المكاسب والورع والشبهة

الحارث المحاسبي

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عونك اللَّهُمَّ قَالَ أَبُو عبد الله الْحَارِث بن أَسد بن عبد الله المحاسبي رَحمَه الله الْحَمد لله القاهر بقدرته الظَّاهِر بعزته الْغَالِب بجبروته الَّذِي بَدَأَ خلق مَا خلق من غير سبق بل هُوَ الأول قبل الْأَبَد وَالْآخر إِلَى غير أمد المنشئ لما شَاءَ بمشيئته لما سبق ذَلِك من علمه واستتر فِي خَفِي غيبه فَكَانَ أمره جلّ ثَنَاؤُهُ {إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} بمحكم من الصَّنْعَة وإتقان من الْحِكْمَة بتفصيل عقائد أحكمها بتدبيره وأجراها بِعِلْمِهِ وأبقاها بقدرته على مَا أَرَادَ من ذَلِك فِي اخْتِلَاف الْأَزْمِنَة وتقلب الدهور ليبدو المغيب الْمَعْلُوم عِنْد أَوَانه وَيَزُول الْكَائِن الموقوت لأَجله فسبحان من {بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَإِلَيْهِ ترجعون} وَله الْحَمد جلّ ثَنَاؤُهُ وتقدست أسماؤه على مَا يسْتَحق من ذَلِك على خلقه وكما هُوَ أهل لذَلِك فِي كبريائه وعظمته وجلاله جلّ الْمخبر عَن نظر خلقه لما كَانَ عَن الْعُقُول غَائِبا وَعَن الأوهام فِي غيبه محتجبا ليدل الْخلق بذلك على نَفسه وَإِلَى إِثْبَات توحيده

وينبههم بذلك على مَعْرفَته ليعرفوه بِالْقُدْرَةِ ويفردوه بِالْأَمر كُله وليعلموا أَنما هُوَ إِلَه وَاحِد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ فَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ فِي مُحكم نَاطِق من التَّنْزِيل {وَلَقَد خلقنَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام وَمَا مسنا من لغوب} وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ {قل أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ وتجعلون لَهُ أندادا ذَلِك رب الْعَالمين وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا وَبَارك فِيهَا وَقدر فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَة أَيَّام سَوَاء للسائلين ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين فقضاهن سبع سماوات فِي يَوْمَيْنِ وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا وزينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح وحفظا ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ {وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام وَكَانَ عَرْشه على المَاء ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} فَأخْبر جلّ ثَنَاؤُهُ عَن بَدْء خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ من بَدَائِع الصَّنْعَة وعجائب التَّرْكِيب وَاخْتِلَاف الْأَلْسِنَة والألوان المتشابهة والصور المتباينة وافتراق عَظِيم مَا أنشأ جلّ ثَنَاؤُهُ من جليل خلقه ودقيقه وكبيره وصغيره من خلق السَّمَاوَات فِي عَظِيم خلقتها وارتفاع بنائها وكثيف أطباقها وثخن سمكها وسعة بسطها من غير عمد ترَاهَا الْعُيُون وَلَا تدركها الظنون

وَمَا فِيهَا من ساكنيها من الْمَلَائِكَة الَّذين لَا يفترون تسبيحا وتقديسا وتهليلا وتعظيما وسجودا وركوعا على مَا استعبدوا بِهِ من فنون الْعِبَادَة ودائم سرمد الْخدمَة وَكَذَلِكَ الأرضون بِمَا فِيهَا من وحشيها وإنسيها ورواسي جبالها وعميق بحارها وبرها وطيرها وهوامها باخْتلَاف اللُّغَات المعبرة لكل صنف عَن مُرَاد مَعْقُول عِنْد جنسه مَجْهُول عِنْد ضِدّه من مُعْجم الْأَلْسِنَة ومعربها بمقادير مفوضة وأرزاق مقدرَة وأقوات مقسطة وآجال مُؤَجّلَة أحَاط بذلك كُله جلّ ثَنَاؤُهُ علما وأحصاه عددا فَلَنْ يتَأَخَّر شَيْء مِنْهَا عَن وقته وَلم ينقص شَيْئا مِنْهَا من رزقه ثمَّ دعاهم جلّ ثَنَاؤُهُ إِلَى النّظر فِي عجائب مَا خلق فَقَالَ جلّ وَعز {أولم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا خلق الله من شَيْء وَأَن عَسى أَن يكون قد اقْترب أَجلهم} وَقَالَ جلّ وَعز {إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار لآيَات لأولي الْأَلْبَاب} حسن دلَالَة مِنْهُ سُبْحَانَهُ لَهُم على النّظر فِي آيَاته والفكر فِي عجائب صنعه وَفِي ذَلِك سَبِيل لَهُم إِلَى مَعْرفَته وَإِلَى الْعلم بِأَنَّهُ الْخَالِق الرازق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْوَاحِد سُبْحَانَهُ وَأَن من دونه لَهُ خلق وَأَن الْخلق كلهم مألهون مستعبدون لَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نفعا وَلَا ضرا

وَلَا يملكُونَ موتا وَلَا حَيَاة وَلَا نشورا ثمَّ دعاهم بعد ذَلِك إِلَى النّظر فِي أنفسهم فَقَالَ جلّ وَعز {فَلْينْظر الْإِنْسَان مِم خلق خلق من مَاء دافق يخرج من بَين الصلب والترائب إِنَّه على رجعه لقادر} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه وَبَدَأَ خلق الْإِنْسَان من طين ثمَّ جعل نَسْله من سلالة من مَاء مهين ثمَّ سواهُ وَنفخ فِيهِ من روحه وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ من مُضْغَة مخلقة وَغير مخلقة لنبين لكم ونقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء إِلَى أجل مُسَمّى ثمَّ نخرجكم طفْلا ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر} فَبين جلّ جَلَاله بَدْء خلق الْإِنْسَان بمحكم من الْبَيَان ليعلموا بذلك كَيفَ أنشأهم وعَلى أَيَّة هَيْئَة هيأهم ليعترفوا بِالْعَجزِ ويقروا بالضعف ويفردوه جلّ ثَنَاؤُهُ بِالْأَمر حَتَّى تكون لَهُم معرفَة أنفسهم دَلِيلا على خالقهم وسببا إِلَى معرفَة صانعهم وأعلمهم جلّ ثَنَاؤُهُ أَنه بَدَأَ خلق الْإِنْسَان من طين وَمن سلالة من مَاء مهين خلقا ضَعِيفا فِي أَصله ثمَّ قَلِيلا فِي عينه حَقِيرًا فِي رُؤْيَته ثمَّ نَقله جلّ جَلَاله وثناؤه بعد هَذِه المهانة إِلَى أَن صيره علقَة

يعاف عَن رؤيتها ويتنزه عَن لمسها ثمَّ صيره مُضْغَة منقولة عَن بَدْء خلقهَا ثمَّ نقلهَا عَن هَيْئَة المضغة فصيرها بِحكم تَدْبيره وخفي تَقْدِيره عظما ثمَّ كَسَاه تَعَالَى لَحْمًا ثمَّ صوره بِأَحْسَن صُورَة فشق سَمعه وبصره وَجعله بإنفاذه لما خلق مِنْهُ مُتَّصِلا مَوْصُولا ذَا لِسَان وشفتين ويدين وَرجلَيْنِ ثمَّ نفخ فِيهِ من روحه ثمَّ جعل الْأَرْحَام لَهُ مسكنا والبطن لَهُ منزلا حَيْثُ لَا تُدْرِكهُ الْعُيُون فتصف كيفيته فِيهَا فِي ظلم الْأَرْحَام ومكنون الأحشاء وَمَا اضطمت عَلَيْهِ جوانح الْبَطن وسَاق إِلَيْهِ فِي خَفِي مَكَانَهُ الرزق وَأدّى إِلَيْهِ على غامض مَوْضِعه الْغذَاء وَحفظه من الْآفَات وَدفع عَنهُ المكروهات حَيْثُ لَا يملك ذَلِك الْآبَاء والأمهات ليبلغ سَابق الْعلم فِيهِ وَيجْرِي قديم الحكم عَلَيْهِ ثمَّ نَقله جلّ وَعز من هَذَا الْحَال إِلَى دَار الزَّوَال بعد أَن كتب لَهُ عمله وَضرب لَهُ أَجله وَقسم لَهُ رزقه فسبحان من تقدم علمه بِمَا الْخلق عاملون وَإِلَى مَا هم إِلَيْهِ صائرون سُبْحَانَهُ من حَكِيم عليم لَا شريك لَهُ فِي ملكه وَلَا مقاوم لَهُ فِي عزه وَلَا مَانع لَهُ فِي أمره الْفَرد المتفرد بِالْأَمر كُله جلّ ثَنَاؤُهُ الْملك الْخَبِير الْعَالم الْقَدِير الَّذِي بفضله دلّ الْخلق على نَفسه وبكرمه دعاهم إِلَى عِبَادَته وبرأفته خوفهم من عُقُوبَته الْغَنِيّ عَن عبَادَة الْعَالمين وَعَن طَاعَة المطيعين الَّذِي عطف برأفته على الْخلق ودعاهم إِلَى عِبَادَته ليثيبهم على ذَلِك بعطيته ويكرمهم بالموافقة لجنته سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ فقد علم جلّ ثَنَاؤُهُ أَن جَوَامِع عقول الْخلق من

أصل سماواته وأرضه وَمَنَافع نهايات صِفَات ألسنتهم وغايات عقائد مُحكم معرفتهم لَو جعلت فِي عبد وَاحِد من عبيده ثمَّ مثل عَطاء ذَلِك العَبْد فِي سَائِر خلقه ثمَّ أضعفوا وأضعف لَهُم الْعَطِيَّة وَقسم ذَلِك بَينهم بِالسَّوِيَّةِ ثمَّ أَدِيم ذَلِك لَهُم عَطاء وعددا كأسرع مَا أَدْرَكته الصّفة فِي دَائِم أَبَد الْأَبَد على بَقَاء الْخلد الَّذِي لَيْسَ لَهُ أمد ثمَّ أوقفوا ليبلغوا بذلك مَا يجب لَهُ لعجزوا عَن الْقيام بذلك ولرجعوا إِلَيْهِ بالصغر مقرين وبالعجز معترفين فسبحان من هَذِه صفته على قدر إِدْرَاك مَا بلغت الْعُقُول وأومت إِلَيْهِ الْمعرفَة فَكيف بِمَا غَابَ عَن الْخلق من الْعلم بصفاته سُبْحَانَهُ وَإِنَّمَا بلغت لَهُم عَظمته وَأدْركت أَيدي الظفر مِنْهُم بهيبته على قدر الْخلق وَمَا تحْتَمل من ذَلِك عُقُولهمْ وَتقوم لَهُ أَرْوَاحهم وتنهض بِهِ أبدانهم وَلَو كشف سُبْحَانَهُ عَن بعض مَا ستره عَنْهُم لساخت بذلك أرضه ولتمزقت سماواته ولتلف سَائِر خلقه فسبحان الْحَكِيم الْخَبِير الَّذِي لطف بخلقه بِمَا ستر عَنْهُم من أمره ورحمهم بِمَا غيب عَنْهُم من قدرته ليتم أمره فِي خلقه وتنفذ مَشِيئَته عَلَيْهِم ويمضي قديم علمه فيهم فَكَانَ مِمَّا دبرهم بِهِ الْحَكِيم سُبْحَانَهُ أَن جعلهم أجسادا لَا تقوم إِلَّا بالأغذية وَلَا يَدُوم بَقَاؤُهَا إِلَّا بالأطعمة فَضرب الْآجَال وَقسم الأرزاق وَختم أَمر الدُّنْيَا بالفناء فَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ {نَحن قسمنا بَينهم معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات}

وَقَالَ تَعَالَى {الله الَّذِي خَلقكُم ثمَّ رزقكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها وَيعلم مستقرها ومستودعها كل فِي كتاب مُبين} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها الله يرزقها وَإِيَّاكُم} وَقَالَ عز وَجل {وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه لحق مثل مَا أَنكُمْ تنطقون} فَأخْبر جلّ ثَنَاؤُهُ بقسمة الرزق بَين خلقه وتولية ذَلِك فِي مَوَاضِع من كِتَابه جلّ وَعز كَثِيرَة ثمَّ دَعَا الْخلق سُبْحَانَهُ إِلَى التَّوَكُّل عَلَيْهِ بعد أَن أعلمكُم بكفالته لَهُم وتقسيمه بَينهم فَقَالَ سُبْحَانَهُ {وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} وَقَالَ {وعَلى الله فَليَتَوَكَّل المتوكلون} فَأوجب جلّ وَعز التَّوَكُّل وفرضه على الْخلق لِئَلَّا يتشاغلوا عَن الْعِبَادَة بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من ذَلِك فكفاهم بذلك الْمُؤْنَة وَأثبت بِهِ عَلَيْهِم الْحجَّة وَفرض عَلَيْهِم فَرَائض أحكمها وَبَين لَهُم مَا

استعبدهم فِيهَا من عَددهَا وأوقاتها وأحكامها من الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج وَالْجهَاد وحدود مَا أحل وَحرم فَفرض ذَلِك وَبَينه بمحكم من كِتَابه وَبَيَان من سنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا

باب بيان فرض التوكل الذي يجمع فيه خواص الخلق وعوامهم مع الحركات في احتباس الرزق وتركه

- بَاب بَيَان فرض التَّوَكُّل الَّذِي يجمع فِيهِ خَواص الْخلق وعوامهم مَعَ الحركات فِي احتباس الرزق وَتَركه - فَالَّذِي يجب على النَّاس فِي جُمْلَتهمْ من التَّوَكُّل المفترض عَلَيْهِم التَّصْدِيق لله عز وَجل فِيمَا أخبر من قسم وَضَمان الْكِفَايَة وكفالتها من سِيَاقه الأرزاق إِلَيْهِم واتصال الأقوات الَّتِي قسمهَا فِي الْأَوْقَات الَّتِي وَقتهَا بِتَصْدِيق تقوم الثِّقَة بِهِ فِي قُلُوبهم وتنتفي بِهِ الشكوك عَنْهُم والشبهات ويصفو بِهِ الْيَقِين وَتثبت بِهِ حقائق الْعلم أَنه الْخَالِق الرازق المحيي المميت الْمُعْطِي الْمَانِع المتفرد بِالْأَمر كُله فَإِذا صَحَّ هَذَا الْعلم فِي الْقُلُوب وَكَانَ ثَابتا فِي عُقُود الْإِيمَان تنطق بِهِ الْأَلْسِنَة إِقْرَارا مِنْهَا بذلك لسَيِّدهَا وَترجع إِلَى ذَلِك بِالْعلمِ عِنْد تذكرها وَقع الِاسْم عَلَيْهَا بالتوكل فَإِن فَارَقت الْقُلُوب اعْتِقَاد هَذِه الصِّفَات وفارقتها الْأَلْسِنَة بِالْإِقْرَارِ وَوَقع بهَا فِي شَيْء من ذَلِك شكّ وارتياب فَارَقت الِاسْم الْمَحْمُود وَقع بهَا مَا يحل عَنْهَا عقدتها وَحل بهَا مَا أوجب لَهَا الِاسْم المذموم وَذَلِكَ أَن الَّذِي أوجب لَهَا الِاسْم الْمَحْمُود إِقْرَار الْأَلْسِنَة وَالْعلم الْقَائِم الَّذِي يزِيل الشكوك والشبهة وَإِنَّمَا كَانَ مَعهَا من ذَلِك الْإِقْرَار وَالْعلم مَا إِذا زَالَ الْيَسِير مِنْهُ عَن الْقُلُوب خرجت إِلَى ضد الشَّيْء الَّذِي كَانَت بِهِ مقرة وَله معتقدة

والضد من ذَلِك أَن تكون مكذبة بِمَا صدقت أَو شاكة فِيمَا أيقنت أَو مبطلة لما حققت فَإِذا وَقع بهَا شَيْء من هَذِه الأضداد الَّتِي تخرج بهَا من الْأَسْمَاء المحمودة خرجت إِلَى مَذْمُوم الْأَسْمَاء وَفَارَقت الْإِيمَان بِاللَّه عز وَجل والتوكل عَلَيْهِ وَالَّذِي سلبها التَّوَكُّل على الله مَا وصفناه والاعتقاد لَهُ بالقلوب فَمن صِفَات عوام النَّاس فِي فرض التَّوَكُّل وبدئه وَمَا استحقوا بِهِ الِاسْم من ذَلِك أَن تكون مَعَهم العجلة فِي الْقلب وَالِاضْطِرَاب عِنْد الْمَنْع والارتياب فِيهِ بِشَيْء من مصابه عِنْدهم وَالْوُقُوف مَعَ الْأَسْبَاب وَالنَّظَر إِلَيْهَا والمحبة للكثرة والادخار بالرغبة والشره والاغتمام على الْفَوْت وَالسُّرُور بالظفر وَذَلِكَ كُله والعقود كَمَا وَصفنَا فِي الْإِيمَان قَائِمَة وَالْإِقْرَار بِهِ ثَابت وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنهم إِذا خَرجُوا بِالذكر فِي وَقت الطّلب من الله أذعنوا بالقلوب والألسنة أَنهم لَا يصلونَ إِلَى شَيْء من ذَلِك بالحيلة وَأَن الْحَرَكَة غير زَائِدَة لَهُم فِي أنفسهم وَلَا موصلة لَهُم إِلَى الزِّيَادَة وَإِنَّمَا كَانَت هَذِه الحركات الْمَوْجُودَة مِنْهُم بحركات الطَّبْع الَّذِي عَلَيْهِ الْبَيِّنَة وَذَلِكَ ان الله سُبْحَانَهُ وصف الْخلق فِي جُمْلَتهمْ فَقَالَ {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْل المسومة والأنعام والحرث} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الْآخِرَة}

وَقَالَ تَعَالَى {وَكَانَ الْإِنْسَان عجولا} فَأخْبر سُبْحَانَهُ وَجل ثَنَاؤُهُ بِمَا فِي طبع الْإِنْسَان وَالْخَلَائِق من ذَلِك وَأَن هَذِه الصِّفَات قَائِمَة فِي البشرية فالمؤمنون فِي جُمْلَتهمْ موصوفون بالتوكل على الله تَعَالَى بِمَا اعتقدوا مِمَّا وَصفنَا وَإِن كَانَت هَذِه الحركات من الطَّبْع مَعَهم وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَا أَن الْمُؤمنِينَ فِي جُمْلَتهمْ يسلم لَهُم عقد الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى والتوكل عَلَيْهِ كَمَا وَصفنَا من اعتقادات الْقُلُوب وَإِقْرَار الْأَلْسِنَة بِأَن الله تَعَالَى قَالَ {وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه لحق مثل مَا أَنكُمْ تنطقون} فأقسم جلّ ثَنَاؤُهُ بِنَفسِهِ أَنه قسم الأرزاق بَين الْخلق وأمضى الضَّمَان بالكفاية لَهُم فَكَانَ على الْخلق تَصْدِيقه فِيمَا أخبر وَأقسم فَمن صدق فِي ذَلِك كَانَ بتصديقه وإيمانه مُؤمنا متوكلا وَمن كذب أَو شكّ كَانَ بذلك معاندا كَافِرًا بِمَا قصّ علينا جلّ ثَنَاؤُهُ فِي كِتَابه وَإِن لم تزل حركات الطباع وَمَا فِي الخليقة من محبَّة الْكَثْرَة وتعجيل الْوَقْت والتسبب إِلَيْهِ بالأسباب فَلم يزل الله سُبْحَانَهُ عَنْهُم اسْم التَّوَكُّل إِذْ كَانَت الْعُقُود على مَا وَصفنَا ثَابِتَة فِي الْقُلُوب وَكَانَت الْمُوَافقَة لَهُم فِي حركات الطباع متبعة لِأَن مَا فِي الطباع من الْحَرَكَة لَا يخرجهم مِمَّا أَوجَبْنَا من التَّصْدِيق لَهُم لِأَن الله تَعَالَى لم يستعبدهم بإزالتها وَإِنَّمَا استعبدهم بِإِقَامَة الطَّاعَة وَأخذ الشَّيْء من حَيْثُ أَبَاحَ أَخذه فَإِذا أَقَامُوا ذَلِك وَكَانُوا للموافقة لله عز وَجل فِي الحركات

متعبين فَلَا تَضُرهُمْ صِفَات الْخلقَة وَمَا فِي تركيب الطباع إِلَّا أَن يجاوزوا فِي ذَلِك حُدُود الله عز وَجل فيأخذوا الشَّيْء من حَيْثُ حظره الله عَلَيْهِم فَيَكُونُوا عصاة لله عز وَجل بذلك الْعلم وَلَا يخرجُوا من الِاسْم الْمَحْمُود إِلَّا بِحل الْعُقُود الَّتِي وَصفنَا أَو جَحدهَا بالألسنة فَإِذا كَانَ الِاعْتِرَاف لله تَعَالَى ثَابتا والألسنة بِهِ مقرة فَلَمَّا جاوزوا الْحُدُود نقص اسْم التَّوَكُّل فَيكون توكلهم لذَلِك نَاقِصا وفرائضه غير تَامَّة لِأَن الله جلّ ثَنَاؤُهُ أَبَاحَ لِلْخلقِ الْحَرَكَة فِي الطّلب وَلم يكلفهم إِزَالَة مَا فِي الطَّبْع وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الله جلّ وَعز قَالَ {يَا أَيهَا النَّاس كلوا مِمَّا فِي الأَرْض حَلَالا طيبا} وَقَالَ عز وَجل {رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله} فأباح لَهُم الْحَرَكَة ومنعهم التَّعَدِّي لحدوده جلّ ثَنَاؤُهُ وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أطيب مَا أكل الْمُؤمن من كَسبه) فَكَانَ دَلِيلا على مَا وَصفنَا من إِبَاحَة الْحَرَكَة فِي طلب الرزق وَأَن المتحرك فِي طلبه لَا يخرج من فرض التَّوَكُّل فِي كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أكَابِر أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وَقد زعم قوم أَن التَّوَكُّل لَا يثبت لأَهله إِلَّا بترك الْحَرَكَة فِي طلب الرزق وَالْقعُود عَن الِاضْطِرَاب فمنعوا أَن يكون فِي ذَلِك إِبَاحَة من كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام فجهلوا مَا أخبرنَا من

إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أفضل مَا أكل الرجل من كَسبه) وَهَذَا خبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَدْفَعهُ أهل الْعلم وَالنَّقْل وَلَا أعلمهم يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (مَا بعث الله نَبيا إِلَّا رعى الْغنم) قيل وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ (كنت أرعاها لأهل مَكَّة بالقراريط) وَخرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَدْء أمره يُرِيد الشَّام للتِّجَارَة وَقَالَ الله جلّ ثَنَاؤُهُ فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عصاي أتوكأ عَلَيْهَا وأهش بهَا على غنمي ولي فِيهَا مآرب أُخْرَى} وَقَالَ فِي قصَّة شُعَيْب ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام {إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين على أَن تَأْجُرنِي ثَمَانِي حجج فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك وَمَا أُرِيد أَن أشق عَلَيْك} وَقَالَ فِي قصَّة دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام {وألنا لَهُ الْحَدِيد أَن اعْمَلْ سابغات وَقدر فِي السرد وَاعْمَلُوا صَالحا} فَهَذَا فِي قصَص الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مَوْجُود وهم صفوة الله من

خلقه مِمَّا قد كفينا بِهِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وَأَنا واصف لَك بعض مَا كَانُوا عَلَيْهِ من ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى

باب الحركة في الكسب لطلب الرزق واختلاف ذلك من محموده ومذمومه

- بَاب الْحَرَكَة فِي الْكسْب لطلب الرزق وَاخْتِلَاف ذَلِك من محموده ومذمومه - فَأَما المذموم من الْحَرَكَة بعد اعْتِقَاد مَا وَصفنَا من الْعُقُود الَّتِي توجب لأَهْلهَا إِذا ثبتَتْ الْعُقُود بهَا اسْم التَّوَكُّل ويدخلون بهَا فِي جملَة فَرْضه فَهُوَ التَّعَدِّي لما أَمر الله والتجاوز لحدوده فِي الحركات وَالْأَخْذ والإعطاء وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ لما فرض التَّوَكُّل على خلقه وأباح لَهُم الْحَرَكَة فِي ذَلِك وَلما غيب عَنْهُم التفرس من محبَّة تَعْجِيله حد لِلْخلقِ حدودا فِي الْحَرَكَة وَفرض عَلَيْهِم فروضا أحكمها وَبَينهَا فِي كِتَابه وعَلى لِسَان نبيه عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ وتدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام لتأكلوا فريقا من أَمْوَال النَّاس بالإثم} وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون}

وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله حرم عَلَيْكُم دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ) فَبين الله تَعَالَى الْفَرْض فِي ذَلِك على الْخلق فِي كِتَابه وَفِي سنة نبيه عَلَيْهِ السَّلَام وَفِيمَا اجْتمع عَلَيْهِ أهل الْعلم وَهُوَ أَن يوافقوه فِي الْحَرَكَة فَإِن خالفوا ذَلِك ثبتَتْ عَلَيْهِم بخلافة الْحجَّة فَمن كَانَت حركاته فِي طلب الرزق على مَا وَصفنَا من إِقَامَة الْحق الْوُقُوف على تجَاوز الْحُدُود وَتَصْحِيح الْوَرع فِي المتجر وَفِي الصناعات وَفِي كل المضطرب فِيهِ كَانَ لله جلّ وَعز بذلك مُطيعًا مَحْمُودًا عِنْد أهل الْعلم وَمن خَالف شَيْئا مِمَّا وَصفنَا فتعدى فِي الْحَرَكَة وتخلف عَمَّا يجب عَلَيْهِ من الصدْق كَانَ بذلك مذموما قد نقص بذلك توكله وَلم يؤد فَرْضه وَلم يَقع عَلَيْهِ الِاسْم الَّذِي يَقع بِإِقَامَة الْحق على غَيره وَذَلِكَ أَن المذموم بتعدي الْحَد خَالف مَا أَمر بِهِ من إِقَامَة الْحق وَمَعَهُ الِاعْتِرَاف بخطأ فعله والتوبيخ لنَفسِهِ عِنْد الرُّجُوع إِلَى الفكرة فِي أمره مقرّ بِأَن ذَلِك الْفِعْل مَعْصِيّة لرَبه والعقود قَائِمَة بِمَا وَصفنَا بِمَا أثبت لَهُ الِاسْم وَلنْ يَزُول عَنهُ مَا أوجب لَهُ عقد الْقُلُوب وَالِاعْتِرَاف بالألسنة إِلَّا بالإنكار لذَلِك وَالْخُرُوج مِنْهُ بالجحد لَهُ وَالشَّكّ فِيهِ وَقد بَينا هَذَا فِي أول الْكتاب فَهَذِهِ صِفَات المذموم فِي حركته وَأما الْمَحْمُود من الْحَرَكَة فأولها مَا وَصفنَا من إِقَامَة الطَّاعَة لله

سُبْحَانَهُ فِي الْحَرَكَة وتحري الْمُوَافقَة لله سُبْحَانَهُ بِمَا فِيهَا وَالْوُقُوف عِنْد تجَاوز الْحُدُود حَتَّى يكون مَوْصُوفا فِي ذَلِك بإحكام الْوَرع وَشدَّة الحذر وَإِقَامَة التَّقْوَى فَإِذا قَامَ بذلك على شَرَائِطه كَانَت هَذِه أول الحركات المحمودة الَّتِي أَبَاحَهَا الله عز وَجل لَهُ وَمن الحركات المحمودة مِمَّا هِيَ أرفع فِي الدرجَة وَأَعْلَى فِي الرُّتْبَة مَا وصف الله سُبْحَانَهُ بِهِ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووصفهم من المقامات فِيهِ وَجلة التَّابِعين من بعدهمْ وخواص الْمُؤمنِينَ فِي سَائِر الْأَزْمِنَة والدهور الَّذين بانوا بِفضل الْخُصُوص فِي التَّوَكُّل وَفِي سَائِر الْمنَازل على عوام الْخلق فَكَانَ فَضلهمْ بذلك على غَيرهم مَعْرُوفا ومقامهم عِنْد الله رفيعا وَهُوَ حَقِيقَة التَّوَكُّل ومحكمه والتعالي فِي ذرْوَة مَا أقيم فِيهِ الْأَنْبِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ وخواص الْمُؤمنِينَ وَبعد إحكامهم لفرض التَّوَكُّل فِي أَصله بانوا بِفضل الْمعرفَة على غَيرهم وَالزِّيَادَة فِي الْعَمَل بهَا لله جلّ ثَنَاؤُهُ من طَهَارَة الْقُلُوب وإدامة الذّكر وَكَثْرَة التَّقَرُّب إِلَى الله سُبْحَانَهُ بالنوافل وبذل الطَّاقَة والجهد نصيحة لأَنْفُسِهِمْ وطلبا للحظوة عِنْد سيدهم فَكَانَت هَذِه الْأَخْلَاق الْغَالِبَة عَلَيْهِم مَانِعَة من الْحَرَكَة الَّتِي أبيحت لَهُم وَقد حظرت عَنْهُم لقلَّة مَا فِيهَا من الذّكر للسَّيِّد الْكَرِيم وإيثارا مِنْهُم لما يقرب إِلَيْهِ من ذَلِك لما بَان لَهُم من فضل الْعَمَل لله جلّ وَعز بِطَاعَتِهِ وإيثارا مِنْهُم لما ندب إِلَيْهِ من ترك الشَّهَوَات والتجافي عَن دَار الْآفَات فَكَانُوا بذلك عَن حركات الطَّبْع متجافين متشاغلين وَبِكُل دَاع يَدعُوهُم إِلَى غَيره مستثقلين وَعَن كل فَتْرَة تميل بهم إِلَى الرَّاحَة نافرين

وَإِلَى كل حاد يحدوهم إِلَى الزِّيَادَة ساكنين وعَلى الْعَمَل المقرب لَهُم إِلَى الله عاكفين قد جمعت لَهُم الطَّاعَة مرادتهم فِيهَا على قدر الإقبال عَلَيْهَا وأوضحت لَهُم سبل الرشاد فِيهَا فَلم يُرِيدُوا بِمَا أدْركْت أَيدي الظفر مِنْهُم بَدَلا وَلم يبغوا عَن شَيْء من ذَلِك حولا وَأَصْبحُوا فِي ذَلِك تَوْفِيقًا من سيدهم ومعونة قَائِمَة بالكفاية لَهُم وخفي لطف غير مقطع عَنْهُم فدام لَهُم الْحَال وزكت الْأَعْمَال ووجدوا الظفر بالآمال وَلم يَجدوا عِنْد ذَلِك هوى غَالِبا وَلَا عدوا مطالبا وَلَا أملا فِي النُّفُوس كَاذِبًا أمات الْعلم بِاللَّه لَهُم أهواءهم وَغلب لَهُم أعداءهم وَجمع لَهُم شملهم وأحكمهم لَهُم أَمرهم وَكَانَ التَّوْفِيق لَهُم صباحا وخفي اللطف من الله دَائِما والتأييد لَهُم من سيدهم مرشدا فَكَانَت هَذِه صفاتهم وَهِي فِي التعالي فِي ذَلِك على قدر أقدارهم وَمَا أداهم فضل الْعلم بِاللَّه تَعَالَى إِلَى سَبِيل الْعَمَل لَهُ بالاشتغال بدوام الْأَعْمَال على قدر الرّفْعَة فِي الْحَال وَكَانَت هَذِه الحركات هِيَ الْغَالِبَة عَلَيْهِم دون غَيرهَا من الْحَرَكَة وَكَانَ الْغَالِب على قُلُوبهم محبتهم للموافقة وتحريهم للموصل إِلَى الله سُبْحَانَهُ من الْأَعْمَال دون ذكر مَا كفاهم وَضمن لَهُم من الأرزاق وَغَيرهَا فَلم يَكُونُوا للأوقات مضيعين وَلَا باستجلاب مَا كفوا متشاغلين وَلَا لما أحب الْخلق من الاستثكار محبين إِلَّا أَن يكون لسيدهم فِي ذَلِك أَمر جعل لَهُم الْفضل فِيهِ وندبهم إِلَى الْقيام بِهِ مثل قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كفى بِالْمَرْءِ شرا أَن يضيع من

يعول) وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام (كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته) فالرجل رَاع لما استرعى يجب عَلَيْهِ الْقيام بأمرهم من أَمر الدّين وَالدُّنْيَا وَكَذَلِكَ من أوجب الله تَعَالَى عَلَيْهِ عيلته وَفرض عَلَيْهِ الْقيام بأَمْره من الْآبَاء والأمهات والأزواج وصغار الْأَوْلَاد الَّذين لم يخْتَلف الْمُسلمُونَ فِي أَن أُمُورهم وَاجِبَة وَأَن تَركهم مَعْصِيّة إِذا كَانُوا فِي حَال الْحَاجة وَكَذَلِكَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كفى بِالْمَرْءِ شرا أَن يضيع من يعول) وَلَا يكون قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفى بِالْمَرْءِ شرا) وَهُوَ لَا يجب عَلَيْهِ عيلتهم وَلَا حينما تكون عيلتهم تَطَوّعا مِنْهُ يتَطَوَّع بِهِ لِأَن الشَّرّ بلَاء وَاقع وعقوبة نازلة وَالله جلّ ثَنَاؤُهُ لَا يُعَاقب على ترك مَا لَا يجب وَإِنَّمَا أخبرنَا أَن وعيده وعقوبته وَاقعَة على من عَصَاهُ وَخَالف أمره فسعيهم فِي الْأُمُور تحر مِنْهُم للموافقة ورغبة مِنْهُم فِي الطَّاعَة وَلَيْسَ سَعْيهمْ فِي ذَلِك كسعي من أَرَادَ الْكَثْرَة لما بانوا بِهِ من الِاشْتِغَال بِمَا هُوَ أولى بهم وآثر فِي نُفُوسهم فَإِن وَجب شَيْء من ذَلِك وَسعوا فِيهِ كَانَ سَعْيهمْ والقلوب إِلَى الله جلّ وَعز فِي ذَلِك ناظرة وَإِلَيْهِ فِيهِ سَاكِنة بدوام ذكر مبَاشر لقُلُوبِهِمْ ودوام معرفَة مغشية لَهُم واستجابة لله مُتَّصِلَة بهم قد نفرت الْقُلُوب لذَلِك من أَسبَاب الخليقة وانقطعت من مطامع الرِّيبَة وأعتقت من ربقة الْأَسْبَاب ورق أهل الدُّنْيَا وتفردت فِي كل

حَال بوليها والقائم عَلَيْهَا بِمَا كسبت والعالم بهَا فِي مَكْنُون ضميرها لَا يفترون فِي سَعْيهمْ عَن مواصلته وَلَا يقصرون عَن شَيْء أَمر بِهِ من حَيْثُ بلغته الْعُقُول المذكاة بفطن الْفَهم عَنهُ وأوصل إِلَيْهِ غليان الْعلم والمعرفة بِهِ وَكَانَ سَعْيهمْ فِي الْكسْب على وَصفنَا من أفضل الْقرب إِلَى سيدهم وأخص الْأَعْمَال فِي حَال مَنَازِلهمْ فَكَانَت إِقَامَة الشّغل بِهِ عَلَيْهِم آثر عِنْدهم من التشاغل بِغَيْرِهِ لما بَان من فضل مُوَافَقَته فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ وَأمر بِهِ فَهَذِهِ صفة سَعْيهمْ وَلم يكن السَّعْي فِي ذَلِك قادحا فِي صفاء الذّكر الْقَائِم لَهُم وَلَا منقصا مَا خصوا بِهِ من حَال قرب الْقُلُوب ومراتبها وَحَال الْمنَازل المرجوة لَهُم من السَّيِّد الْكَرِيم فَهَذِهِ صِفَات حركات الصديقين والأولياء فِي المكسب وَالدَّلِيل على ذَلِك فعل أبي بكر الصّديق وَعمر الْفَارُوق وَعُثْمَان ذِي النورين وَعلي بن أبي طَالب وَأكْثر أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من المختارين لصحبته المنتخبين لمعونته سرج الأَرْض ومصابيحها وزهرة الدُّنْيَا وَزينتهَا المقدمين بِالْفَضْلِ على خَواص الْأُمَم السالفة والسابقين غَدا بِالطَّاعَةِ فِي الْآخِرَة خلف الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وأئمة الْحق وَحَملَة الْعلم ومعادن الْحِكْمَة ومناهل التَّقْوَى والقوام بنوائب الدّين وشرائعه الَّذين بَين الله عز وَجل فَضلهمْ بباطن الْحِكْمَة على لِسَان نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عز وَجل {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود}

) وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} وَقَالَ عز وَجل {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} فمدح أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من كِتَابه وهم أفضل أهل الأَرْض بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وأعمالهم أفضل الْأَعْمَال وَأَشْرَفهَا ومقاماتهم أرفع المقامات وأعلاها وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه) وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خير أمتِي أَولهَا) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله اخْتَار أَصْحَابِي على جَمِيع الْأُمَم)

وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خير النَّاس الْقرن الَّذين بعثت فيهم) وَهَذَا يكثر فِي السّنة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأول مَا نبدأ بِذكرِهِ ونحتج بِفِعْلِهِ الصّديق رضوَان الله عَلَيْهِ صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين كذب وَأنْفق عَلَيْهِ مَاله حِين منع وأنيسه فِي الْغَار حِين أوذي وجليسه فِي الْعَريش يَوْم بدر حِين حورب وَأول من اتبعهُ وَصدقه وَمن فعائله تكْثر على لِسَان مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن أجمع لَهُ الْمُسلمُونَ بِالْفَضْلِ بعد نَبِيّهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضوا بِهِ خَليفَة بعد رسولهم لما رَأَوْا من تَقْدِيمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ فِي صلَاتهم وَفِي عَظِيم أَمر دينهم فاحتذى فِي الْأَمر سَبِيل الْمُصْطَفى وسلك فِيهِ منهاج المرتضى وَقَامَ بِأَمْر الله قيام الْأَنْبِيَاء فَجمع من الْإِسْلَام شَمله حِين تفرق وَقَامَ بأوده حِين وهى وَمنع حريمه حِين اخترم ورتق بِالْحَقِّ خلله حِين انفتق جتى عَاد بعد الِافْتِرَاق مثقفا وَبعد الوهن قَوِيا وَبعد الْخلَل متسقا وَأجْمع لَهُ الْمُسلمُونَ بِالصَّوَابِ فِي فعله وبالعدل فِي جَمِيع حكمه أَشد الْخلق بعد نبيه فِي دينه وأقومه بأَمْره رضوَان الله عَلَيْهِ وَرَحمته وَلم يزل على سَبيله المتين وقصده الْوَاضِح حَتَّى توفاه الله عز وَجل حميدا وَكَانَ من فعله لما اسْتخْلف وَأجْمع الْمُسلمُونَ على أمره أَن رأى الْكسْب على عِيَاله أفضل الْأَعْمَال وأوصل الْقرْبَة وَأَعْلَى الطَّاعَة فَمضى إِلَى السُّوق متكسبا عَلَيْهِم فأدركه أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي السُّوق فَقَالُوا لَهُ يَا خَليفَة رَسُول الله أَمر الْمُسلمين

فَقَالَ لَهُم (لَا يقر ذَنبي على عيالي افرضوا لي فرضا) وَكَانَ الْمُخَاطب لَهُ فِي ذَلِك عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُمَا ففرضوا لَهُ فرضا رَضِي بِهِ وَرجع إِلَى أُمُورهم بعد أَن أحكم أَمر عِيَاله رَضِي الله عَنهُ وَكَذَلِكَ كَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي الْفضل وَفِي شدَّة الْإِسْلَام وَالْقِيَام بأوده فَكَانَ يَأْخُذ قوته وقوت عِيَاله وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنهُ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ (أَتَدْرُونَ مَا اسْتحلَّ من هَذَا المَال ثَوْبَيْنِ للشتاء والقيظ وظهرا أحج عَلَيْهِ وقوت رجل من قُرَيْش لَيْسَ بأوضعهم وَلَا بأرفعهم) ثمَّ رَجَعَ إِلَى الإشفاق على الْمُسلمين فَقَالَ (وَالله مَا أَدْرِي أَيحلُّ لي أم لَا) وَكَذَلِكَ كَانَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ بعدهمَا فِي الْفضل وَالْقِيَام بِالْأَمر والمجتمع عَلَيْهِ فِي الْعدْل وَكَذَلِكَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ بعدهمْ فِي الْفضل وَالدّين وَالْعلم والحلم كَانَ يَسْتَسْقِي دلوا بتمرة بعدهمْ وَكَانَ لَهُ ناضحان ينْقل عَلَيْهَا الْإِذْخر يَسْتَعِين بِهِ على تَزْوِيج فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا وآخى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين قيس بن الرّبيع وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَقَالَ قيس لعبد الرَّحْمَن هَذَا شطر مَالِي ولي امْرَأَتَانِ أنزل لَك عَن وَاحِدَة وَكَانَ مَال قيس المَال الصَّامِت الَّذِي يرغب فِي مثله

فَقَالَ عبد الرَّحْمَن لَا حَاجَة لي بذلك دلَّنِي على السُّوق فَمضى إِلَى السُّوق متكسبا على نَفسه فَعَاد وَقد أصَاب شَيْئا من سمن وإقط وَذَلِكَ لما عِنْد عبد الرَّحْمَن من فضل الْكسْب وَفضل الْحَرَكَة لطلب الثَّوَاب وَكَذَلِكَ يرْوى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه) فآثر عبد الرَّحْمَن الْكسْب على مَال طيب هُوَ مَال رجل من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا شكّ فِي أمره وَلَا فِي النَّفس مِنْهُ شُبْهَة عرض عَلَيْهِ من غير مَسْأَلَة وَلَا إشراف من نفس فَهَذِهِ حجتنا فِي الْحَرَكَة من الْكتاب وَالسّنة وَفعل أكَابِر أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ كَانَ التابعون من بعدهمْ مِمَّن يجب علينا تقليدهم وَالْأَخْذ عَنْهُم وهم الَّذين ألزم عز وَجل الْخلق طاعتهم والاقتداء بهم فَقَالَ جلّ وَعز {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} وهم أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن بعدهمْ من صالحي الْعلمَاء والأخيار فِي هَذَا والاحتجاج بهَا يكثر وَفِيمَا أوردنا وَذكرنَا من ذَلِك كِفَايَة إِن شَاءَ الله ونسأل الله جلّ وَعز خير التَّوْفِيق لإصابة الْحق

باب ترك الحركة في الكسب وما في ذلك من محموده ومذمومه

- بَاب ترك الْحَرَكَة فِي الْكسْب وَمَا فِي ذَلِك من محموده ومذمومه - وَقد ترك الْحَرَكَة فِي الْكسْب أَقوام على أُمُور مُخْتَلفَة وَأَنا واصف بَعْضهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَمن ذَلِك مَا زعم شَقِيق وَاتبعهُ على ذَلِك أَقوام زعم شَقِيق فِيمَا يرْوى عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول إِن الْحَرَكَة فِي الْكسْب مَعْصِيّة وَذَلِكَ أَنه قَالَ لما ضمن الله تَعَالَى الرزق والكفاية كَانَت الْحَرَكَة شكا فِيمَا ضمن فَحمل الْأَمر فِي ذَلِك على رَأْيه وَقَالَ فِيهِ بزلله فَخَالف الْكتاب وَالسّنة وَمَا عَلَيْهِ أكَابِر أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجلة التَّابِعين من بعدهمْ وَجلسَ أَقوام تعرضوا للكسب قبل جلوسهم فَلم يُمكنهُم إِقَامَة الْحق فِي كسبهم وَضَاقَتْ عَلَيْهِم المطالب فِي ذَلِك فجلسوا فطعنوا فِي المتكسبين وَجعلُوا ضعفهم عَن الْقيام بِالْحَقِّ فِيمَا جعل الْفضل فِيهِ لأَهله إِذا قَامُوا بأحكامه وَأخذُوا من كسب المخلطين والمقدمين على الشُّبْهَة وَجعلُوا الْأَخْذ من أهل هَذِه الصّفة أفضل عِنْدهم من التَّحَرِّي فِي المكسب وَأخذ الْأَمر حَتَّى يبلغهم الإجهاد

فَكَانَ مقامهم فِي ذَلِك مقَام من تنزه عَن شَيْء من كَسبه وَأخذ من كسب غَيره مَا هُوَ أشر مِنْهُ وأخبث فِي الطعمة فغلطوا فِيمَا أقاموه دينا أما الْحجَّة على شَقِيق وَأَصْحَابه فَمن كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام والنبيين من قبله وَخيَار أَصْحَابه من بعده رَضِي الله عَنْهُم فَأَما الْحجَّة من كتاب الله فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم} وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ {رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله} فمدح إقامتهم لذكر الله فِي وَقت التِّجَارَة وَقَالَ عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع} فَأَمرهمْ بترك البيع فِي وَقت مَحْدُود يَوْم الْجُمُعَة وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} فعلمهم كَيفَ يصنعون فِي متاجرهم وبصرهم فِي مكاسبهم وَأما الْحجَّة من سنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(أفضل مَا أكل الرجل من كَسبه) وَقد ذكرنَا مَا كَانَ عَلَيْهِ أكَابِر أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي هَذَا آيَات كَثِيرَة من كتاب الله وأخبار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متواترة وَفِي أقل مِمَّا ذكر يتَبَيَّن خطأ هَذِه الْمقَالة وَأما الْمقَالة الثَّانِيَة فَإِن الْحجَّة عَلَيْهِم فِي ذَلِك أَخذهم الَّذِي تَرَكُوهُ من أَيدي غَيرهم فَإِن كَانَ أَخذهم لذَلِك من أَيدي الأقوياء الَّذين كسبوا الشَّيْء عِنْدهم على حكم كتاب الله عز وَجل وَسنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد سقط عَنْهُم الْعذر فِي الْقعُود وَعَلَيْهِم طلب الشَّيْء من حَيْثُ طلبه هَؤُلَاءِ وَإِن كَانَ الْأَمر عِنْدهم لضعف عَن الْقيام بأحكامه غَيرهم فقد أخذُوا مَا تركُوا من أَيدي أَقوام يُمكن عَلَيْهِم التَّعَدِّي فِي الطّلب والتجاوز للحد من الْكسْب فَأَي الْحَالَتَيْنِ كَانَت حَالهم فَهُوَ خطأ وَالله أعلم وَجلسَ قوم آخَرُونَ وَزَعَمُوا أَن الْجُلُوس عَن الطّلب أفضل عِنْدهم من الْحَرَكَة وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن قَالُوا لما ضمن الله لِلْخلقِ أَرْزَاقهم وَتَوَلَّى فِي ذَلِك كفايتهم وَأخْبر بقسم الشَّيْء فِي الْأَوْقَات الَّتِي قدر إيصالها إِلَيْهِم فِيهَا كَانَ انْتِظَار الْوَقْت وَترك الْحَرَكَة أفضل وَكَانَت الْحَرَكَة إِبَاحَة لِضُعَفَاء الْخلق وَالْحجّة عَلَيْهِم فِي ذَلِك بَيِّنَة بِمَا بَينا من فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا كَانَ أكَابِر الصَّحَابَة عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَن الله جلّ ثَنَاؤُهُ جعل رَسُوله فِي أَعلَى الدَّرَجَات وَأَرْفَع الْمنَازل وَأتم المعارف وأكمل الْعلم وَخَصه من جزيل خصوصيته ورفيع هباته وسني عطاياه مَا بَين بِهِ فَضله على

أكبر الْأَوْلِيَاء وَكَذَلِكَ حركاته وَسَائِر أَعماله جعلهَا الله على قدر الْموضع الَّذِي جعله فِيهِ وَكَانَت أَصْحَابه رضوَان الله عَلَيْهِم على فَضلهمْ وَمَا ذكر من تقدمتهم كَانَت أَعْمَالهم على قدر مواضعهم وَفِيمَا وَصفنَا من ذَلِك واحتججنا بِهِ مَا يتَبَيَّن مِنْهُ خطأ أَصْحَاب هَذِه الْمقَالة وَكَانَ مَا احتجت بِهِ هَذِه الطَّائِفَة الَّتِي زعمت أَن الْقعُود عَن الْحَرَكَة أفضل عِنْدهم وَإِنَّمَا الْحَرَكَة فِي ذَلِك رخصَة لِضُعَفَاء الْخلق عَن الْقعُود حَتَّى يكون الْوَقْت عَلَيْهِم وَأَرَادَ بِمَا فِي أنفسهم فقدموا أنفسهم بخطأ التَّأْوِيل وبزلل الْهوى والرأي على أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى سيرة الْمُرْسلين وَأَقَامُوا الأكابر مثل أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رضوَان الله عَلَيْهِم مقَام الضعْف والوهن تَقْدِيمًا مِنْهُم لأَنْفُسِهِمْ وإيمانا مِنْهُم بخطأ مِنْهُم بِصِحَّة رَأْيهمْ بِلَا خبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا آيَة من كتاب الله عز وَجل وَهَذَا قَول قد تبين خَطؤُهُ من وُجُوه شَتَّى فَأَما أَولهَا فَمَا بَين الله عز وَجل من ذَلِك فِي كِتَابه فَأمر الْمُؤمنِينَ أَن يكون مَأْكَلهمْ من طَيّبَات مَا يَكْسِبُونَ وَأما الْمَعْنى الثَّانِي فَمَا ثَبت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن (أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه) وَأما الْوَجْه الثَّالِث فَمَا كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأكابر أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم

وَأما الْوَجْه الرَّابِع فَمَا دلّ عَلَيْهِ الْعلم وَثبتت عَلَيْهِ الْمعرفَة وَذَلِكَ أَن الله جلّ ثَنَاؤُهُ لما دَعَا إِلَى الثِّقَة بِهِ والتوكل عَلَيْهِ بَين الْعلم عَمَّا أَرَادَهُ من ذَلِك وَالَّذِي بَين الْعلم عَنهُ من ذَلِك من معنى الثِّقَة أَن تكون الْقُلُوب لله عز وَجل مصدقة وَتَكون بوعده موقنة وَتَكون إِلَيْهِ فِي كل حَال سَاكِنة قد أغناها بضمانه عَن النّظر إِلَى شَيْء دونه فَإِذا ملك خَاصَّة الْقُلُوب ذَلِك وأقرت بِهِ الْأَلْسِنَة وحذره الْعلم بِاللَّه تَعَالَى والمعرفة بِهِ جلّ وَعز من أَن يمِيل إِلَى شَيْء دونه فأمنت الْقُلُوب فِي التَّوَكُّل فِي حَقِيقَة من حقائقه وَفِي مقَام شرِيف من مقاماته فَإِن أوجدها الله جلّ ثَنَاؤُهُ فضلا مِنْهُ فِي سعي جارحه أَو دلها الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا وَأَنَّهَا إِلَى الله تَعَالَى مقربة وَفِي حَال السَّعْي بسعيها زَائِدَة بِمَا تعبدت بِهِ أَو ندبت إِلَيْهِ أسرعت إِلَى ذَلِك لما ملكهَا من مُوَافقَة سَيِّدهَا وَجل عِنْدهَا من قدر مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِمَّا يقرب مِنْهُ فَكَانَ السَّعْي عَن تمكن الرَّغْبَة فِي الطَّاعَة الجامعة للقلوب من غير سآمة مِنْهَا لما شَمل فاقتها من خَالص الموهبة وجزيل سناء الخصوصية وَكَانَ السَّعْي فِي ذَلِك لصفاء مَا فِي الْقُلُوب من تمكن السكينَة وحقائق الثِّقَة وَكَانَت الْقُلُوب بسعي الْجَوَارِح فِي ذَلِك زَائِدَة بسعيها متمكنة فِي مرتبتها وَلَا ينقص السَّعْي عَلَيْهَا حَالهَا وَلَا يجرها ذَلِك إِلَّا إِلَى مَا يقْدَح فِي ذكرهَا فَكَانَ هَذَا السَّعْي على مَا وَصفنَا زَائِدَة لَهَا فِي مواصلتها فِي الْقرب إِلَى علو الدَّرَجَات فِي قربهَا وَكَانَ السَّعْي على مَا بَين الله وَرَسُوله من فضل السَّعْي على مَا وَصفنَا مِمَّا افْترض على الْخلق وندبوا إِلَيْهِ على مَعَاني أَحدهَا أَن يكون السَّعْي بالجوارح بَعْدَمَا وَصفنَا من قيام الثِّقَة فِي الْقُلُوب وَتمكن السكينَة منغصا عَلَيْهَا حَال الْقلب موجدا لَهَا النُّزُول عَن مرتبتها فَيكون تَركهَا للسعي لما تَجِد من النَّقْص فَهَذِهِ حَال دون حَال الأقوياء الَّذين سعوا فِي ذَلِك وهم يَجدونَ

فِي ذَلِك الزِّيَادَات والتعالي فِي الْحَالَات وَهَذَا ضعف بَين فِي الْحَال وَإِمَّا أَن يكون مَا وَصفنَا من حَال الْقُلُوب ثَابتا وهم فِيهِ متمكنون وَالسَّعْي زَائِد لَهُم فِي أَحْوَالهم فَيكون التّرْك لَهُم بذلك لِأَن حَال الْفضل فيهم لم تثبت عِنْدهم وَحَال الْقرْبَة فِي ذَلِك لم تبلغهم فَهَذَا تَقْصِير فِي الْعلم أَو تكون الْحَال قد ثبتَتْ عِنْدهم وَالْعلم بِالْفَضْلِ فِي السَّعْي قد بَلغهُمْ وهم يؤثرون الْقعُود فَهَذَا حَال تكلّف وَخلاف لما بَين الله تَعَالَى من الْفضل وَدلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَكَانَ عَلَيْهِ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا بَينه الْعلم ودلت عَلَيْهِ الْمعرفَة فقد تبين فضل السَّعْي وَالْحَرَكَة على مَا وَصفنَا وَهِي أَعلَى الدَّرَجَات فِي كل حَال عندنَا وَالله أعلم فَإِذا أردْت أَن تَأتي سوقك أَو شَيْئا لمعاشك أَو صَنْعَة أَو وكَالَة أَو غير ذَلِك لطلب الْحَلَال والاتباع لسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وللثواب فِي نَفسك وَعِيَالك والاكتساب عَلَيْهِم والاستغناء عَن النَّاس والتعطف على الْأَخ وَالْجَار وَأَدَاء الزَّكَاة وكل حق وَاجِب فأمل فِي ذَلِك أَن تلقى الله عز وَجل ووجهك كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر كَمَا روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (من طلب حَلَالا استعفافا عَن الْمَسْأَلَة وكدا على عِيَاله وتعطفا على جَاره لَقِي الله وَوَجهه كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر) وتنوي الْوَرع فِي سوقك وَأَن تدع كل ربح أَو أجر أَو إِصَابَة تعرض لَك فِيهِ وَلَو كَانَت الدُّنْيَا كلهَا إِن عرض لَك فِيهَا مَا كره الله تَعَالَى

وتنوي الْإِخْلَاص فِي ورعك فِي تجارتك وَمن تشتري مِنْهُ أَو تعامله فِي صَنْعَة أَو وكَالَة وتنوي عون الْمُسلم فِي تجارتك إِذا اسْتَعَانَ بجاهل أَو بنصرك أَو غير ذَلِك وَأَن تذكر الله تَعَالَى فِي سوقك محتسبا كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث (إِن الله عز وَجل تعجب من الَّذِي يذكرهُ فِي السُّوق)

باب صفة الورع

- بَاب صفة الْوَرع - قلت رَحِمك الله مَا الْوَرع قَالَ المجانبة لكل مَا كره الله عز وَجل من مقَال أَو فعل بقلب أَو جارحة والحذر من تَضْييع مَا فرض الله عز وَجل عَلَيْهِ فِي قلب أَو جارحة قلت وبماذا ينَال قَالَ بالمحاسبة قلت وَمَا المحاسبة قَالَ التثبت فِي جَمِيع الْأَحْوَال قبل الْفِعْل وَالتّرْك من العقد بالضمير أَو الْفِعْل بالجارحة حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ مَا يتْرك وَمَا يفعل فَإِن تبين لَهُ مَا كره الله عز وَجل جَانِبه بِعقد ضمير قلبه وكف جوارحه عَمَّا كره الله عز وَجل وَمنع نَفسه من الْإِمْسَاك عَن ترك الْفَرْض وسارع إِلَى أَدَائِهِ قلت وَمَا يتْرك وَمَا يجانب قَالَ أَرْبَعَة أَشْيَاء شَيْئَانِ وَاجِب تَركهمَا وشيئان ترك أَحدهمَا اسْتِبْرَاء خوف أَن

يكون مِمَّا كره الله عز وَجل وَالْآخر يتْرك احْتِيَاطًا وتحرزا فَأَما الشيئان الْوَاجِب تَركهمَا فأحدهما مَا نهى الله عز وَجل من العقد بِالْقَلْبِ على الضلال والبدع والغلو فِي القَوْل عَلَيْهِ بِغَيْر الْحق وَلَا يعْتَقد إِلَّا الصَّوَاب وَالْآخر مَا نهى الله عز وَجل عَنهُ من الْأَخْذ وَالتّرْك من الْحَرَام بالضمير والجوارح وَأما أحد الشَّيْئَيْنِ الآخرين فَترك الشُّبُهَات خوف مواقعة الْحَرَام وَهُوَ لَا يعلم اسْتِبْرَاء لذمته لتَمام الْوَرع كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من ترك الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لذمته وَدينه وَعرضه من وَاقع الشُّبُهَات فَكَأَنَّمَا وَاقع الْحَرَام) وَقَالَ زَكَرِيَّا عَن الشّعبِيّ عَن النُّعْمَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَاد عَلَيْهِ غَيره فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فقد وَاقع الْحَرَام كَالرَّاعِي حول الْحمى يُوشك أَن يَقع فِيهِ) وَأما الشَّيْء الرَّابِع فَترك بعض الْحَلَال الَّذِي يخَاف أَن يكون سَببا وذريعة إِلَى الْحَرَام كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (لَا يكون العَبْد من الْمُتَّقِينَ حَتَّى يدع مَا لَا بَأْس بِهِ حذرا لما بِهِ بَأْس) وَذَلِكَ كتركه فضول الْكَلَام لِئَلَّا يُخرجهُ ذَلِك إِلَى الْكَذِب والغيبة وَغَيرهمَا مِمَّا حرم الله تَعَالَى القَوْل بِهِ وَيتْرك بعض المكاسب مِمَّا تقل

فِيهِ السَّلامَة للمكتسبين ويدع طلب الْإِكْثَار من المَال خوفًا أَلا يقوم بِحَق الله جلّ وَعز فِيهِ إِذا عزت فِيهِ أَسبَاب الْحَلَال وَقل الْعَامِلُونَ بالورع وَالتَّقوى وَترك مجالسة من قد جرب أَنه لَا يسلم مَعَه وفراره من الشُّبْهَة خوفًا أَلا يسلم ويقل من معرفَة النَّاس خوفًا أَلا يسلم ويغض عَن بعض الْمطعم إِذا أحس من نَفسه أَن ذَلِك يبطرها فَهَذِهِ الْخلَّة عون على الْوَرع لَا وَاجِب عَلَيْهَا تَركهَا ومجانبتها وكما قَالَ عون بن عبد الله قَالَ بعض الْحُكَمَاء دع أَن تحلف صَادِقا وَهُوَ لَك حَلَال مَخَافَة أَن تعود لسَانك الْيَمين فتحلف كَاذِبًا ودع النُّصْرَة مِمَّن ظلمك مَخَافَة أَن تعتذر وَقَالَ الله عز وَجل {وَلَا تستوي الْحَسَنَة وَلَا السَّيئَة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن} فقد سمى الْعَفو حَسَنَة والنصرة للنَّفس سَيِّئَة فَمَا زَالَت التَّقْوَى بالمتقين حَتَّى تركُوا الْكثير من الْحَلَال مَخَافَة الْحَرَام وَأهْدى رجل لِابْنِ عمر أثوابا مروية فَردهَا وَقَالَ مَا رددناها عَلَيْك إِلَّا مَخَافَة الْكبر وَكَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ يسْرع الْمَشْي وَيَقُول هُوَ أبعد لي من الزهو وَعمر رَضِي الله عَنهُ طلق امْرَأَته وَكَانَت أحب النَّاس إِلَيْهِ حِين ولي الْخلَافَة مَخَافَة أَن يطيعها فِي غير الْعدْل فَلَمَّا قواه الله عز وَجل أرسل يخطبها فَوَجَدَهَا الرَّسُول قد مَاتَت وَغير ذَلِك تركنَا ذكره لكثرته وَاعْلَم أَن أصل أمورك كلهَا وتمامها وَالَّذِي يرْتَفع بِهِ الْعَمَل ويزكو هُوَ أصلان

أَحدهمَا سَلامَة الصَّدْر لجَمِيع الْمُسلمين وَالثَّانِي إصْلَاح الكسرة والمعرفة من أَيْن قرصتك والْآثَار فِي تَصْحِيح هذَيْن الْأَصْلَيْنِ تروى من طرق شَتَّى كَثِيرَة وَلَكِن أردنَا الِاخْتِصَار فتجار هَذَا الزَّمَان كَأَنَّهُمْ لَا يُؤمنُونَ بِيَوْم الْحساب من الدُّخُول فِي كل مَا لَا يجوز والتسارع إِلَى كل مأثم وَإِلَى كل مَا لَا يجوز من المكاسب وَترك مَا تعهدوا بِهِ وركوب مَا نهوا عَنهُ لَا يتورعون عَن مكاسب أَمْوَال الظَّالِمين وَلَا يجانبون أهل الرِّيَاء وَلَا أهل قطع الطَّرِيق وَالسَّلب وَلَو قيل لَهُم هَل لكم فِي الدُّنْيَا حَرَامًا وتعذبون عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة وتنغص عَلَيْكُم عيشتكم فِي الدُّنْيَا بالهموم وَالْأَحْزَان والآلام بعد أَن تَكُونُوا مكثرين مِنْهَا لرضوا بعد أَن تكون الدُّنْيَا عَلَيْهِم موسعة إِلَّا من شَاءَ الله مِنْهُم فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فَإِذا رَأَوْا رجلا ترك مَا أَقبلُوا عَلَيْهِ من هَذِه الْفُنُون توجوه وأكرموه وَهَذَا فعل الْعُقَلَاء مِنْهُم وَأما الحمقاء فَإِنَّهُم يزدرونه ويؤنبونه وَإِذا مدحه أهل الْعقل مِنْهُم وَرفعُوا قدره أحب الثَّنَاء فَهَلَك وَهُوَ لَا يعلم فَكُن حذرا متيقظا فِي جَمِيع أمورك واستعن بِاللَّه فِي طلب السَّلامَة واسأل الله الْعَافِيَة من فتنته وبليته وَقَالَ ثَلَاث خلال تلزمها قَلْبك الْخلَّة الأولى الْيَقِين بِأَن الْمَقْدُور يَأْتِيك وَإِن لم يقدر لَا يَأْتِي فَمن أَيقَن بذلك أورث الله جلّ وَعز قلبه خَصْلَتَيْنِ

إِحْدَاهمَا أَن يَأْمَن قلبه من أَن يفوتهُ مَا قدر لَهُ وَالثَّانيَِة أَن ييأس من أَن ينَال مَا لم يقدر لَهُ فَمن لزم قلبه الْأَمْن أَلا يفوتهُ رزقه وَإِلَّا يأس من أَن ينَال مَا لم يقدر لَهُ قل همه وغمه وخضوعه لِلْخلقِ والمدارة لَهُم لِأَن ينَال بهم مَنْفَعَة فَهَذَا الْغنى بِاللَّه عز وَجل والخلة الثَّانِيَة ذكر اطلَاع الله عز وَجل على ضَمِيره وجوارحه فَإِن ذَلِك يُورث لَهُ الْحيَاء فَإِذا عرض لَهُ شَيْء مِمَّا يكره الله عز وَجل ذكر النّظر وَخَافَ المقت إِن ركن إِلَى ذَلِك وَإِن عرض لَهُ مَا فِيهِ النَّقْص وَإِن لم يكن محرما استحيى من الله تَعَالَى أَن يرَاهُ مقصرا عَمَّا يحب مَوْلَاهُ مَعَ مَا قد استودعه من الْعلم وعرفه من عَظِيم قدره وكبرياء جَلَاله جلّ وَعز وَجُمْلَة ذَلِك أَن تَغْدُو إِلَى سوقك وَأَن تكون فِي جَمِيع أحوالك فِي سوق كنت أَو فِي غَيرهَا فتلزم قَلْبك الْيَقِين والحذر وتذكر الِاطِّلَاع بِالنّظرِ فباليقين تستريح وبالحذر تتيقظ وبذكر النّظر تستحيي من النَّاظر الْأَعْلَى تبَارك وَتَعَالَى

باب مذاهب السلف في الورع

- بَاب مَذَاهِب السّلف فِي الْوَرع - سَأَلت أَبَا جَعْفَر عَن الْوَرع فَقَالَ فِيهِ ثَلَاثَة أقاويل أَحدهمَا ترك مَا حاك فِي الصُّدُور من جَمِيع الحكايات وَالْقَوْل وَالثَّانِي الْوُقُوف عِنْد كل شُبْهَة إِذا لم يتَبَيَّن فِيهَا الْحَلَال من الْحَرَام وَالْقَوْل الثَّالِث مَا رَوَاهُ عَطِيَّة السَّعْدِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تكون حَقِيقَة من الْمُتَّقِينَ حَتَّى تدع مَا لَا بَأْس بِهِ مَخَافَة مَا بِهِ الْبَأْس) وَهَذِه الثَّلَاثَة الْأَقَاوِيل قد قصد إِلَيْهَا وَإِلَى مَعَانِيه أَصْنَاف من الْعلمَاء وَأهل الحَدِيث والقراء والمتصوفة فَأَما ترك مَا حاك فِي الصُّدُور فَهُوَ مَذْهَب أبي عبد الله سُفْيَان بن سعيد بن مَسْرُوق بن مُنْذر الثَّوْريّ وَإِبْرَاهِيم بن أدهم ووهيب بن

الْورْد وَمُحَمّد بن يُوسُف الْأَصْبَهَانِيّ ويوسف بن أَسْبَاط وَعبد الله بن الْوَلِيد الْمدنِي وَشُعَيْب بن حَرْب وَالْقَوْل الثَّانِي يذهب إِلَيْهِ جمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث وناس صلحاء مِمَّن سكن الثغر مِنْهُم مخلد بن الْحُسَيْن وَعلي بن بكار وَقد رَوَاهُ عَن الْأَوْزَاعِيّ وَيُقَال أَنه فتيا ابْن الْمُبَارك بِالْمصِّيصَةِ وَمذهب طوائف من أهل الْبَصْرَة وَقد ذكر ذَلِك عَن عبد الله بن دَاوُد وَهُوَ مَذْهَب مُحَمَّد بن مقَاتل بعبادان وَكثير من المتفقهة فِي سَائِر الْأَمْصَار وَالْقَوْل الثَّالِث قد ذكر عَن طَاوس وَمُحَمّد بن سِيرِين وَأَيوب وَابْن عون وَيُونُس بن عبيد وواصل مولى ابْن عُيَيْنَة

وَهُوَ مَذْهَب عَمْرو بن مرّة وَقد ذهبت إِلَيْهِ أنَاس بأطراف الثغور فَلم يَأْخُذُوا مِنْهَا شَيْئا لَا من حلالها وَلَا من حرامها وَلَا من شبهاتها إِلَّا خرقا تستر الْعَوْرَة وفلقا تسد الجوعة ثمَّ تَفَرَّقت بهم الطّرق للآخرة فِي اخْتِيَار المآكل والملابس فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى الرُّخْصَة وَرَأَتْ طَرِيق الْفقر والتقلل فِيمَا لم يكن حَرَامًا إِمَّا نصا فِي التَّنْزِيل وَإِمَّا ثَابتا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو إِجْمَاع الْمُسلمين وصاروا إِلَى الرُّخْصَة فِيهِ واختارت طَائِفَة من الْقُرَّاء والمتصوفة التقلل من كد الْيَد وعرق الجبين وَالسَّعْي فِي طلب الْأَسْبَاب ليأخذوا الكسرة واجتهدوا فِي طلب ذَلِك مَعَ أهل الثغور خوفًا أَن يَكُونُوا من أعوان الظَّالِمين وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بآيَات من التَّنْزِيل مِنْهَا قَوْله عز وَجل {وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وأخبار الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَمن أعانهم وَصدقهمْ فلست مِنْهُ وَلم يرد على الْحَوْض) وَذَهَبت طَائِفَة من أهل الْفِقْه إِلَى أَنه لَا بَأْس بمعاونتهم إِذا لم يكن ظلما بِعَيْنِه وَذَلِكَ أَنهم تأولوا الحَدِيث على معنى من أعانهم على ظلمهم فَمن لم يُعِنْهُمْ على الظُّلم وَأَعَانَهُمْ على سوى ذَلِك فَهُوَ مُطلق حَلَال عِنْدهم وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى ترك المعونة لَهُم والمباينة لَهُم وَاحْتَجُّوا بأخبار كَثِيرَة فِي المباينة من ذَلِك حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لعنت الْخمر وبائعها ومبتاعها

وحاملها والمحمولة إِلَيْهِ وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنهَا) وَاحْتَجُّوا بِأَن سعد أحرق كرمه وَقَالَ بئس الشَّيْخ أَنا إِن أَنا بِعْت الْخمْرَة وَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا عَن كَلَامهم وَعَن مُبَايَعَتهمْ وَأمرهمْ أَن يعتزلوا نِسَاءَهُمْ وَلم يكن التَّخَلُّف مِنْهُم على نفاق وَإِنَّمَا كَانَ ذَنبا حَتَّى أنزل الله جلّ وَعز تَوْبَتهمْ وَقَالَت فرقة المعونة لَهُم حرَام فِي كل مَكَان لَهُم فِيهِ مَنْفَعَة وَهُوَ مَذْهَب طَائِفَة من المتصوفة مَعَهم جهل كَبِير وغلظة وَقَالَت طَائِفَة بيع السِّلَاح والكراع مِنْهُم مَعْصِيّة وَمَا سوى ذَلِك فَترك المعونة لَهُم وَترك متابعتهم أفضل وهم طوائف النساك والقراء مِمَّن ينتحل مَذْهَب أبي عبد الله سُفْيَان بن سعيد الثَّوْريّ والفضيل بن عِيَاض والمعافى بن عمرَان ووكيع بن الْجراح وَأبي إِسْحَاق الْفَزارِيّ وَعِيسَى بن يُوسُف ويوسف بن أَسْبَاط وَابْن الْمُبَارك وَإِبْرَاهِيم بن أدهم وَعباد بن عتبَة الْخَواص ومخلد بن الْحُسَيْن

وَعلي بن بكار وَسليمَان الْخَواص وقاسم بن يزِيد الْجرْمِي وَزيد بن أبي الزَّرْقَاء وَابْن أبي ذِئْب وَأحمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل وَبشر بن الْحَارِث الحافي وَعبد الْوَهَّاب الْوراق وَمن سلك مسلكهم وسبيلهم من أَصْحَاب الحَدِيث مِمَّا يحسن فِي قِرَاءَته وساعدهم على ذَلِك طوائف من المتصرفة بِمَكَّة واليمن وسواحل الشَّام وعبادان وَذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ لَا بُد من أَمارَة برة أَو فاجرة وَالدَّار لَا تصلح إِلَّا بِإِمَام يصلى خَلفه وترفع إِلَيْهِ الْأَحْكَام وَتصْلح الطّرق وَتعبد الجسور وتعمر الْمَسَاجِد الْعِظَام وتبنى المنائر للحراس بالثغور وتعقد الْأَوْلَوِيَّة على الصوائف وَغَيرهم وَيُقِيم الْحَج وَيُعْطِي الْفَيْء وَيقسم الْغَنِيمَة ويجبي الْخراج ويفرض الأعطية ويدون الدَّوَاوِين ويعول الْفُقَرَاء وَيُعْطِي الغارمين فَإِذا أحسن وَاتَّقَى كَانَ صلاحا للرعية وَإِذا أَسَاءَ وفجر كَانَ فَسَاده جورا فِي الرّعية وَالصَّبْر على الْإِقَامَة مَعَه وَترك مُفَارقَة الْجَمَاعَة فِي الْخُرُوج من إِقَامَته والمعاملة فِي الشِّرَاء وَالْبيع وَالتِّجَارَة والصنائع فِي دولته جَائِز وَيكون بَيْنك وَبَينه ستر حَتَّى إِذا رَأَيْت حليتهم على أحد إجتنبته بِعَيْنِه وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ إِن ضربت أَو ظلمت فاصبر

وَقَالَ حُذَيْفَة لَيْسَ من السّنة أَن تشهر السِّلَاح فِي وَجه السُّلْطَان وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (سَتَرَوْنَ بعدِي فتنا وأثرة) قيل فَمَا تَأْمُرنَا بِهِ يَا رَسُول الله قَالَ (أعْطوا الْحق الَّذِي عَلَيْكُم وسلوا الله الَّذِي لكم) وَهَذَا الحَدِيث أصل عَظِيم من أصُول الْإِسْلَام رَوَاهُ الْأَعْمَش وَمَنْصُور عَن يزِيد بن وهب عَن عبد الله بن مَسْعُود

باب مذاهب السلف في المطاعم والملابس

- بَاب مَذَاهِب السّلف فِي المطاعم والملابس - وَقد تكلم طوائف من الْفرق بمذاهب فِي المجانية وصفاء الْمطعم والملبس يَخْتَلِفُونَ ويتقاربون فَمنهمْ من اخْتَار الْعُزْلَة عَن الْأَئِمَّة وَالسُّلْطَان وأعوانهم بأعيانهم وَفرْقَة قد جانبت كل من اتَّصل بهم وَهَذِه الطَّائِفَة عِنْد جمَاعَة من الْعلمَاء ركبت الغلو فِي الدّين وَطَائِفَة اعتزلت الْفرق واحتجت بِمَا حَدثنَا بِهِ عُثْمَان بن أبي شيبَة قَالَ حَدثنَا أَبُو أُسَامَة قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ سَمِعت أَبَا التياح يخبر عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (هَلَاك أمتِي على أَيدي أغلمة من قُرَيْش) قَالَ قَائِل يَا رَسُول الله مِمَّا تَأْمُرنَا لَو قد وَردت علينا قَالَ (لَو أَن النَّاس اعتزلوهم) وروى جمَاعَة عَن الْوَلِيد بن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر عَن بسر بن عبد الله عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ عَن حُذَيْفَة قَالَت قلت يَا رَسُول الله إِن أدركني رفاق لَيْسَ لَهُ إِمَام وَلَا جمَاعَة قَالَ (فاعتزل تِلْكَ الْفرق حَتَّى تَمُوت على ذَلِك)

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْأَنْصَار (أَنكُمْ سَتَرَوْنَ بعدِي فتنا وأثرة فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي على الْحَوْض) وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لأبي ذَر حَيْثُ قَالَ لَهُ كَيفَ أَنْت إِذا رَأَيْت حِجَارَة الزَّيْت قد غرقت فِي الدَّم (اصبر حَتَّى تلْحق بِمن أَنْت مَعَه) وَالْأَخْبَار فِي هَذَا كَثِيرَة وَأما الأكياس فَإِنَّهُم أخذُوا الْقُوت قصدا ورفضوا مَا سوى ذَلِك وَقد كَانَ الْأَوْزَاعِيّ يَقُول اشتبهت الْأُمُور فَلَيْسَ نَأْخُذ غير الْقُوت وَقَالَ الْحسن إِن المكاسب قد فَسدتْ خُذُوا مِنْهَا الْقُوت وَقَالَ أَبُو وَائِل ومسروق إِن أهل بَيت الْكُوفَة يُوجد على مائدتهم رغيف من حَلَال لأهل بَيت غرباء وَيُقَال إِن الله عز وَجل ليحجب الدُّعَاء بالطعمة أَو بالكسرة يأكلها الْمَرْء من غير حلهَا وَفِي إِجْمَاعهم من طَابَ مطعمه صفت أَعماله واستجيبت دَعوته ثمَّ قصدت طوائف من الْقُرَّاء والمتصوفة والنساك إِلَى مَذَاهِب فِي الْكسْب فطائفة اخْتَارَتْ الْمُبَاح من الْجبَال والأودية والرمال من ورق الأثل ولقط الْبذر والحشائش الَّتِي لَهَا ثمن إِذا ادخرت فَجمعُوا مِنْهَا لصيفهم فِي شتائهم

وَطَائِفَة اخْتَارَتْ مَا ألقته الرِّيَاح وَمَا ظهر من الْحَشِيش والكلأ على وَجه الأَرْض من كلأ الصَّحرَاء إِذا اشْتَدَّ بهم الْجُوع وَطَائِفَة اخْتَارَتْ المنبوذ الْمَطْرُوح الملقي وَاحْتَجُّوا لذَلِك بِمَا رَوَاهُ هِشَام عَن قَتَادَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يهوي إِلَى التمرة الملقاة فلولا أَنه يخْشَى أَن تكون من تمر الصَّدَقَة لأخذها وَأَن أَبَا أُمَامَة أَخذ كسرة من مَسْجِد حمص فَأكلهَا وَكَانَ أويس الْقَرنِي يَأْخُذ الشَّيْء من الْمَزَابِل وَغَيرهَا وَطَائِفَة اخْتَارَتْ الْمَسْأَلَة لأخذ الْقُوت مِنْهَا كَمَا سَأَلَ الْخضر مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام عِنْد الْحَاجة وَاحْتَجُّوا بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (رب أَشْعَث أغبر ذِي طمرين يدْفع بالأبواب لَو أقسم على الله لَأَبَره) وَذَلِكَ حِين اشتدت عَلَيْهِم مَذَاهِب إحْيَاء الْحَلَال وخافوا من الْوُقُوع فِي الْحَرَام وَطَائِفَة بالثغر ونواحي الشَّام اخْتَارَتْ ان تجمع من اللقاط خلف الحصادين من الْقَمْح وَالشعِير وَترى أَن ذَلِك دَلِيل قَاصِر بتتبع الحصادين فَالَّذِينَ لَا يَشكونَ فِي أَنه حَلَال لَيْسَ يَنْبَغِي قَوْلهم فِي عصرنا هَذَا وَطَائِفَة مِنْهُم تجنبت اللقاط وَرَاء الحصادين فِي أَرض اشْتريت بِمَال الظَّالِمين أَو من خطّ قطائع اختطها السُّلْطَان لأوليائه وَمن القبالات من الْأَرْضين الَّتِي أخرج أَهلهَا مِنْهَا وَطَائِفَة فتشت الْوَرع فَاخْتَارَتْ كد الْيَد أَو ضرب السَّيْف فِي سَبِيل الله على اللقاط والحصاد وَقَالُوا لَيْسَ للقاط أصل مُتَقَدم فِي

عهد الْأَئِمَّة الماضيين وهم على ذَلِك يجمعُونَ على أَن ضرب السَّيْف تَحت كل راية مَعَ كل أَمِير بر أَو فَاجر مَاض فِي كل عصر وَفِي كل زمَان لَا يتَخَلَّف عَن ذَلِك إِلَّا مُخطئ أَو جَاهِل وَطَائِفَة اخْتَارَتْ الرِّبَاط إِلَّا أَن يكون لأهل الْإِسْلَام حَاجَة من إِظْهَار الْعَدو وطلبهم ودخولهم إِلَى دَار الْإِسْلَام فأوجبوا ضرب السَّيْف فِي هَذَا الْحَال حَتَّى إِذا استغنت الْأمة عَن ذَلِك رجعُوا إِلَى مَا اعتقدوه من الرِّبَاط وَاحْتَجُّوا بِأَن ذَلِك فِي آخر الزَّمَان أفضل وَرووا فِي ذَلِك أَحَادِيث واستعملوا لَهَا مقاييس وَهَذِه الطَّائِفَة غلطها كثير وَأكْثر الْعلمَاء والأغلب فِي جَمِيع الْأَمْصَار يرَوْنَ الْغَزْو وَالْحج وَالشِّرَاء وَالْبيع والمعاملات والوكالات والصنائع مَاضِيَة أبدا مذ كَانَ أول الْإِسْلَام إِلَى آخر عِصَابَة يُقَاتلُون الدَّجَّال لَا يضر المتقي الْحَافِظ لدينِهِ جور جَائِر وَلَا ظلم ظَالِم إِذا مَكَان فَقِيها متخلصا فِي تِجَارَته وصنعته يكابد أَن يسلم من أكل الشُّبْهَة وَغير ذَلِك يجاهده بِالنَّفَقَةِ والمكاسب لَا تفْسد بجور الْأَئِمَّة إِنَّمَا تفْسد بترك اسْتِعْمَال الْفِقْه وَالْعلم وَقد تقدم فِي صدر هَذِه الْأمة من الْفِتَن وَالِاخْتِلَاف والتفرق وَالنَّاس يشْتَرونَ ويبيعون وَقد قتل أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان ظلما وعدوانا وَالنَّاس يتجرون فِي تجاراتهم بِالْمَدِينَةِ وَغَيرهَا وفتنة الْجمل وصفين وَابْن الزبير وَالْعراق والجماجم بِالْبَصْرَةِ والكوفة وَفِي جَمِيع الْعرَاق وخارجها ونواحي الْأَطْرَاف وَالنَّاس يشْتَرونَ ويبيعون وَبعد فتْنَة مُحَمَّد الْأمين والمأمون الَّتِي قَامَت بِالشَّام ثَمَانِي عشرَة سنة وبالعراق أَربع سِنِين وَفِي سَائِر الْبِلَاد أَيْضا وَالْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء فِي كل بلد والمحدثون يَوْمئِذٍ متوافرون وَالنَّاس يبيعون ويشترون لَا يُنكر ذَلِك

أحد مِمَّن علمناه إِلَّا رجلَيْنِ هما عِنْد الْأمة مخبطين عبد الله بن يزِيد وَعَبْدك الصوفيين فَإِنَّهُمَا أفسدا وحرما الْكسْب وأبت الْأمة إِلَّا خلاف مَا قَالَا ثمَّ اخْتلف النَّاس فِي الْمِيرَاث يكون الرجل يَرث المَال وَأَبوهُ ظَالِم أَو جَائِر فِي ولَايَته أَو خالط مَاله غصب أَو مزج حَلَالا بِحرَام فَقَالَت طَائِفَة من المتفقهة الْمِيرَاث لَهُ حَلَال والوزر على من اكْتسب المَال وَقد طَابَ هَذَا المَال لوراثه وَقَالَت طَائِفَة يحْتَاط فِي هَذَا المَال فَإِن كَانَ يعلم أَن أَبَاهُ كَانَ لَهُ مَال قبل أَن يخالط مَاله الظُّلم أخرج مِنْهُ مَا يعلم أَنه قد زَاد فِي مَال أَبِيه وَقَالَت طَائِفَة من الْقُرَّاء والمتصوفة انتحلت رَأْي سُفْيَان الثَّوْريّ وجعلن دينا الْخُرُوج من كُله احْتِيَاطًا لدينِهِ وَقد روى غير وَاحِد أَن أَبَاهُ قد ظلم فَعرف أُولَئِكَ المظلومين فَأدى إِلَيْهِم مظالمهم وساعدهم على ذَلِك أهل الْفِقْه وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَمَالك بن أنس وَبِه أفتى أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ وَعبد الله بن إِدْرِيس

باب مذاهب السلف في الشبهات ومعناها

- بَاب مَذَاهِب السّلف فِي الشُّبُهَات وَمَعْنَاهَا - وَاخْتلفت النَّاس فِي معنى الشُّبْهَة فَقَالَت طَائِفَة إِنَّمَا هُوَ الْحَلَال أَو الْحَرَام الَّذِي هُوَ ضد الْحَلَال وَلَا منزلَة ثَالِثَة إِلَّا مَا حذر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ فَقَالَ (لَا تقربُوا أَو تدنوا من الْحَرَام) فَسُمي ذَلِك شُبْهَة كَالَّذي يرتع حول الْحمى يُوشك أَن يَقع فِيهِ قَالُوا فخارج الْحمى حَلَال وداخله حرَام وَقَالَت طَائِفَة الشُّبْهَة سَاقِطَة وَذَلِكَ أَن علمهَا غير مفترض لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) وَإِنَّمَا اتَّقوا الْعَمَل بِالشُّبْهَةِ مَخَافَة التَّزْكِيَة بِأَن يَكُونُوا من أُولَئِكَ الْقَلِيل الَّذين يعلمونها وَقَالَت طَائِفَة الْعَمَل بذلك وَاجِب ليطيب للمرء منكحه ومطعمه ومشربه وملبسه وشراؤه وَبيعه وَهُوَ متعبد يَأْكُل الْحَلَال وإمضائه قَالُوا والشبهة هِيَ مَا لم يعرف أحلال بِعَيْنِه أم حرَام وَالْوُقُوف فِي هَذَا الْموضع فرض وَقَالَت طَائِفَة لَيْسَ علمهَا بِفَرْض وَيَأْكُل مِنْهَا لِأَنَّهُ فِيهَا حَلَالا

وَإِنَّمَا كَانَ أكله من الْحَلَال وَقَالَت طَائِفَة التَّحَرُّز من ذَلِك أفضل فَإِذا وجد السَّبِيل إِلَى غَيره لم يحل لَهُ أكل الشُّبْهَة وَهُوَ يجد الْحَلَال الْمُطلق الْمُبَاح وَقَالَت طَائِفَة الشُّبْهَة لَيست تعلم فِي الْأَمْوَال لِأَن المَال لَا يعلم إِلَّا حَلَالا أَو حَرَامًا وَإِذا اخْتَلَط دِينَار بِعشْرَة دَنَانِير أَو مائَة دِينَار فِي ألف وَكَذَلِكَ الْوَرق فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أَن يخرج دِينَارا أَو درهما إِذْ لَا يُمكنهُ أَن يخرج ذَلِك الدِّينَار بِعَيْنِه وَدِرْهَم مَكَان دِرْهَم ودينار مَكَان دِينَار جَائِز بِاتِّفَاق الْفُقَهَاء وَقد ذهبت طَائِفَة إِلَى أَنه لَو خلط دِينَارا من غصب أَو ظلم ومازجه دِينَار آخر حَلَال فاكتسب بهما فربح عَلَيْهِمَا فَلهُ نصف ذَلِك الرِّبْح وَيرد على من اغتصبه أَو ظلمه ذَلِك الدِّينَار وَمَا ربح عَلَيْهِ فَإِن كَانَ ذَلِك الدِّينَار مغمورا فِي مائَة دِينَار فَلهُ بقسط ذَلِك يُؤَدِّيه إِلَى من ظلمه أَو إِلَى وَارِث من ظلمه أَو يتَصَدَّق بِهِ على الْمَسَاكِين إِن لم يجده وَقَالَت طَائِفَة وَأكْثر الْفُقَهَاء لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا مَا ضمن وَهَذَا الدِّينَار فِي ضَمَانه وَقَالَت طَائِفَة الشُّبْهَة مَا كَانَ أَكْثَرهَا حَلَالا وَإِنَّمَا اعْترض عَلَيْهَا فَدخل فِيهَا مَا يظْهر أَنه حرَام فَهُوَ يَأْكُل من الشُّبْهَة أبدا الْعلَّة مَا غلب من الْحَلَال وَقَالَت طَائِفَة الشُّبْهَة الَّتِي أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عدي بن حَاتِم حِين قَالَ لَهُ أرسل كَلْبِي على الصَّيْد فأجده وَقد اخْتَلَط مَعَه كلاب فَأمره عَلَيْهِ

السَّلَام أَلا يَأْكُل فَلَعَلَّهُ قَتله غير كَلْبه وَكَذَلِكَ إِذا رمى صيدا وَرمى غَيره فَلَا يدْرِي أَي الرميتين قتلته بالذكاة أَو غير الذَّكَاة وَكَذَلِكَ الصَّيْد يتردى من جبل أَو يهوي فِي بِئْر فَلَا يدرى بِأَيِّهِمَا كَانَ قَتله وَكَذَلِكَ الرجل يُطلق إِحْدَى امرأتيه فَلَا يدرى أَيَّتهمَا طلق أَو يعْتق أحد عبديه فَلَا يدرى أَيهمَا أعتق فالوقوف هَا هُنَا والورع وَاجِب وَقَالَت فرقة الشُّبْهَة فِي الْأَمْوَال وَالنِّكَاح غير ذَلِك لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاطبهم بِالشُّبْهَةِ وهم يعلمُونَ ذَلِك وَقد رُوِيَ هَذَا الْخَبَر عَن الشّعبِيّ عَن النُّعْمَان بن بشير رَوَاهُ زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد ومغيرة وَأَبُو السّفر وَمُجاهد ومطرف فِي جمَاعَة سواهُم عَن الشّعبِيّ وَرُوِيَ عَن ابْن عمر وَجَابِر رَضِي الله عَنْهُمَا نَحْو مَا قَالَه النُّعْمَان بن بشير وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود حِين أَكثر النَّاس عَلَيْهِ يسألونه فَقَالَ الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين وَبَينهمَا شُبُهَات وَقَالَ ابْن عمر دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك وَقَالَ ابْن مَسْعُود الْإِثْم مَا حاك حول الْقُلُوب مَعَ مَا قد رُوِيَ عَن الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي التمرة الملقاة (لَوْلَا أَنِّي أخْشَى أَن تكون من تمر الصَّدَقَة لأكلتها) وَنهى عدي بن حَاتِم عَن أكل الصَّيْد إِذا اخْتلطت الْكلاب المعلمة وَغَيرهَا وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة عتبَة وَعبد بن زَمعَة فَقَالَ عبد بن زَمعَة هُوَ أخي ولد على فرَاش أبي فَقَالَ (هُوَ لَك يَا عبد الْوَلَد

للْفراش وللعاهر الْحجر واحتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة) للشبه الَّذِي رأى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ رأى شبها بَينا بِعَيْنيهِ وَنهى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كسب الْأمة حَتَّى يعلم من أَيْن كسبت وَأمر محيصة حِين سَأَلَهُ عَن كسب غُلَامه الْحجام أَن يطعمهُ الرَّقِيق ويعلف مِنْهُ الناضح وَاخْتلف النَّاس فِيهِ فَقَالَت طَائِفَة كسب الْحجام خَبِيث لِأَنَّهُ قد رُوِيَ فِي الحَدِيث أَنه سحت وَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محيصة أَن يَأْكُل من كسب الْحجام وَقَالَت طَائِفَة كسب الْحجام حَلَال وَاحْتَجُّوا بِابْن عَبَّاس وَأنس بن مَالك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطى الْحجام وَلَو كَانَ حَرَامًا لم يُعْطه وَقد ذهبت طَائِفَة إِلَى تَأْوِيل حَدِيث محيصة بِأَن المكاسب بَعْضهَا أطيب من بعض وَأَعْلَى وفيهَا أدنى من بعض والمستنصح إِذا فزع إِلَى الناصح أَجَابَهُ بِالنَّصِيحَةِ فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محيصة بالتنزه عَنهُ حِين وجده فَقَالَ (أما أَنْت فَلَا تَأْكُل وَلَكِن أطْعمهُ الرَّقِيق) وَلم يكن يُبِيح لَهُم إطْعَام الرَّقِيق من حرَام

باب معنى التعاون على الإثم والعدوان

- بَاب معنى التعاون على الْإِثْم والعدوان - وَقد تنازعت طوائف من الْعلمَاء فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} فَقَالَ بَعضهم سقِِي المَاء للعاصي وإرشاده إِلَى الطَّرِيق من المعونة وَقد رُوِيَ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ إِذا سَأَلَك الطَّرِيق إِلَى الْمَسْجِد فَلَا تدله لَعَلَّه يغتال رجلا فِيمَا بَينه وَبَين الْمُسلمين أَو يَظْلمه وَقَالَت طَائِفَة المعونة على حرَام بِعَيْنِه وَقَالَت طَائِفَة بيع السكين من السُّلْطَان والخشبة ليصلب عَلَيْهَا رجل مُسلم وَالسَّوْط من الجلاد والصليب من النَّصَارَى هَذَا كُله حرَام وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن ذَلِك مُبَاح وَالْإِثْم على الْفَاعِل وَهَذِه الطَّائِفَة مُخَالفَة فِي التَّأْوِيل لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن فِي الْخمر عشرَة عاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إِلَيْهِ وشاربها وآكل ثمنهَا وحاضر مجلسها

وَقد أحرق سعد كرمه وَقَالَ بئس الشَّيْخ أَنا إِن أَنا بِعْت الْخمر وَكره إِبْرَاهِيم أَن يعين النِّسَاء على فتل الخيوط للسبحة لِأَنَّهُ كَانَ لَا يرى للنِّسَاء إِلَّا إِشَارَة عقد الْأَصَابِع بالأنامل وَأَبُو قَتَادَة فِي الصَّيْد لم يناوله أَصْحَابه السَّوْط كَرَاهِيَة المعونة لَهُ وهم حرم لِأَن الله عز وَجل نهى عَن قتل الصَّيْد وهم حرم وَفِي المعونة أَخْبَار كَثِيرَة والتاركون لَهَا داخلون فِي الْفَضِيلَة وَقد قَالَ الضَّحَّاك أدركناهم مَا يتَعَلَّم بَعضهم من بعض إِلَّا الْوَرع وَقَالَ الْحسن الْوَرع أفضل الْعِبَادَة وَقَالَ لَا دين إِلَّا الْوَرع ويروى عَن الله عز وَجل قَوْله {فَأَما الورعون فأستحيي أَن أعذبهم} فَأول بداية الْوَرع محاسبة النَّفس عِنْد خواطر الْقُلُوب وَالنَّفْي لدواعي الجهالات وَالْوُقُوف عِنْد الشُّبُهَات والاستبراء بالتقوى وَالِاحْتِيَاط عِنْد اخْتِلَاف الْعلمَاء وَقد غَلطت طَائِفَة تأولت قَول ابْن مَسْعُود فِي الْأكل من اتجار المرابي فَقَالَ فلك المهنا وَعَلِيهِ الْإِثْم وَهَذَا حَدِيث رَوَاهُ الشَّيْبَانِيّ عَن التَّمِيمِي عَن الْحَارِث بن سُوَيْد وَجَمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث مِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَهُوَ يضعف هَذَا الحَدِيث وَأحمد بن حَنْبَل وَقد تأولت طَائِفَة قَول ابْن مَسْعُود على أَنه لم تجر شَهَادَة السَّائِل أَو يكون عبد الله علم من الرجل الَّذِي سَأَلَهُ فَقَالَ ابْن مَسْعُود كل من حَلَال مَاله لِأَنَّهُ لَو تَابَ لأمسك مَا كَانَ لَهُ من الْحَلَال ورفض مَا سواهُ قَالَ الله عز

وَجل فِي الرِّبَا {وَإِن تبتم فلكم رُؤُوس أَمْوَالكُم} وَقد ذهبت طَائِفَة من أهل الْعلم وَغَيرهم إِلَى أَن مَا لم يكن حَرَامًا فِي التَّنْزِيل أَو نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ فِي الْإِطْلَاق وَالْإِبَاحَة حَتَّى تكون آيَة تمتّع أَو سنة مأثورة يجب اسْتِعْمَالهَا أَو اتِّفَاق بَين أهل الصَّلَاة وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا بِإِطْلَاق الْآيَة {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير} وَكَانَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وَمن سلك مسلكه يذهبون إِلَى الظَّاهِر وَقد روى ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ الْحَلَال مَا أحله الله عز وَجل وَالْحرَام مَا حرم الله تَعَالَى وَسكت عَن أَشْيَاء عفوا وَقَالَ ذَلِك سلمَان وَالْحسن وَقد رُوِيَ عَن سلمَان الْفَارِسِي أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْجُبْن وَالسمن فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْحَلَال مَا أحل الله وَالْحرَام مَا حرم الله وَسكت عَن أَشْيَاء عفوا) وَسَأَلَ الْبَراء بن عَازِب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأَضَاحِي فَقَالَ إِنِّي أكله أَن يكون فِي السن نقص أَو فِي الْقرن فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا كرهته فَدَعْهُ وَلَا تحرمه على غَيْرك) وَمعنى هَذَا أَنه أَرَادَ أَن يحْتَاط لنَفسِهِ بترك أَشْيَاء اخْتلف فِي معنى

تَأْوِيلهَا وَلَا يكون ذَلِك الشَّيْء حَرَامًا لِأَن الْقَائِل حَلَال وَحرَام عَاص الله تَعَالَى إِلَّا أَن يكون بِآيَة من كتاب الله أَو سنة أَو اتِّفَاق أَو دَلِيل على ذَلِك فَأكل الْحَرَام مَعْصِيّة واعتقاد القَوْل بِأَن هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام وَلَيْسَ بِبَيَان أَو شَاهد من الْإِجْمَاع فَهُوَ افتراء على الله عز وَجل وَكذب فِي الدّين لِأَن الله تَعَالَى لَام الواصفين لذَلِك فَقَالَ جلّ ذكره {فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا قل آللَّهُ أذن لكم أم على الله تفترون} فحرك قُلُوب السامعين للتلاوة وَالْخَوْف من الله عز وَجل أَن يتقدموا على أَن يَقُولُوا حَرَامًا وحلالا إِلَّا بِعلم وَقد سُئِلَ عتبَة بن فرقد عَن شَيْء فَكَانَ لَا يَقُول حَلَال وَلَا حرَام لَكِن يَقُول يستحبون ويكرهون وَقد روى إِبْرَاهِيم بن أدهم كَانُوا يكْرهُونَ أَشْيَاء وَلَا يَقُولُونَ حَرَامًا وَسُئِلَ جَابر بن زيد مَا تَقول فِي لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة هَل نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْهَا فَقَالَ قد كَانَ يَقُول ذَلِك عندنَا الحكم الْغِفَارِيّ وَأبي ذَلِك الْبَحْر يَعْنِي ابْن عَبَّاس ثمَّ قَرَأَ الْآيَة {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير} وَكَانَ الشّعبِيّ وَمُجاهد يسلكان مَذْهَب ابْن عَبَّاس

وَقد أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بجبنة مِمَّا صنع فِي فَارس فَقَالَ (اقْطَعْ بالسكين وَاذْكُر اسْم الله وكل) وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وسلمان وَالْحسن وَإِبْرَاهِيم فِي الْجُبْن فَقَالُوا كل وَقَالَ الْحسن وَلَا تشك

باب الورع في جوائز السلطان

- بَاب الْوَرع فِي جوائز السُّلْطَان - ثمَّ اخْتلف النَّاس فِي جوائز السُّلْطَان فَكرِهت ذَلِك طَائِفَة وَلم تَرَ طَائِفَة بذلك بَأْسا وَفرْقَة قَالَت حَلَال وَفرْقَة قَالَت شُبْهَة وَفرْقَة قَالَت حرَام وَهَذِه الْفرق مُخَالفَة للسّنة وَأكْثر الْعلمَاء نافون لَهُم لجهلهم فَأَما الَّذين قَالُوا بالكراهية فَالَّذِي يخالط الْفَيْء وَالْغنيمَة من الظُّلم والعدوان فِي الجبايات والقبالات الرحاب وَأخذ الرشا والجور وَالظُّلم وإصراف المَال فِي غير حُقُوقه وَأَخذه من غير وَجهه وَأما الَّذين قَالُوا لَا بَأْس بِهِ فَإِنَّهُم تأولوا قَول عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ بِأَن مَا يدْخل فِي بَيت مَالهم من الْحَلَال أَكثر من الْحَرَام وَأخذ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ من الْحجَّاج وَعبد الْملك بن مَرْوَان وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَأنس بن مَالك وَكَذَلِكَ جمَاعَة من التَّابِعين رَضِي

الله عَنْهُم أخذُوا من السُّلْطَان مِنْهُم الْحسن وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَمن بعدهمْ جمَاعَة أَيْضا وَقَالَت طَائِفَة الْأَخْذ مِنْهُم شُبْهَة لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِي ذَلِك رَضِي الله عَنْهُم لِأَن من سوى هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة قد خالط مَالهم الظُّلم والعدوان والاعتداء فِي الْأَمْوَال إِلَى عصرنا هَذَا أَو سفك الدِّمَاء أَو الضَّرْب على الْجور بِالسَّوْطِ ويستحل فِيهِ الْفَيْء وَالْغنيمَة وَقد ترك الْأَخْذ من أَمْوَالهم سعيد بن الْمسيب وَطَاوُس وَمُحَمّد بن سِيرِين وَأَيوب وَابْن عون وَيُونُس بن عبيد وَكَانَ مَسْرُوق لَا يقبل من أحد شَيْئا وَلَا يَأْخُذ على الْفتيا أجرا وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأَصْحَابه لَا يرَوْنَ ذَلِك وَقد اخْتلف عَن سُفْيَان فِي كثير من هَذِه الْمعَانِي وَأحمد بن حَنْبَل يرى لمن ولي شَيْئا من أَمْوَالهم أَن يفرقه كَمَا صنع فِي الماضيين غير وَاحِد وَقد روى عَن ابْن عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهَا كَانَت تَأْخُذ عطاءها اثنى عشر ألفا وترقع رداءها وَلَا يبيت عِنْدهَا مِنْهُ شَيْء وَالْمُخْتَار عَن عَائِشَة أَنه حَلَال طيب وأنما فرقته خوفًا على نَفسهَا وَقد آثر ترك الْأَخْذ من الْأَئِمَّة الْعُدُول الَّذين أَجمعت الْأمة على عدالتهم وفضلهم وَطيب مجباهم طَائِفَة مِنْهُم حَكِيم بن حزَام وَأَبُو ذَر لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خير لأحدكم أَلا يَأْخُذ من أحد شَيْئا) فَكيف بِمن بعدهمْ وَقد خالط المجبي مَا خلطه من الْفساد

وَمن قصد ترك أَمْوَالهم من الجوائز والعطيات والهدايا والصلات وَالسُّؤَال لَهُم فقد أَتَى فضلا وقربة تُؤَدِّيه بُلُوغ تِلْكَ الْمرتبَة إِلَى أعظم منَازِل الْخَواص من الْمُسلمين وَالدُّخُول فِي مرتبَة أهل الصفوة من الْعمَّال لأَنا قد رَأينَا كثيرا من الْعلمَاء لَيْسَ مَعَهم السعَة فِي الْعلم وَمَعَهُمْ ضيق فِي التفقه فِي الدّين وَقلة رِوَايَة فِي الحَدِيث إِلَّا أَن الْمرتبَة فِي التّرْك جعلت لَهُم ذكرا عِنْد الْخَاصَّة والعامة على فَضلهمْ وأورثتهم هَذِه الْمنزلَة شدَّة المباينة وعظيم الحذر من مواقعة الشُّبُهَات لما ركب فِي الْقُلُوب الخشية وَخَوف السُّؤَال عِنْد الْعرض على الْجَبَّار تبَارك وَتَعَالَى وَحَملهمْ الحذر على خوف معالجة الْمَوْت لِأَن أول مَا يَأْكُل التُّرَاب من ابْن آدم لَحْمه فَلَا يكون ذَلِك فِي نَبَاته إِلَّا من طيب فَإِن الله عز وَجل لَا يقبل إِلَّا طيبا وَقد روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (ترَاهُ أَشْعَث أغبر مطعمه من حرَام ومشربه من حرَام وملبسه من حرَام فَأنى يُسْتَجَاب لَهُ) وَقَالَ لسعد (أطب مطعمك تستجب دعوتك) وَقيل لسعد بِمَ تستجاب دعوتك قَالَ بِأَنِّي لَا أَدخل بَطْني إِلَّا شَيْئا أعرفهُ وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ لَو صلى وَفِي ثَوْبه سلك حرَام فِيهَا دِرْهَم حرَام لم يقبل مِنْهُ وَرَأى مثله كَذَلِك عَن ابْن عمر وَمن اشْترى ثوبا بِعشْرَة دَرَاهِم وفيهَا دِرْهَم حرَام لم تقبل لَهُ فِيهَا صَلَاة وَالله أعلم مَا أَرَادَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس إِلَّا أَن الحَدِيث عَن ابْن

عمر من وَجه ضَعِيف وَله تَأْوِيل يَقُول مَا دَامَ الْحَرَام فِي ثَوْبه يتخوف حَتَّى يخرج من الْحَرَام إِلَّا أَن الْإِجْمَاع منع من ذَلِك فأجمعت الْأمة كلهَا على أَن الصَّلَاة لَا تُعَاد وَقد غَلطت طَائِفَة من الْقُرَّاء والنساك فَقَالُوا الصَّلَاة بَاطِلَة بِمَا لبس من الْحَرَام فِيهَا وَبِذَلِك قَالَ أَصْنَاف من الْخَوَارِج وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْمهْر حَرَامًا فَالنِّكَاح وَالْوَطْء فَاسد وَهَذَا خُرُوج من قَول الْأمة كلهَا وَمن قَالَ بِهَذَا القَوْل سمي بذلك عَاصِيا من أجل أَن العقد فِي النِّكَاح إِنَّمَا تمّ بالْكلَام بقوله تزوجت وَيَقُول هَذَا زوجت على صدَاق مُسَمّى أَو على التَّفْوِيض فَيكون لَهَا صدَاق الْمثل وَيكون عَلَيْهِ الْوزر بِالصَّدَاقِ الْحَرَام من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يكون الْفرج حَرَامًا وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بِكَلَام الله) وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّوْبَة وَأَن يبْذل درهما مَكَان دِرْهَم ودينارا مَكَان دِينَار وَأما من اشْترى جَارِيَة فتسرى بهَا من مَال حرَام من غصب فَأكْثر الْعلمَاء قَالُوا الْوَطْء فَاسد لِأَنَّهُ صَار ملكا وَالْملك لَيْسَ بِحرَام وَكَيف يملكهَا وَالْمَال لَيْسَ لَهُ وَهَذِه الْمَسْأَلَة يطول شرحها وَفِي هَذَا كِفَايَة لمن أَرَادَ أَن يسْتَدلّ وَأما الَّذين حرمُوا العطايا من السلاطين فقد غلطوا لَعَلَّه أَنه لَيْسَ بِحرَام كُله فَكيف يجوز أَن يُقَال حرَام وَفِيه دِرْهَم حَلَال وَيلْزم الَّذين حرمُوا أَيْضا على قِيَاس قَوْلهم أَنه لَو كَانَ سكين من أَمْوَالهم فذكوا بهَا

لَا تكون ذَكَاة عِنْدهم لسَبَب الْحَرَام حَتَّى يكون سكينا من حَلَال وَيكون ضَامِنا لما جنى وَكَذَلِكَ لَو اشْترى مُصحفا من مَال حرَام وَحفظ فِيهِ الْقُرْآن لوَجَبَ أَن ينساه وَلَا يُجزئهُ أَن يقْرَأ فِي صلَاته بِمَا حفظ من جوائز السُّلْطَان وَلَا أَن يُعْطي المؤذنين والمعلمين كَذَلِك وَهَذِه الْفرْقَة من المتصوفة جاهلة بالفقه وَالْأَخْبَار وَإِن كَانَ مَعهَا الزِّيَادَة وَقد توفّي نفر من أهل الْعلم المطاعم الَّتِي لم يأمنوا أَن تختلط أَو قد اخْتَلَط حرَام بحلال فِيهَا خوف عسر الْحساب وتنزهوا ليدركوا بذلك الصَّوَاب وَقَالُوا التَّحَرِّي أصل مَعْمُول بِهِ وقاسوا على الشَّاة الذكية وَالْميتَة لَا يدْرِي أَيَّتهمَا الذكية بِالْوُقُوفِ وَترك أكلهَا حَتَّى يتَبَيَّن وَكَذَلِكَ كل مَا اخْتَلَط فَلم يعلم الْحَلَال مِنْهُ من الْحَرَام وَكَذَلِكَ الْأُخْتَيْنِ الرضيعتين لَو طلق إِحْدَى امرأتيه وَلَا يدْرِي أَيَّتهمَا طلق وَقد سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الضَّب فَقَالَ (لَا آكله وَلَا أحرمهُ) وَقَالَ (أمة مسخت) وَالله أعلم وَلِهَذَا نَظَائِر وشواهد وَدَلَائِل وَأما مَا احْتَجُّوا بِهِ على أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَكَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ وَأحمد بن حَنْبَل يَقُولَانِ الْعَمَل على حَدِيث أبي بكر وَاجِب اسْتِعْمَاله والتأويل لحَدِيث أبي بكر أَو الْغُلَام إِذْ قَالَ لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَنِّي رقيت فِي الْجَاهِلِيَّة فأعطوني الْيَوْم أجرتي فالرقي حرَام وَالْأُجْرَة عَلَيْهَا فَاسِدَة وَالْأكل من الْفَاسِد حرَام لفساده بالرقي الَّذِي اكْتَسبهُ مِنْهَا فَكَذَلِك فِي أكل الْحَرَام إِذا بَان عِنْده فَقدر أَلا يقره فِي جَوْفه فعل وَجَمِيع أَعمال الْبر من الصَّلَاة وَالصَّوْم والغزو وَالْحج مَعَ كثير من الطَّاعَات لَا تقوم مقَام تصفية الْخبز لِأَن زَكَاة الْأَعْمَال كلهَا بِطيب الْمطعم وَمن طيب الْمطعم تجني ثَمَرَة دواعي الصدْق والقليل من

الْعَمَل مَعَ الِاجْتِهَاد فِي السَّلامَة من التَّخْلِيط خير من كثير من الْعَمَل مَعَ التخاليط وَإِنَّمَا مَحْمُود العواقب فِي السَّلامَة فَإِذا صحت الكسرة حَتَّى تسلم من آفَات التَّبعَات فَلَا تكون عَلَيْك فِيهَا لله تَعَالَى تبعة وَلَا لأحد من المخلوقين عَلَيْك فِيهِ مِنْهُ من تَعب فِي بدن وعناء فِي الرجل وكد فِي الْيَد على الدّين وَقد كَانَ يُقَال فِي الْكتب من كَانَت هَذِه صفته فِي حَيَاته فقد طَابَ حَيا وَمَيتًا وَإِنَّمَا يُثمر الصدْق حَتَّى يَعْتَقِدهُ الْقلب فينفي الْقلب باعتقاده دواعي السعَة فِي الرُّخْصَة وعَلى قدر التَّأْدِيب للنفوس ساعدتهم فَرَفَضُوا الشَّهَوَات وجانبوا اللَّذَّات حَيْثُ لم يصلوا من سَعَة المكسب لما يشبعون بِهِ وأخمصوا الْبُطُون جوعا حَتَّى يَجدوا لَهَا مَا يصلحها من الْحَلَال فَإِن لم يجدوه وصعب ذَلِك أخذُوا من الشُّبُهَات بلغَة لساعتهم لَا ليومهم وَمنعُوا النُّفُوس من أَن تشبع من خبز الشّعير إِن قدرُوا على النُّفُوس وَإِلَّا استعانوا بعظيم الْخَوْف عِنْد المساءلة والحساب

باب الورع والجوع

- بَاب الْوَرع والجوع - وَهَذَا جوع ذهبت إِلَيْهِ طوائف من الْعلمَاء إِذا وجدوا الْحَلَال شَبِعُوا وآثروا وَإِن كَانَ جوعهم عدم لَا تكلّف فِيهِ لفضيلة وَهَذَا مَذْهَب سُفْيَان الثَّوْريّ وَإِبْرَاهِيم بن أدهم وَشُعَيْب بن حَرْب والمعافى بن عمرَان وَحُذَيْفَة المرعشي وَبشر بن الْحَارِث الحافي وَقد ذكرت هَذِه الْمرتبَة عَن جمَاعَة كَثِيرَة لَا يُحْصى عَددهمْ ثمَّ الْجُوع بعد ذَلِك على معَان قصد لَهَا المتعبدون فَمن الْمعَانِي التَّأْدِيب للنَّفس بالنقلة من حَالَة إِلَى حَالَة وَقطع الإلف من دواعي الشُّبُهَات وَهُوَ مَذْهَب الْبَصرِيين فَمن أَخذ بذلك فعنهم أَخذه وجوع آخر وَهُوَ إِذا هاج من النُّفُوس دواع تتحرك لَهَا الطبائع من الشَّهَوَات منعوها بالعقوبات مَا لَهَا من الْغذَاء وَمن حُقُوقهَا اللَّازِمَة من الْغذَاء وَالْعشَاء وَمن مغرب إِلَى مغرب حَتَّى أخرجوها من وَقت إِلَى وَقت ومنعوها عُقُوبَة لَهَا إِن دعت إِلَى مَا لَيْسَ لَهَا من ذَلِك وَذكروا أَن غَزوَان الرقاشِي نظر إِلَى مَا لَا يحل لَهُ ففقأ عينه وَفتح الْموصِلِي قَالَ لَو نظرت عَيْني إِلَى شَهْوَة لقلعتها وَغير وَاحِد من الْبَصرِيين فعل ذَلِك

فواصل وَأدْخل يَوْمًا فِي يَوْم عُقُوبَة للنَّفس إِذا دعت إِلَى الشَّهَوَات وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء إِذا دعتك نَفسك إِلَى مَا لَيْسَ لَهَا فامنعها مَا لَهَا وجوع آخر صَاحِبَة مفوض إِلَى عز وَجل فِي حَالَة الْمَنْع وَالعطَاء فَإِن أعْطى حمد وشكر وَإِن منع صَبر واحتسب وَكَذَا رُوِيَ عَن جمَاعَة وَقد كَانَ أهل الصّفة على الْحق من ذَلِك وَهَكَذَا كَانَ جوع أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أعْطوا أكلُوا وشكروا وَإِذا منعُوا حمدوا وصبروا فَلم يجْعَلُوا الْجُوع لَهُم سَببا وَلَا طَرِيقا وَلَا الشِّبَع لَهُم منزلَة وَذَلِكَ أَنه فِي الشِّبَع غلظا وصلابة عِنْد الْوَعْد والوعيد وَفِي الْجُوع رقة واهتياجا للبر وَقد زعمت طَائِفَة أَنه لَا مرتبَة أعظم من الْجُوع لِأَنَّهُ سيد أَعمال الْبر وَكَذَلِكَ الْجَوَارِح لَا تَأْخُذ الصَّيْد حَتَّى تجوع وتهيج على الصَّيْد وَكَذَلِكَ الْجُوع عِنْدهم وهم طوائف من الْبَصرِيين فَمن أَخذ بذلك وأدب نَفسه بِهِ فعنهم أَخذ وَلم نتبين فِي هَذِه الْمنزلَة مرتبَة يبين فِيهَا الْفضل من أجل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (الطاعم الشاكر بِمَنْزِلَة الجائع الصابر) وَبعد فَإِن منزلَة الْجُوع وَإِن ولدت الْخُشُوع فَإِن الشِّبَع يطردها فَأَيْنَ الْخُشُوع فِي ذَلِك الْوَقْت وَإِنَّمَا تحمد الْمنزلَة مَا كَانَ لَهَا زِيَادَة وَلَكِن يَجْعَل الصَّوْم طَرِيقا واصلا إِلَى الرّيّ والشبع يَوْم الْحَاجة والفقر إِلَى الله عز وَجل وَلَيْسَ شَيْء أعظم مرتبَة من الْفقر إِلَى الله عز وَجل لِأَن الْفُقَرَاء قد علمُوا علم يَقِين غير شاكين أَن الله عز وَجل قَادر على أَن يَأْمر أرديتهم الَّتِي على رقابهم أَن تبلغ مِنْهُم من الْمَكْرُوه مَا إِن تعجز النَّار عَن صفة ذَلِك لعجزت

فأفضل الْجُوع جوع الْمَنْع وجوع التَّكَلُّف يفتضح بالشبع وَإِن كَانَ فِي الصَّوْم جوع فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الترهب لله عز وَجل والسياحة لذَلِك وَكَذَلِكَ يرْوى عَن الله عز وَجل قَالَ (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ يدع ابْن آدم طَعَامه وَشَرَابه من أَجلي) وَهَذَا هُوَ التَّرْغِيب فَمن دَعَا النَّاس إِلَى الْجُوع فقد عصى الله وَهُوَ يعلم أَن الْجُوع قَاتل وَقد فعل ذَلِك بِخلق كثير من زَوَال الْعقل حَتَّى تركُوا الْفَرَائِض وَمِنْهُم من يعمد إِلَى سكين فَيذْبَح نَفسه وَمِنْهُم من يتَغَيَّر طبعه ويسوء خلقه قَالَ وهب بن مُنَبّه إِذا صَامَ العَبْد زاغ الْبَصَر وَإِذا أفطر على الْحَلْوَى رَجَعَ وَمن دَعَا إِلَى الشِّبَع فقد عصى الله وَلم يحسن أَن يطيعه لِأَن الشِّبَع ثقل على الْبدن وصلابة عَن وَعِيد الله فِي الْقلب وَغلظ فِي الْفَهم وفتور فِي الْأَعْضَاء فَبَان فضل الْجُوع للاجئين إِلَى الله الَّذين استرهبتهم الْخدمَة بعظيم قدر الْمعرفَة وَالله تَعَالَى مَانع ومعط إِلَّا أَنهم يختارون ذَلِك ورعا وخوفا وتقية من عسر الْحساب فنظروا إِلَى عناء مَا وصل إِلَيْهِم من الْغذَاء من مُؤمن موفق أَو هَدِيَّة صَالِحَة مِمَّن يعْتَقد مكافأته لِأَنَّهُ مستبعد بِأَكْل الْحَلَال وَهَذَا مَا وَصفنَا فِي الْجُوع وَكله مُحْتَاج إِلَى ورع ليصفوا بذلك طيب المأكل وَالْمشْرَب من مَوضِع مُطلق مُبَاح بِالْإِجْمَاع لَا خلاف فِيهِ

باب السؤال والتحري

- بَاب السُّؤَال والتحري - وَأما منزلَة السُّؤَال فقد اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَأكْثر الْعلمَاء وَفِيهِمْ الْأَوْزَاعِيّ وَقد روى عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَقد ذكر ابْن الْمُبَارك ذَلِك وَابْن إِدْرِيس إِذا مَرَرْت بِأَرْض فَلَا تسل عَنْهَا وَقد قَالَ بعض هَؤُلَاءِ اشْتَرِ وبع فِيهَا وَقَالَ ابْن الْمُبَارك وَابْن إِدْرِيس إِن أردْت الْمقَام فاسأل وأبى ذَلِك طوائف من أهل الحَدِيث وَالْفِقْه وَقَالُوا لَا تسل إِلَّا أَن يغلب على أَرض فِيهَا الغصوب والصوافي فَإِذا ستر فَلَا تسل وَأَيْضًا إِن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ حِين سَأَلَ إِنَّمَا سَأَلَ ملكا هُوَ لَهُ عبد وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كسب الْأمة حَتَّى يعلم من أَيْن كسبت وَهَذَا الْوَاجِب على سيد الْأمة فَالْعَبْد لَا بُد أَن يعلم ذَلِك وَقَالَت طَائِفَة لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يسْأَل وَإِن سَأَلَ كَانَ أفضل وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ لَيْسَ هَذَا زمَان سُؤال وَقَالَ غير الْأَوْزَاعِيّ قد فاض الْبَحْر فَلَيْسَ هُوَ إِلَّا الْفقر والتقلل لِأَن الْأَشْيَاء تقاربت إِلَّا أَنه يَنْبَغِي لأهل الْعِنَايَة بِالدّينِ وَمن كَانَ مُنْفَردا

لَا عِيَال لَهُ وَلَا يحْتَاج إِلَيْهِ أحد فِي كَسبه أَن يطْلب الْوَسِيلَة والسبق إِلَى رضوانه بالتقرب فِي إصْلَاح الكسرة وَإِن كَانَ فِي ذَلِك حملان على نَفسه ومكروه وَثقل على بدنه فَإِن ذَلِك أعون على مُبَاشرَة الطَّاعَة وَقَالَ يُونُس بن عبيد لم أر أعز مِمَّن لَهُ أَخ فِي الله تَعَالَى يسكن إِلَيْهِ وَدِرْهَم من حَلَال وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ ليَأْتِيَن على النَّاس زمَان يعز فِيهِ دِرْهَم من حَلَال وَأَخ فِي الله مؤنس وَقد كَانَ ابْن أدهم لَا يحصد إِلَّا فِي الأَرْض الَّتِي اكتربت من الأنباط وَلَا ينقر فِي زيتون إِلَّا عمري وكرم فِي يَده نبطي وَقد امْتنع وهيب بن الْورْد من طَعَام مصر أَيَّامًا لما قيل لَهُ هُوَ من الصوافي فَكَانَ إِذا أكله يَأْكُلهُ بدموع عَيْنَيْهِ وَيَقُول مَا آخذه إِلَّا اضطرارا وَكَانَ يُوسُف بن أَسْبَاط يَقُول قد زاحمنا هَؤُلَاءِ الخصيان فلنجعلن الْغذَاء على أَنْصَاف الْبُطُون وَأما ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي أَرض الْفَيْء وَالْخَرَاج فَالْقِيَاس فِي كل مَا فتح عنْوَة أَلا يَشْتَرِي وَلَا يُبَاع وَقد خَاصم عمر بن الْخطاب الزبير بن الْعَوام وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وبلال رَضِي الله عَنْهُم فِي أَرض السوَاد فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَنْت على سُورَة الْحَشْر {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان} وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه قَاسم مُشْركًا وَقد كَانَ أعطَاهُ بحيلة ربع السوَاد ثمَّ استرده لِأَنَّهُ أقطع قطائع وَاصْطفى صفايا مثل عين التَّمْر ومغيض

كسْرَى وَأَرْض بني صلوبا وَكَذَلِكَ فتح خَالِد بن الْوَلِيد وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح وَيزِيد بن أبي سُفْيَان من أَرض دمشق وخثعم وَقيس ثمَّ أقرهم على الْكَنَائِس وَأوجب على الديارات ضِيَافَة من يمر بهم ثَلَاثَة أَيَّام وَأما مصر قلا يَشكونَ أَنَّهَا فتحت عنْوَة وفيهَا صوافي دولة بني أُميَّة ودولة بني الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فقد امْتنع نَاس كَثِيرُونَ من أكل طعامها وَأما الطَّائِف فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أَقَامَ عَلَيْهَا حَتَّى افتتحها وَاخْتلف النَّاس فِي مَكَّة فَكَانَ الشَّافِعِي رَحمَه الله يَقُول فتحت صلحا وأبى ذَلِك النَّاس فَقَالُوا عنْوَة وَدخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة وَقيل لَهُ أَيْن تنزل فَقَالَ (مَا ترك لنا عقيل من رباع) يَعْنِي أَن عقيلا ورث أَبَا طَالب فَهَذَا يدل على قَول الشَّافِعِي وَقد اتّفقت الْفرق فَكَانَ قَوْلهَا وَاحِدًا أَن مَا عمله السُّلْطَان مثل الْمَسَاجِد الجامعة والحصر فِيهَا فَالصَّلَاة عَلَيْهَا عِنْدهم جَائِزَة وَكَذَلِكَ حفر الْأَنْهَار والبرك والمصانع والآبار الَّتِي لَا يمْنَع مِنْهَا الْعَام وَالْخَاص وَالْمَشْي على الجسور والعبور على القناطر وَفِي الظلال وَفِي الْأَسْوَاق وَفِي الطّرق الَّتِي يصلحها الْأُمَرَاء وَهَذَا كُله مَا وجدنَا عَالما وَلَا ناسكا وَلَا متعبدا وَلَا متصوفا يجْتَنب شَيْئا مِمَّا قُلْنَا إِلَّا طَائِفَة غالطة قَالَت إِذا لم يعدل الإِمَام فِي الرّعية وَيقسم الْفَيْء بِالسَّوِيَّةِ وَيُعْطِي الْعَطاء وَيُسَوِّي بَين النَّاس فِي

الأرزاق وَيَكْفِي الْعَامَّة ويفدي الْأَسير ويجاهد الْعَدو وَيُقِيم لَهُم الْحَج وَلَا يستأثر دونهم بالفيء كَانَ عَاصِيا وكل من رَضِي بإمامته كَانَ عَاصِيا فَهَذِهِ فرقة خوارج مرقوا من الدّين وَخَرجُوا من حد الْإِسْلَام بل قد قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ لَا بُد من إِمَارَة برة أَو فاجرة وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (سَيكون عَلَيْكُم أُمَرَاء يعْرفُونَ وَيُنْكِرُونَ فَمن أنكر فقد برِئ وَلَكِن من رَضِي وتابع) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يكون عَلَيْكُم أُمَرَاء يؤخرون الصَّلَاة فصلوا لوَقْتهَا ثمَّ صلوا مَعَهم تكون نَافِلَة) وَقد قيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد ذكر أهل الْجور من الْأُمَرَاء أَلا ننابذهم فَقَالَ (دعوهم مَا صلوا للْقبْلَة) وَأجْمع أهل الْعلم على الْكَفّ عَن الْأُمَرَاء الْمُسلمين والسمع وَالطَّاعَة فِي الْعسر واليسر وَألا يُنَازع الْأَمر أَهله إِلَّا فِي مَعْصِيّة الله تَعَالَى وَرَسُوله فَلَا طَاعَة لَهُم فِي ذَلِك وَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ لَا تسبوا السُّلْطَان وَقَالَ ابْن عمر لَو لم تسبوهم لسلط الله عَلَيْهِم نَارا من السَّمَاء وَلَكِن قُولُوا اللَّهُمَّ آذهم كَمَا آذونا وَقَالَ عمرَان بن حُصَيْن لحكيم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ إِنَّه يذكر يَوْمًا أَنه قَالَ لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق) قَالَ

وَقَالُوا فِي الصَّلَاة فِي الْغَصْب إِن كَانَ مَسْجِدا فِي طَرِيق الْمُسلمين وَكَانَ لَهُ سَعَة فِي الطَّرِيق فَلَا بَأْس بِهِ وَإِن كَانَ فِي أَرض مَغْصُوبَة من الدّور فَكَانَ سُفْيَان يبطل الصَّلَاة فِيهَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ إِن صلى وَلم يعلم فَصلَاته جَائِزَة وَلَا يُعِيد وَقَالَ وَكِيع بن الْجراح يُعِيد مَا دَامَ فِي الْوَقْت فَإِذا خرج الْوَقْت فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَقد كرة جمَاعَة الصَّلَاة فِي الْغَضَب إِلَّا أَنهم لَا يوجبون على الْمصلى بِإِعَادَة مِنْهُم الشَّافِعِي وَاحْتَجُّوا بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (جعلت الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا إِلَّا الْحمام والمقبرة) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تصلوا الى الْقُبُور) ثمَّ طوائف قد كَرهُوا الْمَشْي فِي أَرض الصوافي حَتَّى قَالَ بَعضهم إِن كَانَ والداه أَو أَحدهمَا بَعثه فِي حَاجَة وَكَانَ طَرِيقه فِيهَا لم يطع وَالِديهِ وَقَالَ بَعضهم إِن كَانَ طَرِيقا كَانَ يسْلك من قبل الْغَضَب أَو مَسْجِدا كَانَ يُصَلِّي فِيهِ أَو فِي فندق أَو خَان أَو دَار من دور التُّجَّار فَلَا بَأْس بسلوك الطَّرِيق وَالصَّلَاة فِي ذَلِك الْمَسْجِد وَإِذا كَانَ روشنا أَو ساباطا على طَرِيق ظلما فَكَانَ لَهُ فِي غَيره منفذ لم يَأْخُذ فِيهِ وأتى ذَلِك فِي كثير فِي الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء وَقَالُوا لَا بَأْس بِالْمَشْيِ فِي أَسْفَل الساباط والروش وَنَحْو ذَلِك

وَكَانَ مُحَمَّد بن سِيرِين يَقُول ظلال أَصْحَاب السابري من الْغِشّ وَكَانَ مُحَمَّد وَالْحسن يكْرهُونَ بيع الْحَرج فِي الْفِتْنَة قَالَ أَبُو عبد الله المحاسبي رَحمَه الله فقد وَصفنَا طَرِيق القاصدين إِلَى الله عز وَجل بصفاء الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على خَاتم النَّبِيين مُحَمَّد وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا

§1/1