الثلث لأن هذا شأن الوصية. ولأنها وصية بمال. أشبهت غيرها من الوصايا. وأما كونه يحتمل أن لا يصح عفوه عن المال ولا وصيته به لقاتلٍ ولا غيره إذا قيل أنه يحدث على ملك الورثة؛ فلأن العفو عن ذلك والوصية به على القول المذكور عفو عن غير حقه ووصية به. قال: (وإن أبرأ القاتل من الدية الواجبة على عاقلته أو العبد من جنايته التي يتعلق أرشها برقبته لم يصح، وإن أبرأ العاقلة والسيد صح). أما كون من أبرأ القاتل أو العبد مما ذكر لا يصح؛ فلأن البراءة من ذلك براءة لغير من عليه الحق؛ لأن الدية الواجبة على العاقلة غير واجبة على القاتل والجناية المتعلق أرشها برقبة العبد غير واجبة عليه بل متعلقة بملك سيده وإذا كان كذلك وجب أن لا تصح البراءة؛ لأن صحة البراءة تقتضي تقدم ثبوت الحق على من أبرئ. ¬

_ (¬1) 3: 234.

وأما كون من أبرأ العاقلة والسيد يصح؛ فلأنه إبراءٌ من حق لمن هو عليه. فإن قيل: الدية والأرش لم تجب بعد فكيف تصح البراءة منهما؟ قيل: قد انعقد سبب الوجوب فهو بمنزلة ما لو عفى عن القاتل بعد الجرح. قال: (وإن وجب لعبد قصاص أو تعزير قذف فله طلبه [والعفو عنه] (¬1) وليس ذلك للسيد إلا أن يموت العبد). أما كون العبد له طلب ذلك والعفو عنه؛ فلأن ذلك من أحكام النفوس وهي مختصة به. ولأن التشفي فيما ذكر مطلوب، وذلك وصف قائم بالعبد. وأما كون السيد ليس له طلب ذلك ولا العفو عنه في حال حياة العبد؛ فلأن السيد ليس له في العبد سوى المالية وما ذكر حقوق نفسانية. وأما كونه له ذلك بعد موت العبد؛ فلأن حق العبد ينتقل إليه. فيصير شبهاً بالوارث. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس قال المصنف رحمه الله: (كل من أقيد بغيره في النفس أقيد به فيما دونها ومن لا فلا. ولا يجب إلا بمثل الموجب في النفس وهو العمد المحض). أما كون كل من أقيد بغيره في النفس يقاد به فيما دونها؛ فلأن من أقيد به في النفس إنما أقيد به فيها لحصول المساواة المعتبرة للقود. فيجب أن يقاد به فيما دونها لذلك. وفي قول المصنف رحمه الله: كل من أقيد بغيره في النفس أقيد به فيما دونها إشعار بمشروعية القود فيما دون النفس من الأطراف والجراح (¬1). والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس -إلى قوله-: والجروحَ قصاص} [المائدة: 45]. وأما السنة؛ فما روى أنس بن مالك «أن الرُّبَيِّع بنت النضر بن أنس كَسرتْ ثنيَّةَ جاريةٍ. فعرضوا عليهم الأرش. فأبوْ إلا القصاص، فجاءَ أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله! تُكسرُ ثنيةُ الربيِّع. والذي بعثكَ بالحق! ما تُكسَر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كتابَ اللهِ القصاصُ ... مختصر» (¬2). رواه البخاري وأبو داود والنسائي. وأما الإجماع فأجمع المسلمون على مشروعية القصاص فيما دون النفس إذا أمكن بشرطه. ¬

_ (¬1) في أ: والجوارح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2556) 2: 961 كتاب الصلح، باب الصلح في الدية. وأخرجه أبو داود في سننه (4595) 4: 197 كتاب الديات، باب القصاص من السن. وأخرجه النسائي في سننه (4757) 8: 27 كتاب القسامة، القصاص من الثنية. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2649) 2: 884 كتاب الديات، باب القصاص في السن. وأخرجه أحمد في مسنده (12727) 3: 167.

وأما المعنى وهو أن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص. فكان كالنفس في وجوبه. وأما كون من لا يقاد بغيره في النفس لا يقاد به فيما دونها؛ فلأن من لا يقاد بغيره في النفس إنما لم يُقَدْ به لعدم المساواة المعتبرة في القود، وذلك موجود فيما دون النفس. فوجب أن لا يقاد به فيه عملاً بالعلة. فعلى هذا لو قطع مسلم يد مسلم قطعت يده لأنه يقاد به في النفس، ولو قطع يد كافر لم تقطع يده لأنه لا يقاد به في النفس، ولو قطع حرٌّ يد حرّ قطعت يده لما تقدم، ولو قطع يد عبد لم تقطع يده لذلك. وعلى هذا فقس. وأما كون القود فيما دون النفس لا يجب إلا بمثل الموجب في النفس؛ فلأن ما دون النفس أحد ما يجب فيه القود. فلم يجب فيه إلا بمثل الموجب في النفس؛ كالنفس. وأما كون الموجب في ذلك هو العمد المحض؛ فلأن ذلك هو الموجب في النفس لما تقدم ذكره في موضعه. قال: (وهو نوعان: أحدهما: في الأطراف. فتؤخذ العين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجفن بالجفن، والشفة بالشفة، واليد باليد، والرجل بالرجل). أما كون القود فيما دون النفس نوعين؛ فلأنه تارة يكون في الأطراف [وتارة يكون في الجروح. وأما كون أحد النوعين القود في الأطراف] (¬1) فظاهر. وأما كون العين تؤخذ بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن؛ [فلأن الله تعالى قال: {والعينَ بالعين والأنفَ بالأنف والأذنَ بالأذن والسنَّ بالسن] (¬2) الآية} [المائدة: 45]. وأما كون الجفن يؤخذ بالجفن ... إلى آخره؛ فلأن ذلك في معنى المنصوص عليه. فيجب أن يلحق به؛ لأن التساوي معنى يوجب التساوي حكماً. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق.

قال: (ويؤخذ كل واحد من الأصابع والكف والمرفق والذكر والأنثيين بمثله. وهل يجري في الإلية والشفر؟ على وجهين). أما كون كل واحد من الأصابع والكف والمرفق والذكر والأنثيين يؤخذ بمثله؛ فلأن المماثلة موجودة والقصاص ممكن. فوجب؛ كالعين بالعين والأنف بالأنف. وأما كون القصاص يجري في الإلية والشفر في وجهٍ؛ فلعموم قوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة: 45]. ولأن لذلك حداً ينتهي إليه. فجرى القود فيه؛ كالذَّكَر. وأما كونه لا يجري فيهما في وجهٍ؛ فلأن الإلية متصلة بلحم والشفر لحم لا مفصل له. فلم يجر القود فيها؛ كلحم الفخذ.

فصل [في شروط القصاص في الطرف] قال المصنف رحمه الله: (ويشترط للقصاص في الطرف ثلاثة شروط: أحدها: الأمن من الحَيْف. بأن يكون القطع من مفصل، أو له حد ينتهي إليه كمارن الأنف وهو ما لان منه). أما كون القصاص في الأطراف يشترط له ثلاثة شروط؛ فلما يأتي ذكره فيها. وأما كون أحدها الأمن من الحَيْف؛ فلأن الحَيْف ظلم وعدوان. فإذا لم يمكن القصاص إلا به لم يجب فعله. وأما قول المصنف رحمه الله: بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه؛ فبيان لما يحصل به الأمن من الحَيْف. وأما قوله: كمارن الأنف؛ فبيان لصورة من صور ما له حد ينتهي إليه. وأما قوله: وهو ما لان منه؛ فبيان للمارن ما هو. قال: (وإن قطع القصبة أو قطع من نصف الساعد أو الساق: فلا قصاص في أحد الوجهين، وفي الآخر يقتص من حد المارن ومن الكوع والكعب. وهل يجب له أرش الباقي؟ على وجهين). أما كون ما ذكر لا قصاص فيه على الصفة التي فعل الجاني بلا خلاف؛ فلأن القطع ليس من مفصل فلا يؤمن الحيف فيه، وفي الحديث: «أن رجلاً ضربَ رجلاً على ساعدهِ بالسيفِ فقطعهَا من غيرِ مَفْصَلٍ. فاستعدَى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأمرَ لهُ بالديةِ. فقال: إني أُريدُ القصاصَ. قال: خُذِ الدية باركَ اللهُ لكَ فيها. ولمْ يقضِ له بقصاص» (¬1). رواه ابن ماجة.

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2636) 2: 880 كتاب الديات، باب ما لا قود فيه.

وأما كونه لا قصاص فيه أصلاً في وجهٍ؛ فلما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجبه أصلاً. ولأنه اقتصاص من غير موضع الجناية. فلم يجب؛ كما لو كان القطع من شيء لا مفصل له أصلاً. وأما كونه يقتص في مسألة القصبة من حد المارن وهو ما لان منه، وفي مسألة الساعد من الكوع، وفي مسألة الساق من الكعب في وجهٍ؛ فلأن ذلك دون حقه. فكان له أن يقتص فيه؛ كما لو شجه هاشمة فإن له أن يقتص موضحة. وأما كون الباقي يجب له أرش على وجه؛ فلأنه حقٌّ له تعذر استيفاؤه. فوجب أرشه؛ كسائر ما هذا شأنه. وأما كونه لا يجب له أرش على وجه؛ فلأن فيه جمعاً بين القصاص والأرش في عضو واحد. قال: (ويقتص من المنكب إذا لم يُخف جائفة). أما كون المنكب يقتص منه في الجملة؛ فلما تقدم في أول الباب. ولأنه اقتصاص من مفصل أُمن فيه الحيف فوجب؛ كالاقتصاص من الكوع. وأما كون ذلك يشترط فيه أن لا يخاف منه جائفة؛ فلأنه إذا خيف منه ذلك لا يؤمن فيه الحيف، وذلك شرط في جواز الاقتصاص في الأطراف لما تقدم. قال: (وإذا أوضح إنساناً فذهب ضوء عينه أو سمعه أو شمه فإنه يوضحه فإن ذهب ذلك وإلا استعمل فيه ما يذهبه من غير أن يجني على حدقته أو إذنه أو أنفه. فإن لم يمكن إلا بالجناية على هذه الأعضاء سقط). أما كون من ذكر يوضح الجاني؛ فلأن الموضحة يجري فيها القصاص. وأما كونه يستعمل فيه ما يذهب ضوء عينه أو سمعه أو شمه إذا لم يذهب بالموضحة من غير أن يجني على ما ذكر؛ فلأن إذهاب ذلك مستحق، وذلك طريق إليه. وأما كون ذلك يسقط إذا لم يمكن إلا بالجناية على ما ذكر؛ فلأن الجناية على ذلك حيف وتعدٍّ. فإذا لم يمكن الاستيفاء إلا بها سقط.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: المماثلة في الموضع. فتؤخذ كل واحدة من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى من الشفتين والأجفان بمثلها، والإصبع والسن والأنملة بمثلها في الموضع والاسم. ولو قطع أنملة رجل العليا وقطع الوسطى من تلك الإصبع من آخر لم تكن له عليا فصاحب الوسطى مخير بين أخذ عقل أنملته وبين أن يصبر حتى تقطع العليا ثم يقتص من الوسطى. ولا يؤخذ شيء من ذلك بما يخالفه). أما كون الثاني من شروط القصاص في الأطراف المماثلة فبالقياس على النفس. وأما كون المماثلة في بعض الأشياء في الموضع وفي بعضها في الموضع والاسم؛ فلأن بعض الأشياء لا يماثل إلا في الموضع وبعضها لا يماثل إلا في الموضع والاسم. فوجب أن تعتبر المماثلة في كل شيء بما تحصل به. وأما كون كل واحدة من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى من الشفتين والأجفان تؤخذ بمثلها؛ فلأن الشرط (¬1) المماثلة في ذلك الموضع (¬2)، وهي موجودة في مثلها. فعلى هذا تؤخذ اليد اليمنى باليد اليمنى، واليد اليسرى باليد اليسرى، والشفة العليا بالشفة العليا، والشفة السفلى بالشفة السفلى، والجفن الأعلى بالجفن الأعلى، والجفن الأسفل بالجفن الأسفل، ونحو ذلك؛ لأن المماثلة في الموضع موجودة في ذلك كله. ¬

_ (¬1) في د: شرط. (¬2) في د: في الموضع. وفي أبعد قوله الموضع زيادة: لأنه لا يختلف بغير اختلافه. وقد أثبتت في د ووضع عليها علامة الحذف.

وأما كون الإصبع والسن والأنملة تؤخذ بمثلها في الموضع والاسم؛ لأنها لا تحصل إلا بذلك وهي موجودة في مثلها. فعلى هذا يؤخذ الإبهام بالإبهام، والسبابة بالسبابة، والوسطى بالوسطى، والبنصر بالبنصر، والخنصر بالخنصر، والثنية بالثنية، والضاحك بالضاحك، والناب بالناب، والأنملة العليا من الإصبع بالعليا من تلك الإصبع، والوسطى منها بالوسطى منها؛ لأن المماثلة في الموضع والاسم موجودة في ذلك كله. وأما كون صاحب الوسطى فيما تقدم ذكره يخير بين عقل أنملته وبين الصبر حتى تقطع العليا من الجاني عليه ثم يقتص من الوسطى؛ فلأنه لا يمكن القصاص في الحال لما فيه من الحيف وأخذ الزيادة على الواجب ولا سبيل إلى تأخير حقه حتى يتمكن من القصاص لما فيه من الضرر. فوجبت له الخيرة بين الدية ليستوفي حقه وبين الصبر إلى إمكان القصاص؛ لئلا يتضرر بتأخير القصاص. وأما كون شيء من ذلك لا يؤخذ بما يخالفه؛ فلأن المماثلة شرط ولم يوجد. فعلى هذا لا تؤخذ اليد اليمنى باليد اليسرى ولا اليسرى باليمنى، ولا العليا من الشفتين بالسفلى، ولا السفلى بالعليا، ولا الجفن الأعلى بالأسفل، ولا الأسفل بالأعلى، ولا الإبهام ولا السبابة ولا الوسطى ولا البنصر ولا الخنصر بغيرها، ولا الثنية بالضاحك، ولا الضاحك بالثنية، ولا الثنية العليا بالثنية السفلى، ولا الثنية السفلى بالثنية العليا، ولا أنملة من إصبع بأنملة من غيرها، ولا أنملة عليا بأنملة سفلى، ولا وسطى بعليا؛ لعدم المماثلة في ذلك كله. وعلى هذا فقس.

قال: (ولا تؤخذ أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية. وإن تراضيا عليه لم يجز. فإن فعلا أو قطعها تعدياً أو قال: أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها أجزأت على كل حال وسقط القصاص. وقال ابن حامد: إن أخرجها عمداً لم تجز ويستوفى من يمينه بعد اندمال اليسار، وإن أخرجها دهشة أو ظناً أنها تجزئ فعلى القاطع ديتها. وإن كان من عليه القصاص مجنوناً فعلى القاطع القصاص إن كان عالماً بها وأنها لا تجزئ، وإن جهل أحدهما فعليه الدية، وإن كان المقتص مجنوناً والآخر عاقلاً ذهبت هدراً). أما كون أصلية لا تؤخذ بزائدة؛ فلأن الزائدة دونها. وأما كون زائدة لا تؤخذ بأصلية؛ فلأنها لا تماثلها. وأما كون ما ذكر إن تراضيا عليه لا يجوز؛ فلأن الدماء لا تستباح بالإباحة والبذل، ولذلك لو بذل ذلك ابتداء لم يجز. وأما كون من فعل ذلك لا تعدياً؛ مثل: أن يأخذه باختيار الجاني يجزئ ويسقط القصاص؛ فلأن المجني عليه رضي به، والجاني يعلمه، والحق لا يعدوهما. ولأن ذلك إن كان دون حق المجني عليه فقد رضي به. أشبه ما لو رضي بغير شيء، وإن كان فوق حقه فقد رضي الجاني ببذله. لا يقال قد تقدم أن البذل في ذلك لا يجوز لأن الذي تقدم بذل في ذات، وهنا بذل في صفة، ولا يلزم من عدم جواز أحدهما عدم جواز الآخر. وأما كون من قطع اليسار تعدياً، أو قال: اخرج يمينك فأخرج يساره يجزئ ويسقط القصاص؛ فكما لو قطع الإمام يسار السارق بدل يمينه. وأما كونها لا تجزئ إذا أخرجها عمداً على قول ابن حامد؛ فلأنه تعمد (¬1) ترك الواجب عليه من القطع. فلم يُعذر في استيفاء الواجب عليه. وما تقدم من قياسه على السارق لا يصح لوجوه: أحدها: أن الحد مبني على الإسقاط. بخلاف القصاص.

_ (¬1) في أ: عمد.

وثانيها: أن اليسار لا تقطع في السرقة إذا عدمت يمينه لأنه لا يفوت منفعة الجنس في الحد. بخلاف القصاص. وثالثها: أن اليد إذا (¬1) سقطت بأكلة أو قصاص سقط القطع. بخلاف القصاص فإنه لا يسقط وينتقل إلى الدية. وأما كون القصاص يستوفى من يمينه على قوله؛ فلأن اليسار لما لم تجز عنده صار قطعها كلا قطع، وذلك يوجب قطع اليمين. ضرورة استيفاء الواجب له. وأما كون الاستيفاء بعد الاندمال؛ فلأنه لو حصل الاستيفاء في اليمنى وقد قطعت يساره ربما أدى ذلك إلى هلاك نفسه. فإن قيل: أليس لو قطع يمين رجل ويسار آخر لا تؤخر إحداهما (¬2) إلى اندمال جرح الآخر؟ قيل: الفرق بينهما أن القطعين مستحقان قصاصاً. فلذلك جمع بينهما القطعين هنا. فإن أحدهما غير مستحق فلا جرم لا يجمع بينهما. وأما كون القاطع عليه دية اليد إذا أخرجها الجاني دهشة أو ظناً أنها تجزئ؛ فلأن مُخرجها أخرجها على وجه البذل في موضع لا يصح بذله. فوجب ضمانها على الجاني عليها. فإذا تعذر القصاص لشبهة البذل وجبت الدية؛ لأنها بدله. وأما كون القاطع عليه القصاص إذا كان مَن عليه القصاص مجنوناً وكان القاطع عالماً بأنها يسار وأنها لا تجزئ؛ فلأن بذل المجنون لا يصح ولا شبهة للقاطع. وأما كونه عليه الدية إذا جهل أحدهما؛ فلأن الجهل يسقط القصاص. فوجب أن تتعين الدية. وأما كون اليسار تذهب هدراً إذا كان المقتص مجنوناً والآخر عاقلاً؛ فلأن المجنون لا عبرة بفعله. ¬

_ (¬1) في أ: لو. (¬2) في أ: أحدهما.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال. فلا تؤخذ صحيحة بشلاء، ولا كاملة الأصابع بناقصة، ولا عين صحيحة بقائمة، ولا لسان ناطق بأخرس، ولا ذَكَر صحيح بأشل، ولا ذكر فحل بذكر خصي ولا عنين. ويحتمل أن يؤخذ بهما. إلا مارن الأشم الصحيح يؤخذ بمارن الأخشم والمخزوم والمستحشف، وأذن السميع بأذن الأصم الشلاء في أحد الوجهين). أما كون الثالث من شروط القصاص في الأطراف استواؤهما في الصحة والكمال في غير ما استثناه المصنف رحمه الله؛ فلأن غير الصحيح والكامل لا يستوي هو والصحيح والكامل ولا يماثله. فوجب أن لا يجزئ القصاص بينهما؛ كالحر والعبد. وأما كون صحيحة [من يد ورجل] (¬1) لا تؤخذ بشلاء منهما؛ فلانتفاء استواءهما في الصحة، وهو شرط لما تقدم. ولأن (¬2) غير الصحيحة لا يقع فيها سوى الكمال ولا يؤخذ بها ما فيه نفع كامل. وأما كون كاملة الأصابع من يد ورجل لا تؤخذ بناقصة منهما؛ فلانتفاء استواءهما في الكمال، وهو شرط لما تقدم. ولأن في قطع الكاملة منهما بالناقصة جناية زائدة على ما جنى عليه، وذلك لا يجوز. فعلى هذا من قطع من له خمس أصابع يد من له أربع أصابع أو أقل من ذلك، أو قطع من له أربع أصابع يد من له ثلاث أصابع أو أقل: لم يجز القصاص بينهما ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: لأن.

في اليد؛ لأن ذلك فوق حق المجني عليه. وهل يجزئ في مثل أصابعه؟ فيه وجهان: مأخذهما ما تقدم فيما إذا قطع يد شخص من نصف كفه أو نصف ذراعه (¬1). وأما كون عين صحيحة لا تؤخذ بقائمة؛ فلانتفاء استواؤهما في الصحة، وهو شرط لما تقدم. ولأن في (¬2) أخذ الصحيحة بالقائمة أخذاً (¬3) لأكثر من الحق، وذلك لا يجوز. وأما كون لسان ناطق لا يؤخذ بأخرس؛ فلانتفاء الكمال، وهو شرط لما تقدم. ولأن اللسان ذهبت منفعته. فهو كاليد الشلاء. وأما كون ذكر صحيح لا يؤخذ بأشل؛ فلما ذكر في أخذ اليد الصحيحة بالشلاء. وأما كون ذكر فحل لا يؤخذ بذكر خصي ولا عنين على المذهب وهو قول الشريف؛ فلأنه لا منفعة فيهما؛ لأن كل واحد [من الخصي والعنين لا يولد له ولد ولا ينزل ولا يكاد يقدر على الوطء. فهما كالأشل. ولأن كل واحد] (¬4) منهما ناقص. فلا يؤخذ به الكامل؛ كاليد الكاملة بالناقصة. وأما كونه يحتمل أن يؤخذ بهما وهو قول أبي الخطاب؛ فلأنهما عضوان صحيحان ينقبضان وينبسطان. فيؤخذ بهما؛ كذكر الفحل غير العنين. وكون الخصي لا ينزل لذهاب الخصية والعنة لعلة في الظهر. فلم يمنع ذلك من القصاص بهما؛ كأذن الأصم ومارن الأخشم. قال المصنف في المغني: والصحيح الأول لأنه إذا ترددت الحال بين كونه مساوياً للآخر وعدمه لم يجب القصاص؛ لأن الأصل عدمه. فلا يجب بالشك. ¬

_ (¬1) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) ساقط من أ. (¬3) مثل السابق. (¬4) مثل السابق.

وأما قول المصنف رحمه الله: إلا مارن الأشم ... إلى آخره؛ فهو استثناء من استوائهما في الصحة والكمال. فإن قيل: القول المذكور إنما يعقب قوله: يحتمل أن يؤخذ بهما. فلم لم يعد إليه؟ قيل: لوجهين: أحدهما: أنه لا يتناول ما ذُكر؛ لأن الضمير في قوله: بهما عائد إلى ذَكَر الخصي والعنين. وثانيهما: أن الاستثناء من الإثبات نفي. وقوله: يؤخذ بهما إثبات والمستثنى مثبت بدليل أنه قال: إلا مارن الأشم الصحيح يؤخذ. فعلى ما ذكر أولاً يكون المعنى أن استواءهما المذكور شرط إلا في أشياء: أحدها: أن مارن الأشم هل يؤخذ بمارن الأخشم؟ وهو: الذي لا يشم به. فيه وجهان: أحدهما: يؤخذ به؛ لأن عدم الشم لعلة في الدماغ والمارن صحيح. فوجب أخذ الأشم به؛ لأنه مثله في كونه صحيحاً. فإن قيل: إذا استويا في الصحة فلا حاجة إلى استثنائهما؛ لأن الشرط استواؤهما وهو موجود. قيل: هو بالنظر إلى فوات الشم غير مساو. فنبه المصنف رحمه الله على أن ذلك لا أثر له، وذكره بلفظ الاستثناء نظراً إلى ذلك. والثاني: لا يؤخذ به لأن منفعة الشم قد ذهبت. فهو بالنسبة إلى الأشم كاليد الصحيحة مع الشلاء. وثانيها: أن المارن الصحيح هل يؤخذ بالمخزوم؟ فيه وجهان: أحدهما: يؤخذ به كمارن الأشم. والثاني: لا يؤخذ به لأنه لا يماثله وهذا أصح لما ذكر ولذلك لم يحكِ المصنف رحمه الله في الكافي في ذلك خلافاً وذكر في المغني بدل المخزوم المخذوم (¬1). وعلل الأخذ وعدمه بما يأتي في المستحشف. وثالثها: أن المارن الصحيح هل يؤخذ بالمستحشف؟ فيه وجهان:

_ (¬1) ساقط من د.

أحدهما: يؤخذ به؛ لأن الاستحشاف مرض. فلم يمنع القصاص؛ كما لو قتل صحيح مريضاً. والثاني: لا يؤخذ به؛ لما ذكر في مارن الأخشم. ورابعها: أن أذن السميع هل تؤخذ بأذن الأصم؟ فيه وجهان: أحدهما: تؤخذ بها؛ لأن العضو صحيح ومقصوده الجمال لا السمع، وذهاب السمع نقص في الرأس؛ لأنه محله وليس بنقص في الأذن. والثاني: لا تؤخذ بها؛ لأنها عضو ذهب نفعه. فهو كاليد الشلاء. وخامسها: أن الأذن الصحيحة هل تؤخذ بالأذن الشلاء فيه وجهان: أحدهما: تؤخذ بها لأن نفعها لا يذهب بشللها لأن نفعها جمع الصوت وستر موضع السمع. فوجب أخذ كل واحد منهما بالأخرى. والثاني: لا تؤخذ بها كسائر الأعضاء. فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله في الاستثناء المذكور أن الاستثناء إنما هو في شيئين: أحدهما: أن مارن الأشم الصحيح هل يؤخذ بمارن الأخشم والمخزوم والمستحشف أم لا؟ وثانيهما: أن أذن السميع الصحيحة هل تؤخذ بأذن الأصم الشلاء أم لا؟ قيل: الأمر كما ذكر. لكنه لم يرد ذلك. بل مراده أن مارن الأشم هل يؤخذ بمارن الأخشم أم لا؟ وأن المارن الصحيح هل يؤخذ بالمخزوم أم لا؟ وأن المارن الصحيح هل يؤخذ بالمستحشف أم لا؟ وأن أذن السميع هل تؤخذ بأذن الأصم أم لا؟ وأن الأذن الصحيحة هل تؤخذ بالأذن الشلاء أم لا؟ على ما ذكر في الشرح المذكور نصاً ودليلاً. وإنما دعاه الاختصار إلى أنْ جَمَعَ بين الصفات. وقد صرح المصنف رحمه الله وغيره بالمسائل المذكورة فيجب حمل كلام المصنف رحمه الله هنا على ذلك وإن لم تكن العبارة صريحة في ذلك. قال: (ويؤخذ المعيب من ذلك كله بالصحيح وبمثله إذا أمن من قطع الشلاء التلف. ولا يجب له مع القصاص أرش في أحد الوجهين، وفي الآخر له دية

الأصابع الناقصة. ولا شيء له من أجل الشلل، واختار أبو الخطاب أن له أرشه. وإن اختلفا في شلل العضو وصحته فأيهما يقبل قوله؟ فيه وجهان). أما كون المعيب من الشلاء والناقصة والعين القائمة واللسان الأخرس والذكر الأشل وذكر الخصي والعنين يؤخذ بالصحيح من ذلك؛ فلأنه دون حق المجني عليه. وأما كونه يؤخذ بمثله؛ فلأن المانع من القصاص عدم الاستواء وهو منتف هاهنا. وأما كون أمن التلف من قطع الشلاء شرطاً في قطعها بالصحيحة أو بمثلها؛ فلأن القصاص إذا لم يمكن إلا بالحيف سقط. فلأن يسقط إذا خيف منه التلف بطريق الأولى. فعلى هذا يُسأل أهل الخبرة فإن قالوا: إذا (¬1) قطعت الشلاء لم تفسد العروق ودخل الهواء إلى البدن فأفسده لم يجب القصاص لأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف، وإن قالوا: ذلك مأمون وجب القصاص لما تقدم. وأما كون من أخذ المعيب بالصحيح كمن أخذ الشلاء بالصحيحة وناقصة الأصابع بالكاملة: لا يجب له مع القصاص أرش في وجهٍ؛ فلأن المجني عليه فعل كما فعل به. فلم يجب له معه أرش؛ كما لو كانت اليد كاملة أو صحيحة. ولأن الذي صدر من الجاني فعل واحد، والفعل الواحد لا يوجب مالاً وقوداً. وأما كونه له دية الأصابع الناقصة في وجهٍ وهو قول القاضي وشيخه ولا شيء له من أجل الشلل؛ فلأن الجمال نَقَصَ بنقصان الأصابع. بخلاف الشلاء فإنها كاملة صورة وعليه مبنى القصاص؛ لأن المماثلة في المعاني لا تعتبر؛ لأنه كان يفضي إلى سقوط القصاص. وأما كونه له دية الأصابع وأرش الشلل في اختيار أبي الخطاب: أما دية الأصابع؛ فلما تقدم. وأما أرش الشلل؛ فلأن الأرش يجبر النقص فيكون مستوفياً

_ (¬1) في أ: إن.

مثل حقه. فلو لم يكن له ذلك لكان ممنوعاً من استيفاء مثل حقه، وذلك منتفٍ شرعاً. وأما كون المجني عليه والجاني إذا اختلفا في شلل العضو وصحته فأيهما يقبل قوله؟ فيه وجهان؛ فلأن النظر إلى أن الأصل سلامة العضو يقتضي قبول قول المجني عليه والنظر إلى أن الأصل براءة ذمة الجاني مما يدعى عليه يقتضي قبول قوله، ولذلك لو ادعي عليه بدين فأنكره كان القول قوله.

فصل [في قطع بعض عضو] قال المصنف رحمه الله: (وإن قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله. يُقَدّر بالأجزاء كالنصف والثلث والربع). أما كون ما ذكر يؤخذ مثله؛ فلأن ما جرى القصاص في جملته جرى في بعضه إذا أمكن. بل أولى لأن ما ذكر يؤمن من الاقتصاص في بعضه ما لا يؤمن في غيره. ولأن المماثلة ممكنة. أشبه قطع العضو من مفصل. وأما كون ذلك يقدر بالأجزاء كالنصف والثلث والربع؛ فلأن تقديره بالمساحة يفضي إلى أخذ جميع لسان الجاني أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه ببعض ذلك من المجني عليه؛ لأن المجني عليه قد يكون عظيم ذلك والجاني بالعكس. قال: (وإن كسر بعض سنه بُرد من سن الجاني مثله إذا أمن قلعها. ولا يقتص من السن حتى ييأس من عودها. فإن اختلفا في ذلك رجع إلى قول أهل الخبرة. فإن مات قبل اليأس من عودها فعليه ديتها ولا قصاص فيها. وإن اقتص من سن فعادت: غرم سن الجاني ثم إن عادت سن الجاني رد ما أخذ. وإن عادت سن المجني عليه قصيرة أو معيبة فعلى الجاني أرش نقصها). أما كون سن الجاني يُبرد منها مثل ما كسر من سن المجني عليه إذا أمن قلعها؛ فلأن القصاص في السن واجب لقوله تعالى: {والسنَّ بالسن} [المائدة: 45].

ولأن في الحديث: «أن الرُّبَيِّع بنت النضر كَسرتْ ثنية الجارية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتابَ اللهِ القصاص» (¬1). ولا يمكن أخذ ذلك بالكسر؛ لأنه لا يؤمن به الزيادة. ولأنه لا يؤمن معه أن ينصدع السن أو يتقدم أو ينكسر من غير موضع القصاص. فتعين البرد؛ لكونه طريقاً ليس غيره يقوم مقامه. وأما كون أمن القلع شرطاً في البرد المذكور؛ فلأن توهم الزيادة يَمنع في الأعضاء كما لو قطعت يده من غير مفصل. فكذلك يجب أن يَمنع هاهنا. فإن قيل: القصاص جاز في الطرف مع توهم السراية إلى النفس. فلم يمنع هنا التوهم (¬2) السراية إلى بعض العضو؟ قيل: توهم السراية إلى النفس لا سبيل إلى التحرز منه. فلو اعتبر في المنع لسقط القصاص في الطرف بالكلية. أما السراية إلى بعض العضو فتارة يمنع القصاص فيها احتمال الزيادة في الفعل لا في الزيادة. وأما كون السن لا يقتص منها حتى ييأس من عودها؛ فلأن القصاص يدرأ بالشبهات (¬3). فإذا كانت السن غير مأيوس من عودها كان ذلك شبهة. فوجب درأ القصاص بذلك. وأما كون ذلك يرجع فيه إلى قول أهل الخبرة عند الاختلاف؛ فلأن قولهم يغلب على الظن حصول ما يقولونه. وأما كون الجاني عليه الدية إذا مات المجني عليه قبل اليأس من عودها؛ فلأن العود مشكوك فيه والقلع متحقق والقصاص سقط للشبهة فرجع إلى الدية. وأما كونها لا قصاص فيها؛ فلأن شرطه اليأس من عودها ولم يوجد. وأما كون سن الجاني يغرمها المجني عليه إذا (¬4) اقتص منها ثم عادت؛ فلأنا تبينا بعودها عدم وجوب القصاص، وذلك يقتضي وجوب دية السن لأن القصاص منتفٍ لوجهين: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 71 (¬2) في د: فلم منع منه هنا لتوهم. (¬3) في د: بالشبهة. (¬4) في د: ثم.

أحدهما: أنه ليس للمقتص مثل السن التي قلعها لكونه جنى عليها أولاً. وثانيهما: أنه معذور في الاستيفاء، وذلك شبهة تُسقط القصاص. وأما كون الجاني يرد ما أخذ إذا عادت سنه؛ فلأنه بعودها تبين أنه لم يكن له عنده حق. أشبه من دفع شيئاً إلى شخص يظنه له عليه فظهر أنه لا شيء له عليه. وأما كون الجاني: عليه أرش نقص سن المجني عليه إذا عادت قصيرة أو معيبة؛ فلأن ذلك من جنايته. فوجب أرشه عليه.

فصل [في حكم الجراحات] قال المصنف رحمه الله: (النوع الثاني: الجروح. فيجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم؛ كالموضحة، وجرح العضد، والساعد، والفخذ، والساق، والقدم. ولا يجب في غير ذلك من الشجاج إلا أن يكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة فله أن يقتص موضحة ولا شيء له على قول أبي بكر. وقال ابن حامد: له ما بين دية موضحة ودية تلك الشجة فيأخذ في الهاشمة خمساً من الإبل وفي المنقلة عشراً). أما كون النوع الثاني من نوعي القود فيما دون النفس الجروح؛ فلما تقدم من أن ذلك تارة يكون في الأطراف وتارة يكون في الجروح. وأما كون القصاص في الجروح في الجملة يجب؛ فلما تقدم في أول الباب. وأما كون الموضع الذي يقتص فيه كل جرح ينتهي إلى عظم كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن ذلك هو الذي يمكن استيفاؤه من غير حَيْف ولا زيادة لانتهائه إلى عظم. أشبه قطع الكف من الكوع. وأما كون ذلك لا يجب في غير ما ذكر من الشجاج إذا لم يكن أعظم من الموضحة كما مثل المصنف رحمه الله من الهاشمة والمنقلة؛ فلأنه ليس له حد ينتهي إليه. فلا يمكن الاستيفاء من غير حيف، وذلك شرط في وجوب القصاص وقد تقدم. وأما كون المجني عليه له أن يقتص موضحة إذا كان الجرح أعظم منها كما تقدم تمثيله؛ فلأن ذلك دون حقه.

وأما كونه لا شيء له مع القصاص على قول أبي بكر؛ فلأنه فعلٌ واحد. فلا يجمع فيه بين القصاص ودية؛ كما لو أخذت الشلاء بالصحيحة، وكما في النفس (¬1)، وكما إذا قتل الكافر بالمسلم والعبد بالحر. وأما كونه له ما بين دية موضحة ودية تلك الشجة على قول ابن حامد؛ فلأن القصاص متعذر. فوجب أن ينتقل إلى البدل؛ كما لو قطع أصبعيه ولم يمكن الاستيفاء إلا من واحدة. وأما كونه على هذا يأخذ في الهاشمة خمساً من الإبل؛ فلأن الموضحة يجب فيها خمس والهاشمة عشر. فإذا اقتص موضحة بقي التفاوت بينهما خمساً. وأما كونه يأخذ في المنقلة عشراً؛ فلأن الواجب فيها خمسة عشر فالتفاوت بينهما عشر. فإن قيل: كم يأخذ على هذا في المأمومة؟ قيل: ثمانية وعشرين وثلث بعير؛ لأن الواجب فيها ثلث الدية فإذا ذهب منها دية موضحة بقي ذلك. قال: (ويعتبر قدر الجرح بالمساحة. فلو أوضح إنساناً في بعض رأسه مقدار ذلك البعض جميع رأس الشاج وزيادة كان له أن يوضحه في جميع رأسه، وفي الأرش للزائد وجهان). أما كون قدر الجرح يعتبر بالمساحة فليعلم حتى يقتص من الجاني بمثابته. وأما كون المجني عليه له أن يوضح رأس الجاني كله إذا كانت الموضحة أكثر من رأسه؛ فلأن ذلك القدرُ الذي جنى عليه. وأما كونه له الأرش للزائد في وجهٍ؛ فلأنه لم يحصل في مقابلته قصاص. وأما كونه لا شيء له في وجهٍ؛ فلأنها جناية واحدة فلا تجمع قوداً ومالاً. فإن قيل: لمَ لمْ يعتبر مقدار الموضحة بالأجزاء كالثلث والربع كما اعتبر ذلك فيما إذا قطع بعض اللسان والأذن أو ما أشبه ذلك؟ ¬

_ (¬1) في د: الأنفس.

قيل: الأصل أن يعتبر الكل بالمساحة لما فيه من المماثلة، وإنما ترك ذلك في قطع بعض اللسان ... إلى آخره؛ لأنه يفضي إلى أخذ الكل بالبعض كما تقدم ذكره والكل ليس كالبعض، وذلك مفقود هاهنا؛ لأن إيضاح جميع الرأس كإيضاح بعضه في وجوب خمس من الإبل فيهما وإذا كان كذلك وجب بقاؤه على اعتبار المساحة التي هي الأصل عملاً به مع سلامته عن منافيه.

فصل [إن اشترك جماعة في جرح] قال المصنف رحمه الله: (وإن اشترك الجماعة في قطع طرف أو جرح موجب للقصاص وتساوت أفعالهم؛ مثل أن يضعوا الحديدة على يده أو يتحاملوا عليها جميعاً حتى تَبين فعلى جميعهم القصاص في إحدى الروايتين. وإن تفرقت أفعالهم أو قطع كل إنسان من جانب فلا قصاص رواية واحدة). أما كون الجماعة إذا اشتركوا فيما ذُكر عليهم القصاص إذا تساوت أفعالهم على الوجه الذي ذكره المصنف رحمه الله في إحدى الروايتين؛ فلما روي «أن شاهدين شهدا عند علي على رجلٍ بالسرقةِ. فقطع يدَه. ثم جاءَا بآخر. فقالا: هذا هوَ السارق وأخطأنا في الأول، فردّ شهادتَهُما على الثاني، وغرّمهما ديةَ يد الأول. وقال: لو عَلمتُ أنكُما تَعمَّدتُما ذلك لقطعتُكُما» (¬1). ولأن ذلك أحد نوعي القصاص. أشبه قتل الجماعة بالواحد. وأما كونهم لا قصاص عليهم في روايةٍ؛ فلأن الأطراف يعتبر التساوي فيها. بدليل أنه لا تؤخذ يد صحيحة بشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصتها ولا الأصلية بالزائدة ولا اليمنى باليسرى ولا تساوي بين الأطراف والطرف. فوجب امتناع القصاص بينهما. والأولى أصح لما تقدم. وأما نفي التساوي بين الأطراف والطرف فممنوع لأن نفي التساوي إن كان من حيث كونه طرفاً فباطل بوجوب القصاص بين الطرفين، وإن كان من حيث الجمع فباطل بقتل الأنفس بالنفس. ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 6: 2527 كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 41 كتاب الجنايات، باب الاثنين أو أكثر يقطعان يد رجلٍ معا. وأخرجه الدارقطني في سننه (294) 3: 182 كتاب الحدود والديات.

وأما كونهم لا قصاص عليهم رواية واحدة إذا تفرقت أفعالهم أو قطع كل إنسان من جانب؛ فلأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك في قطع جميعها. فلم يجب قطع يده في مقابلتها. وأما كونهم عليهم القصاص إذا اشتركوا في جرح موجب للقصاص (¬1) في روايةٍ ولا قصاص عليهم في روايةٍ كما لو (¬2) اشتركوا في قطع اليد؛ فلأنهما يتساويان معنى. فوجب أن يتساويا حكماً. قال: (وسراية الجناية مضمونة بالقصاص والدية. فلو قطع إصبعاً فتأكلت أخرى إلى جانبها وسقطت من مفصل، أو تأكلت اليد وسقطت من الكوع: وجب القصاص في ذلك. وإن شل ففيه ديته دون القصاص). أما كون سراية الجناية مضمونة؛ فلأنها أثر الجناية، والجناية مضمونة فكذلك أثرها. وأما كون السراية مضمونة بالقصاص والدية فهو مبني على أن موجب العمد أحد أمرين، وقد تقدم بيانه ودليله في موضعه (¬3). وأما كون القصاص يجب في الإصبع إذا تأكلت وسقطت من مفصل بقطع التي إلى جانبها، أو تأكلت اليد وسقطت من الكوع بقطع بالإصبع؛ فلأن الإصبع واليد تلفتا بالسراية وهي مضمونة كما تقدم. وأما كونه لا يجب إذا سقطتا من غير مفصل؛ فلأنهما لو قطعتا من غير مفصل لم يجب القصاص. فلأن لا يجب القصاص فيهما بالسراية بطريق الأولى. وأما كون ذلك إذا شل فيه ديته (¬4) دون القصاص؛ فلأن الشلل المذكور حصل بالسراية، وحكمها حكم المباشرة، ولو باشر الشلل المذكور وجبت ديته دون القصاص. فكذلك إذا سرى إليه. ¬

_ (¬1) في أ: فوجب القصاص. (¬2) في د: إذا. (¬3) ص: 63. (¬4) في د: دية.

قال: (وسراية القود غير مضمونة فلو قطع اليد قصاصاً فسرى إلى النفس فلا شيء على القاطع). أما كون سراية القود غير مضمونة؛ فلما روي أن عمر وعليًا رضي الله عنهما قالا: «لا ديةَ له. الحقُ قتلَه». رواه سعيد بمعناه. ولأن القصاص قطعٌ مستحق مقدر. فلا تضمن سرايته؛ كقطع السارق. وأما كون قطع يد الجاني قصاصاً إذا سرى القطع إلى نفس الجاني فلا شيء عليه؛ فلأن موته بسبب سراية القطع بطريق القصاص، وهي غير مضمونة؛ لما ذكر. قال: (ولا يقتص من الطرف إلا بعد برئه. فإن (¬1) اقتص قبل ذلك بطل حقه من سراية جرحه. فلو سرى إلى نفسه كان هدراً. وإن سرى القصاص إلى نفس الجاني كان هدراً أيضاً). أما كون الطرف لا يقتص منه إلا بعد برئه؛ فلما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهَى أن يُستقادَ من الجرحِ حتى يبرَأ المجروح» (¬2)؛ لأن الجرح لا يدرى أقتل هو أم ليس بقتل؟ فيجب أن ينتظر ليعلم ما حكمه. وأما كون حق المجني عليه من سراية جرحه يبطل إذا اقتص قبل برئه؛ فلأن جابراً روى «أن رجلاً طعنَ رجلاً بقرنٍ في ركبته. فقال: يا رسول الله! أقدْ لي. فقال: حتى يبرأ. فأتى وعجّل. فاستقادَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعيبَت رجْل المستَقيد وبرأَت رجْل المستقَاد منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليسَ لكَ شيءٌ إنك عجّلت» (¬3). رواه سعيد مرسلاً. ولأن المجني عليه استعجل ما لم يكن له استعجاله. فبطل حقه؛ كقاتل موروثه. ¬

_ (¬1) في أ: فإذا. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (25) 3: 88 كتاب الحدود. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (27) 3: 89 كتاب الحدود.

وأما كون سراية الجرح إلى نفس المجني عليه هدراً إذا اقتص [على المجني] (¬1) من الجاني قبل برء جرحه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتقدم: «ليس لك شيء» (¬2). ولأن حقه بطل باستعجاله، ومع بطلانه يتعين كون السراية إلى نفسه هدراً. وأما كون سراية القصاص المذكور إلى نفس الجاني هدراً أيضاً؛ فلأنه سراية قصاص، وقد تقدم أنها غير مضمونة. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق.

كتاب الديات

كتاب الديات الديات جمع دية. والهاء في دية عوض من الواو. تقول: وَدَيْتُ القتيل أدِيهِ دية. ونحوه العِدَة في قولك: وَعَدَهُ يَعِدُهُ عِدَةً. والأصل في وجوب الدية في الجملة الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {ومن قَتل مؤمنًا خطئا فتحريرُ رقبةٍ مؤمنة وديةٌ مسلمة إلى أهله إلا أن يصّدقوا} [النساء: 92]. وأما السنة؛ فقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم: «وأن في النفسِ المؤمنة مائة من الإبل» (¬1). وفي الباب غير ذلك يأتي ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى. وأما الإجماع فأجمع أهل الإسلام على وجوب الدية في الجملة. قال المصنف رحمه الله: (كل من أتلف إنساناً أو جزءاً منه بمباشرة أو سبب فعليه ديته. فإن كان عمداً محضاً فهي في مال الجاني حالّة، وإن كان شبه عمد أو خطأ أو ما أجري مجراه فعلى عاقلته). أما كون كل من أتلف إنساناً بمباشرة عليه ديته؛ فلما تقدم من الآية والخبر. وأما كون من أتلف جزءاً منه بمباشرة عليه ديته؛ فلأنه أتلفه بمباشرة فوجبت فيه ديته؛ كما تجب دية النفس إذا تلفت بالمباشرة. وأما كون من أتلف ذلك بسبب عليه ديته؛ فلأن السبب مؤد إلى تلفه. أشبه المباشرة. ولأن السبب لو لم يترتب عليه وجوب الدية لاتخذه الناس وسيلة إلى الإتلاف، وفيه ضرر عظيم. فينتفي بقوله عليه السلام: «لا ضَرَرَ ولا إضرَار» (¬2). وأما كون الدية فيما ذكر إذا كان الإتلاف عمداً محضاً في مال الجاني؛ فلأن القياس يقتضي وجوب الضمان على المتلِف؛ لأن التلف أثر فعله. فيجب أن ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 100 كتاب الديات، باب دية أهل الذمة. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (85) 4: 228 كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك.

يختص به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يجني جان إلا على نفسه» (¬1). تُرك العمل به في غير العمد المحض لأمر يختص به يأتي بيانه إن شاء الله تعالى فيبقى في العمد المحض على مقتضاه. وأما كون الدية حالّة؛ فلأنها موجب عمد محض. فوجب كونها حالّة؛ كالقصاص. وأما كون الدية فيما ذكر إذا كان الإتلاف شبه عمد على العاقلة؛ فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «اقتتلتِ امرأتان من هُذيل فرمتْ إحداهُما الأخرى بحجرٍ فقتلتْها وما في بطنِها. فقضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بديةِ المرأةِ على عاقِلَتِها» (¬2). متفق عليه. ولأن شبه العمد نوعُ قتل لا يوجب قصاصاً. فأوجب الدية على العاقلة؛ كالخطأ. وأما كون الدية فيما ذكر إذا كان خطأً على العاقلة؛ فلأنه قد ثبت في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة» (¬3). قال ابن المنذر: أجمع على هذا -يعني على تحمل العاقلة دية الخطأ- كل من نحفظ عنه من أهل العلم. ولأن في إيجاب دية شبه العمد عليها تنبيهاً على إيجاب دية الخطأ عليها (¬4). فإن قيل: ما المعنى في تحمل العاقلة ذلك؟ قيل: لأن جنايات الخطأ تكثر ودية الآدمي كبيرة فإيجابها على الجاني في ماله تجحف به. فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفاً عنه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (2159) 4: 461 كتاب الفتن، باب ما جاء في دماؤكم وأموالكم عليكم حرام. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3055) 2: 1015 كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) تقدم حديث أبي هريرة: «وقضى بدية المرأةِ على عاقِلتها» ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬4) في أ: عليهما.

وأما كونها فيما أجري مجرى الخطأ على العاقلة؛ فلأن ما أجري مجرى الشيء يعطى حكمه والخطأ على العاقلة. فكذلك (¬1) ما أُجري مجراه. قال: (ولو ألقى على إنسان أفعى، أو ألقاه عليها فقتلته، أو طلب إنساناً بسيف مجرد فهرب منه فوقع في شيء تلف به. بصيراً كان أو ضريراً، أو حفر بئراً في فنائه، أو وضع حجراً، أو صب ماء في طريق، أو بالت فيها دابته ويده عليها، أو رمى قشر بطيخ عليها فتلف به إنسان (¬2): وجبت عليه ديته). أما كون من ألقى على إنسان أفعى أو ألقاه عليها فقتلته تجب عليه ديته؛ فلأنه عمد إلى قتله بما لا يقتل غالباً. فوجب عليه ديته؛ كما لو غرزه بإبرة فمات. وأما كون من طلبه بسيف مجرد -أي مشهور- فهرب منه فوقع في شيء فتلف تجب عليه ديته؛ فلأنه هلك بسبب عدوانه. فوجب أن يضمنه؛ كما لو حفر له بئراً أو نصب له سكيناً أو سم طعامه ووضعه في منزله. وأما كون ذلك كذلك بصيراً كان المتلف أو ضريراً؛ فلاستوائهما في السبب المهلك. وأما كون من حفر بئراً في فنائه فتلفَ به إنسان تجب عليه ديته؛ فلأن ذلك مروي عن علي. وقضى به شريح. ولأنه تلف بعدوانه. أشبه ما لو تلف بجنايته. وقول المصنف رحمه الله: [في فنائه] (¬3)؛ مشعر بأن الضمان لا يجب إذا حفرها في ملكه. وهو صحيح لأنه إذا حفرها في ملكه لا يعد متعدياً. وأما كون من فعل ذلك في الصور الباقية فتلف به إنسان تجب عليه ديته؛ فلأن التلف بسبب وضع الحجر وصب الماء وبول الدابة التي عليها يده ورمي القشر وكل ذلك منسوب إلى فاعله. فوجب الدية عليه؛ كالمتسبب إلى القتل بغير ذلك. ¬

_ (¬1) في أ: وكذلك. (¬2) في أ: فيها فتلف به إنساناً. (¬3) ساقط من د.

قال: (وإن حفر بئراً ووضع آخر حجراً فعثر به إنسان فوقع في البئر فالضمان على واضع الحجر). أما كون الضمان على واضع الحجر؛ فلأن الحجر كالدافع، وإذا اجتمع الدافع والحافر فالضمان على الدافع وحده. وأما كون الحافر لا ضمان عليه؛ فلأن المباشر قطع تسببه. قال: (وإن غصب صغيراً فنهشته حية أو أصابته (¬1) صاعقة ففيه الدية. وإن مات بمرض فعلى وجهين). أما كون الدية فيما إذا غصب صغيراً فنهشته حية أو أصابته صاعقة على غاصبه؛ فلأن فعل (¬2) غاصبه جاز أن يكون له أثر في تلفه بذلك. فكان ضمانه على غاصبه؛ كما لو غصب مالاً فتلف بسبب غصبه. وأما كونها فيما إذا غصبه (¬3) فمات بمرض على غاصبه على وجه؛ فلأنه تلف في يده. أشبه ما لو أصابته صاعقة عنده. وأما كونها ليست في ذلك عليه على وجه؛ فلأنه لا أثر للغاصب في ذلك. أشبه ما لو كان كبيراً. قال: (وإن اصطدم نفسان (¬4) فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر. وإن كانا راكبين فماتت الدابتان فعلى كل واحد منهما قيمة دابة الآخر. وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفاً فعلى السائر ضمان الواقف ودابته؛ إلا أن يكون في طريق ضيّق قاعداً أو واقفاً فلا ضمان فيه وعليه ضمان ما تلف به). أما كون عاقلة كل واحد من النفسين المتصادمين عليها (¬5) دية الآخر إذا ماتا أي بذلك؛ فلأن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه، وذلك قتل خطأ. ¬

_ (¬1) في أ: وأصابته. (¬2) ساقط من د. (¬3) في أ: غصب. (¬4) في أ: اثنان. (¬5) في أ: عليهما.

فكانت دية كل واحد منهما على عاقلة الآخر؛ لما تقدم من أن العاقلة تحمل قتل الخطأ. وأما كون كل واحد من الراكبين السائرين عليه قيمة دابة الآخر إذا ماتتا أي بذلك؛ فلأن تلف دابة كل واحد منهما حصل بصدمة الآخر. فوجب ضمان الدابة على متلفها؛ كما لو أتلفها بغير المصادمة. وأما كون السائر على عاقلته ضمان الواقف وعليه ضمان دابته إذا كان أحدهما يسير والآخر واقفاً ولم يكن في طريق ضيق؛ فلأنهما تلفا بصدمة السائر من غير تعد في الوقوف، وضمان النفس على العاقلة لأنه قتل خطأ وضمان المال على المتلف لأن العاقلة لا تحمل ذلك. فإن قيل: كلام المصنف يقتضي أن يكون ضمان الكل على السائر فإنه قال: فعلى (¬1) السائر ضمان الواقف ودابته. قيل: ليس الحكم كذلك صرح به صاحب النهاية وغيره. وظاهر كلام المصنف رحمه الله أن دم السائر هدر لأنه لم يوجبه على أحد بل جعل ضمان الواقف عليه لتعد به. وهو صحيح صرح به صاحب النهاية فيها وغيره. وأما كون القاعد أو الواقف في الطريق الضيق لا ضمان فيه؛ فلأن السائر لم يتعد عليه بل القاعد أو الواقف (¬2) هو المتعدي عليه، ولذلك يجب عليه ضمان ما أتلف من السائر وماله. لكن يكون ضمان النفس على عاقلة القاعد أو الواقف، وضمان المال على المتلف لما تقدم. ولا بد أن يلحظ أن الطريق الضيق غير مملوك للواقف أو القاعد لأنه إذا كان مملوكاً له (¬3) لم يكن متعدياً بوقوفه بل السائر هو المتعدي لسلوكه ملك غيره بغير إذنه. ¬

_ (¬1) في أ: فإن قال وعلى. (¬2) في أ: القاعد. (¬3) ساقط من أ.

قال: (وإن أركب (¬1) صبيين لا ولاية له عليهما فاصطدما فماتا فعلى عاقلته ديتهما). أما كون دية الصبيين المذكورين على عاقلة من أركبهما؛ فلأن من أركبهما تعدى بإركابه من لا ولاية له عليه وتصادمهما وركوبهما وهما مما لا يعتبر فعلهما. فوجب إضافة القتل إلى من أركبهما وهو خطأ فلزم كون ديتهما على عاقلة من أركبهما؛ كما لو قتل خطأ. وأما كون ما ذكر يشترط فيه أن يكون الراكبان صبيين، وأن يكون من (¬2) أركبهما لا ولاية له عليهما؛ فلأنه لو أركب صبيين له عليهما ولاية لم يضمنهما هو ولا عاقلته لأنه إركاب مأذون فيه. فلم يترتب عليه ما يترتب على المتعدي. قال: (وإن رمى ثلاثة بمنجنيق فقتل الحجر إنساناً فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث ديته. وإن قتل أحدهم ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يُلغى فعل نفسه وعلى عاقلة صاحبيه ثلثا الدية. والثاني: عليهما كمال الدية. والثالث: على عاقلته ثلث الدية لورثته وثلثاها على عاقلة الآخرين. وإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالّة في أموالهم). أما كون ثلث دية الإنسان المقتول بالحجر على عاقلة كل واحد ممن ذكر؛ فلأن قتله حصل بفعل الثلاثة. فوجب تثليث الدية على العاقلة. وأما كون أحدهم إذا قتله الحجر يلغي فعل نفسه في وجهٍ فقياس على المتصادمين وقد تقدم ذكره. فعلى هذا يجب كمال الدية على عاقلة صاحبيه. صرح بذلك المصنف رحمه الله في المغني ولم يرتب المصنف رحمه الله على إلغاء فعل نفسه كمال الدية بل رتب عليه وجوب ثلثي الدية على عاقلة صاحبيه. [ولا أعلم له وجهاً بل وجه إيجاب ¬

_ (¬1) في أ: ركب. (¬2) في د: ممن.

ثلثي الدية على عاقلة صاحبيه] (¬1) أن يجعل ما قابل فعل المقتول ساقطاً لا يضمنه أحد لأنه شارك في إتلاف نفسه. فلم يضمن ما قابل فعله؛ كما لو شارك في قتل بهيمته أو عبده. وهذا صرح به المصنف رحمه الله في المغني ونسبه إلى القاضي. وأما كون كمال الدية على عاقلة صاحبيه في وجهٍ؛ فلما مر. وأما كون ثلث دية المقتول على عاقلته لورثته، وثلثيها على عاقلة الآخرين في وجهٍ: أما الأول فمبني على أن من قتل نفسه خطأ تجب الدية على عاقلته لورثته. وأما الثاني؛ فلأن العاقلة إذا تحملت ثلث الدية بقي ثلثاها على عاقلة الآخرين. فإن قيل: ما الصحيح من الوجوه الثلاثة؟ قيل: قال أبو الخطاب: قياس المذهب الأول. وقال المصنف رحمه الله في المغني: ما ذكر القاضي أحسن وأصح وقد روي عن علي نحوه في مسألة القارصة والقامصة والواقصة. قال الشعبي: «وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فارين فركبت إحداهن على عنق الأخرى. وقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت عنقها فماتت. فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقضى بالدية أثلاثًا على عواقلهن» (¬2). وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة؛ لأنها أعانت على قتل نفسها وهذه شبيهة بمسألتنا. ولأن المقتول مشارك في القتل. فلم تكمل الدية على شريكيه؛ كما لو قتلوا واحداً من غيرهم. هذا كله نص المصنف رحمه الله في المغني. وأما كون الدية حالّة في أموالهم إذا كانوا أكثر من ثلاثة: أما كونها حالّة؛ فلأنها متى وجبت على القاتل كانت حالّة لما تقدم في باب العفو عن القصاص (¬3). وأما كونها في أموالهم؛ فلأن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث لما يأتي (¬4) إن شاء الله تعالى (¬5). ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (2) ر. الشرح الكبير 494: 9. (3) ص: 97. (¬4) ص: 187. (¬5) زيادة من أ.

واعلم أن الدية على الرماة صحيح على الوجه الثاني والثالث: أما على الوجه الأول الذي قررته قبل فلا؛ لأن الرمي لو كان من أربعة وجعل فعل المقتول هدراً بقيت الدية على الثلاثة الباقية وكان على عاقلة كل واحد ثلث الدية فلا يلزم أن تحمل العاقلة ما دون الثلث. قال: (وإن جنى إنسان على نفسه أو طرفه خطأ فلا دية له. وعنه: على عاقلته ديته لورثته ودية طرفه لنفسه). أما كون جناية الإنسان على نفسه أو طرفه خطأ لا دية له بها على المذهب؛ فـ «لأن عامر بن الأكوع بارزَ مرحباً يوم خيبر فرجعَ سيفه على نفسه فمات» (¬1). ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بدية ولا غيرها، ولو وجب لبينه صلى الله عليه وسلم. ولأنه جنى على نفسه. فلم يضمنه لغيره؛ كالعمد. ولأن وجوب الدية على العاقلة إنما كان مواساة للجاني وتخفيفاً عنه وليس على الجاني هنا شيء يحتاج فيه إلى الإعانة والمواساة. فلا وجه للإيجاب. وأما كون دية جنايته على عاقلته على روايةٍ؛ فلما روي «أن رجلاً ساقَ حماراً ضربه بعصاً كانت معه. فطارت منها شظية فأصابت عينه ففقأتها. فجعل عمر رضي الله عنه ديته على عاقلته. وقال: هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد». ولم يعرف له مخالف في عصره. ولأنها جناية خطأ. فكان عقلها على العاقلة؛ كما لو قتل غيره. فعلى هذه الرواية إن كانت الجناية قتلاً نظرت فإن كانت العاقلة غير الورثة وجبت دية النفس عليهم لورثة الجاني، وإن كانوا هم الورثة فلا شيء عليهم لأنه لا يجب على الإنسان شيء لنفسه وإن كانت الجناية على غير النفس وجبت الدية على العاقلة للجاني. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1802) 3: 1429 كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر. ولفظه أن سلمة بن الأكوع قال: «لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا شديداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتدّ عليه سيفه فقتله ... ».

فإن قيل: ما الصحيح من ذلك؟ قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الرواية الأولى أصح. وصرح به في المغني لأن عدم إيجاب النبي صلى الله عليه وسلم على عاقلة ابن الأكوع شيئاً يدل عليه لا سيما وقد اعتضد بأن العلة المقتضية للإيجاب على العاقلة منتفية. وقال القاضي: أظهرهما -يعني أظهر الروايتين- الوجوب على العاقلة لقضاء عمر لا سيما ولم يعرف له مخالف (¬1) فيكون إجماعاً. قال: (وإن نزل رجل بئراً فخر عليه آخر فمات الأول من سقطته فعلى عاقلته ديته. وإن سقط ثالث فمات الثاني به فعلى عاقلته ديته. وإن مات الأول من سقطتهما فديته على عاقلتهما). أما كون دية الأول على عاقلة الثاني؛ فلأن الأول مات من سقوط الثاني فيكون هو قاتله. فوجبت الدية على عاقلته؛ كما لو باشره بالقتل خطأ. وأما كون دية الثاني على عاقلة الثالث؛ فلأن فعل الثالث بالثاني كفعل الثاني بالأول، وقد وجبت دية الأول على عاقلة الثاني فكذا تجب دية الثاني على عاقلة الثالث. وأما كون دية الأول على عاقلتي الثاني والثالث إذا مات من سقطتهما؛ فلأن موت الأول حصل بفعلهما القاتل خطأ. فوجب توزيع ديته على عاقلتهما. قال: (فإن كان الأول جذب الثاني وجذب الثاني الثالث فلا شيء على الثالث وديته على الثاني في أحد الوجهين، وفي الثاني على الأول والثاني نصفين ودية الثاني على الأول). أما كون الثالث لا شيء عليه؛ فلأن وقوعه حصل بجذب الثاني فلا أثر له في قتل أحد. وأما كون ديته على الثاني في وجهٍ؛ فلأنه جذبه وباشره، والمباشرة تقطع حكم السبب؛ كالحافر مع الدافع. ¬

_ (¬1) في أ: مخالفاً.

وأما كونها على الأول والثاني نصفين في وجهٍ؛ فلأن الأول جذب الثاني الجاذب للثالث فصار مشاركاً للثاني في إتلاف الثالث. وأما كون دية الثاني على الأول؛ فلأنه جذبه من غير مشارك له في ذلك. فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الدية على من ذكر لا على عاقلتهم، وصرح في المغني أن دية الثالث على عاقلة الثاني أو على عاقلته وعاقلة الأول نصفين وأن دية الثاني على عاقلة الأول. قيل: قال صاحب النهاية فيها بعد ذكره المسألة: هذا عمد خطأ. وهل يجب في مال الجاني أو على العاقلة؟ فيه خلاف بين الأصحاب. فلعل المصنف رحمه الله ذكر أحد الوجهين هنا والآخر في المغني. قال: (وإن كان الأول هلك من وقعة الثالث احتمل أن يكون ضمانه على الثاني، واحتمل أن يكون نصفها على الثاني وفي نصفها الآخر وجهان). أما كون ضمان الأول المذكور يحتمل أن يكون على الثاني؛ فلأن هلاكه حصل بجذبه وجذب الثاني وفعله ملغى كالمتصادمين فتعين إضافة التلف إلى الثاني. وأما كون نصف الدية يحتمل أن تكون على الثاني؛ فلأن الهلاك حصل بفعله وفعل غيره. وأما كون نصف الدية فيه وجهان؛ فلأنه متسبب عن (¬1) جنايته على نفسه وقد تقدم في جناية الإنسان على نفسه الروايتان المتقدم ذكرهما في موضعه. قال: (وإن خر رجل في زبية أسد فجذب آخر وجذب الثاني ثالثاً وجذب الثالث رابعاً فقتلهم الأسد: فالقياس أن دم الأول هدر وعلى عاقلته دية الثاني وعلى عاقلة الثاني دية الثالث وعلى عاقلة الثالث دية الرابع. وفيه وجه آخر: أن دية الثالث على عاقلة الأول والثاني نصفين ودية الرابع على عاقلة الثلاثة أثلاثاً. وروي عن علي أنه قضى للأول بربع الدية وللثاني بثلثها وللثالث بنصفها

_ (¬1) في أ: على.

وللرابع بكمالها على من حضرهم ثم رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز قضاءه فذهب الإمام أحمد إليه توقيفاً). أما كون القياس أن دم الأول هدر وأن دية الثاني على عاقلة الأول ودية الثالث على عاقلة الثاني ودية الرابع على عاقلة الثالث؛ فلأن الأول تلف بسبب جذبه غيره. أشبه ما لو قتل نفسه، والثالث تلف بسبب جذب الثاني فتكون ديته على عاقلته، والرابع تلف بسبب جذب الثالث فتكون ديته على عاقلته. وأما كون دية الثالث على عاقلة الثاني والأول نصفين على الوجه الآخر؛ فلأن جذبهما سبب لهلاكه. فوجب كون ديته على عاقلتهما نصفين؛ كما لو قتلاه خطأ. وأما كون دية الرابع على عاقلة الثلاثة أثلاثاً؛ فلأن جذب الثلاثة سبب لتلافه، وذلك يقتضي كون الدية (¬1) بين العاقلة أثلاثاً. وأما كون الإمام أحمد ذهب إلى ما روي عن علي رضي الله عنه توقيفاً؛ فلأنه صحابي لا سيما وقد اعتضد بما روي من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته قضاءه. فإن قيل: كيف روي عن علي رضي الله عنه؟ قيل: روى حنش الصنعاني «أن قوماً من أهل اليمن حفروا زُبْية للأسد. فاجتمعَ الناسُ على رأسها. فهوى فيها واحدٌ، فجذبَ ثانياً، فجذبَ الثاني ثالثاً، ثم جذبَ الثالثُ رابعاً، فقتلهم الأسد. فرُفعَ ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال: للأول ربعُ الدية؛ لأنه هلكَ فوقه ثلاثة، وللثاني ثلثُ الدية؛ لأنه هلكَ فوقه اثنان، وللثالث نصفُ الدية؛ لأنه هلكَ فوقه واحد، وللرابع كمالُ الدية. وقال: فإني أجعلُ الديةَ على من حضرَ رأس البئر. فرُفعَ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هو كما قال» (¬2). رواه سعيد بن منصور. ¬

_ (¬1) في أ: ديته. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (573) 1: 77. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 111 كتاب الديات، باب ما ورد في البئر جبار والمعدن جبار.

قال: (ومن اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه وليس به مثل ضرورته فمنعه حتى مات ضمنه نص عليه. وخرّج عليه أبو الخطاب كل من أمكنه إنجاء إنسان من هلكة فلم يفعل. وليس ذلك مثله). أما كون من اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه وليس بمالكه مثل ضرورته فمنعه منه حتى مات يضمنه على المنصوص؛ فلأن عمرَ رضي الله عنه قضى بذلك. ولأنه إذا اضطر إليه صار المضطر أحق من مالكه وله (¬1) أخذه منه قهراً. فإذا منعه منه فقد تسبب إلى هلاكه بمنعه ما يستحقه. فلزمه ضمانه؛ كما لو أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك. وكلام المصنف رحمه الله مشعر بأشياء: أحدها: أن الضمان يجب على المانع؛ لأنه أضاف الضمان إليه. وهو ظاهر كلام الإمام أحمد ذكره المصنف رحمه الله في المغني وعلله بأنه تعمد الفعل الذي يقتل مثله غالباً. وقال القاضي: هو على عاقلته؛ لأنه قتلٌ لا يوجب القصاص فيكون شبهَ العمد. وثانيها: أن يطلب المضطر ذلك من مالكه لأن قوله: فمنعه يدل عليه. فإن لم يطلبه من مالكه فمات لم يضمنه؛ لأنه لم يمنعه ولم يوجد منه فعل تسبب به إلى هلاكه. وثالثها: أن لا يكون بمالكه مثل ضرورته. فإن كان به مثل ضرورته فطلبه منه فمنعه فمات لم يضمنه؛ لأنه لا يجب عليه بذل طعامه في تلك الحال. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ابدَأ بنفسكَ ثم بمن تعُول» (¬2): تنبيهٌ على ذلك. ¬

_ (¬1) في أ: فله. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ الصدقةِ ما كان على ظهر غنى، وابدأ بمن تعول». (5041) 5: 2048 كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال.

وأما كون كل من قدر على إنجاء شخص من هَلَكة فلم يفعل حتى مات يخرج على ذلك على قول أبي الخطاب؛ فلاشتراكهما في القدرة على سلامته وخلاصه من الموت. وأما كون ذلك ليس مثله على اختيار المصنف رحمه الله؛ فلأن الهلاك هنا لم يكن بسبب منه. فلم يضمنه؛ كما لو لم يعلم حاله. والمعني بذلك: أن التخريج يقتضي المساواة ولا مساواة بينهما؛ لأنه في مسألة الطعام منعه منعاً كان سبباً في هلاكه. بخلاف مسألة القدرة على إنجائه؛ لأنه لم يفعل شيئاً هو سبب لهلاكه. قال: (ومن أفزع إنساناً فأحدث بغائط فعليه ثلث ديته. وعنه: لا شيء عليه). أما كون من أفزع إنساناً فأحدث بغائط عليه ثلث ديته على المذهب فلأنه يروى عن عثمان رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: لا أعرف شيئاً يدفعه. وأما كونه لا شيء عليه على روايةٍ؛ فلأن الدية إنما تجب لإتلاف منفعة أو عضو أو إزالة جَمَال، وليس هاهنا شيء من ذلك. والأول أصح لقضاء عثمان رضي الله عنه. لا سيما وذلك في مظنة الشهرة ولم ينقل خلافه فيكون إجماعاً، وأن قضاء الصحابي بما يخالف القياس يدل على أنه توقيف. وحكم من أفزع إنساناً فأحدث ببول أو ريح حكم من أفزع إنساناً فأحدث بغائط؛ لأنه يروى عن عثمان أيضاً ويدل عليه دليل الرواية الثانية. وحكم من ضرب إنساناً فأحدث بغائط أو بول أو ريح حكم من أفزعه فأحدث بما ذكر؛ لأنه يساويه معنى فكذا يجب أن يكون حكماً (¬1). ¬

_ (¬1) في د: فكذا يجب حكماً.

فصل [فيمن أدب ولده فتلف] قال المصنف رحمه الله: (ومن أدّب ولده، أو امرأته في النشوز، أو المعلم صبيه، أو السلطان رعيته ولم يسرف فأفضى إلى تلفه: لم يضمنه. ويتخرج وجوب الضمان على ما قاله فيما إذا أرسل السلطان إلى امرأة ليحضرها فأجهضت جنينها أو ماتت فعلى عاقلته الدية). أما كون من أدّب ولده، أو امرأته، أو المعلم صبيه، أو السلطان رعيته ولم يسرف فتلف: لم يضمنه على المذهب؛ فلأن كل واحد منهم فعل ما يُشرع له فعله. فلم يضمن ما تولد منه؛ كقطع يد السارق إذا سرى إلى نفسه. وأما كون وجوب الضمان يتخرج على (¬1) ما قاله الإمام أحمد فيما إذا أرسل السلطان إلى امرأة ليحضرها فأجهضت جنينها أو ماتت فعلى العاقلة الدية؛ فلأنه في معناه. وكلام المصنف رحمه الله متضمن بيان الحكم في المخرج عليه. والأصل في ضمان الجنين والأم: أما الجنين؛ فما روي «أن عمر رضي الله عنه بعث إلى امرأة مُغيّبةٍ كان يُدخل عليها. فقالت: يا ويلها! ما لها ولعمر. فبينا هي في الطريق إذ فزعت، فضربها الطلق، فألقت ولدًا، فصاح الصبي صيحتين ثم مات. فاستشار عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت والٍ ومؤدب. وصمتَ علي. فأقبل عليه عمر. وقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحُوا لك. إن ديَتَه عليك؛ لأنك أفزعتَها فألقتْه. فقال عمر: أقسمتُ عليكَ أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك» (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: إلى. (¬2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (18010) 9: 458 كتاب العقول، باب من أفزعه السلطان.

وأما الأم؛ فلأنها هلكت بإرسال السلطان إليها فضمنها كجنينها. أو يقال: نفس هلكت بسببه. فوجب أن يضمن؛ كما لو ضربها فماتت. قال: (وإن سلم ولده إلى السابح ليعلمه فغرق لم يضمنه. ويحتمل أن تضمنه العاقلة). أما كون السابح لا يضمن الولد بما ذكر على المذهب؛ فلأنه فَعَل ما جرت العادة به لمصلحته. فلم يَضمن ما تلف به؛ كما لو ضرب المعلم الصبي ضرباً معتاداً فتلف. وأما كونه يحتمل أن تضمنه العاقلة؛ فلأن الوالد سلم ولده إليه ليحتاط في حفظه فإذا غرق نسب إلى التفريط. فوجب أن تضمنه عاقلته؛ لأنه قتل خطأ. قال: (وإن أمر عاقلاً ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك بذلك لم يضمنه؛ إلا أن يكون الآمر السلطان فهل يضمنه؟ على وجهين. وإن وضع جرة على سطحه فرمتها الريح على إنسان فتلف لم يضمنه). أما كون الآمر (¬1) لمن ذكر لا يضمنه إذا لم يكن السلطان؛ فلأن الهالك هلك بفعل نفسه. فلم يضمنه الآمر؛ كما لو قال له: اقتل نفسك. وأما كون الآمر (¬2) لا يضمنه أيضاً إذا كان السلطان على وجه؛ فلذلك. وأما كونه يضمنه على وجه؛ فلأن من أمره السلطان لا يقدر على الامتناع فصار كالمكره على ذلك، والمكره يجب ضمان فعله على المكره. وأما كون من وضع جرة على سطحه فرمتها الريح على إنسان فتلف لا يضمنه؛ فلأن التلف لم يكن من فعل الواضع، والوضع (¬3) كان في ملكه. فلم يكن متعدياً. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: الآخر. (¬3) في أ: والواضع.

باب مقادير ديات النفس

باب مقادير ديات النفس قال المصنف رحمه الله: (دية الحر المسلم مائةٌ من الإبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألفُ مثقال، أو اثنا عشر ألف درهم. فهذه الخمس أصولٌ في الدية. إذا أَحضر من عليه الدية شيئاً منها لزم قبوله. وفي الحُلَل روايتان: إحداهما: ليست أصلاً في الدية، وفي الأخرى: أنها أصل وقدرها مائتا حلة من حلل اليمن كل حلة بردان. وعنه: أن الإبل هي الأصل خاصة وهذه أبدال عنها فإن قدر على الإبل وإلا انتقل إليها). أما كون الخمس المذكورة أصولاً في الدية؛ فلأن عمرو بن حزم روى في كتابه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبَ إلى أهل اليمن: وأن في النفسِ المؤمنةِ مائة من الإبل، وعلى أهل الورق ألف دينار» (¬1). رواه النسائي. وفي حديث ابن عباس «أن رجلاً من بني عدي قُتل. فجعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ديتَهُ اثني عشرَ ألفاً» (¬2). رواه أبو داود [وابن ماجة. وفي الحديث أن عمر قال: «على أهل الذهبِ ألفُ دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشرَ ألفاً، وعلى أهل البقرِ مائتا بقرة، وعلى أهل الشاةِ ألفَا شاة» (¬3). رواه أبو داود] (¬4). وأما كون الحلل ليست أصلاً في روايةٍ؛ فلأنها تختلف ولا تنضبط. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (4853) 8: 57 كتاب القسامة، ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول ... وأخرجه الدارمي في سننه (2351) 2: 132 كتاب الديات، باب القود بين الرجال والنساء. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4546) 4: 185 كتاب الديات، باب الدية كم هي؟ وأخرجه ابن ماجة في سننه (2632) 2: 879 كتاب الديات، باب دية الخطأ. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4542) 4: 184 كتاب الديات، باب الدية كم هي؟ (¬4) ساقط من أ.

وأما كونها أصلاً في روايةٍ؛ فلأن في حديث عمر: «وعلى أهلِ الحُلَلِ مائتا حُلَّة» (¬1). رواه أبو داود. فعلى هذا تكون السّتُ أصولاً. وأما كون قدرها مائتي حلة؛ فلما ذكر في الحديث المذكور. وأما كون الحلل من حلل اليمن؛ فلأنها تنسب إليه. وأما كون كل حلة بردين؛ فلأن ذلك هو المتعارف. وأما كون الإبل هي الأصل خاصة على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا! إن في قتيلِ العصَا والسوطِ مائةٌ من الإبل» (¬2). ولأنه (¬3) فرق بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها ولا يتحقق هذا في غير الإبل. فعلى هذه بقية ما ذكر أبدال عنها؛ لأن ذلك أقل ما تحمل الأحاديث عليه. وأما كون من (¬4) عليه الدية إذا أحضر شيئاً من الخمس المذكورة على الرواية الأولى يلزم مستحق الدية قبوله؛ فلأن من عليه الدية قد أحضر أصلاً فلزم قبوله كما لو أحضر الإبل. وعلى هذا إذا أحضر من عليه الدية إحدى الست المذكورة على روايةِ كون الحلل أصلاً يلزم مستحقها قبوله لما ذكر في الخمس. وأما كون من قدر على الإبل على روايةِ كونها هي الأصل خاصة تلزمه (¬5)؛ فلأن الحق متعين. فتعينت؛ كالمثل في المثليات. فعلى هذا إذا أحضر غيرها لم يلزم مستحقها قبوله؛ لأنه غير ما وجب له. وأما كون من لم يقدر على الإبل ينتقل إلى أحد الأبدال عنها؛ فلأنه بدل عنها. أشبه التيمم إذا عدم الماء. ¬

_ (¬1) ر تخريج الحديث السابق وهو تكملة له. (¬2) أخرجه النسائي في سننه (4793) 8: 41 كتاب القسامة، ذكر الاختلاف على خالد الحذاء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2627) 2: 877 كتاب الديات، باب دية شبه العمد مغلظة. (¬3) في أ: ولا. (¬4) ساقط من أ. (¬5) ساقط من د.

فإن قيل: ما الصحيح من هاتين الروايتين؟ قيل: هذه الرواية هي الصحيحة من حيث الدليل. وهي التي ذكرها الخرقي وإن كانت الأولى هي الصحيحة في المذهب. ذكره أبو الخطاب في هدايته، وذلك لأن الإبل هي المذكورة في كتاب عمرو بن حزم وهو كتاب ثابت مشهور وغيرها: منه ما لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم كالبقر والشياه والحلل، ومنه ما ذكره وهو الذهب والورق ولا يلزم من ذكره كونه أصلاً لجواز كونه بدلاً، ويعضد ذلك أن في حديث عمر أنه قام خطيباً فقال: «ألا إنَّ الإبلَ قد غَلَتْ فقوّم على أهل الذهبِ ... وذكره إلى آخره» (¬1)؛ لأنه يدل على أن ذلك كله بدل على الإبل. قال: (فإن كان القتل عمداً أو شبه عمد وجبت أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وعنه: أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. وهل يعتبر كونها ثنايا؟ على وجهين. وإن كان خطأ وجبت أخماساً: عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. ويؤخذ في البقر النصف مسنات والنصف أتبعة، وفي الغنم النصف ثنايا والنصف أجذعة. ولا تعتبر القيمة في شيء من ذلك بعد أن يكون سليماً من العيوب. وقال أبو الخطاب: يعتبر أن يكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهماً. فظاهر هذا أنه يعتبر في الأصول كلها أن تبلغ دية من الأثمان. والأول أولى). أما كون دية العمد وشبهه أرباعاً كما ذكر المصنف رحمه الله على الأول؛ فلما روي عن السائب بن يزيد (¬2) قال: «كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعاً: خمساً وعشرين جذعة، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين بنت مخاض». ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 112. (¬2) في د: زيد.

ولأن الدية حق يتعلق بجنس الحيوان. فلا يعتبر فيه الحمل؛ كالزكاة والأضحية. وأما كونها أثلاثاً على روايةٍ؛ فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «منْ قَتَلَ متعمداً دُفع إلى أولياءِ المقتول فإن شاؤا قتَلُوا وإن شاؤا أخذوا الدية. وهيَ: ثلاثونَ حقةً وثلاثونَ جذعةً وأربعونَ خَلِفَةً. وما صُولحوا عليه فهوَ لهم، وذلك لتشديدِ العَقْل» (¬1). رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وروى عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إنّ في قتلِ عمدِ الخطإِ قتيلَ السوطِ والعصا: مائةٌ من الإبل منها أربعون خَلِفَةً في بُطونِها أولادُها» (¬2). رواه الإمام أحمد وأبو داود. وأما كون الخلفات لا يعتبر كونها ثنايا وهن (¬3) ما لهن ست سنين على وجه؛ فلأن الشارع نص على الخلفة وهي موجودة بدون ذلك. وأما كونها يعتبر كونها ثنايا على وجه؛ فلأن في الحديث: «ما بينَ ثنيةٍ إلى بَازِل» (¬4). ولأن جميع الأنواع مقدرة بالسن فكذا الخلفات. وأما كون دية الخطأ أخماساً: عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة؛ فلما روى عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في ديةِ الخطإِ عشرونَ حِقَّة، وعِشرونَ جذعَةً، وعشرونَ بنتَ مخاضٍ، وعشرونَ بنتَ لبونٍ، وعشرونَ بني مخَاض» (¬5). رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1387) 4: 11 كتاب الديات، باب ما جاء في الدية كم هي من الإبل؟ (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4588) 4: 195 كتاب الديات، باب في دية الخطأ شبه العمد. وأخرجه أحمد في مسنده (6497) طبعة إحياء التراث. (¬3) في أ: وهي. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4550) 4: 186 كتاب الديات، باب في الخطأ شبه العمد. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (4545) 4: 184 كتاب الديات، باب الدية كم هي؟ وأخرجه النسائي في سننه (4802) 8: 43 كتاب القسامة، ذكر أسنان دية الخطأ. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2631) 2: 879 كتاب الديات، باب دية الخطأ.

وأما كون البقر يؤخذ فيها النصف مسنات والنصف أتبعة، والغنم النصف ثنايا والنصف أجذعة؛ فلأن (¬1) في أخذه تسوية وعدم جور لأنه لو أخذ الكل مسنات والكل ثنايا لكان ذلك تحاملاً على الجاني ولو أخذ الكل أتبعة والكل أجذعة لكان ذلك تحاملاً على المجني عليه. وأما كون القيمة لا تعتبر في شيء من ذلك بعد أن يكون سليماً من العيوب على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب من نفس المؤمن مائة من الإبل مطلقاً من غير اعتبار القيمة. فتقييده بالقيمة يخالف الإطلاق. فلم يجز إلا بدليل. وأما كون كل بعير يعتبر أن تكون قيمته (¬2) مائة وعشرين درهماً على قول أبي الخطاب؛ فـ «لأن عمر رضي الله عنه قوّم الإبل على أهل الإبل باثني عشر ألفاً» (¬3)، وذلك يدل على أن ذلك قيمتها. ولأن جميع أنواع الدية بدل على محل واحد. فوجب أن تتساوى في القيمة؛ كالمثل والقيمة في بدل القرض والمتلف في المتلفات. وأما كون ظاهر هذا -أي اعتبار كون قيمة (¬4) كل بعير مائة وعشرين- أنه يعتبر في الأصول كلها أن تبلغ دية من الأثمان وهو تخريجٌ من المصنف رحمه الله على ما ذكره أبو الخطاب؛ فلأنه إذا اعتبرت القيمة في الإبل وهي أصل رواية واحدة؛ فلأن تعتبر القيمة في غيرها من أنواع الدية بطريق الأولى. وأما كون الأول أولى. ومعناه: أن الأصح أنه لا تعتبر القيمة في الإبل ولا في غيرها؛ فلما تقدم من الدليل. وأما تقويم عمر رضي الله عنه (¬5)؛ فلأجل أخذ الدراهم عوضاً عن الإبل ولا نزاع (¬6) فيه؛ لأن الإبل كانت تؤخذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيمتها ثمانية آلاف ثم قومها عمر لغلائها باثني عشر ألفاً، وذلك يدل على أنها في حال رخصها أقل ¬

_ (¬1) في د: لأن. (¬2) ساقط من أ. (¬3) سبق تخريجه ص: 112 (¬4) ساقط من د. (¬5) مثل السابق. (¬6) في أ: والإشراع.

قيمة (¬1) من ذلك. فكانت تؤخذ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرٍ من ولاية عمر مع رخصها (¬2) وقلة قيمتها ونقصها عن مائة وعشرين. وإذا لم تعتبر القيمة في الإبل لا تعتبر في البقر والشياه قياساً لهما عليها. قال: (ويؤخذ في الحلل المتعارف فإن تنازعا فيها جعلت قيمة كل واحد ستين درهماً). [أما كون الحلل يؤخذ فيها المتعارف؛ فلأن ما لم يرد الشرع فيه بحدّ محدود يرجع فيه إلى العرف. دليله القبض والحِرز. وأما كون قيمة كل حلة تجعل ستين درهماً إذا تنازعا فيها] (¬3)؛ فلأن الأصل تساوي الأبدال والأخذ المذكور يحصل به التساوي بين الحلل وبين اثني عشر ألف درهم. ¬

_ (¬1) في د: رخصتها أقل فيه. (¬2) في د: رخصتها. (¬3) ساقط من د.

فصل [في دية المرأة] قال المصنف رحمه الله: (ودية المرأة نصف دية الرجل. ويساوي جراحها جراحه إلى ثلث الدية. فإذا زادت صارت على النصف). أما كون دية المرأة نصف دية الرجل؛ فلأن في كتاب عمرو بن حزم: «ديةُ المرأةِ على النصفِ من ديةِ الرجل» (¬1). فإن قيل: قوله عليه السلام: «في النفسِ المؤمنة مائة من الإبل» (¬2) عام فيجب أن يشمل المرأة. قيل: ما ذكر خاص فيجب تقديمه على العموم لا سيما وهما في كتاب واحد. وأما كون جراحها يساوي جراحه إلى ثلث الدية؛ فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عقلُ المرأةِ مثلُ عقلِ الرجلِ حتى يبلغَ الثلثَ [من ديّتِها» (¬3). رواه النسائي. وأما كونها تصير على النصف من جراحه إذا زادت على الثلث] (¬4)؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلث غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها. وإذا وجبت المخالفة تعين كونها على النصف كدية نفسها. [وعن ربيعة] (¬5) قال: «قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبعِ المرأةِ؟ قال: عشرٌ. قال: قلت: ففي إصبعَين. قال: عشرون. قلت: ففي ثلاثِ أصابع. قال: ثلاثون. قلت: ففي أربع. قال: عشرون. قال: قلت لما عظُمَتْ ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 95 كتاب الديات، باب ما جاء في دية المرأة. عن معاذ بن جبل. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه النسائي في سننه (4805) 8: 44 كتاب القسامة، عقل المرأة. (¬4) ساقط من د. (¬5) مثل السابق.

مُصيبَتُها قَلَّ عقلُها. قال: هكذا السنةُ يا ابن أخي» (¬1). وهذا يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه سعيد بن منصور. فإن قلت: إذا بلغت جراح المرأة الثلث ما حكمه؟ قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه مساو لجراح الرجل؛ لأنه قال: فإذا زادت صارت على النصف. فاشترط في صيرورتها على النصف الزيادة والمتساوي ليس زائداً. وفي ذلك روايتان: إحداهما: أنها مساوية؛ لأن الثلث لم يعتبر حد القلة ولذلك صحت الوصية به. والرواية الثانية: أنها على النصف. قاله المصنف رحمه الله في المغني. وهو الصحيح؛ لقوله عليه السلام: «حتى يبلُغَ الثلث» (¬2) و"حتى" للغاية. فيجب أن تكون مخالفة لما قبلها؛ لقوله تعالى (¬3): {حتى يُعطوا الجزية} [التوبة: 29]. ولأن الثلث في حد الكثرة؛ لقوله عليه السلام: «والثُّلُثُ كثير» (¬4). قال: (ودية الخنثى المشكل نصف دية ذكر ونصف دية أنثى. وكذلك أرش جراحه). أما كون دية الخنثى المشكل نصف دية ذكر ونصف دية أنثى؛ فلأن ميراثه كذلك. فكذلك ديته. وأما كون أرش جراحه كذلك؛ فلأن الجراح كالتابع للقتل. فإذا وجب في القتل نصف دية ذكر ونصف دية أنثى. فلأن تجب في أرش الجراح كذلك بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ 2: 655 كتاب العقول، باب ما جاء في عقل الأصابع. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في الأصول: لقوله عليه السلام. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2591) 3: 1006 كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1628) 3: 1250 كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث.

فصل [في دية الكتابي] قال المصنف رحمه الله: (ودية الكتابي نصف دية المسلم. وعنه: ثلث ديته. وكذلك جراحهم. ونساؤهم على النصف من دياتهم). أما كون دية الكتابي نصف دية المسلم على المذهب؛ فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ديةُ المعاهدِ نصفُ ديةِ المسلم» (¬1). وفي لفظ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن عقلَ أهل الكتابِ نصفُ عقلِ المسلمين» (¬2). رواه الإمام أحمد. وأما كونها ثلث ديته على روايةٍ؛ فلما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ديةُ اليهودي والنصراني أربعةُ آلاف [أربعةُ آلاف] (¬3»). وروي «أن عمر جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف» (¬4). والأول أصح؛ لما تقدم. وأما حديث عبادة فلم يذكره أصحاب السنن، والظاهر أنه ليس بصحيح. وأما جعل عمر فإنما كان ذلك حين كانت الدية ثمانية ألاف (¬5) فأوجب نصفها أربعة آلاف، ودليل ذلك [ما روى] (¬6) عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4583) 4: 194 كتاب الديات، باب في دية الذمي. ولفظه: «دية المعاهد نصف دية الحر». وأخرجه أحمد في مسنده (6692) 2: 180. ولفظه: «دية الكافر نصف دية المسلم». (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (6717) 2: 183. (¬3) ساقط من د. (¬4) ذكره الترمذي في جامعه 4: 26 كتاب الديات، باب ما جاء في دية الكفار. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 100 كتاب الديات، باب دية أهل الذمة. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27445) 5: 407 كتاب الديات، من قال الذمي على النصف أو أقل. (¬5) في د: ألف. (¬6) ساقط من د.

قال: «كانت قيمةُ الديةِ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينارٍ أو ثمانيةَ (¬1) آلافِ درهم (¬2) وديةُ أهلِ الكتابِ يومئذٍ النصفُ» (¬3). فهذا (¬4) بيان وشرح يزيل الإشكال، وفيه جمع بين (¬5) الأحاديث، ولو لم يكن كذلك فقول النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على فعل عمر وغيره. فإن قيل: فقد ذكر الله تعالى دية الكتابي ودية المسلم ولم يفرّق بينهما، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ديةُ اليهودي والنصراني مثلُ ديةِ المسلم». قيل: أما عدم الفرق بين دية المسلم والكتابي في كتاب الله تعالى فتقيد بالحديث المتقدم ذكره. وأما الحديث فالصحيح حديث عمرو بن شعيب ما ذكر دليلاً على أن دية الكتابي النصف أخرجه الأئمة في كتبهم دون ما روي (¬6). وأما كون جراح الكتابي كذلك أي نصف جراح المسلم على المذهب وثلثه على روايةٍ؛ فلأن الجراح يتبع النفس في دية النفس، وفي دية النفس الخلاف المتقدم ذكره. فكذلك الجراح. وأما كون ديات نسائهم على النصف من دياتهم؛ فلأن ديات المسلمين على النصف من دياتهم. فكذلك نساء أهل الذمة. قال: (ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم. ومن لم تبلغه الدعوة فلا ضمان فيه، وعند أبي الخطاب: إن كان ذا دين ففيه دية أهل دينه، وإلا فلا شيء فيه). أما كون دية المجوسي ثمانمائة درهم؛ فلأنه قول عمر وعثمان وابن مسعود. ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً. ¬

_ (¬1) في أ: وثمانية. وما أثبتناه من السنن. (¬2) في د: ثمانمائة دينار وثمانمائة. وبياض مقدار كلمة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4542) 4: 184 كتاب الديات، باب الدية كم هي؟ (¬4) في الأصول: لأنه. وما أثبتناه من الشرح الكبير 9: 522. (¬5) في د: من. (¬6) في د: رووه.

فإن قيل: فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سُنُّوا بهم سنةَ أهلِ الكتاب» (¬1). فوجب أن تكون ديته كدية الكتابي. قيل: المراد بالحديث أخذ الجزية وحقن الدم لا في كل شيء. بدليل أن ذبائحهم ونساءهم لا تحل لنا. بخلاف أهل الكتاب. وأما كون دية الوثني ثمانمائة درهم؛ فلأنه كافر لا تحل ذبيحته. أشبه المجوسي. فإن قيل: الوثني دمه هدر فكيف يضمن؟ قيل: المراد بالوثني هنا من لا تجوز إراقة دمه مثل من أُعطي الأمان ولذلك يقال في علة ذلك: كافر ذو عهد. فعلى هذا لا يختص الحكم بالوثني بل كل من لا يقر بالجزية إذا حقن دمه بأمان فقتل فديته كدية المجوسي؛ لأنها أقل الديات، وهو مشابه له من حيث اشتراكهما في العهد وعدم حل المناكحة. وأما كون من لم تبلغه الدعوة لا ضمان فيه على المذهب؛ فلأنه لا عهد له ولا أمان. أشبه الحربي. ولا بد أن يُلحظ أنه لا أمان له فإن كان له أمان فديته دية أهل دينه لأنه له أمان. أشبه أهل دينه. فإن لم يعرف له دين ففيه دية مجوسي لأنها اليقين وما زاد مشكوك فيه. وأما كونه إن كان ذا دين ففيه دية أهل دينه وإلا فلا شيء فيه عند أبي الخطاب؛ فلأنه إذا كان ذا دين يكون محقون الدم؛ لأنه لا يجوز قتله حتى تبلغه الدعوة، وإذا لم يكن ذا دين لم يكن محقون الدم. فلم يضمن؛ لأن الضمان في المحقون الدم إنما كان من أجل حقن دمه، وهذا مفقود فيمن لا دين له. فينتفي الضمان لانتفاء ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 189 كتاب الجزية، باب المجوس أهل كتاب والجزية تؤخذ منهم.

فصل [في دية العبد] قال المصنف رحمه الله: (ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغت. وعنه: لا يبلغ بها دية الحر. وفي جراحه إن لم يكن مقدراً من الحر ما نقصه، وإن كان مقدراً في الحر فهو مقدر في العبد من قيمته: ففي يده نصف قيمته، وفي موضحته نصف عشر قيمته نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر. وعنه: أنه يضمن بما (¬1) نقص. اختاره الخلال). أما كون دية العبد والأمة قيمتهما بالغةً ما بلغت على المذهب؛ فلأن العبد والأمة مال متقوم. فيُضمن كل واحد منهما بكمال قيمته؛ كالفرس. أو يقال: كل منهما مضمون بقيمته. فكان بجميع القيمة؛ كما لو ضمنه باليد. وأما كون القيمة لا يبلغ بها دية الحر على روايةٍ؛ فلأنه ضمان آدمي. فلم يزد على دية الحر؛ كضمان الحر، وذلك أن الله تعالى لما أوجب في الحر دية لا تزيد وهو أشرف من العبد لخلوه من نقيصة الرق كان تنبيهاً على أن العبد المنقوص لا يزاد عليها. فتجعل مالية العبد معياراً للمقدار الواجب فيه ما لم تزد على الدية فإذا زاد عُلم خطأُ ذلك فيرد إلى دية الحر كأرش ما دون الموضحة يجب فيه ما تخرجه الحكومة ما لم يزد على أرش الموضحة فإذا زاد رده إليها. والأول أصح؛ لما تقدم. والفرق بين الحر وبين العبد: أن الحر ليس مضموناً بالقيمة وإنما يضمن بما قدّره الشرع فلم يتجاوزه (¬2)، والعبد مضمون بالقيمة فافترقا. ¬

_ (¬1) في د: ما. (¬2) في د: يجاوزه.

ولأن الحر ليس مضموناً؛ [لأنه ليس مال] (¬1)، ولذلك لم يختلف باختلاف صفاته. والعبد مضمون؛ لأنه مال والمال يزيد بزيادة المالية وينقص بنقصانها فافترقا. وأما كون جراحه فيها ما نقص إذا لم يكن مقدراً في مثله من الحر؛ مثل أن يكسر عصعصه أو خرزة صلبه وما أشبه ذلك؛ فلأن العبد مال. فاعتبر فيه ما نقص؛ كما لو تعدى على مال غير العبد فنقص بسبب ذلك. ولأن مقتضى الدليل ضمان العبد بما نقص لأنه مال. تُرك العمل به فيما كان مقدراً في مثله من الحر لما يأتي فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. وأما كون ما كان مقدراً في الحر كاليد والرجل والموضحة وما أشبه ذلك فهو مقدر في العبد من قيمته كدية الحر (¬2). فعلى هذا في يده نصف قيمته؛ لأن الواجب فيها من الحر نصف الدية، وفي موضحته نصف عشر قيمته؛ لأن الواجب فيها من الحر خمس من الإبل، وذلك نصف عشر ديته. وسواء نقصت الجناية أقل من ذلك أو أكثر لأن العبرة بالمقدر من الحر من القيمة لا بالنقصان. وأما كون ذلك يضمن بما نقص على روايةٍ؛ فلما ذكر من أن العبد مال. فيجب أن يضمن بما نقص؛ كغيره من الأموال. قال: (ومن نصفه حر ففيه نصف دية حر ونصف قيمته. وهكذا في جراحه). أما كون من نصفه حر فيه نصف دية حر ونصف قيمته؛ فلأن نصفه حر فيجب أن يكون فيه (¬3) نصف ديته، ونصفه عبد فيجب أن يكون فيه (¬4) نصف قيمته. وأما كونه هكذا في جراحه؛ فلأن (¬5) جراح (¬6) الشخص تبع لديته. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في أ: من قيمته على المذهب فلأن قيمته كدية الحر. (¬3) ساقط من أ. (¬4) ساقط من أ. (¬5) في د زيادة: في. (¬6) في أ: الجراح.

قال: (وإذا قطع خصيتي عبد أو أنفه أو أذنه (¬1) لزمته قيمته للسيد ولم يزل ملكه عنه). أما كون من قطع ما ذكر يلزمه قيمة العبد؛ فلأن القيمة بدل عن الدية، وفي كل واحد مما ذكر دية إذا كان حراً ففي كل واحد منه القيمة إذا كان عبداً. وأما كون القيمة للسيد؛ فلأنها بدل عن الأعضاء المملوكة للسيد. وأما كونه لا يزول ملكه عن العبد؛ فلأنه لم يوجد سبب يقتضي الزوال. فوجب بقاؤه على ملكه عملاً باستصحاب الحال. ولأن قطع يد العبد مثلاً بمنزلة تلف بعض ماله، وتلفه (¬2) لا يوجب زوال الملك عن الباقي. فكذلك لا يزول ملك السيد عن العبد المجني عليه. قال: (وإن قطع ذكره ثم خصاه لزمته قيمته لقطع الذكر (¬3) وقيمته مقطوع الذكر، وملك سيده باق عليه). أما كون من قطع ما ذكر تلزمه قيمة العبد لقطع الذكر؛ فلأن الواجب في ذلك من الحر دية كاملة. وأما كونه يلزمه قيمته مقطوع الذكر؛ فلأن الواجب في قطع الخصيتين من الحر بعد الذكر دية كاملة. فإن (¬4) قيل: القيمة هنا نقصت عن القيمة أولاً لأن المصنف رحمه الله قيدها (¬5) بقطع الذكر. بخلاف الدية في الحر فإنهما سواء. قيل: القيمة في مقابلة الدية لكنها تزيد وتنقص بحسب الأحوال. بخلاف الدية في الحر فإنها مقدرة بقدر معلوم لا تزيد ولا تنقص فلذلك نقصت القيمة دون الدية. وأما كون ملك سيده باقياً عليه؛ فلما ذكر قبل. ¬

_ (¬1) في أ: أذنيه. (¬2) في أ: وتلف بعض ماله. (¬3) في أ: لزمه لقطع الذكر قيمة. (¬4) في أ: لأن. (¬5) في د: قيد هنا.

فصل [في دية الجنين] قال المصنف رحمه الله: (ودية الجنين الحر المسلم إذا سقط ميتاً غُرّة عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه كأنه سقط حياً. ذكراً كان أو أنثى). أما كون دية الجنين في الجملة غُرّة؛ فلما روي «أن عمر رضي الله عنه استشار الناس في إملاص المرأة. فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة. فقال: لتأتين بمن يشهد معك. فشهد له محمد (¬1) بن مسلمة» (¬2) متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: «اقتتلتِ امرأتان من هُذيل. فرمتْ إحداهما الأخرى بحجرٍ فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ديةَ جنينها غُرّة عبدٍ أو أمة. وقضى بديةِ المرأة على عاقلتها. وورثها ولدها ومن معهم» (¬3) متفق عليه. وأما كون الغُرّة المذكورة يشترط لوجوبها حرية الجنين وإسلامه؛ فلأن الذي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالغرة المذكورة في حديث أبي هريرة المتقدم ذكره إنما كان في حر مسلم فلا يتعدى إلى من فقد واحداً منهما. فإن قيل: حديث عمر رضي الله عنه مطلق. قيل: يجب تقييده بما ذكر؛ لأنه إنما بني على قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على الصفة المذكورة. وأما كونها يشترط سقوط الجنين ميتاً؛ فلأنه إذا سقط حياً حياة مستقرة تجب فيه الدية. وسيأتي ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6509) 6: 2531 كتاب الديات، باب جنين المرأة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1689) 3: 1311 كتاب القسامة، باب دية الجنين ... (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كونها عبداً أو أمة؛ فلأن ذلك هو المذكور في الحديثين المتقدمين. فإن قيل: فقد جاء في بعض الأحاديث: «بغرة عبدٍ أو أمةٍ أو فرسٍ أو بغل» (¬1). وروي «أنه عليه السلام [جعل في ولدها مائة شاة» (¬2). رواه أبو داود. قيل: الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم] (¬3) إنما هو العبد والأمة. وأما ذكر الفرس والبغل فوهم انفرد به عيسى بن يونس عن سائر الرواة، والحديث الصحيح المتفق عليه إنما فيه: «عبد أو أمة». وأما كون قيمة الغرة خمساً من الإبل؛ فلأن ذلك مروي عن عمر وزيد رضي الله عنهما. ولأن ذلك أقل ما قدره الشرع في الجنايات؛ لأنه أرش الموضحة ودية السن. فوجب الرد إليه. فإن قيل: فقد وجب في الأنملة ثلاثة أبعرة وثلث، وذلك دون ما ذكر. قيل: الذي نص الشارع عليه أرش الموضحة، ودية السن وهو خمس من الإبل، وأما الأنملة فالواجب فيها ما ذكر بالحساب من دية الإصبع لا بالصريح. وأما كونها موروثة عن الجنين كأنه سقط حياً؛ فلأنها دية له وبدل عنه. فوجب أن يرثها ورَثته؛ كما لو قتل بعد الولادة. وأما كون ذلك كذلك ذكراً كان الجنين أو أنثى؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الغُرّة من غير فرق. قال: (ولا يقبل في الغُرّة خنثى، ولا معيب، ولا من له دون سبع سنين). أما كون الغرة لا يقبل فيها خنثى ولا معيب؛ فلأنهما ليسا بخيار، والغُرّة هي الخيار. بخلاف الكفارة حيث يجزئ فيها المعيب عيباً لا يمنع العمل. ولأن الغرة بدل. فاعتبرت فيها السلامة؛ كإبل الصدقة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4579) 4: 193 كتاب الديات، باب دية الجنين. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4578) 4: 193 كتاب الديات، باب دية الجنين. ولفظه: « ... فجعل في ولدها خمس مائة شاة» قال أبو داود: كذا الحديث «خمس مائة شاة» والصواب: مائة شاة. قال أبو داود: هكذا قال عباس وهو وهم. (¬3) ساقط من د.

وأما كونها لا يقبل فيها من له دون سبع سنين؛ فلما ذكر من أن الغرة خيار ومن له دون سبع سنين ليس بخيار. ولأن من له دون ذلك لا يستغني بنفسه ولا يستقل ويحتاج إلى من يحضنه. فلم يؤخذ في الغرة؛ كالمعيب. قال: (وإن كان الجنين مملوكاً ففيه عُشْر قيمة أمه ذكراً كان أو أنثى. فإن ضرب بطن أمةٍ فعتقت ثم أسقطت الجنين ففيه غرة. وإن كان الجنين محكوماً بكفره ففيه عشر دية أمه. فإن كان أحد أبويه كتابياً والآخر مجوسياً اعتبر أكثرهما). أما كون الجنين إذا كان مملوكاً فيه عُشْر قيمة أمه؛ فلأن الواجب في الجنين إذا كان حراً غرة قيمتها خمس من الإبل، وذلك عشر دية الحرة (¬1)، والمقابل لدية الحر قيمة العبد. فإن قيل: الواجب اعتبار القيمة من قيمة الجنين نفسه؛ لأنه متلف. فاعتبر بدله بنفسه؛ كسائر المتلفات. قيل: لما خولف في الجنين المذكور سائر المتلفات في عدم اعتبار قيمة جميعه وجب اعتباره بأمه. وأما كون ذلك كذلك ذكراً كان أو أنثى؛ فلأن ذلك كذلك في الجنين إذا كان حراً. فكذلك إذا كان مملوكاً. وأما كون الجنين الذي ضُرب بطن أمه فعتقت ثم أسقطت فيه غرة؛ فلأنه سقط حراً. إذ العبرة بحال السقوط؛ لأنه (¬2) قبل ذلك لا يحكم فيه بشيء. وأما كون الجنين المحكوم بكفره فيه عُشر دية أمه؛ فلأنه لأمه عشر دية مقدرة. فوجب فيه عشر دية أمه؛ كالمسلم. وأما كون من أحد أبويه كتابياً والآخر مجوسياً يعتبر أكثر الأمرين من عشر دية الأم أو نصف عشر دية الأب؛ فلأن ذلك ضمان متلف. فغلب فيه الأكثر تغليظاً على الجاني. ¬

_ (¬1) في أ: أمه. (¬2) في أ: لأن.

ولأنه لو اجتمع في المتلف ما يجب الضمان به وما لا يجب غلب جانب الوجوب. دليله المُحْرم إذا قتل مُتولداً من وحشي وأهلي. قال: (وإن سقط الجنين حياً ثم مات ففيه دية حر إن كان حراً، أو قيمته إن كان مملوكاً إذا كان سقوطه لوقت يعيش مثله وهو أن تضعه لستة أشهر فصاعداً، وإلا فحكمه حكم الميت. وإن اختلفا في حياته ولا بينة ففي أيهما يقدم قوله؟ وجهان). أما كون الجنين فيه دية حر إذا سقط حياً لوقت يعيش مثله وكان حراً؛ فلأنه حرٌّ مات بجناية. أشبه ما لو باشره بالقتل. وأما كونه فيه قيمته إذا كان عبداً؛ فلأن القيمة في العبد بمنزلة الدية في الحر. وأما كون سقوطه لوقت يعيش مثله شرطاً فيما ذكر؛ فلأنه إذا لم يكن كذلك لا يعلم فيه حياة يجوز بقاؤها. فلم تجب فيه دية ولا قيمة؛ كما لو سقط ميتاً. وأما كون الوقت الذي يعيش مثله فيه ستة أشهر فصاعداً؛ فلأن من وُلد لأقل من ذلك [لم تجر العادة ببقائه. وأما كون حكمه حكم الميت إذا سقط لأقل من ذلك] (¬1)؛ فلأن الحركة التي فيه كحركة المذبوح لما ذكر من كون العادة لم تجر ببقائه. وأما كون مستحق الدية إذا اختلف هو والجاني في حياة الجنين ولا بينة ففي أيهما يقدم قوله وجهان؛ فلأن النظر إلى أن الجنين كان حياً في بطن أمه يقتضي تقديم قول مستحق الدية لأن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان، وذلك يقتضي كونه حياً حين السقوط. والنظر إلى أن الأصل براءة ذمة الجاني من الدية يقتضي قبول قوله؛ لأنه يوافق ذلك الأصل. وتقييد ما ذكر بلا بينة مشعر بأن أحدهما لو كان له بينة كان قوله مقدماً على الآخر وجهاً واحداً. وهو صحيح؛ لأن البينة تُظهرُ الحقَّ وتبيّنه. ¬

_ (¬1) ساقط من د.

فصل [فيما تغلظ به الدية] قال المصنف رحمه الله: (وذكر أصحابنا أن القتل تغلظ ديته بالحَرَم، والإحرام، والأشهر الحرم، والرحم المحرم. فيزاد لكل واحد ثلث الدية. فإذا اجتمعت المحرمات الأربع وجبت ديتان وثلث. وظاهر كلام الخرقي أنها لا تغلظ بذلك وهو ظاهر الآية والأخبار). أما كون القتل تغلظ ديته بما ذكر عند أصحاب الإمام أحمد فيزاد لكل واحدٍ ثلث الدية؛ فلما روي «أن امرأة وُطئت في الطواف. فقضى عثمان رضي الله عنه فيها بستة آلاف، وألفين تغليظًا للحرم» (¬1). وعن ابن (¬2) عمر أنه قال: «من قَتلَ في الحرم أو ذا رحم (¬3) أو في الشهر الحرام فعليه دية وثلث». وعن ابن عباس «أن رجلاً قَتل رجلاً في الشهر الحرام في البلد الحرام. فقال: ديته اثنا عشر ألفاً، وللشهر الحرام أربعة آلاف، وللبلد الحرام أربعة آلاف». وأما كون الحرمات الأربع إذا اجتمعت تجب ديتان وثلث؛ فلأن القتل يوجب دية، والمواضع الأربعة توجب كل واحد ثلثاً. فلزم كون الواجب ديتين وثلثاً. وأما كونه لا تغلظ ديته بذلك على ظاهر قول الخرقي؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» (¬4). إلى غير ذلك من الآيات والآثار الدالة على وجوب الدية. ولذلك قال المصنف رحمه الله: وهو ظاهر الآية والأخبار. وأجاب عن قول الصحابة المتقدم ذكرهم بأن ذلك ليس بثابت عنهم. وفي الجملة إن ثبت ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 95 كتاب الديات، باب ما جاء في دية المرأة. (¬2) في د: أبي. (¬3) في د: حرم. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ما ذكر عن الصحابة يكون قول الأصحاب راجحاً على ما ذكره المصنف؛ لأنه قول يدل على خصوص التغليظ، والعموم من الآية والأخبار لا ينفيه. فوجب العمل به؛ لكونه دليلاً سالماً عن المعارض وإن لم يثبت ذلك فالعمل بعموم الآية. والسنة أولى. قال: (وإن قتل المسلم كافراً عمداً أُضعفت الدية لإزالة القود كما حَكَم عثمان بن عفان رضي الله عنه). أما كون الدية تضاعف بقتل المسلم كافراً عمداً؛ فلما أشار إليه المصنف رحمه الله من إزالة القود وحكم عثمان رضي الله عنه. وأما إزالة القود؛ فلأن المسلم لا يُقتل بكافر لما ذكر في موضعه (¬1). فإن قيل: ما وجه التغليظ من أجل إزالة القود؟ قيل: لأن القود شُرع زجراً عن تعاطيه. فإذا لم يجب ناسب أن يشرع تغليظ الدية لأجل الزجر. ولذلك نظائر: منها: أن الأعور إذا قلع عين صحيح تجب دية كاملة حيث لا قصاص. ومنها: أن سارق الثمر تلزمه مثلاَ قيمته حيث لا يقطع. وأما حكم عثمان رضي الله عنه؛ فلما روى الإمام أحمد بإسناده «أن رجلاً قَتل رجلاً من أهل الذمة. فرُفعَ إلى عثمان رضي الله عنه فلم يقتُله، وغلَّظَ الدية ألفَ دينار» (¬2). ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 33 كتاب الجنايات، الروايات فيه عن عثمان رضي الله عنه.

فصل [إذا جنى العبد خطأ] قال المصنف رحمه الله: (وإن جنى العبد خطأ فسيده بالخيار بين فدائه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته، أو تسليمه ليباع في الجناية. وعنه: إن أبى تسليمه فعليه فداؤه بأرش الجناية كله). أما كون العبد إذا جنى خطأ سيدُه بالخيار بين ما ذُكر؛ فلأن حق المجني عليه يحصل بذلك لأن السيد إذا فدا عبده بقيمته فقد أدى عوض المحل الذي تعلقت به الجناية، وإذا فداه بأرش الجناية فقد أدى ما استحقه المجني عليه، وإذا سلمه ليباع فقد دفع المحل الذي تعلقت به الجناية. وفي قول المصنف رحمه الله: بين فدائه؛ إشعار بأن جناية العبد جناية على آدمي. فوجب اعتبارها؛ كجناية الحر. ولأن جناية الصغير والمجنون غير ملغاة مع عذرهما وعدم تكليفهما. فلأن لا تلغى جناية العبد وهو مكلف بطريق الأولى. وإذا لم يجز أن لا تتعلق بشيء فالذي تتعلق به: إما رقبة العبد، أو ذمته، أو ذمة سيده. والثاني والثالث باطل فيتعين الأول: أما بطلان تعلقها بذمته؛ فلأنه يفضي إلى إلغاء الجناية وتأخير حق المجني عليه إلى غير غاية. وأما بطلان تعلقها بذمة سيده؛ فلأنه لم يجن. وأما تعين (¬1) الأول؛ فلأنه إذا تخير التعلق (¬2) فيما ذكر وبطل الثاني والثالث تعين الأول وهو تعلقها برقبته. وأما كونه إذا فداه (¬3) يفدية بالأقل من قيمته أو أرش جنايته على المذهب؛ فلأنه إذا فداه بقيمته أدى قدر الواجب لأن حق المجني عليه لا يتعلق بغير رقبة ¬

_ (¬1) في د: تعيين. (¬2) في أ: فلأنه لم يحضر التعليق. (¬3) في د: أفداه.

الجاني، وإذا فداه بأرش الجناية فهو الذي وجب للمجني عليه. فلم يملك مطالبته بأكثر منه. وأما كون سيده إذا أبى تسليمه عليه فداؤه بأرش الجناية كله على روايةٍ؛ فلأنه ربما إذا عُرض المبيع رغب فيه راغب بأكثر من قيمته فإذا أمسكه فوّت على المجني عليه تلك الزيادة. قال: (وإن سلمه فأبى ولي الجناية قبوله وقال: بعه أنت. فهل يلزمه ذلك؟ على روايتين). أما كون السيد يلزمه ذلك على روايةٍ؛ فلأن حق المجني عليه متعلق بمالية العبد لا بعينه. ولهذا لو طلب المالك فداءه قدم المالك عليه. وأما كونه لا يلزمه ذلك على روايةٍ؛ فلأن المالك بالخيار بين فدائه وبين تسليمه لما تقدم وقد سلمه. فلم يلزمه شيء آخر. قال: (وإن جنى عمداً فعفى الولي عن القصاص على رقبته فهل يملكه بغير رضى السيد؟ على روايتين). أما كون ولي المجني عليه يملك العبد إذا عفى عن القصاص على رقبته بغير رضى سيده على روايةٍ؛ فلأنه استحق إتلافه. فاستحق إبقاءه على ملكه؛ كعبده الجاني عليه. وأما كونه لا يملكه على روايةٍ؛ فلأنه إذا لم يملكه بالجناية. فلأن لا يملكه بالعفو بطريق الأولى. ولأن العبد أحد من عليه القصاص. فلا يملك بالعفو؛ كالحر. ولأنه إذا عفى عن القصاص انتقل حقه إلى المال. فصار كالجاني جناية موجبة للمال. فإن قيل: ما الصحيح من الروايتين؟ قيل: الثانية؛ لما تقدم ذكره.

ولأن ملكه له بغير رضى سيده ينافي كونه بالخيار. دليلهما (¬1). وقياس عبد غيره على عبده لا يصح؛ لأن الملك على عبد غيره تجديد. بخلاف عبده. قال: (وإن جنى على اثنين خطأ اشتركا فيه بالحصص، وإن عفى أحدهما أو مات المجني عليه فعفى بعض ورثته فهل يتعلق حق الباقين بجميع العبد أو بحصتهم منه؟ (¬2) على وجهين). أما كون المجني عليهما خطأ يشتركان (¬3) في الجاني بالحصص؛ فلأنهما اشتركا في سبب تعلق الحق به. فوجب أن يشتركا بالحصص؛ كغرماء المفلس والميت. ولأنه لو جنى عليهما دفعة واحدة لاشتركا بالحصص. فكذا إذا جنى عليهما دفعة بعد أخرى. وأما كون حق الباقين يتعلق بجميع العبد بعد عفو بعض المستحقين (¬4) إنما كان للمزاحمة. فإذا وجد العفو وجب عوده إلى ذلك؛ لزوال السبب المانع من التعلق به. وأما كونه يتعلق بحصصهم فقط على وجه؛ فلأن ذلك هو الواجب لهم عند الجناية. فوجب بقاء الأمر على ما كان. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول. (¬2) في أ: أو بحصصهم. (¬3) في أ: أما المجني عليهما يشتركان. (¬4) في أ: المستحقين مجنياً عليه كان أو وارثاً له على وجه فلأن عدم تعلق حقهم بذلك عبد عدم عفو بعض المستحقين إنما ...

قال: (وإن جرح حراً فعفى عنه ثم مات من الجراحة ولا مال له وقيمة العبد عُشر ديته فاختار السيد فداءه وقلنا يفديه بقيمته: صح العفو في ثلثه، وإن قلنا يفديه بالدية صح العفو في خمسة أسداسه وللورثة سدسه؛ لأن العفو صح في شيء من قيمته، وله بزيادة (¬1) الفداء تسعة أشياء بقي للورثة ألف إلا عشرة أشياء تعدل شيئين. اجبر وقابل يخرج الشيء نصف سدس الدية وللورثة شيئان فتعدل السدس). أما كون العفو يصح في ثلث العبد إذا قيل السيد يفديه بقيمته؛ فلأن المجني عليه مات وهو يملكها لا غير. فوجب انحصار العفو في ثلث العبد. ضرورة أن الإبراء في المرض معتبر من الثلث. وأما كونه يصح في خمسة أسداس العبد إذا قيل السيد يفديه بالدية؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله. فإن قيل: لم نكّر الذي صح العفو فيه؟ ولمَ كان الحاصل بالزيادة تسعة أشياء؟ ولمَ (¬2) جبر الألف إلا عشرة أشياء؟ ولمَ كان الخارج يعدل نصف سدس الدية؟ ولمَ كان شيئا الورثة يعدل (¬3) السدس؟ قيل: أما تنكير ما صح العفو فيه؛ فلأن مقدار الزيادة الحاصلة من الفداء بأرش الجناية غير معلوم. وأما كون الحاصل بالزيادة تسعة أشياء؛ فلأن قيمة العبد عشر الدية، وبين العشر والدية تسعة أعشار. وأما جبر (¬4) الألف إلا عشرة أشياء بعشرة أشياء؛ فليخرج العدد بلا مجهول. وأما كون الخارج نصف سدس؛ فلأنك إذا قسمت ألفاً على اثني عشر كان الشيء نصف سدس الدية. ¬

_ (¬1) في أ: زيادة. (¬2) في أ: ولو. (¬3) في أ: الحاصلة تعدل. (¬4) في أ: تخير.

وأما كون شيء الورثة يعدل السدس؛ فلأن الشيء إذا عدل نصف سدس كان (¬1) الشيئان يعدل السدس (¬2) ضرورة. فعلى هذا لو كان قيمة (¬3) العبد ثلث الدية صح العفو على (¬4) القول بأن الفداء يكون بالدية في ثلاثة أخماسه، ولو كانت قيمته الربع صح في ثلثيه، ولو كانت قيمته الخمس صح في خمسة أسباعه. وعلى هذا فقس. ¬

_ (¬1) في أ: كانت. (¬2) في أ: سدس. (¬3) ساقط من أ. (¬4) في أ: عن.

باب ديات الأعضاء ومنافعها

باب ديات الأعضاء ومنافعها قال المصنف رحمه الله: (ومن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية. وهو: الذكر، والأنف، واللسان الناطق، ولسان الصبي الذي يحركه بالبكاء). أما كون من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد عليه فيه الدية؛ فلأن إتلاف ذلك إذهاب منفعة الجنس، وإذهابها كإتلاف النفس، وإتلاف النفس فيه الدية. فكذلك ما هو في معناه، وفي كتاب عمرو بن حزم «وفي الذَّكرِ الدية، وفي الأنفِ إذا أُوعِبَ جَدْعًا الدية، وفي اللسان الدية» (¬1). وأما قول المصنف رحمه الله: وهو الذكر ... إلى آخره؛ فبيان لما في الإنسان منه شيء واحد. فإن قيل: لم يساوى لسان الصبي الذي يحركه بالبكاء لسان الناطق؟ قيل: لعموم الحديث. ولأن لسان الصبي متأهل لأن يتكلم به صاحبه. فوجب فيه الدية كاملة؛ كاللسان الناطق. وتقييد المصنف رحمه الله اللسان بأحد الشيئين مشعر بأن الدية لا تجب في لسان الأخرس. وهو صحيح صرح به في المغني. ووجهه بأن منفعته المقصودة قد ذهبت. أشبه اليد الشلاء. قال (¬2): ([وما فيه منه شيئان ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها؛ كالعينين، والأذنين، والشفتين] (¬3)، واللحيين، وثديي المرأة، وثَنْدُوَتَي الرجل، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 112 (¬2) في د: وقال. (¬3) ساقط من أ.

واليدين، والرجلين، والإليتين، والأنثيين، وأسكتي المرأة. وعنه: في الشفة السفلى ثلثا الدية، وفي العليا ثلثها). أما كون ما في الإنسان منه شيئان فيهما الدية؛ فلأن في إتلافهما ذهاب منفعة الجنس، وذلك كإتلاف النفس. وأما كون أحدهما فيه نصفها؛ فلأن في إتلافه إذهاب نصف منفعة الجنس. فعلى هذا في العينين وكل شيئين مما ذكر الدية، وفي كل واحد نصفها: أما العينان؛ فلأنهما في الإنسان منه شيئان، وفي الحديث: «وفي العينينِ الدية» (¬1). رواه النسائي. وأما العين الواحدة؛ فلأنها على النصف من العينين. فتكون على النصف من الدية، وفي الحديث: «وفي العينِ خمسُونَ من الإبل» (¬2). رواه مالك في الموطأ. ولا فرق بين أن تكون العين كبيرة أو صغيرة أو مليحة أو قبيحة أو مريضة أو حولاء؛ لأن الحديث مطلق. فلا يجوز تقييده بغير دليل. وأما الأذنان؛ فلأنهما مما في الإنسان منه شيئان، وفي الحديث: «وفي الأُذنينِ الدية» (¬3). ولأن فيهما جمالاً كاملاً ومنفعة ظاهرة. أشبها العينين. وأما الأذن الواحدة؛ فلأنها على النصف من الأذنين فتكون على النصف من الدية. ولأنهما مما في الإنسان منه شيئان. فوجب في كل واحد نصف الدية؛ كالعينين. وأما الشفتان؛ فلأنهما مما في الإنسان منه شيئان، وفي كتاب عمرو بن حزم: «وفي الشفتينِ الدية» (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 137. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (1) 2: 647 كتاب العقول، باب ذكر العقول. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 85 كتاب الديات، باب الأذنين. (¬4) سبق تخريجه ص: 137.

ولأن فيهما جمالاً ظاهراً ومنفعة كاملة. أشبها ما تقدم. وأما الواحدة ففيها نصف الدية على المذهب؛ لأن ذلك يُروى عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما (¬1). ولأن كل شيئين وجبت الدية فيهما وجبت الدية في أحدهما نصفها. دليله سائر الأعضاء المتقدم ذكرها. وفي السفلى ثلثا الدية، وفي العليا ثلثها على روايةٍ؛ لأن ذلك يُروى عن زيد بن ثابت (¬2). ولأن نفع السفلى أكثر؛ لأنها هي التي تدور وتتحرك وتحفظ الريق والطعام. والأولى هي ظاهر المذهب؛ لما تقدم. وقول زيد معارض بقول أبي بكر وعلي. وأما اللحيان؛ فلأنهما مما في الإنسان منه شيئان. ولأن فيهما جمالاً ومنفعة. أشبها الأذنين. فإن قيل: ما اللحيان؟ قيل: العظمان اللذان فيهما الأسنان. وأما ثديا المرأة وثَنْدُوَتا الرجل؛ فلأنهما مما في الإنسان منه شيئان. [وأما اليدان؛ فلأنهما مما في الإنسان منه شيئان] (¬3)، وفي الحديث: «وفي اليدينِ الدية» (¬4). وأما الواحدة؛ فلأنها (¬5) على النصف من اليدين فتكون على النصف من الدية، وفي كتاب عمرو بن حزم: «وفي اليدِ خمسونَ من الإبل» (¬6). وأما الرجلان؛ فلأنهما مما في الإنسان منه شيئان، وفي الحديث: «وفي الرجلينِ الدية» (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره البيهقي في السنن الكبرى 8: 88 كتاب الديات، باب دية الشفتين. عن الشعبي. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (26903) 5: 361 كتاب الديات، الشفتان ما فيهما؟ (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) هو في حديث عمرو بن حزم، وقد سبق تخريجه ص: 112 (¬5) في أ: فلأنهما. (¬6) أخرجه النسائي في سننه (4856) 8: 59 كتاب القسامة، العقول. (¬7) هو في حديث عمرو بن حزم، وقد سبق تخريجه ص: 112.

وأما الواحدة؛ فلأنها (¬1) على النصف من الرجلين فتكون على النصف من الدية، وفي الحديث: «وفي الواحدةِ -يعني الرجل- نصفُ الدية» (¬2). وأما الإليتان؛ فلأنهما مما في الإنسان منه شيئان. ولأن فيهما جمالاً ظاهراً ومنفعة كاملة. أشبها الثديين (¬3). وأما الواحدة؛ فلأنها (¬4) على النصف من الإليتين فتكون على النصف من الدية. قال: (وفي المنخرين ثلثا الدية، وفي الحاجز ثلثها. وعنه: في المنخرين الدية، وفي الحاجز حكومة). أما كون المنخرين فيهما ثلثا الدية وفي الحاجز ثلثها على المذهب؛ فلأن المارن يشتمل على ثلاثة أشياء: منخرين وحاجز. فوجب توزيع الدية على عدد ذلك؛ كسائر ما في الإنسان منه عدد من جنس. وأما كون المنخرين فيهما الدية على روايةٍ؛ فلأنهما لا ثالث لهما. أشبها اليدين. ولأن بقطع المنخرين يذهب الجمال كله والمنفعة. فوجب أن تجب فيهما الدية؛ كسائر ما تقدم ذكره. وأما كون الحاجز فيه حكومة؛ فلأنه لا تقدير فيه. قال: (وفي الأجفان الأربعة الدية [وفي كل واحد ربعها] (¬5». أما كون الأجفان الأربعة فيها الدية؛ فلأن في إتلافها إذهاب (¬6) منفعة جنس. أشبهت اليدين. ¬

_ (¬1) في أ: فلأنهما. (¬2) هو في حديث عمرو بن حزم، وقد سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في د: ولأنهما جمالا ظاهرا ومنفعة كاملة. أشبها اليدين. (¬4) في أ: فلأنهما. (¬5) زيادة من المقنع (¬6) في د: فلأن في إتلافها على هذه الحالة ذهاب.

وأما كون كل واحد منها (¬1) فيه ربعها؛ فلأن كل ذي عدد يجب في جميعه الدية يجب في الواحد منه بحصته من الدية؛ كاليدين والرجلين. قال: (وفي أصابع اليدين الدية، وفي أصابع الرجلين الدية، وفي كل أصبع عشرها، وفي كل أنملة ثلث عقلها إلا الإبهام فإنها مفصلان ففي (¬2) كل مفصل نصف عقلها، وفي الظفر خمس دية الأصبع). أما كون أصابع اليدين فيها الدية؛ فلأن في إتلاف ذلك إذهاب منفعة جنس، وفي الحديث: «في كلِّ إصْبعٍ عشرٌ من الإبل» (¬3) وأصابع اليدين عشر فيلزم أن يكون فيها مائة، وذلك هو الدية. وأما كون أصابع الرجلين فيها (¬4) الدية؛ فلما ذكر في أصابع اليدين. وأما كون كل أصبع فيها عشر الدية؛ فلما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ديةُ أصابعِ اليدينِ والرجلينِ عشرٌ من الإبلِ لكلِّ أُصْبُع» (¬5) أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وفي حديث آخر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذهِ وهذهِ سواءٌ يعني الإبهامَ والخنصَر» (¬6) أخرجه البخاري وأبو داود. وأما كون كل أنملة غير الإبهام فيها ثلث عقل الإصبع؛ فلأن كل أنملة ليست إبهام ثلاث مفاصل. وأما كون كل مفصل من الإبهام فيه نصف عقلها؛ فلأنهما مفصلان. ¬

_ (¬1) في أ: منهما. (¬2) في أ: وفي. (¬3) تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه ص: 140. (¬4) في أ: فيهما. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (1391) 4: 13 كتاب الديات، باب ما جاء في دية الأصابع. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (6500) 6: 2526 كتاب الديات، باب دية الأصابع. وأخرجه أبو داود في سننه (4558) 4: 188 كتاب الديات، باب ديات الأعضاء. وأخرجه الترمذي في جامعه (1392) 4: 14 كتاب الديات، باب ما جاء في دية الأصابع. وأخرجه النسائي في سننه (4847) 8: 56 كتاب القسامة، باب عقل الأصابع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2652) 2: 885 كتاب الديات، باب دية الأصابع.

وأما كون الظفر فيه خمس دية (¬1) الإصبع؛ فلأن ... (¬2). قال: (وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت ممن قد ثغر (¬3) والأضراس والأنياب؛ كالأسنان. ويحتمل أن يجب في جميعها دية واحدة). أما كون كل سن فيها خمس من الإبل على المذهب؛ فلأن في كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «في السنِ خمسٌ من الإبل» (¬4). رواه النسائي. وعن عمرو بن شعيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في الأسنانِ خمسٌ خمسٌ (¬5») (¬6). رواه أبو داود. فعلى هذا يجب في جميعها مائة وستون بعيراً لأنها اثنان وثلاثون. وأما كونه يحتمل أن يجب في جميعها دية واحدة؛ فلأنها ذو عدد تجب فيه الدية. فلم يزد (¬7) على الدية؛ كالأصابع والأجفان وسائر ما في الإنسان منه شيء واحد. ولأنها تشتمل على منفعة جنس. فلم تزد ديتها على الدية؛ كسائر منافع الجنس. وهذا الاحتمال ذكره المصنف رحمه الله في المغني رواية. والأول أولى؛ لأن دليل الثانية قياس في مقابلة النص فلا يصح. فإن قيل: ما معنى ممن ثغر ولم اشترط ذلك؟ قيل: معناه ممن أبدل أسنانه وبلغ حداً إذا قلعت سنه لم يعد بدلها. وإنما اشترط ذلك؛ لأن من لم يبلغ ذلك العادةُ جارية بعود سنه. فلم تجب فيها في الحال شيء؛ كنتف شعره. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) بياض في الأصل مقدار ربع سطر. (¬3) في أ: بمن قد أثغر. (¬4) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬5) ساقط من د. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (4563) 4: 189 كتاب الديات، باب ديات الأعضاء. (¬7) في أ: فلم يجب يزد.

فعلى هذا ينتظر عودها فإن عادت تبين أنه لم يجب له دية السن، وإن لم تعد ومضت مدة يئس من عودها وجبت ديتها لأن عودها صار مأيوساً. أشبه ما إذا قلعها ممن ثغر. نص عليه الإمام أحمد؛ لأن (¬1) [الغالب أن يعود فيها. وقال القاضي: إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أُخذت ديتها لأن الغالب أنها] (¬2) لا تعود بعد ذلك. وأما كون الأضراس والأنياب كالأسنان؛ فلما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأصابعُ سواءٌ، والأسنانُ سواءٌ، السنُّ (¬3) والضرسُ سواءٌ هذه وهذه سواء» (¬4). رواه أبو داود. وفي الحديث المتقدم: «وفي الأسنانِ خمسٌ خمسٌ» (¬5). ولم يفصل فيدخل الأضراس والأنياب في ذلك. ولأن (¬6) كل دية وجبت في جملة كانت مقسومة على العدد دون المنافع (¬7) كالأصابع والأجفان. قال: (وتجب دية اليد والرجل في قطعهما من الكوع والكعب. فإن قطعهما من فوق ذلك لم يزد على الدية في ظاهر كلامه. وقال القاضي: في الزائد حكومة). أما كون الدية تجب في قطع اليد من الكوع؛ فلأن اليد المطلقة في الشرع محمولة على ذلك. بدليل قطع السارق والمسح في التيمم. وأما كونها تجب في قطع الرجل من الكعب؛ فلأن الكعب من الرجل بمنزلة الكوع من اليد، ولذلك إذا سرق ثانياً قطعت رجله من كعبها. ¬

_ (¬1) في أ: لأنها. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في د: والسن. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4559) 4: 188 كتاب الديات، باب ديات الأعضاء. (¬5) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬6) في أ: لأن. (¬7) في د: على المعدود المنافع.

وأما كون من قطع [اليد من فوق] (¬1) الكوع، والرجل من فوق الكعب لا يزاد على الدية في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأن اليد اسم للجميع إلى المنكب، والرجل اسم للجميع إلى الفخذ. فإن قيل: فيجب أن لا يجب بقطعها من الكوع الدية. قيل: لا يلزم من وجوب الدية في شيء عدم وجوبها فيما دونه. بدليل أن الدية تجب في اليد من الكوع، وتجب في قطع الأصابع دون الكف. وأما كون الزائد فيه حكومة على قول القاضي؛ فكما لو قطع يده من الكوع ثم قطع ذلك. قال: (وفي مارن الأنف وحشفة الذكر وحلمتي الثديين وكسر ظاهر السن دية العضو كاملة. ويحتمل أن يلزم من استوعب الأنف جدعاً دية وحكومة في القصبة). أما كون مارن الأنف -وهو ما لان منه- (¬2) فيه دية الأنف كاملة؛ فلأن الجمال يذهب بذلك. أشبه الأنف كله. وأما كون الأنف إذا استوعب جدعاً فيه الدية فقط؛ فلأنه روي عن طاوس أنه قال (¬3) في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي (¬4) الأنفِ إذا أُوعِبَ مارِنُهُ جَدْعاً الدية» (¬5). وأما كونه يحتمل أن يجب في المارن دية (¬6) وحكومة في القصبة؛ فلما تقدم في قطع اليد من فوق الكوع. وأما كون حشفة الذكر فيها دية الذكر؛ فلأن منفعته تكمل بالحشفة كما تكمل منفعة اليد بالأصابع، وفي الأصابع بلا كف دية كاملة. فكذلك الحشفة. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) ما بين المعترضتين ساقط من د. (¬3) في د: لأنه يروى أنه قال. (¬4) في أ: في. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 88 كتاب الديات، باب دية الأنف. نحوه. (¬6) ساقط من أ.

وأما كون حلمتي الثديين فيهما دية الثديين؛ فلأنه ذهب من الثديين ما تذهب المنفعة بذهابه. فوجب (¬1) ديتهما كاملة؛ كالأصابع من الكف وحشفة الذكر. بيان ذهاب المنفعة أن بهما يشرب الصبي ويرتضع (¬2) فيهما؛ كالأصابع في الكف. وأما كون كسر ظاهر السن فيه دية السن؛ فلأنه هو المسمى سناً وما خفي باللثة يسمى سنخاً. قال: (وفي قطع بعض المارن والأذن والحلمة واللسان والشفة والحشفة والأنملة والسن وشق الحشفة طولاً بالحساب من ديته [يقدر بالأجزاء). أما كون قطع ما ذكر فيه بالحساب من ديته] (¬3)؛ فلأن من (¬4) تجب الدية في جميعه يجب أن تجب في بعضه بالحساب. وأما كون ذلك يقدر بالأجزاء؛ فلأن ذلك طريق إلى العلم بمقدار الجناية، وهو مطلوب؛ لما فيه من تحصيل العلم بمقدار الواجب. وأما كون شق الحشفة طولاً بالحساب؛ فلأنه نقص. فيجب أن يجب بحسابه؛ كالقطع. قال: (وفي شلل العضو أو إذهاب نفعه، والجناية على الشفتين بحيث لا ينطبقان على الأسنان، وتسويد السن والظفر بحيث لا يزول: ديته. وعنه: في تسويد السن ثلث ديتها. وقال أبو بكر: فيها حكومة). أما كون شلل العضو فيه ديته؛ فلأنه يذهب بشلله المنفعة المقصودة منه. فوجب أن تجب فيه الدية؛ كما لو جنى على عينه فذهب ضوؤها. وأما كون إذهاب نفع العضو فيه ديته؛ فلأن ذلك في معنى شلله، وذلك يوجب الدية. فكذلك ما في معناه لأن التساوي معنى يوجب التساوي حكماً. ¬

_ (¬1) في أ: فوجب فيهما. (¬2) في أ: ويرضع. (¬3) ساقط من أ. (¬4) في أ: ما.

وأما كون الجناية على الشفتين بحيث لا ينطبقان على الأسنان فيها دية الشفتين؛ فلأن الجاني الجناية المذكورة عطل منفعة الشفتين. فوجب أن تجب عليه ديتهما؛ كما لو أشلهما. وأما كون تسويد السن فيه دية السن كاملة على المذهب؛ فلأنه قول زيد بن ثابت ولم يعرف له مخالف فكان إجماعاً. ولأنه ذهب (¬1) جمالها بتسويدها. فكملت ديتها على من سودها؛ كما لو سود وجهه. وأما كون ذلك فيه ثلث دية السن على روايةٍ؛ فلأنه منقول عن بعض الصحابة. وأما كونه فيه حكومة على قول أبي بكر (¬2)؛ فلأنه لم تذهب منفعتها. أشبه ما لو تغير لون عينه وهو يبصر. وأما كون تسويد الظفر بحيث لا يزول فيه دية الظفر؛ فلما ذكر في السن. فإن قيل: هلا خرج فيه من الخلاف ما خرج في السن (¬3)؟ قال: (وفي العضو الأشل من اليد والرجل والذكر والثدي، ولسان الأخرس، والعين القائمة، وشحمة الأذن، وذكر الخصي والعنين، والسن السوداء، والثدي دون حلمته، والذكر دون حشفته، وقصبة الأنف، واليد والإصبع الزائدتين (¬4): حكومة. وعنه: ثلث ديته. وعنه: في ذكر الخصي والعنين كمال ديته). أما كون العضو الأشل من اليد فيه حكومة على الأول؛ فلأنها يد لا منفعة فيها. أشبهت اليد الزائدة. ¬

_ (¬1) في أ: أذهب. (¬2) في أ: القاضي. (¬3) كذا في الأصول. (¬4) في أ: الزائدة.

وأما كونها فيها ثلث دية اليد على روايةٍ؛ فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في اليدِ الشلاءِ إذا قُطِعتْ بِثُلُثِ ديتِها» (¬1). وهذه أولى؛ لأن دليل الأول قياس في مقابلة النص. ولأن ذلك يروى عن عمر بن الخطاب (¬2). ولأن اليد المذكورة كاملة الصورة. فوجب أن يكون فيها مقدر؛ كالصحيحة. وأما كون العضو الأشل من الرجل والذكر والثدي فيه الروايتان المذكورتان؛ فلأنه كاليد الشلاء معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما كون لسان الأخرس فيه الروايتان المذكورتان؛ فلأن خرس اللسان كشلل الأعضاء المذكورة. فوجب أن يخرج فيه ما خرج في العضو الأشل. وأما كون العين القائمة فيه الروايتان المذكورتان؛ فلأنها في معنى اليد الشلاء. ويعضده أن في حديث عمرو بن شعيب المتقدم ذكره: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العينِ القائمةِ السَّادة (¬3) لمكانِها بُثلُثِ الدية» (¬4). وأما كون شحمة الأذن فيها الروايتان المذكورتان (¬5). وأما كون ذكر الخصي والعنين فيه حكومة على الأول؛ فلأن نفعه ذهب. أشبه العضو الأشل. وأما كونه فيه ثلث دية (¬6) الذكر على روايةٍ؛ فلأن منفعة الإنزل والإحبال معدوم فيه. فلم تبلغ ديته الدية، ولم تنقص عن ثلثها؛ كالعين القائمة. وأما كونه فيه كمال دية الذكر على روايةٍ؛ فلعموم قوله عليه السلام: «وفي الذَّكرِ الدية» (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في سننه (4840) 8: 55 كتاب القسامة، العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 98 كتاب الديات، باب ما جاء في العين القائمة واليد الشلاء. (¬3) في أ: الساد. (¬4) سبق تخريجه ص: 147. (¬5) كذا في الأصول. (¬6) ساقط من أ. (¬7) سبق تخريجه ص: 137.

وأما كون السن السوداء فيها الروايتان المذكورتان؛ فلأن سوادهما كشلل (¬1) اليد معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. ويعضد رواية (¬2) ثلث دية السن أن في حديث عمرو بن شعيب المتقدم ذكره: «وفي السنِّ السودَاءِ إذا قُلِعَتْ ثلث ديتها» (¬3). رواه النسائي. ولأنها كاملة الصورة. فكان فيها مقدّر؛ كالصحيحة. وأما كون الثدي دون حلمته فيه الروايتان المذكورتان في اليد الشلاء؛ فلأن ذهاب الحلمة كالشلل في اليد؛ لأن نفع الثدي يذهب بذهاب الحلمة؛ كما يذهب نفع اليد بشللها. وأما كون الذكر دون حشفته فيه الروايتان المذكورتان (¬4)؛ فلأن ذهاب الحشفة كالشلل؛ لاشتراكهما في ذهاب المنفعة. وأما كون قصبة الأنف فيها الروايتان المذكورتان؛ فلأن نفع الأنف يذهب بذهاب القصبة. أشبه ذهاب منفعة اليد لشللها. وأما كون اليد والإصبع الزائدتين فيهما الروايتان فبالقياس على اليد الشلاء. والأولى أن فيهما الحكومة؛ لأن التقدير لا يصار إليه إلا بتوقيف، أو مماثلة لما فيه توقيف. وليس ما ذكر مماثلاً لليد الشلاء؛ [لأن اليد الشلاء] (¬5) يحصل (¬6) بها الجمال، واليد الزائدة والإصبع الزائدة لا جمال فيها في الغالب. ¬

_ (¬1) في أ: كالشلل. (¬2) ساقط من أ. (¬3) سبق تخريجه ص: 147. (¬4) ساقط من د. (¬5) ساقط من أ. (¬6) في أ: لا يحصل.

قال: (فلو قطع الأنثيين والذكر معاً أو الذكر ثم الأنثيين لزمه ديتان. ولو قطع الأنثيين ثم قطع الذكر وجبت دية الأنثيين. وفي الذكر روايتان إحداهما: دية، والأخرى: حكومة أو ثلث الدية). أما كون قطع الأنثيين والذكر معاً أو الذكر أولاً ثم الأنثيين يلزم قاطعهما ديتان؛ فلأن كل واحد منهما إذا قطع منفرداً وجبت ديته فإذا اجتمع قطعهما وجبت ديتان. وأما كون قطع الأنثيين أولاً ثم الذكر يجب في الأنثيين ديتهما وفي الذكر الروايتان المتقدم ذكرهما؛ فلأن قطع الأنثيين لم يصادف ما يوجب نقصهما عن ديتهما، وقطع الذكر نظراً إلى أنه ذكر فيه دية الذكر (¬1)؛ لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «في الذكرِ الدية» (¬2)، ونظراً إلى أنه صادف ذكر خصي فيه ما تقدم في ذكر الخصي. قال: (وإن أشل الأنف أو الأذن أو عوجهما [ففيه حكومة. وفي قطع الأشل منهما كمال ديته). أما كون من ذُكر] (¬3) عليه في ذلك حكومة؛ فلأنه لا تقدير في ذلك، والحكومة واجبة في كل موضع لا مقدر فيه. فإن قيل: شلل كل عضو بمنزلة قطعه. فلم لم يكن الأمر هاهنا كذلك؟ قيل: لأن نفع الأنف والأذن باق مع الشلل. بخلاف اليد فإن نفعها غير باق. وإنما قلنا أن نفع الأنف كونه مجرى اجتذاب الهواء، ونفع الأذن كونها تجمع الصوت ويمنع دخول الهوام في الصماخ، وذلك كله موجود مع الشلل. وأما كون قطع الأشل من الأنف والأذن فيه كمال ديته؛ فلأنه صادف عضواً كامل المنفعة والجمال. أشبه الصحيح. ¬

_ (¬1) من هنا سقط لوحة من د. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) ساقط من أ، وقد استدركنا المتن من المقنع، والباقي زيادة يقتضيها السياق.

قال: (وتجب الدية في الأنف الأخشم والمخزوم وأذني الأصم. وإن قطع أنفه فذهب شمه، أو أذنيه فذهب سمعه: وجبت ديتان. وسائر الأعضاء إذا أذهبها بنفعها لم تجب إلا دية واحدة). أما كون أنف الأخشم والمخزوم تجب فيه الدية؛ فلقوله عليه السلام: «وفي الأنفِ إذا أُوعِبَ جَدْعاً الدية» (¬1). وأما كون أذني الأصم تجب فيهما الدية؛ فلعموم قوله عليه السلام: «وفي الأذنينِ الدية» (¬2). ولأن الصمم نقص في غير الأذن فلا يؤثر في دية الأذن. وأما كون من قطع أنف شخص فذهب شمه، أو أذنيه فذهب سمعه عليه في ذلك ديتان؛ فلأن الشم في غير الأنف، والسمع في غير الإذن. فلم تدخل إحدى الديتين في الأخرى. وأما كون سائر الأعضاء إذا أذهبها بنفعها لا تجب فيها إلا دية واحدة؛ فلأن تفويت (¬3) نفعه وقع ضمناً، والعضو الفائت ضمناً لا شيء فيه. دليله القتل فإنه وجب دية واحدة وإن أتلف أشياء وتجب بكل واحدة منهما الدية. ومما ذكر فارقت سائر الأعضاء، والأنف إذا ذهب معه الشم، والأذن إذا ذهب معها السمع لأن كل واحد من الأمرين في غير الأنف والأذن. فذهاب أحدهما مع الآخر ذهاب لما ليس أحدهما نفعاً للآخر. والله أعلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في أ: التفويت.

فصل في دية المنافع قال المصنف رحمه الله تعالى: (وفي كل حاسة دية كاملة. وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق. وكذلك تجب في الكلام، والعقل، والمشي، والأكل، والنكاح). أما كون كل حاسة فيها دية كاملة؛ فلما يأتي ذكره في مواضعه. وأما قول المصنف: وهي السمع والبصر والشم والذوق؛ فبيان لمعنى الحاسة وتعداد لها. وأما كون السمع فيه دية كاملة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وفي السمعِ الدية» (¬1). وروي «أن عمر رضي الله قضى في رجلٍ رمى رجلاً بحجرٍ في رأسهِ فذهبَ سمعهُ وعقلهُ ولسانهُ ونكاحهُ بأربعِ دياتٍ والرجلُ حي» (¬2). وأما كون البصر فيه دية كاملة؛ فلأنها إذا أوجبت بإذهاب السمع والشم؛ فلأن تجب بإذهاب البصر بطريق الأولى؛ لأن انتفاع الإنسان بضوء عينيه أكثر من انتفاعه بالسمع والشم. وأما كون الشم فيه دية كاملة؛ فلأن في كتاب عمرو بن حزم: «وفي المشامِّ الدية» (¬3). ولأن إذهاب ذلك ذهاب حاسة تختص بمنفعة. فكان فيها الدية؛ كسائر الحواس. وأما كون الذوق فيه دية كاملة؛ فلأن الذوق حاسة. أشبه بقية الحواس. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 85 كتاب الديات، باب السمع. ولفظه: «وفي السمع مائة من الإبل». (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 98 كتاب الديات، باب اجتماع الجراحات. (¬3) لم أجده هكذا. وإنما الذي في حديثه: «وفي الأنف إذا أوعب جدعا مائة من الإبل». وقد سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال المصنف في المغني: قياس المذهب أن لا دية فيه لأنه لا يُختلف في لسان الأخرس أنه لا تجب الدية فيه ولو وجب في الذوق الدية لوجبت في ذهابه فمع ذهاب اللسان بطريق الأولى. قال: والصحيح إن شاء الله تعالى أنه لا دية منه لأن كل عضو لا تكمل الدية فيه بمنفعته لا تكمل في منفعته دونه. دليله سائر الأعضاء. وأما كون الكلام كذلك أي تجب فيه دية كاملة؛ فلأن كل ما تعلقت الدية بإتلافه تعلقت بإتلاف منفعته. دليله اليد. وأما كون العقل كذلك أي تجب فيه دية كاملة؛ فلأن في كتاب عمرو بن حزم: «وفي العقلِ الدية» (¬1). ولأن العقل أكبر المعاني قدراً وأعظم الحواس نفعاً فإن به يتميز من البهيمة ويعرف به صحة (¬2) حقائق المعلومات ويهتدي به إلى المصالح ويدخل به في التكليف. وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات. فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس. وأما كون المشي كذلك أي يجب فيه دية كاملة؛ فلأن في كتاب عمرو بن حزم: «وفي الصلبِ الدية» (¬3). ولأن في المشي منفعة مقصودة. أشبه الكلام. وأما كون الأكل كذلك أي تجب فيه دية كاملة؛ فلأنه قول علي رضي الله عنه. ولأن النكاح نفع مقصود. أشبه ذهاب المشي (¬4). ¬

_ (¬1) ليس هذا في نسخة عمرو بن حزم. وقد ذكره البيهقي في السنن الكبرى عن معاذ بن جبل مرفوعاً لفظ: «وفي العقل مائة من الإبل» 8: 86 كتاب الديات، باب ذهاب العقل من الجناية. وقال: وروينا عن عمر، وزيد بن ثابت مثله. (¬2) إلى هنا نهاية السقط من د. (¬3) سبق تخريجه ص: 112. (¬4) كذا في الأصول.

قال: (وتجب في الحدَب والصّعَر. وهو: أن يضربه فيصير الوجه في جانب، وفي تسويد الوجه إذا لم يزل، وإذا لم يستمسك الغائط أو البول: ففي كل واحد من ذلك دية كاملة). أما كون الحدَب تجب فيه دية كاملة؛ فلأن بذلك تذهب المنفعة والجمال لأن انتصاب القامة من كمال الجمال ومن شرف الآدمي على سائر الحيوان. وأما كون الصَّعَر تجب فيه دية كاملة؛ فلأن مكحولاً روى عن زيد بن ثابت أنه قال: «وفي الصَّعر الدية» (¬1). ولم يعرف له مخالف في الصحابة فكان إجماعاً. ولأن الصعر يذهب معه المنفعة والجمال. فوجب فيه دية كاملة؛ كسائر المنافع. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يضربه فيصير الوجه في جانب؛ فبيان للصعر. وأصله داءٌ يأخذ البعيرَ يلتوي (¬2) له عنقه. قال الله تعالى: {ولا تُصَعِّر خدك للناس} [لقمان: 18]. أي ولا تعرض عنهم بوجهك تكبراً كإمالة وجه البعير الذي به الصَّعَر. وأما كون تسويد الوجه إذا لم يزل فيه دية كاملة؛ فلأن بذلك يذهب كمال الجمال. فوجب أن تجب فيه كمال الدية؛ لما تقدم غير مرة. وأما كون الغائط أو البول إذا لم يستمسك في كل واحد دية كاملة؛ فلأن كل واحد من محليهما فيه (¬3) منفعة ليس في البدن مثلها. فوجب في تفويتها دية كاملة؛ كسائر الأعضاء. قال: (وفي نقص شيء من ذلك إن علم بقَدْره؛ مثل: نقص العقل بأن يجن يوماً ويفيق يوماً، أو ذهاب بصر إحدى العينين، أو سمع إحدى الأذنين. وفي بعض الكلام بالحساب يقسم على ثمانية وعشرين حرفاً. ويحتمل أن يقسم على الحروف التي للّسان فيها عمل دون الشفوية كالباء والفاء والميم. وإن لم يُعلم قدره مثل إن صار مدهوشاً أو نقص سمعه أو بصره أو شمه، أو حصل في كلامه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (26898) 5: 360 كتاب الديات، إذا أصابه صعر ما فيه؟ (¬2) في أ: فيلتوي. (¬3) في أ: فيه دية.

عجلة أو تمتمة، أو نقص مشيه، أو انحنى قليلاً، [أو تقلصت شفته بعض التقلص، أو تحركت سنه، أو ذهب اللبن من ثدي المرأة ونحو ذلك] (¬1): ففيه حكومة). أما كون نقص شيء مما ذكر إن علم بقدره؛ فلأن ما وجب في جميع الشيء وجب في بعضه بقدره؛ كإتلاف الأموال. وأما قول المصنف رحمه الله: مثل نقص العقل بأن يجن يوماً ويفيق يوماً ... إلى آخره؛ فبيان للنقص المعلوم قدره. فعلى هذا يجب فيما ذُكر نصف الدية؛ لأن ذلك ذهاب نصف العقل، ويجب في ذهاب ضوء إحدى العينين نصف الدية؛ لأن ذلك نصف البصر، ويجب في ذهاب سمع إحدى الأذنين نصف الدية؛ لأن ذلك نصف السمع. وأما كون بعض الكلام فيه بالحساب؛ فلأنه يساوي ما تقدم معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما كون ذلك يقسم على ثمانية وعشرين حرفاً؛ فلأن لكل حرف باللسان تعلقاً: إما لأنه فيه، وإما لأن ما ليس فيه لا ينتفع به إلا مع الحرف اللساني. وأما كونه يحتمل أن يقسم على الحروف التي للسان فيها عمل دون الشفوية؛ فلأن الجناية صادفت اللسان. فوجب أن يعتبر ما له عمل فيها. فإن قيل: لم سقطت لا من الحساب [على الأول؟ وما الحروف التي للسان فيها عمل] (¬2)؟ قيل: أما سقوط لا من الحساب؛ فلأن (¬3) مخرجها مخرج الألف واللام. وأما الحروف التي للسان فيها عمل فقال المصنف رحمه الله في المغني: الحروف الشفوية أربعة: الباء والميم والفاء والواو، والحروف الحلقية: الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين. فهذه عشرة بقي ثمانية عشر. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق. (¬3) في أ: قيل لأن.

فعلى هذا الباقي من الحروف هو: التاء والثاء والجيم والدال والذال والراء والزاي والسين والشين والصاد والضاد والطاء والظاء والقاف والكاف واللام والنون والياء. وأما كون ما لا يعلم قدره كما مثل المصنف رحمه الله فيه حكومة؛ فلأن ذلك كله لا يمكن تقديره لعدم العلم بمقداره. فوجب أن تجب فيه حكومة؛ كسائر ما لا تقدير فيه. قال: (وإن قطع بعض اللسان فذهب بعض الكلام اعتبر أكثرهما. فلو ذهب ربع اللسان ونصف الكلام أو ربع الكلام ونصف اللسان: وجب نصف الدية). أما كون ما ذكر يعتبر فيه الأكثر؛ فلأن كل واحد من اللسان والكلام مضمون (¬1) بالدية منفرداً ومجموعهما (¬2) مضموناً بها. فإذا اجتمعا وجب اعتبار الأكثر. وأما كونه يجب فيه نصف الدية؛ فلأن الأكثر من الذاهب يوجب (¬3) ذلك. قال: (وإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام ثم قطع آخر بقيته: فعلى الأول نصف الدية، وعلى الثاني نصفها. ويحتمل أن يجب عليه نصف الدية وحكومة لربع اللسان). أما كون الأول عليه نصف الدية؛ فلأنه ذهب بجنايته نصف الكلام. وأما كون الثاني عليه نصفها لا غير على المذهب؛ فلأن اللسان ذهب بجنايتهما وقد ضمن الأول نصف الدية. فوجب أن يكون الباقي على الثاني. وأما كونه يحتمل أن يجب عليه نصف الدية والحكومة: أما نصف الدية؛ فلأنه ذهب بجنايته نصف الكلام. وأما الحكومة؛ فلأن الزائد على نصف اللسان أشل ولا حظ له في الدية. فوجب أن تجب فيه حكومة. ¬

_ (¬1) في أ: مضمونة. (¬2) في د: مجموعا. (¬3) في أ: فوجب.

قال: (وإن قطع لسانه فذهب نطقه وذوقه لم تجب إلا دية. وإن ذهبا مع بقاء اللسان ففيه ديتان). أما كون من قطع لسانه فذهب نطقه وذوقه لا تجب له (¬1) إلا دية؛ فلأن فوات النطق والذوق حصل ضمناً. فلم يجب بهما شيء؛ كسائر الأعضاء مع النفس. وأما كون من ذهب نطقه وذوقه مع بقاء اللسان فيه ديتان؛ فلأن كل واحد منهما ذاهب لا على سبيل التبع. أشبه ما لو أذهب واحداً بعد واحد. قال: (وإن كسر صلبه فذهب مشيه ونكاحه ففيه ديتان. ويحتمل أن تجب دية واحدة). أما كون [ما ذكر] (¬2) فيه ديتان على المذهب؛ فلأن المشي والنكاح متعتان تجب الدية بذهاب كل واحد منهما منفرداً. فإذا اجتمعا وجب فيهما ديتان؛ كالسمع والبصر. وأما كونه يحتمل أن تجب دية واحدة؛ فلأنهما نفع عضو واحد. فلم تجب فيها أكثر من دية واحدة؛ كما لو قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه. قال: (وإن اختلفا في نقص بصره أو سمعه فالقول قول المجني عليه. وإن اختلفا في ذهاب بصره أُري أهل الخبرة به (¬3) وقرّب الشيء إلى عينه في وقت غفلته. وإن اختلفا في ذهاب سمعه أو شمه أو ذوقه صيح به في أوقات غفلته، وتتبع بالرائحة المنتنة، وأطعم الأشياء المرة فإن فزع مما يدنو من بصره أو انزعج للصوت أو عبس للرائحة أو الطعم المر سقطت دعواه، وإلا فالقول قوله مع يمينه). أما كون القول قول المجني عليه إذا اختلف هو والجاني في نقص البصر والسمع؛ فلأن ذلك لا يعرف إلا من جهته. فكان القول قوله فيه؛ كما أن القول قول المرأة في حيضها لكونه لا يعلم إلا من جهتها. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) ساقط من د. (¬3) ساقط من أ.

وأما كونه يُرى أهل الخبرة إذا اختلف هو والجاني في ذهاب بصره؛ فلأن ذلك تمكن معرفته منهم وهم فيما يخبرون به كالبيّنة. وأما كونه يقرب الشيء إلى عينه في وقت غفلته؛ فلأن ذلك يعلم به أَذَهَبَ بصره أم لا؟ . وأما كونه يصاح به في وقت غفلته إذا ادعى ذهاب سمعه، ويتتبع بالرائحة المنتنة إذا ادعى ذهاب شمه، ويطعم الأشياء المرة إذا ادعى ذهاب ذوقه؛ فلأن كل واحد مما ذكر يمكن الاستعلام به هل صدق في دعواه [أو كذب، ولذلك لم يرجع إلى قوله فيما إذا ادعاه. وأما (¬1) كونه تسقط دعواه] (¬2) إذا فزع عندما يدنو إلى بصره أو انزعج للصوت أو عبس للرائحة المنتنة أو الطعم المر؛ فلأن ذلك دليل على كذبه. وأما كون القول قوله إذا لم يوجد منه ذلك؛ فلأن الظاهر صدقه. ¬

_ (¬1) في أ: أما. (¬2) ساقط من أ.

فصل [لا تجب دية الجرح حتى يندمل] قال المصنف رحمه الله: (ولا تجب دية الجرح حتى يندمل، ولا دية سن ولا ظفر ولا منفعة حتى ييئس من عودها). أما كون دية الجرح لا تجب حتى يندمل؛ فلأن الدية في الخطأ نظير القصاص في العمد، ولا يقتص من الجرح في العمد حتى يندمل. فكذلك لا تجب الدية في الخطأ حتى تندمل. وأما كون دية سن أو ظفر أو منفعة لا تجب حتى ييئس من عودها؛ فلأن اليأس من العود فيما ذكر كالاندمال في الجرح، ودية الجرح لا تجب حتى يندمل. فكذلك لا تجب دية سن ولا ظفر ولا منفعة حتى ييأس (¬1) من العود. قال: (ولو قلع سن كبير أو ظفره (¬2) ثم نبت أو رده فالتحم، أو أذهب سمعه أو بصره أو شمه أو ذوقه أو عقله ثم عاد: سقطت ديته. وإن كان قد أخذها ردّها. وإن عاد ناقصاً، أو عادت السن أو الظفر قصيراً أو متغيراً فعليه أرش نقصه. وعنه: في قلع الظفر إذا نبت على صفته خمسة دنانير، وإن نبت أسود ففيه عشرة). أما كون من قلع سن كبير أو ظفره (¬3) ثم نبت تسقط ديته؛ فلأن المجني عليه عاد له مثل ما جني عليه. فلم تجب له دية؛ كما لو قلع (¬4) من صبي لم يثغر. ¬

_ (¬1) في د: يئس. (¬2) في أ: ظفرا. (¬3) مثل السابق. (¬4) في أ: قطع.

وأما كون من قلع ذلك ثم رده فالتحم تسقط ديته؛ فلأن ذلك في معنى نبات السن، وإذا (¬1) نبت تسقط. فكذلك ما هو في معنى (¬2) النبات. وأما كون من أذهب سمعه أو بصره أو شمه أو ذوقه أو عقله ثم عاد تسقط ديته؛ فلما ذكر في السنّ. وأما كون المجني عليه يردها إن كان قد أخذها؛ فلأنه تبين أنه لا حق له فيها. أشبه ما لو أخذ من شخص شيئاً ظناً منه أنه حقه ثم تبين أنه لا حق له في ذلك فإنه يجب عليه رد ما أخذ. فكذلك هاهنا. وأما كون الجاني عليه أرش النقص إذا عاد السمع أو البصر أو الشم ناقصاً؛ فلأن ذلك بمنزلة ما لو نقص ذلك ابتداء. وأما كونه عليه أرش نقص السن إذا عادت قصيرة أو متغيراً (¬3)؛ فلأن ذلك نقصٌ فيها وعود الشيء ناقصاً يوجب لوجوب أرش النقص؛ لما تقدم. وأما كونه عليه أرش نقص الظفر إذا عاد قصيراً أو متغيراً على المذهب؛ فلأنه نقص. فكان عليه أرش نقصه؛ كالسنّ. وأما كون قلع الظفر إذا نبت على صفته فيه خمسة دنانير، وإن نبت أسود ففيه عشرة على روايةٍ. قال: (وإن قلع (¬4) سن صغير ويئس من عودها وجبت ديتها. وقال القاضي: فيها حكومة). أما كون دية السن الموصوفة بما ذكر تجب على المذهب؛ فلأنه تيقن أنه قلع سناً مأيوساً من عودها. فوجب أن تجب ديتها؛ كما لو قلعها من كبير. وأما كونها فيها حكومة على قول القاضي؛ فلأن السن المذكورة لا تساوي سن الكبير. بدليل أن الدية عند القلع. فوجب أن لا يكون الواجبُ فيها الواجبَ فيها، وذلك يقتضي وجوب الحكومة؛ لأنها جناية لا مقدر فيها. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: معناه. (¬3) في أ: متغيبة. (¬4) في أ: قطع.

والأولى أولى؛ لعموم قوله عليه السلام: «وفي السنِ خمسٌ من الإبل» (¬1). ودعوى عدم المساواة بينها وبين السن الكبيرة ممنوعة وما ذكر من الفرق بعدم الوجوب عند القلع فلأمر. وهو: أن العادة جارية بنبات سن الصغير، وشرط الوجوب اليٍأس من العود. فإذا أيس من عود سنه صار بمنزلة سن الكبير فلا فرق. فإن قيل: متى ييأس من عودها؟ قيل: المنقول عن الإمام أحمد بعد سنة؛ لأن ذلك هو الغالب في نباتها. وقال القاضي: إذا سقطت أخواتها ثم نبتت ولم تنبت هي؛ لأن الحال دلّ على ذلك. قال: (وإن مات المجني عليه فادعى الجاني عود ما أذهبه فأنكره الولي فالقول قول الولي. وإن جنى على سنه اثنان واختلفا فالقول قول المجني عليه في قدر ما أتلف كل واحد منهما). أما كون القول قول الولي في إنكاره لعود ما ادعى الجاني عوده؛ فلأن قوله يعضده الأصل من حيث إن الأصل عدم العود. وأما كون القول قول المجني عليه إذا جنى عليه اثنان واختلفا في قدر ما أتلف كل واحد منهما؛ فلأنه أعلم بذلك منهما. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 142.

فصل [في دية الشعر] قال المصنف رحمه الله: (وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية وهي: شعر الرأس، واللحية، والحاجبين، وأهداب العينين. وفي كل حاجب نصفها، وفي كل هدب ربعها، وفي بعض ذلك بقسطه من الدية. وإنما تجب ديته إذا أزاله على وجه لا يعود. فإن عاد سقطت الدية). أما كون كل واحد من الشعور الأربعة فيه الدية؛ فلأن في إذهاب كل واحد منها ذهاب منفعة جنس. أشبهت اليدين والرجلين وما أشبه ذلك. وأما قول المصنف رحمه الله: وهي شعر الرأس واللحية والحاجبين وأهداب العينين؛ فبيان للشعور الأربعة المتقدم ذكرها. وأما كون كل حاجب فيه نصف الدية؛ فلأن ما وجب الدية في شيء وجب نصفها في نصفه؛ كاليدين. وأما كون كل هدب فيه ربع الدية؛ فلأن في جميع الأهداب الدية وهي أربعة. فيجب أن يجب في كل هدب ربعها. وأما كون بعض ذلك بقسطه من الدية؛ فلأن ما وجب الدية في جميعه وجب في بعضه بقسطه. وأما قول المصنف رحمه الله: وإنما تجب ديته إذا أزاله على وجه لا يعود؛ فبيان لاشتراط عدم عود الشعور المذكورة للوجوب المذكور. ووجهه: أن احتمال العود في العادة يمنع من الوجوب. دليله سن الصغير. فعلى هذا إن أيس من عودها وجبت الدية. فإن عادت بعد ذلك سقطت؛ كالسن سواء.

قال: (وإذا أبقى (¬1) من لحيته ما لا جمال فيه احتمل أن يلزمه بقسطه، واحتمل أن يلزمه كمال الدية. وإن قلع الجفن بهدبه لم تجب إلا دية الجفن. وإن قلع اللحيين بما عليهما من الأسنان فعليه ديتهما ودية الأسنان). أما كون من أبقى من شعر لحية غيره ما لا جمال فيه يحتمل أن يلزمه بقسطه؛ فلأنه بقي (¬2) بعض ما كان به الجمال فوجبت بقسطه الدية على الفائت والباقي. وأما كونه يحتمل أن يلزمه كمال الدية؛ فلأنه أذهب المقصود كله. أشبه ما لو أذهب ضوء العين. ولأن جنايته ربما جرت (¬3) إلى إذهاب الباقي لزيادته في القبح على ذهاب الكل. فتكون جنايته سبباً لذهاب الكل. فأوجب ديته؛ كما لو ذهب بسراية الفعل، وكما لو احتاج في دواء شجة الرأس إلى ما (¬4) يذهب ضوء عينه. وأما كون من قلع الجفن بهدبه لا يجب عليه إلا دية الجفن؛ فلأن ذلك يزول تبعاً لزوال الجفن. فلم يجب فيه شيء؛ كالأصابع إذا قطع الكف وهي عليه. وأما كون من قلع اللحيين بما عليهما من الأسنان عليه ديتهما ودية الأسنان؛ فلأن كل واحد لو انفرد تجب ديته، وليس أحدهما تبعاً للآخر. فإذا ذهبا وجبت ديتهما؛ كما لو جنى على أذنه فذهب سمعه وبصره. فإن قيل: لم لا تدخل الأسنان في اللحيين لأن فواتها يقع ضمناً، ولذلك تدخل دية الأصابع في دية اليد؟ . قيل: لوجوه ثلاثة: أحدها: أن الأسنان مغروزة في اللحيين غير متصلة بها. بخلاف الأصابع. والثاني: أن كل واحد من اللحيين والأسنان ينفرد باسمه، ولا يدخل أحدهما في اسم الآخر. بخلاف الكف والأصابع فإن اسم اليد يشملهما (¬5). ¬

_ (¬1) في د: بقي. (¬2) ساقط من د. (¬3) في أ: حوجت. (¬4) ساقط من أ. (¬5) في د: يشملها.

والثالث: أن اللحيين يوجدان قبل وجود الأسنان في الخلقة ويبقيان بعد ذهابها في حق الكبير ومن تقلعت أسنانه عادة. بخلاف الكف والأصابع. قال: (وإن قطع كفاً بأصابعه لم تجب إلا دية الأصابع. وإن قطع كفاً عليه بعض الأصابع دخل ما حاذى الأصابع في ديتها وعليه أرش باقي الكف. وإن قطع أنملة بظفرها فليس عليه إلا ديتها). أما كون من قطع كفاً بأصابعه لا تجب عليه إلا دية الأصابع؛ فلأن تلف الأصابع وقع ضمناً لتلف اليد كما وقع تلف اليد ضمناً لتلف النفس. وفي تلف النفس لا تجب إلا دية النفس. فكذلك لا تجب بتلف الكف الذي عليه أصابعه إلا دية اليد. فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله مشعر بأن الدية للأصابع، وذلك يقتضي سقوط ما يجب في مقابلة الكف. قيل: ظاهره ذلك وليس بمراد له، ولكن لما كان دية الأصابع كدية اليد أطلق اللفظ المذكور نظراً إلى المعنى. والعبارة المخلصة من الإشكال أن يقول: لم تجب إلا دية اليد كما ذكرتُ في الشرح. وأما كون ما حاذى الأصابع يدخل في ديتها إذا قطع كفاً عليه بعض الأصابع؛ فلأن دخول الكل في الكل يقتضي دخول البعض في البعض. وأما كون قاطع ذلك عليه أرش باقي الكف؛ فلأنه لم يوجد شيء يدخل فيه ضمان ذلك. أشبه ما لو لم يبق من يده إلا ذلك فقطعه. وأما كون من قطع أنملة بظفرها ليس عليه إلا ديتها؛ فلأن الظفر في الأنملة كالإصبع في اليد.

فصل [في دية الأعور] قال المصنف رحمه الله: (وفي عين الأعور دية كاملة. نص عليه). أما كون عين الأعور فيها دية كاملة؛ فلأن عمر وعثمان وعلياً وابن عمر رضي الله عنهم قضوا بذلك (¬1)، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة فيكون إجماعاً. ولأن قطع عين الأعور يتضمن إذهاب البصر كله. فوجبت الدية؛ كما لو أذهبه من العينين. ودليل ذلك أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين فإنه يرى الأشياء البعيدة ويدرك (¬2) الأشياء اللطيفة ويعمل أعمال البصير ويجوز أن يكون شاهداً أو قاضياً. فإن قيل: لو صح أنه يذهب بذهاب العين العوراء البصر كله لم يكن في إذهاب إحدى العينين نصف الدية لأنه لم ينقص ضوء عينه وإنما انتقل. قيل: لا يلزم من وجوب دية إحدى (¬3) العينين نقص دية الباقي (¬4) بدليل ما لو جنى عليهما فأحولتا أو نقص ضوؤهما فإنه يجب أرش النقص ولا تنقص ديتهما بذلك. وأما قول المصنف رحمه الله: نص عليه؛ فتنبيه (¬5) على أن الإمام أحمد رضي الله عنه صرح بذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 94 كتاب الديات، باب الصحيح يصيب عين الأعور والأعور يصيب عين الصحيح. (¬2) في د: ويدبر لنا. (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) في د: الثاني. (¬5) في د: وأما كون المصنف رحمه الله تنبيه.

قال: (وإن قلع الأعورُ عين صحيح عمداً فعليه دية كاملة ولا قصاص. ويحتمل أن تقلع عينه ويعطى نصف الدية. وإن قلعها خطأ فعليه نصف الدية). أما كون الأعور عليه دية كاملة إذا قلع عين صحيح عمداً. أي (¬1) إذا قلع إحدى عيني صحيح عمداً؛ فلأن القصاص لما تعذر لكون عينه بمنزلة عيني (¬2) صحيح وجب أن تجب دية عينه بمنزلة عينين لما تقدم من أن ضوء المقلوعة تنتقل إلى الباقية. ولأن ضوء عين الأعور يذهب بذهابه جميع منفعة الجنس. أشبهت بمفردها عيني الصحيح. ولأن الأعور أقيم مقام صحيح العينين في الشهادة والقضاء وغير ذلك. فكذلك هاهنا. ولأن عمر وعثمان رضي الله عنهما قضيا بذلك (¬3)، ولا يعرف لهما مخالف فكان إجماعاً. وأما كونه يحتمل أن تقلع عين الأعور؛ فلعموم الأدلة المقتضية للقصاص. وأما كونه يعطى مع ذلك نصف الدية؛ فلأن زيادة عينه على عين الصحيح زيادة معنوية. فوجب فيها ما ذكر؛ كما لو قتل رجل امرأة فإنه يقتل بها ويعطى ورثته نصف الدية. وأما كونه عليه نصف الدية إذا قلعها خطأ؛ فلأن الأصل أن تجب في إحدى العينين نصف الدية. تُرك العمل به فيما تقدم لقضاء عمر وعثمان رضي الله عنهما وسقوط القصاص في موضع يقتضيه الأصل فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. قال: (وإن قلع عيني صحيح عمداً خُيّر بين قلع عينه ولا شيء له غيرها، وبين الدية). ¬

_ (¬1) في د: فإن. (¬2) في أ: عين. (¬3) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

أما كون الصحيح مخير بين قلع عين الأعور وبين الدية؛ فلأن (¬1) ذلك حكم الجناية عمداً في سائر المواضع. فكذلك يجب أن يكون هاهنا. وأما كونه لا شيء له غير العين إذا قلعها؛ فلأن عين الأعور تقوم (¬2) مقام العينين بدليل قضاء الصحابة رضوان الله عليهم فيها بالدية كاملة. قال: (وفي يد الأقطع نصف الدية وكذلك في رجله. وعنه: فيها دية كاملة). أما كون يد الأقطع فيها نصف الدية على المذهب؛ فلأن اليد الواحدة لا يجب فيها إلا نصف الدية. وأما كون رجله كذلك؛ فلما ذكر في يده. وأما كون يده أو رجله فيها دية كاملة في روايةٍ؛ فقياس على عين الأعور. والأولى أصح؛ لما تقدم، ولدخولهما في النصوص المقتضية لوجوب نصف الدية. والقياس على عين الأعور لا يصح لوجوه: أحدها: أن عين الأعور حصل بها ما يحصل بالعينين ولم يختلفا بالحقيقة إلا تفاوتاً يسيراً. بخلاف قطع اليد والرجل. وثانيها: أن عين الأعور لم يختلف الحكم فيها باختلاف صفة الذهاب الأول. وهاهنا اختلف. وثالثها: أن التقدير المذكور لا يصار إليه إلا بتوقيف ولم يوجد هاهنا. بخلاف الأعور. ¬

_ (¬1) في أ: أما كون ما ذكر فلأن. (¬2) في د: تقام.

باب الشجاج وكسر العظام

باب الشجاج وكسر العظام قال المصنف رحمه الله: (الشجة: اسم لجرح الرأس والوجه خاصة. وهي عشر: خمسٌ لا مقدّر فيها. أولها: الحارصة التي تحرص الجلد أي تشقه قليلاً ولا تدميه، ثم البازلة: التي يسيل منها الدم، ثم الباضعة: التي تُبضع اللحم، ثم المتلاحمة: التي أخذت في اللحم، ثم السِّمْحاق التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة. فهذه الخمس فيها حكومة في ظاهر المذهب. وعنه: في البازلة بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة، وفي السِّمْحاق أربعة). أما قول المصنف رحمه الله: الشجة اسم لجرح الرأس والوجه خاصة؛ فبيان لمسمى الشجة واحدة الشجاج. قاله الجوهري. وأما كون الشجاج عشراً؛ فلما يذكر بعد إن شاء الله تعالى. وأما كون خمس منها لا مقدر فيها؛ فلأن التقدير من الشرع، ولم يقدر فيما (¬1) ذكر شيئاً. وأما قوله: أولها الحارصة ... إلى قوله: قشرة رقيقة؛ فتعداد للخمس التي لا مقدر فيها، وبيان لها. وأما كون الخمس المذكورة فيها حكومة في ظاهر المذهب؛ فلأنها جراحات [لم يرد فيها توقيت في الشرع. فكان الواجب فيها حكومة؛ كجراحات] (¬2) البدن. ويؤيده ما روى مكحول قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضحةِ بخمسٍ من الإبلِ ولم يقضِ فيما دونها» (¬3). ¬

_ (¬1) في د: فما. (¬2) ساقط من د. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 82 كتاب الديات، باب المنقلة.

ولأنه لم يثبت فيها مقدّر بتوقيف، ولا له قياس يصح. فوجب الرجوع إلى الحكومة؛ كالحارصة. وأما كون البازلة فيها بعير والباضعة فيها بعيران والمتلاحمة فيها ثلاثة والسمحاق فيها أربعة على روايةٍ؛ فلأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه (¬1)، وروي عن علي عليه السلام في السمحاق مثل ذلك (¬2). رواه سعيد عنهما. فإن قيل: لم سيمت الخمس المذكورة بذلك؟ قيل: أما الحارصة؛ فلأن الحرص الشق. ومنه حرص القصار الثوب إذا شقه. وأما البازلة؛ فإنها تبزل الدم أي تسيله. وتسمى الدامية أيضاً. وأما الباضعة؛ فلأنها تُبضع اللحم أي تبرزه. وأما المتلاحمة؛ فلأخذها في اللحم. وأما السِّمحاق؛ فلأن الجلدة التي تبقى بين الجلد والعظم تسمى سمحاقاً فسمي الجرح باسمها. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 84 كتاب الديات، باب ما دون الموضحة من الشجاج. (¬2) أخرجه البيهقي في الموضع السابق.

فصل [في الشجاج المقدرة] قال المصنف رحمه الله: (وخمس فيها مقدر. أولها: الموضحة التي توضح العظم أي تبرزه ففيها خمسة أبعرة. وعنه: في موضحة الوجه عشرة. والأول المذهب). أما كون الخمس من الشجاج فيها مقدر؛ فلأن التقدير من الشرع، وقد ورد في الخمس الآتي بيانها في مواضعها (¬1). وأما معنى الموضحة فكما ذكر المصنف رحمه الله. وسميت بذلك لأنها أوضحت وَضَح العظم وهو بياضه. وأما كون موضحة الرأس فيها خمس أبعرة؛ فلأن في كتاب عمرو بن حزم: «في الموضِحَةِ خمسٌ من الإبل» (¬2). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في الموضِحَةِ (¬3) خمسٌ خمس» (¬4). رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن. وأما كون موضحة الوجه فيها خمسة أبعرة أيضاً على المذهب؛ فلشمول ما تقدم لها (¬5). ¬

_ (¬1) في د: موضعها. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) في د: الموضح. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4566) 4: 190 كتاب الديات، باب ديات الأعضاء. بلفظ: عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في المواضح خمس». وأخرجه الترمذي في جامعه (1390) 4: 13 كتاب الديات، باب ماجاء في الموضحة. وأخرجه النسائي في سننه (4852) 8: 56 كتاب القسامة، المواضح. عن عمرو بن شعيب أن أباه حدثه عن عبدالله بن عمرو. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2655) 2: 886 كتاب الديات، باب الموضحة. (¬5) زيادة من د.

وأما كونها فيها عشرة على روايةٍ؛ فلأن شينها أكثر؛ لأن موضحة الرأس يسترها الشعر والعمامة. والأولى أصح؛ لما تقدم. ولأن ذلك قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ولأن موضحة الوجه موضحة. فكان أرشها خمسة أبعرة؛ كغيرها. وأما كثرة الشين لا عبرة به بدليل التسوية بين الصغيرة والكبيرة. قال: (فإن عمت الرأس ونزلت إلى الوجه فهل هي موضحة أو موضحتان؟ على وجهين). أما كون ما ذكر موضحة واحدة على وجه؛ فلأن الوجه والرأس سواء في الموضحة. فصارا كالعضو الواحد. وأما كونه موضحتين على وجهٍ؛ فلأنه أوضحه في عضوين. فكان لكل واحد حكم نفسه؛ كما لو أوضحه في رأسه فنزلت إلى قفاه. قال: (وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز فعليه عشرة. فإن خرق ما بينهما أو ذهب بالسراية صارا موضحة واحدة). أما كون من أوضح كما ذكر عليه عشرة؛ فلأن ذلك موضحتان. وأما كونه إذا خرق (¬1) ما بينهما يصيران موضحة واحدة؛ فلأن الجميع صار موضحة بفعله. فصار كما لو أوضح الكل من غير حاجز يبقى بينهما. وأما كونهما يصيران موضحة واحدة إذا ذهب ما بينهما بالسراية؛ فلأن سراية الجناية لها حكم أصل الجناية، ولو أتلف ما بينهما بنفسه صارا موضحة واحدة. فكذا إذا ذهب ما بينهما بالسراية. قال: (وإن خرقه المجني عليه أو أجنبي فهي ثلاث مواضح. وإن اختلفا فيمن خرقه فالقول قول المجني عليه). أما كون الموضحتين ثلاثاً إذا خرق ما بينهما المجني عليه أو أجنبي؛ فلأن ذلك من فعل رجلين والرجلان لا يُبنى فعل أحدهما على فعل الآخر. بدليل ما لو قطع ¬

_ (¬1) في أ: خرقت.

رجلٌ يد رجل من الكوع، وقطع آخر من الكوع إلى المرفق: فإن الثاني يجب عليه أرش ما قطع وجهاً واحداً، ولا يُبنى فعله على فعل القاطع إلى الكوع. حتى يخرج في أرش ما زاد على الكوع الخلاف الخارج فيما إذا قطع رجل اليد من المرفق. وأما كون القول قول المجني عليه إذا اختلف هو والجاني فيمن خرقه؛ فلأن سبب أرش موضحتين قد وجد، والجاني يدعي زواله، والمجني عليه ينكره، والقول قول المنكر؛ لأن الأصل معه. قال: (ومثله لو قطع ثلاث أصابع امرأة فعليه ثلاثون من الإبل، فإن قطع الرابعة عاد إلى عشرين. فإن اختلفا في قاطعها فالقول قول المجني عليه). أما كون مثل من أوضح موضحتين بينهما حاجز ثم خرق ما بينهما من قطع ثلاث أصابع امرأة ثم قطع الرابعة؛ فلأن الجناية لما زادت قلّ الواجب (¬1)؛ لأن من أوضح كما ذُكر كان عليه قبل الخرق عشرة أبعرة؛ لأنهما موضحتان فلما خرق الحاجز صار عليه خمسة؛ لأنها صارت موضحة واحدة، ومن قطع ثلاث أصابع امرأة عليه ثلاثون من الإبل فإن قطع الرابعة عاد إلى عشرين؛ فلأن جراح المرأة يساوي جراح الرجل ما لم يزد على الثلث فإذا زاد فعلى النصف. وقد تقدم دليل ذلك في موضعه (¬2). وأما كون القول قول المجني عليه إذا اختلف (¬3) هو وقاطع الثلاث في قاطع الرابعة؛ فلما تقدم فيما إذا اختلف المجني عليه والموضح فيمن خرق الحاجز الذي بين الموضحتين. فإن قيل: إنما ذكر المصنف رحمه الله ذلك تقوية لما تقدم ولا ينبغي أن يثبت بالقياس [عليه. قيل: لم يُرد القياس] (¬4)، وإنما أراد بذلك التنبيه على أن العلة واحدة. ¬

_ (¬1) في أ: قبل الوجوب. (¬2) ص: 118. (¬3) في أ: اختلفوا. (¬4) ساقط من أ.

قال: (وإن خرق ما بين الموضحتين في الباطن فهل هي موضحة أو موضحتان؟ على وجهين. وإن شجّ جميع رأسه سِمْحاقاً إلا موضعاً منه أوضحه فعليه أرش موضحة). أما كون الموضحتين إذا خرق ما بينهما في الباطن موضحة واحدة على وجه. [أشبه ما لو خرق الظاهر. وأما كونه موضحتين على وجه] (¬1)؛ فلأن ذلك منفصلٌ في الظاهر. وأما كون من شَج جميع رأس غيره سِمْحاقاً إلا موضعاً منه أوضحه: عليه أرش موضحة؛ فلأنه لو أوضح جميع رأسه لم يكن عليه أكثر من أرش موضحة. فلئلا يكون عليه في إيضاح البعض وشج الباقي غيره (¬2) موضحة أكثر من أرش موضحة بطريق الأولى. قال: (ثم الهاشمة. وهي: التي توضح العظم وتهشمه. ففيها عشر من الإبل. فإن ضربه بمثقّل فهشمه من غير أن يوضحه ففيه حكومة. وقيل: يلزمه خمس من الإبل). أما قول المصنف رحمه الله: وهي التي توضح العظم وتهشمه؛ فبيان لمعنى الهاشمة. وسميت بذلك لهشمها العظم. وأما كونها فيها عشر من الإبل؛ فلأن ذلك مروي عن زيد بن ثابت. ولم يعرف له مخالف في عصره فكان إجماعاً. ولأن الهاشمة شجة فوق الموضحة تختص باسم. فكان فيها أكثر منها؛ كالمأمومة بالنسبة إلى ما دونها. وأما كون من ضرب بمثقّل فهشم العظم من غير أن يوضحه عليه فيه حكومة على وجه؛ فلأنه لا مقدر فيه، ولا هو نظير ما قدر فيه. أشبه سائر ما لا مقدر فيه. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق.

وأما كونه عليه فيه خمس من الإبل على وجه؛ فلأن الهاشمة تشتمل على هشم وإيضاح. فوجب أن يوزع العشر من الإبل عليها نصفين ونصفها خمس من الإبل. قال: (ثم المنقِّلة. وهي: التي توضح وتهشم وتنقل عظامها ففيها خمس عشرة من الإبل). أما قول المصنف رحمه الله: وهي ... إلى عظامها؛ فبيان لمعنى المنقّلة. سميت بذلك؛ لأنها تنقل العظام. وأما كون فيها خمس عشرة من الإبل؛ فلأن في كتاب عمرو بن حزم: «وفي المنقِّلَةِ خمسَ عشرةَ (¬1) من الإبل» (¬2). قال: (ثم المأمومة وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ، وتسمى أم الدماغ، وتسمى المأمومة آمّة ففيها ثلث الدية). أما قول المصنف رحمه الله: وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ؛ فبيان لمعنى المأمومة. وسميت بذلك؛ لأنها تصل إلى أم الدماغ. وأما كون جلدة الدماغ تسمى أم الدماغ؛ فلأنها تحوط بالدماغ وتجمعه. وأما كون المأمومة تسمى آمة؛ فلأن الجوهري ذكره في صحاحه. وفي حديث ابن عمر «أن منقذاً سفع في رأسه مأمومة فحبست لسانه. فكان يُخدَعُ في بيعهِ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بايعْ وقل: لا خِلابَة» (¬3). رواه الحميدي في مسنده. قال محمد بن يحيى الحباني: جدّي منقذ وكان قد أصابَتْهُ آمَّةٌ فَكَسَرَتْ لسانَهُ وذكر الحديث (¬4). رواه البخاري في تاريخه. ¬

_ (¬1) في أ: عشر. (¬2) سبق تخريجه ص: 112. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6563) 6: 2554 كتاب الحيل، باب ما ينهى من الخداع في البيوع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1533) 3: 1165 كتاب البيوع، باب من يخدع في البيع. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (2355) 2: 789 كتاب الأحكام، باب الحجر على من يفسد ماله.

وأما كونها فيها ثلث الدية؛ فلأن في كتاب عمرو بن حزم: «وفي المأمومةِ ثلثُ الدية» (¬1). وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. قال: (ثم الدامغة. وهي: التي تخرق الجلدة ففيها ما في المأمومة). أما قول المصنف رحمه الله: وهي التي تخرق الجلدة؛ فبيان لمعنى الدامغة. وسميت بذلك؛ لأنها تخرق جلدة الدماغ. وأما كونها فيها ما في المأمومة؛ فلأن فيها ما في المأمومة وزيادة. وقيل: فيها مع ما ذكر حكومة؛ لخرق جلدة الدماغ. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 112.

فصل [في الجائفة] قال المصنف رحمه الله: (وفي الجائفة ثلث الدية. وهي: التي تصل إلى باطن الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو نحر. فإن خرقه من جانب فخرج من جانب آخر فهي جائفتان). أما قول المصنف رحمه الله: وهي التي إلى (¬1) نحر؛ فبيان لمعنى الجائفة. وأما كونها فيها ثلث الدية؛ فلأن في كتاب عمرو بن حزم: «وفي الجائِفَةِ ثُلُثُ الدية» (¬2)، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. وأما كون من خرقَ من جانب فخرج من جانب آخر تكون جنايته جائفتين؛ فلما روى سعيد بن المسيب: «أن رجلاً رمى رجلاً بسهمٍ فأنفذَه. فقضَى أبو بكر رضي الله عنه بثُلُثي الدية» (¬3). أخرجه سعيد بن منصور في سننه. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن عمرُ قضى في الجائفةِ إذا نفذَتْ بأرشِ الجائفتين». ولأنه أنفذه من موضعين. فكانت جائفتين؛ كما لو أنفذه بضربتين. قال: (وإن طعنه في خده فوصل إلى فمه ففيه حكومة. ويحتمل أن تكون جائفة). أما كون ما ذكر فيه حكومة على المذهب؛ فلأن ذلك ليس بجائفة لأن الفم له حكم الظاهر لا حكم (¬4) الباطن. والجائفة ما نفذت من ظاهر إلى باطن. فإذا لم تكن جائفة وجب فيه حكومة؛ لأن ذلك جناية ليس فيها مقدر. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه ص: 174. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 85 كتاب الديات، باب الجائفة. (¬4) ساقط من أ.

وأما كونه يحتمل أن تكون جائفة؛ فلأنه قد وصل إلى جوف. أشبه الواصل إلى جوفه. قال: (فإن جرحه في وركه فوصل الجرح إلى جوفه، أو أوضحه فوصل الجرح إلى قفاه: فعليه دية جائفة وموضحة وحكومة لجرح القفا والورك). أما كون الجارح المذكور عليه دية الجائفة والموضحة؛ فلأنه أجافه وأوضحه. وأما كونه عليه حكومة؛ [فلأنه جرح قفاه ووركه، وذلك لا توقيت فيه. فوجب فيه حكومة] (¬1). ضرورة كون الجناية غير مؤقتة. قال: (وإن أجافه ووسع آخر الجرح فهي جائفتان. وإن وسع ظاهره دون باطنه، أو باطنه دون ظاهره فعليه حكومة. وإن التحمت الجائفة ففتحها آخر فهي جائفة أخرى). أما كون ما ذكر أولاً جائفتين؛ فلأن كل واحد من الجانيين فعل فعلاً لو انفرد لكان جائفة. فإذا اجتمعا وجب كونهما جائفتين. ضرورة أن فعل الغير لا يسقط حكم (¬2) ما انضم إليه. وأما كون من وسع ظاهر الجرح دون باطنه، أو باطنه دون ظاهره عليه حكومة؛ فلأن جنايته لم تبلغ الجائفة فتكون جناية لا توقيت فيها، وذلك فيه حكومة. وأما كون الجائفة إذا التحمت ففتحها آخر جائفة أخرى؛ فلأن الجائفة بالالتحام عادت إلى الصحة. فصار موضعها كالذي لم يجرح، وجرح ذلك يوجب (¬3) كونه جائفة. فكذا هذا. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في أ: حكمه. (¬3) في د: جرح ذلك فوجب.

فصل [في كسر العظام] قال المصنف رحمه الله: (وفي الضلع بعير، وفي الترقوتين بعيران، وفي كل واحد من الذراع والزند والعضد والفخذ والساق بعيران، وما عدا ما ذكرنا من الجروح وكسر العظام مثل خرزة الصلب والعصعص ففيه حكومة). أما كون كسر الضلع فيه بعير؛ فلأن عمر رضي الله عنه حكم للضلع بجمل (¬1). ولأن الضلع عضو واحدٌ. فوجب فيه بعيرٌ واحد؛ كالترقوة. وأما كون كسر الترقوتين فيه بعيران؛ فلأن ذلك روي عن (¬2) عمر وزيد بن ثابت. والترقوة: العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف. وأما كون كل واحدٍ من الذراع والزند والعضد والفخذ والساق فيه بعيران؛ فلما روى عمرو بن العاص «أنه كتب إلى عمرَ من أجلِ الزندِ إذا كُسر. فكتب إليه أن فيه بعيرين» (¬3). إذا ثبت ذلك في الزند ثبت في بقية ما ذكر بالقياس عليه. وأما كون ما عدا ما ذكر المصنف رحمه الله من الجروح وكسر العظام؛ مثل خرزة الصلب والعصعص: فيه حكومة؛ فلأن الجناية على ذلك لا توقيت فيها. أشبهت الجراحات التي لا توقيت فيها. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (374) 2: 111 كتاب الديات. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 99 كتاب الديات، باب ما جاء في الترقوة والضلع. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27126) 5: 380 كتاب الديات، الضلع إذا كسر. (¬2) في أ: فلأن ذلك قول. (¬3) أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن نافع ابن عبدالحارث قال: «كتبت إلى عمر أسأله عن رجلٍ كُسر أحد زنديه. فكتب إلى عمر أن فيه حقتين بكرتين» (27770) 5: 436 كتاب الديات، الزند يكسر.

قال: (والحكومة: أن يُقَوّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به. ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص من القيمة فله (¬1) مثله من الدية. فإن (¬2) كان قيمته وهو صحيح عشرين (¬3) وقيمته وبه الجناية تسعة عشر ففيه نصف عشر ديته؛ إلا أن تكون الحكومة في شيء فيه مقدر فلا يبلغ به أرش المقدر. فإذا كانت في الشجاج التي دون الموضحة لم يبلغ بها أرش الموضحة، وإن كانت في إصبع لم يبلغ بها دية الإصبع، وإن كانت في أنملة لم يبلغ بها ديتها). أما قول المصنف رحمه الله: والحكومة أن يُقَوّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت؛ فبيان لمعنى الحكومة. وأما كون ما نقص (¬4) المجني عليه مثله من الدية؛ فلأن الحر قيمته ديته. وأما قول المصنف رحمه الله: فإن (¬5) كان قيمته ... إلى قوله: تسعة عشر؛ فتمثيل للمسألة لتصح صورتها ويعرف معناها. وأما كون ذلك هنا فيه نصف عشر دية المجني عليه؛ فلأن الناقص بالتقويم درهم من عشرين، وهو نصف عشرها. فيكون في ذلك هنا نصف عشر الدية. ضرورة أن الواجب مثل ذلك من الدية. وأما قول المصنف رحمه الله: إلا أن تكون الحكومة؛ فاستثناء من عموم ما تقدم، وذلك أن ما تجب فيه الحكومة على ضربين: أحدهما: أن يكون في شيء لا مقدر فيه، ولا هو بعض المقدر فيه. وحكمه ما ذكر. وثانيهما: أن يكون في شيء هو بعض المقدر فيه. فهذا لا بد أن يُلحظ فيه عدم تجاوزه أرش المؤقت؛ مثل أن يشجه سمحاقاً، وذلك دون الموضحة. فإن بلغ أرشها بالتقويم أكثر من موضحة؛ مثل: أن تنقص الجناية أكثر من نصف عشر قيمته لم يجب الزائد لأنه لو وجب ذلك لكان قد وجب في شيء لا يبلغ موضحة ¬

_ (¬1) في أ: فما نقص فله. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في أ: عشرون. (¬4) في د: وأما كون نقص. (¬5) ساقط من أ.

أكثر من أرش الموضحة، وذلك غير جائز؛ لأن الموضحة [أكبر من ذلك، والشَّيْن بها أعظم، والمحل واحد. ومثل: أن يجرح إصبعاً فيبلغ] (¬1) أرشه أكثر من عشر الدية فلا يجب أكثر من عشرها؛ لأن دية الإصبع عشر من الإبل، وذلك عشرها. ومثل: أن يجرح أنملة فيبلغ أرشه أكثر من ثلاثة [وثلث من الإبل؛ لأن ذلك هو دية لأنملته. إذا تقرر هذا فظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا يبلغ] (¬2) به أرش المقدر أيضاً والذي تقدم هو قول الخرقي ولفظه: فلا يجاوز به أرش المؤقت وصرح به المصنف رحمه الله في المغني فقال: إذا شجه دون الموضحة فبلغ أرش الجراح بالحكومة أكثر من أرش الموضحة لم يجب الزائد. قال: (وإن كانت مما لا تنقص شيئاً بعد الاندمال قُوّمت حال جريان الدم فإن لم تنقص شيئاً بحال أو زادته حسناً فلا شيء فيها). أما كون المجني عليه يُقَوّم حال جريان الدم إذا كانت الجناية لا تنقص شيئاً حال الاندمال؛ فلأنه لا بد من نقص لأجل الجناية. فإذا كان التقويم بعد الاندمال ينفي ذلك وجب أن يُقَوّم في حال جريان الدم ليحصل النقص. وأما كون الجناية لا شيء فيها إذا لم تنقص شيئاً بحال أو زادته (¬3) حسناً؛ فلأن الوجوب من أجل النقص ولم يوجد. فعلى هذا لو حلق لحية امرأة لم يجب فيه شيء. وقال أبو الخطاب: تُقَوّم كأنها رجل له لحية ثم تُقَوّم كأنها رجل ذهبت لحيته. فما نقص وجب قسط ذلك من ديتها؛ لأن الجناية عليها جناية لا تنقص شيئاً. فوجب اعتبارها بذلك؛ كتقويم الجرح حال جريان الدم إذا لم تنقص شيئاً بعد الاندمال. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق. (¬3) في أ: زادت.

قال المصنف رحمه الله في المغني: والأول أصح؛ لأن الجناية المذكورة لا مقدر فيها ولم تنقص شيئاً. أشبهت الضرب. ولأن لحية الرجل زَيْن له، وعيب في المرأة وتقدير (¬1) العيب بالزين لا يصح. ¬

_ (¬1) في د: وتقدر.

باب العاقلة وما تحمله

باب العاقلة وما تحمله العاقلة من يحمل العقل. والعَقْل الدية. وسميت عقلاً؛ لأنها تعقل لسان ولي المقتول. وقيل: لأنها تمنع من الإقدام على الفعل. وقيل: إنما سميت العاقلة بذلك؛ لأنهم يمنعون عن القاتل. والعقل: المنع، ولهذا سمي بعض العلوم عقلاً؛ لأنه يمنع من الإقدام على المضار. قال المصنف رحمه الله: (عاقلة الإنسان عصباته كلهم قريبهم وبعيدهم من النسب والولاء؛ إلا عمودي نسبه آباؤه وأبناؤه. وعنه: أنهم من العاقلة أيضاً). أما كون عصبة الإنسان كلهم غير عمودي النسب من العاقلة؛ فلا خلاف فيه. فإن قيل: ظاهر كلام الخرقي أن في الأعمام روايتين؛ كالولد (¬1). قيل: قد صرح غيره من الأصحاب بأن العمومة من العصبة بكل حال. وقال صاحب المغني فيه: لا أعلم غيره خلافاً. وأما كون عمودي النسب وهم الآباء والأبناء ليسا من العاقلة على المذهب؛ فلما روى أبو هريرة قال: «اقتتلتِ امرأتان من هذيل فرمتْ إحداهما الأخرى بحجرٍ فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتِها وورثها ولدها ومن معهم» (¬2) متفق عليه. وفي روايةٍ: «فجعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ميراثها لبنتها، والعقلُ على العصبة» (¬3). رواه أبو داود والنسائي. ¬

_ (¬1) في د: كالوالد. (¬2) سبق تخريجه ص: 18. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4576) 4: 192 كتاب الديات، باب دية الجنين. وأخرجه النسائي في سننه (4818) 8: 48 كتاب القسامة، باب: دية جنين المرأة.

وإذا ثبت هذا في الولد وجب أن يثبت في الوالد؛ لأنه في معناه. وأما كونهما من العاقلة على روايةٍ؛ فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن عقلَ المرأةِ بين عصبتها من كانوا لا يَرِثُونَ منها إلا ما فضل عن ورثتِها، وإن قُتلتْ فعقلُها بين ورَثتِها» (¬1). رواه أبو داود. ولأنهم عصبة. أشبهوا الإخوة. يحققه أن العقل موضوع على التناصر. وهم من أهله. ولأن العصبة في تحمل العقل لهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب، وآباؤه وأبناؤه أحق العصبات بميراثه. فكانوا أولى بحمل عقله. وأما كون قريب العصبات وبعيدهم من العاقلة؛ فلعموم ما تقدم. ولأن العبد عصبة يرث المال إذا لم يكن وارث أقرب منه. فوجب أن يدخل في العاقلة؛ كالقريب. وأما كون عصبات الإنسان من الولاء من العاقلة؛ فلأن الولاء لحمة كلحمة النسب. قال: (وليس على فقير ولا صبي ولا زائل العقل ولا امرأة ولا خنثى مشكل ولا رقيق ولا مخالف لدين الجاني حمل شيء. وعنه: أن الفقير يحمل من العقل، ويحمل الغائب كما يحمل الحاضر). أما كون الفقير ليس عليه حمل شيء مما يجب على العاقلة على المذهب؛ فلأن حمل العقل مواساة. فلا يلزم الفقير؛ كالزكاة. ولأنه وجب على العاقلة تخفيفاً عن القاتل. فلا يجوز التثقيل به على من لا جناية منه، وفي إيجابه على الفقير تثقيل وتكليف لما لا يقدر عليه. وأما كونه يحمل من العقل على روايةٍ؛ فلأنه من أهل النصرة. أشبه الغني. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4564) 4: 189 كتاب الديات، باب ديات الأعضاء. وأخرجه النسائي في سننه (4801) 8: 42 كتاب القسامة، ذكر الاختلاف على خالد الحذاء. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2647) 2: 884 كتاب الديات، باب عقل المرأة على عصبتها وميراثها لولدها.

وأما كون الصبي وزائل العقل ليس عليه شيء من العَقْل؛ فلأن الحمل للتناصر، ومن ذكر ليس من أهله. وأما كون المرأة ليس عليها حمل شيء من ذلك؛ فلما ذكر في الصبي. وأما كون الخنثى المشكل ليس عليه حمل شيء من ذلك؛ فلاحتمال كونه امرأة. وأما كون الرقيق ليس عليه حمل شيء من ذلك؛ فلأنه أسوأ حالاً من الفقير. فإذا لم يحمل الفقير عقلاً فلئلا يحمل الرقيق ذلك بطريق الأولى. وأما كون المخالف لدين الجاني ليس عليه حمل شيء من ذلك؛ فلما تقدم من أن حملها للنصرة، ولا نصرة لمخالف له في دينه. وأما كون الغائب يحمل كما يحمل الحاضر؛ فلأنهما سواء في التعصيب والإرث. فوجب استواؤهما في حمل العقل؛ لأن الاستواء في العلة يوجب الاستواء في الحكم. قال: (وخطأ الإمام والحاكم في أحكامه في بيت المال. وعنه: على عاقلته). أما كون الخطأ المذكور في بيت المال على المذهب؛ فلأن الخطأ ممن ذكر يكُن في أحكامه واجتهاده. فإيجاب العقل على عاقلته تجحف بهم. ولأنه نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله. فكان أرش جنايته في مال الله. وأما كونه على عاقلته على روايةٍ؛ فلما روي عن عمر رضي الله عنه «أنه بعثَ إلى امرأة ذُكرت بسوءٍ. فأجهضتْ جنينَها. فقال عمر لعلي رضي الله عنهما: عزمتُ عليكَ أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك» (¬1). ولأنه جان. فكان خطؤه على عاقلته؛ كغيره. قال: (وهل يتعاقل أهل الذمة على روايتين). أما كون أهل الذمة يتعاقلون على روايةٍ؛ فلأنهم أهل النصرة لبعضهم بعضاً. أشبهوا المسلمين.

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 110.

وأما كونهم لا يتعاقلون على روايةٍ؛ فلأن مقتضى الدليل أن الدية تجب على الجاني (¬1)، وإنما أوجبها الشرع على العاقلة تخفيفاً، والذمي ليس كالمسلم في مشروعية التخفيف. فوجب أن لا ينتقل الحمل عنه إلى العاقلة. عملاً بمقتضى الدليل السالم عن المعارض الحاصل من مشروعية التخفيف عن المسلم. قال: (ولا يعقل ذمي عن حربي، ولا حربي عن ذمي). أما كون الذمي لا يعقل عن حربي؛ فلأنه لا تناصر بينهما. وأما كون الحربي لا يعقل عن ذمي؛ فلما ذكر. ولأن الحربي لا حكم لنا (¬2) عليه. فلا معنى للحكم بالعقل عليه. قال: (ومن لا عاقلة له أو لم تكن له عاقلة تحمّل الجميع. فالدية أو باقيها عليه إن كان ذمياً، وإن كان مسلماً أخذ من بيت المال. فإن لم يكن فلا شيء على القاتل. ويحتمل أن تجب في مال القاتل وهو أولى كما قالوا في المرتد يجب أرش خطئه في ماله. ولو رمى وهو مسلم فلم يصب السهم حتى ارتد كان عليه في ماله. ولو رمى الكافر سهماً ثم أسلم ثم قتل السهم إنساناً فديته في ماله. ولو جنى ابن المعتقة ثم انجر ولاؤه ثم سرت جنايته فأرش الجناية في ماله لتعذر حمل العاقلة فكذا هذا). أما كون من لا عاقلة له أو لم تكن له عاقلة تحمّل الجميع. تكون (¬3) الدية أو باقيها عليه إذا كان ذمياً؛ فلأنه ليس له أحد يحمل عنه؛ لأنه لا عاقلة له. وبيت المال لا يحمل عنه؛ لأن المسلمين لا يرثونه. وأما كون ذلك يؤخذ من بيت المال إذا كان مسلماً؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاري المقتول في خيبر من إبل الصدقة» (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: فلأن مقتضى الدليل تجب على أن الدية الجاني. (¬2) ساقط من د. (¬3) ساقط من أ. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1638) 2: 119 كتاب الزكاة، باب كم يعطى الرجل الواحد من الزكاة؟

و «لأن رجلاً قُتلَ في زحامٍ في زمنِ عمرَ رضي الله عنه فلم يُعرف قاتله. فقال علي رضي الله عنه لعمر: يا أميرَ المؤمنين! لا تطل دم امرئٍ مسلم. فأدّى ديته من بيت المال» (¬1). ولأن المسلمين يرثون من لا وارث له. فَيَعْقِلُون عنه عند عدم عاقلته؛ كعصبته ومواليه. وعن الإمام أحمد: لا يؤخذ من بيت المال شيء؛ لأن بيت المال فيه حق للنساء والصبيان والمجانين ومن لا عقل عليه. فلم يجز صرفه فيما لا يجب عليهم. ولأن العقل على العصبات وليس بيت المال عصبة ولا هو كعصبة. وظاهر كلام المصنف رحمه الله في المغني تصحيح هذه الرواية؛ لأنه ذكر أدلة الأولى وأجاب عن إرث المسلمين بالمنع. وأن صرف المال إلى بيت المال إنما هو على أنه فيء، ولهذا يؤخذ من مال من لا وارث له من (¬2) أهل الذمة. وأما كون القاتل لا شيء عليه على المذهب إذا لم يمكن الأخذ من بيت المال؛ فلأن الدية لزمت العاقلة ابتداء. بدليل أنه لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر رضاهم. فلم يجب على القاتل؛ لأنه غير من وجبت عليه. وأما كونه يحتمل أن تجب في مال القاتل؛ فلعموم قوله تعالى: {وديةٌ مسلمةٌ إلى أهله} [النساء: 92]. ولأن قضية الدليل وجوبها على الجاني جبراً للمحل الذي فوّته، وإنما سقط عنه لقيام العاقلة أو بيت المال مقامه في الجبر. فإذا لم يوجد ذلك بقي واجباً عليه بمقتضى الدليل. ولأن الأمر دائر بين أن يبطل (¬3) دم المقتول وبين إيجاب ديته على المتلف. والأول لا يجوز لأن فيه مخالفة الكتاب والسنة وقياس أصول الشريعة فتعين الثاني. ولأن إهدار الدم المضمون لا نظير له، وإيجاب الدية على القاتل خطأ له نظائر، وذلك في الصور التي ذكرها المصنف رحمه الله: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27848) 5: 445 كتاب الديات، الرجل يقتل في الزحام. نحوه. (¬2) في أ: ومن. (¬3) في أ: يظل.

أولها: المرتد لما لم تكن له عاقلة وجبت دية خطئه في ماله. وثانيها: المسلم إذا رمى سهماً ثم ارتد ثم وقع السهم في المجني عليه تجب الدية في مال الرامي. وثالثها: الكافر إذا رمى سهماً ثم أسلم ثم وقع السهم في المجني عليه. ورابعها: إذا رمى من عليه ولاء لموالي أمه فانجر ولاؤه إلى موالي أبيه ثم وقع سهمه في شخص فالدية في ماله. وأما كون ذلك أولى؛ فلأن اعتبار ما له نظير أولى من اعتبار ما لا نظير له، ولا يلزم من عدم وجوب الدية [على العاقلة إهدار دماء الأحرار في الغالب؛ لأنه لا يكاد توجد عاقلة تحمل الدية] (¬1) كلها ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال فتضيع الدماء، وتفوت الحكمة في إيجاب الدية. فعلى هذا تجب الدية على القاتل (¬2) بكمالها إن لم تكن عاقلة، وباقيها إن حملت العاقلة بعضها. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في أ: العاقلة.

فصل [فيما لا تحمله العاقلة] قال المصنف رحمه الله: (ولا تحمل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً ولا ما دون ثلث الدية. ويكون ذلك في مال الجاني حالاًّ؛ إلا غرة الجنين إذا مات مع أمه فإن العاقلة تحملها مع دية أمه. وإن ماتا منفردين لا تحملها العاقلة لنقصها عن الثلث). أما كون العاقلة لا تحمل العمد؛ فلما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحملُ العاقلةُ عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا» (¬1). وروي عن ابن عباس موقوفًا عليه (¬2). ولم يعرف له مخالف فكان إجماعاً. ولأن ذلك يتحمله القاتل وقد تقدم دليله في قول المصنف رحمه الله: فإن (¬3) كان عمداً محضاً ففي مال الجاني (¬4). فلم تتحملها العاقلة؛ لأن ذلك المتلف لا يتكرر تحمله. وأما كونها لا تحمل العبد؛ فلما تقدم من حديث ابن عباس. ولأن الواجب فيه قيمة تختلف باختلاف صفاته. فلم تحمله العاقلة؛ كسائر القيم. ولأنه حيوان لا تحمل العاقلة قيمة أطرافه. فلم تحمل الواجب عنه؛ كالفرس. وأما كونها لا تحمل الصلح. وهو: أن يدعى عليه القتل فينكره ويصالح المدعي على مال؛ فلما تقدم من حديث ابن عباس. ولأن ذلك مال ثبت بمصالحته واعترافه. ¬

_ (¬1) قال ابن الصباغ: لم يثبت متصلا. وإنما هو موقوف على ابن عباس. تلخيص الحبير 4: 61. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 104 كتاب الديات، باب من قال: لا تحمل العاقلة عمداً ... (¬3) في أ: إن. (¬4) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ولأن ذلك لو حملته العاقلة لأدى إلى أن يصالح بمال غيره ويوجب عليه حقاً بقوله. وأما كونها لا تحمل الاعتراف. وهو: أن يقر الإنسان على نفسه بجناية خطأ أو شبه عمد؛ فلما تقدم من حديث ابن عباس. ولأن ذلك لو وجب عليهم لوجب بإقرار غيرهم، ولا يقبل إقرار شخص على غيره. ولأنه متهم في أن يواطِئ من يقر له بذلك ليأخذ الدية من العاقلة ثم يقاسمهم فيها. وأما كونها لا تحمل ما دون الثلث؛ فلما روى عمر رضي الله عنه «أنه قضى في الديةِ أن لا يحملَ منها شيء حتى تبلغَ عقل المأمومة». ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني؛ لأنه موجب جنايته وبدل متلفه. فكان عليه؛ كسائر المتلفات والجنايات. تُرك العمل به في الثلث فصاعداً تخفيفاً عن الجاني لكونه كثيراً يجحف به بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والثلثُ كثير» (¬1). فيبقى فيما عداه على قضية الأصل. وأما كون دية العمد، والجناية على عبد، وما ثبت بالصلح والاعتراف وما هو دون الثلث غير غرة الجنين إذا مات مع أمه: في مال الجاني؛ فلما تقدم غير مرة من أن مقتضى الأصل وجوب الجناية على الجاني. تُرك العمل به فيما عدا ذلك لمعنى يختص به. فيبقى فيما ذكر على مقتضى الأصل. ولأن العمد والثابت بالاعتراف يلزم الجاني لما تقدم في موضعه (¬2). فكذا بقية الصور قياساً للبعض على البعض. وأما كون ذلك حالاً؛ فلأنه بدل متلف. فكان حالاًّ؛ كقيمة المتلف من المتاع. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 119. (¬2) ص: 187.

وأما كون العاقلة تحمل غرة الجنين؛ فلما روى المغيرة بن شعبة؛ «أن (¬1) رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنينِ بغرة عبدٍ أو أمةٍ على عصبةِ العاقلة» (¬2). وأما كونها تحمل مع ذلك دية أمه؛ فلأن القتل خطأ والعاقلة تحمله. وأما كونها لا تحمل غرة الجنين إذا ماتت الأم (¬3) منفردة ومات الجنين منفرداً؛ فلأن الواجب في ذلك غرة قيمتها خمس من الإبل، وذلك دون ثلث الدية، والعاقلة لا تحمل ما دون الثلث؛ لما تقدم. ولذلك قال المصنف رحمه الله: لنقصها عن الثلث. قال: (وتحمل جناية الخطإ على الحر إذا بلغت الثلث. قال أبو بكر: ولا تحمل شبه العمد ويكون ذلك (¬4) في مال القاتل في ثلاث سنين. وقال الخرقي: تحمله العاقلة). أما كون العاقلة تحمل جناية الخطإ على الحر إذا بلغت الثلث؛ فلما تقدم من حديث أبي هريرة المذكور أول الباب في حمل العاقلة الدية (¬5). وفي تقييده بالخطأ والحر وبلوغ الثلث احتراز عن العمد والعبد وما دون الثلث. وقد تقدم أن ذلك كله لا تحمله العاقلة (¬6). وأما كونها لا تحمل شبه العمد على قول أبي بكر؛ فلأنه فيه العمد من وجه. فوجب إلحاقه به. فإن قيل: وفيه الخطأ من وجه. فلم لا يلحق به؟ قيل: لما كان فيه شبه من الخطأ والعمد ألحق بالعمد في كون الدية على القاتل وبالخطأ في كون ذلك مقسطاً في ثلاث سنين. وأما كون ذلك يكون على القاتل في ثلاث سنين؛ فلما ذكر. ¬

_ (¬1) في الأصول: فلأن. (¬2) سبق تخريجه ص: 126. (¬3) ساقط من د. (¬4) ساقط من أ. (¬5) سبق ذكره وتخريجه ص: 181. (¬6) ص: 187.

وأما كونها تحمله على قول الخرقي؛ فلما تقدم أول الباب في قوله: وإن كان شبه عمد. قال: (وما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر لكن يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم. فيحمل كل إنسان منهم ما يسهل ولا يشق. وقال أبو بكر: يجعل على الموسر نصف دينار وعلى المتوسط ربع دينار (¬1). وهل يتكرر ذلك في الأحوال الثلاثة أوْ لا؟ على وجهين). أما كون ما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر؛ فلأن التقدير من الشرع ولم يرد منه فيه شيء. وأما كونه يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم؛ فلأنه لا نص فيه. فوجب الرجوع في تقديره إلى اجتهاد الحاكم؛ كتقدير النفقات. وأما كون الحاكم يحمل كل إنسان من العاقلة ما يسهلُ ولا يشق على المذهب؛ فلأن التحمل المذكور على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه. فلا يخفف عن الجاني بما يثقل على غيره ويجحف به؛ كالزكاة. ولأن الإجحاف لو كان مشروعاً كان الجاني أحق به؛ لأنه موجب جنايته وجزاء فعله. فإذا لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى. وأما كونه يجعل على الموسر نصف دينار على قول أبي بكر؛ فلأنه أقل شيء يجب في زكاة الذهب. فكان معتبراً به في حقه. وأما كونه يجعل على المتوسط ربع دينار على قوله أيضاً؛ فلأن (¬2) ما دونه تافه لكون اليد لا تقطع فيه. وذكر المصنف رحمه الله في المغني قول أبي بكر روايةً عن الإمام أحمد. وأما كون ذلك يتكرر في الأحوال الثلاثة على وجه؛ فلأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة. فوجب تكريره بتكرر الحول؛ كالزكاة. وأما كونه لا يتكرر على وجه؛ فلأن في إيجاب ذلك زيادة على نصف دينار، وذلك إيجاب لزيادة على أقل الزكاة. فيكون مضراً. ¬

_ (¬1) في أ: وعلى المتوسط ربعاً. (¬2) في د: فلأنه.

فعلى الأول يجب على الموسر من العاقلة دينار ونصف؛ لأن المقدر يتكرر في الأحوال الثلاثة، وعلى المتوسط ربع دينار لا غير كذلك. قال: (ويبدأ بالأقرب فالأقرب. فمتى اتسعت أموال الأقربين لها لم يتجاوزهم، وإلا انتقل إلى من يليهم. فإن تساوى جماعة في القرب وُزّع القدر الذي يلزمهم بينهم). أما كون الحاكم يبدأ بالأقرب فالأقرب مما ذكر؛ فلأنه يُبدأ به في الإرث. فكذلك في العَقْل. وأما كونه لا يتجاوز الأقربين إذا اتسعت أموالهم للدية؛ فلأنه حق يستحق بالتعصيب. فلم يتجاوز الأقرب؛ كالإرث. وأما كونه ينتقل إلى من يلي الأقربين [إذا لم تتسع أموالهم؛ فلأن الأقربين] (¬1) لو لم يكونوا موجودين لتعلقت الدية بمن يليهم. فكذا إذا تحمل الأقربون ما وجب عليهم وبقيت بقية. وأما كون القدر الذي يلزم الجماعة يوزع بينهم إذا تساووا في القرب؛ فلأنه لا مرجح لبعضهم على بعض. فوجب التوزيع؛ كما لو كان الحق لهم. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

فصل [في تأجيل الدية] قال المصنف رحمه الله: (وما تحمله (¬1) العاقلة يجب مؤجلاً في ثلاث سنين في كل سنة ثلثه إن كان دية كاملة. وإن كان الواجب ثلث الدية كأرش الجائفة وجب في رأس الحول. وإن كان نصفها كدية اليد وجب في رأس الحول الأول الثلث وباقيه في رأس الحول الثاني. وإن كان دية امرأة أو كتابي فكذلك. ويحتمل أن يقسم في ثلاث سنين. وإن كان أكثر من دية كما لو جنى عليه فأذهب سمعه وبصره لم يزد في كل حول على الثلث). أما كون ما تحمله العاقلة يجب مؤجلاً في ثلاث سنين في كل سنة ثلثه إن كان دية كاملة؛ فلما روي «أن عمرَ وعلياً جعلا ديةَ الخطأ على العاقلةِ في ثلاثِ سنين» (¬2). ولا يعرف لهما مخالف فكان إجماعًا. ولأنه مال يجب على سبيل المواساة. فلم يجب حالاًّ؛ كالزكاة. وأما كونه يجب (¬3) في كل سنة ثلثه؛ فلأنه لا مرجح (¬4) لبعض السنين على بعض. وأما كون ثلث الدية تجب في رأس الحول إذا كان الواجب كذلك كما مثّل المصنف رحمه الله؛ فلأن ذلك قدر ما يجب عليه من الدية الكاملة في رأس الحول الأول. فوجب أن يجب فيه القدر المذكور بالقياس عليه. وأما كون الثلث من النصف المذكور يجب في رأس الحول؛ فلأنه قدر ما يجب من الدية الكاملة. فوجب؛ لتساويهما في وقت الوجوب. ¬

_ (¬1) في أ: الذي تحمل. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27429) 5: 405 كتاب الديات، الدية في كم تؤدى؟ وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 109 - 110 كتاب الديات، باب تنجيم الدية على العاقلة. (¬3) ساقط من د. (¬4) في أ: ترجيح.

وأما كون الباقي يجب في رأس الحول الثاني؛ فلأن ذلك محِل القسط الثاني من الدية الكاملة. فوجب أن يكون محِلاً لما ذكر. وأما كون دية امرأة والكتابي كذلك. أي يجب ثلثاها في رأس الحول الأول، وباقيها في رأس الحول الثاني على المذهب؛ فلأن الواجب فيهما نصف الدية. أشبه دية اليد. وأما كونه يحتمل أن يقسم ذلك في ثلاث سنين؛ فلأن ذلك دية نفس كاملة. أشبه دية المسلم. وأما كونه لا يزاد على الثلث في كل حول إذا [كان الواجب أكثر من دية كما مثّل المصنف رحمه الله؛ فلأنه وجب مواساة. فلم يجب في كل حول] (¬1) أكثر من ثلث الدية؛ كالدية الواحدة. قال: (وابتداء الحول في الجرح من حين الاندمال، وفي القتل من حين الموت. وقال القاضي: إن لم يسر الجرح إلى شيء فحوله من حين القطع). أما كون ابتداء الحول في الجرح الذي لا يسري من حين الاندمال على المذهب؛ فلأن الدية بدل عن (¬2) القصاص، والقصاص إنما يكون بعد الاندمال. فكذلك بدله. وأما كونه من حين القطع على قول القاضي؛ فلأنه لو عفى عند القطع على الدية وجبت. فالقطع إذاً مآله إلى الوجوب. فوجب أن يكون ابتداء الحول منه؛ كحالة الوجوب في القتل. وأما كونه في الجرح الذي يسري من حين الاندمال؛ فلأنه قتل. وأما كونه في القتل من حين الموت؛ فلأنه حالة الوجوب. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق.

قال: (ومن مات من العاقلة قبل الحول أو افتقر سقط ما عليه. وإن مات بعد الحول لم يسقط ما عليه). أما كون من مات من العاقلة قبل الحول أو افتقر سقط ما عليه؛ فلأنه مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة. أشبه الزكاة. وأما كون من مات بعد الحول لا يسقط ما عليه؛ فلأنه حق تدخله النيابة لا يملك إسقاطه في حياته. أشبه الدين. ولأنه وجب عليه لحولان الحول. فلم يسقط؛ كالزكاة. قال: (وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة. وعنه: في الصبي العاقل أن عمده في ماله). أما كون عمد الصبي والمجنون خطأ؛ فلأنهما لا يتحقق منهما كمال القصد. فوجب أن يكون خطأ؛ كخطأ البالغ. وأما كون ذلك تحمله العاقلة؛ فلأنه خطأ، والعاقلة تحمل الخطأ. وأما كون عمد الصبي العاقل في ماله في روايةٍ؛ فلأن عقله يصحح عمده، والعاقلة لا تحمل العمد. ولأنه (¬1) عاقل. أشبه البالغ العاقل. ¬

_ (¬1) في د: فلأنه.

باب كفارة القتل

باب كفارة القتل الأصل في كفارة (¬1) القتل الكتاب والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {ومن قَتَل مؤمنًا خطئًا فتحريرُ رقبة مؤمنة} [النساء: 92]، وقوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاقٌ فَدِيةٌ مسلمةٌ إلى أهله وتحريرُ رقبة مؤمنة} [النساء: 92]. وأما الإجماع فأجمع أهل العلم على أن على القاتل خطأ كفارة. قال المصنف رحمه الله: (ومن قتل نفساً محرمة خطأ، أو ما أجري مجراه، أو شارك فيها، أو ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً أو حياً ثم مات: فعليه الكفارة. مسلماً كان المقتول أو كافراً، حراً أو عبداً. وسواء كان القاتل كبيراً عاقلاً أو صبياً أو مجنوناً. حراً أو عبداً. ويكفر العبد بالصيام. وعنه: أن على المشتركين كفارة واحدة). أما كون من قتل نفساً محرمة خطأ عليه الكفارة؛ فلما تقدم من قوله تعالى: {ومن قَتَل مؤمنًا خطئًا فتحريرُ رقبة مؤمنة} [النساء: 92]. وأما كون من قتلها قتلاً أجري مجرى الخطأ عليه الكفارة؛ فلأن ما أجري مجرى الشيء يثبت فيه حكمه. [ولأنه أجري مجراه في عدم القصاص. فكذلك يجب أن يجرى مجراه في الكفارة] (¬2). وأما كون من شارك في قتلها عليه كفارة كاملة على المذهب؛ فلأن الكفارة موجَب قتل الآدمي. فوجب تكميلها على كل واحد من الشركاء؛ كالقصاص. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) ساقط من د.

وأما كون المشتركين عليهم كفارة واحدة على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحريرُ رقبة مؤمنة} [النساء: 92]. ومَنْ تتناول الواحد والجماعة. ولأن الدية لا تتعدد. فكذلك الكفارة. ولأنها كفارة قتل. فلم تتعدد بتعدد القاتلين مع اتحاد المقتول؛ ككفارة الصيد الحرَمِيّ. وأما كون من ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً أو حياً ثم مات عليه الكفارة؛ فلأنه قتل نفساً محرمة. أشبه قتل الآدمي بالمباشرة. وأما كون من عليه الكفارة بما ذكر تكون عليه مسلماً كان المقتول أو كافراً محرم القتل؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحريرُ رقبة مؤمنة} [النساء: 92]. ولأن الكافر آدمي مقتول ظلماً. فوجبت الكفارة بقتله؛ كالمسلم. فإن قيل: ليس في كلام المصنف رحمه الله هنا أن الكافر محرم القتل. قيل: صدر المسألة فيه: ومن قتل نفساً محرمة فليلحظ ذلك في الكافر. وأما كونه عليه الكفارة حراً كان المقتول أو عبداً؛ فلعموم قوله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92]. ولأن العبد يجب بقتله القصاص في الجملة. فوجب أن يجب بقتله الكفارة؛ كالحر. ولأنه (¬1) مؤمن. أشبه الحر. وأما كونه عليه الكفارة كبيراً كان أو صغيراً (¬2) عاقلاً كان أو مجنوناً؛ فلأن الكفارة حقٌّ مالي يتعلق بالقتل. فتعلقت بالكبير العاقل وبالصبي والمجنون؛ كالدية. فإن قيل: كفارة اليمين لا تجب في أموالهما. [فكذا كفارة القتل لا تجب في أموالهما. ¬

_ (¬1) في د: لأنه. (¬2) في أ: صبياً.

قيل: كفارة اليمين تتعلق بالقول ولا قول لهما] (¬1)، وكفارة القتل تتعلق بالفعل. وفعلهما متحقق. ولأن الفعل قد يتعلق به ما لا يتعلق بالقول. بدليل أن العتق بإحبالهما دون إعتاقهما بقولهما. وأما كونه عليه الكفارة حراً كان أو عبداً؛ فلدخولهما في الآية. ولأن العبد تجب عليه كفارة اليمين. فكذا تجب عليه كفارة القتل. فعلى هذا يكفر بالصيام؛ لأنه لا مال له. قال: (وأما القتل المباح كالقصاص والحد وقتل الباغي والصائل فلا كفارة فيه). أما كون القتل المذكور لا كفارة فيه؛ فلأنه قتل مأذون فيه، والكفارة لا تجب لمحو المأذون فيه. فإن قيل: لو وجبت الكفارة للمحو لما وجبت في الخطأ. قيل: الخطأ لا يوصف بتحريم ولا إباحة؛ لأنه كفعل المجنون والبهيمة. لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة فلذلك وجبت الكفارة فيها. وأما قول المصنف رحمه الله: كالقصاص ... إلى آخره؛ فبيان لمواضع لا كفارة فيها. قال: (وفي قتل العمد وشبه العمد روايتان: إحداهما: لا كفارة فيه. اختارها أبو بكر والقاضي، والأخرى: فيه الكفارة). أما كون قتل العمد لا كفارة فيه على روايةٍ اختارها أبو بكر والقاضي؛ فلأنه فعل يوجب القتل. فلا يوجب الكفارة؛ كزنا المحصن. وأما كونه فيه الكفارة على روايةٍ؛ فلما روى واثلة بن الأسقع قال: «أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم بصاحبٍ لنا قد أوجبَ بالقتل. فقال: أعتقوا عنهُ رقبةً يُعتقِ اللهُ بكلِ عضوٍ منها عضواً من النار» (¬2). ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (15582) طبعة إحياء التراث.

ولأن الكفارة إذا وجبت في قتل الخطأ فلأن تجب في قتل العمد بطريق الأولى. والأولى هي المشهورة في المذهب لأن الله تعالى ذكر القتل خطأ وأوجب فيه الكفارة. ثم ذكر قتل العمد ولم يوجب فيه كفارة، وذلك يدل على عدم الوجوب. وروي «أن سويدَ بن الصامت قتلَ رجلاً. فأوجبَ النبي صلى الله عليه وسلم القودَ ولم يوجب كفارة». وروي «أن عمرو بن أمية الضمري قتلَ رجلين كانا في عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم فوداهُما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بكفارة». وأما حديث واثلة فيحتمل أنه كان خطأ وسماه موجباً؛ لأنه فوّت النفس بالقتل، ويحتمل أنه كان شبه العمد، ويحتمل أنه أمرهم بالإعتاق تبرعاً. وأما شبه العمد فذكر المصنف رحمه الله فيه هنا روايتين. وقال (¬1) في المغني: تجب فيه الكفارة ثم قال: ولا أعلم لأصحابنا فيه قولاً. لكن مقتضى الدليل ما ذكرنا؛ لأنه أجري مجرى الخطإ في نفس القصاص، وحمل العاقلة ديته، وتأجيلها في ثلاث سنين فجرى مجراه في وجوب الكفارة. ولأن القاتل إنما لم يحمل شيئاً من الدية لتحمله الكفارة فلو لم تجب عليه الكفارة تحمل من الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب شيء أصلاً ولم يرد الشرع بهذا. إذا علم مجموع كلام المصنف رحمه الله هنا وفي المغني اقتضى أمرين: أحدهما: أن حكاية الروايتين في شبه العمد وقعت هنا سهواً. وثانيهما (¬2): أن القول بالوجوب فيه مأخوذ من الدلالة لا من النقل. وفيه نظر لأن المسألة منقولة في المستوعب وفي غيره من كتب الأصحاب. لكن المصنف رحمه الله احترز عن ذلك حيث قال: لا أعلم فإن ذلك نفي لعلمه لا لوجود ¬

_ (¬1) في د: قال. (¬2) في أ: وثانيها.

المسألة. على أن نفي علمه يدل على نفي الوجود؛ لأنه إمام حبر ربما خفي ذلك عليه وقت ذكر ذلك، وقال (¬1): لا أعلم عجلة لا نكرا. ¬

_ (¬1) في أ: لو قال.

باب القسامة

باب القسامة والأصل في القسامة ما روي عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج «أن مُحيّصة بن مسعود وعبدالله بن سهل انطلقا إلى خيبر. فتفرقا في النخيل. فقُتل عبدالله بن سهل. فاتهموا اليهود. فجاءَ أخوه عبدالرحمن وابنا عمه حويصةَ ومحيصةَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فتكلم عبدالرحمن في أمر أخيه وهو أصغرُهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبّر كبّر. فتكلما في أمر صاحبهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُقسم خمسونَ منكم على رجلٍ منهم فيدفع إليكم برمّته. فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهودُ بأيمان خمسين منهم. قالوا: يا رسول الله! قومٌ كفارٌ ضلال. قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَلِه» (¬1) متفق عليه. قال المصنف رحمه الله: (وهي: الأيمان المكررة في دعوى القتل. ولا تثبت إلا بشروط أربعة: أحدها: دعوى القتل. ذكراً كان المقتول أو أنثى، حراً أو عبداً، مسلماً أو ذمياً. فأما الجراح فلا قسامة فيه). أما قول المصنف رحمه الله: وهي الأيمان المكررة (¬2) في دعوى (¬3) القتل؛ فبيان لمعنى القسامة شرعاً. قال القاضي: الأيمان إذا كثرت على وجه المبالغة هي القسامة. وفي اللغة: هي القوم الذين يحلفون. سُموا باسم المصدر، وذلك أن القسامة مصدر أقسم قسامة وقسماً. والمصدر قد يسمى به ومنه رجل عدل ورضي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6769) 6: 2630 كتاب الأحكام، باب كتاب الحاكم إلى عماله والقاضي إلى أمنائه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1669) 3: 1292 كتاب القسامة، باب القسامة. (¬2) في أ: المذكورة. (¬3) ساقط من أ.

وأما كون القسامة لا تثبت إلا بشروط أربعة؛ فلما يأتي ذكره في كل واحد منها. وأما كون أحد الشروط دعوى القتل؛ فلأن الأصل فيها حديث محيصة وحويصة، وذلك فيه دعوى القتل. ولأن كل حق لآدمي لا يثبت لشخص إلا بعد دعواه أنه له، والقتل من الحقوق. فوجب أن يندرج تحت ذلك. وأما قول المصنف رحمه الله: ذكراً كان المقتول أو أنثى، حراً أو عبداً، مسلماً أو ذمياً فراجع إلى أصل القسامة ليعلم أن القسامة تجري في ذلك كله: أما كونها تجري في الذكر؛ فلما تقدم من الحديث. وأما كونها تجري في الأنثى؛ فلأن القصاص يجري فيها. فشرعت القسامة فيها؛ كالذكر. وأما كونها تجري في الحر والمسلم؛ فلما تقدم من الحديث. وأما كونها تجري في العبد والذمي؛ فلأن قتل العبد والذمي يوجب القصاص في المماثل له. فأوجب القسامة في ذلك؛ كالحر والمسلم. فإن قيل: ظاهر إطلاق المصنف رحمه الله القسامة في قتل العبد والذمي من غير تقييد بكون المدعى عليه القتل مماثلاً أو غير مماثل يدل على القسامة مطلقاً. قيل: قال في المغني: إن كان مماثلاً له شرعت القسامة وقد تقدم دليله، وإن كان غير مماثل (¬1) له فلا قسامة [فيه في ظاهر كلام الخرقي؛ لأن القسامة تكون فيما يوجب القود. وقال القاضي: تشرع القسامة] (¬2)؛ لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة. فشرعت القسامة فيه؛ كقتل الحر المسلم. ولأن ما كان حجة في قتل [الحر المسلم كان حجة في قتل] (¬3) العبد والذمي؛ كالبينة. ثم قال: على الوجه الصحيح الأول. ¬

_ (¬1) في أ: وإن اعتبر مماثلاً. (¬2) ساقط من أ. (¬3) ساقط من د.

ولنا أنه قتل لا يوجب القصاص. [أشبه البهيمة. ولا يلزم من شرعها فيما يوجب القصاص] (¬1) شرعها مع عدمه. بدليل أن العبد لو اتهم بقتل سيده شرعت القسامة إذا كان (¬2) القتل موجباً للقصاص، ولم يشرع إذا لم يكن كذلك. وأما كون الجراح لا قسامة فيها (¬3)؛ فلأن القسامة تثبت في النفس لحرمتها. فاختصت؛ كالكفارة. ولأنها تثبت حيث كان المجني عليه لا يمكنه (¬4) التعبير عن نفسه ولا عن قاتله، وهذا مفقود في الجراح. قال: (الثاني: اللَّوْث. وهو: العداوة الظاهرة كنحو ما كان بين الأنصار وأهل خيبر، وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضاً بثأر في ظاهر المذهب. وعنه: ما يدل على أنه ما يغلب على الظن صحة الدعوى كتفرق (¬5) جماعة عن قتيل، ووجود قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم وشهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان ونحو ذلك. فأما (¬6) قول القتيل: فلان قتلني فليس بلوث). أما كون الثاني من شروط القسامة: اللَّوْث؛ فلأن الحديث الدال على مشروعية القسامة حديث حويصة ومحيصة، واللوث فيه موجود. فوجب أن لا يتعدى إلى من لا لوث فيه. وأما كون اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه القتل؛ كما بيْن الأنصار ويهود خيبر، وبين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين أهل البغي والعدل، وما بين الشرطة واللصوص؛ فلأن مقتضى الدليل أن لا تشرع القسامة. تُرك العمل به في العداوة الظاهرة لقصة ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) مثل السابق. (¬3) في د: فيه. (¬4) في أ: المجني عاقلاً يمكنه. (¬5) في أ: دعوى كتفريق. (¬6) في أ: وأما.

حويصة ومحيصة. إذ العداوة [بين الأنصار وأهل خيبر ظاهرة. فوجب أن يبقى عدم مشروعيتها في غير العداوة] (¬1) الظاهرة على مقتضى الدليل. وأما كون اللوث ما يغلب على الظن صحة الدعوى على روايةٍ؛ فلأن غلبة الظن مُنزّلة مَنزلة العلم في كثير من المواضع. فلأن تنزل منزلة العداوة الظاهرة بطريق الأولى. وأما قول المصنف رحمه الله: كتفرق (¬2) جماعة عن قتيل منها؛ فلأن ذلك مما يغلب على الظن كون القاتل أحدهم أو كلهم. وأما كون وجود قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم منها؛ فلأن ذلك مما يغلب على الظن كون من معه السيف المذكور هو القاتل. وأما كون شهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان وما أشبه ذلك منها؛ فلأن ذلك مما يغلب على الظن صدق المدعي. وأما كون (¬3) قول القتيل: فلان قتلني ليس بلوث؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يُعطى الناسُ بدعواهُم (¬4) لادّعى رجالٌ دماءَ قومٍ وأموالهم» (¬5). ولأنه ادعى حقاً لنفسه. فلم يقبل قوله فيه؛ كسائر الحقوق. ولأن اللوث: إما العداوة الظاهرة، أو غلبة الظن بصحة الدعوى. ولم يوجد واحد منهما في قول القتيل: فلان قتلني. بل الحاصل من قوله غلبة الظن بعدم صحة الدعوى؛ لما في قوله من التهمة. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في أ: كتفريق. (¬3) ساقط من أ. (¬4) في أ: بدعاويهم. وفي د زيادة كلمة: جميعاً. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (4277) 4: 1656 كتاب التفسير، باب: {إن الذين يشترون بعهد الله ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (1711) 3: 1336 كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه.

قال: (ومتى ادعى القتل مع عدم اللوث عمداً فقال الخرقي: لا يحكم له بيمين ولا غيرها، وعن أحمد: أنه يحلف يميناً واحدة. وهي الأولى. وإن كان خطأ حلف يميناً واحدة). أما كون المدعي لما ذُكر مع ما ذكر لا يحكم له بيمين على قول الخرقي؛ فلأن المدعى به مما لا يجوز بذله. فلم يجب فيه يمين؛ كالحدود. [ولأنه لا يقضى في هذه الدعوى بالنكول. فلم يستحلف فيها؛ كالحدود] (¬1). وأما كونه لا يحكم له بغير اليمين؛ فلأن من شروط القسامة المرتب عليها القتل أو الدية وجود اللوث، وهو منتف هاهنا. وذكر المصنف رحمه الله في المغني ما ذكره الخرقي رواية. وأما كون المدعى عليه يحلف على ما روي عن الإمام أحمد؛ فلعموم قوله عليه السلام: «ولكن اليمينَ على المدَّعَى عليه» (¬2). [وأما كون اليمين واحدة؛ فلأن قوله عليه السلام: «ولكن اليمينَ على المدَّعَى عليه»] (¬3): ظاهر في أنها يمين واحدة. وذلك من وجهين: أحدهما: أنه وحد اليمين. فتنصرف إلى واحدة. وثانيهما: أنه لم يفرق في اليمين المشروعة. فيدل على التسوية بين المشروعة في الدم والمال. ولأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل. فلم تغلظ؛ كسائر الأيمان. وأما كون الأولى ذلك؛ فلأن قوله عليه السلام: «لو يُعطى الناسُ بدعواهم (¬4) لادّعَى قومٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم»، و «لكن اليمينَ على المدَّعَى عليه»: ظاهر في إيجاب اليمين لوجهين: أحدهما: عموم اللفظ فيه. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه ص: 203 (¬3) ساقط من د. (¬4) في أ: بدعاويهم.

والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في صدر الخبر بقوله: «لادّعى قومٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم». ثم عقبه بقوله: «ولكن اليمينَ على المدَّعَى عليه» فيعود إلى المذكور في الحديث ولا يجوز إخراجه منه إلا بدليل أقوى منه. ولأنها دعوى في حق الآدمي. فيستحلف فيها؛ كدعوى المال. ولأنها (¬1) لو أقر بها لم يقبل رجوعه عنها. فيجب اليمين فيها؛ كالأصل. وأما كونه يحلف يميناً واحدة (¬2) إذا كان خطأ؛ فلأن النكول هنا يُقضى به؛ لأن موجبه مال. بخلاف القصاص. قال: (الثالث: اتفاق الأولياء في الدعوى. فإن ادعى بعضهم وأنكر بعض لم تثبت القسامة). أما كون الثالث من شروط القسامة اتفاق جميع الأولياء على (¬3) الدعوى؛ فلأنه دعوى قتل. فاشترط اتفاق جميع الأولياء في الدعوى فيها (¬4)؛ كالقصاص في غير القسامة. وأما كونها لا تثبت إذا ادعى بعض الأولياء وأنكر بعض؛ فلأن شرطها اتفاق جميع الأولياء لما تقدم، ولم يوجد. ولأن الإنكار أبلغ من عدم الدعوى. فإذا لم تثبت إلا مع اتفاق الجميع فيها. فلئلا تثبت مع إنكار البعض بطريق الأولى. قال: (الرابع: أن يكون في المدعين رجال عقلاء. ولا مدخل للنساء والصبيان والمجانين في القسامة عمداً كان القتل أو خطأ). أما كون الرابع من شروط القسامة أن يكون في المدعين رجال؛ فلأن الدال عليها حديث خيبر، [وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقسمُ خمسون رجلاً منكم» (¬5)] (¬6). ¬

_ (¬1) في د: ولو أنها. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في أ: في. (¬4) سقط لفظي: في الدعوى من د. (¬5) سبق تخريجه ص: 200 (¬6) ساقط من أ.

ولأن أيمان (¬1) القسامة حجة يثبت بها قتل العمد. فاعتبر كونها من رجال؛ كالشهادة. وأما كون النساء لا مدخل لهم في القسامة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر النساء في الحديث المتقدم. ولأن القسامة حجة موجبها القتل. فلم تسمع من النساء؛ كالشهادة. ولأن الجناية المدّعاة التي تجب القسامة عليها هي القتل، ولا مدخل للنساء في إثباته. وأما كون الصبيان والمجانين لا مدخل لهم فيها؛ فلأن الأيمان في القسامة حجة للحالف، والصبي والمجنون لا يثبت بقولهما حجة، ولو أقرا على أنفسهما لم يقبل. فلئلا يقبل قولهما في حق غيرهما بطريق الأولى. وأما كونهم لا مدخل لهم فيها عمداً كان القتل أو خطأ؛ فلأن الخطأ أحد القتلين. أشبه الآخر. فإن قيل: الخطأ يثبت المال، وللنساء في ثبوت المال مدخل. قيل: المال يثبت ضمناً لثبوت القتل، ومثل ذلك لا يثبت بالنساء. دليله ما لو ادعى رجل زوجية امرأة بعد موتها ليرثها فأقام رجلاً وامرأتين فإنه لا يقبل لكون المال إنما يثبت ضمناً لثبوت النكاح. فكذا هاهنا يجب أن لا يكون للنساء مدخل في القسامة في الخطأ؛ لأن المال إنما يثبت ضمناً لثبوت القتل. قال: (فإن كانا اثنين أحدهما غائب أو غير مكلف فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق نصيبه من الدية. وهل يحلف خمسين يميناً أو خمساً وعشرين؟ على وجهين. وإذا قدم الغائب أو بلغ الصبي حلف خمساً وعشرين وله بقيتها). أما كون الحاضر له أن يحلف ويستحق نصيبه من الدية؛ فلأن القسامة حق له ولغيره. فغيبة صاحبه لا تمنعه من حلفه واستحقاق نصيبه؛ كالمال المشترك بين الاثنين. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

وأما كونه يحلف خمسين يميناً على وجهٍ؛ فلأن الحكم لا يثبت إلا بالبينة الكاملة، ولذلك لو ادعى أحدهما دَيناً لأبيهما لم يستحق نصيبه منه إلا بالبينة المثبتة لجميعه. ولأن الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق، ولو ادعى مالاً له شركة له به شاهد يحلف يميناً كاملة. كذلك هذا. وأما كونه يحلف خمساً وعشرين على وجه؛ فلأن الجميع لو كانوا حضوراً لم يلزمه أكثر من قسطه من الأيمان. [فكذا إذا غاب بعضهم؛ كما في سائر الحقوق. ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية. فلا يلزمه أكثر من قسطه من الأيمان] (¬1). وأما كون الغائب إذا حضر والصبي إذا بلغ يحلف خمساً وعشرين يميناً؛ فلأنه يبني على أيمان أخيه المتقدمة. وأما كون من حلف منهما له بقية الدية؛ فلأن ذلك موجَب أيمانه. قال: (وذكر الخرقي من شروط القسامة: أن تكون الدعوى عمداً توجب القصاص إذا ثبت القتل، وأن تكون الدعوى على واحد. وقال غيره: ليس بشرط، لكن إن كانت الدعوى عمداً محضاً لم يقسموا إلا على واحد معين ويستحقون دمه، وإن كانت خطأ أو شبه عمد فلهم القسامة على جماعة معينين ويستحقون الدية). أما كون القسامة من شروطها: أن تكون الدعوى عمداً توجب القصاص إذا ثبت القتل، وأن تكون الدعوى على ما ذكر الخرقي: أما كون الدعوى عمداً؛ فلأن اللوث من شروط القسامة وفاقاً على ما مر من الخلاف، ولا يتحقق إلا في العمد؛ لأن الخطأ يصدر من غير قصد. فيستوي فيه العدو وغيره، وإذا كان كذلك صار الخطأ في المعنى كالعمد الذي لا لوث فيه ولا قسامة فيه. فكذا ما هو في معناه. ¬

_ (¬1) ساقط من د.

وأما كون العمد يوجب القصاص إذا ثبت القتل؛ فلأن الغرض من القسامة في العمد القصاص. فإذا لم تكن موجبة له كدعوى قتل المسلم الكافر لم يوجد الغرض المذكور. وأما كون الدعوى على واحد؛ فلأن المثبت للقسامة الحديث المتقدم وفيه: «يحلفُ خمسونَ منكم على رجلٍ منهم فيدفعُ برمّتِه» (¬1). وأما كون العمد ليس من شروط القسامة على قول غيره؛ فلأن القسامة حجة. فوجب أن يثبت بها الخطأ كالعمد قياساً على البينة. والجامع بينهما كون كل واحدة منهما مثبتة للحق. فعلى هذا إن كانت الدعوى عمداً محضاً لم يقسموا إلا على واحد معيّن ويستحقون دمه؛ لأن في حديث سهل: «يحلفُ خمسونَ منكم على رجلٍ منهم فيدفعُ برمَّتِه». وإن كانت خطأ أو شبه عمد فلهم القسامة على جماعة معينين؛ لأن موجبها المال. فصحت على الجماعة؛ كاليمين على المال. ويستحقون الدية على المدعى عليهم؛ لأن ذلك موجب القسامة من قتل الخطأ وشبه العمد. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 200.

فصل [في كيفية القسامة] قال المصنف رحمه الله: (ويُبدأ في القسامة بأيمان المدعين. فيحلفون خمسين يميناً. ويختص ذلك بالوارث. فتقسم الأيمان بين الرجال منهم على قدر ميراثهم. فإن كان الوارث واحداً حلفها، وإن كانوا جماعة قسمت عليهم على قدر ميراثهم. فإن كان فيها كسر جبر عليهم؛ مثل: زوج وابن يحلف الزوج ثلاث عشرة يميناً والابن ثمانية (¬1) وثلاثين. وإن خلف ثلاثة بنين حلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً. وعنه: يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث خمسون رجلاً على كل واحد منهم يميناً). أما كون القسامة يُبدأ فيها بأيمان المدعين؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمانهم في حديث سهل بن أبي حثمة فقال لحويصة ومحيصة وعبدالرحمن: «يحلفُ خمسونَ منكم فقالوا: أمرٌ لم نشهده كيفَ نحلف؟ قال: فتبرئكمْ يهودُ بأيمان خمسينَ منهم» (¬2). فإن قيل: يرد على ذلك أمران: أحدهما: الكلام في حديث سهل بما روى أبو داود بإسناده أن محمد بن إبراهيم قال: «وايمُ الله! ما قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم احلفوا على ما لا علمَ لكم به ولكنه كتبَ إلى يهودَ حين كلمه الأنصار فكتبوا يحلفونَ بالله ما قتلوهُ ولا يعلمونَ له قاتلاً» (¬3). وثانيهما: أنه ينبغي أن يبدأ بأيمان المدعى عليهم لأمور: ¬

_ (¬1) في أ: عشر والابن ثمانياً. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4525) 4: 179 كتاب الديات، باب: في ترك القود بالقسامة.

أحدها: قوله عليه السلام: «ولكن اليمين على المدعى عليه» (¬1). رواه مسلم. وثانيها (¬2): ما روي عن سليمان بن يسار عن رجالٍ من الأنصار «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليهودَ وبدأَ بهم: يحلفُ منكم خمسونَ رجلاً فأبَوْا. فقال للأنصار: احلفُوا واستحقُّوا. قالوا: نحلفُ على الغيبِ يا رسول الله! [فجعلَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم] (¬3) على اليهود؛ لأنه وُجدَ بين أظهُرهم (¬4») (¬5). رواه أبو داود. وثالثها: أن اليمين في القسامة يمين في دعوى. فكانت كسائر الدعاوي. قيل: أما الكلام في حديث سهل فلا يصح لوجوه: أحدها: أنه نفي فلا يرد به قول المثبت (¬6). وثانيها: أن سهلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهَدَ القصة وعرفها حتى أنه قال: «ركضتني (¬7) ناقةٌ من تلكَ الإبل» (¬8). وغيره لم يره، وما ذكر عن أحد ولا حضر القصة، وإنما يقول برأيه (¬9) وظنه. وثالثها: أن حديث سهل مخرج في الصحيحين متفق عليه، وحديث محمد بن إبراهيم ليس كذلك. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) في أ: وثانيهما. (¬3) ساقط من د. (¬4) في د: يؤخذ من أظهرهما. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (4526) 4: 179 كتاب الديات، باب في ترك القود بالقسامة. (¬6) في أ: المصنف. (¬7) في د: وكصتني (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه (5791) 5: 2275 كتاب الأدب، باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال. وأخرجه مسلم في صحيحه (1669) 3: 1292 كتاب القسامة، باب القسامة. (¬9) في د: وغيره لم ير وأما ما ذكر عن أحد ولا حضر القصة وإنما يقول رأيه.

وأما قوله عليه السلام: «ولكن اليمينَ على المدَّعَى عليه» (¬1): فالمراد به غير هذه القصة لأن أوله يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم. ثم لو قدر دلالته على هذه القضية (¬2) فهي دلالة من جهة العموم، وحديث سهل يدل بجهة الخصوص، والخاص يقدم على العام. على أنه قد روي: «البينةُ على المدعي واليمينُ على من أنكرَ إلا في القسامة» (¬3)، وذلك زيادة من عدل. فوجب قبولها. وأما حديث سليمان بن يسار فلا يصلح معارضاً لحديث سهل؛ لأنه عزاه إلى رجال من الأنصار ولم يذكر لهم صحبة ثم هو مخالف لحديث سهل من وجه آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية على اليهود. وأما قياس يمين القسامة على سائر الدعاوي فلا يصح؛ لأنها خالفت ذلك في أشياء. على أن من الدعاوي ما يبدأ فيه بيمين المدعي كأيمان اللعان. فوجب إلحاق أيمان القسامة به؛ لأن بينهما اشتراكاً خاصاً هو تكرر الأيمان فيهما (¬4). وأما كون المدعين يحلفون خمسين يميناً؛ فلما تقدم من الأحاديث الصحيحة؛ كحديث سهل وغيره. ولأن الإجماع منعقد على ذلك. وأما كون ذلك يختص بالوارث على المذهب؛ فلأن أيمان القسامة أيمان في دعوى. فلم تشرع في حق غير الوارث؛ كسائر الأيمان. وأما كون الأيمان تقسم بين الرجال منهم؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خاطب بذلك الرجال. وأما كونه (¬5) يقسم بينهم على قدر ميراثهم؛ فلأن موجَبها إذا كان الدية يُقَسّم كذلك. فكذلك يجب أن (¬6) تقسم هي. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 203. (¬2) في أ: القصة. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (51) 4: 217 كتاب في الأقضية والأحكام، في المرأة تقتل إذا ارتدت. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 123. (¬4) في أ: تكرير الأيمان فيها. (¬5) في أ: كونهم. (¬6) ساقط من أ.

وأما كون الوارث إذا كان واحداً يحلفها كلها؛ فلأنه قائم مقام الجماعة في استحقاق الدية. فكذلك يجب أن يقوم مقامهم في الأيمان. وأما كونهم إذا كانوا جماعة تقسم بينهم على قدر ميراثهم؛ فلما تقدم. وأما كون الأيمان تجبر إذا كان فيها كسر كما مثّل المصنف رحمه الله من الزوج والابن؛ فلأن تكميل الخمسين واجب، ولا يمكن تبعيض اليمين ولا حلف بعض دون بعض. فوجب تكميل اليمين المكسورة؛ لتحصل الخمسون الواجبة. وأما كون الجبر في حق (¬1) كل واحد؛ فلأنه لا مزية لأحد على أحد. وأما كون الزوج يحلف من الخمسين ثلاثة عشر يميناً؛ لأن له الربع فيكون عليه ربع الأيمان وهو اثني عشر ونصف. ثم يكمل ذلك بنصف لما تقدم. فيصير ثلاثة عشرة. وأما كون الابن يحلف ثمانية (¬2) وثلاثين؛ فلأن عليه سبعاً وثلاثين يميناً ونصف. ثم يكمل ذلك بنصف فيصير ثمانياً وثلاثين. وأما كون من خلّف ثلاثة بنين يحلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً؛ فلأن [على كل ابن ثلث الأيمان ستة عشر يميناً وثلثين ثم يكمل ذلك بثلث يمين فيصير] (¬3) على كل واحد سبع عشرة (¬4). وأما كون غير الوارث من العصبة يحلف كل واحدٍ منهم خمسون رجلاً على رواية؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «يحلفُ خمسونَ منكم» (¬5) مع علمه أنه لم يكن لعبدالله بن سهل منهم خمسون رجلاً وارثاً؛ لأنه لا يرثه إلا أخوه أو من هو في درجته أو أقرب منه نسباً. ولأنه خاطب بذلك ابني عمه وهما غير وارثين. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في أ: ثمانياً. (¬3) ساقط من د. (¬4) في د: عشرة إلا ثلث. (¬5) سبق تخريجه ص: 200.

قال: (فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ. وإن لم يحلف المدعون ولم (¬1) يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال). أما كون المدعى عليه يحلف خمسين يميناً ويبرأ إذا لم يحلف المدعون؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث سهل: «فتبرئكم يهودُ بأيمان خمسينَ منهم» (¬2). أي (¬3) يبرؤون منكم بذلك. وفي لفظ قال: «فيحلفونَ خمسينَ يميناً ويبرؤونَ من دمه» (¬4). وعن الإمام أحمد: يحلفون ويغرمون الدية «لأن عمر رضي الله عنه قضى بالديةِ مع اليمين». والأول أولى؛ لما ذكر. ولأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود الدية. ولأن أيمان القسامة أيمان مشروعة في حق المدعى عليه. فوجب أن يبرأ بها (¬5) المدعى عليه؛ كسائر الأيمان. وأما قضاء عمر رضي الله عنه فإنما قضى به على أهل المحلة، وليس ذلك مذهباً لأحمد. وأما كون الإمام يفديه من بيت المال إذا لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه؛ فـ «لأن أولياءَ عبدالله بن سهل لم يحلفوا ولم يرضوا بأيمانَ اليهود. فوداهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمائةٍ من إبلِ الصدقة» (¬6) متفق عليه. فإن قيل: فقد جاء أنه وداه من عنده. قيل: يحمل ذلك على ما تقدم؛ لأن إبل الصدقة عنده. بخلاف العكس. ¬

_ (¬1) في أ: يحلفوا ولم. (¬2) سبق تخريجه ص: 200. (¬3) في د: أن. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (16140) 4: 3. (¬5) ساقط من أ. (¬6) سبق تخريجه ص: 200.

قال: (فإن طلبوا أيمانهم فنكلوا لم يحبسوا. وهل تلزمهم الدية، أو تكون في بيت المال؟ على روايتين). أما كون المدعى عليهم لا يحبسون إذا نكلوا عن اليمين؛ فلأنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه (¬1). فلم يحبس عليها؛ كسائر الأيمان. وعن الإمام أحمد: يحبسون حتى يحلفون (¬2)؛ لأنها دعوى فحبس فيها بالنكول؛ كالمال. وأما كون الدية (¬3) تلزمهم على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها على اليهود في حديث سليمان بن يسار لما أبو أن يحلفوا (¬4). ولأنه حكم يثبت بالنكول. فثبت في حق الناكل؛ كسائر الدعاوي. وأما كونها تكون في بيت المال على روايةٍ؛ فلأنهم امتنعوا عن اليمين. أشبه المدعين (¬5) إذا لم يرضوا بيمين المدعى عليه. إذا علم الاختلاف في الدية والاقتصار على لزومها مشعر بأن القصاص لا يلزم بالنكول وصرح به في المغني وعلله بأنه حجة ضعيفة. فلم يستحق به الدم؛ كالشاهد واليمين. ¬

_ (¬1) في د: عليهم. (¬2) في أ: يحلفوا. (¬3) في أ: النساء. (¬4) سبق ذكره وتخريجه ص: 210. (¬5) في د: يمين المدعين.

كتاب الحدود

كتاب الحدود الحدود جمع حد. والحد في اللغة: المنع، ومنه قيل للبواب حداد؛ لأنه يمنع من دخول الدار. وفي الشرع: عبارة عن عقوبة مخصوصة. فإن قيل: لم سميت العقوبة في الشرع حداً؟ قيل: لأنها تمنع من الدخول في المعاصي المختصة بها. قال المصنف رحمه الله: (لا يجب الحد إلا على بالغ عاقل عالم بالتحريم). أما كون الحد لا يجب على غير بالغ عاقل؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رُفعَ القلمُ عن ثلاث: عن الصبيِّ حتى يبلُغ، وعن المجنون حتى يُفيق، وعن النائمِ حتى يستيقظ» (¬1). وأما كونه لا يجب على غير عالم بالتحريم؛ فلأن عمر وعلياً رضي الله عنهما قالا: «لا حَدَّ إلا على من عَلِمَه» (¬2). ولأن الحد يدرأ بالشبهة، والجهل شبهة. وأما كونه يجب على بالغ عاقل عالم بالتحريم؛ فلعموم النصوص المقتضية لوجوبه السالمة عن معارضة ما تقدم ذكره. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4403) 4: 141 كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً. وأخرجه الترمذي في جامعه (1423) 4: 32 كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد. (¬2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (13643) 7: 403 كتاب الطلاق، باب لا حد إلا على من علمه. نحوه. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 239 كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات. نحوه.

قال: (ولا يجوز أن يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه؛ إلا السيد فإن له إقامة الحد بالجلد خاصة على رقيقه القن. وهل له القتل في الردة، والقطع في السرقة؟ على روايتين. ولا يملك إقامته على مكاتبه، ولا على من بعضه حر، ولا على أمته المزوجة). أما كون الحد لا يجوز أن يقيمه غير الإمام أو نائبه أو سيده فلأن (¬1) الإقامة تفتقر إلى ثبوت واجتهاد ونظر، وذلك مفقود فيمن ذكر. فإن قيل: ما ذكر موجود في السيد، وهو يقيمه. قيل (¬2): خرج من ذلك السيد لما يأتي فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما كونه يجوز أن يقيمه؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيمه»، وكذلك الخلفاء بعده. وأما كونه يجوز لنائب الإمام أن يقيمه؛ فلأن أنيساً رجم امرأة بطريق النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). ولأن نائب الإمام في غير ما ذكر كالإمام. [فكذلك يجب أن يكون فيما ذكر. قياساً للبعض على البعض. ولأن نواب الإمام] (¬4) يقيمون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير. وأما كون السيد له إقامة الحد بالجلد على رقيقه القن؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا زنتْ [أمةُ أحدكم فاجلدُوها، ثم إن زنتْ فاجلدُوها، ثم إن زنتْ] (¬5) فاجلدُوها، ثم بيعوها ولو بضَفِير» (¬6)، ولعموم قوله عليه السلام: «أَقيموا الحدَّ على ما ملكتْ أيمانكم» (¬7). ¬

_ (¬1) في أ: فإن. (¬2) في د: على. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2575) 2: 971 كتاب الشروط، باب الشروط التي لا تحل في الحدود. وأخرجه مسلم في صحيحه (1697) 3: 1325 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى. (¬4) ساقط من أ. (¬5) ساقط من أ. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (6447) 6: 2509 كتاب المحاربين، باب إذا زنت الأمة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1703) 3: 1329 كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى. (¬7) أخرجه أبو داود في سننه (4473) 4: 161 كتاب الحدود، باب في إقامة الحد على المريض.

وأما كونه له قتله في الردة وقطعه في السرقة على روايةٍ؛ فلعموم الحديث المذكور. ولأنه روي عن حفصة «أنها قَتَلَتْ أمةً لها سَحَرَتْها» (¬1)، و «عمرُ قطعَ عبداً له سَرق» (¬2). وأما كونه ليس له ذلك؛ فلأن الجلد ضرب، والسيد له ضرب عبده؛ لإصلاحه. والقتل والقطع ليس كذلك. فوجب أن لا يقيمه إلا الإمام أو نائبه؛ كالحر. وأما كونه لا يملك إقامته على مكاتبه؛ فلأنه معه كالأجنبي. وأما كونه لا يملك إقامته على من بعضه حر؛ فلأنه ليس له ولاية على كله، والحد تصرّف في الكل. وأما كونه لا يملك إقامته على أمته المزوجة؛ فلأن في الحديث المذكور: «فإن كانت مزوَّجة فليرفعه إلى الحاكم». ولأن أحكام الملك نقصت (¬3) بالتزويج بها. بل إنه يجب على الزوج نفقتها مدة إقامتها عنده وفطرتها. قال: (وإن كان السيد فاسقاً أو امرأة فله إقامته في ظاهر كلامه. ويحتمل أن لا يملكه). أما كون السيد إذا كان فاسقاً له إقامة الحد على ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأن إقامة السيد لذلك ولاية مستفادة بالملك. فلا ينافيها الفسق؛ كولاية نكاحها. وأما كونه يحتمل أن لا يملكه؛ فلأن السيد أحد من يملك الإقامة. فاشترط فيه العدالة؛ كالإمام. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (14) 2: 663 كتاب العقول، باب ما جاء في الغيلة والسحر. (¬2) أخرجه الشافعي في مسنده (269) 2: 83 كتاب الحدود، باب في حد السرقة. عن ابن عمر. (¬3) ساقط من د.

وأما كونه إذا كان (¬1) امرأة لها ذلك على ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأن السيد إنما يملك ذلك بالملك، وهو موجود في المرأة. وأما كونها يحتمل أن لا تملكه؛ فلأنها في مظنة الدين. أشبهت الفاسق. قال: (ولا يملكه المكاتب. ويحتمل أن يملكه). أما كون المكاتب (¬2) لا يملك إقامة الحد على رقيقه على المذهب؛ فلأنه ليس من أهل الولاية. ولأن ملكه على عبده ناقص، ولذلك لا تجب عليه الزكاة. وأما كونه يحتمل أن يملكه؛ فلأن إقامة الحد في حق السيد مستفادة بالملك. فملكه المكاتِب؛ كسائر تصرفاته. قال: (وسواء ثبت ببينة أو إقرار. وإن ثبت بعلمه فله إقامته. نص عليه. ويحتمل أن لا يملكه كالإمام). أما كون الثبوت بالبينة والإقرار في إقامة السيد الحد سواء؛ فلأن كل واحد منهما حجة في ثبوت الزنى. فوجب أن لا يختلف حال السيد فيه. فلهذا للسيد أن يسمع إقراره ويقيم عليه الحد، وليس له أن يسمع البينة؛ لأن البينة تحتاج إلى بحث عن العدالة والسيد ليس من أهلها. فعلى هذا إن ثبت ذلك على الحاكم أقام الحد، وإلا توقف على ثبوت الزنى عنده. وقيل: إن كان السيد يعرف شرط العدالة؛ لأنه يلي إقامة الحد فيلي (¬3) سماع البينة مع الإقامة كالحد على رقيقه إذا ثبت بعلمه على منصوص الإمام. ولأنه قد ثبت عنده. أشبه ما لو أقر به عنده. وأما كونه يحتمل أن لا يملكه؛ فلأن السيد أحد من يملك إقامة الحد. فلم يملكه بعلمه؛ كالإمام. وسيأتي دليله بعد إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في د: كانت. (¬2) في أ: المكاتبة. (¬3) في أ: قيل.

قال: (ولا يقيم الإمام الحد بعلمه. ولا تقام الحدود في المساجد). أما كون الإمام لا يقيم الحد بعلمه؛ فلأن الله تعالى قال: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء: 15]، وقال: {فإذ (¬1) لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور: 13]. ولأنه متهم في حكمه بعلمه، وذلك شبهة يدرأ بها الحد. وأما كون الحدود لا تقام في المساجد؛ فلما روى حكيم بن حزام «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهَى أن يُستقادَ في المساجد، وأن يُنشدَ فيه الأشعار، وأن تُقامَ فيه الحدود» (¬2). وروي عن عمر رضي الله عنه «أنه أُتي برجلٍ في منى فقال: أخرجاهُ من المسجدِ فاضرباه». وعن علي رضي الله عنه «أنه أُتي بسارق فقال: يا قنبر! أخرجه من المسجد فاقطع يده». ولأنه لا يؤمن أن يُحدث في المسجد إذا حد فيه فينجسه ويؤذيه. قال: (ويُضرب الرجل في الحد قائماً بسوط لا جديد ولا خَلَق. ولا يُمدّ ولا يربط ولا يجرد بل يكون عليه القميص والقميصان. ولا يبالغ في ضربه بحيث يشق الجلد. ويُفَرّقُ الضربُ على أعضائه؛ إلا الرأس والوجه والفرج وموضع المقتل). أما كون الرجل يضرب في الحد قائماً؛ فـ «لأن علياً أمرَ بضربِ (¬3) الرجلِ قائماً» (¬4). ولأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب، وذلك مطلوب شرعاً؛ لما يأتي في قول المصنف رحمه الله: ويفرق الضرب على أعضائه. ¬

_ (¬1) في الأصول: فإن. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4490) 4: 167 كتاب الحدود، باب في إقامة الحد في المسجد. (¬3) في أ: أمر أن يضرب. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 327 كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في صفة السوط والضرب.

وأما كون السوط لا جديد ولا خلق؛ فلأنه يروى «أن رجلاً اعترفَ عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنى. فدعى له بسوطٍ. فأُتي به مكسوراً. فقال: فوقَ هذا. فأتي بسوطٍ جديد لم يُكسر. فقال: بين هذين» (¬1). ولأن الغرض الإيلام دون الجرح، والجديد يجرح، والخَلَق لا يؤلم. وأما كونه لا يمد ولا يربط ولا يجرد؛ فلأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مدّ يد أحد (¬2) ولا ربطها ولا جرّدها في الحد، وعن ابن مسعود: «ليس في ديننا مدٌ ولا قيدٌ ولا تجريد» (¬3). وأما كونه عليه القميص والقميصان؛ فلأن ذلك صيانة له عن التجريد. مع أن ذلك لا يرد ألم الضرب، ولا يضر بقاؤهما عليه. وأما كونه لا يبالغ في ضربه بحيث (¬4) يشق الجلد؛ فلأن الغرض تأديبه وزجره عن المعصية لا قتله، والمبالغة تؤدي إليه. وأما كونه يفرّق الضربُ على أعضائه سوى الوجه والفرج وموضع المقتل؛ فلأن توالي الضرب على عضو واحد مما يؤدي إلى القتل. وأما كونه لا يضرب رأسه ولا وجهه؛ فلأنه (¬5) روي عن علي رضي الله عنه: «أنه قال للجلاّد: اضرب وأوجِع. واتَّقِ الرأسَ والوجه» (¬6). ولأنهما أجمل ما في الإنسان، وفي إصابة الضرب لهما خطر؛ لأنه (¬7) ربما عمي، أو ذهب عقله. وأما كونه لا يضرب فرجه وموضع مقتله؛ فلأن الضرب في ذلك الموضع يؤدي إلى القتل وهو غير مأمور به بل مأمور بعدمه. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (12) 2: 629 كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا. (¬2) في د: مدّ أحدا. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 326 كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في صفة السوط والضرب. (¬4) في أ: حتى. (¬5) في د: فلأن. (¬6) أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه نحوه ولفظه: « ... فقال: اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير» (28666) 5: 524 كتاب الحدود، ما جاء في الضرب في الحد. (¬7) في د: ولأنه.

قال: (والمرأة كذلك؛ إلا أنها تضرب جالسة، وتشدُّ عليها ثيابها، وتمسك يداها لئلا تنكشف). أما كون المرأة كالرجل فيما عدا المستثنى؛ فلأن الأصل كونها كالرجل إلا أن (¬1) يقوم دليل على التخصيص، ولا دليل عليه فيما عدا المواضع المستثناة. فوجب كونها كالرجل. عملاً بالأصل السالم عن المعارض. وأما كونها تضرب جالسة وتشدّ ثيابها عليها وتمسك يداها؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله. ولأن المرأة عورة. ولأن فيما ذكر ستراً لها، وذلك مطلوب في نظر الشرع، وكذلك يشرع لها في الصلاة أن تجمع نفسها في الركوع والسجود، وفي الحديث عن علي رضي الله عنه: «تُضربُ المرأةُ جالسَة» (¬2). قال: (والجلد في الزنى أشد الجلد، ثم جلد القذف، ثم الشرب، ثم التعزير. وإن رأى الإمام الضرب في حد الخمر بالجريد والنعال فله ذلك). أما كون جلد الزنى أشد الجلد ثم القذف ثم التعزير ... إلى آخره؛ فلأن (¬3) عدده أكثر. فكذلك يجب أن تكون صفته. وأما كون جلد القذف أشد من الشرب؛ فلأن جلد القذف متفق عليه في العدد والضرب بالسوط، وجلد الشرب مختلف فيه في ذلك. ولأن (¬4) جلد القذف جلد (¬5) لجناية على آدمي ولحق (¬6) الله تعالى، وجلد الشرب جلد بجناية (¬7) على حق الله فقط. ¬

_ (¬1) في أ: أنها. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 327 كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في صفة السوط والضرب. (¬3) في أ: ثم الخمر ثم التعزير فلأن. (¬4) في أ: لأن. (¬5) في د: جلداً. (¬6) في د: لحق. (¬7) في أ: جناية.

وأما كونه أشد من التعزير؛ لأنه أشد من الشرب لما تقدم، والشرب أشد من التعزير؛ لما يأتي إن شاء الله تعالى. وأما كون (¬1) جلد الشرب أشد من التعزير؛ فلأن التعزير لا يزيد على عشرة أسواط على الصحيح. بخلاف الشرب. وأما كون الإمام له الضرب في حد الخمر بالجريد والنعال إذا رأى ذلك؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بشاربٍ. فقال: اضربوه. فضُرب بالأيدي والنعالِ وأطرافِ الثيابِ وحثوا عليه التراب» (¬2). قال (¬3): (قال أصحابنا: ولا يؤخر الحد للمرض. فإن كان جلداً وخشي عليه من السوط أقيم بأطراف الثياب والعثكول. ويحتمل أن يؤخّر في المرض المرجو زواله). أما كون الحد لا يؤخر لأجل المرض على قول الأصحاب؛ فلأن الله تعالى أوجب الجلد. فلم يجب تأخير ما أوجبه الله تعالى. ولأن عمر رضي الله عنه أقامَ الجلد على قدامة وهو مريض (¬4). وأما كونه يقام بأطراف الثياب والعثكول إذا كان المريض (¬5) جلداً وخشي عليه من السوط؛ فلما روى أبو أمامة بن سهل عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه اشتكى رجلٌ منهم حتى أُضنيَ فعادَ جلداً على عظم. فدخلتْ عليه جاريةٌ لبعضهم فوقعَ عليها. فلما دخلَ عليه رجال قومه يعودونَهُ أخبرهم بذلك. ¬

_ (¬1) في د: كونه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6395) 6: 2488 كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال. وأخرجه أبو داود في سننه (4477) 4: 162 كتاب الحدود، باب الحد في الخمر. (¬3) ساقط من أ. (¬4) عن عبدالله بن عامر بن ربيعة وكان أبوه قد شهد بدراً «أن عمر رضي الله عنه استعمل قدامة بن مظعون على البحرين ... فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة فقال القوم: ما نرى أن تجلده ما دام وجعا. فقال عمر رضي الله عنه: لأن يلقى الله عز وجل تحت السياط أحب إلي من أن يلقاه وهو في عنقي ... » أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 315 كتاب الأشربة، باب من وجد منه ريح شراب أو لقي سكران. (¬5) في د: كان حد المريض.

فقال (¬6): استفتُوا لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحدٍ من الضر مثلَ ما (¬1) هو به. لو حملناهُ إليك لتفسَّخَتْ (¬2) عظامُهُ ما هوَ إلا جلدٌ (¬3) على عظمٍ. فأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له [مائة] شمراخٍ (¬4) فيضربوهُ بها (¬5) ضربة» (¬6). وأما كونه يحتمل أن يؤخر في المرض المرجو زواله؛ فلأن في التأخير استيفاء الحد على وجه الكمال من غير خوف فواته. وبه فارق المريض المرض الذي لا يرجى زواله؛ لأنه يخاف فوات الحد. قال: (وإذا مات المحدود في الجلد فالحق قتله. فإن زاد سوطاً أو أكثر فتلف ضمنه. وهل يضمن جميعه أو نصف الدية؟ على وجهين). أما كون المحدود إذا مات في جلده فالحقّ قتله؛ فلأنه روي عن علي أنه قال: «ليسَ أحدٌ أقيمُ عليه حداً فأجد في نفسي شيئاً أن الحقَ قتلهُ؛ إلا حدَّ الخمرِ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّهُ لنا» (¬7). ولأنه حد وجب لله. فلم يجب ضمان من مات به على أحد؛ لكونه غير القاتل حكماً. فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله عام، وكلام عليّ غير عام؛ لأنه أخرج حد الخمر. قيل: ما أخرجه من أن الحق قتله، وإنما أخرجه من الوجدان النفساني، وذلك لا ينفي أن الحق قتله. ¬

_ (¬6) في د: قال. (¬1) ساقط من د. (¬2) في أ: لانفسخت. (¬3) في د: جلد إلا. (¬4) في الأصول: شمراخاً. (¬5) في أ: به. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (4472) 4: 161 كتاب الحدود، باب في إقامة الحد على المريض. وما بين المعكوفين زيادة من السنن. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (6396) 6: 2488 كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال. وأخرجه مسلم في صحيحه (1707) 3: 1332 كتاب الحدود، باب حد الخمر.

وأما كونه يضمنه مَن حدَّهُ إذا تلف بزيادة في الحد؛ فلأنه [تلف بتعديه من حده. أشبه ما لو قتله. وأما كونه يضمن جميعه على وجه؛ لأنه] (¬1) تلف تلفاً بأمر حصل من جهة الله تعالى وعدوان آدمي. فكان ضمان جميعه على الآدمي؛ كما لو ضرب مريضاً سوطاً فقتله. وأما كونه يُضمن بنصف الدية على وجه؛ فلأنه مات من فعل مضمون [وغير مضمون] (¬2). فكان عليه نصف الدية؛ كما لو جرح نفسه وجرحه غيره فمات. قال: (وإذا كان الحد رجماً لم يحفر له. رجلاً كان أو امرأة في أحد الوجهين، وفي الآخر: إن ثبت على المرأة بإقرارها لم يحفر لها، وإن ثبت ببينة حُفر لها إلى الصدر). أما كون الرجل لا يحفر له إذا كان الحد رجماً؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز. قال أبو سعيد: «لما أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم برجمِ ماعز خرجنا به إلى البقيع. فواللهِ! ما حفرنا لهُ ولا أوثقناهُ ولكنهُ قامَ (¬3) لنا» (¬4). رواه أبو داود. وأما كون المرأة إذا ثبت زناها بإقرارها لا يحفر لها؛ فلأن رجوعها عن إقرارها مقبول، والحفر يمنعها من الهرب الذي هو في معنى الرجوع قولاً. وأما كونها إذا ثبت زناها ببينة لا يحفر لها في وجهٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجُهَنِيّة لما رجمها. وأما كونها يحفر لها إلى الصدر على وجه؛ فـ «لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجمَ امرأةً فحفرَ لها إلى الصدر» (¬5). رواه أبو داود. ولأن الحفر أستر لها، ولا حاجة إلى تمكينها من الهرب. بخلاف من أقرّت. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) مثل السابق. (¬3) مثل السابق. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4431) 4: 149 كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (1695) 3: 1323 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى. وأخرجه أبو داود في سننه (4443) 4: 152 كتاب الحدود، باب المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة.

والأول أصح؛ لما تقدم. ولأن أكثر الأحاديث على ترك الحفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية لما رجمها، ولا لماعز، ولا لليهودي. وأما الحديث المتقدم ذكره فلا يدل على موضع الغرض؛ لأن الحد على المرأة المذكورة ثبت عليها بإقرارها والحفر لا يشرع مع (¬1) الإقرار. قال: (ويستحب أن يَبدأ الشهود بالرجم. وإن ثبت بالإقرار استحب أن يبدأ الإمام). أما كون الشهود يستحب لهم أن يبدؤا بالرجم إذا ثبت بهم؛ فلأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: «إذا قامتِ البينةُ رجمتِ البينةُ ثم رجمَ الناس» (¬2). وأما كون الإمام يستحب له أن يبدأ بالرجم إذا ثبت بالإقرار؛ فلأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: «إذا ظهرَ الحبلُ من الزنى كان أولُ من يرجم الإمام ثم الناس» (¬3)، وفي حديث أبي بكرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمَ امرأةً فحفرَ لها إلى الصدر. ثم رماها بحصاةٍ مثل الحِمِّصَةِ. ثم قال: ارمُوا واتَّقُوا الوجْه» (¬4). قال: (ومتى رجع المقر بالحد عن إقراره قُبل منه. وإن رجع في أثناء الحد لم يُتَمّم). أما كون المقر بالحد إذا رجع عن إقراره يقبل منه؛ فلما روي عن بريدة قال: «كنا أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نتحدثُ أن الغامديةَ وماعز بن مالكٍ لو رجعَا بعدَ اعترافهِمَا [أوْ قالَ: لو لم يرجعا بعد اعترافهمَا] (¬5) لم يَطلُبْهُمَا الحدّ. وإنما رجمهُمَا عندَ الرابعة» (¬6). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في أ: من. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (28808) 5: 539 كتاب الحدود، فيمن يبدأ بالرجم. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (28809) الموضع السابق. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 220 كتاب الحدود، باب من اعتبر حضور الإمام والشهود ... (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4443) 4: 152 كتاب الحدود، باب المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة. (¬5) ساقط من د. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (4434) 4: 149 كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك.

ولأن الرجوع شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. وبه فارق سائر الحقوق؛ لأنه لا يدرأ بالشبهة. وأما كون الحد لا يُتَمّم إذا رجع المحدود في أثنائه؛ فلأن جميع الحد يسقط بالرجوع. فلأن يسقط تمامه بطريق الأولى. ولأن المقر لو هرب لم يتمم حده؛ لما يأتي. فلأن لا يتم حد الراجع عن إقراره بطريق الأولى. قال: (وإن رُجم ببينة فهرب لم يُترك، وإن كان بإقرار تُرك). أما كون من رُجم ببينة فهرب لا يُترك؛ فلأنه ثبت عليه على وجه ليس له الرجوع فيه بالقول، وذلك يقتضي أنه لا يترك. ضرورة استيفاء الحق الواجب عليه الذي لا يقبل الإسقاط فيه بوجه. وأما كون من رُجم (¬1) بإقرار فهرب يترك؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت الصحابة له هرب (¬2) ماعز قال: هلاّ تركتُمُوه» (¬3). ولأن الهرب (¬4) رجوع في المعنى، والرجوع شبهة يُدرأ بها الحد. ¬

_ (¬1) في أ: يرجم. (¬2) في د: هربة. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4419) 4: 145 كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك. وأخرجه الترمذي في جامعه (1428) 4: 36 كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2554) 2: 854 كتاب الحدود، باب الرجم. (¬4) في د: الهربة.

فصل [إذا اجتمعت حدود لله تعالى] قال المصنف رحمه الله: (وإذا اجتمعت حدودٌ لله تعالى فيها قتل استوفي وسقط سائرها. وإن لم يكن فيها قتل: فإن كانت من جنس؛ مثل: إن زنى، أو سرق، أو شرب مراراً أجزأ (¬1) حد واحد. وإن كانت من أجناس استوفيت كلها. ويُبدأ بالأخف فالأخف). أما كون من اجتمعت عليه حدودٌ لله فيها قتل؛ مثل: إن شرب وسرق وزنى وهو محصن يُستوفى منه القتل ويسقط سائرها؛ فلأنه قول ابن مسعود. ولا مخالف له في الصحابة. ولأن أسباب الحدود إذا كان فيها موجب للقتل سقط ما دونه. دليله المحارب إذا أخذ المال وقتَل فإنه يُقتل ولا يُقطع. ولأن الحدود تراد للزجر، ومن يُقتل لا فائدة في زجره. وأما كون من اجتمعت عليه حدود لله لا قتل فيها وكانت من جنس واحد؛ مثل: إن زنى ثم زنى، أو شرب ثم شرب (¬2) يجزئ حد واحد؛ فلأن الغرض الزجر عن إتيان مثل ذلك في المستقبل، وذلك حاصل بالحد الواحد. ولأن الواجب هنا من جنس واحد. فوجب التداخل فيه؛ كالكفارات. وأما كون الحدود من أجناس تستوفى كلها؛ فلأن التداخل إنما (¬3) يمكن فيما كان من جنس واحد، وهذه من أجناس. وأما كون الأخف فالأخف من ذلك يُبدأ به؛ فلأن في ذلك تدريجاً. فعلى هذا يُبدأ بالجلد في الشرب ثم بالجلد في الزنى؛ لأن الأول أخف من الثاني. ¬

_ (¬1) في أ: أجزأه. (¬2) في أ: مثل إن زنا أو سرق ثم شرب. (¬3) في د زيادة: كان.

قال: (وأما حقوق الآدميين فتستوفى كلها. سواء كان فيها قتل أو لم يكن. ويبدأ بغير القتل). أما كون حقوق الآدميين تستوفى كلها سواء كان فيها قتل أو لم يكن؛ فلأنها حقوق الآدميين يمكن استيفاؤها كلها. فوجب؛ كسائر حقوقهم. فإن قيل: لم اكتفي بالقتل في حقوق الله تعالى؟ قيل: لأن حقوق الله مبنية على السهولة. بخلاف حق (¬1) الآدمي فإنه مبني على الضيق والشح. وأما كونها يبدأ فيها بغير القتل؛ فلأن البداءة بالقتل يفوت استيفاء باقي الحقوق. فلم يجز؛ لما فيه من تفويت الحق الواجب. قال: (وإن اجتمعت مع حدود الله (¬2) بُدئ بها؛ فإذا زنى وشرب وقذف وقطع يداً قطعت يده أولاً، ثم حد للقذف ثم للشرب ثم للزنى، ولا يستوفى حد حتى يبرأ من الذي قبله). أما كون من اجتمعت عليه حقوق آدميين مع حدود الله يبدأ فيها بحقوق الآدميين؛ فلأن حقوق الآدميين مبنية على الشح والضيق، وحقوق الله مبنية على السهولة. وأما كون من زنى وشرب وقذف وقطع يداً تقطع يده قصاصاً أولاً؛ فلأنه متمحض لآدمي. [بدليل سقوطه بإسقاطه. وأما كونه يحد للقذف ثانياً؛ فلأنه مختلف في كونه لآدمي] (¬3). بخلاف حد الزنى والشرب. وأما كونه يحد للشرب ثالثاً؛ فلأنه أخف. وأما كونه يحد للزنى رابعاً؛ فلأنه أشد الحدود. وأما كونه لا يستوفى حد من جميع ما ذكر حتى يبرأ من الذي قبله؛ فلئلا تتوالى عليه الحدود فتؤدي إلى تلفه، وليس ذلك مطلوباً في الحد. ¬

_ (¬1) في أ: المساهلة بخلاف حقوق. (¬2) في أ: حدود الله تعالى. (¬3) ساقط من أ.

فصل [فيمن أتى حداً في الحرم] قال المصنف رحمه الله: (ومن قتل أو أتى حداً خارج الحرم ثم لجأ إليه (¬1) لم يستوف منه فيه، ولكن لا يبايع ولا يشارى حتى يخرج فيقام عليه. وإن فعل ذلك في الحرم استوفى منه فيه). أما كون من قتل أو أتى حداً خارج الحرم ثم لجأ إليه لا يُستوفى منه في الحرم؛ فلأن الله تعالى قال: {ومن دخله كان آمناً} [آل عمران: 97]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرمَ مكةَ يوم خلقَ السمواتِ والأرض، وإنما أُحلّتْ لي ساعةً من نهار ثم عادتْ إلى حرمتِها. فلا يُسفك فيها دم» (¬2)، وفي لفظ: «فلا يحلُ لامرئ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أن يَسْفِكَ فيها دَماً» (¬3) متفق عليه. فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحرمُ لا يُعيذُ عَاصِياً ولا فَارًّا بدمٍ ولا بِخَرْبَة (¬4») (¬5). وروي عنه (¬6) «أنه قتلَ ابن خطلٍ وهو متعلقٌ بأستارِ الكعبَة» (¬7) حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) في أ: ثم لجأ إلى الحرم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1737) 2: 651 كتاب الحج، باب لا يحل القتال بمكة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1353) 2: 986 كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها ... (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (104) 1: 51 كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1354) 2: 987 الموضع السابق. (¬4) في أ: فاراً بخربة ولا دم. (¬5) هو قطعة من الحديث السابق. (¬6) ساقط من أ. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (1749) 2: 655 كتاب الحج، باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام. وأخرجه مسلم في صحيحه (1357) 2: 989 كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام. وأخرجه الترمذي في جامعه (1693) 4: 202 كتاب الجهاد، باب ما جاء في المغفر.

قيل: ما روي من الحديث من كلام عمرو بن سعيد فإن (¬1) أبا شريح الخزاعي لما روى الحديث المتقدم ذكره قال له عمرو: «وأنا أعلمُ بذلكَ منكَ إن الحرمَ لا يُعيذُ ... إلى آخره» (¬2) فلا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قتل ابن خطل فقد تقدم التنبيه عليه حيث قال: «إن الله أذنَ لي ولم يأذنْ لأحد» (¬3). وأما كونه لا يُبايع ولا يُشارى حتى يخرج فيقام عليه؛ فلما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: «من أصابَ حداً ثم لجأَ إلى الحرم؛ فإنه لا [يجالس ولا] (¬4) يبايع ولا يشارَى [ولا يُؤْوَى] (¬5)، ويأتيه الذي يطلبهُ فيقول: يا فلان! اتقِ الله. فإذا خرجَ من الحرمِ أُقيمَ عليهِ الحد» (¬6). رواه الأثرم. ولأن الاستيفاء واجب في الجملة، وفي مبايعته ومشاراته إبقاء له في الحرم، وذلك يفضي إلى عدم استيفاء الواجب. وأما كون من فعل ذلك في الحرم يستوفى منه فيه؛ فلأنه روي عن ابن عباس (¬7) أنه قال: «من أحدَثَ حدثًا في الحرمِ أُقيمَ عليه ما أحدَث» (¬8). ولأن الله تعالى حرم القتال في الحرم وأباحه لمن قاتل فيه فقال تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191]. ولأن أهل الحرم يحتاجون إلى الزجر عند ارتكاب المعاصي؛ حفظًا لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم كما يحتاج إليه غيرهم. فلو لم يُشرع الحد على من ارتكبه في الحرم لتعطلت حدودُ الله في حقهم، وفاتت هذه المصالح التي لا بد منها. ¬

_ (¬1) في أ: وإن. (¬2) سبق تخريجه قريباً. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) ساقط من د. (¬5) ساقط من أ. (¬6) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج نحوه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عطاء (28907) 5: 549 كتاب الحدود، في إقامة الحدود والقود في الحرم. (¬7) في أ: فلما روى ابن عباس. (¬8) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج نحوه ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد (28905) 5: 548 كتاب الحدود، في إقامة الحدود والقود في الحرم.

قال: (وإن أتى حداً في الغزو لم يستوف منه في أرض العدو حتى يرجع إلى دار الإسلام فيقام عليه). أما كون من أتى حداً في الغزو لم يستوف منه في أرض العدو؛ فلأنه لا يؤمن أن يغضب فيؤديه غضبه إلى أن يرتد إلى الكفر. وأما [كونه يقام عليه إذا رجع إلى دار الإسلام؛ فلأن ما فعله يوجب الحد. تعذر استيفاؤه] (¬1) في أرض العدو؛ لما (¬2) تقدم. فإذا زال ذلك وجب أن يقام عليه. عملاً بالمقتضي له السالم عن المعارض المذكور. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: فلما.

باب حد الزنى

باب حد الزنى الزنى حرام. وهو من الكبائر العظام بدليل قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء: 32]. وقال تعالى: {والذين لا يَدْعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا? يضاعفْ له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} [الفرقان: 68 - 69]. وروى عبدالله قال: «سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعلَ لله نداً وهو خلقك. قال: ثم أيّ (¬1)؟ قال: أن تقتلَ ولدكَ مخافةَ أن يَطعَمَ معك. قال: ثم أيّ (¬2)؟ قال: أن تزني بحليلةِ جارك» (¬3). قال المصنف رحمه الله: (إذا زنى الحر المحصن فحدُّه الرجم حتى يموت. وهل يجلد قبل الرجم؟ على روايتين). أما كون الحر المحصن إذا زنى حده الرجم حتى يموت؛ فلما روي عن عمر ابن الخطاب أنه قال: «إن الله بعثَ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنزلَ عليه الكتابُ. فكان فيما أُنزل عليه آية الرجم، فقرأتُها وعقلتُها ووعيتُها. ورجمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمانٌ أن يقول قائل: ما نجدُ الرجمَ في كتاب الله فيضلوا بترك فريضةٍ أنزلها الله تعالى (¬4). فالرجم حقٌ على من زنى إذا (¬5) أحصنَ من ¬

_ (¬1) في د: ثم قلت أي. (¬2) مثل السابق. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4207) 4: 1626 كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون}. وأخرجه مسلم في صحيحه (86) 1: 90 كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده. (¬4) زيادة من أ. (¬5) في د: إذ.

النساء والرجال إذا كانت قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف. وقد قرأتها: الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتة» (¬1). وأما كونه يُجلد قبل الرجم على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} [النور: 2] ثم جاءت السنة بالرجم. فوجب الجمع بينهما. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والثيبُ بالثيبِ الجلدُ والرجم» (¬2). وأما كونه لا يجلد على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً ولم يجلده (¬3). وقال: «اغدُ يا أنيسُ إلى امرأةِ هذا فإن اعترفتْ فارجمها» (¬4)، ولم يأمره بجلدها. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية ولم يجلدها (¬5)، ورجم عمر وعثمان رضي الله عنهما ولم يجلدا. ولأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه. فإن قيل: لم قُيد ما ذكر بالحر والمحصن، والأدلة المذكورة عامة في الحر والعبد، وبعضها عام في المحصن وغيره؟ قيل: لأن حد العبد على النصف من الحر لما يأتي، وغير المحصن لا رجم عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرّق بين الثيب والبكر حيث قال: «البكرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عام، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مائةٍ والرجم» (¬6) ولو وجب رجم البكر لذكره في الثيب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6442) 6: 2503 كتاب المحاربين، باب: رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت. وأخرجه مسلم في صحيحه (1691) 3: 1417 كتاب الحدود، باب: رجم الثيب في الزنا. (¬2) سيأتي تخريجه قريباً. (¬3) سبق ذكر حديث ماعز ص: 225. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2575) 2: 971 كتاب الشروط، باب الشروط التي لا تحل في الحدود. وأخرجه مسلم في صحيحه (1697) 3: 1324 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى. (¬5) حديث الغامدية أخرجه مسلم في صحيحه (1695) 3: 1321 كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه (1690) 3: 1316 كتاب الحدود، باب حد الزنى.

قال: (والمحصن من وطئ امرأته في قُبُلِها في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، فإن اختل شرط من ذلك في أحدهما فلا إحصان لواحد منهما، ولا يثبت الإحصان بالوطء بملك اليمين، ولا في نكاح فاسد). أما كون المحصن من وطئ امرأته؛ فلأن من وطئ امرأته وطئ في نكاح، والنكاح (¬1) يسمى إحصاناً بدليل قوله تعالى: {والمحصناتُ من النساء} [النساء: 24] أي المنكوحات. بخلاف من وطئ أمته أو أجنبية فإن ذلك وطئ لا في نكاح فلا يطلق على فاعله أنه محصن. وقيد (¬2) وطء المرأة بكونه في قُبُلها؛ لأن ذلك هو الوطء الذي يعتد (¬3) على فعله وتصير المرأة ثيباً لا بدونه، وقد (¬4) دل قوله عليه السلام: «الثيبُ بالثيبِ» على اعتبار الثيوبة. وقيد بكونه في نكاح صحيح؛ لأن الفاسد وجوده كعدمه. وأما كونه من وطء كما تقدم، وهو وامرأته بالغان عاقلان حران: أما كون البلوغ والعقل شرطاً؛ فلأن الإحصان يوجب الرجم، والصبي والمجنون (¬5) [لا حد عليهما؛ لقوله عليه السلام: «رُفعَ القلمُ عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلُغ، وعن المجنون حتى يُفيق ... » (¬6)] (¬7). فإن قيل: ما ذكر يدل على اشتراطهما فيمن يرجم فكيف يشترطان [بالنسبة إليهما؟ قيل: لأنهما شرط بالنسبة إلى من يرجم إجماعاً. فوجب أن يكون شرطاً] (¬8) بالنسبة إليهما. قياساً لأحد الموضعين على الآخر. ¬

_ (¬1) في أ: ونكاح. (¬2) في أ: وقد. (¬3) في د: يعد. (¬4) في أ: فقد. (¬5) في د: والمجنون حتى. (¬6) سبق تخريجه ص: 215. (¬7) ساقط من د. (¬8) ساقط من أ.

ولأن نقص أحد الزوجين يمنع كمال الوطء. فوجب أن لا يحصل معه الإحصان؛ كما لو كان الزوجان غير كاملين. وأما كون الحرية شرطاً؛ فلما يأتي من أن العبد حده خمسون جلدة. والكلام في حرية الموطوءة كالكلام (¬1) في بلوغها وعقلها. وأما كونه لا إحصان لواحد منهما إذا اختل شرط [مما ذكر في أحدهما؛ فلأن ما كان معلقاً على شرط لا يوجد بدونه. فإذا اختل شرط] (¬2) لم يكن موجوداً. فلم يوجد المشروط (¬3)؛ لانتفاء شرطه. وأما كون الإحصان لا يثبت بالوطء بملك اليمين ولا في نكاح فاسد؛ فلما تقدم ذكره قبل. قال: (ويثبت الإحصان للذميين. وهل تحصن الذمية مسلماً؟ على روايتين. ولو كان لرجل ولد من امرأته فقال: ما وطئتها لم يثبت إحصانه). أما كون الإحصان يثبت للذميين؛ فـ «لأن اليهود جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً وامرأة منهم زنيا ... وذكر الحديث. فأمر بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرُجما» (¬4) متفق عليه. ولأن الجناية بالزنى استوت بين المسلم والذمي. فوجب أن يستويا في الحد. وأما كون الذمية تحصن مسلماً على روايةٍ؛ فلأن الذمية تحصن الذمي لما تقدم. فوجب أن تحصن المسلم بالقياس عليه. وأما كونها لا تحصنه على روايةٍ؛ فلأن الإحصان من شرطه الحرية. فكان من شرطه الإسلام؛ كإحصان القذف. وأما كون الرجل إذا كان له ولد من امرأته فقال: ما وطئتها لا يثبت إحصانه؛ فلأن الولد يلحق بإمكان الوطء، والإحصان لا يثبت إلا بحقيقته. فلم يلزم من الولد ثبوت الإحصان. ¬

_ (¬1) في أ: كالأم. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في أ: الشروط. (¬4) سيأتي تخريجه ص: 255.

قال: (وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة جلدة وغرب عاماً إلى مسافة القصر. وعنه: أن المرأة تنفى إلى دون مسافة القصر). أما كون من ذكر يجلد مائة ويغرب عاماً؛ فلأن الله تعالى قال: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} [النور: 2]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البكرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عام» (¬1). رواه مسلم. فإن قيل: الأدلة المذكورة عامة (¬2) في الحر والعبد والمحصن وغير المحصن. قيل: يخرج من ذلك العبد؛ لما يأتي، والمحصن؛ لما تقدم. ويبقى فيما عداهما على مقتضاه. ولأن الخلفاء الراشدين فعلوا ذلك بالحر غير (¬3) المحصن وانتشر، ولم يعرف لهم مخالف. فكان إجماعاً. وأما كون تغريب الرجل إلى مسافة القصر؛ فلأن ما دون ذلك في حكم الحضر. وأما كون تغريب المرأة كذلك على المذهب؛ فلما ذكر في الرجل. وأما كونها تنفى إلى دون مسافة القصر على روايةٍ؛ فلتقرب من أهلها فيحفظوها. قال: (ويُخرج مع المرأة محرمها فإن أراد أجرة بُذلت من مالها. فإن تعذر فمن بيت المال. فإن أبى الخروج معها استؤجرت امرأة ثقة. فإن تعذر نفيت بغير محرم. ويحتمل أن يسقط النفي). أما كون المرأة يُخرج معها محرمها؛ فلأنه سفر واجب. فأخرج معها محرمها؛ كسفر الحج. وأما كون أجرة محرمها تبذل من مالها إذا أرادها؛ فلأن ذلك من مؤونة سفرها. أشبه مركوبها ونفقتها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1690) 3: 1316 كتاب الحدود، باب حد الزنى. (¬2) في أ: عام. (¬3) في د: يتميز.

وأما كونها من بيت المال إذا تعذر من مالها؛ فلأن فيه مصلحة لها. فوجب كونها من بيت المال عند تعذره من مالها؛ كنفقة نفسها. وأما كون امرأة ثقة تستأجر إذا أبى المَحرم الخروج معها؛ فلأنه لا بد من شخص يكون معها من أجل حفظها، والأجنبي يخاف عليها منه. فلم يكن بد من امرأة ثقة؛ ليحصل المقصود من الحفظ. وأما كونها تنفى بغير محرم إذا تعذر استئجار المرأة الثقة على المذهب؛ فلأنه سفر لا سبيل إلى تأخيره. أشبه سفر الهجرة (¬1) من بلد الكفر، والحج إذا مات المَحرم في الطريق. وأما كون النفي يحتمل أن يسقط؛ فلأن المحرم إذا لم يوجد في الحج لا تسافر. فكذلك هاهنا. قال المصنف رحمه الله: هذا -يعني الإحتمال المتقدم ذكره- اللائق بالشريعة. فإن نفيها بغير محرم إغراء لها بالفجور وتعريض لها للفتنة. فإن قيل: فما تصنع بعموم حديث التغريب؟ قيل: يخص بعموم قوله عليه السلام: «لا يحلُ لامرأةٍ تؤمنُ بالله واليوم الآخر أن تُسافرَ مسيرةَ ليلةٍ إلا مع ذي محرم» (¬2). قال: (وإن كان الزاني رقيقاً فحده خمسون جلدة بكل حال، ولا يغرب). أما كون الزاني إذا كان رقيقاً حده خمسون جلدة؛ فلما روي عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما قالا: «سُئلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمةِ إذا زنت ولم تحصن؟ قال: إذا زنتْ فاجلدوها، ثم إن زنتْ فاجلدوها، ثم إن زنتْ فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضَفِير (¬3») (¬4). ¬

_ (¬1) في د: الحرم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1038) 1: 369 أبواب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1339) 2: 977 كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره. (¬3) في د: بظفير. (¬4) سبق تخريجه ص: 217.

وأما كونه حدّه ذلك بكل حال مزوجاً كان أو غير مزوج؛ فلعموم الحديث المذكور. وأما كونه لا يغرّب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في الحديث المذكور بجلد الأمة الزانية ولم يذكر أنها تغرّب. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا زنتْ أمةُ أحدكم فليحُدَّها ولا يعيرها ثلاث مرار (¬1). فإذا عادت الرابعة فليجلدها، وليبعها بضفير (¬2) أو بحبلٍ من شَعر» (¬3). ولو كانت تغرب لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في الأول؛ لأنه سُئل عن حكمها، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولما نفاه في الثاني. ولأن المملوك مشغول في خدمة السيد، وفي تغريبه ضياع لحق السيد من غير جناية منه. ولأن الشارع أسقط الجمعة عن العبد لأجل حق السيد. فلأن يسقط التغريب عنه بطريق الأولى. قال: (وإن كان نصفه حراً فحده خمس وسبعون جلدة وتغريب نصف عام. ويحتمل أن لا يغرب). أما كون من نصفه حر حده خمس وسبعون جلدة؛ فلأن أرش جراحه على النصف من الحر، والنصف من العبد. فكذلك حده. وحد الحر غير المحصن مائة فنصفها خمسون. وحد العبد خمسون فنصفها خمس وعشرون فإذا ضممت نصفي الحدين كان خمساً وسبعين. وأما كونه يغرب نصف عام على منصوص الإمام أحمد رحمه الله عليه؛ فلأن الحر (¬4) تغريبه عام، والعبد لا تغريب عليه فنصف الواجب من التغريب نصف عام. ¬

_ (¬1) في أ: مرات. (¬2) في د: بظفير. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4470) 4: 160 كتاب الحدود، باب في الأمة تزني ولم تحصن. (¬4) ساقط من أ.

وأما كونه يحتمل أن لا يغرّب؛ فلأن حق سيد بعضه يقتضي بقاءه في بلده ليتمكن من الانتفاع بحصته. فغلب حقه على التغريب؛ لما في حق السيد من التأكيد. قال: (وحد اللوطي كحد الزاني (¬1) سواء. وعنه: حده الرجم بكل حال). أما كون حد اللوطي كحد الزاني على روايةٍ؛ فلأنه زان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان» (¬2). ولأنه إيلاج في فرج. أشبه الإيلاج في فرج المرأة. فعلى هذا إن كان محصناً رُجم، وإن كان غير محصن وهو حر جُلد مائة وغُرّب عاماً، وإن كان عبداً جُلد مائة من غير تغريب. وأما كون حده الرجم بكل حال محصناً كان أو غير محصن على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وجدتموهُ يعملُ عملَ قومِ لوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعولَ به» (¬3). رواه أبو داود. وفي لفظ: «فارجموا (¬4) الأعلى والأسفل» (¬5). ولأن الله تعالى عذَّبَ قوم لوط بالرجم فيجب أن يُعذبَ من فعلَ مثل فعلهم بمثل عذابهم؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يدل دليل على تغيره (¬6). قال: (ومن أتى بهيمة فعليه حد اللوطي عند القاضي. واختار الخرقي وأبو بكر أنه يعزر. وتقتل البهيمة. وكره أحمد أكل لحمها. وهل يحرم؟ على وجهين). أما كون من أتى بهيمة عليه حد اللوطي عند القاضي؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى بهيمةً فاقتلوهُ واقتلُوها [معه» (¬7). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في أ: الزنا. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 233 كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4462) 4: 158 كتاب الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط. وأخرجه الترمذي في جامعه (1456) 4: 57 كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2561) 2: 856 كتاب الحدود، باب من عمِل عمَل قوم لوط. (¬4) في د: فارجموه. (¬5) ذكره ابن حجر في تلخيص الحبير وعزاه إلى ابن ماجة، ولم أقف عليه عند ابن ماجة 4: 103. (¬6) في أ: تغييره. (¬7) أخرجه أبو داود في سننه (4464) 4: 159 كتاب الحدود، باب فيمن أتى بهيمة.

وأما كونه يعزر على اختيار الخرقي وأبي (¬1) بكر؛ فلأنه وطء محرم لا حد فيه] (¬2). وذكر المصنف رحمه الله في المغني هذين الوجهين روايتين. وأما كون البهيمة تقتل؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «واقتلُوها معه» (¬3). وأما كون الإمام أحمد كره أكل لحمها إن كانت مأكولة؛ فلاختلاف الناس في حِلّ الأكل. وأما كونه يحرم على وجه؛ فلأنه لحم حيوان وجب قتله لحق الله تعالى. فحرم أكله؛ كالفواسق الخمس. وأما كونه لا يحرم على وجه؛ فلقوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} [المائدة: 1]. مع سائر العمومات. ولأنه لحم حيوان يجوز أكله إذا ذبحه من هو من أهل الذكاة. فحل أكله؛ كغيره. ¬

_ (¬1) في أ: وأبو. (¬2) ساقط من د. (¬3) سبق قريباً.

فصل [في شروط حد الزنى] قال المصنف رحمه الله: (ولا يجب الحد (¬1) إلا بشروط ثلاثة: أحدها: أن يطأ في الفرج سواء كان قبلاً أو دبراً، أو أقل ذلك تغييب الحشفة في الفرج. فإن وطئ دون الفرج أو أتت المرأةُ المرأةَ فلا حد عليهما). أما كون الحد لا يجب إلا بشروط ثلاثة؛ فلما يأتي ذكره فيها. وأما كون أحدها أن يطأ في الفرج؛ فلما روي «أن رجلاً جاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني نِلْتُ من امرأةٍ حراماً ما ينالُ الرجل من امرأتهِ إلا الجماع. فقال: استغفرِ الله وتوضأ» (¬2). أمره بالاستغفار ولم يوجب عليه حداً. وأما كون الوطء في الفرج يوجب ذلك سواء كان قبلاً أو دبراً؛ فلأن الدبر إن كان من غلام فالوطء فيه موجب للحد لما مر من قوله: وحد اللوطي كحد الزاني، وإن كان من امرأة فهو أيضاً زنى وفيه حده؛ لأنه وطء في فرج امرأة لا ملك له فيها ولا شبهة. فكان زنى؛ كالوطء في القُبُل. ولأنه وطء في دبر. أشبه دبر الرجل. ولا بد أن يلحظ أن الموطوءة في دبرها ليست زوجته ولا أمته. فإن كانت إحداهما فلا حد عليه مع كونه حراماً. وسيأتي تعليل ذلك في قوله: أو وطئ امرأته (¬3) في دبرها. ¬

_ (¬1) في أ: الجلد. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (3113) 5: 291 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة هود. (¬3) في أ: امرأة.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: انتفاء الشبهة. فإن وطئ جارية ولده أو جارية له فيها شِرْك أو لولده، أو وجد امرأة على فراشه ظنها امرأته أو جاريته، أو دعى الضرير امرأته أو جاريته فأجابه غيرها فوطئها، أو وطئ في نكاح مختلف في صحته، أو وطئ امرأته في دبرها أو حيضها أو نفاسها، أو لم يعلم بالتحريم لحداثة عهده بالإسلام، أو نشوئه ببادية بعيدة، أو أكره على الزنى: فلا حد فيه. وقال أصحابنا: إن أكره الرجل فزنى حُدَّ). أما كون الثاني من شروط وجوب الحد انتفاء الشبهة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرءوا الحدودَ بالشبهات» (¬1). وأما كون من وطئ جارية ولده لا حد فيه؛ فلوجود الشبهة له فيها. بيان الشبهة قوله صلى الله عليه وسلم: «أنتَ ومالُكَ لأبيك» (¬2)، وجارية الابن من ماله. وأما كون من وطئ جارية له فيها شِرْك لا حد فيه؛ فلأن الوطء في ذلك وطء في فرج له فيه ملك. أشبه وطء المكاتبة والمرهونة. ولأن ملك بعضها شبهة. فوجب أن يدرأ به الحد؛ لما تقدم من الحديث (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1424) 4: 33 كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحد. ولفظه: عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ... ». وأخرجه ابن ماجة في سننه (2545) 2: 850 كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات. ولفظه: «ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً». وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 238 كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات. واللفظ له. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2291) 2: 769 كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده. (¬3) في د زيادة: كملك الكل.

وأما كون من وطئ (¬1) جارية لولده فيها شِرْك لا حد فيه؛ فلأن الشِّرْك في إسقاط (¬2) الحد كملك الكل، ولو وطئ جارية ولده لم يحد. وأما كون من وطئ امرأة وجدها على فراشه ظنها امرأته أو جاريته لا حد فيه؛ فلأن الواطئ هنا اعتقد إباحة الوطء بما يعذر مثله فيه. أشبه ما لو زُفَّتْ إليه غير زوجته، وقيل له: هذه زوجتك. ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهذه شبهة. وأما كون الضرير إذا دعى امرأته أو جاريته فأجابه غيرها فوطئها لا حد فيه؛ فلأنه في معنى من وجد امرأة على فراشه فظنها زوجته، والتساوي معنى يوجب التساوي حكماً. وأما كون من وطئ في نكاح مختلف فيه؛ كنكاح المتعة والشِّغار والتحليل، والنكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها، ونكاح المجوسية والوثنية: لا حد فيه؛ فلأن الاختلاف شبهة والحدود تدرأ بالشبهات. وأما كون من وطئ امرأته في دبرها أو حيضها أو نفاسها لا حد فيه؛ فلأن له في ذلك شبهة من حيث إنه يملك وطئها في الجملة. وأما كون من زنى ولم يعلم بالتحريم؛ لحداثة عهده بالإسلام، أو نشوئه ببادية بعيدة: لا حد فيه؛ فلأنه وطئ ظانًّا حلّ الوطء بما يعذر في مثله. فلم يكن فيه حد؛ كما لو وجد امرأة على فراشه وظنها زوجته فوطئها. وأما كون المرأة إذا أكرهت على الزنى لا حد فيه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُفيَ لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهُوا عليه» (¬3). ولأن الإكراه يمنع من نسبة الفعل إلى الفاعل. وأما كون الرجل إذا أُكره على ذلك لا حد فيه على اختيار المصنف؛ فلما تقدم في المرأة. ¬

_ (¬1) في د: ولو وطئ. (¬2) في أ: إسقاطه. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2043) 1: 659 كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي.

وأما كونه يحد على قول أصحابنا؛ فلأن الإكراه في حقه غير متصور؛ لأن الوطء لا يتم إلا بانتشار إليه، وذلك لا يحصل إلا من شهوته وإرادته، وحصول الشهوة والإرادة تنفي حصول الإكراه. قال: (وإن وطئ ميتة أو ملك أمه أو أخته من الرضاع فوطئها فهل يحد أو يعزر؟ على وجهين). أما كون من وطئ ميتة يحد على وجه؛ فلأنه وطء حرام يوجب الغسل. فيوجب الحد؛ كالحية (¬1). وأما كونه يُعَزّر على وجه؛ فلأنه لا يجب به الحد؛ لأنه وطء لا يجب به المهر، ولا يشتهى مثله عادة. فلا يجب به الحد؛ كوطء البهيمة، وإذا لم يجب الحد يعزر؛ لأنه وطء حرام لا حد فيه ولا كفارة. أشبه وطء البهيمة. وأما كون من ملك أمّهُ أو أخته من الرضاع فوطئها يُحدّ على وجه؛ فلأنه وطء في فرج لا يستباح بحال. فأوجب الحد؛ كوطء الغلام. وأما كونه يعزر على وجه فلأنه لا يحد؛ لأنه وطء في بضع مملوك له. بدليل أنه يملك المعاوضة عليه بعقد النكاح. فلم يوجب الحد؛ كوطء الجارية المشتركة. ولأنه وطء اجتمع فيه موجب ومسقط، والحدود مبنية على الدرء والإسقاط. فإذا لم يحد يعزر؛ لأنه وطء حرام لا حد فيه ولا كفارة. ¬

_ (¬1) في أ: الغسل فأوجب كالحية.

قال: (وإن وطئ في نكاح مجمع على بطلانه؛ كنكاح المزوجة والمعتدة والخامسة وذوات المحارم من النسب والرضاع، أو استأجر امرأة للزنى أو لغيره وزنى (¬1) بها، أو زنى بامرأة له عليها القصاص، أو بصغيرة أو مجنونة أو بامرأة ثم تزوجها، أو بأمة ثم اشتراها، أو أمكنت العاقلة من نفسها مجنوناً أو صغيراً فوطئها: فعليهم الحد). أما كون من وطئ في نكاح مجمع على بطلانه عليه الحد؛ فلأنه وطء لم يصادف ملكاً ولا شبهة ملك فأوجب الحد عملاً بالنصوص المقتضية له السالمة عن معارضة الملك والشبهة. وفي الأثر «أن عمرَ رضي الله عنه رُفع إليه امرأة تزوجت في عدتِها. فقال: هل علمتُما؟ فقالا: لا. فقال: لو علمتُما لرجمتُكُما» (¬2)، ونكاح غير المعتدة من الأنكحة المجمع على بطلانها في معنى نكاح المعتدة؛ لاشتراك الكل في الإجماع على بطلانه. ولأنه إذا وجب الحد بوطء المعتدة في نكاح. فلأن يجب الحد بوطء المزوجة في النكاح بطريق الأولى. وأما قول المصنف رحمه الله: كنكاح المعتدة والمزوجة والخامسة وذوات المحارم من النسب والرضاع؛ فبيان لصور من صور النكاح المجمع على بطلانها وتعداد لها. وأما كون من استأجر امرأة للزنى أو لغيره عليه الحد إذا زنى بها؛ فلعموم قوله تعالى: {الزانيةُ والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} [النور: 2]. وعموم سائر الأخبار. ولأن المعنى الذي وجب عليه الحد موجود هاهنا. فوجب أن يجب عملاً بالمقتضي لذلك. ¬

_ (¬1) في أ: فزنى. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن قتادة قال: «قلت لسعيد بن المسيب: إن تزوجها في عدتها عمداً؟ قال: يقام عليها الحد» (28545) 5: 512 كتاب الحدود، في المرأة تزوج في عدتها أعليها حد؟

وأما كون من زنى بامرأةٍ له عليها القصاص عليه الحد؛ فلأن استحقاق قتلها لا يوجب إباحة وطئها ولا يؤثر فيه شبهة. فوجب أن يجب الحد عملاً بالنصوص الدالة على وجوبه على الزاني. وأما كون من زنى بصغيرة أو مجنونة عليه الحد؛ فلأن الواطئ من أهل وجوب الحد وقد فعل ما يوجبه. فوجب أن يترتب عليه موجبه عملاً لمقتضي (¬1) ذلك. وأما كون من زنى بامرأة ثم تزوجها أو أمة ثم اشتراها عليه الحد؛ فلأن الملك وُجد بعد وجوب الحد. فلم يسقط؛ كما لو سرق نصاباً ثم ملكه لم يسقط عنه القطع. فكذا هاهنا. وأما كون العاقلة إذا أمكنت منها مجنوناً أو صغيراً فوطئها عليها الحد؛ فلأن سقوط الحد عن أحد الواطئين لمعنى يخصه. فلا يوجب سقوطه عن الآخر؛ كما لو زنى المستأمن بمسلمة. ¬

_ (¬1) في أ: بالمقتضى.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يثبت الزنى. ولا يثبت إلا بشيئين: أحدهما: أن يقر به أربع مرات في مجلس أو مجالس وهو بالغ عاقل، ويصرح بذكر حقيقة الوطء، ولا ينزع عن إقراره حتى يتم الحد). أما كون الثالث من شروط وجوب الحد أن يثبت الزنى؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «واغدُ يا أنيسُ إلى امرأةِ هذا فإن اعترفتْ فارجمها» (¬1). وقال عمر رضي الله عنه: «إن الرجمَ حقٌ واجبٌ على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينةُ، أو كان الحبلُ، أو الاعتراف» (¬2). ولأنه حق. فلا يترتب عليه موجبه بغير ثبوت؛ كسائر الحقوق. وأما كون الزنى لا يثبت إلا بشيئين هما إقرار وشهادة؛ فلأنه يترتب عليه حكم شرعي. فلا يثبت إلا بذلك؛ كسائر الأشياء. وأما كون أحد الشيئين اللذين يثبت بهما الزنى أن يقر بالزنا؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الرجم على الإقرار حيث قال: «فإن اعترفتْ فارجمها» (¬3)، وفي حديث عمر: «أو كان الاعتراف» (¬4). وأما كون الإقرار أربع مرات؛ فلما روى أبو هريرة قال: «أتى رجلٌ من الأسلميين (¬5) رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقال: يا رسول الله! إني زنيتُ. فأعرضَ عنه فتنحّى تلقاء وجهه. فقال: يا رسول الله! إني زنيتُ. فأعرضَ عنه فتنحّى (¬6) ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 236. (¬2) سبق تخريجه ص: 236. (¬3) سبق قريباً. (¬4) سبق قريباً. (¬5) في د: من المسلمين إلى. (¬6) ساقط من د.

تلقاء وجهه. فقال: يا رسول الله! إني زنيتُ. فأعرضَ عنه حتى ثنَّى ذلك عليه (¬1) أربع مرات. فلما شهدَ على نفسه أربعَ شهادات دعاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبكَ جنون؟ قال: لا. قال: فهل أحصنتَ؟ قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجموه» (¬2) متفق عليه. ولو وجب الحد بأقل من أربع شهادات لرتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجم عليه؛ لأنه لا يجوز ترك حد لله تعالى. وفي حديث نُعيم بن هزَّال: «أنه قالها أربع مرات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكَ قُلتَها أربعَ مرات» (¬3). رواه أبو داود. وهذا يدل على أن الإقرار الأربعة هي الموجبة. وفي حديث أبي بردة الأسلمي أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه وسلم: [«إن أقررتَ أربعاً رجمكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم» (¬4)] (¬5). وفيه وجهان من الدلالة: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ما ذكره ولم ينكره. فكان بمنزلة قوله؛ لأنه لا يُقر على الخطأ. وثانيهما: أنه إنما قال ذلك؛ لأنه علمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو لم يعلم لما تجاسر على مثل قوله بين يديه. فإن قيل: فقد تقدم قوله عليه السلام: «فإن اعترفتْ فارجمها» (¬6)، وفي حديث عمر: «أو الاعتراف» (¬7). والاعتراف (¬8) يحصل بالمرة. ¬

_ (¬1) زيادة من د. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6439) 6: 2502 كتاب المحاربين، باب سؤال الإمام المقر: هل أحصنت. وأخرجه مسلم في صحيحه (1691) 3: 1318 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4419) 4: 145 كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1695) 3: 1323 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى عن بريدة. وأخرجه أبو داود في سننه (4426) 4: 147 كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك عن ابن عباس. وفي (4422) 4: 146. عن جابر بن سمرة. (¬5) ساقط من د. (¬6) سبق تخريجه ص: 236. (¬7) سبق تخريجه ص: 236. (¬8) في أ: فإن قيل الاعتراف.

قيل: الاعتراف مصدر يقع على المرة والمرات. فيجب حمله على المرات المقدم ذكرها؛ لما فيه من الجمع بين الحديثين. وأما كون الإقرار أربع مرات يُثبت الزنى في مجلس كان أو مجالس؛ فلعموم ما تقدم. وأما كون المُقر يُقر وهو بالغ عاقل؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «رُفعَ القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلُغ، وعن المجنون حتى يُفيق ... » (¬1)، وفي قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أقر: «أبكَ جنون؟ قال: لا» (¬2)، وفي حديث ابن عباس قال: «أتي عمر رضي الله عنه بمجنونة قد زنتْ فاستشارَ فيها أناساً. فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم. فمرّ بها على ابن أبي طالب قال: ما شأنُ هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان أمرَ بها عمر أن تُرجم. فقال: أرجعوها. ثم أتاهُ فقال: يا أمير المؤمنين! أما علمتَ أن القلمَ قد رُفع عن ثلاثة؟ عن المجنون حتى يُفيق قال: بلى. قال: فما بالُ هذه؟ [قال: لا شيء] (¬3) قال: فأرسِلْها. قال: فجعل يكبِّر» (¬4). رواه أبو داود. وأما كونه يصرّح في إقراره بذكر حقيقة الوطء؛ فلأن الزنى يعبر به عما ليس بموجب للحد. فلم يكن بد من ذكر حقيقة الزنى؛ لتزول الشبهة النافية لوجوب الحد. وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز: «لعلك قبّلتَ أو غمزتَ أو نظرتَ. قال: لا. قال: أفنِكتَها؟ لا يكْني. قال: نعم. قال: فعندَ ذلك أمر برجمه» (¬5)، وفي روايةٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أفنِكتَها؟ قال: نعم. قال: حتى غابَ ذلك منكَ في ذلك منها. قال: نعم. قال: كما يغيبُ المِرْودُ في المكحلة والرشاء في البئر. قال: نعم. قال: هل تدري ما الزنا؟ قال: نعم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 215. (¬2) سبق تخريجه ص: 252. (¬3) ساقط من أ. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4399) 4: 140 كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (6438) 6: 2502 كتاب المحاربين، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت.

أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً ... وذكر الحديث» (¬1). رواه أبو داود. وأما كونه لا ينزع عن إقراره حتى يتم الحد؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما هرب ماعز: هلاّ تركتمُوه» (¬2). قال: (الثاني: أن يشهد عليه أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنى ويجيئون في مجلس واحد سواء جاؤوا متفرقين أو مجتمعين). أما كون الثاني من الشيئين اللذين يثبت بهما الزنى أن يُشهد عليه؛ فلأن الشهادة مثبتة لغير الزنى. فوجب أن تكون مثبتة له أيضاً، وفي حديث عمر: «إنّ الرجمَ حقٌ واجبٌ ما قامت البينة» (¬3). وأما كون من يشهد عليه أربعة؛ فلأن الله تعالى قال: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور: 13]، وقال: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4]، وقال: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء: 15]. وأما كونهم رجالاً؛ فلأن في شهادة النساء شبهة لما في قبول شهادتهن من الاختلاف، والحدود تدرأ بالشبهات. وأما كونهم أحراراً؛ فلأن في شهادة العبيد خلافاً بين العلماء، وذلك شبهة. فلا تقبل فيما يدرأ بالشبهات. وأما كونهم عدولاً؛ فلأن ذلك شرط في سائر الشهادات. فلأن يشترط ذلك فيما فيه يحتاط بطريق الأولى. وأما كونهم يصفون الزنى فيقولون: رأينا ذكره في فرجها كالمِرْوَد في المكحلة والرشاء في البئر؛ فلأن ذلك شرط في الإقرار. فلأن يشترط في الشهادة بطريق الأولى. وفي حديث جابر قال: «جاءت اليهود برجل منهم وامرأة زنيا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائتوني بأعلم رجلين منكم. فأتوا بابني صُوريا. فَنَشَدَهما كيف تجدان أمرَ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4428) 4: 148 كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك. (¬2) سبق تخريجه ص: 228. (¬3) سبق تخريجه ص: 236.

هذين في التوراة؟ قالا: نجدُ أنه إذا شهد أربعة أنهم رأوْا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رُجما. قال: فما منعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهبَ سلطاننا فكرهنا (¬1) القتل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاء أربعة. فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما» (¬2). ولأنهم إذا لم يصفوا الزنى احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد. فاعتبر ذكر كيفيته؛ ليتميز الموجب من غيره. وأما كون الشهود يجيؤون في مجلس واحد؛ فـ «لأن عمر شهد عنده أبو بكرة (¬3) ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بالزنى ولم يشهد زياد فحد الثلاثة» (¬4). ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر. ولأنه لو شهد ثلاثة فحدوا ثم جاء الرابع فشهد لم تقبل شهادته فلولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم. وأما كون مجيئهم مجتمعين أو متفرقين سواء؛ فلأن شهود المغيرة جاؤوا واحدًا واحداً وسمعت شهادتهم. وإنما حُدوا؛ لعدم كمالها، وفي الحديث أن أبا بكرة قال لعمر: «أرأيتَ لو جاء آخر فشهد أكنتَ ترجمه؟ قال عمر: إي والذي نفسي بيده». ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد. أشبه ما لو جاؤوا مجتمعين. ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه، ولهذا أجزأ فيه القبض فيما يشترط فيه القبض. ¬

_ (¬1) في أ: وكرهنا. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6901) 6: 2672 كتاب الاعتصام، باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1699) 3: 1326 كتاب الحدود، باب رجم اليهود، أهل الذمة في الزنى. وأخرجه أبو داود في سننه (4452) 4: 156 كتاب الحدود، باب في رجم اليهوديين. (¬3) في أ: أبو بكر. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 234 كتاب الحدود، باب شهود الزنا إذا لم يكملوا أربعة.

قال: (فإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم، أو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة، أو لم يكملها: فهم قذفة وعليهم الحد). أما كون الذي جاء بعد قيام الحاكم؛ فلأن شهادته غير مقبولة ولا صحيحة. أشبه ما لو لم يشهد أصلاً. وأما كونه عليه الحد؛ فلأنه قاذف، ويجب عليه الحد؛ لعموم الأدلة المقتضية لوجوب ذلك. وأما كون الشهود الثلاثة قذفة إذا امتنع الرابع من الشهادة أو لم يكملها؛ فلأن الله تعالى أوجب عليهم الحد بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4]. ولأن ذلك إجماع الصحابة فإن عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حين لم يكمل الرابع بمحضر من الصحابة ولم ينكروه. قال: (وإن كانوا فُسَّاقاً أو عُمياناً أو بعضهم فعليهم الحد. وعنه: لا حد عليهم). أما كون من ذكر عليهم الحد على المذهب؛ فلأن شهادتهم لم تكمل. فوجب بها الحد على الشهود؛ كما لو شهد ثلاثة فقط. وأما كونهم لا حد عليهم على روايةٍ؛ فلأنهم أحرزوا ظهورهم بكمال عددهم. وإنما جاء رد الشهادة لمعنى غير تفريطهم. أشبه ما لو شهد عدول بزنى امرأة وشهد نساء ثقات أنها عذراء. قال: (وإن كان أحدهم زوجاً حد الثلاثة ولاعن الزوج إن شاء). أما كون الثلاثة فيما ذكر تحد؛ فلأنهم قذفة حيث لم تكمل البينة؛ لأن شهادة الزوج غير مسموعة. وأما كون الزوج يلاعن إن شاء؛ فلأن الزوج إذا قذف زوجته له الخيرة بين اللعان وبين تركه؛ لما ذكر في باب اللعان.

قال: (وإن شهد اثنان أنه زنى بها في بيت أو بلد، واثنان أنه زنى بها في بيت أو بلد آخر: فهم قذفة وعليهم (¬1) الحد. وعنه: يحد المشهود عليه وهو بعيد). أما كون الشهود قذفة عليهم الحد على المذهب؛ فلأنه لم تكمل شهادة أربعة على فعل واحد. أشبه ما لو انفرد بالشهادة اثنان. وأما كون المشهود عليه يحد على روايةٍ؛ فلأن الشهادة كملت في الجملة. وأما كون ذلك بعيداً؛ فلأن كمال الشهادة يعتبر كونه على فعل واحد والفعل هاهنا متعدد. ضرورة تعداده بتعداد البيت والبلد. قال: (وإن شهدا أنه زنى بها في زاوية بيت، وشهد الآخران أنه زنى بها في زاويته الأخرى، أو شهدا (¬2) أنه زنى بها في قميص أبيض وشهد الآخران أنه زنى بها في قميص أحمر: كملت شهادتهم. ويحتمل أن (¬3) لا تكمل كالتي قبلها). أما كون شهادة (¬4) من ذكر تكمل على المذهب؛ فلأنه أمكن صدق الشهود بأن يكون ابتداء الفعل في إحدى الزاويتين وأخذ الثوبين وتمامه في الآخر. فإن قيل: فقد يمكن أن تكون الشهادة على فعلين. فلم وجب الحد والحدود تدرأ بالشبهات؟ قيل: يبطل هذا بما إذا اتفقوا على موضع واحد فإنه يمكن أن تكون الشهادة على فعلين بأن يكون قد فعل ذلك في ذلك الموضع مرتين ومع هذا فلا يمنع وجوب الحد. وأما كون شهادتهم يحتمل أن لا تكمل كالتي قبلها؛ فلأن الشهادة هنا مختلفة. أشبهت الشهادة في المسألة المذكورة قبل. ¬

_ (¬1) في أ: عليهم. (¬2) في أ: شهد. (¬3) في أ: أنها. (¬4) في أ: شهادات.

قال: (وإن شهدا (¬1) أنه زنى بها مطاوعة وشهد آخران أنه زنى بها مكرهة: لم تكمل شهادتهم. وهل يحد الجميع أو شاهدا المطاوعة؟ على وجهين. وعند أبي الخطاب: يحد الزاني المشهود عليه دون المرأة والشهود). أما كون شهادة من ذكر لا تكمل على المذهب؛ فلأن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة. فعلى هذا لا يحد الرجل ولا المرأة المشهود عليهما؛ لأن الشهادة لم تكمل على فعل موجب للحد عليهما. وأما كون جميع الشهود يحدون على وجه؛ فلأنهم قذفوا الرجل. وأما كون شاهدي (¬2) المطاوعة يحدان على وجه؛ فلأنهما قذفا المرأة وشهدا عليها (¬3) بالزنا ولم تكمل شهادتهم. وأما كون الزاني يحد على قول أبي الخطاب؛ فلأنه شهد عليه أربعة، وذلك يوجب الحد. وأما كون المرأة لا تحد؛ فلأنه لم يشهد عليها أربعة بزنى يوجب الحد؛ لأنه لا حد مع الإكراه. قال: (فإن شهد أربعة فرجع أحدهم فلا شيء على الراجع، ويحد الثلاثة. وإن كان رجوعه بعد الحد فلا حد على الثلاثة، ويغرم الراجع ربع ما أتلفوه). أما كون الراجع قبل الحد فيما ذكر لا شيء عليه؛ لأنه كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله. وحكى المصنف رحمه الله رواية في المغني أنه يحد وصححها، ولم يذكر لذلك دليلاً. وأما كون الثلاثة تحد؛ فلأن رجوع الراجع ينقص عدد الشهود. فوجب أن يحدوا؛ كما لو كانوا كذلك في الابتداء. وأما كون الثلاثة لا حد عليهم إذا كان رجوع الشاهد بعد الحد؛ فلأن الشهادة كملت واتصل بها الحكم. فلم يجب عليهم شيء؛ لعدم كونهم قذفة. ¬

_ (¬1) في أ: شهد. (¬2) في أ: شاهدين. (¬3) في د: عليهما.

وأما كون الراجع يغرم ربع ما أتلفوه؛ فلأنه برجوعه أقر على نفسه أن التلف المتقدم حصل بفعله وفعل بقية الشهود. تعذر قبول ذلك بالنسبة إلى بقية الشهود وبقي قوله مقبولاً بالنسبة إليه وهم أربعة. فوجب عليه ربع ذلك. قال: (وإن شهد أربعة بالزنى بامرأة فشهد ثقات من النساء أنها عذراء فلا حد عليها ولا على الشهود. نص عليه). أما كون المرأة المذكورة لا حد عليها؛ فلأن عذرتها دليل براءتها. وأما كون الشهود لا حد عليهم؛ فلأن صدقهم محتمل لجواز أن يكون وطئها ثم عادت عذرتها. قال: (وإن شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة فشهد أربعة آخرون على الشهود أنهم هم الزناة بها لم يحد المشهود عليه. وهل يحد الشهود الأولون حد الزنى؟ على روايتين). أما كون المشهود عليه لا يحد؛ فلأن شهادة الآخرين تضمنت جرح الأولين وشهادة الآخرين تتطرق إليها (¬1) التهمة. وأما كون الشهود الأولين يحدون على روايةٍ؛ فلأنهم شهد عليهم أربعة بالزنى. وأما كونهم لا يحدون حد الزنى على روايةٍ؛ فلأن الشهادة المذكورة متهم فيها من الجهة المتقدم ذكرها. قال: (وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بذلك بمجرده). أما كون المرأة المذكورة لا تحد بمجرد ما ذكر؛ فلأنه يحتمل أن يكون الحمل من وطء شبهة أو إكراه، والحد يدرأ بالشبهة. فإن قيل: قد روي عن عمر: «إن الرجمَ حقٌ واجبٌ على من زنى وقد أحصن إذا كانت البينةُ، أو الحبلُ، أو الاعتراف» (¬2)، وذلك يدل على وجوب الحد. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) سبق تخريجه ص: 236.

قيل: ظاهره ذلك. لكنه معارض بما روي عنه «أنه أُتي بامرأةٍ حامل فادَّعت أنها أُكرهت قال: خلِّ سبيلها، وأنه كتب إلى أمرائه» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 236 كتاب الحدود، باب من زنى بامرأة مستكرهة.

باب القذف

باب القذف قال المصنف رحمه الله: (وهو: الرمي بالزنى. ومن قذف حراً محصناً فعليه جلد ثمانين جلدة إن كان القاذف حراً وأربعين إن كان عبداً. وقذف غير المحصن يوجب التعزير). أما قول المصنف رحمه الله: وهو الرمي بالزنى؛ فبيان لمعنى القذف. وأما كون من قذف حراً محصناً عليه جلد ثمانين جلدة إذا كان حراً؛ فلأن الله تعالى قال: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4]. وأما كونه عليه جلد أربعين إذا كان عبداً؛ فلما روى عبدالله (¬1) بن عامر بن ربيعة (¬2) أنه قال: «أدركتُ أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرَهم يضربونَ المملوك إذا قذفَ إلا أربعين» (¬3). ولأن الحد إذا كان يتبعض كان العبد فيه على النصف كحد الزنى. فإن قيل: الآية عامة فيدخل العبد فيها. قيل: ما ذكر خاص، والخاص مقدم على العام. وأما كون قذف غير المحصن يوجب التعزير؛ فلأن القذف معصية. فإذا لم يجب فيه حد؛ لفوات شرطه وهو الإحصان -وسيأتي دليلهما-: وجب التعزير. ضرورة وجوبه في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. ¬

_ (¬1) في د: عبد. (¬2) في الأصول: ربيع. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (28215) 5: 483 كتاب الحدود، في العبد يقذف الحر كم يضرب؟

قال: (والمحصن هو: الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله. وهل يشترط البلوغ؟ على روايتين). أما كون المحصن الذي يحد بقذفه ثمانون جلدة هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله؛ فلأنه لو كان عبداً أو كافراً لكانت حرمتهما ناقصة. فلم تنتهض لإيجاب الحد. ولو كان مجنوناً لم يجب عليه حد الزنا؛ لقوله عليه السلام: «رُفعَ القلمُ عن ثلاث: عن المجنون حتى يُفيق ... » (¬1) فلا يجب الحد بقذفه. ولأن غير العاقل لا يلحقه شَيْن بإضافة الزنى إليه؛ لكونه غير مكلف. وحد القذف إنما وجب من أجل ذلك. ولو كان غير عفيف لم يشنه القذف. فلا يجب الحد بقذفه؛ لما تقدم من أن القذف إنما وجب من أجله. ولو كان مثله لا يجامع لم يشنه القذف أيضاً؛ لتحقق كذب القاذف. وأما كونه يشترط بلوغه على روايةٍ؛ فلأنه أحد شرطي التكليف. أشبه العقل. ولأن زنى الصبي لا يوجب حداً. فلا يجب الحد بالقذف؛ كزنى المجنون. وأما كونه لا يشترط على روايةٍ؛ فلأنه حر عاقل عفيف يعير بهذا القول الممكن صدقه. أشبه الكبير. فعلى هذه الرواية لا بد أن (¬2) يكون كبيراً يجامع مثله، وأدناه أن يكون للغلام عشر سنين، وللجارية سبع. قال: (وإن قال: زنيتِ وأنت صغيرة وفسره بصغر عن تسع سنين لم يحد، وإلا خرج على الروايتين). أما كون من قال ما ذكر وفسر الصغر عن تسع سنين لا يحد؛ فلأن حد القذف إنما وجب لما يلحق بالمقذوف من العار، وذلك منتف في الصغيرة عن تسع سنين؛ لأن مثلها لا يمكن ذلك منها. فلا يلحقها عار القذف. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 215. (¬2) في أ: وأن.

وأما كونه إذا فسره بتسع يتخرج على الروايتين؛ فلأنه لو قذفها في تلك الحال لوجب عليه الحد على أحد الروايتين. فكذلك إذا فسر صغرها بذلك. قال: (وإن قال لحرة مسلمة: زنيتِ وأنت نصرانية أو أمة ولم تكن كذلك فعليه الحد. وإن كانت كذلك وقالت: أردتَ قذفي في الحال فأنكرها فعلى وجهين). أما كون من قال ما ذُكر عليه الحد إذا لم تكن المقذوفة [كما قال في حال؛ فلأنه قذف محصنة. وأما كونه عليه الحد إذا كانت المقذوفة] (¬1) كذلك وقالت: أردتَ قذفي في الحال وأنكرها على وجه؛ فلأن قوله: زنيتِ خطاب في الحال، والظاهر أنه أراد ذلك. وأما كونه لا حد عليه على وجه؛ فلأن ظاهر لفظه يقتضي تعلق: وأنت نصرانية أو أمة بقوله: زنيت، فيصير كأنه قال لها: زنيت في حال النصرانية أو الرق ولا حد مع ذلك. وهذا أصح من الأول؛ لأن ارتباط الكلام بعضه ببعض أولى من عدم ارتباطه، وإذا كان ذلك كذلك وجب ارتباط قوله: وأنت نصرانية بقوله: زنيت، وذلك ينفي كونه قاذفاً في الحال. قال: (ومن قذف محصناً فزال إحصانه قبل إقامة الحد لم يسقط الحد عن القاذف). أما كون من [ذكر لا يسقط الحد عنه؛ فلأن الحد] (¬2) قد وجب وتم بشروطه. فلا يسقط بزوال شرط الوجوب؛ كما لو زنى بامرأة ثم اشتراها، أو سرق عيناً قيمتها نصاب فنقصت قيمتها أو ملكها، وكما لو جُن المقذوف بعد المطالبة. وأما المعني بزوال الإحصان فأن يزول شرط من شروطه؛ مثل: أن يكون المقذوف عفيفاً فيزني قبل إقامة الحد، وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) مثل السابق.

فصل [والقذف محرم إلا في موضعين] قال المصنف رحمه الله: (والقذف محرم إلا في موضعين: أحدهما: أن يرى امرأته تزني في طهر لم يصبها فيه فيعتزلها وتأتي بولد يمكن أن يكون من الزاني فيجب عليه قذفها ونفي ولدها. والثاني: أن لا تأتي بولد يجب نفيه أو استفاض زناها في الناس أو أخبره به ثقة أو رأى رجلاً يعرف بالفجور يدخل إليها فيباح قذفها ولا يجب). أما كون القذف محرماً فيما عدا المستثنى؛ فبالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {إن الذين يَرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} [النور: 23]. وأما السنة؛ فقوله عليه السلام: «اجتنبوا السبع الموبقات. وذكر منهن: قذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (¬1). وأما الإجماع؛ فأجمع المسلمون على تحريم القذف في الجملة. وأما كونه يجب على من رأى امرأته تزني في طهر لم يصبها فيه ويعتزلها وتأتي بولد يمكن أن يكون من الزاني؛ فلأن نفي الولد واجب؛ لما يأتي، ولا يمكن إلا بالقذف، وما لا يتم الواجب إلا به واجب. وأما كونه يجب عليه نفي ولدها؛ فلئلا يلحق به ولد غيره. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأةٍ أَدخلتْ على قومٍ من ليسَ منهمْ فليستْ من اللهِ في شيء، ولن يُدخلَها اللهُ جنته» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6465) 6: 2515 كتاب المحاربين، باب رمي المحصنات. وأخرجه مسلم في صحيحه (89) 1: 92 كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2263) 2: 279 أبواب الطلاق، باب في التغليظ في الانتفاء. وأخرجه النسائي في سننه (3481) 6: 179 كتاب الطلاق، باب التغليظ في الانتفاء من الولد.

وأما كونه يباح لمن يراها تزني ولم تأت بولد يجب نفيه؛ فلأن بالزوج حاجة إلى فسخ النكاح ليخلص من زوجة شأنها ذلك، ولذلك قذف عويمر العجلاني زوجته بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم (¬1)، وقذف هلال بن أمية زوجته بحضرة الرسول أيضاً (¬2). وأما كونه يباح إذا استفاض زناها أو أخبره به ثقة أو رأى رجلاً يُعرف بالفجور يدخل عليها؛ فلأن الحاجة داعية إلى فسخ النكاح هنا كالحاجة الداعية إذا رآها، وذلك يوجب إباحة القذف؛ لاشتراك الكل في الحاجة الموجبة للإباحة. قال: (وإن أتت بولد يخالف لونه لونهما لم يبح نفيه بذلك. وقال أبو الخطاب: ظاهر كلامه إباحته). أما كون الولد لا يباح نفيه بذلك على الأول؛ فلما روي «أن رجلاً ولدَ له ولد أسود. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لكَ من إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانُها؟ قال: حمرٌ. قال: هل فيها من أوْرَق؟ قال: إن فيها لَورقًا. قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: لعله نزَعهُ عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعهُ عرق» (¬3). وأما كونه يباح على قول أبي الخطاب: ظاهر كلام الإمام أحمد إباحته؛ فلأن ذلك من الأسباب المغلبة على الظن أنها زنت، [ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أتتْ] (¬4) به على نعتِ كذا فهو لفلان (¬5)، وإن أتت على نعت كذا فهو للزوج (¬6») (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4959) 5: 2014 كتاب الطلاق، باب: من أجاز طلاق الثلاث. وأخرجه مسلم في صحيحه (1492) 2: 1129 كتاب اللعان. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4468) 4: 1771 كتاب تفسير القرآن، باب: قوله عز وجلّ {والذي يرمون أزواجهم}. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6884) 6: 2667 كتاب الاعتصام، باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1500) 2: 1137 كتاب اللعان. (¬4) ساقط من د. (¬5) في د: فلان. (¬6) في د: للمزوج. (¬7) ر. الحديث السابق.

فصل [في ألفاظ القذف] قال المصنف رحمه الله: (وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية. فالصريح قوله: يا زاني، يا عاهر، زنى فرجك، ونحوه مما لا يحتمل غير القذف فلا يقبل قوله بما يحيله). أما كون ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية؛ فلأنها ألفاظ يرتب عليها حكم شرعي فانقسمت إلى ذلك كألفاظ الطلاق. ولأن منها ما لا يحتمل غير القذف، ومنها ما يحتمل غيره، وذلك شأن الصريح والكناية. وأما كون الصريح: يا زاني يا عاهر زنى فرجك ونحوه مما لا يحتمل غير القذف؛ فلأن الصريح ما لا يحتمل غيره، وذلك موجود هاهنا. وأما كون القاذف لا يقبل قوله بما يحيل القذف؛ فلأن المصرح باطلاً لا يقبل قوله إذا ادعى ما يحيله. فكذلك المصرح بالقذف. قال: (وإن قال: يا لوطي، أو يا معفوج فهو صريح. وقال الخرقي: إذا قال: أردت أنك من قوم لوط فلا حد عليه وهو بعيد. وإن قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير إتيان الرجال احتمل وجهين). أما كون قول: يا لوطي صريحاً على قول غير الخرقي؛ فلأن اللوطي الزاني بالصبيان. أشبه ما لو قال: يا زاني. وأما كون قول: يا معفوج صريحاً على ذلك؛ فلأن معناه يا مفعولاً به فعل قوم لوط، وذلك صريح فهذا مثله. فإن قيل: قد تقدم أن الصريح ما لا يحتمل غير القذف وهذا يحتمله. قيل: معناه والله أعلم أنه صريح في الحكم لا في اللفظ. فعلى هذا يجب الحد عليه كما لو قذفه بالزنى.

وأما كون قائل ذلك إذا قال: أردتُ أنك من قوم لوط لا حد عليه على قول الخرقي؛ فلأن كلامه يصح أن يراد به ذلك فإذا قال: أردته لم يجب الحد لشَكِّنا في المقتضي له لا سيما والحدود تدرأ بالشبهات. وأما كون ذلك بعيداً؛ فلأن إطلاق مثل ذلك وإرادة مثل ذلك فيه بُعد. وأما كونه إذا قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير إتيان الرجال يحتمل أن لا يحد؛ فلأن ما فسر كلامه محتمل الإرادة والحد يدرأ بالشبهة. وأما كونه يحتمل أن يحد؛ فلأنه لا يراد بمثل ذلك اللفظ في الغالب غير الزنى. فلم يقبل تفسيره بغيره؛ كما لو قال: يا زاني وفسره بغيره. فإن قيل: ما المراد بعمل قوم لوط الذي ينتفي معه وجوب الحد؟ قيل: هو محبة الصبيان وتقبيلهم ونحو ذلك مما لا يوجب حداً. قال: (وإن قال: لستَ بولد فلان فقد قذف أمه. وإن قال: لستَ بولدي فعلى وجهين). أما كون من قال: لستَ بولد فلان قد قذف أمه؛ فلأن ذلك يقتضي أن أمه أتت به من غير أبيه، وذلك قذف لها. وأما كون من قال: لست بولدي قد قذف أمه على وجه؛ فلأنه نفاه عن نفسه. أشبه نفي ولد (¬1) غيره عن أبيه. وأما كونه غير قاذف لأمه على وجه؛ فلأن الإنسان يغلظ لولده في القول والفعل (¬2) فيحتمل أنه أراد بذلك التغليظ، وذلك شبهة يدرأ بها الحد. قال: (وإن قال: أنتِ أزنى الناس أو أزنى من فلانة، أو قال لرجل: يا زانية أو لامرأة (¬3): يا زاني، أو قال: زنت يداك ورجلاك: فهو صريح في القذف في قول أبي بكر، وليس بصريح عند ابن حامد). أما كون قول: "أنت أزنى الناس أو أزنى من فلانة" صريحاً في القذف في قول أبي بكر؛ فلأن أزنى معناه المبالغة في الزنى ففيه الزنى وزيادة (¬4). ¬

_ (¬1) في أ: ولدها. (¬2) ساقط من د. (¬3) في أ: قال لامرأة. (¬4) في أ: والزيادة.

وأما كونه ليس بصريح عند ابن حامد؛ فلأن أفعل قد تجيء لغير ما ذكر. فيحتمل أن يراد، وذلك يمنع كونه صريحاً. وأما كون القول للرجل: يا زانية، وللمرأة: يا زاني (¬1) صريحاً في قول أبي بكر؛ فلأن ما كان قذفاً لأحد الجنسين كان قذفاً للآخر. قياساً لأحدهما على الآخر. ولأن ترك تاء التأنيث في موضعها وزيادتها في غير موضعها خطأ لا يغير معنى. فلا يمنع وجوب الحد؛ كاللحن. ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنى، وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها. وأما كونه ليس بصريح عند ابن حامد؛ فلأن التكلم بمثل ذلك مجاز أو خطأ، وذلك ليس بشأن الصريح. وأما كون قول: زنت يداك ورجلاك (¬2) صريحاً عند أبي بكر؛ [فلأن ذلك يطلق ويراد به زنى الفرج. وأما كونه ليس صريحاً عند] (¬3) ابن حامد؛ فلأن النسبة حقيقة إلى ما ذكر فلا يصرف إلى غيره. قال: (وإن قال: زنأت في الجبل مهموزاً فهو صريح عند أبي بكر. وقال ابن حامد: إن كان يعرف العربية لم يكن صريحاً. وإن لم يقل: في الجبل فهل هو صريح أو كالتي قبلها؟ على وجهين). أما كون قوله: زنأت في الجبل مهموزاً صريحاً عند أبي بكر؛ فلأن العامة لا يفهمون من ذلك إلا القذف، ولا يفرقون بين مهموز وغيره. أشبه ما لو قال: زنيت في الجبل. ¬

_ (¬1) في أ: زان. (¬2) في أ: أو رجلاك. (¬3) ساقط من د.

وأما كون ذلك ليس صريحاً عند ابن حامد إذا كان يعرف العربية؛ فلأن الظاهر من العالم أنه يريد مدلول اللفظ، وذلك هو الصعود. بخلاف غير العالم؛ فلأنه لا يفهم منه غير الزنى. وأما كون قول ذلك إذا لم يقل معه في الجبل صريحاً وجهاً واحداً على وجه؛ [فلأنه مع عدم القول في الجبل يتمحض القذف. وأما كونه كالتي قبلها على وجه] (¬1)؛ فلأنه بمعناها؛ لاشتراكهما في الهمز. فعلى هذا يكون في ذلك وجهان: أحدهما: يكون صريحاً في حق العامي والعالم بالعربية. والثاني: يفرق بين العالم والعامي على ما تقدم تفصيله. قال: (والكناية: نحو قوله لامرأته: قد فضحته وغطيت أو نكّست رأسه وجعلت له قروناً، وعلقت عليه أولاداً من غيره وأفسدت فراشه، أو يقول لمن يخاصمه: يا حلال ابن الحلال ما يعرفك الناس بالزنى، يا عفيف، أو يا فاجرة يا قحبة يا خبيثة، أو يقول لعربي: يا نبطي يا فارسي يا رومي، أو يسمع رجلاً يقذف رجلاً فيقول: صدقت أو أخبرني فلان أنك زنيت وكذبه الآخر: فهذا كناية إن فسره بما يحتمله غير القذف قُبل قوله في أحد الوجهين، وفي الآخر جميعه صريح). أما كون ذلك كناية في وجهٍ فلأنه يحتمل إرادة غير الزنى؛ مثل أن يريد بقوله: قد فضحته أي بشكواك، أو برداءة أصلك، وبقوله: غطيت أو نكّست رأسه أي (¬2) حياء من الناس من ذلك، وبقوله: جعلتِ له قروناً أي أنه مسخرٌ لك مطيعٌ منقادٌ كالثور، وبقوله: علَّقتِ عليه أولاداً من غيره أي من زوج آخر أو وطء شبهة، وبقوله: أفسدت فراشه أي بالنشوز أو (¬3) بالشقاق ومنع الوطء، وبقوله: يا حلال ابن الحلال أنه كذلك حقيقة، وبقوله: ما يعرفك الناس بالزنى حقيقة النفي، وبقوله: يا عفيف كونه كذلك حقيقة، وبقوله: يا فاجرة كونها مخالفة لزوجها فيما يجب طاعتها فيه، وبقوله: يا قحبة وبقوله: يا خبيثة برداءة ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في د: أو. (¬3) في د: أي.

أصلها، وبقوله لعربي: يا نبطي يا فارسي يا رومي يا متخلقاً بأخلاق أحد هؤلاء، وبقوله: صدق عند سماعه رجلاً يقذف رجلاً أنه صادق في غير الأخبار المذكورة، وبقوله: أخبرني فلان أنك زنيت وكذبه آخر (¬1) أني موافق للكذب. وإذا احتمل ذلك جميعه غير القذف تعين كونه كناية؛ لأن ذلك شأن كل الكنايات. فعلى هذا إذا فسر كلامه بأحد الاحتمالات المذكورة أو ما يقوم مقامها قُبل؛ لأنه فسر كلامه بما يحتمله. وأما كون جميع ذلك صريحاً في وجهٍ؛ فلأن الظاهر من حاله أنه لم يرد شيئاً مما ذكر، والغالب استعمال الألفاظ المذكورة في القذف. فوجب حملها عليه بظاهرَي الحال والاستعمال. فعلى هذا إذا قال: أردت أحد هذه الاحتمالات لم يقبل قوله؛ لأن هذا شأن الصريح. ولهذا لو قال المطلق بصريح الطلاق: أردتُ غيره لم يقبل. قال: (وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور الزنى من جميعهم عُزِّر ولم يحد). أما كون من ذكر يعزر؛ فلأنه واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وذلك موجود هاهنا. وأما كونه لا يحد؛ فلأن الحد إنما وجب لما يلحق المقذوف من العار بالزنى، وذلك يستدعي إمكانه من فاعله، وذلك منتفٍ هاهنا. ضرورة عدم تصوره. قال: (وإن قال لرجل: اقذفني فقذفه فهل يحد؟ على وجهين). أما كون القاذف المذكور يُحد على وجه؛ فلأن الموجب له القذف، وهو موجود. وقول (¬2) [المقذوف: اقذفني لا أثر له؛ لأن القذف لا يباح بلا حاجة] (¬3). وأما كونه لا يحد على وجه؛ فلأن المقذوف رضي بقذفه. أشبه ما لو قذف نفسه. ¬

_ (¬1) في د: الآخر. (¬2) في د: قول. (¬3) ساقط من د.

وقال صاحب النهاية فيها: وعندي أن هذا -يعني الخلاف- ينبني على أن حد القذف هل هو حق لله أو لآدمي؟ فإن قيل: لله وجب، وإلا لم يجب. وهو معنى صحيح يجب أن يُلحظ. قال: (وإن قال لامرأته: يا زانية قالت: بك زنيت لم تكن قاذفة، ويسقط عنه الحد بتصديقها). أما كون المرأة القائلة ما ذكر لا تكون قاذفة للقائل لها: يا زانية؛ فلأن ذلك لا يستعمل في القذف للقذف؛ لأنه لا يراد به حقيقة ذلك، ألا ترى أنه لو قيل لشخص: يا سارق فقال: معك سرقت لم يكن معناه الإخبار بالسرقة (¬1) بل معناه كما لم تسرق أنت فكذا أنا. وأما كون الحد يسقط عن القاذف؛ فلأنه رماها بالزنا، وفي قولها: بك زنيت تصديق له، وذلك يوجب إسقاط الحد كما لو قال: زنيت فقالت: صدقت. وقال أبو الخطاب في هدايته: يكون الرجل قاذفاً لها؛ لأنه نسبها إلى الزنى وتصديقها لم ترد به حقيقة الفعل بدليل أنه لو أريد ذلك لوجب كونها قاذفة له. قال: (وإذا (¬2) قُذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إذا كانت الأم في الحياة. وإن قذفت وهي ميتة. مسلمة كانت أو كافرة. حرة أو أمة: حد القاذف إذا طالب الابن وكان حراً مسلماً. ذكره الخرقي. وقال أبو بكر: لا يجب الحد بقذف ميتة). أما كون المرأة إذا قُذفت لا يكون لولدها المطالبة إذا كانت أمه في الحياة؛ فلأنه حق ثبت للتشفي. فلا يقوم فيه غير المستحق مقام المستحق، والمستحق هنا الأم. فلم يقم الولد مقامها. وأما كونها إذا قُذفت ميتة يحد القاذف على ما ذكره الخرقي؛ فلأن القاذف قَدَح في نسب الحي، وذلك أنه إذا قذف أمه فقد نسبه إلى أنه ولد من زنى. وفي قول المصنف رحمه الله: مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة إشعار بأن الحد هنا لم يجب للولد بطريق الإرث؛ لأنه لو وجب على سبيل الإرث لاعتبر ¬

_ (¬1) في أ: بالسراقة. (¬2) في أ: فإذا.

شرائط الإحصان في المقذوف. وقد صرح بذلك المصنف رحمه الله في المغني فقال: إنما ملك الابن مطالبة القاذف؛ لأنه قدح في نسب الحي. وأما قوله: إذا طالب الابن وكان حراً مسلماً فشروط في حد القذف: أما الطلب؛ فلأنه حق من الحقوق فلا يستوفى بغير طلب مستحقه؛ كسائر الحقوق. وأما حرية الابن وإسلامه؛ فلأن الحد وجب للقدح في نسبه. فإذا لم يكن كذلك لم يجب الحد. ولأن القدح في نسب الحي ليس أسوأ حالاً من نسبة الحي نفسه إلى الزنى، ولو قذف الحي بالزنى اعتبر حريته وإسلامه. فكذا هاهنا. وأما كون الحد لا يجب بقذف ميتة على قول أبي بكر؛ فلأن الميتة لا تعيَّر والحي لم يقدح فيه، وذلك شبهة يدرأ بها الحد. ولأنه يحتمل أن الأم لو كانت حية لصدقته، وذلك شبهة توجب سقوط الحد. قال: (وإن مات المقذوف سقط الحد، ومن قذف أمّ النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً كان أو كافراً). أما كون الحد يسقط إذا مات المقذوف؛ فلأن شرطه (¬1) مطالبة مستحقه به، وهي لا تتصور مع موته. وأما كون من قذفَ أمّ النبي صلى الله عليه وسلم يقتل؛ فلأنه يكفر بقذفه لها؛ لما في ذلك من التعرض للقدح في النبوة الموجب للكفر. وأما كون من فعل ذلك يقتل مسلماً كان أو كافراً؛ فلاستوائهما في الموجب للقتل. ولأن المسلم إذا قتل بذلك. فلأن يقتل الكافر بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) في أ: شروطه.

قال: (وإن قذف الجماعة بكلمة واحدة (¬1) فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم. وعنه: إن طالبوا متفرقين حد لكل واحد حداً. وإن قذفهم بكلمات حد لكل واحد حداً. وإن حُدَّ القاذف فأعاده لم يعد عليه الحد). أما كون من قذف الجماعة بكلمة واحدة يحد حداً واحداً على المذهب؛ فلأنه قذف واحد. فلم يجب فيه إلا حد واحد. ولأن الحد إنما وجب لإدخال المَعْيرة على المقذوف بقذفه، وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف وترك المعيرة. فوجب أن يكتفى به. وأما قول المصنف رحمه الله: إذا طالبوا أو واحد منهم؛ فبيان لاشتراط الطلب لوجوب الحد؛ لأن الحد حق. فلم يُستوف بغير طلب؛ كالمال. وأما كونه يحد لكل واحد حداً إذا طالبوا متفرقين على روايةٍ؛ فلأنه إذا طلب واحد أولاً لزم إقامة الحد من أجله، وإذا طلب الآخر لزم أيضاً. وأما كون من قذفهم بكلمات يحد لكل واحد حداً؛ فلأن حدود القذف حقوق آدميين. فلم تتداخل؛ كالديون والقصاص. وأما كون من حُدّ للقذف فأعاده لم يعد عليه الحد؛ فلأنه حُد به مرة. فلم يحد به ثانياً. ¬

_ (¬1) في د: واحد.

باب حد المسكر

باب حد المسكر الأصل في تحريم ذلك الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه -إلى قوله-: فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90 - 91]. وأما السنة؛ فقول النبي عليه السلام: «كل مسكرٍ خمر، وكل خمرٍ حرام» (¬1). رواه أبو داود. وأما الإجماع فأجمع المسلمون في الجملة على تحريم ذلك. فإن قيل: فقد روي عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معدي كرب وأبي جندل بن سهيل أنهم قالوا: هي حلال. قيل: قد رجعوا عن ذلك. نقله المصنف رحمه الله في المغني. قال المصنف رحمه الله: (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام من أيّ شيء كان، ويسمى خمراً، ولا يحل شربه للذة ولا للتداوي ولا لعطش ولا غيره؛ إلا أن يضطر إليه لدفع لقمة غصّ بها فيجوز). أما كون قليل ما أسكر كثيره حراماً؛ فلما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكرَ كثيرهُ فقليلهُ حرام» (¬2). رواه أبو داود. وأما كونه يسمى خمراً؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكرٍ خمر». وهذا مسكر. ولأن الخمر ما خامر العقل أي غطاه وستره، وهذا موجود في [كل مسكر. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (2003) 3: 1588 كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام. وأخرجه أبو داود في سننه (3679) 3: 327 كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3681) الموضع السابق.

وأما كونه لا يحل شربه للذة؛ فلعموم قوله: ] (¬1) «كل مسكرٍ خمرٌ، وكل مسكرٍ حرام» (¬2)، وقوله: «ما أسكرَ كثيرهُ فقليلهُ حرام» (¬3). رواهما أبو داود. وأما كونه لا يحل شربه للتداوي؛ فلما روى طارق بن شهاب: «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر وقال (¬4): إنما أصنعُها (¬5) للدواءِ. فقال: إنه ليسَ بدواء ولكنه دَاء» (¬6). وعن مخارق «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلَ على أم سلمة ونبذت نبيذاً في جر فخرجَ النبيذ يهدر. فقال: ما هذا؟ فقالت: فلانة اشتكتْ بطنها فنعت لها. فدفعه برجله فكسرهُ وقال: إن الله لم يجعلْ فيما حرم عليكمْ شفاء» (¬7). رواهما الإمام أحمد. ولأن الخمر محرم لعينه. فلم يجز شربه للتداوي؛ كلحم الخنزير. وأما كونه لا يحل شربه لعطش؛ فلأنه لا يذهبه ولا يزيله ولا يدفع (¬8) محذوره. فوجب بقاؤه على تحريمه. عملاً بالأدلة المقتضية لذلك مع سلامتها (¬9) عن المعارض. وأما كونه لا يحل شربه لغير ذلك إذا لم يضطر إليه لدفع لقمة غصّ بها؛ فلما تقدم من عموم الأدلة المقتضية للتحريم. فلأن لا تحل مع عدم الحاجة إليه بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) سبق تخريجه قريباً. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) في د: قال. (¬5) في أ: صنعتها. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه (1984) 3: 1573 كتاب الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر. وأخرجه أحمد في مسنده (18383) طبعة إحياء التراث. (¬7) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 5 كتاب الضحايا، باب النهي عن التداوي بالمسكر. (¬8) في أ: يندفع. (¬9) في أ: سلامته.

وأما كونه يجوز شربه إذا اضطر إليه (¬1) لدفع لقمة غصّ بها؛ مثل: أن لا يجد ما يدفعها به إلا الخمر؛ فلأن الله تعالى قال في آية التحريم: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة: 173]. ولأن حفظ النفس مطلوب ولذلك يباح أكل الميتة إذا اضطر إليها وهو موجود هنا. فوجب جوازه تحصيلاً لحفظ النفس المطوب حفظها. قال: (ومن شربه مختاراً عالماً أن كثيره يسكر. قليلاً كان أو كثيراً: فعليه الحد ثمانون جلدة إن كان حراً. وعنه: أربعون، والرقيق على النصف من ذلك، إلا الذمي فإنه لا يحد بشربه في الصحيح من المذهب). أما كون من شرب الخمر عليه الحد في الجملة؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من شربَ الخمرَ فاجلدُوه» (¬2). رواه أبو داود. وقد ثبت أن أبا بكر وعمر وعلياً جلدوا شاربها. وأما كونه عليه الحد قليلاً كان ذلك أو كثيراً؛ فلأن القليل خمر فدخل في عموم قوله عليه السلام: «من شربَ الخمرَ فاجلدُوه» (¬3). رواه أبو داود. ولأنه شراب فيه شدة مُطربة. فوجب الحد بشرب قليله؛ كالكثير. وأما كونه يشترط لكون الحد (¬4) عليه أن يشربه مختاراً؛ فلأن من شربه مكرهاً لا حدَّ عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهُوا عليه» (¬5). ¬

_ (¬1) في د: الأدلة المقتضية للتحريم وقياساً على الصور المتقدم ذكرها. ولأنه إذا لم يحل شربه للتداوي مع الحاجة إليه ... (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4485) 4: 165 كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر. وأخرجه الترمذي في جامعه (1444) 4: 48 كتاب الحدود، باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه ... وأخرجه النسائي في سننه (5661) 8: 313 كتاب الأشربة، ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) ساقط من د. (¬5) سبق تخريجه ص: 248.

وأما كونه يشترط لذلك أن يشربه عالماً أن كثير ذلك يسكر؛ فلأن من شربه غير عالم بذلك لا حد عليه؛ لأنه غير قاصد إلى ارتكاب المعصية. أشبه من وطئ امرأة وظنها (¬1) زوجته. وعن عمر رضي الله عنه: «لا حدَّ إلا على من علِمَه» (¬2). وليس المراد من علمَ التحريم؛ «لأن عمر رضي الله عنه حدّ قدامة بن مظعون» (¬3) وهو يعتقد حلها. فتعين أن يراد بالعلم علم أن كثير ذلك يُسكر. وأما كون حد الخمر ثمانين جلدة على روايةٍ إن كان الشارب حراً؛ فـ «لأن عمر رضي الله عنه استشارَ الناس في حد الخمر. فقال عبدالرحمن: اجعله كأخفِّ الحدود. فضرب عمرُ ثمانين» (¬4). وروي: «أن عليًا قال في المشورة: إذا سكِرَ هذى، وإذا هذى افترى، فحدوه حد المفتري» (¬5). وروى ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما. وأما كونه أربعين على روايةٍ إن كان كذلك؛ فـ «لأن علياً رضي الله عنه جلدَ الوليد بن عقبة أربعين، ثم قال: جلدَ النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌ سنةٌ، وهذا أحبُ إليّ» (¬6). رواه مسلم. وعن أنس قال: «أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم برجلٍ قد شربَ الخمر فضربه بالنعال نحوًا من أربعين، ثم أُتي به أبو بكر فصنع مثل ذلك، ثم أُتي به عمر فاستشار الناس في الحد فقال ابن عوف: أقلُّ الحدودِ ثمانونَ. فضربه عمر» (¬7) متفق عليه. ¬

_ (¬1) في أ: فظنها. (¬2) سبق تخريجه ص: 215. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 316 كتاب الأشربة، باب من وجد منه ريح شراب أو لقي سكران. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4479) 4: 163 كتاب الحدود، باب الحد في الخمر. وأخرجه الترمذي في جامعه (1443) 4: 48 كتاب الحدود، باب ما جاء في حد السكران. (¬5) أخرجه الدارقطني في سننه (223) 3: 157 كتاب الحدود. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه (1707) 3: 1331 كتاب الحدود، باب حد الخمر. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (6391) 6: 2487 كتاب الحدود، باب ما جاء في ضرب شارب الخمر. نحوه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1706) 3: 1330 كتاب الحدود، باب حد الخمر. واللفظ له.

فإن قيل: فعل عمر (¬1) كان بمحضر من الصحابة فيكون إجماعاً. قيل: فعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى من فعل غيره. ويحمل فعل عمر على أنه رأى الزيادة على وجه التعزير. ودعوى الإجماع لا تصح؛ لأنه كيف ينعقد الإجماع على شيء قد خالف فيه أبو بكر وعلي رضي الله عنهما. وأما كون حد الرقيق على النصف من الحر؛ فلأنه على النصف في الزنى. فلأن يكون على النصف من شرب الخمر بطريق الأولى. وأما كون الذمي لا يحد بشربه في الصحيح من المذهب؛ فلأنه لا يعتقد تحريمه. بخلاف الزنى وشبهه. قال: (وهل يجب الحد بوجود الرائحة؟ على روايتين). أما كون الحد يجب بوجود الرائحة على روايةٍ؛ فلأن ذلك نقل عن عمر وابن مسعود (¬2). ولأن الرائحة تدل على الشرب [فجرى مجرى الإقرار. وأما كونه لا يجب بذلك على روايةٍ] (¬3)؛ فلأنه يحتمل أن يكون (¬4) تمضمض بالخمر أو شربه ظناًّ أنه لا يسكر، أو كان مكرهاً، أو أكل نبقاً بالغاً، أو شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر. فإذا احتمل ذلك لم يجب الحد؛ لأنه يدرأ بالشبهات. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (28619 - 28620) 5: 519 - 520 كتاب الحدود، في رجل يوجد منه ريح الخمر ما عليه؟ وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 315 كتاب الأشربة، باب من وجد منه ريح شراب أو لقي سكران. (¬3) ساقط من د. (¬4) ساقط من أ.

وهذه أصح؛ لما ذكر وفعل عمر قد روي أن من وجدت منه الرائحة أو أقر (¬1) بالشرب؛ لأنه روي أنه قال: «وجدتُ من عبدالله ريحاً من الشراب. فأقرّ عنده أنه شرب فقال عمر: إنه سائلٌ عنه فإن كان يُسكرُ جلدتُه» (¬2). قال: (والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام حَرُم؛ إلا أن يَغلي قبل ذلك فيحرم. نص عليه، وعند أبي الخطاب: أن هذا محمول على عصير يتخمّر في ثلاث غالباً). أما كون العصير الذي يقذف بزبده ويغلي غليان القدر يحرم بلا خلاف فيه؛ لصحة إطلاق الخمر عليه. وأما كونه إذا أتى عليه ثلاثة أيام ولم يوجد فيه ذلك يحرم على المنصوص عن الإمام رحمة الله عليه (¬3)؛ فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشربوا العصيرَ ثلاثاً ما لم يغل» (¬4). وجه الحجة: أنه قيد الشرب بالثلاث، وذلك يدل على نفي الشرب فيما زاد عليها. وفي حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُنبذُ له الزبيب ويشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة. ثم يؤمرُ به فيُسقَى الخدم أو يُهراق» (¬5). رواه أبو داود. فإن قيل: قوله: «فيسقى الخدم» دليل على إباحته (¬6). ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالباً وهي خفية تحتاج إلى ضابط والثلاث تصلح (¬7) ضابطاً لها. فوجب اعتباره بها. وقال ابن عمر: «اشربه ما لم يأخذه شيطانه. قيل: وفي كمْ يأخذه شيطانه؟ قيل: في ثلاث». ¬

_ (¬1) في أ: وجد منه رائحة أقر. (¬2) ر تخريج الحديث السابق. (¬3) في أ: رضي الله عنه. (¬4) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج النسائي في سننه عن الشعبي قال: «اشربه ثلاثة أيام إلا أن يغلي». (5734). (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3713) 3: 335 كتاب الأشربة، باب في صفة النبيذ. (¬6) كذا في الأصول. (¬7) ساقط من أ.

وأما كونه لا يحرم عند أبي الخطاب حتى يغلي؛ فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشربوا في كل وعاءٍ، ولا تشربوا مسكراً» (¬1). ولأن علة التحريم الشدة المُطربة، وذلك في المسكر لا في غيره. وأجاب عن إطلاق الإمام القول بأن المراد عصير يتخمر في ثلاث غالباً (¬2). قال: (ولا يكره أن يترك في الماء تمراً أو زبيباً ونحوه ليأخذ ملوحته ما لم يشتد أو يأتي عليه ثلاث). أما كون ترك ما ذكر في الماء لا يكره؛ فلما تقدم في (¬3) حديث ابن عباس «أنه كان ينبذُ له الزبيبَ فيشربه» (¬4). وأما كونه يحرم إذا اشتد؛ فلما روى أبو هريرة قال: «علمتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومُ. فتحينت فطره بنبيذٍ صنعته في دباء. ثم أتيتهُ به فإذا هو يَنشّ. فقال: اضرب بهذا الحائط. فإن هذا شرابُ من لا يؤمن بالله واليوم الآخر» (¬5). رواه أبو داود. ولأنه إذا بلغ ذلك صار مسكراً، وكل مسكر حرام. وأما كونه يحرم إذا أتى عليه ثلاثة أيام؛ فلأن ذلك في مظنة الاشتداد. أشبه العصير. فإن قيل: قول المصنف رحمه الله: ولا يكره أن يترك ... إلى قوله: ما لم يشتد أو يأتي عليه ثلاث لا يدل على التحريم. يجوز أنه (¬6) يكره عند ذلك؛ لأن الكراهة قبل الحرمة. قيل: أما إذا اشتد فلا خلاف فيه في المذهب، والحديث المذكور وما تقدم يدل عليه. وأما إذا أتى عليه ثلاث ففيه الخلاف المتقدم ذكره في العصير؛ لأنه في معناه. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 286. (¬2) في أ: يخمر غالبا في ثلاث. (¬3) في أ: من. (¬4) سبق قريباً. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3716) 3: 336 كتاب الأشربة، باب في النبيذ إذا غلى. (¬6) في أ: أن.

قال: (ولا يكره الانتباذ في الدُّبّاء والحَنْتَمِ والنّقيرِ والمزَفّتِ. وعنه: يكره). أما كون ما ذُكر لا يكره على المذهب؛ فلما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نهيتكم عن ثلاث، وأنا آمركم بهن: نهيتكم عن الأشربة أن تشربوا إلا في ظُروف الأُدم فاشربوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا» (¬1). رواه مسلم. وأما كونه يكره على روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتباذ فيها» (¬2). والأول أصح؛ لأن دليله يصلح ناسخاً لدليل الرواية الثانية. قال: (ويكره الخليطان وهو: أن ينبذ شيئين كالتمر والزبيب، ولا بأس بالفقاع). أما كون الخليطين يكره أن ينبذا؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين» (¬3). وأدنى أحوال النهي الكراهة. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن ينبذ شيئين؛ فبيان لمعنى الخليطين المكروه [أن ينبذا] (¬4). وأما كون الفقاع لا بأس بشربه؛ فلأنه لا يسكر، وإذا (¬5) ترك فسد. بخلاف الخمر. ولأن (¬6) أصل الأشياء على الإباحة حتى يرد محرم، ولم يرد ذلك في الفقاع. فوجب بقاؤه على مقتضى الأصل. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (977) 3: 1585 كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء ... (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1995) 3: 1579 كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء ... (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1987) 3: 1575 كتاب الأشربة، باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين. وأخرجه النسائي في سننه (5568) 8: 293 كتاب الأشربة، الترخص في انتباذ التمر وحده. (¬4) ساقط من د. (¬5) في أ: فإذا. (¬6) في د: فلأن.

باب التعزير

باب التعزير سمي التعزير بذلك؛ لأنه يَمنع من تعاطي القبيح، والأصل في التعزير: المنع. ومنه: التعزير بمعنى النصرة؛ لأنه منع لعدوه من أذاه. قال المصنف رحمه الله: (وهو التأديب. وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة؛ كالاستمتاع الذي لا يوجب الحد، وإتيان المرأة المرأة، وسرقة ما لا يوجب القطع، والجناية على الناس بما لا قصاص فيه، والقذف بغير الزنى ونحوه). أما قول المصنف رحمه الله: وهو التأديب؛ فبيان لمعنى التعزير. وفسره المصنف رحمه الله في المغني بالعقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها، وهو قريب مما ذكره هنا. وأما كونه واجباً في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة؛ فلأن المعصية تفتقر إلى ما يمنع من فعلها. فإذا لم يجب فيها حد ولا كفارة وجب أن يشرع فيها التعزير؛ لتحقق المانع من فعلها. وقال المصنف رحمه الله في المغني: ينبغي أن يتقيد قول أصحابنا في (¬1) وجوبه -يعني في وجوب التعزير- بما نص على التعزير فيه؛ كوطء بهيمة، أو جارية امرأته، أو جارية مشتركة، أو نحو ذلك مما لا بد من التعزير فيه؛ لأنه منصوص على تأديبه. فوجب؛ كالحدود. وما عداه يكون على (¬2) ما رآه الإمام إن رأى (¬3) أن المصلحة فيه وجب عليه وإلا لم يجب عليه؛ لأنه يروى «أن رجلاً أتى النبي ¬

_ (¬1) في أ: يعني في. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في د زيادة: الإمام.

صلى الله عليه وسلم فقال: إني لقيتُ امرأةً فأصبت منها ما دون أن أطأها. فقال: أصليتَ معنا؟ قال: نعم. فتلا عليه: {إن الحسناتِ يُذْهِبْن السيئات} [هود: 114]» (¬1). وروي: «أنه قال في الأنصار: اقبلُوا من محسنهم، وتجاوزُوا عن مُسيئهم» (¬2)، و «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حكم حكمه (¬3) للزبير: أَن كان ابن عمتِكَ. فغضبَ النبي صلى الله عليه وسلم» (¬4) ولم يعزّره على مقالته. وأما قول المصنف رحمه الله: كالاستمتاع إلى آخره؛ فبيان لمواضع وجوب التعزير ونظر (¬5) إلى عموم قوله: في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. فإن قيل: ما الدليل على كون هذه الأشياء معصية؟ قيل: أما الاستمتاع الذي لا يوجب الحد؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله سيئة، ولذلك قال للرجل الذي قال: «لقيتُ امرأةً فأصبتُ منها ما دون أن أطأها: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]» (¬6). وأما إتيان المرأة المرأة؛ فلأن في الحديث: «إذا أتتِ المرأةُ المرأةَ فهما زانيتان». وأما سرقة ما لا يوجب القطع؛ فلأن ذلك داخل في قوله عليه السلام: «لا يحل مالُ امرء مسلمٍ إلا عن طيبِ نفسه» (¬7). وأما الجناية بما لا قصاص فيه؛ فلأنه تعدى على الغير. أشبه الجناية التي فيها القصاص. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (3113) 5: 291 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة هود. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3588) 3: 1383 كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا من محسنهم ... ». وأخرجه مسلم في صحيحه (2510) 4: 1949 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار. (¬3) في أ: حكم به. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2231) 2: 832 كتاب المساقاة، باب سَكْرِ الأنهار. وأخرجه مسلم في صحيحه (2357) 4: 1829 كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم. (¬5) في أ: ونظرا. (¬6) سبق تخريجه قريباً. (¬7) أخرجه أحمد في مسنده (20714) 5: 72. وأخرجه الدارقطني في سننه (92) 3: 26 كتاب البيوع.

فإن قيل: القياس المذكور يقتضي مشروعية القصاص في ذلك أيضاً والتعزير خلافه. قيل: تعذر القصاص [لمعنى يختص به: من عدم انتهائه إلى موضع يقتص منه. وقد نبه على ذلك في مواضعه. فانتفاء القصاص] (¬1) لمعنى يختص به لا يمنع من ثبوت الحرمة لوجهين: أحدهما: أن القصاص يقتضي الإلحاق (¬2) مطلقاً. ترك العمل به في القصاص؛ لما ذكر. فبقي فيما عداه على مقتضاه. والثاني: أن المواضع التي فيها القصاص إنما حرمت الجناية عليها؛ لما فيه من التعدي على الغير، وذلك بعينه موجود فيما لا قصاص فيه. قال: (ومن وطئ أمة امرأته فعليه الحد، إلا أن تكون أحلتها له (¬3) فيجلد مائة. وهل يلحقه نسب ولدها؟ على روايتين. ولا يسقط بالإباحة في غير هذا الموضع). أما كون من وطئ أمة امرأته ولم تكن أحلتها له عليه الحد؛ فلما يأتي من حديث النعمان بن بشير بعد. ولأن وطء في فرج من غير عقد ولا ملك ولا شبهة ملك فوجب الحد؛ كوطء أمة غير زوجته. وأما كونه يجلد مائة إذا أحلتها له؛ فلما روي «أن رجلاً يقال له عبدالرحمن بن حنين (¬4) وقع على جارية امرأته. فرُفعَ إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة. فقال: لأقضينّ فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كانت أحلَّتْها لك جَلدتُك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتُكَ بالحجارة. فوُجدت أحلتها له. فجُلدَ مائة» (¬5). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في د: الإحلاق. (¬3) ساقط من د. (¬4) في الأصول: جبير. وما أثبتناه من سنن أبي داود. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (4458) 4: 157 كتاب الحدود، باب في الرجل يزني بجارية امرأته.

[وأما كونه يلحقه نسب ولدها على روايةٍ؛ فلأنه لا يجب به الحد. أشبه وطء الأمة المشتركة] (¬1). وأما كونه لا يلحقه على روايةٍ؛ فلأنه وطء في غير ملك. أشبه وطء أمة غير زوجته. وأما كون الحد لا يسقط بالإباحة في غير إباحة الزوجة أمتها لزوجها؛ فلأن الوطء حرام لا يباح بالإباحة، ومقتضى ذلك وجوب الحد مطلقاً. تُرك العمل به في إباحة الزوجة أمتها لزوجها؛ لما تقدم من الحديث. فيبقى فيما عدا ذلك على مقتضاه. قال: (ولا يُزاد في التعزير على عشر جلدات في غير هذا الموضع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يجلدُ أحدٌ فوقَ عشرِ جلداتٍ إلا في حد من حدودِ الله» (¬2). وعنه: ما كان سببه الوطء كوطء جاريته المشتركة والمزوجة ونحوه ضرب مائة ويسقط عنه النفي، وكذلك يتخرج فيمن أتى بهيمة. وغير الوطء لا يبلغ به أدنى الحدود). أما (¬3) كون التعزير لا يزاد فيه على عشر جلدات في غير هذا الموضع على المذهب؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من الحديث المتقدم ذكره عن أبي بردة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجلد أحدٌ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدودِ الله» (¬4) متفق عليه. وأما كون ما كان سببه الوطء يضرب فيه مائة على روايةٍ؛ فلأن حديث النعمان بن بشير دل على ضرب المائة فيمن وطئ جارية امرأته بإذنها. فيتعدى إلى وطء أمته المشتركة والمزوجة ونحوه؛ لأنهم في معناها. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) سيأتي تخريجه قريباً. (¬3) في أ: وأما. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (6456 - 6458) 6: 2512 كتاب المحاربين، باب كم التعزيز والأدب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1708) 3: 1332 كتاب الحدود، باب قدر أسواط التعزير.

وأما كون من أتى بهيمة على القول بوجوب التعزير فيه يتخرج فيه مثل ذلك؛ فلأنه وطء. أشبه وطء أمة امرأته. وأما كون غير الوطء لا يبلغ به أدنى الحدود؛ فلأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من بلغَ حداً في غير حدٍ فهو من المعتدين» (¬1). وعن عمر: «أنه كتب إلى أبي موسى: لا تبلغ بالتعزيرِ أدنى الحدود». وقال المصنف رحمه الله في المغني: ما كان سببه الوطء يجلد فيه مائة إلا سوطاً لينقص عن حد الزنى، وفي الحديث عن عمر: «في أمة بين رجلين وطئها أحدهما: يجلد الحدُ إلا سوطاً واحداً» (¬2). رواه الأثرم. قال: (ومن استمنى بيده لغير حاجة عزر. وإن فعله خوفاً من الزنى فلا شيء عليه). أما كون من استمنى بيده (¬3) لغير حاجة يعزر؛ فلأنه فعل محرماً. بدليل أنه وطءٌ منهي عنه من حيث إنه في غير محل الحرث، وفي الأثر: «لعنَ اللهُ ناكِحَ يده». وأما كون من فعل ذلك خوفاً من الزنى لا شيء عليه؛ فلأن ذلك حال ضرورة وحاجة. أشبه نكاح الأمة في حق الحر إذا خاف الزنى وعدم الطَّوْل. وروى عبدالله بن أحمد بإسناده عن ابن زياد عن أبيه قال: «كانوا يفعلونه على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم». والظاهر أنه كان يبلغه ولا ينكره. ولأنه لا يجوز أن يقدم الصحابة على ذلك إلا بإذن. وعن ابن عباس: «أنه سُئل عن ذلك قال: كان المهاجرونَ يفعلونه (¬4) في مغازيهم يستعفونَ به»، وروي عن عكرمة. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 327 كتاب الأشربة، باب ما جاء في التعزير وأنه لا يبلغ به أربعين. (¬2) أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه نحوه عن سعيد بن المسيب (28512) 5: 509 كتاب الحدود، في الجارية تكون بين الرجلين فوقع عليها أحدهما. (¬3) ساقط من د. (¬4) في د: يفعلون.

فإن قيل: الحديث الأول يدل على التحريم مطلقاً، [وفعل الصحابة يدل على الجواز مطلقاً] (¬1). فما وجه التفرقة بين (¬2) خوف الزنى وغيره؟ قيل: يجب حمل الحديث على من فعل ذلك لغير حاجة، وفعل الصحابة على الخوف المذكور؛ لأن فيه جمعاً بين الحديث وفعل الصحابة، وفي المنقول عن الصحابة ما يدل على لحظ ذلك من أن الفعل المنقول كان في المغازي التي هي مظنة الخوف من الزنى؛ لعدم استصحاب الرجل لزوجته في الغزو عادة، ويعضده قول الراوي: «يستعفونَ به»؛ لأن في هذا إشارة إلى ما ذكر. فعلى هذا ظاهر كلام المصنف رحمه الله لا يشترط في الإباحة خوف العنت. وقال أبو الخطاب في رؤوس مسائله: والاستمناء محرم إلا أن يخاف العنت ولا يجد طَوْل حرة ولا أمة. وهو شرط حسن يجب أن يلحظ إلا أن يكون المحتاج إليه له زوجة وهو في موضع لا يتمكن من وطئها؛ كمغازي الصحابة المذكورة. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في أ: من.

باب القطع في السرقة

باب القطع في السرقة الأصل في قطع السارق الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله} [المائدة: 38]. وأما السنة؛ فما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقطعُ الأيدي في ربع دينار فصاعدًا» (¬1). وقال (¬2) النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أهلكَ (¬3) من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرقَ فيهم الشريفَ تركوه، وإذا سرقَ فيهم الضعيفَ قطعوه» (¬4) متفق عليه. قال المصنف رحمه الله: (ولا يجب إلا بسبعة أشياء: أحدها (¬5): السرقة. وهي: أخذ المال على وجه الاختفاء. ولا قطع على منتهب، ولا مختلس، ولا غاصب، ولا خائن، ولا جاحد وديعة ولا عارية. وعنه: يقطع جاحد العارية). أما كون القطع لا يجب إلا بسبعة أشياء؛ فلما يأتي ذكره في مواضعها. وأما كون أحدها السرقة؛ فلأن الله تعالى أوجب القطع على السارق. فإذا لم توجد السرقة لم يكن الفاعل سارقاً. وأما قول المصنف رحمه الله: وهي أخذ المال على وجه الاختفاء؛ فبيان لمعنى السرقة. ومنه: استرق السمع؛ لأنه يستمعه مختفياً. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6407) 6: 2492 كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1684) 3: 1313 كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها. (¬2) في د: فقال. (¬3) في أ: هلك. (¬4) سيأتي تخريجه ص: 296. (¬5) في أ: إحداها.

وأما كون المنتهب لا قطع عليه؛ فلما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسَ على المنتَهِبِ قطع» (¬1). رواه أبو داود. ولأن الواجب قطع السارق، والمنتهب ليس بسارق. وأما كون المختلس لا قطع عليه؛ فلأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليسَ على الخائنِ قطعٌ، ولا على المختلِس قطع» (¬2). رواه أبو داود. وأما كون الغاصب لا قطع عليه؛ فلأنه إذا لم يجب على المختلس والخائن. فلأن لا يجب على الغاصب بطريق الأولى (¬3). وأما كون جاحد الوديعة لا قطع عليه؛ فلأنه إذا لم يجب على الغاصب. فلأن لا يجب على جاحد الوديعة بطريق الأولى. وأما كون جاحد العارية لا قطع عليه على روايةٍ؛ فلأنه خائن. فلم يجب قطعه؛ لما تقدم من الحديث. وأما كونه يقطع على روايةٍ؛ فلما روي عن عائشة «أن امرأة كانت تستعيرُ المتاعَ وتجحده. فأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. فأتى أهلها أسامة فكلموهُ [فكلمَ النبي صلى الله عليه وسلم] (¬4). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هلكَ من كان قبلكم بأنهم إذا سرقَ فيهم الشريفَ تركوهُ، والضعيفَ قطعوهُ. والذي نفسي بيده لو كانتْ فاطمةُ بنت محمد سرقت (¬5) لقطعتُ يدها. قالت: فقُطعت يدها» (¬6) متفق عليه. والأولى أصح؛ لما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4391) 4: 138 كتاب الحدود، باب القطع في الخلسة والخيانة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4393) الموضع السابق. وأخرجه الترمذي في جامعه (1448) 4: 52 كتاب الحدود، باب ما جاء في الخائن والمختلس والمنتهب. (¬3) في د: لا قطع عليه فلما تقدم في حديث أبي داود. (¬4) ساقط من د. (¬5) ساقط من أ. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (3288) 3: 1282 كتاب أحاديث الأنبياء، باب {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1688) 3: 1316 كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود.

والمرأة المذكورة في حديث عائشة: المخزومية وهي سارقة؛ لما روي عن عائشة «أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت ... وذكرت القصة» (¬1). رواه البخاري. فإن قيل: يحتمل أن تكون القصة مختلفة. قيل: يجب أن تكون هي هي؛ لأن في ذلك جمعاً بين الأحاديث، وموافقة لظاهر الكتاب. قال: (ويقطع الطرَّار. وهو: الذي يبط الجيب وغيره ويأخذ منه. وعنه: لا يقطع). أما كون الطرّار يقطع على المذهب؛ فلأنه أخذ مال غيره على وجه الاختفاء. أشبه السارق. وأما كونه لا يقطع على روايةٍ؛ فلأنه لا يسمى سارقاً ولا هو في معنى السارق من حيث إنه يأخذه من غير حرز، وإذا كان كذلك وجب إلحاقه بالخائن. ¬

_ (¬1) ر تخريج الحديث السابق.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: أن يكون المسروق مالاً محترماً. سواء كان مما يسرع إليه الفساد كالفاكهة والبطيخ أو لا. وسواء كان ثميناً كالمتاع والذهب، أو غير ثمين كالخشب والقصب). أما كون الثاني من شروط القطع في السرقة: أن يكون المسروق مالاً محترماً: أما اشتراط كونه مالاً؛ فلأن ما ليس بمال لا حرمة له. فلم يجب به قطع. ولأن الأحاديث الدالة على وجوبه من قوله صلى الله عليه وسلم: «تقطعُ اليدُ في ربع دينار فصاعداً» (¬1) وغير ذلك مشتملة على أخذ المال. فإذا لم يكن المسروق مالاً لم يكن ذلك دالاً على القطع بطريق اللفظ ولا بطريق المعنى. أما عدم دلالته بطريق اللفظ؛ فلأن اللفظ لا يشمل ذلك. وأما عدم دلالته بطريق المعنى؛ فلأن غير المال لا يساوي المال. فلا يصح إلحاقه به. فإن قيل: الأحاديث إذا كانت مشتملة على المال فالآية المذكورة ليست مشتملة على ذلك؛ لأنه قال سبحانه: {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] من غير تعرض لكون المسروق مالاً أو غير مال. قيل: الآية مطلقة والأحاديث مقيدة، والمطلق يجب حمله على المقيد. فعلى هذا لا يقطع بسرقة الكلب وإن كان معلماً؛ لأنه ليس بمال، ولا بسرقة الحر؛ لأنه ليس بمال. وعلى هذا فقس. وأما اشتراط كون المسروق محترماً؛ فلأن المال إذا لم يكن محترماً كمال الحربي تجوز سرقته وأخذه بكل وجه، وجواز الأخذ ينفي وجوب القطع. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 302.

وأما كون ما يسرع إليه الفساد وما لا يسرع إليه سواء في وجوب القطع؛ فلأن قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]: يشملهما. وفي الحديث «أن عثمان (¬1) رضي الله عنه أُتي برجل قد سرقَ أُترُجّة فأمرَ بها عثمان (¬2) فقوّمت فبلغت قيمتُها ربعَ دينار فأمرَ به فقُطع» (¬3). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سُئلَ عن الثمر المعلَّق. فقال: لا قطعَ في ثمرٍ ولا كَثَرٍ. ثم قال: ومن سرقَ منه شيئاً بعد أن يُؤويهُ الجرينُ فبلغَ ثمنَ المِجَنّ فعليهِ القطع» (¬4). رواه أبو داود. ولأن ما يسرع إليه الفساد نوع مال. فجاز أن يتعلق به القطع؛ كالذي يمكن تجفيفه. وأما كون ما كان ثميناً أو غير ثمين (¬5) سواء في وجوب القطع؛ فلأن الآية المتقدم ذكرها تشملهما. ولأن المعتبر قيمة ثلاثة دراهم أو ربع دينار، وذلك موجود في الثمين وغيره. قال: (ويقطع بسرقة العبد الصغير. ولا يقطع بسرقة حر وإن كان صغيراً. وعنه: يقطع بسرقة الصغير، فإن قلنا لا يقطع فسرقه وعليه حلي فهل يقطع؟ على وجهين). أما كون سرقة العبد الصغير يقطع فيها؛ فلأنه مملوك. فوجب القطع بسرقته؛ كسائر الحيوانات المملوكة. ¬

_ (¬1) في أ: عمر. (¬2) في أ: عمر. (¬3) أخرجه مالك في الموطأ (23) 2: 634 كتاب الحدود، باب ما يجب فيه القطع. (¬4) أدخل المصنف حديثي رافع بن خديج وعمرو بن شعيب في بعضهما. أما الأول: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا قطع في ثمر ولا كثر» فقد أخرجه أبو داود في سننه (4388) 4: 136 كتاب الحدود، باب ما لا قطع فيه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2593) 2: 865 كتاب الحدود، باب لا يقطع في ثمر ولا كثر. وأما حديث عمرو بن شعيب ولفظه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن الثمر المعلَّق فقال: ... ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع» وقد أخرجه أبو داود في الموضع السابق (4390) 4: 137. (¬5) في د: ثميناً.

والمراد بالصغير هنا غير المميز؛ لأن مثل هذا (¬1) لا يفهم ولا يميز بين سيده وغيره. وفي تقييد القطع بكون العبد صغيراً إشعار بأن سرقة العبد الكبير لا يقطع بها وهو صحيح؛ لأن العبد إذا كان كبيراً لا يمكن سرقته؛ لأنه له اختيار وإرادة. فإذا طلب غير سيده أخذه لا يمكنه ذلك إلا باختياره. فلم يكن الأخذ المذكور سرقة؛ كما لو هرب بنفسه من غير أن يأخذه أحد (¬2) معه. وأما كون سرقة الحر الكبير لا يقطع بها؛ فلأنه ليس بمال، ومن شرطه كون المسروق مالاً. ولأن الكبير لا يمكن سرقته. ولأنه لم يجب القطع بسرقة العبد الكبير. فلأن لا تجب بسرقة الحر الكبير بطريق الأولى. وأما كون سرقة الحر الصغير لا يقطع بها على المذهب؛ فلما تقدم من أنه ليس بمال. أشبه الحر الكبير. وأما كونه (¬3) يقطع بها على روايةٍ؛ فلأنه مسروق يتبع آخذه. أشبه المال والبهيمة. وبهذا فارق الحر الكبير فإنه لا يتبع أحداً إلا باختياره وإرادته. وأما كون من سرق الحر الصغير وعليه الحلي يقطع على وجه إذا قيل لا يقطع؛ فلأنه سرق نصاباً من الحلي. فوجب القطع؛ كما لو سرقه منفرداً. ولأن سارق ذلك سارق. فيدخل في عموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا} [المائدة: 38]. وأما كونه لا يقطع على وجه؛ فلأنه تابع لما لا يجب القطع بسرقته. أشبه ثيابه. ولأن يد الصبي على ما عليه. بدليل أن ما يوجد مع اللقيط يكون له، وإذا كانت يد الصبي على حليه وجب كونه تبعاً، وإذا كان تبعاً لم يقطع؛ كالمتبوع. ¬

_ (¬1) في أ: ذلك. (¬2) في أ: يأخذ أحداً. (¬3) في أ: كونها.

قال: (ولا يقطع بسرقة مصحف. وعند أبي الخطاب يقطع، ويقطع بسرقة سائر كتب العلم) (¬1). أما كون سرقة المصحف لا يقطع بها وهو قول أبي بكر والقاضي؛ فلأن المقصود منه كلام الله، وهو مما لا يجوز أخذ العوض عنه. وأما كونها يقطع بها عند أبي الخطاب؛ فلظاهر قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]. وأما كون سرقة سائر كتب العلم يقطع بها؛ فلأن ذلك مال حقيقة وشرعاً. قال: (ولا يقطع بسرقة آلة لهو ولا محرم؛ كالخمر. وإن سرق آنية فيها الخمر، أو صليباً، أو صنم ذهب لم يقطع، وعند أبي الخطاب يقطع). أما كون سرقة آلة اللهو والمحرم؛ كالخمر لا يقطع بها؛ فلأنه له سلطان على ذلك لإباحة الشرع كسر آلة اللهو وإزالة المحرم. فكان ذلك شبهة مانعة من القطع. وأما كون من سرق آنية فيها الخمر لا يقطع عند غير أبي الخطاب؛ فلأنه اتصل بما لا قطع فيه. أشبه ما لو سرق مشتركاً بينه وبين غيره بحيث تبلغ قيمة نصيب شريكه نصاباً. وأما كونه يقطع عند أبي الخطاب؛ فلأنه نصاب سُرق من حرزه لا شبهة فيه (¬2). فوجب القطع فيه؛ كما لو سرقه فارغاً. وأما كون من سرق صليباً أو صنماً من ذهب لا يقطع وهو قول القاضي، ويقطع عند أبي الخطاب؛ فلما تقدم في سرقة آلة اللهو. ¬

_ (¬1) في أ: بسرقة كتب سائر العلوم. (¬2) ساقط من د.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يسرق نصاباً وهو ثلاثة دراهم، أو قيمة ذلك من الذهب والعروض. وعنه: أنها ثلاثة دراهم (¬1) أو ربع دينار أو ما يبلغ قيمة أحدهما من غيرهما. وعنه: لا تقوّم العروض إلا بالدراهم). أما كون الثالث من شروط القطع في السرقة [أن يسرق] (¬2) نصاباً؛ فلأنه إجماع الصحابة. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا قطعَ إلا في ربع دينار فصاعدا» (¬3). فإن قيل: قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]، وقوله عليه السلام: «لعنَ اللهُ السارقَ يسرقُ الحبلَ فتقطعُ يده، ويسرقُ البيضةَ فتقطعُ يده» (¬4) يدلان على (¬5) وجوب القطع في القليل والكثير. قيل: ما تقدم من الإجماع والأحاديث يخص عموم الآية. وأما الحديث المذكور فيجب حمله على حبل أو بيضة تبلغ قيمة كل واحد منهما نصاباً؛ لأنه مطلق. وحديث النصاب مقيد والمطلق يحمل على المقيد. فإن قيل: حمل الحبل على حبل قيمته نصاب ليس ببعيد، أما حمل البيضة على ذلك ففي غاية البُعد. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) مثل السابق. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1684) 3: 1312 كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (6414) 6: 2493 كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1687) 3: 1314، الموضع السابق. (¬5) في د: لأن.

قيل: لا يبعد ذلك كثيراً؛ لأن كثيراً من بيض النعام يساوي ذلك. فيجب أن يحمل الحديث عليه؛ لما فيه من الجمع الذي هو أولى من ترك أحد الحديثين. وأما كون النصاب (¬1) ثلاثة دراهم؛ فلأن غيرها يقوم بها؛ لما يأتي. فلأن يقطع بها نفسها بطريق الأولى. وأما كونه قيمة ذلك من الذهب والعروض؛ فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعَ في مِجَنّ قيمة ثمنه ثلاثة دراهم» (¬2) متفق عليه. وأما كونه ثلاثة دراهم أو ربع دينار، أو قيمة أحدهما من غيرهما على روايةٍ: أما كونه ثلاثة دراهم؛ فلما تقدم. وأما كونه ربع دينار؛ [فلما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقطعُ اليدُ في ربعِ دينار] (¬3) فصاعدًا» (¬4). وأما كونه قيمة أحدهما من غيرهما: أما كونه يقوّم بثلاثة دراهم؛ فلما تقدم في حديث ابن عمر. وأما كونه يقوّم بالذهب؛ فلأن ما كان الورق فيه أصلاً كان الذهب فيه أصلاً كنصُبِ الزكوات والديات وقيم المتلفات، و «أُتي عثمان رضي الله عنه برجلٍ قد سرق أُترُجّة فأمرَ بها فقوّمت فبلغتْ قيمتُها ربع دينار. فأمر به فقُطع» (¬5). وأما كونه ثلاثة دراهم أو ربع دينار، أو قيمة ثلاثة دراهم على روايةٍ: أما كونه ثلاثة دراهم أو ربع دينار؛ فلما تقدم. وأما كونه قيمته ثلاثة دراهم فقط؛ فلأن المجنّ قوّم بها لا بالذهب. ¬

_ (¬1) في أ: وأما كون النصاب ثلاثة دراهم أو قيمة ذلك من الذهب والعروض على رواية أما كونه ... (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6413) 6: 2493 كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1687) 3: 1314 كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها. (¬3) ساقط من د. (¬4) سبق تخريجه ص: 294. (¬5) سبق تخريجه ص: 298.

قال: (وإذا سرق نصاباً ثم نقصت قيمته، أو مَلَكه ببيع أو هبة أو غيرها: لم يسقط القطع). أما كون القطع إذا نقصت قيمة المسروق بعد إخراجه من الحرز لا يسقط؛ فلأن النقصان المذكور حدث في العين بعد استحقاق القطع. أشبه ما لو نقص باستعماله. ولأن النصاب شرط للوجوب. فلم يشترط استدامته؛ كالحرز. وأما كونه إذا ملك السارق ذلك ببيع أو هبة أو غير ذلك لا يسقط؛ فلما روي «أن صفوان بن أمية نام في المسجد فتوسد ردائه فأُخذ من تحت رأسه. فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأمر به أن يقطع. فقال صفوان: يا رسول الله! لم أُرد هذا. ردائي عليه صدقة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا كانَ هذا قبلَ أن تأتيني به» (¬1). رواه ابن ماجة. وفي لفظ: «فأتيتُه. فقال: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا. أنا أبيعُه وأنسئه ثمنه. فقال: هلا كان قبلَ أن تأتيني به» (¬2). رواه الأثرم وأبو داود (¬3). فإن قيل: الحديث المذكور يدل على أن السقوط بعد الرفع، وكلام المصنف رحمه الله مطلق. قيل: في كلامه ما يشعر بالرفع؛ لأنه قال: لم يسقط، والسقوط يستدعي وجوب القطع. ومن شرط وجوب القطع: مطالبة المالك، وذلك يعتمد الرفع إلى الحاكم. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2595) 2: 865 كتاب الحدود، باب من سرق من الحرز. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4394) 4: 138 كتاب الحدود، باب من سرق من حرز. (¬3) في أ: رواه أبو داود.

قال: (وإن دخل الحرز فذبح شاة قيمتها نصاب فنقصت عن النصاب ثم أخرجها لم يقطع. وإن سرق فَرْدَ (¬1) خف قيمته منفرداً درهمان (¬2) وقيمته (¬3) مع الآخر أربعة لم يقطع). أما كون من دخل الحرز فذبح شاة قيمتها نصاب فنقصت عنه ثم أخرجها لا يقطع؛ فلأن قيمتها حين الإخراج لم تبلغ نصاباً. وأما كون من سرق فَرْدَ خف موصوف بما ذكر لا يقطع؛ فلأن العبرة بالمسروق حال السرقة وقيمته حينئذ أقل من النصاب. فلم يقطع سارقه؛ لانتفاء شرط وجوب القطع. قال: (وإن اشترك جماعة في سرقة نصاب قطعوا سواء أخرجوه جملة أو أخرج كل واحد جزءاً). أما كون الجماعة إذا اشتركوا في سرقة نصاب يقطعون؛ فلأن سرقة النصاب فعل يوجب قطع اليد. فاستوى الواحد والجماعة في ذلك؛ كالقصاص. ولأن النصاب أحد شرطي القطع. فإذا اشترك الجماعة كانوا كالواحد؛ كهتك الحرز. وأما كونهم يقطعون سواء أخرجوه جملة أو أخرج كل واحد جزءاً؛ فلأن الاشتراك كالانفراد. ولو أخرج شخص نصاباً دفعة واحدة أو في دفعتين في حالة واحدة يقطع. فكذلك هاهنا. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: درهماً. (¬3) في د: وقيمته وحده.

قال: (وإن هتك اثنان حرزاً ودخلاه فأخرج أحدهما نصاباً وحده، أو دخل أحدهما فقدمه إلى باب النقب وأدخل الآخر يده فأخرجه: قطعا. وإن رماه الداخل إلى خارج فأخذه الآخر فالقطع على الداخل وحده. وإن نقب أحدهما ودخل الآخر فأخرجه: فلا قطع عليهما. ويحتمل أن يقطعا إلا أن ينقب أحدهما ويذهب فيأتي الآخر من غير علم فيسرق فلا قطع). أما كون الاثنين إذا اشتركا في الهتك والدخول وانفرد أحدهما بإخراج النصاب يُقطعان؛ فلأن المخرج إنما أخذ بقوة رقيقه. أشبه ما لو اشتركا في الإخراج. وأما كونهما إذا هتكا الحرز ودخل أحدهما فقدم المسروقَ من النقب وأدخل الآخر يده فأخذه يقطعان؛ فلأنهما اشتركا في الهتك والإخراج. أشبه ما لو أخرجاه معاً. وأما كون الداخل يقطع وحده إذا رماه إلى خارج فأخذه؛ فلأنه هو المُخرج للمتاع وحده فاختص القطع به. فإن قيل: فقد اشتركا في الهتك. قيل: شرط القطع الاشتراك في الهتك والإخراج، ولم يوجد الاشتراك في الإخراج فانتفى القطع؛ لانتفاء شرطه. وأما كونهما إذا نقب أحدهما ودخل الآخر فأخرجه لا قطع عليهما على المذهب: أما (¬1) على الذي نقب؛ فلأنه لم يسرق. وأما على الذي أخرج؛ فلأنه لم يسرق من حرز هتكه. وأما كونهما يحتمل أن يقطعا إذا لم ينقب أحدهما ويذهب فيأتي الآخر من غير علم فيسرق؛ فلأن فعل كل واحدٍ منهما إنما وقع بقوة الآخر. أشبه ما لو اشتركا في النقب والإخراج. وأما كونهما إذا نقب أحدهما وذهب وأتى الآخر فسرق من غير علم لا قطع عليهما من غير احتمال: أما كونه لا قطع؛ فلما تقدم. ¬

_ (¬1) في أ: أنها.

وأما كونه من غير احتمال؛ فلأن احتمال القطع إنما كان لكون فعليهما ينزلا منزلة الفعل المشترك، ولا يمكن ذلك في هذه الصورة. وإذا كان كذلك لزم انتفاء الاحتمال؛ لانتفاء علته.

فصل [الشرط الرابع] قال المصنف رحمه الله: (الرابع: أن يُخرجه من الحرز. فإن سرق من غير حرز، أو دخل الحرز فأتلفه فيه: فلا قطع عليه). أما كون الرابع من شروط القطع أن يُخرج المسروق من الحرز؛ فلأنه إجماع أهل العلم إلا من شذ، وروي عن عمرو بن شعيب [عن أبيه] (¬1) عن جده «أن رجلاً من (¬2) مُزينةَ سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمار. فقال: ما أُخذ في أكمامِه فاحتُمل ففيه (¬3) قيمته ومثله معه، وما (¬4) كان في الجران ففيه القطع إذا بلغَ ثمنَ المجن» (¬5). رواه أبو داود وابن ماجة. وأما كون من سرق من غير حرز، أو دخل الحرز فأتلف المسروق فيه لا قطع عليه؛ فلأن الإخراج من الحرز شرط لوجوب القطع، وهو منتفٍ هاهنا. قال: (وإن ابتلع جوهراً أو ذهباً وخرج به، أو نقب ودخل فترك المتاع على بهيمة فخرجت به، أو في ماء جار فأخرجه، أو قال لصغير أو معتوه: ادخل فأخرجه ففعل: فعليه القطع). أما كون من ابتلع جوهراً أو ذهباً في الحرز وخرج به عليه القطع؛ فلأن آخذه أخرجه في معدته. أشبه ما لو أخرجه في كمه. وكلام المصنف رحمه الله شامل ما إذا خرج الجوهر والذهب منه أو لم يخرج. وقال في المغني: إن لم يخرج فلا قطع وإن خرج ففيه وجهان: ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) مثل السابق. (¬3) ساقط من أ. (¬4) في د: وأما ما. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (4390) 4: 137 كتاب الحدود، باب ما لا قطع فيه. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2596) 2: 865 كتاب الحدود، باب من سرق من الحرز.

أحدهما: يجب؛ لأنه أخرجه في وعاء. أشبه ما لو أخرجه في كمه. والثاني: لا يجب؛ لأنه ضمنه بالبلع. فكان إتلافاً لا سرقه (¬1). ولأنه مكره على إخراجه لا يمكنه أن يخرج (¬2) دونه. وأما كون من نقب ودخل فترك المسروق على بهيمة فخرجت به أو في ماء جار فأخرجه عليه القطع؛ فلأن العادة مشي البهيمة بما وضع عليها والماء الجاري بما وضع فيه. فكان السارق هو المخرج. وأما كون من قال لصغير أو معتوه: ادخل فأخرجه ففعل عليه القطع؛ فلأن الصغير والمعتوه لا اختيار لهما. فهما كالآلة له. ولو أمرهما شخص بالقتل يُقتل الآمر. قال: (وحرز المال ما جرت العادة بحفظه فيه، ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه). أما كون حرز المال ما جرت العادة بحفظه فيه؛ فلأن الشرع ورد بالحرز ولم يضبطه ضابط. فوجب الرجوع فيه إلى العادة؛ كالقبض. وأما كون ذلك يختلف باختلاف ما ذكر؛ لأنه العادة. قال: (فحرز الأثمان والجواهر والقُماش في الدور والدكاكين في العمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة، وحرز البقل والباقلاء ونحوه وقدوره وراء الشرائج (¬3) إذا كان في السوق حارسٌ، وحرز الخشب والحطب الحظائر، وحرز المواشي الصير وحرزها في المرعى بالراعي ونظره إليها، وحرز حمولة الإبل بتقطيرها وقائدها وسائقها إذا كان يراها، وحرز الثياب في الحمام بالحافظ، وحرز الكفن في القبر على الميت فلو نبش قبراً وأخذ الكفن قطع، وحرز الباب تركيبه في موضعه فلو سرق رتاج الكعبة أو باب مسجد أو تأزيزه قطع). أما كون حرز الأموال؛ فلأن العادة في حرز ذلك بذلك. ¬

_ (¬1) في د: لسرقة. (¬2) في د: ولأنه مكره على إخراجه أن يخرجه. (¬3) في أ: الشرج.

وأما كون من نبش قبراً وأخذ الكفن الذي فيه يقطع؛ فلأنه سرق مالاً محترماً في حرز. فوجب القطع به؛ كسرقة الذهب من الدكاكين الذي وراء الأغلاق. وأما كون من سرق رتاج الكعبة يقطع؛ فلأن تركيبه في موضعه حرز له. أشبه سرقة الكفن من القبر. وأما كون من سرق باب مسجد أو تأزيزه يقطع؛ فلأنه سرق مالاً محترماً من (¬1) حرز. أشبه غيره من المحرزات. قال: (ولا يقطع بسرقة ستائرها. وقال القاضي: يقطع بسرقة المخيطة (¬2) عليها). أما كون سرقة ستارة الكعبة غير المخيطة لا يقطع بها؛ فلأنها غير محرزة. وأما كون سرقة ستارتها المخيطة عليها لا يقطع بها على قول القاضي؛ [فبالقياس على غير المخيطة. وأما كونها يقطع بها على قول القاضي] (¬3)؛ فلأن خياطتها حرز مثلها في العادة. قال: (وإن سرق قناديل المسجد أو حُصْرَهُ فعلى وجهين). أما كون من سرق ما ذكر يقطع على وجه؛ فلأنه محرز بحرز مثله. وأما كونه لا يقطع على وجه؛ فلأن له فيه حقاً وشبهة. أشبهت السرقة من بيت المال. قال: (وإن نام إنسان على ردائه في المسجد فسرقه سارق قطع. وإن مال رأسه عنه لم يقطع بسرقته). أما كون من سرق رداء إنسان نام عليه في المسجد يقطع؛ فـ «لأن صفوان بن أمية نامَ في المسجد وتوسَّدَ رداءهُ فأُخذ من تحت رأسه. فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأمر به أن يقطع ... مختصر» (¬4). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في أ: في. (¬2) في أ: المخيط. (¬3) ساقط من د. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4394) 4: 138 كتاب الحدود، باب من سرق من حرز.

وأما كونه لا يقطع إذا سرقه وقد مال رأسه عنه؛ فلأن حرزه كون رأس النائم عليه، وهو مفقود هاهنا. قال: (وإن سرق من السوق غزلاً وثم حافظ قطع، وإلا فلا). أما كون من سرق ما ذكر يقطع إذا كان حافظ؛ فلأنه في حرز مثله. فوجب القطع؛ كسارق ما يسرق من حرز. وأما كونه لا يقطع إذا لم يكن ثمَّ حافظ؛ فلأنه مال غير محرز. فلم يجب القطع؛ كسائر ما سرق من غير حرز. قال: (ومن سرق من النخل والشجر من غير حرز فلا قطع عليه، ويضمن عوضها مرتين. وقال أبو بكر: ما كان حرزاً لمال فهو حرز لمال آخر). أما كون من سرق ما ذكر لا قطع عليه؛ فلما روى رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا قطعَ في ثمرٍ ولا كَثَر» (¬1) أخرجه أبو داود وابن ماجة. وأما كونه يضمن عوض ذلك مرتين؛ فلأن في حديث عمرو بن شعيب: «ومن خرجَ بشيء منه -يعني من الثمرِ المعلق- فعليه غرامةُ مثليه» (¬2). رواه الأثرم. وأما كون (¬3) ما كان حرزاً لمال فهو حرز لمال آخر على قول أبي بكر؛ فلأن الشرع ورد من غير تفصيل. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 298. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1710) 2: 136 كتاب اللقطة، باب في الشح. وأخرجه النسائي في سننه (4958) 8: 85 كتاب قطع السارق تعظيم السرقة، الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين. وأخرجه أحمد في مسنده (6746) 2: 186. (¬3) في أ: كونه.

والأُولى -أي أن الأحراز تختلف (¬1) بما تقدم ذكره- أولى؛ لما تقدم. وعدم ورود الشرع فيه بتفصيل لا يلزم عدم الرجوع إلى العرف فيه. دليله القبض. ¬

_ (¬1) في أ: والأول أولى أي أن الأحراز لا تلف.

فصل [الشرط الخامس] قال المصنف رحمه الله: (الخامس: انتفاء الشبهة. فلا يُقطع بالسرقة من مال ابنه وإن سفل، ولا الولد من مال أبيه وإن علا. والأب والأم في هذا سواء، ولا العبد بالسرقة من سيده، ولا مسلم بالسرقة من بيت المال، ولا من مال له فيه شركة، أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه). أما كون الخامس من شروط القطع انتفاء الشبهة؛ فلأن القطع حد. فيدرأ بالشبهة. وأما كون الأب لا يقطع بالسرقة من مال ابنه وإن سفل؛ فلأن له فيه شبهة لقوله عليه السلام: «أنتَ ومالكَ لأبيك» (¬1). ولأنه أخذ ما له أخذه؛ لأن في الحديث: «كلُوا من كسبِ أولادِكم» (¬2). ولأن الحد يدرأ بالشبهات، وأعظم الشبهات أخذُ ما أمر الشرع بأخذه. وأما كون الولد لا يقطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا؛ فلأن بينهما قرابة تمنع شهادة أحدهما للآخر (¬3). فلم يقطع بالسرقة من ماله؛ كالأب. ولأن النفقة تجب للابن في مال أبيه حفظاً له. فلا يجوز إتلافه حفظاً للمال. وأما كون الأب والأم سواء؛ فلأنها أولى من الأب بالبر، وإذا لم تكن أولى منه في عدم القطع فلا أقل من المساواة. وأما كون العبد لا يقطع بالسرقة من مال سيده؛ فلما روى السائب بن يزيد قال: «شهدتُ عمر بن الخطاب وقد جاءه عبدالله بن عمرو الحضرمي (¬4) بغلامٍ له. فقال: إن غلامي هذا قد سرقَ فاقطع يده. فقال عمر: ما سرقَ؟ فقال: مرآة امرأتي ثمنها ستون درهماً. فقال: أرسله. لا قطعَ عليه. خادمكمْ أخذَ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 246. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3530) 3: 289 كتاب البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده. (¬3) في أ: أحد لصاحبه. (¬4) في أ: ابن الحضرمي.

مالكم، ولكنه لو سرقَ من غيرها قُطع» (¬1). وكان ذلك (¬2) بمحضر من الصحابة فيكون إجماعاً. وعن ابن مسعود «أن رجلاً جاءه فقال: عبدي قد سرق قَباء لعبدٍ لي آخر. فقال: لا قطع. مالك سرقَ مالك» (¬3). وأما كون المسلم لا يقطع بالسرقة من بيت المال؛ فـ «لأن عمر قال لابن مسعود لما سأله عمن سرقَ من بيت المال: أرسله فما من أحدٍ إلا وله في هذا المال حق» (¬4). ولأن له فيه حقاً. فيكون ذلك شبهة يدرأ بها الحد. وأما كونه لا يقطع بالسرقة من مال له فيه شركة كالمال المشترك بينه وبين شريكه؛ فلأنه إذا لم يقطع الأب بسرقة مال ابنه لكونه له فيه شبهة. فلأن لا يقطع الشخص بسرقة مال له فيه شركة بطريق الأولى. وأما كونه لا يقطع بالسرقة من مال لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه فيه شركة كأبيه وابنه ونحو ذلك (¬5)؛ فلأن له (¬6) فيه شبهة لكون أبيه أو ابنه أو من جرى مجراه له فيه شركة. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (311) 3: 188 كتاب الحدود والديات. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (28559) 5: 514 كتاب الحدود، في العبد يسرق من مولاه ما عليه؟ وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 281 كتاب السرقة، باب العبد يسرق من مال امرأة سيده. (¬2) ساقط من أ. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (28560) الموضع السابق. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 281 كتاب السرقة، باب العبد يسرق من متاع سيده. (¬4) أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه نحوه (28554) 5: 513 كتاب الحدود، في الرجل يسرق من بيت المال ما عليه؟ (¬5) في أ: أو ابنه أو نحو ذلك. (¬6) ساقط من أ.

قال: (ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع. وهل يقطع أحد الزوجين بالسرقة من مال الآخر المحرز عنه؟ على روايتين). أما كون من سرق من الغنيمة ممن له حق أو (¬1) لولده أو لسيده؛ فلأن له في المال المسروق حقاً أو شبهة حق، وكلاهما يمنع الحد؛ لما تقدم. وأما كون أحد الزوجين لا يقطع بسرقة مال الآخر المحرز عنه على روايةٍ؛ فلأن كل واحد [من الزوجين يرث صاحبه بغير حجب. أشبه الولد والوالد. ولأن كل واحد] (¬2) منهما ينبسط في مال صاحبه عادة. أشبه الشريكين. وأما كونه يقطع على روايةٍ؛ فلعموم الآية. ولأنه سرق مالاً محرزاً لا شبهة له فيه. أشبه الأجنبي. وفي تقييد المال المسروق بكونه محرزاً عنه: احتراز من سرقة ما ليس محرزاً عن أحدهما فإن ذلك لا يقطع به أحد الزوجين رواية واحدة؛ لأن وجوب القطع شرطه: كون المسروق في حرز ولم يوجد. قال: (ويقطع سائر الأقارب بالسرقة من مال أقاربهم، ويقطع المسلم بالسرقة من مال الذمي والمستأمن، ويقطعان بسرقة ماله). أما كون سائر الأقارب يقطع بالسرقة من مال أقاربهم؛ فلأن القرابة هنا لا تمنع قبول الشهادة. فلا تمنع القطع. ولأن الآية والأخبار تعُم كل سارق. خرج منه ما تقدم ذكره؛ للأدلة المذكورة. فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما كون المسلم يقطع بالسرقة من مال الذمي؛ فلأن ماله صار معصوماً بالجزية. فوجب القطع بسرقته؛ كمال المسلم. وأما كونه يقطع بالسرقة من مال المستأمن؛ فلأن ماله مثل مال (¬3) الذمي. دليله وجوب الضمان بإتلافهما. ¬

_ (¬1) في د: له فيها أو. (¬2) ساقط من د. (¬3) في أ: بمنزلة.

وأما كون الذمي والمستأمن يقطعان بسرقة مال المسلم؛ فلأنه إذا قطع المسلم بسرقة مالهم. فلأن يقطعوا بسرقة ماله بطريق الأولى. قال: (ومن سرق عيناً وادعى أنها ملكه لم يقطع. وعنه: يقطع. وعنه: لا يقطع إلا أن يكون معروفاً بالسرقة). أما كون من ذكر لا يقطع على روايةٍ؛ فلأن ما ادعاه محتمل. فيكون شبهة في درء الحد. وأما كونه يقطع على روايةٍ؛ فلأن سقوط القطع بدعواه يقتضي (¬1) أن لا يجب قطع سارق. فتفوت مصلحة الزجر. وأما كونه لا يقطع إلا أن يكون معروفاً بالسرقة على روايةٍ؛ فلأن غير المعروف بذلك لا يعلم كذبه. بخلاف المعروف به. قال المصنف في المغني: والأولى (¬2) أولى؛ لأن الحد يدرأ بالشبهات، وإفضاؤه (¬3) إلى سقوط الحد لا يمنع اعتبارها. قال: (وإذا سرق المسروق منه مال السارق أو المغصوب منه مال الغاصب من الحرز الذي فيه العين المسروقة أو المغصوبة: لم يقطع. وإن سرق من غير ذلك الحرز أو سرق من مال من له عليه دين قطع؛ إلا أن يعجز عن أخذه فيسرق قدر حقه فلا يقطع. وقال القاضي: يقطع). أما كون المسروق منه أو المغصوب منه (¬4) إذا سرق مال السارق أو الغاصب من الحرز الذي فيه العين المسروقة أو المغصوبة لا يقطع؛ فلأن لكل واحد منهما شبهة في هتك الحرز من أجل أخذ ماله فإذا هتك الحرز صار كأنّ المال المسروق منه أُخذ من غير حرز. ¬

_ (¬1) في أزيادة: إلى. (¬2) في أ: الأولى. (¬3) في د: وإفضاؤها. (¬4) ساقط من أ.

وأما كون من سرق من غير ذلك الحرز الذي فيه المال المسروق أو المغصوب يقطع؛ فلأنه لا شبهة له في هتك الحرز المذكور. فوجب القطع؛ لأن المسروق مال لا شبهة له فيه. وأما كون من سرق من مال من له عليه دين وهو قادر على أخذ حقه يقطع؛ فلأنه مال لا شبهة له فيه. وأما كونه إذا فعل وهو يعجز عن أخذ حقه لا يقطع على قول غير القاضي؛ فلأن بعض أهل العلم يبيح له ذلك. فيكون الاختلاف في إباحة الأخذ شبهة دارئة للحد؛ كالوطء في نكاح مختلف في صحته. وأما كونه يقطع على قول القاضي؛ فلأن مِن أَصْله أنه ليس له أخذه. قال المصنف رحمه الله في المغني: وهذا يعني تعليل القاضي لا يمنع الشبهة الناشئة عن الاختلاف. فإن قيل: من يعجز عن أخذ حقه إذا سرق أكثر منه. قيل: إن قيل لا يقطع بسرقة قدر حقه هل يقطع هنا؟ فيه وجهان. توجيههما ما ذكر في سرقة المغصوب منه مال الغاصب من الحرز الذي فيه العين المغصوبة، وإن قيل: يقطع فيقطع هنا؛ لأن (¬1) الزائد لا شبهة له فيه. قال: (ومن قطع بسرقة عين ثم عاد فسرقها قطع. ومن أجّرَ داره، أو أعارها ثم سرق منها مال المستعير أو المستأجر قُطع). أما كون القطع يتكرر بسرقة العين الواحدة؛ فلأنه فعل ثانياً مثل ما فعل أولاً. فوجب أن يجب عليه ثانياً مثل ما وجب عليه أولاً؛ كما لو زنى فحد ثم زنى. فإن قيل: لو تكرر القذف لم يتكرر الحد. قيل: حد القذف شرع؛ لتكذيب القاذف، وذلك يحصل بالمرة الواحدة. بخلاف القطع فإنه شرع للزجر فإذا سرق العين ثانياً علم أنه لم ينزجر. فوجب أن يتكرر الحد (¬2)؛ لتحصل الحكمة التي شرع القطع من أجلها. ¬

_ (¬1) في أ: لكون. (¬2) ساقط من د.

وأما كون من سرق مال من أجّره داره أو أعارها إياها من الدار المذكورة؛ فلأنه سرق نصاباً لا شبهة له فيه. فوجب القطع؛ كما لو كانت الدار ملكاً للمسروق منه.

فصل [الشرط السادس] قال المصنف رحمه الله: (السادس: ثبوت السرقة بشهادة عدلين أو إقرار مرتين، ولا ينزع عن إقراره حتى يُقطع). أما كون السادس من شروط القطع ثبوت السرقة بما ذُكر ولا ينزع عن إقراره حتى يُقطع: أما ثبوت السرقة؛ فلأن الله تعالى إنما أوجب القطع على السارق ولا يتحقق ذلك إلا بعد ثبوتها. وأما ثبوتها بشهادة عدلين أو إقرار مرتين: أما شهادة عدلين؛ فلأن ذلك طريق إلى ثبوت أكثر الحقوق. فليكن الأمر كذلك هنا. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع يد السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان، ووصفا ما يوجب القطع. وأما الإقرار مرتين؛ فلما روي عن أبي أمية المخزومي «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترفَ. فقال: ما إِخَالُكَ سرقت. قال: بلى. فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً. قال: بلى. فأمرَ به فقُطع» (¬1). رواه أبو داود. وروي «أن علياً أتاه سارق. فقال: إني سرقتُ. فأعرضَ عنه، ثم أعاده (¬2) مرة أخرى. فقال: إني سرقتُ. فأمر به على أن يُقطعَ. وقال: شهدتَ على نفسكَ مرتين» (¬3). رواه الجوزجاني وقال مكان: «فأعرض عنه»: «فطرده». ورواه سعيد فقال: «فردّه». ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4380) 4: 134 كتاب الحدود، باب في التلقين في الحد. (¬2) في أ: عاده. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (28181) 5: 480 كتاب الحدود، في الرجل يقر بالسرقة كم يردد مرة؟ نحوه.

ولأنه (¬1) يتضمن إتلافاً. فكان من شرطه التكرار؛ كحد الزنى. أو يقال: أحد حجتي القطع. فيعتبر فيها التكرار؛ كالشهادة. وأما كونه لا ينزع عن إقراره حتى يقطع؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسارق: «ما إخالُكَ سرقت» (¬2). عرّض له ليرجع، ولو لم يسقط الحد برجوعه لم يكن في ذلك فائدة. ولأن قطع السارق حد يثبت بالاعتراف. فسقط بالرجوع؛ كحد الزنى. ولأن حجة القطع زالت قبل استيفائه. فسقط؛ كما لو رجع الشهود. قال: (السابع: مطالبة المسروق منه بماله. وقال أبو بكر: ليس ذلك بشرط). أما كون السابع من شروط القطع مطالبة المسروق منه بماله على المذهب؛ فلأن المال مباح بالبذل والإباحة. فيحتمل أن يكون مالكه أباحه إياه، أو وقفه (¬3) على طائفة المسلمين، أو على طائفةٍ السارق منهم، وأذن له في دخول حرزه. فاعتبرت المطالبة؛ لتزول الشبهة. وأما كون ذلك لا يشترط على قول أبي بكر؛ فلأن موجب القطع السرقة وقد وجدت. فوجب أن يجب القطع من غير مطالبة؛ كالزنى. والأول أولى؛ لما تقدم. والفرق بين القطع والزنى أن الزنى لا يستباح بالإباحة. بخلاف السرقة. ولأن القطع أوسع في الإسقاط. ألا ترى أنه لو سرق من مال أبيه لم يقطع، ولو زنى بجاريته حد. ولأن القطع شرع لصيانة مال الآدمي فلهم به تعلق. فلم يستوف من غير مطالبة (¬4) به. ¬

_ (¬1) في أ: ولا. (¬2) سبق تخريجه قريباً. (¬3) في أ: ووقفه. (¬4) في د: مطالب.

والزنى حق لله تعالى (¬1) محض. فلم يفتقر إلى المطالب به. ودعوى وجود الموجب للقطع ممنوعة (¬2)، وعلى تقدير التسليم فله شرط ولم يوجد تعد. ¬

_ (¬1) زيادة من أ. (¬2) في أ: ممنوع.

فصل [في كيفية القطع] قال المصنف رحمه الله: (وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف، وحسمت. وهو: أن تغمس في زيت مغلي. فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت. فإن عاد حبس ولم يقطع. وعنه: أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة). أما كون القطع إذا وجب تقطع يده اليمنى أولاً؛ فـ «لأن قراءة ابن مسعود: فاقطعوا أيمانهما» (¬1). وعن أبي بكر وعمر أنهما قالا: «إذا سرقَ السارقُ فاقطعوا يمينهُ من الكوع» (¬2)، ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن البطش بها أقوى. فكانت البداءة بها أردع. وأما كون القطع من مفصل الكف (¬3)؛ فلأن القصاص لا يجب إلا من مفصل. [فلأن لا يجب القطع في السرقة إلا من مفصل بطريق الأولى. وأما كون المفصل مفصل] (¬4) الكف؛ فلأن اليد تطلق على اليد إلى الكوع، وعليها إلى المرفق، وعليها إلى المنكب، وإرادة الأول متيقنة، وإرادة ما عداه مشكوك فيها فلا يجب القطع مع الشك. وفي الأثر عن أبي بكر وعمر: «إذا سرقَ السارقُ فاقطعوا يده من الكوع» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 270 كتاب السرقة، باب السارق يسرق أولاً فتقطع يده اليمنى ... (¬2) قال ابن حجر: لم أجده عنهما. تلخيص الحبير 4: 132. (¬3) ساقط من د. (¬4) ساقط من أ. (¬5) سبق قريباً.

وأما كون السارق إذا عاد تقطع رجله؛ فلما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: «إن سرقَ فاقطعوا يدَه، ثم إن سرقَ فاقطعوا رجلَه (¬1») (¬2). وأما كون الرجل اليسرى؛ فلأن في المحاربة تقطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى. فكذلك هاهنا. ولأن في قطع اليسرى رفقاً به؛ لأنه يمكنه المشي على خشبة. بخلاف (¬3) قطع الرجل اليمنى؛ فلأنها إذا قطعت لا يمكنه ذلك. وأما كون القطع من مفصل الكعب؛ فلأن الرِّجْل أحد العضوين المقطوعين. فوجب كون القطع من المفصل المذكور؛ كاليد. وأما كون من قطعت يده أو رجله أو هما يحسم؛ فلأن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه أُتي بسارق فقال: «اقطعوهُ واحسِمُوه» (¬4). قال ابن المنذر: في إسناده مقال. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن تُغمسَ في زيتٍ مغلي؛ فبيان لمعنى الحسم. والحكمة في ذلك أن العضو إذا قُطع فغُمس في ذلك الزيت استدّت أفواهُ العروق فينقطع الدم. وأما كون السارق إذا عاد بعد قطع يده ورجله فسرق ثالثاً يحبس ولا يقطع على المذهب؛ فلأن في قطع اليدين تعطيلاً لمنفعة الجنس. فلم يشرع في حد؛ كالقتل. ولأن قطع اليدين بمنزلة الإهلاك؛ لأنه لا يمكنه أن يتوضأ، ولا يستنجي، ولا يحترز (¬5) من النجاسة ولا يزيلها، ولا يأكل ولا يشرب ولا يبطش، ولذلك ¬

_ (¬1) في د: إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله. (¬2) سيأتي تخريجه قريباً. (¬3) في د: خلاف. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (71) 3: 102 كتاب الحدود. (¬5) في د: يتحرز.

أوجب الله تعالى في يديه دية جميعه، وفي الحديث عن علي: «إني لأستحيي (¬1) من اللهِ أن لا أدعَ له يداً يبطشُ بها ولا رجلاً يمشي عليها» (¬2). وأما كونه تقطع يده اليسرى في الثالثة ورجله اليمنى في الرابعة على روايةٍ؛ فلأن في حديث أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: إن سرقَ فاقطعوا يدَه، ثم إن سرق فاقطعوا رجلَه، [ثم إن سرقَ فاقطعوا يدَه، ثم إن سرقَ فاقطعوا رجلَه] (¬3») (¬4). وعن جابر قال: «جيءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسارقٍ فقال: اقتلوه. فقالوا: يا رسول الله! إنما سرقَ. فقال: اقطعوه. قال: فقُطع، ثم جيء به الثانية. فقال كذلك، [ثم جيء به الثالثة] (¬5)، ثم جيء به الرابعة فقال كذلك ... مختصر» (¬6). رواه أبو داود. و«لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قطعا اليد في الثالثة». قال المصنف رحمه الله في المغني: حديث جابر يتعين حمله على تخصيص ذلك الشخص لعلم النبي صلى الله عليه وسلم منه ما يوجب قتله. ألا تراه أمر بقتله في كل مرة، وقول أبي وعمر معارض بقول علي. على (¬7) أنه روي أن عمر أخذ بقول علي، ويؤيده أن الأصول تشهد بنفي القتل؛ لأن كل معصية لا توجب القتل في الابتداء لا توجبه بعد ذلك؛ كسائر المعاصي. ¬

_ (¬1) في أ: أو لا يستحي. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (288) 3: 180 كتاب الحدود والديات. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 275 كتاب السرقة، باب السارق يعود فيسرق ثانياً وثالثاً ورابعاً. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه نحوه (28252) 5: 486 كتاب الحدود، في السارق يسرق فتقطع يده ورجله ثم يعود. (¬3) ساقط من د. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (292) 3: 181 كتاب الحدود والديات. (¬5) ساقط من د. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (4410) 4: 142 كتاب الحدود، باب في السارق يسرق مراراً. (¬7) في أ: وعلى.

قال: (ومن سرق وليس له يد يمنى قطعت رجله اليسرى. وإن سرق وله يمنى فذهبت سقط القطع). أما كون من سرق وليس له يد يمنى تقطع رجله اليسرى؛ فلأن اليمنى لمّا خرجت عن كونها محلاً للقطع انتقل القطع إلى ما يلي تلك. ولأن الرجل تقطع في السرقة الثانية. فلأن تقطع في السرقة الأولة؛ لتعذر استيفاء اليد اليمنى بطريق الأولى. وأما كون القطع يسقط إذا سرق وله يمنى فذهبت؛ فلأن القطع تعلق بها. فإذا ذهبت فات قطعها فسقط. قال: (وإن ذهبت يده اليسرى لم تقطع اليمنى على الرواية الأولى، وتقطع على الأخرى). أما كون يمنى من ذكر لا تقطع على الرواية الأولى وهي: أن السارق يحبس في الثالثة ولا يقطع؛ فلأن قطعها يتضمن تفويت منفعة الجنس وبقاءه بلا يد يبطش بها، وذلك غير جائز؛ لما ذكر في الرواية التي بني عليها الحكم. وأما كونها تقطع على الرواية الأخرى وهي: أن السارق يقطع في الثالثة والرابعة؛ فلأن غاية ما فيه تعطيل منفعة الجنس وبقاؤه بلا يد يبطش بها، وذلك واقع في الرواية المذكورة. فكذلك هاهنا بل أولى؛ لأن اليمنى تعلق بها القطع وفاقاً. وإنما الخلاف في سقوطه بذهاب اليسرى. بخلاف القطع في الثالثة والرابعة؛ فلأن الخلاف في نفس وجوب القطع فيهما (¬1). قال: (وإن وجب قطع يمناه فقطع القاطع يسراه عمداً فعليه القود. وإن قطعها خطأ فعليه ديتها، وفي قطع يمين السارق وجهان). أما كون من وجب قطع يمناه فقطع القاطع يسراه عمداً على القاطع القود؛ فلأنه قطع ما لا يستحق قطعه عمداً. وأما كونه إذا قطعها خطأ عليه ديتها؛ فلأن ما أوجب عمده القود أوجب خطؤه الدية. دليله القتل. ¬

_ (¬1) في أ: فيها.

وأما كون يمين السارق لا تقطع في وجهٍ؛ فلأن قطعها يفضي إلى قطع يدَيْ السارق وتفويت منفعة الجنس منه. فلم يشرع؛ كقتله. وأما كونه تقطع في وجهٍ؛ فلأن قطعها وجب بالسرقة، وقطع اليسار له مقابل وهو القود في العمد والدية في الخطأ. قال: (ويجتمع القطع والضمان فترد العين المسروقة إلى مالكها. وإن كانت تالفة غرم قيمتها وقطع). أما كون القطع والضمان يجتمعان؛ فلأنهما حقان يجبان لمستحقين. فجاز اجتماعهما؛ كالجزاء والقيمة في الصيد الحَرَمِي المملوك. وأما كون العين المسروقة ترد إلى مالكها؛ فلأنها ملكه قُبضت بطريق التعدي. فوجب ردها إلى مالكها؛ كالعين المغصوبة. وأما كون التالفة يغرم سارقها قيمتها ويقطع: أما كونه يغرم؛ فلأن ما وجب رده إذا كان باقياً وجب غرامته (¬1) إذا كان تالفاً. دليله: العين المغصوبة. وأما كونه يقطع مع الغرامة المذكورة؛ فلما تقدم من اجتماع الضمان والقطع. قال: (وهل يجب الزيت الذي يحسم به من بيت المال أو من مال السارق؟ على وجهين). أما كون الزيت من بيت المال على وجه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقطعوهُ واحسِمُوه» (¬2). أمر بالحسم، وذلك يقتضي كون الزيت من بيت المال. وأما كونه من مال السارق على وجه؛ فلأنه لحفظ نفسه. أشبه الدواء الذي يتداوى به في مرضه. ¬

_ (¬1) في أ: غرامتها. (¬2) سبق تخريجه ص: 323.

باب حد المحاربين

باب حد المحاربين والأصل (¬1) في حد المحاربين قول الله تعالى: {إنما جزاءُ الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يُقتّلوا أو يُصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو يُنفَوْا من الأرض} [المائدة: 33]. قال ابن عباس وكثير من العلماء: نزلت في قطاع الطريق من المسلمين. قال المصنف رحمه الله: (وهم: قطاع الطريق. وهم: الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة. فأما من يأخذه سرقة فليس بمحارب. وإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين في قول الخرقي. وقال أبو بكر: حكمهم في المصر والصحراء واحد). أما قول المصنف رحمه الله: وهم قطاع الطريق؛ فبيان لمعنى المحاربين. وأما قوله: وهم الذين يعرضون (¬2) إلى آخره؛ فيقتضي أنه يشترط في المحاربين أمور: أحدها: أن يعرضوا للناس بالسلاح، فإن عرضوا بغير سلاح فليسوا بمحاربين؛ لأنهم لا يمنعون من يقصدهم. وثانيها: أن يكونوا في الصحراء؛ لأن ذلك عادة المحاربين. فإن كانوا في البنيان فسيأتي الكلام عليه بعد (¬3) إن شاء الله تعالى. وثالثها: أن يأخذوا المال مجاهرة فإن أخذوه سرقة فليسوا بمحاربين؛ لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة. وأما كونهم إذا فعلوا ذلك في البنيان لا يكونوا محاربين في قول الخرقي؛ فلأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء. ¬

_ (¬1) في أ: الأصل. (¬2) في أ: وأما قولهم الذين. (¬3) زيادة من أ.

ولأنه في المصر يلحق به الغوث غالباً وتذهب شوكتهم ويكونون مختلسين، والمختلس (¬1) ليس بقاطع طريق. وأما كونهم يكون حكمهم في المصر والصحراء واحد في قول أبي بكر؛ فلأن الفعل المذكور إذا وجد في المصر كان أعظم ضرراً. فكان أعظم جرماً وفساداً، فكان بما ذكر أولى. قال: (وإذا قُدر عليهم فمن كان منهم قد قتل من يكافئه وأخذ المال قتل حتماً وصلب حتى يشتهر. وقال أبو بكر: يصلبُ قدر ما يقع عليه اسم الصلب، وعن أحمد: أنه يُقطع مع ذلك). أما كون من قدر عليه من (¬2) المحاربين المذكورين يُقتل إذا كان قد قتل من يكافئه وأخذ المال؛ فلأنه مذكور في الآية. ولأنه قَتَل من يكافئه عمداً. وأما كونه يقتل حتماً ويصلب حتى يشتهر؛ فلأنه مذكور في الآية. وفي حديث ابن عباس «وادع رسول الله أبا بردة فجاء ناسٌ يريدون الإسلام. فقطع. فنزل جبريل بالحد فيهم أن من قتلَ وأخذَ المالَ قُتلَ وصُلب، ومن قَتل ولم يأخذ المال قُتل، وإن (¬3) أخذَ المال ولم يَقتل قُطعت يدهُ ورجلهُ من خلاف» (¬4). وأما كونه يصلب حتى يشتهر وهو قول الخرقي؛ فلأن المقصود منه زجر غيره ولا يحصل إلا بذلك. وأما كونه يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب على قول أبي بكر؛ فلأن ذلك يصدق عليه اسم الصلب، والآية ما تدل إلا على ذلك. ومحل الصلب بعد القتل؛ لأن المقصود زجر غيره لا عذاب المحارب نفسه؛ لأن القتل كافٍ في عذابه، ولذلك إذا اجتمع حدود في بعضها قتل اكتفي به. ¬

_ (¬1) في أ: والمختلسين. (¬2) في أ: في. (¬3) في د: وبمن. (¬4) أخرجه الشافعي في مسنده (282) 2: 86 كتاب الحدود، باب ما جاء في قطاع الطريق.

وأما كونه يقطع مع ذلك على روايةٍ؛ فلأنه وجد منه ما يوجب القطع والقتل. فوجب عليهما (¬1) جميعاً؛ كما لو زنى وسرق. قال: (وإن قتل من لا يكافئه فهل يقتل؟ على روايتين). أما كون من ذكر لا يقتل على روايةٍ؛ فلعموم قوله عليه السلام: «لا يُقتلُ حرٌ بعبد» (¬2). ولأن القتل وجب قصاصاً. بدليل أنه لو وجب حداً لسقط بالتوبة، وإذا كان قصاصاً وجب اعتبار المكافأة فيه؛ كغير المحارب. وأما كونه يقتل على روايةٍ؛ فلأنه حد طُلِبَ به الزّجرُ. فلم تعتبر فيه المكافأة؛ كالزنى. والأولى أصح؛ لأنه ليس بحد. بدليل ما تقدم وبه فارق الزنى. ويؤيد عدم صحة قياسه على الزنى أن حد الزنى يسقط بالتوبة. بخلاف حد المحاربة. قال: (وإن جنى جناية توجب القصاص فيما دون النفس فهل يتحتّم استيفاؤها (¬3)؟ على روايتين). أما كون استيفاء ما ذكر يتحتم على روايةٍ؛ فلأن الجناية على ما دون النفس جناية يجب فيها القصاص في غير المحاربة. فإذا وجب فيها كان متحتماً؛ كالقتل. وأما كونه لا يتحتم على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى ذكر حدود المحاربين وهي: القتل، والقطع، والصلب. فلم يتعلق بالمحاربة سوى تلك. ولأن النفس أكبر من الطرف. بدليل وجوب الكفارة في النفس دونه. قال: (وحكم الرِّدْء حكم المباشر). أما كون حكم الردء حكم المباشر؛ فلأن حد المباشر حكم يتعلق بهما (¬4). فاستوى فيها الردء والمباشر؛ كالغنيمة. يحققه: أن المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة والجهاد كذلك، والمباشر فيهما لا يتمكن إلا بالردء. فوجب ¬

_ (¬1) في أ: فعليهما. وذكر في حاشية د لعله: فوجبا عليه. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (158) 3: 133 كتاب الحدود. (¬3) في أ: استيفاؤه. (¬4) في د: بها.

أن يستويا في الحكم؛ لاستوائهما في المعنى. فالردء هو العون للمباشر، ومنه قوله تعالى: {فأرسله معي ردْءاً يصدقني} [القصص: 34]. قال: (ومن قَتل ولم يأخذ المال قُتل. وهل يُصلب؟ على روايتين). أما كون من ذكر يقتل؛ فلأنه قاتل. فيدخل في الآية والخبر المتقدم ذكرهما. وأما كونه لا يصلب على روايةٍ؛ فلأن جناية المحارب بالقتل وأخذ المال أعظم من جنايته بالقتل فقط. فلو شرع الصلب في حق من قتل ولم يأخذ المال لاستويا. وأما كونه يصلب على روايةٍ؛ فلأنه محارب. أشبه آخذ المال. والأولى أصح؛ لما تقدم. والقياس على آخذ المال لا يصح؛ لما بينهما من الفرق. قال: (ومن أخذ المال ولم يَقتل قُطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا وخلي. ولا يُقطع منهم إلا من أخذ ما يُقطع السارق في مثله). أما كون من أخذ المال ولم يَقتل تُقطع يده اليمنى ورجله اليسرى؛ فلأن الله تعالى قال: {أو تُقَطّع أيديهم وأرجلُهم من خِلاف} [المائدة: 33]. فإن قيل: قوله تعالى: {من خلاف} يقتضي قطع يد من جانب ورجل من آخر (¬1). فلم كانت اليمنى يداً؟ قيل: لأن (¬2) السارق تقطع أولاً يده اليمنى [فكذا المحارب يجب أن تقطع يده اليمنى] (¬3)؛ لأنه سارق وزيادة ويلزم من قطع اليد اليمنى قطع الرجل اليسرى لتحقق المخالفة. وأما كون قطعهما في مقام واحد. [ومعناه: أنه لا يهمل بقطع الرجل حتى تندمل اليد بل تقطعان في مجلس واحد] (¬4)؛ فلأن الله تعالى أمر بقطعهما من غير تعرض لتأخير شيء منهما. ¬

_ (¬1) في أ: جانب. (¬2) في د: إن. (¬3) ساقط من د. (¬4) مثل السابق.

وأما كونهما يحسمان؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في حق السارق فقال: «اقطعوهُ واحسِمُوه» (¬1). ولأن الحسم يَسُدّ أفواه العروق، ويمنع الدم من النزف. ومعنى الحسم: أن يُغلى زيت ثم يوضع ما قطع فيه. وأما كونه يخلى بعد ذلك؛ فلأن الحق الذي عليه استُوفي. أشبه المدين إذا وفى دَينه. وأما كون المحاربين لا يقطع منهم إلا من أخذ ما يُقطع السارق في مثله؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القطعُ في ربع دينار» (¬2). ولم يفصل بين المحارب وغيره. ولأن الجناية المذكورة جناية يتعلق بها عقوبة في حق غير المحارب فلا تتغلظ في المحارب بأكثر من وجه واحد؛ كالقتل لا يغلظ بغير الانحتام. فكذلك هاهنا لا يتغلظ القطع بغير قطع الرجل مع اليد. فلو تغلظ بما دون النصاب لتغلظ بأكثر من ذلك. قال: (وإن كانت يمينه مقطوعة أو مستحقة في قصاص أو شلاء قطعت رجله اليسرى. وهل تقطع يسرى يديه؟ ينبني على الروايتين في قطع يسرى السارق في المرة الثالثة). أما كون من كانت يمينه كما ذكر تقطع رجله اليسرى؛ فلأن ذلك واجب أمكن استيفاؤه. وأما كون قطع يسرى يديه ينبني (¬3) على قطع أطراف السارق الأربعة على الروايتين المتقدم ذكرهما وتعليلهما في آخر باب السرقة (¬4)؛ فلأنه في معناه. فعلى هذا إن قلنا يقطع السارق مرة ثالثة قطعت يُسرى المحارب هنا؛ لأنها مستحقة القطع في الجملة. فإذا تعذر استيفاء اليمنى تعين استيفاء اليسرى؛ كما لو سرق السارق ولا يد يمنى له ولا رجل. وإن قلنا: لا يقطع السارق في الثالثة لم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 323. (¬2) سبق تخريجه ص: 302. (¬3) في أ: يده المبني. (¬4) ص: 322.

تقطع يسرى المحارب هنا؛ لأن قطعها بطريق الإلحاق بالسارق (¬1). فإذا انتفى الحكم فيه انتفى فيما يجب إلحاقه به. قال: (ومن لم يَقتل ولا أخذ المال نفي وشرد، فلا يُترك يأوي إلى بلد. وعنه: أن نفيه تعزيره بما يردعه). أما كون من لم يقتل ولم يأخذ المال ينفى؛ فلأن الله تعالى قال: {أو يُنفوا من الأرض} [المائدة: 33]. وأما كونه يُشرّد فلا يترك يأوي إلى بلد؛ فلأن الله تعالى قال: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33]. فإن قيل: التشريد ظاهر الإرادة من الآية. فما وجه أن لا يترك يأوي إلى بلد؟ قيل: لأن الله تعالى قال: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33]، وذلك يقتضي النفي من جميعها. وأما كون نفيه تعزيره بما يردعه على روايةٍ؛ فلأن الغرض الردع، وذلك حاصل بالتعزير المذكور. والأول أصح؛ لأن النفي الطرد والإبعاد، والإقامة تبقيه. قال: (ومن تاب منهم قبل القدرة عليه سقط عنه حدود الله تعالى من الصلب والقطع والنفي وانحتام القتل، وأخذ بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال، إلا أن يعفى له عنها). أما كون من تاب قبل القدرة عليه يسقط عنه حدود الله؛ فلأن الله تعالى قال (¬2): {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة: 34]. فعلى هذا يسقط عنهم جميع ما ذكر المصنف رحمه الله؛ لأنه لله تعالى. وأما كونه يؤخذ بحقوق الآدميين مما ذكر إذا لم يُعْفَ له عنها؛ فلأنها حقوق عليهم لم يعفَ عنها. فلم تسقط؛ كغير المحارب. فإن قيل: الآية عامة في السقوط فما وجه التخصيص؟ قيل: الأدلة الدالة على أن حقوق الآدمي لا تسقط بغير رضاه. ¬

_ (¬1) في أ: إلحاق السارق. (¬2) في أ: حدود الله تعالى فلقوله تعالى.

ولأن حق الآدمي مبني على الضيق والشح. بخلاف حق الله تعالى، وذلك يقتضي عدم التسوية بينهما، وسقوط ذلك (¬1) بالتوبة يقتضي التسوية بينهما. قال: (ومن وجب عليه حد لله (¬2) سوى ذلك فتاب قبل إقامته لم يسقط. وعنه: أنه يسقط بمجرد التوبة قبل إصلاح العمل. ومن مات وعليه حد سقط عنه). أما كون من وجب عليه حد لله (¬3) سوى حد المحاربين لا يسقط بتوبته على المذهب؛ فلأن الله عز وجل قال: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما} [النور: 2]، {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] من غير فرق بين التائب وغيره. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً وقطع السارق بإقراره من غير سؤال عن توبة. ولأن الحد كفارة. فلم تسقط بالتوبة؛ ككفارة اليمين. وأما كونه يسقط على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء: 16]، وقال: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} [المائدة: 39]، وفي الحديث: «التائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ له» (¬4). ومن لا ذنبَ له لا حدَّ عليه. ولأن الحد خالص حق الله. فسقط بالتوبة؛ كحد المحارب. إذا تقرر السقوط فقد صرح المصنف رحمه الله هنا أنه يسقط بمجرد التوبة من غير إصلاح العمل. وقال في المغني: ظاهر الآيات تدل على اعتباره في غير المحارب. فيكون إصلاح العمل في حق غير (¬5) المحارب بمنزلة توبة المحارب قبل القدرة هذا لفظه. وأما كون من مات وعليه حد يسقط عنه؛ فلأن استيفاءه بعد موته متعذر. ¬

_ (¬1) في أ: سقوط وذلك. (¬2) في أ: حدود لله تعالى. (¬3) في أ: حداً لله تعالى. (¬4) أخرجه ابن ماجة في سننه (4250) 2: 1419 كتاب الزهد، باب ذكر التوبة. (¬5) ساقط من أ.

فصل [في دفع الصائل] قال المصنف رحمه الله: (ومن أُريدت نفسه أو حرمته أو ماله فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يعلم دفعه به، فإن لم يحصل إلا بالقتل فله ذلك ولا شيء عليه. وإن قُتل كان شهيداً. وهل يجب عليه الدفع عن نفسه؟ على روايتين. وسواء كان الصائل آدمياً أو بهيمة). أما كون من أريدت نفسه أو حرمته أو ماله (¬1). أي قُصدت: له الدفع عن ذلك؛ فلأنه لو مُنع من ذلك لأدى إلى تلفه وأذاه في نفسه وحرمته وماله. ولأنه لو لم يجز ذلك لتسلط الناس بعضهم على بعض، وأدى إلى الهرج والمرج. وأما كون الدفع بأسهل ما يعلم دفعه به؛ فلأن الزائد عليه لا حاجة له به؛ لحصول الدفع بدونه. فعلى هذا متى علم الدافع أن الصائل عليه يندفع بالقول لم يجز ضربه بشيء، وإن علم أنه يندفع بعصاً لم يجز ضربه بحديد. وأما كون الدفع إذا لم يحصل إلا بالقتل له ذلك؛ فلأن ضرره إذا لم يندفع إلا به يتعين طريقاً إلى الدفع المحتاج إليه. وأما كونه لا شيء عليه بالقتل المذكور؛ فلأنه قتلٌ لدفع شر الصائل. فلم يجب به شيء؛ كقتل الباغي. وروي عن عبيد بن عمير «أن رجلاً ضافَ ناساً من هذيل. فأراد امرأة على نفسها فرمته بحجر. فقال عمر: والله! لا يودى أبدًا» (¬2). ¬

_ (¬1) في أ: حرمتها وماله. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 337 كتاب الأشربة والحد فيها، باب الرجل يجد مع امرأته الرجل فيقتله.

وأما كونه شهيداً إذا قُتل؛ فلما روى عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَن أريد ماله بغير حق فقاتلَ فقُتل فهو شهيد» (¬1). رواه الخلال بإسناده. ولأنه قُتل لدفع ظالم. فكان شهيداً؛ كالعادل يقتله الباغي. وأما كون الدفع عن نفسه لا يجب على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفتنة: «اجلس في بيتكَ. فإن خفتَ أن يَبهَركَ شُعَاعُ السيفِ فغطِّ وجهك» (¬2). وفي لفظ: «فكن عبداللهِ المقتول ولا تكن عبداللهِ القاتل» (¬3). ولأن عثمان رضي الله عنه ترك القتال مع إمكانه. وأما كونه يجب على روايةٍ؛ فلأنه قدر على إحياء نفسه. فوجب عليه فعلُ ما يبقى به؛ كالمضطر إذا وجد الميتة. والأولى أصح؛ لأن المضطر لا غرض له في ترك الأكل. بخلاف الدافع؛ لأن له في ترك الدفع غرضاً وهو إبقاء نفس (¬4) أخيه المسلم، وحصول الشهادة له. وأما كون الصائل الآدمي والبهيمة سواء؛ فلاشتراكهما في المجوز للدفع، وهو الصول. قال: (وإذا دخل رجل منزله متلصصاً أو صائلاً فحكمه حكم من ذكرنا). أما كون حكم من دخل منزل غيره متلصصاً أو صائلاً حكم من تقدم ذكره؛ فلأن حاجة صاحب المنزل إلى إخراجه كحاجة من تقدم ذكره. فوجب تساويهما في الحكم؛ لتساويهما في المعنى الموجب له. وأما المعنيّ بذلك فهو أن صاحب المنزل إن علم أن المتلصص أو الصائل يخرج بالقول لم يجز له أن يخرجه بالعصا، وإن علم أنه يخرج بالعصا لم يجز له أن يخرجه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (6829) 2: 194. وأخرجه البيهقي في الكبرى 8: 187 كتاب قتال أهل البغي. باب من أريد ماله أو أهله. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4261) 4: 101 كتاب الفتن والملاحم، باب في النهي عن السعي في الفتنة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3958) 2: 1308 كتاب الفتن، باب التثبت في الفتنة. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (20559) طبعة إحياء التراث. (¬4) في أ: النفس.

بالحديد، وإن علم أنه لا يخرج إلا بالحديد فله إخراجه به، وإن أدى إلى قتله فلا شيء عليه. قال: (وإن عضَّ إنسان يد إنسان فانتزع يده من فيه فسقطت ثناياه ذهبت هدراً. وإن نظر في بيته من خَصاص البيت أو نحوه فخذف عينه ففقأها فلا شيء عليه). أما كون من عضَّ إنسان يده فانتزعها من فيه فسقطت ثنايا العاضّ تذهب هدراً؛ فلما روى يعلى بن أمية قال: «كان لي أجيرٌ. فقاتلَ إنساناً فعضَّ أحدهما يدَ الآخر قال: فانتزعَ المعضوضُ يده من في العاضّ فانتزعَ إحدى ثنيتيه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته. فحسبت أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفيدعُ يده في فيكَ تعضها كأنها في في (¬1) فحل يقضمها» (¬2) متفق عليه. [ولأنه عضو تلف ضرورة دفع شر صاحبه. فلم يضمن؛ كما لو صال عليه] (¬3). فلم يمكن الدفع إلا بقلع يده. وأما كون من فقأ عين من نظر في بيته من خَصاص الباب أو نحوه لا شيء عليه؛ فلما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن امرءاً اطّلع عليك بغير إذن فخذَفتهُ بحصاةٍ ففقأت (¬4) عينهُ لم يكن عليك جناح» (¬5) متفق عليه. وعن سهل بن سعد: «أن رجلاً اطَّلعَ في جحر من بابِ النبي صلى الله عليه وسلم ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحكُّ رأسه بمدرَى في يده. فقال عليه السلام: لو علمتُ أنك تنظرني (¬6) لطمستُ أو لطعنتُ بها في عينك» (¬7). ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6497) 6: 2526 كتاب الديات، باب إذا عض رجلاً فوقعت ثناياه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1673) 3: 1300 كتاب القسامة، باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه ... (¬3) ساقط من أ. (¬4) في أ: فتفقأت. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (6493) 6: 2525 كتاب الديات، باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان. وأخرجه مسلم في صحيحه (2158) 3: 1699 كتاب الآداب، باب تحريم النظر في بيت غيره. (¬6) في د: تنظر لي. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه (5887) 5: 2304 كتاب الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر. وأخرجه مسلم في صحيحه (2156) 3: 1697 كتاب الآداب، باب تحريم النظر في بيت غيره.

فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا يعتبر في الرمي الدفع بالأسهل. قيل: نعم. وهو ظاهر كلام الإمام أحمد. [ذكره المصنف رحمه الله] (¬1) في المغني. ووجهه: التمسك بظاهر الحديث. وقال ابن حامد (¬2): يدفعه بالأسهل. فإن لم يندفع حلّ حذفه كما تقدم في الصائل. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في د: أبو حامد.

باب قتال أهل البغي

باب قتال أهل البغي الأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت -إلى قوله-: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 9 - 10]. إذا علم ذلك ففي الآية فوائد: إحداها: أن الباغي لا يخرج عن الإيمان؛ لأن الله تعالى سمى البغاة مؤمنين. وثانيتها (¬1): أن الله تعالى أوجب قتاله. وثالثها: أن الله تعالى أسقط قتاله إذا فاء إلى أمر الله. ورابعها: أنه (¬2) نفى عن التبعة فيما أتلفه. وخامستها (¬3): أن الآية أشعرت بقتال كل من منع حقًا عليه. قال المصنف رحمه الله: (وهم: القوم الذين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ، ولهم منعة وشوكة). أما كون [أهل البغي هم الذين يخرجون على الإمام؛ فلأن من لم يخرج عليه طائع له. فلا يكون من] (¬4) أهل البغي عليه. وأما كون خروجهم عليه بتأويل سائغ؛ فلأن من خرج عليه لا بتأويل [أو بتأويل] (¬5) غير سائغ من قطاع الطريق، وحكمه حكمهم على ما مر. وأما كونهم لهم (¬6) منعة وشوكة؛ فلأن من ليس له ذلك؛ كالواحد والاثنين وما أشبههما حكمه حكم قطاع الطريق عند أكثر أصحابنا؛ لأن حكم البغاة لو ¬

_ (¬1) في أ: وثانيهما. (¬2) في د: أن ما. (¬3) في أ: وخامسها. (¬4) ساقط من د. (¬5) مثل السابق. (¬6) في أ: له.

ثبت في الواحد والاثنين في سقوط ضمان ما أتلفوه لأفضى إلى إتلاف أموال الناس. وقال أبو بكر: لا فرق بين القليل والكثير وحكمهم حكم البغاة إذا خرجوا عن قبضة الإمام. فعلى هذا لا حاجة إلى قوله: ولهم منعة وشوكة. قال: (وعلى الإمام أن يراسلهم ويسألهم ما ينقمون منه، ويزيل ما يذكرونه من مظلمة، ويكشف ما يدعونه من شبهة. فإن فاؤوا وإلا قاتلهم). أما كون الإمام عليه أن يراسل أهل البغي ويسألهم ما ينقمون منه؛ فلأن الله تعالى بدأ بالصلح فقال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9]. والمراسلة والسؤال طريق إلى الصلح؛ لأنهما وسيلة إلى رجوعهم إلى الحق. ويروى: «أن علياً رضي الله عنه راسلَ أهل البصرة قبل وقعةِ الجمل». وروي «أنه لما اعتزلته الحرورية بعث إليهم عبدالله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف» (¬1). وأما كونه يزيل ما يذكرونه من مظلمة؛ فلأن ذلك وجب (¬2) مع إفضاء الأمر إلى القتل والهرج والمرج. فلأن يجب في حالة تؤدي إلى ذلك بطريق الأولى. وأما كونه يكشف ما يدعونه من شبهة؛ فلأن كشفها طريق إلى رجوعهم إلى الحق، وذلك مطلوب. وأما كونهم إن فاؤوا وإلا قاتلهم؛ فلأن الصحابة أجمعت على قتال مانعي الزكاة، وقاتل عليّ أهل البصرة يوم الجمل، وأهل الشام يوم صفين، وأهل النهروان (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 179 كتاب قتال أهل البغي، باب لا يبدأ الخوارج بالقتال حتى يسألوا ... (¬2) ساقط من أ. (¬3) في د: النهر.

قال: (وعلى رعيته معونته على حربهم. فإن استنظروه مدة رجاء رجوعهم فيها أنظرهم. وإن ظن أنها مكيدة لم ينظرهم وقاتلهم). أما كون [رعية الإمام عليهم معونته على حرب أهل البغي؛ فلأن الله تعالى] (¬1) قال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]. وروى عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة» (¬2). والإمام قائم مقامه. فوجب أن يعطى حكمه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من خرجَ من الطاعةِ وفارقَ الجماعةَ ماتَ ميتةً جاهلية» (¬3). رواه ابن عبدالبر. وذلك يقتضي وجوب طاعة الإمام، ومعاونته طاعة له. وأما كونه ينظرهم إذا استنظروه مدة يرجوا رجوعهم فيها؛ فلأن الانتظار المرجوّ به رجوعهم أولى من معاجلتهم بالقتال المؤدي إلى الهرج والمرج. وأما كونه لا ينظرهم ويقاتلهم إن (¬4) ظن أن طلبهم (¬5) الإنظار مكيدة؛ فلأن الإنظار لا يؤمن منه أن يصير طريقاً إلى قهر أهل العدل. قال: (ولا يقاتلهم بما يعم إتلافه كالمنجنيق والنار إلا لضرورة). أما كون الإمام لا يقاتل أهل البغي بما يعم إتلافه لغير ضرورة؛ فلأنه لا يجوز قتل من لا يقاتل، والقتل بما يعم إتلافه يلزم منه قتله، وذلك غير جائز. وأما كونهم يقاتلهم بذلك لضرورة مثل: أن يختلط أهل البغي بمن لا يقاتل؛ فلأن ذلك حالة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6647) 6: 2588 كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سترون بعدي أموراً تنكرونها». وأخرجه مسلم في صحيحه (1709) 3: 1470 كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ... (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1848) 3: 1476 كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ... (¬4) في أ: إذا. (¬5) ساقط من د.

قال: (ولا يستعين في حربهم بكافر. وهل يجوز أن يستعين عليهم بسلاحهم وكراعهم؟ على وجهين). أما كون الإمام لا يستعين في حرب أهل البغي بكافر؛ فلأن الكافر لا يستعان به في قتال الكافر. فلأن لا يستعان به في قتال المسلم بطريق الأولى. وأما كونه لا يجوز أن يستعين عليهم بسلاحهم وكراعهم وهي الخيل التي لهم على وجه؛ فلأن أموال أهل البغي لا تستباح. وأما كونه يجوز أن يستعين عليهم بذلك على وجه؛ فلأن الحاجة داعية إليه. أشبه قتلهم. قال: (ولا يتبع لهم مُدْبر، ولا يجاز على جريح، ولا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية). أما كون أهل البغي لا يتبع لهم مُدْبر ولا يجاز على جريحهم؛ فلما روى عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا ابنَ أم (¬1) عبد! ما حكمُ من بغَى على أمتي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يُقتل أسيرهم» (¬2). رواه القاضي في شرحه. وروي: «أن علياً رضي الله عنه قال يوم الجمل: لا يُذَففُ على جريح، ولا يُهتكُ ستر، ولا يفتحُ باب. ومن أغلقَ باباً أو بابهُ فهو آمن، ولا يتبعُ مُدْبِر» (¬3). ونحو ذلك روي (¬4) عن عمار. وعن علي «أنه ودَى قوماً من بيتِ مالِ المسلمين قتلوا مُدْبرين». وعن أبي أمامة قال: «شهدتُ صفين. فكانوا لا يجيزونَ على جريحٍ، ولا يطلبونَ مولياً، ولا يسلبون قتيلاً» (¬5). ¬

_ (¬1) في أ: آدم. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 182 كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاؤا لم يتبع مدبرهم ولم يقتل أسيرهم ... وأخرجه الحاكم في المستدرك (2662) 2: 168 كتاب قتال أهل البغي وهو آخر الجهاد. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 181 الموضع السابق. (¬4) في د: وروي. (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك (2660) 2: 167 كتاب قتال أهل البغي وهو آخر الجهاد.

وأما كونهم لا يغنم لهم مال؛ فلأنهم لم يكفروا ببغيهم وقتالهم، وعصمة الأموال تابعة لدينهم. بدليل قوله عليه السلام: «لا يحلُ مال امرئ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث ... الحديث» (¬1) وليس القتال والبغي واحداً منها. وأما كونهم لا يسبى لهم ذرية فلأن الذراري [تبع لهم، وهم لا يجوز سبيهم لبقائهم على الإسلام. فالذين هم تبع لهم بطريق الأولى. ولأن الذراري] (¬2) لم يحصل منهم شيء أصلاً. بخلاف أهل البغي فإنهم وجد منهم البغي والقتال. قال: (ومن أُسر من رجالهم حُبس حتى تنقضي الحرب ثم يرسل. وإن أُسر صبي أو امرأة فهل يفعل به ذلك أو يخلى في الحال؟ يحتمل وجهين). أما كون من أُسر من رجالهم يحبس حتى تنقضي الحرب؛ فلأن في إطلاقهم ضرراً على المسلمين. وأما كونه يرسل بعد ذلك؛ فلأن المانع من إرسالهم خوف مساعدة أصحابهم، وقد زال ذلك. وأما كون من أسر من صبي أو امرأة يحتمل أن يفعل به ذلك على وجه؛ فلأن وقوع القتال منه يمكن وإن لم يكن من أهله. أشبه الرجل. وأما كونه يحتمل أن يخلى في الحال؛ فلأنه ليس من أهل القتال فينتفي المحذور المتقدم ذكره في الرجل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6484) 6: 2521 كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (1676) 3: 1302 كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم. (¬2) ساقط من د.

قال: (وإذا انقضى الحرب فمن وجد منهم ماله في يد إنسان أخذه، ولا يضمن أهل العدل ما أتلفوه عليهم حال الحرب من نفس أو مال. وهل يضمن البغاة ما أتلفوه على أهل العدل في الحرب؟ على روايتين. ومن أتلف في غير حال الحرب شيئاً ضمنه). أما كون من وجد من أهل العدل والبغي ماله في يد إنسان يأخذه: أما أهل العدل؛ فظاهر. وأما أهل البغي؛ فلأن مالهم كان معصوماً وبغيهم لم يحله. فوجب بقاؤه على ما كان. وأما كون أهل العدل لا يضمنون ما أتلفوه على أهل البغي؛ فلأنه إذا جاز قتلهم (¬1). فلأن يجوز إتلاف مالهم بطريق الأولى. ولأن جواز قتلهم يستلزم عقر دوابهم، وكسر قسيهم وما أشبه (¬2) ذلك. وإذا جاز فعل ذلك لم يجب ضمانه؛ لحصوله ضرورة. وأما كون البغاة يضمنون ما أتلفوه على أهل العدل في حال الحرب على روايةٍ؛ فلأنهم بغاة ظلمة بقتالهم، وفي الأثر أن أبا بكر قال لأهل الردة: «تدونَ قتلانا ولا ندي قتلاكم» (¬3). وأما كونهم لا يضمنون ذلك على روايةٍ؛ فلما روى الزهري قال: «كانت الفتنة العظماء بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن لا يقامَ حد على رجل ارتكب فرجاً حراماً بتأويلِ القرآن، ولا يغرم مالاً أتلفه بتأويلِ القرآن» (¬4). ولأن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب. فلم يضمن ما أتلفت على الأخرى بحكم الحرب؛ كأهل العدل. ¬

_ (¬1) في أ: قتالهم. (¬2) ساقط من أ. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 183 كتاب قتال أهل البغي، باب من قال يتبعون بالدم. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 175 كتاب قتال أهل البغي، باب من قال: لا تباعة في الجراح والدماء وما فات. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27954) 5: 457 كتاب الديات، فيما يصاب في الفتن من الدماء. نحوه.

ولأن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة. فلم يشرع؛ كتضمين أهل الحرب. وهذه الرواية هي الأصح؛ لما ذكر. وأجاب المصنف رحمه الله في المغني عن الأثر المذكور عن أبي بكر: أنه رجع عنه. فإنه روي: «أن عمر قال له: إن تدون قتلانا فلا فإن قتلانا قتلوا في سبيل الله». فوافقه أبو بكر. ولذلك لم ينقل أنه غرم أحداً شيئاً. وقد قتل طلحة (¬1) عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ثم أسلم وتاب. فلم يغرم شيئاً. وأما كون من أتلف من أهل العدل والبغي ما أتلفوه في غير حال الحرب يضمنه؛ فلأن الأصل وجوب الضمان. تُرك العمل به في حال الحرب؛ للضرورة فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وفي الأثر: «أن الخوارج لما قتلوا عبدالله بن خباب في غير الحرب أرسلَ إليهم علي افتدونا من عبدالله» (¬2) و «قتل ابن ملجم علياً في غير المعركة فأقيدَ به» (¬3). قال: (وما أَخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج أو جزية لم يعد عليهم [ولا على صاحبه. ومن ادعى دفع زكاته إليهم قُبل بغير يمين. وإن ادعى ذمي دفع جزيته إليهم لم يقبل إلا ببينة. وإن ادعى إنسان دفع خراجه إليهم فهل يقبل بغير بينة؟ على وجهين] (¬4). وتجوز شهادتهم. ولا ينقض مِن حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره). أما كون البغاة تجوز شهادتهم؛ فلأنهم إذا صلحوا للقضاء. فلأن يصلحوا لقبول الشهادة بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) في د: ولذلك أنه عرض أخذ شيئاً وقد قيل لطلحة. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (37882) 7: 554 كتاب الجمل، ما ذكر في الخوارج. (¬3) أخرجه الشافعي في الأم 4: 216. (¬4) ساقط من أ.

وأما كونهم لا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم حاكم المسلمين من أهل العدل؛ فلأن بغيهم في أمر يسوغ فيه التأويل. أشبه الاختلاف في الفروع. فعلى هذا إن خالف حكم حاكمهم نصاً أو إجماعاً نقض؛ كحكم حاكم المسلمين من أهل العدل وإلا فلا. قال: (وإن استعانوا بأهل الذمة فأعانوهم انتقض عهدهم إلا أن يدعوا أنهم ظنوا أنه يجب عليهم معونة من استعان بهم من المسلمين ونحو ذلك فلا ينتقض عهدهم، ويغرمون ما أتلفوه من نفس ومال). أما كون عهد أهل الذمة ينتقض إذا أعانوا أهل البغي إذا لم يدعوا أنهم ظنوا أنهم يجب عليهم معونة من استعان بهم من المسلمين ونحو ذلك؛ فلأن أهل الذمة لو قاتلوا منفردين انتقض عهدهم. فكذلك إذا قاتلوا مع أهل البغي. وأما كونه لا ينتقض إذا ظنوا أنهم يجب عليهم معونة من ذكر؛ فلأن ذلك شبهة فيدرأ به قتلهم المستحق بالانتقاض. وأما كون أهل الذمة يغرمون ما أتلفوه لأهل العدل فيما ذكر؛ فلأن مقتضى الدليل وجوب الضمان. ترك العمل به في حق أهل البغي خوفاً من تنفيرهم، وتنفير أهل الذمة لا أثر له؛ لأن أهل البغي لهم قوة. بخلاف أهل الذمة فلا يصح إلحاقهم بهم. قال: (وإن استعانوا بأهل الحرب وأمنوهم لم يصح أمانهم، وأبيح قتلهم). أما كون أمان البغاة لأهل الحرب لا يصح؛ فلأن من صحة الأمان الكف عن قتال المسلمين، والباغي لا يشترطه (¬1) بل يشترط عليهم عدمه. وأما كونهم يباح قتلهم؛ فلأن أمان البغاة لم يصح. فبقوا على ما كانوا عليه قبل الأمان. فإن قيل: إباحة قتلهم عامة أم لأهل العدل فقط؟ ¬

_ (¬1) في أ: يشترط.

قيل: ظاهر إطلاق المصنف رحمه الله الإباحة، وهي تقتضي العموم (¬1) إلا أن الكلام مسوق مع أهل العدل فيحتمل أن يختص بهم. ويؤيده تصريح المصنف رحمه الله بذلك في المغني فقال (¬2): فأما أهل البغي فلا يجوز لهم قتلهم؛ لأنهم قد بذلوا لهم الكف عنهم. فلم يجز لهم الغدر. قال: (وإن أظهر قوم رأي الخوارج ولم يجتمعوا لحرب لم يتعرض لهم، فإن سَبُّوا الإمام عزرهم. وإن جنوا جناية أو أتوا حداً أقامه عليهم). أما كون من أظهر رأي الخوارج ولم يجتمعوا لحرب لا يتعرض لهم؛ فـ «لأن علياً رضي الله عنه كان يوماً يخطب. فقال رجل بباب المسجد: لا حُكمَ إلا لله. فقال علي: كلمةُ حق أُريدَ بها باطل. ثم قال: لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجدَ الله أن تذكروا فيها اسمَ الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامتْ أيديكم معنا، ولا نبدأكمْ بقتال» (¬3). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما تعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة. فلأن لا يتعرض إلى من ذكر بطريق الأولى. وأما كونهم إذا سَبُّوا الإمام يعزرهم؛ فلأنهم ارتكبوا محرماً لا حد فيه ولا كفارة، وليس التعزير المذكور مختصاً بسب الإمام بل لو سبوا أحداً من أهل العدل كان الأمر كذلك، لما تقدم من العلة. وأما كونهم إذا جنوا جناية أو أتوا حداً أقامه عليهم؛ فلأنهم ليسوا ببغاة فهم كآحاد الناس. ولأن في إسقاط (¬4) ذلك وسيلة إلى تجرئهم (¬5) على فعله، وذلك مطلوب العدم. ¬

_ (¬1) في د: الإباحة يقتضي التعميم. (¬2) في د: قال. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (37917) 7: 561 كتاب الجمل، ما ذكر في الخوارج. (¬4) في أ: حكم إسقاط. (¬5) في أ: تحريمهم.

قال: (وإن اقتتلت (¬1) طائفتان لعصبية أو طلب رياسة فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى). أما كون الطائفتين إذا اقتتلتا لما ذكر ظالمتين؛ فلأن كل واحدة باغية على صاحبتها. وأما كون كل واحدة تضمن ما أتلفت على الأخرى؛ فلأن الإتلاف موجب للضمان. ترك العمل به في أهل البغي. ¬

_ (¬1) في أ: اقتتل.

باب حكم المرتد

باب حكم المرتد والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 217]. وأما السنة؛ فقوله عليه السلام: «من بدَّلَ دينهُ فاقتلُوه» (¬1). وأما الإجماع؛ فأجمع المسلمون في الجملة على وجوب قتل المرتد. قال المصنف رحمه الله: (وهو الذي يكفر بعد إسلامه. فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته، أو صفة من صفاته، أو اتخذ لله صاحبة أو ولداً، أو جحد نبياً أو كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه، أو سبّ الله تعالى أو رسوله كفر). أما قول المصنف رحمه الله: وهو الذي يكفر بعد إسلامه؛ فبيان لما يصير به الإنسان مرتداً. وأما كون من أشرك بالله يكفر؛ فلأن الله تعالى وصفه بالكفر في غير موضع من كتابه العزيز. من ذلك قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73]، ومنه قوله تعالى: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين -إلى قوله-: وبشر الذين كفروا بعذاب أليم -إلى قوله تعالى-: فقاتلوا أئمة الكفر} [التوبة: 1 - 12]، ومنه قوله تعالى: {ومن يَدْعُ مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون} [المؤمنون: 117]. ولأن الله تعالى أخبر في كتابه العزيز أنه لا شريك له، فمن أشرك به فقد كذبه، ومن كذبه يكفر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6524) 6: 2537 كتاب استتابة المرتدين المعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.

وأما كون من جحد ربوبية الله يكفر؛ فلأنه مكذب لله، ومن كذبه يكفر. وأما كون من جحد وحدانيته يكفر؛ فلأن جاحد ذلك مشرك بالله، وقد تقدم دليل كفره. وأما كون من جحد صفة من صفاته يكفر؛ فلأن جاحد ذلك كجاحد وحدانيته وقد تقدم دليل كفره. وأما كون من اتخذ لله صاحبة أو ولداً يكفر؛ فلأن الله تعالى نزّه نفسه عن ذلك ونفاه عنه. فمتخذه مخالف له غير منزه له عن ذلك. ولأنه مكذب له فيما أخبر به عن ذلك. فيكون كافراً. [وأما كون من جحد نبياً يكفر؛ فلأنه مكذب لله جاحد لنبوة نبيه] (¬1). وأما كون من جحد كتاباً من كتب الله يكفر؛ فلأنه مكذب لله جاحد لكتابه (¬2). وأما كون من جحد شيئاً من كتب الله (¬3) يكفر؛ فلأن جحد الشيء منه كجحد الكل؛ لاشتراكهما في كون الكل من عند الله. وأما كون من سبّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يكفر؛ فلأنه لا يسب واحداً منهما إلا وهو مكذب له جاحد به، وقد تقدم دليل كفره. قال: (ومن جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئاً منها، أو أحل الزنى أو الخمر أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها لجهل: عُرِّف ذلك. وإن كان ممن لا يجهل ذلك كفر). أما كون من جحد شيئاً من ذلك أو أحله لجهل يعرفه (¬4)؛ فليصير عالماً به. وأما كونه إذا كان ممن لا يجهل ذلك يكفر؛ فلأنه مكذب لله تعالى ورسوله وسائر الأمة. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في د: للكتاب. (¬3) في أ: من كتاب من كتب الله تعالى. (¬4) في أ: بعدمه.

قال: (وإن ترك شيئاً من العبادات الخمس تهاوناً لم يكفر. وعنه: يكفر. إلا الحج لا يكفر بتأخيره بحال). أما كون من ترك شيئاً من الصلاة تهاوناً لا يكفر على روايةٍ وهي اختيار المصنف رحمه الله، وكونه يكفر على روايةٍ وهي ظاهر المذهب؛ فلما تقدم في كتاب الصلاة (¬1). وأما كون من ترك الزكاة تهاوناً لا يكفر على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن منعها فإنا آخذوها» (¬2)، ولم يحكم بكفره. وأما كونه يكفر على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة [فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11] شرط في الإخوة في الدين أداء الزكاة. ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: «لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة» (¬3). و «قال لمانع الزكاة] (¬4): لا. حتى تشهد أن قتلانا في الجنةِ وقتلاكمْ في النار» (¬5). وأما كون من ترك الصوم لا يكفر على روايةٍ؛ فبالقياس على الزكاة. بجامع ما يشتركان فيه من كونهما عبادة تجب على الفور (¬6). وأما كون من أخّر متهاوناً لا يكفر بحال على ما ذكره المصنف رحمه الله هنا؛ فلأنه مختلف في وجوبه على الفور. فلا وجه لكفره مع جواز تأخيره على بعض المذاهب. وكلام أبي الخطاب في هدايته يقتضي مساواة الحج للصلاة والزكاة؛ لأنه أحد مباني الإسلام. أشبه بَواقيها. ¬

_ (¬1) 1: 255. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1575) 2: 101 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1335) 2: 507 كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة. وأخرجه مسلم في صحيحه (20) 1: 51 كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ... (¬4) ساقط من د. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 335 كتاب الأشربة، باب قتال أهل الردة وما أصيب في أيديهم من متاع المسلمين. (¬6) في أ: القول.

إذا تقرر هذا فاعلم أن العبادات الخمس تطلق تارة ويراد بها الصلوات الخمس، وتطلق تارة ويراد بها مباني الإسلام الخمس. وفي حمل كلام المصنف رحمه الله على كل واحد منهما إشكال. أما إذا حمل على الصلوات فالإشكال عليه من وجهين: أحدهما: أنه تبقى الزكاة والصوم غير مذكورين. وثانيهما: أن الاستثناء في قوله: وعنه يكفر إلا الحج لا يقع صحيحاً؛ لعدم شمول الكلام الأول له. وأما إذا حمل على مباني الإسلام؛ فلأن من مباني الإسلام الشهادتين وتاركهما متهاوناً كافر بغير خلاف في المذهب. قال: (فمن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وهو بالغ عاقل دُعي إليه ثلاثة أيام وضيّق عليه فإن لم يتب قتل. وعنه: لا تجب استتابته بل تستحب، ويجوز قتله في الحال). أما كون من ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وهو بالغ عاقل يُدعى إليه؛ فليرجع عن ارتداده. وأما قول المصنف رحمه الله: والنساء؛ ففيه تصريح بأن المرأة في الردة كالرجل. وهو صحيح؛ لدخولهما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من بدَّلَ دينهُ فاقتلُوه» (¬1)، وفي الحديث «أن امرأة يُقال لها: أم رومان ارتدت عن الإسلام. فبلغَ أمرُها النبي صلى الله عليه وسلم. فأمر أن تُستتاب فإن تابت وإلا قتلت» (¬2). رواه الدارقطني. ولأن المرأة شخص بدّل دينه الحق بالباطل. فوجب أن تكون كالرجل. فإن قيل: فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المرأة. قيل: المراد به (¬3) غير المرتدة؛ لأن المرتد يخالف الأصلي. بدليل أن الرجل يقر عليه، ولا يقتل أهل الصوامع والشيوخ والمكافيف (¬4). بخلاف الكفر الطارئ. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 352. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (122) 3: 118 كتاب الحدود. (¬3) ساقط من أ. (¬4) في د: المكافيف.

وأما قوله: "وهو بالغ عاقل" ففيه إشعار بأن الردة لا تصح من صبي ولا مجنون. وهو صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رُفعَ القلمُ عن ثلاث: عن الصبي [حتى يبلُغ، وعن المجنون حتى يُفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» (¬1)] (¬2). ولا بد أن يلحظ [في الصبي] (¬3) أنه غير مميز؛ لأن المميز يأتي ذكره بعد. وأما كون الدعوة إلى الإسلام ثلاثة أيام على المذهب؛ فلما روى مالك في الموطأ بإسناده «أنه وَفَدَ على عمر رجل من قبل أبي موسى. فقال له عمر: هل من مُغَرِّبَةِ خبَر؟ قال: رجلٌ كفرَ بعد إسلامه. قال: ما فعلتم به؟ قال: قَرَّبْناهُ، فضربنا (¬4) عنُقَه. قال عمر: فهلا حبستموهُ ثلاثًا. فأطعمتموهُ كل يوم رغيفًا. فاستتبتموهُ لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ اللهم (¬5)! إني لم أحضر. ولم آمر. ولم أرض إذْ بلغني» (¬6). وأما كونه يضيّق عليه؛ فليرجع إلى الحق. وفي حديث عمر المذكور: «فهلاّ حبستُموه». وأما كونه يقتل إن لم يتب؛ فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «من بدَّلَ دينهُ فاقتلوهُ» (¬7)، ومن قوله في حديث أم رومان: «فإن تابتْ وإلا قُتلت» (¬8). وأما كونه لا تجب استتابته على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بدّل دينه فاقتلوه» (¬9) ولم يذكر الاستتابة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 215. (¬2) ساقط من د. (¬3) ساقط من د. (¬4) في د: وضربنا. (¬5) في أ: أمر الله تعالى قال. (¬6) أخرجه مالك في موطئه (16) 2: 565 كتاب الأقضية، باب القضاء فيمن ارتد عن الإسلام. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 206 كتاب المرتد، باب من قال: يحبس ثلاثة أيام. (¬7) سبق تخريجه ص: 352. (¬8) سبق تخريجه ص: 356. (¬9) سبق تخريجه ص: 352.

وفي الأثر «أن معاذاً قال لأبي موسى فوجد عنده رجلاً موثقاً. فقال: ما هذا؟ قال: رجلٌ كان يهودياً فأسلم (¬1) ثم راجع دينهُ دينَ السوء فتهوّد. قال: لا أجلسُ حتى يُقتلَ. قضاءُ الله ورسوله. قال: اجلس [قال: لا أجلس] (¬2) حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمرَ به فقُتل» (¬3) متفق عليه. ولأن المرتد يقتل لكفره. فلم تجب استتابته؛ كالأصلي (¬4). وأما كونها تستحب؛ فلأنه مختلف في وجوبها. فأدنى الأحوال أن يكون مستحباً. والأول أصح؛ لما تقدم. وأما قوله: «من بدَّلَ دينهُ فاقتلُوه» (¬5) فمحمول على القتل بعد الاستتابة. وأما الحديث الآخر فيروى فيه: «أن المرتد استُتيب قبل قدوم معاذ» (¬6). رواه أبو داود. فعلى هذا يضيق عليه ويحبس لينزجر عن ذلك ويرجع عن دينه الذي صار إليه، وفي حديث عمر: «فهلا حبستمُوه» (¬4)، وعلى الثانية يجوز قتله في الحال؛ لما ذكر في حديث معاذ. وأما كونه يقتل إذا لم يتب؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «من بدَّلَ دينهُ فاقتلُوه» (¬8). ¬

_ (¬1) زيادة من الصحيحين. (¬2) ساقط من د. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (4088) 4: 1579 كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع. مختصر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1733) 3: 1456 كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها. (¬4) في أ: كالأصل. (¬5) سبق تخريجه ص: 352. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (4355) 4: 127 كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد. (¬7) سبق تخريجه ص: 357. (¬8) سبق تخريجه ص: 352.

قال: (ويقتل بالسيف. ولا يقتله إلا الإمام أو نائبه، فإن قتله غيره بغير إذنه أساء وعزر. ولا ضمان عليه سواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها). أما كون المرتد يقتل بالسيف؛ فلأن في حديث القادم من قِبَل أبي موسى: «قدمناهُ فضربنا عنُقه» (¬1). وأما كونه لا يقتله إلا الإمام أو نائبه؛ فلأنه قتل لحق الله سبحانه وتعالى. فلم (¬2) يله إلا الإمام أو نائبه؛ كالحد. وأما كونه إذا قتله غير من ذكر بغير إذن الإمام أساء؛ فلأن في ذلك حطاً لمنزلة الإمام، وإساءة أدبٍ عليه. وأما كونه يعزر؛ فلأنه فعل ما منع من فعله ولا حد فيه ولا كفارة، وذلك يوجب التعزير. دليله: فعل سائر ما منع من فعله مما لا حد فيه ولا كفارة. وأما كون قتله قبل الاستتابة وبعدها سواء؛ فلأنه في الجملة مهدر الدم وردته مبيحة لدمه، وهي موجودة قبل الاستتابة كما هي موجودة بعدها. قال: (وإن عقل الصبي الإسلام صح إسلامه وردته. وعنه: يصح إسلامه دون ردته. وعنه: لا يصح شيء منهما حتى يبلغ. والمذهب الأول. وإن أسلم ثم قال: لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى قوله، وأجبر على الإسلام، ولا يقتل حتى يبلغ ويجاوز ثلاثة أيام من وقت بلوغه، فإن ثبت على كفره قتل). أما كون الصبي إذا عقل الإسلام يصح إسلامه وردته على المذهب: أما الإسلام؛ فلأن علياً أسلم صبياً فصح إسلامه وعد من مناقبه وسبقه وينشد له: سبقتكمُ إلى الإسلام طُرًّا ... صبيًا ما بلغت أوان حلمي ويقال: أول من أسلم من الصبيان علي، ومن الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن العبيد بلال. وفي الحديث: «من قال: لا إلهَ إلا الله دخلَ الجنة» (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 352. (¬2) ساقط من د. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (29) 1: 57 كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً. وأخرجه الترمذي في جامعه (2638) 5: 23 كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله.

وأما الردة؛ فلأن من صح إسلامه صحت ردته. دليله البالغ. وأما كونه يصح إسلامه دون ردته [على روايةٍ؛ فلأن مقتضى حال الصبي أن لا يصح منه إسلام ولا ردة] (¬1)؛ لكونه (¬2) غير بالغ. وقد رَفَعَ الشرع عنه القلم وجعله ملحقاً بالبهائم. ثم تُرك العمل به في الإسلام؛ لما تقدم. فيبقى في الردة على مقتضى الدليل. وأما كونه لا يصح شيء منهما على روايةٍ؛ فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رُفعَ القلمُ [عن ثلاث] (¬3): عن الصبي حتى يبلُغ ... » (¬4). ولأن الإسلام والردة قول تثبت به الأحكام. فلم يصح من الصبي؛ كالهبة. وأما كون المذهب الأول؛ فلما تقدم من الأدلة. ويعضد ذلك قوله عليه السلام: «أُمرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابُهم على الله» (¬5). وقوله عليه السلام: «كل مولودٍ يولدُ على الفطرة. فأبواه يُهوِّدانِه، وينصِّرانِه، ويمجِّسانِه» (¬6). ولأن الصبي يدخل في عموم ذلك كله. والتفرقة بين الإسلام والردة لا يصح؛ لأن المصحح للإسلام موجود في الردة فوروده في الإسلام يكون وروداً له ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في د: فلكونه. (¬3) ساقط من د. (¬4) سبق تخريجه ص: 215. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (25) 1: 17 كتاب الإيمان، باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}. وأخرجه مسلم في صحيحه (22) 1: 53 كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ... (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (1292) 1: 456 كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يُصلي عليه ... وأخرجه مسلم في صحيحه (2658) 4: 2047 كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة ...

في الردة. وقوله عليه السلام: «رُفعَ القلمُ» (¬1) يقتضي أن لا يكتب عليه شيء، وإذا صح إسلامه يكتب له لا عليه ويحصل له سعادة الدنيا والآخرة. فإن قيل: الإسلام سبب لوجوب الزكاة وحرمان ميراث قريبه الكافر وفسخ نكاحه ووجوب نفقة أقاربه المسلمين. قيل: الزكاة نفع محض؛ لأنها سبب النماء والزيادة محصنة للمال، والميراث والنفقة أمر متوهم، وذلك مجبور بحصول الميراث من أقاربه المسلمين وسقوط نفقة أقاربه الكفار ثم هو ضرر مغمور بالنسبة إلى ما يحصل له من سعادة الآخرة والخلاص من الشقاء والخلود في الجحيم. وأما كون الصبي إذا أسلم وقيل يصح إسلامه ثم قال: لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى قوله؛ لأنه عاقل صح إسلامه. فلم يلتفت إلى قوله؛ كالبالغ إذا أسلم ثم قال: لم أدر ما قلت. وأما كونه يجبر على الإسلام؛ فلأنه كفر بعد إسلامه. وأما كونه لا يقتل حتى يبلغ؛ فلأن من لم يبلغ [لا يتعلق به عقوبة من حد زنى ولا سرقة ولا قصاص. فكذلك يجب أن] (¬2) لا يتعلق به حق ردة. وأما كونه لا يقتل حتى يجاوز ثلاثة أيام من وقت بلوغه؛ فلأجل وجوب استتابة المرتد ثلاثاً. وأما كونه يقتل إذا ثبت على كفره؛ فلأنه مرتد مصرٌ على ردته. فوجب قتله؛ لعموم الأدلة المقتضية لقتل المرتد المتقدم ذكرها. قال: (ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يصحو وتتم له ثلاثة أيام من وقت ردته. فإن مات في سكره مات كافراً. وعنه: لا تصح ردته). أما كون من ارتد وهو سكران لا يقتل حتى يصحو؛ فلأن القتل عقوبة. فلا تفعل بزائل العقل. وأما كونه لا يقتل حتى تتم له ثلاثة أيام؛ فلما تقدم من أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 215. (¬2) ساقط من أ.

وأما كون أول الأيام من وقت ردته؛ فلأنه كذلك في غيره. وأما كونه إذا مات في سكره مات كافراً؛ فلأنه مات بعد ارتداده. وفيما ذكر إشعار بصحة ردة السكران. وهو صحيح صرح به المصنف رحمه الله في غير مقنعه وغيره من الأصحاب؛ لأن علياً قال بمحضر من الصحابة رضوان الله عليهم في السكران: «إذا سَكر هذَى، وإذا هذَى افترى فحدوه حد المفتري» (¬1) فأوجبوا عليه حد المفتري التي يأتي بها في سكره واعتبروا مظنتها. ولأنه يصح طلاقه. فصحت ردته؛ كالصاحي. وأما كونه لا تصح ردته على روايةٍ؛ فلأن الردة أمر يتعلق بالاعتقاد، والسكران لا يصح قصده. أشبه المجنون. ولأن الردة إنما تصح من مكلف، والعقل شرط في التكليف، ولهذا لا تصح استتابته. والأول هو الصحيح في المذهب؛ لما تقدم من قول علي بمحضر من (¬2) الصحابة وحدهم له. والقول بأنه لا يصح قصده [لا يصح؛ لأنه يجري مجرى الصاحي في الحكم. بدليل صحة طلاقه. وبه فارق المجنون؛ لأن] (¬3) المجنون لا يصح طلاقه. وعدم صحة استتابته لعدم صحة (¬4) عقله وتمييزه. ولأن الحد وضع للزجر، ولا يحصل الزجر في حال سكره. فإن قيل: لم كان ابتداء الثلاثة في الصبي من حين البلوغ، وفي السكران من حين الردة؟ قيل: لأن زوال العقل في السكران بتعديه. بخلاف الصبي. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 282. (¬2) ساقط من د. (¬3) ساقط من أ. (¬4) مثل السابق.

قال: (وهل تقبل توبة الزنديق، ومن تكررت ردته، أو من سبّ الله تعالى أو رسوله، والساحر؟ على روايتين: إحداهما (¬1): لا تقبل توبته، ويقتل بكل حال. والأخرى: تقبل توبته كغيره). أما كون توبة الزنديق لا تقبل على روايةٍ؛ فلأنه لا يؤمن أن يظهر التوبة ويبطن غيرها كما كان يظهر الإسلام ويبطن الكفر. ولأن في قبول توبته خطراً؛ لأنه لا سبيل إلى الثقة بقوله. ولأن إبقاءه يؤدي إلى تسلطه في الباطن على إفساد عقائد المسلمين، وفي ذلك ضرر عظيم. وأما كون [توبة من] (¬2) تكررت ردته لا تقبل على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديم سبيلا} [النساء: 137]. وروى الأثرم بإسناده عن ظيبان بن عمارة «أن رجلاً من بني سعيد (¬3) مرّ على مسجدٍ لبني حنيفة. فإذا هم يقرؤون برجز مسيلمة، فرجعَ إلى ابن مسعود فذكر له ذلك. فبعث إليهم فأُتي بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم؛ إلا رجلاً منهم يقال له: ابن النوَّاحةِ (¬4) قال: قد أتيتُ بكَ مرة فزعمتَ أنك قد تبتَ وأراكَ قد عدتَ فقتلَه» (¬5). وأما كون توبة من سبّ الله أو رسوله (¬6) لا تقبل على روايةٍ؛ فلأن ذنبه عظيم جداً. أشبه الزنديق. وأما كون توبة الساحر لا تقبل؛ فلأن الصحابة رضوان الله عليهم ما نقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحراً. ¬

_ (¬1) في أ: أحدهما. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في الشرح الكبير: بني سعد، 10: 89. (¬4) في الأصول: الرجة. وما أثبتناه من السنن. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (2762) 3: 84 كتاب الجهاد، باب في الرسل. (¬6) في أ: ورسوله.

ولأن السحر معنى في القلب لا يزول بالتوبة. أشبه الزنديق المستتر بكفره. وفي الحديث عن عائشة: «أن امرأةً جاءتها. فجعلت تبكي بكاءً شديداً وقالت: يا أم المؤمنين! إن عجوزاً ذهبتْ إلى هاروت وماروت فقلت: علِّماني السحر. فقالا: اتق الله ولا تكفري (¬1) فإنك على رأس أمركِ. فقلت: علِّماني السحر. فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ففعلت. فرأيت كأن فارساً مقنعاً في الحديد خرجَ مني حتى طارَ فغابَ في السماء. فرجعت إليهما فقالا: ذلك الإيمان ... وذكرت باقي القصة. قالت: والله ما صنعتُ شيئاً غيرَ هذا فهل لي من توبة؟ قالت عائشة ورأتها تبكي بكاء شديداً فطافت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسألهم: هل لها من توبة؟ فما أفتاها أحدٌ إلا ابن عباس قال لها: إن كان أحدٌ من أبويكِ حياً فبرّيه وأكثري من عمل البِّر ما استطعت» (¬2). وأما كون توبة كل من ذكر تقبل على روايةٍ؛ فإن ذنوبهم إما شرك أو ما دونه، والشرك تقبل التوبة فيه بدليل قوله تعالى: {قُل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]. وإذا قبل في الشرك فلأن يقبل فيما دونه بطريق الأولى. والصحيح في المذهب الرواية الأولى؛ لأن أدلتها خاصة، وأدلة الثانية عامة، والخاص مقدم على العام. ولأن ذنوبهم زيادة على الشرك المطلق. فلا يلزم من الغفران فيه (¬3) الغفران فيها لزيادتها عليه. فعلى هذا يقتل من اتصف بأحد ما ذكر في الحال؛ لأن التأخير لأجل الاستتابة، ومن لا تقبل توبته لا حاجة إلى استتابته. قال: (وتوبة المرتد إسلامه. وهو: أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ إلا أن تكون ردته بإنكار فرض، أو إحلال محرم، أو جحد نبي أو كتاب، أو إلى دين من يعتقد أن محمداً بعث إلى العرب خاصة فلا يصح إسلامه ¬

_ (¬1) في أ: تكفر. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 136 كتاب القسامة، باب قبول توبة الساحر وحقن دمه بتوبته.

حتى يقر بما جحده (¬1) ويشهد أن محمداً بعث إلى العالمين، أو يقول: أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام). أما كون توبة المرتد إسلامه؛ فلأنه ينافي ما صدر منه وهو متأخر عنه والحكم للمتأخر. وأما كون إسلامه هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إذا لم تكن ردته بإنكار ما ذكر؛ [فلأن من قال ذلك حكم بإسلامه ما لم يوجد منه ما يناقضه. فكذلك المرتد. وأما كون من تكون ردته بإنكار ما ذكر] (¬2) لا يصح إسلامه حتى يقر بما جحده؛ فلأن ردته لجحده. فإذا لم يقر بما جحده بقي الأمر على ما كان عليه من الردة الموجبة لتكفيره. وأما كون من تكون ردته إلى دين من يعتقد أن محمداً بعث إلى العرب خاصة لا يصح إسلامه حتى يشهد أن محمداً بعث إلى العالمين، أو يقول: أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام؛ فلأن الرجوع عما ذهب إليه لا يحصل إلا بأحدهما. فإن قيل: قول المصنف رحمه الله: وتوبة المرتد إسلامه وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله يدل على أن الإسلام لا يحصل إلا بهما، وقوله: إلا أن تكون ردته بإنكار فرض ... إلى قوله: ولا يصح إسلامه حتى يقر بما يجحده ويشهد أن محمداً بعث إلى العالمين يدل على أن من ردته بإنكار ما ذكر يصح إسلامه بمجرد إقراره بما جحد وشهادته بأن محمداً بعث إلى العالمين من غير أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويدل على أنه لا بد للمنكر لما ذكر من مجموع الأمرين من الإقرار والشهادة المذكورة آخراً. قيل: أما الأول: فلا يكفي فيه مجرد إقراره بما جحده بل لا بد فيه من الشهادتين المذكورتين أولاً. وقول المصنف رحمه الله: فلا يصح إسلامه؛ مشعر ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في د: يجحده.

بذلك (¬1)؛ لأن المراد بإسلامه ما تقدم من الشهادة لتفسيره الإسلام بهما، والمعنى فلا تصح الشهادتان المتقدم ذكرهما حتى يقر بما جحده. وأما الثاني: فهو من باب التوزيع كقولك: ركب الرجال الدواب على معنى ركب كل واحد دابة. فكذا قول المصنف رحمه الله: فلا يصح إسلامه حتى يقر ويشهد معناه حتى يشهد من أنكر فرضاً أو جحد نبياً أو كتاباً بما تقدم ذكره ويقر بما جحده، وحتى (¬2) يشهد [من ارتد إلى دين من يعتقد أن محمداً بعث إلى العرب خاصة بما تقدم ذكره] (¬3) وأن محمداً بعث إلى العالمين أو يقول: أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام. قال: (وإذا مات المرتد فأقام وارثه بينة أنه صلى بعد الردة حكم بإسلامه. ولا يبطل إحصان المسلم بردته ولا عباداته التي فعلها في إسلامه إذا عاد إلى الإسلام). أما كون المرتد يحكم بإسلامه إذا قامت البينة بأنه صلى بعد الردة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ صلَى صلاتنَا واستقبلَ قبلتنَا فلهُ ما لنا وعليهِ ما علينا» (¬4). ولأن الصلاة أحد مباني الإسلام. فحكم بالإسلام بها؛ كالشهادتين. وأما كون المسلم لا يبطل إحصانه بردته إذا عاد إلى الإسلام؛ فلأن العدالة تعود بالإسلام بعد الردة. فلأن يعود الإحصان [بعد الإسلام] (¬5) بطريق أولى (¬6). [ولأن إحصان القذف لا يبطل بالردة فكذا الإحصان] (¬7) المذكور. وأما كونه لا تبطل عباداته التي فعلها في إسلامه إذا عاد إليه؛ فلأن الله تعالى شرط في بطلان العبادة موت المرتد على كفره بدليل قوله: {ومن يرتدد منكم عن ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: معناه حتى. (¬3) ساقط من أ. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2641) 3: 44 كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون. وأخرجه الترمذي في جامعه (2608) 5: 4 كتاب الإيمان، باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة». (¬5) ساقط من د. (¬6) في أ: الأولى. (¬7) ساقط من د.

دينه فيمت وهو كافر} [البقرة: 217]، ومن عاد إلى الإسلام لم يوجد فيه الشرط فيجب أن لا يبطل عمله الحاصل في حال إسلامه؛ لانتفاء شرط الإبطال. فإن قيل: قوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] يدل على حبوط (¬1) العمل مطلقاً. قيل: يجب حمله على الآية المذكورة؛ لأن ما ذكر مطلق والآية المذكورة مقيدة، والمطلق يجب حمله على المقيد. ¬

_ (¬1) في أ: الإحباط.

فصل [في أحكام المرتد] قال المصنف رحمه الله: (ومن ارتد لم يزل ملكه بل يكون موقوفاً وتصرفاته موقوفة، فإن أسلم ثبت ملكه وتصرفاته، وإلا بطلت. وتقضى ديونه وأروش جناياته، وينفق على من تلزمه مؤونته، وما أتلف من شيء ضمنه. ويتخرج في الجماعة الممتنعة أن لا تضمن ما أتلفته. وقال أبو بكر: يزول ملكه بردته، ولا يصح تصرفه. وإن أسلم رد إليه تمليكاً مستأنفاً). أما كون من ارتد لا يزول ملكه على المذهب؛ فلأن الذي وجد منه سبب يبيح الدم، وذلك لا يوجب زوال الملك. دليله الزاني المحصن والقاتل. وأما كونه يزول ملكه على قول أبي بكر؛ فلأن عصمة نفسه وماله بالإسلام فإذا ارتد زال العاصم لهما. فوجب أن تزول عصمتهما. ولهذا لو لحق بدار الحرب أبيح دمه وماله. ولأن المسلمين ملكوا إراقة دمه. فوجب أن يملكوا أخذ ماله. والأول أصح؛ لما تقدم. وزوال العصمة لا ينفي بقاء الملك. بدليل الحربي فإنه لا عصمة له وملكه ثابت. وزوال ملك المرتد بلحوقه بدار الحرب ممنوع بل تزول عصمته، ويباح لكلٍّ أخذه؛ كمال الحربي سواء. فعلى هذا يكون ملكه موقوفاً فإن أسلم تبين استمرار ثبوته وإن مات أو قتل زال ملكه من حيث موته أو قتله، وعلى قول أبي بكر إذا أسلم يرد إليه ما كان له على وجه الاستئناف. وأما كون تصرفاته من (¬1) البيع والهبة والعتق والتدبير والوصية ونحو ذلك موقوفة على المذهب؛ فلأنه مال تعلق به حق الغير. فكان التصرف فيه موقوفاً؛ كتبرع المريض.

_ (¬1) في أ: في.

وأما كونها غير صحيحة على قول أبي بكر؛ [فلأنه تصرف في غير ملك. فعلى المذهب إن أسلم نفذ تصرفه؛ كما لو صح المريض من مرضه، وإن قتل أو مات بطل؛ لأنه تصرف في مال تعلق به حق جماعة المسلمين. وعلى قول أبي بكر] (¬1) فلا (¬2) إشكال فيه. وأما كونه تُقضى ديونه وأروش جناياته؛ فلأن ذلك حق واجب عليه. وأما كونه ينفق على من تلزمه مؤونته؛ فلأن ذلك واجب بإيجاب الشرع. أشبه الدَّين. وأما كون ما أتلفه من شيء في ردته يضمنه على المذهب؛ فلأن الإتلاف يوجب الضمان على المسلم. فلأن يوجبه على المرتد بطريق الأولى. وأما كونه يتخرج في الجماعة إذا ارتدوا ولهم منعة أنها لا تضمن ما أتلفته؛ فلأنها في معنى البغاية. وتحقيقه أن الباغي إنما لم يضمن ما أتلفه؛ لأن في تضمينه ذلك تنفيراً له عن الرجوع إلى قبضة الإمام، وهذا المعنى موجود في الجماعة المرتدة الممتنعة. قال: (وإذا أسلم فهل يلزمه قضاء ما ترك من العبادات [في حال ردته] (¬3)؟ على روايتين). أما كون المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء ما ترك من العبادات في حال كفره على روايةٍ؛ فلأنه كافر. فلم يلزمه قضاء ما ترك في حال كفره؛ كالكافر الأصلي (¬4) إذا أسلم. وأما كونه يلزمه ذلك على روايةٍ؛ فلأن رجوعه إلى الإسلام واجب على وجه لا يقر على كفره بحال. بخلاف الأصلي (¬5). ولأن المرتد معترف بوجوب الصلاة عليه قبل ردته. بخلاف الكافر الأصلي. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في أ: لا. (¬3) زيادة من د. (¬4) في أ: الأصل. (¬5) مثل السابق.

قال: (وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب ثم قُدرَ عليهما لم يجز استرقاقهما ولا استرقاق أولادهما الذين ولدوا في الإسلام، ومن لم يُسلم منهم قُتل، ويجوز استرقاق من ولد بعد الردة. وهل يقرون على كفرهم؟ على روايتين). أما كون الزوجين المذكورين لا يجوز استرقاقهما؛ فلأن لحاقهما بدار الحرب لا يخرجهما عن كونهما مرتدَين، والمرتد لا يجوز استرقاقه بل يجب قتلُه؛ لقوله عليه السلام: «من بدَّلَ دينهُ فاقتلُوه» (¬1). ولأن المرتد لا يجوز إقراره على كفره فلا يجوز استرقاقه. وأما كون أولادهما الذين وُلدوا في الإسلام لا يجوز استرقاقهم؛ فلأنهم إن كانوا قد كبروا وهم مسلمون فالمسلم لا يسترَقُ، وإن وصفوا الكفر فقد كفروا بعد الحكم بإسلامهم، وإن كانوا صغاراً فلا يجوز استرقاقهم؛ لأنهم يحكم (¬2) بإسلامهم تبعاً لآبائهم. وأما كون من لم يسلم منهم يُقتل؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «من بدَّلَ دينهُ فاقتلُوه» (¬3). ولا بد أن يلحظ في القتل المذكور بلوغ الأولاد؛ لأن من لم يبلغ لم يقتل بردته؛ لما تقدم في موضعه. وأما كون من ولد بعد الردة يجوز استرقاقهم؛ فلأنهم محكوم بكفرهم من غير سبق إسلام. فوجب جواز استرقاقهم؛ كولد الحربي. وأما كونهم يقرون على كفرهم على روايةٍ؛ فبالقياس على الكافر الأصلي (¬4). والجامع بينهما اشتراكهما في جواز الاسترقاق. وأما كونهم لا يقرون على روايةٍ؛ فلأن آبائهم لا يقرون. فوجب أن لا يقروا بالقياس عليهم وعلى أولادهم (¬5) الذين وجدوا في حال الإسلام. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 352. (¬2) في أ: محكوم. (¬3) سبق تخريجه ص: 352. (¬4) في أ: الأصل. (¬5) في أ: أولاده.

فصل [في حكم الساحر] قال المصنف رحمه الله: (والساحر الذي يَرْكب المكنسة فتسير به في الهواء ونحوه يكفر ويقتل). أما كون من ذكر يكفر؛ فلأن الله تعالى قال: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة: 102]. وأما كونه يقتل؛ فـ «لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى الأحنف بن قيس: اقتلوا السواحر» (¬1). رواه أبو داود. ورُوي «أن حفصة قتلت جاريةً لها سحرتها» (¬2). رواه الأثرم. وعن جندب (¬3) بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حَدُّ الساحرِ ضربةٌ بالسيف» (¬4). ولأن الساحر كافرٌ، والكافرُ بعدَ إسلامه يُقتل. قال: (فأما الذي يسحر بالأدوية والتدخين وسقي شيء يضر فلا يَكفر، ولا يُقتل، ولكن يُعَزّر. ويقتص منه إن فعل ما يوجب القصاص). أما كون الذي يسحر بشيء مما ذكر لا يكفر؛ فلأنه دون ما تقدم ذكره. وعلله بعضهم بأنه ليس بسحر. وقول المصنف رحمه الله: فأما الذي يسحر لا يمكن معه التعليل بذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3043) 3: 168 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية من المجوس. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (14) 2: 663 كتاب العقول، باب ما جاء في الغيلة والسحر. (¬3) في الأصول: حبيب. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه (1460) 4: 60 كتاب الحدود، باب ما جاء في حد الساحر. وأخرجه الدارقطني في سننه (112) 3: 114 كتاب الحدود.

وأما كونه لا يقتل؛ فلأن الموجب للقتل الكفر وهو منتف فيه. وأما كونه يعزر؛ فلأن فعله المذكور معصية، والتعزير يجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. وأما كونه يقتص منه [إذا فعل ما يوجب القصاص؛ فلأنه فعلٌ يقتل مثله غالباً. فوجب أن يقتص منه] (¬1)؛ كما (¬2) لو قتله بمحدد. قال: (وأما الذي يعزم على الجن ويزعم أنه يجمعها فتطيعه: فلا يكفر، ولا يقتل. وذكره أبو الخطاب في السحرة الذي يُقتلون). أما كون من ذكر لا يكفر ولا يقتل على قول غير أبي الخطاب؛ فلأنه إذا لم يكفر ولم يقتل بما تقدم ذكره. فلأن لا يكفر ولا يقتل بما ذكر بطريق الأولى. وأما كونه يقتل على ما ذكره أبو الخطاب؛ فبالقياس على السحرة الذين يُقتلون. ونسَب المصنف رحمه الله في الكافي: الأول: إلى توقف الإمام. وقوله لمّا ذُكر ذلك له: قد رخص فيه بعض الناس. والثاني: إلى قول أصحابنا. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في د: فكما.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة قال المصنف رحمه الله: (والأصل فيها الحِلّ. فيحل كل طعام طاهر لا مضرة فيه من الحبوب والثمار وغيرها). أما كون الأصل في الأطعمة الحِلّ؛ فلأنها خلقت للانتفاع بها. قال الله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29]، وقد نبَّهَ على ذلك قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه ... الآية} [الأنعام: 145]. وأما كون كل طعام طاهر لا مضرة فيه يحل؛ فلأن الحل الأصلي يدل عليه. وهو سالم عن معارضة النجس والمضر. فوجب أن يعمل عمله؛ لسلامته عن المعارض. وفي تقييد المصنف رحمه الله الذي يحل بالقيود المذكورة احتراز من الشيء الذي لا يكون كذلك؛ لتمييز الحلال من الحرام. فالطاهر يحترز به عما ليس بطاهر وهو النجس. وسيأتي بعد دليل حرمته. ولا مضرة فيه يحترز به عما فيه مضرة؛ كالسموم وما أشبه ذلك؛ لأن جميع ما فيه مضرة حرام؛ لما يذكر بعد إن شاء الله تعالى. وقوله: من الحبوب والثمار؛ بيان لما يحل أكله مما جمع الصفات المتقدم ذكرها. وقوله: وغيرها؛ تنبيه على أن ما عدا الحبوب والثمار مما يجمع الطعم والطهارة وعدم المضرة حلال؛ كالحبوب والثمار المصرح بهما. قال: (فأما النجاسات؛ كالميتة والدم وغيرهما وما فيه مضرة من السموم ونحوها فمحرَّمة). أما كون الميتة والدم محرمين؛ فلأن الله تعالى قال: {حُرّمت عليكم الميتةُ والدم} [المائدة: 3]. ولأن أكل الميتة أقبح من الادِّهان بدهنها والاستصباح به وهو حرام؛ لما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن شحوم الميتة: أيطلى بها السفن ويُدهن بها الجلود

ويَستصبحُ بها الناس؟ فقال: لا. هو حرام» (¬1). فلأن يحرم ما هو أقبح من ذلك بطريق الأولى. وأما كون غير ذلك من النجاسات محرماً؛ فلأن النجس خبيث وقد حرم الله أكل الخبيث. وفي الحديث: «لما سئل عن فأرة وقعت في سمن: لا تقربوه» (¬2). وفي الأكل قربانه، وذلك منهي عنه، والنهي يقتضي التحريم. وأما كون ما فيه مضرة من السموم محرماً؛ فلأن ذلك يقتل غالباً. فحرم أكله؛ لإفضائه إلى الهلكة. ولذلك عُدَّ من أطعمَ السُّمَّ لغيره قاتلاً. وأما كون ما فيه مضرة نحو (¬3) السموم محرماً؛ فلمشاركتهِ السمومَ المضِرَّةَ الموجبةَ للهلكَة. قال: (والحيوانات مباحة إلا الحمر الأهلية، وما له ناب يفرس به؛ كالأسد والنمر والذئب والفهد والكلب والخنزير وابن آوى والسنور وابن عرس والنمس (¬4) والقرد؛ إلا الضبع. وما له مخلب من الطير يصيد به؛ كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والحدأة والبومة. وما يأكل الجيف؛ كالنسر والرخم [واللقلق وغراب البَيْن والأبْقَع. وما يستخبث؛ كالقنفذ والفأر والحيات والعقارب] (¬5). والحشرات كلها. وما تولد من مأكول وغيره كالبغل، والسِمْع ولد الضبع من الذئب، والعِسْبَار ولد الذئبة من الذِّيخ). أما كون الحيوانات ما خلا المستثنى مباحة؛ فلما تقدم من أن الأصل في الأطعمة الحل. ولأن الله تعالى قال: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} [المائدة: 1]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2121) 2: 779 كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام. وأخرجه مسلم في صحيحه (1581) 3: 1207 كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3842) 3: 364 كتاب الأطعمة، باب في الفأرة تقع في السمن. وأخرجه النسائي في سننه (4260) 7: 178 كتاب الفرع والعتيرة، باب الفارة تقع في السمن. (¬3) في أ: من. (¬4) ساقط من أ. (¬5) مثل السابق.

و «أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة بأكل لحم الحمار الذي صاده»، فيثبت في المنصوص بالنص وفيما عداه بالقياس. ولأن قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعمٍ يطعمه} [الأنعام: 145]: يقتضي حل سائر الأشياء ما عدا الميتة والدم ولحم الخنزير. تُرك العمل به في الأشياء المحرمة الآتي دليل تحريمها. فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما كون الحمر الأهلية غير مباحة؛ فلما روى جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحومِ الحمرِ الأهلية، وأذن في لحومِ الخيل» (¬1) متفق عليه. وأما كون ما له ناب يفرس به غير الضبع محرم (¬2)؛ فلما روى أبو ثعلبة الخشني «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كلِّ ذي ناب من السباع» (¬3) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ ذي نابٍ من السباع حرام» (¬4). قال ابن عبدالبر: هذا حديث ثابت صحيح مجمع على صحته. وأما قول المصنف رحمه الله: كالأسد والنمر والذئب والفهد والكلب والخنزير وابن آوى والسنور وابن عرس والنمس (¬5) والقرد؛ فتمثيل لما له ناب يفرس به وتعداد له. وأما كون الضبع مباحاً وإن كان له ناب؛ فلما روى جابر قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الضبع. قلت: صيد هو؟ قال: نعم» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5204) 5: 2102 كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية. وأخرجه مسلم في صحيحه (1941) 3: 1541 كتاب الصيد والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل. (¬2) في د: غير مباح. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5210) 5: 2103 كتاب الذبائح والصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع. وأخرجه مسلم في صحيحه (1933) 3: 1534 كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1933) 3: 1534 كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. (¬5) ساقط من أ. (¬6) أخرجه الترمذي في جامعه (1791) 4: 252 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل الضبع. وأخرجه النسائي في سننه (4323) 7: 200 كتاب الصيد والذبائح، الضبع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3236) 2: 1078 كتاب الصيد، باب الضبع.

وفي لفظ: «سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع. فقال: هو صيدٌ. ويجعلُ فيه كبشٌ إذا صادَهُ المحرم» (¬1). رواه أبو داود. فإن قيل: فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي نابٍ فلم لا يدخل الضبع فيه؟ قيل: لأن الدال (¬2) على حله خاص والنهي المذكور عام، والخاص يقدم على العام. وأما كون ما له مخلب من الطير غير مباح؛ فلما روى ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير» (¬3). وعن خالد بن الوليد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرامٌ عليكم الحمرُ الأهلية، وكل ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير» (¬4). رواهما أبو داود. وأما قول المصنف رحمه الله: كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والحدأة والبومة؛ فكما ذكر في الأسد وما معه. وأما كون ما يأكل الجيف غير مباح؛ فلأن الجيف نجسة. فأكلها دائماً بطبعه يصيّر لحمه وسائر أجزائه مختلطاً بالنجاسة. ولأنه إذا حرمت الجلاَّلة؛ لأكلها النجاسة فلأن يحرم ما يأكل (¬5) الجيف بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3801) 3: 355 كتاب الأطعمة، باب في أكل الضبع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3085) 2: 1030 كتاب المناسك، باب جزاء الصيد يصيبه المحرم. (¬2) في أ: الدلالة. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1934) 3: 1534 كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. وأخرجه أبو داود في سننه (3805) 3: 355 كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3806) 3: 356 كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع. (¬5) في الأصول: يأكل ما يحرم. ولعل الصواب ما أثبتناه.

وأما قوله: كالنسر والرخم واللقلق وغراب البين والأبقع؛ فكما تقدم. وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغراب فاسقاً فقال: «خمسُ فواسق يقتلن في الحل والحرم -وذكر منهن- الغراب» (¬1). والبواقي في معناه؛ لمشاركتها له في أكل الجيف. وأما كون [ما يستخبث غير مباح؛ فلأن الله تعالى قال: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157]. والعبرة في ذلك بالعرب] (¬2) من [يعافه من] (¬3) أهل الحجاز من الأمصار دون أهل البوادي؛ لأن أهل البادية للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا. ولذلك سئل بعضهم عما يأكلون فقال: ما دَبَّ ودرجَ إلا أمُّ حُبَيْن (¬4) فقال: لتهن أم حبين العافية. وأما قوله: كالقنفذ والفأر والحيات والعقارب والحشرات كلها؛ فتمثيل لما تقدم. وعن أبي هريرة «ذُكرت القنفذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو خبيث من الخبائث» (¬5). رواه أبو داود. وأما كون ما تولد من مأكول وغير مأكول غير مباح؛ فلأنه يتولد من مباح وغير مباح فغلب جانب التحريم. وأما قوله: كالبغل والسمع والعسبار؛ فكما تقدم. وفي حديث جابر: «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» (¬6). صرح بذلك في البغل وهو متولد من مأكول وغير مأكول فثبت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1732) 2: 650 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1198) 2: 857 كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم. (¬2) ساقط من أ. (¬3) ساقط من د. (¬4) هي على خلقة الحرباء عريضة الصدر، عظيمة البطن على قدر الضفدع غبراء لها أربع قوائم. القاموس المحيط ص: 1533. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3799) 3: 354 كتاب الأطعمة، باب في أكل حشرات الأرض. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (3789) 3: 351 كتاب الأطعمة، باب في أكل لحوم الخيل.

فيه بالنص، وفي السمع والعسبار بالقياس عليه. والبغل يكون تارة من حمار وحجرة، وتارة من فحل وحمارة. والسمع والعسبار ما ذكر ونبَّه عليه المصنف رحمه الله؛ ليعلم. والذيخ: الذكر من الضبعان. فيكون العسبار عكس السِّمع. قال: (وفي الثعلب والوبر وسِنَّوْر البر واليَربُوع روايتان). أما كون الثعلب غير مباح في روايةٍ؛ فلأنه سبع فيدخل في: «نهيه عليه السلام: عن كل ذي نابٍ من السباع» (¬1). وأما كونه مباحاً في روايةٍ؛ فلأنه يُفدى في الحرم والإحرام. والأولى أظهر؛ للنهي المتقدم. وأما كون الوبر غير مباح في روايةٍ ومباح (¬2) في روايةٍ؛ فبالقياس على السِّنَّوْر الآتي ذكره. وأما كون سِنَّوْر البرّ غير مباح في روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نَهى عن أكلِ الهِرِّ» (¬3) فيدخل فيه البري. وأما كونه مباحاً في روايةٍ؛ فلأنه بري. أشبه الحمار البري. وأما كون اليَرْبوع غير مباحٍ في روايةٍ؛ فلأنه أشبه الفأر. وأما كونه مباحاً في روايةٍ؛ فـ «لأن عمر حكم فيه بجَفْرَة» (¬4). ولأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد محرم ولم يوجد. وهذه الرواية هي الصحيحة في ظاهر كلام المصنف رحمه الله في المغني. قال: (وما عدا هذا مباح؛ كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج والوحشي من البقر والظباء والحمر والزرافة والنعامة والأرنب، وسائر الوحش والضبع والضب ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 360. (¬2) في د: مباحاً. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1280) 3: 578 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3250) 2: 1082 كتاب الصيد، باب الهرة. (¬4) أخرجه مالك في الموطأ (230) 1: 331 كتاب الحج، باب فدية ما أصيب من الطير والوحش.

والزاغ وغراب الزرع، وسائر الطير، وجميع حيوان البحر، إلا الضفدع والحية والتمساح. وقال ابن حامد: وإلا الكوسج. وقال أبو علي النجاد: لا يباح من البحري ما يحرم نظيره في البر؛ كخنزير الماء وإنسانه). أما كون ما عدا ما تقدم تحريمه من الحمر الأهلية ... إلى ما تولد من مأكول وغيره مباحاً؛ فلما تقدم من أن الأصل الحل. وأما قول المصنف رحمه الله: كبهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ... إلى جميع حيوان البحر إلا المستثنى؛ فبيان للأشياء المباحة وتعداد لها. وقد دلت (¬1) النصوص على إباحة أكثرها وباقيها في معنى المنصوص على إباحته: أما بهيمة الأنعام؛ فلما تقدم من أن (¬2) الله تعالى قال: {أُحِلّت لكم بهيمةُ الأنعام} [المائدة: 1]. وأما الخيل؛ فلما تقدم في حديث جابر من «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى يوم خيبر عن لحومِ الحمرِ (¬3) الأهليةِ، وأذنَ في لحومِ الخيل» (¬4). وعن أسماء قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة» (¬5) متفق عليهما. ولأنه حيوان طاهر مستطاب ليس بذي ناب ولا مخلب فأبيح؛ كبهيمة الأنعام. وأما الدجاج؛ فلما روى أبو موسى قال: «رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكلُ الدّجاج» (¬6) متفق عليه. ¬

_ (¬1) في أ: دل. (¬2) ساقط من د. (¬3) مثل السابق. (¬4) سبق تخريجه ص: 359. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (5200) 5: 2101 كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الخيل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1942) 3: 1541 كتاب الصيد والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (5198) 5: 2100 كتاب الذبائح والصيد، باب لحم الدجاج. وأخرجه مسلم في صحيحه (1649) 3: 1270 كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا ...

وأما الوحشي من البقر والظباء والحمر؛ فلما تقدم من «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا قتادة وأصحابه بأكل لحم الحمار الوحشي» (¬1). والبقر والظباء في معناه. ولأن كل واحدٍ منهما صيد فيدخل في قوله عليه السلام: «صيدُ البرِّ لكمْ حَلال» (¬2). وأما الزرافة؛ فلما تقدم من أن الأصل الحل. ولأنها دابة تشبه البعير إلا أن عنقها أطول من عنق البعير، وجسمها ألطف من جسمه وأعلا منه، وذلك لا أثر له. فوجب إلحاقها به. وأما النعامة؛ فلما تقدم من أن الأصل الحل. ولأنها دابة تشبه البطة إلا أنها أكبر منها، وعنقها أطول من عنقها، وذلك لا أثر له. فوجب إلحاقها بها. وأما الأرنب؛ فلما روى أنس قال: «أنْفَجْنا أرنبًا بمرِّ الظهران. فسعى القوم فَلَغَبُوا. فأخذتُها فجئت بها إلى أبي طلحة. وبعث بورِكِهَا أو قال: فخذِها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبِلَه» (¬3). متفق عليه. وعن محمد بن صفوان أن صفوان بن محمد قال: «صدتُ أرنبينِ فذبحتُهما بمروةٍ. فسألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلِهما» (¬4). رواه أبو داود. وأما سائر الوحش؛ فلما تقدم من أن الأصل الحل. وأما الضبع؛ فلما تقدم في قول المصنف رحمه الله: إلا الضبع من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هو صيد» (¬5) ونحوه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1728) 2: 648 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال. وأخرجه مسلم في صحيحه (1196) 2: 853 كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1851) 2: 171 كتاب المناسك، باب لحم الصيد للمحرم. وأخرجه الترمذي في جامعه (846) 3: 203 كتاب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم. وأخرجه النسائي في سننه (2827) 5: 187 كتاب مناسك الحج، إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2433) 2: 909 كتاب الهبة وفضلها، باب قبول هدية الصيد. وأخرجه مسلم في صحيحه (1953) 3: 1547 كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الأرنب. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2822) 3: 102 كتاب الأضاحي، باب في الذبيحة بالمروة. (¬5) سبق تخريجه ص: 360.

وأما الضب؛ فلما روى ابن عباس قال: «دخلتُ أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة. فأُتي بضب محنوذ. فقيل: هو ضب يا رسول الله! فرفع يده. فقلت: أحرام هو؟ قال: لا. ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدُني أعافُه. قال: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر» (¬1) متفق عليه. وعن عمر: [«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم الضب ولكن قذره. ولو كان عندي لأكلته» (¬2). وعن ابن عباس]: (¬3) «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ الضبَّ تقذُّراً، وأُكل على مائدته، ولو كان حراماً ما أُكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬4). رواه أبو داود. وأما الزاغ وهو الصغير الأغبر وغراب الزرع وهو الصغير الأسود؛ فلأن مرعاهما الزرع والحبوب. وأما سائر الطير؛ فلما تقدم من أن الأصل في الأطعمة الحل. وأما جميع حيوان البحر ما خلا الضفدع والحية والتمساح على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {أُحِّل لكم صيد البحر وطعامه} [المائدة: 96]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: «هو الطَّهورُ ماؤُهُ، الحلُّ ميتَتُه» (¬5). وعن شريح عن (¬6) رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ شيءٍ في البحرِ مذبوحٌ» (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5217) 5: 2105 كتاب الذبائح والصيد، باب الضب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1945) 3: 1543 كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (194) 1: 29. ولم يذكر لفظ: «ولو كان عندي لأكلته». (¬3) ساقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2436) 2: 910 كتاب الهبة، باب قبول الهدية. وأخرجه مسلم في صحيحه (1947) 3: 1544 كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب. وأخرجه أبو داود في سننه (3793) 3: 353 كتاب الأطعمة، باب في أكل الضب. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (83) 1: 21 كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر. أخرجه الترمذي في جامعه (69) 1: 100 أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور. وأخرجه النسائي في سننه (59) 1: 50 كتاب الطهارة، باب ماء البحر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (386) 1: 136 كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بماء البحر. (¬6) ساقط من أ. (¬7) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 5: 2092 كتاب الذبائح والصيد، باب قول الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر}.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ذبحَ في البحرِ كل شيءٍ لابن آدم» (¬1). وأما كون الضفدع غير مباح؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله» (¬2). وأما كون الحية غير مباحة؛ فلأنها من الخبائث. وأما كون التمساح غير مباح؛ فلأن له ناب يجرح به. وأما كون الكوسج غير مباح عند ابن حامد؛ فلأنه يأكل الناس. وأما كون ما له نظير في البر غير مباح على قول أبي علي النجاد؛ فلأنه يشبهه. فعلى هذا لا يباح إنسان الماء ولا كلبه ولا خنزيره؛ لأن نظير ذلك كله في البر لا يباح. قال: (وتحرم الجلاَّلةِ التي أكثر علفها النجاسة، ولبنها وبيضها حتى تحبس. وعنه: تكره ولا تحرم، وتحبس ثلاثاً. وعنه: يحبس الطائر ثلاثاً والشاة سبعاً، وما عدا ذلك أربعين يوماً). أما كون لحم الجلاّلة ولبنها يحرم حتى تحبس على المذهب؛ فلما روى ابن عمر قال: «نَهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكلِ الجلاَّلةِ وألبانِها» (¬3). رواه أبو داود. وأما كون بيضها يحرم حتى تحبس على ذلك؛ فبالقياس على اللحم واللبن. وأما كون ذلك كله يكره ولا يحرم على روايةٍ: أما كونه يكره؛ فللنهي المتقدم ذكره؛ لأنه إذا لم نحرمه فلا أقل من أن (¬4) نجعله مكروهاً. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (13) 4: 269 كتاب الأشربة وغيرها، باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3871) 4: 7 كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة. وأخرجه النسائي في سننه (4355) 7: 210 كتاب الصيد والذبائح، الضفدع. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3223) 2: 1074 كتاب الصيد، باب ما ينهى عن قتله. قال في الزوائد: في إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي وهو ضعيف. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3785) 3: 351 كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها. وأخرجه الترمذي في جامعه (1824) 4: 270 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها. (¬4) ساقط من د.

ولأنه يختلف في حرمته. وأما كونه لا يجرم؛ فلأنه حيوان أصله الإباحة. فلم يحرم بما ذكر استصحاباً لأصل الإباحة. وأما كون الجميع يحبس ثلاثاً؛ فـ «لأن ابن عمر كان إذا أراد أكل الجلاّلةِ حبَسَها ثلاثًا (¬1»). وأما كون الطائر يحبس ثلاثاً (¬2). وأما كون الشاة تحبس سبعاً (¬3). وأما كون ما عدا ذلك كالإبل والبقر ونحوهما يحبس أربعين يوماً؛ فلما روى عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلاّلة أن يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة» (¬4). رواه الخلال بإسناده. قال: (وما سقيه بالماء النجس من الزروع والثمر يحرم، فإن سقي بالطاهر طهر. وقال ابن عقيل: ليس بنجس ولا محرم، بل يطهر بالاستحالة؛ كالدم يستحيل لبناً). أما كون ما سقيه بالماء النجس من الزروع والثمر محرماً على المذهب؛ فلأنه ينمى بالنجاسة وتتربى أجزاؤه منها، وفي الحديث عن ابن عباس: «كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم أن لا يُدْمِلوها بعذرة الناس» (¬5). ولولا أن ما يزرع فيها يحرم لما كان في الاشتراط فائدة. ¬

_ (¬1) زيادة من الشرح الكبير 11: 92. (¬2) بياض في الأصول مقدار سطر. (¬3) بياض في الأصول مقدار عدة كلمات. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 333 كتاب الضحايا، باب ما جاء في أكل الجلالة وألبانها. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 139 كتاب المزارعة، باب ما جاء في طرح السرجين والعذرة في الأرض.

وأما كونه إذا سقي بالماء الطهور -وهو المراد بقول المصنف رحمه الله: الطاهر-: يطهر؛ فلأن الماء الطهور معد لتطهير النجاسة وغاية ما يقال: أنه يتنجس بسقي النجس. وأما كونه ليس بنجس عند ابن عقيل؛ فلما ذكره من القياس على اللبن وذلك أن الدم نجس فإذا صار لبناً طهر باستحالته، وهذا المعنى موجود في الزروع المذكورة. وأما كونه ليس بمحرم؛ فلأن المحرم له كونه نجساً وهو عنده طاهر؛ لما تقدم من قياسه على اللبن.

فصل [فيمن اضطر إلى محرم] قال المصنف رحمه الله: (ومن اضطر إلى محرم مما ذكرنا حل له منه (¬1) ما يسد رمقه. وهل له الشبع؟ على روايتين). أما كون من اضطر إلى محرم مما ذكره المصنف رحمه الله يحل له منه ما يسد رمقه؛ فلأن الله تعالى ذكر المحرمات ثم قال: {فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه} [البقرة: 173]. وأما كونه له الشبع من ذلك على روايةٍ؛ فلما روى جابر بن سمرة «أن رجلاً نزلَ الحرّةَ فَنَفَقَتْ عنده ناقة. فقالت له امرأته: اسْلَخْهَا حتى نُقَدِّدَ شحمَهَا ولحمَهَا ونأكلَهُ. فقال: حتى أسألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. [فسأله] فقال: هل عندكَ غنىً يُغنيك؟ قال: لا. قال: فكلُوها» (¬2). ولم يفرق. رواه أبو داود. ولأن ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه. دليله المباح. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأن المبيح الضرورة، وهي تزول بعد (¬3) الرمق. فإن قيل: ما المراد بالمضطر هاهنا؟ قيل: هو الذي يخاف على نفسه التلف إن يترك الأكل. سواء خاف من جوع أو خاف أن يعجز عن المشي أو الركوب إن ترك الأكل فينقطع عن الرفقة ويهلك. ¬

_ (¬1) في أ: منه فيه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3816) 3: 358 كتاب الأطعمة، باب في المضطر إلى الميتة. وما بين القوسين من السنن. (¬3) في أ: به.

قال: (وإن وجد طعاماً لا يعرف مالكه وميتة أو صيداً وهو مُحْرم فقال أصحابنا: يأكل الميتة. ويحتمل أن يحل له الطعام والصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة). أما كون من وجد طعاماً لا يعرف مالكه وميتة: يأكل الميتة دون طعام الغير على قول أصحابنا؛ فلأنه منصوص على فعله، وأكل مال الآدمي بغير إذنه مجتهد فيه. ولأن حقوق الله مبنية على المسامحة، وحق الآدمي مبني (¬1) على الشح والضيق. وأما كون من وجد ميتة وصيداً وهو مُحْرم يأكل الميتة دون الصيد؛ فلأن في الصيد تحريمات ثلاثة: تحريم قتله، وتحريم أكله؛ لكونه صيداً، وتحريم أكله؛ لكونه ميتة؛ لأن ما ذبحه المحرم يصير ميتة. وأما كون الأول يحتمل أن يحل له الطعام إذا لم تقبل نفسه الميتة؛ فلأن طعام الغير لم يحرم لمعنى فيه بل لحق الغير وذلك يجوز بوجوب الضمان. بخلاف الميتة فإنها حرمت لمعنى فيها وهو موجود عند الاضطرار. ولأن في إلزامه بأكل ما لم تقبل نفسه إضراراً به، وربما أدى حاله إلى ترك الأكل. فيحصل المحذور الذي أبيح من أجله أكل الميتة. وذلك مطلوب العدم. وأما كون المحرم يأكل الصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة؛ فلأن الصيد يساوي طعام الغير فيما ذكر معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. لا يقال: الصيد يصير بذبح المحرم ميتة فيساوي الميتة الذي وجدها معه بخلاف طعام الغير؛ لأن الصيد وإن صار بما ذُكر ميتة لكن حكماً، وحينئذ لم (¬2) يوجد فيه ما في الميتة حقيقة من حيث المحل ونحوه. فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله فيه نظر من وجوه: أحدها: أنه وصف الطعام بكونه لا يعرف واجدُه مالكَه. وظاهره اشتراط ذلك في أكل الميتة حقيقة على قول الأصحاب، وفي أكل الطعام والصيد على الاحتمال. ¬

_ (¬1) في أ: مبنية. (¬2) في أ: لا.

وثانيها: أن (¬1) قوله: وإن وجد طعاماً لا يعرف مالكه وميتة أو صيداً ظاهره أن الواجد تارة يجد الطعام المذكور والميتة، وتارة يجد الطعام المذكور والصيد؛ لأن "أو" العاطفة على الميتة لا الطعام. وثالثها: أن قوله: فقال أصحابنا: يأكل الميتة فيه إشعار بتضعيف ذلك؛ لأنه العادة منه في غير موضع من كتابه. وقوله: ويحتمل ليس بظاهر في الترجيح. قيل: أما الأول فليس مراده من وصف الطعام بما ذكر الاشتراط المذكور، وإنما وصفه بذلك؛ لأن الطعام الذي يعرف مالكه تأتي فيه الأحكام الآتي ذكرها. ويمكن أن يقال: ما يعرف مالكه يمكن غالباً أن يستأذنه في الأكل. والظاهر من حال المسلم أنه لا يمنع المضطر إليه من أكله إذا كان مستغنياً عنه فلا يحصل التعارض بين أكل ذلك وأكل الميتة فيكون ذلك شرطاً كما ذكر. وأما الثاني: فالعطف (¬2) بـ "أو" على الطعام لا على الميتة، وذلك وإن قرب من الميتة فقوله بعد: فقال أصحابنا: يأكل الميتة يرده؛ لأنه يدل على أن الميتة موجودة في المسألتين؛ لاقتصاره على ذكرها وإلا قال: والصيد. وقوله: ويحتمل أن يحل له الطعام والصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة يرده أيضاً؛ لأنه يدل على وجود الميتة مع الطعام تارة ومع الصيد أخرى. وأما الثالث ... (¬3). قال: (وإذا لم يجد إلا طعاماً لم يبذله مالكه، فإن كان صاحبه مضطراً إليه فهو أحق به، وإلا لزمه بذله بقيمته. فإن أبى فللمضطر أخذه قهراً ويعطيه قيمته. فإن منعه فله قتاله على ما يسد رمقه أو قدر شبعه على اختلاف الروايتين. فإن قُتل صاحب الطعام لم يجب ضمانه. وإن قُتل المضطر فعليه ضمانه). أما كون صاحب الطعام أحق به ممن لم يجد إلا طعاماً لم يبذله مالكه إذا كان مضطراً إليه؛ فلأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك. ¬

_ (¬1) زيادة من د. (¬2) في د: فالعاطف. (¬3) سقط من الأصول تتمة الشرح.

وأما كونه يلزمه بذله بقيمته إذا لم يكن مضطراً إليه؛ فلأن في بذله إحياء نفس آدمي معصوم. فلزمه بذله؛ كما يلزمه بذل منافعه في تخليصه من الغرق. وأما كون المضطر له أخذ ذلك قهراً إذا أبى مالكه دفعه؛ فلأن المضطر باضطراره صار مستحقاً له. وأما كونه يعطي المالك القيمة؛ فلئلا يجتمع فيه فوات العين وفوات المالية. وأما كونه له ذلك على ما يسد رمقه أو قدر شبعه على اختلاف الروايتين إذا منعه من ذلك؛ فلأنه من الواجب عليه. أشبه مانعي الزكاة. وإنما قال المصنف رحمه الله: على اختلاف الروايتين؛ للتنبيه على أن المبيح للقتال منع ما يباح له؛ لأنه الواجب. فإن قيل: بإباحة ما يسد رمقه دون ما يشبعه فله قتاله على ذلك؛ لأنه الواجب لا على مقدار الشبع؛ لأنه غير واجب. وإن قيل يباح له الشبع فله قتاله على الشبع؛ لأنه مباح له. فيجب بذله؛ كالذي يسد رمقه. وأما كونه لا يجب عليه ضمان صاحب المال إذا قتله؛ [فلأنه ظالم يمنعه. فقتْله جاء من تعديه. فلم يُضمن؛ كالصائل. وأما كونه إذا قُتل على صاحب الطعام ضمانه] (¬1)؛ فلأنه قتله مظلوماً. أشبه قتل المصال عليه. قال: (فإن لم يجد إلا آدمياً مباح الدم؛ كالحربي والزاني المحصن حل قتله وأكله). أما كون المضطر إذا لم يجد إلا من ذكر يحل له قتله؛ فلأنه يحل لغير المضطر. فلأن يحل له بطريق الأولى. وأما كونه يحل له أكله؛ فلأنه بقتله يصير ميتة فيدخل في قوله تعالى: {حُرِّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ... -إلى قوله-: فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثم فإن الله غفور رحيم} (¬2) [المائدة: 3]. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في الأصول: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}.

قال: (وإن وجد معصوماً ميتاً ففي جواز أكله وجهان). أما كون من تقدم ذكره لا يجوز له أكل من ذكر في وجه؛ فلأن الحي والميت يشتركان في الحرمة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كسرُ عظمِ الميتِ ككسرِ عظمِ الحي» (¬1). وأما كونه يجوز له في وجه؛ فلأنه مضطر وحرمة الحي أعظم من حرمة الميت. والحديث يحمل على غير حال الضرورة بدليل أن المباح الدم لا يجوز كسر عظمه ويجوز أكله. ولأنه يمكن الأكل من الميت من غير كسر عظمه. إذا علم ذلك فمفهوم كلام المصنف رحمه الله: أن الحي المعصوم لا يجوز قتله وأكله. وصرح به في المغني وعلله بأمرين (¬2): أحدهما: الإجماع. والثاني: أن المعصوم الحي مثل المضطر، فلا يجوز أن يقي نفسه بإتلافه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (1617) 1: 516 كتاب الجنائز، باب في النهي عن كسر عظام الميت. (¬2) في د: بأن.

فصل [فيمن مر بشجر لا حائط عليه] قال المصنف رحمه الله: (ومن مرّ بثمر في شجرة لا حائط عليه ولا ناظر فله أن يأكل منه ولا يَحْمل. وعنه: لا يحل له ذلك إلا لحاجة. وفي الزرع وشُرب لبن الماشية روايتان). أما كون من مرّ بثمر موصوفٍ بما ذُكر له أن يأكل منه على المذهب؛ فلما روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أتيتَ حائطَ بستان فنادِ صاحبَ البستانِ. فإن أجابكَ، وإلا فكُلْ من غيرِ أن تُفْسِد» (¬1). وعن عمر رضي الله عنه: «يأكل ولا يَتخذْ خُبْنَة» (¬2). وعن أبي زينب التيمي (¬3) قال: «سافرت مع أنس بن مالك وعبدالرحمن بن سمرة وأبي بردة (¬4) فكانوا يمرون بالثمار فيأكلون في أفواههم» (¬5). وأما كونه لا يحل له ذلك إلا لحاجة على روايةٍ؛ فلأن قوله عليه السلام: «دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا» (¬6) متفق عليه: يدل على حرمة الأكل من مال الغير مطلقاً. تُرك العمل به مع الحاجة؛ لما روى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2300) 2: 771 كتاب التجارات، باب من مرّ على ماشية قوم أو حائط هل يصيب منه؟ قال في الفتح: هذا الحديث أخرجه الطحاوي وصححه ابن حبان والحاكم. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 359 كتاب الضحايا، باب ما جاء فيمن مر بحائط إنسان أو ماشيته. (¬3) في د: التميمي. (¬4) في د: برزة. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (20306) 4: 300 كتاب البيوع والأقضية، من رخص في أكل الثمرة إذا مر بها. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (67) 1: 37 كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رب مبلغ أوعى من سامع». وأخرجه مسلم في صحيحه (1679) 3: 1306 كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.

عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سُئل عن الثمر المعلّق. فقال: ما أصابَ منه من ذي الحاجة غيرَ متخذٍ خُبْنَةً فلا شيء عليه. ومن أخرج منه شيئاً فعليه غرامةُ مثليه (¬1) والعقوبة» (¬2). قال الترمذي: هذا حديث حسن. فيجب أن يبقى فيما عدا الحاجة على مقتضى الحديث المتقدم ذكره. وأما كون من مرّ بذلك لا يَحْمل سواء كان محتاجاً أو لم يكن؛ فلأن الأحاديث الدالة على جواز الأكل مشعرة بعدم الأخذ. فإن في حديث أبي سعيد: «فكل من غير أن تفسد» (¬3)، وفي حديث عمر: «ولا يتخذ خُبْنَة» (¬4)، وفي حديث عمرو بن شعيب: «غيرَ متخذٍ خُبْنَة». وأما كون من مرّ بثمر في شجر عليه حائطاً أو ناظر -أي ناطور- ليس له أن يأكل؛ فإن ابن عباس قال: «إن كان عليها حائط فهو حرام فلا تأكل» (¬5). ولأن إحرازها بذلك يدل على شح صاحبها وعدم المسامحة فيها. وأما كون من مرّ بزرع ليس له أكله في روايةٍ؛ فلأن مقتضى قوله عليه السلام: «إن أموالكم عليكم حرام» (¬6): حرمة أكل مال الغير. تُرك العمل به في الثمر؛ للأحاديث المتقدم ذكرها. فيجب أن يبقى في الزرع؛ كسائر الأشياء. وأما كونه له أكله دون حمله في روايةٍ؛ فلأن العادة جارية بأكله فريكاً. أشبه الثمر. ¬

_ (¬1) في الأصول: مثله، وما أثبتناه من السنن. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (1710) 2: 136 كتاب اللقطة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1289) 3: 584 كتاب البيوع، باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها. وأخرجه النسائي في سننه (4958) 8: 85 كتاب قطع السارق، الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) سبق تخريجه قريباً. (¬5) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس قال: «إذا مررت بنخل أو نحوه وقد أحيط عليه حائط فلا تدخله إلا بإذن صاحبه. وإذا مررت به في فضاء الأرض فكل ولا تحمل» (20316) 4: 301 كتاب البيوع والأقضية، من كره أن يأكل منها إلا بإذن أهلها. (¬6) سبق تخريجه قريباً.

وأما كونه له شرب لبن الماشية في روايةٍ؛ فلما روى الحسن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم على ماشيةٍ فإن كان فيها صاحبها فليستأذِنْه. فإن أَذِنَ له فليحلِبْ وليشربْ. وإن لم يكن فيها فليصوِّتْ ثلاثاً، فإن أجابَ أحدٌ فليستأذنه، وإن لم يجبه أحدٌ فليحلبْ وليشربْ ولا يحمِل» (¬1). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأما كونه ليس له ذلك في روايةٍ؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «إن أموالكم عليكم حرام» (¬2)، ولما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلبنَّ أحدٌ ماشيةَ أحدٍ إلا بإذنِه ... مختصر» (¬3) متفق عليه. فإن قيل: حيث حرم الثمر والزرع ولبن الماشية فهل الحرمة عامة في المضطر وغيره أم خاصة بغير المضطر؟ قيل: بل خاصة بغير المضطر. فإن كان المارّ مضطراً كان له الأكل من جميع ذلك على الروايتين؛ لأن المضطر مباح له أكل الميتة. فلأن يباح له ذلك بطريق الأولى. ويقدم (¬4) الأكل من ذلك على الأكل من الميتة؛ لأنه مختلف فيه فهو أسهل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2619) 3: 39 كتاب الجهاد، باب في ابن السبيل يأكل من التمر ويشرب من اللبن إذا مر به. وأخرجه الترمذي في جامعه (1296) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في احتلاب المواشي بغير إذن الأرباب. (¬2) سبق تخريجه ص: 378. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2303) 2: 858 كتاب اللقطة، باب لا تحتلب ماشية أحد بغير إذن. وأخرجه مسلم في صحيحه (1726) 3: 1352 كتاب اللقطة، باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها. (¬4) في أ: وقد تقدم.

قال: (ويجب على المسلم ضيافة المسلم المجتاز به يوماً وليلة. فإن أبى فللضيف طلبه به (¬1) عند الحاكم. وتستحب ضيافته ثلاثاً. فما زاد فهو صدقة. ولا يجب عليه إنزاله في بيته؛ إلا أن لا يجد مسجداً أو رباطاً يبيت فيه). أما كون ضيافة المسلم المجتاز بالمسلم تجب عليه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليلةُ الضيف حقٌ واجب على كل مسلم» (¬2). وأما كونها يوماً وليلة؛ فلما روى أبو شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الضيافةُ ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة ... مختصر» (¬3) متفق عليه. قال: «جائزته يوم وليلة» كأنه آكد من سائر الثلاثة. وفي تقييد المصنف رحمه الله من تجب ضيافته بكونه مسلماً إشعار بأن ضيافة الكافر لا تجب. وصرح في المغني بوجوبها للكافر؛ كالمسلم، وعموم الحديث يدل عليه. وفي عدم تقييد من تجب ضيافته بكونه مسافراً إشعار بوجوبها للمسافر وغيره. وصرح به في المغني محتجاً بعموم الحديث. ثم قال: وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أن الضيافة تجب على أهل القرى دون أهل الأمصار. وأما كون الضيف له أن يطالب المجتاز به إذا أبى تضييفه؛ فلما روى المقدام ابن أبي كريمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلةُ الضيفِ حقٌ واجب، فإن أصبحَ بفنائِه فهو دَين عليه، إن شاءَ اقتضى وإن شاءَ ترك» (¬4). وفي لفظ رواه أبو داود: «أيما رجلٍ ضافَ قوماً فأصبحَ الضيفُ محروماً. فإنّ نصْرَهُ على كل مسلم حتى يأخذَ بحقه من زرعهِ وماله» (¬5). ولو لم يكن له طلبه لما وجب نصره. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3750) 3: 342 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الضيافة. وأخرجه أحمد في مسنده (16720) طبعة إحياء التراث. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5784) 5: 2272 كتاب الأدب، باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه. وأخرجه مسلم في صحيحه (48) 3: 1352 كتاب اللقطة، باب الضيافة ونحوها. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3750) 3: 342 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الضيافة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3677) 2: 1212 كتاب الأدب، باب حق الضيف. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (3751) 3: 343 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الضيافة.

وأما كونها تستحب ثلاثاً؛ فلما تقدم في حديث أبي شريح الخزاعي، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة» فيجب حمل الثلاث على الاستحباب والليلة على الوجوب. وأما كون ما زاد على ذلك صدقة؛ فلأنه تبرع من التبرعات. فكان صدقة؛ كصدقة النفل. وأما كون إنزاله في بيته إذا وجد مسجداً أو رباطاً يبيت فيه لا يجب عليه؛ [فلأن الضيف يستغني بالمبيت في ذلك. وأما كون إنزاله في بيته إذا لم يجد ذلك يجب عليه] (¬1)؛ فلأن حاجته تدعو إليه. أشبه الضيافة. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

باب الذ كاة

باب الذ كاة قال المصنف رحمه الله: (ولا يباح شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة، إلا الجراد وشبهه، والسمك، وسائر ما لا يعيش إلا في الماء فلا ذكاة له. وعنه: في السرطان وسائر البحري أنه يحل بلا ذكاة. وعنه: في الجراد لا يؤكل إلا أن يموت بسبب؛ ككبسه وتغريقه). أما كون شيء من الحيوان المقدور على ذبحه لا يباح بغير ذكاة ما خلا المستثنى؛ فلأن الله تعالى قال: {حُرّمت عليكم الميتة -إلى قوله-: إلا ما ذكيتم} [المائدة: 3]. وأما كون الجراد يباح بغير ذكاة ولا سبب يوجب موته على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُحلِّت لنا ميتتَان: السمكُ والجراد» (¬1). وأما كونه لا يؤكل إلا أن يموت بسبب ككبسه وتغريقه على روايةٍ؛ فلأن ذلك فيه (¬2) بمنزلة الذبح له. فوجب اعتباره فيه؛ كالذبح في غيره. والأولى أصح؛ لأن ما أُبيحت ميتته لا (¬3) يعتبر له سبب. دليله: السمك. ولأنه لو افتقر إلى [سببٍ لافتقر إلى] (¬4) ذبح ذابح وآلةٍ؛ كبهيمة الأنعام. وأما كون شبه الجراد يباح بغير ما ذكر؛ فلأن شبه الشيء يُعطى حكمه. وأما كون السمك يباح بغير ما ذكر؛ فلما ذكر في الجراد من الحديث. وأما كون سائر ما لا يعيش إلا في الماء ونحوه يباح بلا ذكاة رواية واحدة؛ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (3314) 2: 1102 كتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في أ: لم. (¬4) ساقط من د.

فلأن الله تعالى قال: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} [المائدة: 96] قال ابن عباس: «طعامُه ما ماتَ فيه» (¬1). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: «هو الطَّهورُ ماؤُهُ، الحلُّ ميتَتُه» (¬2). ومفهوم كلام المصنف رحمه الله: وسائر (¬3) ما لا يعيش إلا في الماء: أن ما يعيش في البر ومأواه فيٍ (¬4) البحر مثل: السلحفاء (¬5) وكلب الماء لا [يحل، ولا] (¬6) يباح بلا ذكاة على روايةٍ؛ لأنه حيوان مأكول. فلا يباح بلا ذكاة؛ كالحيوان البري. وأما كون سائر البحري يحل بلا ذكاة على روايةٍ؛ فلما تقدم من الآية والخبر. فإن قيل: فهل (¬7) السرطان من الذي يباح بلا ذكاة رواية واحدة، أم من الذي فيه خلاف؟ قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أنه من الثاني. فاستثناه في المغني فقال لما ذكره: إلا ما لا دَمَ فيه؛ كالسرطان فإنه يباح بغير ذكاة. ثم قال: قال (¬8) أحمد: السرطان لا بأس به، قيل له: يذبح (¬9) قال: لا. ثم قال: وذلك لأن (¬10) مقصود الذبح إنما هو إخراج الدم منه وتطييب اللحم بإزالة عفنه فما لا دم فيه لا حاجة إلى ذبحه. فإن قيل: ما الصحيح من الروايتين المتقدم ذكرهما؟ ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 5: 2092 كتاب الذبائح والصيد، باب قول الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر}. (¬2) سبق تخريجه ص: 367. (¬3) في أ: في سائر. (¬4) ساقط من أ. (¬5) في أ: السلحفاة. (¬6) ساقط من أ. (¬7) مثل السابق. (¬8) ساقط من د. (¬9) مثل السابق. (¬10) في الأصول: لأنه. وما أثبتناه من المغني 11: 83.

قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله في المغني أن الصحيح أنه لا يباح بلا ذكاة؛ لأنه قدمه. ثم قال بعد ذكر (¬1) الخلاف فيه: ولنا. ونقضَ علة الإباحة بأن لا خلاف في طير الماء أنه لا يباح بغير ذكاة، وحمل الأخبار على ما لا يعيش إلا في البحر. وقيل: الصحيح أنه يباح؛ لما تقدم ذكره، ويعضده (¬2) ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلُّ شيءٍ في البحرِ مذبوح» (¬3). وما روي عنه أنه قال: «إن الله تعالى ذبحَ كل ما في البحر لابن آدم»، وما صح من «أن (¬4) أبا عبيدة وأصحابه وجدُوا على ساحلِ البحر دابةً يقال لها: العنبر. فأكلوا منها شهراً وادَّهنوا حتى سمنُوا» (¬5). ¬

_ (¬1) في د: ذلك. (¬2) في د: ويعضه. (¬3) سبق تخريجه ص: 367. (¬4) ساقط من د. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (4103) 4: 1585 كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1935) 3: 1535 كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة ميتات البحر.

[فصل في شروط الذ كاة] قال: (ويشترط للذكاة شروط أربعة: أحدها: أهلية الذابح. وهو أن يكون: عاقلاً مسلماً أو كتابياً فتباح ذبيحته، ذكراً كان أو أنثى. وعنه: لا تباح ذبيحة نصارى بني (¬1) تغلب، ولا من أحد أبويه غير كتابي). أما كون الذكاة يشترط لها شروط أربعة؛ فلما يأتي ذكره فيها. وأما كون أحدها أهلية الذابح؛ فلأن مسلوب الأهلية فعله كلا فعل فتكون ذبيحته ميتة. وأما كون الذابح الأهلي أن يكون عاقلاً مسلماً أو كتابياً؛ فلأن غير العاقل وغير المسلم والكتابي لا تباح ذبيحته؛ لما يأتي فلا يكون أهلاً لها: أما كون غير العاقل لا تباح ذبيحته؛ فلما يأتي بعد في قول المصنف رحمه الله: ولا تباح ذكاة مجنون ولا سكران ولا طفل غير مميز. وأما كون غير المسلم والكتابي لا تباح ذبيحته؛ فلأن تخصيص إباحة طعام أهل الكتاب بالذكر يدل على نفيه عن غير الكتابي. فإن قيل: الكلام في الذكاة لا في الطعام. قيل: المراد بقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5] «ذبائحهم» قاله ابن عباس (¬2). ورواه (¬3) عنه البخاري، وروي معنى ذلك عن ابن مسعود. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 5: 2097 كتاب الذبائح والصيد، باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها ... (¬3) في د: وروى.

وفي قول المصنف رحمه الله: وهو أن يكون عاقلاً مسلماً أو كتابياً؛ إشعار بإباحة ذبيحة العاقل منهما. وقوله بعد ذلك: فتباح ذبيحته (¬1) تصريح بذلك. وكلاهما صحيح: أما في المسلم العاقل؛ فلا شبهة فيه. وأما في الكتابي غير نصارى بني تغلب وغير من أحد أبويه غير كتابي؛ فلما تقدم من الآية، ولانعقاد الإجماع عليه. وأما كون من ذكر تباح ذبيحته ذكراً كان أو أنثى؛ فلمساواتهما في المعنى المقتضي لمساواتهما في الحكم. وأما في الكتابي من نصارى بني تغلب على المذهب؛ فلما تقدم من عموم الآية. وأما كونه لا تباح ذبيحته على روايةٍ؛ فلما تقدم ذكره في باب الجزية (¬2). وأما فيمن أحد أبويه غير كتابي على المذهب؛ فلما تقدم من عموم الآية. وأما كونه لا تباح ذبيحته على روايةٍ؛ فلتغليب التحريم. قال: (ولا تباح ذكاة مجنون، ولا سكران، ولا طفل غير مميز، ولا وثني، ولا مجوسي، ولا مرتد). أما كون ذكاة المجنون والسكران والصبي غير المميز لا تباح؛ فلأن الذبح يعتمد القصد، وهو غير متصور ممن ذكر. فإن قيل: الكلام في كون الذكاة ممن ذكر تُبيح فلمَ قيل: لا تباح؟ قيل: المراد ذلك أو أنها إذا كانت لا تُبَاح لا تُبيح؛ لأن الفعل المنهي عنه لمعنى في نفسه لا يقصد إباحة. وأما كون ذكاة الوثني والمجوسي والمرتد كذلك؛ فلأن شرط الذكاة كون الذابح مسلماً أو كتابياً وليس واحد منهما موجوداً فيمن ذكر. فإن قيل: المجوسي مُلحقٌ بالكتابي في الإقرار بالجزية فلمَ لا يلحق به في إباحة الذبح؟ قيل: لوجوه: ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) 2: 628.

أحدها: الإجماع على عدم إباحة ذبحه؛ لأن علياً وابن مسعود وابن عباس وجابراً (¬1) وأبا بردة قالوا ذلك. ولا يعرف لهم مخالف. وثانيها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «سُنّوا بهم سنّةَ أهل الكتاب» (¬2) إن دل على إباحة ذبح المجوسي؛ فدلالته من حيث العموم بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتريتم (¬3) لحماً فإن كان ذبيحةَ يهودي أو نصراني فكلوا، وإن كان ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا». رواه الإمام أحمد بإسناده: يدل على عدم إباحته ودلالة ذلك دلالة خاصة، والدلالة الخاصة مقدمة على الدلالة العامة. وثالثها (¬4): أن شبهة كتابهم أثرت في تحريم قتلهم تغليباً؛ لما في ذلك من الاحتياط. وليس كذلك حل ذبائحهم؛ لأن الاحتياط يقتضي تغليب جانب تحريمها كما كان يقتضي تغليب جانب تحريم القتل. ¬

_ (¬1) في أ: وجابر. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 189 كتاب الجزية، باب المجوس أهل كتاب والجزية تؤخذ منهم. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10765) 2: 435 كتاب الزكاة، في المجوس يؤخذ منهم شيء من الجزية. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (10025) 6: 68 كتاب أهل الكتاب، أخذ الجزية من المجوس. (¬3) في د: اشترى. (¬4) في د: والثالثة.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: الآلة. وهو: أن يذبح بمحدد. سواء كان من حديد أو حجر أو قصب أو غيره؛ إلا السن والظفر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهرَ الدمَ [وذُكرَ اسمُ اللهِ عليه] (¬1) فكُل؛ إلا السنّ والظفر» (¬2». أما كون الثاني من شروط الذكاة الآلة؛ فلأنها مما (¬3) لا بد منها. وأما كونه أن يذبح بمحدد؛ فلأن غير المحدد لا يذبح. وأما كون المحدد من حديد أو حجر أو قصب أو غير ذلك إذا كان غير السن والظفر سواء؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من الحديث. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنهرَ الدمَ وذُكرَ اسمُ اللهِ عليه فكُلوا ما لم يكن سِنًا أو ظفرًا» (¬4) متفق عليه. وعن عدي بن حاتم قال: «قلت يا رسول الله! أرأيتَ إنْ أحدُنا أصابَ صيداً وليسَ معه سكينٌ أيذبحُ بالمروةِ وشقِ العصا؟ قال: أنهرِ (¬5) الدمَ بما شئتَ واذكرِ اسمَ اللهِ عزّ وجل» (¬6). ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) سيأتي تخريجه في الحديث القادم. (¬3) في أ: ما. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (5190) 5: 2098 كتاب الذبائح والصيد، باب ما ندّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش. وأخرجه مسلم في صحيحه (1968) 3: 1558 كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم ... (¬5) ساقط من أ. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه (2824) 3: 102 كتاب الأضاحي، باب في الذبيحة بالمروة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3177) 2: 1060 كتاب الذبائح، باب ما يذكى به.

وعن رجل من بني حارثة «أنه كان يرعى لِقْحَةً. فأخذها الموتُ. فلم يجد شيئاً ينحرها به. فأخذ وتِداً فوجَأها به في لبّتِها حتى أهريق (¬1) دمها. ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلها» (¬2). رواه أبو داود. قال: (فإن ذبح بآلة مغصوبة حل في أصح الوجهين). أما كون المذبوح بما ذكر يحل في وجه؛ فلأن الذبح فعل حسي وقد حصل (¬3). ولأن الآلة المغصوبة تنهر الدم فيدخل في قوله: «ما أنهرَ الدمَ فكُل» (¬4). وأما كونه لا يحل في وجه؛ فلأن الذبح بها ممنوع. فلم يحصل الحل؛ كالذكاة بالسن والظفر. وأما كون الأول أصح؛ فلما تقدم. والفرق بين الآلة المغصوبة وبين السن والظفر: أن المنع من السن والظفر أخرجهما عن أهلية الذبح، وليس ذلك موجوداً في الآلة المغصوبة. ¬

_ (¬1) في د: هريق. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2823) 3: 102 كتاب الأضاحي، باب في الذبيحة بالمروة. (¬3) ساقط من د. (¬4) سبق تخريجه قريباً.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يقطع الحلقوم والمريء. وعنه: يشترط مع ذلك قطع الودجين. وإن نحره أجزأ وهو أن يطعنه بمحدد في لبته. والمستحب أن ينحر البعير ويذبح ما سواه). أما كون الثالث من شروط الذكاة أن يقطع الحلقوم والمريء؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذكاةُ في الحلقِ واللبّة» (¬1). وعن عمر رضي الله عنه أنه نادى «أن النحرَ في الحلقِ واللبّة لمن قَدَر» (¬2). رواه سعيد والأثرم. فإن قيل (¬3): فقد روى أبو العشراء عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه سئل: أما تكونُ الذكاةُ إلا في الحلقِ واللبّة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طَعنْتَ في فخذِهَا لأجْزَأَ عنك» (¬4). قيل: قال أحمد: أبو العشراء هذا ليس بمعروف. فإن قيل: ما الحلقوم والمريء؟ قيل: الحلقوم مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام والشراب. فإن قيل: لم اختصت الذكاة بالمحل المذكور؟ ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (45) 4: 283 كتاب الصيد والذبائح. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (19825) 4: 260 كتاب الصيد، من قال: إذا أنهر الدم فكل ما خلا سناً أو عظماً. (¬3) في أ: ذكر قبل هذه الجملة: فإن قيل: الكلام في الحلقوم والمريء وما ذكر في الحلق واللبة. قيل: معناهما. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2825) 3: 103 كتاب الأضاحي، باب ما جاء في ذبيحة المتردية. وأخرجه الترمذي في جامعه (1481) 4: 75 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الذكاة في الحلق واللبة. وأخرجه النسائي في سننه (4408) 7: 228 كتاب الضحايا، ذكر المتردية في البئر التي لا يوصل إلى حلقها. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3184) 2: 1063 كتاب الذبائح، باب ذكاة النادّ من البهائم.

قيل: لأنه مجمع العروق فتنفسخ (¬1) بالذبح فيه الدماء السيالة، ويسرع زهوق النفس فتكون أطيب اللحم وأخف على الحيوان. وأما كون قطع الودجين لا يشترط مع قطع الحلقوم والمريء على المذهب؛ فلأن الحياة تزول بقطعهما وذلك هو المقصود. وأما كونه يشترط مع ذلك قطع الودجين على روايةٍ؛ فلما روى أبو هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شَريطةِ البطنِ. وهي التي تُذبحُ فيُقطعُ الجلدُ ولا تُفرَى الأوداجُ ثم تُتركُ حتى تموت» (¬2). رواه أبو داود. والأول أصح؛ لما تقدم. وأما الحديث؛ فمحمول على ما يقطع المريء. وأما كون نحر ما يذبح يجزئ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي: «أمررِ الدمَ بما شئت» (¬3). وعن أسماء قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه» (¬4). وعن عائشة قالت: «نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرة» (¬5). ولأن ما كان ذكاة لحيوان كان ذكاة لحيوان آخر؛ كسائر الحيوانات. وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يطعنه بمحدد في لبته؛ فبيان لمعنى النحر. وإنما كان النحر كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هكذا كانوا ينحرون. وأما كون نحر الإبل وذبح ما سواه يستحب؛ فلأن الله تعالى قال: {فصلّ لربك وانحر} [الكوثر: 2]، وقال: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67]. أَمَر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالنحر؛ لأن غالب ماشية قومه الإبل، وأمر بني إسرائيل بالذبح؛ لأن غالب ماشيتهم البقر. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2826) 3: 103 كتاب الأضاحي، باب في المبالغة في الذبح. (¬3) سبق تخريج حديث عدي ص: 388. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (5200) 5: 2101 كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الخيل. وأخرجه مسلم في صحيحه (1942) 3: 1541 كتاب الصيد والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (1750) 2: 145 أول كتاب المناسك، باب في هدي البقر. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3135) 2: 1047 كتاب الأضاحي، باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة.

و «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر البُدن وذبحَ كبشين أملحَينِ ذبحهما بيده» (¬1) متفق عليه. قال: (فإن عجز عن ذلك مثل أن يند البعير أو يتردى في بئر فلا يقدر على ذبحه صار كالصيد إذا جرحه في أي موضع أمكنه فقتله حل أكله؛ إلا أن يموت بغيره مثل أن يكون رأسه في الماء فلا يباح). أما كون ما عجز عن ذبحه ونحره (¬2) يصير كالصيد إذا جرحه في أي موضع من بدنه فقتله يحل أكله ما لم يمت بغيره؛ فلما روى رافع بن خديج قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فندّ بعيرٌ وكان في القومِ خيلٌ يسيرةٌ. فطلبوه فأعياهم. فأهوى إليه رجلٌ بسهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لهذه البهائمِ أوابدَ كأوابدِ الوحش. فما غلبَكُم فاصنعُوا به هكذا» (¬3). وفي لفظ: «فما ندّ (¬4) عليكم فاصنعُوا به هكذا» (¬5) متفق عليه. و«خرج (¬6) ثورٌ في بعض دور الأنصار فضربه رجلٌ بسيفٍ وذكر اسم الله. فسُئلَ عنه علي فقال (¬7): ذكاة (¬8) وحِيّةٌ. فأمرهم بأكله» (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1476) 2: 562 كتاب الحج، باب التحميد والتسبيح والتكبير ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1966) 3: 1556 كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية ... (¬2) في د: أما كون ما عجز عنه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2356) 2: 881 كتاب الشركة، باب قسمة الغنم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1968) 3: 1558 كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم ... (¬4) في د: قيد. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (5179) 5: 2095 كتاب الذبائح والصيد، باب التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمداً. وأخرجه مسلم في الموضع السابق. (¬6) في د: وخرّ. (¬7) ساقط من د. (¬8) في أ: ذكاته. (¬9) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (19787) 4: 257 كتاب الصيد، ما قالوا في الأنسية توحش من الإبل والبقر.

و «تردّى بعير في بئرٍ فذكيَ من قبل شاكلته فبيعَ بعشرين درهماً فأخذ ابن عمر عشره بدرهمين» (¬1). وروي نحو ذلك عن مسروق والأسود (¬2). رواهن سعيد. ولأن الاعتبار في الذكاة بحال الحيوان وقت ذبحه لا بأصله. بدليل الوحشي إذا قدر عليه وجبت ذكاته في الحلق واللبة. فكذلك الأهلي إذا توحش يعتبر بحاله. وأما كون ما عجز عنه لا يباح إذا فعل به ما تقدم ذكره ومات بغيره كما مثل المصنف رحمه الله؛ فلأن ذلك يعين على قتله فيحصل قتله به. أو بمبيح وحاظر. فوجب أن لا يباح؛ كما لو جرح الصيدَ مسلم ومجوسي. قال: (وإن ذبحها من قفاها وهو مخطئ فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة: أُكلت. وإن فعله عمداً فعلى وجهين). أما كونه إذا ذبحها من قفاها وهو مخطئ فأتت (¬3) السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة تؤكل؛ فلأن الذبح قطعُ الحلقوم والمريء وقد وجد. وأما كون المذبوحة كذلك عمداً تؤكل على وجه؛ فلما ذكر في الخطأ. وأما كونها لا تؤكل على وجه؛ فلأن الجرح في القفا سبب لزهوق النفس، والجرح في الذبح سبب له فيحصل مبيح ومحرم. فيجب تغليب الحرمة؛ كما لو وقع رأس الذبيحة في الماء. فإن قيل: المعنى المذكور موجود في الخطأ. فيجب أن يُخَرَّج فيه الخلاف المذكور. قيل: ليس الأمر كذلك؛ لأن الخطأ قيل معناه: أن يلتوي عنق الذبيحة وذلك يقتضي صيرورتها معجوزاً عن ذبحها فيسقط اعتبار المحل؛ كالمتردية في بئر. على أن الأصح في العمد أنها تؤكل؛ لما ذكر في المذبوحة خطأ. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (19831) 4: 261 كتاب الصيد، من قال: تكون الذكاة في غير الحلق واللبة. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (19834) في الموضع السابق. (¬3) في أ: أما كون المذبوح من قفاها خطأ إذا أتت.

قال: (وكل ما وجد فيه سبب الموت؛ كالمنخنقة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إذا أدرك ذكاتها وفيها حياة مستقرة أكثر من حركة المذبوح حلّت. وإن صارت حركتها كحركة المذبوح لم تحل). [أما كون المنخنقة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إذا أُدركت وفيها حياة مستقرة أكثر من حركة المذبوح] (¬1) تحل؛ فلأن الله تعالى قال: {إلا ما ذكيتم} [المائدة: 3]، وفي حديث جارية كعب: «أنها أصيبت شاةٌ من غنمها. فأدركتْها فذبحتْها بحجرٍ. فسُئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلُوها» (¬2) ولم يستفصل. وأما كونها إذا صارت حركتها كحركة المذبوح لا تحل؛ فلأن المجوسي لو ذبح الحيوان ثم ذبحه مسلم لم يبح؛ لكون المذبوح خرج عن أهلية الذبح. فكذا ما ذكر لما لم تبق فيه حركة (¬3) إلا كحركة المذبوح خرج عن أهلية الذبح. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2181) 2: 808 كتاب الوكالة، باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت ... (¬3) في د: تبق حركته.

فصل [الشرط الرابع] قال المصنف رحمه الله: (الرابع: أن يذكر اسم الله عند الذبح وهو أن يقول: بسم الله. لا يقوم غيرها مقامها؛ إلا الأخرس فإنه يومئ إلى السماء). أما كون الرابع (¬1) من شروط الذكاة: أن يذكر اسم الله تعالى؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} [الأنعام: 121]. والفسق حرام؛ لقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا ... الآية} [الأنعام: 145]. وأما كون ذلك عند الذبح؛ فلأن الله تعالى أمر به وأطلق، و «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذبح سمى» (¬2). فيحمل مطلق الآية على فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وأما كونه أن يقول: بسم الله لا يقوم غيرها مقامها إذا لم يكن أخرسًا (¬3)؛ فلأن إطلاق التسمية ينصرف إلى ذلك. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه قال عند الذبح: بسم الله فيحمل مطلق الآية عليه. وأما كون الأخرس يومئ برأسه (¬4) إلى السماء؛ فلأن إشارته [تقوم مقام النطق. ولأن إشارته] (¬5) تدل على قصد تسميته الذي في السماء. وفي الحديث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الجاريةَ فقال لها: أينَ الله؟ فأشارتْ إلى السماء. فقال: ¬

_ (¬1) في د: الذابح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5238) 5: 2113 كتاب الأضاحي، باب من ذبح الأضاحي بيده. ولفظه: « ... يسمي ويكبر ... ». أخرجه مسلم في صحيحه (1966) 3: 1556 كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية ... ، نحوه. (¬3) في الأصول: أخرس. والصواب ما أثبتناه. (¬4) ساقط من أ. (¬5) مثل السابق.

أعتقْها فإنها مؤْمنَة» (¬1) جعل إشارتها علماً على [إيمانها. فلأن تجعل إشارتها علماً على] (¬2) تسميتها بطريق الأولى. قال: (فإن ترك التسمية عمداً لم تبح. وإن تركها ساهياً أبيحت. وعنه: تباح في الحالين. وعنه: لا تباح فيهما). أما كون من ترك التسمية على ذبيحته عمداً لم تبح، وإذا تركها ساهياً أبيحت على المذهب؛ فلما روى راشد بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذبيحةُ المسلمِ حلالٌ وإن لم يسم إذا لم يتعمد». وعن ابن عباس: «من نسيَ التسميةَ فلا بأس» (¬3). ولأن ذلك قول ابن عباس ولم يعرف له مخالف في عصره فكان إجماعاً. وأما كونها تباح في الحالين أي في العمد والسهو على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (¬4): «اسمُ الله في قلب كل مسلم» (¬5). ولأن التسمية لو اشترطت لما حلت الذبيحة مع الشك في وجود التسمية؛ لأن الشك في الشرط شك في المشروط والذبيحة مع الشك في وجود التسمية حلال بدليل حل ذبيحة أهل الكتاب مع أن الأصل عدم التسمية منهم بل الظاهر أنهم لا يسمون وذلك أبلغ في المنع من الشك. فإن قيل: لا يصح حمل أمر أهل الكتاب في ترك التسمية على أن الأصل عدم إتيانهم بها؛ لأن ذلك مشترك بينهم وبين المسلم؟ قيل: ليس الأمر كذلك؛ لأنهما وإن اشتركا في ذلك، لكن المسلم عارض عدم إتيانه: أن الظاهر من حاله أنه يأتي بها، وذلك مفقود في أهل الكتاب. وأما كونها لا تباح إذا تركها فيهما على روايةٍ؛ فلعموم قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121]. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (537) 1: 381 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ... (¬2) ساقط من د. (¬3) ذكره البخاري في صحيحه 5: 2094 كتاب الذبائح والصيد، باب التسمية على الذبيحة، ومن ترك متعمداً. (¬4) ساقط من د. (¬5) لم أقف عليه هكذا وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة قال: ... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسم الله على كل مسلم» 9: 240 كتاب الصيد والذبائح، باب من ترك التسمية وهو ممن تحل ذبيحته.

ولأن الشيء متى كان شرطاً لا يعذر في تركه سهواً (¬1). [دليله: الوضوء] (¬2) مع الصلاة. قال: (وتحصل ذكاة الجنين بذكاة أمه إذا خرج ميتاً، أو متحركاً؛ كحركة المذبوح. وإن كانت فيه حياة مستقرة لم يبح إلا بذبحه. وسواء أشعر أو لم يشعر). أما كون ذكاة الجنين تحصل بذكاة أمه إذا خرج ميتاً أو متحركاً كحركة المذبوح؛ فلما روى أبو سعيد قال: «قيل: يا رسول الله! إنّ أحدنا ينحرُ الناقةَ ويذبحُ البقرةَ والشاةَ فيجد في بطنها الجنينَ أنأكلُه أم نلقِه؟ قال: كلُوه إن شئتُم فإنَّ ذكاتَهُ ذكاةُ أمه» (¬3). وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذكاةُ الجنينِ ذكاةُ أمه» (¬4). رواهما أبو داود. ولأن الجنين متصل بها اتصال خلقة يتغذى بغذائها. فتكون ذكاته بذكاتها؛ كأعضائها. ولأن الذكاة في الحيوان تختلف على حسب الإمكان والقدرة، ولا يمكن ذبح الجنين قبل انفصاله إلا بأن تجعل ذكاة أمه ذكاته. وأما كونه إذا كانت فيه حياة مستقرة لا يباح إلا بذبحه؛ فلأنه حيوان صار مقدوراً على ذبحه بنفسه. فلم يبح بذكاة غيره؛ كغير الجنين. ولأن إباحة الجنين بذكاة أمه ملحوظ فيه العجز عن ذكاته، وذلك منتفٍ فيما فيه حياة مستقرة. وأما كون ما أشعر وما لم يشعر سواء؛ فلأن الحديث مطلق لا تقييد فيه. فلم يجز تقييده بغير دليل. ¬

_ (¬1) في أ: ترك سهو. (¬2) ساقط من د. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2827) 3: 103 كتاب الأضاحي، باب ما جاء في ذكاة الجنين. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2828)، الموضع السابق.

فصل [في مكروهات الذبح] قال المصنف رحمه الله: (ويكره توجيه الذبيحة إلى غير القبلة، والذبح بآلة كالّة. وإن يحد السكين والحيوان يبصره (¬1). وإن يكسر عنق الحيوان، أو يسلخه حتى يبرد. فإن فعل (¬2) أساء وأُكلت). أما كون توجيه الذبيحة إلى غير القبلة يكره؛ فلأنه خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم. فإنه روي «أنه ضحى ووجّه (¬3) أضحيته إلى القبلة وقال: {وجهت وجهي ... الآيتين} [الأنعام: 79، 162]» (¬4). ولأن الذبح قد يكون قربة؛ كذبح الأضحية. فكره توجيه الذبيحة إلى غير القبلة؛ كالأذان. وأما كون الذبح بآلة كالّة يكره؛ فلأن في ذلك تعذيباً للحيوان، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ذبحتمْ فأحسنِوا الذِّبحة. وليحدَّ أحدُكمْ شفرتَه، وليُرِحْ ذبيحَتَه» (¬5). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) في أ: ينظره. (¬2) في أ: فعله. (¬3) في أ: أنه لما ضحى وجّه. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (2795) 3: 95 كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3121) 2: 1043 كتاب الأضاحي، باب أضاحي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (1955) 3: 1548 كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة. وأخرجه أبو داود في سننه (2815) 3: 100 كتاب الأضاحي، باب في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1409) 4: 23 كتاب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة. وأخرجه النسائي في سننه (4412) 7: 229 كتاب الضحايا، باب حسن الذبح. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3170) 2: 1058 كتاب الذبائح، باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح.

وأما كون حَدِّ السكين والحيوان يبصره يكره؛ فـ «لأن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً قد وضعَ رجله على شاةٍ وهو يحد السكينَ. فضربهُ حتى أفلتتِ الشاة» (¬1). وأما كون كسر عنق الحيوان وسلخه قبل برده يكره؛ فلأن في ذلك تعذيباً للحيوان. وأما كون من فعل ذلك كله أساء؛ فلارتكابه فعل المكروه. وأما كون ذبيحته تؤكل؛ فلأنه لم يوجد سبب يقتضي تحريمها (¬2). قال: (وإذا ذبح الحيوان ثم غرق في ماء، أو وطئ عليه شيء يقتله مثله فهل يحل؟ على روايتين). أما كون ما ذكر يحل على روايةٍ؛ فلحصول ذبحه، وطرآن الأسباب المذكورة حصل بعد الموت بالذبح. فلم يؤثر ما أصابه بحصوله بعد الحكم بحله. وأما كونه لا يحل على روايةٍ؛ فلأن الماء والوطء أعان على قتله فيغلب حكمه؛ لاجتماع المبيح والحاظر، وفي الحديث: «إنْ وقعَ في الماءِ فلا تأكُل» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج البيهقي في السنن الكبرى نحواً منه عن عاصم بن عبيدالله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: «أن رجلاً حدّ شفرة وأخذ شاة ليذبحها فضربه عمر رضي الله عنه بالدرة وقال: أتعذب الروح؟ ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها» 9: 280 كتاب الضحايا، باب الذكاة بالحديد ... (¬2) في أ: تحريمه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5167) 5: 2089 كتاب الذبائح والصيد، باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1929) 3: 1531 كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة.

قال: (وإذا ذبح الكتابي ما يحرم عليه كذي الظفر لم يحرم علينا. وإن ذبح حيواناً غيره لم تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم وهو شحم الثِّرب والكليتين في ظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى (¬1). واختاره ابن حامد وحكاه عن الخرقي في كلام مفرد، واختار أبو الحسن التميمي والقاضي تحريمه. وإن ذبح لعيده أو ليتقرب به إلى شيء مما يعظمونه لم يحرم. نص عليه). أما كون الكتابي إذا ذبح ما يحرم عليه كذي الظفر وهو الإبل والنعام والبط وما ليس بمشقوق الأصابع لا يحرم علينا؛ فلأن كونه محرماً (¬2) عليه لا يوجب تحريمه. بدليل الشحوم المحرمة عليه الآتي ذكرها. ولأن الله تعالى أباح لنا طعامهم، وذلك يستلزم كونهم أهلاً للذبح، وإذا كانوا كذلك كان ما ذبحوه مما ذكر ذبحاً صدر من أهله. فلم يحرم علينا؛ كغيره من الذبائح. وأما كونه إذا ذبح حيواناً غير ما يحرم عليه لا تحرم علينا الشحوم المحرمة على أهل الكتاب في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلما روى عبدالله بن مغفل قال: «دُلِّيَ جرابٌ من شحمٍ [من قصرِ خيبر] (¬3). فبرزتُ لآخذه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم إليّ» (¬4) متفق عليه. ولأن ذكاة الكتابي ذكاة أباحت اللحم والجلد. فأباحت الشحم؛ كذكاة المسلم. وأما كونه يحرم في اختيار أبي الحسن والقاضي؛ فلأن الله تعالى قال: {وطعامُ الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5]، وليس الشحوم المذكورة [من طعامهم. ¬

_ (¬1) في أ: رضي الله عنه. (¬2) في أ: يحرم. (¬3) زيادة من أ. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (2984) 3: 1149 أبواب الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1772) 3: 1393 كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب.

ولأن الشحوم المذكورة] (¬1) جزء من الذبيحة لم تُبح لذابحها. فلم تبح لغيره؛ كالدم. والأول أصح؛ لما تقدم. والآية حجة للحل؛ لأن معنى طعامهم: ذبائحهم. كذلك فسره العلماء. وأما كون الشحوم المحرمة على الكتابي شحم الثِّرب والكليتين؛ فلأن السدي قال في تفسير قوله تعالى: {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} [الأنعام: 146] هي: شحم الثرب والكلى. فإن قيل: ما الفرق بين ذي الظفر وبين الشحوم المذكورة حيث لا خلاف في الأول وفي الثاني خلاف؟ قيل: الخلاف فيهما صرح به المصنف في المغني فإذاً لا فرق فيه. وأما كونه إذا ذبح لعيده أو ليتقرب به إلى شيء مما يعظمونه لا يحرم على منصوص الإمام أحمد؛ فلأن الذابح قصد الذكاة وهو ممن تحل ذبيحته. وقال ابن عقيل في فصوله: وعندي أنه يكون ميتة؛ لقوله تعالى: {وما أهل به لغير الله} [البقرة: 173]. قال: (ومن ذبح حيواناً فوجد في بطنه جراداً، أو طائراً فوجد في حوصلته حباً، أو وجد الحب في بعر الجمل لم يحرم. وعنه: يحرم). أما كون ما وُجد من الجراد في بطن الحيوان إذا ذبح لا يحرم على المذهب؛ فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «الحل (¬2) ميتته» (¬3). ولأنه حيوان لا يعتبر له ذبح. فيباح أكله؛ كغير المأكول. وأما كونه يحرم على روايةٍ؛ فلأنه مأكول. فلم يؤكل مرة أخرى؛ كالطعام المأكول إذا أخرجه الآكل من جوفه بعد أكله. ¬

_ (¬1) ساقط من د. (¬2) في د: والحل. (¬3) سبق تخريجه ص: 367.

وأما كون ما وجد في حوصلة الطائر وفي بعر الجمل من الحب لا يحرم على المذهب؛ فبالقياس على الجراد المذكور قبل. وأما كونه يحرم على روايةٍ؛ فلأنه مأكول مرة فلا يؤكل أخرى.

كتاب الصيد

كتاب الصيد الأصل في إباحته الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {أُحِلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة} [المائدة: 96]، وقوله تعالى: {يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مُكَلِّبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} [المائدة: 4]. وأما السنة فما روى أبو ثعلبة الخشني قال: «أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا بأرضِ صيدٍ. أصيدُ بقوسي، وأصيدُ بكلبي المعلم، وأصيدُ بالكلب الذي ليسَ بمعلّم، فأخبرني ماذا يصلحُ لي؟ قال: ما صدتَ بقوسِكَ وذكرتَ اسمَ اللهِ عليهِ فكُل، وما صدتَ بكلبكَ المعلّم وذكرتَ اسمَ اللهِ عليهِ فكُل، وما صدتَ بكلبكَ الذي ليس بمعلّم فأدركتَ ذكاتَهُ فكُل» (¬1). وعن عدي بن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله! إنا نرسلُ الكلبَ المعلّم فيمسك علينا. قال: كُلْ. قلت: فإن قتل (¬2). قال: كلْ ما لم يشركْه كلبٌ غيره. قال: وسُئلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعْراض فقال: ما خَزَقَ فكُل، وما قَتَلَ بعرْضِهِ فلا تأكُل» (¬3) متفق عليه. وأما الإجماع؛ فأجمع المسلمون في الجملة على إباحة الاصطياد والأكل من الاصطياد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5177) 5: 2094 كتاب الذبائح والصيد، باب آنية المجوس والميتة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1930) 3: 1532 كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة. (¬2) في الأصول: أكل، والتصويب من الصحيحين. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5168) 5: 2090 كتاب الذبائح والصيد، باب إذا وجد مع الصيد كلباً آخر. وأخرجه مسلم في صحيحه (1929) 3: 1529 كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة.

قال المصنف رحمه الله: (ومن صاد صيداً فأدركه حيًّا حياة مستقرة لم يحل إلا بالذكاة، فإن خشي موته ولم يجد ما يذكيه أرسل الصائد له (¬1) عليه حتى يقتله في إحدى الروايتين واختاره الخرقي، فإن لم يفعل وتركه حتى مات لم يحل، وقال القاضي: يحل، والرواية الأخرى لا يحل، إلا أن يذكيه). أما كون الصيد إذا أُدرك حياًّ حياة مستقرة لا يحل إلا بالذكاة؛ فلأنه يصير مقدوراً عليه. أشبه سائر ما قدر على ذكاته. وأما كونه يحل بإرسال الصائد عليه حتى يقتله إذا خشي موته ولم يجد ما يذكيه في روايةٍ؛ فلأنه صيد قتله الجارح له من غير إمكان ذكاته فأبيح؛ كما لو أدركه ميتاً. ولأنها حال يتعذر فيها الذكاة في الحلق واللبة غالباً. فجاز أن تكون ذكاته على حسب الإمكان؛ كالمتردية في بئر. وأما كونه لا يحل بذلك في روايةٍ؛ فلأنه ما ذكاه. أشبه ما لو تركه حتى مات. وكلام المصنف رحمه الله مشعر بأنه إذا لم يخش موته ووجد (¬2) ما يذكي به لم يحل إلا بالذكاة رواية واحدة. وهو صحيح؛ لأنه يصير مقدوراً (¬3) على ذكاته. وأما كونه لا يحل إذا لم يرسل عليه الصائد وتركه حتى مات على المذهب؛ فلأن الإرسال ذكاة لما تقدم، ولو قدر على ذكاة الصيد فلم يذكه [حتى مات] (¬4) لم يحل فكذا هاهنا. وأما كونه يحل على قول القاضي؛ فلأن إدراك الصيد بلا آلة يذكيه بها كلا إدراك، ولو لم يدركه حياً يحل فكذا إذا أدركه حياً وليس معه ما يذكيه به. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: أو وجد. (¬3) في أ: مقدور. (¬4) ساقط من د.

قال: (وإن رمى صيداً فأثبته ثم رماه آخر فقتله لم يحل، ولمن أثبته قيمته مجروحاً على قاتله؛ إلا أن يصيب الأول مقتله دون الثاني أو يصيب الثاني مذبحه فيحل وعلى الثاني ما خرق من جلده). أما كون من رمى صيداً فأثبته من غير أن يصيب مقتله ثم رماه آخر فقتله من غير أن يصيب مذبحه لا يحل؛ فلأن بإثبات الأول صار مقدوراً على تذكيته والثاني لم يذكه. فوجب أن لا يحل؛ لعدم الذكاة المشترطة. وأما كون من أثبته له قيمته مجروحاً على قاتله؛ فلأن مثبته ملكه بإثباته والقاتل قتله مجروحاً. فوجبت قيمته مجروحاً لمثبته؛ لأنه مالكه. وأما كونه يحل إذا أصاب الأول مقتله؛ فلأن قتل الصيد بمنزلة ذكاته. وظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا: أنه يشترط في حل الصيد بإصابة الأول مقتله أن لا يصيب ذلك الثاني مقتلاً (¬1). وهو صحيح. قال في المغني: لو أصاب الثاني أيضاً مقتلاً لم يحل وكلام الخرقي يحتمله وذلك قوله: إذا ذبح فأتى على المقتل (¬2) فلم تخرج الروح حتى وقعت (¬3) في الماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. ثم قال: وقال القاضي وغيره من أصحابنا: يحل؛ لأن رمي الثاني لا أثر له. وأما كونه يحل إذا أصاب الثاني مذبحه؛ فلأن الواجب الذكاة وقد صادف فعل الثاني محلها وحصلت. وأما كون الثاني عليه ما خرق من جلده؛ فلأنه لم يُتلف سوى ذلك. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: المقاتل. (¬3) في أ: وقعته.

قال: (وإن أدرك الصيد (¬1) متحركاً كحركة المذبوح فهو كالميت. ومتى أدركه ميتاً حل بشروط أربعة: أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة، فإن رمى مسلم ومجوسي صيداً، أو أرسلا عليه جارحاً، أو شارك كلب المجوسي كلب المسلم في قتله: لم يحل). أما كون الصيد إذا أُدرك متحركاً كحركة المذبوح كالميت؛ فلأنه كذلك في كثير من الأحكام. فكذلك هاهنا. وأما كونه إذا أُدرك ميتاً أحل في الجملة؛ فلأن الاصطياد أُقيم مقام الذكاة، والجارح آلة كالسكين، وعقره للحيوان بمنزلة إفراء الأوداج. وأما كون الحل يشترط فيه شروط أربعة؛ فلما يأتي ذكره فيها. وأما كون أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة؛ [فلأن صيده بمنزلة الذكاة فاشترط في المذكى. فعلى هذا إذا رمى مسلم ومجوسي صيداً، أو أرسلا عليه جارحاً، أو شارك كلب مجوسي كلب مسلم في قتله لا يحل؛ لأن المجوسي ليس من أهل الذكاة] (¬2). قال: (وإن أصاب سهم أحدهما المقتل دون الآخر فالحكم له. ويحتمل أن لا يحل. وإن رد كلب المجوسي الصيد على كلب المسلم فقتله حل). أما كون الحكم لمن أصاب سهمه المقتل؛ فلأنه هو القاتل فوجب أن يترتب عليه الحكم. وأما كونه يحتمل أن لا يحل؛ فلاجتماع المبيح والمحرم في الجملة. وأما كونه يحل إذا رد كلبُ المجوسي الصيدَ على كلب المسلم فقتله؛ فلأن العبرة بالقتل، والقاتل (¬3) كلب المسلم. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) ساقط من د. (¬3) ساقط من أ.

قال: (وإن صاد المسلم بكلب المجوسي حل. وعنه: لا يحل. وإن صاد المجوسي بكلب مسلم لم يحل). أما كون المسلم إذا صاد الصيد بكلب المجوسي يحل على المذهب؛ فلأن الجارح آلة. فإذا اصطاد به مسلم وجب أن يحل؛ كالقوس والسهم. وعن ابن المسيب: هو بمنزلة شفرته. وأما كونه لا يحل على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {وما عَلَّمْتم من الجوارح} [المائدة: 4]. وكلب المجوسي غير معلم من مسلم. وأما كون المجوسي إذا صاد بكلب المسلم (¬1) لا يحل؛ فلأن الصائد ليس من أهل الذكاة. فلم يحل صيده؛ كما لو رمى صيداً بكلب مسلم وقوسه. قال: (وإن أرسل المسلم كلباً فزجره المجوسي حل صيده. وإن أرسله مجوسي فزجره مسلم لم يحل). أما كون الصيد يحل (¬2) إذا كان المرسل مسلماً والزاجر مجوسياً؛ فلأن العبرة بالإرسال. بدليل التسمية عنده والمرسل من أهل الذكاة؛ لأنه مسلم. وأما كونه لا يحل إذا كان المرسل مجوسياً والزاجر مسلماً؛ فلما ذكر من أن العبرة بالإرسال، والمرسل ليس من أهل الذكاة؛ لأنه مجوسي. ¬

_ (¬1) في أ: مسلم. (¬2) ساقط من أ.

فصل [في آلة الصيد] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: الآلة. وهي نوعان: محدد. فيشترط (¬1) له ما يشترط لآلة الذكاة، ولا بد من جرحه به، فإن قتله بثقله لم يبح. وإن صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده دون عرضه). أما كون الثاني من شروط حل الصيد إذا أُدرك (¬2) ميتاً الآلة؛ فلأنها مما لا بد منها. ولأنها شرط في الذبح فكذا (¬3) في الصيد. وأما كونها نوعين؛ فلأنها تارة تكون محدداً، وتارة تكون جارحاً. وأما كون المحدد يشترط له ما يشترط لآلة الذكاة؛ فلما تقدم من أن الصيد ذكاة. فيجب أن يشترط للمحدد من (¬4) آلته ما يشترط لآلة الذكاة. وأما كونه لا بد من جرح الصيد به؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الصيد بالمعراض قال: ما خَزَقَ فكُل» (¬5). وأما كونه إذا قتل الصيد بثقله لا يباح؛ فلأن ذلك في معنى قتل المعراض بعرضه. وسيأتي ذكره. وأما كون ما صيد بالمعراض فقتل بحده يؤكل دون عرضه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتقدم: «ما خَزَقَ فكُل، وما قَتَلَ بعرضِهِ فلا تأكُل» (¬6) متفق عليه. ¬

_ (¬1) في أ: يشترط. (¬2) في أ: أدركه. (¬3) في أ: فكذلك. (¬4) في أ: في. (¬5) سبق تخريجه ص: 405. (¬6) سبق تخريجه ص: 405.

قال: (وإن نصب مناجل أو سكاكين وسمى عند نصبها فقتلت صيداً أبيح. وإن قتل بسهم مسموم لم يبح إذا غلب على الظن أن السم أعان على قتله). أما كون الصيد يباح إذا قتلته المناجل أو السكاكين المسمى عند نصبها؛ فلأن النصب جرى مجرى المباشرة في الضمان فكذلك في الإباحة. ولأنه إذاً (¬1) قتل الصيد بحديدة على الوجه المعتاد. أشبه ما لو رماه بها. ولأنه قصد قتل الصيد بما له حد جرت العادة بالصيد به. فوجب أن يحل؛ كما لو باشره بذلك. وأما كونه لا يباح إذا قتل بسهم مسموم غلب على الظن إعانة السم على قتله؛ فلأنه اجتمع مبيح ومحرم وذلك موجب فغلب المحرم. قال: (ولو رماه فوقع في ماء، أو تردّى من جبل، أو وطئ عليه شيء فقتله: لم يحل؛ إلا أن يكون الجرح موحياً؛ كالذكاة فهل يحل؟ على روايتين. وإن رماه في الهواء فوقع على الأرض فمات حل). أما كون ما رمي فوقع في ماء، أو تردَّى من جبل، أو وطئ عليه شيء فقتله لا يحل إذا لم يكن الجرح موحياً؛ فلأنه يغلب على الظن موته بالماء، أو بالتردي، أو بالوطء عليه. وأما كونه لا يحل إذا كان الجرح موحياً على روايةٍ؛ فلاجتماع المبيح والمحرم المقتضي للحرمة. دليله: المتولد من المأكول وغير المأكول. وأما كونه يحل على روايةٍ؛ فلأن الظاهر نسبة الزهوق إلى الجرح الموحي، وذلك يقتضي الحل. وأما كون ما رُمي في الهواء فوقع في (¬2) الأرض فمات [يحل؛ فلأن] (¬3) الظاهر زهوق روحه بالرمي لا بالوقوع. ولأن الوقوع على الأرض لو منع من الحل لأدى إلى أنه لا يحل طائر؛ لتعذر عدم إصابته الأرض. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) في أ: إلى. (¬3) ساقط من أ.

قال: (وإن رمى صيداً فغاب عنه ثم وجده ميتاً لا أثر به غير سهمه حل. وعنه: إن كانت الجراح موحية حل، وإلا فلا. وعنه: إن وجده في يومه حل، وإلا فلا. وإن وجد به غير أثر سهمه مما يحتمل أن يكون أعان على قتله لم يبح). أما كون من رمى صيداً فغاب عن راميه ثم وجده ميتاً ولا أثر به غير سهمه يحل على المذهب سواء كانت الجراحة موحية أو لم تكن، وسواء وجده في يومه أو في غير يومه؛ فلعموم ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أفْتِنِي في سهمي. قال: ما ردّ عليكَ سهمكَ فكُل. قال: وإن تغيّبَ عني؟ قال: وإن تغيّب عنك ما لم تجدْ فيه أثراً غير سهمكَ، أو تجده قد ضلَّ» (¬1). رواه أبو داود. وروى أبو داود بإسناده عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا رميتَ الصيدَ فأدركتَهُ بعد ثلاثٍ وسهمُكَ فيه فكُل ما لم يُنْتِن» (¬2). ولأن جرحه بسهمه سبب إباحته وقد وجد يقيناً، والمعارض له مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك. وأما كونه يحل إذا كانت الجراح موحية ولا يحل إذا لم تكن موحية على روايةٍ؛ فلأن الجرح إذا كان موحياً ظهر إسناد الزهوق إليه، وإذا لم يكن موحياً لم يظهر إسناد الزهوق إليه. وأما كونه إذا وجده في يومه حل وإلا فلا في روايةٍ؛ فلما روي عن ابن عباس أنه قال: «إذا رميتَ فأقعصت فكُل، وإن رميتَ فوجدتَ فيه سهمكَ من يومِكَ أو ليلتِكَ فكُل، وإن غابَ عنكَ فلا تأكُل فإنّكَ لا تدري ما حدثَ فيه بعدَك». وقال: «ما أصميتَ فكُل وما أنميتَ فلا تأكُل». قال الحكم: الإصماء: الأقعاص، والإنماء أن يغيب. قال الشاعر: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2857) 3: 110 كتاب الصيد، باب في الصيد. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1931) 3: 1532 كتاب الصيد والذبائح، باب إذا غاب عنه الصيد ثم وجده. وأخرجه أبو داود في سننه (2861) 3: 111 كتاب الصيد، باب في اتباع الصيد.

فهو لا تنمي رميته ... ماله لا عد من نفره والأول أولى؛ لما تقدم. ولأن الظاهر موته بجرحه سواء كان موحياً أو لم يكن، وسواء غاب عنه يوماً أو أكثر؛ لأن التقدير أنه ليس به أثر غير أثر سهمه. وأما حديث ابن عباس فيمكن حمله على الأولى جمعاً بينه وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم. على أنه لو كان بينهما تعارض لكان قول النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يجب اتباعه دون غيره. فإن قيل: كلام النبي صلى الله عليه وسلم مطلق وكلام ابن عباس مقيد فيجب حمل المطلق على المقيد؛ لأن كلام ابن عباس يقع مبيناً لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم. قيل: كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان هنا مطلقاً إلا أنه قد جاء مصرحاً بعدم اعتبار اليوم. وهو ما روى عدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا رميتَ الصيدَ فوجدته بعد يومين ليسَ فيه إلا أثرُ سهمِكَ فكُل» (¬1). وفي الجملة إذا لم يضبط ذلك باليوم فلا بد من ضبطه بأن تكون المدة يسيرة؛ لأن المدة إذا طالت ضعُف إسناد الزهوق إلى الجرح، وقد نبه الشرع على ذلك في الجملة؛ لأن في حديث عدي: «بعدَ يومٍ أو يومين» (¬2)، وفي حديث أبي ثعلبة: «فوجدَهُ بعدَ ثلاث» (¬3)، وفي حديث ابن عباس: «بعدَ يوم». وأما كونه لا يحل إذا وجده وبه غير أثر سهمه مما يحتمل أن يكون أعان على قتله؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط في حل الصيد ذلك فقال في حديث عدي: «ليسَ به إلا أثرُ سهمك» (¬4)، وفي حديث عمرو بن شعيب: «ما لم تجدْ فيه أثراً غيرَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5167) 5: 2089 كتاب الذبائح والصيد، باب الصيد إذا غاب عنه يمين أو ثلاثة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1929) 3: 1531 كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) سبق تخريجه قريباً. (¬4) مثل السابق.

سهمك» (¬1)، وفي حديث عدي من رواية الدارقطني: «وإن وجدت به أثر غيركَ فلا تأكله فإنكَ لا تدري أقتلتهُ أنتَ أمْ غيرُك» (¬2). قال: (وإن ضربه فأبان منه عضواً وبقيت فيه حياة مستقرة لم يبح ما أبان منه. وإن بقي معلقاً بجلدة حل. وإن أبانه ومات في الحال حل الجميع. وعنه: لا يباح ما بان (¬3) منه. وإن أخذ قطعة من حوت وأفلت حياً أبيح ما أخذ منه). أما كون ما أبين من صيد وبقيت فيه حياة مستقرة لا يباح؛ فلأنه أبين من حيٍّ فيكون ميتاً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أُبينَ من حي فهو ميت» (¬4). وأما كونه إذا بقي معلقاً بجلدة يحل؛ فلأن الموجب لتحريمه بينونته وهي مفقودة هاهنا. وأما كونه إذا مات الصيد في الحال يحل الجميع على المذهب؛ فكما لو قطع الصيد قطعتين. وأما كون (¬5) ما بان منه لا يباح على روايةٍ؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أُبينَ من حيٍّ فهو ميت» (¬6). ولأن ما أبين منه لا يمنع بقاء الحياة في العادة. فلم يبح؛ كما لو أدركه الصياد وفيه حياة مستقرة. والأول هو المشهور قاله المصنف في المغني، ووجهه ما تقدم. ¬

_ (¬1) سبق تخريج حديث عمرو بن شعيب قريباً. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (89) 4: 294 كتاب الأشربة وغيرها، باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك. (¬3) في أ: أبان. (¬4) أخرجه الحاكم في مستدركه (7151) 4: 138 كتاب الأطعمة. ولفظه: «ما قطع من حي فهو ميت». وأخرجه أبو داود في سننه (2858) 3: 111 كتاب الصيد؛ باب في صيد قطع منه قطعة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1480) 4: 74 كتاب الأطعمة، باب ما قطع من الحي فهو ميت. ولفظهما: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة». (¬5) في أ: كونه. (¬6) سبق تخريجه في الحديث السابق.

وأما الحديث فالمراد به: ما قطع وكان الباقي حياً حتى يكون المنفصل منه ميتاً. ألا ترى إلى المذبوح فإنه ربما بقي ساعة، وربما مشى حتى يموت ومع هذا فهو حلال وفاقاً مع أنه يصح أن يقال: أبين من حي. وأما كون من أخذ قطعة من حوتٍ وأفلتَ حياً يُباح ما أخذ منه؛ [فلأن غاية ما يُقدر أن ذلك ميتة، وميتة الحوت حلال؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم] (¬1) في البحر: «هو الطهورُ ماؤُه الحلُّ ميتَتُه» (¬2). قال: (وأما ما ليس بمحدد كالبندق والحجر والعصا والشبكة والفخ فلا يباح ما قتل به؛ لأنه وقيذ). أما كون ما ليس بمحدد لا يباح ما قتل به؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من أنه وقيذ. والوقيذ حرام؛ لأن الله تعالى قال: {حُرّمت عليكم الميتة -إلى قوله-: والموقوذة والمتردية} [المائدة: 3]. ولأن القتل بغير ذلك قتل بغير محدد. فوجب أن لا يباح؛ كما لو ضرب الشاة بعصا فماتت. وأما قول المصنف رحمه الله: كالبندق ... إلى والفخ (¬3)؛ فتمثيل لصور من صور ما ليس بمحدد. قال: (النوع الثاني: الجارحة. فيباح ما قتلته إذا كانت معلمة، إلا الكلب الأسود البهيم فلا يباح صيده). أما كون النوع الثاني من نوعي الآلة: الجارحة؛ فلأنها آلة. أشبهت المحدد. وأما كون ما قتلته يباح في الجملة غير الكلب الأسود البهيم؛ فلأن الله تعالى قال: {وما عَلَّمتم من الجوارح مُكَلّبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة: 4]. وأما كون ذلك يشترط أن تكون معلمة؛ فلأن الله تعالى قال: {وما علّمتم من الجوارح} [المائدة: 4]، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني: «وما صدت بكلبكَ ¬

_ (¬1) ساقط من أ. وذكر كلمة: وسلم. (¬2) سبق تخريجه ص: 367. (¬3) في أ: الفخ.

المعلّم وذكرتَ اسمَ اللهِ تعالى فكُل، وما صدتَ بكلبكَ الذي ليس بمعلّم فأدركتَ ذكاتَهُ فكُل» (¬1). وأما كون ما صاده الكلب الأسود البهيم لا يباح؛ فلأن الكلب الأسود البهيم كلب يحرم اقتناؤه ويجب قتله. فلم يبح صيده؛ كغير المعلم. ودليل تحريم اقتناؤه قوله صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا منها كلَّ أسودٍ بَهيم» (¬2). رواه سعيد بن منصور بإسناده عن عبدالله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ لمسلم (¬3) قال: «أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلابِ ثم نَهَى عن قتلها. فقال: عليكم بالأسودِ البهيمِ ذي النقْطَتَين فإنه شيطان» (¬4). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكلبُ الأسودُ شيطان» (¬5)، واقتناء الشيطان لا يجوز. قال: (والجوارح نوعان: ما يصيد بنابه؛ كالكلب والفهد فتعليمه بثلاثة أشياء: أن يسترسل إذا أُرسل، وينزجر إذا زُجر، وإذا أمسك لم يأكل. ولا يعتبر تكرر ذلك منه، فإن أكل بعد تعلمه لم يحرم ما تقدم من صيده، ولم يبح ما أَكل منه في إحدى الروايتين، والأخرى يحل). أما كون الجوارح نوعين؛ فلأن منها ما يصيد بنابه، [ومنها ما يصيد بمخلبه. وأما كون ما يصيد بنابه] (¬6) من الجوارح؛ كالكلب والفهد تعليمه: أن يسترسل إذا أُرسل، وينزجر إذا زُجر، وإذا أمسك لم يأكل: أما الأول والثاني؛ فلأن العادة في الجوارح المعلمة ذلك فإذا لم يكن كذلك لم يدخل في عموم قوله ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 405. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2845) 3: 108 كتاب الصيد، باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره. وأخرجه الترمذي في جامعه (1486) 4: 78 كتاب الأحكام والفوائد، باب ما جاء في قتل الكلاب. وأخرجه النسائي في سننه (4280) 7: 185 كتاب الصيد والذبائح، صفة الكلاب التي أمر بقتلها. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3205) 2: 1069 كتاب الصيد، باب النهي عن اقتناء الكلب إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية. (¬3) في أ: وفي حديث مسلم. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (1572) 3: 1200 كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب ... (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه (510) 1: 365 كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي. (¬6) ساقط من د.

تعالى: {وما علّمتم من الجوارح} [المائدة: 4] فلم يكن صيدها حلالاً طيباً؛ لأن الحل مرتب على الصيد بالمعلم للآية المذكورة والخبر المتقدم ذكره. ومقتضى كلام المصنف رحمه الله اشتراط ذلك في الكلب والفهد وعليه يقاس كل جارح. وقال في المغني: لا أحسب هذا المعنى في غير الكلب؛ لأنه هو الذي يجيب صاحبه إذا دعاه وينزجر إذا زجره، والفهد لا يكاد يجيب داعياً وإن عد معلماً [فيكون التعليم في حقه تركُ الأكلِ خاصة، أو بما يعده به أهل العرف معلماً] (¬1). هذا نصه. فإن قيل: الانزجار المعتبر في الجارح هو بعد الإرسال على الصيد. قيل: لا؛ لأن ذلك لا يتصف به جارحة. وإنما المعتبر كونه ينزجر بالزجر فيما قبل ذلك. وأما الثالث وهو: أنه إذا أمسك لم يأكل؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عدي: «إذا أرسلتَ كلبكَ المعلّم وذكرتَ اسم الله عليه فكُل مما أمسكَ عليك. قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل، إلا أن يأكل الكلبُ فإن أكلَ فلا تأكلْ فإني أخافُ أن يكونَ إنما أمسكَ على نفسه» (¬2) متفق عليه. وأما كون عدم (¬3) تكرير الأكل من الجارحة لا يعتبر؛ فلأنه تعلم صنعة فلا يعتبر فيه التكرر؛ كسائر الصنائع. وقد أضاف المصنف رحمه الله ما ذكر في المغني إلى الشريف أبي جعفر وأبي الخطاب. ونقل عن القاضي أنه قال: لعل ذلك ثلاث (¬4) مرار. وعلله بأن ترك الأكل يحتمل أن يكون لشبع، ويحتمل أنه لتعلم فلم يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالتكرر وما اعتبر تكراره اعتبر ثلاثاً؛ كالمسح في الاستجمار وعدد الأقراء. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5166) 5: 2089 كتاب الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب. وأخرجه مسلم في صحيحه (1929) 3: 1529 كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة. (¬3) ساقط من أ. (¬4) في أ: ثلاثة.

وأما كونه إذا أكل من صيد بعد تعلمه لا يحرم ما تقدم من صيده؛ فلأنه كان معلماً حين الاصطياد. فلم يضر نسيانه بعد ذلك. ودليل كونه معلماً: جواز الإقدام على صيده المذكور قبل ذلك. وأما كون ما أكل منه لا يباح في روايةٍ؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «فإن أكلَ فلا تأكُل» (¬1). وأما كونه يحل في روايةٍ؛ فلأنه ثبت [كونه معلماً، والأكل يحتمل أن يكون لنسيان أو لفرط جوع فلا يترك] (¬2) ما ثبت يقيناً للاحتمال. والحديث محمول على كلبٍ لم يثبت تعليمه. قال: (والثاني: ذو المخلب؛ كالبازي والصقر والعقاب والشاهين فتعليمه بأن يَسترسلَ إذا أُرسل، ويجيبَ إذا دُعي. ولا يعتبر تركُ الأكل). أما كون النوع الثاني من نوعي الجوارح ذا المخلب؛ فلأنه جارح. أشبه ذا الناب. وأما كون ذي المخلب تعليمه أن يَسترسلَ إذا أُرسل، ويجيبَ إذا دُعي؛ فلما تقدم في الكلب. وأما كون ترك (¬3) الأكل لا يعتبر؛ فلما روى الخلال بإسناده عن ابن عباس قال: «فإن أكلَ الكلبُ فلا تأكُل وإن أكلَ الصقرُ فكُل؛ لأنك تستطيعُ أن تضربَ الكلبَ ولا تستطيعُ أن تضربَ الصقر» (¬4). ولأن جوارح الطير تعلم بالأكل ويتعذر تعليمها مع ترك الأكل. فلم يقدح الأكل في تعليمها. بخلاف الكلب. فإن قيل: فقد روى الشعبي عن عدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن أكلَ الكلبُ والبازُ فلا تأكُل» (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) ساقط من أ. (¬3) في أ: من ترك. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 238 كتاب الصيد والذبائح، باب البزاة المعلمة إذا أكلت. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (2851) 3: 109 كتاب الصيد، باب في الصيد.

قيل: الحديث يرويه مجالد وهو ضعيف والروايات الصحيحة تخالفه. قال: (ولا بد أن يجرح الصيد. فإن قتله بصدمته أو خنقه لم يبح. وقال ابن حامد: يباح). أما كون الجارح لا بد أن يجرح الصيد؛ فلأن قتله بغيره لا يبيحه؛ لما يأتي ذكره فيه بعد. وأما كونه إذا قتله بصدمته أو خنقه لا يباح على المذهب؛ فلأنه إذا قتله بذلك يكون موقوذاً، والله حرمه. ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهرَ الدم وذكر اسم الله عليه فكُل» (¬1): يدل على أنه لا يباح ما لم ينهر الدم. وأما كونه يباح على قول ابن حامد؛ فلعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة: 4]، وعموم قوله: «إذا أرسلتَ كلبَكَ المعلّم فكُل» (¬2). والأول أولى؛ لأن العموم في الآية والخبر مخصوص بما ذكر من الدليل الدال على عدم إباحته المتقدم ذكره. قال: (وما أصابه فم الكلب فهل يجب غسله؟ على وجهين). أما كون ما أصابه فم الكلب لا يجب غسله على وجه؛ فلأن الله تعالى ورسوله أمر بأكل صيده ولم يأمر (¬3) بغسله. وأما كونه يجب غسله على وجه؛ فلأنه قد (¬4) تنجس بنجاسته. فوجب أن يغسل؛ كما لو أصابه بول. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 388. (¬2) سبق تخريجه ص: 419. (¬3) في أ: يأمرنا. (¬4) ساقط من أ.

فصل [في نية الصيد] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: إرسال الآلة قاصداً للصيد. فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح صيده وإن زجره، إلا أن يزيد عدوه بزجره فيحل). أما كون الثالث من شروط حل الصيد إذا أُدرك ميتاً: إرسال الآلة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الحل على الإرسال فقال في حديث عدي: «إذا أرسلتَ كلبَكَ وذكرتَ اسم الله فكُل» (¬1). وأما كون الصائد يقصد الصيد عند الإرسال؛ فلأن المرسل إذا لم يقصد ذلك كأن إرساله وجوده كعدمه. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسَلْتَ»: إشعار بالقصد من حيث إنه أضاف الإرسال إليه. وأما كون الكلب وغيره إذا استرسل بنفسه فلا يباح صيده؛ فلأن الإرسال للصائد شرطٌ له ولم يوجد. وأما كون الصيد لا يباح وإن زجر المرسل الجارح إذا لم يزد عدوه بزجره؛ فلأن الزجر لم يزد شيئاً عن استرسال الصائد بنفسه. وأما كونه يحل إذا زاد عدو الجارح بزجره؛ فلأن الازدياد المذكور بمنزلة إرساله. قال: (وإن أرسل كلبه أو سهمه إلى هدف فقتل صيداً، أو أرسله (¬2) يريد الصيد ولا يرى صيداً لم يحل صيده إذا قتله). أما كون من أرسل كلبه أو سهمه إلى هدف فقتل صيداً لا يحل؛ فلأنه لم يقصد الصيد. أشبه ما لو نصب سكيناً فانذبحت بها شاة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 388. (¬2) في أ: وأرسله.

وأما كونه إذا أرسلهما يريد الصيد ولا يرى صيداً لا يحل؛ فلأن قصد الصيد شرط، ولا يصح مع عدم العلم به. فإرادته إذاً ليست بإرادة معتبرة؛ لفوات شرطها. قال: (وإن رمى حجراً يظنه صيداً فأصاب صيداً لم يحل. ويحتمل أن يحل). أما كون ما ذكر لا يحل على الأول؛ فلأن شرط القصد العلم ولم يوجد هنا. وأما كونه يحتمل أن يحل؛ فلأن الظن يقوم مقام العلم في كثير من الصور. فكذلك يجب أن يقوم مقامه هنا. قال: (وإن رمى صيداً فأصاب غيره، أو رمى صيداً فقتل جماعة: حل. وإن أرسل سهمه على صيد فأعانته الريح فقتله ولولاها ما وصل حل). أما كون من رمى صيداً فأصاب غيره أو رمى صيداً فقتل جماعة يحل؛ فلأن شرط الحل قصد الصيد في الجملة لا قصد الصيد بعينه، وهو موجود فيهما. ولأن الصيد أمسكه الكلب على صاحبه فيدخل في عموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة: 4]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلتَ كلبكَ وذكرتَ اسم الله عليه (¬1) فكُل مما أمسك عليك» (¬2). وأما كون من أرسل سهمه على صيد فأعانته الريح فقتله ولولاها ما وصل يحل؛ فلأن الإرسال له حكم الحل، والريح لا يمكن التحرز منها فسقط اعتبارها. قال: (وإن رمى صيداً فأثبته ملكه. فإن تحامل فأخذه غيره لزمه رده. وإن لم يثبته فدخل خيمة إنسان فأخذه فهو لآخذه. ولو وقع في شبكة صيد فخرقها وذهب بها فصاده آخر فهو للثاني). أما كون من رمى صيداً فأثبته يملكه؛ فلأنه أزال امتناعه. أشبه ما لو قتله. وأما كون غير المثبت إذا أخذه يرده؛ فلأن من أثبته ملكه. فلزم آخذه رده إليه. ¬

_ (¬1) ساقط من أ. (¬2) سبق تخريجه ص: 388.

وأما كون الصيد لآخذه إذا لم يثبته الأول؛ فلأنه لم يملكه؛ لكونه ممتنعاً فملكه الثاني بأخذه كغيره. وأما كونه للثاني إذا وقع في شبكته ... إلى آخره؛ فلأن الشبكة لم تثبته. فوجب أن يكون لمن صاده؛ لبقائه على الإباحة. قال: (وإن كان في سفينة فوثبت سمكة فوقعت في حِجْرِه فهي له دون صاحب السفينة. وإن صنع بركة ليصيد بها السمك فما حصل فيها ملكه. وإن لم يقصد بها ذلك لم يملكه). أما كون السمكة لمن وقعت في حِجْره دون صاحب السفينة؛ فلأن السمكة من الصيد المباح فيملك بالسبق إليه. فإذا وقعت السمكة في حِجْر من في السفينة صارت يده عليها دون صاحب السفينة. ألا ترى أنه لو تنازع صاحب الحجر وصاحب السفينة كيساً في حجر من في السفينة كان صاحب الحجر أحق به من صاحب السفينة. وأما كون من صنع بركة ليصيد بها يملك ما حصل فيها؛ فلأنه جعل البركة معدة للاصطياد. أشبه ما لو نصب شبكة. وأما كونه لا يملك إذا لم يقصد ذلك؛ فلأن سبب الملك إعداد البركة للاصطياد ولم يوجد ذلك. قال: (وكذلك إن حصل في أرضه سمك أو عشش فيها طائر لم يملكه ولغيره أخذه). أما كون من حصل في أرضه ما ذكر لا يملكه بذلك كالذي حصل في بركة لم يُعدها للصيد؛ فلأن الأرض ليست معدة لصيد السمك والطائر. أشبه البركة التي لم يقصد بها الاصطياد. وأما كون غيره له أخذه؛ فلأنه باق على الإباحة الأصلية.

قال: (ويكره صيد السمك بالنجاسة، وصيد الطير بالشباش. وإذا أرسل صيداً وقال: أعتقتك لم يزل ملكه عنه. ويحتمل أن يزول، ويملكه من أخذه). أما كون الصيد بالنجاسة؛ كالعذرة والميتة والدم وما أشبه ذلك يكره؛ فلأنه يؤدي إلى أكل السمك للنجاسة فيصير بمنزلة الجلاَّلة. [وأما كونه بالشباش وهو طير تخيط عينه أو تربط يكره؛ فلأن في ذلك تعذيباً للحيوان] (¬1). وأما كون من أرسل صيداً وقال: أعتقتك لم يزل ملكه عنه على المذهب؛ فلأن الإرسال والإعتاق لا يوجب زوال ذلك. دليله: ما لو أرسل بعيراً أو بقرة وقال: أعتقتك. وأما كونه يحتمل أن يزول عنه؛ فلأنه خلى سبيله. وأما كون من أخذه يملكه؛ فلأنه لا مالك له. ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

فصل [في التسمية] قال المصنف رحمه الله: (الرابع: التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة. فإن تركها لم يبح سواء تركها عمداً أو سهواً في ظاهر المذهب. وعنه: إن نسيها على السهم أبيح. وإن نسيها على الجارحة لم يبح). أما كون الرابع من شروط حل الصيد إذا أُدرك ميتاً: التسمية في الجملة؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلتَ كلبكَ وسميت فكل. قلت: أرسل فأجد معه كلبًا آخر. قال: فلا تأكل. فإنما سَميتَ على كلبكَ ولم تُسمِّ على الآخر» (¬1). متفق عليه. وفي حديث أبي ثعلبة: «ما ضربتَ بقوسكَ وذكرتَ اسم اللهِ عليه (¬2) فكُل» (¬3). وأما كون التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة؛ فلأن ذلك هو الفعل الموجود من المرسل. فاعتبرت التسمية عنده؛ كما تعتبر التسمية عند الذبح. وأما كون من تركها لا يباح صيده؛ فلما تقدم من الآيتين والخبرين. وأما كون تركها عمداً أو سهواً سواء في ظاهر المذهب؛ فلأن النصوص المتقدمة تقتضي اعتبار التسمية من غير فرق. وأما كون من تركها سهواً يباح صيده في روايةٍ؛ فلقوله عليه السلام: «عُفيَ عن أمتي (¬4) الخطأ والنسيان» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5159) 5: 2086 كتاب الذبائح والصيد، باب صيد المعراض. وأخرجه مسلم في صحيحه (1929) 3: 1529 كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة. (¬2) ساقط من د. (¬3) سبق تخريجه ص: 405. (¬4) في د: عفي لأمتي عن. (¬5) سيأتي تخريجه ص: 443.

وأما كون من نسيها على السهم يباح صيده، ومن نسيها على الجارحة لا يباح صيده في روايةٍ؛ فلأن إرسال الجارحة جرى مجرى التذكية. بخلاف إرسال السهم. ولو نسي التسمية عند التذكية لم يحل في ظاهر المذهب؛ [لما تقدم] (¬1). ¬

_ (¬1) ساقط من أ.

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان الأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان} [المائدة: 89]، وقوله سبحانه: {ولا تَنقضوا الأيمان بعد توكيدها} [النحل: 91]. وأما السنة؛ فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني والله! إن شاء الله لا أحلفُ على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيتُ الذي هو خير وتحللتُها» (¬1) متفق عليه. وأما الإجماع؛ فأجمع المسلمون في الجملة على جواز الأيمان. قال المصنف رحمه الله: (واليمين التي تجب بها الكفارة هي اليمين بالله تعالى أو صفة من صفاته). أما كون اليمين التي تجب بها الكفارة هي اليمين بالله تعالى أو صفة من صفاته؛ فلأن الكفارة لا تجب باليمين بغيره؛ لأن غيره لا يساويه. فلم يجز إلحاقه به. وأما كونها تجب باليمين فلا خلاف فيه؛ فلأن اليمين عند الإطلاق تنصرف إلى اليمين بالله تعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحلفُ على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيتُ الذي هو خيرٌ وتحللتُها» (¬2). وأما كونها تجب باليمين بصفة من صفاته؛ فلأن في الحديث: «أن النار تقول: قَطٍ قَطٍ. وعِزَّتِك! » (¬3). رواه البخاري. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2964) 3: 1140 أبواب الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين. وأخرجه مسلم في صحيحه (1649) 3: 1270 كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يميناً ... (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6284) 6: 2453 كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته. وأخرجه مسلم في صحيحه (2848) 4: 2187 كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء.

ولأن صفات الله تعالى كلها قديمة. فكان الحلف بها موجباً للكفارة؛ كالحلف بالله تعالى. قال: (وأسماء الله تعالى قسمان: أحدهما: ما لا يُسمى به غيره نحو: والله، والقديم الأزلي، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، وخالق الخلق، ورازق العالمين. فهذا القسمُ به يمينٌ بكل حال). أما كون أسماء الله تعالى قسمين؛ فلأن منها ما لا يُسمى به غيره، ومنها ما يُسمى به غيره. وأما كون أحدهما ما لا يسمى به غيره نحو: والله ... إلى العالمين فظاهر؛ لأن غير الله لا يتصف بشيء مما ذكر. فلا يسمى به؛ لانتفاء معناه فيه. وأما كون القَسَم بهذا القِسْم يميناً بكل حال أي نوى به اليمين أو لم ينو؛ فلأن اليمين بذلك صريح في مقصوده. فلم يفتقر إلى النية؛ كصريح الطلاق والعتاق وغير ذلك من الصريح. قال: (والثاني: ما يُسمى به غيره. وإطلاقه ينصرف إلى الله سبحانه: كالرحمن والرحيم والعظيم والقادر والرب والمولى والرازق ونحوه. فهذا إن نوى بالقَسم به اسم الله تعالى أو أطلق فهو يمين. وإن نوى غيره فليس بيمين). أما كون الثاني من قسمي أسماء الله تعالى ما يُسمى به غيره كالرحمن ... إلى والرازق ونحوه؛ فلأن معنى ذلك كله موجود في غيره، وقد وُجد استعمال اللفظ فيه. وأما كون إطلاقه ينصرف إلى الله سبحانه؛ فلأن استعماله فيه أكثر، والإطلاق ينصرف إلى الأكثر. وأما كونه يميناً مع النية؛ فظاهر. وأما كونه يميناً مع الإطلاق؛ فلما تقدم من أن استعمال ذلك في " الله " أكثر من غيره، وأن الإطلاق يحمل على الأكثر. وأما كونه ليس بيمين إذا نوى غير الله؛ فلأن النية تصرف اللفظ عن ظاهره. فإذا أريد به غيره لم يبق قسماً؛ لعدم تناوله لما يُوجب القسَم.

قال: (وأما ما لا يُعدّ من أسمائه؛ كالشيء والموجود. فإن لم ينو به الله تعالى لم يكن يميناً. وإن نواه كان يميناً. وقال القاضي: لا يكون يميناً أيضاً). أما كون الحلف بذلك لا يكون يميناً مع عدم النية؛ فلأن الذي يجب بالحلف به الكفارة لم يُقصد ولا اللفظ ظاهر في إرادته. فوجب أن لا يترتب عليه ما يترتب على الحلف بالله. وأما كونه يميناً إذا نوى بذلك اليمين على المذهب؛ فلأنه يصح أن يُقسم بشيء يصح أن يُراد به الله قاصداً به الحلف. فكان يميناً مكفرة؛ كما لو قال: والملك والقادر. وأما كونه لا يكون يميناً على قول القاضي؛ فلأن اليمين إنما تنعقد بحرمة الاسم، فمع الاشتراك لا يكون له حرمة، والنية بمجردها لا تنعقد بها اليمين. والأول أصح؛ لما ذكر. وقوله: مع الاشتراك لا حرمة للاسم باطلٌ بالاسم المشترك الظاهر في " الله ". وقوله: النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين مسلم. واليمين هاهنا ما انعقدت بمجرد النية بل بها مع اللفظ المحتمل؛ لأن النية تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتمليه. قال: (وإن قال: وحقِّ الله، وعهد الله، وايم والله، وأمانة الله، وميثاقه وقدرته، وعظمته وكبريائه، وجلاله وعزته ونحو ذلك فهو يمين). أما كون قول: وحق الله يميناً؛ فلأن عرف الاستعمال يشهد أن يستعمل في القسم. فوجب أن يكون قسماً. وأما كون قول: وعهد الله يميناً؛ فلما ذكر. وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها «حلفت به لا تكلم ابن الزبير. فلما كلمته أعتقت أربعينَ رقبةً. فكانت إذا ذكرته تَبكي وتقول: واعهداه» (¬1).

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5725) 5: 2255 كتاب الأدب، باب الهجرة. ولم يذكر لفظ: «واعهداه».

وأما كون قول: وايم، والله ... إلى آخره يميناً؛ فلأن كل واحد منها مستعمل في القَسم، واستعمال الشيء يدل على كونه حقيقة، وقد تقدم أن النار تقول: «قَطٍ قَطٍ وعِزَّتِك! » (¬1). رواه البخاري. قال: (وإن قال: والعهد والميثاق وسائر ذلك ولم يُضفه إلى الله تعالى لم يكن يميناً؛ إلا أن ينوي صفة الله تعالى. وعنه: يكون يميناً). أما كون ذلك لا يكون يميناً إذا لم ينو قائله صفة الله تعالى على المذهب؛ فلأنه يحتمل غير الله. فلم يكن يميناً؛ كالشيء والموجود. وأما كونه يميناً إذا نواها؛ فلأن النية تحتمل العهد والميثاق، وسائر ما ذكر على عهد الله وأمانة الله، وذلك يمين. فيجب أن يكون هذا مثله. وأما كونه يميناً إذا لم ينوها على روايةٍ؛ فلأن ذكر ذلك بالألف واللام يعود إلى المعهود وهو عهد الله وميثاقه. قال: (وإن قال: لعمر الله كان يميناً. وقال أبو بكر: لا يكون يميناً، إلا أن ينوي). أما كون قول ما ذكر يميناً على المذهب؛ فلأن ذلك قسم بصفة من صفات الله تعالى. بدليل قوله تعالى: {لعمركَ إنهم لفي سكْرتهم يعمهون} [الحجر: 72]. وقال النابغة: فلا لعمر الذي قد زرته حججاً ... وما أريق على الأنصاب من جسد وقال الآخر: إذا رضيت كرام بني قُشير ... لعَمر الله أعجبني رضاها وأما كونه لا يكون يميناً إذا لم ينو على قول أبي بكر؛ فلأن قول القائل: لعمر الله إنما يكون يميناً بتقدير خبر محذوف وذلك مجاز، والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 430.

والأول أصح؛ لما تقدم من عُرف الاستعمال. واحتياج الكلام إلى تقدير لا يضر؛ لأن اللفظ إذا اشتهر في العرف صار من الأسماء العُرفية. فيجب حمله في الإطلاق على العرف دون موضوعه الأصلي. قال: (وإن حلف بكلام الله أو بالمصحف أو بالقرآن فهي يمين فيها كفارة واحدة. وعنه: عليه بكل آية كفارة). أما كون الحلف بكلام الله يميناً؛ فلأن الكلام صفة من صفات ذاته لم يزل موصوفاً به. فوجب كون الحلف به يميناً؛ كالحلف بعظمة الله وقدرته. وأما كون الحلف بالمصحف يميناً؛ فلأن الحالف به إنما قصد الحلف بما فيه وهو كلام الله؛ لانعقاد الإجماع على أن ما بين دفّتي المصحف كلام الله. فوجب كون الحلف به يميناً؛ كالحلف بكلام الله. وأما كون الحلف بالقرآن يميناً؛ فلأن القرآن كلام الله وصفة من صفاته. فالحالف به حالف بكلام الله وبصفة من صفاته. فوجب كون الحلف به يميناً؛ لما تقدم في الحلف بالصفات. وأما كون اليمين بذلك فيها كفارة واحدة على المذهب؛ فلأن الله عز وجل قال: {ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة: 89]. وهذه يمين فتدخل في عموم الآية. ولأن الحلف بذلك يمين. فلم توجب كفارات؛ كسائر الأيمان. ولأن إيجاب كفارات تفضي إلى منع الحالف من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله: {ولا تجعلوا الله عُرضةً لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} [البقرة: 224]. وأما كون الحالف بذلك عليه بكل آية كفارة على روايةٍ؛ فلأن ابن مسعود قال ذلك (¬1). وقال أحمد: ما أعلم شيئاً يدفعه. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15946) 8: 472 كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالقرآن والحكم فيه.

وعن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلفَ بالقرآن فعليهِ بكل آيةٍ كفارة يمين صَبْر. فمن شاءَ برَّ ومن شاءَ فجَر» (¬1). رواه الأثرم. قال: (وإن قال: أحلف بالله، أو أشهد بالله، أو أقسم بالله، أو أعزم بالله كان يميناً. وإن لم يذكر اسم الله لم يكن يميناً، إلا أن ينوي. وعنه: يكون يميناً). [أما كون قول ما ذكر يميناً] (¬2)؛ فلأن ذلك قد ثبت له حكم الشرع والاستعمال. قال الله تعالى: {فيقسمان بالله} [المائدة: 106]، وقال تعالى: {وأقسموا بالله} [الأنعام: 109]، وقال تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} [النور: 6]. وقال عبدالله بن رواحة: أقمست بالله لتنزلنه ... طائعة أو لتكرهنه وأنشد أعرابيٌّ عمر: أقسم بالله لتفعلنه ولأنه لو قال: بالله ولم يقل: أقسمت كان يميناً. فإذا ضم إليه ما يؤكده كان أولى. وأما كونه لا يكون يميناً إذا لم يذكر اسم الله على المذهب؛ فلأنه يحتمل القسم بالله ويحتمل القسم بغيره. فلم يكن يميناً؛ كغيره مما يحتملهما. وأما كونه يميناً على روايةٍ؛ فلأنه ثبت له عرف الاستعمال. بدليل أن أبا بكر قال: «أقسمتُ عليكَ يا رسول الله! لتخبرني بما أصبتُ مما أخطأتُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُقسِم يا أبا بكر» (¬3). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 43 كتاب الأيمان، باب ما جاء في الحلف بصفات الله تعالى. وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15948) 8: 473 الموضع السابق. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3268) 3: 226 كتاب الأيمان والنذور، باب في القسم هل يكون يميناً. وأخرجه الترمذي في جامعه (2293) 4: 542 كتاب الرؤيا، باب ما جاء في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الميزان والدلو. وأخرجه ابن ماجة في سننه (3918) 2: 1289 كتاب تعبير الرؤيا، باب تعبير الرؤيا.

وقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: «أقسمتُ عليكَ يا رسول الله! لتُبايعنَّهُ. فبايعهُ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبررتُ قسمَ عمي ولا هِجرَة» (¬1)، وفي كتاب الله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ... -إلى قوله-: اتخذوا أيمانهم جنة} [المنافقون: 1 - 2]. فسماها يميناً، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم قسماً. وأما كون ذلك يميناً مع النية؛ فلأن النية تصرف اللفظ إلى القسم بالله. فيجب جعله يميناً؛ كما لو صرح به. إذا تقرر هذا فظاهر كلام المصنف رحمه الله يقتضي أنه إذا قال: أعزم عليك ولم يذكر القسم ونوى يكون يميناً. وقال في المغني: إذا قال: أعزم لم يكن يميناً نوى أو لم ينو؛ لأنه لم يثبت لهذا اللفظ عُرف في الشرع ولا استعمال. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2116) 1: 683 كتاب الكفارات، باب إبرار المقسم. وأخرجه أحمد في مسنده (15123) طبعة إحياء التراث.

فصل [في حروف القسم] قال المصنف رحمه الله: (وحروف القسم: الباء والواو والتاء في اسم الله تعالى خاصة). أما كون حروف القسم ما ذكر؛ فلأنها جاءت مستعملة فيه في الكتاب والسنة وكلام العرب. وأما كون الباء أولها؛ فلأنها هي الأصل، وتدخل على المظهر والمضمر جميعاً. وأما كون الواو بعدها؛ فلأنها بدل الباء، وتدخل على المظهر دون المضمر. وبه جاءت أكثر الأقسام في الكتاب والسنة. وأما كون التاء بعد الواو؛ فلأنها بدل منها. وتختص باسم الله تعالى. قال: (ويجوز القسم بغير حرف القسم فيقول: الله لأفعلن بالجر والنصب. فإن قال: الله لأفعلن مرفوعاً كان يميناً؛ إلا أن يكون من أهل العربية ولا ينوي اليمين). أما كون القسم بغير حرف القسم يجوز جراً ونصباً. والمراد به انعقاد اليمين بذلك؛ فلأن عرف الاستعمال في الشرع واللغة قد ورد بذلك: أما الشرع؛ فما روي: «أن ابن مسعود لما أَخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل أبا جهل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: آلله! إنكَ قتلته. قال: آلله إني قتلته» (¬1). وما روي أنه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة لما طلق امرأته: آلله! ما أردتَ إلا واحدة» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4246) 1: 444. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (2208) 2: 263 كتاب الطلاق، باب في البتة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2051) 1: 661 كتاب الطلاق، باب طلاق البتة. كلاهما عن عبدالله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده.

وأما في اللغة فقال امرؤ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي وقال آخر: فقلت يمين الله ما لك حيلة ... وأن أرى عنك الغواية تنجلي وأما كون قول: اللهُ لأفعلن مرفوعاً يميناً إذا لم يكن قائله من أهل العربية ولا نوى اليمين؛ فلأن ذلك يمين في عرف العوام، ولم يوجد ما يصرفه عن ذلك. فوجب كونه يميناً؛ كالقَسَم المحض. وقال المصنف في المغني: لا يكون يميناً قياساً على ما لو كان القائل من أهل العربية. وأما كونه لا يكون يميناً إذا كان من أهل العربية ولم ينو اليمين؛ فلأن ذلك ليس بيمين في عرف أهل اللغة، ولا نواها. وأما كونها يميناً إذا نواها؛ فلأنه قصد القسم. أشبه ما لو جر. ولأن احتمال غير القسم ينفي إرادة القسم فيصير القسم متمحضاً. أشبه ما لو حلف بلفظ يحيط به. قال: (ويكره الحلف بغير الله تعالى. ويحتمل أن يكون محرماً. ولا تجب الكفارة باليمين به سواء أضافه إلى الله؛ مثل قوله: ومعلوم الله وخلقه ورزقه وبيته، أو لم يضفه؛ مثل: والكعبة وأبي. وقال أصحابنا: تجب الكفارة بالحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة). أما كون الحلف بغير الله تعالى يكره على المذهب؛ فلأن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «إن الله ينهاكمْ أن تحلفوا بآبائكم. فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمُت» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6270) 6: 2449 كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1646) 3: 1267 كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى.

وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «من حلفَ بغير اللهِ فقد أشرَك» (¬1) مع ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله للأعرابي السائل عن الصلاة: «أفلحَ وأبيهِ إن صَدَق» (¬2)، ومن قوله لأبي العشراء الدارمي: «وأبيكَ لو طعنتَ في فَخِذِهَا لأجزَأك» (¬3) يدل عليه؛ لأن الأول يدل على طلب العدم والثاني في جواز الفعل وذلك شأن المكروه. وأما كونه يحتمل أن يكون محرماً؛ فلما تقدم من ظاهر النهي. وأما كون الكفارة لا تجب باليمين بما ذكر؛ فلأن الكفارة وجبت في الحلف باسم الله تعالى صيانة للاسم المعظَّمِ وغيرُ ذلك لا يساويه. فلم تجب الكفارة بالحلف به. وأما كون ذلك كذلك سواء أضافه إلى الله كما تقدم أو لم يضفه؛ فلاشتراكهما في الحلف بغير الله. وأما كونها تجب بالحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم على قول بعض أصحابنا؛ فلأنه أحد شرطي الشهادة. فالحلف به موجب للكفارة؛ كالحلف باسم الله. والأول أولى؛ لما تقدم. ولأن الحلف به حلف بنبي. فلم يوجب الكفارة؛ كالحلف بغيره من الأنبياء. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1535) 4: 110 كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (11) 1: 41 كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام. وأخرجه أبو داود في سننه (3252) 3: 223 كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (18468) طبعة إحياء التراث.

فصل [في شروط وجوب الكفارة] قال المصنف رحمه الله: (ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط: أحدها: أن تكون اليمين منعقدة. وهي: التي يمكن فيها البر والحنث. وذلك الحلف على مستقبل ممكن). أما كون الكفارة يشترط لوجوبها ثلاثة شروط؛ فلما يذكر بعد فيها. وأما كون أحدها: أن تكون اليمين منعقدة؛ فلأن غير المنعقدة إما غموس أو مثلها، وإما لغو. ولا كفارة في واحدة منهما؛ لما يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما كون اليمين المنعقدة هي التي يمكن البر فيها والحنث؛ فلأن اليمين للحنث لا تقع، والتي لا يمكن فيها البر والحنث لا حنث فيها. وأما كون التي يمكن فيها البر والحنث الحلف على مستقبل ممكن؛ فلأن الماضي لا يمكن الوفاء بالمحلوف عليه فيه، وغير الممكن لا يمكن ذلك فيه. وفي المستقبل احتراز عن الحلف على الماضي. وفي الممكن احتراز عن الحلف على المستحيل.

قال: (فأما اليمين على الماضي فليست منعقدة. وهي نوعان: يمين الغموس. وهي: التي يحلف بها كاذباً عالماً بكذبه. وعنه: فيها الكفارة. ومثلها الحلف على مستحيل؛ كقتل الميت وإحيائه، وشرب ماء الكوز ولا ماء فيه. والثاني: لغو اليمين. وهو: أن يحلف على شيء يظنه فيبين بخلافه. فلا كفارة فيها). أما كون اليمين على الماضي ليست منعقدة؛ فلأن شرط الانعقاد إمكان البر والحنث، وذلك في الماضي متعذر. وأما كون اليمين على الماضي نوعين؛ فلأن الحالف تارة يعلم كذب نفسه ويسمى يمينه الغموس؛ لغمسها صاحبها في الإثم، وتارة يظن صدقها ويسمى يمينه لغو اليمين فتنوعت بحسب العلم والظن. وأما كون اليمين الغموس لا كفارة فيها على المذهب؛ فلما روي عن ابن مسعود أنه قال: «كنا نعد اليمين (¬1) التي لا كفارة فيها اليمين الغموس». ولأن اليمين الغموس من الكبائر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «الكبائرُ: الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدين، وقتلُ النفس، واليمينُ الغموس» (¬2). رواه البخاري. والكبيرة لا تمحوها الكفارة. وأما كونها فيها الكفارة على روايةٍ؛ فلأنها تجمع الحلف بالله تعالى والمخالفة مع القصد. فوجبت الكفارة فيها؛ كالمستقبلة. وأما كون الحلف على المستحيل؛ كقتل الميت وإحيائه، وشرب ماء الكوز ولا ماء فيه مثل يمين الغموس في كونها ليست منعقدة ولا كفارة فيها على ما فيها من الخلاف؛ فلاشتراكهما في عدم إمكان البر فيهما. وقال القاضي: تنعقد موجبة للكفارة في الحال؛ لأنه حلف على فعل هو في المستقبل ولم يفعل فحنث؛ كما لو حلف ليطلقن زوجته فمات قبل طلاقها. ¬

_ (¬1) في د: من اليمين. وما أثبتناه من الشرح الكبير 11: 180. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6298) 6: 2457 كتاب الأيمان والنذور، باب اليمين الغموس.

وأما كون لغو اليمين كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن الحالف معذور بظنه. وذكر في المغني أنها على نوعين: أحدهما: ما ذكره هنا وهو: أن يحلف على شيء يظنه فيبين بخلافه. والثاني: أن يجري الحلف على لسانه من غير قصد، وفي الحديث عن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -يعني اللغو في اليمين- هو: كلامُ الرجل في بيتهِ: لا والله وبلى (¬1) والله» (¬2) أخرجه أبو داود. وأما كون لغو اليمين لا كفارة فيها؛ فلأن الله تعالى قال: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان} [المائدة: 89]. ولأن ذلك يكثر. فلو وجبت فيه الكفارة لشق وضر، وذلك منتفٍ شرعاً. ¬

_ (¬1) في د: بلى. وما أثبتناه من السنن. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3254) 3: 223 كتاب الأيمان والنذور، باب لغو اليمين.

فصل [الشرط الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: أن يحلف مختاراً. فإن حلف مكرهاً لم تنعقد يمينه. وإن سبقت اليمين على لسانه من غير قصد إليها؛ كقوله: لا والله وبلى (¬1) والله في عرض حديثه فلا كفارة عليه). أما كون الثاني من شروط الكفارة أن يحلف الحالف مختاراً؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُفيَ لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬2). وأما كون من حلف مكرهاً لا ينعقد يمينه؛ فلأنه مكره عن قولها. فلم يتعلق بها شيء؛ كالعتق، وطلاق زوجته، وبيع داره، وغير ذلك من صور الإكراه. وأما كون من سبق اليمين على لسانه كما ذكر المصنف لا كفارة عليه على ما ذكره في المغني: فلعل كونها لغو اليمين، وعلى ظاهر كلامه هنا؛ فلأن السبق في معنى الإكراه. فوجب أن لا يكون عليه كفارة؛ كالمكره. ولما ذكره المصنف رحمه الله هنا أصل في الصيام وهو أن من تمضمض فسبق الماء إلى جوفه لا يفطر؛ لأن سبق الماء في منزلة الإكراه على الشرب. وأما قول المصنف رحمه الله: كقوله: لا والله وبلى والله في عرض حديثه؛ فتفسير لسبق اليمين على لسان الحالف. ¬

_ (¬1) في د: بلى. وما أثبتناه من المقنع. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2043) 1: 659 كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي.

فصل [الشرط الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: الحنث في يمينه بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، مختاراً ذاكراً. وإن فعله مكرهاً أو ناسياً فلا كفارة عليه. وعنه: على الناسي كفارة). أما كون من شروط وجوب الكفارة الحنث في يمينه؛ فلأن من لم يحنث لا كفارة عليه؛ لكونه لم يهتك حرمة القسم. وأما كون الحنث في اليمين أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله؛ فلأن الحنث الإثم، ولا وجود لذلك إلا بما ذكر. وأما كون الحانث مختاراً ذاكراً؛ فلأن غير المختار المكره، وغير الذاكر الناسي. وسيأتي ذكرهما. وأما كون من فعل ما تقدم ذكره مكرهاً لا كفارة عليه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُفيَ لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهُوا عليه» (¬1). ولأن فعل المكره لا يُنسَبُ إليه. فلم يكن عليه كفارة؛ كما لو لم يفعله. وقال أبو الخطاب: الإكراه كالنسيان؛ لشمول الحديث لهما. والأول أولى؛ لأن الحديث وإن شملهما إلا أن المكره لا ينسب إليه الفعل. بخلاف النسيان. وأما كون من فعل ما تقدم ذكره ناسياً لا كفارة عليه على المذهب؛ فلما تقدم. ولأن الكفارة تجب لرفع الإثم، ولا إثم على الناسي. وأما كونه عليه كفارة على روايةٍ؛ فلأن الفعل ينسب إليه في الجملة. أشبه الذاكر. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريباً.

والأول أصح. والفرق بين الناسي والذاكر ظاهر فلا قياس مع الفرق. قال: (وإن حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث فعل أو ترك إذا كان متصلاً باليمين). أما كون من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث فعل أو ترك؛ فلأن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «منْ حلفَ فقال: إن شاء الله فقد استثنى» (¬1). رواه أبو داود. وفي روايةٍ للترمذي: «فقال: إن شاء الله لم يحنَث» (¬2). وفي روايةٍ لأبي داود: «فإن شاء رجع وإن شاء ترك» (¬3). وأما كون قول: إن شاء الله متصلاً؛ فلأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «منْ حلفَ فاستثنى» (¬4) يقتضي كونه عقيبه. ولأن الاستثناء من تمام الكلام. فاعتبر اتصاله به؛ كالشرط. فإن قيل: ما المراد باتصال ذلك؟ قيل: أن لا يكون بينه وبين الحلف كلام أجنبي ولا سكوت يمكن الكلام في مثله. قال: (وإذا حلف ليفعلن شيئاً ونوى وقتاً بعينه تقيّد به. وإن لم ينو لم يحنث حتى ييأس من فعله إما بتلف المحلوف عليه أو موت الحالف ونحو ذلك). أما كون من حلف بما ذكر ونوى وقتاً بعينه يتقيّد به؛ فلأن النية تصرف ظاهر اللفظ إلى غير الظاهر. فلأن تصرفه من وقت إلى وقت بطريق الأولى. ولأن النية تُعيّن المراد. فلا يحصل بفعل الشيء في غير المنوي هتك القسم؛ لعدم قصده بالقسم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3261) 3: 225 كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1532) 4: 108 كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في الاستثناء في اليمين. (¬3) هو جزء من الحديث الآتي. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3262) 3: 225 كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين.

وأما كون من لم ينو لا يحنث حتى يُيأس من فعله؛ فلأن المحلوف على فعله لم يتوقت بوقت معين وفعله بعد ممكن. فلم تحصل مخالفة ما حلف عليه، وذلك يوجب عدم الحنث؛ لأن شرطه المخالفة. قال: (وإذا حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها استحب له الحنث والتكفير. ولا يستحب تكرار الحلف). أما كون من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها يستحب له الحنث والتكفير؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلفَ على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتِ الذي هو خيرٌ وليكفر عن يمينه» (¬1). أمر وأدنى أحواله الاستحباب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني والله! إن شاء الله لا أحلفُ على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيتُ الذي هو خيرٌ وتحللتُها» (¬2) متفق عليهما. وعن عائشة رضي الله عنها «أن أبا بكر لم يكن يحنثُ في يمين حتى أنزلَ الله كفارةَ الأيمان فقال: لا أحلفُ على يمين فرأيتُ غيرها خيرًا منها إلا أتيتُ الذي هو خيرٌ وكفرتُ عن يميني» (¬3) أخرجه البخاري. وأما كون تكرار الحلف لا يستحب؛ فلأن التكرار قد يكثر بحيث يصير مكروهاً كقوله تعالى: {ولا تطع كل حلافٍ مَهين} [القلم: 10]. فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرر اليمين. من ذلك: ما روي «أنه قال في خطبة الكسوف: واللهِ! يا أمةَ محمدٍ ما منْ أحدٍ أغيرُ من اللهِ عز وجل أن يزني عبدهُ أو تزني أمتهُ. والله! يا أمةَ محمد لو تعلمونَ ما أعلمُ لضحكتمْ قليلاً ولبكيتمْ كثيراً» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6248) 6: 2443 كتاب الأيمان والنذور. نحوه. وأخرجه مسلم في صحيحه (1650) 3: 1272 كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يميناً ... (¬2) سبق تخريجه ص: 429. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6247) 6: 2443 كتاب الأيمان والنذور. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (997) 1: 354 كتاب الكسوف، باب الصدقة في الكسوف. وأخرجه مسلم في صحيحه (901) 2: 618 كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف.

ومنه: ما روي «أن امرأةً أنصاريةً أتته ومعها أولادها. فقال: والذي نفسي بيدهِ! إنكمْ لأحَبُّ الناس إليّ. قالها ثلاث مرات» (¬1) متفق عليهما. ومنه: أنه قال: «لأغزُونَّ قُريشاً» (¬2). قيل: ذلك دليل الجواز لا دليل الاستحباب؛ لأنه لو كان مستحباً لكانت الصحابة تكثر منه؛ لأنهم كانوا يكثرون من فعل المستحب. ومفهوم كلام المصنف رحمه الله أن تكرار الحلف لا يكره وصرح به في المغني وشرط في ذلك أن لا يبلغ إلى حد الإفراط. ووجهه: ما تقدم من الأحاديث. قال: (وإن دُعي إلى الحلف عند الحاكم وهو محق استحب افتداء يمينه، فإن حلف فلا بأس). أما كون من دُعي إلى الحلف عند الحاكم وهو محق يستحب افتداء يمينه؛ فلما روي «أن عثمان والمقداد تحاكما إلى عمر في مال استقرضه المقداد. فجعل عمر اليمين على المقداد فردها على عثمان. فقال عمر: لقد أنصفك. فأخذ عثمان ما أعطاه المقداد ولم يحلف. فقيل له في ذلك. فقال: خفت أن يوافق قدرَ بلاء فيقال: يمين عثمان». وأما كونه إذا حلف لا بأس؛ فـ «لأن عمر وأُبيّاً تحاكما إلى زيد في نخل ادعاه أبيّ. فتوجهت اليمين على عمر. فقال زيد: اعف أمير المؤمنين. فقال عمر: ولم تُعف (¬3) أمير المؤمنين؟ إن عرفتُ شيئاً استحققته بيميني وإلا تركته. والله الذي لا إله إلا هو إن النخل لنخلي وما لأبيّ فيه حق. فلما خرجا وهبَ النخل لأبيّ. فقيل له: هلا كان هذا قبل اليمين؟ قال: خفتُ أن لا أحلفَ فلا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6269) 6: 2449 كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (2509) 4: 1948 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار رضي الله تعالى عنهم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3285) 3: 231 كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت. (¬3) في د: تعفي.

يحلفُ الناس على حقوقهم بعدي فتكون سنة» (¬1). رواه عمر بن شبة (¬2) في كتاب قضاة البصرة. ¬

_ (¬1) عن الشعبي، قال: «كان بين عمر وأبي رضي الله عنه خصومة فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً. قال: فجعلا بينهما زيد بن ثابت. قال: فأتوه قال: فقال عمر رضي الله عنه: أتيناك لتحكم بيننا، وفي بيته يؤتي الحكم. قال: فلما دخلوا عليه أجلسه معه على صدر فراشه. قال: فقال: هذا أول جور جرت في حكمك أجلسني وخصمي مجلساً. قال: فقصا عليه القصة. قال: فقال زيد لأبي: اليمين على أمير المؤمنين فإن شئت أعفيته. قال: فأقسم عمر رضي الله عنه على ذلك. ثم أقسم له لا تدرك باب القضاء حتى لا يكون لي عندك على أحد فضيلة». أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 144 كتاب آداب القاضي، باب القاضي لا يحكم لنفسه. (¬2) في د: عمرو بن شيبة.

فصل [فيمن حرم حلالاً] قال المصنف رحمه الله: (وإن حرّم أمته أو شيئاً من الحلال لم يحرم وعليه كفارة يمين إن فعله. ويحتمل أن يحرم تحريماً تزيله الكفارة). أما كون من حرم ما ذكر لا يحرم على المذهب؛ فلأن الله تعالى سمى ذلك يميناً فقال: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ... -إلى قوله-: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 1 - 2]. وعن ابن عباس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلَ تحريمَ الحلال يميناً». واليمينُ على الشيء لا يحرّمُه فكذا إذا حرّمه. وأما كونه عليه كفارة يمين إن فعله؛ فلأن الله تعالى فرض في ذلك تحلة اليمين، وهي كفارته. وأما كون التحريم المذكور يحتمل أن يحرم تحريماً تُزيله الكفارة؛ فلأنه حرّم ما أحله الله له. فحرم التحريم المذكور؛ كما لو ظاهر من زوجته. قال: (وإن قال: هو يهودي أو كافر، أو بريء من الله تعالى أو من الإسلام أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم إن فعل ذلك فقد فعل محرّماً، وعليه كفارة إن فعل في إحدى الروايتين. وإن قال: أنا أستحل الزنى ونحوه فعلى وجهين. وإن قال: عصيت الله، أو أنا أعصي الله في كل ما أمرني، أو محوت المصحف إن فعلت فلا كفارة فيه). أما كون من قال: هو يهودي أو كافر إن فعل ذلك فقد فعل محرّماً؛ فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلفَ بملةٍ غير الإسلام مُتعمداً فهو كما قال» (¬1) متفق عليه.

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1297) 1: 459 كتاب الجنائز، باب ما جاء في قاتل النفس. وأخرجه مسلم في صحيحه (110) 1: 105 كتاب الإيمان، باب غلظ قتل الإنسان نفسه ...

وأما كون من قال: هو بريء من الله إن فعل ذلك فقد فعل محرّماً؛ فلأنه أبلغ من قوله: هو بريء من الإسلام، ومن قال ذلك فقد فعل محرماً. فلأن يكون كذلك فيما هو أبلغ منه بطريق الأولى. وأما كون من قال: هو بريء من الإسلام فقد فعل محرّماً؛ فلما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف أنه بريء من الإسلام فإن كان قد كذب فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلم يرجع إلى الإسلام سالمًا» (¬1). رواه النسائي وابن ماجة. وأما كون من قال: هو بريء من القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم فقد فعل محرّماً؛ فلأنه يساوي من قال: هو بريء من الإسلام معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما كون من قال شيئاً من ذلك عليه كفارة في روايةٍ؛ فلأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سُئلَ عن الرجل يقول: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها فيحنث في هذه الأشياء؟ فقال: عليه كفارة يمين» (¬2). ولأن قوله هذه الأشياء يوجب هتك الحرمة. فكان يمينًا؛ كالحلف بالله. وأما كونه لا كفارة عليه في روايةٍ؛ فلأنه لم يحلف باسم الله ولا صفته. فلم يلزمه كفارة؛ كما لو قال: عصيت الله فيما أمرني. وأما كون من قال: أنا أستحل الزنى ونحوه على وجهين؛ فلأنه يشارك ما تقدم من قوله: هو يهودي في كونه موجباً لهتك الحرمة. وأما كون من قال: عصيت الله، أو أنا أعصي الله في كل ما أمرني، أو محوت المصحف إن فعلت لا كفارة فيه؛ فلأن هذه الأشياء لا نص فيها يقتضي ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3258) 3: 224 كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في الحلف بالبراءة وبملة غير الإسلام. وأخرجه النسائي في سننه (3772) 7: 4 كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالبراءة من الإسلام. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2100) 1: 679 كتاب الكفارات، باب من حلف بملة غير الإسلام. وأخرجه أحمد في مسنده (23056) 5: 355. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 30 كتاب الأيمان، باب من حلف بغير الله ثم حنث.

الوجوب ولا هي في معنى ما تقدم. فوجب أن يبقى الحالف بها على البراءة الأصلية. قال: (وإن قال: عبد فلان حر لأفعلن فليس بشيء. وعنه: عليه كفارة إن حنث). أما كون قول من قال ذلك ليس بشيء على المذهب؛ فلأنه لو قال: عبد فلان حر من غير تعليق لم يكن شيئاً. فكذلك إذا علقه؛ لأن تعليق الشيء بالشرط أثره في أن يصير عند الشرط كالمطلق، وإذا لم يكن المطلق شيئاً فكذلك المعلق. وأما كونه عليه كفارة إن حنث أي إن فعل ما حلف عليه فكما لو قال: لله عليّ أن أعتق فلاناً إن فعلت. والأول أصح؛ لما تقدم. والفرق بين قوله: عبد فلان حر إن فعلت وبين قوله: لله عليّ أن أعتق فلاناً إن فعلت من حيث إن الأول: إيقاع للعتق في عبد فلان إن فعل وهو لا يملكه. والثاني: التزام بإعتاقه إن فعل وهو يملكه. قال: (وإن قال: أيمان البيعة تلزمني، فهي يمين رتبها الحجاج تشتمل على اليمين بالله تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال، فإن كان الحالف يعرفها ونواها انعقدت يمينه بما فيها، وإلا فلا شيء عليه. ويحتمل أن لا تنعقد بحال إلا في الطلاق والعتاق). أما كون أيمان البيعة هي ما ذكر؛ فلأن البيعة كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصافحة. فلما ولي الحجاج رتَّبها أيماناً تشتمل على اسم الله تعالى والطلاق والعتاق والحج وصدقة المال ذكره المصنف في المغني ولم يذكر هاهنا الحج. وأما كون الحالف بها إذا كان يعرفها ونوى موجبها تنعقد يمينه بالطلاق والعتاق؛ فلأنهما ينعقدان بالكناية، وأسوأ ما يقدر هنا أنه كناية. وأما كونه تنعقد يمينه بالله وصدقة المال والحج على المذهب؛ فلأنها يمين مشتملة على أشياء ينعقد بعضها فانعقدت في باقيها قياساً للبعض على البعض. وأما كونه يحتمل أن لا تنعقد بذلك؛ فلأن ذلك إنما ينعقد بالكناية ولا تدخل لها فيما ذكر. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأمرين:

أحدهما: أن من يعرفها ولا ينويها لا تنعقد يمينه في شيء من ذلك؛ لأن الكناية تفتقر إلى النية ولا وجود لها هاهنا. وثانيهما: أن من لا يعرفها لا تنعقد يمينه في شيء من ذلك؛ لأنه إذا عرفها ولم ينوها لا تنعقد يمينه في ذلك. فلأن لا تنعقد يمين من لا يعرفها بطريق الأولى. فإن قيل: ما الحكم إذا لم يعرفها ونوى مُوجبها؟ قيل: قال المصنف رحمه الله في المغني: سئل أبو القاسم الخرقي رضي الله عنه عن أيمان البيعة فقال: ليست فيها شيء، ثم قال: إلا أن يلتزم الحالف بها جميع ما فيها من الأيمان. فقال السائل: عرفها أم لم يعرفها؟ فقال: نعم. وظاهر كلام المصنف هنا: لا بد من معرفتها ونيتها؛ لما تقدم. قال: (وإن قال: عليّ نذر أو يمين إن فعلت كذا وفعله فقال أصحابنا: عليه كفارة يمين). أما كون من قال: عليّ نذر إن فعلت كذا وفعله عليه كفارة يمين؛ فلأن موجب النذر موجب اليمين وقد أخبر أنه عليه نذر. فوجب أن تجب عليه الكفارة؛ كما لو قال: لله عليّ كفارة. وأما كون من قال: عليّ يمين إن فعلت كذا وفعله (¬1) عليه كفارة يمين؛ فلأن فعل الشيء المحلوف على تركه يوجب الكفارة وقد أخبر أنه فعل المحلوف عليه. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

فصل في كفارة اليمين قال: (وهي تجمع تخييراً وترتيباً. فيخير فيها بين ثلاثة أشياء: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة. والكسوة للرجل: ثوب يجزئه أن يصلي فيه. وللمرأة: درع وخمار. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة إن شاء قبل الحنث وإن شاء بعده. ولا يجوز تقديمها على اليمين). أما كون كفارة اليمين تجمع تخييراً وترتيباً؛ فلأنها يخير فيها بين الإطعام والكسوة والعتق. والترتيب فيها بين ذلك وبين الصيام. وأما كونه يخير فيها بين الثلاثة الأشياء المذكورة؛ فلأن الله تعالى قال: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} [المائدة: 89]. ذكر ذلك بلفظ: "أو" وهي للتخيير. وأما كونها يرتب فيها بين ذلك وبين الصيام؛ فلأن الله تعالى قال: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة: 89]. ذكره بلفظ: {فمن لم يجد} وذلك يقتضي الترتيب. وأما كون الكسوة للرجل ثوباً يجزئه أن يصلي فيه، وللمرأة درعاً وخماراً؛ فلأن ما دون ذلك لا يجزئ لابسه في الصلاة، ويسمى عرياناً شرعاً. فوجب أن لا يجزئ. فإن قيل: لم ذكر المصنف رحمه الله مقدار الكسوة دون الإطعام؟ قيل: لأن مقدار الإطعام قد سبق في كفارة الظهار. بخلاف الكسوة فإنها لا مدخل لها فيه. وأما كون من لم يجد الإطعام والكسوة والعتق يصوم ثلاثة أيام؛ فلأن الله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة: 89].

وأما كون الأيام متتابعة؛ فلأن في قراءة ابن مسعود: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وذلك إن لم يكن قرآناً فهو خبر؛ لأنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم خبراً ظنه قرآناً. ولأن الصوم في الكفارة صوم في كفارة. فوجب التتابع فيه؛ كصوم الظهار والقتل. وأما كون من وجب عليه التكفير بشيء مما ذكر إن شاء فعله قبل الحنث وإن شاء بعده؛ فلأن كلاً منهما قد ورد. فروي عنه أنه قال: «لا أحلفُ على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير» (¬1). وفي لفظ: «إلا أتيتُ الذي هو خيرٌ وتحللتُها» (¬2) متفق عليهما. وعن عبدالرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبدالرحمن! إذا حلفتَ على يمين فرأيتَ غيرها خيرًا منها فكفرْ عن يمينكَ ثم ائت الذي هوَ خير» (¬3). رواه أبو داود. وفي رواية: «فكفرْ عن يمينكَ. وائتِ الذي هو خير» (¬4). وفي رواية: «فائتِ الذي هو خيرٌ. وكفرْ عن يمينك» (¬5). متفق عليهما. وأما كونه لا يجوز تقديم الكفارة على اليمين؛ فلأنه تقديم للحكم قبل سببه. فلم يجز؛ كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب، أو كفارة القتل قبل الجرح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6340) 6: 2470 كتاب كفارات الأيمان، باب الاستثناء في الأيمان. (¬2) سبق تخريجه ص: 429. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3278) 3: 229 كتاب الأيمان والنذور، باب الرجل يكفر قبل أن يحنث. وأخرجه النسائي في سننه (3784) 7: 4 كتاب الأيمان والنذور، الكفارة قبل الحنث. وأخرجه أحمد في مسنده (20647) 5: 63. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (6248) 6: 2443 كتاب الأيمان والنذور. وأخرجه مسلم في صحيحه (1652) 3: 1273 كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يميناً ... (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (6343) 6: 2472 كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده. وأخرجه مسلم في الموضع السابق.

قال: (ومن كرَّرَ أيماناً قبل التكفير فعليه كفارة واحدة. وعنه: لكل يمين كفارة. والظاهر أنها إن كانت على فعل واحد فكفارة واحدة. وإن كانت على أفعال فعليه لكل يمين كفارة. وإن كانت الأيمان مختلفة الكفارة؛ كالظهار واليمين بالله تعالى فلكل يمين كفارتها). أما كون من كرر أيماناً قبل التكفير عليه كفارة واحدة على الأول؛ فلأن الكفارة حدود بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «الحدودُ كفاراتٌ لأهلِها» (¬1). فوجب أن تتداخل؛ كالحدود. وأما كونه عليه لكل يمين كفارة على روايةٍ؛ فلأن كل واحدةٍ منهن مثل الأولى. وأما كون الظاهر أن الأيمان إن كانت على فعل واحد فكفارة واحدة، وإن كانت على أفعال فلكل يمين كفارة؛ فلأنها إذا كانت على فعل واحد متى حنث في إحداها حنث في غيرها فتكون بمنزلة يمين واحدة وعليه فيها كفارة واحدة فكذلك فيما هو بمنزلتها. بخلاف الأيمان على أفعال فإنه لا يكون كذلك فيكون ذلك بمنزلة أيمان مختلفة وعليه فيها كفارات فكذلك فيما هو بمنزلتها. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأن الخلاف المذكور لا يجري في تكرير الأيمان بعد التكفير. وهو صحيح؛ لأن اليمين الأولى كفرتها ثم حصلت اليمين بعدها. فوجب أن يرتب عليها كفارتها؛ كالأولى. ولأن الحدود تتعدد بتعدد موجبها إذا استوفي الأول قبل فعل الثاني فكذلك هاهنا. وأما كون الأيمان إذا كانت مختلفة وجب لكل فعل حده. فكذلك الأيمان. ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت قال: « ... ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ... » (18) 1: 15 كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار. وأخرجه مسلم في صحيحه (1709) 3: 1333 كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها.

قال: (وكفارة العبد الصيام، وليس لسيده منعه منه. ومن نصفه حر فحكمه في الكفارة حكم الأحرار). أما كون كفارة العبد الصيام؛ فلأن ذلك كفارة الحر المعسر، وهو أحسن حالاً من العبد. وأما كون السيد ليس له منع عبده من التكفير بالصيام؛ فلأنه صيام واجب عليه. فلم يكن لسيده منعه منه؛ كصوم رمضان وقضائه. وأما كون من نصفه حر حكمه في الكفارة حكم الأحرار؛ فلأنه إذا كان قادراً على الإطعام أو الكسوة أو العتق لا يكون داخلاً في قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة: 89]. فلا يجزئه الصيام؛ لأنه واجد. ولأن من نصفه حر يملك ملكاً تاماً. أشبه الحر الكامل.

باب جامع الأيمان

باب جامع الأيمان قال المصنف رحمه الله: (ويرجع في الأيمان إلى النية. فإن لم يكن له نية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها. فإذا حلف ليقضينّه حقه غداً فقضاه قبله لم يحنث إذا قصد أن لا يتجاوزه، أو كان السبب يقتضيه). أما كون الأيمان يرجع فيها إلى النية؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬1). ولأن إطلاق العام وإرادة الخاص شائع في القرآن والشعر وكلام العرب فكذلك يجب أن يكون في كلام الحالف. ولا فرق بين أن تكون ظاهر اللفظ أو غير ظاهره؛ لأن المصحح النية وهو موجود فيهما. وأما كونها يرجع فيها إلى سبب اليمين وما هيجها؛ فلأن السبب قرينة دالة على قصر اليمين عليه. أشبه النية. فإن قيل: لو اجتمعت النية والسبب وتعارضا؛ مثل: إن تمنّن على رجل زوجته بغزلها فيحلف لا يلبس ثوباً من غزلها وينوي اللبس خاصة: فلأيهما الحكم؟ قيل: فيه وجهان: أحدهما: تُقدَّمُ النية؛ لأنها الأصل. والثاني قاله القاضي: يقدم السبب؛ لأن اللفظ ظاهر في العموم والسبب مقوٍّ له. ولأن السبب هو الامتنان، وظاهر حاله قصد قطع المنة ولا يلتفت إلى نيته المخالفة لهذين الظاهرين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1) 1: 3 كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي. وأخرجه مسلم في صحيحه (1907) 3: 1515 كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية».

والأول أولى؛ لما تقدم. وأما تقوية السبب الظاهر فلا يسلم أنها تبلغ بلوغاً تصير النية مرجوحاً معها. وأما كون السبب يدل على قصد قطع المنة فالدلالة على القصد لا تعتبر مع العلم بانتفاء المدلول؛ كشهادة العدلين بموت من يعلم حياته. وأما كون من حلف لغريمه ليقضينّه حقه غداً فقضاه قبله لا يحنث إذا كان قصده أن لا يتجاوزه أو كان السبب يقتضيه؛ فلأنه متى كان كذلك لم يخالف ما حلف عليه نظراً إلى نيته أو سببه، والعبرة بهما؛ لما تقدم. قال: (وإن حلف لا يبيع ثوبه إلا بمائة فباعه بأكثر لم يحنث. وإن باعه بأقل حنث). أما كون من حلف لا يبيع ثوبه إلا بمائة فباعه بأكثر لم يحنث؛ فلأنه ما خالف ما حلف عليه معنى. وأما كونه يحنث إذا باعه بأقل؛ فلأن العرف يقتضي من تقييده نفسه من البيع بمائة يكون مانعاً لها من بيعها بأقل من ذلك. فيكون حلفه تنبيهاً على امتناعه من بيعه بما دون المائة وذلك يوجب الحنث؛ كما لو حلف ما له عليّ حبة وله عليّ شيء كثير. قال: (وإن حلف لا يدخل داراً ونوى اليوم لم يحنث بالدخول في غيره. وإن دُعي إلى غداء فحلف لا يتغدى اختصت يمينه به إذا قصده). أما كون من حلف لا يدخل داراً ونوى اليوم لا يحنث بالدخول في غيره؛ فلأن النية خصصت الدخول باليوم فاختص الحنث بالدخول فيه؛ لما تقدم من أن العبرة في الأيمان بالنية. ولأن اللفظ العام يصير بالإرادة خاصاً، ولو كانت يمينه خاصة؛ كقوله: لا دخلت داراً اليوم لم يحنث بالدخول في غيره فكذلك إذا نواه. وأما كون من دُعي إلى غداء فحلف لا يتغدى يختص يمينه بالغداء عند الداعي إذا قصده؛ فلأن اللفظ وإن كان عاماً لكن القصد خصصه. فصار كما لو دُعي إلى غداء فحلف لا يتغدى عند الداعي.

قال: (وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش يقصد قطع المنَّةِ حنثَ بأكل خبزهِ واستعارةِ دابتهِ وكل ما فيه المنَّة). أما كون من حلف بما ذكر وقد قصد قطع المنَّة يحنث بما ذكر في الجملة؛ فلأن تعميم اللفظ بتعميم القصد شائع في الشرع، منه قوله تعالى: {ولا تُظلمون فَتيلا} [النساء: 77]، وقوله تعالى: {فإذًا لا يُؤتون الناس نقيرًا} [النساء: 53]. ومنه قول الحطيئة يهجو قوماً: ولا يَظلمون الناس حبة خردل وإذا كان تعميم اللفظ بتعميم القصد شائعاً صار قول من حلف: لا يشرب له الماء من العطش مع قصد قطع المنَّة بمنزلة حلفه: لا فعلت فعلاً فيه منة ثم فعل شيئاً مما ذكر. وأما كونه يحنث بكل واحد من أكل خبزه، واستعارة دابته، وكل ما فيه منَّة؛ فلأن العبرة بالقصد كما تقدم، والمنَّة موجودة في كل واحد مما (¬1) ذكر. قال: (وإن حلف لا يلبس ثوباً من غزلها يقصد قطع منّتِها فباعه واشترى بثمنه ثوباً فلبسه: حنث. وكذلك إن انتفع بثمنه). أما كون من حلف لا يلبس ثوباً من غزل المحلوف على غزلها يقصد قطع منَّتها فباعه واشترى بثمنه ثوباً فلبسه: حنث؛ فلأنه قصد بيمينه قطع المنّة، والمنّة حاصلة بما ذكر. فوجب أن يحنث؛ كما لو حلف لا ينتفع بغزلها فباعه واشترى بثمنه ثوباً ولبسه. وأما كونه يحنث إذا انتفع بثمنه؛ فلأن القصد قطع المنَّة، وفي الانتفاع بغير اللبس منَّة. فيجب أن يحنث به؛ كاللبس. قال: (وإن حلف لا يأوي معها في دار يريد جفاءها ولم يكن للدار سبب هيج يمينه فأوى معها في غيرها حنث). أما كون من حلف بما ذكر يريد جفاء المحلوف عليها يحنث إذا أوى معها في غير دار في الجملة؛ فلأن القصد جفاؤها، ولم يحصل في غير دار. ¬

_ (¬1) في د: ما.

وأما كون ذلك يشترط فيه أن لا يكون للدار سبب هيج يمينه؛ فلأن الدار إذا كان لها سبب هيج يمينه فأوى معها في غيرها لا يحنث. وصرح به في المغني وعلله بأنه قَصَد جفاء زوجته في مكان مخصوص ولم يخالف ما حلف عليه. قال: (وإن حلف لعامل لا يخرج إلا بإذنه فعُزِلَ، أو على زوجته فطلقها، أو على عبده فأعتقه ونحوه، يريد ما دام كذلك انحلت يمينه. وإن لم تكن له نية انحلت يمينه أيضاً ذكره القاضي؛ لأن الحال تصرف اليمين إليه. وذكر في موضع آخر أن السبب إذا كان يقتضي التعميم عممناها به. وإن اقتضى الخصوص مثل: من نذرَ لا يدخلُ بلداً لظُلمٍ رآهُ فيه فزال الظلم فقال أحمد: النذر يُوفى به. والأول أولى؛ لأن السبب يدل على النية فصار كالمنوي سواء). أما كون من حلف بما ذكر لعامل فعُزِلَ، أو على زوجته فطلقها، أو على عبده فأعتقه ونحو ذلك يريد ما دام كذلك تنحل يمينه؛ فلأن الخروج بعد عزل العامل وطلاق الزوجة وعتق العبد بغير إذن خروج لم يتناوله اليمين؛ لتخصيص لفظها بإرادة زمن العمالة والزوجية والعبودية. وأما كونه إذا لم تكن له نية تنحل يمينه أيضاً على ما ذكره القاضي؛ فلما ذكره المصنف رحمه الله من أن الحال تصرف إلى حال كون المحلوف عليه على الصفة الموجودة فيه؛ لأن العرف يقضي بأن المنع من الخروج إلا بإذن العامل إنما كان لأجل كونه عاملاً، ومن خروج الزوجة والعبد إنما كان لأجل الولاية عليهما. وأما كون النذر يُوفى به على المنصوص عن أحمد في مسألة الظلم فنظر إلى عموم اللفظ واللفظ في بقية المسائل عام. فيجب أن يعم. وأما كون الأول أولى؛ فلما علل المصنف رحمه الله من أن السبب يدل على النية فصار كالمنوي سواء. ولأن أصول الإمام تقتضي تقديم النية والسبب على عموم اللفظ، وذلك يوجب تخصيص اللفظ العام وقصره على الحاجة. فكذلك يجب في هذه المسألة؛ لكونها داخلة في القواعد الكلية.

قال: (وإن حلف لا رأيت منكراً إلا رفعته إلى فلان القاضي فعُزلَ انحلت يمينه إن نوى ما دام قاضياً. وإن لم ينو احتمل وجهين). أما كون يمين من ذكر تنحل إن نوى ما دام قاضياً؛ فلأن الرفع بمنزلة الخروج فيما إذا حلف لعامل لا يخرج إلا بإذنه ونوى ما دام عاملاً، وهناك تنحل يمينه. فكذلك هاهنا. وأما كونه إن لم ينو ذلك يحتمل وجهين؛ فلأن ذلك في معنى ما لو حلف لعامل اليمين المذكورة ولم ينو حال كونه عاملاً.

فصل [إذا عدمت النية والسبب] قال المصنف رحمه الله: (فإن عدم ذلك رجع إلى التعيين. فإذا حلف لا يدخل دار فلان هذه فدخلها وقد صارت فضاء أو حماماً أو مسجداً أو باعها فلان، أو لا لبستُ هذا القميص فجعله سراويل أو رداء أو عمامة ولبسه، أو لا كلمتُ هذا الصبي فصار شيخاً، أو امرأة فلان، أو صديقه فلاناً، أو غلامه سعداً، فطلقت الزوجة وزالت الصداقة وعتق العبد وكلمهم، أو لا أكلتُ لحم هذا الحَمَل فصار كبشاً، أو لا أكلتُ هذا الرطب فصار تمراً أو دبساً أو خلاً، أو لا أكلتُ هذا اللبن فتغيّر أو عُمل معه شيء فأكله: حنثَ في ذلك كله. ويحتمل أن لا يحنث). أما كون الأيمان يرجع فيها إلى التعيين إذا عدمت النية والسبب المتقدم ذكرهما المشار إليهما بذلك في قول المصنف رحمه الله: فإن عدم ذلك؛ فلأن التعيين أبلغُ من دلالة الاسم على المسمّى؛ لأنه ينفي الإيهام بالكلية. بخلاف الاسم، ولهذا لو شهد عدلان على عين شخص بحق وجب على الحاكم الحكم عليه، ولو شهد عدلان على المسمى باسم بحق لم يحكم عليه حتى يثبت أنه المسمى بذلك لا مشارك له فيه، وإذا كان التعيين أبلغ من دلالة الاسم على المسمى كان راجحاً عليه وتعين الرجوع إليه. وأما كون من حلف بما تقدم ذكره يحنث بما ذكر على المذهب في مسألة الدار والقميص والصبي؛ فلأن التعيين يقتضي الحنث، وزوال الاسم ينفيه، والتعيين راجح على الاسم؛ لما تقدم. وأما في مسألة المرأة والصديق والغلام؛ فلأن الإضافة فيها تقتضي وصف المحلوف على عدم كلامه بالزوجية والصداقة وكونه غلاماً، والصفة كالاسم بل أضعف فإذا غلب التعيين على الاسم. فلأن يغلب على الصفة أولى.

وأما في مسألة الحمل والرطب؛ فلأنهما كسكنى الدار والقميص من غير فرق. فالحنث في بعض يقتضي الحنث في البعض الآخر. وأما في مسألة اللبن؛ فلأن تغيره وخلط شيء آخر معه بمنزلة زوال الاسم وذلك لا يضر؛ لما تقدم. وأما كونه يحتمل أن لا يحنث في ذلك كله؛ فلأنه لو حلف على ذلك كله ناوياً الصفة التي حلف عليها لم يحنث إذا زالت، وقرينة الحال تدل على إرادة ذلك. فصار كالمنوي. والأول أصح؛ لأن مقتضى التعيين الحنث وهو راجح؛ لما تقدم. تُرك العمل به في مسألة النية والسبب؛ لما تقدم. فوجب أن يعمل عند عدمهما عمله.

فصل [إذا عدمت النية والسبب والتعيين] قال المصنف رحمه الله: (فإن عدم ذلك رجعنا إلى ما يتناوله الاسم. والأسماء تنقسم ثلاثة أقسام: شرعية وحقيقية وعُرفية. فأما الشرعية فهي أسماء لها موضوع في الشرع وموضوع في اللغة؛ كالصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوه فاليمين المطلقة تنصرف إلى الموضوع الشرعي وتتناول الصحيح منه. فإذا حلف لا يبيع فباع بيعاً فاسداً، أو لا ينكح فنكح نكاحاً فاسداً لم يحنث؛ إلا أن يضيف اليمين إلى شيء لا يتصور فيه الصحة مثل: أن يحلف لا يبيع الخمر أو الحر فيحنث بصورة البيع. وذكر القاضي فيمن قال لامرأته: إن سرقتِ مني شيئاً وبعتنيه فأنت طالق ففعلت لم تطلق. والأولى أولى). أما كوننا نرجع إلى ما يتناوله الاسم إذا عدمت النية والسبب؛ فلأن الاسم دليل على إرادة المسمى ولا مُعارض له هنا. فوجب أن يرجع إليه عملاً به؛ لسلامته عن معارضة غيره له. وأما كون الأسماء تنقسم ثلاثة أقسام؛ فلأنها تارة تكون شرعية، وتارة حقيقية، وتارة عُرفية. وأما كون الأسماء الشرعية هي أسماء لها موضوع في الشرع وموضوع في اللغة؛ كالصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوه؛ فلأن موضوع الصلاة في اللغة الدعاء، ومنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب: 56]. وموضوعها في الشرع: الأفعال المشتملة على الركوع والسجود وبقية أفعالها المذكورة في كتب الفقه. وموضوع الصوم في اللغة: الإمساك. ومنه قول الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

أي ممسكات. وموضوعه في الشرع: الإمساك عن المفطرات في زمن مخصوص ونية مخصوصة. وموضوع الزكاة في اللغة: النماء ومنه زكا الزرع إذا نمى. وفي الشرع: إخراج طائفة من المال على وجه مخصوص. وموضوع الحج في اللغة: القصد. وفي الشرع: هو الأفعال المشتملة على الطواف والوقوف وغير ذلك من أفعاله المذكورة في كتب الفقه. ونحو ذلك الدابة فإن موضوعها في اللغة: كل ما دب ودرج، وفي العرف: ذوات الأربع من الخيل والبغال والحمير بدليل لو أوصى لرجل بدابة فإنه ينصرف إلى ذلك. وأما كون اليمين المطلقة الصالحة لإرادة الموضوع الشرعي واللغوي تنصرف إلى الموضوع الشرعي؛ فلأن ذلك هو المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق. ولأن الشارع لو قال لرجل: صل لوجبت عليه الصلاة المشتملة على الأفعال؛ إلا أن يقترن بكلامه ما يدل على إرادة الموضوع اللغوي فكذلك يمين الحالف؛ لأن كلام المكلف مبني على كلام الشارع. وتقييد اليمين بكونها مطلقة احتراز مما إذا نوى الحالف بيمينه الموضوع اللغوي فإن يمينه حينئذ إنما تنصرف إلى المنوي؛ لأن النية تعين المحلوف عليه؛ لما تقدم في باب الأيمان. وتُقَدّم على غيرها. وأما كون ذلك يتناول الصحيح منه دون الفاسد؛ لأن الفاسد ممنوع منه بأصل الشرع فلا حاجة إلى المنع من فعله باليمين، واليمين إنما يقصد بها المنع. فوجب أن يحمل على ما لا منع فيه؛ لتكون هي المانعة. وأما كون من حلف لا يبيع فباع بيعاً فاسداً، أو لا ينكح فنكح نكاحاً فاسداً: لا يحنث؛ فلما تقدم من أن اليمين على ذلك تتناول الصحيح منه. وأما كون من أضاف اليمين إلى شيء لا يتصور فيه الصحة كما ذكر المصنف رحمه الله يحنث بصورة البيع على قول غير القاضي؛ فلأن يمينه نصٌّ في المنع من

ذلك بدليل أنه لا يمكن صرفها إلى غيره. فوجب أن يحنث به. ضرورة مخالفة ما حلف عليه. وأما كونه لا يحنث على قوله؛ فبالقياس على الضرب الأول. والأول أولى؛ لأن الضرب الأول أمكن صرف يمينه إلى أحد محمليه. بخلاف الضرب الثاني فإنه لا محمل له سوى الفاسد. فصرفه إليه يتعين؛ لعدم التردد فيه. قال: (وإن حلف لا يصوم لم يحنث حتى يصوم يوماً. وإن حلف لا يُصلي لم يحنث حتى يُصلي ركعة. وقال القاضي: إن حلف لا صليتُ صلاة لم يحنث حتى يفرغ مما يقع عليه اسم الصلاة. وإن حلف لا يُصلي حنث بالتكبير). أما كون من حلف لا يصوم لا يحنث حتى يصوم يوماً؛ فإن إمساك بعض يوم ليس بصوم شرعي. ضرورة أنه لا يصح صوم بعض يوم. وأما كون من حلف لا يصلي لا يحنث حتى يُصلي ركعة على قول غير القاضي؛ فلأن أقل ما ينطلق عليه اسم الصلاة ركعة. وأما كونه يحنث بالتكبير على قول القاضي؛ فلأنه يدخل في الصلاة بذلك ويُطلق عليه أنه مصلٍ. فيجب أن يكون ما هو فيه صلاة. والأول أصح؛ لأن ما ذكر ثانياً موجود فيمن شرع. وأما كون من حلف لا صليتُ صلاةً لا يحنث حتى يفرغ مما يقع عليه اسم الصلاة؛ فلأنه لم يصل صلاة. فلم يكن فاعلاً لما حلف على تركه. قال: (وإن حلف لا يهبُ زيداً شيئاً ولا يُوصي له ولا يتصدق عليه ففعل ولم يقبل زيد حنث. وإن حلف لا يتصدقُ عليه فوهبه لم يحنث. وإن حلف لا يهبهُ فتصدق عليه حنث. وإن أعارَه لم يحنث إلا عند أبي الخطاب فيهما. وإن وقفَ عليه حنث. وإن وصّى له لم يحنث. وإن باعه وحاباه حنث. ويحتمل أن لا يحنث). أما كون من حلف لا يهبُ زيداً شيئاً ولا يُوصي له ولا يتصدق عليه ففعل ولم يقبل زيد حنث؛ فلأنه حلف على فعل نفسه، وقد فعل ما حلف على

تركه. بدليل أنه يقال: وهبه ولم يقبل هبته، ووصى له ولم يقبل وصيته، وتصدَّق عليه ولم يقبل صدقته. وأما كون من حلف لا يتصدق عليه فوهبه لا يحنث؛ فلأنه لا يلزم من المنع من الصدقة المنع من الهبة. بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ممنوع من الصدقة غير ممنوع من الهبة له. وأما كون من حلف لا يهبه فتصدَّق عليه يحنث عند غير أبي الخطاب؛ فلأنه يلزمه من المنع من الهبة المنع من الصدقة. ولأن المتصدق بشيء يقال: وهب ذلك الشيء. وأما كونه لا يحنث عند أبي الخطاب فكما لو حلف لا يتصدق عليه فوهبه. فإن قيل: في أي موضع قال أبو الخطاب ذلك؟ قيل: هنا في قوله بعد: إلا عند أبي الخطاب فيهما أي في العارية والهبة. وأما كون من حلف لا يهبه فأعاره لا يحنث؛ فلأن الهبة تمليك والعارية إباحة. وأما كونه يحنث عنده؛ فلأن العارية هبة المنفعة، وهي قائمة مقام هبة العين. بدليل صحة مقابلة المنفعة بالعوض؛ كالعين. وأما كون من حلف لا يهبه فوقف عليه يحنث؛ فلأن الوقف على المعين في العُرف هبة. وقال المصنف رحمه الله في المغني: ويحتمل أن يخرّج ذلك على ملك الوقف: فإن قيل: يملكه حنث لمساواته الهبة، وإلا فلا؛ لعدم مساواته لها. ولقائل أن يقول: لا يحنث وإن قيل يملكه؛ لأن الإنسان ممنوع من هبة أولاده الذكور والإناث بالسّوية وليس بممنوع من الوقف عليهم بالسوية على المنصوص. فلم يلزم من المنع من الهبة المنع من الوقف. وأما كون من حلف لا يهبه فوصّى له لا يحنث؛ فلأن الموصُى له لا يملك إلا بالقبول بعد الموت، وبالموت تنحل اليمين.

وأما كون من حلف لا يهبه فباعه وحاباه يحنث على الأول وهو قول أبي الخطاب؛ فلأن المحاباة حكمها حكم الهبة. بدليل اعتبارها من الثلث إذا وقعت في مرض الموت. وأما كونه يحتمل أن لا يحنث؛ فلأنها وقعت في ضمن العقد بعوض ومثل ذلك لا يعد هبة عُرفاً.

فصل [الأسماء الحقيقية] قال المصنف رحمه الله: (القسم الثاني: الأسماء الحقيقية. إذا حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم أو المخ أو الكبد أو الطحال أو القلب أو الكرش أو المصران أو الإلية أو الدماغ أو القانصة: لم يحنث. وإن أكل المرق لم يحنث، وقد قال أحمد: لا يعجبني. قال أبو الخطاب: هذا على سبيل الورع. وإن حلف لا يأكل الشحم فأكل شحم الظهر حنث). أما كون القسم الثاني الأسماء الحقيقية؛ فلأنها تلي الأسماء الشرعية وهي القسم الأول. وأما كون من حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم ... إلى القانصة؛ فلأن ذلك جميعه لا يُسمى لحماً. فلم يحنث بأكله؛ كما لو أكل الخبز. وأما كونه إذا أكل المرق لا يحنث وهو قول أبي الخطاب؛ فلأن المرق لا يُسمى لحماً. وأما كونه يحنث على قول الإمام أحمد: لا يعجبني وهو قول القاضي؛ فلأنه لا يخلو من قِطَع اللحم. والأول أصح؛ لما تقدم. وعدم خلوِّ المرق من اللحم ممنوع؛ لأن الكلام مفروض حيث لا لحم. وقول أحمد محمول على الورع. وأما كون من حلف لا يأكل الشحم فأكل شحم الظهر يحنث؛ فلأن ذلك يُسمى شحماً ويشارك شحم البطن في اللون والذّوب. وزاد المصنف رحمه الله في المغني الحنث بأكل شحم الجنْبِ والإلية. ثم قال: وعلى قول القاضي لا يحنث بأكل الإلية ولا شحم الظهر والجنْب؛ لأن ذلك لا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق الشحم.

قال: (وإن حلف لا يأكل لبناً فأكل زبداً أو سمناً أو كشكاً أو مصلاً أو جبناً: لم يحنث. وإن حلف على الزبد أو السمن فأكل لبناً لم يحنث). أما كون من حلف لا يأكل لبناً فأكل زبداً ... إلى جبناً لا يحنث؛ لأن ذلك كله لا يسمى لبناً. فوجب أن لا يحنث؛ لعدم المخالفة. وأما كون من حلف على الزبد والسمن فأكل لبناً لا يحنث؛ فلأن ذلك لا يسمى زبداً ولا سمناً. وقال المصنف رحمه الله في المغني: إن لم يظهر فيه الزبد لم يحنث، وإن ظهر حنث؛ لأن ظهور الشيء كوجوده. قال: (وإن حلف على الفاكهة فأكل من ثمر الشجر؛ كالجوز واللوز والتمر والرمان حنث. وإن أكل البطيخ حنث. ويحتمل أن لا يحنث. ولا يحنث بأكل القثاء والخيار). أما كون من حلف على الفاكهة فأكل من ثمر الشجر كما مثل المصنف رحمه الله يحنث؛ فلأن ذلك يسمى فاكهة عُرفاً وشرعاً. فإن قيل: ينبغي أن لا يحنث بأكل النخل والرمان؛ فلأن الله تعالى قال: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} [الرحمن: 68] والمعطوف يغاير المعطوف عليه. قيل: عطفهما؛ لزيادة فضلهما لا لخروجهما من المعطوف عليه. ونظيره قوله تعالى: {من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} [البقرة: 98] وهما من الملائكة. وأما كونه إذا أكل البطيخ يحنث وإن كان ليس له ساق؛ فلأنه ينضج ويحلو. فوجب كونه كثمر الشجر. وأما كونه يحتمل أن لا يحنث؛ فلأنه ثمرة بقلة. أشبه القثاء والخيار. وأما كونه لا يحنث بأكل القثاء والخيار؛ فلأنه لا يسمى فاكهة ولا هو في معنى الفاكهة. فوجب أن لا يحنث بأكله؛ لعدم المخالفة لفظاً ومعنى.

قال: (وإن حلف لا يأكل رطباً فأكل مذنباً حنث. وإن أكل تمراً أو بسراً، أو حلف لا يأكل تمراً فأكل رُطباً أو دِبْساً أو ناطِفاً لم يحنث). أما كون من حلف لا يأكل رطباً فأكل مذنباً يحنث؛ فلأن المذنب ما أُرطب بعضه فيكون آكله آكلاً رطباً وتمراً. فوجب أن يحنث؛ كما لو أكل نصف رطبة ونصف تمرة منفردتين. وأما كونه إذا أكل تمراً أو بسراً لا يحنث؛ فلأن ذلك لا يسمى رطباً. وأما كون من حلف لا يأكل تمراً فأكل رطباً أو دبساً أو ناطفاً لا يحنث؛ فلأن ذلك كله لا يسمى تمراً. قال: (وإن حلف لا يأكل أُدماً حنث بأكل البيض والشواء والجبن والملح والزيتون واللبن وسائر ما يُصطبَغُ به. وفي التمر وجهان). أما كون من حلف لا يأكل أدماً يحنث بأكل البيض ... إلى قوله: وسائر ما يصطبغ به؛ فلأن العادة جارية بالتأدُّم بذلك كله. وأما كونه يحنث بأكل التمر في وجه؛ فلأنه أُدم لما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم وضعَ تمرة على كسرة وقال: هذهِ أُدم» (¬1). رواه أبو داود. وأما كونه لا يحنث به في وجه؛ فلأنه لا يُؤدَمُ به عادة إنما يؤكل قُوتاً أو حلاوة. قال: (وإن حلف لا يلبس شيئاً فلبس ثوباً أو درعاً أو جوشناً أو خفاً أو نعلاً: حنث). أما كون من حلف لا يلبس شيئاً فلبس ثوباً أو درعاً أو جوشناً يحنث؛ فلأنه ليس شيئاً حقيقة وعُرفاً. وأما كونه يحنث إذا لبس خفاً؛ فلأن الخف مما يلبَسُ عادة، وفي الحديث: «أن النجاشي أهدَى إلى النبي صلى الله عليه وسلم خُفين فلبسهُما» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3259) 3: 225 كتاب الأيمان والنذور، باب الرجل يحلف أن لا يتأدم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (155) 1: 39 كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين. وأخرجه الترمذي في جامعه (2820) 5: 124 كتاب الأدب، باب ما جاء في الخف الأسود. وأخرجه ابن ماجة في سننه (549) 1: 182 كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في المسح على الخفين.

وأما كونه يحنث إذا لبس نعلاً؛ فلأنه مما يلبس عادة. وقيل لابن عمر: «إنكَ تلبسُ هذه النعال. قال: إني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها» (¬1). قال: (وإن حلف لا يلبس حُلياً فلبس حلية ذهب أو فضة أو جوهر حنث. وإن لبس عقيقاً أو سَبَجاً لم يحنث. وإن لبس الدراهم والدنانير في مرسلة فعلى وجهين). أما كون من حلف لا يلبس حُلياً فلبس حلية ذهب أو فضة أو جوهر يحنث؛ فلأن ذلك كله حلي. قال الله تعالى: {يُحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا} [فاطر: 33]، وقال: {وتستخرجوا منه حلية} [النحل: 14]، وفي الحديث أن ابن عمر قال: «قال الله تعالى للبحر الشرقي: إني عاجل فيك الحلية والصيد والطيب». وأما كونه لا يحنث إذا لبس عقيقاً أو سبجاً؛ فلأن ذلك ليس بحلي عُرفاً فكذا يجب أن يكون شرعاً. وأما كونه لا يحنث إذا لبس الدراهم والدنانير في مرسلة على وجه؛ فلأن العادة أنه لا يحلى بذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (164) 1: 73 كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين. وأخرجه مسلم في صحيحه (1187) 2: 844 كتاب الحج، باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة.

قال: (وإن حلف لا يركب دابة فلان، ولا يلبس ثوبه، ولا يدخل داره، فركب دابة عبده ولبس ثوبه ودخل داره، أو فعل ذلك فيما استأجره فلان: حنث. وإن ركب دابة استعارها لم يحنث. وإن حلف لا يركب دابة عبده فركب دابة جعلت برسمه حنث). أما كون من حلف لا يركب دابة فلان، ولا يلبس ثوبه، ولا يدخل داره يحنث إذا ركب دابة عبده ولبس ثوبه ودخل داره؛ فلأن ذلك كله ملك لسيده فالفاعل لذلك بمنزلة من فعل ذلك في ملك فلان نفسه. وأما كونه يحنث إذا فعل ذلك فيما استأجره؛ فلأن الدار تضاف إلى ساكنها إذا أضافها إلى مالكها. قال الله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1]. والمراد بيوت أزواجهن. ولأن الإضافة هنا للاختصاص، ولذلك يُضاف الرجل إلى أخيه بالأخوَّة، وإلى ابنه بالبنوَّة، وإلى أبيه بالأبوَّة، وإلى زوجته بالزوجيَّة. وأما كونه لا يحنث إذا ركب دابة استعارها؛ فلأن فلاناً لا يملك منافع الدابة المستعارة. قال المصنف رحمه الله في المغني: إذا قال: لا دخلت مسكن زيد تعلقت يمينه بالدار التي سكنها سواء كانت مملوكة أو مستأجرة. وأما كون من حلف لا يركب دابة عبده فركب دابة جُعلت برسمه يحنث؛ فلأنه مختص بها حينئذ. أشبه الدار المستأجرة.

قال: (وإن حلف لا يدخل داراً فدخل سطحها حنث. وإن دخل طاقَ الباب احتمل وجهين). أما كون من حلف لا يدخل داراً فدخل سطحها يحنث؛ فلأنه من الدار وحكمُه حكمُها. بدليل صحة (¬1) الاعتكاف فيه ومنع الجنب من اللبث فيه. فوجب أن يحنث إذا دخله؛ كما لو دخل الدار نفسها. وأما كونه إذا دخل طاقَ الباب لا يحنث في وجه؛ فلأنه إذا أغلق الباب حصل خارجاً منها ولا يُسمى داخلاً فيها، وهذا أصح؛ لما ذكر. قاله المصنف في المغني. قال: (وإن حلف لا يكلم إنساناً حنث بكلام كل إنسان. وإن زجره فقال: تنح أو اسكت حنث. وإن حلف لا يبتدئه بكلام فتكلما معاً حنث). أما كون من حلف لا يكلم إنساناً يحنث بكلام كل إنسان؛ فلأن النكرة في سياق النفي تعم، وإذا كان اللفظ عاماً دخل تحته كل إنسان، وذلك يوجب الحنث؛ لأنه خالف ما عليه. وأما كونه يحنث إذا زجره فقال: تنح أو اسكت؛ فلأن ذلك كلام فيدخل تحت ما حلف على عدمه. وأما كونه يحنث إذا حلف لا يبتدئه بكلام فتكلما معاً؛ فلأنه قصد البداءة بكلامهِ، وكلامُ صاحبه وقعَ معه اتفاقاً، وإذا كان كذلك وجب الحنث. ¬

_ (¬1) في د زيادة: الأيمان.

قال: (وإن حلف لا يكلمه حيناً فذلك ستة أشهر نص عليه. وإن قال: زمناً أو دهراً أو بعيداً أو ملياً رجع إلى أقل ما يتناوله اللفظ. وإن قال: عمُراً احتمل ذلك، واحتمل أن يكون أربعين عاماً، وقال القاضي: هذه الألفاظ كلها مثل: الحين إلا بعيداً أو ملياً فإنه على أكثر من شهر. وإن قال: الأبد والدهر فذلك على الزمان كله). أما كون حين ستة أشهر؛ فلأن الحين المطلق من كلام الحالف يحمل على الحين المطلق من كلام الله، والحين المطلق من كلام الله يراد به ذلك. فيجب أن يحمل كلام الحالف عليه. فإن قيل: حين يطلق ويراد به السنة؛ كقوله تعالى: {تؤتي أكلها كل حين} [إبراهيم: 25]، ويطلق ويراد به يوم القيامة؛ كقوله تعالى: {ولتعلمن نبأه بعد حين} [ص: 88]، ويطلق ويراد به ساعة {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} [الروم: 17]. ويقال في العرف: أتيتك مذ حين وإن كنت قد أتيته من ساعة، ويطلق ويراد به مدة طويلة؛ كقوله تعالى: {فذرهم في غمرتهم حتى حين} [المؤمنون: 54]. قيل: لا نزاع في صحة الإطلاق وإرادة جميع ما ذكر لكن الكلام في الإطلاق الخالي عن الإرادة، وغالب ما يُستعمل في ستة أشهر. فوجب حمل الكلام عليه؛ لغلبته. وأما قوله تعالى: {تؤتي أكلها كلَّ حين} [إبراهيم: 25] فقال عكرمة وسعيد ابن جبير وأبو عبيدة: هو ستة أشهر. وأما كون زمناً ودهراً يرجع فيهما إلى أقل ما يتناوله اللفظ على قول غير القاضي؛ فلأن ما زاد عليه مشكوك في إرادته والأصل عدمه. وأما كونهما مثل الحين على قول القاضي؛ فلمشاركتهما له في المعنى. وأما كون بعيداً أو ملياً يرجع فيهما إلى أقل ما يتناوله اللفظ على قول غير القاضي؛ فلما ذكر في " حين ". وأما كونهما أكثر من شهر على قوله (¬1). ¬

_ (¬1) كذا في د.

وأما كون عُمُر يحتمل فيه ذلك أي أنه يرجع فيه إلى أقل ما يتناوله اللفظ على قول غير القاضي؛ فلما ذكر في " حين ". وأما كونه يحتمل أن يكون أربعين عاماً؛ فلأن الله تعالى قال: {لبثت فيكم عُمُراً} [يونس: 16]. وفسر بأربعين عاماً. وأما كونه مثل الحين على قوله؛ فلما ذكر فيه. وأما كون الأبد والدهر على الزمان كله؛ فلأن الألف واللام للاستغراق وذلك يوجب دخول الزمان كله. قال: (والحُقب ثمانون سنة، والشهور اثنا عشر عند القاضي، وعند أبي الخطاب: ثلاثة؛ كالأشهر والأيام ثلاثة. وإن حلف لا يدخل باب هذه الدار فحول ودخله حنث). أما كون الحُقب بضم الحاء ثمانين سنة؛ فلأن ذلك يروى عن ابن عباس. وقال الجوهري في كتابه المسمى بالصحاح: الحُقْب بالضم ثمانون سنة. وأما كون الشهور اثنا عشر شهراً عند القاضي؛ فلأن الله تعالى قال: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا} [التوبة: 36]. وأما كونها ثلاثة كالأشهر عند أبي الخطاب؛ فلأن فعولاً تستعمل ويراد به أفعل، ومنه قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] وإذا استعمل في كل واحد منهما كان الأقل متيقناً والأكثر مشكوكاً فيه، ومتى دار الأمر بين متيقن ومشكوك فيه كان حمل اللفظ على المتيقن متعيناً. ولأن الأصل براءة ذمته. تُرك العمل به في الأقل؛ لتيقنه. فيبقى فيما عداه على مقتضى البراءة. وأما كون الأيام ثلاثة؛ فلأنها أقل الجمع. وأما كون من حلف لا يدخل باب هذه الدار فحول ودخله حنث؛ فلأنه فعل ما حلف على تركه.

قال: (وإن حلف لا يكلمه إلى حين الحصاد انتهت يمينه بأوله. ويحتمل أن يتناول جميع مدته). [أما كون من حلف لا يكلمه إلى حين الحصاد انتهت يمينه بأوله] (¬1) على المذهب؛ فلأن ما بعد إلى لا يدخل فيما قبلها إلا بقرينة، وهي منتفية هنا. وأما كونه يحتمل أن يتناول جميع مدته؛ فلأن الظاهر أنه قصد هجرانه، واللفظ صالح لتناول الجميع بدليل صحة تفسير كلامه به. قال: (وإن حلف لا مال له، وله مال غير زكوي، أو دين على الناس: حنث). أما كون من ذكر يحنث إذا كان له دين؛ فلأن الدين مال ينعقد عليه الحول ويصح تصرفه فيه بالإبراء والحوالة. أشبه المودع. قال: (وإذا حلف لا يفعل شيئاً فوكّل من فعله حنث إلا أن ينوي). أما كون من حلف لا يفعل شيئاً فوكّل في فعله يحنث إذا لم ينو؛ فلأن قصده ظاهراً أن لا يفعل، وذلك لا يحصل مع فعل وكيله له. وأما كونه لا يحنث إذا حلف لا يفعل بنفسه؛ فلأن الموجب للحنث المخالفة ولم يوجد. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

فصل [الأسماء العرفية] قال المصنف رحمه الله: (فأما الأسماء العُرفية فهي أسماء اشتهر مجازها حتى غلب على الحقيقة؛ كالرّاوية والظَّعينة والدابة والغائط والعَذِرة ونحوها، فتتعلق اليمين بالعرف دون الحقيقة). أما كون الأسماء العرفية هي أسماء اشتهر مجازها حتى غلب على الحقيقة؛ فلأنها إذا لم تشتهر تكون مجازاً له. فإن قيل: لم سميت عُرفية؟ قيل: لاستعمال أهل العُرف لها في غير المعنى اللغوي. وذلك أن الألفاظ قد تكون حقيقة لغوية في معنى ثم تصير مدلولاً بها على معنى آخر عُرفي. ولا شُبهة في وقوع ذلك؛ لما ذكر المصنف رحمه الله من الرّاوية والظعينة والدابة والغائط والعَذِرة ونحو ذلك. فإن قيل: فما معاني الألفاظ المذكورة لغة وعُرفاً؟ قيل: الرّاوية في اللغة: اسم للجمل الذي يظعن عليه، وفي العرف: اسم للمرأة. والدابة في اللغة: اسم لما دبّ ودرج، وفي العرف: اسم لذوات الأربع من الخيل والبغال والحمير. والغائط في اللغة: اسم للمكان المطمئن، وفي العرف: اسم للفضلة المستقذرة. وأما كون يمين الحالف بذلك تتعلق بالعُرف دون الحقيقة؛ فلأن العُرف هو السابق إلى الفهم. فوجب تعلق اليمين به دون غيره.

قال: (وإن حلف على وطء امرأة: تعلقت يمينه بجماعها. وإن حلف على وطء دار: تعلقت يمينه بدخولها راكباً أو ماشياً أو حافياً أو منتعلاً). أما كون من حلف على وطء امرأة تعلقت يمينه بجماعها؛ فلأنه المتبادر إلى الفهم، ولذلك لما قال الله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] تعلق التحريم بالجماع. وأما كون من حلف على وطء دار تعلقت يمينه بدخولها؛ فلأنها غير قابلة للجماع. فوجب تعلق يمينه بدخولها. وأما كونه تتعلق يمينه بدخولها راكباً أو ماشياً أو حافياً أو منتعلاً؛ فلأن اليمين محمولة على الدخول، والفاعل لحالةٍ مما ذكر يسمى داخلاً. فإن قيل: لم لا تتعلق بوطء القدم فيما (¬1) إذا دخلها راكباً؟ قيل (¬2): لأن إرادة الدخول أظهر من إرادة ما ذكر، واللفظ يحمل على الظاهر لا على غيره. قال: (وإن حلف لا يشم الريحان فشم الورد والبنفسج والياسمين، أو لا يشم الورد والبنفسج فشم دهنهما أو ماء الورد فالقياس أنه لا يحنث، وقال بعض أصحابنا: يحنث). أما كون من حلف لا يشم الريحان فشم الورد والبنفسج والياسمين لا يحنث على القياس؛ فلأن الريحان في العُرف هو اسم للفارسي. فلم تنصرف اليمين إلى ما ذكر. وأما كونه يحنث على قول بعض أصحابنا وهو أبو الخطاب؛ فلأن الريحان في اللغة: اسم لكل نبت أو زهر طيب الريح وهو موجود في الورد والبنفسج والياسمين. وأما كون من حلف لا يشم الورد والبنفسج فشم دُهنهما أو ماء الورد ولم يحلف على ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) في د زيادة: لا يحلف. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) كذا في د.

وأما كونه يحنث على الثاني وهو قول أبي الخطاب؛ فلأن معنى كلامه: لا أشم رائحة ذلك؛ لأن الشم إنما يكون للرائحة، ورائحة الورد والبنفسج في دهنهما، وقد شم ذلك. قال: (وإن حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكاً حنث عند الخرقي، ولم يحنث عند ابن أبي موسى). أما كون من حلف بما ذكر يحنث بما ذكر عند الخرقي؛ فلأن الله تعالى قال: {وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً} [النحل: 14]، وقال عز وجل: {ومِن كُلٍّ تأكلونَ لحمًا طريًا} [فاطر: 12]. ولأن السمك لحم حيوان. وأما كونه لا يحنث عند ابن أبي موسى؛ فلأن السمك لا ينصرف إليه إطلاق اسم اللحم بدليل: ما لو وكل رجلاً في شراء لحم فاشترى له سمكاً لم يلزمه. ولأنه يصح أن يُنفى عنه فيقال: ما أكل لحماً وإنما أكل سمكاً. وتسمية ذلك باللحم لا يوجب الحنث. بدليل: أن الله عز وجل سمى السماء سقفاً محفوظاً (¬1). ولو حلف حالف: لا قعدت تحت سقف ففعل تحت السماء لم يحنث. والأول ظاهر المذهب. قاله المصنف رحمه الله في المغني. والفرق بين مسألة اللحم وبين مسألة السقف: أن الظاهر أن من حلف لا يقعد تحت سقف قصد بيمينه تحت سقف يمكنه التحرز منه، والسماء ليست كذلك فلا تدخل في يمينه. بخلاف الحالف بأنه لا يأكل لحماً؛ لعدم المعنى المذكور في يمينه. قال: (وإن حلف لا يأكل رأساً ولا بيضاً حنث بأكل رؤوس الطيور والسمك وبيض السمك والجراد عند القاضي، وعند أبي الخطاب لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة بأكله منفرداً، أو بيض يزايل بائضه حال الحياة). أما كون من حلف بما ذكر يحنث بما ذكر عند القاضي؛ فلأن رؤوس الطيور والسمك وبيض السمك والجراد رؤوس وبيض حقيقة وعُرفاً. فوجب أن يحنث؛ ¬

_ (¬1) في قوله تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} [الأنبياء: 32].

كما لو حلف لا يأكل لحماً فأكل من لحم الأنعام والزرافة. والجامع بينهما أن غاية ما يقدر أن أكل رؤوس الطيور والسمك وبيض السمك والجراد نادر بالنسبة إلى رؤوس النعم وإلى بيض الدجاج، وأكل لحم الأنعام نادر بالنسبة إلى أكل لحوم النعم، والحنث في مسألة اللحم محقق فكذا في مسألة الرؤوس والبيض. وأما كونه لا يحنث عند أبي الخطاب إلا بأكل رأسٍ جرت العادةُ بأكله منفرداً؛ كالغنم والبقر، أو بيض يزايل بائضه حال الحياة؛ كبيض الدجاج؛ فلأن المتبادر إلى الذهن ما جرت العادة بأكله منفرداً. ولأن الظاهر إرادة ذلك. فوجب أن لا يتعداه اليمين. فلم يحنث بأكل غيره؛ لعدم دخوله في يمينه. وحنث بأكله؛ لدخوله في يمينه. قال: (وإن حلف لا يدخل بيتاً فدخل مسجداً أو حماماً أو بيت شعر أو أدم. أو لا يركب فركب سفينة حنث عند أصحابنا. ويحتمل أن لا يحنث). أما كون من حلف لا يدخل بيتاً يحنث إذا دخل مسجداً عند أصحابنا؛ فلأن الله تعالى سماه بيتاً فقال: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} [آل عمران: 96]، وقال: {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} [النور: 36]. وأما كونه يحنث إذا دخل حماماً؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه بيتاً قال: «بئسَ البيتُ الحمام» (¬1). وأما كونه يحنث إذا دخل بيت شعر أو أدم؛ فلأن البدوي يسميه بيتاً. ولأن البدوي لو حلف لا يدخل بيتاً فدخل بيت الحضري حنث فكذلك إذا حلف الحضري لا يدخل بيتاً فدخل بيت البدوي. وأما كونه يحتمل أن لا يحنث في ذلك كله؛ فلأن الظاهر أن الحالف لم يُرد ذلك بيمينه فلم يحنث بالدخول فيه. وظاهر كلام المصنف رحمه الله في المغني أن الاحتمال إنما هو في المسجد والحمام؛ لأن أهل العُرف لا تسمي ذلك بيتاً.

_ (¬1) ذكره الزبيدي في الإتحاف 2: 635 عن عائشة، وعزاه إلى البيهقي في السنن.

قال: (وإن حلف لا يتكلم فقرأ أو سبّح أو ذكر الله عز وجل لم يحنث. وإن دقَّ عليه إنسان فقال: ادخلوها بسلام آمنين يقصد تنبيهه لم يحنث). أما كون من حلف لا يتكلم فقرأ أو سبح أو ذكر اسم الله لا يحنث؛ فلأن الكلام في العُرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين، ولهذا قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنا نتكلمُ في الصلاةِ حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238]. فأُمرنا بالسكوتِ ونُهينا عن الكلام» (¬1). وقال الله: {أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا واذكر ربك كثيرًا وسبّح بالعشي والإبكار} [آل عمران: 41]. نهاه عن الكلام وأمره بالتسبيح، ولو كان التسبيح كلاماً لدخل في المنهي عنه. وأما كونه لا يحنث إذا دقَّ عليه إنسان فقال: ادخلوها بسلام آمنين يقصد تنبيهه؛ فلأن ذلك كلام الله عز وجل ويمينه إنما تنصرف إلى كلام الآدميين. فلم يحنث؛ لعدم شمول يمينه لذلك. فإن قيل: لو قال ذلك في الصلاة لبطلت صلاته، ولو لم يكن من كلام الآدميين لما كان كذلك؟ قيل: في ذلك منعٌ. وعلى تقدير التسليم الفرق بينهما (¬2) أن الصلاة لا تصح بغير قرآن وقد وقع التردد في كون ذلك قرآناً. فلا تصح مع الشك في شرطها. بخلاف الحنث فإن شرط الحنث فيه: كون المتكلم به كلام الآدميين وقد وقع التردد فيه فلا يحنث بالشك في شرطه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4260) 4: 1648 كتاب تفسير القرآن، باب {وقوموا لله قانتين}. وأخرجه مسلم في صحيحه (539) 1: 383 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة. (¬2) في د زيادة: وذلك.

قال: (وإن حلف لا يضرب امرأته فخنقها أو نتف شعرها أو عضّها حنث. وإن حلف ليضربنّهُ مائة سوطٍ فجمعها فضربهُ بها ضربة واحدة لم يبرّ في يمينه). أما كون من حلف لا يضرب امرأته فخنقها أو نتفَ شعرها أو عضّها يحنث؛ فلأن ذلك اللفظ يطلق ويراد به عدم إيلام المرأة، وفي جميع ما ذكر يحصل إيلام المرأة. وأما كون من حلف ليضربنّ شخصاً مائة سوطٍ فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لا يبرّ في يمينه؛ فلأنه لا يفهم في العُرف من ضرب مائة سوط إلا مائة ضربة متفرقة. فيجب أن يحمل اليمين عليه. ولأن السوط آلة أقيمت مقام المصدر وانتصبت انتصابه فمعنى كلامه: لأضربنّه مائة ضربة بسوط فلا يبرّ بضربه بمائة سوط مجموعة؛ لأن ذلك ليس بمائة ضربة بسوط.

فصل [إذا حلف لا يأكل شيئا فأكله مستهلكاً] قال المصنف رحمه الله: (وإن حلف لا يأكل شيئاً فأكله مُستهلكاً في غيره؛ مثل: أن لا يأكل لبناً فأكل زبداً، أو لا يأكل سمناً فأكل خَبيصاً فيه سمن لا يظهرُ فيه طعمُه، أو لا يأكل بيضاً فأكل ناطفاً، أو لا يأكل شحماً فأكل اللحم الأحمر، أو لا يأكل شعيراً فأكل حنطة فيها حبات شعير: لم يحنث. وإن ظهرَ طعمُ السمنِ أو طعمُ شيء من المحلوف عليه حنث. وقال الخرقي: يحنث بأكل اللحم الأحمر وحده، وقال غيره: يحنث بأكل حنطة فيها حبات شعير). أما كون من حلف بما ذكر لا يحنث إذا أكل المحلوف عليه مُستهلكاً في غيره؛ فلأن المستهلك لا يقع عليه اسم الذي حلف عليه. فلم يحنث بأكل المستهلك فيه؛ كما لو حلف لا يأكل رُطباً فأكل تمراً. ولأن المستهلَك في الشيء يصير وجوده كعدمه. والظاهر من الحالف على شيء من ذلك أنه إنما حلف لمعنى في المحلوف عليه، وإذا كان كذلك تعين عدم الحنث؛ لانتفاء المعنى المحلوف من أجله. فعلى هذا لا يحنث بأكل الزُبد إذا حلف لا يأكل لبناً؛ لأن اللبن الذي في الزبد مستهلك فيه، ولا يحنث بأكل الخبيص الذي فيه سمن لا يظهر طعمه فيه إذا حلف لا يأكل سمناً؛ لأن السمن إذا لم يظهر طعمه مستهلك في الخبيص، ولا يحنث بأكل الناطف إذا حلف لا يأكل بيضاً؛ لأن بياض البيض يصير مستهلكاً في الناطف. وأما كون من حلف لا يأكل شحماً فأكل اللحم الأحمر لا يحنث على المذهب؛ فلأن اللحم الأحمر إن كان فيه شحم فهو مستهلك فيه.

وأما كونه يحنث على قول الخرقي؛ فلأنه لا يخلو من شحم. ودعوى الاستهلاك ممنوعة. وأما كون من حلف لا يأكل شعيراً فأكل حنطة فيها حبات شعير لا يحنث على المذهب؛ فلأن الشعير مستهلك في الحنطة. وأما كونه يحنث على قول بعض الأصحاب؛ فلأن الشعير يمكن تمييزه فتركه فيه وأكله له أكل لما منع نفسه من أكله مع القدرة عليه. وأما كون ما تقدم ذكره يحنث إذا ظهر طعمُ السمنِ أو طعمُ شيء من المحلوف عليه؛ فلأن عدم الحنث إنما انتفى من أجل انتفاء المعنى الذي قصده الحالف، وذلك منتفٍ فيما إذا ظهر الطعم. فوجب الحنث؛ لوجود المقتضي للحنث وانتفاء المعني عدمه.

فصل [إذا حلف لا يأكل شيئاً فشربه] قال المصنف رحمه الله: (وإن حلف لا يأكلُ سَويقاً فشربه، أو لا يشربه فأكله فقال الخرقي: يحنث. وقال أحمد فيمن حلف لا يشرب نبيذاً فثَرد فيه وأكله: لا يحنث. فيُخَرّج في كل ما حلف لا يأكله فشربه، أو لا يشربه فأكله وجهان. وقال القاضي: إن عيّن المحلوف عليه حنث. وإن لم يعيّنه لم يحنث). أما كون من حلف لا يأكل سَويقاً فشربه أو بالعكس يحنث على قول الخرقي؛ فلأن الحلف على ترك شيء يقصد به في العُرف اجتناب ذلك بالكلية فحملت اليمين عليه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم} [النساء: 2] فإنه يتناول تحريم شربها. ولو قال طبيب لمريض: لا تأكل العسل لكان ناهياً له عن شربه وبالعكس. وأما كونه لا يحنث على ما قاله الإمام في مسألة النبيذ؛ فلأن الأفعال كالأعيان، ولو حلف على عين لم يحنث بالأخرى فكذلك إذا حلف على فعل لم يحنث بالآخر. وأما كونه إذا عين المحلوف عليه؛ مثل: إن حلف لا يأكل هذا السمن فشربه أو بالعكس يحنث على قول القاضي؛ فلأن تغير صفة المحلوف عليه لا تنفي الحنث فكذلك تغير صفة الفعل، وإذا لم يعينه لا يحنث؛ لأنه لا تحصل المخالفة من جهة الاسم ولا من جهة التعيين.

قال: (وإن حلف لا يطعمه حنث بأكله وشربه. وإن ذاقه ولم يبلعه لم يحنث. وإن حلف لا يأكل مائعاً فأكله بالخبز حنث). أما كون من حلف لا يطعَمُ شيئاً يحنث بأكله وشربه؛ فلأنه طعمه. ضرورة وجود ذلك في الأكل والشرب. وأما كونه إذا ذاقه ولم يبلعه لا يحنث؛ فلأنه ما طعمه. وأما كون من حلف لا يأكل مائعاً فأكله بالخبز حنث؛ فلأن المائع هكذا يُؤكل في العادة.

فصل [إذا حلف فاستدام ذلك] قال المصنف رحمه الله (¬1): (وإن حلف لا يتزوج ولا يتطهر ولا يتطيب فاستدام ذلك لم يحنث. وإن حلف لا يركب ولا يلبس فاستدام ذلك حنث). أما كون من حلف لا يتزوج ولا يتطهر ولا يتطيب فاستدام ذلك لا يحنث؛ فلأن المستديم لا يُطلق عليه ذلك. بدليل أنه لا يقال: تزوج شهراً، ولا تطهر شهراً، ولا تطيب شهراً. وأما كون من حلف لا يركب ولا يلبس فاستدام ذلك يحنث؛ فلأن المستديم يُطلق عليه ذلك. بدليل أنه يقال: ركب شهراً ولبس شهراً. قال (¬2): (وإن حلف لا يدخل داراً هو داخلها فأقام فيها حنث عند القاضي، ولم يحنث عند أبي الخطاب. وإن حلف لا يدخل على فلان بيتاً فدخل فلانٌ عليه فأقام معه فعلى الوجهين). أما كون من حلف لا يدخل داراً هو داخلها فأقام فيها يحنث على قول القاضي؛ فلأن استدامة الإقامة في الدار حرام كابتداء الدخول. وأما كونه لا يحنث على قول أبي الخطاب؛ فلأن الدخول لا يُستعمل في الاستدامة، ولهذا يقال: دخلتها منذ شهر، ولا يقال: دخلتها شهراً فجرى مجرى التزويج. ولأن الانفصال من خارج إلى داخل لا يوجد في الإقامة. وأما كون من حلف لا يدخل على فلان بيتاً فدخل فلانٌ عليه فأقام معه على الوجهين؛ فلأن الإقامة هنا كالإقامة في المسألة التي قبلها. فوجب أن يخرّج فيها ما خرّج فيها نقلاً ودليلاً. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في د: قال المصنف رحمه الله. وما أثبتناه يناسب صنيع الشارح في الكتاب.

قال: (وإن حلف لا يسكن داراً، أو لا يُساكن فُلاناً وهو مساكنه. فلم يخرج في الحال: حنث؛ إلا أن يقيم لنقل متاعه أو يخشَى على نفسه الخروج فيقيم إلى أن يمكنه، فإن خرج دون متاعه وأهله حنث، إلا أن يودع متاعه أو يعيره وتأبى امرأته الخروج معه، ولا يمكنه إكراهها فيخرج وحده فلا يحنث). أما كون من حلف بما ذكر فلم يخرج في الحال من الدار المحلوف عليها وهو قادر على نقل متاعه غير خائفٍ على نفسه الخروج يحنث؛ فلأن استدامة السُكنى سُكنى. بدليل أنه يصح أن يقال: سكن الدار شهراً. وأما كون من يقيم لنقل متاعه لا يحنث؛ فلأن النقل لا يكون إلا بالمتاع، والإقامة من أجله إقامة لا يمكن التحرز عنها. فلا يقع اليمين عليها. وظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا: أن الإقامة مختصة بالمتاع. وقال في المغني: وإن أقام لنقل متاعه وأهله لم يحنث. والواجب حمل كلامه هنا على ما في المغني؛ لأن نقل الأهل مثل المتاع بدليل: أنه لو خرج دون أهله حنث كما يحنث إذا خرج دون متاعه. وأما كون من يخشى على نفسه من الخروج فيقيم حتى يزول الخوف لا يحنث؛ فلأنه أقام لدفع الضرر، وإزالته عند ذلك مطلوبة شرعاً. فلم تدخل تحته اليمين؛ لأنها تقتضي المنع. وأما كون من خرج في الحال دون أهله ومتاعه ويمكنه إخراج ذلك ولم يُودع متاعه ولا يُعيره يحنث؛ فلأن السُكنى تكون بالأهل والمال، ولهذا يقال: فلان ساكن في البلد الفلاني وهو غائب عن بيته، وإذا نزل بلداً بأهله وماله يقال: سكنه وإن نزله بنفسه. وأما كون من خرج وحده وأودع متاعه أو أعاره متاعه وأبتِ امرأته الخروج معه ولم يمكنه إكراهها لا يحنث؛ فلأن يده زالت عن متاعه، وامرأته هو عاجز عن إخراجها، وزوال اليد والعجز لا يتصور معهما حنث البتة.

قال: (وإن حلف لا يُسَاكن فُلاناً فبنيا بينهما حائطاً وهما متساكنان حنث. وإن كان في الدار حُجرتان كل حجرة تختص ببنائها ومرافقها فسكن كل واحد في حجرة لم يحنث). أما كون من حلف لا يُسَاكن فُلاناً يحنث إذا بنيا بينهما حائطاً وهما متساكنان؛ فلأن إقامتهما إلى بناء الحائط يقع عليها اسم المساكنة المحلوف على تركها، وذلك يوجب ضرورة تحقق المخالفة ليمينه. وأما كونه لا يحنث إذا كان في الدار حجرتان ... إلى آخره؛ فلأن كل واحد ساكن في حجرته فلا يكون مُساكناً لغيره. فلم يحنث؛ لعدم فعل المحلوف على تركه. قال: (وإن حلف ليخرجنّ من هذه البلدة فخرج وحده دون أهله برّ. وإن حلف ليخرجن من هذه الدار فخرج دون أهله لم يبرّ). أما كون من حلف ليخرجن من هذه البلدة فخرج وحده دون أهله يبرّ؛ فلأن حقيقة الخروج لم يعارضها في الخروج من البلدة معارض. فوجب حصول البر؛ لحصول الحقيقة، وذلك موجود في خروجه بنفسه دون أهله. وأما كون من حلف ليخرجن من هذه الدار لا يبرّ إذا خرج دون أهله؛ فلأن الدار يخرج منها ساكناً في اليوم مراراً. فظاهر حاله أنه لم يُرد حقيقة الخروج. فوجب حمله على مجازه وذلك هو النقلة. وقد تقدم أن النقلة تقتضي إخراج الأهل فإذا خرج دونهم لم يحصل البر ضرورة عدم الوفاء باليمين. قال: (وإن حلف ليخرجنّ من هذه البلدة، أو ليرحلنّ عن هذه الدار ففعل فهل له العود إليها؟ على روايتين). أما كون من حلف بما ذكر ففعل له العود إلى البلدة والدار على روايةٍ؛ فلأن يمينه على الرحيل، وقد وجد، وذلك يوجب انحلال اليمين وإذا انحلت يمينه صار بمنزلة من لم يحلف. وأما كونه ليس له العود إليهما على روايةٍ؛ فلأن الظاهر أنه قصد هجران ما حلف على الرحيل منه، والعود إليه ينافي مقصود يمينه.

فصل [في مسائل من الحلف] قال المصنف رحمه الله: (إذا حلفَ لا يدخلُ داراً فحُملَ فأُدخِلها ويمكنه الامتناع فلم يمتنع، أو حلفَ لا يستخدمُ رجلاً فخدمه وهو ساكت فقال القاضي: يحنث. ويحتمل أن لا يحنث). أما كون من حلف لا يدخل داراً فحُملَ فأُدخِلها ويمكنه الامتناع فلم يمتنع يحنث عند القاضي؛ فلأن عدم الامتناع مع القدرة يُذهب معنى الإكراه النافي للحنث. فإن قيل: فحُملَ فأُدخلَها مشعر بالإكراه فيكون الكلام مفروضاً في الإكراه. فإذا خرج عن أن يكون مكرهاً خرجت المسألة عن أصلها. قيل: لما كان الحملُ إكراهاً في الصورة أُطلق عليه مُكرهاً فإذا أمكنه الامتناع لم يكن مكرهاً حقيقة. وتقييد المصنف رحمه الله الحنث بأن يمكنه الامتناع إشعار بأنه إذا لم يمكنه لا يحنث. وهو صحيح نص عليه الإمام أحمد. قال المصنف في المغني: والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُفيَ لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهُوا عليه» (¬1). ولأن الفعل غير موجود عنه ولا منسوب إليه. وأما كون من يمكنه الامتناع فلم يفعل يحتمل أن لا يحنث؛ فلأنه مكره صورة. أشبه المكره معنى. وأما كون من حلف لا يستخدم رجلاً فخدمه وهو ساكت يحنث على قول القاضي؛ فلأن الظاهر أنه قصد اجتناب خدمته ولم يحصل. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 443.

وأما كونه يحتمل أن لا يحنث؛ فلأنه ما استخدمه. والسكوت لا يدل على الرضى بدليل: ما لو شقّ رجل ثوب رجل وهو ساكت فإن سكوته لا يدل على رضاه، ولهذا يملك الذي شقّ ثوبه مطالبة الذي شقه بقيمة شقه. قال: (وإن حلف ليشربنّ الماء أو ليضربنّ غلامه غداً فتلف المحلوف عليه قبل الغد حنث عند الخرقي. ويحتمل أن لا يحنث. وإن مات الحالف لم يحنث). أما كون من حلف بما ذكر يحنث إذا تلف المحلوف عليه قبل الغد عند الخرقي؛ فلأن الحالف لم يفعل المحلوف عليه في وقته وعدم إكراهه ونسيانه. أشبه ما لو حلف ليحجّن هذا العام فلم يقدر على الحج لمرض أو عدم نفقة. وأما كونه يحتمل أن لا يحنث؛ فلأنه تعذر فعل المحلوف عليه لا من جهته. أشبه المكره والناسي. والأول أصح؛ لما تقدم. والفرق بين ما ذكر وبين المكره والناسي: أن الامتناع في الإكراه والنسيان لمعنى فيه، وهاهنا الامتناع في المحل. وأما كونه لا يحنث إذا مات الحالف؛ فلأن الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه في وقته وهو الغد، والحالف قد خرج عن أن يكون من أهل التكليف قبل ذلك فلا يمكن حنثه. وبأهلية الحالف ظهر الفرق بين موت الحالف وبين موت المحلوف عليه؛ لأن في تلف المحلوف عليه أهليّة الحالف باقية فصادف الحنث محله، وفي موت الحالف أهليّته تبطل بموته. فلم يُصادف بالحنث محله. قال: (وإن حلف ليقضينّه حقه فأبرأه فهل يحنث؟ على وجهين. وإن مات المستحقّ فقضى ورثته لم يحنث، وقال القاضي: يحنث. وإن باعه بحقه عرْضاً لم يحنث عند ابن حامد، وحنث عند القاضي. وإن حلف ليقضينّه حقه عند رأس الهلال فقضاه عند غروب الشمس في أول الشهر برّ). أما كون من حلف ليقضينّ غريمه حقه فأبرأه يحنث على وجه؛ فلأن الحلف على القضاء، والإبراء ليس بقضاء. بدليل أنه يصح أن يقال: ما قضاني حقي وإنما أبرأته منه.

وأما كونه لا يحنث على وجه؛ فلأن الغرض من القضاء حصول البراءة فإذا أبرأه فقد حصل مقصود يمينه. فيجب أن لا يحنث. وأما كونه إذا مات المستحقّ فقضى ورثته لا يحنث وهو قول أبي الخطاب؛ فلأن قضاء الورثة قائم مقام قضائه في إبراء ذمته. فكذلك يجب أن يقوم مقامه في البرّ في يمينه. وأما كونه يحنث على قول القاضي فكما لو حلف ليضربنّ عبده في غد فمات العبد قبل الغد. وأما كونه إذا باعه بحقه عرْضاً لا يحنث عند ابن حامد؛ فلأن الغرض البراءة وهي حاصلة بذلك. وأما كونه يحنث عند القاضي؛ فلأن الحلف على قضاء الحق ولم يوجد. وأما كون من حلف ليقضينّ غريمه حقه عند رأس الهلال فقضاه عند غروب الشمس في أول الشهر يبرّ؛ فلأن ذلك هو الوقت المحلوف فيه. فإذا قضاه فيه وجب حصول البر. قال: (وإن حلف لا فارقتك حتى أستوفي حقي فهرب منه حنث. نصّ عليه، وقال الخرقي: لا يحنث. وإن فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه خُرِّج على الروايتين. وإن حلف: لا افترقنا فهرب منه حنث. وقدْر الفراق ما عده الناس فراقاً؛ كفُرقَة البيع). أما كون من حلف لا فارقتك حتى أستوفي حقي فهرب يحنث على المنصوص؛ فلأن معنى يمينه: لا حصل منا فرقة وقد حصل. وأما كونه لا يحنث على قول الخرقي؛ فلأنه حلف على فعل نفسه في الفُرقة وما فعلها ولا فعل باختيار. فلم يحنث؛ كما لو قال: لا قمت فأقامه غيره. وأما كونه إذا فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه يخرج على روايتين؛ فلأن ذلك في معنى الروايتين في الإكراه، وقد تقدم ذكر دليلهما. وأما كونه يحنث إذا قال: لا افترقنا على قوليهما جميعاً؛ فلأن يمينه يقتضي لا حصل بيننا فرقة بوجه من جهة اللفظ والمعنى. وبذلك يظهر الفرق بين المسألة الأولى والثانية على قول الخرقي؛ لأن لفظ الأولى لا يقتضي ذلك.

وأما كون قدر الفراق الذي يحصل به الحنث في موضع الحكم بالحنث فيه ما عده الناس فراقاً في العُرف؛ فلأن الشرع رتب على ذلك أحكاماً ولم يبين مقداره. فوجب الرجوع فيه إلى العادة؛ كالحِرْز والقبض. ولأن الفرقة في البيع تثبت الخيار وهي مقدرة بذلك. فكذلك يجب تقديرها في الحلف قياساً له عليها.

باب النذر

باب النذر الأصل في النذر الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج: 29]. وأما السنة؛ فما روت عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نذرَ أن يطيعَ الله فليطعهُ، ومن نذرَ أن يعصيهِ فلا يعصِه» (¬1). وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيركمْ قرني، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم ينذرونَ ولا يهبون، ويخونونَ ولا يُؤتمنون، ويشهدونَ ولا يُسْتشهدون، ويظهرُ فيهم السِّمَن» (¬2). رواهما البخاري. وأما الإجماع؛ فأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة. قال المصنف رحمه الله: (وهو: أن يُلزم نفسه لله تعالى شيئاً. ولا يصح إلا من مكلّف مسلماً كان أو كافراً). أما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يُلزم نفسه لله تعالى شيئاً؛ فبيان لمعنى النذر. وفي إضافة الإلزام إلى نفسه احتراز عن الواجب بأصل الشرع. وأما كون النذر لا يصح من غير مكلف؛ فلأن غير المكلف كالصبي والمجنون لا اعتبار بقوله. والنذر قول يترتب عليه حكم شرعي. فلم يصح من واحدٍ منهما؛ كسائر أقوالهما. وأما كونه يصح من المكلف؛ فلدخوله فيما تقدم مع سلامته عما ذكر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6322) 6: 2464 كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6317) 6: 2463 كتاب الأيمان والنذور، باب إثم من لا يفي بالنذر. وأخرجه مسلم في صحيحه (2535) 4: 1964 كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ...

وأما كونه يصح من المكلف مسلماً كان أو كافراً: أما المسلم فظاهر. وأما الكافر؛ فـ «لأن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني نذرتُ في الجاهليةِ أن أعتكفَ يوماً، قال: أوْفِ» (¬1) متفق عليه. قال: (ولا يصحُ إلا بالقول. فإن نواه من غير قول لم يصح). أما كون النذر لا يصح بغير القول؛ فلأنه التزام. فلم يصح بغير القول؛ كالطلاق والنكاح. وأما كونه يصح بالقول؛ فلأنه التزام يصح بالقول؛ كسائر الالتزامات. وأما كون الناذر إذا نواه من غير قول لا يصح؛ فلأن من شرطه القول ولم يوجد. قال: (ولا يصح في محال ولا واجب. فلو قال: لله عليَّ صوم أمس أو صوم رمضان لم ينعقد). أما كون النذر لا يصح في المحال؛ فلأنه لا يتصور انعقاده فيه. فلم يصح فيه؛ كاليمين التي لا يمكن انعقادها. وأما كونه لا يصح في واجب؛ فلأن النذر التزام، والتزام اللازم لا يصح. وأما كون من قال: لله عليَّ صوم أمس أو صوم رمضان لا ينعقد؛ فلما تقدم من أن النذر لا يصح في محال ولا واجب، وصوم أمس محال، وصوم رمضان واجب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6319) 6: 2464 كتاب الأيمان والنذور، باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنساناً في الجاهلية ثم أسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1656) 3: 1277 كتاب الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم.

قال: (والنذر المنعقد على خمسة أقسام: أحدها: النذر المطلق. وهو أن يقول: لله عليَّ نذر. فيجب به كفارة يمين. الثاني: نذر اللجاج والغضب. وهو: ما يقصد به المنع من شيء غيره أو الحمل عليه؛ كقوله: إن كلمتكَ فلله عليَّ الحج، أو صوم سنة، أو عتق عبدي، أو الصدقة بمالي. فهذا يمين يتخير بين فعله والتكفير). أما كون النذر المنعقد على خمسة أقسام؛ فلأنه تارة يكون مطلقاً، وتارة نذر لجاج وغضب، وتارة مباحاً، وتارة معصية، وتارة تبرراً. وأما كون أحد أقسام النذر المنعقد: النذر المطلق كما مثل المصنف رحمه الله من قوله: لله عليَّ نذر؛ فلأنه نذر فيدخل في قوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج: 29]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «النذرُ حلفَة (¬1») (¬2). وأما كونه تجب به كفارة يمين؛ [فلقوله صلى الله عليه وسلم «كفارةُ النذر إذا لم يُسمِّ كفارةُ يمين» (¬3). رواه الترمذي] (¬4) وقال: حديث حسن صحيح غريب. ولأنه قول ابن عباس وابن مسعود وجابر وعائشة ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم. وأما كون الثاني من أقسام النذر المنعقد: نذر اللجاج والغضب كما مثل المصنف رحمه الله؛ فلما ذكر قبل. وأما كونه يميناً يتخير بين فعله والتكفير؛ فلأن ذلك خرج مخرج اليمين. فوجب أن يعطى حكمها. ¬

_ (¬1) في د زيادة: وما يأتي في كفارته. (¬2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (866) 17: 313 عن عقبة بن عامر، ولفظه: «النذر يمين، وكفارته كفارة يمين». (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1528) 4: 106 كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كفارة النذر إذا لم يسم. (¬4) زيادة من الشرح الكبير 11: 334.

قال: (الثالث: نذر المباح؛ كقوله: لله عليَّ أن ألبس ثوبي، أو أركب دابتي. فهذا كاليمين يتخير بين فعله وكفارة يمين. فإن نذر مكروهاً؛ كالطلاق استحب أن يكفّر ولا يفعله). أما كون الثالث من أقسام النذر المنعقد: نذر المباح. والمراد بالمباح هنا ما استوى طرفاه وما ترجح تركه على فعله. فالأول: كلبس الثوب، وركوب الدابة. والثاني: كالطلاق؛ فلما ذكر قبل. وأما كون الأول؛ كاليمين يتخير بين فعله وكفارة يمين: أما الفعل؛ فلما روي: «أن امرأت أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني نذرتُ أن أضربَ على رأسكَ بالدُّفِ. فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أوفِ بنذرك» (¬1). رواه أبو داود. وأما الكفارة ومفهوم كلام المصنف رحمه الله أنه يجوز تركه. وهو صحيح؛ لأن النذر أُجري مجراه في الكفارة. فكذلك يجب أن يجري مجراه في جواز الترك. وأما الثاني وهو ما ترجح تركه على فعله؛ كالطلاق وسائر ما يكره فعله يستحب أن يكفّر ولا يفعله: أما التكفير؛ فليخرج من عهدة نذره. وأما عدم الفعل؛ فلأن فعله مكروه، وهو مطلوب العدم. قال: (الرابع: نذر المعصية؛ كشربِ الخمر، وصوم يوم الحيض ويوم النحر، فلا يجوز الوفاءُ به ويكفر؛ إلا أن ينذر نحرَ ولده ففيه روايتان: إحداهما: أنه كذلك. والثانية: يلزمه ذبح كبش. ويحتمل أن لا ينعقد نذر المباح ولا المعصية، ولا يجب به كفارة، ولهذا قال أصحابنا: لو نذر الصلاة أو الاعتكاف في مكان مُعيّن فله فعله في غيره، ولا كفارة). أما كون الرابع من أقسام النذر المنعقد: نذر المعصية كما مثّل المصنف رحمه الله؛ فلما ذكر قبل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3312) 3: 237 كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر.

وأما كونه لا يجوز الوفاء به؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذرَ أن يعصي الله فلا يعصِه» (¬1). وأما كون ناذره يكفر نحر ولده كان أو لد غيره؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذرَ في معصيةٍ وكفارتهُ كفارةُ يمين» (¬2). رواه أبو داود. وقال الترمذي: هو حديث غريب. وأما كونه يلزمه ذبح كبش إذا كان نذر نحر ولده في روايةٍ؛ فلأن الله عز وجل جعل الكبش عوضاً عن ذبح ولد إبراهيم بعد أن ذبحه، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع إبراهيم حيث قال: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} [النحل: 123]. وأما كون نذر المباح والمعصية يحتمل أن لا ينعقد؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذرَ إلا فيما ابتغُي به وجهُ الله» (¬3). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطبُ إذا برجل قائم فسألَ عنه. فقالوا: أبو إسرائيلَ نذرَ أن يقومَ في الشمس ولا يستظلَ ولا يتكلمَ ويصوم. قال: ليستظلَ وليتكلمَ وليتمَ صومَه» (¬4). رواه البخاري. وعن أنس قال: «نذرت امرأة أن تمشي إلى بيتِ الله. فسُئلَ نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال: إن الله لغنيٌ عن مشيهَا. مُروها فلتركَب» (¬5). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 498. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3290) 3: 232 كتاب الأيمان والنذور، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. وأخرجه الترمذي في جامعه (1525) 4: 103 كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نذر في معصية. وقد سقط لفظ كفارته من د. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2192) 2: 258 تفريع أبواب الطلاق، باب في الطلاق قبل النكاح. وأخرجه أحمد في مسنده (6732) 2: 185. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (6326) 6: 2465 كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية. (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه (1536) 4: 111 كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء فيمن يحلف بالمشي ولا يستطيع.

والأول أصح؛ لما تقدم. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نذرَ» (¬1) معناه والله أعلم لا نذر يجب وفاؤه ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف في انعقاده موجباً للكفارة ودعوى عدم إيجاب الكفارة في حديث ابن عباس ممنوعة. ولأن في بعض ألفاظه: «وليصُم ثلاثةَ أيام». قال: (ولو نذر الصدقة بكل ماله فله الصدقة بثلثه ولا كفارة عليه. وإن نذر الصدقة بألفٍ لزمه جميعها. وعنه: يجزؤه ثلثها). أما كون من نذر الصدقة بكل ماله له الصدقة بثلثه؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قال لأبي لبابة حين قال: إنَّ منْ توبَتي أن أنخلِعَ من مالي قال: يجزئك الثلث» (¬2). وفي رواية: «أمسِكْ عليكَ بعضَ مالِكَ» (¬3) متفق عليه. ولأبي داود: «يجزئُ عنكَ الثلث» (¬4). وأما كونه لا كفارة عليه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أبي لبابة سوى ثلث ماله. وأما كون من نذر الصدقة بألفٍ يلزمه الصدقة بجميعها على المذهب؛ فلأن الأصل لزوم الوفاء بالنذر خولف في جميع المال للأثر فيبقى في غيره على الأصل. وأما كونه يجزئه ثلثها على روايةٍ؛ فلأنه مال نذر للصدقة. فأجزأه ثلثه؛ كما لو نذر جميع المال. والأول أصح قاله المصنف رحمه الله في المغني؛ لما تقدم. ¬

_ (¬1) سبق قريباً. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (16111) 3: 502. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (2606) 3: 1013 كتاب الوصايا، باب إذا تصدق أو أوقف بعض ماله ... وأخرجه مسلم في صحيحه (2769) 4: 2120 كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3319) 3: 240 كتاب الأيمان والنذور، باب فيمن نذر أن يتصدق بماله.

وقياس الألف على جميع المال لا يصح؛ لما في الصدقة بجميع المال من الإضرار بنفسه وورثته، ولهذا منع الشخص من الوصية بجميع ماله. فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله في الألف غير مقيدٍ بكونها بعض ماله أو كله. قيل: قال في المغني: إذا نذر الصدقة بقدرٍ يستغرق ماله كله صح إلحاقه بالصورة الأولى. يعني بنذر صدقة ماله كله. ووجهه: أن المعنى المانع من صدقة جميع المال موجودة في الصدقة بالعدد الذي مقداره جميع ماله.

فصل [في نذر التبرر] قال المصنف رحمه الله: (الخامس: نذر التبرر؛ كنذر الصلاة والصيام والصدقة والاعتكاف والحج والعمرة ونحوها من القرب على وجه التقرب سواء نذره مطلقاً أو علّقه بشرط يرجوه فقال: إن شفى الله مريضي، أو سلم الله مالي فلله (¬1) عليّ كذا فمتى وجد شرطه انعقد نذره ولزمه فعله). أما كون الخامس من أقسام النذر المنعقد: نذر التبرر كما مثّل المصنف رحمه الله؛ فلما تقدم. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذرَ أن يطيعَ الله فليُطِعْه» (¬2). وأما كون النذر المذكور كما ذكر سواء نذره كما تقدم، أو علقه بشرط يرجوه كما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلأن ما ذكر يشملهما. وأما كون المعلق متى وجد شرطه ينعقد نذره؛ فلأنه يصير عند وجود شرطه بمنزلة المطلق، ولذلك لو أطلق الطلاق من غير تعليق طلقت امرأته ولو علقه على شرط فوجد طلقت. وأما كونه يلزمه فعله عند ذلك؛ فلأن الناذر حينئذ يصير كالمطلق، والمطلقُ يلزم الوفاء به. فكذلك من هو بمنزلته. قال: (وإن نذر صوم سنة لم يدخل في نذره رمضان ويوما العيدين، وفي أيام التشريق روايتان. وعنه: ما يدل على أنه يقضى يومي العيدين وأيام التشريق). أما كون رمضان لا يدخل في نذر صوم السنة؛ فلأن رمضان لا يقبل غير صومه. فلم يدخل في صوم نذر؛ كالليل. ¬

_ (¬1) في د: فله. وما أثبتناه من المقنع. (¬2) سبق تخريجه ص: 498.

وأما كون يومي العيدين لا يدخلان في ذلك على المذهب؛ فلأنهما يومان لا يصح صومهما عن نذره. فلم يدخلا في صوم السنة؛ كأيام رمضان. وأما كون ناذر ذلك يقضيه على روايةٍ؛ فلأن الصوم لما كان حراماً وجب أن ينعقد نذره موجباً للقضاء. وأما كون أيام التشريق فيها روايتان فمبني على أن صومها عن الفرض هل هو جائز أم لا؟ فإن قيل: هو جائز دخلت في نذره، وإن قيل: هو غير جائز لم تدخل. وأما كونها تقضى على روايةٍ؛ فبالقياس على العيدين. ولا بد أن يلحظ في هذه الرواية أنها مبنية على القول بتحريم صيامها عن الفرض؛ لأنها حينئذ تشبه العيدين. قال: (وإذا نذر صوم يوم الخميس فوافق يوم عيد أو حيض أفطر وقضى وكفّر. وعنه: يكفّر من غير قضاء، ونقل عنه ما يدل على أنه إن صام يوم العيد صحّ صومه. وإن وافق أيام التشريق فهل يصومه؟ على روايتين). أما كون من نذر ما ذكر فوافق يوم عيد يفطر؛ فلأن الشرع حرم صومه. وأما كونه يقضي؛ فلأنه فاته ما نذر صومه. وأما كونه يكفّر؛ فلعدم الوفاء بنذره. وأما كونه يكفّر من غير قضاء على روايةٍ؛ فكما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها. وأما كون الناذر إن صام يوم العيد صح صومه على روايةٍ؛ فلأنه وفاء بما نذر. وذكر المصنف في المغني رواية رابعة: أنه يقضي ولا كفارة عليه: أما كونه يقضي؛ فلأن النذر الواجب فاته. فلزمه قضاؤه؛ كما لو تركه ناسياً. وأما كونه لا كفارة عليه؛ فلأن الشرع منع القادر صومه. فلم تلزمه الكفارة؛ كالمكره. وأما كون من نذر ما ذكر فوافق يوم حيض يفطر فلا خلاف فيه؛ لقيام المنافي للصوم.

وأما كونه يقضي ويكفر، أو يكفر من غير قضاء، أو يقضي ولا يكفر؛ فلما تقدم فيمن نذر صوم يوم الخميس فوافق يوم عيد. وأما كونه إذا وافق أيام التشريق هل يصومه فيه روايتان؛ فمبني على جواز صومها فرضاً. فإن قيل: يجوز صومها عن الفرض جاز له صوم يوم النذر، وإن قيل: لا يجوز صومها عن الفرض كان حكمها حكم يومي العيد. قال: (وإن نذر صوم يوم يقدُم فلان فقدم ليلاً فلا شيء عليه. وإن قدم نهاراً فعنه ما يدل على أنه لا ينعقد نذره، ولا يلزمه إلا إتمامُ صيام ذلك اليوم إن لم يكن أفطر. وعنه: أنه يقضي ويكفر سواء قدم وهو مفطر أو صائم). أما كون من نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم ليلاً لا شيء عليه؛ فلأن شرط لزوم النذر قدومه نهاراً ولم يوجد. وأما كونه إذا قدم نهاراً لا ينعقد نذره على روايةٍ؛ فلأنه لا يمكنه صومه بعد وجود شرطه. فلم ينعقد؛ كما لو قال: لله عليَّ أن أصوم أمس اليوم الذي يقدم فيه فلان. وأما كونه لا يلزمه إلا إتمام صيام ذلك اليوم إن لم يكن أفطر فكما لو قال: لله عليَّ أن أصوم بقية يومي. وأما كونه يقضي ويكفر سواء قدم وهو مفطر أو صائم على روايةٍ: أما فيما إذا قدم وهو صائم؛ فلأنه لم ينو صوم النذر من الليل. فإن قيل: لو علم بقدوم فلان من الليل فنوى الصوم. قيل: يصح صومه ويجزئه عن نذره؛ لوفائه بما نذره. فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله أن إتمام صيام ذلك اليوم مرتب على عدم الانعقاد؛ لأنه قال: وإن قدم نهاراً فعنه ما يدل على أنه لا ينعقد نذره ولا يلزمه إلا إتمام صيام ذلك اليوم، وعنه أنه يقضي ويكفر. قيل: ليس لذلك وجه. وقد حكى في المغني بانعقاد النذر المذكور ثم علله ثم قال: فإذا ثبتت صحته فعلم ... وذكر بقية الأحكام.

قال: (وإن وافق قدومه يوماً من رمضان فقال الخرقي: يجزئه صيامه لرمضان ونذره، وقال غيره: عليه القضاء. وفي الكفارة روايتان. وإن وافق يوم نذره وهو مجنون فلا قضاء عليه ولا كفارة). أما كونه إن وافق قدومه يوماً من رمضان يجزئه صيامه لرمضان ونذره أي عنهما على قول الخرقي؛ فلأن الناذر نذر صيام ذلك الزمن وقد صامه. وكونه يجزئه صيام ذلك اليوم فيه إشعار بأن النذر صحيح. صرح به في المغني. وقال القاضي: ظاهر كلام الإمام أحمد أن النذر لا ينعقد؛ لأن النذر وافق زمناً يستحق صيامه. فلم ينعقد؛ كما لو نذر صيام رمضان. والأول عند المصنف رحمه الله أصح. ذكره في المغني وعلله بأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالباً. فانعقد؛ كما لو قدم في غير رمضان. وأما كونه عليه القضاء على قول غير الخرقي؛ فلأن زمن النذر يستحق الصيام لغيره. فلم يمكن صيامه عنه. فوجب أن يجب عليه القضاء؛ استدراكاً لما فاته من نذره. وأما كونه عليه الكفارة في روايةٍ؛ [فلتأخر النذر] (¬1). [وأما كونه لا كفارة عليه في روايةٍ] (¬2)؛ فلأنه ممنوع من صيام غير رمضان فيه فيصير كالمكره على عدم صيامه عن النذر، ومع الإكراه المذكور لا كفارة فكذلك ما هو بمنزلته. وأما كونه لا قضاء عليه ولا كفارة إذا وافق يوم نذره وهو مجنون؛ فلأن وجود الشرط يصير الناذر كالمطلق للنذر. ولو أطلق النذر وهو مجنون لم يكن عليه قضاء ولا كفارة فكذلك هاهنا. ولأن وجوبه ينفي وجوب الأداء عليه، والقضاء والكفارة يعتمدان وجوب الأداء. قال: (وإن نذر صوم شهر معين فلم يصمه لغير عذر فعليه القضاء وكفارة يمين. وإن لم يصمه لعذر فعليه القضاء، وفي الكفارة روايتان. وإن صام قبله لم يجزئه.

_ (¬1) زيادة من الشرح الكبير 11: 348. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

وإن أفطر في بعضه لغير عذر لزمه استئنافه ويكفر. ويحتمل أن يُتم باقيه ويقضي ويكفر). أما كون من ذكر عليه القضاء إذا لم يصم المنذور لغير عذر أو لعذر؛ فلأنه أفطر ما نذر صومه. فلزمه قضاؤه؛ استدراكاً لما فاته من نذره. وأما كونه عليه كفارة يمين إذا لم يصم لغير عذر؛ فلأنه أفطر من غير عذر عرض له. فكان عليه الكفارة؛ استدراكاً لما فاته من التعيين. وكانت كفارة يمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النذر حلفةٌ وكفارتهُ كفارةُ يمين» (¬1). وأما كونه عليه الكفارة إذا لم يصم لعذر في روايةٍ؛ فلأنه أخلّ بنذره. فلزمته الكفارة؛ كما لو نذر الحج ماشياً فركب. ولأن النذر كاليمين. ولو حلف ليصومن يوم كذا فأفطره لعذر لزمته الكفارة فكذا هاهنا. وأما كونه لا كفارة عليه في روايةٍ؛ فلأنه أتى بصيام أجزأ عن نذره من غير تفريط. فلم يكن عليه كفارة؛ كما لو صام ما عيّنه. والأولى أولى. قاله المصنف في المغني وعلله بما تقدم ذكره. وأما كونه لا يجزئه إذا صامه قبله؛ فلأنه يجب عليه صوم ذلك الشهر بعينه، ولم يوجد ذلك مع تقديم الصوم، وذلك يقتضي عدم الإجزاء لبقائه في عهدة ما وجب عليه. ولأن العبادات إذا كانت مؤقتة لم يجز تقديمها على وقتها. دليله الصلاة. وأما كونه يلزمه الاستئناف إذا أفطر في بعضه لغير عذر؛ كمن نذر صوم المحرم فأفطر منه يوماً؛ فلأن ما نذره صوم يجب تتابعه. فأبطله الفطر فيه لغير عذر؛ كما لو أفطر في نذرٍ نَذَرَ التتابُع فيه. وأما كونه يكفر؛ فلفوات زمن النذر. وأما كونه يحتمل أن يُتمّ باقيه ويقضي ويكفر: أما الإتمام؛ فلأن التتابع فيما نذره وجب من حيث الوقت لا من حيث الشرط. فلم يبطله الفطر؛ كصوم رمضان. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 500.

وأما القضاء؛ فكما لو أفطر يوماً من رمضان. وأما الكفارة؛ فلفوات زمن النذر. والأول أصح؛ لما تقدم. والفرق بين رمضان وبين النذر: أن تتابُع رمضان بالشرع لا بالنذر، وتتابُع النذر أوجبه الناذر على نفسه على صفة ثم فوّتها فهو شبيه بما شرط التتابُع فيه. فإن قيل: هذا حكم ما إذا أفطر بعض المنذور لغير عذر، فما حكمه إذا أفطره لعذر فإنه لم يذكر المصنف رحمه الله حكمه؟ قيل: قد ذكره في المغني فقال: قياس المذهب أنه يبني على ما مضى ويقضي ما أفطر ويكفر: أما البناء؛ فلأنه معذور في القطع. وأما القضاء؛ فلاستدراك ما فات من النذر الواجب صومه. وأما الكفارة؛ فلفوات زمن المنذور. وقال أبو الخطاب: فيه رواية أنه لا كفارة عليه؛ لأن المنذور محمول على المشروع. ولو أفطر في رمضان لعذر لم يلزمه شيء. والأولى أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخت عقبة بن عامر: «لتركب ولتكفِّر عن يمينِها» (¬1). وفارق رمضان من حيث إنه لو أفطر لغير عذر لم يكن عليه كفارة إلا في الجماع. وإنما لم يذكره المصنف رحمه الله بالتصريح؛ لأنه يصح أن يدخل في قوله: وإن لم يصمه لعذر فعليه القضاء وفي الكفارة روايتان. فإن قيل: لمَ لمْ يقتصر فيما إذا أفطر بعضه لغير عذر على قوله قبل ذلك: فلم يصمه لغير عذر؟ قيل: لأن حكم ما إذا أفطر الناذر بعضه الاستئناف على روايةٍ ولا دلالة لقوله فعليه القضاء وكفارة يمين على ذلك. بخلاف قوله: وإن لم يصمه لعذر فعليه القضاء وفي الكفارة روايتان فإن ذلك له دلالة على حكم ما أفطر الناذر بعضه؛ لاستوائهما في وجوب القضاء وجريان الخلاف في الكفارة لم يبق بينهما إلا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في مسنده (3295) 3: 234 كتاب الأيمان والنذور، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. وأخرجه أحمد في مسنده (2880) طبعة إحياء التراث.

وجوب الإتمام وذلك يصلح أن يترك استناداً إلى أصل وجوب الوفاء بالنذر؛ لأن الإتمام بعض ما نذره. قال: (وإذا نذر صوم شهر لزمه التتابع. وإن نذر صيام أيام معدودة لم يلزمه التتابع إلا أن يشترطه). أما كون من ذكر يلزمه التتابع في نذر الشهر؛ فلأن إطلاق الشهر يقتضي ذلك. وحكى المصنف رحمه الله في المغني رواية أخرى أنه لا يلزمه التتابع؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يوماً إجماعاً. فلم يلزمه التتابع؛ كما لو نذر صوم ثلاثين يوماً. وأما كونه لا يلزمه ذلك في نذر صيام الأيام المعدودة إذا لم يشترطه؛ فلأن الأيام لا دلالة لها على التتابع، ولذلك لما قال الله تعالى: {فعدةٌ من أيامٍ أُخَر} [البقرة: 184]: لم يلزم التتابع فيها. وأما كونه يلزمه إذا شرطه؛ فللوفاء بنذره. ولم يفرق المصنف رحمه الله في الأيام بين الثلاثين وبين غيرها؛ كعشرة ونحوها. ومنصوص الإمام أحمد في الثلاثين لا يلزمه التتابع وأنه في العشرة يلزمه. وفرق بينهما من حيث إن الثلاثين تطلق ويراد بها الشهر فعدوله عن الشهر دليل على إرادة العدد دون التتابع فيها. قاله المصنف في المغني؛ لأن عدم ما يدل على التفريق ليس بدليل على التتابع، ولذلك أن الله تعالى لما قال في قضاء رمضان: {فعدةٌ من أيامٍ أخَر} [البقرة: 184] ولم يذكر تفريقها ولا تتابعها لم يجب التتابع فيها. قال: (وإن نذر صياماً متتابعاً فأفطر لمرض أو حيض قضى لا غير. وإن أفطر لغير عذر لزمه الاستئناف. وإن أفطر لسفر أو ما أبيح الفطر فعلى وجهين). أما كون من ذُكر إذا أفطر لمرض أو حيض يقضي؛ فلأنه صوم وجب عليه. فيجب قضاؤه؛ كما لو أفطر في رمضان.

وأما كونه لا شيء عليه غيره؛ فلأن المرض والحيض عذر لا يقطع التتابُع. ويخير بين الاستئناف وبين البناء وقضاء ما ترك وكفارة يمين: أما الاستئناف؛ فلأن به يحصل التتابع صورة وحكماً. وأما البناء؛ فلأن ذلك بقية زمن نذر جميعه. وأما القضاء؛ فبدل عما أفطره. وأما الكفارة؛ فلأن العجز لا ينفيها. بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أخت عقبة بن عامر بالكفارة مع عجزها عن المشي. ولأن النذر كاليمين. ولو حلف ليصومنّ متتابعاً فأخلّ به لزمته الكفارة. وأما كونه يلزمه الاستئناف إذا أفطر لغير عذر؛ فلأن التتابُع ينقطع بالفطر لغير عذر، وذلك يوجب الاستئناف ضرورة الوفاء بالتتابع. وأما كونه إذا أفطر لسفر أو ما يبيح الفطر يلزمه الاستئناف على وجه؛ فلأنه أفطر باختياره. أشبه ما لو أفطر لغير عذر. وأما كونه لا يلزمه ذلك على وجه؛ فلأن فطره لعذر. أشبه ما لو أفطر لمرض أو حيض. ويجيء على قول الخرقي أنه يخير بين الاستئناف وبين البناء والقضاء والكفارة؛ لما تقدم. فإن قيل: قد ذكر المصنف رحمه الله المرض فيما يوجب القضاء لا غير، من غير فرق بين الموجب للفطر منه وبين المبيح. ثم حكى فيما يبيح الفطر وجهين فهل يجب تأويل المرض بالمخوف ليكون موجبا للفطر كالمعطوف عليه وهو الحيض، أم يحمل على إطلاقه؟ وعلى تأويله لا إشكال وعلى حمله على إطلاقه ما الفرق بين المرض المبيح وبين السفر المبيح؟ قيل: هو محمول على التأويل المذكور. ويؤيده ما حكاه أبو الخطاب في هدايته. وعلى ظاهر كلام المصنف رحمه الله أن المرض يبيح الفطر مطلقاً سواء كان مخوفاً أو لا، ويؤيده أنه ذكر في المغني عن أبي الخطاب أن المرض غير المخوف؛ كالسفر فيه وجهان، وأنه فرق بين الموجب للفطر وبين المبيح له ثم قال: ولم أرَ هذا عن غيره.

فعلى الفرق بين المرض المبيح وبين السفر المبيح على القول بأن السفر يقطع التتابع أن المرض ليس باختياره والسفر يحصل باختياره فناسب أن يقطع السفر التتابع ضرورة أنه من فعله بخلاف المرض. قال: (وإن نذر صياماً فعجز عنه لكبر أو مرض لا يُرجى برؤه أطعم عنه لكل يومٍ مسكين. ويحتمل أن يكفّر ولا شيء عليه). أما كون من ذكر يُطعم عنه لكل يوم مسكين على المذهب؛ فلأنه لو عجز عن صوم رمضان كما ذكر لوجب عليه أن يُطعم لكل يوم مسكيناً. فكذلك الصوم المنذور. وأما كونه يحتمل أن يكفر ولا شيء عليه؛ فلأن موجب النذر عند (¬1) الإمام أحمد موجب اليمين إلا مع القدرة على الوفاء بنذر الطاعة. ولو حلف ليصومنّ يوماً بعينه فعجز عنه لم يلزمه غير الكفارة فكذلك هاهنا. قال: (وإن نذر المشي إلى بيت الله أو موضع من الحرم لم يجزئه إلا أن يمشي في حج أو عمرة. فإن ترك المشي لعجز أو غيره فعليه كفارة يمين. وعنه: عليه دم. وإن نذر الركوب فمشى ففيه الروايتان). أما كون من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لا يجزئه إلا أن يمشي في حج أو عمرة؛ فلأن المشي المعهود الشرعي. فإن قيل: يجب المشي عليه. قيل: يُنظر فيه فإن كان قادراً عليه وجب الوفاء به؛ لأن المشي إلى العبادة أفضل. ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يركب في عيد ولا جنازة. وإن كان عاجزاً جاز له الركوب؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئلَ عن أخت عقبة وقد نذرت المشي إلى بيت الله الحرام قال: لتركب ولتمش» (¬2). فإن قيل: ليس في الحديث أن أخت عقبة بن عامر كانت عاجزة. ¬

_ (¬1) في د: على. ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1767) 2: 660 كتاب الحج، باب من نذر المشي إلى الكعبة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1644) 3: 1264 كتاب النذر، باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة.

قيل: يجوز أنه كان عالماً بحالها، أو ذُكر له ذلك ولم ينقله الراوي، أو علم أن الظاهر من حال المرأة أنها لا تقدر على المشي. وأما كونه إذا ترك المشي لعجز أو غيره عليه الكفارة؛ فلحديث أخت عقبة: «وتكفرْ يمينها» (¬1) وفي رواية: «ولتصُمْ ثلاثةَ أيام» (¬2). وأما كونها دماً على روايةٍ؛ فلأن ابن عباس روى في حديث أخت عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتركبْ وتهدِ هَدياً» (¬3). والأول أصح؛ لأن الرواية الصحيحة: «لتكفرْ يمينها» (¬4)، وفي رواية: «ولتصُمْ ثلاثةَ أيام». وما روى ابن عباس ضعيف. وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفارةُ النذر [إذا لم يُسمِّ] كفارة يمين» (¬5). ولأن المشي مما لا يوجبه الإحرام. فلم يجب الدم بتركه؛ كما لو نذر صلاة ركعتين فلم يصلهما. وأما كون من نذر المشي إلى موضع من الحرم كمن نذر المشي إلى البيت؛ فلأنه موضع من الحرم. أشبه البيت. وأما كون من نذر الركوب فمشى فيه الروايتان المتقدم ذكرهما؛ فلأنه تارك لما نذر. أشبه ما لو نذر المشي فركب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 511. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3293) 3: 233 كتاب الأيمان والنذور، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. وأخرجه الترمذي في جامعه (1544) 4: 116 كتاب النذور والأيمان، باب. وأخرجه النسائي في سننه (3815) 7: 20 كتاب الأيمان والنذور، إذا حلفت المرأة لتمشي حافية غير مختمرة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2134) 1: 689 كتاب الكفارات، باب من نذر أن يحج ماشياً. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3296) 3: 234 كتاب الأيمان والنذور، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. (¬4) سبق تخريجه ص: 511. (¬5) سبق تخريجه ص: 500، وما بين المعكوفين زيادة من الجامع.

قال: (وإن نذر رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب؛ إلا أن ينوي رقبة بعينها). أما كون من نذر رقبة لا تجزئ عنها إلا الرقبة التي تجزئ عن الواجب إذا لم ينو رقبة بعينها؛ فلأن النذر المطلق يحمل على المعهود، والرقبة التي تجزئ عن الواجب معهودة شرعاً. فوجب حمل المطلق عليها. وأما كونه إذا نوى رقبة بعينها تجزئ عما نوى؛ فلأنه نوى ما لفظه يحتمل. قال: (وإن نذر الطواف على أربعٍ طاف طوافين. نص عليه). أما كون من نذر الطواف على أربع يطوف طوافين؛ فلأن ابن عباس قال ذلك. وقال المصنف رحمه الله في المغني: الأولى أن يلزمه طواف واحد على رجليه، ولا يلزمه ذلك على يديه؛ لأنه ليس بمشروع. فأما قول المصنف رحمه الله: نص عليه؛ فتأكيد، ورفع لوهمِ كون ذلك قولاً لبعض الأصحاب.

كتاب القضاء

كتاب القضاء الأصل في القضاء ووجوبه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب؛ فآيات: إحداها: قوله تعالى: {يا داودُ إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} [ص: 26]. وثانيها: قوله تعالى: {وأن احكمْ بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49]. وثالثها: قوله تعالى: {وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم} [النور: 48]. ورابعها: قوله تعالى: {فلا وربك لا يُؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت} [النساء: 65]. وأما السنة؛ فما ورى عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا اجتهدَ الحاكمُ فأصابَ فله أجران، وإذا اجتهدَ فأخطأَ فلهُ أجر» (¬1). وأما الإجماع؛ فأجمع المسلمون على نَصب القضاة للحكم بين الناس. قال المصنف رحمه الله: (وهو فرض كفاية. قال أحمد رحمه الله: لا بدّ للناس من حاكم، أتذهبُ حقوقُ الناس؟ فيجب على الإمام أن ينصبَ في كل إقليمٍ قاضياً. ويختارُ لذلك أفضلَ من يجد وأورعهم، ويأمره بتقوى الله عز وجل، وإيثار طاعته في سره وعلانيته، وتحري العدل، والاجتهاد في إقامة الحق. وإن يستخلف في كل صُقْعٍ أصلحَ من يقدرُ عليه لهم). أما كون القضاء فرض كفاية؛ فلأن أمر الناس لا يستقيم بدونه. فكان فرض كفاية؛ كالجهاد والإمامة، ولذلك قال الإمام ما تقدم ذكره. وأما كون الإمام يجب عليه أن ينصبَ في كل إقليمٍ قاضياً؛ فلأنه هو القائم بأمر الرعية المتكفّل بمصلحتهم المسؤول عنهم. فإذا كان القضاء فرض كفاية ولم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6919) 6: 2676 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. وأخرجه مسلم في صحيحه (1716) 3: 1342 كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.

يكن بد من نصب من تقوم الكفاية به تعين على القائم بأمر الرعية نصبُه. ضرورة دفع الحاجة، ولذلك «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن» (¬1). و«ولى عمرُ شريحًا قضاء الكوفة وكعبَ بن سور (¬2) قضاء البصرة» (¬3). و«بعث إلى كل مصرٍ قاضيًا وواليًا». وأما كونه يختار أفضل من يجد وأورعهم؛ فلأن ذلك أقرب وأكمل تولية إلى حصول المقصود من القضاء. ولأن منصب القضاء أكمل المناصب، وذلك يناسب أن يكون متوليه أكمل من يوجد. وأما كونه يأمر من ينصبه بتقوى الله عز وجل، وإيثار طاعته في سره وعلانيته، وتحري العدل، والاجتهاد في إقامة الحق؛ فلأن في ذلك تذكرة له بما يجب عليه فعله، وإعانةً له على عمل ذلك، وتقويةً لقلبه، وتنبيهاً على اهتمام الإمام بأمر الشرع وأهله. وأما كونه يأمره أن يستخلف في كل صُقعٍ أصلحَ من يقدرُ عليه لهم؛ فلأن في ذلك خروجاً في جواز الاستنابة، وتنبيهاً على مصلحة رعية بلد القاضي، وحثاً له على اختيار الأصلح. قال: (ويجب على من يصلحُ له إذا طُلب ولم يوجد غيره ممن يوثقُ به الدخول فيه. وعنه: أنه سئل: هل يأثم القاضي بالامتناع إذا لم يوجد غيره ممن يوثقُ به؟ قال: لا يأثم. وهذا يدل على أنه ليس بواجب). أما كون من يصلح للقضاء إذا طُلب ولم يوجد غيره ممن يُوثق به يجب عليه الدخول فيه على المذهب؛ فلأن فرض الكفاية إذا لم يوجد من يقوم به غير واحد وجب عليه. دليله: غسل الميت وتكفينه. وأما كونه ليس بواجب على روايةٍ؛ فلأن في دخوله في القضاء خطراً عظيماً ومشقَّة شديدة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3582) 3: 301 كتاب الأقضية، باب كيف القضاء. (¬2) في د: ابن سود. وما أثبتناه من السنن. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 87 كتاب آداب القاضي.

والأول أصح؛ لما تقدم. والرواية الثانية: محمولة على أنه كان عاجزاً عن القيام بالواجب؛ لظلم السلطان وغيره. قال: (فإن وُجد غيره كُره له طلبه بغير خلاف في المذهب. وإن طُلب فالأفضل أن لا يجيب إليه في ظاهر كلام أحمد، وقال ابن حامد: الأفضل الإجابة إليه إذا أمن نفسه). أما كون من وُجد غيره يُكره له طلب القضاء بغير خلاف في المذهب؛ فلأن أنساً روى روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتغى القضاءَ وسألَ فيه شفعًا (¬1) وُكِلَ إلى نفسه، ومن أُكرهَ عليه أنزلَ اللهُ عليه ملكًا يسددُه» (¬2). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن بن سمرة: «يا عبدالرحمن! لا تسأل الإمارةَ. فإنك إن أُعطيتها عن مسألةٍ وُكِلْتَ إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألةٍ أُعِنْتَ عليها» (¬3). متفق عليه. وأما كونه إذا طُلب له فالأفضل أن لا يدخل فيه في ظاهر كلام الإمام؛ فلما فيه من الخطر والغرر. وفي تركه من السلامة والظفر، ولما وَرد فيه من التشديد. ولذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من وُلّي قاضياً فقد ذُبحَ بغير سِكِّين» (¬4). ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي له، وقد «أراد عثمان تولية ابن عمر القضاء فأباه». ¬

_ (¬1) في د: شفيعاً. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1324) 3: 614 كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (6727) 6: 2613 كتاب الأحكام، باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1652) 3: 1273 كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يميناً ... (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3571) 3: 298 كتاب الأقضية، باب في طلب القضاء. وأخرجه الترمذي في جامعه (1325) 3: 614 كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2308) 2: 774 كتاب الأحكام، باب ذكر القضاة.

وأما كون الأفضل الإجابة إليه إذا أمن نفسه في قول ابن حامد؛ فلأنه كما فيه خطر فكذا فيه أجر عظيم، ولذلك جعل الله للمجتهد فيه أجراً مع الخطأ، وأجرين مع الإصابة، وأسقط عنه حكم الخطأ. ولأن فيه الأمر بالمعروف، ونصر المظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه، ورد الظالم عن ظُلمه، ولذلك تولاه الرسول صلى الله عليه وسلم. وعن ابن مسعود أنه قال: «لأن أجلسَ قاضياً بين اثنين لحق أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة». وحكى المصنف رحمه الله في المغني أن ابن حامد قال: إن كان -يعني المطلوب- رجلاً خاملاً لا يرجع إليه في الأحكام، ولا يُعرف فالأولى له توليه القضاء؛ ليرجع إليه في الأحكام، ويقوم به حق. وإن كان مشهوراً في الناس بالعلم يُرجع إليه في تعليم العلم والفتوى، فالأولى له الاشتغال بذلك؛ لما فيه من تحصيل النفع مع الأمن من التغرر. قال: (ولا تثبت ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو نائبه). أما كون ولاية القضاء لا تثبت بغير ولاية الإمام أو نائبه؛ فلأن ولاية القضاء حكم على الناس بالرجوع إلى أقوال القضاة، ومن ليس بإمام أو نائبه ليس له الحكم على الناس، ولا يجب عليهم الرجوع على من ولاه عليهم. وأما كونها تثبت بتولية الإمام؛ فلأن الإمام هو وليُّ أمر المسلمين، وصاحبُ الأمر والنهي، وهو واجب الطاعة، مسموعُ الكلمة، مالك لجميع الولايات الشرعية الحكمية والحربية. وأما كونها تثبت بولاية نائبه؛ فلأنه مُنَزّل منزلته، وقائم مقامه، ولذلك تجب طاعته والرجوع إلى قوله.

قال: (ومن شرط صحتها: معرفة المولِّي كون المولَّى على صفة تصلح للقضاء، وتعيين ما يوليه الحكم فيه من الأعمال والبلدان، ومشافهته بالولاية أو مكاتبته بها، وإشهاد شاهدين على توليته. وقال القاضي: تثبت بالاستفاضة إذا كان بلده قريباً يستفيض فيه أخبار بلد الإمام. وهل تشترط عدالة المولّي؟ على روايتين). أما كون تولية القضاء من شرط صحتها: معرفة المولّي كون المولّى على صفة تصلح للقضاء؛ فلأن كون المولّى على الصفة التي تصلح للقضاء شرط لصحته التولية لما يأتي في مواضعه، وما كان شرطاً للصحة كانت معرفته شرطاً. دليله: العدالة لما كانت شرطاً لصحة الحكم بشهادة الشاهد كانت معرفتها شرطاً لصحة ذلك. وأما كونها من شرط صحتها تعيين ما يُوليه الحكم فيه من الأعمال والبلدان؛ فلأن ولايته مستفادة من تولية الإمام. فلم يكن بد من معرفته ما تولاه؛ ليمكن الفصل بين الخصوم بموضع التولية. وأما كونها من شرط صحتها مشافهة الإمام المولى بالولاية أو مكاتبته بها مع الإشهاد على المذهب؛ فلأنه إذا عُدمت المشافهة والمكاتبة لم يتصل طريق الولاية ولم يعلم المولي من المولى عليه. وأما كونها تثبت بالاستفاضة بشرط كون بلد القاضي قريباً من بلد الإمام على قول القاضي؛ فلأن العلم بالولاية يحصل بذلك. وأما كون عدالة المولي تشترط على روايةٍ؛ فلأن الفسق مؤثر في المنع من ولاية المولى عليه. فوجب أن يكون له أثر في المنع من تولية المولي. وأما كونها لا تشترط على روايةٍ؛ فلأن أكثر الأمراء فسقة. فاشتراط العدالة في المولي يؤدي إلى تعطيل الأحكام وضياع الناس.

قال: (وألفاظ التولية الصريحة سبعة: ولّيتُكَ الحكم، وقلّدتُكَ، واستَنبْتُكَ، واستخلفتُكَ، ورددتُ إليكَ، وفوّضتُ إليكَ، وجعلتُ إليكَ الحكم. فإذا وجد لفظ منها والقبول من المولّى انعقدت الولاية. والكناية نحو: اعتمدتُ عليكَ، وعوّلتُ عليكَ، ووَكلتُ إليكَ، وأسندتُ إليكَ الحكم فلا ينعقد بها حتى يقترن بها قرينة نحو: فاحكمْ، أو فَتَولّ ما عوّلتُ عليكَ فيه، وما أشبهه). أما كون ألفاظ التولية صريحة وكناية؛ فلأنها عقد. فكانت ألفاظها صريحة وكناية؛ كغيرها من العقود. وأما كون الألفاظ الصريحة سبعة؛ فلأنها تدل على ولاية القضاء دلالة لا يفتقر معها إلى شيء آخر، وذلك هو شأن الصريح. وأما كون الولاية إذا وجد لفظ من الألفاظ الصريحة والقبول من المولى تنعقد؛ فلأنه يلزم من ذلك وجود الإيجاب والقبول، وذلك يستلزم الانعقاد إذا وجدت بقية الشروط. دليله: البيع والإجارة وغيرهما. وأما كون بقية الألفاظ كناية؛ فلأنها تفتقر في دلالتها إلى شيء آخر، وذلك شأن الكناية. وأما كون الولاية لا تنعقد بلفظ منها حتى تقترن بها قرينة نحو: فاحكم أو فتولّ أو ما أشبه ذلك؛ فلأن الكناية لا تستقل بنفسها. فوجب افتقارها إلى قرينة تقوّيها وتعضُدُها. فعلى هذا إذا وجد اللفظ المذكور مع القرينة انعقدت الولاية؛ لحصول الكناية مع ما يقوّيها ويعضُدها.

فصل [فيما تفيده الولاية] قال المصنف رحمه الله: (وإذا ثبتت الولايةُ وكانت عامةً استفادَ بها النظر في عشرة أشياء: فصلُ الخصومات واستيفاءُ الحق ممن هو عليه ودفعهُ إلى ربه، والنظرُ في أموال اليتامى والمجانين والسفهاء، والحجرُ على من يرى الحجر عليه لسفهٍ أو فلسٍ، والنظرُ في الوقوف في عمله بإجرائها على شرطِ الواقف، وتنفيذُ الوصايا، وتزويجُ النساء اللاتي لا ولي لهن، وإقامةُ الحدود، وإقامةُ الجمعة، والنظرُ في مصالحِ عمله بكف الأذى عن طرقات المسلمين وأفنيتهم، وتصفحُ حال شهوده وأمنائه، والاستبدالُ بمن ثبت جرحه منهم. فأما جبايةُ الخراج وأخذ الصدقة فعلى وجهين). أما كون من ثبتت ولايته وكانت عامة يستفيدُ بها النظر في الأشياء المذكورة؛ فلما يأتي ذكره في مواضعه. وأما كونه يستفيد فصل الخصومات واستيفاء الحق ممن هو عليه ودفعه إلى ربه؛ فلأن المقصود من القضاء ذلك. فلو لم يملكه لذهب مقصود القضاء، ولذلك وقعت الإشارة من الإمام أحمد رحمه الله بقوله: أتذهب حقوق الناس؟ . وأما كونه يستفيد النظر في أموال اليتامى والمجانين والسفهاء؛ فلأن بعضهم لا ينظر في ماله إلا الحاكم هو السفيه، وبعضهم هو بين أن لا يكون له ولي فترك نظره في ماله يؤدي إلى ضياعه، وبين أن يكون له ولي فترك نظره في حال الولي يؤدي إلى طمعه في مال موليه، وفي ذلك ضرر عليه. وأما كونه يستفيد الحجر على من يرى الحجر عليه من سفه أو فلس؛ فلأن الحجر المذكور يفتقر إلى نظر واجتهاد، وليس ذلك لغير القاضي، ولذلك جُعل الحجر المذكور مختصاً به.

وأما كونه يستفيد النظر في الوقوف؛ فلأن النظر ضرورة تدعو إلى إجرائها على شروطها. فإن لم يكن لها نُظّار على وجه الخصوصية تعين نظره فيها، وتولية ذلك لمن ينظر في أحوالهم وفي فعلهم فيها. وأما كونه يستفيد تنفيذ الوصايا؛ فلأن بالميت حاجة إلى ذلك، وليس ذلك لغيره. وأما كونه يستفيد تزويج النساء اللاتي لا ولي لهن؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن اشتجروا فالسلطانُ وليُّ من لا وليَّ له» (¬1) والحاكم نائبه. وأما كونه يستفيد إقامة الحدود؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيمها. فكذا الخلفاء بعده، وكان من مناصبه الإمامة. فلم لا يجوز أن يكون ذلك مستفاداً من جهة الإمامة؟ . فإن قيل: هو نائب الإمام في الاستيفاء المذكور؛ لأنه هو الذي نصبه (¬2). وأما كونه يستفيد إقامة الجمعة؛ فلأن الخلفاء هم الذين كانوا يقيمونها. وأما كونه يستفيد النظر في مصالح عمله بكف الأذى عن طرقات المسلمين؛ فلأنه مرصد للمصالح فإذا كان ذلك من المصالح استفاد النظر فيه. وأما كونه يستفيد تصفح حال الشهود؛ فلأن ذلك من أكبر المهمات المتعلقة بالقضاء؛ لأنه يجب أن يعلم حال الشهود عندهم منهم. وأما كونه يستفيد الإبدال بمن ثبت عنده جرحه؛ فلأن المجروح لا تسمع له شهادة، وأمر الشهادة مردود إلى الحاكم. فكذلك يجب أن يُرد إليه ترتيب الشهود واستبدالهم بمن يصلح لها. وأما كونه يستفيد جباية الخراج وأخذ الصدقة على وجه؛ فلأنه أخذ حقٍ ممن هو عليه. أشبه أخذ الحق من الخصوم ودفعه إلى خصومهم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2083) 2: 229 كتاب النكاح، باب في الولي. وأخرجه الترمذي في جامعه (1102) 3: 407 كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1879) 1: 605 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي. وأخرجه أحمد في مسنده (24417) 6: 66. (¬2) كذا في د.

وأما كونه لا يستفيد ذلك على روايةٍ؛ فلأن الخراج مصرفه إلى أهل الديوان. والصدقة يصرف بعضها إلى أهل الديوان، وبعضها يصرف للناس في مصارف ذلك. فلم يدخل ذلك في ولايته؛ كما لو جرت العادة لذلك بناظر خاص. ولا بد أن يلحظ في الخلاف المذكور أن الخراج والصدقة ما خص الإمام بهما أحداً. ذكره أبو الخطاب شرطاً في جريان الوجهين. ولفظه: وأما جباية الخراج وأخذ الصدقة فهل يدخل في مطلق ولايته إذا لم يخص بناظرٍ؟ وجهان. قال: (وله طلبُ الرزقِ لنفسه وأمنائهِ وخلفائهِ مع الحاجة. فأما مع عدمها فعلى وجهين). أما كون القاضي له طلب الرزق لنفسه مع الحاجة؛ فلأن أخذ الرزق مع الحاجة جائز وطلبُ ما أخذه جائز يجب أن يكون جائزاً. بيان جواز الأخذ: «أن عمر رضي الله عنه رزق شريحاً في كل شهر مائة درهم» (¬1). و«رزق ابن مسعود نصف شاة كل يوم» (¬2). و«كتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام: أن انظروا رجالاً من صالحي مَن قبلكم فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من بيت المال». وأما كونه له طلب الرزق لأمنائه وخلفائه مع الحاجة؛ لأن معناهم: فإذا جاز له الطلب لنفسه وجب أن يكون ذلك لمن هو في معناه. وأما كونه له ذلك مع عدم الحاجة على وجه؛ فلما تقدم من رزق عمر لشريح وغيره. ولأنه لو لم يجز ذلك لأفضى إلى تعطيل القضاء؛ لأن أحداً لا يسهل عليه الاشتغال عن اشتغال نفسه وتكسبه بغير عوض. ¬

_ (¬1) قال في ابن حجر: لم أره هكذا. وروى عبدالرزاق في مصنفه عن الحسن بن عمارة عن الحكم، «أن عمر بن الخطاب رزق شريحا وسلمان بن ربيعة الباهلي على القضاء» (15282) 8: 297 أبواب القضاء، باب هل يؤخذ على القضاء رزق. وهذا ضعيف منقطع، وفي البخاري تعليقاً: كان شريح يأخذ على القضاء أجراً. تلخيص الحبير 4: 194. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 354 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما يكون للوالي الأعظم ووالي الإقليم من مال الله.

وأما كونه ليس له ذلك على وجه؛ فلأن القضاء قُربة وطاعة. فلم يجز فيها طلب الرزق مع عدم الحاجة؛ كالصلاة.

فصل [في الولاية العامة والخاصة] قال المصنف رحمه الله: (ويجوز أن يوليه عمومَ النظرِ في عموم العمل، ويجوز أن يوليه خاصاً في أحدهما أو فيهما، فيوليه عموم النظر في بلد أو في محلة خاصة، فينفذ قضاؤه في أهله ومن طرأ إليه، أو يجعل الحكم في المداينات خاصة، أو في قدر من المال لا يتجاوزه، أو يفوّض إليه عقود الأنكحة دون غيرها). أما كون القاضي يجوز أن يوليه الإمام عمومَ النظر في عموم العمل، وعموم النظر في خصوص العمل؛ فلأن الخيرة له في التولية فكذلك في صفتها. ولأن الإمام قد يعلم المصلحة في بعض هذه الأشياء دون بعض وذلك يقتضي تمكينه من فعل ما رأى فيه المصلحة. ولأن القاضي المتولي قد يكون قيّماً بعموم النظر في عموم العمل وقد يكون عاجزاً عن ذلك قيّماً بالخصوص فيهما أو في أحدهما. فيجب أن تكون الولاية مختصة بما هو قيّم به دون ما هو عاجز عنه. فإن قيل: ما مثال كل واحدٍ من الأمور الأربعة؟ قيل: مثال التعميم في النظر والعمل: أن يوليه الإمام القضاء في سائر الأحكام وسائر البلدان. ومثال تعميم النظر وتخصيص العمل: أن يوليه القضاء في سائر الأحكام ولكن في بلد من البلاد ومحلة من المحال. ومثال تخصيص النظر وتعميم العمل: أن يوليه الحكم في المداينات أو في قدر من المال لا يتجاوزه، أو يوليه عقود الأنكحة أو ما أشبه ذلك في جميع البلاد. ومثال تخصيص النظر والعمل: أن يوليه الحكم فيما ذكر في بعض البلاد أو بعض المحال. وأما كون المولى في بلد أو محلة ينفذُ قضاؤه في أهله؛ فظاهر.

وأما كونه ينفذ فيمن طرأ إليه؛ فلأن الطارئ إلى مكان يُعطى حكم أهله في كثير من الأحكام. ألا ترى أن الدماء الواجبة لأهل مكة يجوز تفريقها في الطارئ إليها كأهلها. قال: (ويجوز أن يولى قاضيين أو أكثر في بلد واحد يجعلُ إلى كل واحدٍ عملاً، فيجعل إلى أحدهما الحكمَ بين الناس وإلى الآخر عقود الأنكحة. فإن جعل إليهما عملاً واحداً جاز، وعند أبي الخطاب لا يجوز). أما كون الإمام يجوز أن يولي قاضيين أو أكثر في بلد واحدٍ يجعل لكل واحد منهما عملاً كما مثّل المصنف رحمه الله؛ فلأن ذلك ليس فيه ضرر، والإمام كامل الولاية. فوجب أن يملك ذلك؛ كتولية القاضي الواحد. وأما كونه يجوز إذا جَعل إليهما عملاً واحداً عند غير أبي الخطاب؛ فلأنه يجوز أن يستخلف الإمام في البلدة التي هو فيها فيكون في البلدة قاضيان. فجاز أن يكون فيها قاضيان أصليان. وأما كونه لا يجوز عند أبي الخطاب؛ فلأنه يؤدي إلى إيقاف الأحكام والخصومات؛ لأن القاضيين يختلفان في الاجتهاد فيؤدي إلى ذلك. وهذا صوابه. والأول أصح عند المصنف رحمه الله. قاله في المغني. قال: (وإن مات المولي أو عزل المولى مع صلاحيته لم تبطل ولايته في أحد الوجهين، وتبطل في الآخر. وهل ينعزل قبل العلم بالعزل؟ على وجهين بناء على الوكيل). أما كون ولاية المولَّى لا تبطل بما ذكر في وجه؛ فلأنه عَقدٌ عُقِدَ لمصلحة المسلمين. فلم يبطل بموته؛ كما لو عقد الولي النكاح على موليته ثم مات أو فسخه. وأما كونها تبطل في وجه؛ فلأنه نائبه فتبطل ولايته بما ذكر؛ كوكيله. ويؤيد بطلان الولاية بالعزل «أن عمر رضي الله عنه قال: لأعزلنّ أبا مريم وأولي رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه. فعزله وولى كعب بن سور». و«ولى علي أبا الأسود ثم عزله فقال: لم عزلتني وما خنت ولا حبيت؟ قال: رأيتك يعلو كلامك على الخصمين».

وأما كونه إذا انعزل ينعزل بنفس العزل أو يعلم به فيه وجهان مبنيان على عزل الموكل الوكيل؛ فلأنه في معناه. قال: (وإذا قال المولي: من نظرَ في الحكم في البلد الفلاني من فلان وفلان فهو خليفتي، أو قد ولّيته لم تنعقد الولاية لمن ينظر. وإن قال: وليتُ فلاناً وفلاناً فمن نظرَ منهما فهو خليفتي انعقدت الولاية). أما كون الولاية لا تنعقد لمن ينظر إذا قال: من نظرَ [في الحكم] (¬1) في البلد الفلاني من فلان وفلان فهو خليفتي أو قد وليته؛ فلأن المولّي لم يعين المولَّى. أشبه ما لو قال للبائع: بعتك أحد الثوبين. وأما كونها تنعقد إذا قال: وليتُ فلاناً وفلاناً فمن نظر منهما فهو خليفتي؛ فلأن المولي ولاّهما جميعاً ثم عين السابق منهما. فإن قيل: لو قال البائع: بعت ثوبي من فلان وفلان فمن قبضه فهو له لم يصح. فكذلك يجب هاهنا لم يصح. لا سيما وعدم الصحة في المسألة الأولى عليه قياسها على قول البائع: بعتك أحد الثوبين. قيل: الولاية قابلة للعزل ويلزم من عزل أحدهما استقلال الآخر بالولاية. ولا كذلك مسألة البيع فإنه بعد انعقاده لا يقبل الإبطال، ولو قُبل لعاد ذلك إلى مالكه لا إلى رفيقه في الشراء. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

فصل [في شروط القاضي] قال المصنف رحمه الله: (ويشترطُ في القاضي عشرُ صفاتٍ: أن يكونَ بالغاً، عاقلاً، ذكراً، حراً، مسلماً، عدلاً، سميعاً، بصيراً، مُتكلّماً، مجتهداً. وهل يشترط كونه كاتباً؟ على وجهين). أما كون القاضي يشترطُ فيه عشرُ صفاتٍ؛ فلما يأتي ذكره في مواضعه. وأما كونها أن يكون بالغاً ... إلى آخره: أما بلُوغه وعقلُه؛ فلأن الصبي والمجنون لا ينفذ قولهما في أنفسهما. فلأن لا ينفذ قولهما في غيرهما بطريق الأولى. ولأن الصبي والمجنون يستحقان الحجر عليهما، والقاضي يستحق الحجر على غيره؛ فبين حاليهما وبين حاله منافاة. وأما ذكوريته؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أفلحَ قومٌ ولّوا أمرهمُ امرأة» (¬1). ولأن المرأة ناقصة العقل وقليلة الرأي ليست أهلاً لحضور الرجال وشهود محافل الخصوم. وأما حريته؛ فلأن القضاء منصبٌ شريفٌ. فلا يجوز أن يتولاه عبدٌ؛ كالإمامة العُظمى. ولأن العبد في أعين الناس ممتهن، والقاضي موضوعٌ للفصل بين الخصوم. فحاله يُنافي حال الولاية. وأما إسلامه؛ فلأن الكفر يقتضي إذلال صاحبه، والقاضي يقتضي احترامه وبينهما منافاة. ولأن الإسلام شرطٌ في الشهادة. فلأن يكون شرطاً في القضاء بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4163) 4: 1610 كتاب المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر.

وأما عدالته؛ فلأن الله تعالى قال: {إن جاءكم فاسقٌ بنبإ فتبينوا} [الحجرات: 6]. والحاكم يجيء بقول. فلا يجوز قبوله مع فسقه كذلك. ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهداً. فلأن لا يجوز أن يكون قاضياً بطريق الأولى. وأما سَمعُهُ وبَصرُهُ وتكلّمُهُ؛ فلأنه لا يتمكن مع فقد هذه الحواس من الفصل بين المتخاصمين؛ لأن سماع القول لا يتمكن منه إلا بسمعه. ومعرفة المدعِي من المدعَى عليه، والمقر من المقرِّ له، والشاهد من المشهود عليه: لا يتمكن منه إلا ببصره. والحكمُ بين الخصومِ لا يتمكن منه إلا بالنطق. وأما اجتهاده؛ فلأن فاقد الاجتهاد إنما يحكم بالتقليد، والقاضي مأمور بالحكم بما أنزل الله. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القضاةُ ثلاثة: اثنان في النار وواحدٌ في الجنة: رجلٌ علمَ الحق فقضى به فهوَ في الجنة، ورجلٌ قضى للناس على جهلٍ فهو في النار، ورجلٌ جارَ في الحكمِ فهوَ في النار» (¬1). رواه ابن ماجة. ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأنه فُتيا وإلزام، والمفتي لا يجوزُ أن يكون عامياً مقلداً فالحاكم أولى. وأما كون القاضي يشترطُ فيه أن يكون كاتباً على وجه؛ فلأن القاضي من أهل الكمال، والكتابة منه. ولأنه يحتاج إلى الكتابة على ما ثبت عنده، وعلى خطوط الشهود. وأما كونه لا يشترطُ أن يكون كاتباً على وجه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاكم الحكام ولم يكن كاتباً. وأجيب عنه بأن عدم الكتابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمعنى كان مفقوداً في غيره، وذلك يقتضي قطع الإلحاق. قال: (والمجتهدُ: من يعرفُ من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه السلام الحقيقة والمجاز، والأمر والنهي، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، والخاص ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3573) 3: 299 كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2315) 2: 776 كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق.

والعام، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمستثنى والمستثنى منه. ويعرفُ من السنةِ صحيحها من سقيمها، وتواترها من آحادها، ومرسلها ومتصلها، ومسندها ومنقطعها، مما له تعلقٌ بالأحكام خاصة. ويعرف ما أُجمع عليه مما اختُلف فيه، والقياس وحدوده وشروطه وكيفية استنباطه، والعربيةُ المتداولةُ بالحجازِ والشامِ والعراقِ وما يواليهم، وكل ذلك مذكورٌ في أصولِ الفقهِ وفروعهِ، فمن وقَفَ عليه ورُزق فهمُه صَلُحَ للفُتيا والقضاء وبالله التوفيق). أما كون المجتهد من يعرفُ ما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلأن العالم لا يتمكن من الاجتهاد بدون ذلك. وأما كون ذلك مذكوراً في أصولِ الفقهِ وفروعهِ؛ فلأنهما محلُ ذلك كله. وفيه تنبيه على المواضع لتُقصَدَ فيحصُل لطالبها ما قصَدَه. وأما كون من وقَفَ على ذلك ورُزق فهمُه صلُح للفُتيا والقضاء؛ فلأن العالم بذلك متمكنٌ من التصرفِ في العلومِ الشرعية ووضعها في مواضعها.

فصل [في التحاكم] قال المصنف رحمه الله: (وإن تحاكمَ رجلان إلى رجلٍ يصلحُ للقضاء فحكَّماهُ بينَهُما فحكمَ نفذ حكمه في المال والقصاص والحد والنكاح واللعان في ظاهر كلامه. ذكره أبو الخطاب، وقال القاضي: لا ينفذُ حكمُه إلا في المال خاصة). أما كون من تحاكم إليه رجلان فحكَّماهُ بينهما فَحَكم ينفذ حكمه؛ فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حكمَ بين اثنين تراضيا به فلمْ يعدل بينهما فهو ملعون» (¬1). ولولا أنه ينفذ حكمه لما كان كذلك. وأما كون حكمه ينفذ في المال والقصاص والحد والنكاح واللعان في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فلأن عموم الحديث المذكور يشمل ذلك كله. وفي نفاذ حكم من ذكر إشعار بجواز التحاكم في الجملة. وهو صحيح؛ لما ذكر من الحديث. و«لأن عمر وأبيًا احتكما إلى زيد بن ثابت» (¬2)، و «حاكم عمرُ رجلاً إلى شريح قبل توليه القضاء». و«تحاكم عثمان وعبدالرحمن إلى جبير بن مطعم» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن الجوزي في التحقيق ر. تلخيص الحبير 4: 185. (¬2) عن الشعبي، قال: «كان بين عمر وأبي رضي الله عنه خصومة فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً. قال: فجعلا بينهما زيد بن ثابت. قال: فأتوه قال: فقال عمر رضي الله عنه: أتيناك لتحكم بيننا، وفي بيته يؤتي الحكم. قال: فلما دخلوا عليه أجلسه معه على صدر فراشه. قال: فقال: هذا أول جور جرت في حكمك أجلسني وخصمي مجلساً. قال: فقصّا عليه القصة. قال: فقال زيد لأبي: اليمين على أمير المؤمنين فإن شئت أعفيته. قال: فأقسم عمر رضي الله عنه على ذلك. ثم أقسم له لا تدرك باب القضاء حتى لا يكون لي عندك على أحد فضيلة». أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 144 كتاب آداب القاضي، باب القاضي لا يحكم لنفسه. (¬3) عن ابن أبي مليكة «أن عثمان ابتاع من طلحة بن عبيد الله أرضاً بالمدينة ناقلة بأرض له بالكوفة فلما تباينا ندم عثمان. ثم قال: بايعتك ما لم أره. فقال طلحة: إنما النظر لي إنما ابتعت مغيباً وأما أنت فقد رأيت ما ابتعت فجعلا بينهما حكماً. فحكّما جبير بن مطعم فقضى على عثمان أن البيع جائز وأن النظر لطلحة أنه ابتاع مغيباً». أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 267 كتاب البيوع، باب من قال يجوز بيع العين الغائبة.

فإن قيل: عمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردَّا الحكم إلى رجل صار حاكماً. قيل: لم ينقل عنهما أكثر من الرضى بحكمه خاصة. وذلك لا يصير به المتحاكم إليه قاضياً. وأما كون حكم المتحاكم إليه لا ينفذُ إلا في المال خاصة على قول القاضي؛ فلأنه أسهل من غيره. فيجب الاقتصار عليه.

باب أدب القاضي

باب أدب القاضي قال المصنف رحمه الله: (ينبغي أن يكون قوياً من غير عُنفٍ، ليناً من غير ضَعفٍ، حليماً ذا أناةٍ وفطنةٍ، بصيراً بأحكام الحكام قبله، ورعاً عفيفاً). أما كون القاضي ينبغي أن يكون قوياً؛ فلئلا يطمع المُبطل في باطله، ولذلك قال عمر: «لأعزلن أبا مريم عن القضاء ولأستعملن رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه». وأما كون ذلك من غير عنف؛ فلأنه إذا كان ذا عنف ربما أيسَ الضعيف من حقه. وأما كونه ليناً؛ فلئلا يخاف منه صاحب الحق فيترك حقه. وأما كون ذلك من غير ضعف؛ فلأن اللين إذا كان لضعفٍ طمع المبطل في القاضي فلا يُقر بالحق. وأما كونه حليماً؛ فلأنه ربما يغضب من كلام الخصوم فيمنعه ذلك من الحكم بينهم. وأما كونه ذا أناة؛ فلئلا يؤتى من عجلته. وأما كونه ذا فطنة؛ فلئلا يخدع بغيره. وأما كونه بصيراً بأحكام الحكام قبله؛ فلما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيًا حتى يكونَ فيه خمس خصال: عفيفٌ، حليمٌ، عالمٌ بما كان قبله، يستشيرُ ذوي الألباب، ولا يخافُ في اللهِ لومةَ لائم» (¬1). وأما كونه ورعاً؛ فليؤمن منه مع ذلك أخذ الرشا. وأما كونه عفيفاً؛ فلما تقدم من قول علي رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه من قول عليّ. وقد أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من قول عمر بن عبدالعزيز 10: 110 كتاب آداب القاضي، باب مشاروة الوالي والقاضي في الأمر.

ولأنه إذا كان كذلك كان بعيداً من الطمع قريباً من النزاهة لا يطمع أحد في ميله معه بغير حق. قال: (وإذا وُلّي في غير بلده سأل عمن فيه من الفقهاء والفضلاء والعدول. ويُنفذُ عند مسيره من يعلمهم يوم دخوله ليتلقَّوه، ويدخل البلد يوم الاثنين أو الخميس أو السبت لابساً أجملَ ثيابه. فيأتي الجامع فيصلي فيه ركعتين ويستقبل القبلة. فإذا اجتمع الناس أمرَ بعهده فقرئ عليهم، وأمر من ينادي: من له حاجةٌ فليحضر يوم كذا ثم يمضي إلى منزله. ويُنفذُ فيتسلم ديوان الحكم من الذي كان قبله. ثم يخرج اليوم الذي وعدَ بالجلوسِ فيه على أعدل أحواله غير غضبان، ولا جائع، ولا شبعان، ولا حاقن، ولا مهموم بأمرٍ يشغلُه عن الفهمِ، فيسلّم على من يمر به ثم على من في مجلسه، ويصلي تحية المسجد إن كان في مسجد). أما كون القاضي إذا وُلّيَ في غير بلده يسأل عمن فيه من الفقهاء والفضلاء والعدول؛ فليعرف حالهم حتى يشاور من يصلح للمشاورة، ويقبلَ شهادةَ من هو أهل للعدالة. وأما كونه يُنفذُ من يعلمهم يوم دخوله؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من قوله: ليتلقَّوه؛ لأن في تلقِّيه تعظيماً له، وذلك طريقٌ لقبول قوله ونفوذِ أمره. وأما كونه يدخل البلد يوم الاثنين أو الخميس أو السبت (¬1). وأما كونه يأمرُ بعهده فيقرأ على من في بلد ولايته؛ فليعلموا ولايته وصفتها وعلامَ وُلِّي. وأما كونه يأمر من ينادي: من له حاجة فليحضر يوم كذا؛ فليعلم صاحب الحاجة يوم جلوس القاضي فيقصد حضوره؛ لقضاء حاجته. وأما كونه يمضي بعد ذلك إلى منزله؛ فليستريح حتى إذا خرج لفصل الخصومات يكون على أعدل أحواله. ¬

_ (¬1) بياض في د مقدار نصف سطر.

وأما كونه ينبغي له أن ينفذَ فيتسلم ديوان الحكم من الحاكم قبله؛ فلأن ذلك كان في يد الحاكم قبله بحكم الولاية، وقد صارت إليه. فوجب أن ينتقل ذلك إليه. وأما كونه يخرج اليوم الذي وعدَ بالجلوس فيه؛ فليحصل الوفاء بما نادى مُناديه. وأما كونه على أعدل أحواله؛ فلأن حال القاضي ينبغي أن يكون أكمل الأحوال. وأما كونه غير غضبان، ولا جائع، ولا شبعان، ولا حاقن، ولا مهموم بأمرٍ يشغله عن الفهم؛ فلأن القاضي متى كان به خصلة واحدة من الخصلات المذكورة ربما شَغلت فكره فأدّت إلى خطئه. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقضِي القاضي بين اثنين وهو غضبان» (¬1). صرَّحَ بالغضب، وقيس عليه ما في معناه من سائر ما ذكر. وأما كونه يسلّم على من يمرُ به وعلى من في مجلسه؛ فلأن السنة سلامُ المارّ على الممرور به، وسلام الداخل على من في المجلس. وأما كونه يصلي ركعتين تحية المسجد إن كان في مسجد؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلَ أحدكم المسجد فلا يجلسْ حتى يصلي ركعتين» (¬2). قال: (ويجلس على بساطٍ ويستعينُ بالله ويتوكلُ عليه، ويدعو سراً أن يعصمهُ من الزللِ ويوفقهُ للصواب، ولما يرضيه من القول والعمل. ويجعلُ مجلسه في مكان فسيحٍ؛ كالجامعِ والفضاءِ والدارِ الواسعةِ في وسط البلد إن أمكن). أما كون القاضي يجلس على بساطٍ؛ فلأنه أبلغُ في هيبته، وأوقع في نفس الخصوم، وأعظم لحرمة الشرع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6739) 6: 2616 كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان. وأخرجه مسلم في صحيحه (1717) 3: 1342 كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1110) 1: 391 أبواب التطوع، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى.

وأما كونه يستعينُ بالله ويتوكلُ عليه؛ فلأن ذلك ينبغي لكل واحدٍ. فلأن ينبغي للقاضي بطريق الأولى. وأما كونه يدعو سراً أن يعصمه من الزللِ ويوفقه للصوابِ وما يرضيهِ من القولِ والعملِ؛ فلأن ذلك مطلوب مطلقاً لا سيما في أوقات الحاجة، والقاضي من أشد الناس حاجةً إلى ما ذكر. وأما كونه يجعلُ مجلسهُ في مكان فسيح كالجامعِ والفضاءِ والدارِ الواسعةِ؛ فليكون ذلك واسعاً على الخصوم وأصحاب المسائل. وأما كونه يجعلهُ في وسط البلد إن أمكن ذلك؛ فلأنه أقرب للعدل وأمكنُ للخصوم. قال: (ولا يتخذُ حاجباً ولا بواباً إلا في غير مجلس الحكم إن شاء). أما كون القاضي لا يتخذُ حاجباً ولا بواباً في مجلس الحكم؛ فلما روي عن أبي مريم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من وليَ من أمور الناس شيئاً وحجبَ دون حاجتهمْ وفاقتهمْ احتجبَ اللهُ عنهُ دونَ حاجتهِ وفاقتهِ وفقره» (¬1). رواه الترمذي. ولأن حاجبه ربما قدّم المتأخر وأخّر المتقدم؛ لغرض له، وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم. وأما كونه يتخذُ ذلك في غير مجلس الحكم إن شاء؛ فلأنه قد تدعو حاجته إلى ذلك، ولا مضرة على الخصوم في ذلك؛ لأنه ليس بوقتٍ للحكومة. قال: (ويعرضُ القصَصَ فيبدأ بالأول فالأول. ولا يقدمُ السابقَ في أكثر من حكومة واحدة. فإن حضروا دفعة واحدة وتشاحوا قدم أحدهم بالقرعة). أما كون القاضي يعرض القَصص؛ فليقضي حوائج أصحابها. وأما كونه يبدأ بالأول فالأول؛ فلأن الأول سابق والسبق له أثر في التقديم. دليله: ما لو سبق رجل إلى شيء من المباحات فإنه يكون أحق به. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2948) 3: 135 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنه. وأخرجه الترمذي في جامعه (1332) 3: 619 كتاب الأحكام، باب ما جاء في إمام الرعية.

وأما كونه لا يقدّمُ السابق في أكثر من حكومة واحدة؛ فلأنه مسبوق بالنسبة إلى الثاني؛ لأن الذي يليه سبقه بالنسبة إلى الدعوى الثانية. وأما كونه يقدّم أحدهم بالقرعة إذا حضروا دفعة واحدة وتشاحوا؛ فلأنهم تشاحوا في السبق، والقرعة مرجحة. دليله: ما لو أراد الرجل السفر ببعض نسائه. ولأن القرعة مشروعة للترجيح في غير هذا الموضع فكذا في هذا. قال: (ويعدل بين الخصمين في لَحْظِه ولَفْظه ومجلسه والدخول عليه، إلا أن يكون أحدهما كافراً فيقدم المسلم عليه في الدخول ويرفعه في الجلوس. وقيل: يسوي بينهما). أما كون القاضي يعدل بين الخصمين المسلمين أو الكافرين فيما ذكر؛ فلما روي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ابتُليَ بالقضاءِ بين المسلمينَ فليعدل بينهم في لفظهِ وإشارتهِ ومقعده. ولا يرفعن صوتَه على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر» (¬1). وفي روايةٍ: «فليسوِّ بينهم في النظر والمجلس والإشارة». وفي كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه: «واسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا ييأسَ الضعيفُ من عدلكَ، ولا يطمع الشريفُ في حيفِك» (¬2). ولأن الحاكم إذا ميّز أحد الخصمين عن الآخر انكسر الآخر وربما لم تقم حجته فيؤدي ذلك إلى ظلمه. وأما كونه يقدم المسلم على الكافر في الدخول ويرفعه في الجلوس؛ فلما روى إبراهيم التميمي قال: «وَجَد عليٌ كرم الله وجهه درعهُ مع يهودي. فقال: درعي سقطت وقت كذا. فقال اليهودي: درعي في يدي وبيني وبينكَ قاضي المسلمين. فارتفعا إلى شريح. فلما رآه شريح قام من مجلسه وجلسَ في موضعه وجلس مع اليهودي بين يديه. فقال علي: إن خصمي لو كان مسلماً لجلستُ معه بين يديك ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 135 كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين في المدخل عليه والاستماع منهما ... (¬2) أخرجه البيهقي في الموضع السابق.

ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجالس ... وذكر بقية الحديث» (¬1). وأما كونه يساوي بينهما أيضاً كالمسلمين على قول؛ فلما تقدم من الحديث في المسلمين. والأول أولى؛ لحديث علي. وهو واجب التقديم؛ لأنه خاص والخاص يجب تقديمه. قال: (ولا يسار أحدهما، ولا يلقّنُه حجته، ولا يضيفه، ولا يعلمه كيف يدعي في أحد الوجهين، وفي الآخر يجوز له تحرير الدعوى له إذا لم يحسن تحريرها، وله أن يشفع إلى خصمه ليُنْظِره أو يضع عنه ويزن عنه). أما كون القاضي لا يسار أحد الخصمين؛ فلأن ذلك كسر قلب صاحبه وربما أدى إلى ضعفه عن إقامة حجته. وأما كونه لا يلقّنه حجتَه؛ فلأن عليه العدل بينهما، وليس في تلقينه عدل؛ لما فيه من الضَّررِ على صاحبه. وأما كونه لا يضيفه؛ فلما روي عن علي رضي الله عنه «أنه نزل به رجل. فقال له: ألك خصم؟ قال: نعم. قال: تحوّل عنا. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعهُ خصمه» (¬2). وأما كونه لا يُعلمه كيفية الدعوى في وجه؛ فلأن فيه إعانة له على خصمه. وأما كونه يجوز له تحرير الدعوى له إذا لم يحسن تحريرها في وجه؛ فلأن في ترك تعليمه سببًا إلى تأخير حقه وعدم الفصل بينه وبين غريمه. وأما كونه له أن يشفع إلى خصمه ليُنظره أو يضع عنه؛ فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل غرماء معاذ فيه، ولهذا جاء في الحديث: «لو تُرك أحدٌ من أجل أحد لتُرِكَ معاذ من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 136 كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين في المدخل عليه والاستماع منهما ... (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 137 كتاب آداب القاضي، باب لا ينبغي للقاضي أن يضيف الخصم إلا وخصمه معه.

وأما كونه له أن يَزن له عنه؛ فلما روى ابن عباس رضي الله عنه «أن رجلاً رَفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غريماً له فسأل الغريمُ أن يُنظره شهراً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنظركَ وتحمَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم المالَ عنه». قال: (وينبغي أن يُحضِر مجلسه الفقهاء من كل مذهب إن أمكن، ويشاورهم فيما يُشكلُ عليه. فإن اتضح له حكم وإلا أخّره. ولا يقلّدُ غيره وإن كان أعلم منه). أما كون القاضي ينبغي له أن يُحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب إن أمكن؛ فلأنه قد تحدث حادثة فيحتاج القاضي إلى سؤالهم عن مذهبهم وأدلتهم ولذلك قال: ويشاورهم فيما يُشكل عليه؛ لأنه إذا شاورهم ذكروا له ما يحضرهم في ذلك فيؤدي ذلك إلى إيضاح العلم له، وحصول الاجتهاد منه. وأما كونه يحكم إن اتضح له؛ فلأنه متى اتضح له الحكم لم يجز تأخيره؛ لما فيه من تأخير الحق عن موضعه. وأما كونه يؤخّره إن لم يتضح له؛ فلأن الحكم مع عدم الإيضاح لا يجوز؛ لما فيه من القضاء بجهل، الداخل في الحديث المتقدم ذكره. وأما كونه لا يقلد غيره وإن كان أعلم منه؛ فلأن المجتهد لا يجوز له تقليد غيره. دليله: المجتهدان في القبلة. قال: (ولا يقضي وهو غضبان، ولا حاقن، ولا في شدة الجوع والعطش والهم والوجع والنعاس والبرد المؤلم والحر المزعج. فإن خالف وحكم فوافق الحق نفذ حكمه، وقال القاضي: لا ينفذ. وقيل: إن عرض ذلك بعد فهم الحكم جاز وإلا فلا). أما كون القاضي لا يقضي وهو غضبان؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحكمُ أحدٌ بين اثنين وهو غضبان» (¬1) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15177) 8: 268 كتاب البيوع، باب المفلس والمحجور عليه. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 48 كتاب التفليس، باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه. (¬1) سبق تخريجه ص: 524.

ولأن القاضي إذا غضب تغير عقله ولم يستوف رأيه. وأما كونه لا يقضي وهو حاقن أو في شدة الجوع والعطش والهم والوجع والنعاس والبرد المؤلم والحر المُزعج؛ فلأن الغضب إنما مُنع من القضاء معه؛ لأن ذلك مُذهبٌ للفكر وحسن الرأي، وذلك موجود في الصور المذكورة. فوجب أن يترتب عليها ما ترتب على الغضب؛ لأن الاستواء في العلة يدل على التساوي في المعلول. وأما كونه إذا حكم مع شيء مما ذكر ينفذ حكمه؛ فلما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في شَراج الحرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال للزبير: اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر» (¬1). وأما كونه لا ينفذُ على قول القاضي؛ فلأنه ارتكب النهي، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. وأما كونه إذا عرض الغضبُ أو ما في معناه بعد فهم الحكم معه من اشتغال الفكرة المؤدية إلى عدم الإصابة، وذلك مفقود يمتنع من الحكم فيما إذا عرض بعد فهم الحكم موجود فيما إذا عرض قبله. قال: (ولا يحل له أن يرتشي، ولا يقبل الهدية إلا ممن كان يُهدي إليه قبل ولايته بشرط أن لا تكون له حكومة). أما كون القاضي لا يحل له أن يرتشي؛ فلأنه جاء في تفسير قوله تعالى: {أكَّالون للسحت} [المائدة: 42] هو الرشوة. وفي الحديث عن عبدالله بن عمر قال: «لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الراشِي والمرتَشِي» (¬2). رواه الترمذي. وهذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2233) 2: 832 كتاب المساقاة، باب شرب الأعلى إلى الكعبين. وأخرجه مسلم في صحيحه (2357) 4: 1829 كتاب الفضائل، باب وجوب ابتابعه صلى الله عليه وسلم. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3580) 3: 300 كتاب الأقضية، باب في كراهية الرشوة. وأخرجه الترمذي في جامعه (1337) 3: 623 كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2313) 2: 775 كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة.

ورواه أبو هريرة وزاد: «في الحكْم» (¬1). وأما كونه لا يحل له أن يقبل الهدية ممن لم يكن يُهدي إليه قبل ولايته؛ فلأن الهدية يُقصد بها غالباً استمالة قلب المهدي إليه؛ ليعتني في الحكم. فهي شبيهة بالرشوة. وفي الحديث: «بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد على الصدقة. فقال: هذا لكمْ وهذا أُهديَ إليّ. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمدَ الله وأثنى عليه. ثم قال: ما بالُ العامل نبعثُه فيجيءُ فيقول: هذا لكم وهذا أُهديَ إليّ. ألا! جلسَ في بيت أبيهِ وأمهِ فينظر أيهدى إليه؟ والذي نفسُ محمدٍ بيده! لا نبعثُ أحد منكم فيأخذَ شيئًا إلا جاءَ يومَ القيامة يحملهُ على رقبته ... مختصر» (¬2) متفق عليه. وأما كونه يحل له أن يقبل الهدية ممن كان يُهدي إليه قبل ولايته بشرط أن لا تكون له حكومة؛ فلأن التهمة المذكورة قبل منتفية هاهنا. ولأن المنع من ذلك إنما كان من أجل الاستمالة، أو من أجل الحكومة وكلاهما منتفٍ. وأما كونه لا يحل له أن يقبل الهدية ممن كان يُهدي (¬3) إليه إذا كان له حكومة؛ فلأن ذلك في معنى الرشوة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1336) 3: 622 كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2457) 2: 917 كتاب الهبة وفضلها، باب من لم يقبل الهدية لعلة. وأخرجه مسلم في صحيحه (1832) 3: 1463 كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال. (¬3) في د: لا يهدي. ولعل الصواب ما أثبتناه.

قال: (ويكره أن يتولى البيع والشراء بنفسه. ويستحب أن يوكّل في ذلك من لا يُعرف أنه وكيله). أما كونه يكره أن يتولى البيع أو الشراء بنفسه؛ فلأنه يُعرف فيحابى. فإذا لم يكن ذلك جائزاً فلا أقل من أن يكون مكروهاً. ولأن ذلك يشغله عن أمور المسلمين. وأما كونه يستحب له أن يوكل من لا يُعرف أنه وكيله؛ فلأن ذلك نفي للتهمة. ولأنه وسيلة إلى عدم المحاباة المطلوب شرعاً. قال: (ويستحب له عيادة المرضى وشهود الجنائز مالم يشغله عن الحكم). أما كون القاضي يستحب له عيادة المرضى وشهود الجنائز ما لم يشغله ذلك عن الحكم؛ فلأن انشغاله بالفصل بين الخصوم ومباشرة الحكم أولى من ذلك. قال: (وله حضور الولائم. فإن كثرت تركها كلها. ولم يجب بعضهم دون بعض). أما كون القاضي له حضور الولائم؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب إلى ذلك. وأما كونه يترك الولائم كلها إذا كثرت فتشغله عن الحكم ولايجيب البعض دون البعض؛ فلأن الاشتغال بالكل يشغله عن الحكم الذي هو فرض عين، وإجابة البعض دون البعض يؤدي إلى كسر قلب من لم يجيبه. قال: (ويوصى الوكلاء واللأعوان على بابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع. ويجتهد أن يكونوا شيوخاً أوكهولاً من أهل الدين والعفة والصيانة). أما كون القاضي يوصي الوكلاء والأعوان بما ذكر؛ فلأن في ذلك رفقاً بالخصوم، وتنبيهاً للأعوان على الفعل الجميل الائق بمجالس القضاة. وأماكونه يجتهد أن يكونوا شيوخاً أو كهولاً من أهل الدين والعفة والصيانة؛ فلأن في ذلك مصلحة للمسلمين، والحاكم مأمور بالاجتهاد فيها. قال: (ويتخذ كاتباًمسلماً مكلفاً عدلاً حافظاً عالماً يجلسه بحيث يشاهد ما يكتبه، ويجعل القمطر مختوماً بين يديه. ويستجيب أن لا يحكم إلا بحضرة

الشهود، ولا يحكم لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته، ويحكم بينهم بعض خلفائه، وقال أبو بكر: يجوز ذلك). أما كون القاضي يتخذ كاتباً؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم استكتبَ زيد بن ثابتَ وغيره» (¬1). ولأن الحاكم يكثر نظره في أمر المسلمين ولا يمكنه أن يتولى الكتابة بنفسه. وأما كون الكاتب مسلماً؛ فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بِطانةً من دونكم} [آل عمران: 118]. وأما كونه مكلفاً؛ فلأن غير المكلف لا يُوثق بقوله ولا يعوّل عليه فهو كالفاسق. وأما كونه عدلاً؛ فلأن الكتابة موضع أمانة. وأما كونه حافظاً عالماً؛ فلأن في ذلك إعانة على أمره. وأما كونه يجلسه بحيث يشاهد ما يكتبه؛ فلأن في ذلك إعانة على أمره، وأبعد للتهمة، وأمكن لإملائه. وأما كونه يجعل القمطر مختوماً بين يديه؛ فلأن ذلك أحفظُ له، وأبعد من أن يغيّره مغيّر. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 126 كتاب آداب القاضي، باب اتخاذ الكتاب.

فصل [فيما يبتدئ فيه القاضي] قال المصنف رحمه الله: (وأولُ ما ينظر في أمر المحبسين. فيبعث ثقة إلى الحبس فيكتب اسم كل محبوس ومن حبسه وفيم حبسه في رقعة منفردة، ثم ينادي في البلد أن القاضي ينظر في أمر المحبسين غداً، فمن له منهم خصم فليحضره، فإذا كان الغد وحضر القاضي أحضر رقعة فقال: هذه رقعة فلان فمن خصمه؟ فإن حضر خصمه نظر بينهما، فإن كان حُبس في تهمةٍ أو افتياتٍ على القاضي قبله خلى سبيله. وإن لم يحضر له خصم وقال: حُبستُ ظلماً ولا حق عليّ ولا خصم لي نادى بذلك ثلاثاً، فإن حضر له خصم وإلا حلفه وخلى سبيله). أما كون القاضي أول ما ينظر في أمر المحبسين؛ فلأن الحبس عذابٌ وربما كان فيه من لا يستحق البقاء فيه. وأما كونه يبعث ثقة إلى الحبس فيكتبُ اسم كل محبوس ومن حبسه وفيم حبسه في رقعة منفردة؛ فلأن ذلك طريق إلى معرفة الحال على ما هي عليه. وأما كون الثقة الذي يبعثه القاضي ينادي بالنداء المذكور؛ فلأن في ذلك إعلاماً بيوم جلوس القاضي. وأما كون القاضي إذا كان الغد وحضر أحضر رقعة وقال: هذه رقعة فلان فمن خصمه؟ ؛ فلأنه لا يمكنه الحكم إلا بذلك. وأما كونه ينظر بين الخصمين إذا حضرا؛ فلأنه له ذلك. وأما كونه يخلى سبيل من حبس في تهمةٍ أو افتياتٍ على القاضي قبله؛ فلأن بقائهما في الحبس ظلم. وأما كونه ينادى ثلاثاً بحال من لم يحضر له خصم في اليوم الذي جلس فيه القاضي وقال: حُبستُ ظلماً ولا حق عليّ ولا خصمَ لي؛ فلأن ذلك طريق إلى استعلام حال المحبوس، وهل هو مستحِقٌ للحبس أم لا؟ .

وأما كونه يُحلف من لم يحضر له خصم ويخلي سبيله؛ فلأن الظاهر صدقه إذ لو كان له خصم لحضر. قال: (ثم ينظرُ في أمر الأيتام والمجانين والوقوف. ثم في حال القاضي قبله، فإن كان ممن يصلح للقضاء لم ينقض من أحكامه إلا ما خالف نص كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعاً. وإن كان ممن لا يصلح نَقَضَ أحكامه وإن وافقت الصحيح. ويحتمل أن لا ينقض الصواب منها). أما كون القاضي ينظر في أمر الأيتام والمجانين والوقوف بعد النظر في أمر المحبسين؛ فلأن المنظور عليه لا يمكنه المطالبة؛ لأن الصبي والمجنون لا قول لهما. وأرباب الوقوف؛ كالفقراء والمساكين لا يتعيَّنون. وأما كونه ينظر في حال القاضي قبله فظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا على أن القاضي المتولي يتبع قضايا القاضي قبله؛ لأنه يحتمل أن يكون مصيباً، ويحتمل أن لا يكون مصيباً. وقال في المغني: ليس عليه ذلك؛ لأن الظاهر صحة قضايا من قبله وصوابُها. وأنه لا يُولى إلا من هو أهلُ الولاية. وهذا صحيح لكن في غير قُضاة هذا الزمان. فعلى هذا يترجح وجوب تتبّعها. وأما كونه لا ينقض من أحكام من يصلح للقضاء ما لم يخالف ما ذكره؛ فلأنه يؤدي إلى أنه لا يثبت حكم أصلاً؛ لأن الحاكم الثالث يخالف الثاني، والرابع يخالف الثالث وهلم جرَّا. ولذلك أن عمر رضي الله عنه خالف أبا بكر في مسائل، وخالف علي عمر في مسائل، ولم ينقض واحد منهما على الآخر. وفي الحديث: «أن أهل نجران جاؤوا إلى علي. فقالوا: يا أمير المؤمنين! كتابكَ بيدكَ وشفاعتُكَ بلسانك. فقال: ويحكم! إن عمرَ كان رشيدَ الأمر. ولا أردُ قضاء قضى به عمر» (¬1). رواه سعيد.

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 120 كتاب آداب القاضي، باب من اجتهد من الحكام ثم تغير اجتهاده ...

وروي «أن عمر حكم في المشرّكة بإسقاط الأخوة من الأبوين. ثم شرّك بينهم بعد، وقال: تلك على ما قضينا وهذا على ما قضينا» (¬1). وقضى في الجد بقضايا مختلفة الحال (¬2). وأما كونه ينقض ما خالف نص كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعاً؛ فلأنه حكم لم يصادف شرطه. فوجب نقضه. بيان مخالفة الشرط: أن الشرط الاجتهاد وعدم مخالفة ما ذكر. ولأنه إذا وجد ذلك فقد فرّط. فوجب نقض حكمه؛ كما لو حكم بشهادة كافرين. إذا ثبت هذا فظاهر إطلاق المصنف رحمه الله هنا أن القاضي المتولي ينقض حكم القاضي قبله سواء كان من حقوق الله أو حقوق الآدميين. وفي المغني: إن كان الحق لله؛ كالعتاق والطلاق نقضه؛ لأن له النظر في حقوق الله سبحانه، وإن كان يتعلق بحقوق الآدميين لم ينقضه إلا بمطالبة صاحبه؛ لأن الحاكم لا يستوفي حقاً لمن لا ولاية له عليه من غير مطالبة. وأما كونه ينقض أحكام من لا يصلح للقضاء إذا لم توافق الصحيح؛ فلأن حكمه غير صحيح، وقضاؤه كلا فضاء؛ لعدم شرط القضاء فيه. ولأن المانع من نقض حكم الصالح للقضاء نقض الاجتهاد بالاجتهاد وهو مفقود هاهنا؛ لأن الأول ليس باجتهاد بحال. وأما كونه ينقض أحكامه إذا وافقت الصحيح على المذهب؛ فلما ذكر. وأما كونه يحتمل أن لا ينقض أحكامه الصواب منها؛ فلعدم الفائدة في ذلك. وهذا الاحتمال أصح؛ لما ذكر. ولأن الحق وصل إلى مستحقه. فلم يجز نقض الحكم به؛ كحكم الصالح للقضاء. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في سننه (648) 1: 112 في المقدمة، باب الرجل يفتي بالشيء ثم غيّره. (¬2) ر. سنن سعيد بن منصور 1: 47.

قال: (وإن استعداه أحد على خصم له أحضره. وعنه: لا يحضره حتى يعلم أن لما ادعاه أصلاً). أما كون القاضي يحضر من استعدي عليه قبل علمه بمعاملة جرت لعين المستعدي والمستعدى عليه على المذهب؛ فلأن في تركه تضييعاً للحقوق وإقراراً للظلم؛ لأنه قد يكون للمستعدي على المستعدى عليه حق من غصبٍ أو وديعةٍ أو عاريةٍ أو غير ذلك، ولا يُعلم بينهما معاملة. فإذا لم يُعد عليه سقط حقه. وأما كونه لا يحضره حتى يعلم أن لما ادعاه أصلاً على روايةٍ؛ فلأنه مروي عن علي رضي الله عنه. ولأن في إعداء كل مستعدٍ على مستعدى عليه تبذل أهل المروءات، وإهانة ذوي الهيئات. وربما استعدى شخص على من لا حق له عليه؛ ليفتدي المدعى عليه نفسه من حضوره وشر خصمه. والأول أصح؛ لأن ضرر فوات الحق أعظم من حضور مجلس الحكم. قال: (وإن استعداه على القاضي قبله سأله عما يدّعيه فإن قال: لي عليه دَين من معاملةٍ أو رشوةٍ: راسله. فإن اعترفَ بذلك أمره بالخروج منه. وإن أنكر وقال: إنما يريد تبذيلي، فإن عرف أن لما ادعاه أصلاً أحضره وإلا فهل يحضره؟ على روايتين). أما كون القاضي المتولي يسأل المستعدي على القاضي قبله عما يدّعيه؛ فلأن في بعض الأحوال يلزمه إحضار القاضي قبله وفي بعضها لا يلزمه. فلم يكن بد من السؤال؛ ليتميز الحال من الحال. وأما كونه يراسله إذا ادعى المستعدي ديناً أو رشوة؛ فلأن الطريق إلى استخلاص حق المستعدي: إما المراسلة أو الإحضار، والإحضار فيه امتهان القاضي وتبذيله، وتطرق أعدائه مع كثرتهم إلى قصد ذلك. وإذا تعذر الإحضار تعين مراسلته؛ لتعينها إلى استخلاص الحق. ولم يذكر المصنف رحمه الله في المغني المراسلة إليه بل قال: إن ذكر -يعني المستعدي- أنه يدعي عليه حقاً من دَين أو غصب أعداه عليه كغير القاضي. والأول أظهر من حيث الدلائل؛ لأنه لا بد من مزية القاضي على غيره.

وأما كونه يأمره بالخروج مما ادعى عليه إذا اعترف به؛ فلأن الحق توجه عليه باعترافه. وأما كونه يحضره إذا أنكر وعَرفَ المتولي أن لما ادعاه المستعدي أصلاً؛ فلأن ذلك تعين طريقاً إلى استخلاص حق المستعدي. وأما كونه إذا لم يعرف لما ادعاه على القاضي قبله أصلاً هل يحضره؟ على روايتين كغير القاضي؛ فلما تقدم من ذكر ذلك وتعليله فيه. قال: (وإن قال: حكم عليّ بشهادة فاسقين فأنكر فالقول قوله بغير يمين. وإن قال الحاكم المعزول: كنتُ حكمت في ولايتي لفلان على فلان بحقٍ قبل قوله. ويحتمل أن لا يقبل). أما كون القول قول القاضي إذا ادُعي عليه أنه حكم بشهادة فاسقين فأنكر فإنه لو لم يقبل قوله في ذلك؛ لتطرق المدعى عليهم إلى إبطال ما عليهم من الحقوق بالقول المذكور، وفي ذلك ضرر عظيم. وأما كون ذلك بغير يمين؛ فلأن اليمين للتهمة، والقاضي ليس من أهلها. وأما كون القول قوله إذا قال بعد عزله: كنتُ حكمتُ لفلان على فلان بحقٍّ على المذهب؛ فلأن عزله لا يمنع من قبول قوله. بدليل ما لو كتب كتاباً إلى قاضٍ آخر ثم عزل فإنه يلزم الواصل إليه قبوله بعد عزل صاحبه. ولأنه أخبر بما حكم به وهو غير متهم. فوجب قبول قوله؛ كحال الولاية. وأما كونه يحتمل أن لا يقبل؛ فلأنه في حال ولايته لا يحكم بعلمه فبعد عزله بطريق الأولى. والأول أولى؛ لما تقدم. وإخباره عن حكمه ليس حكماً بعلمه. بدليل ما لو قال شخص: حكمتَ أن لي حداً على فلان. فذَكَر الحاكم. فإن له أن يحكم به. قال: (وإن ادُعي على امرأة غير برزة لم يحضرها وأمرها بالتوكيل. وإن وجبت عليها اليمين أرسل إليها من يحلفها). أما كون القاضي إذا ادعي على امرأةٍ غير بَرْزَة. وهي: التي لا تبرز لقضاء حوائجها: لا يحضرها؛ فلأن في إحضارها مشقة عليها، وحرجاً وضرراً شديداً.

وقد نبَّهَ الشرع على ذلك حيث قال: «واغدُ يا أنيس إلى امرأةِ هذا فإن اعترفتْ فارجمها» (¬1). وأما كونه يأمرها بالتوكيل؛ فلأجل فصل الخصومة بينها وبين خصمها. وأما كونه يرسل إليها من يُحلّفها إذا وجب عليها اليمين؛ فلأن إحضارها غير مشروع، واليمين لا بد منها فتعين ذلك طريقاً لذلك. قال: (وإن ادعى على غائبٍ عن البلد في موضعٍ لا حاكم فيه كتب إلى ثقاتٍ من أهل ذلك الموضع ليتوسطوا بينهما. فإن لم يقبلوا قيل للخصم: حقق ما تدعيه. ثم يحضره وإن بعُدت المسافة). أما كون القاضي يكتب لمن ادعى على غائب عن البلد في موضع لا حاكم فيه إلى ثقاتٍ من أهل ذلك الموضع ليتوسطوا بينهما؛ فلأن ذلك طريق إلى قطع الخصومة مع عدم المشقة الحاصلة بالإحضار. وأما كونه إذا لم يقبلوا يقول للخصم المدعي: حقق ما تدعيه ثم يحضر خصمه قربت المسافة أو بعُدت؛ فلأنه لا بد من فصل الخصومة. فإذا لم يمكن إلا بذلك تعين فعله وإن تضمّن مشقة؛ كما لو امتنع الخصم الحاضر في البلد من الخصومة فإنه يؤدب ويعزر. فإن قيل: يمكن أن يرسل من يقضي بينهما. قيل: المشقة الحاصلة بالإرسال أكثر من المشقة الحاصلة بإحضار الخصم. وعلى تقدير التساوي فالخصم أولى بحمل المشقة؛ لأنه المستعدى عليه. وفي تقييد الموضع بأنه لا حاكم فيه إشعار بأنه إذا كان فيه حاكم لا يفعل ذلك. وهو صحيح؛ لأن فصل الخصومة في بلد الخصم يمكنه. فلم يجز تكلف المشقة مع إمكان الفصل بدونها. فإن قيل: قد يكون شهوده ببلد القاضي إليه دون بلد الخصم. قيل: يثبت حقه في موضع شهوده ثم يكتب القاضي كتاباً إلى بلد الخصم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2575) 2: 971 كتاب الشروط، باب الشروط التي لا تحل في الحدود. وأخرجه مسلم في صحيحه (1697) 3: 1324 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى.

باب طريق الحكم وصفته

باب طريق الحكم وصفته قال المصنف رحمه الله: (إذا جلس إليه خصمان فله أن يقول: من المدعي منكما؟ وله أن يسكت حتى يبتدئا. فإن سبق أحدهما بالدعوى قدمه. وإن ادعيا معاً قدم أحدهما بالقرعة. فإذا انقضت حكومته سمع دعوى الآخر ثم يقول للخصم: ما تقول فيما ادعاه؟ . ويحتمل أن لا يملك سؤاله حتى يقول المدعي: اسأل سؤاله عن ذلك). أما كون المتحاكم إليه له أن يقول للخصمين: من المدعي منكما؟ ؛ فلأن ذلك طريق إلى معرفة المدعي من المدعى عليه. وأما كونه له أن يسكت حتى يبتدئَ المبتدئُ منهما؛ فلأن كلامه يستدعي طالباً له ولم يوجد. وأما كونه يقدّم السابق بالدعوى؛ فلأنه ترجح جانبه بسبقه. وأما كونه يقدّم أحدهما بالقرعة إذا تداعيا معاً؛ فلأنها مرجحة عند الازدحام. بدليل: الإمامة والأذان. وأما كونه يسمع دعوى الآخر إذا انقضت حكومة السابق؛ فلأن التزاحم قد زال. وأما كونه يقول للخصم المدعى عليه: ما تقول فيما ادعاه؟ على المذهب؛ فلأن شاهد الحال يدل عليه؛ لأن إحضار الخصم والدعوى عليه إنما يُرادان ليقول الحاكم للمدعى عليه ذلك. وأما كونه يحتمل أنه لا يملك سؤاله حتى يقول المدعي: اسأل سؤاله عن ذلك؛ فلأن الخصم لو أقر لم يملك الحاكم الحكم قبل المطالبة به فكذا السؤال.

قال: (فإن أقرّ له لم يحكم له حتى يُطالبه المدعي بالحكم. وإن أنكر مثل أن يقول المدعي: أقرضته ألفاً أو بعته فيقول: ما أقرضني ولا باعني، أو ما يستحقُ عليّ ما ادعاه ولا شيئاً منه، أو لا حق له عليّ: صح الجواب). أما كون الحاكم لا يحكم على المدعى عليه إذا أقر حتى يُطالبه المدعي بالحكم؛ فلأن الحكم على المدعى عليه حق للمدعي. فلم يجز استيفاؤه إلا بمسألة مستحقه. وأما كون جواب المدعى عليه صحيحاً إذا أنكر بنفي عين ما ادعاه المدعي، مثل أن يقول المدعي: أقرضته ألفاً فيقول المدعى عليه: ما أقرضني ذلك ولا شيئاً منه. أو يقول: بعته فيقول: ما باعني. أو ما أشبه ذلك فلا شبهة فيه؛ لنفيه عين ما ادعي عليه. وأما كونه صحيحاً إذا أنكر بنفي معنى ما ادعاه؛ مثل أن يقول: أقرضته أو بعته فيقول المدعى عليه: ما يستحق عليّ ما ادعاه ولا شيئاً منه؛ فلأنه يفيد نفي ما ادعى عليه. أشبه ما تقدم. فإن قيل: لو قال: لا حق له عليّ. قيل: يكون جوابه أيضاً صحيحاً؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم. فتصير بمنزلة قوله: ما يستحق عليّ ما ادعاه ولا شيئاً منه. قال: (وللمدعي أن يقول: لي بينة. وإن لم يقل قال الحاكم: ألك بينة؟ . فإن قال: لي بينة أمره بإحضارها، فإذا أحضرها سمعها الحاكم وحكم بها إذا سأله المدعي). أما كون المدعي له أن يقول: لي بينة؛ فلأن الحق له، والبينة طريق إلى تخليص حقه. وأما كونه إذا لم يقل ذلك يقول الحاكم له: ألك بينة؟ ؛ فلما روي «أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم حضرمي وكندي. فقال الحضرمي: يا رسول الله! إن هذا غلبَني على أرضٍ لي. فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي وليسَ له فيها

حق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه» (¬1). رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأما كونه إذا قال: لي بينة يأمره بإحضارها؛ فلأن إحضارها طريق إلى تخليص الحق. وقال المصنف رحمه الله في المغني: إذا ذكر -يعني المدعي- أن له بينة حاضرة لم يقل له الحاكم: أحضرها؛ لأن ذلك حق له فله أن يفعل ما يرى. وطريق الجمع بين نقله هنا وبين نقله في المغني: أن يحمل أمره بالإحضار على الإذن له فيه؛ لأن حمل الأمر على حقيقته ينافيه. ذكره المصنف رحمه الله في المغني، وينافي الدليل أيضاً. وأما كونه إذا أحضر بينة يسمعها الحاكم؛ فلأن الإحضار من أجل السماع. فإن قيل: كيف صفة ما يفعل الحاكم حتى يحصل له السماع؟ قيل: إذا حضرت البينة لا يقول الحاكم لها: قولي ما عندك بل يقول: من كانت عنده شهادة فليذكره إن شاء ما عنده. وأما كون الحاكم يحكم بالبينة إذا سأله المدعي الحكم ببينته؛ فلأن الغرض من الدعوى وحضور البينة وسماعها: الحكم. قال: (ولا خلاف في أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبينة في مجلسه إذا سمعه معه شاهدان. فإن لم يسمعه معه أحد أو سمعه معه (¬2) شاهد واحد فله الحكم به. نص عليه، وقال القاضي: لا يحكم به). أما كون الحاكم لا خلاف في أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبينة في مجلس حكمه إذا سمعه معه شاهدان؛ فلأن التهمة الموجودة في الحكم بالعلم منتفية هاهنا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (139) 1: 123 كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار. وأخرجه أبو داود في سننه (3245) 3: 221 كتاب الأيمان والنذور، باب فيمن حلف يميناً ليقتطع بها مالاً لأحد. وأخرجه الترمذي في جامعه (1340) 3: 625 كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. (¬2) زيادة من المقنع.

وأما كونه له الحكم به إذا لم يسمعه معه أحد أو سمعه معه شاهد واحد على المنصوص عن الإمام أحمد؛ فلأن الحكم إذاً ليس محض حكمٍ بعلم. وأما كونه لا يحكم به على قول القاضي؛ فلأنه حكم بعلمه، وذلك لا يجوز؛ لما يأتي إن شاء الله تعالى. قال: (وليس له الحكم بعلمه مما رآه أو سمعه. نص عليه وهو اختيار الأصحاب. وعنه: ما يدل على جواز ذلك سواء كان في حدٍ أو غيره). أما كون الحاكم ليس له الحكم بعلمه على المذهب واختيار الأصحاب؛ فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، ولعل بعضكمْ أن يكونَ ألحنَ بحجتهِ من بعض فأقضي له على نحوِ ما أسمعُ منه» (¬1). فدل على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم. وفي حديث الحضرمي والكندي: «شاهداكَ أو يمينه. ليس لكَ منه إلا ذاك» (¬2). وأما كونه يجوز له ذلك على روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. قال: خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف» (¬3). فحكم لها من غير بينة ولا إقرار؛ لعلمه بصدقها. وروى ابن عبدالبر في كتابه: أن عروة ومجاهداً رويا «أن رجلاً من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حداً في موضع كذا وكذا. فقال عمر: إني لأعلمُ الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان فأتني بأبي سفيان. فأتاه به. فقال له عمر: يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا ونظر عمر فقال: يا أبا سفيان! خذْ هذا الحجر من هاهنا فضعه هاهنا. فقال: والله لا أفعل. فقال: والله! لتفعلن. فقال: والله لا أفعل. فعلاه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6748) 6: 2622 كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1713) 3: 1337 كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (139) 1: 123 كتاب الأيمان، باب وعيد من اقتطع حق المسلم بيمين فاجرة بالنار. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5049) 5: 48 كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها. وأخرجه مسلم في صحيحه (1714) 3: 1338 كتاب الأقضية، باب قضية هند.

بالدرّة وقال: خذه لا أمَّ لك وضعه هاهنا ما علمت قد تم. فأخذ أبو سفيان الحجر فوضعه حيث قال عمر. ثم إن عمر استقبل القبلة وقال: الحمدُ لله. اللهم! لكَ الحمدُ حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام. فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال: اللهم! لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلتَ في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر». فحكم بعلمه. ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين؛ لأنهما يغلبان على الظن. فلأن يحكم بما تيقنه وتحققه أولى. وأما كون الحاكم يجوز له الحكم بعلمه سواء كان في حدٍ أو غيره؛ فلأن المصحح للحكم المذكور العلم وهو موجود فيهما. والرواية الأولى أصح؛ لما تقدم. وأما حديث هند فلم يحكم لها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وإنما أفتاها به بدليل أنه قال ذلك بغير حضور أبي سفيان إذ الحكم على الحاضر في غيبته غير جائز. وأما حديث عمر فمعارض بما روي عن عمر «أنه تداعى عنده رجلان. فقال أحدهما: أنت شاهدي. فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد» (¬1). وأما قياس اليقين على الظن فلا يصح؛ لقيام الفرق بينهما. وهو: أن الحكم بعلمه فيه تهمة. بخلاف الحكم بالشهادة. قال: (وإن قال المدعي: ما لي بينة فالقول قول المنكر مع يمينه. فيعلمه أن له اليمين على خصمه. فإن سأل إحلافه أحلفه وخلى سبيله. وإن أحلفه أو حلف هو من غير سؤال المدعي لم يُعتد بيمينه). أما كون القول فيما ذكر قول المنكر؛ فلأن الأصل براءة ذمته. وأما كون ذلك مع يمينه؛ فلاحتمال كون المدعي مُحقاً. وأما كون الحاكم يُعلم المدعي أن له على خصمه اليمين؛ فلأنه موضع حاجة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (21924) 4: 445 كتاب البيوع، الرجل يدعي شهادة القاضي أو الوالي.

وأما كونه يحلف المدعى عليه إذا سأله المدعي ذلك؛ فلأن اليمين طريق إلى تخليص حقه. فلزم الحاكم إجابة المدعي إليه؛ كسماع البينة. وأما كونه يخلي سبيله إذا أحلفه؛ فلأنه لم يتوجه عليه حق. وأما كونه إذا أحلفه أو حلف هو من غير سؤال المدعي لا يُعتد بيمينه؛ فلأنه أتى باليمين في غير موضعها. قال: (وإن نكل قضى عليه بالنكول. نص عليه واختاره عامة شيوخنا فيقول له: إن حلفتَ وإلا قضيتُ عليك ثلاثاً، فإن لم يحلف قضى عليه إذا سأله المدعي ذلك، وعند أبي الخطاب ترد اليمين على المدعي وقال: قد صوّبه أحمد وقال: ما هو ببعيد يحلف ويأخذ فيقال للناكل: لك رد اليمين على المدعي، فإن ردها حلف المدعي وحكم له. وإن نكل أيضاً صرفهما). أما كون الحاكم يقضي على المدعي بالنكول؛ فلأن اليمين لا ترد على المدعي؛ لما يأتي. فيتعين القضاء بالنكول؛ لتعينه طريقاً إلى تخليص الحق، ودفعه إلى مستحقه. ولأن النكول عن اليمين يدل على صدق المدعي؛ لأنه لو كان كاذباً لحلف المدعى عليه على نفي دعواه. وأما كونه يقول للمدعى عليه: إن حلفتَ وإلا قضيتُ عليك ثلاثاً؛ فلأن النكول ضعيف. فوجب اعتضاده بالتكرار. وأما كونه يقضي على الناكل بشرط سؤال المدعي القضاء على المدعى عليه؛ فلأن القضاء حق للمدعي لا يفعل إلا بسؤاله. فإن قيل: يشترط في القضاء بالنكول شيء آخر. قيل: نعم. وذلك أن لا يقال برد اليمين على المدعي وذلك هو المنصوص عن الإمام أحمد. والأصل فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولكن اليمينَ على المدعَى عليه» (¬1). حصر اليمين في جانب المدعى عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4277) 4: 1656 كتاب التفسير، باب {إن الذين يشترون بعهد الله ... }. وأخرجه مسلم في صحيحه (1711) 3: 1336 كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البينةُ على المدعِي. واليمين على المدعَى عليه» (¬1) جعل جنس اليمين في جنبة المدعى عليه كما جعل جنس البينة في جنبة المدعي. وقال أبو الخطاب: ترد اليمين عليه؛ لما روى نافع عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ اليمينَ على طالبِ الحق» (¬2). فعلى هذا يقال للناكل: لك رد اليمين؛ لأنه موضع حاجة. أشبه قوله: لك يمينه. فإن ردها حلف المدعي وحكم له بالحق المدعى به؛ لأنه قد استكمل الشروط المعتبرة. وإن نكل أيضاً صرفهما؛ لأنه لم يترجح أحدهما على صاحبه. فوجب بقاؤهما على ما كانا عليه. قال: (فإن عاد أحدهما فبذل اليمين لم يسمعها في ذلك المجلس حتى يحتكما في مجلسٍ آخر. وإن قال المدعي: لي بينة بعد قوله: ما لي بينة لم تسمع. ذكره الخرقي. ويحتمل أن تسمع). أما كون الحاكم لا يسمع اليمين إذا بُذلت بعد النكول في المجلس المذكور؛ فلأن اليمين فعله وهو قادر عليها فامتناعه منها يجب أن يكون مسقطاً لها. وأما كونه يسمعها في مجلسٍ آخر؛ فلأن الدعوى فيه تصير محاكمة أخرى. وأما كونه لا يسمع البينة بعد قوله: ما لي بينة على ما ذكره الخرقي؛ فلأن سماع البينة يحقق كذبه. فيعود الأمر على خلاف المقصود. وأما كونه يحتمل أن يسمعها؛ فلأنه يحتمل أنه نفى أن تكون له البينة بناء على أنه ما علم ذلك، ولو صرح بذلك سُمعت؛ لما يأتي فكذلك هاهنا. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1341) 3: 626 كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (24) 4: 213 كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري. وفي إسناده محمد بن مسروق. وهو لا يعرف. وإسحاق بن الفرات مختلف فيه.

قال: (وإن قال: ما أعلم لي بينة. ثم قال: قد علمت لي بينة سُمعت. وإن قال شاهدان: نحن نشهد لك فقال: هذان بينتي سُمعت. وإن قال: ما أريد أن تشهدا لي لم يُكلّف إقامة البينة). أما كون بينة المدعي تُسمع إذا قال: ما أعلم لي بينة ثم قال: قد علمت لي بينة؛ فلأن إقامته البينة لا يلزم منها كذبه؛ لأن علمه بها مع عدم علمه يتصور صدقه فيهما. بخلاف ما تقدم. وأما كونها تُسمع إذا قال: ما أعلم لي بينة فقال شاهدان: نحن نشهد بحقك؛ فلأن قول الشاهدين يجعل المدعي عالماً بأن له بينة فيصير بمنزلة ما لو قال: لا أعلم ثم قال: علمت بل أولى؛ لأنه هاهنا لا يُتهم. بخلاف ما إذا قال: ما أعلم ثم قال: علمت. وأما كون صاحب البينة لا يُكلَّف إقامة بينته إذا قال للشاهدين: ما أريد أن تشهدا لي؛ فلأن إقامتها حقٌ له، والإنسان لا يكلف أن يفعل حقه. قال: (وإن قال: لي بينة وأريد يمينه: فإن كانت غائبة فله إحلافه. وإن كانت حاضرة فهل له ذلك؟ على وجهين). أما كون من ذكر له إحلافه مع غيبة البينة؛ فلأن ذلك تعين طريقاً إلى استخلاص حقٍّ ودفعه إلى مستحقه. وأما كونه له ذلك مع حضور البينة على وجه؛ فلأنه أقرب لفصل الخصومة؛ لأن المدعى عليه ربما نكل. فعجّل فصل الخصومة. وأما كونه ليس له ذلك على وجه؛ فلأن فصل الخصومة لإحضار البينة فلا حاجة إلى اليمين. قال: (وإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينته حُكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق). أما كون الحاكم يحكم بالبينة فيما ذكر؛ فلأن حق المدعي ظهر بها. وأما كون اليمين لا تكون مزيلة للحق؛ فلأن عمر رضي الله عنه قال: «البينةُ الصادقةُ أحبُ إليّ من اليمين الفاجرة». وظاهر البينة المذكورة الصدق فيلزم فجور اليمين المتقدمة فتكون البينة أولى منها.

ولأن اليمين لو أزالت الحق لاجترأ الفسقة على أخذ أموال الناس. قال: (وإن سكت المدعى عليه فلم يُقر ولم يُنكر قال له القاضي: إن أجبتَ وإلا جعلتُكَ ناكلاً وقضيتُ عليك. وقيل: يحبسه حتى يجيب). أما كون القاضي يقول للمدعى عليه: إن أجبتَ وإلا جعلتكَ ناكلاً وقضيتُ عليك على المذهب؛ فلأنه لو نكل لقال له: إن حلفتَ وإلا قضيتُ عليك فكذا إذا سكت يقول له: إن أجبتَ وإلا جعلتك ناكلاً وقضيتُ عليك. والجامع بينهما: أن كل واحد من القولين طريق إلى ظهور الحق وقد وجب أحدهما في موضعه فليجب الآخر في موضعه. وأما كونه يحبسه حتى يجيب على قول؛ فلأن اليمين حقٌ عليه. فإذا امتنع من فعلها وجب حبسه؛ كما لو أقر بمالٍ وامتنع من أدائه. قال: (فإن قال: لي مخرجٌ مما ادعاه لم يكن مجيباً. وإن قال: لي حسابٌ أريد أن أنظرَ فيه لم يلزم المدعي إنظاره). أما كون المدعى عليه لا يكون مجيباً إذا قال: لي مخرجٌ مما ادعاه؛ فلأن الإجابة إما بالإقرار أو بالإنكار، ولم يوجد واحد منهما. ولأنه لو جُعل ما ذكر إجابة لاتخذ المبطلة ذلك القول ذريعة إلى إسقاط اليمين عنهم، وأكل أموال الناس بالباطل. وأما كون المدعي لا يلزمه إنظار المدعى عليه إذا قال: لي حسابٌ أريد أن أنظرَ فيه؛ فلأن في ذلك تأخيراً لحق الطالب له. فلم يلزم به؛ لما فيه من تأخير حقه. ولأنه لو لزم الإنظار بذلك لاتخذه الناس وسيلةً إلى تأخير الحق والمدافعة عنه. وفي ذلك ضررٌ شديد. قال: (وإن قال: قد قضيته أو أبرأني ولي بينة بالقضاء أو بالإبراء وسأل الإنظار أُنظر ثلاثاً، وللمدعي ملازمته. فإن عجز حلف المدعي على نفي ما ادعاه واستحق). أما كون مدعي القضاء أو الإبراء يُنظر ثلاثاً؛ فلأن بينته لا تتكامل في أقل من ذلك ظاهراً.

وأما كون مدعي الحق له ملازمته؛ فلأن جنبته أقوى منه. ولأن حقه قد ثبت في الظاهر. ودعوى الإبراء الأصل عدمها (¬1). وأما كون المدعي يحلف على نفي ما ادعى عليه من القضاء أو الإبراء إذا عجز المدعى عليه عن إقامة بينته؛ فلأنه مدعىً عليه بذلك، ومن ادُعي عليه بشيء ولا بينة عليه حلف على نفي ما ادعي عليه. وأما كونه يستحق ما ادعى به بعد ذلك؛ فلأن المدعى عليه أقر بالمدعى به وادعى إسقاطه بالقضاء أو بالإبراء، ولم يظهر واحد منهما. فوجب أن يستحق ما ادعاه عملاً بالمقتضي له السالم عن معارضة القضاء والإبراء. قال: (فإن ادعى عليه عيناً في يده فأقر بها لغيره جُعل الخصم فيها. وهل يحلف المدعى عليه؟ على وجهين). أما كون المقر له يُجعل الخصم في العين المدعى بها؛ فلأنه بإقرار صاحب اليد أن العين له وهي محل الخصومة. فتعين أن يكون المقر له الخصم فيها. وأما كون المدعى عليه يحلف على وجه؛ فلأنه لو أقر لزمه غرامة بدل العين؛ كما لو قال من في يده شيء: هذا لزيد. ثم قال: لعمرو. ومن لزمته الغرامة عند الإقرار لزمته اليمين عند الإنكار. وأما كونه لا يحلف على وجه؛ فلأن الخصومة انتقلت إلى غيره. فوجب أن ينتقل اليمينُ إلى ذلك الغير. قال: (فإن كان المقرُ له حاضراً مكلفاً سُئل. فإن ادعاها لنفسه ولم تكن له بينة حلف وأخذها. وإن أقر بها للمدعي سُلمت إليه. وإن قال: ليست لي ولا أعلم لمن هي سُلمت إلى المدعي في أحد الوجهين، وفي الآخر: لا تُسلم إليه إلا ببينة، ويجعلها الحاكم عند أمين). أما كون المقر له يُسأل إذا كان حاضراً مكلفاً؛ فلأن الحال تختلف فإذا سُئل تبين المدعي من غيره. ¬

_ (¬1) العبارة غير واضحة في د. وقد استظهرناها بالاستعانة بالكافي 4: 239.

وأما كونه يحلف إذا ادعى العين لنفسه ولم تكن له بينة؛ فلأنه كالمدعى عليه وقد أنكر فيجب أن يحلف؛ لقوله عليه السلام: «واليمينُ على من أنكر» (¬1). وأما كونه يأخذ العين المقر بها إذا حلف؛ فلأنه ظهر كونها له بإقرار مَن العين في يده واندفعت خصومة المدعي. فوجب الأخذ عملاً بالمقتضي السالم عن المعارض. وأما كون العين تسلم إلى المدعي إذا أقر له بها المقر له؛ فلأن اليد صارت للمقر له بإقرار صاحب اليد فإذا أقر بها المقر له للمدعي وجب تسليمها إليه؛ كما لو ادعى شخصٌ عيناً في يد شخصٍ فأقر بها له. وأما كونها تسلم إليه إذا قال المقر له: ليست لي ولا أعلم لمن هي في وجه؛ فلأنه يدعيها وغيره لا يدعيها فالظاهر أنها له لسلامتها عن مدع. ولأن من هي في يده لو ادعاها ثم نكل قُضي بها للمدعي؛ فلأن يقضى بها له مع عدم ادعائه لها أولى. وأما كونها لا تُسلم إليه إلا ببينة في وجه؛ فلأنه لم يثبت كونه مستحقها. فعلى هذا يجعلها الحاكم عند أمين؛ لأن ذلك مال ضائع، والأموال الضائعة يحفظها الحاكم عند أمنائه. قال: (وإن أقر بها لغائب أو صبي أو مجنون سقطت عنه الدعوى. ثم إن كان للمدعي بينة سُلمت إليه. وهل يحلف؟ على وجهين. وإن لم تكن له بينة حلف المدعى عليه أنه لا يلزمه تسليمها إليه وأقرت في يده؛ إلا أن يقيم بينة أنها لمن سمى فلا يحلف. وإن أقر بها لمجهول قيل له: إما أن تعرّفه أو نجعلك ناكلاً). أما كون الدعوى تسقط عن المقر المذكور؛ فلأن الدعوى صارت على غيره. وأما كون العين تسلم إلى المدعي إذا كانت له بينة؛ فلأن جانبه ترجح بالبينة. وأما كون المدعي يحلف على وجه؛ فلأن الغائب والصبي والمجنون لا يقوم واحد منهم بالحجة فاحتاج إلى اليمين لتتأكد البينة. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 550.

وأما كونه لا يحلف على وجه؛ فلأن البينة وحدها كافية. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البينةُ على المدعِي واليمينُ على من أنكر» (¬1). فجعل البينة في جانب واليمين في الآخر. وأما كون المدعى عليه يحلف أن العين لا يلزمه تسليمها إلى المدعي إذا لم يكن للمدعي بينة ولم يقم المدعى عليه بينة أن المدعى به لمن سمى؛ فلأنه لو أقر له لزمه الدفع، ومن لزمه الدفع مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار. وأما كونه تقر العين في يده؛ فلأن المدعي اندفعت دعواه إما باليمين فيما إذا حلف، أو بالبينة فيما إذا كانت بينة وغيره لا يدعيها. فوجب بقاؤها على ما كان. فإن قيل: ظاهر كلام المصنف أن إقرار العين في يد المدعى عليه فيما إذا لم يقم بينة أن المدعى به لمن سمى؛ لأنه قال: حلف المدعى عليه أنه لا يلزمه تسليمها إليه وأقرت في يده إلا أن يقيم بينه أنها لمن سمى. جعل الاستثناء بعد ذكر اليمين وإقرار العين، ومع البينة لا يمين فكذا الإقرار. قيل: ليس مراده ذلك وفي كلامه ما يدل عليه وهو قوله: فلا يحلف؛ لأنه لو أراد ما ذكر لم يكن له حاجة إلى قوله: فلا يحلف. وأما كونه لا يحلف إذا أقام بينة بما ذكر؛ فلأن البينة أظهرت المستحق فتعين توجه عدم الحلف إليه. وأما كونه إذا أقر بها لمجهول يقال له: إما أن تعرّفه أو نجعلك ناكلاً؛ فلأن الإقرار بالمجهول لا يصح. فيقال له ذلك ليعرّفه فتعلم صفة الحكم المعتبر شرعاً. فإن قيل: فما حكمه؟ ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (98) 3: 110 كتاب الحدود. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 252 كتاب الدعوى والبينات، باب البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه.

قيل: إن أصرّ على قوله قضي عليه بما ادعي عليه؛ لأنه في معنى من ادعي عليه فسكت؛ لأن الجواب إذا لم يكن صحيحاً كان وجوده بمنزلة عدمه.

فصل [في شروط صحة الدعوى] قال المصنف رحمه الله: (ولا تصح الدعوى إلا محرّرة تحريراً يُعلم به المدعي؛ إلا في الوصية والإقرار فإنها تجوز بالمجهول. فإن كان المدعَى عيناً حاضرة عيّنها. وإن كانت غائبة ذكر صفاتها إن كانت تنضبط بها، والأولى ذكر قيمتها. وإن كانت تالفةً من ذواتِ الأمثال ذكر قدرها وجنسها وصفتها. وإن ذكر قيمتها كان أولى. وإن لم تنضبط بالصفات فلا بد من ذكر قيمتها). أما كون الدعوى لا تصح إلا محرّرة تحريراً يُعلم به المدعَى إذا كانت في غير الوصية والإقرار؛ فلأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعي عليه. فإذا اعترف به ألزمه فإذا لم تكن الدعوى كذلك لم يكن إلزامه. وأما كونها تجوز بالمجهول في الوصية والإقرار؛ فلأنهما يصحان بالمجهول، ولذلك لو وصى بشيء أو أقر بشيء صح. وأما كون المدعي يُعيّن المدعى إذا كان عيناً حاضرة؛ فلأنه تتعين الدعوى فيه وينتفي فيه اللبس. وأما كونه يذكر صفاتها إذا كانت غائبة وكانت مما تنضبط بها؛ فلأن التعيين لا يمكن والصفات المذكورة تقوم مقامه. فوجب ذكرها؛ ليتميز المدعى به من غيره. وأما كون الأولى ذكر قيمة العين؛ فلأن ذلك أضبط وأبلغ في تحرير الدعوى. وأما كونه يذكر قدرها وجنسها وصفتها إذا كانت تالفةً وكانت من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون؛ فلأن التالف يجب مثله إن كان مثلياً. فافتقر إلى ذكر قدره وجنسه وصفته؛ كما يفتقر إلى ذكر ذلك إذا أسلم فيه.

وأما كونه يذكر (¬1) قيمتها إذا كانت تالفةً وكانت لا تنضبط بالصفات؛ فلأن الدعوى لا يُعلم بها المدعى إلا بذلك. قال: (وإن ادعى نكاحاً فلا بد من ذكر المرأة بعينها إن حضرت وإلا ذكر اسمها ونسبها، وذكر شروط النكاح، وأنه تزوجها بولي مُرشدٍ وشاهدَيْ عدل ورضاها في الصحيح من المذهب. وإن ادعى بيعاً أو عقداً سواه فهل يُشترط ذكر شروطه؟ يحتمل وجهين). أما كون من ادعى نكاحاً لا بد له من ذكر المرأة بعينها إن كانت حاضرة؛ فلما تقدم فيما إذا ادعى عيناً حاضرة. وأما كونه يذكر اسمها ونسبها إن لم تكن حاضرة؛ فلأنها لا تتميز إلا بذلك، ولا طريق إلى معرفتها إلا به. وأما كونه يذكر شرائط النكاح في الحضور والغيبة في الصحيح من المذهب؛ فلأن الناس اختلفوا فيه فمنهم من اشترط الولي والشهود، ومنهم من لم يشترط. فلم يكن بد من ذكر ذلك حتى يعلم القاضي الحال على ما هي عليه. وأما كونه لا يذكر ذلك في روايةٍ؛ فلأنه نوع ملك. فلم يُشترط ذكر شرائطه؛ كما لو ادعى بيعاً أو عقداً غيره. والأول أولى؛ لما ذكر. والفرق بين النكاح وبين البيع وغيره من العقود: أن الفروج يحتاط لها. بخلاف غيرها. وأما كون ذكر شروط البيع أو عقد غيره يُشترط في وجه؛ فلما ذكر في النكاح. وأما كونه لا يُشترط في وجه؛ فلما بين النكاح وبين ما ذكر من الفرق المتقدم ذكره. ¬

_ (¬1) في د: إذا ذكر. ولعل الصواب ما أثبتناه.

قال: (وإن ادعت المرأة نكاحاً على رجلٍ وادعت معه نفقةً أو مهراً سُمعت دعواها. وإن لم تدع سوى النكاح فهل تسمع دعواها؟ على وجهين). أما كون المرأة تُسمع دعواها إذا ادعت مع النكاح نفقةً أو مهراً؛ فلأنها دعوى مشتملة على استحقاق مالٍ. فوجب أن تُسمع؛ كسائر الدعاوي المالية. وأما كونها تُسمع إذا لم تدع سوى النكاح في وجه هو للقاضي؛ فلأن النكاح يتضمن حقوقاً لها. أشبه ما إذا ادّعت مع النكاح مهراً. وأما كونها لا تُسمع في وجه؛ فلأن النكاح لا يجوز بذله ولا يستحلف عليه. فلم تسمع الدعوى له بمجرده. قال: (وإن ادعى قتلَ موروثه ذكر القاتل وأنه انفرد به، أو شارك غيره، وأنه قتله عمداً أو خطأ أو شبه عمد، ويصفه. وإن ادعى الإرث ذكر سببه). أما كون من ادعى قتل موروثه يذكر ما ذكر؛ فلأن الحال تختلف باختلاف ذلك. فلم يكن بد من ذكره؛ ليرتب الحاكم حكمه عليه. وأما كون من ادعى الإرث يذكر سببه؛ فلما ذكر قبل. قال: (وإن ادعى شيئاً محلّى قوّمه بغير جنس حليته. فإن كان محلى بذهب وفضة قوّمه بما شاء منهما للحاجة). أما كون من ادعى محلّى يقوّمه بغير جنس حليته؛ فلئلا يؤدي إلى الربا. وأما كونه يقوّمه بما شاء من ذهب وفضة إذا كان محلى بهما؛ فلأن ذلك موضع حاجة إذ الثمينة منحصرة فيهما.

فصل [في شروط البينة] قال المصنف رحمه الله: (وتُعتبر في البينة العدالةُ ظاهراً وباطناً في اختيار أبي بكر والقاضي. وعنه: تقبل شهادةُ كل مسلمٍ لم تظهر منه ريبةٌ. اختارها الخرقي. وإن جُهل إسلامه رُجع إلى قوله. والعمل على الأول). أما كون العدالة تُعتبر في البينة؛ فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات: 6]. والشهادة نبأ فيجب التثبت في شهادة غير العدل. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا خائنةٍ ولا ذي غِمرٍ على أخيهِ ولا محدودٍ في الإسلام» (¬1). ولأن دِين الفاسق لا يردعه عن ارتكاب محظورات الدين، ولا تحصل الثقة بخبره. وأما كونها تُعتبر فيها ظاهراً وباطناً في اختيار من ذكر؛ فلأن العدالة شرط لما تقدم. فيكون العلم بها شرطاً؛ كالإسلام. وأما كون شهادة من ذكر تقبل في روايةٍ اختارها الخرقي؛ فلأن ظاهر حال المسلم العدالة، ولهذا قال عمر: «المسلمونَ عدولٌ بعضهُم على بعض» (¬2). وروي «أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدَ برؤيةِ الهلال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3601) 3: 306 كتاب الأقضية، باب من ترد شهادته. وأخرجه الترمذي في جامعه (2298) 4: 545 كتاب الشهادات، باب ما جاء فيمن لا تجوز شهادته. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2366) 2: 792 كتاب الأحكام، باب من لا تجوز شهادته. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 197 كتاب الشهادات، باب من جرب بشهادة زور لم تقبل شهادته.

أتشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال: نعم. فقال: أتشهد أني رسولُ الله؟ فقال: نعم. فصامَ وأمرَ الناسَ بالصوم» (¬1). ولأن العدالة أمرٌ خفيٌ سببها الخوف من الله تعالى، ودليل ذلك: الإسلام. فإذا وجد فليكتفَ به ما لم يقم دليل على خلافه. فعلى هذه الرواية إن جُهل إسلامه رُجع إلى قوله؛ لأنه إن لم يكن مسلماً صار مسلماً بالاعتراف. والأول المذهب؛ لما تقدم. وأما دعوى أن ظاهر حال المسلم العدالة فممنوعة بل الظاهر عكس ذلك. وأما قول عمر؛ فمعارَضٌ بما روي عنه «أنه أُتي بشاهدين، فقال لهما: لستُ أعرفكما ولا يضركما إن لم أعرفكما ... الحديث». وأما الأعرابي؛ فكان صحابياً، والصحابة كلهم عدول. قال: (وإذا علم الحاكم عدالتهما عمل بعلمه وحكم بشهادتهما؛ إلا أن يرتاب بهما فيفرقهما ويسأل كل واحد كيف تحملت الشهادة ومتى، وفي أيّ موضع. وهل كنت وحدك أو أنت وصاحبك؟ فإن اختلفا لم يقبلهما. وإن اتفقا وعظهُما وخوّفهما، فإن ثبتا حكم بهما إذا سأله المدعي). أما كون الحاكم يعمل بعلمه في عدالة البينة؛ فلأنه لو لم يكتف بذلك لتسلسل؛ لأن المزكيين يحتاج إلى عدالتهما. فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد إلى مزكيين ثم كل واحد ممن يزكيهما إلى مزكيين إلى ما لا نهاية له. وأما كونه يحكم بشهادتهما؛ فلأن شروط الحكم قد وجدت. وأما كونه يفرّق الشاهدين ويسأل كل واحدٍ منهما السؤال المذكور إذا ارتاب فيهما؛ فلأنه يروى عن علي رضي الله عنه «أن سبعة نفر خرجوا ففُقدَ واحدٌ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2340) 2: 302 كتاب الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان. وأخرجه الترمذي في جامعه (691) 3: 74 كتاب الصوم، باب ما جاء في الصوم بالشهادة. وأخرجه النسائي في سننه (2112) 4: 131 كتاب الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1652) 1: 529 كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال.

منهم فأتت زوجته علياً فدعا الستة فسأل واحداً منهم عنه فأنكر. فقال: الله أكبر فظن الباقون أنه اعترف. فاستدعاهم فاعترفوا. فقال للأول: قد شهدوا عليكَ وأنا قاتلكَ فاعترفَ فقتلهم». وأما كونه لا يقبل شهادتهما إذا اختلفا؛ فلأن شرط الحكم الإقامة على الشهادة إلى حين الحكم. وأما كونه يَعِظُهُما ويخوِّفُهما إذا اتفقا؛ فلأن ذلك سبب لتوقفهما بتقدير كونهما شاهدي زور. وأما كونه يحكم بشهادتهما إذا ثبتا وسأل المدعي الحكم؛ فلأن الشرط ثباتُ الشاهد على شهادته إلى حين الحكم، وطلب المدعي الحكم، وقد وجد ذلك كله. قال: (وإن جرحهما المشهود عليه كلف البينة بالجرح. فإن سألَ الإنظارَ أُنظر ثلاثاً، وللمدعي ملازمته، فإن لم تقم بينة حكم عليه). أما كون المشهود عليه يكلف إقامة البينة بالجرح إذا جرح الشاهدين؛ فلأنه ادعى دعوى توجب القدح في البينة وهو متهم فيه. فلم يكن بد من تكليفه ذلك؛ لتحققه صدقه أو كذبه. وأما كونه يُنظر ثلاثاً حتى يقيم البينة بالجرح إذا سأل الإنظار؛ فلأن تكليفه إقامتها في أقل من ذلك يشق ويضر. وأما كون المدعي له ملازمة المدعى عليه؛ فلأن حقه قد توجه، والمدعى عليه يَدعي ما يُسقطه، والأصل عدمه. وأما كون الحاكم يحكم على المدعى عليه إذا لم تقم بينة بالجرح؛ فلأن الحق قد وضح على وجه ولا إشكال فيه. قال: (ولا يسمع الجرحُ إلا مُفسراً بما يقدح في العدالة إما أن يراه أو يستفيض عنه. وعنه: أنه يكفي أن يشهد أنه فاسق وليس بعدل). أما كون الجرح لا يسمع إلا مُفسراً كما ذكر على المذهب؛ فلأن الناس يختلفون كاختلافهم في شارب النبيذ. فوجب أن لا يسمع مجرداً؛ لئلا يُجرح الشاهد بما لا يراه القاضي جَرحاً.

وأما كونه يكفي فيه أن يشهد أنه فاسق وليس بعدل على روايةٍ؛ فلأن العدالة تسمع مطلقاً فكذلك الجرح. والأولة أولى. والفرق بين الجرح وبين التعديل: أن التعديل يوافق الظاهر، والجرح ينقل عن الظاهر. فلم يكن بد من معرفة الناقل؛ لئلا يعتقد نقله بما ليس بناقل. قال: (وإن شهد عنده فاسقٌ يعرف حاله قال للمدعي: زدني شهوداً. وإن جهل حاله طلب المدعي بتزكيته، ويكفي في التزكية شاهدان يشهدان أنه عدل رضي، ولا يحتاج أن يقول: عليّ ولي. وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى). أما كون الحاكم يقول للمدعي: زدني شهوداً إذا كان يعرف الحاكم فِسقَ من شهد عنده؛ فلأن ذلك يحصل المقصود مع الستر على الشاهد. وأما كونه يُطالب المدعي بتزكية شهوده إذا جهلَ حالههم؛ فلأن الحكم بشهادتهم متوقف على تزكيتهم لما تقدم من أن العلم بالعدالة شرط كذلك. وأما كون التزكية يكفي فيها شاهدان يشهدان أنه عدلٌ رضي من غير حاجة إلى أن يقال: عليّ ولي؛ فلأن الله تعالى قال: {وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم} [الطلاق: 2]. فإذا شهدا أنه عدل ثبت ذلك بشهادتهما فيدخل في عموم الآية؛ لأنه إذا كان عدلاً لزم أن يكون له وعليه وعلى سائر الناس وفي كل شيء فلا يحتاج إلى ذكره. وأما كون جرح الاثنين أولى من تعديل الاثنين؛ فلأن الجارح معه زيادة علم خَفيت على المعدل. فوجب تقديمه؛ لأن التعديل يتضمن نفي الريب والمحارم، والجارح يثبت ذلك، والمثبت مقدم على النافي. ولأن الجارح يقول: رأيته يفعل كذا والمعدل مستنده أنه لم يره ويمكن صدقهما. والجمع بين قوليهما بأن يكون الجارح رآه يفعل والمعدل لم يره. إذا علم ذلك فظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الجرح إنما يقدم عند التساوي وليس كذلك بل لو كثر عدد المعدل فالجرح أولى؛ لما ذكر من الزيادة الحاصلة.

قال: (وإن سألَ المدعي حبسَ المشهودِ عليه حتى يزكي شهوده فهل يحبَس؟ على وجهين). أما كون المشهود عليه يحبس فيما ذكر على وجه؛ فلأن جنبة المدعي ظهرت بإقامة البينة. وأما كونه لا يحبس على وجه؛ فلأن الحبس عذاب والحق لم يثبت. فلم يجز فعله بالنافي له السالم عن معارضة ثبوت الجرح. قال: (وإن أقام شاهداً وسأل حبسه حتى يقيم الآخر حبسه إن كان في المال. وإن كان في غيره فعلى وجهين). أما كون من ذكر يحبس في المال؛ فلأن الشاهد وحده مع يمين المدعي كاف في ثبوته، واليمين إنما تتعين عند تعذر شاهدٍ آخر. فلم يحصل التعذر بعد، وفي إطلاق المشهود عليه تضييع لحق من ظهر حقه. وأما كونه هل يحبس في غيره؟ على وجهين؛ فلأن ذلك في معنى من أقيمت عليه بينة ولم تُزكَّ. قال: (وإن حاكمَ إليه من لا يعرفُ لسانه تَرجمَ له من يعرفُ لسانه. ولا يقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة إلا قول عدلين. وعنه: يقبل قول واحد). أما كون من حاكم إليه من ذكر يُترجم له من يعرفُ لسان الخصم؛ فلأنه لا يعرف ما يترتب الحكم عليه إلا بذلك، وفي الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر زيدَ بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود. قال: فكنتُ أكتبُ لهم إذا كتبَ لهم وأقرأُ لهم إذا كتبُوا» (¬1). وأما كونه لا يقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة إلا قول عدلين على المذهب؛ فلأن ذلك إثبات شيء يبني الحاكم حكمه عليه. فافتقر إلى ذلك؛ كسائر الحقوق. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3645) 3: 318 كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب. وأخرجه أحمد في مسنده (21658) 5: 186.

وأما كونه يُقبل في كل واحدٍ من ذلك قولُ واحدٍ على روايةٍ؛ فلما تقدم في حديث زيد. ولأنه خبر عن شيء فاكتفي فيه بواحد؛ كالرواية. والأولى أولى؛ لما تقدم. والرواية تخالف الشهادة فلا يصح قياسها عليها. قال: (ومن ثبتتْ عدالتُه مرة فهل يحتاج إلى تجديد البحث عن عدالته مرة أخرى؟ على وجهين). أما كون من ذكر لا يحتاج إلى ذلك على وجه؛ فلأن الأصل بقاء ما كان على ما كان. فلا يزول حتى يثبت الجرح. وأما كونه يحتاج إليه على وجه؛ فلأن العيب يحدُث، وقد تتغير حاله فيصير ذلك مانعاً من العلم بالعدالة. فلم يجز له القبول مع فوات الشرط.

فصل [في الدعوى على الغائب] قال المصنف رحمه الله: (وإن ادعى على غائبٍ أو مستترٍ في البلد أو ميتٍ أو صبي أو مجنون وله بينة سمعها الحاكم وحكم بها. وهل يحلف المدعي أنه لم يبرئ إليه منه ولا من شيء منه؟ على روايتين. ثم إذا قدم الغائب أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون فهو على حجته). أما كون الحاكم يسمع بينة المدعي على غائب؛ فلأن عدم سماعها يفضي إلى تأخير الحق مع إمكان استيفائه. وأما كونه يُحكم بها؛ فلأن السماع من أجل الحكم. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على أبي سفيان في حديث هند ولم يكن حاضراً (¬1). وأما كونه يسمع بينة المدعي على مستترٍ في البلد ويحكم بها؛ فلأن حضوره ممتنع. أشبه الغائب. وأما كونه يسمع بينة المدعي على ميتٍ أو صبي أو مجنون ويحكم بها؛ فلأن كل واحد ممن ذكر عاجز عن الجواب المقصود من الحضور. فوجب أن يلحق بالغائب. وأما كون المدعي يحلف أنه لم يبرئ من المدعى به ولا من شيء منه على روايةٍ؛ فلأن الحاكم مأمور بالاحتياط في حق من ذكر؛ لأنه لا يعبر واحد منهما عن نفسه، ويجوز أن يكون المدعي قد استوفى ما قامت به البينة أو أبرأه منه. فافتقر الحال إلى اليمين؛ ليندفع ذلك الجواز. وأما كونه لا يحلف على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعى عليه (¬2). ¬

_ (¬1) سبق ذكره وتخريجه ص: 542. (¬2) كذا في د.

ولأنه أقام بينة بحقه. فلم يستحلف؛ كما لو أقامها على حاضرٍ مكلف. وأما كون المحكوم عليه على حجته إذا زال المعارض فإنه لو كان حاضراً لكان على حجته. فإذا زال المعارض عمن ذكر أشبه الحاضر المكلف. قال: (وإن كان الخصم في البلد غائباً عن المجلس لم تُسمع البينة حتى يحضر. فإن امتنع من الحضور سُمعت البينة وحُكم بها في إحدى الروايتين، وفي الأخرى لا تُسمع حتى يحضر. فإن أبى بُعث إلى صاحب الشرطة ليحضره. فإن تكرر منه الاستتار أُقعد على بابه من يضيّق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر). أما كون الحاكم لا يسمع بينة المدعي على حاضرٍ قبل حضوره؛ فلأن حضوره ممكن. فلم يجز الحكم عليه مع حضوره، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقض للأول حتى تسمع كلام الثاني» «¬1). وأما كونه تُسمع بينة المدعي على حاضرٍ يمتنع من الحضور في روايةٍ؛ فلأنه إذا سمعت البينة على غائب وحكم بها. فلأن تسمع على الحاضر الممتنع بطريق الأولى. ولأن (¬2) الحاضر الممتنع لا عذر له، وفي الحديث أن أبا موسى قال: «كانَ الخصمان إذا اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتعد الموعد فوفى أحدهما ولم يفِ الآخر قضَى للذي وفى منهما». وأما كونه لا تسمع بينته عليه في روايةٍ؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «لا تقض للأول حتى تسمعَ كلامَ الثاني» (¬3). فعلى هذا يبعث من يحضره فإن لم يحضر معه بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره. فإن استتر أَقعد على بابه من يضيّق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3582) 3: 301 كتاب الأقضية، باب كيف القضاء. وأخرجه الترمذي في جامعه (1331) 3: 618 كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما. (¬2) في د: لأن. (¬3) سبق تخريجه قريباً.

قال: (وإن ادعى أن أباه مات عنه وعن أخٍ له غائب وله مال في يد فلان أو دينٌ عليه فأقر المدعى عليه أو ثبتت ببينة سُلم إلى المدعي نصيبه، وأخذ الحاكم نصيب الغائب فحفظه له. ويحتمل أنه إذا كان المال دَيناً أن يُترك نصيب الغائب في ذمة الغريم حتى يقدُم). أما كون نصيب المدعي يُسلم إليه؛ فلأن حقه ثبت، وذلك يوجب تسليم نصيبه إليه. وأما كون الحاكم يأخذ نصيب الغائب؛ فلأنه ثبت حقه. فتعين أخذه؛ ليحفظه له. وأما كونه يحتمل أن يترك نصيبه إذا كان المال ديناً؛ فلأن أخذه يعرضه للتلف، وفي ذلك تفويتٌ لحقه بالكلية. فلم يجز؛ كما لو تيقن تلفه بأخذه. قال: (وإن ادعى إنسان أن الحاكمَ حكمَ له بحقٍ فصدقه قُبل قول الحاكم وحده. وإن لم يذكر الحاكم ذلك فشهد عدلان أنه حكم له به: قُبل شهادتهما وأمضى القضاء. وكذلك إن شهدا أن فلاناً وفلاناً شهدا عندكَ بكذا قُبل شهادتهما). أما كون الحاكم يقبل قوله وحده إذا صدق المدعي في دعواه؛ فلأنه قولٌ صدر من حاكم في حال ولايته. فوجب قبول قوله؛ كما لو أقرّ خصمه في مجلس الحكم فسأل المدعي الحاكم عن إقراره فقال: نعم. فإن قيل: أليس قد قيل: لا يحكم الحاكم بعلمه؟ قيل: ليس هذا حكم بالعلم بل إمضاء لحكمه السابق. وأما كونه يقبل شهادة العدلين أنه حكم للمدعي بدعواه ويمضي القضاء؛ فلأن العدلين لو شهدا عنده بحكم غيره قبل شهادتهما وأمضى القضاء فكذا إذا شهدا عنده بحكمه؛ لأنهما شهدا بحكم حاكم. فإن قيل: لو نسي الشاهد شهادته فشهد عنده عدلان أنه شهد لم يكن له أن يشهد. فما الفرق؟ قيل: الفرق بينهما أن الحاكم يُمضي ما حكم به إذا ثبت عنده، والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته.

وأما كونه يقبل شهادة من شهد عنده أن فلاناً وفلاناً شهدا عندك بكذا وكذا؛ فلأنه في معنى قبول شهادتهما عنده أنه حكم. قال: (وإن لم يشهد به أحدٌ لكن وجده في قمطره في صحيفة تحت ختمه بخطه فهل ينفذُه؟ على روايتين). أما كون الحاكم ينفذُ ذلك على روايةٍ؛ فلأنه متى كان كذلك لم يكن إلا صحيحاً. وأما كونه لا ينفذُ على روايةٍ؛ فلأنه يحتمل أن يزور على خطه وعلى ختمه، ويشتبه عليه ذلك. قال: (وكذلك الشاهد إذا رأى خطه في كتاب بشهادة ولم يذكرها فهل له أن يشهد بها؟ على روايتين). أما كون الشاهد له أن يشهد بذلك على روايةٍ كما أن للحاكم أن يحكم به على روايةٍ؛ فلأن الشاهد هنا بمنزلة الحاكم إذا رأى خطه تحت ختمه معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلما ذكر في الحاكم من الاشتباه عليه.

فصل [فيمن قدر على أخذ حقه] قال المصنف رحمه الله: (ومن كان له على إنسانٍ حقٌ ولم يمكنه أخذه بالحاكم وقدر له على مال لم يجز أن يأخذ قدر حقه نص عليه، واختاره عامة شيوخنا. وذهب بعضهم من المحدثين إلى جواز ذلك، فإن قدرَ على جنس حقه أخذ بقدره، وإلا قوّمه وأخذ بقدره متحرياً للعدل في ذلك لحديث هند: «خُذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف» (¬1)، ولقوله عليه السلام: «الرهنُ مركوبٌ ومحلوبٌ» (¬2». أما كون من ذكر إذا قدر على ما ذكر لا يجوز له أن يأخذ قدر حقه على المنصوص واختيار عامة الأصحاب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدّ الأمانةَ إلى من ائتمنك، ولا تخنْ من خَانك» (¬3). والآخذ بقدر حقه من مال غيره بغير إذنه خائن له فيدخل في الحديث. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل مالُ امرئ مسلمٍ إلا عن طيبِ نفسه» (¬4). والمأخوذ على هذا الوجه ليس كذلك؛ لأن المأخوذ على هذا الوجه إن كان من جنس الحق فتعيينه بغير رضى صاحبه لا يجوز. ضرورة أن التعيين إليه، وإن كان من غير جنسه كان معاوضة، والمعاوضة بغير رضى مالك العوض لا تجوز. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 542. (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «الرهن يركب بنفقته ويشرب لبن الدر إذا كان مرهوناً» أخرجه البخاري في صحيحه (2376) 2: 888 كتاب الرهن، باب الرهن مركوب ومحلوب. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3535) 3: 290 كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده. وأخرجه الترمذي في جامعه (1264) 3: 564 كتاب البيوع. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (21119) 5: 113.

وأما كونه يجوز له على قول بعض الأصحاب؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من حديث هند، وحديث الرهن. فعلى هذا يجب أن يتحرّى الآخذ العدل. فإن كان المأخوذ من جنس الحق لا يزيد على ذلك، وإن كان من غير جنسه لا يزيد على حقه؛ لأن الزائد على ذلك لا مقابل له. والأول أولى؛ لما تقدم. وأما حديث هند فقد أشار الإمام أحمد إلى الفرق وهو أن حق الزوجة واجبٌ في كل وقت والمحاكمة في كل لحظة تشق. بخلاف من له دينٌ. وفرّق أبو بكر من أصحابنا بفرقٍ آخر وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة. ولأن المرأة لها من التبسط في ماله بحكم العادة ما يؤثر في أخذ الحق وبذل اليد فيه. بخلاف الأجنبي. قال: (وحكمُ الحاكمِ لا يُزيل الشيء عن صفته في الباطن. وذكر ابن أبي موسى عنه روايةً: أنه يُزيل العقودَ والفسوخ). أما كون حكمُ الحاكم لا يُزيل الشيء عن صفته في الباطن في غير العقود والفسوخ مثل: أن يشهد شاهدا زورٍ أن لفلان على آخر مائة فيحكُم الحاكم بذلك بناء على ما ظهر له من عدالتهما وما أشبهه بلا خلاف في المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشرٌ وإنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم يكون ألحنَ بحجته من بعضٍ فأقضي له على نحوِ ما أسمع منه. فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيهِ فكأنما أقطعُ له قطعةً من النار» (¬1). متفق عليه. وأما كونه لا يُزيل في الباطن في العقود والفسوخ؛ مثل: أن يدّعي شخص نكاحاً أو بيعاً ويقيم شاهدَي زورٍ بذلك فيحكُم له الحاكم به ظناً منه أنهما عدلان، أو تدعي امرأة طلاقاً أو فسخ نكاح وتقيم بذلك شاهدي زورٍ فيحكُم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6748) 6: 2622 كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1713) 3: 1337 كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة.

الحاكم بذلك وما أشبهه على المذهب؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيه» (¬1). وأما كونه يُزيله على روايةٍ؛ فلما روي عن علي رضي الله عنه «أن رجلاً ادعى على امرأةٍ نكاحًا فرُفعا إلى علي. فشهد له شاهدان بذلك فقضى بينهما بالزوجية. فقالت: والله ما تزوجني يا أميرَ المؤمنين. اعقِد بيننا عقدًا حتى أحل له. فقال: شاهداكِ زوَّجاك». فعلى هذا يحل لمدعي النكاح وطء المرأة المشهود عليها للحديث، ولمدعي البيع التصرف في العين المبيعة، ولمن علم كذبَ شهود الطلاق أن يتزوج بالمرأة؛ لأنه في معنى ما تقدم ذكره. والأول أصح؛ لما تقدم. وحديث علي لا حجة فيه؛ لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث الماضي.

باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي

باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي الأصل في كتاب القاضي إلى القاضي كالأصل في كتاب الأمير إلى الأمير. والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعنى: أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {إني أُلقي إليَّ كتابٌ كريمٌ? إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} [النمل: 29 - 30]. وأما السنة؛ فهو «أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وملوك الأطراف» (¬1). وأما الإجماع؛ فأجمعت الأمة على قبول كتاب القاضي والأمير إلى مثليهما. وأما المعنى؛ فلأن الحاجة داعية إلى قبوله. فإن من له حق في بلد غيره لا يمكنه إثباته ومطالبته إلا بكتاب القاضي وذلك يقتضي وجوب قبوله. قال المصنف رحمه الله: (يُقبل كتابُ القاضي إلى القاضي في المال وما يقصد به المال؛ كالقرض والغصب والبيع والإجارة والرهن والصلح والوصية له والجناية الموجبة للمال. ولا يقبل في حدٍّ لله تعالى. وهل يقبل فيما عدا ذلك مثل: القصاص والنكاح والطلاق والخلع والعتق والنسب والكتابة والتوكيل والوصية إليه؟ على روايتين). أما كون كتاب القاضي إلى القاضي يقبل في المال وما قصد منه المال؛ فلأن ذلك في معنى الشهادة على الشهادة، وهي في المال وما قصد منه المال مقبولة فكذلك يجب أن تكون مقبولة فيما هو في معناها. وأما كونه لا يقبل في كل حدٍّ لله تعالى؛ فلأن الحد لله تعالى مبني على الستر، والدرأ بالشبهات، والإسقاط بالرجوع فيها. ¬

_ (¬1) ر. الأموال لأبي عبيد ص: 25 - 28.

وأما كونه يقبل في القصاص وباقي الصور المذكورة على روايةٍ؛ فلأنه حق لا يدرأ بالشبهة. أشبه المال. وأما كونه لا يقبل على روايةٍ؛ فلأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين. أشبه حد القذف. قال: (فأما حد القذف فإن قلنا: هو لله تعالى فلا يقبل فيه. وإن قلنا: لآدمي فهو كالقصاص). أما كون القذف لا يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي إذا قيل: هو لله تعالى؛ فلما ذكر في كل حدٍّ لله تعالى. وأما كونه كالقصاص إذا قيل: لآدمي؛ فلأنه حينئذ يساوي القصاص؛ لاشتراكهما في كون كل واحدٍ منهما حقاً لآدمي. قال: (ويجوز كتاب القاضي فيما حكم به لينفذه في المسافة القريبة ومسافة القصر، ويجوز فيما ثبت عنده ليحكم به في المسافة البعيدة دون القريبة). أما كون كتاب القاضي يجوز فيما حكم به؛ مثل: أن يحكم على رجلٍ بحق فيتغيب قبل إيفائه، أو تقوم بينة على غائب عند حاكمٍ فيسأله صاحب الحق الحكم عليه فيحكم عليه، أو ما أشبه ذلك؛ فلأن الحاجة داعية إليه. وأما كون الواصل إليه ينفذه بَعُدت مسافته أو قربت؛ فلأن حكم الحاكم يجب إمضاؤه على كل حاكم. وأما كونه يجوز فيما يثبت عنده؛ فلما تقدم من العلة المذكورة. وأما كون الواصل إليه يحكم به في المسافة البعيدة دون القريبة؛ فلأن ذلك نقل شهادة. فوجب أن يُعتبر فيه ما يُعتبر في الشهادة. قال: (ويجوز أن يكتبَ إلى قاضٍ مُعين وإلى من يصل إليه كتابي هذا (¬1) من قضاة المسلمين وحكامهم).

_ (¬1) زيادة من المقنع.

أما كون القاضي يجوز أن يكتب إلى مُعين فلا إشكال فيه، ولذلك كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر (¬1). وأما كونه يجوز أن يكتب إلى من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم؛ فلأن الكتاب المذكور كتابٌ واصلٌ إلى حاكم. أشبه ما إذا كتب إلى معين. قال: (ولا يقبلُ الكتابُ إلا أن يشهد به شاهدان يحضرهما القاضي الكاتب فيقرأه عليهما ثم يقول: أُشهدكما أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان ويدفعه إليهما، وإذا وصلا إلى المكتوب إليه دفعا إليه الكتاب وقالا: نشهد أن هذا كتاب فلان إليك كتبه من عمله وأشهدنا عليه. والاحتياط أن يشهدا بما فيه ويختمه. ولا يشترط ختمه). أما كون كتاب القاضي لا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به عدلان؛ فلأنه نقل حكمٍ أو نقل إثباتٍ. فلم يكن فيه بد من شهادة عدلين؛ كالشهادة على الشهادة. وأما كون القاضي يحضرهما فيقرأه عليهما؛ فلأن تحمل الشهادة بغير معرفة المشهود به غير جائز. وقول المصنف رحمه الله: فيقرأه عليهما ليس بواجب في القبول بل قراءته هي الواجبة، سواء كانت من الحاكم أو غيره لكن الأولى أن يقرأه الحاكم؛ لأنه أبلغ، ولذلك ذكره المصنف رحمه الله. وأما كونه يقول: أُشهدكما أن هذا كتابي إلى فلان؛ فلأنه يحملهما الشهادة. فوجب أن يعتبر فيه إشهاده؛ كالشهادة على الشهادة. ويقوم مقام إشهاده بأن الكتابَ كتابه إشهادهما عليه بما في الكتاب. فلو اقتصر على قوله: هذا كتابي إلى فلان لم يجز؛ لعدم الإشهاد المشترط. وأما كونه يدفعه إليهما؛ فلأنه لو لم يدفعه إليهما لم يمكنهما الأداء إلا بناء على الخط، وهو غير جائز. ¬

_ (¬1) سبق قريباً.

وأما كون الشاهدين إذا وصلا إلى المكتوب إليه يدفعان الكتاب ويقولان: نشهد أن هذا كتاب فلان إليك؛ فلأن القبول متوقف على ذلك. وأما كونهما يقولان: كتبه من عَمَلِه وأشهدنا عليه؛ فلأن الكتاب إنما يقبل من قاضٍ وذلك يستدعي وجود الكتابة والإشهاد عليه في موضع قضائه. وأما كون الاحتياط الإشهاد بما في الكتاب مع ختمه؛ فلأن ختم الكتاب أبلغ في المعنى. وأما كون الكتاب لا يشترط ختمه؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتبَ كتاباً إلى قيصر ولم يختمه. فقيل: إنه لا يقرأُ كتاباً غير مختوم فاتخذَ الخاتم» (¬1). قال: (وإن كتب كتاباً وأدرجه وختمه وقال: هذا كتابي إلى فلان اشهدا عليّ بما فيه لم يصح؛ لأن أحمد قال فيمن كتب وصية وختمها ثم أشهد على ما فيها: فلا حتى يُعلمه ما فيها. ويتخرج الجواز لقوله: إذا وُجدت وصية الرجلِ مكتوبةً عند رأسه من غير أن يكون أشهدَ أو أعلمَ بها أحداً عند موته وعُرف خطه وكان مشهوراً فإنه ينفذ ما فيها. وعلى هذا إذا عُرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله. والعمل على الأول). أما كون إشهاد القاضي على كتابه المختوم لا يصح؛ فلأن الشاهدين شهدا بالمجهول. فلم تصح شهادتهما؛ كما لو شهدا أن لفلان على فلان مالاً. وأما قول المصنف رحمه الله: لأن أحمد؛ فتنبيه على جهة الأصل المستفاد منه الحكم المذكور. وأما كون الجواز يتخرج على القول بالوصية المذكورة؛ فلأنهما سواء معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما كون المكتوب إليه على هذا إذا عرف خط القاضي الكاتب وختمه يجوز له قبوله؛ فلأن القبول هنا كتنفيذ الوصية المذكورة. وأما كون العمل على الأول؛ فلأن الدليل الأول أولى فكان العمل به أولى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6743) 6: 2619 كتاب الأحكام، باب: الشهادة على الخط المختوم ... وأخرجه مسلم في صحيحه (2092) 3: 1657 كتاب اللباس والزينة، باب في اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً ...

قال: (وإذا وصل الكتاب فأحضر المكتوبُ إليه الخصم المحكوم عليه في الكتاب فقال: لستُ فلان ابن فلان فالقول قوله مع يمينه؛ إلا أن تقوم به بينة. فإن ثبت أنه فلان ابن فلان ببينة أو إقرار فقال: المحكوم عليه غيري لم يقبل منه إلا ببينة تشهد أن في البلد من يساويه فيما سمي ووصف به فيتوقف حتى يعلم المحكوم عليه (¬1) منهما). أما كون القول قول الخصم المحكوم عليه في الكتاب في قوله: لستُ فلان ابن فلان ما لم تقم به بينة؛ فلأن الأصل عدم تسميته بذلك. ولأنه يُدعى عليه أن اسمه ذلك وهو يُنكره، والقول قول المنكر مع يمينه. وأما كونه لا يقبل قوله إذا قامت بينة بذلك؛ فلأن القول معارض بالبينة، وهي راجحة. فوجب أن لا يقبل قوله؛ لكونه مرجوحاً بالنسبة إلى البينة. وأما كونه لا يقبل قوله إذا ثبت أنه فلان ابن فلان فقال المحكوم عليه: غيري ولا بينة له تشهد بدعواه؛ فلأن الظاهر عدم المشاركة في الصفات والأسماء، والحكم قد توجه على من سُمي ووصف، والاسم والصفة موجودان فيه. فلم يقبل قوله في نفي ذلك. وأما كونه يقبل قوله إذا أقام بينة أن في البلد من يساويه فيما سمي ووصف؛ فلأن الحق يحتمل أن يكون على المشارك له. وأما كون القاضي يتوقف حتى يعلم المحكوم عليه منهما؛ فلأنه شاكٌّ فيه. قال: (وإن تغيرت حالُ القاضي الكاتب بعزلٍ أو موتٍ لم يقدح في كتابه. وإن تغيرت بفسقٍ لم يقدح فيما حكم به، وبطل فيما ثبت عنده ليحكم به. وإن تغيرت حال المكتوب إليه فلمن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به). أما كون تغيّر حال القاضي الكاتب بعزل أو موت لا يقدح في كتابه؛ فلأن التعويل في الكتاب على الشاهدين وهما حيان. فوجب أن يقبل الكتاب؛ كما لو لم يمت أو ينعزل. ¬

_ (¬1) في د: عليهما. وما أثبتناه من المقنع.

ولأن الكتاب إن كان فيما حكم به فحكمه لا يبطل بالعزل والموت، وإن كان فيما ثبت عنده فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع، ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهد الأصل. وأما كون تغير حال القاضي الكاتب بفسقٍ لا يقدح فيما حكم به؛ فلأنه لو حكم بشيء ثم فسق لم يتغير حكمه فكذا إذا فسق القاضي الكاتب بعد أن كتب. وأما كون كتابه يبطل فيما ثبت عنده ليحكم به؛ فلأن شرط الحكم بقاء الحاكم بصفة العدالة إلى حين الحكم ولم يوجد هنا. بيان اشتراط ذلك في الحاكم أن الشاهد يشترط فيه ذلك. فلأن يشترط في الحاكم بطريق الأولى. وأما كون من قام مقام القاضي المكتوب إليه إذا تغيرت حاله يَقبل الكتاب ويعمل به؛ فلأن التعويل على شهادة الشاهدين وهما موجودان بشرطهما. ويُحكى «أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس بن معاوية قاضي البصرة كتابًا فوصل إليه وقد عُزل وولي الحسن؛ فلما وصل الكتاب عمل به».

فصل [في كتابة محضر بالحكم] قال المصنف رحمه الله: (وإذا حكمَ عليه فقال له: اكتب لي إلى الحاكم الكاتب أنك حكمتَ عليّ حتى لا يحكم عليّ ثانياً لم يلزمه ذلك، ولكنه يكتبُ له محضراً بالقضية). أما كون القاضي لا يلزمه أن يكتب إلى الحاكم الكاتب أنه حكم عليه؛ فلأن الحاكم إنما يكتب فيما ثبت عنده ليحكم غيره، أو فيما حكم به لينفذه، وكلاهما مفقود هنا. وأما كونه يكتب له محضراً بالقضية؛ فلأنه إذا لم يكتب له ربما حكم عليه غيره ثانياً وفيه ضرر والضرر ينفى شرعاً. قال: (وكل من ثبتَ له عند حاكمٍ حقٌ أو ثبتت براءته مثل إن أنكر وحلفه الحاكم فسأل الحاكم أن يكتبَ له محضراً بما جرى ليثبت حقه أو براءته لزمه إجابته. وإن سأل من ثبت محضره عند الحاكم أن يسجل به فعل ذلك وجعله نسختين نسخة يدفعها إليه والأخرى يحبسها عنده. والورق من بيت المال، فإن لم يكن فمن مال المكتوب له). أما كون الحاكم يلزمه إجابة من سأله: أن يكتب له محضراً بما ثبت عنده من حق أو براءة؛ فلأنه حقه قد ثبت عنده، وربما تعذر عليه إثبات ذلك في وقت آخر. فوجب أن يكتب له محضراً بيده عند طلبه؛ لتبقى حجته في يده. وأما كون الحاكم يفعل ما سأله من ثبت محضره عنده من التسجيل به؛ فلأن المحضر بتسجيله يصير حجة لصاحبه فيلزم الحاكم أن يشهد عليه شاهدين أنه أقر له. وأما كون السجل يجعل نسختين؛ فلأن صاحب المحضر يحتاج إلى نسخةٍ تكون بيده، وديوان الحكم يحتاج إلى أخرى تكون فيه حتى إن هلكت النسخة

التي في يد صاحب المحضر تبقى التي في ديوان الحكم، ولذلك قال المصنف رحمه الله: نسخة يدفعها إليه والأخرى يحبسها عنده. وأما كون الورق من بيت المال؛ فلأن ذلك من المصالح. وأما كونه من المكتوب له إذا لم يكن في بيت المال شيء؛ فلأنه الطالب لذلك؛ لأن معظم الحاجة له. قال: (وصفة المحضر: بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضيَ فلان بن فلان الفلاني قاضيَ عبدالله الإمام على كذا. وإن كان نائبًا كتب: خليفة القاضي فلان قاضي عبدالله الإمام في مجلس حكمه وقضائه بموضع كذا مُدعٍ ذكر أنه فلان بن فلان وأحضر معه مدعى عليه ذكر أنه فلان بن فلان فادعى عليه كذا فأقر له أو فأنكر. فقال القاضي للمدعي: ألك بينة؟ فقال: نعم. فأحضرَها وسأله سماعَها، فَفعل أو فأنكر ولم تقم له بينة، وسأل إحلافه فأحلفه. وإن نكل عن اليمين ذكر ذلك وأنه حكم عليه بنكوله. وإن رد اليمين عليه فحلّفه حكى ذلك، وسأله أن يكتب له محضرٍاً بما جرى فأجابه إليه في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، ويعلم في الإقرار والإحلاف جرى الأمر على ذلك. وفي البينة: شهدا عندي بذلك). أما قول المصنف رحمه الله: وصفة المحضر ... إلى قوله: ويعلم؛ فبيان لصفة المحضر ليعلم الكاتبُ صفة المحضر المعتبرة فيه شرعاً، وكيف تكون الكتابة إذا كان المدعى عليه مقراً أو منكراً قامت عليه البينة، أو منكراً لم تقم عليه البينة فحلفه الحاكم، أو ناكلاً محكوماً عليه بنكوله، أو راداً لليمين على المدعي. والغرض: تبيين الحال على ما هي عليه؛ ليكون المحضر وافياً بما جرى، محصّلاً لمقصوده، جامعاً للشرائط المعتبرة. وأما كون القاضي يعلم في الإقرار والإحلاف جرى الأمر على ذلك؛ فلأن الإقرار والإحلاف أمرٌ جرى فالعلامة فيه بما ذكر تحقيق للقضية وإخبار عنها. وأما كونه يعلم في البينة شهدا عندي بذلك؛ فلأن الواقع شهادة، والمخبر عنها بذلك صادق.

قال: (وأما السجل فهو لإنفاذ ما ثبت عنده والحكم به. وصفته أن يكتب: هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان، ويذكر ما تقدم مَن حضره من الشهود أشهدهم أنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان، وقد عرفهما بما رأى معه قبول شهادتهما بمحضرٍ من خصمين ويذكرهما إن كانا معروفين. وإلا قال مدعٍ ومدعًى عليه جاز حضورهما وسماع الدعوى من أحدهما: على الآخر معرفة فلان بن فلان. ويذكر المشهود عليه وإقرارَه طوعًا في صحة منه وجوازِ أمرٍ بجميع ما سُمي ووُصِف في كتاب نسخته كذا (¬1). وينسخ الكتاب المثبت أو المحضر جميعه حرفًا بحرف، فإذا فرغ منه قال: وإن القاضي أمضاه وحكم به على ما هو الواجب في مثله بعد أن سأله ذلك، والإشهاد به: الخصم المدعي، ويذكر اسمه ونسبه، ولم يدفعه الخصم الحاضر معه بحجة. وجعل كل ذي حجةٍ على حجته، وأشهد القاضي فلان على إنفاذه وحُكمه وإمضائه مَن حضره من الشهود في مجلس حكمه في اليوم المؤرخ في أعلاه. ويأمر بكتب هذا السجل نُسختين متساويتين تخلدُ نسخة منها ديوان الحكم وتدفع الأخرى إلى من كتبها له. وكل واحدة منهما حجة ووثيقة فيما أنفذه فيهما. وهذا يذكر ليخرج من الخلاف، ولو قال: أنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان ما في كتاب نسخته كذا ولم يذكر بمحضرٍ من الخصمين ساغ ذلك لجواز القضاء على الغائب). أما قول المصنف رحمه الله: وأما السجل فهو لإنفاذ ما ثبت عنده والحكم به؛ فبيان لمعناه. وأما قوله: وصفته ... إلى قوله: في اليوم المؤرخ في أعلاه؛ فبيان لصفة السجل ليعلم الكاتب الصفة المعتبرة فيه شرعاً. وأما كون القاضي يأمر بكتب السجل؛ فلما ذكر فيمن ثبت محضره عند الحاكم فسأله أن يسجل به. وأما كونه يأمر بكتب نُسختين متساويتين؛ فلأنهما اللتان تقوم إحداهما مقام الأخرى. وأما كون كل واحدة حجة ووثيقة فيما أنفذه فيهما فظاهر؛ لتضمنهما ذلك. ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع.

وأما كون ذلك يُذكر؛ فلما ذكره المصنف رحمه الله من الخروج من الخلاف في القضاء على الغائب؛ لأنه لو لم يذكر الخصم وحضوره لتوهم متوهم أنه قضى على غائب فيتوقف فيه من لا يراه. وأما كون القاضي لو قال: أنه ثبت عنده ... إلى آخره يسوغ ذلك؛ فلما ذكر المصنف من جواز القضاء على الغائب أي: عندنا. قال: (وما يجتمع عنده من المحاضر والسجلات في كل أسبوعٍ أو شهرٍ على قلتها وكثرتها يضم بعضها إلى (¬1) بعض، ويكتب عليها: محاضرٍ وقت (¬2) كذا في سنة كذا). أما كون المحاضر والسجلات يضم بعضها إلى بعض؛ فلأن إفراز كل واحدٍ يشق. وأما كونها يكتب عليها ما ذكر؛ فلتتميز، وليكون إخراجها وقت الحاجة أسهل. ¬

_ (¬1) في د: على. (¬2) زيادة من المقنع.

باب القسمة

باب القسمة الأصل في القسمة الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {ونبئهم أن الماء قسمةٌ بينهم كلُّ شِرْبٍ محتضَر} [القمر: 28]. وأما السنة؛ فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الشفعةُ فيما لم ينقسم، فإذا وَقَعَتِ الحدودُ وصُرِّفَتِ (¬1) الطرُق فلا شُفعة» (¬2). و«قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على ثمانية وعشرين سهمًا» (\ (¬3)، و «كان يقسم الغنائم». وأما الإجماع؛ فأجمع المسلمون في الجملة على جواز القسمة. قال المصنف رحمه الله: (وقسمة الأملاك جائزة. وهي نوعان: قسمة تراضٍ. وهي: ما فيها ضرر، أو رد عوض من أحدهما كالدور الصغار والحمام والعضائد المتلاصقة اللاتي لا يمكن قسمة كل عين مفردة). أما كون قسمة الأملاك جائزة؛ فلما تقدم من الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله. وأما كونها نوعين؛ فلأن منها: ما ينقسم عن تراضٍ، ومنها ما ينقسم عن إجبار. وأما قول المصنف رحمه الله: وهي؛ فإشارة إلى قسمة الأراضي. والضرر يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما قوله: كالدور ... إلى آخره؛ فبيان لأشياء لا ينقسم إلا قسمة تراض. ¬

_ (¬1) في د: وطرقت. وما أثبتناه من الصحيح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2363) 2: 883 كتاب الشركة، باب الشركة في الأرضين وغيرها. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3010) 3: 159 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.

قال: (والأرض التي في بعضها بئر أو بناء ونحوه لا يمكن قسمته بالأجزاء والتعديل إذا رضوا بقسمتها أعياناً بالقيمة جاز). أما كون قسمة الأرض المذكورة على الصفة المذكورة يجوز؛ فلأن الحق للشريكين. فإذا تراضيا بقسمةٍ موصوفةٍ لم يكن لأحد الاعتراضُ عليهما. وأما كون ما ذكر من البئر أو البناء لا يمكن قسمته بالأجزاء والتعديل؛ فلأنه إذا كان يمكن قسمته بالأجزاء؛ مثل: أن يكون البئر واسعاً يمكن أن يجعل نصفها لواحدٍ ونصفها للآخر ويجعل بينهما حاجز في أعلاه، أو البناء كبيراً يجعل لكل واحد منهما نصفه، أو بالتعديل مثل: أن يكون في أحد جانبي الأرض بئر تساوي مائة وفي جانبها الآخر بناء يساوي مائة تكون القسمة قسمة إجبار لا قسمة تراضٍ؛ لأنه يمكن أن يجعل البئر لأحد الشريكين مع نصف الأرض والبناء للآخر مع نصف الأرض. قال: (وهذه جارية مجرى البيع، لا يجبرُ عليها الممتنع منها، ولا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع). أما قول المصنف: وهذه؛ فإشارة إلى قسمة التراضي. وأما كونها جارية مجرى البيع؛ فلأنها في معناه. وأما كون الممتنع منها لا يجبر؛ فلأن فيها إما ضرر، وإما رد عوض، وكلاهما لا يجبر الإنسان عليه: أما الأول؛ فلما فيه من الضرر. وأما الثاني؛ فلأنه معاوضة، والمعاوضة لا يجبر عليها. وأما كونها لا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع؛ فلأنها جارية مجراه. فوجب أن لا يجوز فيها إلا ما يجوز فيه. قال: (والضرر المانع من القسمة هو: نقص القيمة بالقسم في ظاهر كلامه، أو لا ينتفعان به مقسوماً في ظاهر كلام الخرقي). أما كون المانع من القسمة نقص القيمة في ظاهر كلام الإمام؛ فلأن نقصان القيمة ضرر فينتفي بقوله عليه السلام: «لا ضَررَ ولا إضرار» (¬1).

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (85) 4: 228 كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك.

وأما كونه لا ينتفعان به مقسوماً في ظاهر كلام الخرقي؛ فلأن ذلك ضرر شديد مفضٍ إلى إضاعة المال فيكون منهياً عنه. بخلاف نقصان القيمة فإن اعتباره يؤدي إلى بطلان القسمة غالباً. فوجب أن لا يعتبر. قال: (فإن كان الضرر على أحدهما دون الآخر؛ كرجلين لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث ينتفع صاحب الثلثين بقسمها ويتضرر الآخر، فطلب من لا يتضرر القسم لم يجبر الآخر عليه. وإن طلبه الآخر أجبر الأول. وقال القاضي: إن طلبه الأول أجبر الآخر. وإن طلبه المضرور لم يجبر الآخر). أما كون الضرر إذا كان على أحد الشريكين كما مثل المصنف رحمه الله وطلب من لا يتضرر القسم لا يجبر الآخر على قول غير القاضي؛ فلأن في ذلك ضرراً عليه وذلك نُفي بقوله عليه السلام: «لا ضَررَ ولا إضرار» (¬1). وأما كونه يجبر على قوله؛ فلأن شريكه مالك طلب إفراز نصيبه الذي لا يستضر بتمييزه. فوجب إجابته إلى ذلك؛ كما لو كانا لا يستضران بالقسم. والأول أولى؛ لما تقدم. والقياس على من لا يستضران به مُعارض بالقياس على من يستضران. وأما كون من عليه الضرر إذا طلب يجبر الآخر عليه على ما تقدم؛ فلأن الشريك طلب دفع ضرر الشركة على وجه لا يضر بصاحبه. فوجب أن يجبر على القسمة؛ كما لو لم يكن فيها ضرر. وأما كونه لا يجبر؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال» (¬2). والمطلوب هنا يتضمن الإضاعة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الحديث السابق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6862) 6: 2659 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه. وأخرجه مسلم في صحيحه (593) 3: 1341 كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة ...

إذا تقرر مأخذ الوجهين فقال المصنف رحمه الله في المغني: والأول أقيَس وأولى. وأجاب عن الحديث المذكور بأنه مخصوص بما إذا اتفقا على القسمة فإنها تجوز برضى المستضر، وما ذكر في معناه. فوجب إلحاقه به. قال: (وإن كان بينهما عبيدٌ أو بهائمٌ أو ثيابٌ ونحوها فطلب أحدهما قسمها أعياناً بالقيمة لم يجبر الآخر عليه، وقال القاضي: يجبر). أما كون قسم ما ذكر لا يجبر عليه على قول غير القاضي؛ فلأن الأعيان المذكورة لا يمكن قسم كل عينٍ منها. فلم يجز قسمها أعياناً بالقيمة؛ كما لو كان بين شريكين داران فطلب أحدهما قسم الدارين أعياناً بالقيمة. وأما كونه يجبر عليه على قوله؛ فلأن الأعيان المذكورة إذا لم يمكن قسم كل عين صارت جميعها كالدار الواحدة؛ لأن اختلاف قيمة الجنس الواحد ليس بأكثر اختلافاً من قيمة الدار الكبيرة والقرية العظيمة فإن أراضي القرية تختلف، وصدر الدار خير من غيره، والاختلاف المذكور لم يمنع الإجبار على القيمة فكذا الجنس الواحد. وقد ظهر الفرق بين الأعيان المذكورة وبين الدار من حيث إن قسم كل عينٍ بما ذكر لا يمكن. بخلاف الدارين فإن قسم كل واحدة ممكنة. قال: (وإن كان بينهما حائط لم يجبر الممتنع من قسمه. وإن استهدمَ لم يجبر على قسم عرصته. وقال أصحابنا: إن طلب قسمه طولاً بحيث يكون له نصف الطول في كمال العرض أجبر الممتنع. وإن طلب قسمه عرضاً وكانت تسع حائطين أجبر وإلا فلا). أما كون الممتنع من قسم الحائط لا يجبر؛ فلأن في قسمه ضرراً وذلك مانع منه. وأما كون الممتنع من قسم عرصته لا يجبر على قول غير أصحابنا؛ فلأنه موضع للحائط. أشبه الحائط. وأما كونه يجبر إذا طلب قسمه طولاً كما تقدم ذكره وكونه يجبر إذا طلب قسمه عرضاً وكانت تسع حائطين على قول أصحابنا؛ فلأن ذلك لا ضرر فيه البتة.

وأما كونه لا يجبر إذا كانت التسع ذلك على قول أصحابنا؛ فلما فيه من الضرر. قال: (وإن كان بينهما دار لها علو وسفل فطلب أحدهما قسمها لأحدهما العلو وللآخر السفل، أو كان بينهما منافع لم يجبر الممتنع من قسمها. وإن تراضيا على قسمها كذلك وعلى قسم المنافع بالمهايأة جاز). أما كون الممتنع من قسم الدار علواً لأحدهما وسفلاً للآخر لا يجبر؛ فلأن العلو والسفل يجري مجرى الدارين المتلاصقين؛ لأن كل واحدٍ مسكن منفرد. وأما كون الممتنع من قسم المنافع لا يجبر؛ فلأن الأصل مشاع فلا يصح أن ينفرد بعض الشريكين ببعض المنفعة. ضرورة أن المنفعة تابعة للأصل. وأما كون قسم الدار على الوجه المذكور وقسم المنافع بالمهايأة يجوز مع التراضي؛ فلأن الحق لهما فإذا رضيا به جاز. قال: (وإن كان بينهما أرضٌ ذاتُ زرعٍ فطلب أحدهما قسمها دون الزرع قسمت. وإن طلب قسمها مع الزرع أو قسم الزرع مفرداً لم يجبر الآخر. فإن تراضوا عليه والزرع قصيلٌ أو قطنٌ جاز. وإن كان بذراً أو سنابلَ قد اشتدّ حبُّها فهل يجوز؟ على وجهين. وقال القاضي: يجوز في السنابل، ولا يجوز في البذر). أما كون الأرض ذات الزرع تقسم دون زرعها إذا طلب ذلك أحد الشريكين؛ فلأن الزرع في الأرض كالقماش في الدار، والقماش يمنع القسم فكذلك الزرع. فعلى هذا إذا قسمت بقي الزرع بينهما مشتركاً؛ لأن قسم الأرض بمنزلة ما لو باع أرضاً فيها زرع، وذلك يبقى إلى الحصاد لبائعه فكذلك الزرع في الأرض المقسومة يبقى على الإشاعة إلى حصاد. وأما كون الممتنع من قسم الأرض مع الزرع لا يجبر؛ فلأن الزرع وحده لا يجبر على قسمه فكذا قسم الأرض مع الزرع؛ لأنها مشتملة على ما لا يجوز قسمه.

وقال المصنف رحمه الله في المغني: يجبر الممتنع؛ لأن الزرع كالشجر في الأرض، ولو كان لها شجر قسمت مع شجرها فكذلك هاهنا ولم يحك خلاف ذلك. وأما كون الممتنع من قسم الزرع وحده لا يجبر؛ فلأن القسم لا بد فيه من تعديل المقسوم، وتعديل الزرع بالسهام لا يمكن؛ لأنه يشترط بقاؤه في الأرض المشتركة. وأما كونهم إذا تراضوا على قسم الأرض مع زرعها والزرع قصيلٌ أو قطنٌ يجوز؛ فلأن ذلك يُنتفع به في الحال على وجه لا جهالة فيه. فإذا وقع التراضي بقسمه جاز؛ كبيعه. وأما كونه إذا كان بذراً أو سنابل قد اشتد حبها لا يجوز في وجه: أما في البذر؛ فلجهالته. وأما في السنابل؛ فلأنه بيع بعضه ببعض مع عدم العلم بالتساوي، والجهل بالتساوي؛ كالعلم بالتفاضل. وأما كونه يجوز فيهما في وجه؛ فلأن ذلك يدخل تبعاً. فلم يعتبر العلم به في القسم؛ كالجهل بالأساسات. وأما كونه يجوز في السنابل ولا يجوز في البذر في وجه للقاضي؛ فلأن مافي السنابل يؤكل لا ما في البذر. قال: (وإن كان بينهما نهرٌ أو قناةٌ أو عينٌ ينبع ماؤها فالماء بينهما على ما اشترطا عند استخراج ذلك. فإن اتفقا على قسمه بالمهايأة جاز. وإن أرادا قسم ذلك بنصب خشبةٍ أو حجرٍ مستو في مصدم الماء فيه ثقبان على قدر حق كل واحد منهما جاز. فإن أراد أحدهما أن يسقي بنصيبه أرضاً ليس لها رسمُ شربٍ من هذا النهر جاز. ويحتمل أن لا يجوز. ويجيءُ على أصلنا: أن الماء لا يملك، وينتفع كل واحد منهما على قدر حاجته). أما كون الماء بين من استخرجه على ما وقع الاشتراط فيه عند الاستخراج؛ فلأن الماء من المباح فإن اتفق المستخرجان على قدر معلوم وجب اتباعه. دليله ما

لو اشترك رجلان في استخراج معدن على أن يكون لأحدهما الثلث وللآخر الباقي. ولأن الماء مستخرج على وجه الشركة. فوجب اعتبار الشرط فيه. أشبه الرجلين يشتركان على عمل من الأعمال. وأما كونهما إذا أرادا قسم ذلك بنصب خشبةٍ أو حجرٍ على الوجه المتقدم يجوز؛ فلأن ذلك طريق إلى وصول حق كل واحدٍ منهما إلى صاحبه. فجاز؛ كغيره من الطرق. وأما كون أحدهما إذا أراد أن يسقي بنصيبه أرضاً ليس لها رسمُ شربٍ من النهر المذكور يجوز على الأول؛ فلأن الحق له، وصاحب الحق يتصرف فيه على حسب اختياره وإرادته. وأما كونه يحتمل أن لا يجوز؛ فلأنه إذا سقى الأرض المذكورة ربما توهم مع طول الزمن أن لها حقاً في النهر المذكور. ولذلك لو كان لشخص دارٌ لها حائط إلى درب غير نافذ لم يكن له أن يفتح فيه صورة باب؛ لأنه ربما استدلّ به على ملك الاستطراق في الدرب، وليس له ذلك. وأما كون كل واحد من الشريكين ينتفع بالماء على قدر حاجته بناء على قولنا: الماء لا يملك؛ فلأنه إذا لم يملك يكون من المباحات، والمباحُ ينتفع به كل محتاجٍ على قدر حاجته.

فصل [في قسمة الإجبار] قال المصنف رحمه الله: (النوع الثاني: قسمة الإجبار وهي: ما لا ضرر فيها ولا رد عوض؛ كالأرض الواسعة، والقرى، والبساتين، والدور الكبار، والدكاكين الواسعة، والمكيلات والموزونات (¬1) من جنس واحدٍ. سواء كان مما مسّته النارُ؛ كالدبسِ وخلِ التمر، أو لم تمسه؛ كخل العنب والأدهان والألبان. فإذا طلب أحدهما قسمه وأبى الآخر أُجبر عليه). أما كون النوع الثاني قسمة الإجبار؛ فلأنه يلي الأول وهو قسمة التراضي. وأما كونها هي ما لا ضرر فيها ولا رد عوضٍ؛ فلأن الضرر منتفي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضَررَ ولا إضرار» (¬2). ورد العوض منفي بأن القسمة تصير معه معاوضة، والمعاوضة لا يجبر عليها فلا تكون القسمة فيه قسمة إجبار. وأما قول المصنف رحمه الله: كالأرض الواسعة ... إلى قوله: من جنسٍ واحدٍ؛ فبيان لصور تكون القسمة فيها قسمة إجبار. وأما كون ذلك سواء كان مما مسّته النار أو لم تمسه النار؛ فلأن الغرض تمييز الحق، وذلك لا يختلف بالنسبة ما ذكر. وأما كون من أبى من القسم المذكور يجبر عليه؛ فلأن ذلك يتضمن إزالة الضرر الحاصل بالشركة وحصول النفع للشريكين؛ لأن نصيب كل واحدٍ منهما إذا تميز كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره، ويتمكن من إحداث الغرس والبناء فيه، وذلك لا يمكن مع الاشتراك. قال: (وهذه القسمة إفراز حق أحدهما من الآخر في ظاهر المذهب وليست بيعاً. فيجوز قسم الوقف. وإذا كان نصف العقار طلقاً ونصفه وقفاً جازت قسمته. ¬

_ (¬1) في د: الموزونات. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وتجوز قسمة الثمار خرصاً وقسمة ما يُكال وزناً وما يوزن كيلاً والتفرق في قسمة ذلك قبل القبض. وإذا حلف لا يبيع فقسم له لم يحنث. وحكي عن أبي عبدالله بن بطة ما يدل على أنها كالبيع فلا يجوز فيها ذلك). أما كون هذه القسمة والمراد بها قسمة الإجبار إفراز حق أحد الشريكين من الآخر في ظاهر المذهب وليست بيعاً؛ فلأنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك، ولا تجب فيها الشفعة، ويدخل فيها الإجبار، وتلزم بإخراج القرعة، ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر. والبيع بخلاف ذلك. ولأنها تنفرد عن البيع باسمها وأحكامها. فلم تكن بيعاً؛ كسائر العقود. فعلى هذا يترتب على ذلك أمور: أحدها: أنه يجوز قسم الوقف؛ لأن تمييز الوقف جائز. وثانيها: أنه إذا كان نصف العقار طلقاً ونصفه وقفاً جازت قسمته أيضاً؛ لأنه إذا جازت قسمة الوقف المحض. فلأن تجوز قسمة ما بعضه طلقٌ وبعضه وقف بطريق الأولى. وثالثها: أنه تجوز قسمة المكيل وزناً والموزون كيلاً؛ لأن الغرض التمييز لا البيع. ورابعها: أنه يجوز التفرق في قسمة المكيل والموزون قبل القبض؛ لأن التفرق إنما منع منه في بيع ذلك قبل قبضه والتقدير: أن القسمة إفراز. وخامسها: أنه إذا حلف حالفٌ أنه لا يبيع فقسم لم يحنث؛ لأن ذلك ليس ببيع. وأما كونها كالبيع في روايةٍ؛ فلأنه يبدل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من القسم الآخر. وهذا حقيقة البيع. فعلى هذا لا يجوز قسمة الوقف ولا ما بعضه وقفٌ؛ لأن بيع الوقف لا يجوز. ولا قسمة المكيل وزناً ولا الموزون كيلاً؛ لأن بيع المكيل لا يجوز وزناً وبيع الموزون لا يجوز كيلاً. ولا يجوز التفرق في قسمة المكيل والموزون قبل القبض؛ لأن التفرق في بيع ذلك قبل قبضه غير جائز. وإن حلف لا يبيع فقسم حنث؛ لأن القسمة بيع.

قال: (وإن كان بينهما أرضٌ بعضها يُسقى سيحاً وبعضها بعْلاً، أو في بعضها نحل وفي بعضها شجر فطلب أحدهما قسم كل عينٍ على حدةٍ وطلب الآخر قسمها أعياناً بالقيمة قُسمت كل عين على حدةٍ إذا أمكن). أما كون كل عين تقسم على حدة فيما ذكر؛ فلأن قسم كل عين على حدةٍ أقرب إلى التعديل، وقد أمكن فتعين إجابة طالبه. ولأن الحامل على القسمة زوال الشركة وهو حاصل فيما ذكر فتعينت إجابة طالبه؛ لأن ضرر صاحبه يزول بإجابته. وأما كونها لا تقسم كل عين على حدةٍ إذا لم يمكن؛ فلعدم الإمكان. فعلى هذا يقسم المجموع إن كان قابلاً للقسمة، وإلا فلا.

فصل [في نصب القاسم] قال المصنف رحمه الله: (ويجوز للشركاء أن ينصبوا قاسماً يقسم بينهم. وإن يسألوا الحاكم نصب قاسم يقسم بينهم. ومن شرط من ينصب: أن يكون عدلاً عارفاً بالقسمة فمتى عدلت السهام وأخرجت القرعة لزمت القسمة. ويحتمل أن لا تلزم فيما فيه رد بخروج القرعة حتى يرضيا بذلك). أما كون الشركاء يجوز لهم أن ينصبوا قاسماً يقسم بينهم؛ فلأن الحق لهم لا يعدوهم. وأما كونهم يجوز لهم أن يسألوا الحاكم نصب قاسم يقسم بينهم؛ فلأن طلبة ذلك حق لهم. فجاز أن يسألوه الحاكم؛ كغيره من الحقوق. وأما كون من شرط من ينصب أن يكون عدلاً؛ فلأنه نائب الحاكم أو كنائبه. وأما كون من شرطه أن يكون عارفاً بالقسم؛ فلأنه لا يتمكن من فعلها بطريق الحق إلا بذلك. فإن قيل: الشرطان المذكوران مشروطان فيمن نصبه الشريكان أم فيمن نصبه الشريكان ونصبه الحاكم. قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا عوده إليهما. وقال في المغني: من شرط قاسم الحاكم العدالة، ومعرفة الحساب والقسمة. وإن نصبا -يعني الشريكين- قاسماً بينهما فكان على صفة قاسم الحاكم في العدالة والمعرفة فهو كقاسم الحاكم في لزوم قسمته بالقرعة، وإن كان كافراً أو فاسقاً لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما بها. ويكون وجوده فيما يرجع إلى لزوم القسمة كعدمه.

وظاهره أنه يجوز للشريكين نصب من ليس بعدل لكن لا تكون قسمته لازمة إذا أخرجت القرعة. وأما كون القسمة تلزم إذا أخرجت القرعة بعد تعديل السهام وكانت قسمة إجبار؛ فلأن قرعة قاسم الحاكم كحكم الحاكم. بدليل أنه مجتهد في تعديل السهام كاجتهاد الحاكم في طلب الحق. فوجب أن تلزم قرعته. وأما كونها تلزم إذا كانت قسمة تراض وليست فيما فيه رد؛ فلأن قاسمهم كرجل حكموه بينهم، ولو حكموا رجلاً بينهم لزم حكمه. فكذلك إذا رضوا بقسمته. وأما كونها تلزم إذا كانت قسمة تراضٍ وكان فيما فيه رد على المذهب؛ فلأن القاسم كالمحكم، وقرعته كحكمه. وأما كونها يحتمل أن لا تلزم فيها؛ فلأنها بيع، والبيع لا يلزم إلا بالتراضي. فإن قيل: فلم جيء بالقرعة؟ قيل: جيء بها لتميز البائع من المشتري. قال: (وإذا كان في القسمة تقويم لم يجز أقل من قاسمين. وإن خلت من تقويم أجزأ قاسم واحد). أما كون القسمة لا يجوز فيها أقل من قاسمين فيما فيها تقويم؛ فلأن ما فيه تقويم يفتقر إلى التقويم، والتقويم لا يصح إلا من اثنين. وأما كون قاسم واحد يجزئ إذا خلت من تقويم؛ فلأن المحوج إلى القاسمين هو التقويم، وهو مفقود هاهنا. ولأن القاسم بدل عن الحاكم، والحاكم يكون واحداً فكذلك القاسم. قال: (وإذا سألوا الحاكم قسمة عقار لم يثبت عنده أنه لهم قسمه، وذكر في كتاب القسمة: أن قسمه بمجرد دعواهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم. وإن لم يتفقوا على طلب القسمة لم يقسمه). أما كون الحاكم يقسم ما ذكر؛ فلأن اليد دليل الملك ولا مُنازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر. فوجب أن يشارك ثبوت الملك في القسمة.

وأما كونه يذكر القصة في كتاب القسمة؛ فلئلا يتوهم الحاكم بعده أن القسمة وقعت بعد ثبوت ملكهم فيؤدي ذلك إلى ضرر من يدعي في العين حقاً. وأما كونه لا يقسمه إذا لم يتفق الشركاء على طلب القسمة؛ فلأن الإشاعة حق لكل واحد منهم فإذا لم يرض بعضهم ولم يثبت ما يوجب القسمة لم يجز التصرف في حقه بغير رضاه.

فصل [في كيفية القسمة] قال المصنف رحمه الله: (ويعدل القاسم السهام بالأجزاء إن كانت متساوية، وبالقيمة إن كانت مختلفة، وبالرد إن كانت تقتضيه، ثم يقرع بينهم، فمن خرج له سهم صار له. وكيف ما أقرع جاز؛ إلا أن الأحوط أن يكتب اسم كل واحد من الشركاء في رقعة ثم يدرجها في بنادق شمعٍ أو طينٍ متساوية القدر والوزن، وتطرح في حجر من لم يحضر ذلك ويقال له: اخرج بندقة على هذا السهم فمن خرج اسمه كان له، ثم الثاني كذلك، والسهم الباقي للثالث إذا كانوا ثلاثة وسهامهم متساوية. وإن كتب اسم كل سهم في رقعة وقال: اخرج بندقة باسم فلان وأخرج الثانية باسم الثاني والثالثة للثالث جاز). أما كون القاسم يعدل السهام؛ فلأن ضد ذلك جور وذلك غير جائز. وأما كونه يعدلها بما ذكر؛ فلأنها تارة تكون متساوية الأجزاء، وتارة مختلفة، وتارة تقتضي الرد. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثال الأول: أرض، قيمة جميع أجزائها متساوية فهذه تعدل سهامها بالأجزاء؛ لأنه يلزم من التساوي بالأجزاء التساوي بالقيمة. ومثال الثاني: أرض، أحد جوانبها يساوي مثلي الآخر فهذه تعدل بالقيمة؛ لأنه لما تعذر التعديل بالأجزاء لم يبق إلا التعديل بالقيمة. ضرورة أن قسمة الإجبار لا تخلو من أحدهما. ومثال الثالث وهو ما يقتضي الرد: أرض، قيمتها مائة فيها شجر أو بئر تساوي مائتين فإذا جعلت الأرض بينهما كانت الثلث ودعت الضرورة إلى أن يجعل مع الأرض خمسون يردها من خرجت له الشجر أو البئر على من خرجت له الأرض ليكونا نصفين متساويين.

وأما كون القاسم يقرع بين الشركاء بعد ذلك؛ فلأن الشرع ورد بها؛ لتمييز الحال في غير القسمة. والإبهام حاصل هاهنا فتعين فعله؛ لإزالة الإبهام الحاصل قياساً لبعض موارد الشرع على بعض. وأما كونه كيف ما أقرع يجوز؛ فلأن الغرض التمييز وذلك حاصل. فعلى هذا يجوز أن يقرع بخواتيم وحصباً وغير ذلك. وأما كون الأحوط أن يكتب اسم كل واحد من الشركاء في رقعة؛ فلأنه طريق للتمييز. وأما كونه يدرج الرقاع في بنادق شمعٍ أو طينٍ متساوية القدر والوزن؛ فلئلا يعلم بعضها من بعض. وأما كونها تطرح في حجر من لم يحضر ذلك؛ فلأنه أنفى للتهمة. وأما كونه يقال له: اخرج بندقة على هذا السهم؛ فليعلم من له ذلك. وأما كون من خرج اسمه كان السهم له؛ فلأن اسمه خرج عليه وتميز سهمه به. وأما كون السهم الثاني كالأول في القول المذكور وفي كونه لمن خرج اسمه عليه؛ فلأنه كالأول معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما كون السهم الباقي للثالث إذا كانوا ثلاثة وسهامهم متساوية؛ فلأنه تعين له؛ لزوال الإبهام. وأما كون القاسم إذا كتب اسم كل سهم في رقعة وقال ما ذكر ... إلى آخره يجوز؛ فلأن الغرض يحصل بذلك.

قال: (وإن كانت السهام مختلفة كثلاثة: لأحدهم النصف، وللآخر الثلث، وللآخر السدس فإنه يُجَزِّئها ستة أجزاء، ويخرج الأسماء على السهام لا غير فيكتب باسم صاحب النصف ثلاثاً، وباسم صاحب الثلث اثنين، وباسم صاحب السدس واحدة، ويخرج بندقة على السهم الأول، فإن خرج اسم صاحب النصف أخذه والثاني والثالث. وإن خرج اسم صاحب الثلث أخذه والثاني ثم يقرع بين الآخرين والباقي للثالث). أما كون القاسم يُجَزِّئ الأرض المذكورة ستة أجزاء؛ فلأن السهام مختلفة. فلم يكن بد من تجزئها بحسب أقل الشركاء نصيباً وذلك السدس، وعلى هذا فقس. فلو كانت الأرض بين ثلاثة لأحدهم النصف، وللآخر الربع (¬1)، وللآخر الثمن: جزأها ثمانية أجزاء. وأما كونه يخرج السهام على الأسماء لا غير؛ فلأن إخراج السهام على الأسماء لا يمكن؛ لاحتمال أن يخرج اسم من ليس له السهام المذكورة. وأما كونه يكتب كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن الرقاع تكون بحسب التجزئة ست فالرقاع ست. وأما كونه يخرج بندقة على السهم الأول؛ فليعلم لمن هو. وأما كونه إذا خرج اسم صاحب النصف عليه أخذه؛ فلما تقدم فيما إذا كانت السهام متساوية. وأما كونه يأخذ الثاني والثالث؛ فلينضم نصيبه بعضه إلى بعض. وأما كونه إذا خرج اسم صاحب الثلث أخذه والثاني؛ فلما ذكر قبل. وأما كونه إذا خرج اسم صاحب السدس أخذه وحده؛ فلأنه لا شيء له غيره. وأما كون القاسم يقرع بين الآخرين؛ فلأن الإبهام بالنسبة إليهما باق. وأما كون اسم صاحب النصف إذا خرج أخذ الثاني والثالث والرابع، والباقي لصاحب الثلث. وإن خرج اسم صاحب الثلث أخذ الثاني والثالث، والباقي لصاحب النصف؛ فلما تقدم ذكره. ¬

_ (¬1) في د زيادة: والثمن.

فصل [إذا ادعى بعضهم غلطا في القسمة] قال المصنف رحمه الله: (فإن ادعى بعضهم غلطاً فيما تقاسموه بأنفسهم وأشهدوا على تراضيهم به لم يُلتفت إليه. وإن كان فيما قسمه قاسم الحاكم فعلى المدعي البينة، وإلا فالقول قول المنكر مع يمينه. وإن كان فيما قسمه قاسمهم الذي نصبوه وكان فيما اعتبرنا فيه الرضا بعد القرعة لم تسمع دعواه، وإلا فهو كقاسم الحاكم). أما كون مدعي الغلط لا يلتفت إليه فيما تقاسموه بأنفسهم وأشهدوا على تراضيهم به؛ فلأنه رضي بالقسمة الواقعة وبالزيادة في نصيب شريكه وأشهد عليه بذلك. وأما كونه عليه البينة فيما قسمه قاسم الحاكم؛ فلأنه مدعٍ فيدخل في قوله عليه السلام: «البينةُ على المدعِي» (¬1). فإن أقام المدعي بينة بالغلط نقضت القسمة؛ لأنه بيَّن أنها وقعت على غير وجهها المعتبر، وإن لم يقم بينة بذلك فالقول قول المنكر؛ لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة. وأما كونه لا تسمع دعواه فيما قسمه قاسمهم الذي نصبوه وكان فيما يعتبر فيه الرضا بعد القرعة كقسمة فيها رد؛ فلأنه رضي بالقسمة. وأما كونه في ذلك كقاسم الحاكم إذا لم يكن كذلك؛ فلأنه بمنزلته. فعلى هذا إن أقام بينة بالغلط سمعت وإلا فالقول قول المنكر مع يمينه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإن تقاسموا ثم استحق من حصة أحدهما شيء معين بطلت. وإن كان شائعاً فيهما فهل تبطل القسمة؟ على وجهين). أما كون القسمة تبطل إذا استحق من حصة أحد المتقاسمين شيء معين؛ فلأنه تبيَّن أن أحد المتقاسمين لم يأخذ حقه. وأما كونها تبطل إذا كان المستحق شائعاً فيهما على وجه؛ فلأن الثالث شريكهما، وقد اقتسما من غير حضوره ولا إذنه. وأما كونها لا تبطل على وجه؛ فلأنه يمكن بقاء حقه في يديهما جميعاً مع بقائهما فيما عدا ذلك على ما كانا عليه. قال: (وإذا اقتسما دارين قسمة تراضٍ فبنى أحدهما في نصيبه ثم خرجت الدار مستحقة ونُقض بناؤه رجع بنصف قيمته على شريكه. وإن خرج في نصيب أحدهما عيبٌ فله فسخ القسمة). أما كون من ذكر يرجع بنصف قيمة بنائه؛ فلأن هذه القسمة بمنزلة البيع فكأنه باعه نصف الدار، ولو باعه الدار جميعها رجع عليه بالبناء كله فإذا باعه نصفها وجب أن يرجع عليه بنصف البناء. وأما كون من خرج في نصيبه عيبٌ له فسخ القسمة؛ فلأن في العيب نقصاً عن قدر حقه الخارج له. فوجب أن يتمكن من فسخ القسمة؛ استدراكاً لما فاته؛ كما لو اشترى شيئاً فظهر معيباً. قال: (وإن اقتسم الورثة العقار ثم ظهر على الميت دين، فإن قلنا: هي إفراز حق لم تبطل القسمة. وإن قلنا: هي بيع انبنى على بيع التركة قبل قضاء الدين هل يجوز؟ على وجهين). أما كون القسمة لا تبطل بما ذكر إذا قيل: القسمة إفراز حق؛ فلأن الدين يتعلق بالعقار بعد القسمة. فلم يقع ضرر في حق أحد. وأما كون ذلك ينبني على بيع التركة قبل قضاء الدين إذا قيل: هي بيع؛ فظاهر. وأما كون بيع التركة قبل قضاء الدين يجوز على وجه؛ فلأن العبد الجاني يتعلق برقبته حق المجني عليه ويتمكن مالكه من بيعه فكذلك الورثة.

وأما كونه لا يجوز على وجه؛ فلأن تعلق الدين بالعين يمنع التصرف فيها. دليله: ما لو كانت مرهونة. فعلى هذا إن قيل بجوازه يوفي الدينَ الورثةُ استقر ذلك وإلا فسخ وبيعت العين في الدين. وإن قيل بعدم جوازه بطل، بيعاً كان أو قسمة. قال: (وإن اقتسما فحصلت الطريق في نصيب أحدهما ولا منفذ للآخر بطلت القسمة. ويجوز للأب والوصي قسم مال المولى عليه مع شريكه). أما كون القسمة تبطل إذا حصل الطريق في نصيب أحدهما ولا منفذ للآخر؛ فلأن الانتفاع بأحد النصيبين لا يمكن؛ لتعذر الانتفاع به من غير منفذ. وأما كون الأب والوصي يجوز لهما قسم مال المولى عليه مع شريكه؛ فلأن القسمة إما بيع أو إفراز، وكلاهما يجوز للأب والوصي فعله.

باب الدعاوي والبينات

باب الدعاوي والبينات الدعوى في اللغة: إضافة الإنسان الشيء إلى نفسه ملكاً أو استحقاقاً أو صفة أو نحو ذلك. وفي الشرع: إضافته إلى نفسه استحقاقَ شيء في يد غيره، أو في ذمته. وقيل: الدعوى الطلب، ومنه قوله تعالى: {ولهم ما يدَّعون} [يس: 57]. أي يطلبون. والأصل في الدعوى في الجملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماءَ قوم وأموالَهم. ولكن اليمين على المدعى عليه» (¬1). رواه مسلم. وفي الحديث: «البينةُ على المدعِي. واليمينُ على المدعَى عليه» «¬2). قال المصنف رحمه الله: (المدعي من إذا سكتَ تُرك، والمنكر من إذا سكتَ لم يُترك. ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف). أما كون المدعي والمنكر ما ذكر؛ فلأن المدعي طالب والمنكر مطلوب، والطالب إذا سكت ترك والمطلوب إذا سكت لم يترك. وقال بعض أصحابنا: المدعي من يلتمس أخذ شيء من يد غيره أو إثبات حق في ذمته والمدعى عليه من ينكر ذلك. وأما كون كل واحد من الدعوى والإنكار لا يصح إلا من جائز التصرف؛ فلأن كل واحد منهما قول يترتب عليه حكم شرعي. فلم يصح من غير جائز التصرف؛ كالبيع. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1711) 3: 1336 كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه. (¬2) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قال: (وإذا تداعيا عيناً لم تخل من أقسام ثلاثة: أحدها: أن تكون في يد أحدهما فهي له مع يمينه أنها له لا حق للآخر فيها إذا لم يكن بينة). أما كون التداعي المذكور لا يخلو من أقسام ثلاثة؛ فلأن العين مع التداعي لا تخلو من أن تكون في يد أحدهما، أو في يديهما، أو في يد غيرهما. وأما كون أحدها: أن تكون في يد أحدهما؛ فظاهر. وأما كونها لمن هي في يده مع يمينه إذا لم يكن بينة؛ فلأن اليد دليل الملك ظاهراً. وإنما اشترطت يمينه أنها له لا حق للآخر فيها؛ لأن من ليست في يده يحتمل أن تكون العين له فشرعت اليمين في حق صاحبه من أجل الاحتمال المذكور. وإنما اشترط عدم البينة؛ لأن البينة إذا كانت أظهرت الحق فلم يحتج معها إلى يمين. قال: (ولو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل، والآخر آخذ بزمامها فهي للأول. وإن تنازعا قميصاً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه). أما كون الدابة للراكب أو لمن عليها حمل دون الآخذ بالزمام؛ فلأن تصرف كل واحد منهما في العين أقوى من تصرف الآخذ بالزمام، ويده آكد؛ لأنه المستوفي للمنفعة. وأما كون القميص للابسه دون الآخذ بكمه؛ فلأن اللابس مع الآخذ بالكم أحسن حالاً من الراكب مع الآخذ بالزمام، والراكب أولى من الآخذ بالزمام فكذا ما هو أحسن حالاً منه.

قال: (وإن تنازع صاحب الدار والخياط الإبرة والمقص فهما للخياط. وإن تنازع هو والقرّاب القربة فهي للقرّاب. وإن تنازعا عرَصَة فيها شجرٌ أو بناءٌ لأحدهما فهي له). أما كون الإبرة والمقص للخياط دون صاحب الدار فيما ذكر؛ فلأن تصرف الخياط في ذلك أظهر، والظاهر معه؛ لأن العادة جارية بحمل الخياط الإبرة والمقص. وأما كون القربة للقرّاب دون صاحب الدار فيما ذكر؛ فلما ذكر في الخياط. وأما كون العرصَة التي فيها شجر أو بناء لأحدهما لمن له ذلك؛ فلأن ذلك دليل الملك ظاهراً. قال: (وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببناء أحدهما وحده أو متصلاً به اتصالاً لا يمكن إحداثه، أو له عليه أزج: فهو له. وإن كان محلولاً من بنائهما أو معقوداً بهما فهو بينهما). أما كون الحائط المعقود ببناء أحد المتنازعين (¬1). [قال: (وإن اختلف صانعان في قماش دكان لهما حكم بآلة: كل صناعة لصاحبها في ظاهر كلام أحمد والخرقي. وقال القاضي: إن كانت أيديهما عليه من طريق الحكم فكذلك. وإن كانت من طريق المشاهدة فهو بينهما على كل حال)] (¬2). أما كون كل آلة كل صناعة يحكم بها لصاحبها في ظاهر كلام من ذكر؛ فلأن الظاهر أنها له. ولأن الآلة بالنسبة إلى الصانع كالقماش الصالح للرجل بالنسبة إليه والصالح للرجل للرجل. فكذا يجب أن يكون الصالح للصانع له. وأما كون ذلك كذلك إذا كانت أيديهما عليه من طريق الحكم على قول القاضي؛ فلما ذكر. ¬

_ (¬1) كذا في د. (¬2) زيادة من المقنع.

وأما كونه بينهما إذا كانت أيديهما عليه من طريق المشاهدة؛ فلأن المشاهدة أقوى من اليد الحكمية. بدليل: لو تنازع الخياط وصاحب الدار الإبرة والمقص. فإن قيل: قول القاضي يجري في مسألة الزوجين أم هو مختص بمسألة الصانعين؟ . قيل: هو عام فيهما، وصرح به المصنف رحمه الله في المغني في مسألة الزوجين. قال: (وكل من قلنا هو له فهو له مع يمينه إذا لم تكن بينة. وإن كانت لأحدهما بينة حُكم له بها). أما كون اليمين على من حُكم له بشيء مما ذكر؛ فلأنه يحتمل أن لا يكون ذلك له فشُرعت اليمين من أجل ذلك. وأما كون من كانت له بينة يُحكم له بها؛ فلأن البينة تُظهر صاحب الحق، وذلك يقتضي كون الحكم له دون غيره. قال: (وإن كان لكل واحدٍ منهما بينة حُكم بها للمدعي في ظاهر المذهب. وعنه: إن شهدت بينة المدعى عليه أنها له نتجت في ملكه أو قطيعة من الإمام قدمت بينته، وإلا فهي للمدعي ببينته. قال القاضي فيهما: إذا لم يكن مع بينة الداخل ترجيح لم يُحكم بها رواية واحدة. وقال أبو الخطاب: فيه رواية أخرى أنها مقدمة بكل حال). أما كون العين يحكم بها للمدعي في ظاهر المذهب إذا كان لكل واحدٍ من المتنازعين بينة وكانت العين في يد أحدهما؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البينةُ على المدعِي واليمينُ على المدعَى عليه» (¬1). جعل النبي صلى الله عليه وسلم جنس البينات في جنبة المدعي فلا تبقى في جنبة المنكر بينة. ولأن بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها. ودليل كثرة فائدتها أنها تُثبت شيئاً لم يكن، وبينة المنكر إنما تُثبت ظاهراً دلت اليدُ عليه. وأما كون المدعى عليه تقدم بينته إذا شهدت بالسبب من نتاج أو غيره كما مثّل المصنف رحمه الله؛ فلأن البينة إذا شهدت بالسبب فقد أفادت ما لا تفيده

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 545.

اليد، وقد روى جابر بن عبدالله «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابةٍ أو بعير فأقام كل واحدٍ منهما البينة أنها له أنتجها. فقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنها للذي في يده» (¬1). وأما كون بينة الداخل لا يُحكم بها رواية واحدة إذا لم يكن معها ترجيح على قول القاضي؛ فلأن بينة الخارج أقوى منها؛ لأنه لا يجوز أن يكون مستندها اليد. بخلاف بينة الداخل. وأما كون بينة الداخل مقدمة بكل حال في روايةٍ قالها أبو الخطاب؛ فلأن جنبته أقوى من جنبة الخارج. بدليل: أن يمينه تُقدم على يمينه. قال: (فإن أقام الداخل بينة أنه اشتراها من الخارج، وأقام الخارج بينة أنه اشتراها من الداخل فقال القاضي: تقدم بينة الداخل، وقيل: تقدم بينة الخارج). أما كون بينة الداخل تقدم على قول القاضي؛ فلأنه هو الخارج في المعنى؛ لأنه ثبت بالبينة أن المدعي صاحب اليد وأن يد الداخل نائبة عنه. وأما كون بينة الخارج تقدم على قول؛ فلأنه المدعي، وفي الحديث: «البينةُ على المدعِي» (¬2). ولأن اليمين في حق الداخل فتكون البينة في حق الخارج. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3613) 3: 310 كتاب الأقضية، باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2330) 2: 780 كتاب الأحكام، باب الرجلان يدعيان السلعة وليس بينهما بينة. (¬2) سبق تخريجه ص: 545.

فصل [إذا كانت العين في يديهما] قال المصنف رحمه الله: (القسم الثاني: أن تكون العين في يديهما، فيتحالفان، وتُقسم بينهما). أما كون القسم الثاني ما ذكر؛ فلأنه يلي الأول. وأما كون من العين في يديهما يتحالفان. وهو: أن يحلف كل واحدٍ منهما لصاحبه؛ فلأن كل واحدٍ منهما منكرٌ ما ادعاه صاحبه واليمين على من أنكر. وأما كون العين تقسم بينهما أي نصفين؛ فلأن يد كل واحدٍ منهما على نصف العين، وما وُجد ما يقتضي رفعَ ذلك. فوجب إقراره في يده. قال: (وإن تنازعا مُسَنَّاةً بين نهر أحدهما وأرض الآخر تحالفا، وهي بينهما). أما كون من تنازعا ما ذكر يتحالفان كما تقدم؛ فلما تقدم. وأما كون المُسَنَّاة وهي الحاجز بين النهر والأرض بين صاحب النهر وصاحب الأرض؛ فلأنها حاجز بين ملكيهما ويديهما عليها. فكانت لهما؛ كما لو تنازع صاحب العلو وصاحب السفل السقف الذي بينهما. قال: (وإن تنازعا صبياً في يديهما فكذلك. وإن كان مميزاً فقال: إني حر فهو حر، إلا أن تقوم بينة برقّه. ويحتمل أن يكون كالطفل). أما كون الصبي الذي في يد المتنازعين فيه بينهما؛ فلأن اليد دليل الملك، والصبي لا عبارة له فهو كالبهيمة والمتاع. وأما كونه حراً إذا كان مميزاً وقال: إني حر ولم تقم بينة برقّه على المذهب؛ فلأنه مُعرِبٌ عن نفسه في قوله: إني حر المعتضد بالأصل. فوجب أن يقبل قوله؛ كالبالغ. وأما كونه يحتمل أن يكون كالطفل؛ فلأنه صغير ادعى رقّه من هو في يده. أشبه ما لو كان طفلاً.

فعلى هذا إن لم يكن لأحد المتنازعين بينة فهو بينهما لثبوت يدهما عليه، وإن كان لأحدهما بينة حُكم له بها؛ لأن البينة تُظهر صاحب الحق، وذلك يعلق حقه بالعين المتنازع فيها. قال: (فإن كان لكل واحدٍ بينةٌ قدّم أسبقهما تاريخاً، فإن وقتت إحداهما (¬1) وأطلقت الأخرى فهما سواء. ويحتمل تقديم المطلِقة). أما كون أسبق البينتين تاريخاً تقدّم؛ فلأنها أثبتت الملك لصاحبها في وقتٍ لم تُعارضها فيه البينة الأخرى، وذلك يقتضي ثبوت الملك له في ذلك الزمان، وفي الزمان الثاني تعارضت فيه البينتان وسقطتا. فوجب بقاء الملك الثابت في الزمان الأول إلى حال التنازع. فعلى هذا إذا شهدت بينة أحدهما أن العين له منذ سنتين وشهدت بينة الآخر أنها له منذ سنة فهي لمن شهدت بينته أنها له منذ سنتين. إذا علم ذلك فقال المصنف رحمه الله في المغني في تقديم أقدمهما تاريخاً: قال القاضي: هو قياس المذهب. ثم قال: وظاهر كلام الخرقي التسوية بينهما؛ لأن الشاهد بالملك الحادث أولى؛ لجواز أن يعلم به دون الأول فإذا لم ترجح بهذا فلا أقل من التساوي. وأجاب عن ثبوت الملك في الزمن الأول بأن ذلك إنما يثبت تبعاً للزمن الحاصل. بدليل: أنه لو انفردت الدعوى بالزمن الماضي لم تسمع. وأما كون البينتين سواء إذا وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى على المذهب؛ فلأنه ليس في المطلقة ما يقتضي التقدم. فوجب استواؤهما؛ كما لو أطلقتا جميعاً. وأما كون المطلقة يحتمل تقديمها؛ فلأن الملك فيها يجوز أن يكون ثابتاً قبل المؤقتة فيكون مقدماً عليها. والأول أصح؛ لما تقدم. والاحتمال المذكور معارض بمثله؛ لأنه يجوز أن تكون الموقتة قبل المطلقة، وإذا تساويا في الاحتمال المذكور وجب استواؤهما. ¬

_ (¬1) في د: أحدهما.

قال: (وإن شهدت إحداهما بالملك والأخرى بالملك والنتاج، أو سبب من أسباب الملك فهل تقدم بذلك؟ على وجهين). أما كون بينة النتاج أو السبب تقدم بذلك على وجه؛ فلأنها شهدت بزيادة على الأخرى. وأما كونها لا تقدم بذلك على وجه؛ فلأنهما اشتركا في إثبات أصل الملك وفي اليد. فوجب استواؤهما لذلك. قال: (ولا تقدم إحداهما بكثرة العدد، ولا اشتهار العدالة، ولا الرجلان على الرجل والمرأتين، ويقدم الشاهدان على الشاهد، واليمين في أحد الوجهين). أما كون إحدى البينتين لا تقدم بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة، وكون الرجلين لا يقدمان على الرجل والمرأتين؛ فلأن الشرع قدر الشهادة بمقدار معلوم وبالعدالة وبالرجل والمرأتين. فلم يختلف ذلك بالزيادة؛ كالدية. وأما كون الشاهدان يقدمان على الشاهد واليمين في وجه؛ فلأنهما متفق عليهما والشاهد واليمين مختلف فيه، والمتفق عليه أولى من المختلف فيه. ولأن اليمين قوله لنفسه والبينة الكاملة شهادة الأجنبي له. فيجب تقديمها عليه؛ كما تقدم بينة المدعي على يمين المنكر. وأما كونهما لا يقدمان عليهما في وجه؛ فلأنهما حجتان. أشبهتا البينتين. قال: (وإذا تساوتا تعارضتا، وقسمت العين بينهما بغير يمين. وعنه: أنهما يتحالفان كمن لا بينة لهما. وعنه: أنه يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه حلف وأخذها). أما كون البينتين تتعارضان إذا تساوتا؛ فلأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى. وأما كون العين تقسم بين المتنازعين نصفين على المذهب؛ فلما روي «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير فأقامَ كل واحدٍ منهما شاهدين فقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين» (¬1). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3615) 3: 310 كتاب الأقضية، باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة.

وأما كون ذلك بغير يمين؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلف أحداً في الحديث المتقدم ذكره. ولأنه قد تقرر أن بينة الخارج متقدمة، وكل واحدٍ من المتنازعين داخل في نصف خارج في نصف. فتقدم بينته في النصف الذي في يد صاحبه ولا يحتاج إلى يمين، وتقدم بينة صاحبه في النصف الآخر. وأما كون المتنازعين يتحالفان على روايةٍ؛ فلأن البينتين لما تعارضتا من غير ترجيح وجب إسقاطهما؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما؛ لتنافيهما. ولا ترجيح إحداهما؛ لأنه ترجيحٌ لا لمرجحٍ، وإذا سقطتا وجب أن يتحالفا كمن لا بينة لهما. وأما كونهما يقرع بينهما على روايةٍ؛ فلأن القرعة مشروعة في موضع الإبهام وهو موجود هاهنا. وأما كون من قرع صاحبه يحلف؛ فلأن العين يحتمل أنها لصاحبها. وأما كونه يأخذ العين؛ فلأن ذلك فائدة القرعة. والأول أصح؛ للحديث المتقدم ذكره. قال: (فإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيدٍ لم تُسمع البينة على ذلك حتى يقول: وهي ملكه وتشهد البينة به). أما كون البينة على ذلك لا تُسمع حتى يقول المدعي: وهي ملكه وتشهد البينة له بذلك: أما الأول؛ فلأن مجرد الشراء لا يوجب نقل الملك لجواز أن يقع مع غير مالك. فلم يكن بد من انضمام الملك للبائع. ولأن مجرد الشراء لو أفاد لتمكن من أراد انتزاع ملكٍ من يد شخص من ذلك بأن يوافق شخصاً لا ملك له على إيقاع الشراء على الملك الذي في يد ذلك الشخص وينزعه منه، وذلك ضرر عظيم. وأما الثاني؛ فلأن سماع البينة الشاهدة بشيء متوقف على شهادتهما بذلك. قال: (فإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد وهي ملكه، وادعى الآخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه، وأقاما بذلك بينتين: تعارضتا. وإن أقام أحدهما

بينة أنها ملكه وأقام الآخر بينة أنه اشتراها منه أو وقفها عليه أو أعتقه: قدمت بينته). أما كون البينتين في المسألة الأولى تتعارضان؛ فلأنهما استويا في السبب وثبوت الملك، وذلك يوجب التعارض؛ كالحديثين المتنافيين من كل وجه. وأما كون بينة الشراء والوقف والعتق في المسألة الثانية تقدم؛ فلأنها شهدت بما يوجب نقل ملك صاحبه وذلك مرجح على غيره. قال: (ولو أقام رجلٌ بينةً أن هذه الدار لأبي خلفها تركة، وأقامت امرأته بينة أن أباهُ أصدقَها إياها فهي للمرأة). أما كون الدار المذكورة للمرأة فيما ذكر؛ فلأن بينتها شهدت بالسبب المقتضي للنقل عمن شهدت البينة الأخرى أنها له. وأما كون بينة الابن بأنها تركة لا تُعارضها وإن نافتها؛ فلأن قولها: تركة مستندها فيه الاستصحاب وقد تيقن قطعه بقيام البينة على سبب النقل.

فصل [إذا تداعيا عينا في يد غيرهما] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: تداعيا عيناً في يد غيرهما، فإنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها). أما كون القسم الثالث ما ذكر؛ فلأنه يلي الثاني. وأما كون من تداعيا ما ذكر يقرع بينهما؛ فلما روى أبو هريرة «أن رجلين تداعيا عيناً لم يكن لواحد منهما بينة. فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين» (¬1). ولأن أحدهما لا مزية له. أشبه ما لو أعتق أحد عبديه، وما لو أعتق عبيداً لا مال له غيرهم في مرض موته. وأما كون من خرجت له القرعة يحلف ويأخذها؛ فلما تقدم فيما إذا تساوت البينتان. وقيل: بالقرعة فيها (¬2). قال: (وإن كان المدعي عبداً فأقر لأحدهما لم يرجح بإقراره. وإن كان لأحدهما بينة حُكم له بها. وإن كان لكل واحدٍ بينة تعارضتا والحكمُ على ما تقدم). أما كون إقرار العبد فيما ذكر لا يرجح به؛ فلأنه متهم؛ لأنه يحتمل أن يميل إلى من أقر له دون الآخر. وأما كون العين يحكم بها لمن له بينة دون من ليس له بينة؛ فلأن بينته أظهرت أنه هو المستحق للعين المالك لها. وأما كون البينتين تتعارضان إذا كان لكل واحدٍ منهما بينة؛ فلأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3616) 3: 311 كتاب الأقضية، باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة. (¬2) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

وأما كون الحكم على ما تقدم؛ فلأنه في معناه. فعلى هذا يكون هنا روايتان: إحداهما: يقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها؛ لما تقدم من حديث أبي هريرة قياساً على ما إذا لم تكن بينة. والثانية: تقسم العين بينهما نصفين؛ لما روى أبو موسى الأشعري «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير فأقامَ كل واحدٍ منهما بينة أنه له. فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين» (¬1). والأول أصح؛ لما تقدم. وحديث أبي موسى محمول على ما إذا كانت العين في يد المنازعين. ولذلك جاء في بعض الألفاظ: «ولا بينةَ لهما» (¬2). قال: (فإن أقرّ صاحب اليد لأحدهما لم يرجح بذلك). أما كون من ذكر لا يرجح به؛ فبالقياس على إقرار العبد لأحد المدعيين. وأما الحكم فيما ذكر مما علم أن المنقول في المغني والهداية وغيرهما من الكتب أن المقر له يصير بالإقرار صاحب يدٍ؛ لأن المقر بإقراره له تبين أن يده مبنية على يد المقر له، ويلزم من ذلك صيرورة المقر له صاحب يد. ولفظ المصنف رحمه الله في المغني بعد أن ذكر المسألة: فإن أقر بها لواحدٍ منهما أم لواحد غيرهما صار المقر له صاحب اليد ويكون حكمه كالحكم فيما إذا تداعيا عيناً في يد أحدهما على ما مضى وذلك يقتضي ترجيح قوله. قال: (وإن ادّعاها صاحب اليد لنفسه فقال القاضي: يحلفُ لكل واحدٍ منهما وهي له. وقال أبو بكر: بل يقرع بين المدعيين، ويكون لمن تخرج له القرعة). أما كون صاحب اليد يحلف لكل واحدٍ من المدعيين على قول القاضي؛ فلأنهما وإن تعارضت بينتاهما ليسا بأقل ممن لا بينة لهما، وهناك يحلف صاحب اليد؛ لاحتمال صدق المدعيين. فلأن يحلف هنا بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3613) 3: 310 كتاب الأقضية، باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة.

وأما كون العين لصاحب اليد على ذلك؛ فلأن المدعيين تعارضت بينتاهما وصارا كمن لا بينة له، ولو لم تكن لهما بينة لحكم بالعين لصاحب اليد بعد حلفه فكذا هاهنا. وأما كونه يقرع بين المدعيين على قول أبي بكر؛ فلأن بينتهما أظهرت أنهما هما المستحقان، وأنه لا حق لصاحب اليد، وذلك يقتضي كون العين لأحدهما. فإذا لم يُعرف شرعت القرعة كغير ذلك من المواضع. فعلى هذا تكون العين لمن خرجت له القرعة؛ لأن فائدتها ذلك. قال: (وإن كان في يد رجل عبد فادعى أنه اشتراه من زيد، وادعى العبد أن زيداً أعتقه، وأقام كل واحدٍ بينة انبنى على بينة الداخل والخارج. وإن كان العبد في يد زيد فالحكم فيه الحكم ما إذا ادعيا عيناً في يد غيرهما). أما كون بينة المشتري والعبد تنبني على بينة الداخل والخارج؛ فلأن المشتري داخل؛ لأن يده على العبد، والعبد خارج؛ لأنه ليست له يد. فعلى هذا إن قدمت بينة الخارج قدمت بينة العبد وإن قدمت بينة الداخل قدمت بينة المشتري. ولا بد أن يلحظ أن بينتي المشتري والعبد كانتا مؤرختين تاريخاً واحداً، أو كانتا مطلقتين، أو إحداهما مطلقة ونقول: هما سواء. وإن كانتا مؤرختين تاريخاً مختلفاً قدمت الأولة؛ لأنها أسبق. ومتى سبق العتق لم يصح البيع وبالعكس. وأما كون الحكم في العبد إذا كان في يد سيده حكم ما إذا ادعيا عيناً في يد غيرهما؛ فلأن العبد عين وهو في يد غير المتنازعين. فعلى هذا يرجع إلى قول زيد فإن أنكرهما فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه منكر. وإن أقر لأحدهما قُبل إقراره وحلف للآخر. وإن أقام أحدهما بينة حُكم بها. وإن أقام كل واحدٍ بينة قُدمت السابقة؛ لما تقدم ذكره، فإن كانتا في وقتٍ أو مطلقتين أو إحداهما وقيل: هما سواء تعارضتا. فإن قيل: بتساقطهما صارا كمن لا بينة لهما. وإن قيل: يُقرع بينهما أقرع بين المشتري والعبد فمن خرجت له القرعة حلف وحكم له.

وإن قيل: تقسم العين جعل نصف العبد مبيعاً ونصفه حراً ويسري العتق إلى جميعه إن كان البائع موسراً؛ لأن البينة قامت عليه بأنه أعتقه مختاراً وقد ثبت العتق في نصفه بشهادتهما. قال: (وإن كان في يده عبدٌ فادعى عليه رجلان كل واحد منهم أنه اشتراه مني بثمن سماه فصدقهما لزمه الثمن لكل واحدٍ منهما. وإن أنكرهما حلف لهما وبرئ. وإن صدق أحدهما لزمه ما ادعاه وحلف للآخر. وإن كان لأحدهما بينة فله الثمن، ويحلف للآخر. وإن أقام كل واحدٍ بينة فأمكن صدقهما لاختلاف تاريخهما أو إطلاقهما أو إطلاق إحداهما وتاريخ الأخرى عمل بهما. وإن اتفق تاريخهما تعارضتا والحكم على ما تقدم). أما كون من العبد في يده يلزمه الثمن لكل واحدٍ من المدعيين إذا صدقهما؛ فلأنه يجوز أنه اشتراه من أحدهما ثم ملكه الآخر فاشتراه منه. وأما كونه يحلف لهما إذا أنكرهما؛ فلأن من أنكر وجبت عليه اليمين. وأما كونه يبرأ؛ فلأن كل مدعى عليه بلا بينة إذا حلف برئ. وأما كونه يلزمه ما ادعى أحدهما إذا صدقه؛ فلتوافقهما على صحة دعواه. وأما كونه يحلف للآخر؛ فلأنه منكر. وأما كون الثمن لمن له بينة؛ فلأن البينة مقدمة على الإنكار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «البينةُ على المدعِي» (¬1). وأما كونه يحلف للآخر؛ فلأنه منكر فيدخل في قوله عليه السلام: «واليمينُ على من أنكر» (¬2). وأما كون البينتين يعمل بهما إذا أمكن صدقهما؛ فلأن البينة حجة شرعية. فإذا أمكن صدقها من الجانبين وجب العمل بهما؛ كالخبرين إذا أمكن العمل بهما. فعلى هذا لإمكان العمل بهما صور: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 545. (¬2) سبق تخريجه ص: 550.

إحداها: أن يختلف تاريخهما؛ مثل: أن تشهد إحداهما أنه اشتراه من زيد في المحرم، وتشهد الأخرى أنه اشتراه من عمرو في صفر؛ لأنه يمكن أن يكون قد اشتراه من زيد في الوقت المذكور ثم ملكه لعمرو ثم اشتراه في الوقت الآخر. فإن قيل: لم قيل بأن البائع لو كان واحداً والمشتري لو كان اثنين فأقام أحدهما بينة أنه اشتراه في المحرم وأقام الآخر بينة أنه اشتراه في صفر يكون الشراء الثاني باطلاً؟ قيل: لأنه إذا ثبت الملك للأول بالشراء لم يبطل ببيع البائع ثانياً، وفي المسألة المذكورة ثبوت شرائه من كل واحدٍ منهما يبطل ملكه؛ لأنه لا يجوز أن يشتري ثانياً ملك نفسه. وثانيها: أن تكون البينتان مطلقتين؛ لأنه يمكن أن يكون زمن إحداهما غير زمن الأولى. وثالثها: أن تكون إحدى البينتين مطلقة والأخرى مؤرخة؛ لأنه يمكن في ذلك أيضاً اختلاف زمن الشراء. أشبه المطلقتين. وأما كونهما تتعارضان إذا اتفق تاريخهما؛ فلأنهما تساويا، والتساوي يوجب التعارض. وأما كون الحكم على ما تقدم؛ فلأنه في معناه. فعلى القول بالتساقط يصير المدعيان كمن لا بينة لهما. فعلى هذا لا يلزمه المدعى عليه شيء من الثمن، وعلى القول بالقرعة يقرع بين المدعيين فمن خرج له القرعة لزم المدعى عليه الثمن له، وعلى القول بقسمة المدعى بينهما يلزم المدعى عليه الثمن ويكون مشتركاً بينهما. قال: (وإن ادعى كل واحدٍ منهما أنه باعني إياه بألفٍ وأقاما بينة قدّم أسبقهما تاريخاً، فإن لم تسبق إحداهما تعارضتا). أما كون أسبق البينتين تاريخاً فيما ذكر تقدم؛ فلأن نقل الملك حاصل لمن سبق. فوقوع العقد بعد ذلك لا يصح. وأما كونهما تتعارضان إذا لم تسبق إحداهما الأخرى؛ فلأنهما تساويا، والتساوي يوجب التعارض.

قال: (وإن قال أحدهما: غصبني إياه، وقال الآخر: ملكنيه أو أقر لي به، وأقام كل واحدٍ بينة: فهو للمغصوب منه، ولا يغرم للآخر شيئاً). أما كون العبد للمغصوب منه دون المملك والمقر له؛ فلأنه لا تعارض بين بينتيهما؛ لأن الجمع بينهما ممكن بأن يكون قد غصب العبد من مدعيه ثم ملكه أو أقر به لمدعي ذلك. وأما كون المشهود عليه لا يغرم للمقر له شيئاً؛ فلأنه لم يحل بينه وبين ما أقر به. وإنما حالت البينة بينهما.

باب في تعارض البينتين

باب في تعارض البينتين قال المصنف رحمه الله: (إذا قال لعبده: متى قُتلتُ فأنتَ حر، فادعى أنه قتل وأنكر الورثة فالقول قولهم. وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه فهل تقدم بينة العبد فيعتق أو يتعارضان ويبقى على الرق؟ فيه وجهان). أما كون القول قول الورثة مع عدم البينة؛ فلأن العبد يدعي شيئاً يوجب عتقه، والورثة تنكر ذلك، والقول قول المنكر مع يمينه. وأما كون بينة العبد تقدم إذا أقام كل واحد منهما بينة في وجه؛ فلأنها شهدت بزيادة، وهو كون الموت قتلاً. فعلى هذا يعتق؛ لأن هذا فائدة تقديم بينته. وأما كونهما يتعارضان في وجه؛ فلأن كل واحدةٍ تشهد بضد ما شهدت الأخرى. فعلى هذا يبقى العبد رقيقاً؛ لأنه لم يثبت عتقه. قال: (وإن قال: إن متُّ في المحرم فسالم حر. وإن مت في صفر فغانم حر، فأقام كل واحدٍ منهما بينة بموجب عتقه قدمت بينة سالم. وإن قال: إن مت في مرضي هذا فسالم حر. وإن برئتُ فغانم حر فأقاما بينتين تعارضتا وبقيا على الرق ذكره أصحابنا. والقياس: أن يَعتق أحدهما بالقرعة. ويحتمل أن يَعتق غانم وحده؛ لأن بينته تشهد بزيادة). أما كون بينة سالم تقدم فيما إذا قال: إن مت في المحرم؛ فلأن معها زيادة علم. وأما كون البينتين تتعارضان ويبقى العبدان على الرق في مسألة: إن مت في مرضي على ما ذكره أصحابنا؛ فلأن كل واحدةٍ منهما تكذب الأخرى وتثبت زيادة تنفيها الأخرى.

وأما كون القياس: أن يَعتق أحد العبدين بالقرعة؛ فلأن أحدهما استحق العتق ولا يعلم عينه فشُرعت القرعة بينهما؛ كما لو أعتق أحد عبديه. وأما كونه يحتمل أن يعتق غانم وحده؛ فلأن بينته شهدت بزيادة قد تخفى على بينة سالم؛ لأنه يحتمل أن بينة سالم بالموت من المرض بناء على الاستصحاب. قال: (وإن أتلف ثوباً فشهدت بينة أن قيمته عشرون، وشهدت أخرى أن قيمته ثلاثون: لزمه أقل القيمتين). أما كون من أتلف ما ذكر يلزمه أقل القيمتين المشهود بهما؛ فلأنه متيقن. وأما كونه لا يلزمه أكثرهما؛ فلأن بينة الأقل ربما اطلعت على ما يوجب التنقيص المذكور فتكون شاهدة بزيادة خفيت على بينة الأكثر فتكون مقدمة عليها. قال: (ولو ماتت امرأة وابنُها فقال زوجها: ماتت فورثناها ثم مات ابني فورثته، وقال أخوها: مات ابنها فورثته ثم ماتت فورثناها ولا بينة حلف كل واحدٍ منهما على إبطال دعوى صاحبه، وكان ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين. وإن أقام كل واحدٍ منهما بينة بدعواه تعارضتا وسقطتا. وقياس مسائل الغرقَى أن يُجعل للأخ سدس مال الابن والباقي للزوج). أما كون كل واحدٍ من المتنازعين يحلف على إبطال دعوى الآخر؛ فلأن دعوى كل واحدٍ محتملة وصاحبه ينكر ذلك فتجب اليمين؛ لقوله عليه السلام: «واليمينُ على من أنكَر» (¬1). وأما كون ميراث الابن لأبيه خاصة مع عدم قيام بينة لأحدهما؛ فلأن سبب استحقاقه جناية وهي موجودة، وبقاء من يشاركها بعد الموت مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك. وأما كون ميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين مع عدم البينة؛ فلأن بقاء الابن بعد أمه مشكوك. فصارت الميتة بمنزلة ميتة لها زوج وأخ لا غير. فإن قيل: قد أعطي الزوج النصف وهو لا يدعي إلا الربع.

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 550.

قيل: بل هو مدعٍ له كله؛ لأنه يقول: أخذتُ ربعه بالميراث من المرأة وثلاثة أرباعه صار إلى ابني ثم صار إليّ. وأما كون البينتين تتعارضان إذا أقامها كل واحدٍ منهما؛ فلأن ذلك تساويا، وذلك يوجب تعارضهما. وأما كونهما يسقطان؛ فلأنه لما لم يمكن العمل بهما وجب تساقطهما؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى. وأما كون قياس مسائل الغرقى: أن يُجعل سدس مال الابن للأخ والباقي للزوج؛ فلأنه يقدر أن المرأة ماتت أولاً فيكون ميراثها لابنها وزوجها، ثم مات الابن فورث الزوج كل ما في يده فصار ميراثها كله لزوجها، ثم يقدر الابن مات أولاً فلأمه الثلث والباقي لأبيه، ثم ماتت أمه وفي يديها الثلث فكان بين أخيها وزوجها نصفين لكل واحدٍ منهما السدس.

فصل [في صور من تعارض البينتين] قال المصنف رحمه الله: (إذا شهدت بينة على ميتٍ أنه أوصى بعتق سالم وهو ثُلث ماله، وشهدت أخرى أنه أوصى بعتق غانم وهو ثُلث ماله أقرع بينهما، فمن تقع له القرعة عَتق دون صاحبه؛ إلا أن تجز الورثة. وقال أبو بكر وابن أبي موسى: يَعتق من كل واحدٍ نصفه بغير قرعة). أما كون سالم وغانم يُقرع بينهما إذا لم تُجز الورثة على المذهب؛ فلأنه لم تترجح بينة أحدهما على الأخرى، والقرعة مرجحة. دليله: الإمامة والأذان. وأما كون من تقع له القرعة يَعتق دون صاحبه؛ فلأن فائدة القرعة ذلك. ولأن القرعة ترجحه. فيصير بمنزلة من بينته راجحة على بينة غيره. وأما كون نصف كل واحدٍ منهما يَعتق بغير قرعة على قول أبي بكر وابن أبي موسى؛ فلأن القسمة أقرب إلى الصواب؛ لأن القرعة قد ترقّ السابق وهو مستحق. فإذا قسم العتق حصل له حرية نصفه. والأول أقيس في المذهب؛ لأن الميت لو أعتق عبيداً لا مال له غيرهم في مرض موته أو وصى بعتقهم كُمّل العتق في بعضهم بالقرعة. ولو أعتق عبداً من عبيده أخرج بالقرعة. وما ذكر من حرية نصف السابق معارض بإرقاق نصف الحر يقيناً، وعتق نصف الرقيق يقيناً، وهو أعظم ضرراً. قال: (وإن شهدت بينة غانم أنه قد رجع عن عِتق سالم عَتق غانم وحده سواء كانت وارثة أو لم تكن). أما كون غانم يَعتق وحده؛ فلأن وصيته وصية بعتقٍ لم يتصل بها رجوع. بخلاف سالم فإنه وإن وجد في حقه وصية بعتقٍ لكنه اتصل بها رجوع.

وأما كون ذلك كذلك سواء كانت البينة وارثة أو لم تكن؛ فلأن الوارثة إذا كانت هي الشاهدة بالرجوع لا تُتّهم؛ لاستواء قيمة العبدين المشهود بالوصية بعتقهما. فإن قيل: شهادة الوارثة تثبت ولاء غانم لنفسها. قيل: وتسقط ولاء سالم. على أن الولاء إنما هو إثبات سبب الميراث، ومثل ذلك لا تُرد به الشهادة. بدليل: شهادة الأخ لأخيه فإنها جائزة ويجوز أن يرثه. قال: (وإن كانت قيمة غانمٍ سدس المال وبيّنته أجنبية قُبلت. وإن كانت وارثةً عَتق العبدان. وقال أبو بكر: يحتمل أن يُقرع بينهما، فإن خرجت القرعة لسالم عَتق وحده. وإن خرجت لغانمٍ عَتق هو ونصف سالم). أما كون بينة غانم تقبل إذا كانت أجنبية؛ فلأنها غير متهمة. فعلى هذا لا يعتق سالم؛ لشهادة البينة الأجنبية بالرجوع عن الوصية بعتقه، ويعتق غانم؛ لشهادة البينة بالوصية بعتقه السالمة عن الرجوع. وأما كون العبدين يعتقان إذا كانت وارثةً على المذهب: أما سالم؛ فلشهادة البينة الأجنبية بالوصية بعتقه. وأما غانم؛ فلإقرار الورثة بعتقه مع أنه أقل من ثلث الباقي. وأما كونهما يحتمل أن يقرع بينهما على قول أبي بكر؛ فلأن التهمة في حق الورثة إنما هي في الرجوع فتبطل الشهادة بها، ويبقى أصل العتق لغانم، فاحتيج إلى القرعة؛ لتميز المستحق من غيره. فعلى هذا إذا أخرجت القرعة تضرب. فإن خرجت لسالم عَتق وحده؛ لأنه كمال الثلث، وإن خرجت لغانم عَتق؛ لأنه أقل من الثلث، ويُعتق نصف سالم؛ لأن الثلث لا تكمل إلا بذلك.

قال: (وإن شهدت بينة أنه أعتق سالماً في مرضه، وشهدت الأخرى أنه وصى بعتق غانمٍ وكل واحدٍ منهما ثلث المال عَتق سالم وحده. وإن شهدت بينةُ غانمٍ أنه أعتقه في مرضه أيضاً عَتق أقدمهما تاريخاً، فإن جُهلَ السابق عَتق أحدهما بالقرعة). أما كون سالم يعتق في المسألة الأولى؛ فلأنه معتق في مرضه وغانم موصى بعتقه، وعطايا المريض مقدمة على وصاياه؛ لرجحانها بنفس الإيقاع. وأما كون من بينته أقدم تاريخاً يعتق؛ فلأن كل واحدٍ من العبدين معتق في المرض، وعطايا المريض يقدم فيها الأقدم فالأقدم. وأما كون أحدهما يعتق بالقرعة إذا جُهل السابق؛ مثل: أن تكون البينتين مطلقتين أو إحداهما؛ فلأن البينتين تساوتا فاحتيج إلى التمييز، والترجيح حاصل بالقرعة. قال: (فإن كانت بينة أحدهما وارثةً ولم تكذب الأجنبية فكذلك. وإن قالت: ما أعتق سالماً إنما أعتق غانماً عَتق غانماً كله، وحكم سالم كحكمه لو لم يطعن في بيّنته في أنه يَعتق إن تقدم تاريخ عتقه، أو خرجت له القرعة وإلا فلا). أما كون حكم إذا كانت بينة أحد العبدين وارثةً ولم تكذب الأجنبية كما تقدم في أنه يَعتق الأقدم تاريخاً مع العلم به، وأحدهما بالقرعة مع الجهل به؛ فلأن الوارثة غير متهمة ولا مكذبة فهي بمثابة بينة الأجنبي، ولو كانت البينتان أجنبيتين لكان الأمر كذلك فكذلك إذا كانت إحداهما وارثة. وأما كون غانم يَعتق كله إذا كذبت الوارثة الأجنبية؛ فلإقرار الورثة بعتقه. وأما كون سالم يَعتق إن تقدم تاريخ عتقه أو خرجت له القرعة وإلا فلا؛ فلأن طعن الوارثة في الأجنبية غير مقبول؛ لأن الأجنبية مثبتة والوارثة نافية، وقول المثبت مقدم على النافي. وإذا لم يقبل الطعن صار طعنها كلا طعن، ولو لم تطعن الوارثة في الأجنبية لكان الحكم كما ذكر فكذلك فيما هو بمنزلته. قال: (وإن كانت الوارثة فاسقةً ولم تطعن في بينة سالم عَتق سالم كله. وينظرُ في غانم فإن كان تاريخ عتقه سابقاً أو خرجت القرعة له عَتق كله. وإن كان

متأخراً أو خرجت القرعة لسالم لم يَعتق منه شيء. وقال القاضي: يَعتق من غانم نصفه. وإن كذبت بينة سالم عتق العبدان). أما كون سالم يعتق كله إذا كانت الوارثة فاسقةً ولم تطعن في بينة سالم؛ فلأن البينة شهدت بعتقه ولم يوجد ما يعارضها. وأما كون غانم يعتق كله إذا كان تاريخ عتقه سابقاً أو خرجت القرعة له؛ فلإقرار الورثة أنه هو المستحق للعتق. وأما كونه لا يَعتق منه شيء إذا كان تاريخ عتقه متأخراً أو خرجت القرعة لسالم على قول غير القاضي؛ فلأنه قد ثبت عتق سالم لشهادة بينةٍ عادلةٍ، وعتق غانم بإقرار الورثة. فصار كما لو كانت البينتان عادلتين سواء إلا في أن حرية سالم لا تنتقض بشهادة الوارث؛ لأنه إقرار ليس بشهادة صحيحة. وأما كونه يَعتق منه نصفه على قول القاضي؛ فلأنه مقر بعتقه مع ثبوت عتق الآخر بالبينة. فصار بالنسبة إليه كأنه أعتق العبدين وعتقه موجب للتوزيع عليهما. فكذلك بالنسبة إلى غانم. وأما كون العبدين يعتقان إذا كذبت الوارثة بينة سالم؛ مثل أن تقول: ما أعتق سالماً وإنما أعتق غانماً؛ فلأن سالماً مشهود بعتقه وغانماً مقرٌ له بأنه لا مُستحق للعتق سواه.

فصل [إذا اختلفا في دين مورثهما] قال المصنف رحمه الله: (إذا مات رجل وخلّف ولدين مسلماً وكافراً، فادعى كل واحدٍ منهما أنه مات على دينه فإن عُرف أصل دينه فالقول قول من يدعيه. وإن لم يُعرف فالميراث للكافر؛ لأن المسلم لا يُقر ولدَهُ على الكفر في دار الإسلام. وإن لم يعترف المسلم أنه أخوه ولم تقم به بينة فالميراث بينهما. ويحتمل أن يكون للمسلم؛ لأن حكم الميت حكم المسلمين في غسله والصلاة عليه. وقال القاضي: القياس أن يُقرع بينهما. ويحتمل أن يقف الأمرُ حتى يظهرَ أصلُ دينه). أما كون القول قول من يدعي الدين الذي عُرف أنه أصل دين الأب؛ فلأن الظاهر يعضده. وأما كون الميراث للكافر إذا لم يُعرف أصل دين الأب؛ فلأن الظاهر أن الأب كان كافراً؛ لأنه لو كان مسلماً لما أُقر ولده على الكفر في دار الإسلام. وأما كونه بينهما إذا لم يعرف المسلم بأن الكافر أخوه ولم تقم بينة على الأول؛ فلأنهما سواء في اليد والدعوى. أشبه ما لو تداعيا عيناً في أيديهما. وأما كونه يحتمل أن يكون للمسلم؛ فلأن حكم الميت حكم المسلمين في الغسل والصلاة والدفن وغير ذلك. وأما كون القياس أن يُقرع بينهما على قول القاضي؛ فلأن القرعة تُزيل الإبهام، وهو موجود هاهنا. وأما كون الأمر يحتمل أن يقف حتى يظهرَ أصلُ دينه؛ فلأنه لا يُعلم المستحق إلا بذلك. وظاهر كلام المصنف رحمه الله فيها: أن غاية الإيقاف ظهور دين الميت فقط.

وقال أبو الخطاب في هدايته: حتى يظهرَ أصلُ دينه أو يصطلحا. وهو صحيح فيجب أن يحمل كلام المصنف رحمه الله عليه. قال: (وإن أقام كل واحدٍ منهما بينة أنه مات على دينه تعارضتا. وإن قال شاهدان: نعرفه مسلماً، وقال شاهدان: نعرفه كافراً، فالميراث للمسلم إذا لم يُؤرخ الشهود معرفتهم). أما كون البينتين تتعارضان إذا شهدت بينة كل واحدٍ منهما أنه مات على دينه؛ فلأنهما تساوتا، وذلك يوجب التعارض. وأما كون الميراث للمسلم إذا لم يُؤرخ الشهود معرفتهم؛ فلأنه يمكن العمل بهما بأن تعرفه بينة تدعي الكفر ثم تعرفه بينة تدعي الإسلام بالإسلام. فإن قيل: كما يجوز ما ذكر يجوز العكس. قيل: إلا أنه خلاف الظاهر؛ لأن الأمر لو كان كذلك لما أُقر على كفره لأنه مرتد. قال: (وإن خلّف أبوين كافرين وابنين مسلمين فاختلفوا في دينه فالقول قول الأبوين. ويحتمل أن القول قول الابنين). أما كون القول قول الأبوين على الأول؛ فلأن كونهما كافرين بمنزلة معرفة أصل دينه؛ لأن الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه. وأما كونه يحتمل أن القول قول الابنين؛ فلأن ظاهر الدار انقطاع حكم التبعية في الكفر؛ للبلوغ. قال صاحب النهاية فيها مزيفاً للتبطيل المذكور: حكم الدار إنما يعتبر فيمن لا يعرف نسبه؛ كالمنبوذ. قال: (وإن خلّف ابناً كافراً وأخاً وامرأة مسلمين فاختلفوا في دينه فالقول قول الابن على قول الخرقي. وقال القاضي: يُقرع بينهما. وقال أبو بكر: قياس المذهب أن تُعطى المرأة الربع، ويقسم الباقي بين الابن والأخ نصفين). أما كون القول قول الابن على قول الخرقي؛ فلأن الظاهر كون الأب كافراً؛ لأنه لو كان مسلماً لما أقرّ ولده على الكفر في دار الإسلام.

وأما كونهما يُقرع بينهما على قول القاضي؛ فلأنها مشروعة في الإبهام وهو موجود هاهنا. وأما كون قياس المذهب أن تُعطى المرأة الربع ويقسم الباقي بين الابن والأخ نصفين على قول أبي بكر: أما الأول؛ فلأن الكافر لا يحجب الزوجة. وأما الثاني؛ فلأنهما استويا في الدعوى. فعلى هذا تصح المسألة من ثمانية. قال: (ولو مات مسلم وخلّف ولدين مسلماً وكافراً فأسلم الكافر وقال: أسلمتُ قبل موت أبي وقال أخوه: بل بعده، فلا ميراث له. فإن قال: أسلمتُ في المحرم ومات أبي في صفر وقال أخوه: بل مات في ذي الحجة فله الميراث مع أخيه). أما كون القائل المذكور لا ميراث له في المسألة الأولى؛ فلأنه يدعي الإسلام قبل موت أبيه المسلم وأخوه يُنكره، والقول قول المنكر. وأما كونه له الميراث مع أخيه في المسألة الثانية؛ فلأن الأصل بقاء الأب إلى صفر فيكون الابن المدعي الإسلام في المحرم مسلماً قبل موت الأب. فيكون شريك أخيه.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات الأصل في الشهادة الكتاب والسنة والإجماع والمعنى: أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدَيْن من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282]. وقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2]. وقوله: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282]. وأما السنة؛ فما روى وائل بن حجر قال: «جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال الحضرمي: يا رسول الله! إن هذا غلبني على أرضي. فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي وليس له فيها حق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه ... مختصر» (¬1). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البينةُ على المدعِي واليمينُ على المدعَى عليه» (¬2). قال الترمذي: في إسناده مقال، والعملُ عليه عند أصحاب العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وأما الإجماع؛ فأجمع أهل العلم على مشروعيتها وإن اختلفوا في مسائل منها. وأما المعنى؛ فلأن الحاجة داعية إلى الشهادة؛ لحصول التجاحد بين الناس. قال المصنف رحمه الله: (تحمّل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين. وإن لم يقم بها من يكفي تعينت على من وجد. قال الخرقي: ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد، لا يسعُه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك). أما كون تحمّل الشهادة فرضاً؛ فلأنه لو لم يكن فرضاً لامتنع الناس من التحمّل فيؤدي إلى ضياع حقوق الناس. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1340) 3: 625 كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1341) 3: 626 الموضع السابق.

وأما كونه فرضاً على الكفاية؛ فلأن الحاجة المذكورة تندفع بشهادة من تقوم به الكفاية. وأما كونه إذا قام بها من يكفي يسقط عن الباقين وإذا لم يقم بها من يكفي يتعين على من وجد؛ فلأن هذا شأن فرض الكفاية. وأما كون الأداء فرضاً على الكفاية؛ فلما ذكر في التحمل. فعلى هذا حكمه حكمُه. وأما كونه فرض عين على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا} [البقرة: 282]، وقال تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبه} [البقرة: 283]. ولأن الشهادة أمانة. فلزم أداؤها عند طلبها؛ كالوديعة، ولقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58]. وقول المصنف رحمه الله: قال الخرقي ... إلى آخره؛ تنبيه على هذه الرواية. وقال صاحب المستوعب فيه: ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله أنه فرض عين؛ لعموم القرآن. يعني ما تقدم من الآيات. قال: (ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة عليها، ولا يجوز ذلك لمن لم تتعين عليه في أصح الوجهين). أما كون أخذ الأجرة لا يجوز لمن لم تتعين عليه في أصح الوجهين؛ فلأنه أخذ أجرة عن فرض؛ لأن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضاً. وأما كونه يجوز في وجه؛ فلأن النفقة على عياله فرض عين. فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية. وقال المصنف رحمه الله في المغني: من له كفاية ليس له أخذ الجُعل -يعني الأجرة -، ومن ليس له كفاية ولا تعينت عليه احتمل ذلك -يعني الجواز-، واحتمل أن لا يجوز. قال: (ومن كانت عنده شهادة في حدٍّ لله أُبيح إقامتها ولم تستحب، وللحاكم أن يُعَرِّض لهم بالوقوف عنها في أحد الوجهين. ومن كانت عنده شهادة لآدمي

يعلمها لم يُقمها حتى يسأله، فإن لم يعلمها استحب له إعلامه بها، وله إقامتها قبل ذلك). أما كون من كانت عنده شهادة في حدٍّ من حدود الله تعالى يباح له إقامتها؛ فـ «لأن أبا بكرة وأصحابه والجارود وأبا هريرة أقاموا الشهادة على قدامة بن مظعون بشُرب الخمر» (¬1). وفي تخصيص الشهادة المذكورة بالإباحة تنبيه على أن أداءها غير واجب؛ لأنها شهادة لا يستحب إقامتها؛ لما يأتي. فلأن لا يجب بطريق الأولى. وأما كون إقامتها لا تستحب؛ فلأن الستر مندوب إليه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سترَ مسلماً سترهُ اللهُ في الدنيا والآخرة» (¬2). وأما كون الحاكم له أن يُعَرِّض للشهود بالوقوف عن الشهادة المذكورة في وجه؛ فلأن التعريض للشهود بالرجوع كالتعريض للفاعل بالرجوع عن إقراره وذلك جائز؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرّض في قضية ماعز» (¬3). وقال لسارق: «ما إخالُكَ سرقت» (¬4) وفي رواية: «قل: لا» (¬5). فليكن التعريض للشهود جائزاً؛ لأنه في معناه. ولأن عمر قال في قضية المغيرة لما شهد عليه ثلاثة وجاء الرابع: «ما تقول يا شيخ؟ »، وفي لفظ آخر: «يا شيخ العقاب». ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 316 كتاب الأشربة، باب من وجد منه ريح شراب أو لقي سكران. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (2699) 4: 2074 كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر. (¬3) روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت. قال: لا ... ». أخرجه البخاري في صحيحه (6438) 6: 2502 كتاب المحاربين، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4380) 4: 134 كتاب الحدود، باب في التلقين في الحد. (¬5) قال ابن حجر: لم يصححوا هذا الحديث. هذا الحديث تبع فيه الغزالي في الوسيط. فإنه قال: وقوله: «قل: لا» لم يصححه الأئمة، وسبقهما الإمام في النهاية فقال: سمعت بعض أئمة الحديث لا يصحح هذا اللفظ. وقال في موضع آخر: غالب الظن أن هذه الزيادة لم تصح عند أئمة الحديث، قال الرافعي: ورأيت في تعليق الشيخ أبي حامد وغيره: أن أبا بكر قاله لسارق أقر أعنده، انتهى. تلخيص الحبير 4: 125 - 126.

وأما كونه ليس له ذلك في وجه؛ فلأن ذلك حق من الحقوق. فلم يجز للحاكم التعريض فيه للشهود بالرجوع؛ كحق الآدمي. وأما كون من كانت عنده شهادة لآدمي يعلمها لم يُقمها حتى يسأله؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ الناس قَرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يأتي قومٌ يَنذرونَ ولا يُوفون، ويَشهدونَ ولا يُستشهدون، ويخونونَ ولا يُؤتمنون» (¬1). رواه البخاري. ولأن أداءها حق لآدمي. فلا تستوفى إلا برضاه؛ كسائر حقوقه. وأما كونه يستحب له إعلام صاحب الحق بالشهادة التي له؛ فلأن ذلك تنبيهاً على حقه. وأما كونه له إقامتها قبل إعلامه بها؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكمْ بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبلَ أن يُسألها» (¬2). رواه أبو داود. فإن قيل: الحديث مطلق فيمن معه شهادة علم بها صاحبها أو لم يعلم. قيل: الحديث الأول دل على المنع من الشهادة قبل أن يُستشهد بها. فيجب حمل الحديث هنا على شهادة لا يعلم بها صاحبها؛ لأن فيه جمعاً بين الحديثين. قال: (ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع. والرؤية تختص بالأفعال؛ كالقتل والغصب والسرقة وشرب الخمر والرضاع والولادة وغيرهما. والسماع على ضربين: سماع من المشهود عليه نحو: الإقرار والعقود والطلاق والعتاق، وسماع من جهة الاستفاضة فيما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك؛ كالنسب والموت والملك والنكاح والخلع والوقف ومصرفه والعتق والولاء والولاية والعزْل وما أشبه ذلك). أما كون الشاهد لا يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تقفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]، وفي الحديث عن ابن عباس قال: «سُئلَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6317) 6: 2463 كتاب الأيمان والنذور، باب إثم من لا يفي بالنذر. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1719) 3: 1344 كتاب الأقضية، باب بيان خير الشهود. وأخرجه أبو داود في سننه (3596) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الشهادات.

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة. فقال: هل ترى الشمس؟ قال: نعم. قال: على مثلها فاشهدْ أو دَعْ» (¬1). رواه الخلال في الجامع بإسناده. ولأن الشهادة بغير علم رجم بالغيب وذلك حرام. وأما كون ما يُعلم تارة برؤية، وتارة بسماع؛ فلأنهما من الحواس الخمس الموجبة للعلم. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هل ترى الشمس» (¬2) إشارة إلى الرؤية، والسماع كالرؤية. وإنما لم يذكر بقية الحواس كالشم والذوق واللمس؛ لأنها ليست طريقاً في الشهادة. ولأنها لا حاجة إلى شيء منها في الأغلب. وأما كون الرؤية تختص بالأفعال كما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلأن المسموع لا يُرى. وأما كون السماع على ضربين؛ فلأنه تارة يكون من المشهود عليه؛ مثل: أن يقرّ أن لفلان عليه دَيناً أو قصاصاً، أو استأجر منه داره، أو اشترى منه ثوبه أو ما أشبه ذلك، وتارة من جهة الاستفاضة فيما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك. والكلام فيه في موضعين: أحدهما: في كون الاستفاضة طريقاً إلى الشهادة في الجملة. والأصل في ذلك أن المنع من الشهادة بذلك يؤدي إلى عدم ثبوت ما ذكر غالباً وفي بعضها قطعاً، وذلك ضررٌ عظيم، والضررُ منفيٌ شرعاً لا سيما العظيم منه. وثانيهما: في عدد الذي يثبت بذلك، وذلك على ضربين: أحدهما: مجمع عليه بين العلماء وهو النسب والولادة. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 156 كتاب الشهادات، باب التحفظ في الشهادة والعلم بها. نحوه. وأخرجه الحاكم في مستدركه (7045) 4: 110 كتاب الأحكام. قال ابن حجر: [أخرجه] العقيلي والحاكم وأبو نعيم في الحلية وابن عدي والبيهقي من حديث طاووس عن ابن عباس، وصححه الحاكم، وفي إسناده محمد بن سليمان بن مسمول، وهو ضعيف، وقال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه. تلخيص الحبير 4: 198. (¬2) سبق تخريجه في الحديث السابق.

وثانيهما: مختلف فيه وهو باقي الصور، وذلك كله يثبت بالاستفاضة في مذهب الإمام أحمد؛ لأن العلم في ذلك كله يتعذر غالباً. أشبه النسب. فإن قيل: بعض الأشياء المذكورة يمكن العلم به بمشاهدة سببه. قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أن الإمكان لا ينافي التعذر غالباً. وثانيهما: أن وجود السبب لا يعلم به المسبب قطعاً، وذلك أن الشاهد إذا رأى شخصاً يبيع شيئاً فقد شاهد السبب، والسبب غير مقطوع به يجوز أن يكون غير مملوك للبائع. قال: (ولا تُقبل الاستفاضة إلا من عددٍ يقع العلم بخبرهم في ظاهر كلام أحمد والخرقي، وقال القاضي: تُسمع من عدلين فصاعداً). أما كون الاستفاضة لا تُقبل في ظاهر كلام الإمام أحمد إلا من عددٍ يقع العلم بخبرهم؛ فلأن لفظ الاستفاضة مأخوذ من فيض الماء؛ لكثرته، وذلك يستدعي كثرة القائل بذلك. وأما كونها تُسمع من عدلين فصاعداً في قول القاضي؛ فلأن الثابت بها حق من الحقوق. فوجب أن تسمع من عدلين؛ كسائر الحقوق. قال: (وإن سمع إنساناً يقرّ بنسب أبٍ أو ابن فصدقه المقر له جاز إن شهد له به. وإن كذبه لم يشهد. وإن سكت جاز أن يشهد. ويحتمل أن لا يشهد حتى يتكرر). أما كون من سمع إنساناً يقر بنسب أبٍ أو ابن فصدقه المقر له يجوز أن يشهد له به؛ فلِتوافُق المقر والمقر له على ذلك. وأما كونه لا يجوز أن يشهد له إذا كذبه المقر له؛ فلأنه لو أقر شخصٌ لشخصٍ بمال فكذبه المقر له لم يثبت ولم يجز لمن سمعه أن يشهد له. فلأن لا تجوز الشهادة بذلك في النسب بطريق الأولى. وأما كونه يجوز أن يشهد إذا سكت المقر له على المذهب؛ فلأن سكوته دليل على تصديقه. أشبه ما لو صدقه.

وأما كونه يحتمل أن لا يشهد حتى يتكرر؛ فلأنه لو أكذبه لم تجز الشهادة، وسكوته يحتمل التصديق والتكذيب. واعلم أن هذا تعليل كلام المصنف رحمه الله وعندي فيه نظر وذلك: أن الاختلاف المذكور في الصورة المذكورة ينبغي أن يكون في دعوى الأبوّة؛ مثل: أن يدعي شخص أنه ابن فلان وفلان يسمع فسكت فإن السكوت إذا نزل هنا منزلة الإقرار صار كما لو أقر الأب أن فلاناً ابنه، ويقوي ما ذُكر أن المصنف رحمه الله ذكر في المغني إذا سُمع رجلاً يقول لصبي: هذا ابني جاز أن يشهد، وإذا سُمع الصبي يقول: هذا أبي والرجل يسمعه فسكت جاز أن يشهد؛ لأن سكوت الأب إقرار، والإقرار يثبت النسب فجازت الشهادة به. ثم قال: وإنما أقيم السكوت مقام النطق؛ لأن الإقرار على الأنساب الفاسدة لا تجوز. بخلاف سائر الدعاوي. ولأن النسب يغلب فيه الإثبات. ألا ترى أنه يلحق بالإمكان في النكاح. ثم قال: وذكر أبو الخطاب أنه يحتمل أن لا يشهد به مع السكوت حتى يتكرر. والعجب من المصنف حيث نقل في المغني الاحتمال المذكور في هذه الصورة عن أبي الخطاب، وإنما ذكر أبو الخطاب الاحتمال المذكور في الصورة التي ذكرها المصنف رحمه الله هنا، وفي خروج الخلاف فيما إذا ادعى شخص أنه ابن آخر بحضور الآخر فسكت ظاهر، وفي الصورة التي ذكرها المصنف رحمه الله هنا الخلاف فيها بعيد. قال: (وإن رأى شيئاً في يد إنسان يتصرّف فيه تصرّف المُلاّك من النقض والبناء والإجارة والإعارة ونحوها جاز أن يشهد بالمُلك له. ويحتمل أن لا يشهد إلا باليد والتصرف). أما كون من رأى ما ذكر يجوز أن يشهد له بالملك على الأول؛ فلأن اليد دليل الملك، واستمرارها من غير منازع يقويها. فجرى مجرى الاستفاضة. وأما كونه يحتمل أن لا يشهد إلا باليد والتصرف؛ فلأن يده تحتمل أن تكون غير مالكة. والأول أصح؛ لما تقدم.

وأما قيام الاحتمال فلا يمنع جواز الشهادة بدليل: جواز الشهادة بالملك بناء على ما عاينه من التسبب؛ كالبيع والإرث ونحو (¬1) ذلك مع أنه يحتمل أن البائع ليس بمالك والموروث غير مالك. ¬

_ (¬1) في د: ويجوز.

فصل [في صفة الشهادة] قال المصنف رحمه الله: (ومن شهد بالنكاح فلا بد من ذكر شروطه، وأنه تزوجها بولي مرشد وشاهدَي عدل ورضاها). أما كون من شهد بالنكاح لا بد من ذكر شروطه؛ فلأنه مما يحتاط له لما فيه من إباحة الفروج. وأما كونه لا بد من ذكر أنه تزوجها بولي مرشد وشاهدَي عدل ورضاها؛ فلأن النكاح الصحيح يتوقف على ذلك كله. أشبه الشروط. قال: (وإن شهد بالرضاع فلا بد من ذكر عدد الرضعات، وأنه شرب من ثديها أو من لبن حُلب منه). أما كون من شهد بالرضاع لا بد من ذكر الرضعات؛ فلأن الحل والحرمة في المرتضعة يختلف بذلك. فلم يكن بد من ذكر ذلك؛ لتتميز المحرمة بالرضاع من غيرها. وأما كونه لا بد من ذكر أنه شرب من ثديها أو من لبن حُلب منه؛ فلأن ذلك من الشروط في التحريم. فلم يكن بد من ذكره في الشهادة بذلك؛ كذكر شروط النكاح في الشهادة به. قال: (وإن شهد بالقتل احتاج أن يقول: ضربه بالسيف أو جرحه فقتله ومات من ذلك. وإن قال: جرحه فمات لم يحكم به). أما كون من شهد بالقتل يحتاج إلى قول أحد الأمور المذكورة من الضرب بالسيف وما بعده؛ فلأن منه ما يوجب القتل ومنه ما لا يوجبه. فاحتيج إلى القول المذكور؛ ليترتب على الشهادة موجبها. ولأن أحد ما ذكر شرط في إيجاب القتل. فاحتيج إلى قوله في الشهادة به؛ كذكر شروط النكاح في الشهادة به.

وأما كون من قال في شهادته: جرحه فمات لا يحكم به؛ فلأنه لم يسند الموت إلى الجرح. فلم يثبت كون الموت بسبب جرحه. قال: (وإن شهد بالزنا فلا بد أن يذكر بمن زنا، وأين زنا، وكيف زنا، وأنه رأى ذكره في فرجها. ومن أصحابنا من قال: لا يحتاج إلى ذكر المزني بها ولا ذكر المكان). أما كون من شهد بالزنا لا بد أن يذكر بمن زنا على المذهب؛ فليُعلم هل هي ممن يجب بوطئها حدٌ أم لا؟ . وأما كونه لا بد أن يذكر أين زنا على المذهب؛ فلأن الشهود قد يختلفون فيه. فيصير ذلك شبهة دارئة للحد. و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ماعزاً عن ذلك» وكان مقراً. فلأن يسأل الحاكم الشهود عنه بطريق الأولى. وأما كونه لا بد أن يذكر كيف زنا وأنه رأى ذكره في فرجها؛ فلأن في قصة ماعز: «قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنكتَها؟ قال: نعم. قال: حتى غابَ ذلكَ منكَ في ذلكَ منها كما يغيبُ المرودُ في المكحلةِ والرشاء في البئر. قال: نعم» (¬1). وإذا اعتبر ذلك في الإقرار ففي الشهادة أولى. وروى أبو داود قصة اليهود وفيها: «أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا شهدَ أربعةٌ أنهم رأوْا ذكرهُ في فرجها مثلَ الميلِ في المُكْحُلة. فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فشهدوا أنهم رأوْا ذكرهُ في فرجها مثل الميلِ في المكحُلة. فأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما» (¬2). ولأن الشهود إذا لم يصفوا الزنا احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد. فاعتبر ذكر كيفيته؛ ليتحقق. وأما كون ذكر المزني بها وذكر المكان لا يحتاج إليه على قول بعض أصحابنا؛ فلأنهما لم يذكرا في الحديثين المتقدم ذكرهما. فلم يحتج إلى ذكرهما في الشهادة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4428) 4: 148 كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4452) 4: 156 كتاب الحدود، باب في رجم اليهوديين.

قال: (ومن شهد بالسرقة فلا بد من ذكر المسروق منه والنصاب والحرز وصفة السرقة). أما كون من شهد بالسرقة لا بد من ذكر المسروق منه؛ فلأنه قد يكون ممن يباح أخذ ماله. فلم يكن بد من ذكره؛ ليتميز حال من يجب القطع بسرقة ماله من حال من لا يجب القطع به. وأما كونه لا بد من ذكر النصاب؛ فلأن القطع لا يجب بدونه؛ لما ذكر في باب السرقة. فلم يكن بد من ذكره؛ ليتحقق شرط وجوب القطع. وأما كونه لا بد من ذكر الحرز؛ فلأن السرقة من غير حرزٍ لا يجب بها القطع. فلم يكن بد من ذكره؛ ليتحقق شرط وجوب القطع. وأما كونه لا بد من ذكر صفة السرقة؛ فلأن الأخذ تارة يكون على وجه السرقة، وتارة على وجه الخُلْسة، وتارة على وجه النُهْبة. فلم يكن بد من ذكر صفة الأخذ؛ لتتميز السرقة الموجبة للقطع من غيرها. قال: (وإن شهد بالقذف ذكر المقذوف وصفة القذف). أما كون من شهد بالقذف يذكر المقذوف؛ فلأن موجبه يختلف باختلافه. وأما كونه يذكر صفة القذف؛ فليُعلم أنه صريح لا يفتقر إلى شيء، أو كناية تفتقر إلى نية، أو ما يقوم مقامها. قال: (وإن شهدا أن هذا العبد ابن أمة فلان لم يُحكم له حتى يقولا: ولدتْه في ملكه. وإن شهدا أنه اشتراها من فلان أو وقفها أو أعتقها لم يحكم بها حتى يقولا: وهي في ملكه. وإن شهدا أن هذا الغزل من قطنه، أو الطير من بيضته، أو الدقيق من حنطته حُكم له بها). أما كون من شهدا أن هذا العبد ابن أمة فلان لا يحكم له حتى يقولا: ولدته في ملكه؛ فلأنه لا يتحقق كون الولد مملوكاً بدون ذلك؛ لجواز أن يكون ابن أمته وهو مملوك لغيره؛ مثل: أن تلده قبل أن يشتريها ثم يشتريها.

فإن قيل: وقول الشاهدين: ولدته في ملكه لا يوجب كونه مملوكاً؛ لجواز أن يكون قد قيل له عن الأمة المذكورة أنها حرة فتزوجها ثم ولدت له ولداً ثم تبين أنها أمة فإن الولد يكون حراً، ويصح أن يقال: ابن أمة؛ فلأنها (¬1) ولدته في ملكه. قيل: الغرور نادر، والنادر لا يعتدّ به. بخلاف ما تقدم ذكره. وأما كون من شهد أنه اشترى الأمة من فلان أو وقفها أو أعتقها لا يحكم بها حتى يقولا: وهي في ملكه؛ فلأنه لا بد من كون البائع والواقف والمعتق مالكاً؛ لأنه قد يبيع الإنسان ما لا يملك وقد يقفه وقد يعتقه. ولأنه لو لم يشترط قول الشاهدين: وهي في ملكه لتمكن كل من أراد أن ينزع شيئاً من يد غيره أن يتفق هو وشخص ويبيعه إياه بحضرة شاهدين، ثم ينتزعه المشتري من يد صاحبه، ثم يقتسماه، وفي ذلك ضررٌ عظيم لا يرد الشرع بمثله. وأما كون من شهدا أن هذا الغزل من قطنه والطير من بيضته والدقيق من حنطته يحكم له بها؛ فلأن الغزل والدقيق عين ماله، والطير حادث من عين ماله. قال: (وإذا مات رجل وادعى آخرُ أنه وارثه وشهد له شاهدان أنه وارثه لا يعلمان له وارثاً سواه سُلِّم المال إليه سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أم لم يكونا. وإن قالا: لا نعلم له وارثاً غيره في هذا البلد احتمل أن يسلم المال إليه، واحتمل أن لا يسلم إليه حتى يستكشف القاضي عن خبره في البلدان التي سافر إليها). أما كون من ادعى ما ذكر وشهد له شاهدان أنه وارثه لا يعلمان له وارثاً سواه يسلم المال إليه؛ فلأن بذلك يظهر استحقاق المشهود له وعدم استحقاق غيره، والعلم لا يمكن الاطلاع عليه. فوجب الاكتفاء بالظاهر؛ لقوله عليه السلام: «أنا أقضي بالظاهر» (¬2). ¬

_ (¬1) في د: فلأن. (¬2) لم أقف عليه هكذا. وقد روي عن أم سلمة قالت: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: « ... فأقضي له على نحوِ مما أسمع منه». أخرجه البخاري في صحيحه (6748) 6: 2622 كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم. وأخرجه مسلم في صحيحه (1713) 3: 1337 كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة.

وأما كون ذلك كذلك سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أم لم يكونا؛ فلأن قول البينة يعضده الأصل؛ لأن الأصل عدم وارث غير من شهد له. وقال المصنف رحمه الله في المغني: ويحتمل أن لا يقبل من غير أهل الخبرة الباطنة؛ لأن عدم علمهم بوارث ليس بدليل على عدمه. بخلاف أهل الخبرة. وأما كونه يحتمل أن يسلم المال إليه إذا قال الشاهدان: لا نعلم له وارثاً غيره في هذا البلد؛ فبالقياس على ما ذكر قبل. وأما كونه يحتمل أن لا يسلم المال إليه حتى يستكشف القاضي عن خبره في البلدان التي سافر إليها؛ فلأنه قبل الكشف عن ذلك لا يحصل الظن بنفي غير المشهود له؛ لأنه لا يلزم من عدم علمهما بوارث في البلد المذكور عدم علمهما بوارث، فلا يحصل الظهور الحاصل بقولهما: لا نعلم له وارثاً سواه. وهذا أولى؛ لما ذكر من أنه لا يحصل بقولهما: لا نعلم له وارثاً سواه في هذا البلد كحصوله في قولها: لا نعلم له وارثاً سواه، وذلك يوجب قيام الفرق بينهما فلا يصح القياس معه. قال: (وتجوز شهادة المستخفي. ومن سمع رجلاً يُقر بحقٍ أو يشهد شاهداً بحقٍ، أو سمع الحاكم يحكم أو يشهد على حكمه وإنفاذه في إحدى الروايتين، ولا يجوز في الأخرى حتى يشهده على ذلك). أما كون شهادة المستخفي وهو الذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليسمع إقراره يجوز في إحدى الروايتين والمراد قبول شهادته؛ فلأنه شهد بما سمع، وذلك هو المعتبر في صحة التحمل. ولأن حاجة صاحب الحق قد تدعو إلى ذلك؛ مثل: أن يكون خصمه يقر سراً ويجحد جهراً. فلو لم تقبل شهادة المستخفي؛ لأدّى الحال إلى بطلان حق صاحبه في هذه الصورة المذكورة.

وأما كونها لا تجوز في الأخرى حتى يشهده على ذلك؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تجسّسوا} [الحجرات: 12]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من حَدَّثَ بحديثٍ ثم التَفَتَ فهي أمانَة» (¬1). يعني أنه لا يجوز لسامعه أن يذكره عنه؛ لالتفاته وحذره. والأول أصح؛ لما تقدم. والآية والخبر يحملان على غير ما ذكر؛ لأن فيه جمعاً بين الأدلة. وأما كون شهادة من سمع رجلاً يُقرُ بحق، أو يشهد شاهداً بحق، أو سمع الحاكم يحكم، أو يشهد على حكمه وإنفاذه يجوز في أحد الروايتين؛ فلأن المعتمد عليه السماع وهو موجود. ولأن قول المقر للشاهد: اشهد عليّ لو اعتبر لكان عمر قال للذين شهدوا على المغيرة: إنه لم يشهدكما، ولسأل الذين شهدوا على قدامة بشرب الخمر: هل أشهدكما، ولسأل عثمان الذين شهدوا على الوليد بن عقبة عن ذلك، ولسأل الذين شهدوا على السارق عن ذلك. ولم ينقل شيء من ذلك. وأما كونها لا تجوز في صورة من الصور المتقدمة حتى يقول المشهود عليه للشاهد: اشهد عليّ في الأخرى؛ فلأنها شهادة عليه. فلم تجز قبل ذلك؛ كشهادة الشاهد على شهادة آخر. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده 3: 324. من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

فصل [في اختلاف الشاهدين] قال المصنف رحمه الله: (وإذا شهد أحدهما أنه غصبه ثوباً أحمر، وشهد آخر أنه غصبه ثوباً أبيض، أو شهد أحدهما أنه غصبه اليوم، وشهد الآخر أنه غصبه أمس لم تكمل البينة. وكذلك كل شهادة على الفعل إذا اختلفا في الوقت لم تكمل البينة). أما كون البينة لا تكمل إذا اختلف الشاهدان في صفة المشهود له؛ فلأن أحد الثوبين غير الآخر؛ لأن الموصوف بكونه أحمر غير الموصوف بكونه أبيض فإذا كان كذلك لم يكن على العين الواحدة شاهدان. فلم تكمل البينة على واحدٍ منهما. وأما كونها لا تكمل إذا اختلفا في الوقت في مسألة الغصب وفي كل شهادة على الفعل؛ فلأن أحد الفعلين غير الآخر؛ لأن الفعل الواقع في يوم غير الفعل الواقع في يومٍ آخر، وإذا كان كذلك لم يتوارد قول الشاهدين على فعل واحد، وذلك يوجب عدم كمال البينة؛ لما تقدم. قال: (وإن شهد أحدهما أنه أقرّ له بألفٍ أمس وشهد آخر أنه أقرّ له بألفٍ اليوم، أو شهد أحدهما أنه باعه داره أمس وشهد آخر أنه باعه إياها اليوم: كملت البينة، وثبت البيع والإقرار). أما كون البينة في مسألة الإقرار تكمل؛ فلأنه وإن كانا إقرارين فهما إقرار بشيء واحد. ولهذا لو شهدت بينة على إقرار زيد بمائة ثم شهدت بينة أخرى على إقراره بمائة حملت الثانية على الأولى ولم يلزمه سوى مائة. ولأن المشهود عليه قد لا يمكنه أن يجمع الشهود ليقر عندهم دفعة واحدة. فاشتراط ذلك فيه مشقة عظيمة وذلك منتفٍ شرعاً.

وأما كونها تكمل به في مسألة البيع؛ فلأن المشهود به شيء واحد يجوز أن يعاد مرة بعد أخرى ويكون واحداً، واختلاف الشهود في الوقت ليس اختلافاً فيه. فلم يؤثر اختلافهما؛ كما لو شهد أحدهم بالعربية والآخر بالفارسية. وأما كون كل واحدٍ من الإقرار والبيع يثبت؛ فلأن البينة كملت بكل واحدٍ منهما، وكمال البينة بالشيء يوجب ثبوته. قال: (وكذلك كل شهادة على القول؛ إلا النكاح إذا شهد أحدهما أنه تزوجها أمس وشهد الآخر أنه تزوجها اليوم لم تكمل البينة، وكذلك القذف. وقال أبو بكر: يثبت القذف). أما كون كل شهادة على القول غير النكاح والقذف؛ كمسألتي الإقرار والبيع المتقدم ذكرهما في أن اختلاف الشاهدين في الوقت لا يؤثر؛ فلأن ذلك في معنى الشهادة على الإقرار والبيع. وقد تقدم أن الاختلاف في الوقت لا يؤثر فكذلك يجب أن لا يؤثر فيما هو في معناه. وأما كون النكاح ليس ككل شهادة على القول؛ فلأن اختلاف الشهود في الوقت يمنع من كمال البينة عليه ومن ثبوته: أما كونه يمنع من كمالها؛ فلأن البينة الكاملة تثبت موجبها كما تقدم، والبينة المذكورة لا تثبت موجبها؛ لما يأتي ذكره. وأما كونه يمنع من ثبوته؛ فلأن من شرط صحته حضور الشاهدين له فإذا اختلفا في الوقت لم يتحقق حصول الشرط. فلم يثبت المشروط مع عدم تحقق شرطه. وأما كون القذف كالنكاح على قول غير أبي بكر؛ فلأن موجب القذف حد، والحد يدرأ بالشبهة، وفي اختلاف الشهود شبهة. وأما كون القذف يثبت بذلك على قول أبي بكر؛ فلأن الشهادة على ذلك على قول ليس بنكاح. أشبه الإقرار والبيع وسائر الأقوال. قال: (وإن شهد شاهد أنه أقر بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين ثبت ألف، ويحلف على الآخر مع شاهده إن أحب). أما كون ألف تثبت؛ فلأنه شهد به شاهدان.

وأما كون الألف الآخر يحلف على المشهود له مع شاهده إن أحب؛ فلأن المال يثبت بالشاهد واليمين. وما ذكر مشعر بأمرين: أحدهما: أن الألف الآخر لا يثبت بما تقدم من الشهادة. وهو صحيح؛ لأنه لم يشهد به شاهدان. وثانيهما: أنه يثبت إذا حلف المشهود له. وهو صحيح؛ لما ذكر من أن المال يثبت بالشاهد واليمين. قال: (وإن شهد أحدهما أن له عليه ألفاً وشهد آخر أن له عليه ألفين فهل تكمل البينة على ألف؟ على وجهين. وإن شهد أحدهما أن له عليه ألفاً من قرض وشهد آخر أن له عليه ألفاً من ثمن مبيع لم تكمل البينة). أما كون البينة تكمل إذا كانت الشهادة مطلقة غير مُسْنِدة للمشهود به إلى سبب على وجه؛ فبالقياس على ما إذا كانت البينة على الإقرار. وأما كونها لا تكمل على وجه؛ فلأن البينة على الإقرار يحمل فيها الإقرار الثاني على الأول. بخلاف البينة على غيره. فعلى الأول تثبت الألف ويحلف على الألف الآخر إن أحب. وعلى الثاني لا يثبت شيء من ذلك. وأما كون البينة لا تكمل إذا كانت الشهادة مُسنِدة للمشهود به إلى سبب كالقرض والبيع؛ فلأن أحد الألفين لا يمكن أن يكون الألف الآخر. قال: (وإن شهد شاهدان أن له عليه ألفاً وقال أحدهما: قضاه نصفه بطلت شهادته نص عليه. وإن شهدا أنه أقرضه ألفاً ثم قال أحدهما: قضاه نصفه صحت شهادته). أما كون الشهادة في المسألة الأولى تبطل؛ فلأنه لا يجوز أن يشهد الشاهد بألف ويعلم أنه قد قبض منه بعضه. فإذا قال ذلك علم أنه قد كذب في شهادته، وذلك يوجب بطلانها. وأما كونها في المسألة الثانية تصح؛ فلأن الوفاء لا ينافي القرض.

قال: (وإذا كانت له بينة بألف فقال: أريد أن تشهدا لي بخمسمائة لم يجز، وعند أبي الخطاب يجوز). أما كون الشهادة بما ذكر لا يجوز على المذهب؛ فلأن في ذلك تلبيساً، وذلك غير لائقٍ بحال الشاهد. وأما كونها تجوز عند أبي الخطاب؛ فلأنه لو أبرأه من خمسمائة جاز أن يشهد له بالباقي فكذلك هاهنا. ولأن المطلوب من الشاهد بعض حق المشهود له؛ لأن خمسمائة بعض الألف، ومالك الشيء مالك لبعضه.

باب شروط من تقبل شهادته

باب شروط من تقبل شهادته قال المصنف رحمه الله: (وهي ستة: أحدها: البلوغ. فلا تقبل شهادة الصبيان. وعنه: تُقبل ممن هو في حال أهل العدالة. وعنه: لا تقبل إلا في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها). أما كون شروط من تُقبل شهادته ستة؛ فلأنها البلوغ، والعقل، والكلام، والإسلام، والضبط، والعدالة. وسيأتي ذكرها وذكر دلائلها بعد إن شاء الله تعالى. وأما كون أحدها: البلوغ؛ فلأن غير البالغ كالصبي لا تُقبل شهادته؛ لما يأتي. وأما كون شهادة الصبيان لا تُقبل على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282]، وقال: {وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم} [الطلاق: 2]، ، وقال: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]، والصبي ممن لا يُرضى به. وقال: {ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبه} [البقرة: 283]. والصبي لا يأثم. ولأن الصبي لا يقبل قوله على نفسه. فلأن لا يقبل قوله على غيره بطريق الأولى. وأما كونها تُقبل ممن هو في حال العدالة على روايةٍ؛ فلأنه يمكنه ضبط ما يشهد به. فقبلت شهادته؛ كالبالغ. قال ابن حامد على هذه الرواية: تُقبل شهادتهم في غير الحدود والقصاص؛ كالعبيد. وأما كونها لا تُقبل إلا في الجراح خاصة؛ فلأنه يروى عن مسروق قال: «كنا عند علي فجاءه خمس غلمة. فقالوا: كنا ست غلمةٍ نتغاط فغرق منا غلام،

فشهد الثلاثة على الاثنين أنهما غرَّقاه، وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرَّقوه، فجعل على الاثنين ثلاثة أخماس الدية، وعلى الثلاثة خمسيها» (¬1). وقضى بنحو هذا مسروق. قال: (الثاني: العقل. فلا تُقبل شهادة معتوهٍ ولا مجنونٍ إلا من يخنق في الأحيان إذا شهد في إفاقته). أما كون الثاني من شروط من تقبل شهادته: العقل؛ فلأن من لا عقل له لا يمكنه تحمل الشهادة ولا أداؤها؛ لأنه لا يعقل ذلك إلا بضبط الشهادة. وأما كون شهادة المعتوه لا تقبل؛ فلأنه لا عقل له. وأما كون شهادة مجنون مطبق لا تقبل؛ فلأنه لا عقل له. وأما كون من يخنق في الأحيان تقبل شهادته إذا شهد في إفاقته؛ فلأن المصحح لشهادة من لم يجن أصلاً موجود فيمن ذكر. فوجب إلحاقه به. واشترط المصنف رحمه الله في ذلك: أن يشهد في إفاقته؛ ليخرج من شهد في جنونه. ولا بد فيه أيضا أن يكون تحمل في وقت إفاقته؛ لأنه تحمله في جنونه لا يصح؛ لأنه لا يمكنه الضبط. قال: (الثالث: الكلام. فلا تُقبل شهادة الأخرس. ويحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فُهمت إشارته). أما كون الثالث من شروط من تقبل شهادته: الكلام؛ فلأنه يلي الثاني. وأما كون الكلام من شروط ذلك؛ فلأن الشهادة يُعتبر فيها اليقين، وذلك لا يحصل مع فقد الكلام. وأما كون شهادة الأخرس لا تقبل؛ فلأن شرط القبول الكلام ولم يوجد. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27864) 5: 447 كتاب الديات، القوم يدفع بعضهم بعضاً في البئر أو الماء.

ولأن الإشارة لو اكتفي بها معه الخرس لوجب أن يكتفى بها مع النطق؛ لأنها إن كانت محصّلة للمطلوب شرعاً فهي موجودة فيهما، وإشارة الناطق لا يحكم بها وفاقاً فكذلك إشارة الأخرس. فإن قيل: قد اكتفي بإشارته في وصيته وطلاقه وإقراره وسائر أحكامه فكذلك يجب أن يكون هاهنا. قيل: إنما اكتفي بذلك للضرورة، ولا ضرر بذلك في قبول شهادته. فإن قيل: في الحديث «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى جالساً فصلى من خلفهُ قياماً فأشارَ إليهم أن اجْلِسُوا» (¬1)، ولو لم تكن الإشارة كافيةً لما كان الأمر كذلك؟ . قيل: الشهادة تفارق ما ذكر بدليل: أن الإشارة اكتُفي بها من النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه ناطقاً، ولو تعدى ذلك إلى الشهادة لاكتفى بالإشارة من الناطق وذلك منتفٍ إجماعاً. وأما كونها يحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فُهمت إشارته؛ فلأن اليقين حاصل في التحمل، وإشارة المؤدي العاجز عن النطق؛ كنطقه. دليله: الأحكام المتقدم ذكرها. وفارق ما طريقه السماع من حيث إن الأخرس غالباً يكون أصم فيقع الخلل في التحمل. والأول أولى؛ لأن الكلام شرط في القبول ولم يوجد. قال: (الرابع: الإسلام. فلا تُقبل شهادة كافر إلا أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم، وحضر الموصي الموت فتقبل شهادتهم، ويحلفهم الحاكم بعد العصر: لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله، وأنها لوصية الرجل، فإن عُثر على أنهما استحقا إثماً قام آخران من أولياء الموصي فحلفا بالله لشهادتُنا أحق من شهادتهما ولقد خانا وكتما، ويقضي لهم. وعنه: أن شهادة بعض أهل الذمّة تقبل على البعض. والأوّل المذهب). أما كون الرابع من شروط من تقبل شهادته: الإسلام؛ فلأن الله تعالى قال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282]، وقال: {وأشهدوا ذوي عدل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (656) 1: 244 كتاب الجماعة والإمامة، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به. وأخرجه مسلم في صحيحه (412) 1: 309 كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام.

منكم} [الطلاق: 2]، وقال: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. ومن فقد الإسلام فليس من رجالنا، ولا منّا، ولا ممن نرضاه. وأما كون شهادة الكافر بغير الوصية في السفر لا تُقبل؛ فلأن شرطها الإسلام ولم يوجد. وأما كون شهادته بالوصية في السفر بالشروط التي ذكرها المصنف تقبل ويحلفه الحاكم على الوجه المتقدم ذكره؛ فلأن الله عز وجل قال: {يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينِكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبةُ الموت} [المائدة: 106]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قضوا بذلك. فروى ابن عباس قال: «خرجَ رجلٌ من بني سهمٍ مع تميمٍ الداري وعدي بن زيد، فماتَ السهمي بأرضٍ ليس بها مسلمٍ، فلما قدما بتركته فقدوا جامَ فضةٍ مُخَوَّصًا بالذهب. فأحلفهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. ثم وجدوا الجامَ بمكة. فقالوا: اشتريناهُ من تميم وعدي. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: لشهادتُنا أحق من شهادتهما وإن الجامَ لصاحبهم. فنزلت فيهم: {يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم إذا حضر أحدكم الموت ... الآية} [المائدة: 106]» (¬1). وعن الشعبي «أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقُوقاء (¬2) ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته. فأشهد رجلين من أهل الكتاب. فقدما الكوفة. فأتيا الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته. فقال الأشعري: هذا أمرٌ (¬3) لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأحلفهما بعد العصر ما

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2628) 3: 1022 كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة ... الآية}. وأخرجه أبو داود في سننه (3606) 3: 307 كتاب الأقضية، باب شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر. (¬2) دقوقاء: بلد بين بغداد وإربل. (¬3) في د: ليس. وما أثبتناه من السنن.

خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيّرا، وأنها لوصية الرجل وتركته. وأمضى شهادتهما» (¬1). رواهم أبو داود. وأما كون شهادة بعض أهل الذمة تُقبل على البعض على روايةٍ؛ فلما روى جابر «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أجازَ شهادةَ [أهلِ الكتابِ]، بعضِهم على بعض» (¬2). رواه ابن ماجة. فجازت شهادة بعضهم على بعض؛ كالمسلمين. والأول المذهب؛ لما تقدم من النصوص. ولأن من لا تقبل شهادته على غير أهل دينه لا تقبل على أهل دينه؛ كالحربي. وأما الخبر المذكور فيرويه مجالد وهو ضعيف. وإن ثبت فيحتمل أنه أراد اليمين؛ لأنها تسمى شهادة، قال الله تعالى في اللعان: {فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ بالله} [النور: 6]. وأما الولاية فهي متعلقة بالقرابة وقرابتهم ثابتة، وجازت لموضع الحاجة فإن غيرهم من المسلمين لا يلي عليهم والحاكم يتعذر عليه ذلك؛ لكثرته، والشهادة ممكنة من المسلمين، ويؤيد ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تُقبلُ شهادةُ أهل دين إلا المسلمين فإنهم عدولٌ على أنفسهم وعلى غيرهم» (¬3). قال: (الخامس: أن يكون ممن يحفظ. فلا تُقبل شهادة مغفل، ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان). أما كون الخامس من شروط من تقبل شهادة: أن يكون ممن يحفظ؛ فلأنه يلي الرابع. وأما كون ذلك من شروط ذلك؛ فلأن من لا يحفظ لا يدري ما يشهد حين الأداء، وذلك يخل بمقصود الشهادة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3605) 3: 307 كتاب الأقضية، باب شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2374) 2: 794 كتاب الأحكام، باب شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض. وما بين المعكوفين زيادة من السنن. قال في الزوائد: في إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 163 كتاب الشهادات، باب من رد شهادة أهل الذمة.

ولأن من لا يحفظ لا تحصل الثقة بقوله، ولا يغلب على الظن صدقه. وأما كون شهادة المغفل لا تُقبل؛ فلأنه لا يحفظ. وأما كون شهادة معروفٍ بكثرة الغلط والنسيان لا تُقبل؛ فلأن الثقة لا تحصل بقوله؛ لاحتمال أن تكون شهادته مما غلط فيه ونسي. ولأنه ربما شهد على غير من استشهد عليه، أو بغير ما شهد به، أو لغير من أشهده.

فصل [في العدالة] قال المصنف رحمه الله: (السادس: العدالة. وهي: استواءُ أحواله في دينه واعتدالُ أقواله وأفعاله. وقيل: العدل من لم تظهر منه ريبةٌ. ويعتبر لها شيئان: الصلاحُ في الدين. وهو: أداء الفرائض، واجتنابُ المحارم. وهو: أن لا يرتكبَ كبيرة، ولا يُدمن على صغيرة. وقيل: أن لا يظهر منه إلا الخير). أما كون السادس من شروط من تقبل شهادته: العدالة؛ فلأنه يلي الخامس. وأما كون العدالة من شروط ذلك؛ فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبإٍ فتبينوا} [الحجرات: 6]. فتثبتوا. ولأن غير العدل لا يُؤمن منه أن يتحامل على غيره فيشهد عليه بغير حق. وأما كون العدالة كما ذكر؛ فلما تقدم من تفسيرها. والخلاف فيها في قول المصنف رحمه الله: ويعتبر في البينة العدالة ظاهراً وباطناً في الفصل الثاني من باب طريق الحكم وصفته (¬1). فلا حاجة إلى إعادة ذلك فيها. وأما كونها يعتبر لها شيئان: الصلاحُ في الدين والمروءة؛ فلأن من لا صلاح له في الدين ولا مروءة له لا يُؤمن أن يشهد على غيره بالزور. وأما كون أحد الشيئين الصلاحُ في الدين؛ فظاهر. وأما كون الصلاحُ في الدين أداء الفرائض واجتناب المحارم؛ فلأن (¬2) لأنه يؤدي أن لا تقبل شهادة أحد؛ لأنه لا يخلو أحد من ذنب، ولذلك قال الله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم} [النجم: 32]. مدحهم لاجتنابهم ما ذكر، وإن كان قد وجد منهم صغيرة. ¬

_ (¬1) ص: 539. (¬2) تتمة العبارة غير واضحة في حاشية د.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن تَغْفِرِ اللهم تغْفِرْ جَمّا، وأيُّ عبدٍ لكَ ما ألَمّا» (¬1). وإنما اعتبر فيمن تقبل شهادته أن لا يرتكب كبيرة؛ لأن الله تعالى أمر أن لا تقبل شهادة القاذف وهي كبيرة. فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة. وإنما اعتبر فيه أن لا يُدمن على صغيرة؛ لأن من لم يرتكب الكبيرة وأدمن على الصغيرة لا يُعدّ مجتنباً للمحارم لا عُرفاً ولا شرعاً. ولأن الإدمان على الصغيرة كالكبيرة. فإن قيل: ما الكبيرة؟ قيل: هي كل معصية فيها حدٌ، والإشراكُ بالله، وقتلُ النفس الحرام، وشهادةُ الزور، وعقوقُ الوالدين. ونُقل عن الإمام أحمد رحمه الله: لا تقبل شهادة آكل الربا، وقاطعُ الطريق، ومن لا يؤدي زكاة ماله، ومن أخرج في طريق المسلمين الاسطوانة (¬2) والكنيف، والكاذب الكذب الشديد. وأما كون اجتناب المحارم. وهو: أن لا يظهر من الشخص إلا الخير على قول؛ فلأن اعتبار ما تقدم ذكره (¬3) مشقة وحرج، وذلك منتفٍ شرعاً. قال: (ولا تُقبل شهادة فاسق سواء كان فسقُه من جهة الأفعال أو الاعتقاد. ويتخرج على قبول شهادة أهل الذمة قبول شهادة الفاسق من جهة الاعتقاد المتدين به إذا لم يتدين بالشهادة لموافقه على مخالفه). أما كون شهادة الفاسق من جهة الفعل؛ كالزاني والقاتل والسارق وما أشبه ذلك لا تُقبل شهادته رواية واحدة؛ فلما تقدم. وأما كون شهادة الفاسق من جهة الاعتقاد غير المتدين لا تُقبل أيضاً؛ فلأنه فاسق غير متدين. أشبه الفاسق بالفعل. وأما كون شهادة الفاسق المتدين بالشهادة لموافقه على مخالفه كالخطابية لا تُقبل أيضاً؛ فلأن الثقة لا تحصل بقوله لتدينه بكذبه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (3284) 5: 396 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة والنجم. (¬2) في د: الاصطوانة. وما أثبتناه من الشرح الكبير 12: 38. (¬3) في د كلمتان غير واضحتين.

وأما كون شهادة الفاسق من جهة الاعتقاد المتدين به إذا لم يتدين بما تقدم ذكره لا تُقبل على المذهب؛ فلعموم النصوص الدالة على عدم قبول قول الفاسق، وقياسه على الصور المذكورة قبل. وأما كونه يتخرج على قبول شهادة أهل الذمة قبول شهادته؛ فلأن الفاسق من جهة الاعتقاد أحسن حالاً من الكافر. فإذا قبلت شهادته كان قبول قول الفاسق من جهة اعتقاد المتدين به أولى. قال: (وأما من فعل شيئاً من الفروع المختلف فيها فتزوج بغير ولي، أو شرب من النبيذ ما لا يسكره، أو أخّر الحج الواجب مع إمكانه أو نحوه متأولاً فلا تُرد شهادته. وإن فعله معتقداً تحريمه رُدت شهادته. ويحتمل أن لا تُرد). أما كون من فعل شيئاً متأولاً لا تُرد شهادته؛ فلأن الاختلاف في الفروع رحمة. فلو رُدت الشهادة بذلك لما كان الأمر كذلك. ولأن التأويل فيما ذكر شائع جائز. بدليل اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في المسائل الفروعية ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان. وذلك لا يناسب رد الفاعل لذلك على وجه التأويل؛ لأنه فعل ما له فعله. أشبه فعل المتفق عليه. وأما كون من فعل شيئاً من ذلك مع اعتقاد تحريمه تُرد شهادته إذا تكرر ذلك منه على المذهب؛ فلأنه فعل ما يعتقد تحريمه. أشبه فعل المحرم إجماعاً. وأما كونه يحتمل أن لا تُرد؛ فلأن لفعله في الجملة مساغاً. والأول أولى؛ لما تقدم. ولأن الفاعل لشيء من الفروع المختلف فيها معتقداً التحريم بذلك: آثم لفعله، مستديم له، وذلك ينافي قبول شهادته. قال: (الثاني: استعمال المروءة. وهو: فعلُ ما يجمّله ويزيّنه وترك ما يُدنّسه ويشينُه. فلا تُقبل شهادة المصافع والمتمسخِر والمغنّي والرقّاص واللاعب بالشطرنج والنرْد والحمام، والذي يتغدى في السوق ويمدُّ رجليه في مجمع الناس، ويحدّث بمباضَعة أهله وأمته، ويدخل الحمّام بغير مئزر ونحو ذلك). أما كون الثاني من شيء ما يعتبر في العدالة: استعمال المروءة؛ فلأنه يلي الأول.

وأما كون ذلك مما يعتبر في العدالة؛ فلأن من فقد المروءة اتصف بالدناءة والسقاطة، وكلاهما يذهب الثقة بقول المتصف بهما. وأما كون استعمال المروءة وهو ما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن من لم يفعل ما ذُكر فعله ولم يترك ما ذُكر تركه لا مروءة له عُرفاً. فكذا شرعاً. وأما كون شهادة المصافع ... إلى آخره لا تُقبل؛ فلأن الفاعل لشيء من ذلك لا مروءة له، وقد تقدم أنها معتبرة في العدالة. وكلام المصنف رحمه الله مشعر بأن شهادة من ذُكر لا تُقبل؛ لعدم المروءة لأنه ذكر استعمال المروءة ثم قال: فلا تُقبل شهادة المصافع ... إلى آخره. وعندي في ذلك نظر وهو: أن المتصف بخصلة مما تقدم ذكره ينبغي أن ينظر فيما اتصف به فإن كان محرماً كان المانع من قبول شهادته كونه فاعلاً للمحرم، لا يقال فعلُ المحرم مرةً لا يمنع من قبول الشهادة؛ لأن الكلام مفروض فيمن هو متصفٌ بذلك مستمرٌ عليه، مشهورٌ به، وذلك يقتضي المداومة عليه، والمداومة على الصغيرة كالكبيرة في رد الشهادة، وإن كان ما اتصف به غير محرم كان المانع من قبول شهادته كون فعله دناءةً وسفهاً ويكون ذلك من باب فقد المروءة. فعلى هذا لا بد من بيان من فعله دناءة وسفه من غير تحريم ممن فعله محرم فنقول: أما المصافع والمتمسخِر، ومن يأكل في السوق، ويمدّ رجليه في مجمع من الناس، ويحدّث بمباضَعته أهله: ففعل كل واحدٍ منهم دناءة وسفه من غير حرمة: أما كونه دناءةً وسفهاً؛ فظاهر. وأما كونه من غير حرمة؛ فلأن التحريم من الشرع ولم يرد به. قال المصنف في المغني بعد أن ذكر الآكل في السوق ومادّ رجليه في مجمع الناس والمتمسخر والمحدث بمباضعته أهله: فإن فعل شيئاً من هذا مختفياً لم يمنع قبول الشهادة؛ لأن مروءته لا تسقط بذلك، ولو كان ذلك محرماً لكان الاختفاء به مانعاً كالإظهار؛ لاستوائهما في الحرمة. وأما المغنّي ففعله حرام؛ لأن الله تعالى قال: {واجتنبوا قول الزور} [الحج: 30]. قال ابن الحنفية: هو الغناء.

وعن ابن عباس وابن مسعود: «في تفسير قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} [لقمان: 6] هو الغناء» (¬1). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الغناءُ يُنبتُ النفاقَ في القلب» (¬2). وعن أبي أمامة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء المغنيات، وبيعهن، والتجارة فيهن، وأكل أثمانهن حرام» (¬3). رواه الترمذي. فعلى هذا ترد شهادته؛ لفعله المحرم. وقال بعض أصحابنا: الغناء غير حرام؛ لأن عائشة قالت: «كان عندي جاريتان تُغنِّيان فدخل أبو بكر فقال: مزمور الشيطان في بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهما فإنها أيامُ عيد» (¬4). وعن عمر رضي الله عنه قال: «الغناءُ زادُ الراكب». فعلى هذا لا تقبل شهادة المغنِّي وهو من يجمعُ الناس عليه يأتيهم مرة ويأتونه أخرى؛ لأن في فعله دناءةً وسفهاً، ولا ترد شهادة من يغني لنفسه على وجه الترنم؛ لأن ذلك لا تحريم فيه ولا دناءة. وأما الرقّاص ففعله دناءة؛ لما يتضمن من قلة العقل. ولم أجد عن أصحابنا ما يقتضي تحريمه، والأصل الإباحة. وأما اللاعب بالنرْد والشطرنج ففعلهما حرام: أما كون اللعب بالنرْد حراماً؛ فلما روى أبو موسى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من لعبَ بالنرْدَشِير فقد عصى الله ورسوله» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 223 كتاب الشهادات، باب الرجل يغني فيتخذ الغناء صنعة ... (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4927) 4: 282 كتاب الأدب، باب كراهية الغناء والزمر. (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه (1282) 3: 579 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المغنيات. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2168) 2: 733 كتاب التجارات، باب ما لا يحل بيعه. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (909) 1: 324 كتاب العيدين، باب سنة العيدين لأهل الإسلام. وأخرجه مسلم في صحيحه (892) 2: 607 كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (4938) 4: 285 كتاب الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد.

وروى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لعبَ بالنرْدَشِيرِ فكأنما غَمسَ يدَه في لحمِ الخنزيرِ ودمه» (¬1). رواهما أبو داود. وأما كون اللعب بالشطرنج حراماً؛ فلأن الله تعالى قال: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان} [المائدة: 90] قال عليٌ: «الشطرنجُ من الميسر» (¬2). وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن للهِ في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاة فيها نصيب». رواه أبو بكر بإسناده. و«مرَّ على قوم يلعبون بالشطرنج. فقال: ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون؟ » (¬3). ولأنه لعب يصد عن ذكر الله وعن الصلاة. أشبه النرد. وأما اللاعب بالحمام فيُنظر فيه فإن كان ذلك ليأخذ حمام الناس، أو ليقامر بها فذلك حرام. وإن كان ليأكل فراخها، أو لتحملَ له الكتب، أو للأُنس فلا بأس. وفي الحديث عن عبادة بن الصامت قال: «جاءَ رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكى الوحشة فقال له: اتخذ زوجاً من حمام»، وإن فعل ذلك فُرجة على طيرانها ونظراً كان ذلك سفهاً ودناءة. وأما داخل الحمّام بغير مئزر ففعله حرام؛ لأن فيه كشف عورته المأمور بسترها. وقد تقدم ذكر ذلك في باب ستر العورة (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4939) الموضع السابق. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 212 كتاب الشهادات، باب الاختلاف في اللعب بالشطرنج. (¬3) أخرجه البيهقي في الموضع السابق. (¬4) 1: 296.

قال: (فأما الشَين في الصناعة؛ كالحجام والحائك والنخّال والنفّاط والقمّام والزبّال والمشعوذ والدبّاغ والحارس والقرّاد والكبّاش فهل تُقبل شهادتهم إذا حسنت طرائقهم؟ على وجهين). أما كون ما ذكر تُقبل شهادتهم إذا حسنت طرائقهم على وجه؛ فلأن بالناس حاجة إلى من يقوم بما ذكر، ورد شهادة فاعله يمنع من تعاطيه. فيؤدي إلى ضرر عام بالخلق، وذلك منتفٍ شرعاً. وأما كونهم لا تُقبل شهادتهم على وجه؛ فلأن تعاطي ما ذكر يتجنَّبهُ أهل المروءات. فكان فعله مانعاً من الشهادة كالقِسْم الذي قبله. هذا تعليل كلام المصنف رحمه الله. وعندي فيه نظر كما تقدم. وينبغي أن ينظر في الصناعة فإن كانت محرمة منعت قبول الشهادة؛ لفعله المحرم على وجه التكرار؛ لأن من كان الشيء المحرم صنعته كان فعله له مكرراً، وإن كانت مباحة فمنها ما يترجح فيه قبول الشهادة؛ كالحائك لا سيما في بلاد ظهرَ الدينُ فيهم كحرّان، ومنها ما يترجح فيه رد الشهادة؛ كالزبال؛ لأن في فعله دناءة وسفهاً. فعلى هذا: الحجام ينبني على جواز الإجارة: فإن قيل بعدم جواز الإجارة عليه منع فعله الشهادة؛ لأنه فعل محرم متكرر، ويعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كسبُ الحجّام خبيث» (¬1)، وإن قيل بجواز الإجارة عليه منع فعله الشهادة؛ لما فيه من الدناءة والسقاطة، والحائك تقدم ذكره. والنخّال والنفّاط فعلهما فيه دناءة، ويترجح عدم رد شهادتهما؛ لأن الظاهر من حالهما الاستقامة. وأما القمّام والزبّال فالظاهر منهما أنهما لا يتوقيان النجاسة، وإن توقياها كان فيها دناءة، ويترجح رد شهادتهما؛ لأجل ذلك الظاهر. وأما المشعوذ والدبّاغ والحارس والقرّاد والكبّاش ففعلهم فيه دناءة، ويترجح رد شهادتهم؛ لأن الغالب فيهم أنهم لا مروءة لهم، وهي شرط في قبول الشهادة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1568) 3: 1199 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ...

فصل [إذا زالت موانع الشهادة] قال المصنف رحمه الله: (ومتى زالت الموانع منهم فبلغ الصبي وعقل المجنون وأسلم الكافر وتاب الفاسق قُبلت شهادتهم بمجرد ذلك، ولا يعتبر إصلاح العمل. وعنه: يعتبر في التائب إصلاح العمل سَنَة). أما كون من زالت الموانع المذكورة منهم تُقبل شهادتهم؛ فلأن عدم القبول معلل بذلك فإذا زال عُدم القبول ضرورة أن المعلل يزول لزوال علته. وأما كون الفاسق إذا تاب تُقبل شهادته بمجرد توبته من غير اعتبار صلاح العمل على المذهب؛ فلما تقدم ذكره. وأما كونه يعتبر فيه إصلاح العمل سنة؛ فلأن الله تعالى قال: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} [آل عمران: 89]. نهى عن قبول الشهادة ثم استثنى التائب المصلح. و«لأن عمر رضي الله عنه لما ضربَ صَبيغاً وأمر بهجرانه حتى بلغه توبته. فأمرَ أن لا يُكلَّمَ إلا بعدَ سنة» (¬1). والأول أصح؛ لما تقدم. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ له» (¬2). ولأن شهادة الكافر تُقبل بمجرد الإسلام. فلأن تقبل شهادة الفاسق بمجرد التوبة بطريق الأولى. ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة بدليل قوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصِروا ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في السنن نحوه. (150) 1: 43 المقدمة. باب من هاب الفتيا وكره التنطّع والتبدّع. وليس فيه: «فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة». (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (4250) 2: 1419 كتاب الزهد، باب ذكر التوبة.

على ما فعلوا وهم يعلمون? أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم ... الآية} [آل عمران: 135 - 136]، وقوله تعالى: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} [النساء: 110]، وقول عمر رضي الله عنه: «بقيةُ عمر المرء لا قيمة له يدركُ فيه ما فات، ويحيي فيه ما أمات، ويبدّلُ الله سيئاته حسنات» فينبغي أن يحصل بمجردها قبول التوبة، وقوله تعالى: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح} (¬1) [المائدة: 39] يحتمل أنه أراد بالإصلاح التوبة وعطف {وأصلح} على {تاب}؛ لاختلاف اللفظين، ودليل ذلك قول عمر: «تُبْ أقبل شهادَتك» (¬2). قال: (ولا تُقبل شهادة القاذف حتى يتوب. وتوبته: أن يكذب نفسه. وقيل: إن علمَ صدق نفسه فتوبته أن يقول: قد ندمتُ على ما قلتُ ولا أعودُ إلى مثله، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منه). أما كون شهادة القاذف لا تُقبل قبل توبته؛ فلأن الله تعالى قال: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4]. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا محدودٍ في الإسلام» (¬3). رواه ابن ماجة. والمراد بالقاذفِ المردودِ الشهادة: القاذفُ الذي لم يأت بما يحقق قذفه فإن أتى بما يحقق قذفه؛ كالزوج يقذف زوجته، ويحقق قذفه بالبينة أو باللعان. والأجنبي يقذف أجنبية، ويحقق قذفه بالبينة: لم ترد شهادته؛ لأن الله تعالى إنما رتب الأحكام المذكورة على مجموع الأمرين: من رمي المحصنات، وعدم الإتيان بأربعة شهداء. فإذا لم يوجد ذلك لم تترتب الأحكام المذكورة؛ لانتفاء شرطها. وأما قول المصنف رحمه الله: حتى يتوب؛ فمشعر بقبول شهادته بعد توبته. وهو صحيح صرح به المصنف رحمه الله تعالى في المغني. والأصل في ذلك قوله ¬

_ (¬1) في د: إلا من تاب وأصلح. (¬2) أخرجه الشافعي في مسنده (642) 2: 181 كتاب الشهادات. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (2366) 2: 792 كتاب الأحكام، باب من لا تجوز شهادته.

تعالى: {إلا الذين تابوا} [النور: 5]، وقول عمر لأبي بكرة: «تُب أقبل شهادَتك» (¬1). ولأن القاذف المذكور إذا تاب تائب من ذنبه. فوجب أن تقبل شهادته؛ كالتائب من الزنا بل أولى؛ لأن الزنا أعظم من القذف. فإن قيل: قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} [النور: 4]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا محدودٍ في الإسلام» (¬2) يدلان على عدم قبول شهادة القاذف وإن تاب. قيل: أما الآية فقد استثنى الله تعالى فيها التائب بقوله بعد قوله: {ولا تقبلوا} [النور: 4] {إلا الذين تابوا} [النور: 5]. وأما الحديث؛ فمحمول على من لم يتب بدليل الاستثناء في الآية. وأما كون توبة القاذف أن يكذب نفسه على المذهب؛ فلأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {إلا الذين تابوا} [النور: 5]: «توبتهُ إكذابُ نفسه». وأما كونها إذا علم صدق نفسه أن يقول: قد ندمت عما قلت ولا أعود إلى مثله، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منه على قول؛ فلأن المقصود يحصل بذلك. فوجب أن تحصل التوبة به؛ كغيره. ولأن الندم توبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الندمُ توبة» (¬3). فوجب أن تحصل التوبة لمن يقول: قد ندمت ... إلى آخره بحصول الندم. وإنما اعتبر القول؛ لأن ما في الباطن لا يُطلع عليه. فلم يكن بد من القول الدال عليه؛ ليعلم تحقق الندم الموجب للتوبة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 655. (¬2) سبق تخريجه قريباً. (¬3) أخرجه ابن ماجة في سننه (4252) 2: 1420 كتاب الزهد، باب ذكر التوبة.

فصل [في شهادة العبد] قال المصنف رحمه الله: (ولا يُعتبر في الشهادة الحرية، بل تجوز شهادة العبد في كل شيء، إلا في الحدود والقصاص على إحدى الروايتين. وتُقبل شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء). أما كون الشهادة لا يعتبر فيها الحرية؛ لأن الله تعالى أمر بإشهاد ذَوي عدل منا، ومن فقد الحرية عدلٌ منا. بدليل قبول روايته وفتياه وأخباره الدينيّة. ولأن العبد عدل غير متهم. فقبلت شهادته؛ كالحر. وأما كون شهادة العبد في كل شيء غير الحدود والقصاص يجوز؛ فلأن الحرية ليست معتبرة في الشهادة. وأما كونها تُقبل في الحدود والقصاص على إحدى الروايتين؛ فلما تقدم. ولأنه حق. أشبه الأموال. وأما كونها لا تُقبل على إحداهما؛ فلأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات، وفي شهادة العبد شبهة؛ لاختلاف العلماء في قبولها. وأما كون شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء تُقبل؛ فلأن الموجود فيها الرق، وذلك لا يمنع في العبد فلا يمنع في الأمة بالقياس عليه، وفي الأثر أن عقبة بن الحارث (¬1) قال: «تزوجتُ أم يحيى بنت أبي إهاب. فجاءت أمةٌ سوداء فقالت: قد أرضعتكُما. فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وكيفَ وقد زعمتْ ذلك» (¬2) متفق عليه. ¬

_ (¬1) في د: عقبة بن يحيى. وما أثبتناه من الصحيح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2516) 2: 941 كتاب الشهادات، باب شهادة الإماء والعبيد. ولم أره في مسلم.

وفي رواية أبي داود: «فقلتُ: يا رسول الله! إنها لكاذبة. قال: وما يُدريكَ وقد قالت ما قالت؟ دعْهَا عنك» (¬1). قال: (وتجوز شهادة الأصم على ما يراه، وعلى المسموعات التي كانت قبل صممه). أما كون شهادة الأصم على ما يراه تجوز؛ فلأنه ما يراه كغيره. وأما كون شهادته على المسموعات التي كانت قبل صممه تجوز؛ فلأنه في ذلك كمن لم يصبه صمم. قال: (وتجوز شهادة الأعمى في المسموعات إذا تيقن الصوت وبالاستفاضة، وتجوز في المرئيات التي تحملها قبل العمى إذا عرفَ الفاعل باسمه ونسبه وما يتميز به، فإن لم يعرفه إلا بعينه فقال القاضي: تُقبل شهادته أيضاً، ويصفه للحاكم بما يتميز به. ويحتمل أن لا تجوز؛ لأن هذا مما لا ينضبط غالباً. وإن شهد عند الحاكم ثم عمي قُبلت شهادته وجهاً واحداً). أما كون شهادة الأعمى في المسموعات إذا تيقن صوت المشهود عليه تجوز. والمراد به قبولها؛ فلأن شهادته على مسموع. فوجب قبولها؛ كروايته. ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين فإذا حصل ذلك للأعمى وجب قبول شهادته؛ كالبصير. وعن قتادة أنه قال: إن للسمع قيافةً كقيافة البصر. ولأن الأعمى من رجالنا وهو متيقن لصوت المشهود عليه. فوجب أن يدخل في قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282]. ولأنه يروى عن علي وابن عباس أنهما أجازا شهادة الأعمى، ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة. وأما كون شهادته بالاستفاضة تجوز؛ فلأنها تعتمد على القول وشهادته عليه جائزة؛ كما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3603) 3: 306 كتاب الأقضية، باب الشهادة في الرضاع.

وأما كون شهادته في المرئيات التي تحملها قبل العمى إذا عَرف الفاعل باسمه ونسبه وما يتميز به تجوز؛ فلما تقدم. ولأن العمى فقدُ حاسة لا تُخِلّ بالتكليف. فلا تمنع قبول الشهادة؛ كالصمم. وأما كونها تُقبل إذا لم يعرف المشهود عليه إلا بعينه على قول القاضي ويصفه للحاكم بما يتميز به؛ فلما تقدم من عموم الأدلة. وأما كونها يحتمل أن لا تجوز؛ فلما علل المصنف رحمه الله من أن هذا لا ينضبط غالباً. وأما كون الأعمى إذا شهد عند الحاكم ثم عمي تُقبل شهادته. والمراد به الحكم بها؛ فلأن العمى طرأ بعد أداء الشهادة لا يورث تهمة في حال الشهادة. فلم يمنع الحكم بها؛ كما لو شهد ثم مات. قال: (وشهادةُ ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره). أما كون شهادة ولد الزنا في الزنا جائزة؛ فلأنه عدلٌ مقبول الرواية. فوجب أن يكون مقبول الشهادة؛ كغيره من العدول. ولأن ولد الزنا من رجالنا. فوجب أن يدخل في عموم النص المتقدم ذكرها. فإن قيل: لا ينبغي أن تقبل شهادته بذلك؛ لأن العادة أن من فعل فعلاً قبيحاً يحب أن يكون له نظير. ولأنه يروى عن عثمان أنه قال: «ودّت الزانيةُ أن النساءَ كلَّهن زنَين». قيل: أما الأول: فغلط؛ لأن ولد الزنا لم يفعل قبيحاً يحب أن يكون له نظير. وأما الثاني: فليس يثبت عن عثمان. والأشبه أن لا يكون ثابتاً عنه؛ لأن الأليق بحاله ودينه أن لا يذكر امرأة في ظهر الغيب بمثل ذلك. وأما كونه في غير الزنا جائزة؛ فلما تقدم ذكره. ولأنه مقبول الشهادة في الزنا. فوجب أن يكون مقبول الشهادة في غيره بالقياس عليه.

قال: (وتقبلُ شهادة الإنسان على فعل نفسه كالمرضعة على الرضاع، والقاسم على القسمة، والحاكم على حكمه بعد العزل). أما كون شهادة المرضعة على فعل نفسها تُقبل؛ فلأن عقبة بن الحارث قال: «تزوجتُ أم يحيى بنت أبي إهاب. فجاءت أمةٌ سوداء فقالت: قد أرضعتُكُما. فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وكيفَ وقد زعمتْ ذلك» (¬1) متفق عليه. وأما كون شهادة القاسم على القسمة تقبل؛ فلأن شهادته على فعل النفس. أشبه شهادة المرضع على الرضاع. وأما كون شهادة الحاكم بعد حكمه بعد عزله تقبل؛ فلأنه شاهد على فعل نفسه. أشبه المرضعة والقاسم. قال: (وتُقبل شهادة البدوي على القروي، والقروي على البدوي. وعنه: في شهادة البدوي على القروي أخشى أن لا تُقبل فيحتمل وجهين). أما كون شهادة البدوي على القروي تُقبل على وجه؛ فكشهادة القروي على البدوي. ولأن من قُبلت شهادته على أهل البلد قُبلت شهادته على أهل القرى. دليله: شهادة القروي على البدوي. وأما كونها لا تُقبل على وجه؛ فلأنه يروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تجوزُ شهادةُ بدوي على صاحبِ القرية» (¬2). رواه أبو داود. والأول أصح؛ لما تقدم. والحديث محمول على أن شهادة البدوي لا تُقبل؛ للجهل بعدالته الباطنة. وخص بما ذكر؛ لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم عنه. وأما كون شهادة القروي على البدوي [تقبل] (¬3)؛ فلأن تخصيص شهادة البدوي على القروي بعدم جواز القبول مشعر بجواز العكس. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 657. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3602) 3: 306 كتاب الأقضية، باب شهادة البدوي على أهل الأمصار. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

ولأن القروي في مظنة العلم وانتفاء التهمة. فوجب قبول شهادته عملاً بالنصوص الدالة على القبول السالمة عن معارضة ما ذكر.

باب موانع الشهادة

باب موانع الشهادة قال المصنف رحمه الله: (ويمنع قبول الشهادة خمسة أشياء: أحدها: قرابةُ الولادة. فلا تُقبل شهادة والدٍ لولده وإن سفل، ولا ولدٍ لوالده وإن علا في أصح الروايات. وعنه: تُقبل فيما لا يجر به نفعاً غالباً؛ نحو: أن يشهد أحدهما لصاحبه بعقد نكاح أو قذف. وعنه: تُقبل شهادة الولد لوالده، ولا تُقبل شهادة الوالد للولد). أما كون قبول الشهادة يمنعه خمسة أشياء؛ فلما يأتي فيها. وأما كون أحدها: قرابة الولادة؛ فلما يأتي في كون شهادة والدٍ لولده، وشهادة ولدٍ لوالده لا تُقبل. وأما كون شهادة والدٍ أباً كان أو أماً أو جداً أو جدة لولده وإن نزل، وشهادة ولدٍ لوالده وإن علا لا تُقبل في أصح الروايات؛ فلأن الزهري روى عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا خائنة، ولا ذي غِمْرٍ على أخيه، ولا ظِنّين في قرابة ولا ولاء» (¬1). وكل واحدٍ من الولد والوالد متهم بالنسبة إلى الآخر؛ لأن بينهما تعصيباً وكأنه يشهد لنفسه، ولهذا قال عليه السلام: «فاطمةُ بَضعَةٌ مني» (¬2). وأما كون شهادة كل واحدٍ منهما تُقبل لآخر فيما لا يجر لنفسه نفعاً مثل ما مثله المصنف رحمه الله على روايةٍ؛ فلأن كل واحدٍ منهما لا ينتفع بما يحصل للآخر فتنتفي التهمة عنه في شهادته. فوجب أن ينتفى عدم القبول؛ لعدم مقتضيه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (2298) 4: 546 كتاب الشهادات، باب ما جاء فيمن لا تجوز شهادته. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4932) 5: 2004 كتاب النكاح، باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف. وأخرجه مسلم في صحيحه (2449) 4: 1903 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام.

وأما كون شهادة الولد لوالده تُقبل وشهادة الوالد لولده لا تُقبل على روايةٍ؛ فلأن شهادة الوالد لولده فيها تهمة من حيث إن مال الابن في حكم ماله؛ لأن له أن يتملكه فشهادته له شهادته لنفسه. بخلاف شهادة الولد لوالده؛ فلأن التهمة المذكورة منتفية فيها. قال: (وتُقبل شهادة بعضهم على بعض في أصح الروايتين). [أما كون شهادة بعضهم على بعض تقبل في رواية] (¬1)؛ فلأن الله تعالى قال: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135]. ولو لم تكن شهادة الولد مقبولة على الوالد لما أمر الله تعالى بها. ولأن شهادة كل واحدٍ منهما على الآخر لا تهمة فيها. ولأن التهمة في الشهادة له لا في الشهادة عليه. وأما كونها لا تُقبل في روايةٍ؛ فلأن كل واحدٍ منهما لا تُقبل شهادته للآخر. فوجب أن لا تُقبل عليه قياساً لإحدى الشهادتين على الأخرى. والأول أصح؛ لما تقدم. والفرق بين الشهادة له والشهادة عليه: التهمة في الشهادة له وانتفائها في الشهادة عليه. قال: (ولا تُقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه في إحدى الروايتين). أما كون شهادة كل واحدٍ من الزوجين للآخر لا تُقبل في روايةٍ؛ فلأن كل واحدٍ منهما يرث صاحبه من غير حجب، ويتبسط في ماله عادة، وذلك يوجب التهمة في شهادته، والتهمة تمنع من القبول. وأما كونها تُقبل في روايةٍ؛ فلأن النكاح عقد على منفعة. فلا يتضمن رد الشهادة؛ كالإجارة. والأول أصح؛ لما تقدم. ولأن يسار الرجل يزيد نفقة امرأته، ويسار المرأة يزيد به قيمة بضعها المملوك لزوجها. فكأن كل واحدٍ منهما يجر لنفسه نفعاً، ولذلك قال الله تعالى: {وقرن ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

في بيوتكن} [الأحزاب: 33]، وقال: {لا تدخلوا بيوت النبي} [الأحزاب: 53] فأضاف البيوت إليهن تارة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرى. و«قال ابن مسعود للذي قال له: غُلامي سرقَ مرآة لزوجتي. قال له: مالُكم سرقَ مالكم» (¬1). وأما القياس على الإجارة فلا يصح؛ لما بينهما من الفرق وهو وجود التهمة بين المتناكحين، وانتفاؤها بين المؤجر والمؤجرة. قال: (ولا تُقبل شهادة السيد لعبده ولا العبد لسيده. وتُقبل شهادة الأخ لأخيه وسائر الأقارب، والصديق لصديقه، والمولى لعتيقه). أما كون شهادة السيد لعبده لا تُقبل؛ فلأن مال العبد لسيده فشهادة السيد له شهادة لنفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من باعَ عبداً وله مالٌ فمالهُ للبائع إلا أن يشترطهُ المبتاع» (¬2). وأما كون شهادة العبد لسيده لا تُقبل؛ فلأن العبد متهم؛ لأنه يتبسط في مال سيده، ولا يقطع بسرقته. فلا تُقبل شهادته له؛ كالأب مع ابنه. وأما كون شهادة الأخ لأخيه تُقبل؛ فلأنه من عدول المسلمين فيدخل في قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282] وغير ذلك من الآيات. ولأن الأخ عدل غير متهم. فوجب قبول شهادته؛ كالأجنبي. وأما كون شهادة سائر الأقارب بعضهم لبعض تُقبل؛ فلأنه إذا قُبلت شهادة الأخ لأخيه. فلأن تُقبل شهادة الأقارب بعضهم لبعض بطريق الأولى. وأما كون شهادة الصديق لصديقه تُقبل؛ فلعموم النصوص المتقدم ذكرها. ولأن الصديق إذا كان عدلاً لم يكن متهماً في شهادة صديقه. وأما كون شهادة المولى لمعتقه تُقبل؛ فلأنه إذا قُبلت شهادة الأخ لأخيه. فلأن تقبل شهادة المولى لمعتقه بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (28560) 5: 514 كتاب الحدود، في العبد يسرق من مولاه ما عليه؟ (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (2250) 2: 838 كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط ... وأخرجه مسلم في صحيحه (1543) 3: 1173 كتاب البيوع، باب من باع نخلا عليها ثمر.

فصل [المانع الثاني] قال المصنف رحمه الله: (الثاني: أن يجرّ إلى نفسه نفعاً بشهادته؛ كشهادة السيد لمكاتبه، والوارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال، والوصي للميت، والوكيل لموكله بما هو وكيل فيه، والشريك لشريكه، والغرماء للمفلس بالمال، وأحد الشفيعين بعفو الآخر عن شفعته). أما كون الثاني مما يمنع قبول الشهادة: أن يجرّ إلى نفسه نفعاً بشهادته؛ فلأنه يلي الأول. وأما كون ذلك يمنع ذلك؛ فلأن فاعله متهم في الشهادة، والتهمة تمنع من قبول الشهادة. وأما كون ذلك كشهادة السيد لمكاتبه ... إلى آخره؛ فلأن كل واحدٍ منهم يجرّ إلى نفسه نفعاً بشهادته. وبيان النفع في كل صورة مما ذكر ظاهر.

فصل [المانع الثالث] قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يدفع عن نفسه ضرراً؛ كشهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ، والغرماء بجرح شهود الدَّيْن على المفلس، والسيد بجرح من شهد على مكاتبه أو عبده بدين، والوصي بجرح الشاهد على الأيتام، والشريك بجرح الشاهد على شريكه، وسائر من لا تُقبل شهادته لإنسان إذا شهد بجرح الشاهد عليه). أما كون الثالث مما يمنع قبول الشهادة: أن يدفع عن نفسه ضرراً؛ فلأنه يلي الثاني. وأما كون ذلك يمنع ذلك؛ فلأن فاعله أيضاً متهم، والتهمة تمنع قبول الشهادة. وأما كون ذلك كشهادة العاقلة ... إلى آخره؛ فلأن كل واحدٍ يدفع عن نفسه ضرراً بشهادته. وبيان الضرر في كل صورة مما ذكر ظاهر.

فصل [المانع الرابع] قال رحمه الله: (الرابع: العداوة؛ كشهادة المقذوف على قاذفه، والمقطوع عليه الطريق على قاطعه، والزوج بالزنا على امرأته). أما كون الرابع مما يمنع قبول الشهادة: العداوة؛ فلأنه يلي الثالث. وأما كون العداوة تمنع ذلك؛ فلأن في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية، ولا ذي غِمْرٍ على أخيه» (¬1). رواه أبو داود. والغمر: الحقد. ولأن العداوة تورث التهمة. فوجب أن تمنع الشهادة؛ كالقرابة القريبة. وأما كون العداوة كشهادة المقذوف على قاذفه ... إلى آخره؛ فلأن كل واحدٍ من الشهود عدو للمشهود عليه. وبيان العدواة في كل صورة مما ذكر ظاهر. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3601) 3: 306 كتاب الأقضية، باب من ترد شهادته.

فصل [المانع الخامس] قال المصنف رحمه الله: (الخامس: أن يشهد الفاسق بشهادة فترد ثم يتوب ويعيدها فإنها لا تُقبل للتهمة. ولو لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلاً قُبلت. ولو شهد كافرٌ أو صبيٌ أو عبدٌ فرُدت شهادتهم ثم أعادوها بعد زوال الكفر والرق والصبى قُبلت). أما كون الخامس مما يمنع قبول الشهادة: أن يشهد الفاسق بشهادة فترد ثم يتوب ويعيدها؛ فلأنه يلي الرابع. وأما كون ذلك يمنع ذلك فلأن فاعله متهم بأدائها؛ لأنه يُعيّر بردها وتلحقه غضاضة. فإذا أعادها كان متهماً. وأما كون شهادته تُقبل إذا لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلاً؛ فلأن التهمة إنما كانت من أجل العار الذي يلحقه في الرد، وذلك منتفٍ فيما ذكر. وأما كون شهادة الكافر والصبي والعبد إذا شهدوا في حال الكفر والصبى والرق ثم أعادوها بعد الإسلام والبلوغ والعتق تُقبل؛ فلأن رد الشهادة في الأحوال المذكورة لا غضاضة فيه فلا تقع تهمة في الإعادة. وبذلك يظهر الفرق بين رد الشهادة بالفسق وبين ردها بالكفر والصبى والرق. قال: (وإن شهد لمكاتبه أو لموروثه بجرح قبل برئه فردت ثم أعادها بعد عتق المكاتب وبرء الجريح ففي ردها وجهان. وإن شهد الشفيع بعفو شريكه في الشفعة عنها فرُدت ثم عفي الشاهد عن شفعته وأعاد تلك الشهادة لم تُقبل. ذكره القاضي. ويحتمل أن تُقبل). أما كون شهادة المكاتب لمكاتبه إذا ردت ثم أعادها بعد عتقه، وشهادة الوارث لموروثه بجرح قبل برئه إذا ردت ثم أعادها بعد برء الجريح: لا تُرد في

وجه؛ فلأن زوال المانع من قبول الشهادة هنا ليس من فعل الشاهد. فلم يمنع ذلك من قبول شهادته المعادة؛ كزوال الصبَى بالبلوغ. ولأن رد الشهادة هنا السببُ لا عار فيه فلا يتهم في قصد نفي العار بإعادتها. وأما كونها تُرد في وجه؛ فلأن الحاكم رد شهادة من ذكر باجتهاده فلا ينقض ذلك باجتهاده. والأول أصح. ذكره المصنف في المغني وعلله بأن الأصل قبول شهادة العدل. وقياس الشاهد هنا على المردود الشهادة بالفسق لا يصح؛ لوجود التهمة في حق الفاسق وانتفائها. وأما نقض الاجتهاد بالاجتهاد فهو جائز بالنسبة إلى المستقبل غير جائز بالنسبة إلى ما مضى، ولذلك قضى عمر رضي الله عنه في قضية بقضايا مختلفة قال: «ذلك على ما قضينَا وهذا على ما نقضي» (¬1). وقبول الشهادة هنا من النقض في المستقبل لا في الماضي. وأما كون شهادة الشفيع بعفو شريكه في الشُفعة إذا أعادها بعد ردها لا تُقبل؛ فلأنه متهم في الشهادة؛ كالفاسق إذا أعاد شهادته المردودة لفسقه. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في سننه (648) 1: 112 في المقدمة، باب الرجل يفتي بالشيء ثم غيّره.

باب أقسام المشهود به

باب أقسام المشهود به قال المصنف رحمه الله: (والمشهود به ينقسم خمسة أقسام: أحدها: الزنا وما يوجب حده. فلا تُقبل فيه إلا شهادة أربعة رجال أحرار. وهل يثبت الإقرار بالزنا بشاهدين أو لا يثبت إلا بأربعة؟ على روايتين). أما كون المشهود به ينقسم خمسة أقسام؛ فلأنه تارة يكون الزنا وما يوجب حده، وتارة القصاص وسائر الحدود، وتارة ما ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود والقصاص، وتارة المال وما يقصد به المال، وتارة ما لا يطلع عليه الرجال. وأما كون أحدها: الزنا وما يوجب حده؛ فظاهر. وأما كون ذلك لا تُقبل فيه إلا شهادة أربعة؛ فلأن الله تعالى قال ذلك في آياتٍ من كتابه: منه قوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور: 13]. وأما كونهم رجالاً؛ فلأن المرأة ضعيفة العقل، قليلة الأمانة. فيكون ذلك شُبهة، والحد يدرأ بالشبهة. وأما كونهم أحراراً؛ فلأن في قبول شهادة العبيد خلافاً بين العلماء فيكون ذلك شبهة مانعة من قبول شهادتهم فيما يدرأ بالشبهة، وقد تقدم في شهادة العبيد أنها تُقبل في الحدود في رواية (¬1). والأول أصح؛ لما ذكر. فإن قيل: لم يذكر المصنف رحمه الله أن يكونوا عدولاً؟ ¬

_ (¬1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

قيل: اكتفى باشتراط ذلك في الأموال؛ لأنه نبَّه على تأكيد الشهادة على الزنا بالأمور المذكورة فيعلم المتفَقِّه أن اشتراط العدالة فيها أولى. وكذلك عدم ذكره لباقي الشروط الآتي ذكرها. والعدالة المعتبرة ظاهراً وباطناً وجهاً واحداً وإن اختلف في ذلك في الأموال لتأكيد الزنا واشتراط ما ذكر. وأما كون الإقرار بالزنا هل يثبت بشاهدين أم لا يثبت إلا بأربعة؟ على روايتين؛ فلأن قياسه على سائر الأقارير يقتضي ثبوته بشاهدين، وقياسه على الفعل يقتضي أن لا يثبت إلا بأربعة. ولا بد أن يلحظ في الروايتين المذكورتين: أن تكون الشهادة على إقرارٍ تكرر أربعاً. فلو كانت الشهادة على الإقرار مرتين أو ثلاثاً لم يحد حد الزنا. وقد ذكر ذلك في الفصل الثالث من باب حد الزنا (¬1). قال: (الثاني: القصاص وسائر الحدود. فلا يُقبل فيه إلا رجلان حران). أما كون ما ذكر لا يُقبل فيه إلا رجلان؛ فلأن المرأة ضعيفة العقل قليلة الأمانة غالباً، وذلك يقتضي أن الثقة بقولها فيما عداهما على مقتضاه. وأما كونهما حرين؛ فلأن في شهادة العبيد خلافاً في الجملة. فلم يثبت القصاص وسائر الحدود بشهادتهم؛ كالشهادة على الزنا. فإن قيل: القتل أعظم من الزنا فإذا اشترط في الزنا أربعة. فلأن يشترط في القتل الأربعة بطريق الأولى. قيل: القتل فيه حق آدمي وفي اشتراط الأربعة إسقاط له بخلاف الزنا. قال: (الثالث: ما ليس بمال ولا يُقصد به المال ويَطَّلعُ عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود والقصاص؛ كالطلاق والنسب والولاء والوكالة في غير المال والوصيةُ إليه وما أشبه ذلك: فلا يُقبل فيه إلا رجلان. وعنه في النكاح والرجعة والعتق: أنه يُقبل فيه شهادة رجل وامرأتين. وعنه في العتق: أنه يُقبل فيه شاهدٌ ويمين المدعي. وقال القاضي: النكاحُ وحقوقه من الطلاق والخلع ¬

_ (¬1) 4: 232.

والرجعة لا يثبتُ إلا بشاهدين رواية واحدة، والوكالة والوصية والكتابة ونحوها تُخَرَّج على روايتين. قال أحمد رحمه الله في الرجل يُوكل وكيلاً ويشهد على نفسه رجلاً وامرأتين: إن كانت في المطالبة بدين فأما غير ذلك فلا). أما كون ما ليس بمال ولا يُقصد به المال ويَطَّلعُ عليه الرجال في غالب الأحوال؛ كالطلاق لا يُقبل فيه إلا رجلان رواية واحدة؛ فلأن الشرع متشوفٌ إلى عدمه. وأما كون النكاح والرجعة والعتق لا يُقبل فيهما إلا ذلك على المذهب؛ فبالقياس على الطلاق. وأما كونهما يقبل فيهما شهادة رجلٍ وامرأتين على روايةٍ؛ فلأنهما لا يسقطان بالشبهة. والأول أصح؛ لأن إلحاق النكاح بالطلاق أولى من إلحاقه بالمال، ولذلك قال القاضي: لا يثبتان إلا بشهادة رجلين رواية واحدة. وأما كون العتق لا يُقبل فيه إلا رجلان على روايةٍ؛ فلأنه إزالة ملكٍ لا على وجه المعاوضة. فلم يقبل فيه إلا ذلك؛ كالنكاح. وأما كونه يُقبل فيه شهادة رجل وامرأتين على روايةٍ؛ فلأن العبد مالٌ. فقبل في عتقه شهادة رجل وامرأتين؛ كسائر الأموال. وأما كونه يُقبل فيه شهادة واحد ويمين العبد على روايةٍ؛ فلأن في الشرع تشوفاً إلى العتق، وفي قبول شاهد ويمين المعتق توسعة في ثبوت المعتق. وأما كون ما عدا ذلك من الصور التي ذكرها المصنف رحمه الله وما في معناها لا يُقبل فيه إلا رجلان على المذهب؛ فبالقياس على الطلاق. وأما كون النكاح وحقوقه من الطلاق والخلع والرجعة لا يثبتُ إلا بشاهدين رواية واحدة، والوكالة والوصية والكتابة ونحوها تخرج على روايتين على قول القاضي؛ فلأن النكاح وحقوقه يحتاط له. بخلاف بقية ما ذكر. قال: (الرابع: المال وما يقصد به المال؛ كالبيع والقرض والرهن والوصية له، وجناية الخطأ: يُقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وشاهد ويمين المدعي. وهل تُقبل

في جناية العمد الموجبة للمال دون القصاص؛ كالهاشمة والمنقلة شهادة رجل وامرأتين؟ على روايتين). أما كون المال يُقبل فيه شهادة رجلٍ وامرأتين؛ فبالكتاب والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ... -إلى أن قال-: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان} [البقرة: 282]. وأما الإجماع فأجمع أهل العلم على قبول شهادة النساء في الأموال. وأما كون ما يقصد منه المال كالصور التي ذكرها المصنف رحمه الله يُقبل فيها شهادة رجل وامرأتين؛ فلأن المقصود منها المال. أشبهت الشهادة بنفس المال. وأما كون المال يُقبل فيه شاهد ويمين المدعي؛ فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استشرتُ جبريلَ في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار عليّ بذلك في الأموال لا تعدو ذلك». رواه أحمد بإسناده. وعن عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قضَى بالشاهدِ واليمين. قال عمرو: في الأموال» (¬1). وعن أبي هريرة قال: «قضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باليمينِ مع الشاهدِ الواحد» (¬2). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ولأن اليمين يشرع في حق من ظهر صدقه، ولذلك شرعت في حق صاحب اليد وفي حق المنكر، والمدعي هاهنا ظهر صدقه بشاهده. فوجب أن يشرع اليمين في حقه. وأما كون ما يقصد منه المال يُقبل فيه ذلك؛ فلأن ذلك كالمال نفسه في شهادة المرأتين. فكذلك في القضاء باليمين مع الشاهد. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1712) 3: 1337 كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد. وأخرجه أبو داود في سننه (3608) 3: 308 كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2370) 2: 793 كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه (1343) 3: 627 كتاب الأحكام، باب ما جاء في اليمين مع الشاهد.

وأما كون جناية العمد الموجبة للمال دون القصاص؛ كالهاشمة والمنقلة على روايتين؛ فلأن النظر إلى أن موجبها المال تشبه الجناية خطأ وهي تثبت برجل وامرأتين، والنظر إلى أنها جناية عمد تشبه القتل وهو لا يثبت إلا برجلين. والأول المذهب. قاله صاحب المغني فيه. قال: (الخامس: ما لا يطلع عليه الرجالُ؛ كعيوب النساء تحت الثياب والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة والحيض ونحوه: فيُقبل فيه شهادة امرأة واحدة. وعنه: لا يُقبل فيه أقل من امرأتين. وإن شهد به الرجل كان أولى بثبوته). أما كون ما لا يَطَّلع عليه الرجال من كل المواضع المذكورة ونحوها يُقبل فيها شهادة امرأة واحدة على المذهب؛ فلأن شهادتها مقبولة في بعضها؛ لما تقدم من حديث عقبة بن الحارث «لما تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب. فقالت الأمة السوداء: قد أرضعتكُما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وكيفَ وقد زعمتْ أن قد أرضعتكما» (¬1). فتقبل في باقي الصور بالقياس على ذلك. وعن علي رضي الله عنه «أنه أجازَ شهادةَ القابلةِ وحدها في الاستهلال» (¬2). رواه الإمام أحمد. وأما كونه لا يُقبل فيه أقل من امرأتين على روايةٍ؛ فلأن كل جنسٍ لم يثبت الحق فيه لم يثبت إلا باثنين. دليله الرجال. ولأن الرجل أكمل من المرأة، والحق في غير هذه الصورة لا يثبت به وحده. والأول أصح؛ لما تقدم. وأما كون الرجل إذا شهد بذلك في المواضع المذكورة ونحوها أولى بثبوته؛ فلأن الرجل أكمل من المرأة. فإذا ثبت ذلك في المواضع المذكورة بشهادة النساء فالرجال أولى. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 657. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 151 كتاب الشهادات، باب ما جاء في عددهن.

فصل [في شهادة الرجل والمرأتين] قال المصنف رحمه الله: (وإذا شهد بقتل العمد رجل وامرأتان لم يثبت قصاص ولا دية. وإن شهدوا بالسرقة ثبت المال دون القطع). أما كون القصاص لا يثبت بما ذكر؛ فلأن من شرط ثبوته: أن يشهد به رجلان ولم يوجد. وأما كون الدية لا تثبت؛ فلأن الواجب بقتل العمد إما القصاص عيناً، وإما أحد الأمرين، وعلى التقديرين لا ينبغي أن تجب الدية: أما إذا قيل: الواجب القصاص عيناً؛ فلأن الدية حينئذ بدل عنه، وإذا لم يثبت المبدل لا يثبت البدل. وأما إذا قيل: الواجب أحد الأمرين؛ فلأن تعين أحدهما لا يثبت إلا بالاختيار أو التعذر بعد الثبوت، وكلاهما منتفٍ هنا. وأما كون المال في مسألة السرقة يثبت دون القطع؛ فلأن الشهادة بالسرقة توجب المال والقطع فيها وشرط ثبوت المال موجود؛ لأنه يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وشرط القطع منتفٍ؛ لأنه لا يثبت إلا بشهادة رجلين. قال: (وإن ادعى رجل الخلع قُبل فيه رجل وامرأتان. وإن ادعته المرأة لم يُقبل فيه إلا رجلان). أما كون الرجل إذا ادعى الخلع يُقبل فيه رجل وامرأتان؛ فلأنه مدعٍ بالمال معترف بالبينونة، والمال يثبت بالرجل والمرأتين. وأما كون المرأة إذا ادعته لم يُقبل فيه إلا رجلان؛ فلأنها مدعية البينونة معترفة بالمال، والبينونة لا تثبت إلا برجلين.

قال: (وإذا شهد رجل وامرأتان لرجلٍ بجارية أنها أم ولده وولدها منه قُضي له بالجارية أم ولد. وهل تثبت حرية الولد ونسبه من مدعيه؟ على روايتين). أما كون المشهود له بها؛ فلأنه يدعي ملكها، وقد أقام بذلك بينة كافية فيه. فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه حصل بقول البينة. قيل: ليس مراده ذلك بل مراده الحكم بأنها أم ولده مع قطع النظر عن علة ذلك، وعلته أن المدعي مقر بأن وطئها كان في ملكه. وأما كون الولد تثبت حريته ونسبه من مدعيه على روايةٍ؛ فلأن من يثبت له عين يثبت له نماؤها، والولد من نمائها، وإذا ثبت أنه له ثبتت حريته ونسبه لإقراره بذلك. وأما كونه لا تثبت حريته ولا نسبه من مدعيه على روايةٍ؛ فلأن بينته لا تصلح لإثبات ذلك. فعلى هذا يبقى الولد في يد المنكر مملوكاً له.

باب الشهادة على الشهادة

باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة الأصل في الشهادة على الشهادة في الجملة الإجماع والمعنى: أما الإجماع؛ فقال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال. وأما المعنى؛ فلأن الحاجة داعية إليها فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة بالوقوف، وما تأخر إثباته عند الحكام لو ماتت شهوده. وفي ذلك ضرر عظيم ومشقة شديدة. قال المصنف رحمه الله: (تُقبل الشهادة على الشهادة فيما يُقبل فيه كتاب القاضي، وترد فيما يرد فيه. ولا تُقبل إلا أن تتعذر شهادة شهود الأصل بموتٍ أو مرضٍ أو غيبةٍ إلى مسافة القصر. وقيل: لا تُقبل إلا بعد موتهم). أما كون الشهادة على الشهادة تُقبل فيما يُقبل فيه كتاب القاضي وترد فيما يرد فيه؛ فلأنها في معناه؛ لاشتراكهما في كونهما فرعاً لأصل. وأما كونها لا تُقبل إلا أن يتعذر فيها شهود الأصل؛ فلأنه إذا أمكن سماع الحاكم شهادة شهود الأصل يكون قادراً على سماع الأصل. فلم يجز العدول عنه؛ كسائر الأصول مع فروعها. ولأن قدرة القاضي على سماع شهود الأصل يقتضي البحث عن عدالة شاهدي الفرع، ويمكنه العلم بشهادة شهود الأصل. فلم يجز له العدول إلى ظن شهادتهم بشهادة شاهدي الفرع. وأما كون التعذر بموتٍ فلا خلاف فيه؛ لتحققه معه. وأما كونه بمرضٍ أو غيبةٍ إلى مسافة القصر على المذهب؛ فلأن الشهادة يتعذر معهما. أشبها الموت.

وأما كون الشهادة المذكورة لا تُقبل إلا بعد موت شهود الأصل على قول؛ فلأن المريض ترجى عافيته والغائب يرجى قدومه. والأول أصح؛ لما تقدم. ولأن انتظار صحة المريض وقدوم الغائب يؤدي إلى ضرر صاحب الحق وتأخير حقه لأمر يحتمل أن يصير ويحتمل أن لا يصير. فعلى هذا يتعدى الأمر إلى المحبوس والخائف من سلطان أو غيره أو نحو ذلك؛ لأن جميع ذلك تتعذر معه الشهادة من شهود الأصل. أشبها المريض والغائب. قال: (ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل فيقول: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان ابن فلان وقد عرفتُه بعينه واسمه ونسبه أقرّ عندي وأشهدني على نفسه طوعاً بكذا، أو شهدتُ عليه أو أقرّ عندي بكذا). أما كون شاهد الفرع لا يجوز له أن يشهد إذا لم يسترعيه شاهد الأصل؛ فلأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة، والنيابة بغير إذن لا يجوز. فإن قيل: إذا كان استرعاء شاهد الأصل معتبراً في شهادة الفرع فهل يعتبر أن يسترعيه بعينه أم يجوز لم لم يسترع أن يشهد على شهادته؟ قيل: فيه وجهان: أحدهما: يعتبر أن يسترعيه بعينه. وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا؛ لأنه ذكر هاهنا شاهد الفرع. ثم قال: يسترعيه فأعاد الضمير إليه ثم أتبعه بقوله فيقول: اشهد على شهادتي. والثاني: لا يعتبر أن يسترعيه بعينه بل إذا سمع رجلاً يسترعي رجلاً جاز للسامع أن يشهد وإن لم يسترعه وهو الذي رجحه المصنف رحمه الله في المغني وعلله بحصول الاسترعاء. وأما كونه يجوز له ذلك إذا استرعاه شاهد الأصل؛ فلأن المانع منه عدم إذنه له، وذلك مفقود مع ذلك. وأما كون الاسترعاء كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأنه محصل للغرض.

قال: (وإن سمعه يقول: أشهد على فلان بكذا لم يجز أن يشهد؛ إلا أن يسمعه يشهد عند الحاكم أو يشهد بحقٍ يعزيه إلى سببٍ من بيعٍ أو إجارةٍ أو قرضٍ فهل يشهد به؟ على وجهين). أما كون شاهد الفرع لا يجوز أن يشهد إذا سمع شاهد الأصل يقول: أشهد على فلان بكذا من غير ذكر سبب ولا شهادة عند الحاكم؛ فلأن شاهد الأصل لم يسترعه الشهادة. ولأن شاهد الأصل يجوز أن يريد بالشهادة العلم ولو قال: أعلم لم يجز للفرع أن يشهد على شهادته. وأما كون من سمع من يشهد عند الحاكم أو يعزي شهادته إلى سبب يجوز له أن يشهد على شهادته على وجه؛ فلأن بشهادته عند الحاكم وعزوه الاستحقاق إلى سبب يزول الاحتمال ويرتفع الإشكال. وأما كونه لا يجوز له ذلك على وجه؛ فلأنه لم يسترعه للشهادة عليه. قال: (وتثبت شهادة شاهدي الأصل بشهادة شاهدين يشهدان عليهما سواء شهدا على كل واحدٍ منهما أو شهد على كل واحدٍ منهما شاهد من شهود الفرع. وقال أبو عبدالله بن بطة: لا تثبت حتى يشهد أربعة على كل شاهد أصل شاهدا فرع). أما كون شهادة شاهدي الأصل تثبت بشهادة شاهدين يشهدان عليهما على المذهب؛ فلأن شهود الفرع بدل عن شهود الأصل، وشاهدا الأصل اثنان فكذا الأصل (¬1). فعلى هذا لا فرق في الشاهدين بين أن يشهد كل واحدٍ على واحدٍ وبين أن يشهدا على كل واحدٍ منهما؛ لأن الغرض مشابهة الفرع الأصل وبالأول تحصل المشابهة وبالثاني تتأكد القضية والمطلوب حصول المشابهة لا تأكد القضية. وأما كونها لا تثبت حتى يشهد أربعة على كل أصلٍ فرعان على قول ابن بطة؛ فلأن شاهدي الفرع يُثبتان شهادة شاهدي الأصل. فلا تثبت شهادة كل ¬

_ (¬1) كذا في د. ولعل الصواب: الفرع.

واحدٍ منهما بواحدٍ؛ كما لا يثبت إقرار مقرين بشهادة اثنين يشهد كل واحدٍ منهما على واحد. قال: (ولا مدخل للنساء في شهادة الفرع. وعنه: لهن مدخلٌ فيشهد رجلان على رجل وامرأتين، أو رجل وامرأتان على رجل وامرأتين. وقال القاضي: لا تجوز شهادة رجلين على رجل وامرأتين نص عليه أحمد. قال أبو الخطاب: وفي هذه الرواية سهو من ناقلها). أما كون النساء لا مدخل لهن في شهادة الفرع على المذهب؛ فلأنهن يثبتن بشهادتهن شهادة الأصل، وليست بمال ولا المقصود منها المال ويطلع عليها الرجال في غالب الأحوال. أشبه القصاص والحد. وأما كونهن لهن مدخلٌ فيها على روايةٍ؛ فلأن المقصود من شهادتهن إثبات الحق الذي يشهد به شهود الأصل. فكان لهن في ذلك مدخل؛ كالبيع. فعلى الأول لا يشهد رجلان على رجل وامرأتين، وعلى الثاني يشهد رجلان على رجل وامرأتين. وأما كون شهادة رجلين على رجل وامرأتين لا يجوز على قول القاضي أنه منصوص الإمام أحمد؛ فلأن في الشهادة على الشهادة ضعفاً وفي شهادة النساء ضعف فلا يضم ضعف إلى ضعف. وأما كون هذه الرواية سهواً من ناقلها على قول أبي الخطاب؛ فلأنه إذا قُبل شهادة امرأة على شهادة امرأة. فلأن تقبل شهادة رجل على شهادة امرأة بطريق الأولى؛ لأن الرجل أحسن حالاً من المرأة. ولأن ناقل هذه الرواية قال فيها: أقبل فيها شهادة رجل على شهادة رجلين وذلك مما لا وجه له؛ لأن رجلاً واحداً لو كان أصلاً فشهد في القتل العمد ومعه ألف امرأة لا يُقبل فإذا شهد بها وحده وهو فرع كيف يقبل ويحكم بها؟ . قال: (ولا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدي الفرع حتى يثبت عنده عدالتهما وعدالة شاهدي الأصل). أما كون الحاكم لا يجوز له أن يحكم بشهادة شاهدي الفرع حتى يثبت عنده عدالة شاهدي الفرع؛ فلأن الحق يترتب على قولهما ويثبت به.

وأما كونه لا يجوز له ذلك حتى يثبت عنده عدالة شاهدي الأصل؛ فلأنهما أصلان. فلأن تعتبر عدالتهما بطريق الأولى. قال: (وإن شهدا عنده فلم يحكم حتى حضر شهود الأصل وُقف الأمر على سماع شهادتهم. وإن حدث منهم ما يمنع قبول الشهادة لم يجز الحكم). أما كون الأمر يُوقف على سماع شهادة شهود الأصل إذا حضروا قبل الحكم بشهادة شاهدي الفرع؛ فلأن الحاكم قدر على الأصل قبل العمل بالبدل. فلم يجز العمل؛ كما لو تيمم ثم قدر على الماء قبل الصلاة. ولأن حضورهما لو وجد في ابتداء الشهادة منع. فإذا طرأ قبل الحكم منع؛ كالفسق. وأما كون الحكم لا يجوز إذا حدث من شهود الفرع ما يمنع قبول الشهادة كفسق بعضهم؛ فلأن ما كان شرطاً في قبول الشهادة كان استمراره إلى حين الحكم شرطاً في جوازه. دليله: عدالة الأصل بعد أدائه. قال: (وإن حكم بشهادتهما ثم رجع شهود الفرع لزمهم الضمان. وإن رجع شهود الأصل لم يضمنوا. ويحتمل أن يضمنوا). أما كون شهود الفرع إذا رجعوا لزمهم الضمان فيما ذكر؛ فلأنهم بشهادتهم حالوا بين صاحب الحق وبين حقه على وجهٍ لا يمكن استدراكه وذلك يوجب الضمان. دليله: ما لو شهد شاهدان بمال لزيدٍ فحكم الحاكم له ثم رجعا. وسيأتي ذكر ذلك ودليله (¬1). وأما كون شهود الأصل إذا رجعوا لا يضمنون على المذهب؛ فلأن شهادتهم ما ألجأت القاضي إلى الحكم. وأما كونهم يحتمل أن يضمنوا؛ فلأن شاهدي الفرع نائبا شاهدي الأصل لما حصل الإلجاء بشهادة شاهدي الفرع. ¬

_ (¬1) ص: 682.

فصل [إذا رجع الشهود] قال المصنف رحمه الله: (ومتى رجع شهود المال بعد الحكم لزمهم الضمان، ولم ينقض الحكم سواء كان قبل القبض أو بعده، وسواء كان المال قائماً أو تالفاً). أما كون شهود المال إذا رجعوا بعد الحكم يلزمهم الضمان؛ فلأنهم حالوا بين المالك وماله بشهادتهم الثابت كونها باطلة بقولهم. فلزمهم الضمان؛ كما لو غصب غاصبٌ العبد وهرّبه. وأما كون الحكم لا ينقض؛ فلأن حق المشهود له وجب بالحكم. فلا يسقط بعد وجوبه بقول الشهود واعترافهم بالكذب؛ لأنه يحتمل كذبهم فيه. ولأن رجوعهم ليس بشهادة، والحق الثابت بشهادة أو إقرار لا يزيله إلا شهادة على صاحبه أو إقرار منه. وأما كون ذلك كذلك سواء كان قبل القبض أو بعده، وسواء كان المال قائماً أو تالفاً؛ فلأن وجوب الحق متعلق بالحكم وهو موجود في الأمور المذكورة على حدٍ سواء. قال: (وإن رجع شهود العتق غرموا القيمة. وإن رجع شهود الطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى. وإن كان بعده لم يغرموا شيئاً. وإن رجع شهود القصاص أو الحد قبل الاستيفاء لم يستوف. وإن كان بعده وقالوا: أخطأنا فعليهم دية ما تلف). أما كون شهود العتق يغرمون القيمة إذا رجعوا؛ فلأنهم حالوا بين مالك العبد وملكه بشهادتهم بعتقه وقد اعترفوا بكذبهم. فلزمهم قيمته؛ كما لو غصب عبداً فهرَّبه. وأما كون شهود الطلاق يغرمون نصف المسمى إذا رجعوا قبل الدخول؛ فلأنهم فوَّتوا ذلك على الزوج حيث أوجبوه عليه بشهادتهم التي تبيَّن كذبها.

وأما كونهم لا يغرمون شيئاً إذا رجعوا بعد الدخول؛ فلأن المنفعة التي قابلت المهر استوفاها بدخوله بالزوجة المشهود بطلاقها وإذا كان كذلك لم يفوت الشهود على المشهود عليه شيئاً لم يستوف نفعه. وأما كون شهود القصاص والحد لا يستوفى ما شهدوا به إذا رجعوا قبل الاستيفاء؛ فلأن رجوعهم شبهة، والحد يسقط بالشبهة، والقصاص عقوبة. فوجب أن يساويه في حكمه. وأما كونهم عليهم الدية إذا رجعوا بعد الاستيفاء وقالوا: أخطأنا؛ فلأن بإقراره تمّ تبين أن التلف حصل بسببهم لكن على طريق الخطأ. فلزمتهم الدية؛ كما لو قتل شخصٌ شخصاً خطأ. قال: (ويتقسّط الغرم على عددهم. فإن رجع أحدهم وحده غَرم بقسطه). أما كون الغرم يتقسّط على عدد الشهود؛ فلأن التفويت حصل منهم كلهم. فوجب تقسيط الغرامة عليهم كلهم؛ كما لو اتفق جماعة وأتلفوا ملكاً لإنسان. وأما كون الواحد يغرم بقسطه؛ فلأن الإتلاف حصل بشهادتهم. فوجب أن يغرم الراجع بقسطه؛ كما لو رجع الجميع. ولأن ما يضمنه كل واحدٍ مع اتفاقهم على الرجوع يجب أن يضمنه الراجع إذا انفرد؛ كما لو كانوا أربعة. قال: (وإذا شهد عليه ستة بالزنا فرُجم ثم رجعَ منهم اثنان غرُما ثلثَ الدية. وإن رجع الكل لزمتهم الدية أسداساً). أما كون الشاهدين الراجعين يغرمان ثلث الدية؛ فلأنهم اثنان من ستة. وأما كون الدية تلزم الكل أسداساً إذا رجعوا؛ فلأنهم ستة، والغرامة تقسط عليهم.

قال: (وإن شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فرُجم ثم رجع الجميع لزمتهم الدية أسداساً في أحد الوجهين، وفي الآخر على شهود الزنا النصف، وعلى شهود الإحصان النصف). أما كون الدية تلزم من ذكر أسداساً؛ فلأن الرجم مستند إلى شهادة ستة، والغُرم يقسط على عدد الشهود. وأما كونها تلزمهم نصفين؛ فلأن بينة الإحصان غير بينة الزنا. فيجب أن تنقسم عليهما. قال: (وإن شهد أربعة بالزنا وشهد اثنان منهم بالإحصان صحت الشهادة. فإن رُجم ثم رجعوا عن الشهادة فعلى من شهد بالإحصان ثلُثا الدية على الوجه الأول، وعلى الثاني تلزمهم ثلاثة أرباعها). أما كون الشهادة المذكورة تصح؛ فلأنها لا مانع من صحتها. وأما كون شهود الإحصان عليهم ثلُثا الدية على الوجه الأول؛ فلأن الرجم مستند إلى شهادة ستة معنى؛ لأن شهود الإحصان من حيث الإحصان اثنان، ومن حيث الزنا اثنان والآخران تكملة بينة الزنا، وإذا كان كذلك فعلى شهود الإحصان من حيث الإحصان ثلث الدية؛ لأنهما ثلث البينة، ومن حيث الزنا ثلثها؛ لأنهما ثلث الستة. وأما كونهم يلزمهم ثلاثة أرباع الدية على الوجه الثاني؛ فلأن الدية تقسط على بينتي الزنا والإحصان نصفين. فلزم بينة الإحصان النصف من حيث إنهما بينة إحصان، ويلزمهما الربع من حيث إنهما نصف بينة الزنا، ومجموع ذلك ثلاثة أرباع الدية. قال: (وإن حكم بشاهدٍ ويمينٍ فرجع الشاهد غرُم المال كله. ويتخرج أن يغرم النصف). أما كون الشاهد المذكور يغرُم المال كله؛ فلأن قول الخصم ليس بحجةٍ على خصمه. وإنما هو شرط الحكم. فجرى مجرى مطالبته للحاكم بالقضاء له. وأما كونه يتخرج أن يغرم النصف؛ فلأن اليمين أحد حُجتي الدعوى. فلم يكن على الشاهد أكثر من النصف؛ كما لو كان معه شاهد آخر.

قال: (وإن بانَ بعد الحكم أن الشاهدين كانا كافرين أو فاسقين نقض ويرجع بالمال أو ببدله على المحكوم له. وإن كان المحكوم به إتلافاً فالضمان على المزكين، فإن لم يكن ثَمَّ تزكية فعلى الحاكم. وعنه: لا ينقض إذا كانا فاسقين). أما كون الحكم ينقض إذا بانَ الشاهدان كافرين؛ فلأن شرط الحكم كون الشاهد مسلماً ولم يوجد. وأما كونه ينقض إذا بانَ الشاهدان فاسقين على المذهب؛ فلما ذكر في الكافر. وأما كونه لا ينقض على روايةٍ؛ فلأن شرط الحكم أن لا يظهر للقاضي فسق الشهود وذلك موجود. والفرق بين الكفر والفسق: أن الكفر لا يخفى غالباً. بخلاف الفسق فإنه يخفى غالباً فلذلك كان المعتبر في الكفر عدمه وفي الفسق عدم ظهوره. وأما كون المال يرجع به أو ببدله على المحكوم له؛ فلأن الحكم قد نقض. فيجب أن يرجع الحق إلى مستحقه. فإذا كان ذلك موجوداً لزم رده بعينه، وإن كان تالفاً لزم رد بدله. وأما كون الضمان على المزكين إذا كان المحكوم به إتلافاً؛ كالقتل والقطع وما أشبههما؛ فلأن المحكوم به تعذر رده، وشهود التزكية ألجؤا الحاكم إلى الفعل المذكور. فلزمهم ضمانه؛ كما لو شهد عدلان بحقٍ ثم حكم الحاكم ثم رجعا. وأما كونه على الحاكم إذا لم يكن تزكية؛ فلأن التلف حصل بفعله أو بأمره. فلزمه ضمانه: أما فيما إذا حصل بفعله مثل: أن يقتل أو يقطع أو ما أشبه ذلك بنفسه؛ فظاهر. وأما فيما إذا أمر بذلك؛ فلأن الحاكم سلّطه على ذلك ومكّنه منه. فإن قيل: إذا أمر الحاكم الولي بالاستيفاء ينبغي أن يكون الضمان عليه؛ كما لو حكم له بمال فقبضه ثم بان فسقُ الشهود فإن الضمان على المستوفي دون الحاكم فكذا هاهنا.

قيل: ثَمَّ حصل في يد المستوفي مال المحكوم عليه بغير حقٍ. فوجب عليه رده وضمانه إن تلف وهاهنا لم يحصل في يده شيء، وإنما أتلف شيئًا بخطأ الإمام وتسليطه عليه فافترقا. وقال المصنف رحمه الله في المغني: في محل الضمان روايتان: إحداهما: في بيت المال؛ لأن الحاكم نائب المسلمين ووكيلهم، وخطأ الوكيل في حق موكله عليه. ولأن خطأ الحاكم يكثر؛ لكثرة تصرفاته وحكوماته. فإيجاب ضمان ما يخطئ فيه على عاقلته إجحاف بهم. والرواية الثانية: هي على عاقلته مخفّفة مؤجلة؛ لما روي «أن امرأة ذُكرت عند عمر بسوء فأنفذَ إليها فأجهضت. فبلغَ ذلك عمر فشاورَ الصحابة. فقال بعضهم: لا شيءَ عليكَ. وقال علي: أرى عليك الدية. فقال عمر: عزمتُ عليك أن لا تبْرح حتى تقسمها على قومك» (¬1). يعني قريشاً؛ لأنهم عاقلة عمر، ولو كان خطؤه واجباً في بيت المال لم يوجب الدية على عاقلته. ولأن تلف المحكوم به حصل بخطئه فكان على عاقلته كخطئه في غير الحكم. فعلى هذه الرواية إن كان المتلفُ يبلغ ثلث الدية فصاعداً تحملته العاقلة والكفارة تجب في ماله؛ لأن العاقلة في قتل الخطأ تحمل الثلث فصاعداً دون الكفارة فكذلك هاهنا، وإن كان المتلف أقل من الثلث فذلك في ماله؛ لأن العاقلة لا تحمل أقل من الثلث، وعلى الرواية الأولى الكفارة والقليل والكثير من الدية في بيت المال؛ لأن جعل ذلك في بيت المال لعلة أنه نائب عنهم وخطأ النائب على من استنابه وهذا يدخل فيه القليل والكثير. ولأنه يكثر خطؤه فجعل الضمان في ماله يجحف به وإن قل لكثرته بتكرره. ¬

_ (¬1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (18010) 9: 458 كتاب العقول، باب من أفزعه السلطان.

قال: (وإن شهدوا عند الحاكم بحقٍّ ثم ماتوا حكم بشهادتهم إذا ثبتت عدالتهم). أما كون الشهود إذا ماتوا بعد أن شهدوا عند الحاكم بحقٍ يحكم بشهادتهم؛ فلأن الموت لا يؤثر في الشهادة ولا يدل على الكذب فيها ولا يحتمل أن يكون موجوداً حال أداء الشهادة. بخلاف الفسق فإنه يحتمل ذلك. وأما كون ثبوت عدالتهم شرطاً؛ فبالقياس على الحياة. وفي قول المصنف رحمه الله: إذا ثبتت عدالتهم؛ تنبيه على أن الموت لا يُسقط اعتبار العدالة في حق الشهود. وهو صحيح؛ لأن العدالة إنما اعتبرت بحصول الثقة للقاضي بقول الشاهد، وذلك موجود مع الموت كالحياة. قال: (وإذا علم الحاكم بشاهد الزور عزّره وطاف به في المواضع التي يشتهر فيها فيقال: إنا وجدنا هذا شاهد زور فاجتنبوه). أما كون الحاكم إذا علم بشاهد الزور يعزره؛ فلأن ذلك قول عمر رضي الله عنه ولم يعرف له مخالف. ولأن قول الزور معصية لا حد فيه. فوجب فيه التعزير؛ كالشتم. وأما كونه يطوف به في المواضع المذكورة؛ فليشتهر أمره ليجْتنب. وأما كون الطائف به يقول كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن الشهرة بمفردها لا يحصل بها إعلام الناس به. فلم يكن بد من القول المذكور أو ما أشبهه. قال: (ولا تُقبل الشهادة إلا بلفظ الشهادة، فإن قال: أعلم أو أُحق لم يُحكم به). أما كون الشهادة لا تُقبل إلا بلفظ الشهادة؛ فلأنا قد تعبدنا بذلك. فلا يقوم غيره مقامه؛ كالصلاة. وأما كون الشاهد إذا قال: أعلم أو أُحِق لا يُحكم به؛ فلأن الحكم يعتمد لفظ الشهادة؛ لما ذكر ولم يوجد.

باب اليمين في الدعاوى

باب اليمين في الدعاوى قال المصنف: (وهي مشروعةٌ في حق المنكر في كل حقٍّ لآدمي. قال أبو بكر: إلا في النكاح والطلاق. وقال أبو الخطاب: إلا في تسعة أشياء: النكاح والرجعة والطلاق والرق والولاء والاستيلاد والنسب والقذف والقصاص. وقال القاضي: في الطلاق والقصاص والقذف روايتان، وسائر التسعة لا يستحلف فيه (¬1) رواية واحدة. وقال الخرقي: لا يحلف في القصاص، ولا المرأة إذا أنكرت النكاح، وتحلف إذا ادعت انقضاء عدتها، وإذا أنكر المولي مضي الأربعة الأشهر حلف، وإذا أقام العبد شاهداً بعتقه حلف معه). أما كون اليمين مشروعة في حق المنكر في كل حقٍّ لآدمي وهو احتمال في المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادعى قومٌ دماءَ رجال وأموالهم. ولكن اليمينَ على المدعَى عليه» (¬2). جعل اليمين على المدعى عليه بعد ذكر الدماء، وذلك ظاهر في أن الدعوى بالدم يشرع فيها اليمين، وسائر الحقوق إما مثله أو دونه. فوجب مشروعية اليمين في ذلك كله؛ لما ذكر ولعموم النص سواه. وظاهر المذهب أنها لا تشرع في كل حقٍّ لآدمي؛ لأنها لا تشرع في بعض حقوقه؛ لما يأتي ذكره في موضعه. وأما كونها مشروعة في غير الأشياء المستثناة؛ فلأنه إما مالٌ أو المقصود منه المال، ولا خلاف بين أهل العلم في مشروعية اليمين في ذلك إذا لم يكن للمدعي ¬

_ (¬1) في المقنع: وسائر الستة لا يستحلف فيها. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (4277) 4: 1656 باب {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم}. وأخرجه مسلم في صحيحه (1711) 3: 1336 كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه.

بينة. والأصل فيه قضية الحضرمي والكندي المتقدم ذكرها غير مرة (¬1)، وعموم قوله عليه السلام: «ولكن اليمينَ على المدعَى عليه» (¬2). وأما كونها لا تشرع في النكاح والطلاق على قول أبي بكر؛ فلأن النكاح لا مدخل للبدل فيه والطلاق يتبعه. ولأن أمرهما أشد من غيرهما. فوجب تخصيصهما بذلك. وأما كونها لا تشرع في الأشياء التسعة المذكورة على قول أبي الخطاب؛ فلأن منها: النكاح والطلاق وباقيها يساويها في كونها ليست مالاً. ولأن ذلك لا يثبت إلا بشاهدين. فلا يشرع فيه اليمين؛ كالحدود. وأما كونها لا تشرع في الطلاق والقصاص والقذف في روايةٍ وتشرع في روايةٍ؛ فلأن النظر إلى تأكدها يقتضي أن لا يشرع اليمين فيها والنظر إلى أنها حق آدمي يقتضي أن يشرع فيها. وأما كون سائر التسعة لا يستحلف فيه رواية واحدة؛ فلتأكدها وعدم مساواة غيرها لها. وأما كون القصاص لا يحلف فيه ولا المرأة إذا أنكرت النكاح على قول الخرقي؛ فلأن القصاص حد يدرأ بالشبهة، والمرأة لا يصح بدلها. وأما كونها تحلف إذا ادعت انقضاء عدتها على قوله؛ فلما فيه من الاحتياط لبضعها. وأما كون المُولي إذا أنكر مضي الأربعة الأشهر يحلف على قوله؛ فلأنه إذا لم يحلف يؤدي إلى ضرر المرأة وذلك منتفٍ. وأما كون العبد إذا أقام شاهداً يحلف معه على قوله؛ فلأن عتقه نقل ملك. أشبه البيع. قال: (ولا يستحلف في حقوق الله تعالى؛ كالحدود والعبادات). أما كون حقوق الله تعالى لا يستحلف فيها؛ فلأنها تسقط بالشبهة. فلأن تسقط بالنكول بطريق الأولى. ¬

_ (¬1) سبقت ص: 623. (¬2) سبق تخريجه ص: 688.

وأما كون حقوق الله تعالى كالعبادات كالزكاة وما أشبه ذلك لا يستحلف فيها؛ فلأنها حقٌ لله تعالى. أشبهت الحد. قال: (ويجوز الحكم في المال وما يقصد به المال بشاهد ويمين المدعي. ولا تُقبل فيه شهادة امرأتين ويمين. ويحتمل أن تُقبل. ولا يقبل في النكاح والرجعة وسائر ما لا يستحلف فيه شاهد ويمين). أما كون الحكم في المال وما يقصد به المال يجوز بشاهد ويمين؛ فلما تقدم في باب المشهود به في قوله: الرابع المال وما يقصد به المال؛ كالبيع والقرض (¬1). وأما كونه لا تُقبل فيه شهادة امرأتين ويمين على المذهب؛ فلأنها بينة خلت من رجل. فلم تقبل؛ كما لو شهد بالمال أربعة نسوة. ولأن قول المرأتين ضعيف يقوى بالرجل، واليمين ضعيفة تقوّت بالرجل، وفي هذه الصورة ضعف انضم إلى ضعيف. فلم يحصل مع شيء منها تقوية. وأما كون ذلك يحتمل أن يُقبل؛ فلأن المرأتين بمنزلة رجلٍ، والشاهد مع اليمين يثبت المال. فكذلك مع ما هو بمنزلته. والأول أصح؛ لما تقدم. ودليل الثانية منقوض بما إذا شهد بالمال أربع نسوة فإنه لو قام كل امرأتين مقام رجل لقبلت شهادة الأربع؛ لمقامهم مقام الرجلين. وأما كون النكاح والرجعة وسائر ما لا يستحلف فيه لا يقبل فيه شاهد ويمين؛ فلما تقدم في باب أقسام المشهود به في قوله: الثالث ما ليس بمال ولا يقصد به المال (¬2). قال: (ومن حلف على فعل نفسه أو دعوى عليه حلف على البتِّ. ومن حلف على فعل غيره أو دعوى عليه في الإثبات حلف على البتّ. وإن حلف على النفي حلف على نفي علمه). أما كون من حلف على فعل نفسه أو دعوى عليه؛ مثل: أن يدعي مائة مثلاً ويقيم بذلك شاهداً، ويريد أن يحلف معه، أو يدعي عليه مائة فيقول: ما يستحق ¬

_ (¬1) ص: 672. (¬2) ص: 671.

عليّ شيئاً يحلف على البتّ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم استحلف رجلاً فقال قل: واللهِ الذي لا إله إلا هوَ ما لي عليكَ حق» (¬1). وأما كون من حلف على فعل غيره؛ مثل: أن يدعي أن غيره غصب داره أو ما أشبه ذلك يحلف على (¬2) البتّ؛ فلأن اليمين هنا قائمة مقام الشهادة ولو شهد الشاهد بذلك لكانت شهادته على البتّ فكذلك اليمين القائمة مقامها. وأما كون من حلف على دعوى على غيره في الإثبات مثل: أن يدعي (¬3). وأما كون من حلف على دعوى على غيره في النفي يحلف على نفي العلم؛ فلأن فعل الغير لا يمكن القطع فيه، ولذلك «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحضرمي حين قال للكندي وقد أنكرَ أن أباه غصب أرضه: أُحَلِّفُه [واللهِ] ما يَعلمُ أنها أرضي اغتصبها أبوه» (¬4). رواه أبو داود بمعناه. قال: (ومن توجهت عليه يمين لجماعة فقال: أحلف يميناً واحدة لهم فرضَوا جاز. وإن أبوا حلف لكل واحد يميناً). أما كون من توجهت عليه يمين لجماعة فقال: أحلف يميناً واحدة لهم فرضوا يجوز؛ فلأنهم لو رضوا بلا يمين لجاز. فلأن يجوز إذا رضوا بيمين واحدة بطريق الأولى. وأما كونه يحلف لكل واحد يميناً إذا أبوْا ذلك؛ فلأنه لو انفرد كل واحدٍ وحده لملك تحليفه يميناً. فإذا اجتمعوا ملكوا ذلك. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه ص: 692. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) بياض في د مقدار سطر. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3622) 3: 312 كتاب الأقضية، باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه. وما بين المعكوفين زيادة من السنن.

فصل [في صفة اليمين] قال المصنف رحمه الله: (واليمين المشروعة هي اليمين بالله تعالى اسمه. وإن رأى الحاكمُ تغليظها بلفظٍ أو زمنٍ أو مكانٍ جاز ففي اللفظ يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الطالبُ، الغالبُ، الضارُّ، النافعُ، الذي يعلم خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدور). أما كون اليمين المشروعة هي اليمين بالله تعالى اسمه؛ فبالكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة: 107]، وقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} [النحل: 38]. وأما السنة؛ فما روي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّف ركانة في الطلاق. فقال: آلله! ما أردتَ إلا واحدة. فقال: آلله ما أردتُ إلا واحدة» (¬1). وفي حديث الحضرمي والكندي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألكَ بينة؟ قال: لا. ولكن أُحلفُه والله ما يَعلمُ أنها أرضي اغتصبها أبوه» (¬2). رواه أبو داود. وقال عثمان لابن عمر: «تحلفُ باللهِ لقد بعتهُ وما به داءٌ تعلمُه» (¬3). وأما كون الحاكم إذا رأى التغليظ بما ذكر يجوز؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم استحلف رجلاً. فقال قل: واللهِ الذي لا إله إلا هوَ ما له عندي شيء» (¬4). رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه (1177) 3: 17 كتاب الطلاق واللعان، باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2051) 1: 661 كتاب الطلاق، باب طلاق البتة. (¬2) سبق تخريجه ص: 691. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 328 كتاب البيوع، باب بيع البراءة. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (3620) 3: 311 كتاب الأقضية، باب كيف اليمين؟

وأما كون التغليظ كما ذكر المصنف رحمه الله فلأن اللفظ قد دلّ على اعتباره استحلافه في الحديث المذكور بزيادة: «الذي لا إله إلا هو». وغيره من الأيمان والمكان سيأتي ذكرهما بعد إن شاء الله تعالى. قال: (واليهودي يقول: والله الذي أنزل التوراة على موسى، وفلق له البحر، وأنجاه من فرعون وملائه. والنصراني يقول: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وجعله يحيي الموتى، ويبرئُ الأكمه والأبرص. والمجوسي يقول: والله الذي خلقني وصوّرني ورزقني). أما كون اليهودي يقول ما ذكر؛ فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لليهود: «نشدتكم باللهِ الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدونَ في التوراة على من زنى؟ » (¬1). رواه أبو داود. وأما كون النصراني يقول ما ذكر؛ فلأنه لفظ يتأكد به يمينه. أشبه اليهودي. وعندي في تغليظ يمين النصراني بما ذكر نظر؛ لأن أكثرهم لا يعتقدون أن عيسى رسولٌ إنما يعتقدونه ابناً لله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فتغليظ اليمين بما ذكر يؤدي إلى خروج اليمين عن أن تكون يميناً فضلاً أن تكون مغلظة. وأما كون المجوسي يقول ما ذكر؛ فلأنه يعظّم خالقه ورازقه. أشبه كلمة التوحيد في حق المسلم، وإنزال التوراة في حق اليهودي. قال: (والزمان يحلفه بعد العصر أو بين الأذانين. والمكان يحلفه بمكة بين الركن والمقام، وفي الصخرة ببيت المقدس، وفي سائر البُلدان عند المنبر. ويحلف أهل الذمة في المواضع التي يعظّمونها). أما كون التغليظ بالزمان تحليفه بعد العصر؛ فلأن الله تعالى قال: {تحبسونهما من بعد الصلاة} [المائدة: 106]. قيل: المراد بعد العصر. وأما كون التغليظ بين الأذانين أي بين الأذان والإقامة؛ فلأنه وقت تُرجى فيه إجابة الدعوة. فيُرجى فيه معاجلة الكاذب بالعقوبة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3624) 3: 312 كتاب الأقضية، باب كيف يحلف الذمي؟

وأما كون التغليظ بالمكان؛ فلأن في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «منْ حلفَ على منبري هذا بيمين آثمةٍ فليتبوَأْ مقعدَهُ من النار» (¬1). فعلى هذا التغليظ بالمكان بمكة بين الركن والمقام؛ لأنه موضع شريف زائد على غيره في الفضيلة، وفي المدينة عند المنبر، وفي بيت المقدس في الصخرة، وفي سائر البُلدان عند المنبر؛ كالمدينة. وأما كون أهل الذمة يحلفون في المواضع التي يعظّمونها؛ فلأن اليمين تغلظ في حقهم زماناً فكذلك مكاناً. وعن الشعبي: «أنه قال لنصراني: اذهب إلى البيعة». و «قال كعب بن سور في نصراني: اذهبوا إلى المذبح». قال: (ولا تغلّظُ اليمين إلا فيما له خطرٌ؛ كالجنايات والعتاق والطلاق، وما تجب فيه الزكاة من المال، وقيل: ما يُقطع به السارق. وإن رأى الحاكم ترك التغليظ فتركه كان مصيباً). أما كون اليمين لا تغلّظ إلا فيما له خطرٌ كما ذكر المصنف رحمه الله على المذهب؛ فلأن التغليظ للتأكيد، وما لا خطر فيه لا يحتاج إلى تأكيد. وأما كونه ما يُقطع فيه السارق على قولٍ؛ فلأن قطعه به يدل على الاهتمام به والتأكيد يناسبه. وأما كون الحاكم إذا رأى ترك التغليظ فتركه كان مصيباً؛ فلأنه مجتهد. فإذا رأى تركه كان مصيباً؛ كما لو رأى أن الحُكم كذَا. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (14704) 3: 344. وأخرجه مالك في موطئه (10) 2: 558 كتاب الأقضية، باب ما جاء في الحنث على منبر النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الشافعي في مسنده (241) 2: 73 كتاب الأيمان والنذور. باب فيما يتعلق باليمين.

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار قال المصنف رحمه الله: (يصح الإقرار من كل مكلفٍ مختارٍ غير محجورٍ عليه. فأما الصبي والمجنون فلا يصح إقرارهما؛ إلا أن يكون الصبي مأذوناً له في البيع والشراء فيصح إقراره في قدر ما أذن له دون ما زاد. وكذلك العبد المأذون له في التجارة). أما كون الإقرار يصح من كل مكلفٍ مختار غير محجور عليه؛ فلأنه يصح بيعه وشراؤه وهبته ووقفه وسائر تصرفاته. فصح إقراره قياساً على بقية أحكامه. ولأنه مقر. فوجب أن يصح إقراره عملاً بالمقتضي للصحة السالم عن المعارض الآتي ذكره. وأما كون الصبي إذا لم يكن مأذوناً له لا يصح إقراره؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ ... الحديث» (¬1). ولأن إقراره قول من غائب العقل. فلم يثبت له حكمه؛ كالبيع والطلاق. وأما كونه إذا كان مأذوناً له يصح إقراره في القدر المأذون له؛ فلأنه تصرف في شيء يصح تصرفه في البيع والشراء. فصح إقراره به؛ كالبالغ. وأما كونه لا يصح إقراره فيما زاد؛ فلأن تصرفه فيه بالبيع والشراء غير جائز فكذلك إقراره. ولأن مقتضى الدليل أن إقراره غير صحيح. تُرك العمل به فيما أُذن له فيه للإذن. فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما كون المجنون لا يصح إقراره بحال؛ فلقوله عليه السلام: «وعن المجنونِ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4401) 4: 140 كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا. وأخرجه الترمذي في جامعه (1423) 4: 32 كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد. وأخرجه النسائي في سننه (3432) 6: 156 كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج. وأخرجه ابن ماجة في سننه (2041) 1: 658 كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم.

حتى يُفيق» (¬1). وقياساً على الصبي بل أبلغ؛ لأن الصبي يفهم في الجملة بعض الفهم، وتصح صلاته وسائر عباداته. وأما كون العبد المأذون له كالصبي المأذون له فيما ذكر؛ فلأنه يساوي الصبي معنى. فوجب أن يساويه حكماً. قال: (ولا يصح إقرار السكران. ويتخرج صحته بناء على طلاقه). أما كون إقرار السكران لا يصح على المذهب؛ فلأنه غير عاقلٍ. فلم يصح إقراره؛ كالمجنون. ولأن السكران لا يوثق بصحة قوله ولا تنتفي عنه التهمة فيما يخبر به. فلم توجد علة قبول القول في حقه. وأما كونه يتخرج صحته بناء على صحة طلاقه؛ فلأن صحة طلاقه يقتضي جعل حكمه حكم الصاحي، والصاحي يصح إقراره فكذلك من جعل حكمه حكمه. قال: (ولا يصح إقرار المكرَه؛ إلا أن يقرّ بغير ما أكره عليه؛ مثل: أن يكرَه على الإقرار لإنسان فيقرّ لغيره، أو على الإقرار بطلاق امرأة فيقرّ بطلاق غيرها، أو على الإقرار بدنانير فيقرّ بدراهم فيصح. وإن أكره على وزن ثمن فباع داره في ذلك صح). أما كون إقرار المكرَه إذا لم يقر بغير ما أكره عليه لا يصح؛ فلقوله عليه السلام: «رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهُوا عليه» (¬2). ولأنه قول أكره عليه بغير حق. فلم يصح؛ كالبيع. وأما كونه إذا أقر بغير ما أكره عليه مثل الإقرار في الصور التي ذكرها المصنف رحمه الله يصح؛ فلأن المقر به غير مكره عليه. فصح؛ كما لو أقر بذلك ابتداء. وأما كون من أكره على وزن ثمن فباع داره في ذلك يصح؛ فلأن بيع الدار غير مكره عليه. فصح؛ كما لو (¬3) لم يكره أصلاً. ¬

_ (¬1) تكملة للحديث السابق. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2043) 1: 659 كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

قال: (وأما المريض مرض الموت المخوف فيصح إقراره بغير المال. وإن أقرّ بمال لمن لا يرثه صح في أصح الروايتين، وفي الأخرى: لا يصح بزيادة على الثلث، ولا يحاصّ المقرّ له غرماء الصحة. وقال أبو الحسن التميمي والقاضي: يحاصّهم). أما كون إقرار المريض المرض المذكور بغير المال يصح؛ فلأنه غير محجورٍ عليه في غير ماله. ولأن مقتضى الدليل صحة إقراره مطلقاً. تُرك العمل به في المال؛ للحديث الوارد في ذلك. فوجب أن يبقى في غير المال على مقتضاه. وأما كون إقراره بمال لمن لا يرثه يصح في أصح الروايتين؛ فلأنه إقرار يعتمد فيه قوله فوجب أن يصح كما لو أقر في الصحة. وأما كونه لا يصح بزيادة على الثلث في الأخرى؛ فلأنه إقرار في المرض. أشبه إقرار الوارث. والأول أولى؛ لما تقدم. ولأن حالة المرض أقرب إلى الاحتياط لنفسه وإبراء ذمته وتحري الصدق. فكان قبول قوله فيه أولى، وفارق الإقرار للوارث أنه متهم فيه على ما سيأتي بيانه. وأما كون المقر له لا يحاصّ غرماء الصحة على قول غير أبي الحسن التميمي والقاضي؛ فلأن المقرّ أقرّ بعد تعلق الحق بماله. فوجب أن لا يشارك المقر له غرماء ضيق المال. والدليل على تعلق الحق بماله منعه من التبرع بما زاد على الثلث للأجنبي، ومن التبرع للوارث بكل حال. وأما كونه يحاصّهم على قولهما؛ فلأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال لم يختص أحدهما به. فلم يقدم أحدهما على الآخر؛ كما لو ثبتا ببينة. قال: (وإن أقرّ لوارث لم يقبل إلا ببينة، إلا أن يُقرّ لامرأته بمهر مثلها فيصح). أما كون إقرار المريض لوارث غير المستثنى لا يقبل إذا لم يكن له بينة تشهد بالذي أقر له به؛ فلأنه إيصال مال إلى الوارث في مرض الموت. فلم يقبل بغير رضى بقية الورثة؛ كالهبة والوصية.

ولأن المريض محجور عليه لحق وارثه. فلم يقبل إقراره؛ كالصبي في حق الناس كلهم. وأما كونه إذا أقر لامرأته بمهر مثلها يصح؛ فلأنه إقرار بما تحقق سببه وعلم وجوبه فلم تحصل البراءة منه. أشبه ما لو اشترى عبداً فأقر للبائع بثمن مثله. قال: (وإن أقرّ لوارث وأجنبي فهل يصح في حق الأجنبي؟ على وجهين). أما كون الإقرار المذكور يصح في حق الأجنبي على وجه؛ فلأنه لو أقر لأجنبي منفرد يصح. فكذلك إذا أقر له مع غيره. وأما كونه لا يصح على وجه؛ فلأنه جمع بين ما يصح وبين ما لا يصح. فلم يصح فيما يصح منفرداً؛ كما لو باع ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه فإنه لا يصح فيهما. قال: (وإن أقرّ لوارثٍ فصار عند الموت غير وارث لم يصح إقراره. وإن أقرّ لغير وارث صح. وإن صار وارثاً نص عليه. وقيل: أن الاعتبار بحال الموت فيصح في الأولى ولا يصح في الثانية كالوصية). أما كون من أقرّ لوارثٍ فصار عند الموت غير وارث لا يصح إقراره، ومن أقرّ لغير وارث يصح، وإن صار وارثاً على منصوص الإمام أحمد؛ فلأن الاعتبار في الإقرار بحال الإقرار؛ لأنه قول يعتبر فيه التهمة. فاعتبر بحال وجوده؛ كالشهادة. فإن قيل: ما مثال ذلك؟ قيل: مثال الأول: يقر لأخيه ثم يولد له ولد ابن. ومثال الثاني: أن يقر لأخيه وله ابن فيموت الابن. وأما كون الاعتبار بحال الموت على قول؛ فبالقياس على الوصية. فعلى هذا يصح في المسألة الأولى ولا يصح في المسألة الثانية؛ كالوصية.

قال: (وإن أقرّ لامرأته بدَين ثم أبانها ثم تزوجها لم يصح إقراره. وإن أقرّ المريض بوارث صح. وعنه: لا يصح. وإن أقرّ بطلاق امرأته في صحته لم يَسقط ميراثها). أما كون من أقرّ لامرأته بدين ثم أبانها ثم تزوجها لا يصح إقراره؛ فلأنه إقرار لوارث في مرض الموت. فلم يصح؛ كما لو لم يُبنها. ولأن الاعتبار إما بحال الإقرار أو بحال الموت، والزوجة وارثة في الحالين. وأما كون إقرار المريض بوارث يصح على المذهب؛ فلأنه إقرار لغير وارث. فصح؛ كما لو لم يصر وارثاً. وأما كونه لا يصح على رواية؛ فلأنه إقرار لمن يصير وارثاً. فلم يصح؛ كالوارث المحقق. والأول أصح؛ لأن الإقرار للوارث إنما لم يصح للتهمة وهي هنا إما مفقودة أو مرجوحة؛ لأن الظاهر من حال المقر أنه لا يلحق به أجنبياً، وإذا كان كذلك انتفت التهمة أو ضعفت، وذلك يوجب صحة الإقرار؛ لأن المقتضي لصحته سالم عن معارضة التهمة أو التهمة الراجحة. وأما كون من أقرّ بطلاق امرأته في صحته لا يُسقط ميراثها؛ فلأن المقر متهم في إقراره من حيث إنه ربما اتخذ إسناد الطلاق إلى الصحة سبباً لانتفاء التهمة الحاصلة بالطلاق في المرض، وإذا تضمن إقراره تهمة لم يصح. فلم يسقط ميراث امرأته؛ لقيام المقتضي السالم عن معارضة قبول إقرار الزوج.

فصل [في إقرار العبد] قال المصنف رحمه الله: (وإن أقرّ العبد بحدٍّ أو قصاصٍ أو طلاق صح وأخذ به؛ إلا أن يُقرّ بقصاصٍ في النفس فنص أحمد أنه يُتْبع به بعد العتق. وقال أبو الخطاب: يُؤخذ به في الحال). أما كون العبد إذا أقرّ بحدٍّ أو قصاصٍ فيما دون النفس يصح؛ فلأن ذلك يستوفى من بدنه، وذلك له دون سيده؛ لأن السيد لا يملك من العبد سوى المالية. وأما كونه إذا أقرّ بطلاقٍ يصح؛ فلأن إيقاعه إليه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطلاقُ لمنْ أخذَ بالساق» (¬1). فلا يكون متهماً بإقراره به؛ لأن ملك الإنشاء ملك الإقرار. وأما كونه يؤخذ بالإقرار في المواضع المذكورة؛ فلأن إقراره إقرار صحيح، ومن صح إقراره أخذ به. دليله: الحر. وأما كونه إذا أقرّ بقصاصٍ في النفس يتبع به العتق على منصوص الإمام أحمد؛ فلأن أخذه في الحال يؤدي إلى إسقاط حق سيده من رقبته. فلم يقبل؛ كما لو أقر بقتل الخطأ. ولأنه متَّهم؛ لأنه يحتمل أن يواطئ رجلاً يقر بذلك ليعفو على مال فيستحق تسليمه ويتخلص بذلك من سيده. وأما كونه يؤخذ بذلك في الحال على قول أبي الخطاب؛ فلأنه أحد نوعي القصاص. فقبل إقراره به؛ كالأطراف. وما ذكر من التهمة في القصاص في النفس موجود في القصاص في الطرف، والإقرار في الطرف وفاقاً فليكن في النفس كذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2081) 1: 672 كتاب الطلاق، باب طلاق العبد.

قال: (وإن أقرّ السيد عليه بذلك لم يُقبل إلا فيما يوجب القصاص، فيُقبل فيما يجب به من المال. وإن أقرّ العبد غير المأذون له بمال لم يُقبل في الحال ويتبع به بعد العتق. وعنه: يتعلق برقبته. وإن أقرّ السيد عليه بمال أو بما يوجبه؛ كجناية الخطأ قُبل). أما كون السيد إذا أقرّ على عبده بحدٍّ أو قصاصٍ في غير نفس أو طلاق لا يقبل؛ فلما تقدم من أن ذلك للعبد لا للسيد. وأما كونه إذا أقرّ بما يوجب القصاص يقبل فيما يوجب به من المال؛ فلأن المال للسيد. ومفهوم كلام المصنف رحمه الله أنه لا يقبل في القصاص. وهو صحيح؛ لما تقدم من أن البدن للعبد لا للسيد. وأما كون العبد غير المأذون له إذا أقرّ بمال لا يُقبل في الحال ويتبع به بعد العتق على المذهب؛ فلأنه إقرار من محجورٍ عليه في حق غيره. فلم يُقبل في الحال، ويتبع به بعد زوال الحجر عنه؛ كالمفلس. وأما كونه يتعلق بالمال برقبته على رواية؛ فكجنايته. والأول أصح؛ لما ذكر. والفرق بين الإقرار والجناية: أن الإقرار قول غير معتبر في الحال، والجناية فعل، وفعل المحجور عليه معتبر. وأما كون السيد إذا أقرَّ على عبده بمال أو ما يوجبه كجناية خطأ يقبل؛ فلأن المال حقه. فإذا أقرَّ به وجب قبوله؛ كإقراره على سائر ماله. قال: (وإن أقرَّ العبد بسرقة مال في يده وكذَّبه السيد قُبل إقراره في القطع دون المال. وإن أقرَّ السيد لعبده أو العبد لسيده بمال لم يصح). أما كون العبد إذا أقرّ بسرقة مال يُقبل في القطع؛ فلأن القطع حق له. فقبل؛ كما لو أقر في قصاص في يد. وأما كونه لا يُقبل في المال؛ فلأن المال حق للسيد. فلم يُقبل إقرار العبد به؛ كما لو أقرّ العبد بمال في يده.

وأما كون السيد إذا أقرّ لعبده بمال لا يصح؛ فلأنه إقرار لنفسه؛ لأن مال العبد مال لسيده. وأما كون العبد إذا أقرّ لسيده بإقراره له به تحصيل للحاصل. قال: (وإن أقرَّ أنه باع عبده من نفسه بألفٍ وأقرّ العبد به ثبت. وإن أنكر عَتق ولم يلزمه الألف). أما كون البيع يثبت إذا أقرّ السيد والعبد به؛ فلأنهما اتفقا عليه ولا حق لغيرهما فيه. فعلى هذا يعتق العبد؛ لأنه ملك نفسه وتلزمه الألف في ذمته؛ لأن مقتضى الحال البيع، وذلك (¬1). وأما كون العبد يَعتق إذا أنكره؛ فلأن السيد أقر بأن العبد ملك نفسه، وذلك يوجب عتقه. ولأن إقرار السيد بالبيع للعبد متضمن للإقرار بعتقه. أشبه ما لو قال لرجل آخر: بعتك عبدي لأعتقه. وأما كون العبد لا يلزمه الألف؛ فلأنه مدعًى عليه بألف، وهو منكر. فلم يلزمه ما ادعى عليه؛ كسائر من أنكر. قال: (وإن أقرّ لعبد غيره بمال صح وكان لمالكه. وإن أقرّ لبهيمة لم يصح). أما كون من أقرّ لعبد الغير بمال يصح؛ فلأنه إقرار صدر ممن يصح إقراره. فإذا أمكن تصحيحه تعيّن جعله صحيحاً. وهاهنا يمكن تصحيح الإقرار بأن يجعل المال للسيد، وتكون الإضافة إلى العبد على نحو ما يضاف بعض مال السيد إليه. وأما كون المال المقرّ به للسيد؛ فلأن السيد هو الجهة التي يصح بها الإقرار. فتعين جعل المال له. وأما كون من أقرّ لبهيمة لا يصح؛ فلأن المقر له لا بد وأن يكون له مدخل في الإقرار بوجه. فإن قيل: لم لا يصح ويكون لمالكها؟ ¬

_ (¬1) بياض في د مقدار كلمة.

قيل: لأن الصحة تستدعي كون المقر له قابلاً لكونه مقراً له بوجه، وذلك منتفٍ في البهيمة. قال: (وإن تزوج مجهولة النسب فأقرّت بالرق لم يُقبل إقرارها. وعنه: يُقبل في نفسها، ولا يُقبل في فسخ النكاح ورقّ الأولاد. وإن أولدها بعد الإقرار ولداً كان رقيقاً). أما كون إقرار مجهولة النسب بالرق لا يُقبل؛ فلأن الحرية حقٌّ لله تعالى. فلم يرتفع بقول أحدٍ؛ كالإقرار على حق الغير. وأما كونه لا يُقبل في فساد النكاح ورقّ الأولاد؛ فلأنها متهمة بالنسبة إلى ذلك. وأما كون ما أولدها بعد الإقرار رقيقاً؛ فلأن الواطئ وطئ المقرة بالرق بعد الحكم برقها. أشبه ما لو وطئ مملوكة الغير ابتداء. قال: (وإذا أقرَّ بولد أمته أنه ابنه ثم مات ولم يتبيّن هل أتت به في ملكه أو غيره فهل تصير أم ولد؟ على وجهين). أما كون الأمة المقر بأن ولدها ابن للمقر تصيرُ أم ولد له على وجه؛ فلأن الظاهر أن ابنه المقر به ولد على فراشه. فتكون أمته ذات فراش له، وذلك يوجب صيرورتها أم ولد له. وأما كونها لا تصير أم ولد على وجه؛ فلأن الولد يحتمل أن يكون بشبهة. فلم يثبت كون أمه أم ولدٍ مع عدم كونه فراشاً.

فصل [في الإقرار بالنسب] قال المصنف رحمه الله: (وإذا أقرّ الرجل بنسب صغير أو مجنونٍ مجهول النسب أنه ابنه ثبت نسبه منه. وإن كان ميتاً ورثه. وإن كان كبيراً عاقلاً لم يثبت حتى يصدقه. وإن كان ميتاً فعلى وجهين. ومن ثبت نسبه فجاءت أمه بعد موت المقرّ فادّعت الزّوجيّة لم تثبت بذلك). أما كون نسب الصغير والمجنون المجهولي النسب يثبت بما ذكر مع الحياة؛ فلأن الظاهر أن الشخص لا يلحق به من ليس منه. ولأن الأب أقرّ بذلك ولا معارض لقوله. فوجب قبوله؛ كما لو كانا مكلفين فأقرا بذلك. وأما كونه يثبت مع الموت؛ فلأن سبب ثبوته مع الحياة الإقرار، وهو موجود هاهنا. فإن قيل: التهمة موجودة مع الموت من أجل الميراث. فوجب أن لا يقبل؛ كسائر الإقرار المتهم فيه. قيل: التهمة هنا لا أثر لها بدليل ما لو أقرّ بنسب صغير له مال. وأما كون النسب لا يثبت إذا كان المقرّ به كبيراً عاقلاً حياً حتى يصدقه؛ فلأن تصديقه ممكن، والقبول يقتضي التوارث من الجانبين. فوجب أن يقف على التصديق. وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأن المقرّ له المذكور إذا صدق ثبت نسبه. وهو صحيح؛ لأن تصديقه يحصل اتفاقهما على التوارث من الطرفين جميعاً. وأما كونه لا يثبت إذا كان ميتاً على وجه؛ فلأن شرط القبول في الكبير العاقل التصديق ولم يوجد.

وأما كونه يثبت على وجه؛ فلأنه مقرٌ به تعذر تصديقه. أشبه الصبي والمجنون. وأما كون من يثبت نسبه إذا جاءت أمه (¬1) بعد موت المقرّ فادّعت الزّوجيّة لا يثبت؛ فلأن الولد لا يتعين كونه من زوجته؛ لاحتمال أن يكون من وطء شبهة. قال: (وإن أقرَّ بنسب أخٍ أو عمٍ في حياة أبيه أو جده لم يُقبل. وإن كان بعد موتهما وهو الوارث وحده صح إقراره وثبت النسب. وإن كان معه غيره لم يثبت النسب، وللمقر له من الميراث ما فضل في يد المقر). أما كون من أقرّ بنسب أخ أو عم في حياة أبيه أو جده لا يُقبل؛ فلأن كل واحد من الأب والجد له حق في النسب. فلم يثبت بدون إقرارهما بذلك. وأما كونه يصح إقراره ويثبت نسب المقر به إذا كان بعد موتهما والمقر هو الوارث وحده؛ فلأنه لا منازع له في الميراث ولا حق لغيره في نسبه. فوجب أن يصح إقراره؛ كما لو أقر الأب أن شخصاً ابنه. وأما كون النسب لا يثبت إذا كان مع المقرّ المذكور وارث غيره؛ فلأن المقرّ بعض الورثة، وإقرار الكل شرط في ثبوته ضرورة أن النسب لا يتبعض. فيثبت بالنسبة إلى المقر دون المنكر. وأما كون المقر له له (¬2) من الميراث ما فضل في يد المقر؛ فلأن بإقراره يتبين أن ذلك له. قال: (وإن أقرّ من عليه ولاء بنسب وارث لم يُقبل إقراره إلا أن يصدقه مولاه). أما كون إقرار من ذكر لا يُقبل إذا صدقه مولاه؛ فلأن قبول ذلك يؤدي إلى إسقاط ميراث المولى وفي ذلك ضرر. ولأن المقر متَّهم؛ لاحتمال قصده منع مولاه. فلم يُقبل؛ كسائر الإقرارات المتهم فيها. وأما كونه يقبل إذا صدقه مولاه؛ فلأن الحق له فإذا صدقه وجب قبوله. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) مثل السابق.

قال: (وإن أقرّت المرأة بنكاحٍ على نفسها فهل تُقبل؟ على روايتين. وإن أقرّ الولي عليها به قُبل إن كانت مجبرة وإلا فلا). أما كون إقرار المرأة المذكورة بما ذكر يُقبل على رواية؛ فلأنها غير متهمة فيه؛ لأنها يمكنها أن تجدد العقد معه بشروطه. وأما كونه لا يُقبل على رواية؛ فلأن النكاح يفتقر إلى شروطٍ ولا يعلم حصولها بالإقرار. وأما كون إقرار (¬1) المولى عليها بذلك يُقبل إذا كانت مجبرة كالثيب الصغيرة والبكر مع أبيها؛ فلأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به. وأما كونه لا يُقبل إذا لم تكن مجبرة كالأخت مع أخيها؛ فلأنه لا يملك تزويجها بغير رضاها. فلم يملك الإقرار عليها به؛ كالأجنبي. قال: (وإن أقرّ أن فلانة امرأته، أو أقرت أن فلاناً زوجها فلم يصدق المقرُّ له المقرَّ إلا بعد موت المقرِّ صح وورثه). أما كون الإقرار المذكور يصح؛ فلأنهما تصادقا على ذلك في الجملة. وأما كون المقر له يرث المقر؛ فلصحة إقراره بالزوجية. قال: (وإن أقرّ الورثة على موروثهم بدَين لزمهم قضاؤه من التركة. وإن أقرّ بعضهم لزمه منه بقدر ميراثه. فإن لم يكن له تركة لم يلزمهم شيء). أما كون الورثة إذا أقرّوا على موروثهم بدين يلزمهم قضاؤه من التركة؛ فلأنهم أقروا باستحقاق ذلك على موروثهم، والإقرار أبلغ من البينة. ولو شهدت بينة بدين على موروثهم لزمهم قضاؤه من التركة. فكذلك فيما هو أبلغ منه. وأما كون بعضهم إذا أقرّ بدين يلزمهم منه بقدر ميراثه؛ فلأنهما لا يستحقون من الإرث أكثر من ذلك. فلا يلزمهم أكثر من قدره. فعلى هذا إن كان المقرُ واحداً من اثنين فعليه النصف من الدين كما أن له النصف من الميراث، وإن كان أحد ثلاثة فعليه الثلث كما أن له الثلث من الميراث. وعلى هذا فقس. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

وأما كون الورثة لا يلزمهم شيء إذا لم يكن للميت تركة؛ فلأنهم لا يلزمهم أداء دين موروثهم في حياته إذا كان مفلساً. فكذلك لا يلزمهم ذلك إذا كان ميتاً.

فصل [في الإقرار للحمل] قال المصنف رحمه الله: (وإذا أقرّ لحمل امرأة صح. فإن ألقتْه ميتاً أو لم يكن حملٌ بطل. وإن ولدت حياً وميتاً فهو للحي. وإن ولدتهما حيّين فهو بينهما سواء الذكر والأنثى. ذكره ابن حامد. وقال أبو الحسن التميمي: لا يصح الإقرار إلا أن يعزيه إلى [سبب من] (¬1) إرثٍ أو وصيةٍ فيكون بينهما على حسب ذلك). أما كون الإقرار للحمل المعزى إلى سبب من إرثٍ أو وصية يصح فلا شبهة فيه؛ لأنه إقرار مستند إلى سبب صحيح. وأما كونه يصح مطلقاً على المذهب؛ فلأن الحمل يصح أن يَملك بوجه صحيح. فصح الإقرار المطلق له؛ كالطفل. وأما كونه لا يصح على قول أبي الحسن التميمي؛ فلأن الحمل لا يَملك بغير الشيئين. والأول أولى؛ لأنه لا يلزم من انحصار سبب لاستحقاق ذكر السبب في الإقرار. بدليل الطفل. فعلى هذا إن ألقت المرأة الحمل ميتاً أو لم يكن حملٌ بطل الإقرار بفوت شرطه. وإن ولدت حياً وميتاً فهو للحي؛ لأن الشرط فيه فهو محقق دون الميت. وإن ولدتهما حيّين فهو بينهما بالسوية؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، وعلى الثاني هو باطل من أصله. فإن عزاه فمات الحمل نظرت من عزاه إلى إرث عاد إلى ورثة موروث الطفل. وإن عزاه إلى وصية عادت ورثة الموصي. وإن ولدت حياً وميتاً فنصيب الحي له ونصيب الميت حكمه حكم ما لو كان الحمل واحداً ثم مات وقد تقدم ذكره. وإن ولدتهما حيّين فإن عزاه إلى إرثٍ فهو بينهما؛ كالميراث للذكر مثل حظ الأنثيين؛ كالبنين والإخوة للأبوين أو للأب أو الذكر ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع.

والأنثى سواء؛ كالإخوة للأم. وإن عزاه إلى وصية فهو على ما وصى فإن كانت مطلقة فالذكر والأنثى سواء. قال: (ومن أقرّ لكبير عاقل بمال فلم يُصدقه بطل إقراره في أحد الوجهين، وفي الآخر: يؤخذ المال إلى بيت المال). أما كون الإقرار المذكور يبطل بالنسبة إلى استحقاق المقر له المقر به فلا خلاف فيه إذا كذبه؛ لأن الإنسان لا يثبت له ملك هو مقر بأنه لا يستحقه. وأما كونه يبطل بالنسبة إلى عدم استحقاق المقر له والمقر به في وجه؛ فلأن ذلك أحد جهتي الإقرار. فوجب بطلانها؛ كالجهة الأخرى. ولأن المال محكوم له به فإذا رده المقر له بقي على ما كان الحال عليه. فعلى هذا يُقَرّ المال في يد المقر. وأما كونه لا يبطل في وجه؛ فلأن بطلانه بالنسبة إلى المقر له -أعني اختص به- فاختص البطلان به. فعلى هذا يؤخذ ويجعل في بيت المال؛ لأنه مال لا يدعيه أحد. فوجب على الإمام حفظه وجعله في بيت المال؛ كالمال الضائع.

باب ما يحصل به الإقرار

باب ما يحصل به الإقرار قال المصنف رحمه الله: (إذا ادُّعيَ عليه ألفاً فقال: نعم، أو أجل، أو صدقت، أو أنا مُقرٌ بها، أو بدعواكَ: كان مُقراً). أما كونه مقراً إذا قال: نعم؛ فلأنها حرف موضوع للتصديق، ولذلك لما قال الله تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا قالوا نعم} [الأعراف: 44]: كانوا مقرين. وأما كون المدعَى عليه مقراً إذا قال: أجل؛ فلأنه حرف موضوع للتصديق. ولذلك لما قيل لسلمان: «عَلَّمكُمْ نبيكُمْ كلَّ شيءٍ حتى الخِرَاءَة. قال: أجَل» (¬1). ومنه قول الشاعر: وقلن على الفردوس أول مشرب ... أجل جيران كانت دعاثره وأما كونه مقراً إذا قال: صدقت؛ فلأنه تصديق صريح. وأما كونه مقراً إذا قال: أنا مقرٌ بها أو بدعواكَ؛ فلأن المتصل بقوله: أنا مقرٌ يزيل الاحتمال ويزيل الشبهة. قال: (وإن قال: أنا أُقرُّ، أو لا أنكر، أو يجوز أن يكون محقاً، أو عسى، أو لعل، أو أظن، أو أحسب، أو أقدر، أو خذ، أو اتزن، أو أحرز، أو افتح كمك: لم يكن مُقراً). أما كون المدعى عليه لا يكون مُقراً إذا قال: أنا أقر؛ فلأن ذلك وعدٌ بالإقرار في المستقبل، والوعد بالشيء لا يكون إقراراً به. وأما كونه لا يكون مقراً إذا قال: لا أنكر؛ فلأنه لا يلزم من عدم الإنكار الإقرار؛ لأن ثم قسماً آخر وهو عدمهما معاً. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (262) 1: 223 كتاب الطهارة، باب الاستطابة.

ولأنه يحتمل أن يكون مراده لا أُنكر بطلان دعواك. وأما كونه لا يكون مقراً إذا قال: يجوز أن يكون مُحقاً؛ فلأن الجواز المذكور معارض بجواز أن لا يكون محقاً. ولأنه لا يلزم من جواز الشيء وجوبه. وأما كونه لا يكون مقراً إذا قال: أظن أو أحسب أو أقدر؛ فلأن هذه الألفاظ تستعمل في الشك. وأما كونه لا يكون مقراً إذا قال: خذ أو اتزن أو أحرز؛ فلأنه يحتمل خذ الجواب مني أواتزن أو أحرز مالك على غيري. وأما كونه لا يكون مقراً [إذا قال: افتح كمك؛ فلأنه يحتمل افتح كملك لشيء آخر] (¬1). [قال: (وإن قال: أنا مقرٌ أو خذها أو اتزنها أو اقبضها أو أحرزها أو هي صحاح فهل يكون مقراً؟ ] (¬2) يحتمل وجهين). أما كون المدعى عليه إذا قال: أنا مقر يحتمل أن يكون مقراً؛ فلأن ذكر ذلك عقيب الدعوى عليه ينصرف إليها. وأما كونه يحتمل أن لا يكون مقراً؛ فلأنه يحتمل أن يريد غير ذلك؛ مثل: أن يعني أنا مقر بالشهادة أو ببطلان دعواك. وأما كونه إذا قال: خذها أو اتزن بها أو اقبضها أو احرزها أو هي صحاح يحتمل أن يكون مقراً؛ فلأن الكناية تعود إلى ما تقدم (¬3). وأما كونه يحتمل أن لا يكون مقراً؛ فلأن الصفة ترجع إلى المدعي ولم يقر أنه واجب. ¬

_ (¬1) ساقط من د. وقد استدركناه من الشرح الكبير 5: 294. (¬2) ساقط من د. وقد استدركناه من المقنع. (¬3) التعليل غير واضح في د. وقد أثبتناه من الشرح الكبير 5: 294.

قال: (وإن قال: له عليّ ألف إن شاء الله، أو في علمي، أو فيما أعلم. أو قال: اقضني ديني عليك ألفاً، أو سلّم إليّ ثوبي هذا، أو فرسي هذه فقال: نعم: فقد أقرّ بها). أما كون المدعى عليه مقراً إذا قال: له عليّ ألف إن شاء الله؛ فلأنه وجد منه الإقرار وعَقَّبه بما لا يقيده ولا يقتضي رفع الحكم. فلزمه ما أقرّ به؛ كما لو قال: له عليّ ألف في علم الله أو قال: مشيئته. وأما كونه مقراً إذا قال: له عليّ ألف في علمي أو فيما أعلم؛ فلأن ما في علمه لا يحتمل إلا الوجوب. وأما كونه مقراً في المسائل الثانية؛ فلأن قول: نعم في جواب: اقضني أو سلّم إليّ جواب صريح. أشبه ما لو قال: لك عندي. قال: (وإن قال: إن قدم فلانٌ فله عليّ ألفٌ لم يكن مُقراً. وإن قال: له عليّ ألف إن قدم فلانٌ فعلى وجهين). أما كون قائل ما ذكر لا يكون مقراً إذا قدم الشرط؛ فلأن المعلق بالشرط عدم عند عدمه. فإذا لم يكن للمقر له على المقر ألف قبل الشرط لم يكن عليه بعد الشرط؛ لأن الشرط لا يقتضي إيجاب ذلك. وأما كونه لا يكون مقراً إذا أخر الشرط على وجهٍ؛ فلما تقدم. وأما كونه يكون مقراً على وجهٍ؛ فلأن قوله: له عليّ ألف يقتضي كون ذلك له عليه، وقوله بعدُ: إن: إن نافاه بطل فيه للمنافاة فيبقى ما قبل ذلك على ما كان عليه. قال: (وإن قال: له عليّ ألف إذا جاء رأسُ الشهر كان إقراراً. وإن قال: إذا جاء رأسُ الشهر فله عليّ ألفٌ فعلى وجهين). أما كون ما ذكر إقراراً مع تأخر الشرط؛ فلأن المقر به ثبت بالإقرار، والشرط بعده يحتمل أنه أراد به المحِل. فلم يبطل الإقرار بالاحتمال. وأما كونه لا يكون إقراراً مع تقدمه على وجه؛ فلأنه بدأ بالشرط، وذلك يقتضي تعلق إقراره به، وما لا يكون عليه في الحال لا يكون عليه في المآل.

وأما كونه يكون إقراراً على وجه؛ فلأن المعلق على الشرط لا فرق بين تقدمه وتأخره. قال: (وإن قال: له عليّ ألف إن شهد به فلان، أو إن شهد به فلان صَدَّقته: لم يكن مقراً. وإن قال: إن شهد به فلان فهو صادقٌ احتمل وجهين). أما كون من قال: له عليّ ألف إن شهد به فلان لا يكون مقراً؛ فلأنه علق الوجوب على شرط. وأما كونه لا يكون مقراً إذا قال: إن شهد به فلان صَدَّقته؛ فلأنه قد يصدّقُ من ليس بصادق. وأما كون من قال: إن شهد به فلان فهو صادق يحتمل أن يكون مقراً؛ فلأنه لا يتصور صدق الشاهد إلا بأن يكون المشهود به ثابتاً عليه، وقد اعترف بكونه صادقاً فيكون مقراً بذلك. وأما كونه يحتمل أن لا يكون مقراً؛ فلأنه علق إقراره على شرط. أشبه ما لو قال: إن شهد به فلان صدقته. قال: (وإن أقرّ العربي بالعجميّة أو العجمي بالعربيّة وقال: لم أدر معنى ما قلت: فالقولُ قوله مع يمينه). أما كون القول قول من ذكر؛ فلأن الظاهر صدقه والقول قول من عضد قوله الظاهر. ولذلك كان القول قول المنكر؛ لأن الأصل براءة ذمته. والأصل والظاهر أخوان. وأما كون ذلك مع يمينه؛ فلأنه يحتمل كذبه. أشبه المنكر. ولأن كل من كان القول قوله كان ذلك مع يمينه، وهاهنا القول قوله فيكون مع يمينه.

باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره

باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره قال المصنف رحمه الله: (إذا وصل به (¬1) ما يسقطه؛ مثل: أن يقول: له عليّ ألف لا يلزمني، أو قد قبضه، أو استوفاه، أو ألف من ثمن خمرٍ، أو تكفلت به على أني بالخيار، أو ألف إلا ألفاً، أو إلا ستمائة: لزمته الألف). أما كون من قال: له عليّ ألف لا يلزمني أو قد قبضه أو استوفاه يلزمه الألف؛ فلأن مجموع قوله لا يمكن تصحيحه. إذ لا سبيل إلى أن يكون عليه ألف على وجه له لا يلزمه أو أنه مقبوض أو مستوفى. فإذا لم يمكن تصحيح المجموع لغى ما حصل به الفساد. فيبقى له عليّ ألف. وأما كون من قال: له عليّ ألف من ثمن خمرٍ يلزمه الألف؛ فلأن ثمن الخمر لا يكون عليه. فذكر ذلك بعد الإقرار رَفَع الألف بجملته. فلم يصح الدفع؛ كما لو قال: عليّ ألف لا يلزمني. وأما كون من قال: له عليّ ألف تكفلت به عن فلان على أني بالخيار يلزمه الألف؛ فلأن ذلك رفع لجميع ما أقر به. فلم يقبل قوله فيه؛ كالصورة المذكورة قبل. وأما كون من قال: له عليّ ألف إلا ألفاً يلزمه الألف؛ فلأنه استثنى الكل، واستثناء الكل لا يصح؛ لأنه لم ترد به لغة. ولأن صحته توجب جعل الكلام لغواً، والأصل في الكلام أن يقع غير لغو، وإذا لم يصح الاستثناء بقي قوله: عليّ ألف، وذلك يقتضي لزومه له. وأما كون من قال: له عليّ ألف إلا ستمائة يلزمه الألف؛ لأنه استثنى الأكثر من الأقل، وذلك لا يصح؛ لأنه لم يرد في لغة العرب، ولذلك قال ¬

_ (¬1) زيادة من المقنع.

الزَّجّاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير، ولو قال قائل: مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلماً بالعربية. فإن قيل: قد ورد ذلك في القرآن بدليل قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42]، وقوله تعالى: {فبعزتك لأُغوِينّهم أجمعين? إلا عبادَك منهم المخلَصين} [ص: 82 - 83]. استثنى سبحانه الغاوين من العباد، وثانياً العباد من الغاوين. وأيهما كان أكثر فقد استثنى الأكثر من الأقل. ومنه قول الشاعر: أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكماً بالحق قواما قيل: أما الآيتان ففي أحدهما استثنى المخلَص من بني آدم وهم أقل، وفي الأخرى استثنى الغاوين من العباد وهم الأقل؛ لأن الملائكة كلهم طائعون. وأما البيت فقال ابن فضال النحوي: هو بيت مصنوع لم يثبت عن العرب. ثم على تقدير صحته ليس فيه استثناء. قال: (وإن قال: كان له عليّ ألف وقضيته، أو قضيت منه خمسمائة: فقال الخرقي: ليس بإقرارٍ والقولُ قوله مع يمينه. وقال أبو الخطاب: يكون مقراً مدّعياً للقضاء فلا يُقبل إلا ببينة، فإن لم تكن بينة حلف المدعي أنه لم يقض ولم يبرأ واستحق وقال: هذا رواية واحدة ذكرها ابن أبي موسى). أما كون القول المذكور ليس بإقرار على قول الخرقي وهو رواية عن الإمام أحمد؛ فلأنه قول يمكن صحته من غير تناقض في اللفظ. فوجب أن يقبل؛ كاستثناء البعض. وأما كون قائله مقراً مدّعياً للقضاء فلا يُقبل إلا ببينة على قول أبي الخطاب؛ فلأنها رواية عن الإمام: أما كونه مقراً؛ فلأن قوله: كان له عليّ ألف إقرار بالدين. بدليل أنه لو سكت على ذلك لكان الأمر كذلك. وأما كونه مدّعياً للقضاء؛ فلأن قوله: وقضيته دعوى كذلك. وأما كونه لا يُقبل قوله إلا ببينة؛ فلأن كل من ادعى شيئاً لا يُقبل إلا ببينة.

فإن لم تكن له بينة حلف المدعي أنه لم يقض ولم يبرئ؛ لأن المدعى عليه ادعى القضاء وقوله محتمل. فيجب أن يحلف على نفي ذلك وعلى البراءة منه. وأما كون المدعي يستحق ذلك؛ فلأن خصمه أقر به وقد حلف هو على عدم المسقط. فتعين الاستحقاق؛ لحصول ما يوجب وبقي ما يعارضه.

فصل [في الاستثناء] قال المصنف رحمه الله: (ويصح استثناء ما دون النصف. ولا يصح فيما زاد عليه. وفي استثناء النصف وجهان. فإذا قال: له عليّ هؤلاء العبيد العشرة إلا واحداً لزمه تسليم تسعة. فإن ماتوا إلا واحداً فقال: هو للمستثنى فهل يُقبل؟ على وجهين. وإن قال: له هذه الدار إلا هذا البيت، أو هذه الدار له وهذا البيت لي: قُبل منه). أما كون استثناء ما دون النصف يصح؛ فلأن ذلك وارد في القرآن والشعر وكلام العرب الفصيح. وأما كون الاستثناء فيما زاد على النصف وهو الكل والأكثر لا يصح؛ فلما تقدم في قوله: إلا ألفاً أو إلا ستمائة. وأما كون استثناء النصف لا يصح في وجه؛ فبالقياس على ما زاد. وأما كونه يصح في وجه؛ فبالقياس على ما نقض. والأول أولى؛ لأنه لم يرد في اللغة فإلحاقه بالأكثر أولى. ولأن مقتضى الدليل أن لا يصح الاستثناء؛ لأنه إبطال بعد إقرارٍ. تُرك العمل به في الأقل للإجماع. فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وأما كون من قال: له عليّ هؤلاء العبيد العشرة إلا واحداً يلزمه تسليم تسعة؛ فلأن اللفظ يقتضي وجوب العشرة. خرج استثناء الواحد بالاستثناء الصحيح. فيبقى تسعة. وأما كونه يُقبل قوله -إذا ماتوا إلا واحداً- هو المستثنى على وجه؛ فلأنه هو المقِرّ وقد فسر كلامه بتفسير يحتمله. فوجب قبوله؛ كما لو قال: له عندي شيء ثم فسره. وأما كونه لا يُقبل على وجه؛ فلأنه يرفع به جميع ما أقر به.

والأول أولى؛ لما تقدم. والتفسير المذكور ليس رفعاً للإقرار، وإنما تعذر تسليم المقر به لا لمعنى يرجع إلى التفسير. وأما كون من قال: له هذه الدار إلا هذا البيت، أو هذه الدار له وهذا البيت لي يُقبل منه؛ فلأن الأول استثناء للبيت من الدار والثاني في معنى الاستثناء، والاستثناء صحيح، وما في معناه ملحق به. قال: (وإذا قال: له عليّ درهمان وثلاثة إلا درهمين، أو له عليّ درهم ودرهم إلا درهماً: فهل يصح الاستثناء؟ على وجهين). أما كون الاستثناء فيما ذكر يصح في وجهٍ؛ فلأن الواو في قوله: درهمان وثلاثة، وفي قوله: درهم ودرهم يجعل الجملتين جملة واحدة. فيصير الاستثناء في المسألة الأولى درهمين من خمسة، وفي الثانية درهماً من درهمين، وذلك استثناء صحيح؛ لأنه أقل من الأكثر فيهما. وأما كونه لا يصح على وجهٍ؛ فلأن الاستثناء يحتمل أن يعود إلى الجملة التي ثلاثة. فيكون درهمين من ثلاثة، ودرهم من درهم، وذلك لا يصح؛ لأنه في المسألة الأولى استثنى الأكثر، وفي الثانية استثنى الكل. قال: (وإن قال: له عليّ خمسة إلا درهمين ودرهماً لزمه الخمسة في أحد الوجهين، وفي الآخر يلزمه ثلاثة). أما كون قائل ما ذكر يلزمه الخمسة في وجهٍ؛ فلأن الواو في قوله: ودرهماً جعل معنى الكلام كقوله: عليّ خمسة إلا ثلاثة، واستثناء الثلاثة من الخمسة لا يصح فيبقى قوله: عليّ خمسة على موجب إقراره السالم عن معارضة الاستثناء. وأما كونه يلزمه ثلاثة في وجهٍ؛ فلأنه استثنى من الخمسة درهمين فيبقى ثلاثة. فإن قيل: إنما استثنى درهمين ودرهماً. قيل: يجب أن لا يصح العطف؛ لئلا يكون مستثنياً للأكثر. قال: (ويصح الاستثناء من الاستثناء، فإذا قال: له عليّ سبعة إلا ثلاثة إلا درهماً يلزمه خمسة. وإن قال: له عليّ عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهماً

لزمه عشرة في أحد الوجوه، وفي الآخر يلزمه ستة، وفي الآخر سبعة، وفي الآخر ثمانية). أما كون الاستثناء من الاستثناء يصح؛ فلأنه إذا صح الاستثناء. فلأن يصح الاستثناء من الاستثناء بطريق الأولى؛ لأن الاستثناء إبطال، والاستثناء منه رجوع إلى موجب الإقرار. وأما كون من قال: له عليّ سبعة إلا ثلاثة إلا درهماً يلزمه خمسة؛ فلأن السبعة بقي منها أربعة؛ لأنه خرج منها ثلاثة بالاستثناء، وعاد بالاستثناء من الاستثناء درهم. فإذا ضممته إلى الأربعة صار المجموع خمسة. وأما كون من قال: له عليّ عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهماً فيه الوجوه المذكورة؛ فلأن ذلك مبني على استثناء النصف، وعلى أنه إذا بطل الاستثناء هل يبطل الاستثناء من الاستثناء؟ وفيهما خلاف: أما الخلاف في استثناء النصف فقد تقدم ذكره. وأما بطلان الاستثناء من الاستثناء؛ فلأنه تابع للاستثناء ومتعين به. فوجب بطلانه ببطلانه. وأما عدم بطلانه؛ فلأنه إذا بطل الاستثناء ولي الاستثناء من الاستثناء المستثنى منه. فيجب أن يعمل عمله؛ كما لو لم يكن بينهما شيء. ولأن الفاسد وجوده كعدمه، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حكم الاستثناء من الاستثناء حكم ما ولي الاستثناء منه. فعلى قولنا لا يصح استثناء النصف ويبطل الاستثناء من الاستثناء يلزمه عشرة؛ لأنه استثنى منها خمسة وذلك لا يصح؛ لأنه النصف، وإذا لم يصح الاستثناء بطل الاستثناء من الاستثناء فيبقى قوله: عشرة سالماً عن المعارض. وعلى قولنا: يصح استثناء النصف ولا يبطل الاستثناء من الاستثناء ببطلان الاستثناء يلزمه ستة؛ لأنه إذا صح استثناء الخمسة من العشرة بقي خمسة، واستثناء الثلاثة من الخمسة لا يصح؛ لكونها أكثر فيبطل. ويلي قوله: إلا درهمين قوله: إلا خمسة وهو استثناء صحيح؛ لأنه أقل من النصف. وإذا صح استثناء ذلك عاد

من الخمسة الخارجة درهمان خرج منها درهم بقوله: إلا درهماً بقي درهم فإذا ضممته إلى الخمسة الباقية أول مرة صار المجموع ستة. وعلى قولنا: لا يصح استثناء النصف ولا يبطل الاستثناء من الاستثناء يلزمه سبعة؛ لأن استثناء الخمسة لا يصح؛ لأنها نصف، واستثناء الدرهمين من الثلاثة لا يصح؛ لأنهما أكثر، واستثناء الدرهم من الدرهمين لا يصح؛ لأنه نصف. بقي قوله: إلا ثلاثة صحيحاً فيصير بمنزلة قوله: له عليّ عشرة إلا ثلاثة وفي ذلك يلزمه سبعة فكذلك هاهنا. وعلى قولنا: لا يصح استثناء النصف ويبطل الاستثناء من الاستثناء ببطلان الاستثناء يلزمه ثمانية؛ لأن استثناء الخمسة لا يصح؛ لأنها نصف المستثنى منه، وإذا لم يصح ذلك ولي المستثنى منه قوله إلا ثلاثة. فينبغي أن يعمل عمله. لكن وليه قوله: إلا درهمين، وذلك لا يصح؛ لأنه أكثر، وإذا لم يصح ولي قوله: إلا درهماً قوله: إلا ثلاثة فعاد منها درهم للسبعة الباقية فيصير مجموع الباقي ثمانية. قال: (ولا يصح الاستثناء من غير الجنس. نص عليه. فإذا قال: له عليّ مائة درهم إلا ثوباً لزمته المائة؛ إلا أن يستثني عيناً من ورق أو ورقاً من عين فيصح ذكره الخرقي. وقال أبو بكر: لا يصح، فإذا قال: له عليّ مائة درهم إلا ديناراً فهل يصح؟ على وجهين). أما كون الاستثناء من غير الجنس في غير العين من الورق كقول المصنف رحمه الله: له عليّ مائة درهم إلا ثوباً لا يصح؛ فلأن الثوب غير داخل في مدلول المائة فكيف يخرج منها؟ . فإن قيل: قد ورد الاستثناء من غير الجنس في القرآن والشعر: أما في القرآن؛ فقوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} [الكهف: 50]، وقوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً} [مريم: 62]. وأما الشعر؛ فقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيسُ ... إلا اليعَافيرُ وإلا العيسُ

وقول الآخر: وما بالربع من أحدٍ ... إلا أُوارَيَّ لأيا (¬1) ما أبينها قيل: الاستثناء من غير الجنس يجيء معنى لكون ذلك لا مدخل له في الإقرار؛ لأن الإقرار إثبات. ولكن إنما هو الاستدراك بعد الحجة. فلا يحسن ذلك مع الإقرار بحال. فعلى هذا يلزم المقر في الصورة التي ذكرها المصنف رحمه الله مائة؛ لأن الاستثناء لما لم يصح لغى. فبقي قوله: له مائة سالماً عن المعارض. وأما كون الاستثناء من غير الجنس في العين والورق كقول المصنف رحمه الله: له عليّ مائة إلا ديناراً لا يصح على وجه؛ فلما ذكر قبل. وأما كونه يصح على وجه؛ فلأن الذهب والفضة كالجنس الواحد في أنهما أثمان المبياعات وقيم المتلفات وأروش الجنايات، ويكمل أحدهما نصاب الآخر في الزكاة. ولأن أحدهما معلوم من الآخر. ولأن قيمة الدينار معلومة من الدراهم في الغالب. ¬

_ (¬1) زيادة من الشرح الكبير 5: 310.

فصل [في تفسير الإقرار] قال المصنف رحمه الله: (وإذا قال: له عليّ ألف درهم ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال: زُيوفاً أو صغَاراً أو إلى شهر لزمه ألف جياد وافية حالّة؛ إلا أن يكون في بلد أوزانهم ناقصة أو مغشوشة فهل يلزمه من دراهم البلد أو من غيرها؟ على وجهين). أما كون من قال ما ذكر ولم يكن في بلد أوزانهم ناقصة أو مغشوشة يلزمه جياد وافية حالّة؛ فلأنه لما سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه عُلم أنه قد تم الكلام. فقوله بعد ذلك: زُيوفاً أو صغَاراً أو إلى شهر يكون رفعاً بعد الإقرار. وأما كون من قال ذلك في بلد أوزانهم ناقصة؛ كطبرية فإن درهمهم أربعة دوانيق، وخوارزم فإن درهمهم أربعة دوانيق ونصف، أو في بلد دراهمهم مغشوشة كمصر والموصل يلزمه من دراهم ذلك البلد على وجهٍ؛ فبالقياس على ثمن المبيع. وأما كونه يلزمه وازنة سالمة من الغش على وجه؛ فلأن إطلاق الدنانير والدراهم في الشرع ينصرف إلى الوازنة الخالصة. قال: (وإن قال: له عليّ ألفٌ إلى شهرٍ فأنكر المقر له الأجل لزمه مؤجلاً. ويحتمل أن يلزمه حالاًّ). أما كون قائل ما ذكر يلزمه الألف مؤجلاً على المذهب؛ فلأنه هكذا أقر. وأما كونه يحتمل أن يلزمه حالاًّ؛ فلأن الأصل عدم الأجل. والأول أصح؛ لما ذكر. والأصل إنما يؤثر فيما إذا ثبت الألف وشك في تأجيله وليس كذلك؛ لأنه إنما ثبت مؤجلاً.

قال: (وإن قال: له عليّ ألف زُيوفٌ وفسّره بما لا فضة فيه لم يُقبل، فإن فسّره بمغشوشة قُبل. وإن قال: له عليّ دراهم ناقصة لزمته ناقصة). أما كون من قال: له عليّ ألف زيوفٌ وفسره بما لا فضة فيه لا يُقبل؛ فلأن المفسر به ليس درهماً لا حقيقة ولا عُرفاً. فيكون رجوعاً عما أقرّ به. فلم يقبل؛ كاستثناء الكل. وأما كونه إذا فسره بمغشوشة يُقبل؛ فلأن المغشوشة دراهم في عُرف بعض البلاد. فإذا فسر كلامه بذلك فقد فسره بما يحتمله. فإن قيل: مأخذ عدم القبول في التفسير بما لا فضة فيه عدم القبول في التفسير بالمغشوشة إنما نشأ من قوله: ألف درهم زُيوفٌ. ولم يذكر المصنف رحمه الله درهماً. قيل: لا بد أن يلحظ ذلك نقلاً وتعليلاً. وإلا مقتضى قوله: ألف زُيوف أنه يقبل تفسيره بما فيه فضة وما لا فضة فيه؛ لأن الفلوس مثلاً توصف بالألف ولا منافاة بين المُقَرِّ به والتفسير. فعلى هذا يجب أن يحمل قول المصنف على إرادة ألف درهم، وأنه حذف الدرهم اختصاراً. وأما كون من قال: له عليّ دراهم ناقصة يلزمه ناقصة؛ فلأن البلد إن كانت دراهمهم ناقصة كان إقراره مقيداً لفظاً وعرفاً، وإن كانت وازنة كان ذلك بمنزلة الاستثناء، والاستثناء جائز فكذلك ما هو بمنزلته. قال: (وإن قال: له عندي رهنٌ وقال المالك: وديعة فالقول قول المالك مع يمينه. وإن قال: له عليّ ألفٌ من ثمن مبيعٍ لم أقبضه وقال المقر له: بل هو دَين في ذمتك فعلى وجهين). أما كون القول قول المالك إذا اختلف هو ومن العين في يده؛ فلأن من الرهن في يده يدعي على صاحب العين ديناً متعلقاً بما في يده، والمالك ينكره، والقول قول المنكر مع يمينه. وأما إذا قال: له عليّ ألفٌ من ثمن مبيعٍ لم أقبضه وقال المقر له: بل هو دَين في ذمتك على وجهٍ؛ فلأنه أقر بحق في مقابلة حق لا ينفك أحدهما عن الآخر. فإذا

لم يسلم له ما له لم يسلم له ما عليه؛ كما لو قال لرجل: بعتك هذا العبد بألف درهم قال: بل ملكتنيه بغير شيء. وأما كون القول قول المقرّ له؛ فلأنه اعترف له بالألف وادعى على المقر له مبيعاً. أشبه ما لو قال: هذا رهنٌ فقال المالك: وديعة. والأول أولى؛ لما تقدم. والفرق بين المسألة هنا وبين قول المقر: رهن وبين قول المالك: وديعة من حيث إن الدين ينفك عن الرهن. بخلاف الثمن فإنه لا ينفك عن المبيع. فعلى هذا لا بد أن يكون قول المقر من ثمن المبيع: لم أقبضه متصلاً بقوله: له عليّ ألفٌ؛ لأنه لو قال: عليّ ألفٌ وسكت ثم قال: ثمن مبيع لم أقبضه لكان ذلك إسقاطاً لما أقر به بعد وجوبه. بخلاف ما لو اتصل فإن الكلام لم يتم؛ لأنه لا يتم إلا بآخره. ولو قال: له عليّ ألفٌ من ثمن مبيعٍ وسكت ثم قال: لم أقبضه قُبل منه؛ لأن إقراره تعلق بالمبيع والأصل عدم القبض. فقبل قوله فيه؛ كما لو كان متصلاً. قال: (وإن قال: له عندي ألفٌ وفسره بدَين أو وديعة قُبل منه. وإن قال: له عليّ ألفٌ وفسره بوديعة لم يُقبل). أما كون من قال ما ذكر في المسألة الأولى يُقبل منه؛ فلأنه فسر لفظها بأحد مدلولَيْه: أما في تفسيره بدَين؛ فظاهر. وأما في تفسيره بوديعة؛ فلأن الوديعة تكون عنده كما أن الدين يكون عنده. ولا فرق في التفسير المذكور بين أن يقع متصلاً؛ لأن تفسيره لا يناقض ظاهر إقراره. وأما كون من قال ما ذكر في المسألة الثانية لا يُقبل؛ فلأن عليّ للإيجاب، وذلك يقتضي أن الألف في ذمته، ولذلك لو قال: ما على فلان عليّ كان ضامناً. فإذا فسره بالوديعة لم يصح؛ لأن تفسيره يناقض ظاهر إقراره. ولا بد أن يلحظ في التفسير المذكور الفرق بين المتصل والمنفصل فيكون التفسير المنفصل هو الذي لا يُقبل. وعليه يحمل كلام المصنف رحمه الله؛ لأن التفسير حصل بعد تمام الإقرار. بخلاف المتصل فإنه مقبول؛ لأن الكلام بآخره.

فإن قيل: ينبغي أن يقبل مطلقاً؛ لأن الوديعة على المودع حفظها وردها فإذا فسر قوله: عليّ بالوديعة قُبِل كما لو قال: عليّ ألفٌ وديعة. ولأن الحروف يصح أن يقوم بعضها مقام بعض فيجوز أن يستعمل المقِرّ عليّ بمعنى عندي؛ كما قال الله تعالى إخباراً عن موسى: {ولهم عليّ ذنب} [الشعراء: 14]. أي عندي. قيل: أما القياس على التفسير المتصل فلا يصح؛ لما تقدم من الفرق. وأما صحة قيام بعض الحروف مقام بعض فذلك مجاز، والظاهر خلافه. والأقارير يؤخذ فيها بظاهر اللفظ. ألا ترى أنه لو قال: له عليّ دراهم لزمته ثلاثة وإن جاز التعبير بلفظ الجمع عن الاثنين وعن الواحد، ولو قال: له عليّ ثم قال: أردت لي عليه واستعملت عليّ مكان اللام واللام مكان عليّ؛ كقوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7] أي فعليها لم يُقبل. قال: (ولو قال: له في هذا المال ألفٌ لزمه تسليمه. وإن قال: له من مالي، أو في مالي، أو في ميراثي من أبي ألفٌ، أو نصف داري هذه وفسره بالهبة وقال: بدا لي من تقبيضه قُبل). أما كون من قال: له في هذا المال ألفٌ يلزمه تسليمه؛ فلأنه اعترف أن الألف مستحق في المال المشار إليه. وأما كون من قال: له من مالي ... إلى آخره يُقبل تفسيره بالهبة وقول: بدا لي من تقبيضه؛ فلأن التفسير المذكور يصلح أن يعود إلى جميع الصور المذكورة من غير تنافٍ بينه وبين شيء منها، وإذا كان كذلك وجب قبوله؛ كما لو قال: له عليّ ألف ثم فسره بدين.

قال: (وإن قال: له في ميراث أبي ألفٌ فهو دَين على التركة. وإن قال: له نصف هذه الدار فهو مقر بنصفها. وإن قال: له هذه الدار عارية ثبت لها حُكم العارية). أما كون من قال: له في ميراث أبي ألفٌ تكون الألف دَيناً على التركة؛ فلأن ذلك في قوة قوله على أبي دين، ولو قال ذلك لكان دينًا على التركة فكذلك ما هو في قوته. وأما كون من قال: له نصف هذه الدار مقراً بنصفها؛ فلأنه أقر بذلك. وأما كون من قال: له هذه الدار عاريةً يثبت لها حُكم العارية؛ فلأن إقراره يوجب جعل الدار عاريةً. وذلك يقتضي ثبوت أحكام العارية لها. قال: (وإن أقرّ أنه وهب أو رهن وأقبض أو أقرّ بقبض ثمنٍ أو غيره ثم أنكر وقال: ما قبضتُ ولا أَقبضت وسأل إحلاف خصمه فهل تلزمه اليمين؟ على وجهين). أما كون من أقر بما ذكر ثم أنكر وسأل إحلاف خصمه يلزمه اليمين على وجهٍ؛ فلأن العادة جارية بالإشهاد بمثل ذلك من غير قبض ولا إقباض استيثاقاً بالمعقود معه. فشرعت اليمين معه وسيلة إلى إظهار الحق بتقدير النكول. وأما كونه لا يلزمه على وجهٍ؛ فلأن الإقرار أبلغ من البينة، والبينة لو كانت بمعاينة ما ذُكر وطلب الخصم إحلاف خصمه لم يكن له ذلك. فكذلك فيما هو أبلغ. قال: (وإن باع شيئاً ثم أقرّ أن المبيع لغيره لم يُقبل قوله على المشتري، ولم ينفسخ البيع، ولزمه غرامته للمقر له، وكذلك إن وهبه أو أعتقه ثم أقرّ به. وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد لم يُقبل قوله إلا ببينة. وإن كان قد أقرّ أنه ملكه أو قال: قبضتُ ثمن ملكي ونحوه لم تُسمع بينته أيضاً). أما كون قول البائع على المشتري لا يُقبل؛ فلأنه متهم فيه؛ لأن قوله ثانياً لو صح لدفع بيعه أولاً.

وأما كون البيع لا ينفسخ؛ فلأن الإقرار الذي صدر بعده مردود، والمردود وجوده كعدمه. ولأن حق المشتري قد تعلق بالبيع. فلم ينفسخ بغير رضاه ما لم يوجد ما يوجب ذلك. وأما كون المقرّ يلزمه غرامة المقرّ به للمقر له؛ فلأن بإقراره تبين أنه أحال بين المالك والملك بقوله. فنُزِّل ذلك منزلة إقراره. وأما كونه إذا وهبه أو أعتقه ثم أقرّ به كما لو أباعه ثم أقر به؛ فلأن المتهب والعبد تعلق حقهما بالمقر به كتعلق حق المشتري بالمبيع، وذلك يقتضي التساوي معنى، والتساوي معنى يوجب التساوي حكماً. وأما كونه إذا قال: لم يكن ملكي ثم ملكته لا يُقبل قوله بغير بينة؛ فلأن التهمة هنا أكثر من الإقرار المذكور قبل؛ لأن بتقدير انفساخ العقد تعود العين إليه. بخلاف ما تقدم. وأما كونه يُقبل قوله إذا قامت له بينة بدعواه إذا لم يكن أقرّ بما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلأن البينة تُظهر الحق. فتبين فوات شرط صحة العقد الواقع بين المدعي وخصمه؛ لأن بالبينة ظهر أنه ليس مملوكاً للمدعي، وكونه ملكاً له شرط في صحة المبيع والهبة والعتق: أما في البيع؛ فلقوله عليه السلام: «لا تَبِعْ ما ليسَ في مُلكِك» (¬1). وأما في الهبة؛ فلأنها نقل ملك. أشبهت البيع. وأما في العتق؛ فلأنه إزالة ملك. أشبه الهبة. وأما كونه لا تسمع بينته إذا كان قد أقرّ بما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأنه مكذب لبينته. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (3503) 3: 283 كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده. وأخرجه الترمذي في جامعه (1232) 3: 534 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك. وأخرجه النسائي في سننه (4613) 7: 289 كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع. ولفظهم: «لا تبع ما ليس عندك».

فصل [في الإقرار المتعدد] قال المصنف رحمه الله: (وإن قال: غصبتُ هذا العبد من زيدٍ لا بل من عمرو، أو ملكته لعمرو وغصبته من زيدٍ لزمه دفعه إلى زيد، ويغرم قيمته لعمرو. وإن قال: غصبته من أحدهما أخذ بالتعيين فيدفعه إلى من عيّنه ويحلف للآخر. وإن قال: لا أعرف عينه وصدقاه انتزع من يده، وكانا خصمين فيه. وإن كذباه فالقول قوله مع يمينه). أما كون من قال: غصبت هذا العبد من زيدٍ لا بل من عمرو يلزمه دفعه إلى زيد؛ فلأنه أقرّ أن اليد لزيدٍ، وذلك يقتضي وجوب رد العبد إليه. وأما كونه يغرم قيمته لعمرو؛ فلأنه اعترف بالملك في العبد له وقد أحال بينه وبين ملكه بإقراره. أشبه ما لو أتلفه. بيان اعترافه لعمرو بالملك أن قوله: لا بل من عمرو إضراب عن الأول وإثبات للثاني فلا يُقبل الإضراب بالنسبة إلى الأول؛ لأنه إنكار بعد إقرار، ويقبل بالنسبة إلى الثاني؛ لأنه لا دافع له. فإذا تعذر تسليمه إليه من أجل تعلق حق الأول به تعين ثبوت الملك لعمرو بالنسبة إلى إقرار المقر. وأما كون من قال: ملكه لعمرو وغصبه من زيد يلزمه دفعه إلى زيد ويغرم قيمته لعمرو؛ فلأنه يساوي ما ذكر معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما كون من قال: غصبته من أحدهما يؤخذ بالتعيين؛ فلأنه أقرّ بإقرار مجمل، ومن أقرّ بمجمل لزمه البيان. ضرورة أن الحكم لا يقع إلا على معلوم. وأما كون العبد يدفع إلى من عيّنه؛ فلأنه بإقراره لشخصٍ بعينه ظهر أنه المستحق. أشبه ما لو أقر به أولاً. وأما كونه يحلف للآخر؛ فلأنه محتمل أنه هو المستحق. فشرعت اليمين؛ ليكون النكول سبباً لثبوت رد العبد أو بدله.

وأما كون من قال: لا أعرفه وصدقه الخصمان ينتزع من يده؛ فلأنه ظهر بإقراره أنه لا حق له فيه. ولم يتعين مستحقه؛ لأنه ادعى عدم معرفته وصدق عليه. وأما كونهما يكونان خصمين فيه؛ فلأن كلاًّ منهما يدّعيه. وأما كون القول قوله مع يمينه إذا كذباه؛ فلأنه ينكر معرفة عين المستحق. أشبه ما لو أنكر أنه مستحق بالكلية. قال: (وإن أقرّ بألفٍ في وقتين لزمه ألفٌ واحدٌ. وإن أقرّ بألفٍ من ثمن عبدٍ ثم أقرّ بألفٍ من ثمن فرسٍ أو قرضٍ لزمه ألفان. وإذا ادعى رجلان داراً في يد غيرهما شركةً بينهما بالسوية فأقرّ لأحدهما بنصفها فالمقر به بينهما). أما كون من أقرّ بألفٍ في وقتين يلزمه ألفٌ واحد إذا لم يذكر السبب؛ فلأنه يجوز أن يكون المقر به ثانياً هو المقر به أولاً. ومع ذلك يتعين الحمل عليه لوجهين: أحدهما: أن الأصل براءة الذمة من الزائد على ذلك. وثانيهما: أن العرف يشهد بذلك، ولذلك لو قال شخص: رأيت زيداً ثم قال: رأيت زيداً كان زيد الثاني هو الأول، والرؤية ثانياً هي الرؤية أولاً. ونظير ذلك أن الله عز وجل لما أخبر عن إرساله نوحاً وهوداً وصالحاً وشعيباً وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله على نبينا وعليهم وكرر ذلك في مواضع لم تكن القصة الثانية غير المذكورة في الأول. وأما كون من أقرّ بألفٍ من ثمن عبد ثم أقرّ بألف من ثمن فرس أو قرض يلزمه ألفان؛ فلأن الألف ثانياً لا يجوز أن يكون الألف أولاً؛ لاختلافهما باختلاف سببهما. ولو قال شخص: رأيت زيداً الطويل ثم قال: رأيت القصير لم يكن الثاني الأول البتة. وأما كون نصف الدار التي ادعاها شخصان في يد غيرهما شركة بينهما بالسوية فأقرّ لأحدهما بنصفها بين الرجلين؛ فلأنهما اتفقا على أنها شركة بينهما والنصف المقر به منها فتكون شركة بينهما، وذلك يقتضي التنصيف؛ كما لو قال: هذا المال بينهما فإنه يكون بينهما نصفين.

قال: (وإن قال في مرض موته: هذا الألف لقطة فتصدقوا به ولا مال له غيره لزم الورثة الصدقة بثلثه، وحكي عن القاضي أنه يلزمهم الصدقة بجميعه). أما كون الورثة تلزمهم الصدقة بثلث الألف على المذهب؛ فلأن حكم اللقطة بعد التعريف حكم سائر مال الملتقط، ولو كان للميت ألف لا يملك غيره فقال في مرضه: تصدقوا بثلثه لزم الورثة الصدقة بالثلث. فكذلك فيما حكمه حكمه. وأما كونهم يلزمهم الصدقة بجميع الألف على قول القاضي؛ فلأن الإقرار في المرض كالإقرار في الصحة. ولو قال في الصحة لوكيله: هذا الألف لقطة فتصدق به لزمه ذلك. فكذلك إذا قال في مرضه ذلك. والأول أصح؛ لما تقدم. وأما الإقرار في المرض فهو يفارق الإقرار في الصحة في أشياء فليكن هذا منها. وأما إلحاق الورثة بالوكيل فيقتضي ثبوت الحكم في الوكيل. وفيه نظر. وعلى تقدير ثبوته فالفرق بينهما أن الوكيل إذا تصدق لا يلزمه الضمان لمالك الألف بتقدير مجيئه؛ لأنه مأمور. بخلاف الورثة فإن تصدقهم بذلك يستلزم لزوم ضمانه عليهم إما لأنهم بعد الموت صار ملك العين في أيديهم فالتصدق إنما يجوز بشرط الضمان، وإما لأنهم ورثة الآمر؛ لأن بتقدير أن يخلف مالاً غير المقر يلزمهم ذلك من التركة. فإن قيل: التقدير أنه لا مال له غير الألف. قيل: يجوز أن يظهر له مال ثم يجيء صاحب اللقطة فيتعين الغرم. والحاصل أن الوارث عليه ضرر. بخلاف الوكيل.

فصل [في الإقرار لأكثر من مدع] قال المصنف رحمه الله: (إذا مات رجل وخلّف مائة فادّعاها رجلٌ فأقر ابنه له بها، ثم ادّعاها آخر فأقرّ له فهي للأول ويغرمها للثاني. وإن أقرّ لهما معاً فهي بينهما. وإن أقر لأحدهما وحده فهي له، ويحلف للآخر). أما كون المائة المذكورة للأول؛ فلأن من المائة في يده قد أقرّ له بها ولا معارض له. فوجب كونها له عملاً بالإقرار السالم عن المعارض. وأما كون المقرّ يغرمها للثاني؛ فلأن بإقراره ظهر أن المائة للثاني، وقد حال بينه وبينها. فلزمه غرامتها؛ كما لو شهد بمال ثم رجع بعد الحكم بشهادته. وأما كونها بينهما إذا أقرّ لهما بها؛ فلأن المقرّ أضاف ذلك إليهما إضافة على السواء، وذلك يقتضي التسوية بينهما. وأما كونها لأحدهما وحده إذا أقر بها له وحده؛ فلأن المقتضي لكون المائة للمقر له الإقرار، وهو موجود لشخص بعينه فيختص المقر له به. وأما كون المقرّ يحلف للآخر؛ فلأنه يحتمل أنه المستحق، واليمين طريق لثبوت الحق أو بدله. قال: (وإن ادَّعى رجلٌ على الميت مائة ديناً فأقرّ له، ثم ادعى آخر مثل ذلك فأقرّ له، فإن كان في مجلسٍ واحدٍ فهي بينهما. وإن كان في مجلسين فهي للأول ولا شيء للثاني). أما كون المائة المقر بها لهما بينهما إذا كان الإقرار في مجلسٍ واحدٍ؛ فلأن المجلس الواحد بمنزلة الوقت الواحد. وأما كونها للأول ولا شيء للثاني إذا كان الإقرار في مجلسين؛ فلأن بإقراره الأول ظهر أنها للمقر له الأول. فإقراره بها للآخر رجوع عن الإقرار وذلك لا يصح؛ لما فيه من إبطال حق الأول.

قال: (وإن خلَّف ابنين ومائتين وادّعى رجل مائة دَيناً على الميت فصدّقه أحد الابنين وأنكر الآخر لزم المقر نصفها؛ إلا أن يكون عدلاً فيحلف الغريم مع شهادته ويأخذ مائة، وتكون المائة الباقية بين الابنين). أما كون المقر يلزمه نصف المائة إذا لم يكن عدلاً؛ فلأن في يده نصف التركة وقد أقرّ أن في التركة مائة مستحقة. وأما كون الغريم يحلف مع شهادة المقرّ إذا كان عدلاً؛ فلأن له شاهداً واحداً، والحق لا يثبت بالشاهد الواحد إلا إذا اعتضد بيمين المشهود له. وأما كونه يأخذ مائة؛ فلأنه حلف مع شاهده، والمائة مال ثبت بالشاهد واليمين؛ لما تقدم في موضعه. وأما كون المائة الباقية بين الابنين؛ فلأنها ميراث لا تعلق لأحد بها سواهما. فوجب كونها بينهما؛ كسائر المواريث. قال: (وإن خلَّف ابنين وعبدين متساويي القيمة لا يملك غيرهما فقال أحد الابنين: أبي أعتق هذا في مرضه، وقال الآخر: بل أعتق هذا الآخر، عَتق من كلٍّ ثلثه، وصار لكل ابن سدس الذي أقرّ بعتقه ونصف العبد الآخر). أما كون كل واحدٍ من العبدين يَعتق ثلثه؛ فلأن كل واحدٍ من الابنين يملك كل واحدٍ من العبدين وقد أقرّ أحدهما بعتق أحدهما وأقر الآخر بعتق الآخر فعتق من كل عبدٍ ثلثه نظراً إلى أن المقرّ بعتقه يملك منه ذلك. وأما كون كل ابنٍ يصير له سدس العبد الذي أقرّ بعتقه ونصف الآخر؛ فلأن كل ابن يملك نصف كل عبد وقد عتق ثلث الذي أقرّ بعتقه يبقى سدسه ونصف الآخر على ما كان عليه قبل الإقرار.

قال: (وإن قال أحدهما: أبي أعتق هذا، وقال الآخر: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما أُقرع بينهما، فإن وقعت القرعة على الذي اعترف الابن بعتقه عَتق منه ثلثه إن لم يجيزا عتقه كاملاً. وإن وقعت على الآخر كان حكمه حكم ما لو عين العتق في العبد الثاني سواء). أما كون العبدين المذكورين يُقرع بينهما؛ فلأن المستحق للعتق أحدهما لا بعينه. فوجب أن يُقرع بينهما؛ للتميز، وفي الحديث: «أن رجلاً أعتقَ ستة مملوكين عن دَين. فأقرعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتقَ اثنين وأرقَّ أربعة» (¬1). وأما كون العبد الذي اعترف الابن بعتقه يَعتق منه ثلثاه إذا لم يجز عتقه كاملاً؛ فلأن الواجب أن يعتق بقدر الثلث، وثلثا العبد ثلث التركة وتعين بعتق في الذي اعترف الابن بعتقه؛ لأنه استحق ذلك بالاعتراف بالنسبة إلى المعترف وبالقرعة بالنسبة إلى مدعي عدم المعرفة. وتقييد المصنف رحمه الله الحكم المذكور بأن الابنين لم يجيزا عتقه كاملاً مشعر بأن العبد يَعتق كله إذا أجازا ذلك. وهو صحيح؛ لأنه مُعتق. وإنما يرجع إلى الثلث إذا لم يجيزا ذلك فإذا أجازا ذلك وجب العتق عملاً بالإعتاق السالم عن المعارض. وأما كون العبد الآخر إذا وقعت القرعة عليه حكم ما لو عين العتق في العبد الثاني سواء؛ فلأن القرعة جعلته مستحقاً للعتق بالنسبة إلى الابن المدعي عدم المعرفة. فصار بمنزلة ما لو عيّنه. فعلى هذا يَعتق ثلث كل واحدٍ ويبقى سدس الخارج بالقرعة للابن الذي قال: لا أدري، ونصفه للابن الآخر ويبقى نصف العبد الآخر للابن الذي قال: لا أدري وسدسه للآخر. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1668) 3: 1288 كتاب الأيمان، باب من أعتق شركاً له في عبد.

باب الإقرار بالمجمل

باب الإقرار بالمجمل قال المصنف رحمه الله: (إذا قال: له عليّ شيء أو كذا قيل له: فسّره، فإن أبى حبُس حتى يفسّر. فإن مات أخذ وارثه بمثل ذلك إن خلّف الميت شيئاً يقضى منه وإلا فلا. فإن فسّره بحق شفعة أو مال قُبل وإن قل. وإن فسّره بما ليس بمال؛ كقشر جوزةٍ أو ميتةٍ أو خمرٍ لم يُقبل. وإن فسّره بكلبٍ أو حد قذفٍ فعلى وجهين). أما كون من قال لمن ادعى عليه: له عليّ شيء أو كذا وما أشبه ذلك من المجهول يقال له فسّره؛ فلأن الحكم بالمجهول لا يصح ولا يمكن. وفي قول ما ذكر له إشعار بصحة الإقرار بالمجهول. وهو صحيح صرح به المصنف وغيره. والأصل فيه الإجماع والمعنى: أما الإجماع؛ فظاهر. وأما المعنى فهو أن الإقرار على المقرّ المذكور لو لم يصح؛ لأدى إلى ضياع الحق المقر به. بخلاف الدعوى فإنها للمدعي فعدم صحتها بالمجهول لا يدعو إلى ضياع الحق؛ لأنه يحرص على تحصيل حقه بأن يحرر دعواه. وأما كون من قال ما تقدم إذا أبى أن يفسر يُحبس حتى يفسر؛ فلأن التفسير حق عليه. فإذا امتنع من أدائه حبس عليه؛ كالمال. وأما كونه إذا مات يؤخذ وارثه بالتفسير إن خلّف الميت شيئاً يقضى منه؛ فلأن التفسير حقٌ ثبت على موروثه. فوجب أن يقوم وارثه مقامه؛ كما لو حلف عليه ديناً وله مال. وأما كونه لا يؤخذ بالتفسير إذا لم يخلّف الميت شيئاً يقضى منه؛ فلأن فائدة التفسير المطالبة بالمفسر، وهنا لا يملك المدعي مطالبة الوارث لكون موروثه لم يخلّف شيئاً.

وأما كون القائل أو الوارث إذا فسر بحق الشفعة أو مال يُقبل؛ فلأن كل واحدٍ منهما يصح إطلاق ما ذكر عليه حقيقة وعُرفاً. وأما كونه إذا فسر بما ليس بمال؛ كقشر جوزةٍ أو بيضةٍ ونحوهما لا يُقبل؛ فلأنه اعترف بحقٍّ عليه، وما ذكر لا يكون عليه؛ لأنه لا يثبت في الذمة. وأما كونه إذا فسر بميتةٍ أو خمرٍ لا يُقبل؛ فلأن ذلك ليس بحقٍّ عليه شرعاً. وأما كونه إذا فسر بكلبٍ أو حد قذفٍ يُقبل على وجه؛ فلأن الكلب يجب رده وتسليمه إلى مالكه. فيصدق أن ذلك شيء عليه. وأما كونه لا يُقبل على وجه؛ فلأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه، وما ذكر لا يجب ضمانه. قال: (وإن قال: غصبتُ منه شيئاً ثم فسره بنفسه أو ولده لم يُقبل). أما كون من قال لمن ادعى عليه: غصبت منه شيئاً ثم فسره بنفسه لم يُقبل؛ فلأن الغصب الاستيلاء على المال غالباً، وما ذكر ليس بمال. وأما كونه إذا فسر ذلك بولده لا يُقبل؛ لما ذكر قبل. قال: (وإن قال: له عليَّ مال عظيمٌ أو خطيرٌ أو كثيرٌ أو جليلٌ قُبل تفسيره بالكثير والقليل. وإن قال: له عليّ دراهم كثيرة قُبل تفسيرها بثلاثة فصاعداً). أما كون من قال: له علي مال عظيم أو خطير أو كثير أو جليل يُقبل تفسيره بالقليل والكثير؛ فلأن المال قد يكون عظيماً وخطيراً وكثيراً بالنسبة إلى القائل لفقر نفسه وضعفه دون غيره، وليس لشيء مما ذكر حدٌّ يرجع إليه في الشرع. فوجب الرجوع إلى تفسير القائل؛ كما لو قال: له عليّ مالٌ. وإذا وجب الرجوع في التفسير إليه قُبل تفسيره بالقليل والكثير؛ لأن هذا شأن من يرجع إلى تفسيره. وأما كون من قال: له عليّ دراهم كثيرة يُقبل تفسيرها بثلاثة فصاعداً؛ فلأن ذلك يصدق عليه أنه دراهم كثيرة. وفي تقييد القول: بثلاثة إشعار بأنه لو فُسر بأقل من ذلك لم يُقبل. وهو صحيح؛ لأن دراهم جمع وأقل الجمع ثلاثة.

قال: (وإن قال: له عليّ كذا درهم، أو كذا وكذا، أو كذا كذا درهم بالرفع، لزمه درهم. وإن قال بالخفض لزمه بعض درهم يرجع في تفسيره إليه. وإن قال: كذا درهماً بالنصب لزمه درهم. وإن قال: كذا وكذا درهماً بالنصب فقال ابن حامد: يلزمه درهم، وقال أبو الحسن التميمي: يلزمه درهمان). أما كون من قال: له عليّ كذا درهم بالرفع يلزمه درهم؛ فلأن كذا كناية عن شيء مبهم. فيكون معنى ذلك له على شيء وهو درهم. وأما قوله: له عليّ كذا وكذا أو كذا كذا درهم بالرفع يلزمه درهم؛ فلما ذكر لأنه يصح أن يرد بذلك: له على شيء وشيء هما درهم، أو شيء شيء هو درهم. وأما كون من قال ذلك بالخفض يلزمه بعض درهم؛ فلأن الدرهم مخفوض بالإضافة فيكون المعنى له علي بعض درهم. وأما كونه يرجع في تفسير البعض إليه؛ فلأنه مُقَرٌّ به مجهول. فرجع في تفسيره إليه؛ كما لو قال: له عليّ شيء. وأما كون من قال: كذا درهماً بالنصب يلزمه درهم؛ فلأن الدرهم يقع مميزاً لما قبله، والمميز مفسر. وأما كون من قال: كذا وكذا درهماً بالنصب يلزمه درهم على قول ابن حامد؛ فلأن كذا يحتمل أقل من درهم. فإذا ذكر كذا مرتين ثم فسرهما بدرهم واحدٍ جاز وكان كلاماً صحيحاً. وأما كونه يلزمه درهمان على قول أبي الحسن التميمي؛ فلأنه ذكر جملتين. فإذا فسر ذلك بدرهم عاد التفسير إلى كل واحدة منهما؛ كقوله: عشرون درهماً يعود التفسير إلى العشرين كذلك هاهنا. وحكى المصنف رحمه الله في المغني وجهاً ثالثاً: أنه يلزمه أكثر من درهم؛ لأن الدرهم تفسير لكذا الذي يليه، ويبقى كذا الأول على إبهامه فرجع في تفسيره إليه.

قال: (وإن قال: له عليّ ألفٌ رجع في تفسيره إليه. فإن فسّره بأجناسٍ قُبل منه). أما كون من قال ما ذكر يرجع في تفسير الألف إليه؛ فلأنه يحتمل أن يكون دراهم، وأن يكون دنانير، وأن يكون غير ذلك ففي الألف إبهام كالشيء. فوجب الرجوع في التفسير إليه؛ كالشيء. وأما كونه يُقبل إذا فسّره بأجناسٍ؛ فلأنه لما رجع إليه في التفسير وجب أن يرجع إليه في الأجناس؛ كالجنس الواحد. قال: (فإن قال: له عليّ ألفٌ ودرهم، أو ألفٌ ودينار، أو ألفٌ وثوب أو فرسٌ أو درهم وألفٌ أو دينار وألف فقال ابن حامد والقاضي: الألف من جنس ما عطف عليه، وقال التميمي وأبو الخطاب: يرجع في تفسيره الألف إليه). أما كون الألف فيما ذكر من جنس المفسر على قول ابن حامد والقاضي؛ فلأن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى، ولذلك قال الله تعالى: {ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا} [الكهف: 25]. وأما كونه يرجع في تفسيره إلى قائل ما ذكر على قول التميمي وأبي الخطاب؛ فلأن العطف لا يقتضي كون المعطوف عليه من جنسه؛ لأنه يجوز أن يقول: رأيت رجلاً وحماراً، وله عليّ دينار ودرهم. قال: (وإن قال: له عليّ ألفٌ وخمسون درهماً، أو خمسون وألف درهم فالجميع دراهم. ويحتمل على قول التميمي أن يرجع في تفسير الألف إليه. وإن قال: له ألفٌ إلا درهماً فالجميع دراهم). أما كون الجميع فيما إذا قال: له عليّ ألفٌ وخمسون درهماً دراهم على المذهب؛ فلأن المفسر إذا تعقب أشياء رجع إليها في لسان العرب، ولهذا لما قال الله تعالى حكاية عن أحد الخصمين: {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة} [ص: 23] كانت النعجة تفسيراً للتسع والتسعين.

ولما جاء في الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي وهو ابنُ ثلاثٍ وستينَ سنة، وأبو بكر وهو ابنُ ثلاثٍ وستينَ سنة، وعمر وهو ابنُ ثلاثٍ وستينَ سنة» (¬1). كانت السنة مفسرة للثلاث والستين. ومنه قول عنترة: فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سوداً كخافية الغراب الأسحم وأما كون الألف يحتمل أن يرجع في تفسيره إلى القائل على قول التميمي؛ فلأن الإبهام فيه واقع. أشبه قوله: له عليّ ألفٌ ودرهم. والأول أولى؛ لما تقدم. والفرق بين المسألة المذكورة وبين قوله: ألف ودرهم من حيث إن الدرهم في هذا ... (¬2) دراهم على المذهب. وكون الخمسين يحتمل على قول التميمي أن يرجع في تفسيرها إلى القائل؛ فلأنه كما تقدم معنى؛ لاشتراكهما في إبهام أحدهما وتفسير الآخر. وأما كون الجميع دراهم فيما إذا قال: له عليّ ألفٌ إلا درهماً؛ فلأن الاستثناء الصحيح ما كان من الجنس. فيجب أن يكون الألف دراهم؛ ليكون الاستثناء من ذلك. قال: (وإن قال: له في العبد شرك، أو هو شريكي فيه، أو هو شركة بيننا، رُجع في تفسير نصيب الشريك إليه). أما كون من قال: له في هذا العبد شرك يرجع في تفسير نصيب الشريك إليه؛ فلأن الشركة تقع على النصف تارة وعلى غيره أخرى ومتى تردد لفظ القائل في شيئين فصاعداً رجع في التفسير إليه. ولأن الشرك في معنى الشيء ولو قال: له في هذا العبد شيء رجع في تفسيره إليه فكذا إذا قال: له فيه شرك. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (16440) طبعة إحياء التراث. (¬2) تتمة العبارة غير واضحة في هامش د.

وأما كون من قال: هو شريكي فيه أو هو شركة بيننا يرجع في تفسير نصيب الشريك إليه؛ فلأن ذلك في معنى الشرك. فوجب إلحاقه به. قال: (وإن قال: له عليّ أكثر مما لفلان قيل له: فسر فإن فسره بأكثر منه قدراً قُبل وإن قل. وإن قال: أردت أكثر بقاء ونفعاً لأن الحلال أنفع من الحرام قُبل مع يمينه سواء علم ما لفلان أو جهله، أو ذكر قدره أو لم يذكره. ويحتمل أن يلزمه أكثر منه قدراً بكل حال). أما كون قائل ما ذكر يقال له: فسر؛ فلأن المقر به مجهول. وأما كونه إذا فسره بأكثر منه قدراً يُقبل وإن قل؛ فلأن من رجع إلى تفسير قُبل منه ما فسره به. وأما كونه إذا قال: أردت أكثر بقاء ونفعاً يُقبل على المذهب؛ فلأنه يحتمل صدقه. وأما كون القبول مع يمينه؛ فلأنه يحتمل كذبه. وأما كون ذلك كذلك علم ما لفلان أو جهله أو ذكر قدره أو لم يذكره؛ فلأن احتمال الصدق قائم في جميع ما ذكر. قال: (وإن ادّعى عليه ديناً فقال: لفلان عليّ أكثر مما (¬1) لك وقال: أردت التهزؤ لزمه حق لهما يرجع في تفسيره إليه في أحد الوجهين، وفي الآخر: لا يلزمه شيء). أما كون قائل ما ذكر يلزمه حق لفلان والمخاطب في وجه؛ فلأن قوله المذكور اقتضى ذلك: أما لفلان؛ فلأن عليَّ صريح في ذلك. وأما المخاطب؛ فلأن الأكثر يقتضي شيئاً هو أقل منه. وأما كونه يرجع في تفسيره إليه؛ فلأن الحق مبهم فيرجع في تفسيره إليه؛ كالشيء. وأما كونه لا يلزمه شيء في وجه؛ فلأن قوله: أردت التهزؤ يحتمل صدقه. والأول أولى؛ لما تقدم. ¬

_ (¬1) في د: ما.

وإرادة التهزؤ دعوى تتضمن الرجوع عن الإقرار فلا يُقبل.

فصل [في الإقرار المشكوك فيه] قال المصنف رحمه الله: (إذا قال: له عليّ ما بين درهم وعشرة لزمه ثمانية. وإن قال: من درهم إلى عشرة لزمه تسعة. ويحتمل أن يلزمه عشرة). أما كون من قال: له عليّ ما بين درهم وعشرة يلزمه ثمانية؛ فلأن ما بينهما هو الثمانية. وأما كون من قال: له عليّ من درهم إلى عشرة يلزمه تسعة على المذهب؛ فلأن الواحد أولُ العدد وإذا قال: من واحد كان ذلك إقراراً بالواحد وما بعده؛ إلا العاشر؛ فلأنه حد فلا يدخل في المقر به. وأما كونه يحتمل أن يلزمه عشرة؛ فلأن ما بعد إلى يدخل في بعض المواضع. ومنه قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2]، ومنه قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. فليكن هاهنا كذلك. قال: (وإن قال: له عليّ درهم فوق درهم أو تحت درهم، أو فوقه أو تحته، أو قبله أو بعده أو معه درهم، أو درهم ودرهم أو درهم بل درهمان، أو درهمان بل درهم: لزمه درهمان). أما كون من قال: له عليّ درهم فوق درهم أو درهم تحت درهم يلزمه درهمان؛ فلأن فوق وتحت تجري مجرى العطف من حيث إنها تضمنت ضم شيء إلى شيء. وأما كون من قال: له عليّ درهم فوقه أو تحته أو قبله أو بعده أو معه درهم يلزمه درهمان؛ فلأنه كالمذكور قبل معنى فكذا يجب أن يكون حكماً. وأما كون من قال: له عليّ درهم ودرهم يلزمه درهمان؛ فلأن الواو للجمع، ولو جمع بينهما فقال: له عليّ درهمان لزماه فكذا فيما هو مقتضٍ للجمع.

وأما كون من قال: له عليّ درهم بل درهمان يلزمه درهمان؛ فلأنه أقر بهما بعد الدرهم. وإنما لم يلزمه ثلاثة؛ لأن الدرهم المقر به أولاً صالح لأن يدخل في الدرهمين. وأما كون من قال: له عليّ درهمان بل درهم يلزمه درهمان؛ فلأن الدرهمين مقرٌ بهما، وإضرابه عنهما لا يصح؛ لما فيه من الإنكار بعد الإقرار. وإنما لم يلزمه الثلاثة؛ لأن الثالث يصلح أن يدخل فيما قبله. قال: (وإن قال: درهم بل درهم، أو درهم لكن درهم فهل يلزمه درهم أو درهمان؟ على وجهين، ذكرهما أبو بكر). أما كون قائل ما ذكر يلزمه درهم على وجهٍ؛ فلأن المقر أقرّ بدرهم مرتين. فلم يلزمه أكثر من درهم؛ كما لو قال: عليّ درهم ثم أنكر أن يكون عليه شيء ثم قال: عليّ درهم. ولأنه يحتمل أن يكون الأول يستدرك زيادة. فذكر أنه لا زيادة عليه. فلم يستدرك. وأما كونه يلزمه درهمان على وجه؛ فلأنه أقرّ بالدرهم الأول ثم أضرب عنه ولا يصح ثم أقرّ بالثاني فيصير ب منزلة ما لو أقرّ بدرهمين. قال: (وإن قال: له عليّ هذا الدرهم بل هذان الدرهمان لزمه الثلاثة. وإن قال: قفيز حنطةٍ بل قفيز شعير أو درهم بل دينار لزماه معاً). أما كون قائل ما ذكر تلزمه الدراهم الثلاثة في الصورة الأولى؛ فلأن عين الأول صار مستحقاً بالإقرار الثاني، ولا يحتمل أن الأول كان داخلاً في الآخرين. وأما كونه يلزمه قفيز الحنطة والشعير معاً والدرهم والدينار معاً في صورتيهما؛ فلأن الثاني غير الأول، وكلاهما مقرٌ به، والإضراب بينهما لا يصح؛ لأن الإضراب بعد الإقرار لا يصح.

قال: (وإن قال: درهم في دينار لزمه درهم. وإن قال: درهم في عشرة لزمه درهم؛ إلا أن يريد الحساب فيلزمه عشرة). أما كون من قال: له عليّ درهم في دينار يلزمه درهم؛ فلأن الدرهم مقرٌ به. وقوله: في دينار لا يحتمل الحساب، والدينار غير مقر به. وأما كون من قال: درهم في عشرة ولا يريد الحساب يلزمه درهم؛ فكما لو قال: درهم في دينار. وأما كونه إذا أراد الحساب يلزمه عشرة؛ فلأن ذلك هو المعروف في اصطلاح الحساب. قال: (وإن قال: له عندي تمرٌ في جرابٍ، أو سكينٌ في قرابٍ، أو ثوبٌ في منديلٍ، أو عبدٌ عليه عمامةٌ، أو دابةٌ عليها سرجٌ فهل يكون مقراً بالظرف والعمامة والسرج؟ يحتمل وجهين). أما كون من قال ما ذكر يحتمل أن لا يكون مقراً بالظرف والعمامة والسرج؛ فلأن الإقرار لم يتناول ذلك. وأما كونه يحتمل أن يكون مقراً بذلك؛ فلأن المقر ذكر ذلك في سياق الإقرار، ويصلح لأن يكون مقراً به. فصار كما لو قال: عندي تمر بجراب وسكين بقراب وعبد بعمامة ودابة بسرج. قال: (وإن قال: له عندي خاتمٌ فيه فَصٌ كان مُقراً بهما. وإن قال: فَصٌ في خاتمٍ احتمل وجهين). أما كون من قال: عندي خاتم فيه فصٌ يكون مُقراً بهما؛ فلأنه لو أطلق الخاتم لزمه الخاتم بفصه فإذا قال: الخاتم فيه فصٌ كان بطريق الأولى. وأما كون من قال: فصٌ في خاتم يحتمل وجهين؛ فلأن ما ذكر فيما إذا قال: له عليّ ثوبٌ في منديلٍ قائم فيه. قال: (وإن قال: له عليّ درهمٌ أوْ دينارٌ لزمه أحدهما يرجع إليه في تعيينه). أما كون قائل ما ذكر يلزمه أحدهما؛ فلأن " أَوْ " لأحد الأمرين.

وأما كونه يرجع إلى قائله في تعيينه؛ فلأنه منكرٌ. فرجع إلى قائله في تعيينه؛ كما يرجع فيما لو قال: له عليّ شيء إلى تفسيره. تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ومنّه وكرمه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

انتهى بعون الله تعالى كتاب الإقرار ويتلوه الفهارس العامة للكتاب

§1/1